الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح
سنن النسائي
المسَمَّى
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى
لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير
محمد بن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
عفا الله عنه وعن والديه آمين
الجزء الثامن
دار آل بروم
للنشر والتوزيع
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح سنن النسائي
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1420 هـ-1999 م
دار آل بروم للنشر والتوزيع
المملكة العربية السّعودّية - مكّة المكرّمة - المكتب الرئيسي التنعيم
ص ب: 4145 - (تلفاكس 5211545 - جوّال 055541026)
5 - كَيْفَ الأذَانُ
631 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَامِرٍ الأَحْوَلِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَذَانَ، فَقَالَ:"اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ يَعُودُ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(إسحاق بن إبراهيم) الحنظلي المروزي، ثم النيسابوري، ثقة ثبت حجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.
2 -
(معاذ بن هشام) بن أبي عبد الله الدستوائي البصري، وقد سكن اليمن، صدوق ربما وَهِمَ، توفي سنة 200، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 30/ 34.
3 -
(هشام) بن أبي عبد الله سَنْبَرَ الدستوائي أبو بكر البصري، ثقة ثبت، رمي بالقدر، توفي سنة 154، من كبار [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في (30/ 34).
والباقون تقدموا في السند الماضي، وكذا الحديث واضح مما مضى. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
632 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، وَيُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُحَيْرِيزٍ أَخْبَرَهُ، وَكَانَ يَتِيمًا فِي حَجْرِ أَبِي مَحْذُورَةَ حَتَّى جَهَّزَهُ إِلَى الشَّامِ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي مَحْذُورَةَ: إِنِّي خَارِجٌ إِلَى الشَّامِ، وَأَخْشَى أَنْ أُسْأَلَ عَنْ تَأْذِينِكَ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ قَالَ لَهُ خَرَجْتُ فِي نَفَرٍ، فَكُنَّا بِبَعْضِ طَرِيقِ حُنَيْنٍ مَقْفَلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ، فَلَقِيَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ،
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعْنَا صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ وَنَحْنُ عَنْهُ مُتَنَكِّبُونَ، فَظَلِلْنَا نَحْكِيهِ، وَنَهْزَأُ بِهِ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّوْتَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا حَتَّى وَقَفْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيُّكُمُ الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ قَدِ ارْتَفَعَ"، فَأَشَارَ الْقَوْمُ إِلَيَّ، وَصَدَقُوا، فَأَرْسَلَهُمْ كُلَّهُمْ، وَحَبَسَنِي، فَقَالَ:"قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ"، فَقُمْتُ، فَأَلْقَى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ، قَالَ:"قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: "ارْجِعْ فَامْدُدْ صَوْتَك"، ثُمَّ قَالَ: "قُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ
أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
ثُمَّ دَعَانِي حِينَ قَضَيْتُ التَّأْذِينَ، فَأَعْطَانِي صُرَّةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مُرْنِي بِالتَّأْذِينِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ قَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ، فَقَدِمْتُ عَلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ عَامِلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَأَذَّنْتُ مَعَهُ بِالصَّلَاةِ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(إِبراهيم بن الحسن) بن الهيثم المصيصي أبو إسحاق، ثقة من [10]، تقدم في 51/ 64.
2 -
(يوسف بن سعيد) بن مسلم المصيصي، ثقة حافظ توفي سنة 271، وقيل: قبل ذلك، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 131/ 198.
3 -
(حجاج) بن محمد الأعور ترمذي الأصل نزيل بغداد، ثم المصيصة، ثقة، ثبت اختلط في آخره لما قدم بغداد، توفي سنة 206، من [9]، تقدم في 28/ 32.
4 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، نسب لجده، مكي ثقة فقيه، فاضل، يدلس، ويرسل، توفي سنة 150،
من [6] تقدم في 28/ 32.
والباقون تقدموا قريبًا، فعبد العزيز شيخ ابن جريج، وأبو محذورة تقدما في 629، وابن محيريز في 630. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز، أنه (قال: حدثني عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة أن عبد الله بن محيريز
أخبره) أي أخبر عبد العزيز، وقوله (وكان يتميًا في حجر أبي محذورة) جملة معترضة، وحجر الإنسان بالفتح، وقد يكسر:
حِضْنُهُ، وهو ما دون إِبْطِه إلى الكَشْح، وهو في حجره، أي كنفه، وحمايته، والجمع: حجور. قاله الفيومي.
(حتى جهزه إِلى الشام) أي هيأ له. جَهازه لأجل السفر إلى الشام، وجهاز السفر: أهبته، وما يحتاج إليه في قطع المسافة بالفتح،
وبه قرأ السبعة قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف: 70]، والكسر لغة قليلة. قاله الفيومي.
(قال) عبد الله بن محيريز (قلت لأبي محذووة: إِني خارج إِلى الشام، وأخشى أن أسأل عن تأذينك) أي أخاف أن يسألني أهل الشام، كيف هو؟ وكيف أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه ما كان عليه السلف من حرصهم على طلب العلم، والسؤال عنه إذا وجدوا عالمًا،
قال عبد العزيز (فأخبرني) أي عبد الله بن محيريز (أن أبا محذورة قال له: خرجت في نفر) بفتحتين، وهو كما في المصباح: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة، ولا يقال: نفر فيما زاد على العشرة. وفي الرواية التالية: "خرجت عاشر عشرة من أهل مكة".
(فكنا ببعض طريق حنين) بصيغة التصغير: واد بين مكة والطائف، وهو مذكر منصرف، وقد يؤنث على معنى البقعة، وقصة حنين: أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة في رمضان سنة ثمان، ثم خرج منها لقتال هوازن، وثقيف، وقد بقيت أيام من رمضان، فسار إلى حنين، فلما التقى الجمعان انكشف المسلمون، ثم أمدهم الله بنصره، فعطفوا، وقاتلوا المشركين، فهزموهم، وغنموا أموالهم، وعيالهم، ثم صار المشركون إلى أوطاس، فمنهم من سار على نخلة اليمامة، ومنهم من سلك الثنايا.
وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك نخلة، ويقال: إنه عليه الصلاة والسلام أقام عليها يومًا وليلة، ثم صار إلى أوطاس، فاقتتلوا، وانهزم المشركون إلى الطائف، وغنم المسلمون منها أيضًا أموالهم وعيالهم، ثم صار إلى الطائف، فقاتلهم بقية شوال، فلما أهل ذو القعدة ترك القتال، لأنه شهر حرام، ورحل راجعًا، فنزل الجعرانة وقسم بها غنائم أوطاس، وحنين، ويقال: كانت ستة آلاف سبي.
(مقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الميم والفاء بينهما قاف ساكنة: ظرف زمان من القفول، وهو الرجوع، أي زمن رجوعه (من حنين، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن، ونحن عنه متنكبون) أي معرضون عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال: نكب عن الطريق: إذا عدل عنه، وتنكب: أي تنحى، وأعرض انتهى زهر، والجملة في محل نصب على الحال.
(فظللنا) بكسر اللام الأولى، يقال: ظل يفعل كذا، يظل، من باب تعب، ظلولًا: إذا فعله نهارًا، قال الخليل: لا تقول العرب:
ظل إلا لعمل يكون بالنهار، قاله في المصباح.
(نحكيه) أي نشابه صوت المؤذن يقال: حكيت الشيء، أحكيه، حكايته: إذا أتيت بمثله على الصفة التي أتى بها غيرك، فأنت
كالناقل، ومنه حكيت صنعته: إذا أتيت بمثلها، وهو هنا كالمعارضة، وحكوت أحكوه لغة، قاله الفيومي.
(ونهزأ به) أي نحكيه استهزاء به. فالجملة بيان لمعنى الحكاية، أي إنما حكوا صوته من أجل الاستهزاء به (فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت) أي صوت أذاننا وقت الحكاية (فأرسل إِلينا حتى وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع) أيكم: مبتدأ، خبره الموصول، وجملة "قد ارتفع" في محل نصب
على الحال من الصوت (فأشار القوم إِلي، وصدقوا) أي أشار رفقاؤه بأنه الذي سمع صوته مرتفعًا، وقد صدقوا في ذلك، حيث إنه كان أحسنهم صوتًا (فأرسلهم كلهم) أي أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح رفقائه، لأنه إنما طلبهم ليتعرف على الرجل الحسن الصوت، فلما عرفه أطلقهم (وحبسني) أي أمسكني عنده (فقال: قم، فأذن) فيه وجوب القيام للأذان، حيث أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره للوجوب ما لم يصرفه صارف، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه (فأذنت بالصلاة) أي
أردت الأذان (فقمت، فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه) فيه فضل أبي محذورة رضي الله عنه حيث ألقى عليه رسول الله التأذين بنفسه.
(قال: "قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر) فيه تربيع التكبير في أول الأذان، وقد تقدم جواز التثنية أيضًا، لصحة الرواية فيه، كما تقدم تحقيقه (أشهد أن لا إِله إِلا الله، أشهد أن لا إِله إِلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله ثم قال: ارجع فامدد صوتك) هذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالترجيع، فسقط ما توهمه النفاة أنه كرره له تعظيمًا، فظنه ترجيعًا، قاله السندي.
(ثم قال: "قل: أشهد أن لا إِله إِلا الله، أشهد ألا إِله إِلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله،
حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إِله إِلا الله، ثم دعاني حين
قضيت التأذين، فأعطاني صرة) بضم الصاد المهملة، وتشديد الراء المهملة: ما يجمع فيه الشيء، ويشد، جمعه صرر، كغرفة، وغرف. (فيها شيء من فضة) استدل به ابن حبان على الرخصة في أخذ الأجرة على الأذان، وعارض به الحديث الوارد في النهي عن ذلك.
قال ابن سيد الناس: ولا دليل فيه لوجهين:
الأول: أن حديث أبي محذورة هذا متقدم قبل إسلام عثمان بن أبي العاص الراوي لحديث النهي، فحديث عثمان متأخر بيقين.
الثاني: أنها واقعة يتطرق إليها الاحتمال، بل أقرب الاحتمالات فيها أن يكون من باب التأليف لحداثة عهده بالإسلام، كما أعطى حينئذ غيره من المؤلفة قلوبهم، ووقائع الأحوال إذا تطرقها الاحتمال سلبها الاستدلال، لما فيها من الإجمال، ذكره في "زهر الربى".
(فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة) فيه استحباب طلب التأذين طلبًا لأجره العظيم (فقال: قد أمرتك به) بتخفيف الميم من الأمر خلاف النهي، لا من التأمير.
(فقدمت) بكسر الدال من باب تعب (على عتاب) بفتح العين المهملة، وتشديد المثناة الفوقية (بن أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين المهملة - بن أبي العيص -بكسر المهملة- بن أمية الأموي، أبي عبد الرحمن،
أو أبي محمد المكي، صحابي، كان أمير مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومات في يوم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنهما فيما ذكر الواقدي، وذكر الطبراني أنه كان عاملًا على مكة لعمر رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين. أفاده في التقريب. (عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالجر صفة لعتاب، ويحتمل الرفع خبرًا لمحذوف، أي هو، والنصب مفعولًا لمحذوف أيضًا، أي أعني، أو حالًا من عتاب (بمكة) متعلق بعامل. (فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن أمر: متعلق بحال محذوف، أي حال كون التأذين صادرًا عن أمره صلى الله عليه وسلم ويحتمل كون "عن" بمعنى بعد، كما في قوله تعالى:{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19]، أي بعد أمره، أو بمعنى الباء أي بأمره، فتتعلق "بأذنت". والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
الأولى: في درجته:
حديث أبي محذورة رضي الله عنه هذا صحيح، تقدم تخريجه برقم (630).
الثانية: في فوائده:
منها: ما بوب عليه المصنف رحمه الله، وهو بيان كيفية الأذان.
ومنها: حرص السلف على تعلم أمور الدين.
ومنها: فضل أبي محذورة رضي الله عنه حيث ألقى النبي صلى الله عليه وسلم الأذان عليه بنفسه.
ومنها: عظيم حلمه صلى الله عليه وسلم حيث لم يعاقب هؤلاء المستهزئين به.
ومنها: تربيع التكبير في أول الأذان، وتكرير سائر كلماته، إلا كلمة التوحيد، فتفرد.
ومنها: مشروعية الترجيح في الأذان.
ومنها: تأليف من كان قريب العهد بالإسلام، ليثبت الإيمان في قلبه بإعطاء شيء من المال.
ومنها: جواز طلب التأذين طلبًا لعظيم ثوابه.
والله تعالى أعلم. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.
6 - الأذَانُ فِي السَّفَر
633 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي، وَأُمُّ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ خَرَجْتُ عَاشِرَ عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، نَطْلُبُهُمْ، فَسَمِعْنَاهُمْ يُؤَذِّنُونَ بِالصَّلَاةِ، فَقُمْنَا نُؤَذِّنُ، نَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"قَدْ سَمِعْتُ فِي هَؤُلَاءِ تَأْذِينَ إِنْسَانٍ حَسَنِ الصَّوْتِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَأَذَّنَّا، رَجُلٌ رَجُلٌ، وَكُنْتُ آخِرَهُمْ، فَقَالَ: حِينَ أَذَّنْتُ: "تَعَالَ، فَأَجْلَسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِي، وَبَرَّكَ عَلَىَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَذِّنْ عِنْدَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، قُلْتُ: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَعَلَّمَنِي، كَمَا تُؤَذِّنُونَ الآنَ بِهَا، "اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْم، فِي الأُولَى مِنَ الصُّبْحِ، قَالَ: وَعَلَّمَنِي الإِقَامَةَ مَرَّتَيْنِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ هَذَا الْخَبَرَ كُلَّهُ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ أُمِّ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا ذَلِكَ مِنْ أَبِي مَحْذُورَةَ.
رجال الإسناد: سبعة
1، 2، 3 - تقدموا في السند السابق.
4 -
(عثمان بن السائب) الجمحي المكي مولى أبي محذورة، مقبول، من [6]، روى عن أبيه، وأم عبد الملك بن أبي محذورة،
وروى عنه ابن جريج، ذكره ابن حبان في الثقات، روى له المصنف وأبو داود هذا الحديث فقط، قال ابن القطان غير معروف.
5 -
(السائب) والد عثمان الجمحي المكي مولى أبي محذورة، روى عن أبي محذورة. وعنه ابنه عثمان، ذكره ابن حبان في الثقات. له عند المصنف وأبي داود هذا الحديث فقط. وقال الذهبي: لا يعرف، وفي "ت" مقبول، من [3].
6 -
(أم عبد الملك بن أبي محذورة) زوج أبي محذورة مقبولة، من [3]، أخرج لها أبو داود والنسائي.
7 -
(أبو محذورة) سمرة بن معير رضي الله عنه، تقدم في (630). والله تعالى أعلم.
تنبيه:
هذا الحديث صحيح، وتقدم تخريجه في (630) وشرحه يعلم مما سبق، غير أن بعض المواضع يحتاج إلى توضيح، فمنها:
(قوله: عاشر عشرة) أي واحدًا من جماعة منحصرة في عشرة، وهو منصوب على الحال.
تنبيه:
من القواعد النحوية: أنه يصاغ من اثنين إلى عشرة وزن فاعل في المذكر، وفاعلة في المؤنث، وإذا أريد به بعض ما صيغ منه يضاف إليه وجوبًا، فيقال: عاشر عشرة، أي واحد من جملة عشرة، فلا يشترط كونه هو العاشر، بل المراد أنه واحد من العشرة. قال الله تعالى:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة: 40] أي واحدًا منهما، ويقال:"ثالث ثلاثة" أي واحد منها وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله حيث قال:
وَصُغْ مِنْ اثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَ إِلَى
…
عَشْرَةٍ كَفَاعِلٍ مِنْ فَعَلا
وَاخْتِمْهُ فِي التَّأنِيثِ بِالتَّا وَمَتى
…
ذَكَّرْتَ فَاذْكُرْ فَاعِلَا بِغَيْرِ تَا
وَإِنْ تُرِدْ بَعْضَ الَّذِي مِنْهُ بُنِي
…
تُضِفْ إِلَيْهِ مِثْلَ بَعْضٍ بَيِّنِ
(قوله: رجل رجل) هكذا النسخ بالرفع، وهو صحيح، أي أذن كل رجل منا واحدًا بعد واحد، فرجل الأول بدل من الضمير الفاعل، والثاني عطف عليه.
(وقوله: فمسح على ناصيتي) أي مسح النبي صلى الله عليه وسلم على مقدم رأسه لتحصل له بركة يده صلى الله عليه وسلم المباركة، فيحفظ ما يلقي عليه من ألفاظ الأذان، و"الناصية"، ومثلها "الناصاة": قصاص الشعر، وهو
بتثليث القاف والضم أعلى: حيث تنتهي نبته من مقدمه، أو مؤخره. انتهى. "ق" بزيادة.
(قوله: وبرك علي) بتشديد الراء: أي دعا لي بالبركة، والتبريك: الدعاء بالبركة، والبركة محركة: النماء، والزيادة، والسعادة، وبارك الله لك، وفيك، وعليك، وبَارَكَكَ، وبارِكْ على محمد، وعلى آل محمد: أدم له ما أعطيته من التشريف والكرامة، قاله المجد. وفيه استحباب الدعاء بالبركة.
(قوله: الصلاة خير من النوم) مبتدأ وخبر، أي لذة الصلاة خير من لذة النوم عند أرباب الذوق وأصحاب الشوق، ويمكن أن
يكون من باب "العسل خير من الخل". قاله القاري.
وفيه استحباب التثويب في أذان الفجر، وسيأتي تحقيقه في (647) إن شاء الله تعالى.
(قوله: في الأولى) أي في المناداة الأولى، وفي نسخة "في الأول": أي في النداء الأول، والمراد الأذان دون الإقامة. قاله السندي رحمه الله تعالى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل الأقرب أن يفسر قوله: في الأول بالأذان الأول الذي يؤذن قبل الفجر، كما قال الصنعاني وغيره، يعني أنه علمه أن يقول في الأذان الأول للصبح: الصلاة خير من النوم
مرتين، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.
7 - أَذَانُ المنْفَردِينَ فِي السَّفَرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الأذان في حال السفر للمسافرين، وليس المراد بالمنفردين الذين يصلون فرادى، بل بمعنى الذين انفردوا عن أهلهم ووطنهم.
634 -
أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، فَقَالَ:"إِذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(حاجب بن سليمان) بن سليمان المنبجي -بنون ساكنة، ثم موحدة مكسورة، ثم جيم- أبو سعيد مولى بني شيبان، صدوق يهم، من [10].
قال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني في العلل: لم يكن له كتاب، إنما كان يحدث من حفظه، وذكر له حديثًا وهم في متنه، رواه عن وكيع،
عن هشام، عن أبيه، عن عائشة:"قبل رسول الله بعض نسائه ثم صلى، ولم يتوضأ".
قال: والصواب عن وكيع بهذا الإسناد: "كان يقبل، وهو صائم". وقال مسلمة بن قاسم: روى عن عبد المجيد بن أبي رواد وغيره أحاديث منكرة، وهو صالح يكتب حديثه. وقال ابن منده: مات بمنبج سنة خمس وستين ومائتين. انفرد به المصنف.
تنبيهان:
الأول: المنبجي بفتح فسكون، فكسر موحدة، آخره جيم: نسبة إلى قرية بالشام. أفاده في "لب اللباب".
الثاني: ما قاله الدارقطني في الحديث المتقدم تعقبه الحافظ الزيلعي، قائلًا: لقائل أن يقول: هو تفرد ثقة، وتحديثه من حفظه إن كان أوجب كثرة خطئه بحيث يجب ترك حديثه فلا يكون ثقة، ولكن النسائي وثقه، وإن لم يوجب خروجه عن الثقة فلعله لم يهم، وكان نسبة الوهم بسبب مخالفة الأكثرين له. انتهى التعليق المغني بهامش سنن الدارقطني جـ 1 ص 136.
2 -
(وكيع) بن الجراح بن مليح، أبو سفيان الرؤاسي الكوفي، ثقة، حافظ، عابد، توفي في آخر سنة 196 أو أول 197 وله 70 سنة، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 23/ 25.
3 -
(سفيان) بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله الثوري الكوفي ثقة، ثبت، حجة، من [7]، تقدم في 33/ 37.
4 -
(خالد الحذاء) بن مهران -بكسر الميم-، أبو المنازل -بفتح الميم، وقيل بضمها، وكسر الزاي- البصري، مولى قريش، وقيل: مولى بني مجاشع، رأى أنس بن مالك، ثقة يرسل، من [5].
قال الأثرم عن أحمد: ثبت، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا
يحتج به، وقال ابن سعد: لم يكن خالد بحذاء، ولكن كان يجلس إليهم، قال: وقال فهد بن حيان: إنما كان يقول: احذ على هذا النحو، فلقب بالحذاء، قال: وكان خالد ثقة مهيبًا كثير الحديث، توفي سنة 141، وكان قد استعمل على العشور بالبصرة، وقال محمد بن المثنى، عن قريش بن أنس: مات سنة 142 أو أكثر، وذكره ابن حبان في الثقات، وحكى القولين في تاريخ وفاته.
وقال العجلي: بصري ثقة، وقال أبو الوليد الباجي: قرأت على أبي ذر الهروي في كتاب "الكنى" لمسلم: خالد الحذاء، أبو المنازل -بفتح الميم- قال أبو الوليد: والضم أشهر. وقال عبد الله بن أحمد ابن حنبل في كتاب العلل عن أبيه: لم يسمع خالد الحذاء من أبي عثمان النهدي شيئًا. وقال أحمد أيضًا لم يسمع من أبي العالية. وذكر
ابن خزيمة ما يوافق ذلك، ويشهد له. وقال ابن أبي حاتم في المراسيل عن أبيه، عن أحمد: ما أراه سمع من الكوفيين من رجل أقدم من أبي الضحى، وقد حدث عن الشعبي، وما أراه سمع منه. وقال غيره: لم يسمع من عراك بن مالك، بينهما خالد بن أبي الصلت. وحكى العقيلي في تاريخه من طريق يحيى بن آدم، عن أبي شهاب، قال: قال لي شعبة: عليك بحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق، فإنهما حافظان، واكتم علي عند البصريين في خالد الحذاء، وهشام.
قال يحيي: وقلت لحماد بن زيد: فخالد الحذاء؟ قال: قدم علينا قدمة من الشام، فكأنا أنكرنا حفظه، وقال عباد بن عباد: أراد شعبة أن يقع في خالد، فأتيته أنا وحماد بن زيد، فقلنا له: مالك؟ أجننت؟ وتهددناه، فسكت، وحكى العقيلي من طريق أحمد بن حنبل: قيل لابن علية في حديث كان خالد يرويه، فلم يلتفت إليه ابن علية، وضعف أمر خالد.
قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: ما خالد في المثبت بدون هشام ابن عروة وأمثاله. قال الحافظ: قلت: والظاهر أن كلام هؤلاء فيه من أجل ما أشار إليه حماد بن زيد من تغير حفظه بآخره، أو من أجل دخوله في عمل السلطان، والله أعلم انتهى. روى له الجماعة.
5 -
(أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الجرمي البصري، ثقة فاضل، كثير الإرسال، وقال العجلي: فيه نصب
يسير، توفي بالشام هاربًا من القضاء سنة 104 وقيل بعدها، من [3]، تقدم في 203/ 322.
6 -
(مالك بن الحويرث) بن حشيش بن عوف بن جندع، أبو سليمان الليثي الصحابي، وقيل في نسبه غير ذلك، نزل البصرة.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو قلابة الجرمي، وأبو عطية مولى بني عقيل، ونصر بن عاصم الليثي، وسوار الجرمي، ذكر ابن عبد البر أنه توفي سنة 94، وتبعه على ذلك ابن طاهر وغيره.
قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر، بل لا يصح ذلك، لاتفاقهم على أن آخر من مات بالبصرة أنس بن مالك، حتى إن ابن عبد البر ممن صرح بذلك، والظاهر أن ذلك تصحيف، وأن وفاته سنة 74، بتقديم السين، وهو الذي في كتاب أبي علي بن السكن بخط من يوثق به، وبه جزم الذهبي في مختصره. أخرج له الجماعة. انتهى "تت". والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه فانفرد هو به.
ومنها: أن النصف الأول كوفيون، إلا شيخه، فمنبجي، والنصف الثاني بصريون.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ خالد عن أبي قلابة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن مالك بن الحويرث) رضي الله عنه، أنه (قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، أنا، وابن عم لي، وقال مرة أخرى: أنا وصاحب لي) الظاهر أن هذا من قول أبي قلابة يعني أن مالك بن الحويرث حدث أبا قلابة مرتين، ففي المرة الأولى قال: أنا وابن عم لي، وفي المرة الثانية، قال: أنا وصاحب لي، ثم إن ابن عمه، أو صاحبه المذكور لم يسم في شيء من طرق هذا الحديث، كما قاله الحافظ في الفتح.
(فقال) صلى الله عليه وسلم (إِذا سافرتما فأذنا) أي ليؤذن من أحب منكما أن يؤذن، وذلك لاستوائهما في الفضل، لأنهما أقاما عنده عشرين ليلة، كما يأتي في الباب التالي، ولا يعتبر في الأذان سن بخلاف الإمامة.
وإنما صرفنا الأمر للاثنين إلى أحدهما، ولم نجعله من الأمر لهما ليؤذنا معًا، ويكون فيه مشروعية الأذان جماعة: للرواية الآتية "فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"، وللطبراني من طريق حماد ابن سلمة، عن خالد الحذاء في هذا الحديث "إذا كنت مع صاحبك، فأذن، وأقم، وليؤمكما أكبركما"، فتعين كون المراد أحدهما، إذ الرواية يفسر بعضها بعضًا، وهذا أولى من حمل القرطبي اختلاف هذه الروايات على تعدد القصة، فإنه بعيد، كما قاله الحافظ.
وقال الكرماني: قد يطلق الأمر بالتثنية وبالجمع، والمراد واحد،
كقوله: يا حرسي اضربا عنقه، وقوله: قتله بنو تميم، مع أن القاتل والضارب واحد.
وقال أبو الحسن بن القصار: أراد به -يعني قوله: فأذنا- الفضل، وإلا فأذان الواحد يجزئ.
قال الحافظ رحمه الله: وكأنه فهم منه أمرهما أن يؤذنا جميعًا، كما هو ظاهر اللفظ، فإن أراد أنهما يؤذنان معًا فليس ذلك بمراد، وإن أراد أن كُلاًّ منهما يؤذن على حدة، ففيه نظر، فإن أذان الواحد يكفي الجماعة.
نعم يستحب لكل أحد إجابة المؤذن، فالأولى حمل الأمر على أن أحدهما يؤذن، والآخر يجيب. انتهى فتح الباري بتصرف جـ 2 ص 132.
قال الجامع: الوجه الذي قدمناه في الجمع أولى، وهو وجه ذكره الحافظ أيضًا، والله أعلم.
وقال السندي: قوله: فأذنا: في المجمع: أي ليؤذن أحدكما، ويجيب الآخر، انتهى. يريد أن اجتماعهما في الأذان غير مطلوب،
لكن ما ذكر من التأويل يستلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يقال: الإسناد مجازي، أي ليتحقق بينكما أذان وإقامة، كما في: بنو فلان قتلوا، والمعنى يجوز لكل منكما الأذان والإقامة، أيكما فعل حصل، فلا يختص بالأكبر كالإمامة. انتهى.
(وأقيما) فيه حجة لمن قال باستحباب إجابة المؤذن، إن حمل الأمر على ما مضى، وإلا فالذي يؤذن هو الذي يقيم، قاله في الفتح.
(وليؤمكما أكبركما) إنما خص الإمامة بالأكبر لمساواتهما في سائر الأشياء الموجبة للتقدم، كالأقرئية، والأعلمية، بالنسبة لمساواتهما في المكث والحضور عنده صلى الله عليه وسلم، وذلك يستلزم المساواة في هذه الصفات عادة، ذكره السندي، وسيأتي تمام البحث في ذلك في محله إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (634) وفي الكبرى (1598) و (4/ 781) والكبرى (4/ 856) عن حاجب بن سليمان، عن وكيع، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عنه، وفي (635) عن زياد بن أيوب، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عنه، وفي (669) عن علي بن حجر، عن ابن علية، عن خالد الحذاء به. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه بألفاظ
مختلفة، ومعان متقاربة، فمنهم من طول، ومنهم من اختصر.
فأخرجه البخاري في الصلاة عن معلي بن أسد، عن وهيب بن خالد- وعن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد-، وفيه، وفي خبر الواحد عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي- وفي الأدب عن مسدد، عن إسماعيل بن علية أربعتهم عن أيوب به، وفي الصلاة أيضًا، عن محمد بن يوسف، عن سفيان الثوري- وفيه، وفي الأدب أيضًا عن مسدد، عن يزيد بن زريع- وفي الجهاد عن أحمد بن يونس، عن أبي شهاب- ثلاثتهم عن خالد الحذاء به.
وأخرجه مسلم في الصلاة أيضًا عن زهير بن حرب، عن إسماعيل ابن علية به. وعن أبي الربيع الزهراني، وخلف بن هشام، كلاهما عن حماد بن زيد به، وعن إسحاق بن إبراهيم- وابن أبي عمر، فرقهما- كلاهما عن عبد الوهاب الثقفي به. وعن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الوهاب الثقفي- وعن أبي سعيد الأشج، عن حفص بن غياث- كلاهما عن خالد الحذاء به.
وأخرجه أبو داود في الصلاة أيضًا عن مسدد، عن إسماعيل بن علية- وعن مسدد، عن مسلمة بن محمد- كلاهما عن خالد الحذاء به.
وأخرجه الترمذي في الصلاة أيضًا عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان الثوري به، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه ابن ماجه في الصلاة أيضًا عن بشر بن هلال الصواف،
عن يزيد ابن زريع، عن خالد الحذاء به. أفاده أبو الحافظ المزي رحمه الله في تحفته جـ 8 ص 336، 337. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: مشروعية الأذان في السفر.
ومنها: وجوب الأذان لأمره صلى الله عليه وسلم به، وقد تقدم تحقيق الخلاف فيه.
ومنها: أفضلية الإمامة على الأذان، حيث خص به الأكبر، بخلاف الأذان.
ومنها: فضل الهجرة، والرحلة في طلب العلم.
ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاهتمام بشأن الصلاة، وبتعليم أحكام الدين. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
8 - اْجْتِزَاءُ الْمَرْءِ بِأَذَانِ غَيْرِهِ فِي الحَضَرِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على اكتفاء الشخص بأذان غيره في الحضر.
وليس المراد تخصيص هذا الحكم بالحضر فقط، بل لكونه بين حكم السفر في الباب الماضي، فأراد إفراد حكم الحضر بباب خاص به. والله أعلم.
635 -
أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَفِيقًا، فَظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَقْنَا إِلَى أَهْلِنَا، فَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَاهُ مِنْ أَهْلِنَا؟ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ:"ارْجِعُوا إِلَى أَهْليِكُمْ، فَأَقِيمُوا عِنْدَهُمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ، إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ".
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(زياد بن أيوب) بن زياد البغدادي، أبو هاشم، طوسي الأصل، يلقب دَلُويَهْ، وكان يغضب منها، وَلَقَّبَهُ أحمدُ: شعبةَ الصغير، ثقة حافظ، توفي سنة 252 عن 86 سنة، من [10]، تقدم في 101/ 132.
2 -
(إِسماعيل) بن إبراهيم بن مِقْسم الأسدي مولاهم أبو بشر البصري، المعروف بابن علية، ثقة حافظ، توفي سنة 193 عن 83 سنة، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 18/ 19.
3 -
(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختياني، أبو بكر البصري، ثقة ثبت حجة فقيه، توفي سنة 131 عن 65 سنة، من [5]، تقدم في 32/ 48.
والباقيان تقدما في السند السابق.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات نبلاء.
ومنها: أنهم اتفق الأئمة بالتخريج لهم، إلا شيخه فلم يخرج له مسلم وابن ماجه.
ومنها: أنه مسلسل بالبصريين، إلا شيخه فبغدادي.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ أيوب عن أبي قلابة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن مالك بن الحويرث) رضي الله عنه، أنه (قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعند البخاري في الصلاة: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي". قال في الفتح: هم بنو ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، وكان قدوم وقد بني ليث فيما ذكره ابن سعد بأسانيد متعددة أن واثلة الليثي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز لتبوك. انتهى. جـ 2 ص 131.
(ونحن شببة) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل. والشببة بفتحات: جمع شاب (متقاربون) أي في العلم، ففي رواية لأبي داود من طريق مسلمة بن محمد، عن خالد الحذاء "وكنا يومئذ متقاربين في العلم"(فأقمنا عنده عشرين ليلة) أي بأيامها، ففي رواية للبخاري "فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة"(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقًا) من الرفق، بفاء، فقاف، ورواية مسلم "رقيقًا"، بقافين، من الرقة، ورواية البخاري بالوجهين (فظن أنا قد اشتقنا إِلى أهلنا) بالإفراد (فسألنا عمن تركناه من أهلنا؟ فأخبرناه، فقال: ارجعوا إِلى أهليكم) جمع أهل، والأهل من النوادر؛ حيث يجمع مكسرًا نحو الأهالي، ومصححًا بالواو والنون؛ نحو الأهلين، وبالألف والتاء؛ نحو الأهلات، ذكره العيني في عمدته
(فأقيموا عندهم، وعلموهم، ومروهم) من عطف الخاص على العام (إِذا حضرت الصلاة) هكذا نسخ النسائي بدون واو، وعند
غيره: "وإذا حضرت الصلاة"، بعاطف، وجواب إذا: الجملة بعده، أي إذا حان وقت الصلاة (فليؤذن لكم أحدكم) هذه الرواية تبين معنى الرواية السابقة "فأذنا، وأقيما"، أي ليؤذن واحد منكما، كما تقدم الكلام عليه محققًا.
وهذا محل استدلال المصنف في الترجمة، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدهما بالتأذين، فيفيد اجتزاء الآخر بأذانه.
(ثم ليؤمكم أكبركم) أي سِنًا، وليس المراد أكبرهما قدرًا ومنزلة، لما مر قريبًا من قوله:"وكنا يومئذ متقاربين في العلم" -بالموحدة
(1)
- أي يوم قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم "ليؤمكما أكبركما".
ولأبي داود من رواية إسماعيل ابن علية، قال: قال خالد -يعني الحذَّاء- قلت لأبي قلابة: فأين القرآن؟ قال: إنهما متقاربان، يعني أين القرآن الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه أن يتقدم على غيره في الصلاة؟ وإنما سأل عن ذلك لأن ظاهر هذا الحديث يعارض حديث "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" فإنه صريح في تقديم الأقرأ، وهذا صريح في تقديم الأكبر سنًا، فأجابه بأنهما كانا متقاربين في القرآن، فبقي الفضل
(1)
أي بالباء الموحدة في "متقاربين"، وفي رواية "متقارنين" بالنون، من المقارنة، يقال: فلان قرين فلان: إذا كان مثله في علم أو غيره. أفاده في "المنهل العذب المورود" جـ 4 ص 308.
في السن، فأمر بتقديمه. والله أعلم.
تَنْبِيهٌ:
هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم تخريجه في الباب السابق. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
636 -
أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ، فَقَالَ لِي أَبُو قِلَابَةَ: هُوَ حَيٌّ أَفَلَا تَلْقَاهُ؟ قَالَ أَيُّوبُ: فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: لَمَّا كَانَ وَقْعَةُ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، فَذَهَبَ أَبِي بِإِسْلَامِ أَهْلِ حِوَائِنَا، فَلَمَّا قَدِمَ اسْتَقْبَلْنَاهُ، فَقَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ -وَاللهِ- مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَقَالَ:"صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِى حِينِ كَذَا، وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(إِبراهيم بن يعقوب) بن إسحاق الجُوزَجَاني، نزيل دمشق، ثقة حافظ، رمي بالنصب، توفي سنة 259، من [11]، أخرج له
أبو داود، والترمذي، والنسائي، تقدم في 122/ 174.
2 -
(سليمان بن حرب) الأزدي الواشحي البصري القاضي بمكة، ثقة، إمام، حافظ، توفي سنة 224 هـ عن 80 سنة، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 181/ 288.
3 -
(حماد بن زيد) بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري، ثقة، ثبت، فقيه، توفي سنة 179، من كبار [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 3/ 3.
5 -
(أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو الجَرْمي تقدما في السند السابق.
6 -
(عمرو بن سلمة) بن قيس الجرمي، أبو بُرَيْد، ويقال: أبو يَزِيد البصري، وفد أبوه على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو يصلي بقومه في عهده وهو صغير، ولم يصح له سماع ولا رواية، ورُوِيَ من وجه غريب أنه أيضًا وفد مع أبيه. رَوَى عنه أبو قلابة الجرمي، وعاصم الأحول، وأبو الزبير، ومِسْعَر بن حبيب الجرمي، وغيرهم.
قال الحافظ رحمه الله: روى ابن منده في كتاب الصحابة حديثه من طرق صحيحة، وهي رواية الحجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عمرو بن سلمة، قال: كنت في الوفد الذين
وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا تصريح بوفادته، وقد روى أبو نعيم في الصحابة أيضًا من طرق ما يقتضي ذلك، وقال ابن حبان: له صحبة، أخرج له البخاري، وأبو داود، والمصنف.
7 -
(سلمة) بن قيس، وقيل: ابن نفيع، وقيل: ابن لائم، وقيل: ابن لاي، أبو قدامة البصري الجرمي، صحابي، وقد على النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وعنه ابنه عمرو بن سلمة. والله أعلم.
تنبيه:
سلمة بكسر اللام، وقد قيل بفتحها، والصواب الأول، وهو الذي ذكره الحافظ السيوطي رحمه الله في ألفية الأثر حيث قال:
عَمْرٌو وَعَبْدُ اللهِ نَجْلَا سَلِمَهْ
…
بِالكَسْرِ مَعَ قَبِيلَةٍ مُكَرَّمَهْ
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.
ومنها: أنه مسلسل بالبصريين، إلا شيخه فبغدادي.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه، والصحابي عن الصحابي. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أيوب) بن أبي تميمة السختياني (عن أبي قلابة) عبد الله بن
زيد الجرمي (عن عمرو بن سلمة) بكسر اللام على الصحيح، الجرمي، قال أيوب (فقال لي أبو قلابة: هو) أي عمرو بن سلمة
(حي، أفلا تلقاه) فيه أنه ينبغي للعالم إذا كان هناك من هو أولى منه، إما علمًا، وإما إسنادًا، مع علم، وإما غَيرَ ذلك من أنواع الفضل أن يُرْشد الطالبَ إليه، لحديث مسلم وغيره "الدينُ النصيحةُ"، قال في ألفية الأثر مشيرًا إلى آداب المحدث، ومنها ما ذكرناه:
وَأَشْرَفُ الْعُلُومِ عِلْمُ الأَثَر
…
فَصَحِّحِ النِّيَّةَ ثُمَّ طَهِّرِ
قَلْبًا مِنَ الدُّنْيَا وَزِدْ حِرْصًا عَلَى
…
نَشْرِ الْحَدِيثِ ثُمَّ مَنْ يُحْتَجْ إِلَى
مَا عِنْدَهُ حَدَّثَ شَيْخًا أَوْ حَدَثْ
…
وَرَدَّ لِلأَرْجَحِ نَاصِحًا وَحَثْ
ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لا تُرْشِدْ إِلَى
…
أَعْلَى فِي الاسْنَادِ إِذَا مَا جَهِلَا
(قال أيوب) السختياني (فلقيته) أي عمرو بن سلمة (فسألته) أي عما حدثه به أبو قلابة (فقال) عمرو (لما كان وَقْعَةُ الفتح)"كان" تامة، ولذا اكتفت بمرفوعها، وهو "وقعة"، كما قال في الخلاصة:
...............
…
وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي
وقال الحَرِيرِيُّ في مُلْحَتِهِ:
وَإِنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ
…
فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَر
وَالْوَقْعَةُ -بفتح فسكون- قال المجد رحمه الله: والوقعة بالحرب: صَدْمَةٌ بعد صدْمة. انتهى. والمراد هنا غزوة الفتح. وكانت في رمضان
سنة ثمان من الهجرة.
وسببها على ما ذكره أهل السير: نقض قريش عهدها بإعانتهم بني بكر الذين دخلوا في عقدهم وعهدهم على خزاعة الذين دخلوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فناصروهم سرًا، حتى قتلوا منهم رجالًا، فجاء عمرو بن سالم الخُزَاعِي، وبُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ إلى المدينة، وأخبَراه بمُظاهرَة قريش بني بكر عليهم، وإجابتهم إلى مناصرتهم، ثم قدم أبو سفيان المدينة لِيَشُدَّ العهد، ويزيد في المدة؛ فدخل علي بنته أم حبيبة رضي الله عنها، فذهب ليجلس على الفراش، فطوته، فقال: يا بنيةُ أرَغِبْتِ بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟.
قالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس، قال: لقد أصابك بعدي شرّ، ثم خرج، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه، فلم يرد عليه، فكلم أبا بكر أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، فكلم عمر، فقال: أنا أشفع لكم؟ والله لو لم أجد إلا الدِّرَّة لجاهدتكم بها، فدخل على علي، وعنده فاطمة وابنها الحسن، فقال: يا علي أنت أمَسُّ القوم بي رَحِمًا، جئت في حاجة، وذكرها، قال: لقد عزَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه، فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري ابنك هذا، فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: ما بلغ ابني أن يجير. قال: يا أبا الحسن قد اشتد الأمر فانصحني، قال: ما أعلم شيئًا يغني عنك،
لكنك سيد بني كنانة، فقم، فأجِرْ بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك، فقام، فقال: يا أيها الناس قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق، فلما قدم مكة أخبرهم، قالوا: فهل أجاز لك محمدٌ؟ قال: لا، قالوا: فما يغني عنك ما قلت؟ قال: ما وجدت غير ذلك. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على عائشة، وهي تحرك بعض الجهاز. قال: أين ترينه يريد؟ قالت: لا أدري.
ثم أعلم الناس أنه قاصد مكة، وأمر بالجد، ثم قال:"اللهم خذ الإخبار والعيون عن قريش"، ثم خرج في عشرة آلاف حتى نزل بَمرِّ الظَّهْران، وعَمِيَتْ أخباره عن قريش، فلا يأتيهم عنه خبر، وخرج في تلك الليلة أبو سفيانَ، وحَكِيم بن حِزام، يتجسسان الإخبار.
وكان العباس لقي النبي صلى الله عليه وسلم بالطريق مهاجرًا بعياله من مكة إلى المدينة، قال العباس: فلما نزل بمر الظهران قلت: وَاصَبَاحَ قريش، إن دخل مكة عَنْوَةً قبل أن يستأمنوه إنه لهلاكهم إلى آخر الدهر، فجلس على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج لعله يجد بعض الحطابة يأتي مكة فيخبرهم، وإذا هو يسمع كلام أبي سفيان، وبديل ابن ورقاء، خرجا وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانًا قطُّ، فقال العباس، قال: أبا الفضل مالك؟
قلت: هذا رسول الله، واصباح قريش. قال: فما الحيلة؟
قلت: إن ظفِرَ ليضرِبنَّ عُنُقُكَ، فاركب على عَجُزِ هذه البَغْلَةِ لآتِيَ بك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأسَتأمِنُهُ لك، فركِب، فجئْت به، كلما مر بنار، قالوا: مَنْ هذا؟ فإذا رأوا البغلة قالوا: عَمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عمر، فلما رأى أبا سفيان، قال: عدوَّ الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد، ولا عهد، ثم خرج يشتدّ نحوَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ البغلةَ، فسَبقته بما تسبِق الدابة الرجلَ، فدخلت عليه، ودخل عمر، فقال: أبو سفيان اضرب عنقه.
فقلت: يا رسول الله إني أجرته، فقال: اذهب به إلى رَحْلِك، فإذا أصبحت فاتني به، فغدوت به؛ فلما رآه، قال: وَيْحَكَ يا أبا سفيان، ألم يَأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: لقد ظننتُ أنه لو كان مع الله غيره، لقد أغنى شيئًا بعد.
قال: ألم يَأنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحْلَمَك! أما هذه ففي نفسي منها شيء حتى الآنَ، فقال العباس: أسلِمْ قبل أن يَضْرِب عنقك، فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله إنه رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، قال:"من دخل دار أبي سفيان فهو آمِنْ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"، فذهب لينصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباس احبِسه بمَضيِق الوادي حتى تمرّ به جنود الله فيراها، فمرت به القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فيقول: سليم، فيقول:
مالي ولسليم؟ ثم تمر قبيلة، فيقول: من هذه؟ فيقول: مُزَيْنَة، فيقول: مالي، ولمزينة؟ حتى نفرت القبائل، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كَتِيبَتِه المهاجرون والأنصار، لا يُرَى منهم إلا الحَدَق من الحديد، قال: من هؤلاء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: يا أبا الفضل قد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيمًا.
قال: إنها النبوة، قال: نعم إذًا، قال: الْحَقْ إلى قومك، فجاء، فصرخ بأعلى صوته، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة، وأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الحميت الدسم الأحمس
(1)
قَبُحَ مِنْ طَليعَة قوم، قال: لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فتفرق الناس إلى دورهم، وإلى المسجد، ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طوى وقف على راحلته معتجِرًا
(2)
بشِقَّة بُرْدة حمراء، وإنه ليضع رأسه تواضعًا لله حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عُثْنُونه
(3)
تكاد تمس واسط الرحل، فلما دخل مكة دخل المسجد، فأتاه أبو بكر بأبيه، يقوده،
(1)
الحميت: الزق، والأحمس: الشديد، والأحمس: الذي لا خير فيه. انتهى من عيون الأثر.
(2)
معتجرًا: أي متلففًا، يقال: اعتجر الرجل: لف العمامة على رأسه. انتهى من المصباح.
(3)
العثنون: بضم العين والنون بينهما مثلثة ساكنة: اللحية، أو ما فضل منها بعد العارضين، أو ما نبت على الذقن، وتحته سفلًا، أو هو طولها. انتهى "ق".
فقال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى آتيه، فقال: هو أحق أن يمشي إليك، فمسح صدره، وقال: أسلم، فأسلم، ورأى كان رأسه ثَغَامَة
(1)
، فقال: غيروا هذا بشيء.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى- الزبيرَ أن يدخل بمن معه من كُدًى، وكان على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كَدَاء، فذكروا أن سعدًا قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم يوم تستحل الحرمة، فسمعها عمر وغيره، فقالوا: يا رسول الله ما نأمن أن يكون لسعد في قريش صولة.
فقال لعلي: خذ الراية، وادخل بها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، وكان على الميمنة، فدخل من أسفل مكة، فلقيه بنو بكر، فقاتلوه، فقتل منهم عشرين رجلًا، وانهزموا، وارتفعت منهم طائفة على الجبل، وتبعهم المسلمون بالسيوف، ولما علا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه كدا نظر إلى البارقة على الجبل مع فضض المشركين، فقال: ألَمْ أنْهَ عن القتال؟ فقال المهاجرون نظن أن خالدًا قوتل، فلم يكن بد من أن يقاتل من قاتله، وما يعصيك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، لكنه أمر بقتل نفر سماهم، وإن وُجِدُوا تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن أبي سرح، وكان قد أسلم، وكتب
(1)
الثغام: مثل سلام: نبت يكون بالجبال غالبًا إذا يبس، أبيض، ويشبه به الشيب. انتهى. المصباح.
الوحي، ثم ارتد، ففر إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاع، فأخذه حتى أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأمنه له، فسكت طويلًا، ثم قال: نعم، فلما انصرف قال لمن حوله:"لقد صمَتُّ ليقوم إليه أحدكم، فيضرب عنقه"، قالوا له: هلا أومأت لنا؟ قال: "إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين"، فكان ابن أبي سرح بعد ذلك ممن حسن إسلامه.
ومنهم: عبد الله بن خطل كان مسلمًا فارتد، فقال: اقتلوه، وإن تعلق بأستار الكعبة، فقتلوه.
ومنهم الحويرث بن نفيل، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. ولما حمل العباس فاطمة، وأم كلثوم ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة نخس بهما الحويرث، فرمى بهما إلى الأرض، فقتله علي يوم الفتح.
ولما أتاه خالد قال: "نهيتك عن القتال؟ " قال: هم بدءونا، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت يدي ما استطعت، قال:"قضى الله خيرًا".
وَفَرَّ صفوان بن أمية عامدًا للبحر، وعكرمة بن أبي جهل عامدًا لليمن، فقال عمير بن وهب: يا نبي الله صفوان سيد قومه، وقد خرج ليقذف نفسه في البحر، فأمنه، فإنك أمنت الأحمر والأسود، قال:"أدرك ابن عمك، فهو آمن"، فأدركه، قال: هذا أمان قد جئتك به، قال: اعْزُبْ عني، لا تكلمني، قال: أي صفوان إن ابن عمك عزه من عزك، وشرفه من شرفك، قال: أخافه على نفسي،
قال: هو أحلم من ذلك، فرجع معه إليه، فقال صفوان: هذا يزعم أنك أمنتني، قال: صدق، قال: فاجعلني فيه بالخيار شهرين، قال: أربعة أشهر.
وأقبلت زوجة عكرمة بن أبي جهل، وهي مسلمة يومئذ، فاستأمنته له، فأمنه، فأقبل معها، فأسلم، فوثب به رسول صلى الله عليه وسلم فرحًا به.
وأتته أم هانئ أخت علي، وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جَفْنَة فيها أثر العجين، وفاطمة بنته تستره، فلما اغتسل صلى ثمان ركعات من الضحى، ثم قال: مرحبًا وأهلًا بأم هانئ، ما جاء بك؟ فقالت: نَفَرَ إلَيَّ رجلان من أحمائي، فقال أخي: لأقتلنهما، فقال:"أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتح، فدخلها، ثم وقف على بابها، فقال: "لا إله إلا الله صدق
وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة، أو دم، أو مال يدعى تحت قدميَّ هاتين، إلا سِدَانة البيت، وسِقَاية الحاج. يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نَخْوَةَ الجاهلية، وتعاظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
…
} الآية [الحجرات: 13]، ثم قال:"يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ " قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال:"اذهبوا، فأنتم الطُّلَقَاء"، وجلس في المسجد، فقال علي بن أبي
طالب -ومفتاح الكعبة بيده-: اجمع لنا الْحِجَابة مع السقاية، فقال:"أين عثمان بن طلحة؟ فقال: هذا مفتاحك، اليومُ يومُ وَفَاء وبِرّ".
وكان حول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فلما طاف جعل يشير بقضيب في يده إليها وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل، فما أشار لصنم إلا وقع لقفاه.
ولما دخل الكعبة أمر بلالًا أن يؤذن -وكان دخل معه- وأبو سفيان، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: قد أكرم الله أسيدًا أن لا يكون سمع هذا، وقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه بحق ما تبعته، وقال أبو سفيان: لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علمت ما قلتم، ثم ذكر لهم ذلك، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، ما اطلع على هذا أحد، ثم قام على الصفا يدعو وقد أحدقت الأنصار، فقالوا فيما بينهم: أترون إذا فتح الله بلده يقيم بها؟ فلما فرغ قال: "ما قلتم؟ " قالوا: لا شيء، فلم يزل حتى أخبروه، فقال:"مَعَاذ الله المَحْيَا مَحْيَاكُم، والمَمَاتُ مماتكم"، ثم أقام بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة، وكان فتحها
صلحًا عند الشافعي، وعَنْوَةً عند أبي حنيفة، وقيل: أعلاها كان صلحًا، وأسفلها كان عنوة. انتهى من "شرح ألفية السيرة النبوية
العراقية"، للعلامة المناوي ص 201 - 205".
(بادر كل قوم بإِسلامهم) أي أراد كل قوم أن يسبقوا غيرهم
بالإِسلام. وفي رواية البخاري في المغازي عن سليمان بن حرب بسند المصنف: فقال -يعني عمرو بن سلمة-: كنا بماء مَمَرِّ الناس، وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوحى إليه، أو أوحى الله بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يُغْرَى في صدري. زاد في رواية البيهقي "بغِرَاء"
(1)
.
وكانت العرب تَلَوَّم
(2)
بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبَدَرَ أبي قومي بإسلامهم، فلما قدِمَ، قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقًّا، فقال: "صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا
…
الحديث". انتهى. "صحيح البخاري" جـ 5 ص 191.
(فذهب أبي بإِسلام أهل حِوَائِنَا) الْحِوَاءُ -بكسر الحاء المهملة، والمدِّ-: بيوت مجتمعة من الناس على ماء، قاله في زهر. وفي "ق": والحواء، ككتاب، والمُحَوَّى، كالمُعَلَّى: جماعة البيوت المتدانية. انتهى.
أي ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل قريتنا أسلموا، ثم قَدِمَ، فَلما قدم القرية (استقبلناه) يقال: استقبلت الشيء: إذا واجهته،
(1)
قال في القاموس: الغرا: ما طُلي به، أو لُصِّقَ بِه، أو شيء يُستَخرج من السَّمَكَ، كالغِرَاءِ كَكِسَاءٍ. اهـ ص 1698 طبعة مؤسسة الرسالة.
(2)
مضارع تَلَّوَم بحَذف إحدى التاءين، وأصله تَتَلوَّمُ، ومعناه: تنتظر.
فهو مستقبَلٌ بالفتح، اسم مفعول. قاله الفيومي (فقال: قد جئتكم والله من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا) مصدر منصوب بفعل محذوف وجوبًا، لكونه مؤكدًا، كما قال في الخلاصة في بيان المصدر الذي يحذف عامله وجوبًا:
وَمِنْهُ مَا يَدْعُونَهُ مُؤَكِّداَ
…
لِنَفْسِهِ أوْ غَيْرِهِ فَالمُبْتَدا
نَحْوُ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ عُرْفًا
…
وَالثَّانِ كَابْنيِ أنْتَ حَقًّا صِرْفًا
أي أحُقُّهُ حَقًّا، أي أثبت كونه رسول الله صلى الله عليه وسلم إثباتًا لا يحتمل التشكيك. (فقال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا) يعني أنه بَيَّنَ لهم أوقات الصلاة. (فإِذا حضرت الصلاة) أي دخل وقتها (فليؤذن لكم أحدكم) فيه دليل على أن أذان الواحد يكفي الجماعة، وهو الذي أراده المصنف بقوله:"اجتزاء المرء بأذان غيره"(وليؤمكم أكثركم قرآنًا) زاد في رواية البخاري: "فنظروا، فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقَدَّمُونِي بين أيديهم، وأنا ابن ست، أو سبع سنين"
(1)
.
وكانت علي بُرْدة، كنت إذا سجدت، تَقَلَّصَتْ عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تُغَطُّون عنا اسْتَ قارئكم، فاشتروا لي قميصًا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. انتهى صحيح البخاري جـ 5 ص 191 - 192. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
وفي رواية المصنف الآتية -789 - "وأنا ابن ثمان سنين".
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث سلِمة الجرمي رضي الله عنه أخرجه البخاري.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (636)، وفي "الكبرى"(1600) عن إبراهيم بن يعقوب، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب
السختياني، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سَلِمَةَ عنه. وفي (789).
وفي "الكبرى"(11/ 864) عن موسى بن عبد الرحمن المسروقي، عن حسين بن علي الجعفي، عن زائدة عن الثوري، عن أيوب به. وفي (767).
وفي "الكبرى"(4/ 843) عن شعيب بن يوسف، عن يزيد بن هارون، عن عاصم الأحول، عن عمرو بن سلمة، قال: لما رجع قومي من عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه قال: "ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن
…
" الحديث. ولم يقل "عن أبيه". والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري وأبو داود، فأخرجه البخاري في "المغازي" مطولًا عن سليمان بن حرب، بسند المصنف. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن أيوب به.
وعن عبد الله بن محمد النفيلي، عن زهير بن معاوية، عن عاصم الأحول، عن عمرو بن سلمة به، وعن قتيبة، عن وكيع، عن مسعر ابن حبيب الجرمي، عن عمرو بن سلمة، عن أبيه. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو اجتزاء الشخص بأذان غيره، وأن الأذان ليس واجبًا على كل مصل، بل يكفي أذان الواحد
للجماعة.
ومنها: الرحلة لتعلم أحكام الدين.
ومنها: وجوب تعليم العالم الجاهل ما يحتاج إليه من أمر دينه.
ومنها: كون الأحق بالإمامة هو الأقرأ، وسيأتي تحقيق القول فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومنها: جواز إمامة الصبي، وهو قول الحسن، وأبي ثور، وإسحاق، والشافعي، وذهب إلى عدم صحة إمامته الشعبي، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وابن حزم، وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد رحمهم الله: لا تصح المكتوبة، وعنهما في النافلة روايتان، وقال الزهري: إذا اضطروا إليه أمهم. أفاده في المنهل جـ 4 ص 301، 302، وسيأتي تحقيق القول في ذلك، وترجيح الراجح بدليله في موضعه إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
9 - الْمُؤَذِّنَانِ لِلْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز اتخاد المؤذِّنَيْنِ للمسجد الواحد.
وأراد به أن يؤذن كل منهما بانفراده، لا أنهما يؤذنان معًا، كما سيأتي في الباب التالي، إن شاء الله تعالى.
637 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ بِلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ".
رجال الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني أبو رجاء، ثقة، ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس أبو عبد الله المدني الإمام، ثقة، ثبث، حجة، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(عبد الله بن دينار) العدوي مولاهم، أبو عبد الرحمن المدني مولى ابن عمر، ثقة، توفي 127، من [4]، تقدم في
167/ 260.
4 -
(ابن عمر) عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعيات المصنف، وهي أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو -31 - من رباعيات الكتاب.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه فبغلاني.
ومنها: أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة من الصحابة، روى 2630 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن) عبد الله (بن عمر) رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِن بلالًا) هو ابن رباح، المؤذن رضي الله عنه، تقدمت ترجمته في 86/ 104، (يؤذن بليل) أي الأذان المعروف في الشرع، إذ هو المتبادر من إطلاق اللفظ الشرعي، وأيضًا لا يحسن قوله:"فكلوا، واشربوا" إلا حينئذ. قاله السندي.
وهو تعليل مقدم على معلوله، وهو قوله (فكلوا واشربوا حتى ينادي) أي يؤذن، كما في الرواية التالية (ابن أم مكتوم) أي كلوا واشربوا في الليل كله إلى أن يؤذن ابن أم مكتوم، ولا يمنعكم من ذلك أذان بلال، لأنه يؤذن بليل، وهذا الأمر للإباحة، والرخصة، وبيان بقاء الليل بعد أذان بلال رضي الله عنه.
وابن أم مكتوم هو عمرو بن زائدة، ويقال: عمرو بن قيس بن
زائدة، ويقال: زياد بن الأصم، وهو
(1)
جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي العامري الأعمى، مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: اسمه عبد الله، والأول أكثر وأشهر، أسلم قديمًا، وهاجر قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ثلاث عشرة مرة، وشهد القادسية، وقتل بها شهيدًا، وكان معه اللواء يومئذ، وهو الأعمى المذكور في القرآن في {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1، 2].
وقال الواقدي رجع من القادسية إلى المدينة، فمات بها، ولم يسمع له بذكر بعد عمر بن الخطاب، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أنس ابن مالك، وعبد الله بن شدَّاد بن الهاد، وزِرّ بن حُبَيش، وأبو رزين الأسدي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعطية بن أبي عطية، وأبو البَخْتَري الطائي، ولم يدركه. ذكره ابن حبان في الصحابة في العبادلة، فقال: كان اسمه الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، ومنهم من زعم أن اسمه عمرو، ومنهم من قال: هو عبد الله بن زائدة، فقد نسبه إلى جده.
وقال ابن سعد: أما أهل المدينة، فيقولون: اسمه عبد الله، وأما أهل العراق، فيقولون: اسمه عمرو، ثم اتفقوا على نسبه، فقالوا:
ابن قيس بن زائدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلفه على المدينة يصلي بالناس في عامة غزواته، وقال أبو أحمد الحاكم: قتل شهيدًا بالقادسية. أخرج
(1)
الضمير للأصمّ أي اسمه جندب بن هرم.
له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه حديث عدم الرخصة لمن يسمع النداء في التخلف عن الجماعة الآتي (851). والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من رواية عبد الله بن دينار، أخرجه البخاري.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (637) وفي الكبرى (1601) عن قتيبة، عن مالك عن عبد الله بن دينار، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه "خ" في الأذان عن عبد الله بن يوسف عن مالك، به. وعن موسى بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن مسلم، عن مالك به. وأخرجه مالك في (الموطأ) رقم 69 و (أحمد) في مسنده جـ 2 ص 62 و 64 و 73 و 79 و 107. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية اتخاذ مؤذنين لمسجد واحد، وقد استحبه أصحاب الشافعي، وأما الاقتصار على مؤذن واحد فغير مكروه، وأما الزيادة على مؤذنين فليس في الحديث تعرض له، ونقل عن بعض أصحاب الشافعي أنه تكره الزيادة على أربعة، وهو ضعيف. قاله الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى.
ومنها: أنه إذا تعدد المؤذنون فالمستحب أن يرتبوا واحدًا بعد واحد، إذا اتسع الوقت لذلك، كما في أذان بلال وابن أم مكتوم
رضي الله عنهما، فإنهما وقعا مرتبين، والفقهاء من أصحاب الشافعي قالوا: يتخيرون بين أن يؤذن كل منهم في زاوية من زوايا المسجد، وبين أن يجتمعوا ويؤذنوا دفعة واحدة. قاله ابن دقيق العيد أيضًا.
قال العلامة الصنعاني رحمه الله: أقول: إذا تعدد المؤذنون فلهم صورتان: إحداهما تأذين كل أحد في زاوية من زوايا مسجد الأذان، وظاهره متفرقين، أو يؤذنون جميعًا دفعة واحدة، ولا يخفى أن الصورة الأولى هي التي تقدم أنها مستحبة، دون الثانية. وقد يقال: إن الترتيب الذي وقع في أذان مؤذنيه صلى الله عليه وسلم لابد منه، لأنهما لو أذنا دفعة واحدة لكان أذانًا قبل الوقت، فلا يجزئ، ولا يعد أذانًا، فإن الأذان المشروع هو ما كان في الوقت، والأذان المجزئ هو أذان ابن أم مكتوم، وأما أذان بلال فما كان إلا ليرجع القائم، ولينبه النائم، كما في لفظ البخاري "لا يمنع أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل، ليرجع قائمكم، وينبه نائمكم".
فبين أن أذانه ليس للوقت، ولا للصلاة، إنما هو إعلام بأن الوقت قد قرب، فيرجع القائم، ويستيقظ النائم، فلا يتم قياس تعدد
المؤذنين بعد دخول الوقت على مؤذنيه صلى الله عليه وسلم، بل لو قيل: إن تعدد المؤذنين بعد دخوله غير مستحب، لأنه لم يقع في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا تأذين
رجل واحد بعد دخول الوقت لكان واضحًا. انتهى كلام الصنعاني في العدة ج 2 ص 183".
قال الجامع: هذا الذي قاله الصنعاني أخيرًا هو الذي أراه، فلا ينبغي اتخاذ مؤذنين فأكثر بعد دخول الوقت استدلالًا بهذا الحديث -كما يقول بعض العلماء- لأن الحديث لا يدل عليه، فإن أذان بلال ليس للصبح، وإنما هو لبيان قرب وقت الصبح، فيرجع القائم، ويتنبه النائم. فليُتَبَصَّرْ. والله أعلم.
ومنها: أنه قيل: في الحديث دليل على جواز الأذان للصبح قبل طلوع الفجر، وقد عرفت ما فيه آنفًا، وسيأتي اختلاف أهل العلم في ذلك بعد باب إن شاء الله تعالى.
ومنها: جواز الأكل والشرب للصائم إلى الأذان الثاني الذي هو بعد طلوع الفجر، وسيأتي الكلام عليه في بابه من كتاب الصوم إن شاء الله تعالى.
ومنها: جواز كون المؤذن أعمى، فإن ابن أم مكتوم كان أعمى.
ومنها: أنه يجوز تقليد الأعمى للبصير في الوقت، أو جواز الاجتهاد فيه، فإن ابن أم مكتوم لابد له من طريق يرجع إليه في طلوع الفجر وذلك إما سماع من بصير، أو اجتهاد، وقد جاء في الحديث "وكان لا يؤذن حتى يقال له أصبحت"، وهذا يدل على رجوعه إلى البصير، ولو لم يُرَدْ ذلك لم يكن في هذا اللفظ دليل على جواز
رجوعه إلى الاجتهاد بعينه، لأن الدال على أحد الأمرين مبهمًا لا يدل على واحد منهما معينًا. انتهى. عمدة الأحكام ج 2 ص 186، بنسخة العدة. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: قال الحافظ رحمه الله: قال ابن منده رحمه الله: حديث عبد الله بن دينار مجمع على صحته، رواه جماعة من أصحابه عنه، ورواه عنه شعبة، فاختلف عليه فيه، رواه يزيد بن هارون عنه على الشك:"إن بلالًا -كما هو المشهور- أو إن ابن أم مكتوم ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتي يؤذن بلال"، قال: ولشعبة فيه إسناد آخر، فإنه رواه أيضًا عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته؛ أنيسة، فذكره على الشك أيضًا، أخرجه أحمد، عن غندر، عنه.
ورواه أبو داود الطيالسي عنه جازمًا بالأول، ورواه أبو الوليد عنه جازمًا بالثاني، وكذا أخرجه ابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان من طريق شعبة، وكذلك أخرجه الطحاوي، والطبراني من طريق منصور ابن زاذان، عن خبيب بن عبد الرحمن.
وادعى ابن عبد البر وجماعة من الأئمة بأنه مقلوب، وأن الصواب حديث الباب، قال الحافظ: وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة، وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه، وهو قوله:"إذا أذن عمرو، فإنه ضرير البصر، فلا يغرنكم، وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد"،
وأخرجه أحمد.
وجاء عن عائشة أيضًا أنها كانت تنكر حديث ابن عمر، وتقول: إنه غلط. أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي، عن هشام، عن أبيه، عنها، فذكر الحديث، وزاد:"قالت عائشة: وكان بلال يبصر الفجر" قال: وكانت عائشة تقول: غلط ابن عمر. انتهى.
وقد جمع ابن خزيمة، والضبعي بين المحدثين بما حاصله: أنه يحتمل أن يكون الأذان كان نوبًا بين بلال وابن أم مكتوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس أن أذان الأول منهما لا يحَرِّم على الصائم شيئًا، ولا يدل على دخول وقت الصلاة، بخلاف الثاني، وجزم ابن حبان بذلك، ولم يبده احتمالًا، وأنكر ذلك عليه الضياء، وغيره.
وقيل: لم يكن نوبًا، وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان، فإن بلالًا كان في أول ما شُرِعَ الأذان يؤذن وحده، ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر، وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار، قالت:"كان بلال يجلس على بيتي، وهو أعلى بيت في المدينة، فإذا رأى الفجر، تَمطَّا، ثم أذن" أخرجه أبو داود، وإسناده حسن، ورواية حميد عن أنس "إن سائلًا سأل عن وقت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا، فأذن حين طلع الفجر
…
" الحديث. أخرجه النسائي وإسناده صحيح.
ثم أردف بابن أم مكتوم، وكان يؤذن بليل، واستمر بلال على
حالته الأولى، وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وغيرها، ثم في آخر الأمر أخَّر ابنَ أم مكتوم لضعفه، ووكل به من يراعي له الفجر، واستقر أذان بلال بليل، وكان سبب ذلك ما روي أنه ربما كان أخطأ الفجر، فأذن قبل طلوعه، وأنه أخطأ مرة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيقول:"ألا إن العبد نام" يعني أن غلبةَ النوم على عينيه منعته من تبين الفجر، وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر موصولًا مرفوعًا، ورجاله ثقات حفاظ. لكن اتفق أئمة الحديث: علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، والذهلي، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والأثرم، والدارقطني على أن حمادًا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه، وأن حمادًا انفرد برفعه، ومع ذلك فقد وجد له متابع، وأخرجه البيهقي من طريق سعيد ابن زَرْبِيِّ -وهو بفتح الزاي وسكون الراء، بعدها موحدة، ثم ياء كياء النسب- فرواه عن أيوب موصولًا، لكن سعيد ضعيف. ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب أيضًا، لكن أعضله فلم يذكر نافعًا، ولا ابن عمر.
وله طريق أخرى عن نافع عند الدارقطني وغيره، واختلف في رفعها ووقفها أيضًا، وأخرى مرسلة من طريق يونس بن عبيد، وغيره
عن حميد بن هلال، وأخرى من طريق سعيد عن قتادة مرسلة،
ووصلها يونس عن سعيد بذكر أنس، وهذه طرق يقوي بعضها بعضًا قوة ظاهرة، فلهذا -والله أعلم- استقر أن بلالًا يؤذن الأذان الأول. انتهى فتح الباري جـ 2 ص 121 - 123. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
638 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ بِلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا تَأْذِينَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد، تقدم في السند الماضي.
2 -
(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصري، ثقة، ثبت، فقيه، إمام مشهور، توفي سنة 175، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35.
3 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، أبو بكر القرشي المدني، الفقيه، الحافظ، المتفق على جلالته وإتقانه، توفي سنة 125، من رؤوس [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
4 -
(سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني،
الفقيه، ثقة، ثبت، عابد، فاضل، توفي سنة 106، من كبار [3]. تقدم في 490.
5 -
(عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدم في السند السابق. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات نبلاء، اتفقوا عليهم، وأنهم مدنيون، إلا شيخه فبغلاني، وليثًا فمصري.
ومنها: أن فيه سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه.
وشرح الحديث يعلم مما قبله. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بالحديث
الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما من رواية سالم عنه أخرجه مسلم.
الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (638)، وفي الكبرى (1602) عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري، عن سالم عنه.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم والترمذي، فأخرجه مسلم في الصوم عن يحيى بن يحيى،- وقتيبة- ومحمد بن رمح- كلهم عن الليث بن سعد به.
وأخرجه الترمذي في الصلاة عن قتيبة به. وقال: حسن صحيح. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
10 - هَلْ يُؤَذِّنَانِ جَميعًا أَوْ فُرَادَى
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على بيان حكم من سأل قائلًا: هل المؤذنان يؤذنان جميعًا، أو فرادى، أي حال كونهما مجتمعين في وقت واحد، أو حال كونهما فرادى، يؤذن كل منهما في وقت غير ما يؤذن فيه الآخر.
قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: والفقهاء من أصحاب الشافعي قالوا: يخيرون بين أن يؤذن كل واحد منهم في زاوية من زوايا المسجد، وبين أن يجتمعوا، ويؤذنوا دفعة واحدة. انتهى. عمدة جـ 2 ص 182.
قال الجامع: والاستدلال لهذا القول بحديث الباب بعيد، فإنه يدل على اتخاذ مؤذنين، يؤذن كل واحد منهما في غير الوقت الذي يؤذن فيه الآخر، لا أنهما يجتمعان في الأذان، فتبصر. والله تعالى أعلم.
639 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَذَّنَ بِلَالٌ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"، قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلاَّ أَنْ يَنْزِلَ هَذَا، وَيَصْعَدَ هَذَا.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(يعقوب بن إِبراهيم) بن كثير بن أفلح العبدي مولاهم الدَّوْرَقِيُّ، أبو يوسف البغدادي، ثقة حافظ، توفي سنة 252 عن 96
سنة، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 21/ 22.
2 -
(حفص) بن غِياث بن طَلْق بن معاوية النخعي، أبو عمر الكوفي القاضي، ثقة، فقيه، تغير حفظه قليلًا في الآخر، توفي سنة
194، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 86/ 105.
3 -
(عبيد الله) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، أبو عثمان المدني، ثقة، ثبت، توفي سنة بضع و 140، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 15/ 15.
4 -
(القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة، فقيه، فاضل، توفي سنة 106، من كبار [3]، أخرج له الجماعة،
تقدم في 120/ 166.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه فبغدادي، وحفصًا فكوفي.
ومنها: أن شيخه ممن اتفق الستة بالرواية عنه بدون واسطة، وهم تسعة، جمعتهم في قولي:
اشتَركَ الأئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةِ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
النَّاقِدينَ الْبَارِعينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأشَجُّ وابْنُ معْمرِ
…
نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ، وَعَمْرٌو السَّرِي
وَابْنُ الْعَلاءِ وابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
ومنها: أن فيه عبيد الله بن عمر العمري قدمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهري، عن عروة، عنها.
ومنها: أن القاسم هو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة المجموعين في قول بعضهم:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي العِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
…
مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ
فَقُل: هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمُ
…
سَعِيدٌ أبُو بَكْرٍ سُلَيْمَان خَارِجَهْ
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن عمته: القاسم، عن عائشة.
ومنها: أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، قال في ألفية الأثر:
وَالمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الأثَرْ
…
أبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ
وَأنَسٌ، وَالْبَحْرُ كالْخُدْرِيِّ
…
وَجَابِرٌ، وَزَوْجَةُ النَّبِيِّ
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذا أذن بلال فكلوا واشربوا) فيه أن هذا الأمر أمر إباحة، وإعلام بامتداد وقت السحور إلى هذا الوقت (حتى يؤذن ابن أم مكتوم، قالت) عائشة رضي الله عنها (ولم يكن بينهما) أي بين أذانيهما (إِلا أن ينزل هذا) بكسر الزاي، من باب ضرب، أي ينزل بلال من محل الأذان، وفيه أن الأذان يكون في موضع مرتفع، إذِ القَصْد منه الإعلامُ، فكونه في مكان مرتفع أبلغ (ويصْعَد هذا) أي ابن أم مكتوم، وصَعِدَ بكسر العين، يقال: صَعِدَ في السلم، والدرجة، يصعَد، من باب تعِبَ، صعودًا، وصعِد السطحَ، وإليه، وصَعَّدت في الجبل -بالتثقيل-: إذا علوته. أفاده في المصباح.
ومراد عائشة رضي الله عنها بهذا تقليل المدة التي تكون بين أذانيهما.
ثم إن رواية المصنف رحمه الله صريحة في أن جملة "ولم يكن بين أذانيهما
…
" إلخ من كلام عائشة رضي الله عنها، لا من كلام القاسم، وأما ما وقع في صحيح البخاري في الصيام من قوله: قال القاسم: "لم يكن بين أذانيهما، إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا"، فمعناه، كما قال الحافظ: قال القاسم في روايته عن عائشة.
قال في الفتح: وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الوقت الذي يقع فيه
الأذان قبل الفجر هو وقت السحور، وهو أحد الأوجه في المذهب -يعني المذهب الشافعي- واختاره السبكي في شرح المنهاج، وحَكَى تصحيحه عن القاضي حسين، والمتولي، وقطع به البغوي، وكلامُ ابن دقيق العيد يشعر به، فإنه قال بعد أن حكاه: يُرَجَّحُ هذا بأن قوله: "إن بلالًا ينادي بليل" خبر يتعلق به فائدة للسامعين قطعًا، وذلك إن كان وقت الأذان مشتبهًا محتملًا لأن يكون عند طلوع الفجر، فبين صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب، بل الذي يمنعه طلوع الفجر الصادق، قال: وهذا يدل على تقارب وقت أذان بلال من الفجر. انتهى.
ويقويه أيضًا ما تقدم من أن الحكمة في مشروعيته التأهب لإدراك الصبح في أول وقتها. وصحح النووي في أكثر كتبه أن مبدأه من نصف الليل الثاني، وأجاب عن الحديث في شرح مسلم، فقال: قال العلماء: معناه: أن بلالًا كان يؤذن، ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، فإذا قارب طلوع الفجر نزل، فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهب بالطهارة وغيرها، ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر.
قال الحافظ: وهذا -مع وضوح مخالفته لسياق الحديث- يحتاج إلى دليل خاص لما صححه حتى يسوغ له التأويل.
واحتج الطحاوي لعدم مشروعية الأذان قبل الفجر بقوله: لما كان بين أذانيهما من القرب ما ذكر من حديث عائشة ثبت أنهما كانا يقصدان وقتًا واحدًا، وهو طلوع الفجر، فيخطئه بلال، ويصيبه ابن أم
مكتوم، وتعقب بأنه لو كان كذلك لما أقره النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنًا، واعتمد عليه، ولو كان كما ادعى لكان وقوع ذلك منه نادرًا، وظاهر حديث ابن عمر يدل على أن ذلك كان شأنه وعادته، والله أعلم. انتهى فتح الباري جـ 2 ص 125. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا من طريق عبيد الله متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (639)، وفي "الكبرى"(1603) عن يعقوب بن إبراهيم، عن حفص بن غياث، عن عبيد الله العمري، عن القاسم،
عنها. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن، إسحاق ابن إبراهيم، وفي "الصوم" عن عُبَيد بن إسماعيل، كلاهما عن أبي أسامة- وفي "الصلاة" أيضًا عن يوسف بن عيسى، عن الفضل ابن موسى- وأخرجه مسلم في "الصوم" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة- وعن إسحاق بن إبراهيم، عن عَبْدة بن سليمان- وعن أبي موسى محمد بن المثنى، عن حماد بن مَسْعَدة-، وفيه، وفي "الصلاة" عن محمد بن عبد الله بن نُمَير، عن أبيه- كلهم عن عبيد الله به.
والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في مذاهب أهل العلم في الأذان للصبح قبل دخول وقتها:
ذهب إلى جواز ذلك مالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود،
والجمهور، ورجع إليه أبو يوسف بعد أن كان يقول بالمنع.
وذهب آخرون إلى منع الأذان بها قبل دخول وقتها كسائر الصلوات، وهو قول سفيان الثوري، وأبي حنيفة، ومحمد بن
الحسن، والحسن بن صالح بن حي، قالوا: فإن أذَّنَ لها قبل الفجر أعاد الأذان بعده. ورَوَى ابنُ أبي شيبة في مصنفه عن عائشة، قالت: ما كانوا يؤذنون حتى ينفجر الفجر، وعن إبراهيم النخعي، قال: شَيَّعْنَا علقمة إلى مكة، فخرجنا بليل، فسمع مؤذنًا يؤذن، فقال: أما هذا فقد خالف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لو كان نائمًا لكان خيرًا له، فإذا طلع الفجر أذن، وعن إبراهيم النخعي أنه كره أن يؤذن قبل الفجر.
وعن عبيد الله بن عمر، قلت لنافع: إنهم كانوا يُنَادُون قبيل الفجر؟ قال: ما كان النداء إلا مع الفجر.
وحَكَى ابنُ حزم عن الحسن البصري، أنه قيل له: الرجل يؤذن قبل الفجر يوقظ الناس؟ فغضب، وقال: عُلُوج
(1)
فَرَاغٌ، لو أدركهم عمر بن الخطاب لأوجع جنوبهم، من أذن قبل الفجر فإنما صلى أهل ذلك
(1)
العُلُوج بالضم جمع علج بكسر، فسكون: يطلق على معان، منها الحمار، وهو المناسب هنا، أي هم مثل الحُمُر.
المسجد بإقامة لا أذان فيها. وعن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا إذا أذن المؤذن بليل قالوا له اتق الله، وأعد أذانك.
وذهبت طائفة من أهل الحديث أنه إن كان للمسجد مؤذنان، يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر بعد الفجر، فلا بأس أن يؤَذَّن للصبح إذا كان هكذا، وبه قال ابن حزم الظاهري، فقال: يجوز أن يؤذن قبل طلوع الفجر الثاني بمقدار ما يتم المؤذن أذانه، وينزل من المنارة أو العلو، ويصعد مؤذن آخر، ويطلع الفجر قبل ابتداء الثاني في الأذان.
واحتج المانعون بحديث ابن عمر "أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام"، رواه أبو داود في سننه، وصحح وقفه على عمر في أذان مؤذن له يقال له: مسعود. وأجاب الجمهور عنه بأجوبة:
أحدها: ضعفه، كما تقدم عن أبي داود، وضعفه أيضًا الشافعي، وعلي بن المديني، ومحمد بن يحيى الذهلي، والترمذي، وأبو حاتم، وأبو بكر الأثرم، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم.
ثانيها: أنه عارضه على تقدير صحته ما هو أصح منه، وهو قوله عليه السلام "إن بلالًا يؤذن بليل
…
" الحديث. قال البيهقي:
والأحاديث الصحاح التي تقدم ذكرها مع فعل أهل الحرمين أولى بالقبول منه، ثم روى بإسناده عن شعيب بن حرب، قال: قلت لمالك
ابن أنس: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا أن يعيد الأذان؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالًا يؤذن بليل"، قلت: أليس قد أمره أن يعيد الأذان؟ قال: لا، لم يزل الأذان عندنا بليل.
ثالثها: قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا فيما تقدم من أول زمان الهجرة، فإن الثابت عن بلال أنه كان في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن بليل ثم يؤذن بعده ابن أم مكتوم مع الفجر.
وأجاب المانعون عن حديث الباب بأن هذا الأذان لم يكن لأجل الصلاة، وإنما كان لإيقاظ النائمين للسحور وغيره. أجاب بمعناه الطحاوي، وابن حزم، ويرده حديث زياد بن الحارث الصدائي، قال: لما كان أول أذان الصبح أمرني -يعني النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت، فجعلت أقول: أقيم يا رسول الله، فجعل ينظر إلى ناحية المشرق إلى الفجر، فيقول:"لا"، حتى إذا طلع الفجر
…
الحديث. رواه أبو داود، وغيره، وهو صريح في الأذان للصبح قبل الوقت من غير إعادته بعد دخول الوقت.
قال الجامع: حديث الصدائي ضعيف، لا يصح الاستدلال به، فتنبه.
وقال ابن عبد البر: وفي إجماع المسلمين على أن النافلة بالليل والنهار لا أذان لها ما يدل على أن أذان بلال بالليل إنما هو لصلاة الصبح.
قال الجامع: فيما قاله نظر لا يخفى، فأذان بلال بين في الحديث سببه، وهو أنه يوقظ النائم ويرجع القائم، لا لأجل صلاة الصبح، كما زعمه، فتبصر.
وقال الطحاوي: يجوز أن يكون بلال كان يؤذن في وقت يرى أن الفجر قد طلع فيه ولا يتحقق ذلك لضعف بصره، ثم استدل بما رواه عن أنس مرفوعًا:"لا يغرنكم أذان بلال، فإن في بصره شيئًا". قال الطحاوي: فدل على أن بلالًا كان يريد الفجر، فيخطئه، لضعف بصره.
قال صاحب "طرح التثريب": قلت: وهذا ضعيف؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: "إن بلالًا يؤذن بليل" يقتضي أن هذه كانت طريقته، وعادته دائمًا، ولو كان لا يقع ذلك منه إلا لخطأٍ لم يقع إلا نادرًا، فإنه لولا أن الغالب إصابته لا رُتِّبَ مؤذنًا، واعتُمِدَ عليه في الأوقات.
وفي "صحيح البخاري" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يمنعن أحدكم" أو "أحدًا منكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن" أو "ينادي بليل، ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم
…
" الحديث، وهذا صريح في أنه كان يؤذن قبل الفجر، يقصد ذلك، ويتعمده. والله أعلم.
انتهى من "طرح التثريب" باختصار، وبعض تصرف جـ 2 ص 205 - 207.
قال الجامع: الراجح عندي أن الأذان قبل الفجر سنة ثابتة، بأدلة صحيحة، وليس لأجل صلاة الصبح، وإنما هو لأجل أن يرجع القائم، ويستيقظ النائم، فلا يجزئ عن الأذان بعد طلوع الفجر، فتبصر، والله أعلم.
المسألة الخامسة: أنه استدل بهذا الحديث على جواز الاعتماد في الرواية على الصوت من غير رؤية المخبر بأن يكون وراء حجاب، إذا كان عارفًا بالصوت، واعتمد في ذلك على إخبار ثقة، فإن ابن أم مكتوم لم يكن يشاهد ما يعرف به دخول الوقت، وإنما كان يعتمد في ذلك على إخبار من يخبره بذلك ممن يثق به، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأيضًا فإنه عليه الصلاة والسلام أمر بالاعتماد على صوت المؤذن من غير مشاهدة، فإن ذلك يكون في الليل وظلمته، ولابد أن يميز صوت بلال من صوت ابن أم مكتوم، فإن لكل منهما حكمًا غير حكم الآخر، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف. وعن
شعبة بن الحجاج منعه لاحتمال الاشتباه.
وأما في باب الشهادة فالأكثر على المنع من الاعتماد على الصوت فيها، وباب الشهادة أضيق، وبالاحتياط أجدر، ومن جوز استدل بهذا الحديث، قال المهلب: فيه جواز شهادة الأعمى على الصوت، لأنه ميز صوت من علمه الوقت ممن يثق به، فقام أذانه على قبوله مقام شهادة المخبر له. انتهى طرح التثريب جـ 2 ص 210 - 211.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بجواز شهادة الأعمى إذا كان عاقلًا يعرف الأصوات هو الحق، وهو الذي رجحه البخاري في صحيحه، حيث قال: "باب شهادة الأعمى، وأمره، ونكاحه، وإنكاحه، ومبايعته، وقبوله في التأذين وغيره، وما يعرف بالأصوات
…
إلى آخر ما قاله. انظر الصحيح بنسخة الفتح جـ 5 ص 312. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: فيه جواز كون المؤذن أعمى، فابن أم مكتوم كان أعمى، وهو جائز بلا كراهة إذا كان معه بصير، كما كان بلال وابن أم مكتوم، وروى البيهقي في سننه عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان يكره أن يكون المؤذن أعمى.
قال البيهقي: وهذا، والذي روي عن ابن مسعود في ذلك محمول على أعمى منفرد، لا يكون معه بصير يعلمه الوقت. انتهى.
وبوب عليه البخاري في "صحيحه""باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره". وقال ابن بطال: اختلفوا في أذان الأعمى، فكرهه ابن مسعود وابن الزبير، وكره ابن عباس إقامته، وأجازه طائفة، وروي أن مؤذن النخعي كان أعمى، وأجازه مالك، والكوفيون، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، إذا كان له من يُعَرَّفُه الوقت، لأن ابن أم مكتوم إنما كان يؤذن بعد أن يقال له: أصبحت أصبحت. انتهى "طرح التثريب". والله أعلم.
المسألة السابعة: في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مؤذنان
بالمدينة، وفي صحيح مسلم عن عائشة، وابن عمر رضي الله عنهم قالا: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم.
قال أبو بكر بن إسحاق الصِّبْغِيّ: والخبران صحيحان، فمن قال: كان له مؤذنان أراد اللذين كانا يؤذنان بالمدينة، ومن قال: ثلاثة أراد أبا محذورة الذي كان يؤذن بمكة. قال ولي الدين العراقي رحمه الله: وكان له مؤذن رابع؛ وهو سعد القرظ، أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بقباء مرارًا، ثم صار بعد النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنًا بالمدينة لما ترك بلال الأذان، وأذن له زياد بن الحارث الصدائي أيضًا، وقال:"إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم" رواه أبو داود، وغيره، لكنه لم يكن راتبًا، ولهذا عد مؤذنوا النبي صلى الله عليه وسلم أربعة. انتهى.
قال الجامع: تقدم أن حديث الصدائي لا يصح، فتنبه.
قال الشافعي رحمه الله: وأحب أن أقتصر في المؤذنين على اثنين، لأنا إنما حفظنا أنه أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان، ولا نُضَيِّقُ إن أذن أكثر من اثنين. واحتج في الإملاء في جواز أكثر من اثنين بقصة عثمان، فقال: ومعروف أنه زاد في عدد المؤذنين فجعله ثلاثة.
وذكر أبو علي الطبري، والرافعي أن المستحب ألا يزاد على أربعة مؤذنين.
وذكر النووي في الروضة أنه أنكر هذا القول كثيرون من أصحاب الشافعي، وقالوا: إنما الضبط بالحاجة ورؤية المصلحة، فإن رأى
الإمام المصلحة في الزيادة على الأربعة فعله، وإن رأى الاقتصار على اثنين لم يزد، قال: وهذا هو الأصح. أفاده في طرح التثريب جـ 2 ص 211، 212.
قال الجامع: ثم إن الأولى في تأذينهم أن يكون في أوقات مختلفة، كما ثبت عن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا دعت الحاجة إلى الأذان في وقت واحد، فلا مانع منه للضرورة.
قال في الفتح: وأما أذان اثنين معًا فمنع منه قوم، ويقال: إن أول من أحدثه بنو أمية، وقال الشافعية: لا يكره، إلا إن حصل من ذلك تهويش. انتهى جـ 2 ص 120. والله أعلم.
المسألة الثامنة: في الحديث دليل على جواز نسبة الإنسان إلى أمه، وفي الصحابة جماعة عرفوا بذلك، منهم: ابن بُحَيْنَة، ويعلى ابن مُنْيَةَ، والحارث ابن الْبَرصَاء، وغيرهم، وحكي أن يحيى بن معين كان يقول: حدثنا إسماعيل ابن علية، فنهاه أحمد بن حنبل، وقال: قل إسماعيل بن إبراهيم، فإنه بلغني أنه كان يكره أن ينسب إلى أمه، فقال: قد قبلنا منك يا معلم الخير، ولهذا استثنى ابن الصلاح في علوم الحديث من الجواز ما يكرهه الملقب، وهو حسن، لكن قال الحافظ العراقي: الظاهر أن ما قاله أحمد على طريق الأدب، لا اللزوم. أفاده في الطرح جـ 2 ص 213.
وقال السيوطي رحمه الله في "ألفية الأثر":
وَذِكُرُهُ بِالوَصْفِ أَوْ بِاللَّقَبِ
…
أَوْ حِرْفَةٍ لا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَعِبِ
والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
640 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمَّتِهِ، أُنَيْسَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَذَّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا، وَإِذَا أَذَّنَ بِلَالٌ، فَلَا تَأْكُلُوا وَلَا تَشْرَبُوا".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(يعقوب بن إِبراهيم) الدورقي المتقدم في السند السابق.
2 -
(هشيم) بن بَشيِر بن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية ابن أبي خَازِم الواسطي، ثقة، ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفي، من [7]، تقدم في 88/ 109.
3 -
(منصور) بن زاذان الواسطي، أبو المغيرة الثقفي، ثقة، ثبت، عابد، توفي سنة 129، من [6] أخرج له الجماعة، تقدم في
475.
4 -
(خُبَيب بن عبد الرحمن) بن خبيب بن يساف، الأنصاري الخزرجي، أبو الحارث المدني، ثقة، من [4].
وثقه ابن معين، والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: مات سنة 132، وقال الواقدي: مات في زمن مروان بن محمد، أخرج له الجماعة.
5 -
(أنيسة) -بالتصغير- بنت خبيب بن يساف الأنصارية، عدادها في أهل البصرة، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، روى عنها ابن أخيها خبيب بن عبد الرحمن.
قال ابن سعد: أسلمت، وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن حبان: لها صحبة، وذكرها جماعة ممن صنف في الصحابة، أخرج لها المصنف فقط. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، وهم ما بين بغدادي، وهو شيخه وواسطيين؛ وهما هشيم ومنصور، ومدني؛ وهو خبيب، وبصرية،
وهي أنسية.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن عمته.
ومنها: أن أنيسة من أفراد المصنف، ولا رواية لها إلا في هذا الموضع.
وشرح الحديث يعلم مما تقدم. والله تعالى أعلم.
تنبيهان:
الأول: حديث أنيسة رضي الله عنها هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف رحمه الله، أخرجه هنا (640)، وفي "الكبرى"(1604) بهذا السند.
الثاني: أنه قد ادعى الحافظ ابن عبد البر وغيره أن حديث أنيسة هذا مقلوب، والصواب حديث ابن عمر وغيره "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، لكن الصواب أنه ليس مقلوبًا، لإمكان الجمع بأن بلالًا كان يؤذن أحيانًا بليل، وأحيانًا بعد الفجر، فكان تعليم النبي صلى الله عليه وسلم صادرًا في الحالتين، كما تقدم تحقيقه في الباب الماضي. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
11 - الأذَانُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَلاةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الأذان في غير وقت الصلاة، ليستيقظ النائم، ويرجع القائم، فيأخذ راحة ليكون على نشاط للصبح.
وليس مراد المصنف أن الأذان الذي حصل قبل الفجر يجزئ عن الأذان بعده، بدليل أنه بوب الباب التالي بقوله:"وقت أذان الصبح"، فعلم أن مراده هنا أنه يشرع الأذان في غير وقت الصلاة لمهمة أخرى، وهي المذكورة في حديث الباب.
والحاصل أن الأذان قبل الفجر سنة، ولكنه لا يجزئ عن الأذان الذي بعد طلوع الفجر، لأنه لم يصح أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى به، وأما حديث الصدائي، فضعيف؛ لأن في سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، كما بينه الحافظ في "التلخيص".
641 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِنَّ بِلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، لِيُوقِظَ نَائِمَكُمْ، وَلِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا". -يَعْنِى فِي الصُّبْحِ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي نزيل نيسابور، ثقة، ثبت، حافظ، حجة، فقيه، توفي سنة 238، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 2.
2 -
(المعتمر بن سليمان) التيمي، أبو محمد البصري، يلقب بالطُّفيل، ثقة، توفي سنة 187، وقد جاوز 80 سنة، من كبار [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 10/ 10.
3 -
(سليمان) بن طَرْخَان التيمي، أبو المعتمر البصري، ثقة عابد، توفي سنة 143 وهو ابن 97، من [4]، أخرج له الجماعة،
تقدم في 87/ 107. 4
4 -
(أبو عثمان) النَّهْدِيّ -بفتح النون، وسكون الهاء-، عبد الرحمن بن مَلّ -بلام ثقيلة، والميم مثلثة- بن عمرو بن عدي بن وهب بن ربيعة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن رفاعة بن مالك بن نَهْد، سكن الكوفة، ثم البصرة، مشهور بكنيته، مخضرم، ثقة، ثبت، عابد، من كبار [2].
أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وصَدّق إليه
(1)
، ولم يلقه. قال ابن المديني: هاجر إلى المدينة بعد موت أبي بكر، ووافق استخلاف عمر،
(1)
أي أدَّى إليه الزكاة.
فسمع منه، ولم يسمع من أبي ذرّ، وقال: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عبد القاهر بن السري، عن أبيه، عن جده: كان أبو عثمان من قضاعة، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وسكن الكوفة، فلما قتل الحسين تحول إلى البصرة، وحج ستين ما بين حجة وعمرة، وكان يقول: أتت علي مائة وثلاثون سنة وما مني شيء إلا وقد أنكرته خلا أملي. وقال
معتمر بن سليمان، عن أبيه: إني لأحسب أن أبا عثمان كان لا يصيب ذنبًا، كان ليلهُ قائمًا، ونهاره صائمًا.
وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: كان ثقة، وكان عَرِيفَ قومه، وقال أبو زرعة والنسائي وابن خراش: ثقة. وقال الآجري، عن أبي داود: أكبر تابعي أهل الكوفة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وتُوُفِّيَ أول قدوم الحجاج العراق، وكذا أرخه القراب، وزاد: سنة 75.
وقال عمر بن علي وغيره: مات سنة 95، وهو ابن 130 سنة، وقال ابن معين وغيره: مات سنة 100، وقال خليفة: مات بعد سنة 100، ويقال: بعد سنة 95، وقال هُشَيم: بلغني أن أبا عثمان، توفي، وهو ابن ثلاثين ومائة سنة، وهو معدود فيمن عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام أكثر من ذلك، أخرج له الجماعة.
5 -
(ابن مسعود) عبد الله الهذلي الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 35/ 39. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، وأنهم ما بين مروزي، ثم نيسابوري؛ وهو إسحاق، وبصرِيَّيْنِ؛ وهما المعتمر وأبوه، وكُوفِيَّيْنِ؛ وهما أبو عثمان وابن مسعود.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه.
ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي عثمان) النهدي عن عبد الرحمن بن ملّ، وفي رواية ابن خزيمة من رواية معتمر، عن أبيه، قال:"حدثنا أبو عثمان"، قال الحافظ رحمه الله: ولم أر هذا الحديث من حديث ابن مسعود في شيء من الطرق، إلا من رواية أبي عثمان، عنه، ولا من رواية أبي عثمان إلا من رواية سليمان التيمي عنه، واشتهر عن سليمان، وله شاهد في صحيح مسلم من حديث سمرة بن جندب. انتهى فتح الباري جـ 2 ص 124.
قال الجامع: ستأتي رواية سمرة التي أشار إليها الحافظ للمصنف في الصوم رقم (2171).
(عن) عبد الله (بن مسعود) الهذلي رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: إِن بلالًا يؤذن بليل) ورواية البخاري: "لا يمنعن أحدكم -أو أحدًا منكم- أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن -أو ينادي- بليلٍ
…
(ليوقظ) من الإيقاظ (نائمكم) بالنصب مفعول يوقظ، أي لينبهه ليتأهب للصلاة بالغسل، ونحوه، قالوا: سبب ذلك أن الصلاة كانت بغلس، فيحتاج تَحْصيلها إلى التأهب من الليل، فُوضِعَ له الأذان قبيل الفجر لذلك. ذكره السندي.
(وليرجع قائمكم) بفتح الياء، وكسر الجيم المخففة، قال السندي رحمه الله: المشهور أنه من الرَّجْع المتعدي المذكور في قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8]، لا من الرجوع اللازم، ومنه قوله تعالى:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} [التوبة: 83]، وقوله عز من قائل:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4]، ويحتمل أن يكون من الإرجاع، وهو الموافق لما قبله لفظًا، وعلى الوجهين (قائمكم) بالنصب، ويحتمل أن يكون من الرجوع اللازم، و"قائمكم" بالرفع، لكنه لا يوافق ما قبله. انتهى كلام السندي.
وقال في "الفتح" ما نصه: يستعمل لازمًا ومتعديًا، يقال: رجع زيد، ورجعت زيدًا، ولا يقال في المتعدي بالتثقيل. قال: فعلى هذا
من رواه بالضم والتثقيل أخطأ، فإنه يصير من الترجيح، وهو الترديد، وليس مرادًا هنا، وإنما معناه يرد القائم -أي المتهجد- إلى راحته، ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطًا، أو يكون له حاجة إلى الصوم، فيتسحر.
قال: وتمسك الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا لمذهبه، فقال: فقد أخبر أن ذلك النداء كان لما ذكر، لا للصلاة.
وتعقب بأن قوله "لا للصلاة" زيادة في الخبر، وليس فيه حصر فيما ذكر، فإن قيل: تقدم في تعريف الأذان الشرعي أنه إعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، والأذان قبل الوقت ليس إعلامًا بالوقت، فالجواب أن الأعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلامًا بأنه دخل أو قارب أن يدخل، وإنما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات، لأن الصلاة في أول وقتها مرغب فيه، والصبح يأتي غالبًا عقب نوم، فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها، ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت. والله أعلم. انتهى "فتح الباري" جـ 2 ص 124.
(وليس الفجر) أي ظهور الفجر، فهو على حذف مضاف (أن يقول) أي يظهر (هكذا) أشار به إلى هيئة ظهور الفجر الكاذب، والقولُ أريد به فعلُ الظهور، وإطلاق القول على الفعل شائع. قاله السندي. وفي الرواية الآتية للمصنف في الصوم "وليس الفجر أن يقول هكذا، وأشار بكفه، ولكن الفجر أن يقول هكذا، وأشار بالسبابتين"، وفي رواية البخاري "وليس أن يقول الفجر، أو الصبح- وقال بأصبعه، ورفعها إلى فوق، وطأطأ إلى أسفل- حتى يقول هكذا".
وقال زهير: بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى، ثم مدها عن يمينه وشماله.
قال الحافظ رحمه الله: قوله: وقال زهير، أي الراوي، وهي -يعني كلمة قال- أيضًا بمعنى أشار، وكأنه جمع بين أصبعيه، ثم
فرقهما، ليحكي صفة الفجر الصادق، لأنه يطلع معترضًا، ثم يعم الأفق ذاهبًا يمينًا وشمالًا، بخلاف الفجر الكاذب، وهو الذي تسميه العرب "ذَنَب السِّرْحانِ" فإنه يظهر في أعلى أفق السماء، ثم ينخفض، وإلى ذلك أشار بقوله: رفع، وطأطأ أصبعه.
وفي رواية الإسماعيلي من طريق عيسى بن يونس، عن سليمان "فإن الفجر ليس هكذا ولا هكذا، ولكن الفجر هكذا" فكأن أصل الحديث كان بهذا اللفظ مقرونًا بالإشارة الدالة على المراد، وبهذا اختلفت عبارة الرواة، وأخصر ما وقع فيها رواية جرير عن سليمان عند مسلم "وليس الفجر المعترض، ولكن المستطيل". انتهى "فتح الباري" جـ 2 ص 124.
وقوله (يعني في الصبح) أي قال هذا الكلام، وأشار هذه الإشارة في بيان وقت الصبح الكاذب، والصادق، وهذه العناية من بعض الرواة، ولم يتبين لي من هو؟ والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من رواية عبد الرحمن بن ملِّ عنه متفق عليه.
الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (641)، وفي "الكبرى"(1605) عن إسحاق بن إبراهيم، عن المعتمر، عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي عنه، وفي
الصوم (2170) عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن سليمان التيمي به. والله أعلم.
الثالثة: فيمن أخرجه معه: أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية- وفي "الطلاق" عن القعنبي، عن يزيد بن زريع- وفي "خبر الواحد" عن مسدد، عن يحيى القطان.
وأخرجه مسلم في "الصوم" عن زهير بن حرب، عن إسماعيل ابن علية- وعن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبي خالد الأحمر، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن المعتمر بن سليمان- وعن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير- والمعتمر بن سليمان- سبعتهم عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عنه.
وأخرجه أبو داود في "الصوم" عن أحمد بن يونس به، وعن مسدد به.
وأخرجه ابن ماجه في "الصوم" عن يحيى بن حكيم، عن يحيى بن سعيد، وابن أبي عدي، كلاهما عن سليمان التيمي به.
وبقية مسائل الحديث تعلم مما تقدم، فلا حاجة إلى إعادتها. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
12 - وَقْتُ أذَانِ الصُّبْحِ
أي هذا باب ذكر الحديث المبين وقت أذان صلاة الصبح، ولَمَّا بَيَّنَ رَحمه الله تعالى في الباب الماضي الأذان الذي يفعل لأجل إيقاظ النائم، وإرجاع القائم، ووقتُهُ قبل طلوع الفجر، أراد أن يبين في هذا الباب وقت الأذان الذي شرع لأجل صلاة الصبح.
ومحل الاستدلال واضح من قوله: "فأذن حين طلع الفجر". لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بالأذان، فأذن بعد طلوع الفجر ممتثلًا لأمره، فتبين به أن وقت أذان الصبح بعد طلوع الفجر. والله أعلم.
642 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ سَائِلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَقْتِ الصُّبْحِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلَالاً، فَأَذَّنَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَخَّرَ الْفَجْرَ حَتَّى أَسْفَرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ، فَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ:"هَذَا وَقْتُ الصَّلَاةِ".
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي، المتقدم في السند السابق.
2 -
(يزيد) بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي، ثقة، متقن، عابد، توفي سنة 206 هـ، أخرج له
الجماعة، تقدم في 153/ 244.
3 -
(حميد) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصري، ثقة مدلس، توفي سنة 132، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في
87/ 108.
4 -
(أنس) بن مالك الأنصاري، الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو -32 - من رباعيات الكتاب.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات نبلاء، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فلم يخرج له ابن ماجه، وأنهم ما بين مروزي ثم نيسابوري؛ وهو
شيخه؛ وواسطي، وهو يزيد، وبصريَّيْنِ؛ وهما أنس، وحميد.
ومنها: أن فيه أنسًا أحد المكثرين السبعة، رَوَى (2286) حديثًا وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة. والله أعلم.
تنبيه:
حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى أخرجه هنا (642)، وفي الكبرى (1606) بهذا
السند، وتقدم في (544) عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عنه، وتقدم شرحه هناك مستوفى، فارجع إليه تزدد علمًا. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
13 - كَيْفَ يَصْنَعُ الْمُؤَذِّنُ فِي أذَانِهِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الصفة التي يصنعها المؤذن في حال تأذينه، من الالتفات يمينًا وشمالًا، ومحلُّ الاستدلال واضح من قوله: "فجعل يقول في أذانه هكذا
…
" إلخ.
643 -
أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ بِلَالٌ، فَأَذَّنَ، فَجَعَلَ يَقُولُ فِي أَذَانِهِ هَكَذَا، يَنْحَرِفُ يَمِينًا وَشِمَالاً.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمود بن غَيْلانَ) العَدوي مولاهم أبو أحمد المروزي، نزيل بغداد، توفي سنة 239، من [10]، تقدم في 33/ 37.
2 -
(وكيع) بن الجراح بن مَلِيح الرُّؤَاسي، أبو سفيان الكوفي، ثقة، حافظ، عابد، توفي سنة 196، من كبار [9]، تقدم في
23/ 25.
3 -
(سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، ثقة، ثبت، حجة، فقيه، توفي سنة 161، من [7]، تقدم
في 33/ 37.
4 -
(عَوْن بن أبي جحيفة) وهب بن عبد الله السُّوَائِيُّ، الكوفي، ثقة، توفي سنة 116، من [4]، تقدم في 103/ 137.
5 -
(أبو جُحَيْفَةَ) وهب بن عبد الله السُّوَائِي، ويقال: اسم أبيه وهب أيضا، صحابي معروف مشهور بكنيته، وصَحِبَ عليًا
رضي الله عنهما، توفي سنة 74، تقدم في 103/ 137. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا شيخه، فلم يخرج له أبو داود.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه) أبي جحيفة، وهب بن عبد الله، أو ابن وهب السوائي رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج بلال)، وفي رواية الشيخين وغيرهما، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو بالأبطح في قبة له حمراء، من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه، فمن ناضح ونائل، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، عليه حلة حمراء فكأني أنظر إلى بياض ساقيه، قال: فتوضأ، وأذن بلال
…
الحديث.
(فأذن بلال، فجعل) أي شرع (يقول) أي يفعل، ففيه إطلاق القول على الفعل (في أذانه هكذا) وجملة قوله (ينحرف يمينًا وشمالًا) بيان لاسم الإشارة. وهكذا أورده المصنف مختصرًا، وأورده مسلم من رواية وكيع، عن سفيان أتم من هذا، حيث قال:"فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا يمينًا وشمالًا، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح".
قال الحافظ رحمه الله: وهذا فيه تقييد للالتفات في الأذان، وأن محله عند الحيعلتين، وبَوَّبَ عليه ابن خزيمة "انحرافُ المؤذن عند قوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح بفمه لا ببدنه كله"، قال: إنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، ثم ساقه من طريق وكيع أيضًا بلفظ: "فجعل يقول في أذانه هكذا، ويحرف رأسه يمنيًا وشمالًا" وفي رواية عبد الرزاق عن الثوري في هذا الحديث زيادتان: إحداهما الاستدارة، والأخرى وضع الإصبع في الأذن.
ولفظه عند الترمذي "رأيت بلالًا يؤذن، ويدور، ويتبع فاه ها هنا وها هنا، وأصبعاه في أذنيه"، فأما قوله "ويدور" فهو مدرج في رواية سفيان عن عون، بَيَّن ذلك يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عون، عن أبيه، قال:"رأيت بلالًا أذن، فَاتَّبَعَ فاه ها هنا وها هنا، والتفت يمينًا وشمالًا" قال سفيان: كان حجاج -يعني ابن أرطاة- يذكر لنا عن عون أنه قال: "فاستدار في أذانه"، فلما لقينا عونًا لم يذكر فيه الاستدارة.
أخرج الطبراني، وأبو الشيخ من طريق يحيى بن آدم، وكذا أخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن الوليد العدني، عن سفيان،
لكن لم يسم حجاجًا، وهو مشهور عن حجاج. أخرجه ابن ماجه، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وغيرهم من طريقه، ولم ينفرد به، بل وافقه إدريس الأودي، ومحمد العرزمي، عن عون، لكن الثلاثة ضعفاء، وقد خالفهم من هو مثلهم، أو أمثل، وهو قيس بن الربيع، فرواه عن عون، فقال في حديثه "ولم يستدر" أخرجه أبو داود.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عَنَى استدارة الرأس، ومن نفاها عني استدارة الجسد كله. ومشى ابن بطال ومن تبعه على ظاهره، فاستدل به على جواز الاستدارة بالبدن كله.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه دليل على استدارة المؤذنين للإسماع عند التلفظ بالحيعلتين، واخْتُلِفَ هل يستدير ببدنه كله، أو بوجهه فقط وقدماه قارتان مستقبل القبلة؟ واختُلِفَ أيضًا هل يستدير في الحيعلتين الأوليين مرة، وفي الثانية مرة، أو يقول: حي على الصلاة عن يمينه، ثم حي على الصلاة عن شماله، وكذا في الأخرى؟ قال: ورجح الثاني، لأنه يكون لكل جهة نصيب منهما، قال: والأول أقرب إلى لفظ الحديث. انتهى. "إحكام الأحكام" جـ 2 ص 176، 177. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي جحيفة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (643)، وفي الكبرى (1607) بهذا السند، وفي الزينة عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان به. وفي الزينة أيضًا عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان به. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن محمد بن يوسف، عن سفيان به.
وأخرجه مسلم مطولًا فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة- وزهير بن حرب-.
وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن سليمان الأنباري- ثلاثتهم عن وكيع عن سفيان به.
وأخرجه الترمذي فيه عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق، عنه نحوه.
وأخرجه ابن ماجه فيه عن أيوب بن محمد الهاشمي، عن عبد الواحد بن زياد، عن حجاج بن أرطاة عن عون بن أبي جحيفة،
عن أبيه رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في مذاهب العلماء في استدارة المؤذن في أذانه:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله تعالى: وقد اختلف أهل العلم في استدارة المؤذن، فرخصت طائفة فيه.
فممن رخص فيه الحسن البصري، كان يقول: إذا أراد أن يقول: حي على الصلاة أدار، وإذا أراد أن يقول الله أكبر، استقبل القبلة. وقال النخعي: إذا بلغ حي على الصلاة، حي على الفلاح أدار عنقه يمينًا وشمالًا، ولا يحرك قدميه.
وقال سفيان الثوري: يثبت قدميه مكانهما إذا أذن، ثم ينحرف عن يمينه وعن شماله بحي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم يستقبل القبلة بالإقامة والتكبير، وكذلك قال النعمان وصاحباه. وقال الأوزاعي: يستقبل القبلة، فإذا قال: حي على الصلاة استدار إن شاء عن يمينه فيقول: حي على الصلاة مرتين، ثم يستدير عن يساره كذلك، فإذا فرغ استقبل القبلة، فقال: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
وقال الشافعي: ويؤذن قائمًا، يستقبل القبلة في أذانه كله، ويلوي رأسه في حي على الصلاة، حي على الفلاح، يمينًا وشمالًا، وبدنه مستقبل القبلة، وبه قال أبو ثور.
وكرهت طائفة الاستدارة في الأذان، كره ابن سيرين أن يستدير في المنارة، وأنكر مالك استدارة المؤذن، وقال أحمد: لا يدور إلا أن يكون في منارة، يريد أن يسمع الناس، وكذلك قال إسحاق. انتهى كلام ابن المنذر في الأوسط جـ 3 ص 26، 27.
قال الجامع عفا الله عنه: القول الراجح عندي في هذه المسألة قول من قال بمشروعية الاستدارة، وكونها عند الحيعلتين، لصحة
دليله، كما تقدم. والله أعلم.
فائدة:
قال الحافظ رحمه الله تعالى: وأما وضع الأصبعين في الأذنين فقد رواه مُؤَمِّل عن سفيان، أخرجه أبو عوانة، وله شواهد ذكرتها في تغليق التعليق من أصحها ما رواه أبو داود، وابن حبان من طريق أبي سلام الدمشقي، أن عبد الله الهوزني حدثه، قال: قلت لبلال: كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم؟
فذكر الحديث، وفيه "قال بلال: فجعلت إصبعي في أذني، فأذنت"، ولابن ماجه، والحاكم من حديث سَعْد القَرَظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن يجعل أصبعيه في أذنيه" وفي إسناده ضعف.
قال العلماء: في ذلك فائدتان:
إِحداهما: أنه قد يكون أرفع لصوته، وفيه حديث ضعيف،
أخرجه أبو الشيخ من طريق سعد القرظ عن بلال.
ثانيهما: أنه علامة للمؤذن، ليعرف من رآه على بعد، أو كان به صمم أنه يؤذن، ومن ثم قال بعضهم: يجعل يده فوق أذنه حسب.
قال الترمذي: استحب أهل العلم أن يدخل المؤذن أصبعه في الأذان، قال: واستحب الأوزاعي في الإقامة أيضًا. والله أعلم.
تنبيه:
لم يرد تعيين الأصبع التي يستحب وضعها، وجزم النووي أنها المسبحة، وإطلاق الأصبع مجاز عن الأنملة. والله تعالى أعلم.
تنبيه آخر:
وقع في "المغني" للموفق نسبة حديث أبي جحيفة بلفظ "أن بلالًا أذن، ووضع أصبعيه في أذنيه" إلى تخريج البخاري ومسلم، وهو وهم، وساق أبو نعيم في المستخرج حديث الباب من طريق عبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق، عن سفيان بلفظ عبد الرزاق من غير بيان، فما أجاد، لإيهامه أنهما متوافقتان، وقد عرفت ما في رواية عبد الرزاق من الإدراج، وسلامة رواية عبد الرحمن من ذلك. والله المستعان. انتهى "فتح الباري" جـ 2 ص 136، 137.
قال الجامع: رواية عبد الرحمن بن مهدي التي أشار إليها آنفًا أخرجها أبو عوانة في "صحيحه"، كما أشار إليه في "الفتح" جـ 2 ص 135،
والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
14 - رَفْعُ الصَّوْتِ بِالأذانِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على الترغيب في رفع الصوت بالأذان.
644 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيُّ الْمَازِنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قَالَ لَهُ:"إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ، وَلَا إِنْسٌ، وَلَا شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المرادي الجملي، أبو الحارث المصري، ثقة، ثبت، توفي سنة 248، من [11]، تقدم في 19/ 20.
2 -
(ابن القاسم) هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جُنَادة العُتَقِي، أبو عبد اللَّهِ المصري الفقيه صاحب مالك، ثقة، توفي سنة 191، من كبار [10]، تقدم في 19/ 20.
3 -
(مالك) بن أنس الإمام المدني، ثقة، ثبت، حجة، فقيه، توفي سنة 179، من [7]، تقدم في 7/ 7.
4 -
(عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري المازني)، ومنهم من يسقط عبد الرحمن من نسبه، ومنهم من ينسبه هو إلى جده، فيقول: عبد الرحمن بن أبي صعصعة، ثقة، من [6].
قال أبو حاتم، والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. قال الهيثم بن عدي: مات في خلافة أبي جعفر، قال ابن المديني: وَهِمَ ابن عيينة في نسبه؛ حيث قال: عبد الله بن عبد الرحمن. وقال الشافعي: يشبه أن يكون مالك حفظه. وقال الدارقطني: لم يختلف على مالك في تسمية عبد الرحمن بن عبد الله. وقال ابن عبد البر في التمهيد: ثقة.
أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
5 -
(عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) الأنصاري المدني، ثقة، من [3]، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن
ماجه.
6 -
(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما استصغر بأحد، ثم شهد ما بعدها، توفي بالمدينة سنة 63 أو 64 أو 65، وقيل: سنة 74، تقدم في 169/ 262. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه، وشيخ شيخه، فمصريان.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه.
ومنها: أن فيه أبا سعيد الخدري من المكثرين السبعة من الصحابة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن مالك) بن أنس، أنه قال:(حدثني عبد الرحمن بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري المازني، عن أبيه)
عبد الله بن عبد الرحمن.
قال في الفتح: زاد ابن عيينة: "وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد، وكانت أمه عند أبي سعيد"، أخرجه ابن خزيمة من طريقه، لكن قلبه ابن عيينة، فقال: عن عبد الله بن عبد الرحمن، والصحيح قول مالك، ووافقه عبد العزيز الماجِشُون. وزعم أبو مسعود في الأطراف
أن البخاري أخرج روايته، لكن لم نجد ذلك، ولا ذكرها خلف، قاله ابن عساكر.
واسم أبي صعصعة: عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو ابن غنم بن مازن بن النجار. مات أبو صعصعة في الجاهلية، وابنه عبد الرحمن صحابي، رَوَى ابنُ شاهين في الصحابة من طريق قيس بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن جده حديثًا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سياقه أن جده كان بدريًا، وفيه نظر، لأن أصحاب المغازي لم يذكروه فيهم، وإنما ذكروا أخاه قيس بن أبي صعصعة انتهى. فتح جـ 2 ص 105.
(أنه أخبره) الضمير الأول لأبيه، والثاني لعبد الرحمن، أي أن أبا عبد الرحمن -وهو عبد الله- أخبر ابنه عبد الرحمن (أن أبا سعيد الخدري قال له:) أي لعبد الله بن عبد الرحمن (إِني أراك تحب الغنم) قال في المخصص: الغَنَمُ جمع، لا واحد له من لفظه. وقال أبو حاتم: وهي أنثى. وعن صاحب العين: الجمع: أغْنَام، وأغَانِمُ، وغُنُوم، وفي المحكم: ثَنَّوْه، فقالوا: غنمان، وفي الجامع: هو اسم لجمع الضأن، والمَعْز. وفي الصحاح: موضوع للجنس، يقع على الذكر، والإناث، وعليهما جميعًا. قاله في عمدة القاري جـ 5 ص 114.
(والبادية) أي وتحب البادية أيضًا لأجل الغنم، لأن محب الغنم يحتاج إلى إصلاحها بالمرعى، وهو في الغالب يكون في البادية، وهي
الصحراء التي لا عمارة فيها. أفاده في الفتح.
(فإِذا كنت في غنمك) كلمة "في" تأتي بمعنى "بين"، كما في قوله تعالى:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29]. قاله العيني.
(أو باديتك) كلمة "أو" هنا يحتمل أن تكون للشك من الراوي، أو تكون للتنويع، لأنه قد يكون في غنم بلا بادية، وقد يكون في بادية بلا غنم، وقد لا يكون فيهما معًا، وعلى كل حال لا يترك الأذان. أفاده في الفتح، وعمدة القاري.
(فأذنت بالصلاة) أي أعلمت بدخول وقت الصلاة، وللبخاري في الأذان "فأذنت بالصلاة" باللام بدل الباء، والمعنى متقارب.
(فارفع صوتك) زاد في رواية البخاري "بالنداء"، أي الأذان.
قال في الفتح: وفيه إشعار بأن أذان من أراد الصلاة كان مقررًا عندهم، لاقتصاره على الأمر بالرفع، دون أصل التأذين. قال:
واستَدَلَّ به الرافعيُّ للقول الصائر إلى استحباب أذان المنفرد، وهو الراجح عند الشافعية، بناءً على أن الأذان حق الوقت. وقيل: لا يستحب، بناء على أن الأذان لاستدعاء الجماعة للصلاة، ومنهم من فصَّل بين من يرجو جماعة، أو لا. انتهى فتح جـ 2 ص 105.
(فإِنه) الفاء للتعليل، أي لأنه (لا يسمع مدى صوت المؤذن) أي غايته، و"مدى" -بفتح الميم، وتخفيف الدال المهملة، بعدها ألف-
الغاية. وقال السندي: وفي نسخة "مَدَّ صوت المؤذن" -بفتح ميم، وتشديد دال- أي تطويله، والمراد أن من سمع منتهى الصوت، أو مده يشهد له، فكيف من سمع الأذان سماعًا بينًا، وهذه الشهادة لإظهار شرفه، وعلو درجته، وإلا فكفى بالله شهيدًا. انتهى كلام السندي جـ 2 ص 12.
قال الجامع: ما ذكره من وجود نسخة "مَدّ" -بفتح ميم، فتشديد دال- بدل "مَدَى" بالقصر يحتاج إلى تثبت، فإني لم أرها لغيره. والله أعلم.
وقال التوربشتي رحمه الله: إنما ورد البيان على الغاية مع حصول الكفاية بقوله: "لا يسمع صوت المؤذن" تنبيهًا على أن آخر ما ينتهي إليه صوته يشهد له، كما يشهد له الأولون.
وقال القاضي البيضاوي رحمه الله: غاية الصوت تكون أخفى، لا محالة، فإذا شهد له مَنْ بَعُدَ عنه، ووصل إليه هَمْسُ صوته، فلأنْ يشهد له من هو أدنى منه، وسمع مبادئ صوته أولى. انتهى ذكره العيني.
(جن) بالرفع فاعل "يسمع"(ولا إِنس، ولا شيء) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات، فهو من عطف العام على الخاص، لأن
الجن، والإنس داخلان في شيء، ويؤيده -كما قال الحافظ- ما في رواية ابن خزيمة "لا يسمع صوته شجر، ولا مدر، ولا حجر، ولا
جن، ولا إنس"، ولأبي داود، والنسائي من طريق أبي يحيى، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب، ويابس"، ونحوه للنسائي وغيره من حديث البراء، وصححه ابن السكن.
قال الحافظ رحمه الله: فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله في حديث الباب "ولا شيء"، وقد تكلم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على غير ما يقتضيه ظاهره، قال القرطبي: قوله "ولا شيء": المراد به الملائكة. وتعقب بأنهم دخلوا في قوله "جن"، لأنهم يستخفون عن الأبصار. وقال غيره: المراد كل ما يسمع المؤذن من الحيوان حتى ما لا يعقل، دون الجمادات، ومنهم من حمله على ظاهره، وذلك غير ممتنع عقلًا، ولا شرعًا.
قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع، والشهادة، والتسبيح لا يكون إلا من حي، فهل ذلك حكايته عن لسان الحال، لأن الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال باريها، أو هو على ظاهره، وغير ممتنع عقلًا أن الله يخلق فيها الحياة، والكلام. وقد تقدم البحث في ذلك في قول النار "أكل بعضي بعضًا"، وسيأتي في الحديث الذي فيه:"إن البقرة قالت: إنما خلقت للحرث". انتهى.
قال الجامع: قد ذكر في "الفتح" في حديث "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا" ما نصه: وقد اختلف في هذه
الشكوى، هل هي بلسان المقال، أو بلسان الحال؟ واختار كُلًا طائفةٌ. وقال ابن عبد البر: لِكِلا القولين وجه ونظائر، والأول أرجح. وقال عياض: إنه الأظهر. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته، قال: وإذا أخبر الصادق بأمرٍ جائزٍ لم يُحْتَجْ إلى تأويله، فحمله على حقيقته. وقال النووي: نحو ذلك، ثم قال: حملُهُ على حقيقته هو الصواب. وقال نحو ذلك التوربشتي. إلى آخر ما كتبه الحافظ هناك. جـ 2 ص 24.
وفي "صحيح مسلم" من حدث جابر بن سمرة مرفوعًا "إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليّ". ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك: إن قوله هنا: "ولا شيء" نظير قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وتعقبه بأن الآية مختلف فيها.
قال الحافظ: وما عرفت وجه هذا التعقب، فإنها سواء في الاحتمال، ونقل الاختلاف، إلا أن يقول: إن الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء، هل هو على الحقيقة، أو المجاز، بخلاف الحديث. والله أعلم. انتهى "فتح" جـ 2 ص 10.
قال الجامع: الحاصل أن الصواب في هذه الشهادة، ومثلُها التسبيحُ المذكورُ، أنه على ظاهر النص، وأن التأويل غير صحيح؛ لما ثبت من النصوص في هذا المعنى، كحديث مسلم المذكور آنفًا،
وحديث حنِينِ الجِذْعِ لَمَّا تركه النبي صلى الله عليه وسلم وخطب على المنبر، وحديثِ تسبيحِ الحصى، وحديث تسبيح الطعام، إلى غير ذلك من النصوص الصريحة الصحيحة في كون الله تعالى يفعل ما يشاء، فلا يختص الإدراكُ والنطقُ ونحوُهما بالعقلاء. ولا ينكر ذلك إلا من أعمى الله بصيرته، فلا يصدق إلا ما يدركه عقله السخيف. نسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم ويجنبنا الزيغ المؤدي إلى العذاب الأليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
(إِلا شهد له يوم القيامة) وللبخاري في رواية الكشميهني "إلا يشهد له".
قيل: السر في هذه الشهادة، مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة، أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى، والجواب، والشهادة. قاله الزين بن المُنَيِّر.
وقال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل، وعلو الدرجة، وكما أن الله يفضح بالشهادة قومًا، فكذلك يكرم بالشهادة آخرين. أفاده في الفتح جـ 2 ص 106.
(قال أبو سعيد) الخدري رضي الله عنه (سمعته)؛ قال الكرماني: أي سمعت هذا الكلام الأخير، وهو قوله:"فإنه لا يسمع"
إلى آخره. وأشار بذلك إلى أنه من قوله "إني أراك تحب" إلى قوله: "فإنه لا يسمع" موقوف، ويؤيد ذلك ما رواه ابن خزيمة من رواية ابن
عيينة، ولفظه:"قال أبو سعيد: إذا كنت في البوادي، فارفع صوتك بالنداء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يسمع مدى صوت المؤذن" فذكره. ورواه يحيى القطان أيضًا عن مالك بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أذنت فارفع صوتك، فإنه لا يسمع" فذكره.
وقد أورد الغزالي، والرافعي، والقاضي حسين هذا الحديث، وجعلوه كله مرفوعًا، ولفظه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد: إنك رجل تحب الغنم" وساقوه إلى آخره. ورده النووي، وتصدى ابن الرفعة للجواب عنهم بأنهم فهِمُوا أن قول أبي سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع إلى كل ما ذكر، والصواب مع النووي، لما تقدم. أفاده في عمدة القاري جـ 5 ص 115، ونحوه في الفتح جـ 2 ص 106. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري.
الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (644)، وفي الكبرى (1608) عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه. والله أعلم.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري وابن ماجه؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف- وفي ذكر الجن عن قتيبة- وفي التوحيد عن
إسماعيل- ثلاثتهم عن مالك به. وفي المناقب عن أبي نعيم، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه به.
وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن محمد بن الصباح، عن سفيان ابن عيينة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد. كذا يقول سفيان: عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه.
قال الحافظ في نكته: قد أخرجه البزار في مسنده عن عمرو بن علي، وأحمد بن عبدة، كلاهما عن سفيان بن عيينة، فقال:
عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة.
قال الجامع: قد تقدم أن هذا الذي عند البزار هو الصواب. والله تعالى أعلم
الرابعة: في فوائده:
منها: ما بوب له المصنف، وهو استحباب رفع الصوت بالأذان، ليكثر من يشهد له، ولو كان أذانه على مكان مرتفع، وكان بلال رضي الله عنه يؤذن على بيت امرأة من بني النَّجَّارِ بيتُهَا أطول بيت
حول المسجد.
ومنها: استحباب العُزْلَة عن الناس خصوصًا في أيام الفِتَنِ، وأن حب الغنم، والبادية، ولا سيما عند وقوع الفتن، من عمل السلف
الصالح.
ومنها: أن فيه جواز التَّبَدِّي، ومُسَاكَنَةُ الأعراب، ومشاركتهم في الأسباب، لكن بشرط أن يكون معه حَظّ من العلم، وأمْن من غلبة الجَفَاء.
ومنها: أن أذان المنفرد مندوب إليه، ولو كان في بَرّية، لأنه إن لم يحضر من يصلي معه، يحصل له شهادة من سمعه، من الحيوانات، والجمادات.
وللشافعي في أذان المنفرد ثلاثة أقوال: أصحها: نعم، لحديث أبي سعيد الخدري هذا، والثاني: وهو القديم، لا يندب له، لأن
المقصود من الأذان الإعلام، وهذا لا ينتظم في المنفرد، والثالث: إن رَجَى حضور جماعة أذن، لإعلامهم، وإلا فلا، وحمل حديث أبي سعيد على أنه كان يرجو حضور غلمانه.
ومنها: أن الجن يسمعون أصوات بني آدم.
ومنها: أن بعض الخلق يشهد لبعض. انظر فتح جـ 2 ص 106 - 107، وعمدة القاري 5 جـ ص 115. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
645 -
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، سَمِعَهُ مِنْ فَمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ بِمَدِّ صَوْتِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ، وَيَابِسٍ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(إِسماعيل بن مسعود) الجَحْدري، أبو مسعود البصري، ثقة، توفي سنة 248 هـ، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في
42/ 47.
2 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني البصري، توفي سنة 245، من [10]، أخرج له مسلم وأبو داود في القدر والترمذي والنسائي وابن ماجه، تقدم في 5/ 5.
3 -
(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصري، ثقة، ثبت، توفي سنة 182، من [8]، تقدم في 5/ 5.
4 -
(شعبة) بن الحجاج أبو بسطام الواسطي البصري، ثقة، ثبت، حجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.
5 -
(موسى بن أبي عثمان) الكوفي، مقبول، من [6].
وفي (تت) موسى بن أبي عثمان التَّبَّانُ المدني، وقيل: الكوفي، مولى المغيرة. رَوَى عن أبيه، وأبي يحيى المكي، والأعرج، وسعيد
ابن جبير، وإبراهيم النخعي، وأم ظبيان. وعنه أبو الزناد، ومالك ابن مِغْوَل، وشعبة، والثوري. قال سفيان: كان مؤدبًا، ونعم الشيخ
كان، وذكره ابن حبان في الثقات.
قال الحافظ: فرق ابن أبي حاتم بين موسى بن أبي عثمان التّبَّان، روى عن أبيه، وعنه أبو الزناد، وبين موسى بن أبي عثمان الكوفي، روى عن أبي يحيى، عن أبي هريرة، وعن النخعي، وسعيد. وعنه شعبة، والثوري، وغيرهما، ولم يذكر في التبان شيئًا، وقال في الآخر عن أبيه: شيخ. انتهى.
علق له البخاري، وأخرج له أبو داود، والمصنف، وابن ماجه.
6 -
(أبو يحيى) المكي، يقال: اسمه سمعان الأسلمي، مقبول، من [4].
وفي (تت) أبو يحيى المكي، روى عن أبي هريرة حديث "المؤذنُ يغفر له مَدَى صوته"، وعنه موسى بن أبي عثمان. ذكره ابن حبان في الثقات، وزعم أنه سمعان الأسلمي.
قال ابن عبد البر: أبو يحيى المكي اسمه سمعان سمع من أبي هريرة، روى عنه بعض المدنيين في الأذان. وقال ابن القطان: لا
يعرف أصلًا، وقد ذكره ابن الجارود، فلم يزد على ما أخذ من هذا
الإسناد، ولم يسمه، وقال المنذري، والثوري: إنه مجهول. أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
7 -
(أبو هريرة) الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وفيه أن شيخه إسماعيل من أفراده، وفيه أبو هريرة أكثر الصحابة رواية للحديث، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه، أنه (سمعه) أي سمع الحديث الآتي (من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني أنه أخذه مشافهة، لا بواسطة.
(يقول) جملة حالية في محل نصب من "رسول الله"، وإن كان مضافًا إليه، لكون المضاف جزءًا للمضاف إليه، كما قال ابن مالك:
وَلا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ
…
إِلا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ
أوْ كَانَ جُزْءَ مَالَهُ أضِيفَا
…
أوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلا تَحِيفَا
(المؤذن) مبتدأ، خبره جملة قوله:(يغفر له بمَدِّ صَوْتِه) -بفتح الميم، وتشديد الدال المهملة، والباء سببية- أي يغفر له بسبب مد
صوته. أو بمعنى "مع"، أي يغفر له مع مد صوته.
وفي نسخة السندي "بمَدَى صوته"، ونص عبارته: قوله: "بمَدَى صَوْته" وفي نسخة "بمَدِّ صوته"، قيل: معناه بقدر صوته وحَدِّهِ، فإن بلغ الغاية من الصوت بلغ الغاية من المغفرة، وإن كان صوته دون ذلك، فمغفرته على قدره، أو المعنى: لو كان له ذنوب، تملأ ما بين محله الذي يؤذن فيه إلى ما ينتهي إليه صوته لغفر له. وقيل: يغفر له من الذنوب ما فعله في زمانٍ مُقَدَّرٍ بهذه المسافة. انتهت عبارته.
وفي "الزهر": قال أبو البقاء: الجَيِّدُ عند أهل اللغة "مَدَى صوته" وهو ظرف مكان.
قال الجامع: قوله: "ظرف مكان" هذا على رواية أبي داود، فإن روايته "يغفر له مَدَى صوته"، وأما على رواية المصنف فهو مجرور بالباء، وليس منصوبًا على الظرفية. إلا إذا وجدت نسخة موافقة لرواية أبي داود. فتنبه.
وأما "مَدُّ صوته" فله وجه، وهو يحتمل شيئين:
أحدهما: أن يكون تقديره مسافة صوته.
والثاني: أن يكون المصدر بمعنى المكان، أي ممتد صوته، وفي المعنى على هذا وجهان: أحدهما: معناه لو كانت ذنوبه، تملأ هذا المكان لغفرت له، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم إخبارًا عن الله تعالى "لو جئتني
بِقُرابِ الأرض خَطايَا"، أي بمِلْئِهَا من الذنوب. والثاني: يغفر له من الذنوب ما فعله في زمان مقدر بهذه المسافة. انتهى.
وفي المنهل: قوله: "المؤذن يغفر له مدى صوته" أي غاية صوته ومنتهاه، وهو منصوب على الظرفية، أي أن المؤذن يستكمل
مغفرة الله تعالى إذا بذل جهده في رفع الصوت بالأذان، وقيل: إن الكلام على وجه التمثيل والتشبيه، يريد أن المكان الذي ينتهي إليه صوت المؤذن لو قدر، وكان ما بين أقصاه، وبين مقامه الذي فيه، ذنوب تملأ تلك المسافة لغفرها الله تعالى له.
وقيل: معناه يغفر لأجله ذنوب كل من سمع صوته، فحضر الصلاة المسببة عن ندائه. وقيل: معناه تغفر ذنوبه التي باشرها في تلك النواحي إلى حيث يبلغ صوته، وقيل: معناه: يغفر بشفاعته ذنوب من كان ساكنًا، أو مقيمًا إلى حيث يبلغ صوته. انتهى ما في المنهل جـ 4 ص 173.
قال الجامع: أوضح المعاني، وأقربها من هذه المعاني التي ذكرها في المنهل أوَّلُها.
(ويشهد له كل رطب، ويابس) أي كل نَامٍ، وجَمَادٍ، مما يبلغه صوته، وهذا بمعنى حديث أبي سعيد الخدري الماضي "جن، ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له"، وتقدم البحث هناك أن الصواب في تلك الشهادة أنها بلسان المقال.
وقال في المنهل في شرح هذا الحديث: والصحيح أن للجمادات والنباتات والحيوانات علمًا وإدراكًا وتسبيحًا، كما يُعلَمُ من قوله تعالى:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]، وقوله:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] قال البغوي: وهذا مذهب أهل السنة، ويدل عليه قضية كلام الذئب والبقرة، وغيرهما. انتهى.
زاد في رواية أبي داود في هذا الحديث "وشاهد الصلاة تكتب له خمس وعشرون صلاة، ويكفر عنه ما بينهما". والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (645)، وفي الكبرى (1609) عن إسماعيل بن مسعود، ومحمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن يزيد بن زريع، عن
شعبة عن موسى بن أبي عثمان، عن أبي يحيى المكي، عن أبي هريرة رضي الله عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود وابن ماجه؛ فأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن
حفص بن عمر، عن شعبة به، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة أيضًا عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شبابة، عن شعبة به.
قال في "النكت الظراف": أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد عن أبي الوليد، عن شعبة، وصرح فيه بسماع أبي يحيى من أبي هريرة رضي الله عنه. انتهى جـ 11 ص 94. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو الترغيب في رفع الصوت بالأذان، بحيث لا يتضرر به، لكونه سببًا للمغفرة، وشهادة كل شيء
له، ولأن فيه الأمر بحضور الصلوات، فكلما كان أدعى للإسماع كان أولى، لما يترتب عليه من زيادة الخير.
وقد روى البيهقي بسنده عن أبي محذورة رضي الله عنه، قال:"لما قدم عمر رضي الله عنه مكة أذنت، فقال لي: يا أبا محذورة أما خفت أن ينشق مُرَيْطَاؤُكَ". "السنن الكبرى" جـ 1 ص 397 والمريطاء: بضم الميم، وفتح الراء، وسكون المثناة التحتية: عرقان في مراقِّ البطن، يعتمد عليهما الصائح، قاله في "اللسان".
ومنها: ثبوت المغفرة للمؤذن بمد صوته.
ومنها: رِفْعَةُ شأن المؤذن يوم القيامة، حيث شهد له كل رطب ويابس، ممن سمع صوته. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
646 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْكُوفِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، وَالْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ بِمَدِّ صَوْتِهِ، وَيُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ، مِنْ رَطْبٍ، وَيَابِسٍ، وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى مَعَهُ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزِيُّ البصري الزَّمِنُ، ثقة، ثبت، توفي سنة 252، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في
64/ 80.
2 -
(معاذ بن هشام) الدستُوائي البصري، وسكن اليمن، صدوق رُبَّمَا وَهِمَ، توفي سنة 200، من [9]، أخرج له الجماعة،
تقدم في 30/ 34.
3 -
(هشام) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدَّسْتُوَاِئي، أبو بكر البصري، ثقة، ثبت، وقد رُمِيَ بالقدر، من كبار [7]، توفي سنة 154، عن 78 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 30/ 34.
4 -
(قتادة) بن دعَامة بن قتادة السَّدُوسِيُّ، أبو الخطاب
البصري، ثقة، ثبت، رأس الطبقة [4]، توفي سنة بضع عشرة ومائة، أخرج له الجماعة، تقدم في 30/ 34.
5 -
(أبو إِسحاق الكوفي) عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة، عابد، اختلط بآخره [3]، توفي سنة 129، وقيل: قبل
ذلك، أخرج له الجماعة، تقدم في 38/ 42.
6 -
(البراء بن عازب) بن الحارث بن عَدِيٍّ الأنصاري الأوسي، صحابي ابن صحابي، نزل الكوفة، توفي سنة 72، أخرج له
الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا على الإخراج لهم، وأنهم بصريون، إلا الصحابي، وأبا إسحاق، فكوفيان.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، قتادة، عن أبي إسحاق. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن البراء بن عازب) رضي الله تعالى عنهما (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إِن الله وملائكته) بالنصب، كما هو قراءة الجماعة في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} الآية [الأحزاب: 56]. قال القرطبي رحمه الله: وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما "وملائكته" بالرفع
عطفًا على موضع اسم "إن".
(يصلون على الصف المقدم) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: والصلاة من الله تعالى: ثناؤه على العبد عند الملائكة. حكاه البخاري عن أبي العالية، ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه. وقال غيره: الصلاة من الله عز وجل: الرحمة، وقد يقال: لا منافاة بين القولين. والله أعلم. وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس، والاستغفار لهم، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ
…
الآية} [غافر: 7 - 9]. انظر تفسير ابن كثير جـ 3 ص 503.
تنبيه:
قال القرطبي رحمه الله: اختلف العلماء في الضمير في قوله تعالى: {يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]: فقالت فرقة: الضمير فيه لله والملائكة، وهذا قولٌ من الله تعالى شرف به ملائكته، فلا يصحبة الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس
الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله". أخرجه في الصحيح. قالوا: لأنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير، ولله أن يفعل في ذلك ما يشاء.
وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إن الله يصلي، وملائكته يصلون، وليس في الآية اجتماع في ضمير، وذلك جائز للبشر فِعْلُهُ، ولم يقل رسول الله:"بئس الخطيب أنت" لهذا المعنى، وإنما قاله لأن الخطيب وقف على "ومن يعصهما"، وسكت سكتة. واستدلوا بما رواه أبو داود عن عدي بن حاتم: أن خطيبًا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من يطع الله ورسوله، ومن يعصهما. فقال:"قم -أو اذهب- بئس الخطيب أنت". إلا أنه يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه، وقال له:"بئس الخطيب" أصلح له بعد ذلك جميع كلامه، فقال:"قل: ومن يعص الله ورسوله". كما في صحيح مسلم، وهو يؤيد القول الأول بأنه لم يقف على "من يعصهما". انظر تفسير القرطبي جـ 14 ص 232.
وفي الحديث الحث على الصلاة في الصف المقدم، وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه من كتاب الإمامة، إن شاء الله تعالى.
(والمؤذن يغفر له بمد صوته) تقدم الخلاف في ضبطه، ومعناه في الحديث السابق (ويصدِّقُهُ كل من سمعه من رطب ويابس) أي يشهد له يوم القيامة، أو يصدقه يوم يسمع، ويكتب له أجر تصديقهم
بالحق. قاله السندي.
(وله مثل أجر من صلى معه). قال السندي رحمه الله: أي إن كان إمامًا، أو مع إمامه إن كان مقتديًا بإمام آخر، لحكم الدلالة،
لكن هذا يقتضي أن يخص بمن حضر بأذانه، والأقرب العموم، تخصيصًا للمؤذن بهذا الفضل، وفضلُ الله أوسعُ. والله أعلم.
انتهى.
تنبيه:
حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف، كما أشار إليه الحافظ المزي. تحفة جـ 2 ص 57، أخرجه هنا (646)، وفي الكبرى (1610) بهذا السند. وفوائد الحديث تعلم مما سبق، وسيأتي بعضها في الإمامة، إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلابالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
15 - التَّثْوِيبِ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية التثويب في أذان صلاة الفجر، خاصة.
والتثويب: مصدر ثَوَّبَ، يُثَوِّبُ، وهو العَوْدُ إلى الإعلام بعد الإعلام، ويُطْلَق على الإقامة، كما في حديث "حتى إذا ثُوِّبَ أدبر، حتى إذا فرغ أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه"، وعلى قول المؤذن في أذان الفجر:"الصلاة خير من النوم"، وكُلٌّ من هذين تثويبٌ قديم ثابت من وقته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. وقد أحدث الناس تثويبًا ثالثًا بين الأذان والإقامة. قاله في فتح الودود.
قال الجامع: المراد بالتثويب هنا، هو قول المؤذن في أذان الفجر، بعد حي على الفلاح مرتين: الصلاة خير من النوم مرتين.
قال ابن منظور: ويقال: ثَوَّبَ الداعي تثويبًا: إذا عاد مرة بعد أخرى، ومنه تثويب المؤذن: إذا نادى بالأذان للناس إلى الصلاة، ثم
نادى بعد التأذين، فقال: الصلاةَ، رحمكم الله، الصلاةَ؛ يدعو إليها عَوْدًا بعد بَدْءٍ.
قال الجامع: هذا التثويب الذي ذكره ابن منظور مما أحدثه الناس، وهو من البدع المنكرة، أنكره ابن عمر رضي الله عنهما، وغيره، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وقال ابن منظور أيضًا: والتثويب: هو الدعاء للصلاة، وغيرها، وأصله أن الرجل إذا جاء مُسْتَصْرِخًا، لوَّح بِثوبه، لِيُرَى، ويَشْتَهِرَ، فَكان ذلك كالدعاء، فسمي الدعاء تثويبًا لذلك، وكل داع مُثَوِّبٌ. وقيل إنما سمي الدعاء تثويبًا، من ثَابَ، يَثُوبُ: إذا رَجَعَ، فهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة؛ فإن المؤذن إذا قال:"حي على الصلاة"، فقد دعاهم إليها، فهذا قال بعد ذلك:"الصلاة خير من النوم"، فقد رجع إلى كلامٍ معناه المبادرة إليها. انتهى لسان جـ 1 ص 520. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
647 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سَلْمَانَ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ، قَالَ: كُنْتُ أُؤَذِّنُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ أَقُولُ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ الأَوَّلِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزي، راوية ابن المبارك، ثقة، توفي سنة 240 عن 90 سنة، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم
في 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك الحنظلي المروزي، ثقة، ثبت، حجة، فقيه، عابد، توفي سنة 181 عن 63 سنة، من [8]، أخرج له
الجماعة، تقدم في 32/ 36.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوري الكوفي، ثقة، ثبت، حجة، فقيه، توفي سنة 161، من [7]، تقدم في 33/ 37.
4 -
(أبو جعفر) قال في التقريب: أبو جعفر، عن أبي سلمان، عن أبي محذورة في الأذان من شيوخ الثوري، مجهول، من [4]،
وقيل: هو الفراء. انتهى.
وفي (تت): (س) أبو جعفر، عن أبي سلمان، عن أبي محذورة في الأذان، وعنه الثوري، رواه النسائي، من رواية ابن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، عن الثوري، وقال عبد الرحمن: ليس هو بأبي جعفر الفراء. كذا قال. وقد رواه إسماعيل بن عمرو البجلي، عن الثوري، عن أبي جعفر الفراء، عن أبي سلمان، وذكر مسلم، وغير واحد أن أبا جعفر الذي يروي عن أبي سلمان، وعنه الثوري أنه أبو جعفر الفراء، فالله أعلم. انتهى. تت جـ 12 ص 59.
5 -
(أبو سلمان) المؤذن، قيل: اسمه هام، مقبول، من [3].
روى عن علي، وأبي محذورة. وعنه أبو جعفر الفراء، والعلاء ابن صالح الكوفي. انفرد به المصنف.
تنبيه:
وقع في النسخة الهندية "أبو سليمان" بدل أبي سلمان، وكذا هو في مسند أحمد ج 3 ص 408، وهو تصحيف، والصواب أبو سلمان كما هنا، وهو الذي في كتب الرجال، وعلى الصواب وقع في الكبرى. فتنبه.
6 -
(أبو محذورة) أوس بن مِعْيَر، وقيل غيره، الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في (629). والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي محذورة) رضي الله عنه، أنه (قال: كنت أؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم) قال السندي رحمه الله: ولعله أذن له صلى الله عليه وسلم أيام حجة الوداع، أو في وقت آخر. والله أعلم. انتهى.
قال الجامع: هذا الذي قاله السندي مبني على أن المراد بقوله: كنت أؤذن
…
إلخ: الأذان عنده، ولا داعي إلى هذا، بل المراد أنه كان يؤذن لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالأذان، وكان يقول في الأذان الأول في الفجر:"الصلاة خير من النوم" مرتين بأمره أيضًا، بدليل ما تقدم (633) أنه صلى الله عليه وسلم علمه الأذان، ومن جملة ما علمه: قوله في الأولى من
الصبح "الصلاة خير من النوم" مرتين. وأمره أن يذهب فيؤذن عند البيت الحرام، فكان يؤذن لأجل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك، فاللام للتعليل، كما في قول الشاعر [من الطويل]:
وَإِنِّي لَتَعْرونِي لِذِكْرَاكَ هِزَّةٌ
…
كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطرُ
وفيه حذف مضاف، أي لأجل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم وجدت في مسند أحمد من طريق عبد الرحمن بن مهدي ما هو أصرح من هذا، ونصه: قال: "كنت أؤذن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، في صلاة الصبح، فإذا قلت: حي على الفلاح، قلت: الصلاة خير من النوم
…
الحديث". فتبين أنه لايريد الأذان بين يديه، بل الأذان الصادر عن أمره صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
(وكنت أقول) أي بأمره، كما تقدم (في أذان الفجر) متعلق بأقول (الأول) بالجر، صفة للأذان، والمراد به الأذان الذي قبل
الفجر، بدليل ما تقدم له من قوله: فعلمني كما تؤذنون الآن، فذكر صفة الأذان، وفيه قوله: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح، ثم قال: وعلمني الإقامة
…
" إلى آخر كلامه.
وفيه أن التثويب يكون في الأذان الأول الذي يكون قبل طلوع الفجر، لا الثاني الذي يكون بعده. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم
الوكيل.
648 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَلَيْسَ بِأَبِي جَعْفَرٍ الْفَرَّاءِ.
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(عمرو بن علي) الفَلاسُ الصَّيْرَفِي، أبو حفص البصري، ثقة، حافظ، توفي سنة 249، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم
في 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان، أبو سعيد البصري، ثقة، متقن، حافظ، إمام، قدوة، توفي سنة 198 عن 78 سنة، من كبار
[9]
، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 4.
3 -
(عبد الرحمن) بن مهدي بن حسان، أبو سعيد العنبري مولاهم البصري، ثقة، ثبت، حافظ، توفي سنة 198 عن 73 سنة،
من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 49.
4 -
(سفيان) الثوري، تقدم في السند السابق. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(قوله: بهذ الإِسناد) إشارة إلى الإسناد الذي قبله، وهو
سفيان، عن أبي جعفر، عن أبي سلمان، عن أبي محذورة رضي الله عنه.
(وقوله: نحوه) أي نحو الحديث الماضي، وقد أخرج أحمد في مسنده رواية عبد الرحمن بن مهدي، ولفظها: عن أبي محذورة،
قال: كنت أؤذن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، فإذا قلت: حي على الفلاح، قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الأذان الأول.
(فائدة) الفرق بين قولهم: مثله، وقولهم: نحوه، بعد ذكر حديثِ بإسناد، ثم إتباعه بإسناد آخر: أن مثله لا يطلق إلا إذا اتحد
الحديثان لفظًا، بخلاف "نحوه" فإنه يطلق إذا اتحدا معنى.
قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري رحمه الله تعالى: يلزم الحديثي من الإتقان أن يفرق بين "مثله"، "ونحوه"، فلا يحل أن يقول: مثله إلا إذا اتفقا في اللفظ، ويحل "نحوه"، إذا كان بمعناه. انظر التقريب مع التدريب جـ 2 ص 120.
وإلى ذلك أشار السيوطي رحمه الله في ألفية الحديث، حيث قال:
الْحَاكِمُ اخْصُصْ نَحْوَهُ بِالْمَعْنَى
…
وَمِثْلَهُ بِاللَّفْظ فَرْقٌ يُعْنىَ
(وقولى: قال أبو عبد الرحمن إِلخ) هكذا نسخ المجتبى، والذي في الكبرى جـ 1 ص 503، قال عبد الرحمن بن مهدي: وليس بأبي جعفر
الفراء. وهكذا في المسند جـ 3 ص 458 قال عبد الرحمن: ليس هو الفراء.
قال الجامع: الظاهر أنّ ما في المجتبى خطأ من بعض النساخ، فليس هذا الكلام للمصنف، وإنما هو لعبد الرحمن بن مهدي، وإن كان لا يستبعد أن يكون رأي المصنف موافقًا لرأي ابن مهدي، إلا أن ما في الكبرى يرجح الأول، ومما يدل لكونه من بعض النساخ أيضًا أن الحافظ المزي نقل هذا الكلام من المجتبى، وقال: قال عبد الرحمن: وليس بأبي جعفر الفراء.
والحاصل أن ما في نسخ المجتبى خطأ، وأن الصواب عبد الرحمن، وهو ابن مهدي. والله أعلم.
ثم إن هذا الذي قاله ابن مهدي خالفه غيره، فقالوا: إنه أبو جعفر الفرَّاء؛ قال الحافظ المزي رحمه الله: كذا قال عبد الرحمن بن مهدي. وقد رواه إسماعيل بن عمرو البجلي، عن سفيان الثوري، عن أبي جعفر الفراء، وكذا قال غير واحد: إن أبا جعفر الذي يروي عن أبي سلمان هو الفراء. انتهى تحفة جـ 9 ص 286 - 287.
وتقدم عن "تت": وذكر مسلم، وغير واحد أن أبا جعفر الذي يروي عن أبي سلمان، وعنه الثوري أنه أبو جعفر الفراء، فالله أعلم.
انتهى. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث أبي محذورة رضي الله تعالى عنه من هذا الوجه من أفراد المصنف، وفي سنده أبو جعفر وشيخه، وقد تقدم الكلام فيهما، لكن الحديث يشهد له ما تقدم (633)، فهو صحيح.
الثانية: من فوائد الحديث مشروعية التثويب بالمعنى السابق في أذان الفجر، وهو الذي بوب له المصنف رحمه الله.
وقد اختلف أهل العلم في التثويب في الفجر، فقالت به طائفة، وممن قال بهذا -كما ذكره ابن المنذر- ابن عمر، والحسن البصري، وابن سيرين، والزهري، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وزاد ابن قدامة الأوزاعي.
قال ابن المنذر: وقد كان الشافعي يقول به، إذ هو بالعراق، قال: وهو من الظاهر المعمول به في مسجد الله، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى عنه البويطي أنه كان يقول به، وقال في كتاب الصلاة: ولا أحب التثويب في الصبح، ولا في غير هذا، لأن أبا محذورة لم يحك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره بالتثويب، فأكره الزيادة في الأذان، وأكره التثويب بعده.
قال أبو بكر: وما هذا إلا سهوًا منه ونسيانًا، حيث كتب هذه
المسألة لأنه حكى ذلك في الكتاب العراقي عن سعد القرظ، وعن أبي محذورة، ورَوَى ذلك عن علي.
قال أبو بكر: وخالف النعمان كل ما ذكرناه، فحكى يعقوب عنه في الجامع الصغير أنه قال: التثويب الذي يثوب الناس في صبح الفجر بين الأذان والإقامة: حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، وكان كره التثويب في العشاء، وفي سائر الصلوات.
قال أبو بكر: فخالف ما قد ثبتت به الإخبار عن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال، وأبي محذورة، ثم جاء عن ابن عمر، وأنس ابن مالك، وما عليه أهل الحرمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، يتوارثونه قرنًا عن قرن، يعملون به في كل زمان، ظاهرًا في أذان الفجر في كل يوم، ثم لم يرض خلافه ما ذكرناه حتى استحسن بدعة محدثة، لم ترو عن أحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمل به في عهد أحد من أصحابه. وفي كتاب ابن الحسن: كان التثويب بعد الأذان: الصلاة خير من النوم، فأحدث الناس هذا التثويب، وهو حسن.
قال أبو بكر: وقد ثبتت الإخبار عن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن ذكرنا من أصحابه أن التثويب كان في نفس الأذان قبل الفراغ منه، فكان ما قاله: إن التثويب الأول كان بعد الأذان محالًا، لا معنى له، ثم مع ذلك هو خلاف ما عليه أهل الحجاز والشام ومصر، وخلاف
قول سفيان الثوري، ثم استحسن، وأقر أنه محدث، وكل محدث بدعة.
قال أبو بكر: وبالأخبار التي رويناها عن بلال وأبي محذورة، نقول. ولا أري التثويب إلا في أذان الفجر خاصة، يقول بعد قوله:
حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين. انتهى كلام ابن المنذر. انظر الأوسط جـ 3 ص 21 - 24.
قال الجامع: هذا الذي قاله ابن المنذر من ثبوت التثويب بالمعنى المذكور في الفجر خاصة هو الحق، لصحة دليله، وأما التثويب الذي أحدثه الناس سواء كان في الفجر، أو في غيره بجميع أصنافه فإنه لا يجوز العمل به، لكونه بدعة منكرة.
قال النووي رحمه الله تعالى: يكره التثويب في غير الصبح، وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وحكى الشيخ أبو حامد، وصاحب
الحاوي، والمحاملي، وغيرهم عن النخعي أنه كان يقول: التثويب سنة في كل الصلوات، كالصبح. وحكى القاضي أبو الطيب عن الحسن ابن صالح أنه مستحب في أذان العشاء أيضًا، لأن بعض الناس قد ينام عنها.
دليلنا حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري، ومسلم، ورُويَ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى التابعي، عن بلال رضي الله عنه،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُثوِّبَنَّ في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر". رواه الترمذي، وضعف إسناده، وهو مع ضعف إسناده مرسل، لأن ابن أبي ليلى لم يسمع بلالًا.
وعن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر، أو العصر، فقال: اخرج بنا، فإن هذه بدعة، رواه أبو داود، وليس
إسناده بقوي، والمعتمد حديث عائشة رضي الله عنها. انتهى المجموع جـ 3 ص 97 - 98.
تنبيه:
قال النووي رحمه الله: يكره أن يقال في الأذان حي على خير العمل، لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى البيهقي فيه شيئًا موقوفًا على ابن عمر، وعلي بن الحسين رضي الله عنهم، قال البيهقي رحمه الله: لم تثبت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نكره الزيادة في الأذان، والله أعلم. انتهى "المجموع" أيضًا جـ 3 ص 98.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
16 - آخرُ الأذان
أي هذا باب ذكر الأحاديث التي فيها بيان آخر الأذان، وإنما عقد المصنف رحمه الله تعالى هذا الباب تنبيهًا على ضبط آخر الأذان، لئلا يزاد عليه، كما شاهدنا من ابتداع بعض الجهلة في بعض البلدان، أن المؤذن إذا فرغ من الأذان يزيد عليه بعض الأذكار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعوات، رافعًا صوته، حتى يتوهم من لا علم عنده بالسنة أن ذلك جزء من الأذان، وهو من البدع المردودة، فنبه المصنف رحمه الله على مثل هذا بذكر باب فيه بيان آخر الأذان المشروع.
وسيأتي عن السندي رحمه الله توجيه آخر لضبطهم آخر الأذان، إن شاء الله تعالى.
649 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ بِلَالٍ، قَالَ: آخِرُ الأَذَانِ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن مَعْدَانَ بْن عيسى) بن معدان، أبو عبد الله الحَرَّانِيُّ، ثقة، من [12].
وثقه النسائي، ومسلمة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات في ذي الحجة سنة 252، وقال أبو عروبة: مات سنة 260،
انفرد به المصنف.
2 -
(الحسن بن أعين) هو الحسن بن محمد بن أعين، نسب إلى جده، أبو علي القرشي مولى أم عبد الملك بن مروان، الحَرَّاني، صدوق، توفي سنة 210، من [9]، أخرج له البخاري ومسلم والنسائي، قال أبو حاتم: أدركته، ولم أكتب عنه، وذكره ابن حبان في الثقات.
3 -
(زهير بن معاوية) بن حُديْج، أبو خيثمة الجعفي الكوفي، نزيل الجزيرة، ثقة، ثبت، توفي سنة 172 وقيل: غير ذلك، من
[7]
، أخرج له الجماعة، تقدم في 38/ 42.
4 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، أبو محمد الكوفي، ثقة، حافظ، ورع، عارف بالقراءة، لكنه يدلس، توفي
سنة 147 أو بعدها، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 17/ 18.
5 -
(إِبراهيم) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الفقيه، الكوفي، ثقة، توفي سنة 96، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 29/ 33.
6 -
(الأسود) بن يزيد بن بن قيس النخعي، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفي، ثقة، مكثر، فقيه، مخضرم، توفي سنة 74
أو 75، من [2]، أخرج له الجماعة، تقدم في 29/ 33.
7 -
(بلال) بن رباح الحبشي، المؤذن، الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 96 - 120. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا على الإخراج لهم، إلا شيخه، فانفرد هو به، والحسن بن أعين، فانفرد هو به، والبخاري،
ومسلم.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض؛ الأعمش، وإبراهيم، والأسود. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن بلال) بن رباح رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: آخر الأذان الله أكبر، الله أكبر، لا إِله إِلا الله) قال السندي رحمه الله: كأنهم
ضبطوه، لئلا يتوهم تربيع التكبير بالقياس على الأول، أو تثنية كلمة التوحيد بالقياس على غالب الكلمات، ولعل إفراد كلمة التوحيد في الأذان لموافقة معنى التوحيد، والله أعلم. انتهى.
تنبيه:
حديث بلال رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف
رحمه الله، أخرجه هنا (649، 650، 651) وفي الكبرى (1613، 1614، 1615). والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
650 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: كَانَ آخِرُ أَذَانِ بِلَالٍ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(سويد) بن نصر المروزي، تقدم في الباب السابق.
2 -
(عبد الله) بن المبارك، تقدم أيضًا في الباب السابق.
3 -
(منصور) بن المعتمر، أبو عَتَّاب السلمي الكوفي، ثقة، ثبت، كان لا يدلس، ولا يروي إلا عن ثقة، من طبقة الأعمش، توفي سنة 132، أخرج له الجماعة، تقدم في 2/ 2.
والباقون تقدموا في السند السابق. وكذا شرح الحديث واضح. وبالله التوفيق.
تنبيه:
من القواعد المهمة أن الراوي إذا روى حديثًا في قصة أو واقعة، فإن كان أدرك ما رواه، بأن حَكَى قصةً وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض الصحابة، والراوي لذلك صاحبي أدرك تلك الواقعة، فهي محكوم لها بالاتصال، وإن لم يُعْلَمْ أنه شاهدها، وأنه لم يدرك تلك الواقعة
فهو مرسل صحابي، وإن كان تابعيًا فهو منقطع، وإن روى التابعي عن الصحابي قصة أدرك وقوعها فمتصل وكذا إن لم يدرك وقوعها ولكن أسندها له، وإلا فمنقطعة.
وقد حَكَى اتفاق أهل التمييز من أهل الحديث على ذلك ابنُ المَوّاق، ورَوى الخطيبُ في الكفاية بسنده عن أبي داود، قال: سمعت أحمد، قيل له: إن رجلًا قال: قال عروة: إن عائشة قالت: يا رسول الله، وعن عروة عن عائشة: سواء؟ قال: كيف هذا سواء؟ ليس هذا بسواء.
قال الحافظ العراقي: إنما فرق أحمد بين اللفظين، لأن عروة في اللفظ الأول لم يسند ذلك إلى عائشة، ولا أدرك القصة، فكانت مرسلة، وأما اللفظ الثاني، فأسند ذلك إليها، فكانت متصلة. انتهى. انظر التدريب جـ 1 ص 218.
وإلى هذه القاعدة أشار السيوطي رحمه الله في ألفيته، فقال:
وَكُلُّ مَنْ أدْرَكَ مَا لَهُ رَوَى
…
مُتَّصِلٌ، وَغْيْرُهُ قَطْعًا حَوى
قال الجامع: فعلى هذا قول الأسود في هذا الحديث: كان آخر أذان بلال إلخ صورته صورة الانقطاع؛ لكونه لم يشاهد أذان بلال، لأنه لم يكن يؤذن في زمان التابعين، لكن الرواية الأولى تبين أنه متصل، حيث قال فيها: عن بلال: كان آخر الأذان، إلخ، ولم يطعن بالتدليس، فافهم هذه القاعدة، فإنها تنفعك في كثير من الأسانيد،
وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
651 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، مِثْلَ ذَلِكَ.
رجال هذا الإسناد: ستة
كلهم تقدموا في السندين السابقين. وقد تقدم في الباب السابق البحث في الفرق بين قولهم: مثل ذلك، وقولهم: نحو ذلك،
فارجع إليه تستفد. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
652 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ: أَنَّ آخِرَ الأَذَانِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
رجال هذا الإسناد: ستة
كلهم تقدموا قريبًا، إلا:
1 -
(يونس بن أبي إِسحاق) عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، صدوق يهم قليلًا من [5].
قال عمرو بن علي، عن ابن مهدي: لم يكن به بأس، قال:
وحدث عنه يحيى، وعبد الرحمن. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه عن يحيى بن سعيد: كان يونس يقول: ثنا أبو إسحاق، سمعت عدي ابن حاتم حديث "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، وقال يحيى بن سعيد: وحدثنا سفيان وشعبة، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مغفل عن عدي ابن حاتم بهذا.
وقال صالح بن أحمد عن علي بن المديني: سمعت يحيى، وذكر يونس بن أبي إسحاق، فقال: كانت فيه غفلة شديدة، وكانت فيه سَجِيَّةً
(1)
، وقال بندار، عن سَلْم بن قتيبة: قدمت من الكوفة، فقال لي شعبة: من لقيت؟ قلت: فلان وفلان ويونس بن أبي إسحاق، قال: ما حدثك؟ فأخبرته، وقلت: ثنا بكر بن ماعز، فسكت ساعة، ثم قال: فلم يقل لك: حدثنا عبد الله بن مسعود؟
وقال الأثرم: سمعت أحمد يضعف حديث يونس عن أبيه، وقال: حديث إسرائيل أحب إلى منه.
وقال أبو طالب عن أحمد في حديثه زيادة على حديث الناس. قلت: يقولون: إنه سمع في الكتب، فهي أتم، قال: إسرائيل ابنه قد سمع وكتب، فلم يكن فيه زيادة مثل يونس.
(1)
هكذا في "تهذيب الكمال": "سَجِيَّة" ووقع في "تهذيب التهذيب"، وكانت فيه "سخنة" بالخاء والنون، ولعل الصواب ما في "تهذيب الكمال" ومعناه: وكانت فيه الغفلة سَجِيَّةً، أي كالطبيعة. والله أعلم.
وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: حديثه مضطرب، وقال أيضًا: سألت أبي عن عيسى بن يونس؟ فقال: عن مثل عيسى تسأل؟ قلت: فأبوه يونس؟ قال: كذا وكذا. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ثقة. قلت: فيونس أو إسرائيل، مَنْ أحب إليك؟ قال: كلٌّ ثقة.
وقال إسحاق بن منصور وغيره، عن ابن معين: ثقة. وقال ابن شاهين في الثقات عن ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا، إلا أنه لا يحتج بحديثه. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الساجي: صدوق، كان يقدم عثمان على علي، وضعفه بعضهم. وقال أبو أحمد الحاكم: ربما وَهِمَ فِي روايته.
وقال العجلي: جائز الحديث. وقال ابن عدي: له أحاديث حِسَان، وَرَوَى عنه الناسُ، وحديث أهل الكوفة عامته تدور على
ذلك البيت. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 157، وكذا قال ابن سعد وغيره في تاريخ وفاته. وزاد ابن سعد: وكانت له سنن عالية، وروى عن عامة رجال أبيه، وكان ثقة، إن شاء الله تعالى.
وقال ابن المديني: مات سنة 152، ويقال سنة 159، وقال ابن أبي عاصم: مات سنة 158، أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والباقون.
2 -
(مُحارِب بن دِثَار) بن كُرْدُوس بن قِرْوَاش بن جعوانة بن سَلَمَة بن صخر بن ثعلبة بن سدوس السدوسي، أبو دثار، ويقال:
أبو مطرف، ويقال: أبو كردوس، ويقال: أبو النضر الكوفي القاضي، قيل: إنه ذُهْلِيّ، ثقة إمام زاهد، من [4].
قال أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، والنسائي: ثقة، وزاد أبو حاتم: صدوق، وزاد أبو زرعة:
مأمون، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال سعيد بن سماك بن حرب عن أبيه: كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سوَّدوه: الحلم، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والبيان، والتواضع، ولا يَكْمُلْن في الإسلام إلا بالعَفَاف. وقد كَمُلْنَ في هذا الرجل، يعني محارب بن دثار.
قال ابن سعد وغيره: مات في ولاية خالد بن عبد الله، وقال ابن قانع: مات سنة 116، وقال خليفة: مات آخر ولاية خالد، وعُزِلَ خالد سنة 20، وقال الثوري: ما يُخَيَّلُ إلى أني رأيت زاهدًا أفضل من محارب. وقال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى الذين يرجئون عليًا وعثمان، ولا يشهدون فيهما بشيء، وله أحاديث، ولا يحتجون به.
وقال عبد الله بن إدريس عن أبيه: رأيت الحَكَم وحمّادًا في مجلس قضاء محارب. قال الذهبي: وفي إدراك ابن عيينة له نظر، فلعله أرسل عنه شيئًا، وهو حجة مطلقًا. وقال ابن حبان: كان من أفرس الناس. وقال العجلي: كوفي، تابعي، ثقة. وقال يعقوب بن سفيان والدارقطني: ثقة. أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
حديث أبي محذورة هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا (652)، وفي "الكبرى"(1616) بهذا السند، والله تعالى
أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
17 - الأذَانُ فِي التَّخَلَّفِ عَنْ شُهُودِ الجَمَاعَة فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية الأذان في جواز التخلف عن حضور صلاة الجماعة في الليلة التي ينزل فيها المطر، وكذا كل ما أشبه ذلك كالبرد والثلج، رِفْقًا بالمصلين.
653 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، يَقُولُ: أَنْبَأَنَا رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُنَادِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ فِي السَّفَرِ، يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي البَغْلاني، ثقة، ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمد الكوفي، ثم المكي، ثقة، ثبت، حجة، من [8]، تقدم في 1/ 1.
3 -
(عمرو بن دينار) أبو محمد الجُمَحِيّ مولاهم الأثرم المكي، ثقة ثبت، توفي سنة 126، من [4]، تقدم في 112/ 154.
4 -
(عمرو بن أوس) بن أبي أوس، واسمه حُذَيفة الثقفي
الطائفي، تابعي كبير، من [2]، ووهم مَنْ ذكره في الصحابة.
قال عبد الرحمن بن نافع بن لبيبة الطائفي: قال أبو هريرة: تسألوني، وفيكم عمرو بن أوس. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال
البخاري: مات قبل سعيد بن جبير، وقال أبو نعيم: قبل سعيد بن جبير، سنة 90، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من التابعين.
وذكره ابن منده، وغيره في معرفة الصحابة، وأوردوا من حديثه حديثًا وقع في إسناده وَهَمٌ أوجب أن يكون لعمرو بن أوس صحبة، وهو من رواية الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عثمان بن عمرو بن أوس عن أبيه، قال: قَدِمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، كذا رواه الوليد، ورواه جماعة من الثقات عن الطائفي عن عثمان، وهو ابن عبد الله بن أوس، عن أبيه، به. ورواه وكيع وغير واحد عن الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده، أوس بن أبي أوس به، وهو الصواب. أخرج له
الجماعة.
5 -
(رجل من ثقيف) صحابي رضي الله تعالى عنه، لم يعرف اسمه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن رجل من ثقيف: أنه سمع منادي) أي مؤذن (النبي صلى الله عليه وسلم- يعني في ليلة مطيرة) أي ذات مطر. وقال الكرماني: فعيلة،
بمعنى الماطرة، وإسناد المطر إلى الليلة مجاز، إذ الليل ظرف له، لا فاعل، وللعلماء في أنبَتَ الربيعُ البَقْلَ أقوال أربعة: مجاز في الإسناد، أو في أنبت، أو في الربيع، وسماه السَّكَّاكِيّ استعارةً بالكناية، أو المجموعُ مجاز عن المقصود، وذكر الإمام الرازي أنه من المجاز العقلي.
فإن قلت: لِمَ لا تجعلها فَعِيلةً بمعنى المفعول، أي ممطور فيها، وحذف الجار والمجرور؟ قلت: لأنه يستوي فيه المذكر والمؤنث، ولا تدخل تاء التأنيث فيها عند ذكر موصوفها معها. انتهى كلام الكرماني منقولًا من زهر الربى جـ 2 ص 15 - 17.
(في السفر) حال من الفاعل، أو المفعول، أي حال كونه كائنًا في السفر.
(يقول) جملة في محل نصب على الحال من المفعول، أي سمعه حال كونه قائلًا (حي على الصلاة، حي على الفلاح، صلوا في رحالكم) جمع رَحْلٍ -بفتح، فسكون- قال الفيومي رحمه الله: ورَحْلُ الشخص: مأواه في الحضر، ثم أطلق على أمتعة المسافر، لأنها مأواه، وقال أيضًا: والرَّحْلُ: كل شيء، يُعَدُّ للرَّحِيل من وِعَاءٍ للمتاع، ومَرْكَبٍ للبعير، وحِلْسٍ، ورَسَنٍ، وجمعه أرْحُلٌ، ورِحَالٌ، مثل فَلْسٍ، وَسِهَام، ورَحَلْتُ البعير، رَحْلًا، من باب نَفَعَ: شددت عليه رحله. انتهَى بتقديم وتأخير واختصار.
والأمر هنا للإباحة، فقوله:"حي على الصلاة" نداء بالحضور لمن
يريد ذلك، وقوله:"صلوا في رحالكم": إذن في ترك الحضور إليها لمن يشق عليه، فلا تنافي بين مؤداهما. أفاده السندي. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث رجل من ثقيف رضي الله تعالى عنه صحيح، وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا (653)، وفي "الكبرى"(1617) بهذا السند.
الثانية: في فوائده:
منها: ما بوب له المصنف، وهو مشروعية الأذان في جواز التخلف عن شهود صلاة الجماعة إذا نزل المطر ليلًا.
ومنها: زيادة: صلوا في رحالكم "في ألفاظ الأذان".
ومنها: أن المطر من الأعذار التي تبيح التخلف عن صلاة الجماعة، والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
654 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، فَقَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ، يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ".
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة) بن سعيد، المتقدم في السند الماضي.
2 -
(مالك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر، الأصبحي، أبو عبد الله المدني الإمام، ثقة، ثبت، حجة، توفي سنة 179، من
[7]
، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.
3 -
(نافع) العدوي، مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدني، ثقة، ثبت، فقيه مشهور، توفي سنة 117، أو بعد ذلك، من [3]، تقدم في 12/ 12.
4 -
(ابن عمر) عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعيات المصنف، وتقدم أنه أعلى ما وقع له، وهو -33 - من رباعيات الكتاب.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني.
ومنها: أن هذا الإسناد أصح الأسانيد مطلقًا، على ما نقل الإمام البخاري رحمه الله تعالى، رَوَى الخطيبُ في الكفاية عن يحيى بن بكر أنه قال لأبي زرعة الرازي: يا أبا زرعة، ليس ذا زَعْزَعَةٍ، عن زَوْبَعَةٍ
(1)
(1)
أي ليس ذا تحرّك لأجل هبوب ريح شديدة، وهو كناية عن قوته ومتانته. والزَّوْبَعَةُ: هي الإعْصَارُ، كما في "ق".
إنما تَرْفَعُ السترَ، فتنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر. انظر التدريب جـ 1 ص 78.
ومنها: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة من الصحابة، رَوَى (2630) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن نافع أن) عبد الله (بن عمر) رضي الله تعالى عنهما (أذن بالصلاة) قال السندي رحمه الله: الظاهر أنه أتم الأذان، وقال بعد الفراغ منه "ألا صَلُّوا"، ويحتمل أنه قال ذلك بعد "حي على الفلاح"، وعلى الأول، يقال: كان هذا القول أحيانًا في الوسط، وأحيانًا بعد الفراغ. انتهى.
قال الجامع: رواية البخاري ترد الاحتمال الثاني، ونصها: أذَّنَ ابنُ عمر في ليلة باردة بضَجْنَانَ، ثم قال:"صلوا في رحالكم"، فأخبَرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنًا ثم يقول على إثره: ألا صلوا في الرحال
…
الحديث".
قال في الفتح: قوله ثم يقول على إثره، صريح في أن القول المذكور كان بعد الفراغ. وقال القرطبي: لَمَّا ذَكر رواية مسلم بلفظ
"يقول في آخر ندائه" يحتمل أن يكون المراد في آخره قُبَيل الفراغ منه، جمعًا بينه وبين حديث ابن عباس. انتهى.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي أشار إليه هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما، ولفظه عند البخاري في الأذان عن عبد الله بن الحارث، قال: خطبنا ابنُ عباس في يوم رَدغٍ، فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة، فأمره أن ينادي: الصلاةُ في الرحال، فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقال: فعل هذا من هو خير مني، وإنها عَزْمة. انظر الصحيح بنسخة الفتح جـ 2 ص 116.
وبَوَّبَ ابنُ خزيمة، وتبعه ابن حبان، ثم المحب الطبري "حَذْفُ حي على الصلاة في يوم المطر"، نظرًا إلى المعنى، لأن معنى "حي على الصلاة": هَلُمُّوا إلى الصلاة، ومعنى "الصلاة في الرحال": تأخروا عن المجيء إليها، فلا يتناسب سبب إيراد اللفظين معًا، لأن أحدهما نقيض الآخر.
قال الحافظ رحمه الله: ويمكن الجمع بينهما، ولا يلزم منه ما ذكر بأن يكون معنى "الصلاة في الرحال" رخصة لمن أراد أن يترخص ومعنى هلموا إلى الصلاة نَدْب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة، ولو تحمل المشقة، ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم، قال:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فمُطِرْنَا، فقال: لِيُصَلِّ من شاء منكم في رَحْلِهِ".
(في ليلة ذات بَرْد، وريح) وفي رواية البخاري: أذَّنَ ابنُ عمر في ليلة باردة بضَجْنَان، وهو بفتح الضاد المعجمة، وبالجيم بعدها
نون: جبل بينه وبين مكة خمسة عشر ميلًا، وبينه وبين وادي مريسعة أميال. كما قاله الزمخشري، وقيل فيه غير ذلك. انظر الفتح جـ 2 ص 133.
(فقال: ألا صلوا في الرحال، فإِن رسول الله صلى الله عليه وسلم) الفاء تعليلية، أي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يأمر المؤذن إِذا كانت ليلة) بالرفع فاعل كان، وهي تامة لا تحتاج إلى خبر، كما قال الحَرِيريّ في مُلْحَتِهِ:
وَإِنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ
…
فَلسْتُ تَحْتاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ
ويحتمل أن تكون ناقصة، حذف اسمها، وليلةً بالنصب خبرها، أي إن كانت الليلةُ ليلةً (باردة، ذات مطر) أي صاحبة مطر.
وفي رواية البخاري "في الليلة الباردة أو المطيرة". قال في الفتح: وقوله: "أو": للتنويع لا للشك، وفي صحيح أبي عوانة "ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح"، ودل ذلك على أن كلًا من الثلاثة عذر في التأخِر عن الجماعة.
ونقل ابن بطال فيه الإجماع، لكن المعروف عند الشافعية أن الريح عذر في الليل فقط، وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل، لكن في السنن من طريق ابن إسحاق، عن نافع في هذا الحديث "في الليلة المطيرة، والغداة الْقُرَّة"، وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المَلِيح، عن أبيه "أنهم مُطِرُوا يومًا، فرَخَّص لهم".
قال الحافظ رحمه الله: ولم أر في شيء من الأحاديث الترخص بعذر الريح في النهار صريحًا، لكن القياس يقتضي إلحاقه، وقد نقله ابن الرفعة وَجْهًا. انتهى فتح جـ 2 ص 134.
(يقول) فعل مضارع مرفوع، صلة لـ "أن" مقدرة، وحذف "أن" ورفعُ الفعل قياس على الراجح، ومنه قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24]، وقوله:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64]، برفع "يُرِي"، و"أعْبُدُ"، وأن وصلتها مجرور بحرف جر مقدرٍ قياسًا، أي بالقول، وهو متعلق بيأمر.
وقال السندي: (يقول) أي بأن يقول، أو "يقول" تفسير ليأمر، وقيل: مقدر في الكلام بعده. انتهى.
قال الجامع: قوله "تفسير ليأمر" هذا غير صحيح كما لا يخفى، وقوله: وقيل: مقدر إلخ لم يظهر لي وجهه. والله أعلم.
وقوله: (ألا صلوا في الرحال) مقول القول، أي كان يأمر المؤذن أن يقول في الأذان: ألا صلوا في الرحال. والرحال -بالكسر-
جمع رَحْلٍ، وهو مسكن الرجل، وما فيه من أثاثه. وتقدم الكلام عليه.
قال النووي رحمه الله: في حديث ابن عباس المتقدم عند شرح قوله: فلما بلغ المؤذن "حي على الصلاة"، فأمره أن ينادي "الصلاة
في الرحال" قال: فيه أن هذه الكلمة تقال في نفس الأذان. وفي حديث ابن عمر -يعني حديث الباب- أنها تقال بعده، قال: والأمران جائزان، كما نص عليه الشافعي، لكن بعده أحسن ليتم نظم الأذان. قال: ومن أصحابنا من يقول: لا يقوله إلا بعد الفراغ، وهو ضعيف مخالف لصريح حديث ابن عباس. انتهى.
قال الحافظ: وكلامه يدل على أنها تزداد مطلقًا إما في أثنائه، وإما بعده، لا أنها بدل من "حي على الصلاة". وقد تقدم عن ابن خزيمة ما يخالفه. وقد ورد الجمع بينهما في حديث آخر وأخرجه عبد الرزاق، وغيره بإسناد صحيح، عن نعيم بن النحام، قال:"أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة، فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج. فلما قال الصلاة خير من النوم، قالها". انتهى فتح 2 ص 117.
قال الجامع عفا الله عنه: قد حصل مما تقدم من حديث ابن عمر، وحديث ابن عباس رضي الله عنهم أن المؤذن غير في قوله ألا صلوا في الرحال" بين قولها أثناء الأذان وقولها بعد الأذان، ويدل حديث ابن عباس على أن يقولها بدل "حي على الصلاة". ففي رواية ابن علية كما في الفتح "إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة". والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما من طريق مالك متفق عليه.
الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (654)، وفي "الكبرى"(1618) عن قتيبة، عن مالك، عن نافع، عنه. والله أعلم.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى،
وأبو داود عن القعنبي، ثلاثتهم عن مالك به.
وأخرجه مالك في "الموطأ"، وأحمد، والحميدي، وعبد بن حميد، في مسانيدهم، وابن خزيمة في "صحيحه". والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
18 - الأذَانُ لِمَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي وَقْتِ الأولَى مِنْهُمَا
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الأذان لمن يجمع بين الصلاتين في وقت الصلاة الأولى، وهو المسمى بجمع التقديم، وهو مُجمَع عليه في عرفة، واختلف في غيرها من الأسفار، والصحيح أنه مشروع، كما تقدم البحث عنه مُستَوفًى. في كتاب الصلاة.
وموضع الاستدلال من الحديث واضح، من حيث إنه صلى الله عليه وسلم جَمعَ بَين الظهر والعصر جَمْع تقديم في وقت الظهر بأذان وإقامة.
655 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: "سَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِّلَتْ لَهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى بَطْنِ الْوَادِي خَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(إِبراهيم بن هارون) البَلْخِيُّ العابد، صدوق، من [11]، أخرج له الترمذي في شمائله والنسائي، تقدم في 6040.
2 -
(حاتم بن إِسماعيل) أبو إسماعيل الحارثي، مولاهم الكوفي، ثم المدني، صدوق يهم، صحيح الكتاب، توفي سنة
186 أو 187، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 604.
3 -
(جعفر بن محمد) الصادق الهاشمي، أبو عبد الله المدني، صدوق، فقيه، إمام، توفي سنة 148، من [6]، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة، تقدم في 123/ 182.
4 -
(محمد) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو جعفر الباقر، المدني، ثقة، فاضل، توفي سنة بضع عشرة ومائة، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 78/ 95.
5 -
(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري السَّلَميّ الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم في 31/ 35. وهذا الحديث أخرجه مسلم بطوله من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه المصنف مختصرًا، وقد مضى مشروحًا برقم 604، فلا حاجة إلى إعادته، وستأتي بقية مباحثه مُسْتَوفاة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.
قوله: القُبَّة: بضم القاف، وتشديد الموحدة: بيت صغير مستدير، من الخيام، وهو من بيوت العرب، جمعه قُبَبٌ، بضم، ففتح، وقِبَاب.
وقوله: ضُرِبَتْ: أي نُصِبَتْ.
وقوله: بنمرة -بفتح فكسر- على الأشهر: موضع بقرب عرفة، وليس منها.
قوله: القَصْواء -كحمراء: اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والقصواء في الأصل هي التي قُطِعَ طرف أذنها، وليست ناقة النبي صلى الله عليه وسلم قصواء، بل هو لقبها على المشهور. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
19 - الأذان لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بَعْدَ ذَهَابِ وَقْتِ الأولَى مِنْهُمَا
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية الأذان لمن جمع بين الصلاتين بعد ذهاب وقت الصلاة الأولى منهما، وهو المسمى بجمع التأخير؛ وهو مجمع عليه في مزدلفة، وجائز على الراجح، وهو قول الجمهور في السفر، وموضع الاستدلال من الحديثين واضح.
656 -
أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
رجال هذا الإسناد: خمسة
كلهم تقدموا في السند الماضي.
تنبيه:
حديث جابر رضي الله عنه هذا طرف من حديثه الطويل في صفة
حجة النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم بطوله.
وأخرجه المصنف هنا (656)، وفي الكبرى (1620) بهذا السند.
وقوله: "دفع": أي نزل من عرفة، وأصله دَفْعُ مَطِيِّهِ للنزول، ثم اشتهر في النزول. قاله السندي. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا،
ونعم الوكيل.
657 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا مَعَهُ بِجَمْعٍ، فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قَالَ: الصَّلَاةَ، فَصَلَّى بِنَا الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: هَكَذَا صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَكَانِ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(علي بن حُجْر) السعدي المروزي، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقة، حافظ، توفي سنة 244، من صغار [9]، أخرجه البخاري
ومسلم والترمذي والنسائي، تقدم في 13/ 13.
2 -
(شريك) بن عبد الله النخعي، أبو عبد الله الكوفي القاضي بواسط، ثم الكوفة، صدوق يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا، شديدًا على أهل البدع،
توفي سنة 177 أو 178، أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم والأربعة، تقدم في 25/ 29.
3 -
(سلمة بن كُهَيلٍ) الحضرمي، أبو يحيى الكوفي، ثقة، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 195/ 312.
4 -
(سعيد بن جبير) الأسدي مولاهم، الكوفي، ثقة، ثبت فقيه، توفي سنة 95، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم 436.
5 -
(ابن عمر) عبد الله الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم، وقال الشيخ الألباني: صحيح، دون قوله: ثم قال: الصلاة، والمحفوظ: ثم
أقام الصلاة. انتهى.
قال الجامع: بل الرواية صحيحة، ومعنى قوله: ثم قال الصلاة، أي قال: احضروا الصلاة بألفاظ الإقامة المعروفة لا أنه قال: الصلاة بهذا اللفظ، وقد أوضحت هذا المعنى رواية ابن ماجه، ففي رقم (3021) عن مُحْرِزِ بن سَلَمَةَ العَدَنِي، عن عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله، عن سالم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بالمزدلفة، فلما أنخنا، قال:"الصلاة بإقامة". فلا داعي لدعوى الشذوذ. والله أعلم.
وموضع الاستدلال هنا واضح من حيث إنه جمع بين الصلاتين بأذان في وقت الثانية.
وقوله: "قال: كنا معه" فاعل "قال" ضمير يعود إلى سعيد، والضمير في "معه" لابن عمر رضي الله عنهما. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
20 - الإِقَامَةُ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلاتَينِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية الإقامة لكل صلاة لمن جمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة.
658 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، وَسَلَمَةِ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَحَدَّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ.
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العَنَزيّ البصري، ثقة، ثبت، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 64/ 80.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهدي، أبو سعيد البصري، ثقة، ثبت، حجة، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 49.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الواسطي، ثم البصري، ثقة، ثبت، حجة، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 26.
4 -
(الحكم) بن عتيبة أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة، ثبت،
فقيه، ربما دلس، توفي سنة 113 أو بعدها، من [5]، تقدم في 86/ 104.
والباقون تقدموا في السند السابق. والله أعلم.
تنبيه:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما صحيح، وقوله: بإقامة واحدة، أي لكل صلاة، بدليل الرواية الآتية: أنه صلى كل واحدة
منهما بإقامة، فلا داعي لدعوى الشذوذ. والله أعلم.
وموضع الاستدلال واضح، حيث إنه جمع بين الصلاتين بالإقامة على المعنى الذي ذكرته آنفًا، فتنبه. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
659 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِجَمْعٍ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن علي) الفلاس، أبو حفص البصري، ثقة،
حافظ، من [10]، تقدم في 4/ 4.
2 -
(يحيى بن سعيد) القطان البصري، ثقة، ثبت، حجة، من [9]، تقدم في 4/ 4.
3 -
(إسماعيل بن أبي خالد) البجلي الكوفي، ثقة، ثبت، من [4]، تقدم في 471.
4 -
(أبو إِسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي، ثقة، عابد، اختلط، من [3]، تقدم 38/ 42.
والباقيان تقدما في السند الماضي. وكذا الحديث. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
660 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمُ، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ، صَلَّى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْلَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلَا بَعْدُ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي، ثقة، حجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.
2 -
(وكيع) بن الجراح الرُّؤَاسِي الكوفي، ثقة، حافظ، عابد، من كبار [9]، تقدم في 23/ 25.
3 -
(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث ابن أبي ذئب، واسمه هشام بن شعبة بن عبد الله بن أبي قيس
ابن عَبْدِ وَدّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي العامري، أبوالحارث المدني، ثقة، فقيه، فاضل، من [7].
قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: كان ابن أبي ذئب يُشَبَّهُ بسعيد ابن المسيب، قيل لأحمد: خلف مثله ببلاده؟ قال: لا ولا بغيرها، قال: وسمعت أحمد يقول: ابن أبي ذئب كان يعد صدوقًا، أفضل من مالك، إلا أن مالكًا أشد تنقية للرجال منه، كان ابن أبي ذئب لا يبالي عمن حدث.
وقال البغوي عن أحمد: كان رجلًا صالحًا، يأمر بالمعروف، وكان يشبه بسعيد. وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم عن ابن معين:
ابن أبي ذئب ثقة، وكل من روى عنه ابن أبي ذئب ثقة، إلا أبا جابر البياضي، وكل من روى عنه مالك ثقة إلا عبد الكريم أبا أمية.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن صالح، يقول: شيوخ ابن أبي ذئب كلهم ثقات، إلا البياضي. وقال يعقوب بن شيبة: ابن أبي ذئب ثقة، صدوق، غير أن روايته عن الزهري خاصة تكلم فيها بعضهم بالاضطراب، قال: وسمعت أحمد ويحيى يتناظران في ابن أبي
ذئب، وعبد الله بن جعفر المخرمي، فقدم أحمد المَخْرَمِيّ على ابن أبي ذئب، فقال يحيى: المَخْرَمِيّ شيخ، وأيش روى من الحديث، وأطرى ابن أبي ذئب، وقدمه تقديمًا كثيرًا، قال: فقلت لعلي بعدُ: أيهما أحب إليك؟ قال: ابن أبي ذئب، قال: وسألت عليًا عن سماعه من الزهري؟ فقال: هو عرض، قلت: وإن كان عرضًا، كيف هو؟ قال: مقارب.
وقال يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي: ما فاتني أحد فأسفت عليه ما أسفت على الليث، وابن أبي ذئب. وقال النسائي: ثقة. وقال أحمد بن علي الأبَّار: سألت مصعبًا الزبيري عن ابن أبي ذئب، وقلت له: حدثوني عن أبي عاصم أنه كان قدريًا؟ فقال: معاذ الله، إنما كان في زمن المهدي قد أخذوا أهل القدر، فجاء قوم فجلسوا إليه، فاعتصموا به فقال قوم: إنما جلسوا إليه لأنه يرى القدر.
وقال الواقدي: كان من أورع الناس وأفضلهم، وكانوا يرمونه بالقدر، وما كان قدريًا، لقد كان يتقي قولهم، ويعيبه، ولكنه كان رجلًا كريمًا، يجلس إليه كل أحد، وكان يصلي الليل أجمع، ويجتهد في العبادة، وأخبرني أخوه أنه كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان شديد الحال، وكان من رجال الناس صَرَامَة وقولًا بالحق، وكان يحفظ حديثه، لم يكن له كتاب. وقال يعقوب بن سفيان: قيل لأحمد: من أعلم، مالك، أو ابن أبي ذئب؟ قال: ابن أبي ذئب أصلح في بدنه
وأورع، وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين، وقد دخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر، فلم يَهَبْهُ
(1)
أن قال له الحق، قال: الظلم فاش ببابك، وأبو جعفر أبو جعفر؛ قيل له: ما تقول في حديثه؟ قال: كان ثقة، صدوقًا، رجلًا صالحًا، ورعًا.
وقال المفضل الغلابي، عن ابن معين: ابن أبي ذئب أثبت من ابن عجلان في سعيد المقبري. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: ابن أبي ذئب ما حاله في الزهري؟ فقال: ابن أبي ذئب ثقة. وقال جعفر بن أبي عثمان، عن ابن معين: لم يسمع ابن أبي ذئب من الزهري -يعني أنه عرض- وقال علي، عن يحيى بن سعيد: كان عسرًا.
وقال الواقدي وغيره: ولد سنة 80 عام الجُحافِ
(2)
وقال إبراهيم ابن المنذر، عن ابن أبي فديك: مات سنة 158، وقال أبو نعيم وغيره: مات سنة 159.
وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: دخل ابنُ أبي ذئب على عبد الصمد بن علي فكلمه في شيء، فقال له: إني لأحسبك مرائيًا، قال: فأخذ عودًا من الأرض، وقال: مَن أرَائي، فوالله للناس عندي
(1)
وفي "تهذيب الكمال""فلم يَهُلْهُ".
(2)
سمي عام الجُحاف، لأن مكة شهدت فيه سيلًا عظيمًا، جَحَف كُلَّ شَيء مر به. اهـ. من هامش تهذيب الكمال جـ 25 ص 642.
أهون من هذا. قال: وكان ابن أبي ذئب يفتي بالمدينة، وكان عالمًا ثقة فقيهًا ورعًا عابدًا فاضلًا، وكان يرمى بالقدر. وقال ابن حبان في الثقات: كان من فقهاء أهل المدينة، وعُبَّادِهمْ، وكان من أقول أهل زمانه للحق، وَعَظَ المهديَّ، فقال له: أما إنك أصدق القوم، وكان مع هذا يَرَى القدرَ، وكان مالك يهجره من أجله.
وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي سمع ابنُ أبي ذئب من الزهري؟ قال: نعم، سمع منه، قلت: إنهم يقولون لم يسمع منه، قال: قد سمع من الزهري. وقال عمرو بن علي الفلاس: ابن أبي ذئب في الزهري أحب إلى من كل شامي. وقال النسائي في الكنى: أنا معاوية، سمعت يحيى بن معين، يقول: كان يحيى بن سعيد لا يرضى حديث ابن أبي ذئب، وابن جريج عن الزهري ولا يقبله.
وقال الخليلي: ثقة أثنى عليه مالك، فقيه، من أئمة أهل المدينة حديثه مخرج في الصحيح إذا روى عن الثقات، فشيوخه شيوخ
مالك، لكنه قد يروي عن الضعفاء، وقد بَيَّنَ ابنُ أخي الزهري كيفية أخذ ابن أبي ذئب عن عمه، قال: إنه سأل عن شيء، فأجابه، فرد عليه، فتقاولا، فحلف الزهري أن لا يحدثه، ثم نَدِمَ ابنُ أبي ذئب، فسأل الزهري أن يكتب له أحاديث من حديثه، فكتب له، فكان يحدث بها. أخرج له الجماعة.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم، أبو بكر القرشي المدني، من
[4]
، تقدم في 1/ 1.
5 -
(سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدني الفقيه، ثقة، ثبت، من [3]، تقدم في 490.
6 -
(عبد الله بن عمر) تقدم في السند السابق. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن سالم، عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بينهما) أي بين المغرب والعشاء (بالمزدلفة، صلى) وقوله صلى: جملة مُبَيِّنَة معنى قوله "جمع"(كل واحدةٍ منهما) بنصب "كل" مفعولا لصلى (بإِقامةٍ) أي مع الأذان للأولى منهما، لأن أكثر الروايات صرحت بذلك.
وقال السندي: ظاهره تعدد الإقامة، وما سبق يدل على حِدَتِهَا، فلا يخلو الحديث عن نوع اضطراب. انتهى.
قال الجامع: لا اضطراب فيه، بل هذه الرواية تُبَيِّن أنه أراد بقوله "بإقامة واحدة" في الرواية السابقة الإقامة لكل واحدة منهما. فتنبه.
(ولم يتطوع) أي لم يصل النافلة (قبل واحدة منهما، ولا بعد) بالبناء على الضم، لقطعه عن الإضافة ونية معناها، أي بعد واحدة منهما. ولفظه في الكبرى "ولم يتطوع قبل واحدة منهما، ولا بعدها".
وفيه أن السنة أن لا يتطوع قبل الصلاتين ولا بعدهما في الجمع في المزدلفة. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما من طريق ابن أبي ذئب أخرجه البخاري.
الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (660)، وفي "الكبرى"(1624) عن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عنه، وفي الحج (3028) عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن ابن أبي ذئب به. والله تعالى أعلم.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري وأبو داود، فأخرجه البخاري في "الحج" عن آدم ابن أبي إياس، وأخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل، عن حماد بن خالد، وعن عثمان بن أبي شيبة، عن شَبَابَةَ بن سَوَّار، وعن مَخْلَد بنِ خالد، عن عثمان بن عُمَرَ، أربعتهم عن ابن أبي ذئب به. والله أعلم.
الرابعة: أنه اختَلَفَ أهلُ العلم في الأذان والإقامة للمغرب والعشاء في مزدلفة، لاختلاف الآثار في ذلك، إذ بعضها يدل على
الأذان والإقامة للأولى، والإقامة فقط للثانية، كما في حديث جابر رضي الله عنه السابق (656) وبعضها يدل على الإقامة لكل منهما، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا، وحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما كما في الصحيحين وغيرهما، وبعضها يدل على الاكتفاء بإقامة واحدة لهما، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق (658، 659). وبعضها يدل على الأذان والإقامة لكل واحدة منهما، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنهما موقوفًا عليه، وعليه بَوَّبَ البخاري رحمه الله في الحج، فقال: باب من أذن، وأقام لكل واحدة منهما "قال: حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير، حدثنا
أبو إسحاق، قال سمعت عبد الرحمن بن يزيد، يقول: "حج عبد الله رضي الله عنه، فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة، أو قريبًا من ذلك، فأمر رجلًا، فأذن، وأقام، ثم صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه، فتعشى، ثم أمر رجلًا فأذن، وأقام
…
الحديث.
قال في "الفتح": وفي هذا الحديث مشروعية الأذان والإقامة لكل من الصلاتين إذا جمع بينهما، قال ابن حزم: لم نجده مرويًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت عنه لقلت به. ثم أخرج من طريق عبد الرزاق، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق في هذا الحديث: قال أبو إسحاق: فذكرته لأبي جعفر، محمد بن علي، فقال: أما نحن أهل البيت، فهكذا نصنع.
قال ابن حزم: وقد رُوِيَ عن عمر من فعله.
قال الحافظ أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه، ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذَّنَ لهم ليجتمعوا، ليجمع بهم، ولا يخفى تكلفه، ولو تأتى له ذلك في حق عمر، لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجهم، لم يتأت له في حق ابن مسعود، لأنه إن كان معه ناس من أصحابه لا يحتاج في جمعهم إلى من يؤذن لهم، وقد أخذ بظاهره مالك، وهو اختيار البخاري.
ورَوَى ابنُ عبد البر عن أحمد بن خالد أنه كان يتعجب من مالك، حيث أخذ بحديث ابن مسعود، وهو من رواية الكوفيين، مع كونه موقوفًا، ومع كونه لم يروه، ويترك ما رَوَى عن أهل المدينة، وهو مرفوع. قال ابن عبد البر: وأعجب أنا من الكوفيين، حيث أخذوا بما رواه أهل المدينة، وهو أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة، وتركوا ما رووا في ذلك عن ابن مسعود، مع أنهم لا يعدلون به أحدًا.
قال الحافظ رحمه الله: الجواب عن ذلك أن مالكًا اعتمد على صنيع عمر في ذلك، وإن كان لم يروه في الموطأ، واختار الطحاوي ما جاء عن جابر -يعني في حديثه الطويل الذي أخرجه مسلم أنه جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، وهذا قول الشافعي في القديم، ورواية عن أحمد، وبه قال ابن الماجشون، وابن حزم، وقواه الطحاوي بالقياس على الجمع بين الظهر والعصر بعرفة.
وقال الشافعي في الجديد، والثوري، وهو رواية عن أحمد: يجمع بينهما بإقامتين فقط، وهو ظاهر حديث أسامة رضي الله عنه، حيث قال:"فأقام المغرب، ثم أناخ الناس، ولم يحلوا حتى أقام العشاء"، وقد جاء عن ابن عمر كل واحد من هذه الصفات، أخرجه الطحاوي وغيره، وكأنه يراه من الأمر الذي يتخير فيه الإنسان، وهو المشهور عن أحمد. انتهى فتح الباري جـ 3 ص 613 - 614.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي قول من قال: يصلي الأولى بالأذان والإقامة، والثانية بالإقامة فقط، لحديث جابر
رضي الله تعالى عنه، وهو مرفوع صريح في ذلك، وما عداه إما موقوف، كحديث عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، أو قابل
للتأويل، كحديث أسامة، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فيؤول بأنه صلى الأولى بالإقامة مع الأذان، والثانية بالإقامة فقط.
وإنما أولنا بذلك، لأنه لا يمكن أن يحمل على تعدد الواقعة، إذ حجته صلى الله عليه وسلم واحدة، فتعين الجمع بين الروايات، وحديث جابر صريح مُفسَّر، فوجب حمل غيره عليه. وسيأتي زيادة تحقيق في المسألة في الحج إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
21 - الأذَانُ لِلْفَائِتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الأذان لأجل قضَاء الفائت من الصلوات، والمراد جنس الفائت، فيشمل الواحد وما زاد عليه.
وعبارة الكبرى "للفوائت في الصلوات" بصيغة الجمع، وهي أوضح. والمراد الأذان مع الإقامة لكل واحدة من الصلوات الفائتة.
تنبيه:
حديث أبي سعيد هذا النسخُ فيه مختلفة، ففي أكثر نسخ "المجتبى" ذكر الإقامة للظهر والعصر، والأذان للمغرب، وفي بعضها ذكر الأذان للظهر، كما أشار إليه في هامش الهندية جـ 1 ص 107، وفي بعضها ذكر الأذان للعصر بدلًا من الإقامة، كما عزاه لإحدى نسخ النظامية في هامش تحقيق مكتب تحقيق التراث الإسلامي، ص 345 والذي في الكبرى فأذن للظهر، فصلاها في وقتها، ثم أذن للمغرب، فصلاها في وقتها "بإسقاط العصر".
والظاهر أن الرواية الصحيحة عند المصنف إثبات الأذان في الكل، ولذلك استدل به على مشروعية الأذان لكل فائتة من الفوائت، ولا سيما ترجمة نسخة الكبرى، فإنها واضحة في هذا، حيث قال فيها "الأذان للفوائت من الصلوات"، ثم أورد الحديث بذكر الأذان
للظهر والمغرب.
والحديث أخرجه أحمد جـ 3 ص 25 من الوجه الذي أخرجه المصنف، وفي ص 49 عن عبد الملك بن عمرو وحجاج كلاهما عن ابن أبي ذئب به، وفي ص 67، عن يزيد وحجاج، كلاهما عن ابن أبي ذئب به، وكلها بلفظ "أقام" وليس فيها "أذن"، وزاد في ص 67، "ثم أقام العشاء فصلاها كذلك"
…
وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده رقم 2231، عن ابن أبي ذئب به، بلفظ "فأقام لكل صلاة إقامة"
…
وأخرجه البيهقي جـ 1 ص 402، من طريق بشر بن عمر الزهراني، عن ابن أبي ذئب به، بلفظ "فأقام" وزاد العشاء أيضًا.
قال الجامع: الذي يظهر لي أن المحفوظ من حديث أبي سعيد لفظ الإقامة لا الأذان، فإن كان محفوظًا بلفظ الأذان، كما هو ظاهر عمل المصنف، فالاستدلال به واضح، وإلا فليس في الحديث دليل على ما ترجم له. فتنبه. والله أعلم.
661 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: شَغَلَنَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْقِتَالِ مَا نَزَلَ،
فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَالاً، فَأَقَامَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلاَّهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا لِوَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ لِلْعَصْرِ فَصَلاَّهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَذَّنَ لِلْمَغْرِبِ فَصَلاَّهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا لِوَقْتِهَا.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن علي) الفلاس السابق في الباب الماضي.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان السابق فيه أيضًا.
3 -
(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن المدني السابق فيه أيضًا.
4 -
(سعيد بن أبي سعيد) كيسان المقبري أبو سَعْدٍ المدني، ثقة، من [3]، تغير قبل موته بأربع سنين، توفي في حدود سنة 120، وقيل: قبلها، وقيل: بعدها، تقدم في 95/ 117.
5 -
(عبد الرحمن بن أبي سعيد) سعد بن مالك الأنصاري الخدري، ثقة، توفي سنة 112 وله 77 سنة، من [3]، تقدم في
326.
6 -
(أبو سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري الصحابي ابن
الصحابي رضي الله تعالى عنهما، تقدم في 262. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، أخرجوا لهم، إلا عبد الرحمن ابن أبي سعيد فعلق عنه البخاري، وأخرج له الباقون.
ومنها: أن فيه رواية الأقران، فسعيد وعبد الرحمن من طبقة واحدة، ورواية الابن عن أبيه.
ومنها: أن أبا سعيد الخدري أحد المكثرين السبعة من الصحابة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه) سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنهما أنه (قال: شغلنا المشركون) شغل
من باب نفع، ولا يقال: أشغله بالألف، إلا على لغة قليلة أو رديئة، والمشركون مرفوع على الفاعلية (يوم الخندق) أي يوم اشتغالهم بحفر الخندق، لأجل تحزب الأعداء عليهم.
وغزوة الخندق، وتسمى غزوة الأحزاب، كانت في شوال، أو في ذي القعدة، سنة خمس من الهجرة، وسببها أنه لما جلا بنو النضير
خرج نفر من وجوههم إلى مكة، منهم سلام بن مِشْكَم وابن أبي الحُقيقِ وابن أخطب وغيرهم من اليهود، فأتوا قريشًا ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم على قتاله، وقالوا: نكون معكم عليه حتى نستأصله، ونَشَّطُوا قريشًا بزعمهم أن دينهم خير من دين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لما أقسم عليهم أبو سفيان، أيُّ الدين خير؟ فاجتمعوا ثم جاءوا غطفان فكلموهم ووعدوهم بنصف تمر خيبر كل عام، فخرجت قريش في أربعة آلاف وعقدت اللواء بدار الندوة وحمله عثمان بن طلحة ومعه ثلثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير يقودهم أبو سفيان، ووافقهم بنو سليم بمر الظهران في سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شمس، وهو أبو أبي الأعور السلمي الذي كان مع معاوية بصفين، وخرجت بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد، وغطفان في فزارة، فأوعبت وهم ألف، يقودهم عيينة بن حِصنْ، وأشجع، وهم أربعمائة، يقودهم مسعود بن رُخَيْلَة، وبنو مرة وهم أربعمائة، يقودهم الحارث بن عوف، وخرج معهم غيرهم، فكانوا عشرة آلاف، وهم ثلاث عساكر، وعِنَاجُ الأمرِ- أي مِلاكُهُ لأبي سفيان، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب المسلمين وشاوروهم، فأشار سلمان بالخندق، ولم يكن شأن العرب، بل من مكائد الفرس، فعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سَفْحِ سَلْعٍ، وكانوا ثلاثة آلاف، ثم خندق على المدينة وعمل فيه بيده بضع عشرة ليلة، وقيل: أربعًا وعشرين. فهزم الله الأحزاب وحده، ونصر
عبده، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بالخندق أربعة أو خمسة عشر يومًا، ورجع إلى المدينة لسبع بقين من ذي القعدة. انظر تفاصيل القصة في سيرة ابن هشام جـ 3 ص 165 - 183. وشرح ألفية السيرة العراقية ص 181 - 186.
(عن) أداء (صلاة الظهر) أي والعصر، ففيه حذف الواو مع ما عطفت، بدليل ما بعده (حتى غربت الشمس) وفي رواية لأحمد "حتى ذهب هُوِيٌّ من الليل"(وذلك) أي الشغل المذكور (قبل أن ينزل) بالبناء للفاعل (في القتال) أي في شأن القتال (ما نزل)"ما" اسم موصول في محل الرفع فاعل ينزل، أي من صلاة الخوف. ففي رواية أحمد جـ 3 ص 49 "وذلكم قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف، {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] ".
يعني أن فوت الصلوات إنما كان لعدم مشروعية صلاة الخوف، وفيه أنه بعد نزول آية الخوف لا يجوز تأخيرها، لإمكان أدائها بالكيفية المشروعة (فأنزل الله عز وجل {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25]) بما أرسله من الريح والجنود، كما قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الآية [الأحزاب: 9].
(فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا) أي بعد غروب الشمس، وذهاب وقت المغرب (فأقام لصلاة الظهر) وأشار في هامش الهندية أن في
بعض النسخ "فأذن" ومثله في "الكبرى" ومنه يؤخذ حكم الباب، إذ يدل على أنه أذن، وأقام لكل واحدة من الفوائت (فصلاها كما كان يصليها لوقتها) باللام، وهي بمعنى "في"، وفي بعض النسخ "في وقتها" بفي. ولأحمد "فصلاها وأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها".
يعني أنه صلى الظهر بالصفة التي كان يصليها في وقتها المعتاد، من الإتيان بواجباتها ومستحباتها وأدائها جماعة والإسرار بقرائتها، ومن كونه لم يزد عليها شيئًا من سجدتي السهو.
(ثم أقام للعصر) أي بعد الأذان، وفي بعض النسخ "ثم أذن العصر" بدلًا من "أقام للعصر"(فصلاها كما كان يصليها في وقتها، ثم أذن للمغرب، فصلاها كما كان يصليها في وقتها) وهذا يدل على أنه قضى الصلوات في وقت العشاء، فيكون معنى قوله:"حتى غربت الشمس" أي حتى جاء الليل، وذلك بعد دخول وقت العشاء، بدليل ما هنا. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه صحيح، وهو من أفراد المصنف، كما أشار إليه الحافظ المزي في تحفته جـ 3 ص 387،
أخرجه هنا (661) وفي الكبرى (1625) بهذا السند.
وأخرجه أحمد جـ 3 ص 25، 49، 67، وأبو داود الطيالسي برقم (2231) والبيهقي جـ 1 ص 402، 403 وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، كما ذكره الحافظ في التلخيص جـ 1 ص 194، 195.
الثانية: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية الأذان والإقامة لكل واحدة من الفوائت إن كان الأذان محفوظًا.
ومنها: مشروعية الترتيب في قضاء ما فات من الصلوات، لأنه صلى الله عليه وسلم رتبها كما وجبت، وقد تقدم ذكر مذاهب العلماء في ذلك، وترجيح القول بوجوب الترتيب بدليله في كتاب الصلاة، في الباب (55)، فارجع إليه تستفد.
ومنها: أن صفة قضاء الصلاة الفائتة لا يختلف عن الصلاة المؤداة في الوقت، فتصلى كما كانت تصلى في وقتها.
الثالثة: في مذاهب العلماء في الأذان والإقامة للصلاة الفائتة:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله تعالى، في كتابه الأوسط جـ 3 ص 31:
" ذكر الأذان للصلاة بعد خروج وقتها"
ثم أخرج بسنده عن الحسن، عن عمران بن حصين رضي الله
عنه، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، أو قال في سرية، فلما كان آخر السحر عرَّسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يَثِبُ فَزِعًا دَهِشًا، فلما استيقظنا أمرنا، فارتحلنا، ثم سِرْنَا حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا، فقضَى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالًا، فأذن، فصلينا ركعتين، ثم أمره، فأقام، فصلى الغداة.
قال الجامع: الحديث أخرجه مسلم في صحيحه مطولًا جـ 5 ص 192 بشرح النووي.
قال أبو بكر: فقد سَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للصلاة الفائتة إذا نام عنها المرء أن يُؤَذَّنَ لهَا ويقام، وقد روي في أذان من قد فاتته الصلاة بعذر خبران، ثم أخرج بسنده حديث أبي عبيدة، عن أبيه الآتي في الباب التالي، وفيه "فأمر بلالًا، فأذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر
…
الحديث.
ثم قال: وممن مال إلى القول بهذا الحديث: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وقال أصحاب الرأي في رجل نسي صلاة فأراد أن يقضيها من الغد يؤذن لها ويقيم، فإن لم يفعل فصلاته تامة.
ثم أخرج بسنده حديث أبي سعيد الخدري المذكور في الباب.
ثم قال: وممن قال بهذا الحديث مالك، والأوزاعي، وإسحاق، وقال الشافعي: إذا جمع بين الصلاتين، وقد ذهب وقت الأولى منهما أقام لكل واحدة منهما بلا أذان، وكذلك كل صلاة صلاها في غير
وقتها كما وصفت.
قال ابن المنذر رحمه الله: هذا -يعني ما قاله الشافعي- منه غلط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سن للجامع بين الصلاتين في وقت الأولى منهما جمع بينهما، أم في وقت الآخرة أن يؤذن للأولى من الصلاة ويقيم فيصليها، ثم يقيم للآخرة فيصليها، كذلك فعل بعرفة في حجته حين جمع بين الظهر والعصر، وبمزدلفة لمَّا جمع بين المغرب والعشاء، ثابت ذلك منه، وقد ذكرت إسناده في غير هذا الموضع، فأما حديث أبي عبيدة عن أبيه فغير ثابت؛ لأنه لم يلقه ولم يسمع منه، وقد ثبت حديث عمران بن حصين.
فالسنة لمن فاتته صلوات أن يؤذن للصلاة الأولى منهن، ويقيم، فيصليها، ثم يقيم لما بعدها من الصلوات، لكل صلاة إقامة، والزيادة في الأخبار إذا ثبتت يجب استعمالها، إذ الزيادة في الخبر في معنى حديث تفرد به الراوي، فكما يجب قبول ما ينفرد به الثقة من الإخبار، فكذلك يجب قبول الزيادة منه. والله أعلم. انتهى. الأوسط جـ 3 ص 31 - 34.
قال الجامع عفا الله عنه: ما نقله ابن المنذر عن الشافعي هو مذهبه الجديد، والقديم أنه يؤذن للفائتة، وهو المختار عند كثير من أصحابه. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 81.
والحاصل أن ما رجحه الإمام ابن المنذر رحمه الله هو الراجح
عندي، لقوة دليله، وخلافه ليس له حجة يعتمد عليها. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
22 - الاجْتِزَاءُ لِذَلِكَ كُلِّهِ بِأذَانٍ وَاحِد والإقَامَةِ لِكُلِّ وَاحِدة مِنْهُمَا
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الاكتفاء لجميع ما فات بأذان واحد في أول مرة، ثم الإقامة لكل واحدة من تلك الفوائت.
وقوله: لكل واحدة منهما، هكذا نسخ "المجتبى""منهما" بضمير المثنى، والذي في الكبرى "منها" بضمير المؤنثة الغائبة، وهو الظاهر.
واستدلاله بالحديث على ما ترجم له واضح.
662 -
أَخْبَرَنَا هَنَّادٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَأَمَرَ بِلَالاً، فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(هناد) بن السري بن مصعب التميمي، أبو السري الكوفي، ثقة من [10]، توفي سنة 243، وله 91 سنة، تقدم في 23/ 25،
أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم والأربعة.
2 -
(هُشَيْمُ) بْنُ بَشِير بن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطي، ثقة، ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفي، توفي سنة 183، من [7]، وأخرج له الجماعة، تقدم في 88/ 109.
3 -
(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تَدْرُسَ الأسدي مولاهم المكي، صدوق، يدلس، توفي سنة 126، من [4]، أخرج له
الجماعة، تقدم في 31/ 35.
4 -
(نافع بن جُبيْر) بن مطعم النوفلي، أبو محمد، أو أبو عبد الله المدني، ثقة، فاضل، توفي سنة 99، من [3]، أخرج له
الجماعة، تقدم في 96/ 124.
5 -
(أبو عُبَيْدَةَ) بن عبد الله بن مسعود، مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر الكوفي، ثقة، توفي بعد سنة 80، من كبار [3]، أخرج له الأربعة، تقدم في (622).
6 -
(عبد الله) بن مسعود الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 35/ 39. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله ثقات.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، أبو الزبير، ونافع، وأبو عبيدة.
ومنها: أن أبا عبيدة اختلفوا في سماعه عن أبيه، والصحيح أنه لم يسمع منه، لصغره. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي عبيدة) أنه (قال: قال عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه (إِن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق) قال ابن سيد الناس: اختلفت الروايات في الصلاة التي شغل عنها يوم الخندق، ففي حديث جابر أنها العصر، وفي حديث ابن مسعود أنها أربع.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: والصحيح -إن شاء الله تعالى- أن الصلاة التي شغل عنها واحدة، وهي العصر.
ومنهم من جمع بين الأحاديث في ذلك بأن الخندق كانت وقعته أيامًا، فكان ذلك كله في أوقات مختلفة في تلك الأيام، قال ابن سيد الناس: وهذا أولى من الأول، لأن حديث أبي سعيد رواه الطحاوي، عن المزني، عن الشافعي: حدثنا ابن أبي فُدَيْكٍ، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، وهذا إسناد صحيح جليل. أفاده في الزهر جـ 2 ص 19.
قال الجامع: الذي رجحه ابن سيد الناس اليعمري رحمه الله في وجه الجمع هو الراجح عندي، وقد تقدم تحقيقه في شرح حديث (622)، وحديث أبي سعيد الذي أشار إليه هو الذي تقدم للمصنف مختصرًا برقم (661).
(فأمر بلالًا، فأذن، ثم أقام، صلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر، ثم أقام، فصلى المغرب، ثم أقام، فصلى العشاء) فيه مشروعية الترتيب بين الفوائت، وقد تقدم تحقيق الخلاف فيه، وترجيح وجوبه بأدلته في شرح حديث (622) فارجع إليه تزدد علمًا.
تنبيه:
حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا فيه انقطاع، لكن له شاهد من حديث أبي سعيد، إن كان محفوظًا، قال البيهقي في السنن الكبرى جـ 1 ص 402، 403 بعد أن ساق حديث أبي سعيد الخدري المتقدم بلفظ الإقامة: وهكذا رواه الشافعي في الجديد، ثم قال: ورواه الشافعي في القديم عن غير واحد، عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، لم يسم أحدًا منهم، وقال في الحديث: فأمر بلالًا، فأذن، وأقام، فصلى الظهر
…
الحديث.
قال البيهقي: وهكذا رواه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، في هذه القصة، في إحدى الروايتين عنه، إلا أن أبا عبيدة لم
يدرك أباه، وهو مرسل جيد. انتهى.
قال الجامع: إن كان ما رواه الشافعي في القديم محفوظًا، فهو شاهد قوي، كما قال الشيخ الألباني في الإرواء جـ 1 ص 257. ويشهد له أيضًا ما تقدم من جمعه صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء في وقت العشاء بأذان وإقامة للأولى، وإقامة فقط للثانية، كما تقدم ترجيح ذلك.
والحاصل:
أن حديث أبي عبيدة صحيح، بما ذكر، فلا وجه لمن ضعفه مع وجود ما يشهد له. فتنبه. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
23 - الاكْتِفَاءُ بِالإقَامَةِ لِكُلِّ صَلاةٍ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الاكتفاء بالإقامة عن الأذان في الفوائت، وفي استدلال المصنف على هذا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا نظر، إذ هو استدل به على مشروعية الأذان للأولى، في الباب الماضي، والظاهر أن الحديث فيه اختصار من بعض الرواة، فليتنبه. والله أعلم.
663 -
أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ الْمَكَّيَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا فِي غَزْوَةٍ، فَحَبَسَنَا الْمُشْرِكُونَ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا، فَأَقَامَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَصَلَّيْنَا، ثُمَّ طَافَ
عَلَيْنَا، فَقَالَ:"مَا عَلَى الأَرْضِ عِصَابَةٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عز وجل غَيْرُكُمْ".
رجال هذا الإسناد: تسعة
1 -
(القاسم بن زكريا بن دينار) القرشي أبو محمد الكوفي الطحان، وربما نسب إلى جده، ثقة، توفي في حدود سنة 250، من
[11]
، أخرج له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، تقدم في 410.
2 -
(حسين بن علي) بن الوليد الجعفي الكوفي المقرئ، ثقة، عابد، توفي سنة 203 أو 204، وله 84 أو 85 سنة، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 74/ 91.
3 -
(زائدة) بن قدامة الثقفي، أبو الصَّلْتِ الكوفي، ثقة، ثبت، صاحب سنة، توفي سنة 160، وقيل بعدها، من [7]، أخرج
له الجماعة، تقدم في 74/ 91.
4 -
(سعيد بن أبي عَرُوبَةَ) مِهْرَانَ اليشكري، مولاهم، أبو النضر البصري، ثقة، حافظ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس،
واختلط، توفي سنة 156، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 34/ 38.
5 -
(هشام) بن أبي عبد الله، سَنْبَرَ، أبو بكر الدستوائي
البصري، ثقة، ثبت، وقد رمي بالقدر، توفي سنة 154، وله 78 سنة، من كبار [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 30/ 34.
والباقون تقدموا في السند الماضي، وكذا الحديث مضى مشروحًا، وتقدم الكلام عليه مستوفى برقم (622)، فارجع إليه تزدد
علمًا.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه وتوكلت وإليه أنيب.
24 - الإقَامَةُ لِمَنْ نَسِيَ رَكْعَةً مِنْ صَلاةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الإقامة لمن نسي ركعة من الصلاة، فتذكرها، واستدلال المصنف بالحديث عليها واضح من قوله: "وأمر بلالًا فأقام الصلاة
…
"، إذ الظاهر أن المراد بالإقامة هي الإقامة المعروفة.
664 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمًا فَسَلَّمَ، وَقَدْ بَقِيَتْ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةٌ فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: نَسِيتَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَأَمَرَ بِلَالاً فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى لِلنَّاسِ رَكْعَةً، فَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ النَّاسَ، فَقَالُوا لِي: أَتَعْرِفُ الرَّجُلَ؟ قُلْتُ: لَا، إِلاَّ أَنْ أَرَاهُ، فَمَرَّ بِي، فَقُلْتُ: هَذَا هُوَ. قَالُوا: هَذَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي أبو رجاء، ثقة، ثبت، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد الإمام المصري، ثقة، ثبت، فقيه، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في (31/ 35).
3 -
(يزيد بن أبي حبيب) سُوَيد، أبو رجاء المصري، ثقة، فقيه، يرسل، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 132/ 207.
4 -
(سويد بن قيس) التُجِيبِيُّ المصري، ثقة، من [3]، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 186/ 294.
5 -
(معاوية بن حديج) -بمهملتين، ثم جيم-، مصغرًا الكندي، أبو عبد الرحمن، أو أبو نعيم المصري، صحابي صغير، على الصحيح، وقيل تابعي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 186/ 294. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن معاوية بن حُديجٍ) رضي الله عنه، أثبت له الصحبة البخاري، وأبو حاتم، وابن البَرْقي، والمفضل الغلابي، وقال ابن يونس: وقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، وكان الوافد على عُمَرَ بفتح الإسكندرية، وذهبت عينه يوم دنقلة من بلاد النوبة، مع ابن أبي سرح، وولي الإمرة على غزو المغرب مرارًا، آخرها سنة 50، وتوفي سنة 52، ونفى بعضهم عنه الصحبة. انظر تت. جـ 10 ص 203، 204.
قال الجامع: الصحيح قول من أثبت الصحبة له، لأنه ثبت في رواية الحاكم لهذا الحديث أنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فسها، فسلم في ركعتين، ثم انصرف، فقال له رجل
…
الحديث، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. والله أعلم. انظر المستدرك جـ 1 ص 233.
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يومًا) وتلك الصلاة هي المغرب، لما ذكر آنفًا في رواية الحاكم (فسلم) أي في ركعتين (وقد بقيت من الصلاة ركعة) جملة في محل نصب على الحال من فاعل "سلم"(فأدركه) بعد خروجه من المسجد (رجل) وهو طلحة بن عبيد الله، كما بين في آخر الحديث (فقال) له (نسيت من الصلاة ركعة، فدخل المسجد، وأمر بلالًا، فأقام الصلاة) قال السندي: لعل محمله ما إذا كان الكلام وغيره مباحًا في الصلاة. والله أعلم. انتهى. جـ 2 ص 18، 19.
وقال في المنهل: لعل المراد أنه أمره بإعلام الناس بالصلاة، ويحتمل أن المراد حقيقة الإقامة، فيكون الحديث منسوخًا للإجماع
على أن الإقامة أثناء الصلاة مبطلة لها. انتهى جـ 6 ص 150.
قال الجامع: إن صح ما ادعاه من الإجماع، فذاك، وإلا فظاهر الحديث لا يُعْدَلُ عنه، كما هو ظاهر ترجمة المصنف رحمه الله تعالى، على أنه لا فرق بين حمل الإقامة على معنى إعلام الناس، وبين حمله
على الإقامة المعروفة في إبطال الصلاة على ما ادعاه، فالأولى حمل الحديث على الإقامة المعروفة، ولا داعي لادعاء البطلان، فكما ثبت أنه أتم الصلاة بعد خروجه من المسجد، والكلام مع الصحابي، لا يستبعد أمره بالإقامة للصلاة، ليحضر من انصرف عنها. وسيأتي تحقيق المسألة بأدلتها في موضعه، إن شاء الله تعالى.
(فصلى للناس ركعة) قال معاوية رضي الله عنه (فأخبرت بذلك الناس، فقالوا لي: أتعرف الرجل) أي الذي راجع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال:(قلت: لا) أي لا أعرفه (إِلا أن أراه، فمر بي، فقلت: هذا) الذي مر (هو) الرجل المذكور (قالوا: هذا طلحة بن عبيد الله) بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ابن مرة التيمي، أبو محمد الصحابي الجليل، أحد العشرة، استشهد رضي الله عنه يوم الجمل، سنة 36، وهو ابن 63 سنة. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث معاوية بن حديج رضي الله عنه هذا صحيح.
الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا (664)، وفي "الكبرى" عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عنه.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود في الصلاة بسند المصنف، وأخرجه أحمد جـ 6 ص 401، وابن خزيمة رقم (1052).
الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية الإقامة لمن نسي ركعة من الصلاة.
ومنها: عدم بطلان الصلاة، بانحراف المصلي عن القبلة، وخروجه من المسجد، أو تكلمه بكلام، إذا كان ناسيًا، وفيه تفاصيل
لأهل المذاهب، سنحققه بدلائله في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن الإمام يرجع إلى قول المأمومين إذا نسي في صلاته، وفيه خلاف بين العلماء، سنحققه في موضعه، إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
25 - أذانُ الرَّاعِي
أي هذا باب ذكر الحديث على مشروعية الأذان لمن كان وحده، كراعي الغنم، ونحوه.
665 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رُبَيِّعَةَ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَسَمِعَ صَوْتَ رَجُلٍ يُؤَذِّنُ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -قَالَ الْحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ هَذَا عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى -قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا لَرَاعِي غَنَمٍ، أَوْ رَجُلٌ عَازِبٌ عَنْ أَهْلِهِ، فَهَبَطَ الْوَادِيَ، فَإِذَا هُوَ بِرَاعِي غَنَمٍ، وَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، قَالَ: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى أَهْلِهَا". قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إِسحاق بن منصور) بن بَهْرَام الكوسج، أبو يعقوب التميمي المروزي، ثقة ثبت، من [11]، توفي سنة 251، تقدم في 72/ 88.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهدي البصري الإمام الحجة الثبت، من [9]، تقدم في 42/ 49.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الواسطي، ثم البصري، الإمام الحجة المثبت، من [7]، تقدم في 24/ 26.
4 -
(الحَكَم) بن عتيبة أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت، فقيه، ربما دلس، من [5]، تقدم في 104.
5 -
(عبد الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاري المدني، ثم الكوفي، ثقة، من [2]، تقدم في 104.
6 -
(عبد الله بن رُبَيِّعَةَ) -بضم أوله، وفتح ثانيه، وكسر التحتانية- بن فرقد السلمي الكوفي مختلف في صحبته. روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن مسعود، وابن عباس، وعبيد بن خالد السلمي، وعتبة بن فرقد، وعمرو بن عتبة بن فرقد، ومعضد بن يزيد العائذ. وعنه عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعطاء بن السائب، وعمرو بن ميمون الأودي، ومالك بن الحارث، وعلي بن الأقمر، ومنصور بن المعتمر.
قال ابن المبارك، عن شعبة في حديثه: وكانت له صحبة، ولم يتابع عليه. ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وذكر أنه يروي عن ابن مسعود، وذكره في الصحابة أيضًا. وقال ابن أبي حاتم في المراسيل: سألت أبي عنه؟ فقال: إن كان السلمي، فهو من التابعين، قال: وقال أبي في موضع آخر: عبد الله بن رُبَيِّعَة لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو
من أصحاب ابن مسعود. وذكره جماعة ممن صنف في الصحابة تت. جـ 5 ص 208، 209.
وقال في "الإصابة": وقال ابن المبارك، عن شعبة، في روايته: وله صحبة، قال البخاري: لم يتابع شعبة على ذلك. قال الحافظ:
والحديث أخرجه أبو داود من طريق سَعْد، عن عمرو، عن شُعبَةَ، عن عمرو بن مرة، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن رُبَيِّعَة السُّلَميّ، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن عُبَيد بن خالد السُّلَمي، فَذَكر حديثًا، وقال علي بن الأقمر: رأيت عبد الله بن رُبَيِّعَةَ يمشي، ويبكي، ويقول: شغلوني عن الصلاة. وقال ابن حبان: له صحبة، وقال في موضع آخر: يقال: له صحبة. وقال علي بن المديني: له صحبة، وهو خال عامر بن عقبة بن فرقد السُّلَمي، وأخوه عَتَّاب بن رُبَيِّعَةَ، هو عم منصور بن المعتمر المحدث المشهور. انتهى "الإصابة" جـ 6 ص 76.
قال الجامع: حديث الباب يؤيد قول من قال بصحبته، فإنه صريح في ثبوت الصحبة له، وإسناده صحيح. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم ما بين مروزي. وهو شيخه، وبصريَّيْنِ: وهما عبد الرحمن، وشعبة،
وكوفيين: وهم الباقون، وأن صحابيه من المقلين في الرواية، وليس له عند المصنف سوى هذا الحديث. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن رُبَيِّعَةَ) رضي الله عنه (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر) فيه بيان أن عبد الله بن ربيعة صحابي (فسمع صوت رجل يؤذن) فاعل "سمع" ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ الكبرى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت رجل يؤذن، فجعل يقول مثل ما يقول (حتى إِذا بلغ) ذلك المؤذن (أشهد أن محمدًا رسول الله، قال الحكم) بن عتيبة (لم أسمع هذا من ابن أبي ليلى) الظاهر أن الإشارة إلى قوله: "حتى إذا بلغ أشهد أن محمدًا رسول الله" يعني أنه لم يسمعه منه لفظًا، وإنما أخذه عنه بواسطة.
وكتب في هامش صحيح النسائي ما نصه: قلت: هذه النسخة ما أظنها تصح، فإن الحافظ المزي لم يشر إليها في تحفته، ولا رأيت أحدًا نص على أن الحكم لم يسمع هذا من ابن أبي ليلى. وقد أخرجه المؤلف في عمل اليوم والليلة رقم (38) مختصرًا، وأحمد (4/ 335) من طريقين آخرين عن شعبة به، وليس فيه النفي المذكور. (ناصر).
قال الجامع: أخرجه أحمد (4/ 336)، لا في ص (335) ولعله تصحفت (6) إلى (5) على الناسخ. أخرجه عن وكيع، عن شعبة به، ولم أر الطريق الآخر.
وعندي أن النسخة صحيحة، ويحمل على أن الرواية عن ابن مهدي، عن شعبة بالوجهين، مطول، وهو الموجود في النسخة
الهندية، وعُزِيَ إلى النسخة النظامية أيضًا، وهو الموجود في الكبرى، ومختصر، وهو الموجود في النسخة المصرية، ولا يدل على الخطأ عدم وجوده عند أحمد، والمصنف في عمل اليوم والليلة، لاختلاف الطرق، فقد أخرجه أحمد عن وكيع، عن شعبة.
وأخرجه المصنف في عمل اليوم والليلة من رواية يزيد بن زريع، عن شعبة.
ويحمل قول الحكم: لم أسمع هذا من ابن أبي ليلى. على أنه لم يسمع هذا اللفظ فقط من ابن أبي ليلى، ولا يلزم منه أنه لم يسمع جميع الحديث منه. والله أعلم.
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِن هذا لراعي غنم) أي قال ذلك بعد إجابته، ففي رواية أحمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشهد أني رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تجدونه راعي غنم". . . (أو رجل عازب عن أهله) والظاهر أن "أو" شك من الراوي، والعازب: اسم فاعل من عَزَبَ الشيءُ، عُزُوبًا، من باب قعد: بَعُدَ، وعزب، من بابي قتل، وضرب: غاب، وخفي. قاله في المصباح.
(فهبط) -بفتح الباء- يقال: هبط الماء، وغيره، هَبْطًا، من باب ضرب: نزل، وفي لغة قليلة: يَهْبُطُ، هبوطًا، من باب قعد. قاله في المصباح. أي نزل النبي صلى الله عليه وسلم (الوادي) منصوب على المفعولية، لأن هبط يتعدى، ويلزم، وهذا من المتعدي، ففي المصباح: وهبطت من
موضع إلى موضع آخر: انتقلت، وهبطت الواديَ، هُبُوطًا: نزلته. انتهى.
(فإِذا هو براعي غنم)"إذا" فجائية، أي ففاجأهُ وجودُ راعي غنم (وإِذا هو بشاة ميتة) وفي رواية أحمد "مَرَّ على سَخْلَةٍ مَنْبُوذة"(قال) صلى الله عليه وسلم (أترون) -بفتح التاء، أي تعلمون، أو بضمها بصيغة المبني للمفعول، أي تظنون (هذه) الشاة المنبوذة (هينة) أي حقيرة (على أهلها؟ قالوا: نعم) أي نرى هوانها عليهم، ولذا نبذوها (قال) صلى الله عليه وسلم (الدنيا) -بضم الدال، وحكى ابن قتيبة كسرها، وهي فُعْلَى من الدنو، أي القرب، سميت بذلك لسبقها للأخرى، وقيل: لدنوها إلى الزوال. اختلف في حقيقتها، فقيل: ما على الأرض من الهواء، والجوّ، وقيل: كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، والأول أولى، لكن يزاد فيه: مما قبل قيام الساعة، ويطلق على كل جزء منها مجازًا، ولفظها مقصور غير منون، وحكي تنوينها. قاله في الفتح جـ 1 ص 23، 24. وهو مبتدأ، خبره قوله: (أهون على الله من هذه) أي من هوان هذه الشاة (على أهلها) فيه بيان حقارة الدنيا، فلا ينبغي لعاقل أن يشتغل بها، إلا بقدر ما لابد له منه. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن رُبَيِّعَةَ رضي الله عنه صحيح. وهو من أفراد
المصنف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا (665)، وفي الكبرى (1629) عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عنه.
وأخرجه في عمل اليوم والليلة رقم (38) عن إسماعيل بن مسعود، عن يزيد بن زريع، عن شعبة به، مختصرًا، ولفظه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يؤذن في سفر قال: الله أكبر، الله أكبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، الله أكبر، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله".
وأخرجه أحمد جـ 4 ص 336 عن وكيع، عن شعبة به.
الثانية: هذا الحديث بهذا السياق هو الموجود في النسخة الهندية، وعزاه بعض من حقق المجتبى إلى النسخة النظامية، وهو الذي
في الكبرى أيضًا، ونحوه لفظ مسند أحمد، إلا أنه ليس فيه قول الحكم: لم أسمع هذا من ابن أبي ليلى.
ولفظ النسخة المصرية هكذا: عن عبد الله بن رُبَيِّعَة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فسمع صوت رجل يؤذن، فقال: مثل قوله، ثم قال:"إن هذا لراعي غنم، أو عازب عن أهله، فنظروا، فإذا هو راعي غنم". والله تعالى أعلم.
الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية الأذان للراعي، وكذا كل من يصلي وحده في الصحراء، أو غيرها.
ومنها: مشروعية متابعة المؤذن فيما يقوله، وسيأتي في بابه، إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك المؤذن ليس معه أحده، فوجد كذلك.
ومنها: بيان حقارة الدنيا، وهوانها على الله تعالى.
ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة الناس إلى الزهد في الدنيا، وأنها مما لا قيمة لها عند الله، فينبغي للمسلم أن يرغب فيما عند الله تعالى. وما عند الله خير وأبقى. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
26 - الأذَانُ لِمَنْ يُصَلِّي وَحْدَهُ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الأذان للشخص الذي يصلي منفردًا.
666 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا عُشَّانَةَ الْمَعَافِرِيَّ حَدَّثَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةِ الْجَبَلِ، يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا، يُؤَذِّنُ، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمد بن سلمة) بن أبي فاطمة المرادي الجملي، أبو الحارث المصري، ثقة، ثبت، توفي سنة 248، من [11] تقدم في 20.
2 -
(ابن وهب) عبد الله المصري، ثقة، حافظ، عابد، من [9] تقدم في 9.
3 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري مولاهم، أبو أيوب المصري، ثقة، حافظ، فقيه، من [7] تقدم في 79.
4 -
(أبو عُشَّانَةَ) -بضم أوله، وتشديد المعجمة، وبعد الألف نون- حَيّ -بفتح أوله، وتشديد التحتانية- بن يُوْمِن -بضم التحتانية، وسكون الواو، وكسر الميم- بن حجيل بن جريج المصري، ثقة، مشهور بكنيته، توفي سنة 118، من [3].
روى عن عبد الله بن عمرو، وعمار بن ياسر، وعقبة بن عامر، ورويفع بن ثابت، وعنه عمرو بن الحارث، والليث، وابن لهيعة، وغيرهم. وقال أحمد، ويحيى: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال ابن لهيعة: حي بن يؤمن رجل من أحبار اليمن، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ولما أخرج حديثه في "صحيحه" قال فيه: من ثقات أهل مصر، ووثقه يعقوب بن سفيان. أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه. والله أعلم.
تنبيه:
قوله: يومن: ضبطه في التقريب بالواو، والذي في أصله، وتهذيب الكمال، والخلاصة: يؤمن، مهموزًا.
تنبيه آخر:
قوله: المَعَافِرِي -بفتح الميم، وكسر الفاء، وراء-: نسبة إلى
المعافر، بطن من قحطان. قاله في لب اللباب جـ 2 ص 264.
5 -
(عقبة بن عامر) الجهني، صحابي مشهور، اختلف في كنيته على سبعة أقوال أشهرها أبو حماد، ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث
سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، توفي قرب 60، تقدم في 144. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.
ومنها: أنه مسلسل بالمصريين.
ومنها: أن فيه الإخبار والتحديث والعنعنة، وكلها من الصيغ المستعملة في الاتصال. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن عقبة بن عامر) الجهني رضي الله عنه، أنه (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يعجب ربك) -بفتح الجيم- من باب تَعِبَ.
قال في النهاية: أي يعظم ذلك عنده، ويكبر لديه، علم الله تعالى أنه إنما يتعجب الآدمي من الشيء إذا عظم موقعه عنده، وخفي عليه سببه، فأخبرهم بما يعرفون، ليعلموا موقع هذه الأشياء عنده، وقيل: معنى عجب ربك: رضي، وأثاب، فسماه عجبًا مجازًا، وليس بعجب في
الحقيقة، والأول أوجه. انتهى. جـ 3 ص 184.
وقال النووي: التعجب على الله محال، إذ لا يخفى عليه أسباب الأشياء، والتعجب إنما يكون مما يخفى سببه، فالمعنى: عظم ذلك،
وكبره، وقيل: معناه الرضا، أي يرضى ربك منه، ويثيب عليه. انتهى.
قال الجامع: هذا الذي قاله صاحب النهاية، والنووي في معنى العجب هنا غير صحيح، بل العجب من الصفات التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة، فهي ثابتة لله تعالى على ما يليق بجلاله، كسائر الصفات التي أثبتها الله تعالى له في كتابه، أو وردت في السنة الصحيحة، من الرضى، والمحبة، والضحك، والنزول، والاستواء، وغيرها، فكلها ثابتة له على المعنى اللائق به سبحانه وتعالى، ولا يلزمنا من إثباتها تشبيهه بالمخلوق، لأنه إنما يلزمنا ذلك، لو قلنا: عجيب كعجبنا، ورضى كرضانا، إلى غير ذلك، وأما إذا أثبتناها كما أثبتها لنفسه، على ما يليق بجلاله، فلا يلزم شيء من التشبيه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. فتبصر. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.
ثم إن الخطاب في قوله: "ربك": إما للراوي، أو لواحد من الصحابة غيره، أو عام لكل من يتأتى منه السماع. كذا في المرقاة (من
راعي غنم في رأس شظية الجبل) بفتح الشين، وكسر الظاء المعجمتين،
وتشديد التحتانية- قطعة مرتفعة في رأس الجبل، وجمعها شظايا، كعطية، وعطايا.
(يؤذن بالصلاة، ويصلي) ولأبي داود "يؤذن للصلاة". والظاهر أن المراد بالأذان هنا ما يشمل الإقامة بدليل ما بعده من قوله:
"يؤذن، ويقيم الصلاة".
وفائدة الأذان مع كونه وحده هو أن يشهد له كل رطب، ويابس، ويغفر له مدى صوته لما تقدم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رقم (644)، وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رقم (645) وأن تصلي معه الملائكة، فيحصل له ثواب الجماعة، لحديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، أنه قال:"لا يكون رجل بأرض قِيّ، فيتوضأ، إن وجد ماء، وإلا يتيمم، فينادي بالصلاة، ثم يقيمها، إلا أمَّ من جنود الله عز وجل ما لا يرى طرفاه، أو طرفه". أخرجه البيهقي، وصحح كونه موقوفًا، قال: وقد روي مرفوعًا، ولا يصح رفعه. انتهى، السنن الكبرى جـ 1 ص 406.
قال الجامع: الموقوف في مثل هذا له حكم الرفع، كما قال السيوطي في ألفيته:
وَمَا أتَى وَمِثْلُهُ بِالرَّأْي لَا
…
يُقَالُ إِذْ عَنْ سَالِفٍ مَا حُمِلا
ولا يقال: إن سلمان يروي عن الكتب السالفة، لأن هذا الحديث يتعلق بما هو من خصوصيات هذه الأمة، من الأذان والإقامة، وصلاة
الجماعة، فلابد أن يأخذه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعه منه.
تنبيه:
قوله: "قِيّ" -بكسر القاف، وتشديد الياء-: فِعْلٌ من القَوَاءِ، وهي الأرض القفر الخالية. قاله ابن الأثير في النهاية.
(فيقول الله عز وجل أي لملائكته (انظروا إِلى عبدي هذا) تعجيب ملائكته الكرام بعد عجبه سبحانه وتعالى لمزيد التفخيم لشأنه، وكذا وصفه بالعبودية، وإضافته إليه سبحانه وتعالى لمزيد التفخيم لشأنه، والإشارة بهذا أيضًا تعظيم على تعظيم (يؤذن، ويقيم الصلاة) منصوب بنزع الخافض، أي للصلاة، تنازع فيه الفعلان.
وقال ابن الملك: أي يحفظ، ويداوم عليها (يخاف مني) أي يفعل ذلك خوفًا مني، لا ليراه أحد. وقال الطيبي: الأظهر أنه جملة مستأنفة، وإن احتمل الحال، فهو كالبيان لعلة عبوديته، واعتزاله عن الناس حَقَّ اعتزال، ولذا آثر الشظية بالرعي فيها.
(قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة) أي حكمت له بدخولها، أو سأدخله فيها، وإنما عبر بالماضي لتحقق وقوعه. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (666)، وفي "الكبرى"(1630) عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي عُشَّانَةَ المَعَافِريّ، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود في الصلاة عن هارون بن معروف، عن ابن وهب، به. وأخرجه أحمد، والبيهقي. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية الأذان لمن يصلي وحده، وإن كان لا يسمعه أحد، وفيه رد على من قال: لا يشرع الأذان إلا لمن يصلي جماعة، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى.
ومنها: كون الأذان سببًا لمغفرة الذنوب، وموجبًا لدخول الجنة.
ومنها: إثبات صفة العجب لله تعالى على ما يليق بجلاله.
ومنها: فضل العبادة في العزلة.
ومنها: فضل رعي الغنم، واعتزال أمور الناس، وهو محمول على أيام الفتن، فرارًا بدينه من الفتن. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه وتوكلت وإليه أنيب.
27 - الإِقَامَةُ لِمَنْ يُصَلِّي وَحْدَهُ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الإقامة لمن يصلي منفردًا.
667 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلاَّدِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزَّرْقِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ فِي صَفِّ الصَّلَاةِ. . . الْحَدِيثَ.
رجال هذا الحديث: ستة
1 -
(علي بن حُجْر) السعدي المروزي، ثقة، حافظ، من صغار [9] تقدم في 13/ 13.
2 -
(إِسماعيل) بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي المدني، ثقة، ثبت، من [8] تقدم في 17.
3 -
(يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد بن رفاعة بن رافع الزُّرَقِيّ) الأنصاري المدني، مقبول، توفي سنة 129، من [6]. (د ت س).
4 -
(علي بن يحيى) بن خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري الزُّرَقيُّ المدني، ثقة، من [4].
روى عن أبيه رفاعة بن رافع، وأبي السائب، وروى عنه ابنه يحيى، ونعيم المجمر، وأبو طوالة، وشريك بن أبي نمر، وإسحاق بن أبي طحة، وهم من أقرانه، وبكير بن الأشج، ومات قبله، وداود بن قيس الفراء، وسعيد بن أبي هلال، وابن إسحاق، وابن عجلان، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وسليمان بن بلال، وآخرون. قال ابن معين، والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 129. ووثقه ابن البرقي، والدارقطني، وغيرهما. أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
5 -
(يحيى بن خلاد) بن رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق العجلاني الأنصاري الزرقي المدني، له رؤية، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، ومات في حدود (70)، وَوَهِمَ من قال: مات بعد المائة، ذاك حفيده يحيى بن علي المتقدم، أخرج له البخاري والأربعة.
روى عن رفاعة بن رافع، وعمر بن الخطاب، وعنه ابنه علي بن يحيى، وابن ابنه يحيى بن علي، إن كان محفوظًا. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو بكر بن أبي عاصم: مات سنة 128. وقال الواقدي: مات سنة 129، فإن صح هذا، وأنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ
120 سنة، أو أكثر. هكذا قال صاحب تهذيب الكمال.
وتعقبه الحافظ، فقال: هذه النتيجة الفاسدة من تلك المقدمة الباطلة، وذلك أن ابن أبي عاصم إنما أرخ وفاة يحيى بن علي بن يحيى ابن خلاد في السنة المذكورة، وأما جده صاحب الترجمة، فلم يتعرض له، وكذلك الواقدي، وذلك واضح في طبقة كاتبه محمد بن سعد، وهكذا قال ابن حبان في أتباع التابعين من الثقات: يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد، مات سنة تسع، ولما ذكر يحيى بن خلاد في طبقة التابعين، قال: روى عنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وابناه علي، وعامر ابنا يحيى بن خلاد.
وإني لأتعجب من مثل هذا الحافظ كيف يتخيل جواز كون شخص يولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويبقى إلى بعد سنة عشر ومائة مع النص الصحيح الثابت في الصحيحين الدال على عدم وقوع ذلك، إذ خبر الصادق عن الأمور الآتية لا يشك فيه، ولا يتخلف. والله أعلم. انتهى. تت جـ 11/ 204، 205.
6 -
(رفاعة بن رافع) بن مالك بن العجلان أبو معاذ الزرقي الأنصاري، شهد بدرًا، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر الصديق، وعبادة بن الصامت، وعنه ابناه: عبيد ومعاذ، وابن أخيه يحيى بن خلاد بن رافع، وابنه علي بن يحيى. وأبوه أول من أسلم من الأنصار، وشهد هو وابنه العقبة. وقال ابن عبد البر: وشهد رفاعة مع
علي: الجمل، وصِفِّين. مات في أول خلافة معاوية. وقال ابن قانع: مات سنة إحدى، أو اثنتين وأربعين. أخرج له الجماعة إلا مسلمًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله ثقات، إلا يحيى بن علي، فمقبول.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه فمروزي.
ومنها: أن فيه رواية الراوي، عن أبيه، عن جده، عن عم أبيه.
تنبيه:
حديث الباب اختصره المصنف هنا، وسيأتي مطولًا برقم 1053، 1136، 1313، 1314. وسنستوفي شرحه هناك، إن شاء الله تعالى. لكن في هذه المواضع كلها لم تذكر الإقامة، وإنما ذُكِرَتْ فيما ساقه في الكبرى في هذا الباب، جـ 1 ص 507، 508، ولفظه:
عن رفاعة بن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس في المسجد يومًا، قال رفاعة: ونحن عنده، إذ جاء رجل كالبدوي، فصلى، فأخف صلاته، ثم انصرف، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"وعليك، فارجع، فإنك لم تصل"، فرجع، فصلى، ثم جاء، فسلم عليه، فقال:"وعليك، فارجع، فصل، فإنك لم تصل"، ففعل
ذلك مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وعليك، فارجع، فإنك لم تصل"، فعاث الناس، وكبر ذلك عليهم أن يكون مَنْ أخف في صلاته لم يصل، فقال الرجل في آخر ذلك: فأرني، أو علمني، فإنما أنا بشر أصيب وأخطىء، فقال للرجل:"إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد، فأقم، ثم كبر، فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله وكبره، وهلله، ثم اركع، فاطمئن راكعًا، ثم اعتدل قائمًا، ثم اسجد، فاعتدل ساجدًا، ثم اجلس، فاطمئن جالسًا، ثم قم، فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئا انتقص من صلاتك، ولم تذهب كلها".
وقول المصنف هنا (الحديث) يحتمل الرفع على الابتداء، ويقدر خبره، أي الحديث مذكور بتمامه في محل آخر، والنصب، على أنه مفعول لفعل محذوف، أي اقرأ الحديث كله، والجر بتقدير جارٍ، أي اقرأ ما ذكر إلى آخر الحديث. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
28 - كَيْفَ الإِقَامةُ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على كيفية الإقامة.
وموضع الاستدلال من الحديث واضح من قوله: "والإقامة مرة مرة".
668 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ، مُؤَذِّنَ مَسْجِدِ الْعُرْيَانِ، عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى مُؤَذِّنِ مَسْجِدِ الْجَامِعِ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الأَذَانِ؟ فَقَالَ: "كَانَ الأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَثْنَى مَثْنَى، وَالإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً، إِلاَّ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَالَهَا مَرَّتَيْنِ، فَإِذَا سَمِعْنَا قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ تَوَضَّأْنَا، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الصَّلَاةِ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(عبد الله بن محمد بن تميم) بن أبي عمر، مولى بني هاشم، أبو حميد المصيصي، قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، من [11] من أفراد المصنف.
2 -
(حجاج) بن محمد المصيصي الأعور، ثقة، ثبت، من [9] تقدم في 32.
3 -
(شعبة) بن الحجاج، الإمام الحجة الثبت، الواسطي، ثم البصري، من [7] تقدم في 26.
4 -
(أبو جعفر) محمد بن إبراهيم بن مسلم المؤذن الكوفي، صدوق يخطئ، من [7] أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي، تقدم في 628.
5 -
(أبو المثنى) مسلم بن المثنى، ويقال: ابن مهران بن المثنى المؤذن الكوفي، ويقال: اسمه مهران، ثقة، من [4] أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي، تقدم في 628.
6 -
(ابن عمر) عبد الله الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 12. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
حديث ابن عمر هذا حديث حسن، وتقدم للمصنف برقم (628) مختصرًا، وقدمنا الكلام عليه هناك، فارجع إليه تستفد.
(قوله: مسجد العريان) -بضم العين المهملة، وسكون الراء- لم أعرف هذا المسجد، وذكر ابن حبان في صحيحه جـ 2 ص 93: أن أبا جعفر هذا هو إمام مسجد الأنصار بالكوفة. انتهى، ولعل هذا المسجد يسمى بمسجد العريان. والله أعلم.
(قوله: مسجد الجامع) هكذا نسخ "المجتبى" بالإضافة، والذي في الكبرى "المسجد الجامع" بالوصفية، والإضافة فيه تكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وهو جائز عند الكوفيين، ومنعه البصريون؛ لكونه من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وأوَّلُوا ما ورد من ذلك، كحِبَّة الحَمْقَاء، وصلاة الأولى، ومسجد الجامع، بأنه على حذف مضاف موصوف بتلك الصفة، والأصل: حبة البقلة الحمقاء، وصلاة الساعة الأولى، ومسجد المكان الجامع، ونحو ذلك. قال في الخلاصة:
وَلا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ
…
مَعْنَىً وَأوِّلْ مُوهِمًا إِذاَ وَرَدْ
انظر تفاصيل المسألة في شرح هذا البيت لابن عقيل، مع حاشية الخضري جـ 2 ص 6.
(قوله: إِلا أنك إِذا قلت: قد قامت الصلاة، قالها مرتين)
قال السندي رحمه الله: الظاهر "قلتها" بالخطاب، والموجود في نسختنا "قالها" بالغيبة، وهو إما على الالتفات، أو حذف الجزاء، وإقامة علته مقامه، أي كررت، لأن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم قالها مرتين. انتهى.
تنبيه:
وقع في نسخة "الكبرى" في هذا السند خطأ، فإنه قال: عن شعبة،
قال: سمعت أبا جعفر مؤذن المسجد الجامع، عن ابن عمر
…
إلخ، والصواب: عن شعبة، قال: سمعت أبا جعفر، عن أبي المثنى مؤذن المسجد الجامع، عن ابن عمر، فأبو المثنى هو مؤذن المسجد الجامع، لا أبو جعفر، فتنبه. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
29 - إِقَامَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الإقامة لكل واحد من المصلين.
والظاهر أن المصنف رحمه الله تعالى يرى الإقامة لكل واحد من المصلين لنفسه، كما أن ظاهر ما تقدم له (7/ 634) من قوله:"أذان المنفردين في السفر" ثم أورد حديث مالك بن الحويرث المذكور أنه يرى الأذان لكل واحد منهم إذا كانوا مسافرين.
لكن هذا عندي غير صحيح، لأن في حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه ما يرد هذا، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"، والمصنف حمل هذا على الحضر، والأول على السفر، ولكن هذا الفرق غير صحيح، بل السفر والحضر في هذا سواء، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر كثيرًا، فإذا جاء وقت الصلاة كان يأمر مؤذنًا واحدًا فيؤذن، فيصلي بأذانه كل من حضر، ولم يأمر كل أحد أن يؤذن لنفسه، وعلى هذا فيكون معنى قوله هنا "فأذنا، ثم أقيما" أي ليؤذن من شاء منكما، ثم ليقم هو، كما تقدم تحقيقه في 7/ 628، فتبصر. وبالله تعالى التوفيق.
669 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ،
قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِصَاحِبٍ لِي: "إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَأَذِّنَا، ثُمَّ أَقِيمَا، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمَا أَحَدُكُمَا".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(علي بن حجر) السعدي، تقدم قبل باب.
2 -
(إِسماعيل) بن إبراهيم المعروف بابن علية البصري، ثقة، حافظ، من [8] تقدم في 19.
3 -
(خالد الحذاء) بن مهران البصري، ثقة، حافظ، من [5] تقدم في 643.
4 -
(أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي البصري، ثقة، فاضل، من [3] تقدم في 322.
5 -
(مالك بن الحويرث) أبو سليمان الليثي، صحابي، نزل البصرة، تقدم في 634.
والحديث متفق عليه، ومضى شرحه، والكلام عليه مستوفى برقم (634)، فارجع إليه تستفد، والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
30 - فَضْلُ التَّأذِينِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على فضل التأذين.
والتأذين مصدر أذن -بالتشديد- وهو مخصوص في الاستعمال بإعلام وقت الصلاة، ومنه أخذ أذان الصلاة. وقال الجوهري: والأذِين مثله. وقد أذن أذانًا، وأما الإيذان، فهو من آذن، على وزن أفعل، ومعناه الإعلام مطلقًا. قاله العيني في عمدته جـ 5 ص 111.
وإنما راعى المصنف -كالبخاري- لفظ "التأذين" لوروده في حديث الباب.
وقال الزين بن المُنيِّر: التأذين يتناول جميع ما يصدر عن المؤذن، من قول، وفعل وهيئة، وحقيقة الأذان تعقل بدون ذلك. كذا قال.
قال الحافظ: والظاهر أن التأذين هنا أطلق بمعنى الأذان، لقوله في الحديث:"حتى لا يسمع التأذين" وفي رواية لمسلم: "حتى لا يسمع صوته"، فالتقييد بالسماع لا يدل على فعل، ولا على على هيئة، مع أن ذلك هو الأصل في المصدر. انتهى. فتح جـ 2 ص 101. ونحوه للعيني. والله تعالى أعلم.
670 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الْمَرْءُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت، من [10] تقدم في 1.
2 -
(مالك) بن أنس، الإمام الفقيه الحجة المدني، من [7] تقدم في 7.
3 -
(أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان المدني، ثقة فقيه، من [5] تقدم في 7.
4 -
(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز أبو داود المدني، ثقة ثبت عالم، من [3] تقدم في 7.
5 -
(أبو هريرة) الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات حفاظ، اتفق الأئمة على إخراج أحاديثهم.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني.
ومنها: أنه نقل عن البخاري أنه قال: أصح أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه أبو الزناد، عن الأعرج، عنه. انظر شرحي لألفية السيوطي في الحديث جـ 1 ص 33.
ومنها: أن أبا هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة رواية، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذا نودي للصلاة) أي إذا أذن لأجل الصلاة، وفي رواية "بالصلاة" بالباء، قال الحافظ: ويمكن حملهما على معنى واحد.
وقال البدر العيني: تكون الباء للسببية كما في قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]، أي بسبب ذنبه، وكذلك المعنى هنا بسبب الصلاة، ومعنى التعليل قريب من معنى السببية. انتهى.
وفي الطرح: وكلاهما صحيح، يقال: نودي للصلاة، وبالصلاة، وإلى الصلاة، قال الله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]، وقال تعالى:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 58]. انتهى.
(أدبر الشيطان) الإدبار: نقيض الإقبال، يقال: دَبَرَ، وأدبر: إِذَا وَلَّى، والألف واللام في الشيطان للعهد، والمراد الشيطان المعهود.
قاله العيني. جـ 5 ص 111. وقال في الفتح: الظاهر أن المراد بالشيطان إبليس، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان، وهو كل متمرد من الجن والإنس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة. انتهى. جـ 2 ص 152.
(وله ضراط) جملة في محل نصب على الحال من الشيطان.
والضراط -بالضم- اسم من ضَرِطَ، يضْرَطَ، من باب تعب، ضَرِطًا، مثل كَتِفَ، فهو ضَرِطٌ، وضَرَطَ، ضَرْطًا، من باب ضرب لغة، قاله في المصباح، وهو ريح له صوت، يخرج من دبر الإنسان، وغيره. قاله في المنهل جـ 4 ص 175.
ثم إن خروج الضراط من الشيطان حقيقة، كما قاله القاضي عياض رحمه الله، لأنه جسم يأكل ويشرب، كما جاء ذلك في الأخبار الصحيحة.
وقال العيني: هذا تمثيل لحال الشيطان عند هروبه من سماع الأذان بحال من خرقه أمر عظيم، واعتراه خطب جسيم، حتى لم يزل
يحصل له الضراط من شدة ما هو فيه، لأن الواقع في شدة عظيمة؛ من خوف، وغيره تسترخي مفاصله، ولا يقدر على أن يملك نفسه، فينفتح منه مخرج البول والغائط.
ولما كان الشيطان لعنه الله يعتريه شدة عظيمة، وداهية جسيمة عند النداء إلى الصلاة، فيهرب حتى لا يسمع الأذان؛ شبه حاله بحال ذلك الرجل، وأثبت له على وجه الادِّعَاء الضراط الذي ينشأ من كمال الخوف الشديد، وفي الحقيقة ما ثَمَّ ضراط، ولكن يجوز أن يكون له ريح، لأنه روح، ولكن لم تعرف كيفيته. وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عند سماع الأذان بالصوت الذي يملؤ السمع، ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطًا تقبيحًا له. انتهى عمدة القاري جـ 5 ص 111.
قال الجامع: ما قاله العيني من نفي الضراط، وأن الكلام خرج مخرج التمثيل فقط، غير صحيح، بل الصواب أن الضراط ثابت كما أثبته هذا الحديث الصحيح، وأيُّ مانع يمنع منه، حتى يصرف النص الصريح عن ظاهره. فتبصر، والله الهادي إلى الصواب.
(حتى لا يسمع التأذين) علة للضراط، أي إنما يفعل ذلك ليشغل نفسه عن سماع الأذان، لئلا يشهد للمؤذن يوم القيامة، لما تقدم برقم (644) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة".
وهو داخل فيه، وقيل: حتى غاية لإدباره. قاله العيني.
قال الجامع: الأول أقرب إلى المعنى، إذ الظاهر في سبب هروبه عن الأذان، مع أنه لا يهرب عن القرآن، وهو أفضل من الأذان: هو الابتعاد عن إلزامه الشهادة للمؤذن، كما دل عليه حديث أبي سعيد، فيكون خروج الضراط منه حين هروبه من أجل خوفه وصولَ صوت المؤذن خلالَ هروبه، فظهر كون قوله:"حتى لا يسمع" علة للضراط. والله أعلم.
وقال في "الفتح": قوله: حتى لا يسمع التأذين، ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك، إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا، كما يفعله السفهاء. ويحتمل أن لا يتعمد ذلك، بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها. ويحتمل أن يتعمد ذلك، ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث.
واستدل به على استحباب رفع الصوت بالأذان؛ لأن قوله: "حتى لا يسمع" ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد وقع بيان الغاية في رواية لمسلم من حديث جابر، فقال:"حتى يكون مكانَ الرَّوْحَاء"، وحَكَى الأعمشُ عن أبي سفيان، راويه عن جابر أن بين المدينة والروحاء ستة وثلاثين ميلًا. هذه رواية قتيبة، عن جرير، عند مسلم، وأخرجه عن إسحاق، عن جرير، ولم يسق لفظه، ولفظ
إسحاق في مسنده "حتى يكون بالروحاء، وهي ثلاثون ميلًا من المدينة"، فأدرجه في الخبر، والمعتمد رواية فتيبة. انتهى. فتح جـ 2 ص 102.
(حتى إِذا قضي النداء)"قضي" -بالبناء للمفعول- والنداء بالرفع نائب فاعله، ويروى بالبناء للفاعل، والفاعل على هذا ضمير يعود إلى المنادي المدلول عليه "بنودي"، والنداء منصوب على المفعولية.
والقضاء يأتي لمعان كثيرة، وهو هنا بمعنى الفراغ، تقول: قضيت حاجتي، أي فرغت منها، أو بمعنى الانتهاء. أفاده العيني.
والنداء بكسرالنون، وضمها لغتان، الأولى أشهر وأفصح: هو الأذان. انتهى طرح جـ 2 ص 197.
وقال في الفتح: واستدل به على أنه كان بين الأذان والإقامة فصل، خلافًا لمن شرط في إدراك فضيلة أول الوقت أن ينطبق أول التكبير على أول الوقت. انتهى.
(حتى إِذا ثُوِّبَ بالصلاة) بضم المثلثة، وتشديد الواو المكسورة: أي أقيم للصلاة، والتثويب هنا بمعنى الإقامة.
ومعنى التثويب في الأصل: الإعلام بالشيء، والإنذار بوقوعه، وأصله أن يُلَوِّحَ الرجُلُ لصاحبه بثوبه، فيُدِيرَهُ عند أمر يُرْهِقُه من خوف، أو عدو، ثم كثر استعماله في كل إعلام يجهر به، وإنما سميت
الإقامة تثويبًا، لأنه عود إلى النداء، من ثاب إلى كذا: إذا عاد إليه. أفاده في عمدة القاري جـ 5 ص 112.
وقال في الطرح: ولا يمكن أن يكون المراد بالتثويب هنا قول المؤذن: الصلاة خير من النوم مرتين، وإن كان يسمى تثويبًا، لأمرين:
أحدهما: أن هذا خاص بأذان الصبح، والحديث عام في كل أذان.
والثاني: أن الحديث دل على أن هذا التثويب يتخلل بينه وبين الأذان فصل، يحضر فيه الشيطان، والتثويب الذي في الصبح لا فصل بينه وبين الأذان، بل هو في أثنائه.
وأصل التثويب: أي يجيء الرجل مُستَصْرِخًا، فيلوح بثوبه، لِيُرَى، ويَشْتَهِرَ، فسمي الدعاء تثويبًا لذلك، وكل داع مُثَوِّبٌ.
وقيل: إنما سمي تثويبًا، من ثاب يثوب: إذا رجع، فالمؤذن رجع بالإقامة إلى الدعاء للصلاة. قال عبد المطلب [من الوافر]:
فَحَنَّتْ نَاقَتِي، فَعَلِمْتُ أنِّي
…
غَرِيبٌ حِينَ ثَابَ إِلَيَّ عَقْلِي
وقال غيره [من الخفيف]:
لَوْ رأَيْنَا التَّأْكِيدَ خُطَّةَ عَجْزٍ
…
مَا شَفَعْنَا الأذَانَ بِالتَّثْوِيبِ
قال ابن عبد البر رحمه الله: يقال: ثوب الداعي: إذا كرر دعاءه
إلى الحرب.
قال حسان رضي الله عنه[من البسيط]:
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الْهِنْدِ أَوْجُهُهُم
…
لا يَنْكُلُونَ إِذاَ مَا ثَوَّبَ الدَّاعِي
وقال آخر [من الوافر]:
لَخَيْرٌ نَحنُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْكُمْ
…
إِذا الدَّاعِي المثَوِّبُ قَالَ: يَالَا
انتهى. طرح التثريب في شرح التقريب جـ 2 ص 197 - 198.
وقال في الفتح: قال الجمهور: المراد بالتثويب هنا الإقامة، وبذلك جزم أبو عوانة في صحيحه، والخطابي، والبيهقي، وغيرهم.
قال القرطبي: ثُوِّبَ بالصلاة: إذا أقيمت، وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان، وكل من ردد صوتًا، فهو مثَوِّبٌ، ويدل عليه رواية مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة "فإذا سمع الإقامة ذهب".
وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة "حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة"، وحكى ذلك ابن المنذر، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، وزعم أنه تفرد به، لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة، فهذا يدل على أن له سلفًا في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص.
وقال الخطابي: لا يعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن في الأذان "الصلاة خير من النوم" لكن المراد به في هذا الحديث الإقامة. والله أعلم. انتهى. فتح جـ 2 ص 102.
(حتى إِذا قضي التثويب أقبل) زاد مسلم في رواية أبي صالح، عن أبي هريرة:"فوسوس". (حتى يخطر) -بضم الطاء وكسرها- لغتان، حكاهما القاضي عياض في المشارق، قال: ضبطناه عن المتقنين بالكسر، وسمعناه من أكثر الرواة بالضم، قال: والكسر هو الوجه، ومعناه: يوسوس، وهو من قولهم: خَطَرَ الفحلُ بذنبه: إذا حركه، يضرب به فخذيه، وأما بالضم، فمن السلوك، والمرور، أي يدنو منه، فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه. وبهذا فسره الشارحون للموطأ، فقال الباجي: معناه أنه يحول بين المرء، وبين ما يريد من نفسه، من إقباله على صلاته، وإخلاصه، وبالأول فسره الخليل. انتهى. طرح جـ 2 ص 198.
وقال في الفتح: وضعف الحجري في نوادره الضم مطلقًا، وقال: هو يخطر بالكسر في كل شيء. انتهى. جـ 2 ص 102.
(بين المرء ونفسه) أي قلبه، يعني أنه يحول بين المرء، وبين ما يريده من إقباله على صلاته، وإخلاصه فيها.
قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله: وبهذا التفسير -يعني تفسير النفس بالقلب- يحصل الجواب عما قيل: كيف يتصور خطوره
بين المرء ونفسه، وهما عبارتان عن شيء واحد، وقد يجاب بأن يكون تمثيلًا لغاية قربه منه. انتهى. "عمدة القاري" جـ 5 ص 112.
فائدة:
المرء: الإنسان، وفيه سبع لغات: فتح الميم، وضمها، وكسرها، وتغيرها باعتبار إعراب اللفظة، فإن كانت مرفوعة، فالميم مضمومة، وإن كانت منصوبة، فالميم مفتوحة، وإن كانت مجرورة، فالميم مكسورة، والخامسة، والسادسة، والسابعة: امرؤ، بزيادة همزة الوصل، مع ضم الراء في سائر الأحوال، ومع فتحها في سائر الأحوال، ومع تغيرها باعتبار حركات الإعراب. حكاهن في الصحاح، إلا اللغة الثالثة، والرابعة، فحكاهما في المحكم، وأنشد قول أبي خِرَاش [من الطويل]:
جَمَعْتَ أُمُورًا يُنْفِذُ المِرْأَ بَعْضُها
…
مِنَ الحِلْمِ وَالمعْرُوفِ وَالحَسَبِ الضَّخْمِ
وقال: هكذا رواه السكري، بكسر الميم، وزعم أن ذلك لغة هذيل. انتهى. ويُثَنَّى، فيقال: المرءان، ولا جمع له من لفظه، كما ذكره صاحبا الصحاح والمحكم، وقال في المشارق: والجمع مرءون، ومنه في الحديث:"أيها المرءون"، وذكر صاحب النهاية تبعًا للهروي حديث الحسن "أحسنوا ملأكم أيها المرءون"، وقال: هو جمع المرء، قال: ومنه قول رؤبة لطائفة رآهم: أين يريد المرءون. وقال في الصحاح: وبعضهم يقول: هذه مَرْأة صالحة، ومَرَةٌ أيضًا، بترك
الهمز، وتحريك الراء بحركتها، وهذه امرأة، مفتوحة الراء على كل حال. انتهى. طرح جـ 2 ص 198 - 199. وقد أشبع الكلام في هذا صاحب اللسان، فراجعه جـ 5 ص 4166.
(يقول: اذكر كذا، اذكر كذا) هكذا مكررًا بدون عطف في أكثر النسخ، ووقع في بعضها "اذكر كذا" بدون تكرار، والأُولى رواية البخاري، وأبي داود، ولمسلم "واذكر كذا" بالعطف، وهي أيضًا للبخاري في رواية كريمة، وزاد مسلم من رواية عبد ربه، عن الأعرج "فَهَنَّاه، ومَنَّاهُ، وذكَّرَهُ من حاجته ما لم يَذْكُرْ".
(لما لم يكن يَذْكرُ) ولمسلم "لما لم يكن يذكر من قبل"، أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة.
قال في الفتح: ومن ثم استنبط أبو حنيفة للذي شكا إليه أنه دفن مالًا، ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي، ويحرص أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا، ففعل، فذكر مكان المال في الحال.
قال الجامع: في هذا الاستنباط، والحكاية المذكورة عندي نظر، سيأتي في المسائل إن شاء الله تعالى.
قيل: خصه بما يعلم، دون ما لا يعلم، لأنه يميل لما يعلم أكثر، لتحقق وجوده، والذي يظهر أنه أعم من ذلك، فيُذَكِّرُه بما سبق له به علم، ليشتغل باله به، وبما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه، وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا، أو في أمور الدين كالعلم،
لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها؟ لا يبعد ذلك؛ لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان. انتهى.
قال الجامع: وفي جعله التفكر في معاني الآيات التي يقرؤها ونحو ذلك من هذا القسم الذي هو من وسوسة الشيطان نظر، إذ هو
من مقاصد الصلاة؛ لأن ذلك يحمله على الخشوع والإخلاص. فتنبه. والله أعلم.
(حتى يظل المرء إِن يدري كم صلى) غاية لوسوسة الشيطان، أي أنه يوسوس للرجل حتى يصير لا يدري كم صلى من الركعات، أثلاثًا، أم أربعًا.
و"يظل" بالظاء المشالة المفتوحة- ومعنى "يظل" في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا، لكنها هنا بمعنى يصير، كما في قوله تعالى:{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58] وقيل: معناه يبقى ويدوم.
وأشار بعضهم إلى أنه وقع في إحدى نسخ النظامية، وهي رواية الأصيلي في صحيح البخاري "حتى يضل" بكسر -الضاد المعجمة- من باب ضرب، من الضلال، أي ينسى، ومنه قوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] أو بفتحها من باب تعب، أي يخطئ، ومنه قوله تعالى:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]، والمشهور الأول. أفاده في "الفتح".
وقال في "الطرح": المشهور في الرواية "حتى يظل الرجل إن يَدْرِي كم صلى" -بفتح الظاء من يظل"، وكسر "إن"، فيظل إحدى
نواسخ الابتداء، ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ومعناها في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارًا، وهي هنا بمعنى يصير، كما في قوله تعالى:{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58]، وقيل: بمعنى يبقى، ويدوم، وإن نافية، ويدل على ذلك قوله في رواية البخاري "لا يدري" وفي رواية مسلم "ما يدري" والثلاثة حروف نفي.
وقال ابن عبد البر: الرواية في "أن" ها هنا عند أكثرهم بالفتح، فيكون حينئذ لا يدري، وكذلك رواه جماعة عن مالك حتى يظل لا
يدري كم صلى"، ومن رواها بكسر الهمزة، فمعناه: ما يدري كم صلى، وإن بمعنى "ما" كثير. انتهى.
واعترضه بعضهم، فقال: وهذا غير صحيح، لأن "أن" لا تكون نفيًا، ولا أعلم أحدًا من النحويين حكى ذلك، والوجه في هذه الرواية "أنْ يدري" بفتح الياء من "يدري"، وتكون "أن" هي الناصبة للفعل، ويكون "يضل" بضاد غير مشالة، من الضلال الذي هو الحيرة، كما يقال: ضل عن الطريق، فكأنه قال: يَحَارُ الرجلُ، ويَذْهَلُ عن أن يدري كم صلى، فتكون أن في موضع نصب بسقوط حرف الجر، ويجوز أن يكون من الضلال الذي يراد به الخطأ، فتكون الضاد مكسورة، كقوله:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] وتكون أن في موضع نصب على المفعولية "لضَلَّ"، لأن ضل التي بمعنى أخطأ لا يحتاج تعديها إلى حرف الجر، قال طرفة [من الطويل]:
وَكَيْفَ يَضِلُّ القَصْدَ وَالحَقُّ وَاضِحٌ
…
وَلِلْحَقِّ بَيْنَ الصَّالِحِينَ سَبِيلٌ
قال: ولو روي "حتى يُضِلَّ الرجلَ أنْ يَدري كم صلى" لكان وجهًا صحيحًا، يريد به حتى يُضِلَّ الشيطانُ الرجلَ عن دراية كم صلى، ولا أعلم أحدًا رواه كذا، لكنه لو روي لكان وجهًا صحيحًا في المعنى، غير خارج عن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
قال الحافظ العراقي رحمه الله: وما أدري ما وجه تفرقة ابن عبد البر بين "ما" و"لا"، فجعل رواية الفتح بمعنى "لا"، ورواية الكسر بمعنى "ما"، مع أن "لا"، و"ما" بمعنى واحد. ثم إنه -أعني ابن عبد البر- لا يعرف قوله "يظل" إلا بالظاء المشالة، ولا يتجه مع ذلك في "أن" إلا الكسر، ولا يتجه فيها الفتح، إلا مع الضاد الساقطة كما حكيناه عن بعضهم وهي رواية، قال القاضي عياض: حكى الداودي أنه روي "يضل" بالضاد، بمعنى ينسى، ويذهب وهمه، قال الله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، وما حكيته عن ابن عبد البر من ضبطه "أنْ" هنا بالفتح وافقه عليه الأصيلي، فضبطه بالفتح في صحيح البخاري، وما حكيته عن المعترض عليه، ذكره أيضًا القاضي عياض، فقال: ولا يصح تأويل النفي، وتقدير "لا" مع الفتح، وإنما يكون بمعنى "ما"، والنفي مع الكسر، قال: وفتحها لا يصح، إلا على رواية من روى "يضل" بالضاد، فتكون "أن" مع الفعل بعدها بتأويل المصدر مفعول "ضل" أي يجهل درايته، وينسى عدد ركعاته. انتهى.
وما ذكره ابن عبد البر من أن أكثرهم على الفتح معارض بنقل القاضي عياض أن أكثرهم على الكسر، وهو المشهور المعروف.
قال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله: وما حكاه والدي رحمه الله عن ابن عبد البر أنه قال: الوجه "حتى يضل" الرجل أن يدري بفتح "أن" الناصبة، وبالضاد المكسورة، لم أره في كلامه، إنما تعرض لفتح الهمزة في أن، ولم يذكر كون الضاد ساقطة، هذا هو الذي وقفت عليه في الاستذكار، والتمهيد، فإما أن يكون الشيخ وقف على هذا الكلام في موضع آخر، وإما أن يكون خرَّج على ما ذكره ابن عبد البر في فتح الهمزة أن يكون "يضل" بالضاد الساقطة، وألزمه ذلك، إذ لا يمكن مع فتح الهمزة أن يكون يظل بالظاء المشالة. انتهى. طرح جـ 2 ص 199 - 201. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا من رواية الأعرج عنه متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان موضع ذكره عند المصنف:
أخرجه هنا (670)، وفي "الكبرى"(1634) عن قتيبة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرج معه البخاري ومسلم وأبو داود.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك به.
وأخرجه مسلم فيه عن قتيبة، عن المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، عن أبي الزناد به.
وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك به.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو فضل التأذين، وعظم قدره، حيث إن الشيطان يهرب منه، ولا يهرب عند قراءة القرآن في الصلاة التي هي أفضل الأحوال، بدليل قوله:"فإذا قضي التثويب أقبل"، ويكفي هذا في فضل الأذان. قاله العراقي.
ومنها: أن الشيطان يتأذى منه، فلا يستطيع سماعه.
ومنها: أن الشيطان له تسلط على الإنسان بالوسوسة حتى في حال الصلاة، وأنه شديد الحرص على الإضرار به، فيجب الحذر منه.
ومنها: أن للشيطان ضراطًا على حقيقته، كما تقدم تحقيقه، ولا حاجة إلى ما تكلف له بعضهم بتأويله.
ومنها: أن الإقامة يقال لها: التثويب، وهي مشروعة، وما
تقدم في كون التثويب بدعة كما نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما هو ما كان بين الأذان والإقامة من قوله: حي علي الصلاة، حي على الفلاح، ونحو ذلك.
ومنها: أن التفكر في الصلاة، والسهو لا يبطلها، وهو إجماع.
المسألة الخامسة: أنه يدل هذا الحديث على أنه كان في زمنه صلى الله عليه وسلم يفصل بين الأذان والإقامة بزمن، وذلك دليل على أنه لا يشترط في تحصيل فضيلة إيقاع الصلاة في أول وقتها انطباق أولها على أول الوقت، إذ لو كان كذلك لما واظبوا على ترك هذه الفضيلة، وهذا هو الصحيح المعروف، وقيل: لا يحصل ذلك إلا بأن ينطبق أول التكبيرة على أول الوقت، وهو شاذ، وهذا الحديث يدل على خلافه، قاله في طرح جـ 2 ص 204. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: أنه يستدل به على استحباب رفع الصوت بالأذان، فإنه ذكر فيه أنه إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان، وله ضراط إلى غاية لا يسمع فيها الأذان، فدل على أنه كلما زاد في رفع صوته زاد الشيطان في الإبعاد، ولا شك في استحباب فعل الأمور التي تبعد الشيطان، وتطرده، وقد دل هذا الحديث على أن زيادة الرفع زيادة له في الإبعاد، إلا أنه يحتمل أن يقال: قوله: "حتى لا يسمع التأذين" ليس غاية للإبعاد في الإدبار، بل غاية للزيادة في الضراط.
والمراد أنه يقصد بما يفعله من ذلك تصميم أذنه عن سماع صوت
المؤذن، لكن يدل على زيادته في الإبعاد ما رواه مسلم في صحيحه من رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء" قال سليمان -يعني الأعمش- فسألته عن الروحاء؟ فقال: هي من المدينة ستة وثلاثون ميلًا. انتهى طرح.
قال الجامع: قد تقدم أن الأقرب كون الضراط علة لعدم سماعه الأذان، على أنه لا مانع من اجتماع الأمرين في حصول الضراط. فتنبه. والله أعلم.
المسألة السابعة: أنه اختلف العلماء في الحكمة في إدبار الشيطان وهروبه عند سماع الأذان والإقامة، دون سماع القرآن والذكر في الصلاة، فقال المهلب: إنما يهرب -والله أعلم- من اتفاق الكل على الإعلان بشهادة التوحيد، وإقامة الشريعة، كما يفعل يوم عرفة، لما يرى من اتفاق الكل على شهادة التوحيد لله تعالى، وتنزل الرحمة، فييأس أن يردهم عما أعلنوا به من ذلك، ويوقن بالخيبة بما تفضل الله تعالى عليهم من ثواب ذلك، ويذكر معصية الله، ومضادته أمره، فلا يملك الحدث، لما حصل له من الخوف. انتهى. وذكر القاضي عياض نحوه.
وقيل: إنما أدبر عند الأذان لئلا يسمعه، فيضطر إلى أن يشهد له بذلك يوم القيامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع مدى صوت المؤذن جن،
ولا إنس، ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة. وهذا قد حكاه النووي عن العلماء، وهو مبني على أن الكافر يدخل في هذه الشهادة، وهو الصحيح.
وحكى القاضي عياض قولًا أن الكافر لا يدخل في هذه الشهادة، لأنه لا شهادة له، وقال: لا يقبل هذا من قائله، لما جاء في الآثار من خلافه.
وقال ابن عبد البر: إنما يفعل ذلك لما يلحقه من الذعر، والخزي عند الله، وذكرُ الله تعالى في الأذان تفزغ منه القلوب ما لا تفزع من شيء من الذكر، لما فيه من الجهر بالذكر، وتعظيم الله تعالى فيه، وإقامة دينه، فيدبر الشيطان، لشدة ذلك على قلبه. انتهى.
وقال بعضهم: سبب إدباره عظم أمر الأذان، لما اشتمل عليه من قواعد التوحيد، وإظهار شعار الإسلام، وإعلانه.
وقيل: ليأسه من الوسوسة عند الإعلان بالتوحيد.
وقيل: لأنه دعاء إلى الصلاة التي فيها السجود الذي امتنع من فعله لمَّا أُمِرَ به. قال ابن بطال: وليس بشيء، لأنه عليه الصلاة والسلام قد أخبر أنه إذا قضي التثويب أقبل يذكره ما لم يذكر، يخلط عليه صلاته، وكان فراره من الصلاة التي فيها السجود أولى لو كان كما زعموا. انتهى.
قال القاضي عياض: ولا يلزم هذا الاعتراض إذ لعل نفاره إنما كان من سماع الأمر والدعاء بذلك، لا من رؤيته ليغالط نفسه أنه لم يسمع دعاء، ولا خالف أمرًا.
قال العراقي: أحسن ما ذكره القاضي عياض في جواب اعتراض ابن بطال أن نفرته عند الأذان إنما هو تصميم على مخالفة أمر الله، واستمرار على معصيته، وعدم الانقياد إليه، والاستخفاف بأوامره، فإذا دعى داعي الله فر منه، وأعرض عنه، واستخف به، فإذا حضرت الصلاة حضر مع المصلين غير مشارك لهم في الصلاة، بل ساعيًا في إبطالها عليهم، وهذا أبلغ في المعصية والاستخفاف مما لو غاب عن الصلاة بالكلية، فصار حضوره عند الصلاة من جنس نفرته عند الأذان، ومن مهيع واحد، ومقصوده بالأمرين الاستخفاف بأوامر الله تعالى، وعدم الانقياد إليها، كما ذكرته. والله أعلم. انتهى طرح جـ 2 ص 201 - 202.
وفي "الفتح": وقيل: إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة.
واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي.
وأجيب بأن الإعلان أخص من الاتفاق، فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير، والتلاوة مثلًا، ولهذا قال لعبد الله بن زيد "ألقه على بلال، فإنه أندى صوتًا منك" أي أقعد
في المدّ والإطالة والإسماع، ليعم الصوت، ويطول أمد التأذين، فيكثر الجمع، ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة، أو إخراجها عن وقتها، أو وقت فضليتها، فيفر حينئذ، وقد ييأس عن أن يردهم عما أعلنوا به، ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى والوسوسة.
وقال ابن الجوزي: على الأذان هيبة يشتد انزعاج الشيطان بسببها؛ لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء، ولا غفلة عند النطق به، بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها، فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة، وقد ترجم عليه أبو عوانة "الدليلُ على أن المؤذن في أذانه، وإقامته منفي عنه الوسوسة، والرياء، لتباعد الشيطان منه".
وقيل: لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ، هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها، ولا ينقص منها، بل تقع على وفق الأمر، فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط، فيتمكن الخبيث من المفرط، فلو قدر أن المصلي وَفَى بجميع ما أمر به فيها لم يقربه، إذا كان وحده، وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله، فإنه يكون أندر. أشار إليه ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى. انتهى. فتح جـ 2 ص 103 - 104. والله تعالى أعلم.
المسألة الثامنة: أنه قد يستدل بهذا الحديث على أن الأذان أفضل من الإمامة، قال العراقي: وهو الذي صححه النووي، خلافًا للرافعي، فإنه صحح أفضلية الإمامة، وعن أحمد روايتان، قال:
وفي المسألة لأصحابنا -يعني الشافعية- وجه ثالث، وهو أنه إن قام بحقوق الإمامة كانت أفضل من الأذان، وإلا فهو أفضل، قال به أصحابنا، أبو علي الطبري، والقاضيان، ابن كج، والحسين، والمسعودي، ويوافقه قول الشافعي رحمه الله: أحب الأذان، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم اغفر للمؤذنين"، وأكره الإمامة للضمان، وما على الإمام فيها، وإذا أم انبغى أن يتقي، ويؤدي ما عليه في الإمامة، فإن فعل رجوت أن يكون أحسن حالًا من غيره. انتهى.
وحكى النووي أول هذا النص مستدلًا به على ترجيح الأذان مطلقًا، وأغفل بقيته، وقد عرفت أنه دال على هذا التفصيل الذي ذكرته. والله أعلم. انتهى. "طرح" جـ 2 ص 203. والله تعالي أعلم.
المسألة التاسعة: نقل ابن بطال عن المهلب رحمهما الله تعالى: أن فيه من الفقه أن من نسي شيئًا، وأراد أن يتذكره، فليصل، ويجهد نفسه فيها من تخليص الوسوسة وأمور الدنيا، فإن الشيطان لابد أن يحاول تَسْهِيَتَهُ، وإذكاره أمور الدنيا، ليصده عن إخلاص نيته في الصلاة.
وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أن رجلًا دفن مالًا، ثم غاب عنه سنين كثيرة، ثم قدم، فطلبه، فلم يهتد لمكانه، فقصد أبا حنيفة، فأعلمه بما دار له، فقال له: صل في جوف الليل، وأخلص نيتك لله تعالى، ولا تجر على قلبك شيئًا من أمور الدنيا، ثم عرفني بأمرك، ففعل ذلك، فذكر في الصلاة مكان المال، فلما أصبح أتى أبا حنيفة، فأعلمه بذلك، فقال بعض جلسائه من أين دللته على هذا يرحمك الله،
فقال: استدللت من هذا الحديث، وعلمت أن الشيطان سيرضى أن يصالحه بأن يذكره موضع ماله، ويمنعه الإخلاص في صلاته، فعجب الناس من حسن انتزاعه، واستدلاله. انتهى ما ذكره ابن بطال. انتهى "طرح" جـ 2 ص 204
قال الجامع: عندي فيما ذكره ابن بطال نظر؛ لأنه إذا دخل في الصلاة بقصد تذكر شيء نسيه، من مال أو غيره، فأين تجريدُ الإخلاص لله تعالى، وعدمُ إجراء شيء من أمور الدنيا في قلبه؟ وأيضًا في صحة هذه الحكاية في قلبي شيء. والله أعلم.
المسألة العاشرة: قال صاحب الطرح رحمه الله تعالى: هل يتوقف هروب الشيطان من الأذان على كونه أذانًا شرعيًا، مستجمعًا للشروط، واقعًا في الوقت، مقصودًا به الإعلام بدخول وقت الصلاة، أو يهرب من الإتيان بصورة الأذان، وإن لم يوجد فيه ما تقدم:
الأقرب عندي الأول، وكلام أبي صالح السمان، راوي الحديث عن أبي هريرة يدل على أنه فهم الثاني، ففي صحيح مسلم من رواية رَوْح بن القاسم، عن سهيل بن أبي صالح، قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة، ومعي غلام لنا، أو صاحب لنا، فناداه مناد من حائط باسمه، قال: وأشرف الذي معي على الحائط، فلم ير شيئًا، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتًا، فناد بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولَّى وله
حُصاص".
والحصاص -بالحاء، والصاد، المهملتين- هو الضراط، كما في الرواية الأخرى، وقيل: شدة العدو.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إن شيئًا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه، ولكن للجن سَحَرَة، كسَحَرَة الإنس، فإذا خشيتم شيئًا من ذلك، فأذنوا بالصلاة.
وقال مالك بن أنس استُعْمِلَ زيدُ بن أسلم على معدن بني سليم، وكان معدنًا لا يزال يصاب فيه الناس من الجن، فلما وليهم شكوا ذلك إليه، فأمرهم بالأذان، وأن يرفعوا أصواتهم به، ففعلوا، فارتفع ذلك عنهم، فهم عليه حتى اليوم. قال مالك: وأعجبني ذلك من رأي زيد ابن أسلم. انتهى. "طرح" جـ 2 ص 203 - 204. والله تعالى أعلم.
فائدة:
قال ابن بطال رحمه الله: يشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن من هذا المعنى، لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان. والله أعلم. انتهى. طرح جـ 2 ص 104. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
31 - الاسْتِهَامُ عَلَى التَّأذِينِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الاستهام، أي الاقتراع على التأذين.
يقال: استهم الرجلان تقارعا، وساهَمَ القومَ، فَسَهَمَهُم سَهْمًا: قَارَعَهُم، فقَرَعَهُمْ، وساهمتُهُ، أي قارعته، فسَهَمْتُهُ أسْهَمُهُ، بالفتح، وأسهَمَ بينهم، أي أقرع، واستهموا: أي اقترعوا وتساهموا، أي تقارعوا، وفي التنزيل:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]، يقال: قارع أهلَ السفينة، فقُرِعَ. انتهى. لسان جـ 2 ص 2135.
قال الخطابي رحمه الله: وإنما قيل له الاستهام، لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام: إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج سهمه، غَلَبَ، والقرعة أصل من أصول الشريعة في حالِ مَنِ استوت دعواهم في الشيء، لترجيح أحدهم، وفيها تطييب القلوب. انتهى. "عمدة القاري" جـ 5 ص 124. والله أعلم.
671 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ، وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي
التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ عَلِمُوا مَا فِي الْعَتَمَةِ، وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا، وَلَوْ حَبْوًا".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد.
2 -
(مالك) بن أنس تقدما في السند الماضي.
3 -
(سمي) مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدني، ثقة، من [6] قتل بقديد سنة 130، أخرج له الجماعة،
تقدم في 540.
4 -
(أبو صالح) ذكوان السمان الزيات المدني، ثقة ثبت، من [3] تقدم في 40.
5 -
(أبو هريرة) الدوسي رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات أثبات، اتفق الأئمة بالتخريج لهم.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني.
ومنها: أن فيه الإخبار في أوله، والعنعنة في البواقي، إلا الأخير ففيه "أن" وكلها من صيغ الاتصال من غير المدلس، على الراجح.
ومنها: أن فيه أبا هريرة أحد المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو يعلم الناس)"لو" شرطية، والغالب فيها أن يليها ماضي المعنى، كقوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقد يليها ما هو مستقبل المعنى، كقوله تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} الآية [النساء: 9]، ومنه هذا الحديث، وإلى هذا أشار ابن مالك في ألفيته، حيث قال:
لَوْ حَرْفُ شَرْطٍ فِي مُضِيٍّ وَيَقِلّ
…
إِيلاؤُهُ مُسْتَقْبَلًا لَكِنْ قُبِلْ
فقوله: "لو يعلم الناس" أي لو علموا، ففي المضارع إشارة إلى استمرار العلم، وأنه مما ينبغي أن يكون على بال. قاله في المرقاة جـ 2 ص 322.
(ما في النداء) أي الأذان، وهي رواية بشر بن عمر، عن مالك عند السراج، وقال في المرقاة: ما في النداء، أي التأذين والإقامة من الفضل والثواب، وأطلق مفعول يعلم، ولم يبين أن الفضيلة ما هي ليفيد ضربًا من المبالغة، وأنه مما لا يدخل تحت
العبارة، ونظيره قوله تعالى:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]، وكذا تصويره حالة الاستباق بالاستهام فيه مبالغة، لأنه لا يقع إلا في أمر يتنافس فيه، لا سيما إخراجه مخرج الحصر. انتهى.
قال الجامع: الإطلاق في مفعول يعلم، كما قال في الفتح جـ 2 ص 115، إنما هو في قدر الفضيلة، وإلا فقد بينت في رواية لأبي الشيخ لهذا الحديث، فقد زاد فيها من طريق الأعرج، عن أبي هريرة "من الخير والبركة".
(والصف الأول) هو الذي لم يسبق بصف آخر، فيشمل الجهات الأربع خلف الكعبة، بل ربما تترجح الجهة التي هي أقرب إلى الكعبة. قاله القاري. وقال العلامة ابن حجر المكي: الأول عندنا -يعني الشافعية- هو الذي يلي الإمام، وإن تخلله، أو حجز بينهما نحو سارية، أو منبر. انتهى.
قال الجامع: الأول أقرب.
قال في المرقاة: وإنما أخر الصف عن النداء دلالة على تهيئ المقدمة الموصلة إلى المقصود الذي هو المثول والوقوف بين يدي رب العزة. انتهى.
(ثم لم يجدوا) أي للتمكن من النداء والصف الأول (إِلا أن
يستهموا) أي يقترعوا، وقد تقدم معنى الاستهام في أول الباب.
يعني أنهم لم يجدوا شيئًا من وجوه الأولوية، أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت، وحسن الصوت، ونحو ذلك من شرائط المؤذن، وتكميلاته، وأما في الصف الأول فبأن يَصِلُوا دفعة واحدة، ويستووا في الفضل، فيقرع بينهم، إذا لم يتراضوا فيما بينهم في الحالين. قاله في الفتح.
وقال النووي رحمه الله: معناه لو علموا فضيلة الأذان، وعظيم جزائه، ثم لم يجدوا طريقًا، يحصلونه به لضيق الوقت، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد، لاقترعوا في تحصيله.
وقال الطيبي رحمه الله: المعنى: لو علموا ما في النداء والصف الأول من الفضيلة، ثم حاولوا الاستباق لوجب عليهم ذلك، وأتى بثم المؤذنة بتراخي رتبة الاستباق من العلم. انتهى. عمدة القاري جـ 5 ص 125.
واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد، وليس بظاهر، لصحة استهام أكثر من واحد في مقابلة أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان يتوجه من جهة التولية من الإمام، لما فيه من المزية. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
زعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا الترامي بالسهام، وأنه أخرج
مخرج المبالغة، واستأنس بحديث لفظه "لتجالدوا عليه بالسيوف".
قال الحافظ: لكن الذي فهمه البخاري منه أولى، ولذلك استشهد بقصة سعد، ويدل عليه رواية مسلم "لكانت قرعة".
وقصة سعد أخرجها سعيد بن منصور، والبيهقي من طريق أبي عبيد كلاهما عن هشيم، عن عبد الله بن شبرمة، قال:"تشاح الناس في الأذان بالقادسية، فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص، فأقرع بينهم". وهذا منقطع، وقد وصله سيف بن عمر في الفتوح، والطبري من طريقه عنه، عن عبد الله بن شبرمة، عن شقيق -وهو أبو وائل- قال:"افتتحنا القادسية صدر النهار، فتراجعنا، وقد أصيب المؤذن" فذكره، وزاد "فخرجت القرعة لرجل منهم، فأذن". انتهى. "فتح" جـ 2 ص 114 - 115.
(عليه) أي على ما ذكر من الأذان والصف الأول. وقال ابن عبد البر: الهاء عائدة على الصف الأول، لا على النداء، وهو حق الكلام، لأن الضمير يعود لأقرب مذكور. ونازعه القرطبي، وقال: إنه يلزم منه أن يبقى النداء ضائعًا، لا فائدة له، قال: والضمير يعود على معنى الكلام المتقدم، ومثله قوله تعالى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]، أي جميع ما ذكر.
قال الحافظ: وقد رواه عبد الرزاق، عن مالك بلفظ "لاستهموا
عليهما" فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف. انتهى. فتح جـ 2 ص 115.
وقيل: عليه، أي على السبق إليه، أو الاستحقاق فيهما. قاله في المرعاة جـ 2 ص 335.
قال الجامع: وما تقدم أوضح.
وقال السندي رحمه الله: فيه تجهيل للمتساهلين في هذا الأمر، فلا يَرِدُ أنهم قد علموا بخبر الصادق، وهم بِسَعَةٍ من تحصيله بلا استهام، ومع هذا لا يُحَصِّلُونَهُ، فكيف يصدق الخبر بأنه لو علموا لاستهموا. انتهى.
وقال في المرقاه: قال بعضهم: ويحتمل أن يكون المراد بالنداء الإقامة على تقدير مضاف، وهو أوفق لما بعده، أي لو يعلم الناس ما في حضور الإقامة، وتحريمة الإمام، والوقوف في الصف الأول، وثم هنا للإشعار بتعظيم الأمر، وبعد الناس عنه. انتهى جـ 2 ص 322.
قال الجامع: الصواب الأول، فالمراد بالنداء هنا الأذان، والحديث ورد لبيان فضل الأذان، وهذا الذي ذكره هذا البعض داخل في مقصود الصف الأول، لأنه إذا سبق إلى الصف الأول، فقد أحرز حضور الإقامة، وتكبيرة الإحرام، فتبصر. والله أعلم.
(ولو يعلمون ما في التهجير) أي التبكير إلى الصلاة مطلقًا، أيَّ صلاة كانت، قاله الهروي، وصوبه النووي، واختاره ابن عبد البر، إذ هو البدار إلى الصلاة أول وقتها، وحمله الخليل وغيره على ظاهره، فقالوا: المراد الإتيان إلى الظهر في أول الوقت، لأن التهجير مشتق من
الهاجرة، وهي شدة الحر نصف النهار، وهو أول وقت الظهر، وإلى ذلك مال البخاري رحمه الله، إذ بوب على هذا الحديث في الصحيح، فقال:"باب فضل التهجير إلى الظهر".
وقال الطيبي رحمه الله: لما فرغ من الترغيب في الصف الأول عقبه بالترغيب في إدراك أول الوقت، وبهذا وجب تفسير التهجير بالتبكير، كما ذهب إليه الكثيرون، وفي النهاية: التهجير: التبكير إلى كل شيء، والمبادرة إليه، وهي لغة حجازية، أراد المبادرة إلى وقت الصلاة. انتهى.
وقيل: التهجير: السير في الهاجرة، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر إلى صلاة الظهر، وإلى صلاة الجمعة، وفسره الأكثرون بالتبكير، أي المضي إلى الصلاة في أول وقتها، فمنهم من قال: إلى الجمعة، ومنهم من قال: إلى كل صلاة، والمراد هو الأول، لقوله صلى الله عليه وسلم:"مثل المهجر كالذي يهدي بدنة"
قال القاضي: لا يقال: الأمر بالإبراد ينافي الأمر بالتهجير، والسعي إلى الجمعة بالظهيرة، لأن هذا الأمر سنة، والإبراد رخصة، كما ذهب إليه كثير من أصحابنا، أو الإبراد تأخير قليل، لا يخرج بذلك عن التهجير، فإن الهاجرة تطلق على وقت الظهر إلى أن يقرب العصر. انتهى مرقاة.
وعبارة "الفتح": ولا يرد على ذلك مشروعية الإبراد، لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته، وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة، فلا
يخفى ماله من الفضل. قاله في الفتح.
قال الجامع: عندي ما ذكره القاضي من الاحتمال الثاني هو الصواب، فلا تنافي بين الأمر بالإبراد والترغيب في التهجير، إذ التهجير يفسر بما يناسب المشروع، فيقال: هو المبادرة إلى الصلاة أولَ الوقت المستحب، فيخلتف باختلاف الأوقات، ففي الصيف يكون أولَ الإبراد، وفي غيره يكون أولَ دخول الوقت، وقد تقدم أن الأصح كون الإبراد واجبًا، لا مستحبًا. فتنبه. والله أعلم.
(لاستبقوا إِليه) أي إلى التهجير، والمراد سبق بعضهم بعضًا في الخروج، والانتظار في المسجد، لا المسابقة في المشي في الطريق، فإنه ممنوع. وقال ابن أبي جمرة: المراد بالاستباق معنىً، لاحسًا، لأن المسابقة على الأقدام حسًا تقتضي السرعة في المشي، وهو ممنوع. انتهى. ذكره في الفتح.
والحديث يدل على فضل الأذان، وعلى المسابقة إليه، وعلى ملازمة الصف الأول.
(ولو علموا) هكذا النسخ هنا بصيغة الماضي، وهو الأصل، كما تقدم، بخلاف الأولين، فهما بصيغة المضارع، وعند غير المصنف بصيغة المضارع في الثلاثة. أي لو علموا (ما في) أداء صلاة (العتمة) بفتحات، أي العشاء الآخرة (و) أداء صلاة (الصبح) من الثواب (لأتوهما ولو حبوًا)"حبوًا" خَبَر لكان المحذوفة مع اسمها، كما قال في الخلاصة:
وَيَحْذِفُونَهَا وَيُبْقُونَ الْخَبَر
…
وَبَعْدَ إِنْ وَلَوْ كَثِيرًا ذَا اشْتَهَرْ
أي لو كان الإتيان حبوًا، أي زحفًا، وهو مشي الصبي على أربع، أو دبيبه على اسْتِهِ. انتهى مرقاة.
وفي عمدة القاري: أي ولو كانوا حابين، من حَبَى الصبيُّ: إذا مشى على أربع. قاله صاحب المجمل، ويقال: إذا مشى على يديه، أو ركبتيه، أو اسْتِهِ. انتهى. عمدة القاري جـ 5 ص 125.
والحديث يدل على استحباب المسارعة إلى صلاة العشاء والصبح جماعة، وعلى جواز تسمية العشاء عتمة، وقد ورد النهي عن ذلك، فيحمل النهي على التنزيه، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في (22/ 540)، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم مشروحًا، وتقدمت المسائل المتعلقة به في [باب الرخصة في أن يقال: للعشاء العتمة] (22/ 540)، فراجعه تستفد. والله ولي التوفيق، ومنه الهداية لأقوم طريق.
إن إريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
32 - اتِّخَاذُ المُؤَذِّنِ الَّذِي لا يَأخُذُ عَلَى أذَانِه أجْرًا
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجرًا.
672 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي، فَقَالَ:"أَنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(أحمد بن سليمان) بن عبد الملك، أبو الحسين الرُّهَاوي، ثقة حافظ، توفي سنة 261، من [11] أخرج له النسائي.
2 -
(عفان) بن مسلم الباهلي أبو عثمان الصفار البصري، ثقة ثبت، من كبار [10] تقدم في 427.
3 -
(حماد بن سلمة) بن دينار، أبو سلمة البصري، ثقة عابد، وتغير حفظه بآخره، من كبار [8] تقدم في 288.
4 -
(سعيد الجُرَيْرِيُّ) بن إياس، أبو مسعود البصري، ثقة، من [5] توفي في 144.
قال أبو طالب عن أحمد: الجريري محدث أهل البصرة. وقال الدوري، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: تغير حفظه قبل موته، فمن كتب عنه قديمًا فهو صالح. وهو حسن الحديث. وقال يحيى القطان، عن كهمس: أنكرنا الجريري أيام الطاعون. وقال ابن سعد، عن يزيد بن هارون: سمعت من الجريري سنة 42، وهي أول سنة دخلت فيها البصرة، ولم ننكر منه شيئًا، وكان قيل لنا: إنه قد اختلط، وسمع منه إسحاق الأزرق بعدنا.
وقال أحمد بن حنبل، عن يزيد بن هارون: ربما ابتلانا الجريري، وكان قد أنكر. وقال ابن معين، عن ابن عدي: لا نكذب الله، سمعنا من الجريري، وهو مختلط، وقال الآجري، عن أبي داود: أرواهم عن الجريري ابنُ علية، وكل من أدرك أيوب فسماعه من الجريري جيد. وقال النسائي: ثقة، أنكر أيام الطاعون.
وقال ابن سعد: قالوا: توفي سنة 144، وكذا أرخه ابن حبان، وقال: كان قد اختلط قبل أن يموت بثلاث سنين، ورآه يحيى بن سعيد القطان، وهو مختلط، ولم يكن اختلاطه فاحشًا، وقال ابن معين: قال يحيى بن سعيد لعيسى بن يونس: أسمعت من الجريري؟ قال: نعم، قال: لا ترو عنه. يعني لأنه سمع منه بعد اختلاطه.
وقال الدوري، عن ابن معين: سمع يحيى بن سعيد من الجريري، وكان لا يروي عنه، وقال ابن سعد: كان ثقة، إن شاء الله، إلا أنه اختلط في آخر عمره، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: سألت ابن علية أكان الجريري اختلط؟ فقال: لا، كبر الشيخ، فرق. وقال النسائي: هو أثبت عندنا من خالد الحذاء.
وقال العجلي: بصري ثقة، واختلط بآخره، روى عنه في الاختلاط يزيد بن هارون، وابن المبارك، وابن أبي عدي، وكل ما روى عنه مثل هؤلاء الصغار، فهو مختلط، إنما الصحيح عنه ما رواه حماد بن سلمة، والثوري، وشعبة، وابن علية، وعبد الأعلى من أصحهم سماعًا منه قبل أن يختلط بثمان سنين. انتهى. تت جـ 4 ص 5 - 7. أخرج له الجماعة.
فائدة:
الجريري -بضم الجيم، وراءين بينهما مثناة تحتية، مصغرًا- نسبة إلى جُرَيْرِ بن عباد بن ضُبَيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. أفاده في "اللباب" جـ 1 ص 276.
5 -
(أبو العلاء) يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّيرِ -بكسر الشين المعجمة، وتشديد الخاء المعجمة المكسورة- العامري البصري، ثقة، توفي سنة 111، من [2].
قال أبو العلاء: أنا أكبر من الحسن بعشر سنين، ومطرف أكبر مني
بعشر سنين، روى ذلك البخاري في تاريخه، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 111، وأرخه خليفة، وابن قانع، والقراب سنة 108، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة.
وقال حزم القطعي، عن ثابت البناني: جاء أبو العلاء إلى الحسن، فقال له رجل: تكلم يا أبا العلاء، فقال: لا لست هناك، قال ثابت: فأعجبني إقراره على نفسه. وقال أبو هلال الراسبي، عن أبي صالح العقيلي: كان أبو العلاء يقرأ في المصحف، فخر مغشيًا عليه، وذكره أبو موسى في ذيل الصحابة، وعزاه لأبي زكريا بن منده معلقًا برواية وقعت له من طريق سريج بن يونس، عن هشيم، عن يونس بن عبيد، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير. قال: وأظنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج له الجماعة. انتهى. تت جـ 11 ص 341 - 342.
6 -
(مطرف) بن عبد الله بن الشخير العامري الحَرَشِي، أبو عبد الله البصري، ثقة عابد فاضل، توفي سنة 95، من [2]، أخرج له الجماعة، تقدم في 67.
7 -
(عثمان بن أبي العاص) الثقفي الطائفي، أبو عبد الله، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، وأقره أبو بكر، وعمر رضي الله عنهم. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أمه، قالت: شهدت آمنة لما ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عنه ابن أخيه يزيد بن الحكم بن أبي العاص،
وسعيد بن المسيب، ونافع بن جبير بن مطعم، ومطرف، وأبو العلاء، ابنا عبد الله بن الشخير، وموسى بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن عياض، والحسن، وابن سيرين، وعبد الرحمن بن جوشن الغطفاني، وآخرون.
قال: محمد بن عثمان بن أبي صفوان: مات سنة 51، وأرخه ابن البرقي، وخليفة، ومصعب، وابن قانع سنة 55، وقال ابن حبان في الصحابة: أقام على الطائف إلى أيام عمر، ومات في ولاية معاوية بالبصرة، انتقل إليها في آخر أمره، وأعقب بها. وقال ابن سعد: كتب إليه عمر استَخْلِفْ على الطائف، وأقْبِلْ، فاستخلف أخاه الحكم، وأقبل إلى عمر، فوجهه إلى البصرة، فابتنى بها دارًا، وبقي ولده بها.
وقال العسكري: استعمله عمر على عمان، ومات سنة 55 أو نحوها. وقال ابن عبد البر: هو الذي افتتح تَوَّجَ -قرية بفارس- واصطخر في زمن عثمان، قال: وهو الذي أمسك ثقيفًا عن الردة، قال لهم: يا معشر ثقيف، كنتم آخر الناس إسلامًا، فلا تكونوا أولهم ارتدادًا. أخرج له مسلم والأربعة. انتهى. تت جـ 7 ص 128 - 129. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفق الأئمة على التخريج لهم،
إلا شيخه، فمن أفراده، والصحابي، فلم يخرج له البخاري، وقد أخرج البخاري لحماد بن سلمة في المتابعات.
ومنها: أنه مسلسل بالبصريين، إلا شيخه، فَرُهَاوِي -بضم الراء- نسبة إلى مدينة ببلاد الجزيرة.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، سعيد الجريري، وأبو العلاء، ومطرف.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أخيه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عثمان بن أبي العاص) رضي الله عنه، أنه (قال: قلت: يا رسول الله، اجعلني إِمام قومي) أي مقدمًا عليهم، وقدوة لهم.
وقومه هم أهل الطائف، وقد مر قريبًا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على الطائف، وأقره أبو بكر، ثم عمر، وإنما طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يكون في توليته صلاحُ قومه، وقد ظهر ذلك بعده صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما توفي صلى الله عليه وسلم، وأراد قومه الردة خطب فيهم، فقال: كنتم آخر الناس إسلامًا، فلا تكونوا أولهم ارتدادًا، فثبتوا على الإسلام.
ولا يقال: إن هذا من باب طلب الرياسة، وهو غير جائز، لأن ذلك محمول على طلب الرياسة الدنيوية، أو على ما إذا لم يتعين
عليه، فإنه إذا تعين عليه لزمه التولي، ولو بالطلب، وذلك كأن يكون
من يتولى ذلك المنصب غير صالح أو جاهلًا يخشى عليه أن يضيع حقوق الناس، قال الله تعالى في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام مع الملك {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فقد طلب عليه الصلاة والسلام أن يجعله على خزائن الأرض، لعلمه أن ذلك هو الأصلح للناس، والأرفق بهم، إذ لو تولاه غيره لضيع حقوقهم، فصار متعينًا عليه. والله أعلم.
(فقال) صلى الله عليه وسلم (أنت إِمامهم) أي جعلتك إمامًا لهم، وعدل إلى الجملة الاسمية للدلالة على الثبوت، فكأن إمامته حاصلة، وهو صلى الله عليه وسلم يخبر عنها.
(واقتد بأضعفهم) عطف على مقدر، أي فَأُمَّهُمْ، واقتدِ بأضعفهم، أي تابع أحوال من كان أضعف المقتدين -بمرض، أو زمانة، أو نحوهما- في تخفيف الصلاة، من غير ترك شيء من الأركان، يريد تخفيف القراءة، والتسبيحات، حتى لا يمل القوم.
وقيل: لا تسرع حتى يبلغك أضعفهم، ولا تطول حتى لا تثقل عليه.
وقيل: "اقتد" جملة إنشائية عطف على "أنت إمامهم" لأنه بتأويل أُمَّهُمْ، وإنما عدل إلى الاسمية للدلالة على الثبات، كأن إمامته ثبتت، ويخبر عنها، وقد جعل فيه الإمام مقتديًا. والمعنى: كما أن الضعيف يقتدي بصلاتك، فاقتد أنت أيضًا بضعفه، واسلك سبيل التخفيف في القيام، والركوع، والسجود، ونحوها، حتى كأنه يقوم، ويركع،
ويسجد على ما يريد، وأنت كالتابع الذي يصلي بصلاته.
وقال التوربشتي: ذكر بلفظ الاقتداء تأكيدًا للأمر المحثوث عليه، لأن من شأن المقتدي أن يتابع المقتدى به، ويجتنب خلافه، فعبر عن مراعات القوم بالاقتداء مشاكلة لما قبله. انتهى. أفاده في المرقاة جـ 2 ص 364.
(واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا) أي أجرة، لأن ذلك أقرب إلى الإخلاص. وظاهره يدل على منع أخذ الأجرة على الأذان، وللعلماء في ذلك اختلاف، وسنحققه مع ترجيح قول من يقول يحمل النهي على المشارطة، في المسائل إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (672)، وفي "الكبرى"(1636) عن أحمد بن سليمان، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن
أبي العلاء، عن مطرف، عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود وابن ماجه، فأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن
موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي العلاء به. وقال موسى في موضع آخر: عن مطرف أن عثمان قال: يا رسول الله. . .
وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن علية، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي هند، عن عثمان بن
أبي العاص، نحوه، وأخرجه أحمد، والحاكم، والبيهقي. والحميدي في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجرًا.
ومنها: جواز طلب الإمامة في الخير، وقد ورد في أدعية عباد الرحمن الذي وصفهم الله بتلك الأوصاف أنهم يقولون:{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] وليس من طلب الرياسة المكروهة، فإن ذلك فيما يتعلق برياسة الدنيا التي لا يُعَان من طلبها، ولا يستحق أن يعطاها. قاله الصنعاني.
ومنها: أنه يجب على إمام الصلاة أن يلاحظ حال المصلين خلفه، فيجعل أضعفهم، كأنه المقتدى به، فيخفف لأجله.
ومنها: أنه ينبغي لكبير القوم أن يتخذ مؤذنًا، ليجمع الناس للصلاة.
ومنها: أن صفة المؤذن المأمور باتخاذه أنه لا يطلب على أذانه أجرًا. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: في مذاهب العلماء في أخذ الأجرة على الأذان:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في أخذ الأجرة على الأذان، فكرهت طائفة ذلك، وممن كره ذلك: القاسم بن عبد الرحمن، وروي ذلك عن الضحاك بن مزاحم، وقتادة، ثم أخرج ابن المنذر بسنده عن يحيى البكاء، أن ابن أبي محذورة قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يا أبا عبد الرحمن، إني أحبك في الله، فقال له ابن عمر: وأنا أبغضك في الله، قال: سبحان الله، أحبك في الله، وتبغضني في الله، فقال ابن عمر: إنك تأخذ على أذانك أجرًا.
وكره ذلك أصحاب الرأي، وقال إسحاق: لا ينبغي أن يأخذ على الأذان أجرًا.
ورخص مالك في الأجر على الأذان، وقال: لا بأس به. وقال الأوزاعي: الإجارة في ذلك مكروهة، ولا بأس بأخذ الرزق من بيت المال على ذلك، ولم ير بأسًا بالمعونة على غير شرط.
وفيه قول ثالث: وهو أن لا يرزق المؤذن إلا من خمس الخمس، سهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرزق من غيره، من الفيء، ولا من الصدقات، وهكذا قال الشافعي.
ثم رجح ابن المنذر القول بتحريم أخذ الأجرة على الأذان، لحديث
الباب. انظر الأوسط جـ 3 ص 63 - 64.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله: وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أربع ما يؤخذ عليهن أجر: الأذان، وقراءة القرآن، والمقاسم، والقضاء" ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي.
وروى ابن أبي شيبة عن الضحاك أنه كره أن يأخذ المؤذن على أذانه جُعْلًا، ويقول: إن أعطي بغير مسألة فلا بأس. وروي أيضًا عن معاوية بن قرة أنه قال: كان يقال: لا يؤذن لك إلا محتسب.
وقد ذهب إلى تحريم الأجر شرطًا على الأذان والإقامة الهادي، والقاسم، والناصر، وأبو حنيفة، وغيرهم.
وقال مالك: لا بأس بأخذ الأجر على ذلك. وقال الأوزاعي: يجاعل عليه، ولا يؤاجر.
وقال الشافعي في الأم: أحب أن يكون المؤذنون متطوعين، قال: وليس للإمام أن يرزقهم، وهو يجد من يؤذن متطوعًا، ممن له أمانة إلا أن يرزقهم من ماله، قال: ولا أحسب أحدًا ببلد كثير الأهل، يعوزه أن يجد مؤذنًا أمينًا، يؤذن متطوعًا، فإن لم يجده فلا بأس أن يرزق مؤذنًا، ولا يرزقه إلا من خمس الخمس الفضل.
وقال ابن العربي: الصحيح جواز أخذ الأجرة على الأذان، والصلاة، والقضاء، وجميع الأعمال الدينية، فإن الخليفة يأخذ أجرته على هذا كله، وفي كل واحد منها يأخذ النائب أجرة، كما يأخذ المستنيب.
والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي، فهو صدقة". انتهى. فقاس المؤذن على العامل، وهو قياس في مصادمة النص، وفتيا ابن عمر التي مرت لم يخالفها أحد من الصحابة، كما صرح بذلك اليعمري.
وقد عقد ابن حبان ترجمة على الرخصة في ذلك، وأخرج عن أبي محذورة أنه قال:"فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان، فأذنت، ثم أعطاني حين قضيت التأذين صرة فيها شيء من فضة". وتقدم للنسائي برقم (632)، قال اليعمري: ولا دليل فيه، لوجهين:
الأول: أن قصة أبي محذورة أول ما أسلم، لأنه أعطاه حين علمه الأذان، وذلك قبل إسلام عثمان بن أبي العاص، فحديث عثمان
متأخر.
الثاني: أنها واقعة، يتطرق إليها الاحتمال، وأقرب الاحتمالات فيها أن يكون من باب التأليف، لحداثة عهده بالإسلام، كما أعطى حينئذ غيره من المؤلفة قلوبهم، ووقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال سلبها الاستدلال، لما يبقى فيها من الإجمال. انتهى.
قال الشوكاني رحمه الله: وأنت خبير بأن هذا الحديث لا يَرِدُ على من قال: إن الأجرة إنما تحرم إذا كانت مشروطة، لا إذا أعطيها بغير مسألة، والجمع بين الحديثين بمثل هذا حسن. انتهى. نيل الأوطار جـ 2 ص 131 - 132.
هذا التفصيل الذي حسنه الشوكاني عندي حسن جِدًّا. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
33 - الْقَوْلُ مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية القول مثل قول المؤذن، فيما عدا ما يستثنى من الحيعلتين، بدليل ما يأتي، إن شاء الله تعالى (677).
673 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد.
2 -
(مالك) بن أنس، تقدما في السابق.
3 -
(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر المدني، الإمام الحافظ الحجة، من [4] تقدم في 1.
4 -
(عطاء بن يزيد) الليثي الجندعي المدني ثم الشامي، ثقة، من [3] تقدم في 21.
5 -
(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان الصحابي
- رضي الله عنه، تقدم في 262.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات حفاظ.
ومنها: أنهم اتفق الأئمة بالتخريج لهم.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني.
ومنها: أن قتيبة من الأفراد، ليس في الكتب الستة من يسمى بقتيبة غيره.
ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي؛ الزهري، عن عطاء.
ومنها: أن صحابيه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عطاء بن يزيد) الليثي الجندعي، قال الحافظ رحمه الله: اختلف على الزهري في إسناد هذا الحديث، وعلى مالك أيضًا، لكنه اختلاف لا يقدح في صحته؛ فرواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة. أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، رقم (33)، وابن ماجه.
قال أبو عبد الرحمن النسائي: الصواب حديث مالك، وحديث
عبد الرحمن خطأ، وعبد الرحمن هذا يقال له: عباد بن إسحاق، وهو لا بأس به، وعبد الرحمن بن إسحاق يروي عنه جماعة من أهل
الكوفة، وهو ضعيف الحديث.
وقال أحمد بن صالح، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي: حديث مالك، ومن تابعه أصح.
ورواه يحيى القطان، عن مالك، عن الزهري، عن السائب بن يزيد. أخرجه مسدد في مسنده، عنه. وقال الدارقطني: إنه خطأ، والصواب الرواية الأولى، وفيه اختلاف آخر، دون ما ذكر، لا نطيل به. انتهى. فتح جـ 2 ص 108 بزيادة.
(عن أبي سعيد الخدري) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذا سمعتم المؤذن) قال الصنعاني رحمه الله: أي نداء المؤذن يدل له ما في الصحيحين "إذا سمعتم النداء"، وقيده البرماوي بما إذا سمعتم قول المؤذن، أو صوت المؤذن، فيعم الأذان، والإقامة، غير أنه يقول عند قوله: قد قامت الصلاة أقامها الله وأدامها. قال الصنعاني: وفيه بعد. انتهى. عدة جـ 2 ص 187.
قال الجامع: أما ما قاله من أنه يعم الأذان والإقامة، فهو الظاهر من الحديث، إذ الإقامة يطلق عليها الأذان، كقوله صلى الله عليه وسلم "بين كل أذانين صلاة"، فيقول من سمع المؤذن يقيم مثل ما يقول.
وأما قوله: يقول: أقامها الله، وأدامها، فمما لا دليل عليه.
والله أعلم.
وظاهره اختصاص الإجابة بمن يسمع، حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلًا في الوقت، وعلم أنه يؤذن، لكنه لم يسمع، لبعد، أو صمم لا تشرع له المتابعة، لأن المتابعة معلقة بالسماع، والحديث مصرح باشتراطه. قاله النووي في شرح المهذب. جـ 3 ص 120.
قال الصنعاني: وفيه بحث، لأنه قد يقال: إن قوله: "إذا سمعتم" خرج مخرج الغالب. انتهى. العدة جـ 2 ص 188.
قال الجامع: عندي ما قاله النووي هو الأولى. والله أعلم.
والظاهر أيضًا أن الإجابة لا تختص بالمؤذن الأول، بل يجيب كل من أذن، وفيه خلاف. قال ابن عبد السلام رحمه الله: يجيب كل من أذن، لتعدد السبب، وإجابة الأول أفضل، إلا في الصبح، والجمعة، فهما سواء، لأنهما مشروعان.
قال الصنعاني: الأذان الأول يوم الجمعة أحدثه عثمان اتفاقًا بألفاظ الأذان، وقد غيره المتأخرون إلى التسبيح المعروف، وليس لصلاة، فليس مشروعًا، فلا يندب إجابته، إذ الندب تشريع، لا يثبت إلا بدليل شرعي.
قال الجامع: عندي فيما قاله نظر، إذ الدليل الشرعي ظاهر فيه، حيث قال:"إذا سمعتم المؤذن"، ولم يقيده بكونه الأذان الذي
للصلوات الخمس في عهده، وزيادة عثمان وافقه عليها الصحابة، فتستحق الإجابة. فتبصر. والله أعلم.
قال: وأما الأذان الأول للصبح ففيه احتمال، إذ هو مشروع بتقريره صلى الله عليه وسلم، فيشمله "إذا سمعتم المؤذن"، وقد يقال: إنه لا يصدق إلا على الأذان للصلاة، وليس الأذان الأول للصبح كذلك.
قال الجامع: فيه نظر، إذ الحديث لم يقيده بكونه الأذان للصلاة، فلا ينبغي الزيادة على ظاهر النص، فيُجِيبُ الأذان الأول للصبح، لشمول النص له. والله أعلم.
وقال الرافعي: خطر لي أنه إذا سمع الأذان الثاني بعد صلاة جماعة أنه لا يجيب، لأنه غير مدعوٍ، فلا إجابة، واستحسن، وظاهره أيضًا أن المؤذن إذا فرغ من أذانه، وسمع غيره يؤذن أنه ليس له الإجابة.
قال الصنعاني: في قول الرافعي تأمل، فإنه يلزم أن لا تشرع الإجابة للمعذورين، لأنهم غير مدعوين، والحديث ظاهر أن كل سامع يقول كما يقول، على أن متابعة المؤذن ليست إجابة، إنما هي متابعة له على أذكار يقولها، ولذا يحوقل عند الحيعلة، كما يأتي، لأنها ليست إجابة، إنما الإجابة من السامع بإتيانه الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم لمن اعتذر عن إتيان الجماعة "أتسمع النداء؟ " قال: نعم، قال:"فأجب"، أي بالإتيان للصلاة، ثم صل في جماعة للإجابة عليه، وإنما الثانية للمؤذن في الذكر، فالظاهر بقاء ندبها في حقه.
وقال أيضًا: لو سمع بعض ألفاظه، ولم يسمع بقيتها، كما يتفق لمن يؤذن في المنارة، هل يجيبه عن كل ألفاظه مقدرًا، أو يجيبه فيما سمعه، لا غير؟ يحتمل الأولَ، والآخرُ أقربُ، أما ما يفعله كثير من الناس من أنه إذا سمع أول النداء تابع المؤذن فيه، ثم يسرد بقية ألفاظه إلى آخره قبل تمام المؤذن، فهذا ليس حاكيًا. انتهى. العدة جـ 2 ص 188، 191.
(فقولوا) حمل الجمهور الأمر على الندب، والظاهر الوجوب، وسيأتي تحقيق القول فيه في المسائل إن شاء الله تعالى، (مثل ما يقول)"مثل" منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قولوا قولًا، مثل ما يقول، أو مفعول مطلق على النيابة، لأن الصفة إذا قامت مقام الموصوف المحذوف تعرب مفعولًا مطلقًا. وكلمة "ما" مصدرية، أي مثل قول المؤذن، أو موصولة، والعائد محذوف، أي مثل الذي يقوله.
والمِثْلُ هو النظير، يقال: مِثْلٌ، ومَثَلٌ، ومَثَلٌ، ومَثِيلٌ، كَشِبْهٍ، وَشَبَهٍ، وشَبِيهٍ، والمماثلةُ بين الشيئين: اتحادهما في النوع، كزيد، وعمر في الإنسانية. أفاده في عمدة القاري جـ 5 ص 118، ومنهل العذب المورود جـ 4 ص 189.
وقال في "الفتح": وفي الحديث دليل على أن لفظ المثل لا يقتضي المساواة من كل وجه، لأن قوله:"مثل ما يقول" لا يقصد به رفع
الصوت المطلوب من المؤذن، كذا قيل، وفيه بحث، لأن المماثلة وقعت في القول، لا في صفته، والفرق بين المؤذن والمجيب في ذلك أن المؤذن مقصوده الإعلام، فاحتاج إلى رفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله، فيكتفي بالسر، أو الجهر، لا مع الرفع. نعم لا يكفيه أن يُجْرِيَهُ على خاطره من غير تلفظ، لظاهر الأمر بالقول.
قال الجامع: وقوله: إن مقصود المؤذن الإعلام أي الإعلام مع الذكر، لا الإعلام المجرد، بخلاف المجيب، فان مقصوده مجرد الذكر، فافهم. والله أعلم.
قال: وأغرب ابن المُنِيِّر، فقال: حقيقة الأذان جميع ما يصدر عن المؤذن، من قول، وفعل، وهيئة، وتعقب بأن الأذان معناه الإعلام لغة، وخصه الشرع بألفاظ مخصوصة، في أوقات مخصوصة، فإذا وجدت وجد الأذان، وما زاد على ذلك من قول، أو فعل، أو هيئة يكون من مكملاته، ويوجد الأذان من دونها، ولو كان على ما أطلق لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح، وقبل الجمعة، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذان، وليس كذلك، لا لغة، ولا شرعًا. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 110.
ولفظ الشيخين "إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن".
وادعى ابن وضاح أن قوله "المؤذن" مدرج، وأن الحديث انتهى عند قوله "مثل ما يقول". وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى،
وقد اتفقت الروايات في الصحيحين، والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها. قاله في الفتح أيضًا.
وفي قوله "يقول" بصيغة المضارع، دون الماضي إشعار بأنه يجيبه بعد كل كلمة بمثلها، قاله الكرماني، والصريح في ذلك ما أخرجه المصنف في عمل اليوم والليلة، رقم (36) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندها في يومها، فسمع المؤذن، يؤذن، قال: كما يقول: حتى يفرغ".
وأصرح منه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند مسلم، وغيره، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، من قلبه، دخل الجنة".
فهذا أصرح في الدلالة على أن السنة في متابعة المؤذن أن تكون كل كلمة عقب كل كلمة.
فلو لم يجاوبه حتى فرغ استحب له التدارك، إن لم يطل الفصل.
قاله النووي في شرح المهذب بحثًا. وقد قالوه فيما إذا كان له عذر، كالصلاة. قاله في الفتح جـ 2 ص 109.
وظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول المؤذن من غير فرق بين الترجيع، وغيره.
وظاهره أيضًا أنه يقول مثل قول المؤذن في جميع الكلمات، لكن حديث عمر المذكور، وحديث معاوية رضي الله عنه الآتي (677) يدلان على أنه يستثنى من ذلك "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، فيقول بدلهما "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وسيأتي تمام البحث فيه في الباب (36) إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له.
أخرجه هنا (673)، وفي "الكبرى"(1637) عن قتيبة، عن مالك، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عنه. وفي عمل اليوم والليلة (34) عن عمرو بن علي الفلاس، عن يحيى القطان، عن مالك به.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف- ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، وأبو داود فيه عن القعنبي، والترمذي فيه عن قتيبة، وعن إسحاق بن موسى، عن معن، وابن ماجه فيه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وأبي كريب، كلاهما عن زيد بن الحباب- كلهم عن مالك به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: اختَلَفَ أهل العلم في حكم إجابة المؤذن بالقول:
فذهبت طائفة إلى وجوبه، لظاهر الأمر، حكى ذلك الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قالت الحنفية، وأهل الظاهر، وابن وهب.
وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب. قال الحافظ: واستدلوا بحديث مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنًا، فلما كبر، قال: على الفطرة، فلما تشهد، قال: خرج من النار"، قالوا: فلما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قال المؤذن علمنا أن الأمر بذلك للاستحباب.
ورد بأنه ليس في الرواية أنه لم يقل مثل ما قال، وباحتمال أنه وقع ذلك قبل الأمر بالإجابة، واحتمال أن الرجل الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم يؤذن لم يقصد الأذان. وأجيب بأنه وقع في بعض طرق الحديث أنه حضرته الصلاة. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 110.
قال الجامع: عندي أن مذهب القائلين بالوجوب هو الراجح، لظاهر الأمر، وقد عرفت أنه ليس له صارف صريح عن الوجوب. والله أعلم.
المسألة الخامسة: قال الشوكاني رحمه الله: والظاهر من الحديث التعبد بالقول مثل ما يقول المؤذن، وسواء كان المؤذن واحدًا، أو جماعة. قال القاضي عياض: وفيه خلاف بين السلف، فمن رأى الاقتصار على الإجابة للأول احتج بأن الأمر لا يقتضي التكرار، ويلزمه على ذلك أن يكتفي بإجابة المؤذن مرة واحدة في العمر. انتهى. نيل جـ 2 ص 123. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: استدل بالحديث على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة، قالوا: إلا في كلمتي الإقامة، فيقول "أقامها الله، وأدامها" وقياس إبدال الحيعلة بالحوقلة في الأذان أن يجيء هنا، لكن قد يفرق بأن الأذان إعلام عام، فيعسر على الجميع أن يكونوا دعاة إلى الصلاة، والإقامة إعلام خاص وعدد من يسمعها محصور، فلا يعسر أن يدعو بعضهم بعضًا. قاله في "الفتح".
قال الجامع: أما الاستدلال على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة، فواضح، وأما قول: أقامها الله وأدامها، فمما لا دليل عليه، كما تقدم الكلام عليه، ثم الفرقال في ذكره غير واضح، والله أعلم.
المسألة السابعة: قال في "الفتح": استدل به على جواز إجابة المؤذن في الصلاة، عملًا بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة، وقيل: يؤخر الإجابة حتى يفرغ، لأن في الصلاة شغلًا، وقيل يجيب
إلا في الحيعلتين، لأنهما كالخطاب للآدميين، والباقي من ذكر الله، فلا يمنع، لكن قد يقال: من يبدل الحيعلة بالحوقلة لا يمنع لأنها من ذكر الله. قاله ابن دقيق العيد. وفرق ابن عبد السلام في فتاويه بين ما إذا كان يقرأ الفاتحة، فلا يجيب، بناء على وجوب موالاتها، وإلا فيجيب، وعلى هذا إن أجاب في الفاتحة استأنف، وهذا قاله بحثًا، قال الحافظ: والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصلاة، بل يؤخرها حتى يفرغ، وكذا في حالة الجماع والخلاء، لكن إن أجاب بالحيعلة بطلت، كذا أطلقه كثير منهم. ونص الشافعي في الأم على عدم فساد الصلاة بذلك. انتهى.
وقال الشوكاني: قيل: القول بكراهة الإجابة في الصلاة يحتاج إلى دليل، ولا يخفى أن حديث "إن في الصلاة لشغلًا" دليل على الكراهة، ويؤيده امتناع النبي صلى الله عليه وسلم إجابة السلام فيها، وهو أهم من الإجابة للمؤذن. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي عدم مشروعية الإجابة في الصلاة هو الراجح، لما ذكره الشوكاني رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
34 - ثَوَابُ ذَلِكَ
أي هذا باب ذكر الحديث المبين الثواب المترتب على القول مثل قول المؤذن.
674 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ الأَشَجِّ، حَدَّثَهُ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ خَالِدٍ الزَّرْقِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّضْرَ بْنَ سُفْيَانَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ بِلَالٌ يُنَادِي، فَلَمَّا سَكَتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا، يَقِينًا دَخَلَ الْجَنَّةَ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن سلمة) المرادي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت، من [11] تقدم في 20.
2 -
(ابن وهب) عبد الله، أبو محمد المصري، ثقة حافظ عابد، من [9] تقدم في 9.
3 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب، أبو أيوب المصري، ثقة فقيه حافظ، من [7] تقدم في 79.
4 -
(بكير بن الأشج) هو ابن عبد الله، نسب لجده، المدني، نزيل مصر، ثقة، من [5] تقدم في (211).
5 -
(علي بن خالد الزُّرَقِي) المدني، صدوق، من [3].
وفي "تت": علي بن خالد الدؤلي المدني. روى عن أبي هريرة، وأبي أمامة، والنضر بن سفيان الدؤلي. روى عنه سعيد بن أبي هلال،
والضحاك بن عثمان، وبكير بن الأشج. قال النسائي: ثقة. وقال الدارقطني: شيخ يعتبر به. وذكره ابن حبان في الثقات. له عند
النسائي حديث في فضل القول كما يقول المؤذن.
قال الحافظ: وفرق بين الذي يروي عن أبي أمامة، وعنه سعيد بن أبي هلال، وبين الآخر، البخاري، وابن أبي حاتم، وأما ابن حبان فلم يذكر الراوي عن أبي أمامة، وذكر الراوي عن أبي هريرة في التابعين، ثم أعاده بروايته عن النضر بن سفيان في أتباع التابعين. انتهى. انفرد به المصنف.
تنبيه:
الزرقي هكذا نسخ "المجتبى"، والذي في "الكبرى": الدُّؤَلِي، وهو الموجود في كتب الرجال، كتهذيب التهذيب، والخلاصة، وتهذيب الكمال، والكاشف. والله أعلم.
6 -
(النضر بن سفيان) الدؤلي، مقبول، من [2] ويقال إن
له إدراكًا.
روى عن أبي هريرة، وعنه علي بن خالد، ومسلم بن جندب الهذلي، ذكره ابن حبان في كتاب الثقات. أخرج له المصنف هذا
الحديث فقط. أفاده في تهذيب الكمال جـ 29 ص 379. انفرد به المصنف.
7 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(أن النضر بن سفيان حدثه أنه سمع أبا هريرة) رضي الله عنه (يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بلال) بن رباح المؤذن رضي الله عنه (ينادي) أي يؤذن (فلما سكت) أي فرغ من أذانه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال: مثل هذا) الأذان، يحتمل أن يكون المعنى: من تابع المؤذن، فقال: مثل قوله، وهو الذي فهمه المصنف رحمه الله، ولذا أورده عقب حديث "إذا سمعتم النداء، فقولوا: مثل ما يقول المؤذن". ويحتمل أن يكون المعنى: من أذن مثل هذا الأذان.
(يقينًا) منصوب على الحال، على حذف مضاف، أو بتأويله بالمشتق، أي ذا يقين، أو متيقنًا.
واليقين: العلم، وإزاحة الشك، وتحقيق الأمر، وقد أيقن، يوقن، إيقانًا، فهو موقن، ويَقِنَ، يَيْقَنُ، يَقَنًا، فهو يَقِنٌ. واليقين: نقيض الشك، والعلم: نقيض الجهل. قاله في اللسان جـ 6 ص 4964.
(دخل الجنة) أي يدخلها، أو المراد أوجب الله له دخولها، وإنما عبر بالماضي لتحقق وقوعه.
تنبيه:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا حسن، كما قال الشيخ الألباني، وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا (674)، وفي الكبرى (1641) عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن علي بن خالد، عن النضر بن سفيان، عنه. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
35 - القَوْلُ مِثْلَ مَا يَتَشَهَّدُ المُؤَذِّنُ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية قول من يسمع المؤذن مثل تشهده.
675 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَحْيَى الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، فَكَبَّرَ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَتَشَهَّدَ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَتَشَهَّدَ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي هَكَذَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزي، ثقة، من [10] تقدم في 55.
2 -
(عبد الله بن المبارك) أبو عبد الرحمن المروزي، ثقة ثبت حجة، من [8] تقدم في 36.
3 -
(مجمع) -بضم أوله، وفتح الجيم، وتشديد الميم المكسورة-
(بن يحيى) بن يزيد بن جارية (الأنصاري) الكوفي، صدوق، من [5].
قال الأثرم، عن أحمد: لا أعلم إلا خيرًا. وقال ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم: ليس به بأس، صالح الحديث. وقال ابن عمارة، ويعقوب بن شيبة، وأبو داود: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة، وقال أصله مدني، وله أحاديث. أخرج له مسلم، والمصنف.
4 -
(أبو أمامة بن سهل بن حُنَيْف) اسمه: أسعد الأنصاري، معروف بكنيته، له رؤية، ولم يسمع، توفي سنة 100، وله 92
سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 509.
5 -
(معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب بن أمية الأموي، أبو عبد الرحمن الخليفة، صحابي أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي،
ومات في رجب سنة 60 وقد قارب 80 سنة، أخرج له الجماعة، تقدم في 294. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله ثقات.
ومنها: أنهم ما بين مروزيين، وهما سويد، وابن المبارك،
وكوفي، وهو مجمع، ومدني، وهو أبو أمامة، ودمشقي، وهو الصحابي رضي الله عنه.
ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي، فأبو أمامة صحابي رؤية، ورواية تابعي، عن تابعي، مُجَمِّع، عن أبي أمامة، فإنه تابعي رواية. فافهم. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن مجمع) بصيغة اسم الفاعل (بن يحيى) بن يزيد بن جارية الأنصاري، أنه (قال: كنت جالسًا عند أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف) اسمه أسعد، الأنصاري، له رؤية، رضي الله عنه (فأذَّن المؤذن) أي شرع في الأذان (فقال) المؤذن (الله أكبر، الله أكبر، فكبر اثنتين) أي كبر أبو أمامة تكبيرتين، وفيه التكبير في أول الأذان مرتين.
وقال السندي: قوله: فكبر اثنتين أي في المرتين، ليوافق روايات الأذان. والله أعلم. انتهى.
قال الجامع: بل الظاهر أن التكبير هنا اثنتان، وقد تقدم ثبوت تثنية التكبير في أول الأذان، وتربيعه، وأن ذلك مما يتخير فيه المؤذن، وإن كان أكثر الروايات على التربيع.
وأصرح من هذا رواية البخاري، عن أبي أمامة بن سهل بن
حنيف، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان، وهو على المنبر، أذَّن المؤذن، قال: الله أكبر، الله أكبر، قال معاوية: الله أكبر، الله أكبر. . . فقد ثبت بهذا كون التكبير مرتين. والله أعلم.
(فقال) المؤذن (أشهد أن لا إِله إِلا الله، فتشهد اثنتين) أي قال أبو أمامة: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، وفي رواية البخاري، فقال معاوية: وأنا، والتقدير: وأنا أشهد، أو أنا أقول مثله. وقال في الفتح: وفيه أن قول المجيب: وأنا كذلك، ونحوه يكفي في إجابة المؤذن. انتهى.
قال الجامع: ويحتمل أن يكون معاوية تشهد لفظًا، إلا أن الراوي رواه بالمعنى، وهذا هو الذي تؤيده رواية المصنف. والله أعلم.
(فقال) المؤذن (أشهد أن محمدًا رسول الله، فتشهد) أبو أمامة (اثنتين) أي مرتين. وللبخاري: فقال معاوية: وأنا. وقد مر آنفًا توجيهه (ثم قال) أبو أمامة بعد انتهاء الإجابة عن كل كلمات الأذان، كما تدل عليه الرواية التالية، وسنوضحه هناك إن شاء الله تعالى (حدثني هكذا) أي مثل ما سمعتم مني (معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب بن أمية الأموي، أبو عبد الرحمن الخليفة، الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، المتوفى في رجب سنة ستين، وقد قارب الثمانين، تقدمت ترجمته في 294. (عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم) الجار والمجرور متعلق بحال محذوف، أي حال كونه
آخذًا عن قوله صلى الله عليه وسلم.
وعند البخاري: فلما أن قضى التأذين قال -يعني معاوية- يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس -حين أذن المؤذن- يقول ما سمعتم مني من مقالتي. انتهى. انظر صحيح البخاري مع الفتح جـ 2 ص 460.
وفيه مشروعية القول مثل ما يقول المؤذن، وقد تقدم أن الراجح أن مثل هذا الإطلاق مقيد بما عدا الحيعلتين، فإنه يقول فيهما "لا حول، ولا قوة إلا بالله" لما يأتي من رواية معاوية رضي الله عنه، وغيره في الباب التالي إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث معاوية رضي الله عنه هذا من رواية أبي أمامة بن سهل عنه أخرجه البخاري- جـ 2 ص 10.
المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (675)، وفي "الكبرى"(1639)، وفي "عمل اليوم والليلة"(350) عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن مجمع بن يحيى الأنصاري، عن أبي أمامة، عنه. وفي (676) و"الكبرى"(1638)، و"عمل اليوم والليلة"(346) عن محمد بن قُدَامة، عن
جرير بن عبد الحميد، عن مِسْعر، عن مجمِّع به نحوه، وفي "عمل اليوم والليلة"- عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عبيدة، عن
مجمع به نحوه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري في "الجمعة" جـ 2 ص10 عن محمد بن مقاتل، عن ابن المبارك، عن أبي بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، عن أبي
أمامة به.
وأخرجه أحمد جـ 4 ص 98، عن وكيع، عن مجمع بن يحيى، به. وفي (4/ 95) عن يعلى، ويزيد بن هارون، كلاهما عن مجمع به، وأخرجه الحميدي في مسنده رقم (606) عن سفيان، عن مجمع به. ورواية وكيع "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتشهد مع المؤذنين". أفاده في "تحفة الأشراف" جـ 8 ص 434، و"جامع المسانيد" جـ 15 ص 299 - 300. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
676 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مُجَمِّعٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ.
رجال الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن قُدامة) بن أعين الهاشمي مولاهم المِصِّيصِي، ثقة، من [10] توفي سنة 250 تقريبًا، تقدم في 528.
2 -
(جرير) بن عبد الحميد الضبي الكوفي، قاضي الري، ثقة ثبت، من [8] تقدم في 2/ 2.
3 -
(مسعر) بن كِدَام، أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، من [7] تقدم في 8/ 8.
والباقون تقدموا في السند الماضي. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(قوله: وسمع المؤذن) جملة في محل نصب على الحال من ضمير يقول، على تقدير "قد" عند البصريين، وبدون تقدير عند الكوفيين.
(وقوله: فقال مثل ما قال) فيه أنه أجاب جميع ألفاظ الأذان، إلا ما يستثنى في روايته الآتية، من الحيعلتين، وفيه أن الرواية السابقة فيها اختصار، حيث ذكر الشهادتين فقط، فتبين بهذه الرواية أنه أجاب كل الأذان. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
36 - القَولُ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: "حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلاحِ"
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على ما يقوله من سمع المؤذن، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح.
فالمراد بالقول هنا المقول، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول.
677 -
أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِقْسَمِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى أَنَّ عِيسَى بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، قَالَ: إِنِّي عِنْدَ مُعَاوِيَةَ إِذْ أَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ كَمَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ، حَتَّى إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَلَمَّا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ.
رجال هذا الإسناد: تسعة
1 -
(مُجاهد بن موسى) الخُوَارزْمِي، وهو الخُتَّلِي، أبو علي، نزيل بغداد، ثقة، من [10] توفي سنة 244، وله 86 سنة، أخرج له
مسلم والأربعة، تقدم في 102.
2 -
(إبراهيم بن الحسن المقْسَمِى) أبو إسحاق المِصِّيصِي، ثقة، من [11] تقدم في 64.
3 -
(حجاج) بن محمد الأعور المصيصي نزيل بغداد، ثقة ثبت، من [9] تقدم في 23.
4 -
(ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة فقيه فاضل يدلس ويرسل، من [6] تقدم في 32.
5 -
(عمرو بن يحيى) بن عمارة بن أبي حسن المازني المدني، ثقة، من [6] تقدم في 97.
6 -
(عيسى بن عمر) ويقال: بن عمير، حجازي مقبول، من [7].
روى عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، عن معاوية في القول كما يقول المؤذن، روى عنه عمرو بن يحيى بن عمارة المازني، قال الدارقطني في الجرح والتعديل: مدني معروف، يعتبر به. وقال الذهبي: لا يعرف. انتهى. تت. انفرد به المصنف.
7 -
(عبد الله بن علقمة بن وقاص) الليثي، مقبول، من [6]
أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، والنسائي.
8 -
(علقمة بن وقاص) الليثي المدني، ثقة ثبت، من [2]، أخطأ من زعم أن له صحبة، وقيل: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، تقدم في 75.
9 -
(معاوية) بن أبي سفيان رضي الله عنهما، تقدم في السند الماضي. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من ثمانيات المصنف، وأن للمصنف فيه شيخين: مجاهد، أخرج له مسلم والأربعة، وإبراهيم أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه في "التفسير"، وفيه عيسى بن عمر من أفراده، وليس له إلا هذا الحديث. وفيه عبد الله بن علقمة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، والمصنف، والباقون اتفقوا عليهم. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن علقمة بن وقاص) الليثي، أنه (قال: إِني عند معاوية) اسم "إن" ياء المتكلم، وخبرها الظرف (إِذ أذن مؤذنه) أي مؤذن معاوية رضي الله عنه (فقال معاوية، كما قال المؤذن، حتى إِذا قال) أي المؤذن (حي على الصلاة، قال) أي معاوية (لا حول، ولا قوة إِلا بالله) قال النووي في شرح مسلم: يجوز فيه خمسة أوجه
لأهل العربية مشهورة:
أحدها: "لا حول ولا قوة" بفتحهما بلا تنوين.
الثاني: فتح الأول، ونصب الثاني منونًا.
الثالث: رفعهما منونين.
والرابع: فتح الأول، ورفع الثاني منونًا.
والخامس: عكسه.
قال الجامع عفا الله عنه: وإلى هذه الأوجه أشار ابن مالك رحمه الله، حيث قال:
وَرَكِّبْ الْمُفْرَدَ فَاتِحًا كَلَا
…
حَوْلَ وَلا قُوَّةَ والثَّانِ اجْعَلا
مَرْفُوعًا أو مَنْصُوبًا أو مُرَكَّباَ
…
وَإِنْ رَفَعْتَ أَوَّلَا لا تنْصِباَ
قال أبو الهيثم: الحول: الحركة، أي لا حركة، ولا استطاعة إلا بمشيئة الله تعالى، وكذا قال ثعلب، وآخرون. وقيل: لا حول في دفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله. وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحُكِيَ هذا عن ابن مسعود، وحَكَى الجوهري لغةً غريبة ضعيفة أنه يقال: لا حَيل ولا قوة إلا بالله، بالياء. قال: والحول، والحيل بمعنى. انتهى.
وفي قوله: لغة غريبة ضعيفة نظر، اللهم إلا إذا أراد في هذا التركيب خاصة، وإلا فقد أثبت أهل اللغة الحَوْلَ، والحَيْلَ بالواو،
والياء سواء.
قال المجد في "ق": والحَوْلُ، والحَيْل، والحِوَل، كعنب، والحَوْلة، والْحِيلَةُ، والتحوِيلُ، والْمَحَالَة، والمَحَال، والاحتيال، والتحول، والتحيل: الْحِذْق، وجَوْدة النظر، والقدرة على التصرف. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: فثبت بهذا أن الحَيْل بالياء لغة، مثل الحول بالواو، وليست ضعيفة. والله أعلم.
فائدة:
يقال في التعبير عن قولهم: لا حول، ولا قوة إلا بالله: الحوقلة. هكذا قال الأزهري، والأكثرون. وقال الجوهري: الحولقة.
فعلى الأول، وهو المشهور الحاء والواو من الحول، والقاف من القوة، واللام من اسم الله تعالى.
وعلى الثاني: الحاء واللام من الحول، والقاف من القوة، والأول أولى، لئلا يفصل بين الحروف، ومثل الحولقة الحيعلة في حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على كذا، والبسملة في "بسم الله" والحمدلة في "الحمد لله" والهيللة في "لا إله إلا الله"، والسبحلة في "سبحان الله". انتهى. انظر "شرح مسلم" جـ 4 ص 87.
وقال المطرزي في كتاب اليواقيت وفي غيره: إن الأفعال التي أخذت من أسمائها، وهي بسمل الرجل إذا قال: بسم الله،
وسبحل: إذا قال سبحان الله، وحوقل: إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وحيعل: إذا قال: حي على الصلاة، ويجيء على القياس: حيصل: إذا قال: حي على الصلاة، ولم يُذْكَر، وحمدل: إذا قال: الحمد لله، وهيلل: إذا قال: لا إله إلا الله، وجعفل: إذا قال: جُعِلْتُ فدَاءك. زاد الثعالبي: الطيقلة: إذا قال: أطال الله بقاءك، والدمعزة: إذا قال: أدام الله عزك.
وقال عياض: قوله: الحيصلة على قياس الحيعلة غير صحيح، بل الحيعلة تطلق على حي على الصلاة، وحي على الفلاح كلها حيعلة، ولو كان على قياسه في الحيصلة لكان الذي يقال في "حي على الفلاح" الحيفلة بالفاء، وهذا لم ينقل، وإنما الحيعلة من قولهم: حي على كذا، فكيف، وهو باب مسموع، لا يقاس عليه، وانظر قوله: جعفل في جعلتُ فداءك، لو كان على قياس الحيعلة لقال: جعلف، إذ اللام مقدمة على الفاء، وكذا الطيلقة تكون اللام على القياس قبل القاف. والله أعلم. ذكره العيني في "عمدة القاري" جـ 5 ص 121.
(فلما قال) أي المؤذن (حي على الفلاح، قال) أي معاوية (لا حول ولا قوة إِلا بالله، وقال بعد ذلك) أي بعد قوله: لا حول ولا
قوة إلا بالله في الحيعلتين (ما قال المؤذن) أي مثل الذي قاله المؤذن، من التكبير، والتهليل، وفي رواية ابن خزيمة، من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبيه، عن جده، "فقال: الله أكبر، الله أكبر، لا
إله إلا الله، فقال معاوية: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. (ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل ذلك) ولفظ الكبرى "يقول ذلك". والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث معاوية رضي الله عنه هذا من رواية علقمة بن وقاص عنه صحيح، فقد وجد متابع لعبد الله بن علقمة في الرواية عن أبيه، وهو أخوه عمرو بن علقمة، كما يأتي في رواية أحمد، والدارمي، وابن خزيمة، وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، من بين أصحاب الأصول، أخرجه هنا (677)، وفي الكبرى (1640) عن مجاهد بن موسى، إبراهيم بن الحسن المِقْسَمِيّ، كلاهما عن حجاج الأعور، عن ابن جريج، عن عمرو بن يحيى، عن عيسى بن عُمَرَ، عن عبد الله بن علقمة، عن أبيه علقمة بن وقاص، عنه. وفي عمل اليوم والليلة (353) عن مجاهد بن موسى وحده به.
المسألة الثانية: فيمن أخرجه معه من غير أصحاب الأصول:
أخرجه أحمد في "المسند" جـ 4 ص 91، قال عبد الله بن أحمد:
وجدت هذا الحديث في كتاب أبي بخط يده، قال: حدثنا محمد بن بكر البرساني، قال: أنبأنا ابن جريج، قال: حدثنا عمرو بن يحيى، أن عيسى بن عمر أخبره، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، وفي
(4/ 98)، قال: حدثنا يحيى، عن محمد بن عمرو، قال: حدثني أبي -وأخرجه الدارمي- رقم (1206) قال أخبرني سعيد ابن عامر، قال حدثنا محمد بن عمرو -عن أبيه- وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه رقم (416) قال: حدثنا بندار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثني أبي، كلاهما عن علقمة بن وقاص، فذكر الحديث.
المسألة الثالثة: في هذا الحديث أن من سمع الأذان يقول مثل ما يقول المؤذن، إلا في الحيعلتين، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب قوم إلى أنه يقول ما يقوله المؤذن كلمة بكلمة إلى آخر النداء، وحجتهم حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتقدم (673)"إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن".
وذهب آخرون إلى أنه يقول كما يقول المؤذن، إلا في الحيعلتين، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وحجتهم حديث معاوية رضي الله عنه هذا.
وذهب آخرون إلى أنه يقول مثل ما يقول المؤذن في التشهد خاصة، وإن شاء قال: وأنا أشهد بما تشهد به، ونحو هذا، واحتجوا بحديث سعد بن أبي وقاص الآتي (679) "من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله. . . الحديث". أفاده في الاستذكار جـ 2
ص 84 - 85.
وقال العلامة أبو بكر ابن المنذر رحمه الله بعد ذكر الخلاف: وقد يجوز أن يقول قائل: هذا من الاختلاف المباح، إن شاء قال كما يقول المؤذن، وإن شاء قال كما في خبر معاوية بن أبي سفيان، أيَّ ذلك قال فهو مصيب. انتهى. الأوسط جـ 3 ص 35.
وقال الشوكاني رحمه الله: وحَكَى بعض المتأخرين عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما، قال: فَلِمَ لا يقال: يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة، وهو وجه عند الحنابلة. انتهى. نيل جـ 2 ص 122.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأرجح قول من قال: يتابع المؤذن إلا في الحيعلتين، فيُحَوْقِلُ فيهما، لأن حديث أبي سعيد "فقولوا مثل ما يقول المؤذن" وكذا حديث أم حبيبة رضي الله عنها "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت" مُفسَّر بحديث معاوية المذكور في الباب، وبحديث عمر رضي الله عنه عند مسلم وأبي داود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا
قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، من قلبه دخل الجنة".
فهذان الحديثان يُبَيِّنَان ما أُجْمِلَ في حديث أبي سعيد، وأم حبيبة رضي الله عنهما من قوله:"فقولوا مثل ما يقول" وقولها "كان يقول: كما يقول المؤذن" أي غير الحيعلتين.
وأما ما ذكره الشوكاني من قول بعضهم بالجمع بينهما فغير صحيح، إذ يؤدي ذلك إلى ترك العمل بحديث عمر، ومعاوية رضي الله عنهما.
والحاصل أن الأولى أن يقول مثل ما يقول المؤذن إلا في الحيعلتين، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، جمعًا بين الأحاديث، فتبصر. والله أعلم.
تنبيه:
أخرج البخاري حديث معاوية رضي الله عنه المذكور في هذا الباب مختصرًا، وأخرج مسلم حديث عمر رضي الله عنه المذكور آنفًا.
قال الحافظ رحمه الله: وإنما لم يخرجه -أي حديث عمر- البخاريُّ لاختلاف وقع في وصله وإرساله، كما أشار إليه الدارقطني، ولم يخرج مسلم حديث معاوية؛ لأن الزيادة المقصودة منه -يعني الحوقلة- ليست على شرط الصحيح للمبهم الذي فيها -أي لقول يحيى بن أبي
كثير: وحدثني بعض إخواننا أنه لما قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال الحافظ: لكن إذا انضم أحد الحديثين إلى الآخر قوي جدًا. وفي الباب أيضًا عن الحارث بن نوفل الهاشمي، وأبي رافع، وهما في الطبراني، وغيره، وعن أنس في البزار، وغيره، والله أعلم. انتهى. فتح جـ 2 ص 111 - 112.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
37 - الصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الأذانِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد إجابة المؤذن بمثل ما تقدم.
678 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ عَلْقَمَةَ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرٍ مَوْلَى نَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ، يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَا تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ".
رجال الإسناد ستة
1 -
(سويد) بن نصر المروزي أبو الفضل راوية ابن المبارك، ثقة، من [10] تقدم في 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك، الإمام الحجة الثبت، من [8] تقدم في 36.
3 -
(حيوة بن شرَيْح) بن صفوان التجيبي، أبو زرعة المصري، ثقة ثبت فقيه زاهد، توفي سنة 158، وقيل: 159، من [7] أخرج له الجماعة، تقدم في 478.
4 -
(كعب بن عَلْقَمَة) بن كعب بن عدي المصري التنوخي، أبو عبد الحميد، صدوق، توفي سنة 127 وقيل بعدها، من [5] أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأبو داود والترمذي والنسائي. ذكره ابن حبان في "الثقات".
5 -
(عبد الرحمن بن جُبَيْر مولى نافع بن عمرو القرشي) المصري المؤذن العامري، ثقة عارف بالفرائض، توفي سنة 97 وقيل بعدها، من [3].
قال النسائي: ثقة، ووثقه يعقوب بن سفيان، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن لهيعة: كان عالمًا بالفرائض، وكان عبد الله بن عمرو به معجبًا، وقال ابن يونس: كان فقيهًا عالمًا بالقراءة، شهد فتح مصر. انتهى. أخرجوا له إلا البخاري، وابن ماجه.
6 -
(عبد الله بن عمرو) بن العاص الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم في 111. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن حيوة بن شريح) التجيبي (أن كعب بن علقمة سمع عبد الرحمن بن جبير مولى نافع بن عمرو القرشي) ويقال: ابن عبد عمرو بن نضلة العامري، قال الخزرجي في خلاصته: له عند مسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي أربعة أحاديث. وقال الحافظ المزي في تهذيب الكمال: وقد خلط بعضهم ترجمة عبد الرحمن ابن جبير هذا بترجمة عبد الرحمن بن جبير بن نفير، والصواب التفريق بينهما كما ذكرنا. والله أعلم. انتهى. جـ 17 ص 33.
(يحدث) جملة حالية في محل نصب، وكذا الجملتان بعده (أنه سمع عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما (يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِذا سمعتم المؤذن) أي صوته، أو أذانه (فقولوا: مثل ما يقول) وقد تقدم في الباب الماضي أن الراجح استثناء الحيعلتين بالحوقلة، جمعًا بين الأحاديث.
وأما ما قاله بعضهم من استثناء "الصلاة خير من النوم" فيقول بدله: صدقت، وبررت، وبالحق نطقت، وكذا يقول في الإقامة عند قوله:"قد قامت الصلاة": أقامها الله، وأدامها، فمما لا دليل عليه، بل هو استحسان من قائله، فلا يلتفت إليه، فتبصر، جعلني الله وإياك من المتبعين، وجنبنا من انحرافات المبتدعين.
(ثم صلوا علي) أتى بثم إشارة إلى أن الصلاة تكون بعد الفراغ من الإجابة، وفيه جواز إفراد الصلاة عن السلام من غير كراهة، وإليه ذهب كثيرون، وقال بعضهم: يكره إفراد الصلاة عن السلام، ولكن لا وجه له، وذكر الفقيه ابن حجر الهيثمي رحمه الله أن الحق أن المراد بالكراهة خلاف الأولى، قال: لأنه لم يوجد مقتضيًا من النهي المخصوص. قاله في المنهل.
قال الجامع عفا الله عنه: الأولى أن تكون الصلاة بالصيغة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم، وهي الصلاة الإبراهيمية، ولا ينبغي لمسلم أن يشتغل بغيرها، ولها صيغ مختلفة، وسيذكر المصنف فيما يقال بعد التشهد بعض صيغها، وسنتكلم عليها هناك إن شاء الله تعالى.
ولا يرفع بالصلاة صوته، كما يفعله بعض المبتدعة في بعض البلدان، فإن ذلك من البدع التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم.
(فإِنه) الضمير للشأن، وهو ما تفسره الجملة بعده (من صلى علي صلاة) أي واحدة (صلى الله عليه عشرًا) ولمسلم، وأبي داود "صلى الله عليه بها عشرًا".
وصلاة الله تعالى معناه ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري في صحيحه عن أبي العالية، ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، وجرى عليه الحَلِيمِيُّ في شعب الإيمان، وقيل: رحمته، كما نقله الترمذي في جامعه عن الثوري، وغير واحد من أهل
العلم، وجرى عليه المبرد، والماوردي، وقال: إن ذلك أظهر الوجوه. أفاده في المنهل جـ 4 ص 194.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره جـ 3 ص 503: وقد يقال: لا منافاة بين القولين. وضعف العلامة ابن القيم القول الثاني، وبالغ في تضعيفه، والرد عليه بنحو خمسة عشر وجهًا في كتابه جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص 82 وسوف أعود إلى نقله إن شاء الله تعالى، في المحل المناسب له.
وقال السندي: لا يقال: فيه تفضيل المصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يصلي الله عليه عشرًا في مقابلة صلاة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنا نقول: هي واحدة بالنظر إلى أن المصلي دعا بها مرة واحدة، فلعل الله تعالى يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ما لا يعد، ولا يحصى، على أن الصلاة على واحد بالنظر إلى حاله، وكم من واحد لا يساويه ألف، فمن أين التفضيل؟ انتهى. جـ 2 ص 26.
(ثم سلوا الله لي) أمر من سأل، يسأل بالهمز على النقل، والحذف، والاستغناء، أو من سأل بالألف المبدلة من الهمز، أو الواو، أو الياء. قاله القاري في المرقاة جـ 2 ص 350. (الوسيلة) قال التوربشتي رحمه الله: هي في الأصل: ما يتوسل به إلى الشيء، ويتقرب به إليه، وجمعها وسائل، وإنما سميت تلك المنزلة من الجنة بها، لأن الواصل إليها يكون قريبًا من الله سبحانه، فائزًا بلقائه،
مخصوصًا من بين سائر الدرجات بأنواع الكرامات. انتهى. مرقاة جـ 2 ص 350.
وقال ابن منظور اللغوي رحمه الله: الوسيلة: المنزلة عند الملك، والوسيلة: الدرجة، والوسيلة: القربة. ووَسَّل فلان إلى الله وسيلة: إذا عمل عملًا تقرب به إليه. والواسل: الراغب إلى الله؛ قال لبيد [من الطويل]:
أرى النَّاسَ لا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أمْرِهِم
…
بَلَى كُلُّ ذِي رَأْيٍ إِلى اللهِ واسِلُ
وتوسَّلَ إليه بوسيلة: إذا تقرب إليه بعمل، وتوسل إليه بكذا: تقرب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه. والوسيلة: الوُصْلَةُ، والقُرْبَى، وجمعها: الوسائل، قال الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] الآية.
وقال الجهوري: الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوُسُلُ، والوسائل، والتوسل، والتوسيل واحد. وفي حديث الأذان "اللهم آت محمدًا الوسيلة"؛ هي في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء، ويتقرب به، والمراد به في الحديث: القرب من الله تعالى، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة؛ وقيل هي منزلة من منازل الجنة، كما جاء في الحديث. انتهى كلام ابن منظور في "اللسان" جـ 6 ص 4837 - 4838.
قال الجامع عفا الله عنه: وأولى التفاسير للوسيلة هنا أنها منزلة من منازل الجنة، لحديث الباب، لأن خير ما فُسِّرَ بهِ الوارد هو الوارد. والله أعلم.
(فإِنها) أي الوسيلة (منزلة في الجنة) من منازلها، وهي أعلاها وأغلاها على الإطلاق (لا تنبغي) أي لا تصلح، ولا تتيسر.
فائدة:
قال الزجاج: يقال: انبغى لفلان أن يفعل كذا: أي صلح له أن يفعل كذا، وكأنه قال: طلب فعل كذا، فانطلب له، أي طاوعه، ولكنهم اجتزءوا بقولهم: انبغى. وانبغى الشيءُ: تيسر، وتسهل. وقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 79] أي ما يتسهل له ذلك، لأنا لم نعلمه الشعر. وقال ابن الأعرابي: وما ينبغي له: وما يصلح له. انتهى. لسان جـ 1 ص 322.
وقال الفيومي رحمه الله: وقد عَدُّوا "ينبغي" من الأفعال التي لا تتصرف، فلا يقال: انبَغَى، وقيل في توجيهه: إن "انبغى" مطاوع بغى، ولا يستعمل انفعل في المطاوعة، إلا إذا كان فيه علاج، وانفعال، مثل كسرته، فانكسر، وكما لا يقال: طلبته، فانطلب، وقصدته، فانقصد، لا يقال: بغيته، فانبغى، لأنه لا علاج فيه. وأجازه بعضهم، وحكي عن الكسائي أنه سمعه من العرب. وما ينبغي أن
يكون كذا: أي ما يستقيم، أو ما يحسن. انتهى. المصباح جـ 1 ص 57.
(إِلا لعبد من عباد الله) يعني أنه لا تصلح، ولا تتيسر تلك المنزلة إلا لعبد واحد من جميع عباد الله.
(أرجو أن أكون أنا هو) قيل: "هو" خبر "أكون" وضع موضع إياه، ويحتمل أن يكون من باب وضع الضمير موضع اسم الإشارة، أي أكون ذلك العبد، وعليهما فأنا تأكيد للضمير في "أكون". قاله في المنهل جـ 4 ص 195.
وقال السندي: من وضع الضمير المرفوع موضع المنصوب على أن "أنا" تأكيد، أو فصل، ويحتمل أن يكون "أنا" مبتدأ، خبره "هو"، والجملة خبر "أكون". والله أعلم. انتهى. جـ 2 ص 26.
وإنما قال "أرجو" تواضعًا، لأنه إذا كانت تلك المنزلة الرفيعة لا تكون إلا لواحد، فلا يكون ذلك الواحد إلا هو صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أفضل الجميع، وفي المنهل: وقال ذلك قبل أن يوحى إليه أنه صاحبها، ويحتمل أنه قاله بعد أن أوحي إليه بها، فيكون ذلك تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم، وأمره للأمة بسؤال الوسيلة بعدُ لزيادة الرفعة والمقام، كبقية الدعاء له، ولنيل الأمة الأجر على الدعاء له. انتهى.
(فمن سأل لي) أي لأجلي (الوسيلة) المذكورة (حلت له الشفاعة) أي استحقت، ووجبت، أو نزلت عليه، يقال: حل، يحُل -بالضم-: إذا نزل، واللام بمعنى على، ويؤيده رواية أبي داود
"حلت عليه الشفاعة"، وذكر السندي أنه في نسخة النسائي أيضًا. والله أعلم. ونسبه الحافظ إلى مسلم، ولكن نسخة النووي باللام. ووقع عند الطحاوي من حديث ابن مسعود "وجبت له".
ولا يجوز أن تكون حلت من الحل ما يقابل الحرمة، لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة. قاله الحافظ. وقال السندي: قد يقال: بل لا تحل
إلا لمن أذن له، فيمكن أن يجعل الحل كناية عن حصول الإذن في الشفاعة له. انتهى.
واستشكل بعضهم؛ جعل ذلك ثوابًا لقائل ذلك مع ما ثبت من أن الشفاعة للمذنبين، وأجيب بأن له صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى، كإدخال الجنة بغير حساب، وكرفع الدرجات، فيعطى كل أحد ما يناسبه.
ونقل عياض عن بعض شيوخه أنه كان يرى اختصاص ذلك بمن قاله مخلصًا مستحضرًا إجلال النبي صلى الله عليه وسلم، لا من قصد بذلك مجرد الثواب، ونحو ذلك، وهو تحكم غير مرضي، ولو أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه. وقال المهلب: في الحديث الحض على الدعاء في أوقات الصلوات؛ لأنه حال رجاء الإجابة. والله أعلم. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 114. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا 37/ 678، و"الكبرى"(1642) و"عمل اليوم والليلة"(45) عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن حيوة بن شريح، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير مولى نافع بن عمرو القرشي، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي، فأخرجه مسلم 2/ 4 عن محمد بن سلمة المرادي، عن ابن وهب، عن حيوة، وسعيد بن أيوب، وغيرهما، عن كعب بن علقمة به. وأبو داود (523) عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، وحيوة، وسعيد بن أيوب، عن كعب به. والترمذي (3614) عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة به. وقال حسن صحيح. قال محمد: عبد الرحمن بن جبير هذا قرشي، وهذا مصري، وعبد الرحمن بن جبير بن نفير شامي.
وأخرجه أحمد 2/ 168، و (6568) عن أبي عبد الرحمن، عن حيوة به، وأخرجه عبد بن حميد (354) عن عبد الله بن يزيد، عن
سعيد بن أيوب به، وأخرجه ابن خزيمة رقم (418)، عن محمد بن أسلم، عن عبد الله بن يزيد المقرئ به. أفاده في "تحفة الأشراف"
جـ 6 ص 355، و"إِطْراف المُسْنِد" جـ 4 ص 69، و"المسند الجامع" جـ 11 ص 38. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائد الحديث:
منها: الأمر بإجابة المؤذن لمن سمع الأذان، وقد تقدم البحث عنه مستوفى (33/ 673).
ومنها: الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإجابة، وظاهر الأمر الوجوب إذ لا صارف للأمر إلى الاستحباب.
ومنها: الأمر بسؤال الوسيلة له صلى الله عليه وسلم وحكمه كسابقه.
ومنها: بيان معنى الوسيلة، وعلو شأنها، وأنها لا تكون إلا لعبد واحد.
ومنها: بيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث اختص بتلك المنزلة الرفيعة.
ومنها: أن من سأل له الوسيلة ثبتت له الشفاعة.
ومنها: بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم، حيث طلب من أمته الدعاء له بتلك المنزلة مع أنها ستكون له.
ومنها: تحقيق معنى إرساله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، حيث إن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه عشرًا، ومن سأل له الوسيلة وجبت له الجنة، إلى غير ذلك مما تناله الأمة بسببه من تضاعف الدرجات، ورفيع المقامات. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
38 - الدُّعَاءُ عِنْدَ الأذَانِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على مشروعية الدعاء عند سماع الأذان.
679 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ الْحُكَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلاني، أبو رجاء، ثقة ثبت، من [10] تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد أبو الحارث، الإمام الحجة الثبت الفقيه المصري، من [7] تقدم في 35.
3 -
(الحُكَيْم بن عبد الله) -بتصغير الأول- بن قيس بن مخرمة ابن المطلب بن عبد مناف المطلبي، المصري، صدوق، توفي سنة
118، من [4] أخرج له مسلم والأربعة.
قال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات.
4 -
(عامر بن سعد) بن أبي وقاص الزهري المدني، ثقة، توفي سنة 104، من [3].
قال العجلي: مدني تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن سعد: مات سنة 104، وكان كثير الحديث. وقال الهيثم بن عدي: مات في خلافة الوليد بن عبد الملك. أخرج له الجماعة.
5 -
(سعد بن أبي وقاص) مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري، أبو إسحاق أحد العشرة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، ومناقبه كثيرة، مات بالعقيق سنة 55 على المشهور، وهو آخر من مات من العشرة. أخرج له الجماعة، تقدمت ترجمته في 96/ 121. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم موثوقون، اتفقوا عليهم، إلا حُكَيْمًا، فلم يخرج له البخاري، وأنهم ما بين بغلاني، وهو قتيبة، ومصريين، وهما الليث، وحُكَيم، ومدنيين، وهما عامر، وسعد.
وفيه رواية الابن عن أبيه.
وفيه أن سعدًا ممن أسلم قديمًا، ففي صحيح البخاري عنه، أنه قال: لقد مكثت سبعة أيام، وإني ثلث الإسلام، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو آخر من مات منهم، وهاجر إلى المدينة قبله صلى الله عليه وسلم، وشهد بدرًا، والمشاهد كلها، وكان مجاب الدعوة، فقد روى الترمذي بسنده عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" فكان لا يدعو إلا استجيب له. وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن سعد بن أبي وقاص) رضي الله تعالى عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: من) شرطية مبتدأ (قال حين يسمع المؤذن) أي يسمع قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، فقوله: وأنا أشهد عطف على قول المؤذن، أي وأنا أشهد كما تشهد. قاله السندي.
وقال في المنهل: ظاهره يدل على أنه يقول هذا الذكر حال الأذان عقب سماعه الشهادتين، ويحتمل أنه يقوله بعد تمام الأذان، إذ لو قال ذلك حال الأذان لفاته إجابة المؤذن في بعض كلمات الأذان. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول هو الأولى، لدلالة العطف عليه، كما أشار إليه السندي، إذ قوله: وأنا أشهد عطف على
شهادة المؤذن، فيقتضي كونه حال الأذان. والله أعلم.
(وأنا أشهد أن لا إِله إِلا الله، وحده) أي حال كونه منفردًا في ألوهيته (لا شريك لي) في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله (و) أشهد (أن محمدًا عبده ورسوله) الإضافة فيهما للاختصاص، والمراد بهما الفرد الكامل في الوصف بهما، وفيه الإشارة إلى الرد على اليهود والنصارى، حيث يعتقدون ألوهية بعض الأنبياء.
(رضيت بالله) بفتح الراء، وكسر الضاد، يقال: رضيت الشيء، ورضيت به، رِضًا: اخترته، وارتضيته مثله. قاله في المصباح (ربًّا) منصوب على التمييز، أي بربوبيته، وبجميع قضائه، وقدره، فإن الرضا بالقضاء باب الله الأعظم، وقيل: حال، أي مربيًا، ومالكًا، وسيدًا، ومصلحًا، قاله في المرقاة.
(و) رضيت (بمحمد) صلى الله عليه وسلم (رسولًا) أي بجميع ما أرسل به، وبلغه إلينا من الأمور الاعتقادية، وغيرها. وإعرابه كإعراب "ربًا".
(و) رضيت (بالإِسلام) أي بجميع أحكام الإسلام، من الأوامر، والنواهي، وغيرهما (دينًا) أي اعتقادًا، أو انقيادًا، وإعرابه كسابقيه. وقال ابن الملك: جملة رضيت: استئنافية، -يعني استئنافًا بيانيًا- كأنه قيل: ما سبب شهادتك؟ فقال: رضيت بالله. . . إلخ.
(غفر له ذنبه) أي من الصغائر على ما قيل، وهو جواب "من" الشرطية في قوله:"من قال حين يسمع النداء"، وهو الخبر، على
الأصح، وهو يحتمل أن يكون إخبارًا، وأن يكون دعاء. قاله ابن الملك. والأول هو المعوَّل عليه. قاله في "المرقاة" جـ 2 ص 355. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
الثانية: في بيان موضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (679)، و"عمل اليوم والليلة"(73)، و"الكبرى"(1643) عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن الحُكَيْم بن عبد الله، عن عامر بن سعد، عنه. والله أعلم.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، فأخرجه مسلم (2/ 4) عن محمد بن رمح، وقتيبة، كلاهما عن الليث به.
وأبو داود (525)، والترمذي (210) عن قتيبة به. وابن ماجه (721) عن محمد ابن رمح به.
وأخرجه أحمد (1/ 181) عن يونس بن محمد، وقتيبة، كلاهما عن الليث به. وأخرجه عبد بن حُميد عن وهب جرير، عن الليث به. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
680 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ، وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ، إِلاَّ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائي، ثقة ثبت، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 147.
2 -
(عمرو بن عَيَّاش) الألْهَاني الحمصي، ثقة ثبت، توفي سنة 219، من [9] تقدم في 185.
3 -
(شُعَيْب) بن أبي حمزة دينار الأموي مولاهم، أبو بشر الحمصي، ثقة عابد، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهري، توفي سنة 162 أو بعدها، من [7] تقدم في 85.
4 -
(محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن الهُدَير التيمي المدني، ثقة فاضل، من [3] تقدم في 138.
5 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدم في 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات.
ومنها: أنهم ما بين نسائي، وهو شيخه، وحمصيين، وهما علي، وشعيب، ومدنيين، وهما محمد، وجابر.
ومنها: أن الأئمة اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فقد انفرد هو به، وعلي بن عياش، فلم يخرج له مسلم.
ومنها: ما قاله الحافظ في الفتح: إن علي بن عياش من كبار شيوخ البخاري، ولم يلقه من الأئمة الستة غيره، وقد حدث عنه القدماء بهذا الحديث، أخرجه أحمد في مسنده عنه، ورواه علي بن المديني شيخ البخاري مع تقدمه على أحمد عنه، وأخرجه الإسماعيلي من طريقه.
ومنها: أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى 1540 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن محمد بن المنكدر) ذكر الترمذي أن شعيبًا تفرد به عن ابن المنكدر، فهو غريب مع صحته، وقد توبع ابن المنكدر عليه عن جابر، أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبي الزبير، عن جابر، نحوه، ووقع في زوائد الإسماعيلي: أخبرني ابن المنكدر. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 112.
(عن جابر) بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال حين يسمع النداء) أي الأذان، فاللام للعهد، ويحتمل أن يكون التقدير: من قال حين يسمع نداء المؤذن. وظاهره أنه يقول الذكر المذكور حال سماع الأذان، ولا يتقيد بفراغه، لكن يحتمل أن يكون المراد من النداء تمامه، إذ المطلق يحمل على الكامل، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم، بلفظ "قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة"، وتقدم للمصنف نحوه (678) ففي هذا أن ذلك يقال عند فراغ الأذان.
واستدل الطحاوي بظاهر حديث جابر على أنه لا يتعين إجابة المؤذن بمثل ما يقول، بل لو اقتصر على الذكر المذكور كفاه. وقد بين حديث عبد الله بن عمرو المراد، وأن الحين محمول على ما بعد الفراغ.
واستدل به ابن بزيزة على عدم وجوب ذلك، لظاهر إيراده، لكن لفظ الأمر في رواية مسلم قد يتمسك به من يدعي الوجوب، وبه قالت الحنفية، وابن وهب من المالكية، وخالف الطحاوي أصحابه، فوافق الجمهور. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 112.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدم ترجيح قول من قال بالوجوب، لظاهر الأمر، مع عدم صارف له. فتنبه. والله أعلم.
(اللهم) أي يا الله، والميم عوض عن حرف النداء، فلذا لا يجمع بينهما، فلا يقال: يا اللهم، إلا في الضرورة، كما قال ابن
مالك:
وَالأكْثَرُ اللَّهُمَّ بِالتَّعْوِيضِ
…
وَشَذَّ ياَ اللَّهُمَّ فِي قرِيضِ
(رب) منصوب على النداء، أو على المدح، أو على الاختصاص ويحتمل الرفع -إن صحت الرواية- على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي أنت رب، والرب المربي المصلح للشأن، وقال الزمخشري: رَبَّهُ، يَرُبُّهُ، فهو رَبٌّ، ويجوز أن يكون وصفًا بالمصدر للمبالغة، كما في الوصف بالعدل، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده، وفي غيره على التقييد بالإضافة، كقولهم: رب الدار، ونحوه. قاله في "عمدة القاري" جـ 5 ص 122.
(هذه الدعوة) بفتح الدال، وفي المحكم: الدَّعوة، والدِّعوة- بالفتح، والكسر، والمَدْعَاة،: ما دعوت إليه، وخص اللحياني بالمفتوحة الدعاء إلى الوليمة، قال العيني: قالوا: الدَّعوة -بالفتح- في الطعام، والدِّعوة- بالكسر في النسب، والدُّعوة -بالضم- في الحرب. والمراد بالدعوة هنا ألفاظ الأذان التي يدعى بها الشخص إلى عبادة الله تعالى. انتهى. "عمدة القاري" جـ 5 ص 122.
زاد البيهقي من طريق محمد بن عوف الطائي، عن علي بن عياش "اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة"، وزاد في آخره "إنك لا تخلف الميعاد"، وهي زيادة ثقة مقبولة، لا كما قال بعضهم: إنها شاذة مردودة، وسيأتي تمام البحث عنها في المسائل إن شاء الله تعالى.
والمراد بها دعوة التوحيد، كقوله تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14]، وقيل لدعوة التوحيد: تامة، لأن الشركة نقص، أو التامة التي لا يدخلها تغيير، ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم النشور، أو لأنها هي التي تستحق صفة التمام، وما سواها فمُعَرَّضٌ للفساد.
وقال ابن التين: وصفت بالتامة؛ لأن فيها أتم القول، وهو "لا إله إلا الله". قاله في الفتح.
وقال السندي: ومعنى رب هذه الدعوة: أنه صاحبها، أو المتمم لها، والزائد في أهلها، والمثيب عليها أحسن الثواب، والآمر بها،
ونحو ذلك. انتهى.
(والصلاة القائمة) أي الدائمة التي لا يغيرها ملة، ولا ينسخها شريعة، وأنها قائمة ما دامت السماوات والأرض. انتهى. عمدة جـ 2 ص 122، وفي الزهر: أي التي ستقوم، أي تقام وتُحْضَر.
وقال الطيبي: من أوله إلى قوله: "محمد رسول الله" هي الدعوة التامة، والحيعلة هي الصلاة القائمة في قوله:"يقيمون الصلاة"، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة الدعاء، وبالقائمة الدائمة، من قام على الشيء: إذا داوم عليه، وعلى هذا فقوله:"والصلاة القائمة" بيان للدعوة التامة، ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة المعهودة المدعو إليها حينئذ، وهو أظهر. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 112 - 113.
(آت) أي أعط، وهو أمر من الإيتاء، وهو الإعطاء (محمدًا الوسيلة)"محمدًا" مفعول أول لآت، والوسيلة مفعوله الثاني. وهي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال: توسلت، أي تقربت، وتطلق على المنزلة العلية، وقد تقدم ذلك في حديث عبد الله بن عمرو (678) بلفظ:"فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله" الحديث، ونحوه للبزار عن أبي هريرة، ويمكن ردها إلى الأول بأن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فتكون كالقربة التي يتوسل بها. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 113. وتقدم هناك مزيد بسط لتصريف الوسيلة، ومعناها، فارجع إليه تزدد علمًا.
(والفضيلة) بفتح، فكسر، كالفَضْل: خلاف النَّقِيصَة، والنَّقْصِ. أفاده في المصباح. والمراد به هنا المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرًا للوسيلة. قاله في الفتح.
تنبيه:
زاد بعضهم في هذا الحديث بعد قوله: "والفضيلة"، قوله:"والدرجة الرفيعة". قال الحافظ في التلخيص: وليس في شيء من طرقه ذكر الدرجة الرفيعة، وزاد الرافعي في المحرر في آخره: يا أرحم الراحمين، وليست أيضًا في شيء من طرقه. انتهى. جـ 1 ص 210.
(وابعثه المقام المحمود) أي يُحْمَدُ القائم فيه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات.
ورواية المصنف المقام المحمود، بالتعريف، وكذا في صحيحي ابن خزيمة، وابن حبان، والطحاوي، والطبراني في الدعاء، والبيهقي. قال الحافظ: وفيه تعقب على من أنكر ذلك، كالنووي.
ووقع في رواية البخاري وغيره "مقامًا محمودًا" بالتنكير. قيل: نكر لموافقة لفظ القرآن، وقيل: لأنه أفخم، وأجزل، كأنه قيل: مقامًا
أى مقامًا محمودًا بكل لسان.
تنبيه:
في نصب "مقامًا" أربعة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على الظرف، أي ابعثه في مقام.
الثاني: أن ينتصب بمعنى "ابعثه" لأنه في معنى "أقمه"، يقال: أُقِيمَ من قبره، وبُعِثَ منه، بمعنىً، فهو كقعدت جلوسًا.
الثالث: أنه منصوب على الحال على حذف مضاف، أي ذا مقام.
الرابع: أنه مصدر مؤكد، ونصبه مقدر، أي فأقمه مقامًا.
ذكر هذه الأوجه كلها العلامة السَّمين الحلبي في كتابه الدر المصون في التفسير، عند قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، جـ 4 ص 414 - 415.
قال الجامع عفا الله عنه: كل هذه الأوجه جائزة في رواية المصنف بالتعريف، إلا النصب على الحال، ففيه خلاف بين النحاة، انظر تفاصيل المسألة في شرح قول ابن مالك:
وَالحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ
…
تَنْكِيرَهُ مَعنىً كَوَحْدَكَ اجْتَهِدْ
(الذي وعدته) صفة بعد صفة للمقام، ويجوز نصبه بتقدير أمدح، أو أعني، ورفعه، بتقدير هو. وزاد في رواية البيهقي "إنك لا تخلف الميعاد"، وهي زيادة شاذّة، سيأتي الكلام عليها.
قال الطيبي: المراد بذلك قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]. وأطلق عليه الوعد، لأن عسى من الله واقع، كما صح عن ابن عيينة، وغيره.
قال ابن الجوزي رحمه الله: والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وقيل: إجلاسه على العرش، وقيل: على الكرسي. وحَكَى كُلًا من القولين عن جماعة.
قال في "الفتح": وعلى تقدير الصحة لا ينافي الأول، لاحتمال أن يكون الإجلاس علامة الإذن في الشفاعة، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة، كما هو مشهور، وأن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبر عنها بالوسيلة، أو الفضيلة. ووقع في صحيح ابن حبان من حديث كعب بن مالك مرفوعًا "يبعث الله الناس، فيكسوني ربي
حلة خضراء، فأقول: ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود".
ويظهر أن المراد بالقول المذكور هو الثناء الذي يقدمه بين يدي الشفاعة، ويظهر أن المقام المحمود هو مجموع ما يحصل له في تلك الحالة، ويشعر قوله في آخر الحديث "حلت له شفاعتي" بأن الأمر المطلوب له الشفاعة. والله أعلم. انتهى فتح جـ 2 ص 113 - 114.
وذكر العلامة القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]: ما حاصله:
اخْتُلِفَ في المقام المحمود على أربعة أقوال:
الأول: وهو أصحها: الشفاعة للناس يوم القيامة؛ قاله حذيفة بن اليمان، وابن عمر رضي الله عنهم.
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عمر، قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا -أي جماعة- كل أمة تتبع نبيها، تقول: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
وفي "صحيح مسلم" عن أنس، قال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم، فيقولون له: اشفع لذريتك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام، فإنه خليل الله، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست
لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله، فيؤتى موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيؤتى عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأوتى، فأقول: أنا لها"، وذكر الحديث.
وذكر الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وسئل عنها؟ قال:"هي الشفاعة". قال: هذا حديث حسن صحيح.
القول الثاني: أن المقام المحمود: إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة.
قال القرطبي: وهذا القول لا تنافر بينه وبين الأول؛ فإنه يكون بيده لواء الحمد، ويشفع. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ؛ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي". وهو حديث صحيح.
القول الثالث: ما حكاه الطبري عن فرقة، منها مجاهد، أنها قالت: المقام المحمود هو أن يجلس الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم معه على الكرسي؛ وروت في ذلك حديثًا، وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى، وفيه بعد، ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله
(1)
.
وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا
(1)
هكذا العبارة، ولعل الصواب: والعالم يتأوله. والله أعلم.
الحديث فهو عندنا متهم، مازال أهل العلم يتحدثون بهذا، من أنكر جوازه على تأويله؟.
قال أبو عمر: ومجاهد وإن كان أحد الأئمة بتأويل القرآن، فإنَّ له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا، والثاني: في تأويل قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]. قال: تنتظر الثواب؛ ليس من النظر.
وروي عن مجاهد أيضًا في هذه الآية قال: يجلسه على العرش.
وهذا تأويله غير مستحيل؛ لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء كلها، والعرشَ قائمًا بذاته، ثم خلق الأشياء من غير حاجة إليها، بل إظهارًا لقدرته وحكمته، وليُعرَف وجودُه وتوحيده، وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة، وخلق لنفسه عرشًا استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماسًا، أو كان العرش له مكانًا، قيل: هو الآن على الصفة التي كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان؛ فعلى هذا القول سواء في الجواز أقْعَدَ محمدًا على العرش، أو على الأرض؛ لأن استواء الله تعالى على العرش ليس بمعنى الانتقال والزوال، وتحويل الأحوال من القيام والقعود والحال التي تشغل العرش، بل هو مستوٍ على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف، وليس إقعاده محمدًا صلى الله عليه وسلم على العرش موجبًا له صفة الربوبية، أو مخرجًا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله، وتشريف له على خلقه.
وأما قوله في الأخبار "معه" فهو بمنزلة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206] و {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، {وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ونحو ذلك، كل ذلك عائد إلى الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان.
القول الرابع: إخراجه من النار بشفاعته من يخرج؛ قاله جابر ابن عبد الله، وأنس بن مالك رضي الله عنهم.
أخرج مسلم في الصحيح عن يزيد الفَقِير، قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج، ثم نخرج على الناس، فمررنا على المدينة، فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث الناس أو القوم إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وإذا هو قد ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما الذي تحدثون؟ والله تعالى يقول:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]، فما هذا الذي تقولون؟ قال: أتقرأ القرآن؟ فقلت: نعم، فقال: هل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه وسلم، يعني الذي يبعثه الله عز وجل فيه؟ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم الذي يخرج الله به من يخرج. وذكر الحديث.
وفي "صحيح البخاري" من حديث أنس رضي الله عنه، عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: وقد سمعته يقول: "فأخرجهم، وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن" أي وجب عليه الخلود، قال: ثم تلا هذه الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، قال: هو المقام المحمود الذي وُعِدَه نبيكم صلى الله عليه وسلم.
انتهى من "تفسير القرطبي" جـ 10 ص 311 - 312، بزيادة من تذكرته ص 285 - 286.
قال الجامع عفا الله عنه: القول الراجح عندي تفسير المقام المحمود بالشفاعة، كما صححه القرطبي، وقبله ابن جرير الطبري، لصحته مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث سئل عن معنى الآية، فقال:"هي الشفاعة" كما تقدم في رواية الترمذي، وأما ما نقل عن مجاهد وغيره من أنه يجلسه على العرش أو الكرسي، وإن كان معناه لا يستبعد، كما ذكره ابن جرير والقرطبي، فالشأن في صفته، فإن صح مرفوعًا فذاك، وإلا فلا ينبغي حمل معنى الآية عليه. والله أعلم.
(إِلا حلت له شفاعتي يوم القيامة) أي وجبت له، كما في رواية الطحاوي، أو استحقها، واللام بمعنى "على" ويؤيده رواية مسلم "حلت عليه". وتقدم الكلام بأتم من هذا في الباب السابق، فارجع إليه تزدد علمًا.
تنبيه:
رواية المصنف، وأبي داود، والترمذي "إلا حلت له" بإثبات "إلا"، ورواية البخاري، وهي التي في "الكبرى" للمصنف بدونها، وهي واضحة.
وأما روايتهم ففيها إشكال؛ لأن أول الكلام "من قال" وهو شرطية، و"حلت" جوابها، ولا يقترن جزاء الشرط بإلا.
والجواب عن هذا الإشكال أن يحمل الكلام على معنى الاستفهام الإنكاري، فتكون "من" في قوله "من قال" استفهامية للإنكار، فيرجع إلى النفي، و"قال" بمعنى يقول، أي ما من أحد يقول ذلك إلا حلت له شفاعتي، ومثله قوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقوله:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وأمثاله كثيرة. انظر شرح السيوطي والسندي في هذا المحل جـ 2 ص 28. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا أخرجه البخاري.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (680) و"الكبرى"(1644) و"عمل اليوم والليلة"(46) عن أبي سعيد، عمرو بن منصور النسائي، عن علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. فأخرجه البخاري في "الصلاة" 159، وفي "التفسير" عن علي بن عياش الحمصي، به. وأبو داود في "الصلاة" عن أحمد بن حنبل، عن علي بن عياش به. والترمذي فيه عن محمد بن سهل بن عسكر، وإبراهيم بن يعقوب الجُوزَجانِي، وابن ماجه فيه عن محمد بن يحيى، والعباس بن الوليد الخلال، ومحمد بن أبي الحسين السِّمْنَانِي- كلهم عن علي بن عياش به.
وأخرجه أحمد (3/ 354) عن علي بن عياش به، وابن خزيمة رقم (420) عن موسى بن سهل الرملي، عن علي بن عياش به. انظر "تحفة الأشراف" جـ 2 ص 367، و"الجامع المسند" جـ 3 ص 462 - 463.
المسألة الرابعة: قد تقدم الإشارة إلى زيادة رواية البيهقي رحمه الله، ودونك نصه في السنن الكبرى جـ 1 ص 410، قال رحمه الله: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو نصر أحمد بن علي بن أحمد الفامي،
قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عوف، ثنا علي بن عياش، ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء: اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة، والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد، حلت له شفاعتي".
فهذه الرواية فيها زيادة "اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة" في أوله، و"إنك لا تخلف الميعاد" في آخره، والظاهر أنها زيادة شاذَّة،
لمخالفة محمد بن عوف الجماعة الذين روو الحديث عن علي بن عياش كما قدمنا بيانهم في المسألة الثالثة. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: في بيان بعض بدع الأذان:
اعلم أن البدع في هذا الباب كثيرة، وقد ألف بعض الأفاضل من أهل عصرنا كتابًا في الأذان فأجاد، وتكلم فيه عن كثير من بدع الأذان والإقامة، وما يتعلق بهما، فأفاد، شكر الله سعيه.
فمنها: زيادة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الإجابة، فإنه مخالف لحديث "فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي"، فالسنة أن يقول مثل قول المؤذن، ثم يصلي، ثم يدعو بالوسيلة، ولا يقول: لا
إله إلا الله، محمد رسول الله لعدم ورده في السنة.
ومنها: زيادة سيدنا وحبيبنا، ونحو ذلك في تشهد الأذان والإقامة، فليس له أصل في السنة.
ومنها: التمطيط والتغني بالأذان، بحيث يؤدي إلى تغيير بعض الكلمات بالزيادة أو النقصان، أو المد في غير محله، أو إبدال حرف
بحرف آخر.
ومنها: الأذان جماعة، كما يقع في بعض البلدان، قيل: أول من أحدثه هشام بن عبد الملك.
ومنها: رفع المؤذن صوته بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان.
ومنها: التثويب بين الأذان والإقامة، بأن يعود المؤذن، فيقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أو الصلاة الصلاة، وقد تقدم استحسان بعض العلماء له، ولكن ليس عليه دليل.
ومنها: زيادة حي على خير العمل مرتين، فليس فيه حديث مرفوع صحيح، بل من فعل ابن عمر، وعلي بن الحسين زين العابدين، والحجة فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا عن غيره.
ومنها: قولهم قبل الإقامة اللهم صل على محمد، ونحو ذلك.
ومنها: التسبيحات والأذكار والدعوات برفع الصوت قبل
الفجر.
ومنها: قراءة المؤذن يوم الجمعة إذا صعد الإمام المنبر آية {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] الآية، ثم حديث "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت" فإن هذا ونحوه من المحدثات المنكرة.
ومنها: ترك إجابة المؤذن، والتشاغل بغيره.
ومنها: زيادة والدرجة الرفيعة، أو العالية، أو برحمتك يا أرحم الراحمين، ونحو ذلك في الدعاء بالوسيلة.
ومنها: قولهم: اللهم اجعلنا مفلحين عند قول المؤذن: حي على الفلاح، ففيه حديث لا يثبت، بل حكم عليه بعضهم بأنه موضوع.
ومنها: قولهم عند سماع تكبيرة الأذان: الله أعظم، والعزة لله، أو الله أكبر على كل من ظلمنا، أو نحو ذلك.
ومنها: تقبيل ظفري الإبهام، ومسح العينين بهما قائلًا قرّت بك عيني يا رسول الله، أو نحو ذلك، معتقدًا بأن فاعله لا يرمد، فلا أصل له، وما يروى فيه فهو موضوع.
ومنها: قولهم عند سماع الأذان: مرحبًا بالصلاة أهلًا، مرحبًا بالقائل عدلًا، إلخ، فيما يروى فيه عن علي فهو موضوع.
ومنها: قولهم بعد انتهاء الأذان: اللهم صل أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك، إلخ.
ومنها: قولهم عند إجابة الأذان، أو الإقامة: نعم لا إله إلا الله.
ومنها: قولهم: أقامها الله وأدامها عند سماع قد قامت الصلاة، وبعضهم يزيد: واجعلني من صالحي أهلها، أو نحو ذلك، فكل هذا
ونحوه لا أصل له في السنة الصحيحة.
وبالجملة، فالبدع في هذا الباب أكثر من أن تحصر، ومما يزيد الأمر صعوبة أن هذه المبتدعات ونحوها توجد في كتب بعض أهل العلم من الفقهاء ونحوهم، فيتلقاها العوام بالقبول، حتى لو ذَكَّرْتَهُ بكونها بدعة قال: إنها توجد في كتب مذهبنا، فلا يتراجع عنها. فالله المستعان على من أمات السنة، وأَحْيَى البدعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالواجب على المسلم الحريص على دينه أن يبحث عما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من القول، والفعل، مما أثبته أهل النقل بالأسانيد الصحيحة، فيتمسك به، ويعض عليه بناجذيه حتى يموت، فإن الخير كله فيه. فماذا بعد الحق إلا الضلال، نسأل الله تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم، ويجنبنا البدع ما ظهر منها وما بطن، إنه بعباده رءوف رحيم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
39 - الصَّلاةُ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ
أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على مشروعية الصلاة بين الأذان والإقامة.
وأراد المصنف رحمه الله تعالى بهذا الإشارة إلى أنه لا ينبغي الوصل بين الأذان والإقامة، بل لابد من الفصل، لأن المقصود من تشريع الأذان تنبيه الناس ليجتمعوا لأداء الصلاة جماعة، فإذا لم يفصل بينهما فات المطلوب، لأن كثيرًا من الناس لا يتهيأون للصلاة قبل الوقت، ولا سيما أصحاب الأشغال، فنبه المصنف على أن الفصل يكون بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة بينهما.
وإنما عدل عن إيراد ما روي من صريح الأمر بذلك إلى ما ذكره لعدم صحة شيء منه.
فقد أخرج الترمذي، والحاكم بإسناد ضعيف، من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: "اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته".
قال الحافظ رحمه الله: وله شاهد من حديث أبي هريرة، ومن حديث سلمان، أخرجهما أبو الشيخ، ومن حديث أبَيّ بن كعب، أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وكلها واهية.
وقد ترجم البخاري رحمه الله في الصحيح بقوله: "باب كم بين الأذان والإقامة". قال الحافظ: ولعله أشار بذلك إلى ما روي عن جابر، فذكر ما تقدم، ثم قال: فكأنه أشار إلى أن التقدير بذلك لم يثبت. وقال ابن بطال: لا حدّ لذلك غير تمكن دخول الوقت، واجتماع المصلين، ولم يختلف العلماء في التطوع بين الأذان والإقامة، إلا في المغرب، كما سيأتي. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 126. والله تعالى أعلم.
681 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ كَهْمَسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) بن يحيى اليشكري، أبو قدامة السرخسي، نزيل نيسابور، ثقة مأمون سنين، توفي سنة 241، من [10] تقدم في 15.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة ثبت حجة، من [9] تقدم في (4/ 4).
3 -
(كهمس) بن الحسن التميمي، أبو الحسن البصري، ثقة،
توفي سنة 149، من [5].
قال النسائي في السنن الكبرى: هو ابن الحسن البصريُّ، ثقة، انتهى. جـ 1 ص 511.
وفي "تت" قال أبو طالب عن أحمد: ثقة. وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات سنة 149، وقال ابن سعد: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقة ثقة. وقال الساجي: صدوق يهم، ونقل أن ابن معين ضعفه، وتبعه الأزدي في نقل ذلك. أخرج له الجماعة. انتهى جـ 8 ص 450 - 451.
4 -
(عبد الله بن بريدة) بن الحُصَيْبِ الأسلمي، أبو سهل المروزي قاضيها، ثقة، توفي سنة 105 وقيل: بل سنة 115 وله 100 سنة، من [3] أخرج له الجماعة، تقدم في 393.
5 -
(عبد الله بن مُغَفَّل) بن عبيد بن نَهْم، أبو عبد الرحمن المزني، صحابي بايع تحت الشجرة، ونزل البصرة، توفي سنة 57، وقيل: بعد ذلك، أخرج له الجماعة، تقدم في 36. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فأخرج
له هو والشيخان فقط.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، كهمس عن ابن بريدة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن مغفل) المزني رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بين كل أذانين) أي الأذان والإقامة، ولا يصح حمله على ظاهره، لأن الصلاة بين الأذانين مفروضة، والخبر ناطق بالتخيير، لقوله:"لمن شاء". قاله في الفتح.
قال الجامع عفا الله عنه: إطلاق الأذان على الإقامة صحيح، لأن الأذان إعلام بدخول الوقت، وهي إعلام بحضور فعل الصلاة، ولذا قدمنا أن الراجح أن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" يشمل المقيم، فمن سمعه يقول مثل ما يقول. وقيل: هذا من باب التغليب، كقولهم: القمرين للشمس والقمر، وهو الذي توارد عليه الشراح، كما قال في الفتح. لكن الأول هو الأولى.
(صلاة) مبتدأ، خبره الظرف قبله. أي وقت صلاة، أو المراد صلاة نافلة، أو نكرت لكونها تتناول كل عدد نواه المصلي من النافلة كركعتين، أو أربع، أو أكثر، ويحتمل أن يكون المراد به الحث على المبادرة إلى المسجد عند سماع الأذان لانتظار الإقامة، لأن منتظر الصلاة في صلاة. قاله الزين ابن المنير. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 127.
وقال في النهاية: يريد بها السنن الرواتب التي تصلى بين الأذان والإقامة. انتهى. زهر. جـ 2 ص 28 - 29.
(بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة) قال ابن الملك كرره تأكيدًا للحث على النوافل بينهما. وقال المظهر: إنما حرض عليه السلام أمته على صلاة النفل بين الأذانين، لأن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، لشرف ذلك الوقت، وإذا كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة أكثر.
قال القاري: وللمبادرة إلى العبادة، والمسارعة إلى الطاعة، وللفرق بين المخلص والمنافق، وليتهيأ لأداء الفرض على وجه الكمال. والحاصل أنه يسن أن يصلي بين الأذان والإقامة.
وكره أبو حنيفة النفل قبل المغرب، لحديث بريدة الأسلمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا صلاة المغرب" كذا ذكره بعض علمائنا. انتهى. "مرقاة" جـ 2 ص 356.
قال الجامع عفا الله عنه: الحديث المذكور رواه الدارقطني، ثم البيهقي في سننيهما عن حيان بن عبد الله العدوي، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب"، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، ونقل عن الفلاس أنه قال: كان حيان هذا كذابًا. قال العيني: الحديث رواه البزار في مسنده، فقال: لا نعلم من رواه عن ابن بريدة إلا حيان بن
عبد الله، وهو رجل مشهور من أهل البصرة، لا بأس به. انتهى. عمدة جـ 5 ص 138.
قال الجامع: سيأتي الجواب عما قاله العيني في المسائل الآتية في الحديث التالي إن شاء الله تعالى.
(لمن شاء) أي لمن أراد أن يصلي، وفيه بيان أن قوله:"بين كل أذانين صلاة" على التخيير، لا على الإيجاب.
ولفظ البخاري "بين كل أذانين صلاة،- ثلاثًا لمن شاء"، وفي لفظ "بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة"، ثم قال في الثالثة "لمن شاء".
قال الحافظ رحمه الله: وهذا يبين أنه لم يقل "لمن شاء" إلا في المرة الثالثة، بخلاف ما يشعر به ظاهر الرواية الأولى من أنه قيد كل مرة بقوله:"لمن شاء".
ولمسلم والإسماعيلي "قال في الرابعة: لمن شاء". وكأن المراد بالرابعة في هذه الرواية المرة الرابعة، أي اقتصر فيها على قوله "لمن شاء"، فأطلق عليها بعضهم رابعة باعتبار مطلق القول، وبهذا توافق رواية البخاري، وقد تقدم في العلم حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، وكأنه قال: بعد الثلاث "لمن شاء" ليدل على أن التكرار لتأكيد الاستحباب.
وقال ابن الجوزي: فائدة هذا الحديث أنه يجوز أن يتوهم أن الأذان للصلاة يمنع أن يفعل سوى الصلاة التي أذن لها، فبين أن التطوع بين الأذان والإقامة جائز. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 127. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن مغَفَّل رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (39/ 681)، وفي "الكبرى"(36/ 1645)، عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد، عن يحيى القطان، عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة"(167) عن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن كهمس، به، و (165/ 1) عن إسحاق بن شاهين الواسطي، عن خالد بن عبد الله، عن سعيد الجريري، عن ابن بريدة به.
ومسلم فيه (163/ 1) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة ووكيع، كلاهما عن كهمس به. و (163/ 1) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الأعلي بن عبد الأعلى، عن الجريري به.
وأبو داود فيه (301/ 3) عن النفيلي، عن إسماعيل بن علية، عن الجريري به.
والترمذي فيه (22) عن هناد، عن وكيع، به. وقال: حسن صحيح.
وابن ماجه فيه (149/ 1) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، ووكيع به.
وأخرجه أحمد (4/ 86)، و (5/ 54)، و (5/ 55). وابن خزيمة (1287)، والدارمي (1447). والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
682 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:"أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ، يُصَلُّونَ، حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ كَذَلِكَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ شَيْءٌ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي نزيل نيسابور، ثقة ثبت حجة، من [10] تقدم في 2.
2 -
(أبو عامر) عبد الملك بن عمرو القيسي العَقَدي البصري، ثقة، من [9] تقدم في 327.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الواسطي، ثم البصري، الإمام الحجة الثبت، من [7] تقدم في 26.
تنبيه:
قال الحافظ المزي رحمه الله عند ذكر من أخرج حديث أنس هذا، في ترجمة عمرو بن عامر الأنصاري ما نصه: أخرجه النسائي في الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي عامر، عن سفيان عنه نحوه، وفي نسخة: عن شعبة بدل سفيان. انتهى. تحفة جـ 1 ص 293.
قال الجامع: النسخ التي بين يدي من المجتبى، والسنن الكبرى كلها شعبة، ولم أر نسخة فيها سفيان، فالله أعلم.
4 -
(عمرو بن عامر الأنصاري) الكوفي، ثقة، من [5].
روى عن أنس بن مالك، وعنه أبو الزناد، وشعبة، والثوري، ومسعر، وشريك، وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث. وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له الجماعة.
5 -
(أنس بن مالك) الأنصاري الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فلم يخرج له ابن ماجه، وأنهم بصريون إلا شيخه فمروزي، ثم نيسابوري، وعمرو بن عامر، فكوفي، وفيه أنس أحد المكثرين، روى 2286 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه، أنه (قال: كان المؤذن إِذا أذن) وفي رواية الإسماعيلي "إذا أخذ في أذان المغرب"(قام ناس) في بعض النسخ "قام الناس" بالتعريف، وفي الكبرى "فيبتدر لُبَاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية للبخاري من رواية سفيان، عن عمرو بن عامر عن أنس "لقد رأيت كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري"(فيبتدرون) أي يستبقون (السواري) جمع سارية، وهي الأسطوانة، وكأن غرضهم بالاستباق إليها الاستتار بها ممن يمر بين أيديهم، لكونهم يصلون فُرَادَى. قاله في "الفتح".
(يصلون) جملة في محل نصب على الحال (حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم) أي من حجرته لصلاة المغرب (وهم كذلك) جملة في محل نصب على الحال أيضًا، أي والحال أنهم في تلك الحال.
وزاد مسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: "فيجيء
الغريب، فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما".
(يصلون قبل المغرب) وفي بعض النسخ "ويصلون" بالواو، وللبخاري "يصلون الركعتين قبل المغرب" وهذه الجملة مؤكدة لجملة
"يصلون" الأولي.
(ولم يكن بين الأذان والإِقامة شيء) التنوين فيه للتكثير، أي لم يكن بين الأذان والإقامة شيء كثير من الزمن. وقال البخاري تعليقًا: قال عثمان بن جبلة، وأبو داود، عن شعبة:"لم يكن بينهما إلا قليل".
وبالتقرير الذي ذكرناه يندفع -كما قال الحافظ- قول من زعم أن الرواية المعلقة معارضة للرواية الموصولة، بل هي مبينة لها، ونفي الكثير يقتضي إثبات القليل، وقد أخرج المعلقة الإسماعيلي موصولة من طريق عثمان بن عمر، عن شعبة بلفظ "وكان بين الأذان والإقامة قريب"، ولمحمد بن نصر من طريق أبي عامر، عن شعبة نحوه.
وقال ابن المنير: يجمع بين الروايتين يحمل النفي المطلق على المبالغة مجازًا، والإثبات للقليل على الحقيقة.
وحمل بعض العلماء حديث الباب على ظاهره، فقال: دل قوله: "ولم يكن بينهما شيء" على أن عموم قوله: "بين كل أذانين صلاة" مخصوص بغير المغرب، فإنهم لم يكونوا يصلون بينهما، بل كانوا يشرعون في الصلاة في أثناء الأذان، ويفرغون مع فراغه. قال: ويؤيد ذلك ما رواه البزار من طريق حيان بن عبيد الله، عن عبد الله
ابن بريدة، عن أبيه مثل الحديث الأول، وزاد في آخره "إلا المغرب" انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وفي قوله: "ويفرغون مع فراغه" نظر؛ لأنه ليس في الحديث ما يقتضيه، ولا يلزم من شروعهم في أثناء الأذان ذلك.
وأما رواية حيان -وهو بفتح المهملة، والتحتانية- فشاذة، لأنه، وإن كان صدوقًا عند البزار، وغيره، لكنه خالف الحفاظ من أصحاب عبد الله بن بريدة في إسناد الحديث ومتنه.
وقد وقع في بعض طرقه عند الإسماعيلي: وكان بريدة يصلي ركعتين قبل المغرب، فلو كان الاستثناء محفوظًا لم يخالف بريدة روايته، وقد نقل ابن الجوزي في الموضوعات عن الفلاس أنه كذب حيانًا المذكور. انتهى. فتح جـ 2 ص 127، 128.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي في المسألة الرابعة تحقيق القول في رواية حيان بن عبيد الله المذكورة، وأن حيان الذي كذبه الفلاس ليس هو، بل هو حيان بن عبد الله، أبو جبلة الدارمي، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه هذا من رواية عمرو بن عامر عنه، أخرجه البخاري. والله أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (39/ 686)، والكبرى (36/ 1646)، عن إسحاق ابن إبراهيم، عن أبي عامر العقدي، عن شعبة، عن عمرو بن عامر الأنصاري، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري في "الصلاة" عن قبيصة، عن سفيان- وعن بندار، عن غندر، عن شعبة، قال البخاري: وقال عثمان بن جبلة،
وأبو داود، كلاهما عن شعبة عن عمرو بن عامر عنه.
وأخرجه أحمد (3/ 280)، والدارمي رقم (1448)، وابن خزيمة رقم (1288)، وأخرجه أحمد (3/ 129) من رواية أبي فزارة راشد ابن كيسان، قال: سألت أنسًا عن الركعتين قبل المغرب؟ قال: "كنا نبتدرهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال شعبة: ثم قال بعد، وسألته غير مرة؟ فقال:"كنا نبتدرهما" ولم يقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أحمد (3/ 282)، وابن ماجه (1163) من رواية علي بن زيد بن جُدعان قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: "إن كان المؤذن
ليؤذن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُرَى أنها الإقامة، من كثرة من يقوم، فيصلي الركعتين قبل المغرب".
وأخرجه أحمد (3/ 199) من رواية موسى بن أنس بن مالك، عن أبيه، قال:"كان إذا قام المؤذن، فأذن صلاة المغرب في مسجد بالمدينة قام من شاء، فصلى، حتى تقام الصلاة، ومن شاء ركع ركعتين، ثم قعد، وذلك بعَيْنَي النبي صلى الله عليه وسلم".
وأخرجه مسلم (2/ 212) من رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، قال:"كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فيركعون ركعتين، ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت، من كثرة من يصليهما".
وأخرجه (2/ 211) من رواية المختار بن فلفل، قال: سألت أنس ابن مالك عن التطوع بعد العصر؟ فقال: كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر، وكنا نصلي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما، فلم يأمرنا، ولم ينهانا.
وأخرجه عبد بن حميد رقم (1332) من رواية ثابت، قال: سمعت أنسًا يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج علينا بعد غروب الشمس، وقبل صلاة المغرب، فيرانا نصلي، فلا ينهانا، ولا
يأمرنا". والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في بيان حديث "إن عند كل أذانين ركعتين، ماخلا صلاة المغرب".
قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني رحمه الله في "سننه": حدثنا علي ابن محمد المصري، ثنا الحسن بن غليب، نا عبد الغفار بن داود، نا حيان بن عبيد الله، نا عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عند كل أذانين ركعتين، ماخلا صلاة المغرب".
قال: ونا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حيان بن عبيد الله العدوي، قال: كنا جلوسًا عند عبد الله ابن بريدة، فأذّن مؤذن صلاة الظهر، فلما سمع الأذان قال: قوموا فصلوا ركعتين قبل الإقامة، فإن أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عند كل أذانين ركعتان قبل الإقامة، ماخلا أذان المغرب"، قال ابن بريدة:"لقد أدركت عبد الله بن عمر يصلي تينك الركعتين عند المغرب، لا يدعهما على حال، قال: فقمنا فصلينا الركعتين قبل الإقامة، ثم انتظرنا حتى خرج الإمام، فصلينا معه المكتوبة".
خالفه حسين المعلم، وسعيد الجريري، وكهمس بن الحسن، وكلهم ثقات، وحيان بن عبيد الله ليس بقوي. والله أعلم. انتهى. سنن الدارقطني جـ 1 جـ 264، 265.
وكتب العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في
"التعليق المغني" ما نصه: والحديث أخرجه البيهقي في سننه، ورواه البزار في مسنده، وقال: لا نعلم رواه عن ابن بريدة إلا حيان بن
عبيد الله، وهو رجل مشهور، من أهل البصرة، لا بأس به، وقال البيهقي في المعرفة: أخطأ فيه حيان بن عبيد الله في الإسناد والمتن
جميعًا.
أما السند، فأخرجاه في الصحيح عن سعيد الجريري، وكهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مغفل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"بين كل أذانين صلاة" قال في الثالثة: "لمن شاء".
وأما المتن، فكيف يكون صحيحًا، وفي رواية ابن المبارك، عن كهمس في هذا الحديث، قال: وكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين. وفي رواية حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين"، وقال في الثالثة "لمن شاء" خشية أن يتخذها الناس سنة. رواه البخاري في صحيحه. انتهى.
وذكر ابن الجوزي هذا الحديث في "الموضوعات" ونقل عن الفلاس أنه قال: كان حيان هذا كذابًا. انتهى.
وقال السيوطي في اللآلئ المصنوعة: قال البزار بعد تخريجه: لا نعلم رواه إلا حيان، وهو بصري مشهور، ليس به بأس، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: لكنه اختلط، وذكره ابن عدي في الضعفاء.
انتهى.
وحيان هذا غير الذي كذبه الفلاس؛ ذاك حيان بن عبد الله -بالتكبير- أبو جبلة الدارمي، وهذا حيان بن عبيد الله -بالتصغير- أبو زهير البصري، ذكرهما في الميزان، وقال في ترجمة البصري: قال البخاري: ذكر الصلت عنه الاختلاط. وكذا قال في اللسان. وزاد في ترجمة البصري: وقال أبو حاتم: صدوق. وقال إسحاق بن راهويه: كان رجل صدق، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن حزم: مجهول، فلم يصب. انتهى.
وفي صحيح البخاري من طريق كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مغفل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بين كل أذانين صلاة". انظر التعليق المغني على الدارقطني جـ 1 ص 264 - 266.
وقال البيهقي في سننه بعد أن أخرج حديث كهمس، عن عبد الله ابن بريدة، عن عبد الله بن مغفل: رواه حيان بن عبيد الله، عن عبد الله بن بريدة، فأخطأ في إسناده، وأتى بزيادة لم يتابع عليها، ثم أخرجه بسنده، ثم أخرج بسنده عن ابن خزيمة، أنه قال على إثر هذا الحديث: حيان بن عبيد الله هذا قد أخطأ في الإسناد، لأن كهمس بن الحسن، وسعيد بن إياس الجريري، وعبد المؤمن العتكي رووا الخبر عن ابن بريدة، عن عبد الله بن مغفل، لا عن أبيه، هذا علمي من الجنس الذي كان الشافعي رحمه الله يقول: أخذ طريق المَجَرَّةِ، فهذا
الشيخ لما رأى أخبار ابن بريدة عن أبيه توهم أن هذا الخبر هو أيضًا عن أبيه، ولعله لما رأى العامة لا تصلي قبل المغرب توهم أنه لا يصلى قبل المغرب، فزاد هذه الكلمة في الخبر، وازداد علمًا بأن هذه الرواية خطأ أن ابن المبارك قال في حديثه عن كهمس: فكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين، فلو كان ابن بريدة قد سمع من أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاستثناء الذي زاد حيان بن عبيد الله في الخبر "ماخلا صلاة المغرب" لم يكن يخالف خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ساق خبر ابن المبارك بسنده. انظر "السنن الكبرى" جـ 2 ص 474 - 475.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبين من مجموع ما تقدم أن زيادة الاستثناء "ماخلا صلاة المغرب" لا تصح، لأنها زيادة منكرة، لمخالفة حيان بن عبيد الله للثقات فيها، فهو وإن قال فيه أبو حاتم: صدوق، وقال ابن راهويه: رجل صدق، وقال البزار: ليس به بأس، إلا أن جرحه يقدم، لكونه مفسرًا، فقد قال البخاري: ذكر الصلت عنه الاختلاط، وقال: الدارقطني: ليس بقوي، وذكره ابن عدي في الضعفاء، ومن المقرر عند المحدثين أن الجرح المفسر مقدم على التعديل على الراجح، بل رجح بعضهم تقديم الجرح مطلقًا، قال الحافظ السيوطي رحمه الله في منظومة الأثر:
وَقَدِّمِ الْجَرْحَ وَلوْ عَدَّله
…
أكْثَرُ فِي الأقْوَى فَإِنْ فَصَّلَهُ
فَقَالَ: مِنْهُ تَابَ أوْ نَفَاهُ
…
بِوَجْهِهِ قُدِّمَ مَنْ زَكَّاهُ
وبهذا تعلم ضعف ما قاله ابن التركماني في الجوهر النقي بعد ذكر من وثقه: فهذه زيادة من ثقة، فيحمل على أن لابن بريدة فيه سندين، سمعه من ابن مغفل بغير تلك الزيادة، وسمعه من أبيه بالزيادة. انتهى. جـ 2 ص 476.
فإن هذا ليس من تحقيق المحدثين، بل من الواجب عليه أن يذكر قول من ضعفه، ثم يعمل بمقتضى ما قاله المحدثون، من تقديم الجرح
أو التعديل. فتبصر. والله أعلم.
المسألة الخامسة: في بيان مذاهب أهل العلم في الصلاة قبل المغرب:
قال الإمام الترمذي رحمه الله في "جامعه": وقد اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قبل المغرب، فلم ير بعضهم الصلاة قبل المغرب، وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يصلون قبل صلاة المغرب ركعتين، بين الأذان والإقامة. وقال أحمد وإسحاق: إن صلاهما فحسن، وهذا عندهما على الاستحباب. انتهى.
وقال في "الفتح": وقال القرطبي وغيره: ظاهر حديث أنس رضي الله عنه: أن الركعتين بعد المغرب، وقبل صلاة المغرب كان أمرًا أقر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه، وعملوا به، حتى كانوا يستبقون إليه، وهذا يدل على الاستحباب، وكأن أصله قوله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين
صلاة".
وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلهما، فلا ينفي الاستحباب، بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب.
وإلى استحبابهما ذهب أحمد، وإسحاق، وأصحاب الحديث.
وروي عن ابن عمر، قال: ما رأيت أحدًا يصليهما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الأربعة، وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونهما.
وهو قول مالك، والشافعي وادعى بعض المالكية نسخهما، فقال: إنما كان ذلك في أول الأمر، حيث نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فبين لهم في ذلك وقت الجواز، ثم ندب إلى المبادرة إلى المغرب في أول وقتها، فلو استمرت المواظبة على الاشتغال بغيرها لكان ذلك ذريعة إلى مخالفة إدراك أول وقتها.
وتعقب بأن دعوى النسخ لا دليل عليها.
والمنقول عن ابن عمر رواه أبو داود من طريق طاوس عنه. ورواية أنس المثبتة مقدمة على نفيه. والمنقول عن الخلفاء الأربعة رواه محمد بن نصر وغيره من طريق إبراهيم النخعي عنهم، وهو منقطع، ولو ثبت لم يكن فيه دليل على النسخ، ولا الكراهة.
وقد أخرج البخاري في أبواب التطوع عن مرثد بن عبد الله اليزني،
قال: "أتيت عقبة بن عامر الجهني، فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم -يعني الجيشاني- يركع ركعتين قبل صلاة المغرب، فقال: عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: فما يمنعك الآن، قال: الشغل". فلعل غيره أيضًا منعه الشغل.
وقد روى محمد بن نصر وغيره من طرق قوية عن عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأُبَيّ بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وغيرهم: أنهم كانوا يواظبون عليهما.
وأما قول أبي بكر بن العربي: اختلف فيها الصحابة، ولم يفعلها أحد بعدهم. فمردود بقول محمد بن نصر: وقد روينا عن جماعة من
الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب.
ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن بريدة، ويحيى بن عقيل، والأعرج، وعامر بن عبد الله ابن الزبير، وعراك بن مالك، ومن طريق الحسن البصري أنه سئل عنهما؟ فقال: حسنتين -والله- لمن أراد الله بهما.
وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين.
وعن مالك قول آخر باستحبابهما.
وعند الشافعية وجه رجحه النووي، ومن تبعه، وقال في شرح
مسلم: قول من قال: إن فعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما زمن يسير، لا
تتأخر به الصلاة عن أول وقتها.
قال الحافظ رحمه الله: ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما، كما في ركعتي الفجر.
قيل: والحكمة في الندب إليهما رجاء إجابة الدعاء، لأن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، وكلما كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة فيه أكثر.
واستدل بحديث أنس على امتداد وقت المغرب، وليس بواضح. انتهى. فتح جـ 2 ص 128.
قال الجامع عفا الله عنه: ثم بدا لي أن أنقل ما ذكره محمد بن نصر بتمامه من مختصره للعلامة أحمد بن علي المَقْرِيزي رحمهما الله
تعالى إتمامًا للفائدة، حيث إن المسألة مهمة جدًا، فلابد من تحقيق ما ثبت عن السلف رحمهم الله فيها.
قال رحمه الله:
باب الركعتين قبل المغرب
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فأجمع أهل العلم على أن الشمس إذا غربت فقد دخل الليل، وحل فطر
الصائم، وجاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فإذا غربت الشمس فقد حلت الصلاة، والصلاة في جميع الأوقات مندوب إليها، مرغب فيها، إلا الأوقات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، فإن الصلاة في الليل من أوله إلى آخره مباح مندوب إليه، لم ينه عن الصلاة في شيء من ساعاته، فكل صلاة بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فهي من صلاة الليل، والفضائل التي جاءت لصلاة الليل مشتملة على صلاة الليل كله، وإن كانت الصلاة في بعض أوقاته أفضل منها في بعضٍ.
وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون قبل المغرب ركعتين.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن في ذلك لمن أراد أن يصلي، وفعل على عهده بحضرته، فلم ينه عنه.
حدثنا وهب بن بقية، أخبرني خالد بن عبد الله، عن الجريري، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، لمن شاء".
حدثنا محمد بن عبيد، ثنا عبد الوارث بن سعيد، ثنا حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله المزني. قال: كتبته، فنسيته، لا أدري عبد الله بن معقل، أو مغفل رضي الله عنه، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، لمن شاء" خشية أن يتخذها الناس سنة.
حدثنا إسحاق، أخبرنا سويد بن عبد العزيز، ثنا ثابت بن عجلان، عن سليم بن عامر، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صلاة مفروضة، إلا وبين يديها سجدتان" قال محمد بن نصر: يعني ركعتين.
حدثنا إسحاق، ومحمد بن يحيى، قالا: ثنا أبو عامر العقدي، عن شعبة، عن عمرو بن عامر، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: "كان المؤذن يؤذن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة المغرب، فيبتدر لُباب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السواريَ، يصلون الركعتين قبل المغرب، حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يصلون".
زاد محمد بن يحيى: قال: وكان بين الأذان والإقامة يسير.
وعن المختار بن فلفل، قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه، قلت: هل من صلاة بعد العصر؟ قال: لا، حتى تغيب الشمس. قلت: فإذا غابت؟ قال: ركعتين. قلت: قبل الصلاة؟ قال: نعم. قلت: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قلت: فهل رآكم تصلونهما؟ قال: نعم. قلت: "أكان أمركم بهما؟ قال: لا، ولا نهانا عنهما، كان إذا أذن المؤذن قام أحدنا فصلى ركعتين".
وعن ثابت، عن أنس:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، يصلون الركعتين قبل المغرب".
وعن ثابت، عن أنس:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلينا بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فيرانا نصلي، فلا ينهانا، ولا يأمرنا".
وفي رواية: "إن كان المؤذن ليؤذن، فيتبادر ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السواري، فيصلون ركعتين، فما يعاب ذلك عليهم".
وفي أخرى "كنا بالمدينة إذا أذن بالمغرب ابتدر القوم السواري، يصلون الركعتين، حتى إن الغريب ليدخل المسجد فيُرَى إن الصلاة قد صليت، من كثرة من يصليهما".
وفي أخرى: "ثم إذا صليت العصر، فلا تصل حتى تغرب الشمس، فإذا غربت الشمس، فصل ركعتين، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كانوا يفعلون".
وعن أبي الخير: رأيت أبا تميم الجيشاني يركع الركعتين حين يسمع أذان المغرب، فأتيت عقبة بن عامر الجهني، فقلت له: ألا أعجبك من أبي تميم الجيشاني -عبد الله بن مالك- يركع ركعتين قبل المغرب، وأنا أريد أن أغمصه، فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل.
وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: كنا نركعهما، إذا زاحمنا، يعني بين الأذان والإقامة في المغرب.
وعن زِرّ: قدمت المدينة، فلزمت عبد الرحمن بن عوف، وأُبَيَّ ابن كعب، فكانا يصليان قبل صلاة المغرب، لا يدعان ذلك.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يصلون عند كل تأذين.
وعن رغبان مولى حبيب بن مسلمة، قال: لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَهُبُّونَ إليهما، كما يَهُبُّونَ إلى المكتوبة، يعني الركعتين قبل المغرب. وعن راشد بن يسار: أشهد على خمسة ممن بايع تحت الشجرة أنهم كانوا يصلون ركعتين قبل المغرب.
وعن يحيى بن أيوب: حدثني ابن طاوس، عن أبيه طاوس: أن أبا أيوب الأنصاري صلى مع أبي بكر رضي الله عنه بعد غروب الشمس قبل الصلاة، ثم لم يصل مع عمر رضي الله عنه، ثم صلى مع عثمان رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فقال: إني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صليت مع أبي بكر، وفَرِقْتُ من عمر، فلم أصل معه، وصليت مع عثمان، إنه لين.
قال محمد بن نصر: وهذا عندي، وهَم، إنما الحديث في الركعتين بعد العصر، لا في الركعتين قبل المغرب، لأن المعروف عن عمر أنه كان ينكر ركعتين بعد العصر، ويضرب عليهما، فأما الركعتان قبل المغرب فلا، وقد رواه معمر، عن ابن طاوس على ما قلنا، وهو
أحفظ من يحيى بن أيوب، وأثبت.
وعن خالد بن معدان: أنه كان يركع ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، لم يدعهما حتى لقي الله، وكان يقول: إن أبا الدرداء كان يركعهما، ويقول: لا أدعهما، وإن ضربت بالسياط.
وقال عبد الله بن عمرو الثقفي: رأيت جابر بن عبد الله يصلي ركعتين قبل المغرب.
وعن يحيى بن سعيد، أنه صحب أنس بن مالك إلى الشام، فلم يكن يترك ركعتين عند كل أذان.
وسئل سعيد بن المسيب، عن الركعتين قبل المغرب؟ فقال: ما رأيت فقيهًا يصليهما، ليس سعد بن مالك، وفي رواية: كان المهاجرون لا يركعون الركعتين قبل المغرب، وكانت الأنصار يركعونهما، وكان أنس يركعهما.
وعن مجاهدة قالت الأنصار: لا نسمع أذانًا إلا قمنا فصلينا.
وعن الحسن بن محمد بن الحنفية، أنه كان يقول: إن عند كل أذان ركعتين.
وسئل قتادة عن الركعتين قبل المغرب؟ فقال: كان أبو برزة رضي الله عنه يصليهما.
وسأل رجل ابن عمر، فقال: ممن أنت؟ قال من أهل الكوفة،
قال: من الذين يحافظون على ركعتي الضحى، فقال: وأنتم تحافظون على الركعتين قبل المغرب، فقال ابن عمر: كنا نُحَدَّث أن أبواب السماء تفتح عند كل أذان.
وعن ابن عباس، صلاة الأوابين ما بين الأذان وإقامة المغرب.
وعن سويد بن غفلة: كنا نصلي الركعتين قبل المغرب، وهي بدعة ابتدعناها في إمرة عثمان، وعن عبد الله بن بريدة: كان يقال: ثلاثُ صلوات، صلاة الأوابين، وصلاة المنيبين، وصلاة التوابين؛ صلاة الأوابين ركعتان قبل صلاة الصبح، وصلاة المنيبين صلاة الضحى، وصلاة التوابين ركعتان قبل المغرب.
وكان عبد الله بن بريدة، ويحيى بن عقيل يصليان قبل المغرب ركعتين.
وعن الحكم: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى يصلي قبل المغرب ركعتين. وسئل الحسن عنهما؟ فقال: حسنتين -والله- جميلتين لمن أراد الله بهما. وعن سعيد بن المسيب: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن يركع ركعتين. وكان الأعرج، وعامر بن عبد الله بن الزبير يركعهما.
وأوصى أنس بن مالك وُلْدَهُ أن لا يَدَعُوهما.
وعن مكحول: على المؤذن أن يركع ركعتين على إثر التأذين.
وعن الحكم بن الصلت: رأيت عراك بن مالك إذا أذن المؤذن بالمغرب قام، فصلى سجدتين قبل الصلاة. وعن السكن بن حكيم: رأيت عِلْبَاء بن أحمر اليشكري إذا غربت الشمس قام فصلى ركعتين قبل المغرب.
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عمر: إن كان المؤذن ليؤذن بالمغرب، ثم تقرع المجالس من الرجال، يقومون يصلونهما.
وعن الفضل بن الحسن: أنه كان يقول: الركعتان اللتان تصليان بين يدي المغرب صلاة الأوابين.
وقال أحمد بن حنبل: في الركعتين قبل المغرب أحاديث جياد، أو قال: صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إلا أنه قال: لمن شاء، فمن شاء صلى. قيل له: قبل الأذان، أم بين الأذان والإقامة؟ فقال: بين الأذان والإقامة، ثم قال: وإن صلى إذا غربت الشمس، وحلت الصلاة، أي فهو جائز، قال: هذا شيء ينكره الناس، وتبسم كالمتعجب ممن ينكر ذلك، وسئل عنهما؟ فقال: أنا لا أفعله، وإن فعله رجل لم يكن به بأس.
ذكر من لم يركعهما
عن النخعي، قال: كان بالكوفة من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو مسعود، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، فأخبرني من رمقهم
كلهم، فما رأى أحدًا منهم يصليهما قبل المغرب.
وفي رواية: إن أبا بكر، وعمر، وعثمان، كانوا لا يصلون الركعتين قبل المغرب.
وقيل لإبراهيم: إن ابن أبي الهذيل كان يصلي قبل المغرب ركعتين، فقال: إن ذاك لا يعلم.
قال محمد بن نصر: ليس في حكايته هذا الذي روي عن إبراهيم أنه رمقهم، فلم يرهم يصلونهما دليل على كراهتهم لهما، إنما تركوهما لأن تركهما كان مباحًا، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يرو عنه أنه ركعهما، غير أنه رغب فيهما، وكان ترغيبه فيهما أكثر من فعله لو فعلهما من غير أن يرغب فيهما، وقد يجوز أن يكون أولئك الذين حكى عنهم من حكى أنه رمقهم، فلم يرهم يصلونهما قد صلوهما في غير الوقت الذي رمقهم هذا.
ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ركعهما في بيته حيث لم يره الناس، لأن أكثر تطوعه كان في منزله. وكذلك الذين رمقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكونوا قد صلوا في بيوتهم، ولذلك لم يرهم الذي رمقهم يصلونهما، فإن كثيرًا من العلماء كانوا لا يتطوعون في المسجد.
عن زيد بن وهب، قال: لما أذن المؤذن للمغرب قام رجل، فصلى ركعتين، وجعل يلتفت في صلاته، فعلاه عمر بالدرة، فلما قضى
الصلاة، قال: يا أمير المؤمنين، نعم ما كسوت، قال: رأيتك تتلفت
في صلاتك، ولم يعب الركعتين.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، ثني أبي، ثنا حسين، عن ابن بريدة: أن عبد الله المزني حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين، ثم قال:"صلوا قبل المغرب ركعتين"، ثم قال عند الثالثة:"لمن شاء"، خاف أن يحسبها الناس سنة.
قال العلامة أحمد بن علي المقريزي في مختصر قيام الليل: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، فإن عبد الوارث بن عبد الصمد احتج به مسلم، والباقون احتج بهم الجماعة.
وقد صح في ابن حبان حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين قبل المغرب. انتهى. "مختصر قيام الليل" ص29 - 32.
تنبيهات:
الأول: وقع في سند محمد بن نصر سقط، وهو قول عبد الصمد: حدثني أبي، ونص "صحيح ابن حبان" جـ 3 ص 59: أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا أبي، حدثني أبي، حدثنا حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، أن عبد الله المزني، حدثه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين"، ثم قال:"صلوا قبل المغرب ركعتين" ثم قال عند الثالثة: "لمن شاء" خاف أن يحسبها الناس سنة.
الثاني: وقع في نسخة "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" نقص، وهو قوله:"ثم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين"، فألحقه المحقق من الأصل:"الأنواع والتقاسيم"، كما ذكر في تعليقه. جزاه الله خيرًا على ذلك.
الثالث: في قول المقريزي: وقد صح في ابن حبان حديث آخر نظر، فان الحديث هو الحديث الذي أخرجه محمد بن نصر، وليس
حديثًا آخر، كما ذكرته الآن، فتبصر.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن المذهب الصحيح هو مذهب من يقول باستحباب الركعتين قبل صلاة المغرب، لما سمعت من الأدلة الصحيحة الصريحة، وأما ما ادعاه بعضهم من النسخ لها فباطل، وأما ما نقل من كراهة بعض السلف لها فيحمل على أنه لم يصل إليهم الخبر الصحيح، أو تأولوه، وليس قول أحد، ولا فعله حجة، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى في حقه:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
جعلنا الله وإياكم ممن يأخذ بهديه صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا بمنه وكرمه، آمين.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
40 - التَّشْدِيدُ فِي الخُرُوجِ مِنَ المَسْجِدِ بَعْدَ الأذَانِ
أي هذا باب في ذكر الحديث الدال على تشديد الوعيد في الخروج من المسجد بعد الأذان قبل الصلاة. وموضع الاستدلال قوله: "فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"، لأن من عصاه يدخل النار، فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى؟، قال:"من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". والله تعالى أعلم.
683 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ حَتَّى قَطَعَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن منصور) بن ثابت الجوَّاز المكي، ثقة، من [10] تقدم في 21.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمد الكوفي، ثم المكي، ثقة ثبت حجة، من [8] تقدم في 1.
3 -
(عمر بن سعيد) بن مسروق الثوري، أخو سفيان، ثقة، من [6].
روى عن أبيه، والأعمش، وعمار الدَّهَبِي، وأشعث بن أبي الشعثاء، وزياد بن فياض، وغيرهم، وعنه أخوه مبارك بن سعيد، وابنه حفص بن عمر، وابن عيينة، وعمرو بن أبي قيس، وإبراهيم بن طهمان، وأبو بكر بن عياش. قال النسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به. ووثقه الدارقطني. أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف.
4 -
(أشعث بن أبي الشعثاء) سليم بن الأسود المحاربي الكوفي، ثقة، من [6] تقدم في 112.
5 -
(أبو الشعثاء) سليم بن الأسود المحاربي الكوفي، ثقة، من كبار [3] تقدم في 112.
6 -
(أبو هريرة) الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.
ومنها: أن الأئمة اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فمن أفراده، وعمر ابن سعيد، فممن انفرد به هو، ومسلم، وأبو داود.
ومنها: أنهم كوفيون، إلا شيخه، فمكي، وأبا هريرة، فمدني.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.
ومنها: أن صحابيه أكثر الصحابة رواية، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي الشعثاء) سليم بن الأسود بن حنظلة المحاربي، أنه (قال: رأيت أبا هريرة) رضي الله عنه، ولفظ أبي داود "كنا مع أبي هريرة في المسجد"(ومر رجل في المسجد) جملة في محل نصب على الحال، بتقدير "قد" عند البصريين، أي والحال أنه قد مر رجل في المسجد (بعد النداء) أي الأذان، ولفظ أبي داود "فخرج رجل حين أذن المؤذن بالعصر"(حتى قطعه) أي قطع المسجد بالمشي حتى جاوزه، والمراد أنه خرج منه. وفي رواية ابن ماجه:"فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره"(فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) هو مقابل لمحذوف، لأن "أمَّا" هذه كما قال الطيبي للتفصيل، فتقتضي شيئين أو أكثر، فيكون التقدير: أما من ثبت في المسجد حتى صلى، فقد أطاع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، وأما هذا فقد عصى.
قال الجامع: وقد تأتي "أما" لغير تفصيل أصلًا، فلا تحتاج إلى تقدير، كما بينه ابن هشام الأنصاري في مغنيه جـ 1 ص 54 بحاشية
الأمير، وعلى هذا فلا حاجة هنا لتقدير شيء.
والظاهر أن أبا هريرة رضي الله عنه علم أن الرجل خرج بدون ضرورة مبيحة للخروج، كحاجة الوضوء مثلًا، فلذا جزم بعصيانه.
ثم إن ظاهر الحديث يدل على تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان، لأنه -وإن كان موقوفًا- لكنه في حكم المرفوع، إذ مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، كما سيأتي تمام البحث فيه في المسائل إن شاء الله تعالى.
بل قد جاء ما يدل على رفعه صريحًا، فقد أخرج الحديث أحمد من طريق المسعودي وشريك، كلاهما عن أشعث عن أبي الشعثاء بنحوه، وزاد: في حديث شريك، ثم قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم في المسجد، فنودي بالصلاة، فلا يخرج أحدكم حتى يصلي" وكذا ورد التصريح عند الطبراني في الأوسط من رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: "لا يسمع النداء في مسجدي هذا، ثم يخرج منه لحاجة، ثم لا يرجع إليه إلا منافق".
قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح.
وقوله: "مسجدي هذا" ليس للاحتراز عن غيره، كما يدل عليه ما أخرجه ابن ماجه بسنده إلى عثمان رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدركه الأذان في المسجد، ثم خرج لم يخرج لحاجة، وهو لا يريد الرجعة، فهو منافق".
وفي سنده عبد الجبار بن عمر الأيلي الأموي ضعيف، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متروك، لكن يشهد له ما تقدم من حديث الطبراني، ويشهد له أيضًا ما روى أبو داود في مراسله، والبيهقي جـ 3 ص 56 عن سعيد بن المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء، إلا منافق، إلا لعذر، أخرجته حاجة، وهو يريد الرجوع".
ومراسيل سعيد بن المسيب قال أحمد: صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته. وقال الشافعي: إرسال ابن المسيب عندنا حسن. أفاده في المرعاة جـ 3 ص 522 - 523.
وقد صحح الشيخ الألباني حديث عثمان. انظر "صحيح ابن ماجه" جـ 1 ص 123.
والحاصل أن قول أبي هريرة: "فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" قد ثبت كونه مرفوعًا. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (683)، و"الكبرى"(1647) عن محمد بن منصور
المكي، عن سفيان بن عيينة، عن عمر بن سعيد، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه، عنه. وفي (684) و"الكبرى"(1648) عن أحمد ابن عثمان بن حكيم، عن جعفر بن عون، عن أبي عميس، عن أبي صخرة، عن أبي الشعثاء، عنه. والله أعلم.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن إبراهيم بن المهاجر، عن أبي الشعثاء، به. وعن أبي عمر المكي عن ابن عيينة، به.
وأبو داود فيه عن محمد بن كثير، عن الثوري، عن إبراهيم بن المهاجر به.
والترمذي فيه عن هناد، عن وكيع، عن الثوري، وقال: حسن صحيح. وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة به.
وأخرجه أبو عوانة (2/ 8)، والدارمي (1/ 274)، وأحمد (2/ 410، 416، 471). انظر "إرواء الغليل" جـ 1 جـ 263. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في مذاهب العلماء في الخروج من المسجد بعد الأذان:
دل حديث الباب على تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان، وهذا
لمن لا عذر له، للأحاديث التي ذكرناها.
قال الإمام الترمذي رحمه الله بعد ذكر الحديث ما نصه: وعلى هذا العملُ عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومَنْ بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد إلا من عذر، أن يكون على غير وضوء، أو أمر لابد منه، ويروى عن إبراهيم النخعي أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة، وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه. انتهى.
وعن مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: يقال: لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا أحد يريد الرجوع إليه، إلا منافق.
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله في التمهيد: وهذا لا يقال مثله من جهة الرأي، ولا يمكن إلا توقيفًا، وقد روي معناه مسندًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك أدخلناه. ثم أخرج بأسانيده حديث أبي هريرة المذكور في الباب، ثم قال: قال أبو عمر: أجمعوا على القول بهذا الحديث لمن لم يصل، وكان على طهارة، وكذلك إذا كان قد صلى وحده، إلا لما لا يعاد من الصلوات، فإذا كان ما ذكرنا فلا يحل له الخروج من المسجد بإجماع إلا أن يخرج للوضوء، وينوي الرجوع.
واختلفوا فيمن صلى في جماعة، ثم أذن المؤذن وهو في المسجد لتلك الصلاة.
وقد كره جماعة من العلماء خروج الرجل من المسجد بعد الأذان، إلا للوضوء لتلك الصلاة بنية الرجوع إليها، وسواء صلى وحده، أو
في جماعة، أو جماعات، وكذلك كرهوا قعوده في المسجد، والناس يصلون، لئلا يتشبه بمن ليس على دين الإسلام، وسواء صلى أو لم يصل.
والذي عليه مذهب مالك: أنه لا بأس بخروجه من المسجد إذا كان قد صلى تلك الصلاة في جماعة، وعلى ذلك أكثر القائلين بقوله، إلا أنهم يكرهون قعوده مع المصلين بلا صلاة، ويستحبون له الخروج والبعد عنهم.
قال مالك: دخل أعرابي المسجد، وأذن المؤذن، فقام يحُلُّ عِقَال ناقته ليخرج، فنهاه سعيد بن المسيب، فلم ينته، فما سارت به غير يسير حتى وقعت به، فأصيب في جسده، فقال سعيد: قد بلغنا أنه من خرج بين الأذان والإقامة لغير وضوء، فإنه يصاب. انتهى. تمهيد جـ 24 ص 212 - 214.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أنه يحرم الخروج بعد الأذان حتى يصلي تلك الصلاة، للأدلة الصحيحة المذكورة، وأما أصحاب الأعذار، وكذا من أراد الرجوع فلا يحرم عليهم، لقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] الآية، ولما تقدم من الأحاديث التي فيها استثناء أصحاب الأعذار. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
684 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو صَخْرَةَ،
عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ مَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:"أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(أحمد بن عثمان بن حكيم) الأودي، أبو عبد الله الكوفي ثقة، من [11] تقدم في 252.
2 -
(جعفر بن عون) بن جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي، أبو عون الكوفي، صدوق، من [9].
قال أحمد: رجل صالح، ليس به بأس. وقال أبو أحمد الفراء: قال لي أحمد: عليك بجعفر بن عون. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان، وابن شاهين في الثقات، وقال ابن قانع في الوفيات: كان ثقة. قال البخاري: مات سنة 206، وقال أبو داود: سنة 207، قيل: مات وهو ابن 87 سنة، وقيل: 97 سنة، أخرج له الجماعة.
3 -
(أبو العميس) -مصغرًا- عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله ابن مسعود الهذلي المسعودي الكوفي، ثقة، من [7].
قال علي بن المديني: له نحو أربعين حديثًا. وقال أحمد، وابن
معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة أخرج له الجماعة.
4 -
(أبو صخرة) جامع بن شداد المحاربي الكوفي، ثقة، من [5] تقدم في 145.
والباقيان تقدما في السند الماضي، وكذا الحديث مضى شرحه، والمسائل المتعلقة به، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادتها. وبالله تعالى التوفيق.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
41 - إِيذَان الْمُؤَذِّنِينَ الأئِمَّةَ بِالصَّلاةِ
أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على مشروعية إعلام المؤذنين الأئمة بالصلاة عند إرادة الإقامة.
685 -
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ، وَيُونُسُ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُمْ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، وَيَسْجُدُ سَجْدَةً قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ بِالإِقَامَةِ، فَيَخْرُجُ مَعَهُ".
وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَدِيثِ.
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(أحمد بن عمرو بن السرح) أبو الطاهر المصري، ثقة، من [10] تقدم في 39.
2 -
(ابن وهب) هو عبد الله أبو محمد المصري، ثقة حافظ، من [9] تقدم في 9.
3 -
(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث ابن أبي ذئب القرشي العامري، أبو الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل،
من [7] تقدم في 681.
4 -
(يونس) بن يزيد الأيلي، أبو يزيد، ثقة يهم، من كبار [7] تقدم في 9.
5 -
(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاري مولاهم المصري أبو أيوب، ثقة حافظ من [7] تقدم في 79.
6 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري، أبو بكر المدني، ثقة ثبت حجة، من [4] تقدم في 1.
7 -
(عروة) بن الزبير بن العوام أبو عبد الله المدني الفقيه، ثقة ثبت، من [3] تقدم في 44.
8 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات نبلاء.
ومنها: أن الأئمة اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فلم يخرج له البخاري والترمذي.
ومنها: أنهم إلى عمرو بن الحارث مصريون، فيونس وإن كان أيليًا إلا أنه توفي بصعيد مصر، والباقون مدنيون.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ ابن شهاب عن عروة، ورواية الراوي عن خالته، عروة عن عائشة.
ومنها: أن عروة أحد الفقهاء السبعة.
ومنها: أن عائشة من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها (قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي) هذا بظاهره يشمل ما إذا كان بعد النوم أو قبله (فيما بين أن يفرغ) -بضم الراء- يقال: فَرَغ يفرُغ فُرُوغًا، من باب قعد، وفَرِغَ يَفْرَغُ من باب تَعِب لغة لبني تميم، والاسم الفراغ. قاله في "المصباح".
و "ما" موصولة، والظرف صلتها، والجار والمجرور متعلق بيصلي: أي يصلي في الوقت الذي بين أن ينتهي (من صلاة العشاء إِلى) طلوع (الفجر) وعند أبي داود "إلى أن يتصدع الفجر" أي ينشق (إِحدى عشرة ركعة) بسكون الشين، ويجوز كسرها.
وهذا محمول على غالب أحواله، قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: "إحدى عشرة ركعة"، وقد جاء "ثلاث عشرة ركعة"، فيحمل على أن هذا كان أحيانًا، أو لعله مبني على عَدِّ الركعتين الخفيفتين اللتين يبدأ بهما صلاة الليل من صلاة الليل أحيانًا، وتركه أخرى، وعلى كل تقدير فهذه الهيئة لصلاة الليل لابد من حملها على أنها كانت أحيانًا، وإلا فقد جاءت هيئات أخرى في قيام الليل. انتهى.
(يسلم بين كل ركعتين) ولأبي داود "يسلم من كل ثنتين"، وفيه أن الأفضل في صلاة الليل أن يسلم من كل ثنتين، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة الليل مثنى مثنى".
(ويوتر بواحدة) فيه أن أقل الوتر ركعة، وأن الركعة الفردة صلاة صحيحة، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وهو الحق.
وقال أبو حنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة أصلًا.
قال النووي: والأحاديث الصحيحة ترد عليه.
وقال الحافظ ما حاصله: كثير من الأحاديث ظاهر في الفصل -يعني فصل ركعة الوتر عما قبلها- كحديث عائشة "يسلم من كل ركعتين"، فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع، وحمل الطحاوي هذا، ومُثُلَهُ على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة، ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل، أو الفصل، وصرح كثير منهم أن الفصل يقطعهما عن أن يكونا من جملة الوتر، ومن خالفهم يقول: إنهما منه بالنية. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 563 - 564.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث النهي عن البتيراء أخرجه ابن عبد البر في التمهيد، قال أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف، أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الفرج، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الحسن بن سليمان بن قبيطة، حدثنا عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البتيراء، أن يصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها".
قال: هو عثمان بن محمد بن أبي ربيعة بن عبد الرحمن، قال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم. انتهى. تمهيد جـ 13 جـ 254.
وقال الذهبي في الميزان جـ 3 ص 53: قال عبد الحق في أحكامه:
الغالب على حديثه الوهم. وقال ابن القطان: هذا حديث شاذ لا يعَرَّج على رواته. انتهى.
(ويسجد سجدة واحدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية) يعني أنه يطول صلاة الليل بحيث تكون سجدة واحدة من تلك الركعات الإحدى عشرة بقدر ما يقرأ القارئ خمسين آية (ثم يرفع رأسه) من السجدة، وعند أبي داود "ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، قبل أن يرفع رأسه".
وفيه استحباب تطويل السجود في قيام الليل، وقد بوب عليه البخاري "باب طول السجود في قيام الليل"، وفي حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:"كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، وفي مسند أحمد من طريق محمد بن عباد، عن عائشة، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الليل في سجوده: سبحانك لا إله إلا أنت"، ورجاله ثقات. قاله في "الفتح".
(فإِذا سكت) بالتاء الفوقية، أي فرغ (المؤذن من صلاة الفجر) أي من أذانها (وتبين له الفجر) أي ظهر وانتشر. قال الطيبي: يدل على أن التبين لم يكن في الأذان، وإلا لما كان لذكر التبين فائدة. (ركع ركعتين) هما سنة الفجر (خفيفتين) فيه أن المستحب تخفيف الركعتين، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه كان يقرأ في الأولى
منهما الفاتحة، وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: الفاتحة، وقيل هو الله أحد.
(ثم اضطجع) أي في بيته للاستراحة من تعب قيام الليل، ليصلي صلاة الصبح بنشاط، أو ليفصل بين الفرض والنفل بالضجعة.
وفيه مشروعية الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وهو على الاستحباب عند الجمهور، وقال ابن حزم بوجوبه، للأمر الوارد به، وحمل الجمهور الأمر على الاستحباب لعدم مداومته صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تمام البحث في ذلك في بابه (1762) إن شاء الله تعالى.
تنبيه:
اتفق أصحاب الزهري، فرووا هذا الحديث عنه، فجعلوا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، لا بعد الوتر، فقالوا:"فإذا تبين له الفجر، وجاءه المؤذن ركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة".
وخالفهم في ذلك مالك، فجعله بعد الوتر، فقال: يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن".
وزعم محمد بن يحيى الذهلي وغيره أن الصواب رواية الجمهور، ورده ابن عبد البر بأنه لا يدفع ما قاله مالك، لموضعه من الحفظ والإتقان، ولثبوته في ابن شهاب، وعلمه بحديثه، وقد قال يحيى بن
معين: إذا اختلف أصحاب ابن شهاب، فالقول ما قاله مالك، فهو أثبتهم فيه، وأحفظهم لحديثه، ويحتمل أن يضطجع مرة كذا، ومرة كذا، ولرواية مالك شاهد، وهو حديث ابن عباس أن اضطجاعه كان بعد الوتر، وقبل ركعتي الفجر، فلا ينكر أن يحفظ ذلك مالك في حديث ابن شهاب، وإن لم يتابع عليه. انتهى.
قال الجامع: هذا الذي قاله الحافظ أبو عمر هو الأولى من تغليط حافظ متقن، فالجمع مهما أمكن هو المتعين، فيحمل على أنه كان يضطجع أحيانًا بعد الوتر، وأحيانًا بعد ركعتي الفجر، وسيأتي تحقيق هذا في محله إن شاء الله تعالى.
(على شقه الأيمن) بكسر الشين: أي جنبه الأيمن، لكونه يحب التيامن في شأنه كله، أو للتشريع، لأن النوم على الأيسر يستلزم استغراق النوم في غيره صلى الله عليه وسلم، بخلافه هو، لأن عينه تنام ولا ينام قلبه، فعلى الأيمن أسرع للانتباه بالنسبة لنا، وهو نوم الصالحين.
قال القسطلاني: لا يقال: حكمته أن لا يستغرق في النوم، لأن القلب في اليسار، ففي النوم عليه راحة له، فيستغرق فيه، لأنا نقول: صح أنه عليه الصلاة والسلام كان تنام عينه، ولا ينام قلبه، نعم يجوز أن يكون فعله لإرشاد أمته وتعليمهم. انتهى. ذكره في "المرعاة" جـ 4 ص 166.
(حتى يأتيه المؤذن) بلال رضي الله عنه (بالإِقامة) أي بشأنها، ولأبي داود "للإقامة" باللام بدل الباء، والمراد أنه يأتيه مستئذنًا لأن
يقيم للصلاة، لأنها منوطة بأمر الإمام، و"حتى" غاية للاضطجاع، أي يضطجع إلى أن يأتيه المؤذن. وفيه مشروعية إعلام المؤذن الإمام إذا أراد الإقامة، وهو موضع استدلال المصنف لترجمته، وليس من نوع التثويب البدعي الذي تقدم التحذير عنه، فإن ذاك أن يقوم المؤذن على باب المسجد، أو على محل التأذين، فيرفع صوته، قائلًا:"حي على الصلاة، حي على الفلاح"، أو الصلاة، الصلاة، يا مصلون. فتنبه.
(فيخرج معه) يحتمل الرفع، على الاستئناف، أي فهو يخرج مع المؤذن لأداء الصلاة جماعة، والنصب عطفًا على "يأتي". وبالله
تعالى التوفيق.
(وبعضهم يزيد على بعض في الحديث) أي قال ابن وهب: أخبرني ابن أبي ذئب، ويونس، وعمرو بن الحارث، كلهم عن ابن شهاب الزهري، وفي إخبار بعضهم لي زيادة على بعض في الحديث المذكور. وفيه قاعدة مهمة ذكرها أهل الاصطلاح في كتبهم، سأذكرها في المسائل، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (685) و"الكبرى"(1649) عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، ويونس، وعمرو بن الحارث، ثلاثتهم عن ابن شهاب، عن عروة، عنها. وفي (1328) عن سليمان بن داود بن حماد بن سعد، عن ابن وهب به. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أما من طريق ابن أبي ذئب، فأخرجه أبو داود في "الصلاة"(3/ 317) عن نصر بن عاصم، عن الوليد بن مسلم (4/ 317) عن سليمان بن داود المهري، عن ابن وهب، وابن ماجه فيه (1/ 220) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شبابة بن سوار ثلاثتهم عنه به.
وأما من طريق يونس فأخرجه مسلم في "الصلاة"(3/ 125) عن حرملة بن يحيى، وأبو داود فيه (4/ 317) عن سليمان بن داود، كلاهما عن ابن وهب عنه به.
وأما من طريق عمرو بن الحارث، فأخرجه مسلم في "الصلاة"(2/ 125) عن حرملة بن يحيى، وأبو داود فيه (4/ 317) عن سليمان ابن داود المهري، كلاهما عن ابن وهب عنه به.
وأخرجه البخاري من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، بلفظ "كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته، يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى
يأتيه المنادي للصلاة".
وأخرجه مالك في "الموطأ"، وأحمد في "مسنده"، وعبد بن حميد في "مسنده". والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية إعلام الأئمة بالإقامة للصلاة.
ومنها: استحباب قيام الليل.
ومنها: استحباب تطويل السجود، ومثله الركوع في قيام الليل.
ومنها: مشروعية الإيتار بركعة واحدة.
ومنها: أن في قوله: "وتبين له الفجر" دليلًا على استحباب التغليس في أذان الفجر، ليتسع الوقت لاستعداد الناس للصلاة.
ومنها: استحباب التخفيف في ركعتي الفجر.
ومنها: استحباب الاضطجاع على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر، وقد اختلف أهل العلم، هل هو خاص بالبيت، أم يشرع في المسجد أيضًا -وهو الراجح- وسنحققه في موضعه إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
المسألة الخامسة: في قوله: "وبعضهم يزيد على بعض في الحديث" قاعدة مهمة، وذلك أنه إذا سمع بعض حديث من شيخ، وبعضه من آخر، فروى جملته عنهما مبينًا أن بعضه عن أحدهما،
وبعضه عن الآخر غير مميز لما سمعه من كل شيخ عن الآخر، جاز، ثم يصير كل جزء منه كأنه رواه عن أحدهما مبهمًا، فإن كان كلاهما ثقة احتج به، كحديث عبد الله بن وهب هذا، فإن كلًا من ابن أبي ذئب، ويونس، وعمرو بن الحارث ثقة حجة، وإن كان أحدهما مجروحًا، فلا يحتج بشيء منه، لأنه ما من جزء منه إلا ويجوز أن يكون عن ذلك المجروح، ويجب ذكرهما حينئذ جميعًا مبينًا أن عن أحدهما بعضه، وعن الآخر بعضه، ولا يجوز ذكرهما ساكتًا عن ذلك، ولا إسقاط أحدهما مجروحًا كان، أو ثقة.
ومن أمثلته أيضًا حديث الإفك في الصحيح من رواية الزهري، حيث قال: حدثني عروة، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة، قال: وكل حدثني طائفة من حديثها، ودخل حديث بعضهم في بعض، وأنا أوعى لحديث بعضهم من بعض، فذكر الحديث. انظر تدريب الراوي جـ 2 ص 124.
وإلى هذه القاعدة أشار السيوطي رحمه الله في "ألفيته"، حيث قال:
وَمَنْ رَوَى بَعْضَ حَدِيثٍ عَنْ رَجُلْ
…
وَبَعْضَهُ عَنْ آخَرٍ ثُمَّ جَمَلْ
ذَلِكَ عنْ ذَيْنِ مُبَيِّنًا بِلا
…
مَيْزٍ أجِزْ وَحَذْفُ بَعْضٍ حُظِلَا
مُجَرَّحًا يَكُونُ أوْ مُعَدَّلَا
…
وَحَيْثُ جَرْحُ وَاحِدٍ لا نَقْبَلَا
والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
686 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّ كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قُلْتُ: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ فَوَصَفَ "أَنَّهُ صَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى اسْتَثْقَلَ، فَرَأَيْتُهُ يَنْفُخُ، وَأَتَاهُ بِلَالٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(محمد بن عبد الله بن عبد الحكم) بن أعين المصري الفقيه، ثقة، توفي سنة 268، وله 86 سنة، من [11] أخرج له النسائي، تقدم في 166.
2 -
(شعيب) بن الليث بن سعد، أبو عبد الملك المصري، ثقة نبيل فقيه، توفي سنة 199، وله 64 سنة، من كبار [10] تقدم في 166. أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
3 -
(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن، أبو الحارث الفهمي مولاهم المصري، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، توفي سنة 175، من
[7]
أخرج له الجماعة، تقدم في 35.
4 -
(خالد) بن يزيد الجُمَحِيّ، ويقال: السَّكْسَكِيُّ، أبو عبد الرحيم المصري، مولى ابن الصبيغ، ثقة فقيه، توفي سنة 139، من [6].
قال ابن يونس: كان فقيهًا مفتيًا. وقال أبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال العجلي: ثقة. وقال يعقوب
ابن سفيان: مصري ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له الجماعة.
5 -
(ابن أبي هلال) هو سعيد بن أبي هلال، الليثي مولاهم، أبو العلاء المصري، قيل: مدني الأصل، وقيل: بل نشأ بها، صدوق، من [6].
قال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن سعد: كانث ثقة، إن شاء الله. وقال الساجي: صدوق، كان أحمد يقول: ما أدري أي شيء
يخلط في الأحاديث.
وقال العجلي: مصري ثقة. ووثقه ابن خزيمة، والدارقطني، والبيهقي، والخطيب، وابن عبد البر، وغيرهم. وقال ابن حزم: ليس بالقوي. وقال الحافظ: ولعله اعتمد على قول الإمام أحمد فيه.
وقال ابن يونس: ولد بمصر سنة 70، ونشأ بالمدينة، ثم رجع إلى مصر في خلافة هشام، قال: ويقال: توفي سنة 135. وقال غيره: توفي سنة 133، وقال ابن حبان في الثقات: توفي سنة 149، وقال مسعود الحارثي: إن اسم أبي هلال والد سعيد هذا مرزوق. أخرج له الجماعة.
6 -
(مخرمة بن سليمان) الأسدي الوالِبِي -بكسر اللام والموحدة- المدني، ثقة، من [5].
قال الدوري عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث.
وقال الواقدي: قتلته الحرورية بقُدَيدٍ سنة 130، وهو ابن 70 سنة. أخرج له الجماعة.
7 -
(كريب مولى ابن عباس) هو ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني، أبو رِشدين، ثقة، توفي سنة 98، من [3] أخرج له الجماعة، تقدم في 253.
8 -
(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر رضي الله تعالى عنه، تقدم في 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من ثمانيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.
ومنها: أنه مسلسل بالفقهاء.
ومنها: أنهم اتفق الأئمة بالرواية لهم، إلا شيخه، فمن أفراده، وشعيبًا، فمن أفراده، ومسلم، وأبي داود.
ومنها: أنهما إلى ابن أبي هلال مصريون، والباقون مدنيون.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه، ورواية تابعي عن تابعي.
ومنها: أن فيه ابن عباس أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن مخرمة بن سليمان، أن كريبًا مولى ابن عباس أخبره) أي مخرمة (قال: سألت ابن عباس) رضي الله عنهما (قلت: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل) جملة قلت: تفسير لقوله: سألت (فوصف) ابن عباس (أني) أي النبي صلى الله عليه وسلم (صلى إِحدى عشرة ركعة بالوتر) أي مع الوتر.
فإن قيل: هذه الرواية تخالف روايات الأكثرين لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإن فيها أنه "صلى ثلاث عشرة ركعة".
أجيب بأنها لا تخالف لإمكان الجمع بحمل هذه الرواية على غير الركعتين الخفيفتين اللتين كان يفتتح بهما صلاة الليل، لما في رواية
أبي داود، وغيره "فصلى ركعتين خفيفتين، قلت: قرأ فيهما بأم القرآن في كل ركعة، ثم سلم، ثم صلى، حتى صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر". . . الحديث، فتبين أن رواية ثلاث عشرة بعَدِّ هاتين الركعتين، ورواية إحدى عشرة بإسقاطهما.
وسيأتي ذكر اختلاف الروايات في حديث ابن عباس، وحديث عائشة رضي الله عنهم، في صلاته صلى الله عليه وسلم في الليل، والجمع بينهما في كتاب قيام الليل إن شاء الله تعالى.
(ثم نام، حتى استُثْقِلَ) بالبناء للمفعول: أي حتى غلبته الثَّقْلَة، وهي بفتح، فسكون: النَّعْسَة الغالبة، قال ابن منظور: والثَّقْلَة -بالفتح- نَعْسَة غالبة، والمُسْتَثْقَلُ: الذي أثقله النوم وهي الثَّقْلَةُ. انتهى المراد منه.
(فرأيته ينفخ) بضم الفاء، من باب قتل، وفي رواية "وكان إذا نام نفخ" (وأتاه بلال) ولأبي داود "فأتاه" بالفاء (فقال: الصلاة يا رسول الله) بنصب الصلاة بفعل مقدر، أي احضر الصلاة، أو بالرفع مبتدأ حذف خبره، أي الصلاة قريبة القيام، أو فاعلًا لمحذوف، أي حانت الصلاة.
وهذا موضع استدلال المصنف رحمه الله تعالى، حيث إن بلالًا رضي الله عنه أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة بعد الأذان، فيشرع إعلام الأئمة عند إرادة الإقامة للصلاة تنبيهًا لهم.
وروي أن عمر رضي الله عنه أنكر على أبي محذورة دعاءه إياه إلى الصلاة.
أخرج ابن المنذر رحمه الله بسنده عن مجاهد، قال: لما قدم عمر مكة أتاه أبو محذورة، وقد أذن، فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، فقال: ويحك أمجنون أنت، أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك حتى تأتينا".
وقال الأوزاعي: وسئل عن تسليم المؤذن على الأمير؟ فقال: أول من فعله معاوية، وأقره عمر بن عبد العزيز، وإني لأكرهه؛ لأنه مفسدة لقلوبهم، وكان المؤذنون يأتون عمر بن عبد العزيز فيقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة، حى على الفلاح، الصلاة يرحمك الله. وقال مالك: لم يبلغني أن التسليم كان في الزمان الأول. انتهى. "الأوسط" جـ 3 ص 57.
قال الجامع عفا الله عنه: الحق أن إعلام الإمام بالصلاة عند إرادة الإقامة جائز إذا دعت الحاجة، لأنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤذن كان يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث الباب وغيره. والله أعلم.
(فقام) النبي صلى الله عليه وسلم (فصلى ركعتين) وفي رواية "ركعتين خفيفتين". وهما ركعتا الفجر.
(وصلى بالناس) ولأبي داود "ثم صلى بالناس"، أي صلى الصبح جماعة.
(ولم يتوضأ) لأن وضوءه لا ينتقض بالنوم، قال في الفتح: فيه دليل على أن النوم ليس حديثًا، بل مظنة الحدثة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان تنام عينه، ولا ينام قلبه، فلو أحدث لعلم بذلك، ولهذا كان ربما توضأ إذا قام من النوم، وربما لم يتوضأ.
قال الخطابي رحمه الله: وإنما منع قلبه النوم ليعي الوحي الذي يأتيه في منامه. انتهى. جـ 1 جـ 288 - 289. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (686) و"الكبرى"(1650) عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن خالد بن يزيد الجمحي، عن سعيد بن أبي هلال، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب عنه.
و (1620) عن محمد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن مخرمة، به. وفي "الكبرى" في "الصلاة" عن قتيبة، عن
مالك به. وأعاده في "التفسير". أفاده في "تحفة الأشراف" جـ 5 ص 210. والله أعلم.
(الثالثة) فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي في "شمائله"، وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الطهارة"(37) عن إسماعيل بن أبي أويس - وفي أواخر "الصلاة"(521) عن عبد الله بن يوسف- وفي الوتر (2/ 391)، عن القعنبي، وفي "التفسير"(3/ 20) عن قتيبة و (3/ 18) عن علي بن عبد الله، عن ابن مهدي و (3/ 19) معن بن عيسى -فرقهما- ستتهم عن مالك، عن مخرمة به. وفي "الصلاة" أيضًا (209) عن أحمد، عن ابن وهب، عن عمرو، عن عبد ربه بن سعيد، عنه به، زاد فيه: قال عمرو: فحدثت به بكيرًا، فقال: حدثني كريب بذلك.
ومسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن مالك به. وعن هارون بن سعيد، عن ابن وهب به. وعن محمد بن سلمة عن ابن وهب، عن عياض بن عبد الله و (5/ 134) عن محمد بن رافع، عن ابن أبي فديك، عن الضحاك بن عثمان كلاهما عنه به.
وأبو داود فيه (34/ 317) عن القعنبي به. و (31/ 317) عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، عن أبيه، عن جده به.
والترمذي في "شمائله"(5/ 41) عن قتيبة به. و (5/ 41) عن إسحاق بن موسى، عن معن به.
وابن ماجه فيه (6/ 220) عن أبي بكر بن خلاد، عن معن به.
وأخرجه مالك في "الموطأ"، وأحمد، وابن خزيمة، والحميدي. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما بوب عليه المصنف، وهو مشروعية إيذان المؤذن الإمام بالصلاة عند إرادة الإقامة لها.
ومنها: ما كان عليه السلف من تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال عنها ليتبعوه؛ لأن الهداية في اتباعه، قال الله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
ومنها: استحباب صلاة الليل، ومنها الوتر.
ومنها: بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نام ينفخ.
ومنها: أن نومه صلى الله عليه وسلم لا ينتقض به وضوءه؛ لكونه لا ينام قلبه.
وبقية مباحث الحديث تأتي في محلها من كتاب قيام الليل، إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
42 - إِقَامَةُ المُؤَذِّنِ عِنْدَ خُرُوجِ الإِمَامِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية إقامة المؤذن للصلاة عند خروج الإمام من حجرته، والمراد به حضوره إلى محل الصلاة، والحكمة في ذلك التخفيف على المأمومين، إذ لو قاموا قبل حضور الإمام لطال عليهم الانتظار، وهم وقوف. والله تعالى أعلم.
687 -
أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي خَرَجْتُ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(الحسين بن حريث) الخزاعي، أبو عمار المروزي، ثقة، توفي سنة 244، من [10] تقدم في 52.
2 -
(الفضل بن موسى) السِّيناني، أبو عبد الله المروزي، ثقة ثبت ربما أغرب، توفي سنة 192، من كبار [9] تقدم في 100.
3 -
(معمر) بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري،
نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، توفي سنة 154، من كبار [7] تقدم في 10.
4 -
(يحيى بن أبي كثير) الطائي مولاهم، أبو نصر اليمامي، ثقة ثبت، لكنه يدلس ويرسل، توفي سنة 132، من [5] تقدم في 24.
5 -
(عبد الله بن أبي قتادة) الأنصاري المدني، ثقة، توفي سنة 95، من [2] تقدم في 24.
6 -
(أبو قتادة) الأنصاري السَّلَمِي واسمه الحارث بن رِبْعِي، وقيل: غير ذلك، صحابي شهد أحدًا وما بعدها، ولم يشهد بدرًا، توفي سنة 54 على الأصح، رضي الله عنه، تقدم في 24. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فلم يخرج له ابن ماجه.
ومنها: أنهم ما بين مروزيين، وهما الحسين والفضل، وبصريين، وهما معمر ويحيى، فمعمر بصري يماني، ويحيى يمامي بصري، ومدنيين، وهما أبو قتادة وابنه.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه؛ عبد الله، عن أبي قتادة، ورواية تابعي عن تابعي؛ يحيى عن عبد الله. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن أبي قتادة) قال في الفتح: وصرح أبو نعيم في المستخرج من وجه آخر عن هشام -يعني الدستوائي- أن يحيى كتب إليه أن عبد الله بن أبي قتادة حدثه، فأمن بذلك تدليس يحيى. انتهى.
(عن أبيه) الحارث بن ربعي رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذا أقيمت الصلاة) أي إذا ذكرت ألفاظ الإقامة، ونودي بها (فلا تقوموا حتى تروني) أي تبصروني (خرجت) أي من حجرته.
ولابن حبان من طريق عبد الرزاق "حتى تروني خرجت إليكم"؛ ولابد فيه من التقدير، أي لا تقوموا حتى تروني خرجت، فإذا رأيتموني خرجت فقوموا. قاله في عمدة القاري جـ 5 ص 153.
وقال السندي: لعل النهي عن القيام لانتظار الإمام قائمًا، وأما القيام من مكان إلى آخر لأجل تسوية الصفوف ونحوه فغير منهي عنه.
ثم هذا الحديث يدل على جواز الإقامة قبل رؤية الإمام، فإدخاله في هذه الترجمة خفي، فليتأمل، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا خفاء في إدخاله هنا؛ لأن بلالًا
- رضي الله عنه إنما يشرع في الإقامة إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، قبل أن يراه الناس كلهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن القيام قبل أن يروه كلهم قد خرج، رفقًا بهم لئلا يطول القيام، ويبين هذا المعنى ما أخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه "أن بلالًا كان لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم".
قال في الفتح: قال القرطبي: ظاهر الحديث -يعني حديث: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة "أن بلالًا كان لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم" أخرجه مسلم.
ويجمع بينهما بأن بلالًا كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يشرع في الإقامة، قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا، فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم.
قال الحافظ: ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن ابن شهاب "أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن: الله أكبر، يقومون إلى الصلاة، فلا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مقامه حتى تعتدل الصفوف".
وأما حديث أبي هريرة عند البخاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، وقد أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف"، ولفظ مسلم "أقيمت الصلاة، فقمنا، فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى، فقام مقامه" الحديث، وعنه في رواية أبي داود "إن الصلاة
كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يجيء النبي صلى الله عليه وسلم".
فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنيعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي عن ذلك في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة، ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن ذلك، لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج، فيشق عليهم انتظاره.
ولا يرد هذا حديث أنس رضي الله عنه: أنه قام في مقامه طويلًا في حاجة بعض القوم، لاحتمال أن يكون ذلك وقع منه نادرًا، أو فعله لبيان الجواز. انتهى. فتح جـ 2 ص 142. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (42/ 686)، و"الكبرى"(39/ 1651) عن الحسين ابن حريث، عن الفضل بن موسى، عن معمر، عن يحيى بن أبي
كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عنه. و (12/ 790) و"الكبرى"(12/ 865) عن علي بن حجر، عن هشيم، عن هشام الدستوائي،
وحجاج بن أبي عثمان، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير به. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، فأخرجه البخاري في "الصلاة"(173)، عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام الدستوائي، قال: كتب إليّ يحيى بن أبي كثير. . . فذكره. و (174) عن أبي نعيم، عن شيبان، عن يحيى به. وقال: تابعه علي بن المبارك. و (3/ 334) عن عمرو بن علي، عن أبي قتيبة، عن علي بن المبارك، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه -لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم- به قال أبو مسعود: كذا في كتاب الفربري، وفي كتاب حماد بن شاكر عن البخاري:"عن عبد الله بن أبي قتادة، أراه عن أبيه".
ومسلم فيه (2/ 82) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة و (2/ 82) عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، وعبد الرزاق؛ ثلاثتهم عن معمر، و (2/ 82) عن إسحاق بن إبراهيم، عن الوليد بن مسلم، عن شيبان، و (2/ 82) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل ابن علية، عن حجاج بن أبي عثمان الصواف؛ ثلاثتهم عن يحيى بن أبي كثير به. و (1/ 82) عن محمد بن حاتم، وعبيد الله بن سعيد، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان، عن حجاج الصواف، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (ح 12139) وعبد الله بن أبي قتادة، كلاهما عن أبي قتادة به.
وأبو داود فيه (1/ 46) عن مسلم بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، كلاهما عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة به. و (2/ 46) عن إبراهيم بن موسى، عن عيسى ابن يونس به. وفي المراسيل (10/ 12) عن أحمد بن صالح، عن يحيى بن حسان، عن حماد بن زيد، قال: كنت أنا، وجرير بن حازم عند ثابت البناني، فحدث حجاج بن أبي عثمان، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . فذكره، فظن جرير أنما حدث به ثابت، عن أنس.
والترمذي فيه (298) عن أحمد بن محمد، عن ابن المبارك، عن معمر به. وقال: حسن صحيح. وأخرجه أحمد، وابن خزيمة، وابن
حبان، والبيهقي.
قال الجامع عفا الله عنه: في حديث الباب: أن المؤذن لا يقيم حتى يرى الإمام قد خرج للصلاة، لأن ذلك يؤدي إلى تطويل القيام على الناس انتظارًا له، وربما لا يكون مستعدًا، أو يعرض له عارض في طريقه، فيتأخر عليهم.
وسنذكر اختلاف أهل العلم في الوقت الذي يستحب أن يقوم الناس فيه إذا أقيمت الصلاة في "كتاب الإمامة"(12/ 790) إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
8 - كتَاب المسَاجِد
أي هذا كتاب في ذكر الأحاديث الدالة على أحكام المساجد، وهو الكتاب الثامن من المجتبى. وقد تقدم الكلام على الكتاب.
وأما المساجد: فهو جمع مسجد، بفتح الجيم، وكسرها.
قال ابن منظور رحمه الله: والمسجد -بفتح الجيم، وكسرها-: الذي يُسجَد عليه. وقال الزجاج: كل موضع يُتَعَبَّدُ فِيه، فهو مسجد -أي بالفتح والكسر- قال: وقد كان حكمه ألا يجيء عَلى مَفْعِلٍ -بكسر العين- ولكنه أحد الحروف التي شذت، فجاءت على مَفْعِلٍ.
قال سيبويه: وأما المسجد، فإنهم جعلوه اسمًا للبيت، ولم يأت على فَعَلَ يَفْعُلُ.
وقال ابن الأعرابي: مسْجَدٌ -بفتح الجيم-: محراب البيوت، ومُصلَّى الجماعات مَسْجِدٌ -بكسر الجيم-، والمساجد جمعهما.
وقال الجوهري: قال الفراء: كل ما كان على فَعَلَ، يَفْعُلُ -بفتح العين في الماضي، وضمها في المضارع- مثل دخل يدخل، فالْمَفْعَل منه بالفتح، اسمًا كان أو مصدرًا، ولا يقع فيه الفرق، مثل دَخَلَ مَدْخَلًا، وهَذَا مَدْخَلُهُ، إلا أحرفًا من الأسماء ألزموها كسر العين، من ذلك المَسْجِدُ، والمَطْلِعُ، والمشرِقُ، والمسقِط، والمفرِقُ، والمَجْزِرُ، والمَسْكِنُ، والمَرْفِقُ، والمَنْبِتُ، والمنسِكُ، فَجعلوا الكسر علامة
الاسم، وربما فتحه بعض العرب في الاسم، فقد روي مسكَن، ومسكِن، وسمع المسجِد، والمسجَد، والمطلِع، والمطلَع، قال: والفتح في كله جائز، وإن لم نسمعه. انتهى. المقصود. من اللسان جـ 3 ص 1940. والله تعالى أعلم.
1 - الفَضْلُ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الفضل الموعود في بناء المساجد.
688 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ بَنَي مَسْجِدًا، يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ بَنَى اللَّهُ عز وجل لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن عثمان) بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي مولاهم، أبو حفص الحمصي، صدوق، توفي سنة 250، من [10] أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 535.
2 -
(بقية) بن الوليد بن صائد بن كعب، أبو يُحْمِدَ الحمصي، صدوق كثير التدليس عن "الضعفاء" توفي سنة 197، من [8] أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم والأربعة، تقدم في 592.
3 -
(بَحِير) -بفتح الموحّدة، وكسر الحاء المهملة- ابن سَعْد -بفتح، فسكون
(1)
- السَّحُولي -بفتح المهملة الأولى، وضم الثانية،
(1)
ووقع في "تت" ابن سَعِيد بياء بعد العين، وهو تصحيف.
أبو خالد الحمصي، ثقة ثبت، من [6].
قال أبو طالب، عن أحمد: ليس بالشام أثبت من حَريز، إلا أن يكون بحير. وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: أيما أصح حديثًا عن خالد بن معدان، ثور، أو بحير؟ فقال: بحير، فقدم بحيرًا عليه.
وقال دحيم، وابن سعد، والنسائي: ثقة. وقال العجلي: شامي ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له البخاري في الأدب المفرد والأربعة.
4 -
(خالد بن معدان) بن أبي كُرَيب الكَلاعي، أبو عبد الله الشامي الحِمْصِي، ثقة عابد يرسل كثيرًا، من [3].
قال يعقوب بن شيبة: لم يلق أبا عبيدة، وهو كلاعي، يُعَدُّ من الطبقة الثالثة، من فقهاء الشام بعد الصحابة. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. ووثقه يعقوب بن شيبة، وابن سعد، وابن خراش، والنسائي. وقال أبو مسهر، عن إسماعيل بن عياش: حدثتنا عبدة بنت خالد بن معدان، وأم الضحاك بنت راشد: أن خالد بن معدان قال: أدركت سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بقية، عن بحير: ما رأيت أحدًا ألزم للعلم منه، كان علمه في مصحف له أزرار، وعرى. قال بقية: كان الأوزاعي يعظم خالدًا، فقال لنا: أله عقب؟ فقلنا: له ابنة، فقال: ائتوها، فسلوها عن هدي أبيها، قال: فكان
ذلك سبب إتياننا عبدة. وقال إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو: رأيت خالد بن معدان إذا كبرت حلقته، قام مخافة الشهرة.
وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: خالد عن أبي ثعلبة الخشني مرسل. وقال ابن أبي حاتم في المراسيل، عن أبيه: لم يصح سماعه من عبادة بن الصامت، وحديثه عن معاذ مرسل، ربما كان بينهما اثنان، وأدرك أبا هريرة، ولم يذكر سماعًا. وقال أحمد: لم يسمع من أبي الدرداء. وقال أبو زرعة لم يلق عائشة. وقال أبو نعيم في الحلية: لم يلق أبا عبيدة. وقال الإسماعيلي: بينه وبين المقدام بن معدي كرب جبير بن نفير. قال الحافظ: وحديثه عن المقدام في صحيح البخاري.
وقال يزيد بن هارون: مات وهو صائم. وقال ابن سعد: أجمعوا على أنه مات سنة 103، وقال دحيم وغيره: مات سنة 104، وقال يحيى بن صالح، عن إسماعيل بن عياش: سنة 105، وقيل عن إسماعيل: سنة 106، وقال أبو عبيد وخليفة: سنة 108.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من خيار عباد الله، مات سنة 104، وقيل سنة 108، وقيل سنة 103، أخرج له الجماعة.
5 -
(كَثِيرُ بن مُرَّةَ) الحضرمي الرَّهَاوِي، أبو شجرة، ويقال: أبو القاسم الحمصي، ثقة، من [2] ووهم من عده في الصحابة.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، وقال: كان ثقة. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال النسائي: لا بأس به.
وقال ابن خراش: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد العزيز بن مروان كتب إلى كثير بن مرة الحضرمي، وكان قد أدرك سبعين بدريًا. وقال أبو الزاهرية، عن كثير بن مرة الحضرمي: مررت بعوف بن مالك، فقال: أرجو أن تكون رجلًا صالحًا.
وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لدحيم: فمن يكون معهم في طبقتهم، يعني جبير بن نفير، وأبا إدريس؟ فقال: كثير بن مرة. قال
البخاري: أدرك عبد الملك، يعني خلافته، وذكره في الأسط في "فصل من مات من السبعين إلى الثمانين".
وقال العسكري: أخرجه ابن أبي خيثمة في الصحابة الذين يُعرفون بكناهم، وهو وهم. وقال أبو موسى في ذيل الصحابة: أورده عبدان، وحديثه مرسل، ولم يذكره في الصحابة غيره. أخرج له البخاري في جزء القراءة، والأربعة.
6 -
(عمرو بن عَبَسَةَ) بن عامر بن خالد السلمي، أبو نجيح، صحابي مشهور، أسلم قديمًا، وهاجر بعد أحد، ثم نزل الشام، ومات بحمص، تقدم في 147. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله ثقات، غير عمرو، وبقية، فصدوقان، إلا أن
بقية مطعون بالتدليس عن الضعفاء، وتدليس التسوية، ولذا قال أبو مسهر الغساني: بَقِيَّة، ليست أحاديثه نَقِيَّة، فكن منها على تَقِيَّة.
ومنها: أنه مسلسل بالحمصيين.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، خالد بن معدان عن كثير بن مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عمرو بن عَبَسَة) السلمي رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من) شرطية مبتدأ، جوابها "بني الله" (بنى مسجدًا) قال في الفتح: التنكير فيه للشيوع، فيدخل فيه الكبير والصغير، ووقع في رواية أنس عند الترمذي "صغيرًا، أو كبيرًا "، وزاد ابن أبي شيبة في حديث الباب من وجه آخر عن عثمان:"ولو كمَفْحَصِ قَطاة"، وهذه الزيادة أيضًا عند ابن حبان، والبزار من حديث أبي ذر. وعند أبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس. وعند الطبراني في الأوسط من حديث أنس وابن عمر. وعند أبي نعيم في الحلية من حديث أبي بكر الصديق، ورواه ابن خزيمة من حديث جابر، بلفظ "كمفحص قطاة، أو أصغر".
وحمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة؛ لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه، لتضع فيه بيضها، وترقد عليه، لا يكفي مقداره للصلاة
فيه، ويؤيده رواية جابر هذه.
وقيل: بل هو على ظاهره، والمعنى أن يزيد في مسجد قدرًا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد، فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر.
وهذا كله بناء على أن المراد بالمسجد ما يتبادر إلى الذهن، وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود، وهو ما يسع الجبهة، فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر، لكن قوله:"بني" يشعر بوجود بناء على الحقيقة، ويؤيده قوله في رواية أم حبيبة "من بني لله بيتًا"، أخرجه سمويه في فوائده بإسناد حسن.
وقوله في رواية عمر "من بني مسجدًا يذكر فيه اسم الله" أخرجه ابن ماجه، وابن حبان. وأخرج النسائي نحوه من حديث عمرو بن عبسة -يعني حديث الباب- فكل ذلك مشعر بأن المراد بالمسجد المكان المتخذ، لا موضع السجود فقط، لكن لا يمتنع إرادة الآخر مجازًا، إذ بناء كل شيء بحسبه، وقد شاهدنا كثيرًا من المساجد في طرق المسافرين يحوطونها إلى جهة القبلة، وهي في غاية الصغر، وبعضها لا تكون أكثر من قدر موضع السجود.
وروى البيهقي في الشعب من حديث عائشة نحو حديث عثمان، وزاد: قلت: وهذه المساجد التي في الطرق؟ قال: نعم. وللطبراني
نحوه من حديث أبي قِرْصَافَة، وإسنادهما حسن. انتهى. فتح
جـ 1 ص 649.
(يذكر الله فيه) بالبناء للمفعول، والجملة في موضع التعليل، كأنه قيل: بنى ليذكر الله تعالى فيه، فهذا في معنى ما جاء "يبتغي به وجه الله" ولفظ المصنف في الكبرى "ليذكر الله فيه" بلام التعليل. والمراد به الإخلاص، يعني أنه بناه لذكر الله تعالى لا لغرض آخر. والله أعلم.
فائدة:
قال ابن الجوزي رحمه الله: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدًا من الإخلاص. انتهى.
وقال الحافظ رحمه الله: ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص، لعدم الإخلاص، وإن كان يؤجر في الجملة. وروى أصحاب السنن، وابن خزيمة، والحاكم من حديث عقبة بن عامر، مرفوعًا "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه المحتسب في صنعته، والرامي به، والممد به". فقوله "المحتسب في صنعته" أي من يقصد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعم من أن يكون متطوعًا بذلك، أو بأجرة، لكن الإخلاص لا يحصل إلا من المتطوع.
وهل يحصل الثواب المذكور لمن جعل بقعة من الأرض مسجدًا بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء، وكذا من عمد إلى بناء كان يملكه، فوقفه مسجدًا؟
إن وقفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم، وهو
المنطبق على استدلال عثمان رضي الله عنه؛ لأنه استدل بهذا الحديث على ما وقع منه، من بنائه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه لم يباشر ذلك بنفسه. انتهى. فتح جـ 1 ص 649 - 650.
قال الجامع: التعميم الذي فهمه عثمان رضي الله عنه هو الذي يظهر لي؛ لأنه من أهل اللسان، ففهمه مقدم، ما لم يعارضه نص. والله أعلم.
(بني الله عز وجل له بيتًا) إنما أظهر الفاعل تعظيمًا لذكر اسمه عز وجل، وتلذذًا به.
تنبيه:
وقع في حديث عثمان رضي الله عنه، وغيره "بني الله له مثله".
وقد اختلفوا في المراد بالمثل هنا: فقال قوم منهم ابن العربي: يعني مثله في المقدار والمساحة. ويرده "بيتًا أوسع منه"، عند أحمد والطبراني من حديث ابن عمر. وروى أحمد أيضًا من طريق واثلة بن الأسقع، بلفظ "أفضل منه".
وقال قوم: مثله في الجودة، والحصانة، وطول البقاء. وهذا يرده أن بناء الجنة لا يخرب، بخلاف بناء المساجد، فلا مماثلة.
وقال صاحب المفهم: هذه المثلية ليست على ظاهرها، وإنما يعني أنه يبني له بثوابه بيتًا أشرف وأعظم وأرفع.
وقال النووي: يحتمل أن يكون قوله: "مثله" أمرين:
أحدهما: أن يكون معناه: بنى الله له مثله في مسمى البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها، فإنها ما لا عين رأت، ولا أذن لسمعت، ولا خطر على قلب بشر.
والثاني: أن يكون معناه أن فضله على بيوت الجنة، كفضل المسجد على بيوت الدنيا. انتهى.
وقال الحافظ: لفظ المثل له استعمالان:
أحدهما: الإفراد مطلقًا، كقوله تعالى:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47].
والآخر: المطابقة، كقوله تعالي:{أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38].
فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة، فيحصل جواب من استشكل تقييده بقوله: مثله، مع أن الحسنة بعشر أمثالها، لاحتمال أن يكون المراد: بنى الله له عشرة أبنية مثله. وأما من أجاب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل نزول قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، ففيه بعد، وكذا من أجاب بأن التقييد بالواحد لا ينفي الزيادة.
قال: ومن الأجوبة المرضية أن المثلية هنا بحسب الكمية، والزيادة حاصلة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من عشرة، بل من مائة.
قال الشوكاني: وهذا الذي ارتضاه هو الاحتمال الأول الذي ذكره النووي.
وقيل: إن المثلية هي أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء، لا من غيره، مع قطع النظر عن غير ذلك، مع أن التفاوت حاصل قطعًا
بالنسبة إلى ضيق الدنيا، وسعة الجنة.
قال الجامع: هذا القول قريب مما قبله.
وقال في المفهم: هذا البيت -والله أعلم- مثل بيت خديجة الذي قال فيه: "إنه من قصب" يرد أنه من قصب الزمرد والياقوت. أفاده في النيل جـ 2 ص 257 - 258.
قال الجامع عفا الله عنه: أقرب الاحتمالات عندي الأول مما قاله النووي رحمه الله، فهو بيت مثله تسمية؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وأما وصفه فلا يعلمه إلا الله تعالى. والله أعلم.
(في الجنة) متعلق ببنى، أو صفة لبيتًا، وفيه إشارة إلى أن فاعل ذلك يدخل الجنة، إذ المقصود بالبناء له أن يسكنه، وهو لا يسكنه إلا بعد الدخول. قاله في "الفتح". والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه هذا في سنده بقية، مدلس تدليس التسوية، وقد عنعنه، لكنه صحيح بشواهده، فقد أخرج الشيخان وغيرهما حديث عثمان رضي الله تعالى عنه وغيره،
وسأذكر ما تيسير من ذلك في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.
وهذا الحديث من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، لم يخرجه أحد من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه أحمد جـ 4/ 386، قال: حدثنا حَيْوَة بن شُرَيْح، ثنا بقية، ثنا بَحِير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن كثير بن مرة، عن عمرو بن عبسة أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من بنى لله مسجدًا، ليذكر الله عز وجل فيه، بنى الله له بيتًا في الجنة، ومن أعتق نفسًا مسلمة كانت فديته من جهنم، ومن شاب شيبة في سبيل الله عز وجل كانت له نورًا يوم القيامة".
قال الجامع عفا الله عنه: إن تصريح بقية بالتحديث في رواية أحمد رحمه الله هذه لا يصحح حديثه؛ لأنه مطعون بتدليس التسوية، ومن يدلس التسوية لابد أن يصرح من فوقه كلهم بالسماع، وهنا لم يصرحوا.
وتدليس التسوية: هو أن يسقط ضعيفًا بين ثقتين، وذلك بأن يذكر شيخه وهو ثقة، ويسقط من فوقه لكونه ضعيفًا، وهو يروي عن ثقة، ثم يأتي بلفظ محتمل لسماع شيخه عن الثقة الثاني، وسمي تدليس تسوية لكون المدلس سَوَّى السند كله بذكر الثقات دون غيرهم، ويسمى أيضًا تجويدًا، لذكر الأجواد فيه دون غيرهم، وهو أشر أنواع التدليس؛ لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفًا بالتدليس، ويجده الواقف على السند كذلك بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر، فيحكم له بالصحة، ففيه غرر شديد.
وممن اشتهر بفعل ذلك بقية المذكور، فقد قال ابن أبي حاتم في
العلل: سمعت أبي، وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه عن بقية: حدثني أبو وهب الأسدي، عن نافع، عن ابن عمر، حديث:"لا تحمدوا إسلام المرء، حتى تعرفوا عقدة رأيه" فقال أبي: هذا الحديث له أمر، قلَّ من يفهمه، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة، عن نافع، عن ابن عمر. . . وعبيد الله كنيته أبو وهب، وهو أسدي، فكناه بقية، ونسبه إلى بني أسد، كي لا يفطن له، حتى إذا ترك إسحاق لا يُهْتَدَى له. قال: وكان بقية من أفعل الناس لهذا. انظر التدريب جـ 1 ص 224، 225.
قال الحافظ السيوطي رحمه الله في "ألفية الحديث":
وَشَرُّهُ التَّجْوِيدُ والتَّسْوِيَةُ
…
إِسْقَاطُ غَيْرِ شَيْخِهِ وَيُثْبِتُ
كَمِثْلِ عَنْ وَذَاكَ قَطْعًا يَجْرَحُ
…
. . . . . . . . . . .
والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: في هذا الحديث بيان فضل بناء المسجد ابتغاء وجه الله تعالى.
وقد وردت أحاديث في الترغيب في بناء المساجد، أورد الحافظ المنذري رحمه الله تعالى منها في الترغيب والترهيب أحاديث:
منها: حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه قال- عند قول الناس فيه، حين بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم أكثرتم علي، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"من بنى مسجدًا -قال بكير: حسبت أنه قال- يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتًا في الجنة"، وفي رواية:
"بنى الله له مثله في الجنة". رواه الشيخان، وغيرهما.
ومنها: حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجدًا، قدرَ مَفْحَص قَطاة، بنى الله له بيتًا في الجنة".
رواه البزار، واللفظ له في الصغير، وابن حبان في صحيحه.
ومَفْحَص القَطاة -بفتح الميم، والحاء المهملة، بينهما فاء ساكنة-: موضع تحفره القطاة لتبيض فيه.
ومنها: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى لله مسجدًا يُذْكَرُ فيه، بنى الله له بيتًا في الجنة". رواه ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه.
ومنها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من حفر بئر ماء، لم يَشْرَب منه كَبِدٌ حَرَّى، من جن، ولا إنس، ولا طائر، إلا آجره الله يوم القيامة، ومن بنى مسجدًا كمفحص قطاة، أو أصغر بنى الله له بيتًا في الجنة". رواه ابن خزيمة في صحيحه، وروى ابن ماجه منه ذكر المسجد فقط بإسناد صحيح. ورواه أحمد، والبزار عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنهما قالا:"كمفحص قطاة لبيضها".
وقوله: حرَّى: فَعْلى، من الحَرِّ: أي عَطشَى.
ومنها: حديث أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من بنى لله مسجدًا صغيرًا أو كبيرًا، بنى الله له بيتًا في الجنة" رواه
الترمذي، حديث حسن.
ومنها: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجدًا، بنى الله له بيتًا في الجنة أوسع منه". رواه أحمد بإسناد لين، وهو حديث حسن.
ومنها: ما روي عن بشر بن حيان، قال:"جاء واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، ونحن نبني مسجدًا، قال: فوقف علينا، فسلم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "من بنى مسجدًا يُصَلَّى فيه، بنى الله له في الجنة أفضل منه" رواه أحمد والطبراني. حديث حسن.
ومنها: ما روي عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من بنى مسجدًا، لا يريد رياء، ولا سمعة، بنى الله له بيتًا في الجنة". رواه الطبراني في الأوسط. حديث حسن.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله، وحسناته بعد موته، علمًا علمه ونشره، أو ولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله، في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته". رواه ابن ماجه، واللفظ له، وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي، وإسناد ابن ماجه حسن. والله أعلم. انظر صحيح الترغيب والترهيب للشيخ الألباني حفظه الله تعالى. ص 109 - 111.
وذكر العلامة العيني رحمه الله في "عمدة القاري" جـ 4 ص 212: أن حديث الباب روي عن ثلاثة وعشرين صحابيًا، فأورد أحاديثهم، وأكثرها ضعاف، فلا حاجة لذكرها ها هنا؛ لأن الصحاح كافية وافية. وبالله التوفيق.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
2 - الْمُبَاهَاةُ فِي الْمَسَاجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على ذم المباهاة في بناء المساجد.
المباهاة: مصدر باهى، يباهي، مباهاة، كما قال في الخلاصة:
لِفَاعَل الْفِعَالُ وَالمُفَاَعَلَهْ
…
وَغَيْرُ مَا مَرَّ السَّمَاعُ عَادَ لَهْ
يقال: باهاه: إذا فاخره، وتباهوا: إذا تفاخروا، والمباهاة: المفاخرة. أفاده في "اللسان". والله أعلم.
689 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزي، لقبه الشاه، ثقة، من [10] تقدم في 45/ 55.
2 -
(عبد الله بن المبارك) الإمام الحجة الثبت، من [8] تقدم في 32/ 36.
3 -
(حماد بن سلمة) أبو سلمة البصري، ثقة عابد، من [8]
تقدم في 181/ 288.
4 -
(أيوب) بن أبي تميمة السختياني، أبو بكر البصري، ثقة ثبت فقيه، من [5] تقدم في 42/ 48.
5 -
(أبو قلابة) عبد الله بن زيد الجرمي البصري، ثقة فاضل كثير الإرسال، من [3] تقدم في 322.
6 -
(أنس) بن مالك، أبو حمزة الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا شيخه، فمن أفراده هو والترمذي، وحماد علق له البخاري.
ومنها: أنهم بصريون، إلا شيخه وابن المبارك فمروزيان.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ أيوب عن أبي قلابة.
ومنها: أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى [2286] حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة 92 أو 93، وقد جاوز 100 سنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أشراط الساعة) جار ومجرور خبر مقدم، عن المصدر المؤول مما بعده.
والأشراط -بفتح الهمزة- جمع شَرَط- بفتحتين مثل سبب، وأسباب: هي العلامة.
والساعة: القيامة، قال ابن منظور: وقال الزجاج: الساعة اسم للوقت الذي تَصْعَق فيه العباد، والوقت الذي يبعثون فيه، وتقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تَفْجَأ الناس في ساعة، فيموت الخلق كلهم عند الصيحة الأولى التي ذكرها الله عز وجل، فقال:{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} [يس: 29].
والساعة في الأصل تطلق بمعنيين:
أحدهما: أن تكون عبارة عن جزء من أربعة وعشرين جزءًا، هي مجموع اليوم والليلة.
والثاني: أن تكون عبارة عن جزء قليل من النهار أو الليل، يقال جلست عندك ساعة من النهار، أي وقتًا قليلًا منه، ثم استعير لاسم يوم القيامة.
قال الزجاج: معنى الساعة في كل القرآن الوقت الذي تقوم فيه
القيامة، يريد أنها ساعة خفيفة، يحدث فيها أمر عظيم، فلقلة الوقت الذي تقوم فيه سماها ساعة. انتهى لسان.
أي من علامات القيامة (أن يتباهى الناس) أي يتفاخروا (في المساجد) أي في بنائها، وذلك كان يقول أحدهم للآخر: مسجدي أرفع من مسجدك، أو أزين، أو أوسع، أو أحسن، رياء وسمعة وطلبًا للمدحة، وفيه ذم من فعل ذلك. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (2/ 689)، و"الكبرى"(2/ 768) عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود في "الصلاة"(2/ 12) عن محمد بن عبد الله الخزاعي، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة وعن قتادة،
كلاهما عن أنس.
وأخرجه ابن ماجه فيه (1/ 22) عن عبد الله بن معاوية الجمحي، عن حماد بن سلمة به.
وأخرجه أحمد (3/ 134، و 145، و 283)، والدارمي رقم (1415) وابن خزيمة رقم (1322)، و (1323). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منهما: أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع تباهي الناس ببناء المساجد، وقد وقع كما أخبر به.
ومنها: أن زخرفة المساجد، والمباهاة بها من علامات القيامة، فلا ينبغي للمسلم أن يفعل ذلك.
ومنها: ذم المباهاة بالمساجد.
وقد وردت أحاديث في هذا المعنى:
منها: ما رواه ابن خزيمة في صحيحه، من طريق أبي قلابة: أن أنسًا قال: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا".
ومنها: ما رواه ابن خزيمة في صحيحه أيضًا: أن عمر رضي الله عنه أمر ببناء المسجد، فقال: أكِنَّ الناس، وإياك أن تحمر، أو تصفر، فتفتن الناس".
ومنها: ما رواه أبو داود بإسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد". قال ابن عباس: لتزخرفنها، كما زخرفت اليهود والنصارى.
قال ابن رسلان: المشهور في الحديث أن المراد بتشييد المساجد رفع
البناء وتطويله، كما قال البغوي. وفيه رد على من حمل قوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] على رفع بنائها، وهو الحقيقة، بل المراد أن تعظم، فلا يذكر فيها الخَنَا من الأقوال، وتطييبها من الأدناس والأنجاس، ولا ترفع فيها الأصوات. انتهى.
وقول ابن عباس رضي الله عنه: لتزخرفنها. . . إلخ موقوف، كما رواه ابن حبان، لكنه في حكم المرفوع؛ لأن مثل هذا لا يكون من قبل الرأي.
وقوله: كما زخرفت اليهود والنصارى. يريد أن اليهود والنصارى زخرفوا معابدهم عندما حرفوا وبدلوا وتركوا العمل بما في كتبهم، فكانه يقول: أنتم تصيرون إلى مثل حالهم، إذا طلبتم الدنيا بالدين، وتركتم الإخلاص في العمل، وصار أمركم إلى المراءاة بالمساجد، والمباهاة بتشييدها، وتزيينها. والله تعالي أعلم.
المسألة الخامسة: في أقوال أهل العلم في حكم تشييد المساجد وزخرفتها:
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه: "أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيًا باللبن، وسَقْفه الجريد، وعَمَده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عَمَدَه خشبًا، ثم غَيَّره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة
والقَصَّة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج".
قال في الفتح: وقال ابن بطال وغيره: هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد، وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه، وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه، ثم كان عثمان، والمال في زمانه أكثر، فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه.
وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت كثير من أهل العلم على إنكار ذلك خوفًا من الفتنة.
ورخص في ذلك بعضهم -وهو قول أبي حنيفة- إذا وقع على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال.
وقال ابن المنير: لما شيد الناس بيوتهم، وزخرفوها ناسب أن يصَنع ذلك بالمساجد صونًا لها عن الاستهانة، وتعقب بأن المنع إن كان
للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية، فهو كما قال، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة، فلا، لبقاء العلة. انتهى. فتح جـ 1 ص 643 - 644.
وقد أشبع العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى الكلام في هذه المسألة في نيله جـ 2 ص 260 - 261، بما لا تجده عند غيره، فإن شئت التحقيق فراجعه. وبالله التوفيق.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
3 - ذِكْرُ أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أوَّلًا؟
أي هذا باب ذكر الحديث الذي فيه قول أبي ذر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: "أي مسجد وضع أولًا؟ ".
فأيُّ -بضم الهمزة، وتشديد الياء- اسم استفهام، مرفوع على الابتداء، وخبره جملة "وضع" وهو بالبناء للمفعول، و"أولًا" منصوب على الظرفية متعلق بوضع، وفي نسخة "أوَّلُ" بالبناء على الضم، لقطعه عن الإضافة، ونية معناها، كقبلُ، وبعدُ، قال ابن مالك رحمه الله في خلاصته:
واضْمُمْ بِنَاءً غَيْرًا إِنْ عَدِمْتَ مَا
…
لَه أُضِيفَ نَاوِيًا مَا عُدِمَا
قَبْل كَغَيْر بَعْذ حَسْبُ أوَّلُ
…
وَدُون وَالْجِهَاتُ أيْضًا وَعَلُ
وَأعْرَبُوا نَصْبًا إِذَا مَا نكِّرَا
…
قَبْلًا وَمَا مِنْ بَعْدِهِ قَدْ ذُكرًا
والله تعالى أعلم.
690 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقُرْآنَ فِي السِّكَّةِ، فَإِذَا قَرَأْتُ السَّجْدَةَ سَجَدَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلاً؟ قَالَ:
"الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الأَقْصَى"، قُلْتُ: وَكَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ عَامًا، وَالأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ، فَحَيْثُمَا أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ، فَصَلِّ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(علي بن حُجْر) السعدي المروزي، ثم البغدادي، ثم المروزي، ثقة حافظ، توفي سنة 244، من صغار [9] تقدم في 13/ 13.
2 -
(علي بن مُسْهِر) الكوفي، قاضي الموصل، ثقة، له غرائب بعد ما أضَرَّ، من [8] تقدم في 52/ 66.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي، ثقة حافظ مدلس، من [5] تقدم في 17/ 18.
4 -
(إِبراهيم) بن يزيد بن شَرِيك التَّيْمِي، أبو أسماء الكوفي العابد، ثقة يرسل ويدلس، من [5] تقدم في 121/ 170.
5 -
(يزيد بن شريك) بن طارق التيمي الكوفي، ثقة، يقال: أدرك الجاهلية، توفي في خلافة عبد الملك، من [2].
روى عن عمر، وعلي، وأبي ذر، وابن مسعود، وأبي مسعود، وحذيفة، وأبي معمر. وعنه ابنه إبراهيم، وإبراهيم النخعي، وجَوَّاب
التيمي، والحَكَم بن عتيبة، وهمام بن عبد الله التيمي الكوفيون.
قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة، وكان عَرِيفَ قومه، وله
أحاديث. وقال أبو موسى المديني في الذيل: يقال: إنه أدرك الجاهلية. أخرج له الجماعة.
6 -
(أبو ذر) جُنْدَب بن جُنَادة على الأصح، وقيل: غيره، الصحابي المشهور رضي الله عنه، تقدم في 141/ 322. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا شيخه، فلم يخرج له أبو داود، وابن ماجه، وكلهم كوفيون، إلا شيخه فمروزي، نزل بغداد، ثم مرو، وأبا ذر، فقد نزل المدائن، ومات بالرَّبذَة، موضع قريب من المدينة.
ومنها: أن فيه رواية ثلاثة من التابعيين، بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن أبيه.
ومنها: رواية الابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن إِبراهيم) بن يزيد التيمي، أنه (قال: كنت أقرأ على أبي القرآن) وفي رواية لمسلم، وابن خزيمة، من طريق أخرى عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي "كنت أنا وأبي نجلس في الطريق، فيعرض علي القرآن، وأعرض عليه، فقرأ السجدة، فسجد، فقلت: تسجد في الطريق؟ قال: نعم، سمعت أبا ذر"، فذكره. قاله في "الفتح".
(في السِّكَّة) متعلق بأقرأ، وهي -بكسر السين، وتشديد الكاف-: الزُّقَاقُ، والسكة أيضًا: الطريق المُصْطفَّة من النخل. أفاده في المصباح. وفي اللسان، وقيل: إنما سميت الأزِقَّة سِككًا لاصطفاف الدُّور فيها، كطرائق النخل. انتهى.
ووقع في رواية مسلم "السُّدَّة" بالدال بدل السكة، قال النووي رحمه الله: هي بضم السين، وتشديد الدال، هكذا هو في صحيح مسلم، ووقع في كتاب النسائي "في السكة"، وفي رواية غيره "في بعض السكك"، وهذا مطابق لقوله: يا أبت في الطريق، وهو مقارب لرواية مسلم؛ لأن السدة واحدة السُّدِّ، وهي المواضع التي تُطِلُّ حول المسجد، وليست منه، ومنه قيل لإسماعيل: السُّدِّي؛ لأنه كان يبيع في سُدَّة الجامع، وليس للسدة حكم المسجد، إذا كانت خارجة عنه. انتهى. "شرح مسلم" جـ 5 ص 3.
(فإِذا قرأت السجدة) أي آيتها (سجد) قال القاضي عياض: واختلف العلماء في المعلم، والمتعلم إذا قرآ السجدة، فقيل: عليهما
السجود لأول مرة، وقيل: لا سجود. انتهى. وسيأتي تحقيق البحث في موضعه، إن شاء الله تعالى.
(فقلت: يا أبت) بكسر التاء، وهو الأكثر، وفتحها، قال في الخلاصة:
وَفِي النِّدَا أبَتِ أُمَّتِ عَرَضْ
…
وَاكْسِرْ أوِ افْتَحْ وَمِنَ الْيَا التَّا عِوَضْ
وحكي ضمها، وهو قليل، وقد ذكر النحاة في نداء الأبوين تسع لغات، وقيل: عشر، انظر تفاصيلها في شروح الخلاصة، وغيرها.
(أتسجد في الطريق؟) وهو محمول على أن سجوده على طاهر. قاله النووي.
(فقال: إِني سمعت أبا ذر) رضي الله عنه (يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيّ مسجد وضع أولًا) وفي نسخة "أوَّلُ" وهي رواية البخاري، وتقدم توجيههما في أول الباب. ولفظ الكبرى "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض".
(قال) صلى الله عليه وسلم: (المسجد الحرام) بالرفع مبتدأ حذف خبره، لدلالة السؤال عليه، أي المسجد الحرام: وضع أوّلًا، أو نائب فاعل لفعل محذوف، أي وُضِعَ المسجد الحرام أوّلًا.
(قلت: ثم أي) بالتنوين، وتركه، كما تقدم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه "أي العمل أحب إلى الله تعالى" رقم (610).
قال في الفتح: وهذا الحديث يفسر المراد بقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96]، ويدل على أن المراد بالبيت بيت العبادة، لا مطلق البيوت، وقد ورد ذلك صريحًا عن علي رضي الله عنه، أخرجه إسحاق بن راهويه، وابن أبي حاتم، وغيرهما بإسناد صحيح عنه، قبله قال:"كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله". انتهى. فتح جـ 2 ص 470.
(قال المسجد الأقصى) يعني بيت المقدس، قيل له: الأقصى لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، وقيل: لأنه لم يكن وراءه موضع عبادة. وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث. والمقدس المطهر عن ذلك. قاله في الفتح.
(قلت: كم بينهما) أي كم مدة بين بنائهما. (قال: أربعون عامًا) قال في الفتح: قال ابن الجوزي: فيه إشكال؛ لأن إبراهيم بني الكعبة، وسليمان بني بيت المقدس، وبينهما أكثر من ألف سنة. انتهى.
ومستنده في أن سليمان عليه السلام هو الذي بني المسجد الأقصِى، ما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا بإسناد صحيح "أن سليمان لما بني بيت المقدس سأل الله تعالى خلالًا ثلاثًا"، الحديث.
وفي الطبراني من حديث رافع بن عميرة "أن داود عليه السلام ابتدأ ببناء بيت المقدس، ثم أوحى الله إليه: إني لأقضي بناءه على يد سليمان"، وفي الحديث قصة.
قال: وجوابه أن الإشارة إلى أول البناء، ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بني الكعبة، ولا سليمان أول من بني بيت المقدس، فقد روينا: أن أول من بني الكعبة آدم، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس، ثم بني إبراهيم الكعبة بنص القرآن. وكذا قال القرطبي: إن الحديث لا يدل على أن إبراهيم، وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدآ وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما.
قال الحافظ: وقد مشى ابن حبان في صحيحه على ظاهر هذا الحديث، فقال: في هذا الخبر رد على من زعم أن بين إسماعيل وداود ألف سنة، ولو كان كما قال، لكان بينهما أربعين سنة، وهذا عين المحال، لطول الزمان -بالاتفاق- بين بناء إبراهيم عليه السلام البيت، وبين موسى عليه السلام.
ثم إن نص القرآن أن قصة داود في قتل جالوت كانت بعد موسى بمدة. وقد تعقب الحافظ الضياء بنحو ما أجاب به ابن الجوزي.
وقال الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان، ثم داود وسليمان فزادا فيه
ووسعاه، فأضيف إليهما بناؤه، قال: وقد ينسب هذا المسجد إلى إيلياء، فيحتمل أن يكون هو بانيه، أو غيره، ولست أحقق لِم أضيف إليه.
قال الحافظ: الاحتمال الذي ذكره أولًا موجه، وقد رأيت لغيره أن أول من أسس المسجد الأقصى آدم عليه السلام، وقيل: الملائكة، وقيل: سام بن نوح عليه السلام، وقيل: يعقوب عليه السلام، فعلى الأولين يكون ما وقع ممن بعدهما تجديدًا، كما وقع في الكعبة، وعلى الأخيرين يكون الواقع من إبراهيم أو يعقوب، أصلًا وتأسيسًا، ومن داود تجديدًا لذلك، وابتداء بناء، فلم يكمل على يده، حتى أكمله سليمان عليه السلام.
لكن الاحتمال الذي ذكره ابن الجوزي أوجه. وقد وجدت ما كشهد له، ويؤيد قول من قال: إن آدم هو الذي أسس كلًا من المسجدين، فذكر ابن هشام في كتاب "التيجان" أن آدم لما بني الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه، فبناه، ونسك فيه، وبناء آدم للبيت مشهور، وروى ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:"لما كان زمن الطوفان رفع البيت، وكان الأنبياء يحجونه، ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه الله لإبراهيم، وأعلمه مكانه".
وروى البيهقي في "الدلائل" من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو
مرفوعًا: "بعث الله جبريل إلى آدم، فأمره ببناء البيت، فبناه آدم، ثم أمره بالطواف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت
وضع للناس".
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء "أن آدم أول من بني البيت، وقيل: بنته الملائكة قبله". وعن وهب بن منبه "أول من بناه شيث بن آدم"، والأول أثبت.
وروى ابن أبي حاتم من طريق معمر، عن قتادة، قال: وضع الله البيت مع آدم لما هبط، ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال الله له: يا آدم إني قد أهبطت بيتًا يطاف به، كما يطاف حول عرشي، فانطلق إليه، فخرج آدم إلى مكة، وكان قد هبط بالهند، ومد له في خطوه، فأتى البيت، فطاف به. وقيل: إنه لما صلى إلى الكعبة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس، فاتخذ فيه مسجدًا، وصلى فيه، ليكون قبلة لبعض ذريته.
وأما ظن الخطابي: أن إيلياء اسم رجل، ففيه نظر، بل هو اسم البلد، فأضيف إليه المسجد، كما يقال: مسجد المدينة، ومسجد مكة. وقال أبو عبيد البكري في معجم البلدان: إيلياء مدينة المقدس، فيه ثلاث لغات: مد آخره، وقصره، وحذف الياء الأولى. قال الفرزدق [من الطويل]:
لَوَى ابنُ أبي الرّقْراقِ عَيْنَيْهِ بَعْدَما
…
دَنَا مِنْ أعَالِي إِيلِيَاءَ وَغَوَّرَا
وعلى ما قاله الخطابي يمكن الجمع، بأن يقال: إنها سميت باسم بانيها، كغيرها، والله أعلم. انتهى ما في "الفتح" جـ 6 ص 470 - 471 بزيادة من ص 463.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما تقدم من الأجوبة أنه لا تنافي بين هذا الحديث، وقصة بناء إبراهيم للكعبة، وسليمان لبيت المقدس، لإمكان الجمع بأن بناءهما كان تجديدًا، لا تأسيسًا، فمدة أربعين عامًا كانت بين بناء المسجدين حين أسسا، ثم جدد إبراهيم الكعبة، وسليمان المقدس بمدة متطاولة. والله أعلم.
(والأرض لك مسجد) مبتدأ وخبر، والجار والمجرور متعلق بحال المحذوف، أي حال كونها لك، أو متعلق بمسجد؛ لأن فيه رائحة الفعل، واللام في الأرض للاستغراق، لما في جامع سفيان بن عيينة، عن الأعمش "فإن الأرض كلها مسجد" يعني أنها صالحة للصلاة فيها، لكن هذا العموم يخص بأدلة أخرى كالنهي عن الصلاة في المقبرة، وفي رواية مسلم "ثم الأرض لك مسجد".
والمراد أنها كلها مسجد ما دامت على الحالة الأصلية التي خلقت عليها، وأما إذا تنجست فلا، وإنما ذكر ذلك لبيان أنه لا يؤخر الصلاة، لإدراك فضل هذين المسجدين.
(فحيثما أدركتك الصلاة، فصل) أي في أي موضع أدركك وقت الصلاة، فصل هناك، ولا تؤخر. وفيه إشارة إلى المحافظة على
الصلاة في أول وقتها، ويتضمن ذلك الندب إلى معرفة الأوقات. ورواية البخاري "ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصلهْ، فإن الفضل فيه".
قال الحافظ رحمه الله: قوله: فصله بهاء ساكنة، وهي هاء السكت، وللكشميهني بحذفها. وقوله:"فإن الفضل فيه": أي في فعل الصلاة إذا حضر وقتها.
وفي الحديث إشارة إلى أن المكان الأفضل للعبادة إذا لم يحصل، لا يترك المأمور به لفواته، بل يفعل المأمور في المفضول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كأنه فهم عن أبي ذر من تخصيصه السؤال عن أول مسجد وضع أنه يريد تخصيص صلاته فيه، فنبه على أن إيقاع الصلاة إذا حضرت، لا يتوقف على المكان الأفضل.
وقال الطيبي: يعني سألت أبا ذر عن أماكن بنيت مساجد، واختصت العبادة بها، وأيها أقدم زمانًا، فأخبرتك بوضع المسجدين، وتقدمهما على سائر المساجد، ثم أخبرتك بما أنعم الله عليَّ، وعلى أمتي من رفع الجُناح، وتسوية الأرض في أداء العبادة فيها. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(1)
راجع "المرعاة" جـ 2، ص 469.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (3/ 690)، و"الكبرى"(3/ 769)، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عنه. و"الكبرى" في "التفسير"(11069) عن بشر بن خالد، عن غندر، عن شعبة، عن سليمان الأعمش به. والله أعلم.
المسألة الثالثه: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "أحاديث الأنبياء"(11/ 1) عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد بن زياد، و (41/ 3) عن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه.
ومسلم في "الصلاة"(53/ 1) عن أبي كامل، عن عبد الواحد، و (53/ 1) عن أبي بكر، وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية، و (53/ 1) عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر أربعتهم عن الأعمش، به.
وابن ماجه فيه (27) عن علي بن محمد، عن أبي معاوية، به. و (27) عن علي بن ميمون الرقي، عن محمد بن عبيد، عن الأعمش نحوه.
وأخرجه الحميدي (134)، وأحمد (5/ 150، 5/ 156، 5/ 157، 5/ 160، 166)، وابن خزيمة رقم (787، 1290). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: بيان أول محل وضع في الأرض لعبادة الله عز وجل.
ومنها: بيان فضل المسجد الحرام، حيث إنه أول موضع وضع للعبادة، ثم يليه البيت المقدس.
ومنها: بيان المدة التي بين بناء المسجدين، وهو أربعون عامًا، وهذا بالنسبة للوضع الأوَّلِيِّ، فلا ينافي ما ثبت من كون الخليل عليه الصلاة والسلام بني الكعبَة، وسليمان، أو أبوه داود عليهما الصلاة والسلام بنى بيت المقدس؛ لأن هذا ثانوي، ثم إنه لم يصح تحديد ما بين بناءيهما من المدة.
ومنها: كون الأرض كلها مسجدًا تصح الصلاة فيها، إلا ما استثني بالنصوص الأخرى، كما تقدم.
ومنها: أن الأفضل لمن أدركته الصلاة أن يبادر إلى أدائها حيث دخل وقتها، ولا يؤخرها، وإن كان يرجو أنه يَصِلُ إلى أحد هذين المسجدين في آخر وقتها، ففضل أول الوقت مقدم على ذلك. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
4 - فَضْلُ الصَّلاةِ فِي المَسْجِدِ الْحَرَامِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على فضل الصلاة في المسجد الحرام.
والمسجد الحرام، والبيت الحرام، والبلد الحرام: أي لا يحل انتهاكه. قاله في "المصباح".
691 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: مَنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنّيِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلاَّ مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي، أبو رجاء، ثقة ثبت، من [10] تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد، أبو الحارث المصري، الإمام الحجة ثبت، من [7] تقدم في 31/ 35.
3 -
(نافع) العدوي مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه، من
[3]
، تقدم في 12/ 12.
4 -
(إِبراهيم بن عبد الله بن مَعْبَد بن عباس) بن عبد المطلب الهاشمي المدني، صدوق، من [3].
روى عن أبيه، وعم أبيه: عبد الله بن عباس، وروى عن ميمونة.
وروى عنه نافع، وأخوه عباس بن عبد الله، وابن جريج. ذكره ابن حبان في الثقات في طبقة أتباع التابعين. وقال: قيل: إنه سمع من
ميمونة، وليس ذلك بصحيح عندنا. انتهى.
وقد أخرج البخاري في التاريخ بعد أن روى حديثه عن ميمونة، حديث نافع، عنه، عن ابن عباس، عن ميمونة. قال البخاري: ولا
يصح فيه عن ابن عباس.
فهذا مشعر لصحة روايته عن ميمونة عند البخاري، وقد علم مذهبه في التشدد في هذه المواطن.
وقد نبه المزي في الأطراف على أن روايته عن ميمونة بإسقاط ابن عباس ليس في صحيح مسلم.
أخرج له مسلم، وأبو داود، والمصنف، وابن ماجه.
قال الجامع عفا الله عنه: كتب في هامش (تت) على قول البخاري رحمه الله: ولا يصح فيه عن ابن عباس: ما نصه: قد يكون مراد البخاري أنه منقطع؛ لأنه لم يصح فيه عن ابن عباس، فلا يرد
قول هؤلاء مع الاحتمال. انتهى. وسيأتي قريبًا تحقيق ما قالوه في هذا، إن شاء الله تعالى.
5 -
(ميمونة) بنت الحارث الهلالية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: كان اسمها بَرَّةَ، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، وتزوجها بسَرِفَ، وماتت فيه سنة 51. على الصحيح، ودفنت في الظلة التي بني بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقدمت في 146/ 236. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أنه رواته موثقون، اتفق الأئمة على التخريج لهم، إلا إبراهيم، فلم يخرج له البخاري، والترمذي.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه، فبغلاني، والليث فمصري.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، نافع عن إبراهيم، وهو من رواية الأقران. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن إِبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس) هكذا نسخ "المجتبى"، هنا (691)، و (2898)، و"الكبرى"(770)"معبد بن عباس"، وأشار في هامش الهندية إلى أنه وقع في بعض نسخ "المجتبى""عن ابن عباس"
بزيادة "عن" قبل "ابن عباس".
فأما الأول ففيه أن إبراهيم روى هذا الحديث عن ميمونة رضي الله عنها.
وأما الثاني الذي وقع في بعض النسخ فإنه يدل على أن إبراهيم رواه عن ابن عباس عنها.
والذي وقع في بعض النسخ هو الذي في صحيح مسلم، وقد انتقده الحفاظ على مسلم، وصوبوا إسقاط ابن عباس من السند، وسأذكر ما قالوه مع الدفاع عنه في المسائل إن شاء الله تعالى.
(أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (قالت: من صلى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا نسخ المجتبى "من صلى" فعليه: فمن شرطية، حذف جوابها، لدلالة قولها:"فإني سمعت. . . إلخ" عليه، أي فصلاته أفضل. ولفظه في الكبرى "صَلِّ في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإني سمعت إلخ".
وفي الحديث قصة ساقها مسلم في صحيحه، من طريق إبراهيم بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: إن امرأة اشتكت شكوى، فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس، فبَرَأت، ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها، فأخبرتها ذلك، فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت، وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. . . الحديث.
قال الجامع عفا الله عنه: وبهذا يتبين أن ما وقع في الكبرى من قوله "صل" بحذف الياء بصيغة أمر المذكر خطأ من النساخ، فإنه مختصر من القصة المذكورة، فصوابه "صلي" بالياء؛ لأنه أمر لتلك المرأة، فلا تحذف لأنها ضمير المؤنثة. والله أعلم.
(فإِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الصلاة فيه) أي في مسجده صلى الله عليه وسلم (أفضل من ألف صلاة فيما سواه) وفي الرواية الآتية (2998)، والكبرى (770)، وهي رواية مسلم "فيما سواه من المساجد"(إِلا مسجد الكعبة) هكذا هنا بالإضافة، وفي الرواية الآتية (2898)، والكبرى (770)"إلا المسجد الكعبة" بتعريف المسجد أيضًا، وعليها فالكعبة بدل من المسجد.
والمراد بمسجد الكعبة الحرم كله على الراجح، فاستدلال بعضهم بهذه الرواية على تخصيص الفضل بما حول الكعبة فقط دون بقية الحرم غير صحيح، فإن هذه الرواية بمعنى الرواية الأخرى "إلا المسجد الحرام" إذ الكعبة تطلق على الحرم كله، بدليل قوله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن المراد بالكعبة الحرم كله، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي واصلًا إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك، ويفرق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة. انتهى. جـ 2 ص 103.
وقال القرطبي في تفسيره جـ 6 ص 314: ولم يرد الكعبة بعينها،
فإن الهدي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم، ولا خلاف في هذا. انتهى.
فظهر بهذا أنه لا اختلاف بين الروايتين، إذ معناهما واحد، وهو الحرم كله، كما يأتي تحقيقه في المسائل، إن شاء الله تعالى.
فائدة:
قال ولي الدين العراقي رحمه الله: واعلم أن للمسجد الحرام أربع استعمالات:
أحدها: نفس الكعبة، كقوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].
الثاني: الكعبة، وما حولها من المسجد، كقوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، فالمراد نفس المسجد في قول أنس بن مالك، ورجحه الطبري، وفي الصحيح ما يدل له، وقيل: أسري به من بيت أم هانئ، وقيل من شعب أبي طالب، فيكون المراد على هذا في هذه الآية مكة.
الثالث: جميع مكة، ومنه قوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27]، قال ابن عطية: وعظم القصد هنا إنما هو مكة.
الرابع: جميع الحرم الذي يحرم صيده، ومنه قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7]، وإنما كان عهدهم
بالحديبية، وهي من الحرم، وكذلك قوله تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه الحرم جميعه. انتهى. طرح جـ 6 ص 53.
قال الجامع: الحاصل أن استعمال المسجد الحرام للحرم كله أكثر، فتفطن.
ثم إنه قد اختلف العلماء في هذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة، أيهما أفضل؟ فعند الشافعي رحمه الله: معناه إلا مسجد الكعبة، فإن الصلاة فيه، أفضل من الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وعند مالك رحمه الله: إلا مسجد الكعبة، فإن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم تفضله بدون الألف، والقول الأول أرجح، وسيأتي تمام تحقيق القول في هذا الموضوع، في المسائل، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ميمونة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (4/ 691)، و"الكبرى"(5/ 770) عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس، عنها.
وفي "المناسك"(124/ 2898)، و"الكبرى"(124/ 3881) عن
إسحاق ابن إبراهيم، ومحمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن نافع، عن إبراهيم عنها. لكن في "الكبرى" في
"المناسك": عن ابن عباس، كما تقدم التنبيه عليه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم في "الحج"(94/ 9) عن قتيبة، ومحمد بن رمح، كلاهما عن ليث، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله، عن ابن عباس،
وفيه قصة: إن امرأة اشتكت، فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما بوب عليه المصنف، وهو فضل الصلاة في المسجد الحرام، وهل هو خاص بالمسجد أم يعم الحرم كله، فيه خلاف، يأتي
تحقيقه إن شاء الله تعالى.
ومنها: فضل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث إنه يضاعف على غيره بأكثر من ألف صلاة، إلا المسجد الحرام، وهل هو خاص بما كان مسجدًا في عهده، أم يعم الزائد بعده، فيه خلاف سيأتي تحقيقه أيضًا إن شاء الله تعالى.
ومنها: كون مكة أفضل من المدينة، حيث إن الصلاة فيها أفضل من الصلاة فيها، وهو رأي الجمهور، وخالف في ذلك مالك،
وسيأتي تحقيق القول في ذلك أيضًا، إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن أصل الحديث فيه قصة، كما تقدم، وهي أن امرأة اشتكت شكوى، فنذرت إن شفاها الله أن تأتي المسجد الأقصى إلخ، فيؤخذ منه أن من نذر أن يصلي في أحد هذه المساجد الثلاثة لزمه الوفاء به، إلا إذا كان مكانه أفضل من مكان النذر، وإليه ذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه، وله أن يصلي في أي محل شاء، وإنما يجب عنده المشي إلى المسجد الحرام إذا نذر حجًا أو عمرة.
والقول الأول هو الأرجح لهذا الحديث، ولما رواه أحمد، وأبو داود من حديث جابر رضي الله عنه، أن رجلًا قال يوم الفتح: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال:"صل ها هنا"، فسأله؟ فقال:"صل ها هنا"، فسأله؟ فقال:"شأنك إذن"، ورواه أيضًا البيهقي، والحاكم، وصححه، وصححه أيضًا ابن دقيق العيد في الاقتراح. ولأحمد، وأبي داود أيضًا: عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر، وزاد:"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق لو صليت ها هنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس".
قال الشوكاني رحمه الله: سكت عنه أبو داود، والمنذري، وله طرق، رجال بعضها ثقات.
قال الجامع عفا الله عنه: فيؤخذ منه أنه لو كان غير مكة، ومثله
المدينة لم يقض عنه نذره، بل يجب الوفاء به.
وأما ما عدا المساجد الثلاثة فلا يتعين مكانًا للنذر، ولا يجب الوفاء به عند الجمهور. أفاده في "النيل" جـ 1 ص 238 - 240. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: في بيان الاختلاف الواقع في سند هذا الحديث:
قال الحافظ المزي رحمه الله بعد ذكر ما تقدم: وهكذا ذكر أبو القاسم هذا الحديث في هذه الترجمة -يعني ترجمة إبراهيم بن عبد الله، عن ميمونة- وهكذا وقع في بعض النسخ من كتاب أبي مسعود. وهكذا ذكر أبو بكر بن منجويه في ترجمة إبراهيم بن عبد الله ابن معبد من رجال مسلم: أنه يروي عن ميمونة في الحج.
وكذلك رواه النسائي عن قتيبة- لم يذكر فيه: "عن ابن عباس" وهو في أول كتاب المساجد من السنن، وكل ذلك وَهَمٌ ممن قاله -والله يغفر لنا ولهم- وهو في عامة النسخ من صحيح مسلم:"عن ابن عباس عن ميمونة".
وكذلك ذكره خلف في ترجمة ابن عباس عن ميمونة، وكذلك وقع في بعضى النسخ من كتاب أبي مسعود في ترجمة ابن عباس، عن
ميمونة.
وكذلك حديث ابن جريج عند النسائي، هو في جميع النسخ "عن ابن عباس، عن ميمونة"، ولفظه عن ابن جريج، سمعت نافعًا
يقول: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن معبد، أن ابن عباس، حدثه أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت"، وهذا لفظ صريح في أن الحديث "عن إبراهيم، عن ابن عباس، عن ميمونة"، لا عن إبراهيم عن ميمونة، والله أعلم. انتهى. تحفة الأشراف جـ 12 ص 485 - 486.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: وهَم ممن قاله. . . إلخ، سيأتي توهيم ما صوبه المزي في كلام الدارقطني، وغيره قريبًا.
وقوله: وكذا حديث ابن جريج عند النسائي إلخ، فيه نظر، فإن هذا ليس في جميع نسخ النسائي "الصغرى" و"الكبرى"، بل هذا في المناسك، من "الكبرى"(124/ 3881) فقط، وأما في "المجتبى" فهو عن إبراهيم، عن ميمونة، في "المساجد"(4/ 691)، و"المناسك"(2898/ 124) ومثله في "المساجد" من "الكبرى"(4/ 770) فتنبه. والله أعلم.
وكتب الحافظ رحمه الله في النكت الظراف، على كلام الحافظ المزي المذكور: ما نصه: قلت: رويناه في جزء أبي الجهم، عن الليث ليس فيه "ابن عباس". وكذا أخرجه أحمد (في مسنده جـ 6 ص 334) عن علي بن إسحاق، عن ابن المبارك، عن ابن جريج. وكذا أخرجه الطحاوي من رواية أبي عاصم، عن ابن جريج، ومن رواية ابن وهب، عن الليث- ليس في شيء منهما "ابن عباس". انتهى. جـ 12 ص 485.
قال الجامع: والحديث في صحيح مسلم بنسخة شرح النووي
هكذا: حدثنا قتيبة بن سعيد، ومحمد بن رمح، جميعًا عن الليث بن سعد، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن ابن عباس، أنه قال: إن امرأة اشتكت شكوى. . . الحديث.
قال النووي رحمه الله: هذا الحديث مما أنكر على مسلم بسبب إسناده، قال الحفاظ: ذِكْرُ ابن عباس فيه وهم، وصوابه "عن إبراهيم بن عبد الله، عن ميمونة" هكذا هو المحفوظ، من رواية الليث، وابن جريج، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله عن ميمونة" من غير ذكر ابن عباس، وكذلك رواه البخاري في صحيحه، عن الليث، عن نافع، عن إبراهيم، عن ميمونة، ولم يذكر ابن عباس.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: وكذلك رواه البخاري في صحيحه. . . إلخ، لم أر أحدًا نص على أن البخاري أخرج حديث ميمونة هذا في صحيحه، غير كلام النووي هذا، فليحرر. والله أعلم.
قال الدارقطني في كتاب العلل: وقد رواه بعضهم، عن ابن عباس، عن ميمونة، وليس يثبت. وقال البخاري في تاريخه الكبير جـ 1 ص 302 - 303: إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب، عن أبيه، وميمونة، وذكر حديثه هذا من طريق الليث، وابن جريج، ولم يذكر فيه ابن عباس. ثم قال: وقال لنا المكي، عن ابن جريج: أنه سمع نافعًا، قال: إن إبراهيم بن عبد الله بن معبد حدثه أن ابن عباس حدثه، عن ميمونة. قال البخاري: ولا يصح فيه "ابن عباس".
قال القاضي عياض رحمه الله: قال بعضهم: صوابه "إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس، أنه قال: إن امرأة اشتكت". . . قال القاضي: وقد ذكر مسلم قبل هذا في هذا الباب حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وهذا مما استدركه الدارقطني على مسلم، وقال: ليس بمحفوظ عن أيوب وعلل الحديث عن نافع بذلك، وقال: قد خالفهم الليث، وابن جريج، فروياه عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن ميمونة. وقد ذكر مسلم الروايتين، ولم يذكر البخاري في صحيحه رواية نافع بوجه. وقد ذكر البخاري في تاريخه رواية عبيد الله، وموسى، عن نافع، قال: والأول أصح. يعني رواية إبراهيم بن عبد الله، عن ميمونة، كما قال الدارقطني. والله أعلم.
قال النووي: ويحتمل صحة الروايتين جميعًا، كما فعله مسلم، وليس هذا الاختلاف المذكور مانعًا من ذلك، ومع هذا فالمتن صحيح
بلا خلاف. والله أعلم. انتهى. شرح مسلم جـ 9 ص 166 - 167.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تلخص مما ذكر أن الحفاظ اختلفوا في سند حديث ميمونة هذا، فمنهم من رجح أن الصواب ذكر ابن عباس بين إبراهيم بن عبد الله، وميمونة رضي الله عنهم، وهو رأي الإمام مسلم، حيث أخرجه في صحيحه، والحافظ المزي، كما تقدم.
ومنهم من رجح إسقاطه، وقال: الصواب "عن إبراهيم، عن ميمونة"، وهو رأي البخاري في تاريخه الكبير جـ 1 ص 302 - 303،
والدارقطني كما مر قريبًا، وهو ظاهر كما تقدم عن الحافظ في نكته،
حيث ذكر الروايات التي فيها الإسقاط، وسكت عليها.
ومنهم من رأى صحة الطريقين، وهو الذي مال إليه النووي، كما مر قريبًا.
قال الجامع: عندي الأولى تصحيح الطريقين، إذ لا مانع من أن يسمع إبراهيم عن ابن عباس عن ميمونة، ثم يسمع عنها، فيحدث عنها تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، وهذا النوع في روايات الثقات كثير، ولا سيما وقد أخرجه مسلم بذكر ابن عباس، وإن كان الأكثرون على إسقاطه، فلا داعي لتوهيم الأكثرين بإسقاط ابن عباس، كما ادعاه المزي، ولا لتوهيم مسلم بزيادته، كما ادعاه الدارقطني. فتبصر. وبالله التوفيق.
المسألة السادسة: اختلف العلماء في معنى الاستثناء في قوله: "إلا مسجد الكعبة":
فقال الجمهور: معناه إلا مسجد الكعبة، فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجد المدينة، حكاه ابن عبد البر عن ابن الزبير، وعطاء ابن أبي رباح، وقتادة، وسفيان بن عيينة. ومن المالكية: مطرف، وابن وهب، وجماعة أهل الأثر، وقال به الشافعي، وأحمد.
ويدل له ما رواه الإمام أحمد، والبزار في مسنديهما، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في سننه، وغيرهم، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد
الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا".
قال ابن عبد البر رحمه الله: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت من جهة النقل، وهو أيضًا صحيح في النظر؛ لأن مثله لا يدرك بالرأي، مع شهادة أئمة الحديث للذي رفعه بالحفظ والثقة. وقال النووي: حديث حسن. وقال الحافظ العراقي في شرح الترمذي: رجاله رجال الصحيح.
وفي ابن ماجه من حديث جابر مرفوعًا: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه". وفي بعض النسخ "من مائة صلاة فيما سواه". فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة، ورجال إسناده ثقات، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه.
قال ابن عبد البر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل العلم بالحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية، معروف بالرواية عن جابر وابن الزبير.
وروى البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة". قال البزار: إسناده حسن.
وفي "سنن ابن ماجه" حديث آخر يقتضي تفضيل الصلاة في مسجد مكة، إلا أنه مخالف لما تقدم في قدر الثواب، رواه عن أنس مرفوعًا، وفيه "وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة". قال العراقي رحمه الله: فيه أبو الخطاب الدمشقي يحتاج إلى الكشف عنه.
وذهب آخرون إلى أن معنى الاستثناء إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة. ذكر ابن عبد البر أن يحيى بن يحيى سأل عبد الله بن نافع عن معنى هذا الحديث، فذكر هذا، ثم قال ابن عبد البر: تأويل ابن نافع بعيد عند أهل المعرفة باللسان، قال: ويلزمه أن يقول: إن الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعف وتسعة وتسعين ضعفًا، وإذا كان هكذا لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف على تأويل ابن نافع، وحسبك ضعفًا بقول يؤول إلى هذا.
وقال ابن بطال: مَثَّلَ بعض أهل العلم بلسان العرب الاستثناء في هذا الحديث بمثال بين فيه معناه، فإذا قلت: اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة، إلا العراق جاز أن يكون العراق مساويًا لليمن، وجاز أن يكون فاضلًا، وأن يكون مفضولًا، فإن كان مساويًا فقد علم
فضله، وإن كان فاضلًا أو مفضولًا لم يعلم مقدار المفاضلة بينهما، إلا بدليل على عدة درجات، إما زائدة على ذلك، أو ناقصة عنه.
قال ولي الدين العراقي رحمه الله: هذا كلام فيه إنصاف، بخلاف كلام ابن نافع، وقد قام الدليل على أن المسجد الحرام فاضل بمائة درجة، وقد سبق ذلك، فوجب الرجوع إليه.
ثم قال ابن عبد البر: وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا: أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بمائة صلاة، ومن غيره بألف صلاة، قال: واحتج لذلك بما رواه سفيان ابن عيينة، عن زياد بن سعد، عن سليمان بن عتيق، قال: سمعت ابن الزبير، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: صلاة في المسجد الحرام غير من مائة صلاة فيما سواه".
قال: وتأول بعضهم هذا الحديث أيضًا عن عمر على أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير من تسعمائة صلاة في المسجد الحرام، قال: وهذا كله تأويل لا يعضده دليل، وحديث سليمان بن عتيق هذا لا حجة فيه؛ لأنه مختلف في إسناده، وفي لفظه، وقد خالف فيه من هو أثبت منه، فمن الاختلاف أنه روي عنه، عن ابن الزبير، عن عمر بلفظ "صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم"، وبلفظ "صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما فضله عليه بمائة صلاة".
قال: فكيف يحتجون بحديث قد روي فيه ضد ما ذكروه نصًا من روايات الثقات إلى ما في إسناده من الاختلاف أيضًا.
وقد ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني سليمان بن عتيق، وعطاء، عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول:"صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه، ويشير إلى مسجد المدينة".
ثم روى ابن عبد البر بإسناده عن سليمان بن عتيق، عن ابن الزبير، عن عمر "صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما فضله عليه بمائة صلاة".
ثم قال: على أنه لم يتابع سليمان بن عتيق على ذكره عمر، وهو مما أخطأ فيه عندهم، وانفرد به، وما انفرد به فلا حجة فيه، وإنما الحديث محفوظ عن ابن الزبير. انتهى. طرح التثريب في شرح التقريب جـ 6 ص 46 - 49.
قال الجامع عفا الله عنه: فظهر بهذا أن المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام على مسجد المدينة، كما هو رأي الجمهور. والله أعلم.
المسألة السابعة: استدل الجمهور بهذا الحديث بالتقرير الذي تقدم على تفضيل مكة على المدينة؛ لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها، مما تكون العبادة فيه مرجوحة.
وهو مذهب سفيان بن عيينة، والشافعي، وأحمد، في أصح الروايتين عنه، وابن وهب، ومطرف، وابن حبيب، الثلاثة من أصحاب
مالك، وحكاه المساجي، عن عطاء بن أبي رباح، والمكيين، والكوفيين، وبعض البصريين والبغداديين. وحكاه ابن عبد البر: عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وابن عمر، وجابر، وعبد الله بن الزبير، وقتادة، لكن حكى القاضي عياض، والنووي عن عمر أن المدينة أفضل. وحكاه ابن بطال، عن عمر بصيغة التمريض، فقال: وروي عن عمر. قال ابن عبد البر: وقد روي عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها، قال: لكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة.
ومما يدل للجمهور ما رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن عبد الله بن عدي بن حمراء، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الحَزَوَّرة، فقال:"والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال ابن عبد البر: هذا من أصح الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا قاطع في محل الخلاف. انتهى.
وذهب آخرون إلى تفضيل المدينة على مكة، وهو قول مالك، وأهل المدينة، وحكاه زكريا الساجي عن بعض البصريين والبغداديين،
وتقدم قول من حكاه عن عمر.
قال ابن عبد البر رحمه الله: واستدل أصحابنا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة". قال: وركبوا عليه
قوله صلى الله عليه وسلم: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها". قال: وهذا لا دليل فيه على ما ذهبوا إليه؛ لأنه إنما أراد به ذم الدنيا والزهد فيها، والترغيب في الآخرة، فأخبر أن اليسير من الجنة خير من الدنيا كلها، وأراد بذكر السوط -والله أعلم- التقليل، لا أنه أراد موضع السوط بعينه، بل موضع نصف سوط، وربع سوط من الجنة الباقية خير من الدنيا الفانية، ثم قال: ولا حجة لهم في شيء مما ذهبوا إليه، ولا يجوز تفضيل شيء من البقاع على شيء إلا بخبر يجب التسليم له، ثم ذكر حديث ابن حمراء المتقدم، وقال: كيف يترك مثل هذا النص الثابت، ويمال إلى تأويل لا يجامع متأوله عليه. انتهى. طرح جـ 6 ص 49 - 50.
وقد أشبع الكلام الإمام المجتهد البارع أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى في كتابه المحلى ناصرًا رأي الجمهور في تفضيل مكة على المدينة، ومُفَنِّدًا رأي القائلين بالعكس، وناقضًا لما تمسكوا به، بما لا تجده في كتاب غيره. انظر "المحلى" جـ 7 ص 27929. والله تعالى أعلم.
المسألة الثامنة: استثنى القاضي عياض من القول بتفضيل مكة البقعة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وضمت أعضاءه الشريفة، وحكى اتفاق العلماء على أنها أفضل بقاع الأرض.
وقال النووي في "شرح المهذب": ولم أر لأصحابنا تعرضًا لما نقله قال ابن عبد البر. وتعقب على القاضي بأن هذا لا يتعلق بالبحث
المذكور؛ لأن محله ما يترتب عليه الفضل للعابد. وأجاب القرافي: بأن سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل، بل قد يكون لغيرها، كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود.
قال الجامع: جواب القرافي غير مفيد، بل التعقب المذكور على وجهه. فافهم.
قال ابن عبد البر: وكان مالك يقول: مِنْ فَضلِ المدينة على مكة أني لا أعلم بقعة، فيها قبر نبي معروف غيرها. قال ابن عبد البر: يريد ما يشك فيه، فإن كثيرًا من الناس يزعم أن قبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام ببيت المقدس، وأن قبر موسى عليه الصلاة والسلام هناك، ثم ذكر حديث أبي هريرة المرفوع في سؤال موسى عليه السلام ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، ثم قال: إنما يحتج بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أنكر فضلها، أما من أقر به، وأنه ليس على وجه الأرض أفضل بعد مكة منها، فقد أنزلها منزلتها، واستعمل القول بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وفيها. ثم روى ابن عبد البر عن علي ابن أبي طالب أنه قال: إني لأعلم أي بقعة أحب إلى الله في الأرض؟ هي البيت الحرام، وما حوله.
وقال بعضهم: سبب تفضيل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة أنه روي "أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق" رواه ابن عبد البر في أواخر تمهيده من طريق عطاء الخراساني موقوفًا. وعلى
هذا، فقد روى الزبير بن بكار أن جبريل أخذ التراب الذي خلق منه النبي صلى الله عليه وسلم من تراب الكعبة، فعلى هذا، فالبقعة التي ضمت أعضاءه من تراب الكعبة، فيرجع الفضل المذكور إلى مكة، إن صح ذلك. والله أعلم. انتهى. طرح جـ 6 ص 50 - 51 بزيادة من "الفتح" جـ 3 ص 81 - 82.
قال الجامع عفا الله عنه: مثل هذه الأمور تحتاج إلى دليل صحيح، فليحرر. والله أعلم.
المسألة التاسعة: قال الحافظ ولي الدين العراقي نقلًا عن والده في شرح الترمذي ما نصه: في حديث عبد الله بن الزبير، وجابر، وابن عمر، وأبي الدرداء، وأنس رضي اللهم عنهم مرفوعًا "إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة"، وفي حديث عمر رضي الله عنه موقوفًا عليه "أن الصلاة فيه خير من مائة صلاة"، وهكذا رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة مرفوعًا، وفي بعض طرق أثر عمر:"إن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة بمسجد المدينة". وفي حديث الأرقم: "إن الصلاة بمكة أفضل من ألف صلاة ببيت المقدس" رواه أحمد وغيره.
قال: والجمع بين هذا وبين ما تقدم، أن يحمل أثر عمر باللفظ الأول وحديث عائشة على تقدير صحتهما على أن المراد خير من مائة صلاة في مسجد المدينة، فيكون موافقًا لحديث ابن الزبير ومن معه
وحديث الأرقم، وأثر عمر باللفظ الثاني يقتضي أن تكون الصلاة في المسجد الحرام بألف ألف صلاة، وإذا تعذر الجمع، فيرجع إلى الترجيح، وأصح هذه الأحاديث حديث ابن الزبير، وجابر، وابن عمر، وأبي الدرداء، فإن أسانيدها صحيحة.
قال: وأما الاختلاف في مسجد المدينة، فأكثر الأحاديث الصحيحة "إن الصلاة فيه خير من ألف صلاة"، وفي حديث أبي الدرداء "إنها بألف صلاة" من غير تفضيل على الألف، وفي حديث أنس عند ابن ماجه "إن الصلاة فيه بخمسين ألف صلاة"، وفي حديث أبي ذر عند الطبراني في الأوسط "إن الصلاة فيه أفضل من أربع صلوات ببيت المقدس".
قال: وقد اختلفت الأحاديث في المقدار الذي تضاعف به الصلاة في مسجد بيت المقدس، فعند ابن ماجه من حديث ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره"، وعند الطبراني في حديث أبي الدرداء "أن الصلاة بخمسمائة صلاة"، وفي حديث أنس عند ابن ماجه "أن الصلاة فيه بخمسين ألف صلاة".
فعلى هذا تكون الصلاة بمسجد المدينة إما بأربعة آلاف على مقتضى حديث ميمونة، وإما بألفين على مقتضى حديث أبي الدرداء، وإما بمائتي ألف صلاة على مقتضى حديث أنس، لكنه في هذا الحديث سوى بين مسجد المدينة وبين مسجد بيت المقدس.
وأصح طرق أحاديث الصلاة ببيت المقدس "إنها بألف صلاة"، فعلى هذا أيضًا يستوي المسجد الأقصى مع مسجد المدينة، وعند أحمد من حديث أبي هريرة، أو عائشة، مرفوعًا "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الأقصى". وعلى هذا فتحمل هذه الرواية على تقدير ثبوتها: إلا المسجد الأقصى، فإنهما مستويان في الفضل، ولا مانع من المصير إلى هذا، أي فإنه ليس بأفضل من ألف صلاة فيه، بل هو مساوٍ له.
وأصح طرق أحاديث التضعيف في المدينة "إنها أفضل من ألف"، والأصح في بيت المقدس "إنها بألف"، فيمكن أيضًا أن يكون التفاوت بينهما بالزيادة على الألف. والله أعلم. انتهى كلام العراقي في شرح الترمذي. انتهى. طرح جـ 6 ص 51 - 52.
المسألة العاشرة: ظاهر الحديث أنه لا فرق في تضعيف الصلاة بين الفرض والنفل، وبه قال الشافعية، ومطرف من المالكية، وذهب الطحاوي إلى اختصاص التضعيف بالفرض، وهو مقتضى كلام ابن حزم الظاهري؛ لأنه أوجب صلاة الفرض في أحد المساجد الثلاثة بنذره ذلك، ولم يوجب التطوع فيها بالنذر. وقال النووي: وهو خلاف الأحاديث الصحيحة.
قال ولي الدين العراقي: قد يقال: لا عموم في اللفظ؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات، وساعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل صلاة
المرء في بيته إلا المكتوبة". وقد يقال: هو عام؛ لأنه وإن كان في الإثبات، فهو في معرض الامتنان.
قال الجامع: هذا الذي قاله أخيرًا هو الأولى، فالنص عام، وإن كان في سياق الإثبات، بدليل أن الكلام ذكر لبيان امتنان الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث فضل مسجده بهذا الفضل العظيم. والله أعلم.
وقال الحافظ العراقي في شرح الترمذي: تكون النوافل في المسجد مضاعفة بما ذكر من ألف في المدينة، ومائة ألف في مكة، ويكون فعلها في البيت أفضل، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، بل ورد في بعض طرقه أن النافلة في البيت أفضل من فعلها في مسجده صلى الله عليه وسلم. انتهى. طرح جـ 6 ص 52.
وقال في الفتح: ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه، فتكون صلاة النافلة في البيت بالمدينة، أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقًا. انتهى. جـ 3 ص 82. والله تعالى أعلم.
المسألة الحادية عشرة: استدل بهذا الحديث على أن تضعيف الصلاة في مسجد المدينة يختص بمسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمنه، دون ما أحدث بعده فيه من الزيادة في زمن الخلفاء الراشدين وغيرهم، لأن التضعيف إنما ورد في مسجده، وذاك هو مسجده، وأيضًا أكد ذلك بقوله في رواية الصحيحين:"مسجدي هذا". وبذلك صرح
النووي، وقال: ينبغي أن يحرص المصلي على ذلك، ويتفطن لما ذكرته.
قال ولي الدين رحمه الله: وهذا بخلاف المسجد الحرام، فإنه لا يختص التضعيف بالمسجد الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، بل يشمل جميع ما زيد فيه؛ لأن اسم المسجد الحرام يعم الكل، بل المشهور عند الشافعية أن التضعيف يعم مكة، بل صحح النووي أنه يعم الحرم الذي يحرم صيده. انتهى. طرح جـ 6 ص 52 - 53.
قال الجامع: عندي فيما قاله النووي رحمه الله في المسجد النبوي نظر، إذ الظاهر أن قوله:"مسجدي هذا" إنما هو للاحتراز من غيره من مساجد المدينة، فلا يمنع دخول الزيادة بعده صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك أثر عمر رضي الله عنه، قال:"لو مُدَّ مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه"، وفي لفظ "لو زدنا فيه حتى بلغ الجَبَّانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءه الله بعامر". رواه عمر بن شَبَّة من طريقين مرسلين عنه موقوفًا. ورفعه ضعيف جدًا كما بينه الشيخ الألباني في ضعيفته جـ 2 ص 402 - 403. والله أعلم.
قلت: وقد حقق الموضوع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تحقيقًا حسنًا حيث قال: وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده صلى الله عليه وسلم حكم المزيد، تضعف فيه الصلاة بألف صلاة، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد، فيجوز الطواف فيه،
والطواف لا يكون إلا في المسجد، لا خارجًا منه.
ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر، ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده، لكانت تلك الصلاة في مسجد غيره، ويأمرون بذلك.
ثم قال: وهذا هو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين، وعملهم، فإنهم قالوا: إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل، وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وكذلك كان الأمر على عهد عمر، وعثمان رضي الله عنهما، فإن كُلًا منهما زاد من قبلي المسجد، فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة، وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، والذي كان كذلك، فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأُوَلُ كانوا يصلون في غير مسجده، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا، لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت له في ذلك سلفًا من العلماء. انتهى كلام شيخ الإسلام. نقلته من سلسلة الضعيفة للشيخ الألباني جزاه الله تعالى خيرًا. جـ 2 ص 403.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله شيخ الإسلام حسن جدًّا، ولعله أشار بما ذكره عن بعض المتأخرين ما تقدم عن النووي
-رحمه الله. والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة: قال النووي رحمه الله: قال العلماء ما حاصله: أن المضاعفة المذكورة في هذا الحديث إنما هو فيما يرجع إلى الثواب، فثواب صلاة فيه يزيد على ثواب ألف صلاة في غيره، ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء عن الفوائت، حتى لو كان عليه صلاتان، فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزه عنهما، وهذا لا خلاف فيه. والله أعلم. ذكره في "طرح التثريب" جـ 6 ص 53.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
5 - الصلاةُ فِي الكَعْبَةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم الصلاة في داخل الكعبة.
692 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:"دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلَالاً، فَسَأَلْتُهُ، هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد، تقدم في السند السابق.
2 -
(الليث) بن سعد، تقدم في السند السابق.
3 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني، ثقة حجة حافظ، من [4] تقدم في 1/ 1.
4 -
(سالم) بن عبد الله بن عمر المدني، ثقة فقيه عابد، من [3] تقدم في 490.
5 -
(عبد الله بن عمر) بن الخطاب الصحابي المشهور رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات حفاظ، من رجال الجماعة.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه فبغلاني، والليث فمصري.
ومنها: أنه نقل عن الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه أن أصح الأسانيد: ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، ذكره في التقريب، مع شرحه التدريب جـ 1ص 77.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، ابن شهاب عن سالم.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه، سالم عن عبد الله.
ومنها: أن سالمًا هو أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
ومنها: أن صحابيه، هو أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، روى (2630) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن سالم، عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه (قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت) أي بيت الله الحرام، فإن البيت
علم له بالغلبة، كما قال في الخلاصة:
وَقَدْ يَكُونُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ
…
مُضَافٌ أو مَصْحُوبُ ألْ كَالْعَقَبَهْ
قال الحافظ رحمه الله: وكان ذلك في عام الفتح، كما وقع مبينًا من رواية يونس بن يزيد، عن نافع، عند البخاري في كتاب الجهاد بزيادة فوائد، ولفظه:"أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته"، وفي رواية فليح، عن نافع "وهو مردف أسامة -يعني ابن زيد- على القصواء"، ثم اتفقا، "ومعه بلال، وعثمان بن طلحة، حتى أناخ في المسجد، وفي رواية فليح "عند البيت، وقال لعثمان: ائتنا بالمفتاح، فجاءه بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل"، ولمسلم، وعبد الرزاق من رواية أيوب، عن نافع "ثم دعا عثمان بن طلحة بالمفتاح، فذهب إلى أمه -واسمها: سُلافَة، بضم المهملة، والتخفيف، والفاء- فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينه، أو لأخرجن هذا السيف من صلبي، فلما رأت ذلك أعطته، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففتح الباب".
فظهر من رواية فليح أن فاعل فتح، هو عثمان المذكور، لكن روى الفاكهي من طريق ضعيفة عن ابن عمر، قال:"كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح، ففتحها بيده".
(هو، وأسامة بن زيد) بن حارثة، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبه، هو، وأبوه، وجده صحابيون رضي الله عنهم، مات بالمدينة
سنة 54 - وهو ابن 57 سنة، وتقدمت ترجمته 96/ 120.
(وبلال) بن رباح، أبو عبد الله المؤذن، وأمه حَمَامة، مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أحد السابقين إلى الإسلام، شهد بدرًا، وما بعدها، ومات بالشام سنة 17، وقيل غير ذلك. تقدمت ترجمته 86/ 104.
(وعثمان بن طلحة) بن أبي طلحة بن عثمان بن عبد العزى بن عبد الدار بن قصي بن كلاب العبدري، ويقال له: الحَجَبِي -بفتح المهملة، والجيم- ولآل بيته الحَجَبَة، لحجبهم الكعبة، يعرفون الآن بالشيبيين، نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عم عثمان هذا، لا ولده، وله أيضًا صحبة ورواية. مات عثمان بن طلحة سنة 42، وقيل: استشهد بأجنادين، وأبطل ذلك العسكري. قاله في الفتح، وتقريب التهذيب.
قال المهلب شارح البخاري: إدخال النبي صلى الله عليه وسلم معه هؤلاء الثلاثة لمعان تخص كل واحد منهم، فأما دخول عثمان، فلخدمته البيت في الغلق، والفتح، والكنس، ولو لم يدخله لِغَلْقِ بابها، لتوهم الناس أنه عزله. وأما بلال، فمؤذنه، وخادم أمر صلاته. وأما أسامة، فمتولي خدمة ما يحتاج إليه، وهم خاصته، فللإمام أن يخص خاصته ببعض ما يستتر به عن الناس. انتهى.
وزاد في رواية مسلم من طريق أخرى "ولم يدخلها معهم أحد"، ووقع عند المصنف في المناسك (216/ 2906) من طريق ابن عون،
عن نافع "ومعه الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وبلال" فزاد الفضل.
ولأحمد من رواية مجاهد، عن ابن عباس، قال: حدثني أخي الفضل -وكان معه حين دخلها- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة، ولكنه لما دخلها وقع ساجدًا بين العمودين، ثم جلس يدعو. قال ولي الدين العراقي رحمه الله: وهذه الرواية شاذة من وجهين: دخول الفضل معهم، والاقتصار على السجود. انتهى. طرح جـ 5 ص 132.
(فأغلقوا عليهم) مفعوله محذوف للعلم، أي باب البيت، زاد في رواية حسان بن عطية، عن نافع، عند أبي عوانة "من داخل" وزاد يونس "فمكث نهارًا طويلًا"، وفي رواية فليح "زمانًا" بدل نهارًا، وفي رواية جويرية، عن نافع "فأطال"، ولمسلم من رواية ابن عون، عن نافع "فمكث فيها مَليًّا"، وله من رواية عبيد الله، عن نافع "فأجافوا عليهم الباب طويلًا"، ومن رواية أيوب، عن نافع "فمكث فيها ساعة"، وللمصنف من طريق ابن عون، عن نافع (126/ 2906)، "فمكث فيه ما شاء الله"، ومن رواية ابن أبي مليكة عن ابن عمر (127/ 2907) دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، ودنا خروجه، ووجدت شيئًا، فذهبت، وجئت سريعًا، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجًا".
ووقع في الموطأ بلفظ: "فأغلقاها"، والضمير لعثمان، وبلال، ولمسلم من طريق ابن عون، عن نافع "فأجاف عليهم عثمان الباب"،
والجميع بينهما أن عثمان هو المباشر لذلك؛ لأنه من وظيفته، ولعل بلالًا ساعده في ذلك، ورواية الجمع يدخل فيها الآمر بذلك، والراضي به. قاله في الفتح جـ 3 ص 542 - 543.
قال ابن بطال: وأما غلق الباب -والله أعلم- حين صلى في البيت لئلا يظن الناس أن الصلاة فيه سنة، فيلزمون ذلك.
وقال النووي في شرح مسلم: إنما أغلقها عليه السلام، ليكون أسكن لقلبه، وأجمع لخشوعه، ولئلا يجتمع الناس، ويدخلوه، أو يزدحموا، فينالهم ضرر، ويتهوش عليه الحال بسبب لغطهم. انتهى.
قال ولي الدين: وما ذكره النووي أظهر، وأما ما ذكره ابن بطال، فضعيف، فإنه عليه الصلاة لا يخفي صلاته في البيت، وقد شاهدها جماعة، ونقلوها. وقيل: إنما أغلقها ليصلي إلى جميع جهاتها، فإن الباب إذا كان مفتوحًا، وليس أمامه قدر مؤخرة الرحل لم تصح الصلاة. حكاه المحب الطبري. انتهى. طرح.
قال الجامع: ما قاله النووي أوضح، كما قال ولي الدين، والقولان الآخران ليسا بشيء. والله أعلم.
(فلما فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أمر بفتحها، وللبخاري "فلما فتحوا"، وفي رواية فليح "ثم خرج، فابتدر الناس الدخول، فسبقتهم"، وفي رواية أيوب "وكنت رجلًا شابًا قويًا، فبادرت الناس، فبَدَرْتُهم"، وفي زواية جويرية "كنت أول الناس، ولج على
أثره" وفي رواية ابن عون "فرقيت الدرجة، فدخلت البيت"، وفي رواية مجاهد، عن ابن عمر "وأجِدُ بلالًا قائمًا بين البابين"، وأفاد الأزرقي في كتاب مكة: أن خالد بن الوليد كان على الباب، يذب عنه الناس، وكأنه جاء بعد ما دخل النبي صلى الله عليه وسلم، وأغْلِقَ. قاله الحافظ.
(كنت أول من ولج) أي دخل، يقال: وَلَجَ الشيء في غيره، يَلِجُ، من باب وَعَدَ، وُلُوجًا: دخل، وأولجته، إيلاجًا: أدخلته. أفاده في المصباح.
(فلَقيت بلالًا، فسألته هل صلى فيه) أي داخل البيت (رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا رواية سالم بإثبات أول السؤال، ومثلها رواية مجاهد، وابن أبي مليكة، عن ابن عمر عند البخاري "فقلت: أصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم"، وفي رواية مالك عن نافع "ما صنع؟ "، وفي رواية جويرية، ويونس، وجمهور أصحاب نافع "فسألت بلالًا، أين صلى؟ اختصروا أول السؤال، فظهر بهذا أنه استثبت أولًا، هل صلى، أم لا؟ ثُم سأل عن موضع صلاته من البيت؟
ووقع في رواية يونس، عن ابن شهاب، عند مسلم، فأخبرني بلال، أو عثمان بن طلحة"، والمحفوظ أنه سأل بلالًا، كما في رواية الجمهور.
ووقع عند أبي عوانة من طريق العلاء بن عبد الرحمن ، عن ابن عمر، أنه سأل بلالًا، وأسامة بن زيد، حين خرجا" أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم -
فيه؟ فقالا: على جهته"، وكذا أخرجه البزار نحوه. ولأحمد، والطبراني من طريق أبي الشعثاء، عن ابن عمر، قال: "أخبرني أسامة
أنه صلى فيه ها هنا".
ولمسلم، والطبراني من وجه آخر:"فقلت: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا"، فإن كان محفوظًا حمل على أنه ابتدأ بلالًا بالسؤال، كما تقدم تفصيله، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل عثمان أيضًا، وأسامة، ويؤيد ذلك قوله -في رواية ابن عون عند مسلم-:"ونسيت أن أسألهم، كم صلى"، بصيغة الجمع، وهذا أولى من جزم عياض بوهم الرواية التي أشرنا إليها من عند مسلم، وكأنه لم يقف على بقية الروايات.
ولا يعارض قصته، مع قصة أسامة ما أخرجه مسلم أيضًا، وهو الآتي للمصنف برقم (133/ 2917) من حديث ابن عباس: أن أسامة ابن زيد أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل فيه، ولكنه كبر في نواحيه؛ فإنه يمكن الجمع بينهما بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه، لكونه لم يره صلى الله عليه وسلم حين صلى، وسيأتي تحقيق القول في إثبات بلال لصلاته صلى الله عليه وسلم، ونفي أسامة لها، في المسائل، إن شاء الله تعالى.
(قال: نعم، صلى بين العمودين) -بفتح، فضم-: الخشبة التي يقوم عليها البيت، جمعه: أعْمِدَة، وعُمُدٌ -بضمتين، وعَمَدٌ-
بفتحتين-، يقال: له العماد أيضًا. قاله في اللسان، والمصباح.
(اليمانيين) تثنية يمان، نسبة إلى اليمن البلد المعروف، على غير قياس، إذ القياس: يمني، وفي ياء يمان مذهبان:
أحدهما: وهو الأشهر تخفيفها، واقتصر عليه كثيرون، وبعضهم ينكر التثقيل، ووجهه أن الألف دخلت قبل الياء، لتكون عوضًا عن التثقيل، فلا يثقل، لئلا يجمع بين العوض، والمعوض عنه.
والثاني: التثقيل؛ لأن الألف زيدت بعد النسبة، فيبقى التثقيل الدال على النسبة تنبيهًا على جواز حذفها.
وسمي اليمن به؛ لأنه عن يمين الشمس عند طلوعها، وقيل: لأنه عن يمين الكعبة. أفاده في المصباح.
ثم إن هذه الرواية فيها اختصار سؤال مكان الصلاة، وفي الرواية الآتية رقم (127/ 2908) "فقلت: يا بلال، أصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم، قلت: أين؟ قال: ما بين هاتين الأسطوانتين".
وسيأتي بيان اختلاف الرواية في ذلك في المسائل إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (5/ 692)، و"الكبرى"(5/ 771) عن قتيبة، عن الليث ابن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم، عنه، و (6/ 749)، و "الكبرى"(5/ 825)، عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن مالك، عن نافع، عنه.
وفي "المناسك"(126/ 2905)، والكبرى (126/ 3888) عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن ابن عون، عن نافع به. و (2906)، و"الكبرى"(127/ 3889)، عن يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم، عن ابن عون به. و (127/ 2907)، و "الكبرى"(128/ 3890)، عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن السائب بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عنه. و (2908)، و"الكبرى"(3891)، عن أحمد ابن سليمان، عن أبي نعيم، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، من طريق مالك، وأخرجه البخاري، ومسلم أيضًا من طريق أيوب السختياني، والبخاري من طريق موسى بن عقبة، وجويرية بن أسماء، وفليح بن سليمان، ويونس بن يزيد، ومسلم، وأبو داود من طريق عبيد الله بن عمر، ومسلم، من طريق عبد الله بن عون، وابن ماجه من طريق حسان بن عطية، كلهم عن نافع.
وأخرجه الشيخان من طريق سالم ابن عبد الله، والبخاري، من طريق مجاهد، كلهم عن ابن عمر رضي الله عنهما، وروى الترمذي من حديث عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن بلال "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة". وقال: حديث بلال حديث حسن صحيح. انظر "طرح التثريب" جـ 6 ص 129 - 130. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو جواز الصلاة في الكعبة، وسيأتي بيان اختلاف أهل العلم في ذلك في المسألة السادسة، إن شاء الله تعالى.
ومنها: رواية الصحابي، عن الصحابي، وسؤال المفضول مع وجود الأفضل، والاكتفاء به.
ومنها: الاحتجاج بخبر الواحد.
ومنها: اختصاص السابق بالبقعة الفاضلة.
ومنها: السؤال عن العلم، والحرص فيه.
ومنها: فضيلة ابن عمر رضي الله عنه حيث كان شديد الحرص على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، ليعمل بها.
ومنها: أن الفاضل من الصحابة قد يغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد الفاضلة، ويحضره من هو دونه، فيطلع على ما لم يطلع
عليه؛ لأن أبا بكر وعمر وغيرهما مِمَّنْ هو أفضل من بلال ومن ذكر معه، لم يشاركوهم في ذلك.
ومنها: أن البخاري رحمه الله استدل بهذا الحديث على أن الصلاة إلى مقام إبراهيم غير واجبة، وعلى جواز الصلاة بين السواري في غير جماعة.
ومنها: ما قيل: إن السترة إنما يشرع اتخاذها حيث يخشى المرور، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بين العمودين، ولم يصل إلى أحدهما، لكن هذا -كما قال الحافظ- فيه أنه إنما ترك ذلك للاكتفاء بالقرب من الجدار، إذ كان بين مصلاة وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع، ولذلك استدل المصنف به على مقدار الدنو من السترة، كما يأتي برقم (749).
ومنها: أن قول العلماء: تحية المسجد الحرام الطواف مخصوص بغير داخل الكعبة، لكونه صلى الله عليه وسلم جاء فأناخ عند البيت، فدخله، فصلى فيه ركعتين، فكانت تلك الصلاة، إما لكون الكعبة كالمسجد المستقل، أو هو تحية المسجد العام.
قال الجامع عفا الله سنه: هكذا ذكر الحافظ رحمه الله، ولي فيه نظر، إذ تحية المسجد الحرام ركعتان، كسائر المساجد؛ لأنه داخل في عمومها، وأما ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ به في حجه الطوافُ، فلا يتنافى معه؛ لأنه طاف، ثم صلى ركعتين، والنهي إنما جاء عن الجلوس قبل الركعتين.
والحاصل: أن السنة لمن أحرم بأحد النسكين أن يبدأ بالطواف، ومعلوم أن الطواف بعده ركعتان، وأما غيره فإن أراد أن يطوف طاف، وصلى ركعتين، وإلا صلى ركعتين، بدليل حديث الباب، والله أعلم.
ومنها: مشروعية الإغلاق للكعبة، ويقاس عليها غيرها من المساجد، وقد قيل في قوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] إن المراد إغلاقها في غير وقت الصلاة.
وبوب البخاري في صحيحه على هذا الحديث "باب الأبواب، والغلق للكعبة والمساجد".
وقال ابن بطال: اتخاذ الأبواب للمساجد واجب لتصان عن مكان الريب، وتنزه عما لا يصلح فيها من غير الطاعات. قاله في الطرح.
قال الجامع: ويدل له حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"أمر رسول الله ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف، وتطيب" رواه أصحاب السنن إلا المصنف. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخد المساجد في ديارنا، وأمرنا أن ننظفها". رواه أحمد بإسناد صحيح، والترمذي، وصححه. والمراد بالدار: المحلة.
ومنها: استحباب دخول الكعبة، لكنه مشروط بأن لا يؤذي أحدًا. وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا، إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة: في بيان اختلاف ألفاظه:
رواية المصنف هنا (692)"بين العمودين اليمانيين"، وفي (749) جعل عمودًا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه"، وفي (2906) "ما بين الأسطوانتين"، وفي (2908) "بين الساريتين".
قال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله: قوله: "جعل عمودًا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه"، كذا في رواية البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس، وكذا في رواية أبي داود عن القعنبي، كلاهما عن مالك، وفي رواية البخاري، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك "جعل عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه".
ونقل ابن عبد البر في التمهيد اللفظ الأول عن الأكثر من رواة الموطأ: منهم يحيى بن يحيى الأندلسي، والقعنبي، وابن القاسم، وأبو مصعب، وابن بكير، ومحمد بن الحسن، وإسحاق بن سليمان، وأحمد بن إسماعيل، وابن مهدي، من رواية أحمد بن سنان القطان عنه، والشافعي، من رواية أبي يحيى، محمد بن سعيد العطار، عنه.
ونقل اللفظ الثاني عن إسحاق بن الطباع، ومكي بن إبراهيم، وأبي قلابة، عن بشر بن عمر، وبندار، عن ابن مهدي، كلهم عن مالك.
ونقل اللفظ الثالث عن يحيى بن يحيى النيسابوري، وبندار، عن بشر بن عمر، والربيع، عن الشافعي، كلهم عن مالك. قال: ورواه عثمان بن عمر، عن مالك، فقال فيه:"جعل عمودين عن يمينه، وعمودين عن يساره"، وقال: ولم يتابع على هذه الرواية، قال: والرواية الأولى أولى بالصواب، إن شاء الله.
وصحح البيهقي أيضًا هذه الرواية. وقال الحافظ العراقي في شرح الترمذي: وهي موافقة لكونه مقابل الباب، وفي رواية في الصحيح أيضًا "صلى بين العمودين اليمانيين"، وإذا تقرر ترجيح الرواية الأولى، فلا ينافيها قوله في الرواية الثانية "عمودًا عن يمينه، وعمودًا عن يساره" لأن معناها: صلى بين عمودين، وإن كان بجانب أحد العمودين عمود آخر، ولا قوله في الرواية الأخيرة "بين العمودين اليمانيين"، فإن العمد الثلاثة، أحدها يماني، وهو الأقرب إلى الركن اليماني، والآخر، وهو الأقرب إلى الحجر شامي، والأوسط بينهما، إن قرن بالأول، قيل: اليمانيان، وإن قرن بالثاني، قيل: الشاميان، ذكره المحب الطبري، وهو واضح.
وأما الرواية الثالثة، فإنه يتعذر الجمع بينها، وبين الأولى، فهي ضعيفة، لشذوذها، ومخالفتها رواية الأكثرين، كما تقدم.
وأما الرواية الرابعة، فهي مقطوع بوهمها، إذ ليس هناك أربعة أعمدة، حتى يكون عن يمينه اثنان، وعن يساره اثنان. انتهى. "طرح
التثريب". جـ 5 ص 136 - 137. والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة) في مذاهب العلماء في حكم الصلاة في الكعبة:
قال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله تعالى ما حاصله: في هذا الحديث جواز الصلاة في الكعبة، وهذه الصلاة، وإن كانت نافلة، فالفريضة في معناها؛ لأن الأصل استواء الفرض والنفل في الأركان والشرائط، إلا ما استثني بدليل.
وبهذا قال الشافعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، والجمهور، كما حكاه النووي.
وقال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم لا يرون بالصلاة في الكعبة بأسًا. وقال مالك بن أنس: لا بأس بالصلاة النافلة في الكعبة، وكره أن تصلى المكتوبة في الكعبة، وقال الشافعي: لا بأس أن تصلى المكتوبة، والتطوع في الكعبة؛ لأن حكم المكتوبة والنافلة في الطهارة والقبلة سواء. انتهى.
وقال بجواز الصلاة مطلقًا في الكعبة من المالكية أشهب، وصححه منهم ابن العربي، وابن عبد البر، والمشهور من مذهب مالك جواز صلاة النافلة فيها، والمنع من الفرض، والسنن، كالوتر، وركعتي الفجر، وركعتي الطواف.
وقيد ابن بطال عنه ذلك بالطواف الواجب. وإطلاق الترمذي عن مالك تجويز النافلة تبعه عليه ابن العربي، فيحتمل أنه مقيد بما حكيته، ويحتمل أن الرواية عن مالك في ذلك مختلفة.
وقد حكي عن عطاء بن أبي رباح تجويز النفل فيها، دون الفرض، فإن كان يقول به على إطلاقه، فهو مذهب ثالث في المسألة.
وفيها مذهب رابع، وهو منع الصلاة فيها مطلقًا. حكاه القاضي عياض، عن ابن عباس، وهو أحد القولين عن مالك، كما حكاه ابن العربي، وقال به من أصحابه أصبغ، وحكاه ابن بطال عن محمد بن جرير الطبري، وبه قال بعضى الظاهرية.
وتمسك هؤلاء بأن الله أمر باستقباله، والمصلي فيه مستدبر لبعضه.
وروى الأزرقي أن ابن عباس قال لسماك الحنفي: ائتم به كله، ولا تجعلن شيئًا منه خلفك. قال ابن عبد البر: لا يصح في هذه المسألة إلا أحد قولين، إما الصحة مطلقًا، أو الفساد مطلقًا، والصواب عندي قول الصحة مطلقًا، ثم بسط ذلك.
وفيه مذهب خامس: وهو أن التفريق بين الفرض والنفل إنما في الاستحباب، فلو صلى الفرض فيها صح، وارتكب خلاف الأولى.
ومذهب سادس: وهو التفريق في الفرض بين التعمد والنسيان، فيصح مع النسيان دون التعمد. وتردد الشيخ تقي الدين في شرح العمدة عن مالك، فقال: كره الفرض، أو منعه، وعلل تجويز النفل
بأنه مظنة التخفيف في الشروط. انتهى. طرح ببعض اختصار جـ 5 ص 138.
قال الجامع عفا الله عنه: ما صححه الحافظ ابن عبد البر من تصحيح الصلاة مطلقًا، كما هو رأي الجمهور هو الراجح عندي
لحديث الباب، وأما الأقوال الأخرى فمما لا دليل عليها، فلا يلتفت إليها، فتبصر. وبالله التوفيق.
المسألة السابعة: في هذا الحديث استحباب دخول الكعبة، وقد روى ابن خزيمة، والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا "من دخل البيت دخل في حسنة، وخرج مغفورًا له".
قال البيهقي: تفرد به عبد الله بن المؤمل، وهو ضعيف.
ومحل استحبابه ما لم يؤذ أحدًا بدخوله. وروى ابن أبي شيبة من قول ابن عباس: إن دخول البيت ليس من الحج في شيء. وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج. ورده بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دخله عام الفتح، ولم يكن محرمًا.
وأما ما رواه أبو داود، والترمذي، وصححه هو، وابن خزيمة، والحاكم عن عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو قرير العين، ثم رجع وهو كئيب، فقال: دخلت الكعبة، فأخاف أن أكون شققت على أمتي". فقد يتمسك به لصاحب هذا القول المحكي، لكن عائشة لم تكن معه في الفتح، ولا في عمرته، بل ثبت أنه لم يدخل في الكعبة
في عمرته، فتعين أن القصة كانت في حجته، وهو المطلوب، وبذلك جزم البيهقي، وإنما لم يدخل في الكعبة في عمرته لِمَا كان في البيت من الأصنام، والصور، وكان إذ ذاك لا يتمكن من إزالتها، بخلاف عام الفتح. ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعائشة بالمدينة بعد رجوعه، فليس في السياق ما يمنع ذلك، ونقل عن جماعة من أهل العلم أنه لم يدخل الكعبة في حجته. أفاده في الفتح جـ 3 ص 544 - 545.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الذي ذكره الحافظ بأنه قال لها ذلك في المدينة، وأنه ليس في السياق ما يمنعه، عندى بعيد، بل السياق يأباه، إلا بتكلف، فإن قوله:"خرج من عندها، وهو قرير العين، ثم رجع وهو كئيب" ظاهر في كون ذلك في مكة. والقول بأنه لم يدخل في حجته البيت لا دليل عليه، فالظاهر ما جزم به البيهقي، من أنه دخل في حجته. والله أعلم.
المسألة الثامنة: في هذه الرواية إثبات صلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة.
وفي صحيح البخاري، وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت، فكبر في نواحيه، ولم يصل فيه". ورواه مسلم بلفظ "ودعا، ولم يصل".
وإنما تلقى ابن عباس ذلك عن أسامة بن زيد، ففي صحيح مسلم عنه: أخبرني أسامة بن زيد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل فيه، حتى خرج، فلما خرج ركع في قُبُلِ
البيت ركعتين، وقال: هذه القبلة".
والعمل على الإثباث، فإنه مقدم على النفي. قال ابن بطال: الآثار أنه صلى أكثر، ولو تساوت في الكثرة، لكان الأخذ بالمثبت أولى من النافي، فقد رَوَى أنه عليه الصلاة والسلام صلى في البيت -غير بلال- جماعة، منهم أسامة بن زيد، وعمر بن الخطاب، وجابر، وشيبة بن عثمان، وعثمان بن طلحة، من طرق حسان، ذكرها الطحاوي كلها في شرح معاني الآثار.
وقال ابن عبد البر: رواية أنه صلى أولى من رواية أنه لم يصل، لأنها زيادة مقبولة، وليس قول من قال: لم يفعل بشهادة.
وقال النووي في شرح مسلم: أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال؛ لأنه مثبت، فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه. وكذا حكى ابن العربي عن العلماء، ثم قال: وهذا إنما يكون لو كان الخبر عن اثنين، فأما وقد اختلف قول ابن عمر، فأثبت مرة، ونفى أخرى، وقول النفي رواية ابن عباس، فلا أدري ما هذا. انتهى.
قال ولي الدين رحمه الله: وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الخبر عن واحد، أو اثنين، فالإثبات مقدم ولو كان الاختلاف على واحد.
الثاني: أن ذكر ابن عمر سهو، فإنه لم يرد عنه النفي، ولعله أراد
أسامة، فسبق قلمه إلى ابن عمر.
فأما نفي أسامة، فقد سبق، وأما إثباته، فروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي الشعثاء، قال:"خرجت حاجًا، فجئت حتى دخلت البيت، فلما كنت بين الساريتين مضيت حتى لزمت الحائط، فجاء ابن عمر، فصلى أربعًا، فلما صلى، قلت له: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت؟ فقال: أخبرني أسامة بن زيد أنه صلى ها هنا، فقلت: كم صلى؟ فقال: على هذا أجدني ألوم نفسي، إني مكثت معه عمرًا، فلم أسأله، كم صلى؟ ".
ويوافق هذه الرواية لفظ رواية مسلم من رواية عبد الله بن عون، عن نافع، عن ابن عمر، فإن فيها بعد ذكر أسامة، وبلال، وعثمان، "فقلت: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ها هنا، قال: ونسيت أن أسالهم، كم صلى؟ " ومقتضاها نسبة ذلك إلى جميعهم، والمشهور عن أسامة النفي، كما تقدم.
وقال القاضي عياض رحمه الله: إن أهل الحديث وهنوا هذه الرواية، فقال الدارقطني: وهم ابن عون هنا، وخالفه غيره، فأسندوه عن بلال وحده. قال القاضي: وهذا هو الذي ذكره مسلم في باقي الطرق، إلا أن في رواية حرملة، عن ابن وهب "فأخبرني بلال، أو عثمان بن طلحة" هكذا هو عند عامة شيوخنا، وفي بعض النسخ "وعثمان"، قال: وهذا يعضد رواية ابن عون، والمشهور انفراد بلال
برواية ذلك.
(فإِن قلت): كيف الجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة مع دخولهما مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة واحدة؟
قلت: أجيب عنه بأوجه:
أحدها: قال النووي في شرح مسلم: وأما نفي أسامة فسببه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب، واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة بالدعاء في ناحية من نواحي البيت، والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرآه بلال لقربه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله، وكانت صلاته خفيفة، فلم يرها أسامة، لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملًا بظنه، وأما بلال فتحققها، فأخبر بها.
الثاني: أنه يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة، فلم يشهد صلاته، أجاب به الشيخ محب الدين الطبري. أفاده في الطرح. جـ 5 ص 135.
قال الحافظ: ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ، عن ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة، قال:"دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فرأى صورًا، فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فضرب به الصور"، فهذا إسناد جيد. قال القرطبي: فلعله استصحب النفي لسرعة عوده. انتهى.
وهو مفرع على أن هذه القصة وقعت عام الفتح، فإن لم يكن، فقد روى عمر بن شبة في كتاب مكة، من طريق علي بن بَذيمَةَ، وهو تابعي، وأبوه -بفتح الموحدة، ثم معجمة، بوزن عظيمة- قال:"دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، ودخل معه بلال، وجلس أسامة على الباب، فلما خرج وجد أسامة، قد احتبى، فأخذ بحبوته، فحلها". . . الحديث، فلعله احتبى، فاستراح، فنعس، فلم يشاهد صلاته، فلما سئل عنها نفاها، مستصحبًا للنفي، لقصر زمن احتبائه، وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته، لا ما في نفس الأمر. هذا جمع بطريقة الترجيح.
ومنهم من جمع بينهما بغير ترجيح أحدهما على الآخر. وذلك من أوجه:
أحدها: حمل الصلاة المثبتة على اللغوية، والمنفية على الشرعية، وهذه طريقة من يكره الصلاة داخل الكعبة، فرضًا ونفلًا، وقد تقدم البحث فيه. ويرد هذا الحمل ما تقدم في بعض طرقه، من تعيين قدر الصلاة، فظهر أن المراد بها الشرعية، لا مجرد الدعاء.
ثانيها: قال القرطبي: يمكن حمل الإثبات على التطوع، والنفي على الفرض، وهذه طريقة المشهور من مذهب مالك، وقد تقدم
البحث فيها.
ثالثها: قال المهلب شارح البخاري: يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين، صلى في إحداهما، ولم يصل في الأخرى.
وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع أن يجعل، الخبران في وقتين، فيقال: لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها، على ما رواه ابن عمر، عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها؛ لأن ابن عباس نفاها، وأسنده إلى أسامة، وابن عمر أثبتها، وأسند إثباته إلى بلال، وإلى أسامة أيضًا، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض.
قال الحافظ: وهذا جمع حسن. لكن تعقبه النووي بأنه لاخلاف أنه صلى الله عليه وسلم دخل في يوم الفتح، لا في حجة الوداع، ويشهد له ما روى الأزرقي في كتاب مكة، عن سفيان، عن غير واحد من أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، ثم حج، فلم يدخلها، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين، ويكون المراد بالواحدة التي في خبر ابن عيينة وحدة السفر، لا الدخول، وقد وقع عند الدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع. والله أعلم.
ويؤيد الجمع الأول ما أخرجه عمر بن شبة في "كتاب مكة" من طريق حماد، عن أبي حمزة، عن ابن عباس، قال:"قلت له: كيف أصلي في الكعبة؟ قال: كما تصلي في الجنازة، تسبح، وتكبر، ولا تركع، ولا تسجد"، وسنده صحيح. انتهى. "فتح" جـ 3 ص 547 - 548.
قال الجامع عفا الله عنه: أحسن الأجوبة عندي جواب من حمل نفي أسامة على نفي علمه، فلا ينافي إثبات بلال، وأما ابن عباس،
فنفيه مستند إلى غيره، فجوابه جواب مستنده، وأما ما نقل من إثبات أسامة، فإن صح، فجوابه ما أجاب به ابن حبان، من تعدد الواقعة. والله أعلم.
المسألة التاسعة: لم يبين في رواية المصنف هنا، ولا في أكثر الروايات عدد ركعات صلاته، بل في الصحيحين عن ابن عمر، أنه
قال: ونسيت أن أسأله -يعني بلالًا- كم صلى؟
لكن في أوائل الصلاة من صحيح البخاري عن مسدد، عن يحيى، عن سيف، عن مجاهد، قال:"أتي ابن عمر رضي الله عنهما، فقيل له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، قال ابن عمر: فأقبلت، والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، وأجد بلالًا قائمًا بين البابين، فسألت بلالًا، فقلت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم؟ ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره، إذا دخلت، ثم خرج، فصلى في وجه الكعبة ركعتين".
وقد أعادها البخاري في باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، رواها عن أبي نعيم، عن سيف، وليس فيها هذه الزيادة، وهي أن صلاته في الكعبة كانت ركعتين، نعم رواها النسائي (2908) من رواية أبي نعيم، وفيها ذكر الركعتين، وروى النسائي أيضًا (2907) عن
ابن أبي مليكة أن ابن عمر، قال:"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة". . . الحديث، وفيه "فسألت بلالًا، هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم ركعتين بين الساريتين".
قال ولي الدين العراقي رحمه الله: ولم يستحضر النووي رحمه الله في شرح مسلم رواية البخاري، فاقتصر على ذكر ما في سنن أبي داود بإسناد فيه ضعف، عن عبد الرحمن بن صفوان، قال:"قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة؟ قال: صلى ركعتين". رواه ابن أبي شيبة في مصنفه من هذا الوجه، عن صفوان، أو ابن صفوان:"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين حين دخله".
قال ولي الدين: ولم أتوقف في رواية البخاري لاستغراب كونه عليه الصلاة والسلام صلى ركعتين، فإن هذا هو المعروف من عادته،
إنما توقفت فيها لقول ابن عمر: ونسيت أن أسأله، كم صلى؟ وهو في الصحيحين.
وقال والدي: يحتمل أنه لم يسأله عن ذلك، وإنما أخبره به بلال بغير سؤال، وفيه بعد؛ لأنه لم يكن حينئذ يلوم نفسه على ترك السؤال، لحصول مقصوده بدونه، ويحتمل أن ابن عمر حدث به من قبل أن يسأل بلالًا، ثم سأل بلالًا بعد ذلك، أو حدث به بلال بعد ذلك، فذكر فيه أنه صلى ركعتين، وفيه بعد أيضًا؛ لأن بعض من حدثه عنه بكونه لم
يسأل بلالًا عن ذلك إنما سمع منه بعد وفاة بلال.
ويحتمل أن ابن عمر، وإن سمع من بلال أنه صلى ركعتين، لم يكتف بذلك في أنه لم يصل غيرهما؛ لأن من صلى أربعًا أو أكثر يصدق عليه أنه صلى ركعتين على القول بأن مفهوم العدد ليس بحجة، كما هو المرجح في الأصول، فيكون الذي نسي أن يسأله عنه، هل زاد على الركعتين شيئًا، أم لا. انتهى. "طرح التثريب" جـ 5 ص 138 - 139.
قال الجامع عفا الله عنه: ولا يخفى بعد الاحتمال الأخير أيضًا. والله أعلم.
وقال الحافظ رحمه الله: وقد استشكل الإسماعيلي، وغيره هذا -يعني قوله: صلى ركعتين- مع أن المشهور عن ابن عمر من طريق نافع، وغيره، عنه، أنه قال:"ونسيت أن أسأله كم صلى"، فدل على أنه أخبره بالكيفية، وهي تعيين الموقف في الكعبة، ولم يخبره بالكمية، ونسي هو أن يسأله عنها.
والجواب عن ذلك أن يقال: يحتمل أن ابن عمر اعتمد في قوله في هذه الرواية ركعتين على القدر المتحقق له، وذلك أن بلالًا أثبت له أنه صلى، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل في النهار بأقل من ركعتين، فكانت الركعتان متحققًا وقوعهما، لما عرف بالاستقراء من عادته. فعلى هذا، فقوله:"ركعتين" من كلام ابن عمر، لا من كلام بلال.
وقد وجدت ما يؤيد هذا، ويستفاد منه جمع آخر بين الحديثين، وهو
ما أخرجه عمر بن شبة في "كتاب مكة" من طريق عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، في هذا الحديث "فاستقبلني بلال، فقلت: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ها هنا؟ فأشار بيده، أي صلى ركعتين بالسبابة والوسطى".
فعلى هذا فيحمل قوله: "نسيت أن أسأله كم صلى" على أنه لم يسأله لفظًا، ولم يجبه لفظًا، وإنما استفاد منه صلاة الركعتين بإشارته، لا بنطقه. وأما قوله في الرواية الأخرى:"نسيت أن أسأله كم صلى"، فيحتمل على أن مراده أنه لم يتحقق هل زاد على ركعتين، أو لا؟
وأما قول بعض المتأخرين: يجمع بين الحديثين بأن ابن عمر نسي أن يسأل بلالًا، ثم لقيه مرة أخرى، فسأله، ففيه نظر، من وجهين:
أحدهما: أن الذي يظهر أن القصة -وهي سؤال ابن عمر عن صلاته في الكعبة- لم تتعدد؛ لأنه أتى في السؤال بالفاء المعقبة في الروايتين معًا، فقال في هذه، فأقبلت، ثم قال: فسألت بلالًا، وقال في الأخرى: فبدرت، فسألت بلالًا، فدل على أن السؤال عن ذلك كان واحدًا في وقت واحد.
ثانيهما: أن راوي قول ابن عمر "ونسيت" هو نافع مولاه، ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمر على حكايته النسيان، ولا يتعرض لحكاية الذكر أصلًا. والله أعلم.
وأما ما نقله عياض أن قوله: "ركعتين" غلط من يحيى بن سعيد
القطان؛ لأن ابن عمر قد قال: "نسيت أن أسأله كم صلى" قال: وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين بعدُ. فهو كلام مردود، والمغلط هو الغالط، فإنه ذكر الركعتين قبلُ، وبعدُ، فلم يَهِمْ من موضع إلى موضع، ولم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتى يُغَلَّطَ، فقَدْ تابعهُ أبو نعيم، عند البخاري، والنسائي، وأبو عاصم عند ابن خزيمة، وعمر ابن علي عند الإسماعيلي، وعبد الله بن نمير عند أحمد، كلهم عن سيف، ولم ينفرد به سيف أيضًا، فقد تابعه عليه خُصَيْف، عن مجاهد، عند أحمد، ولم ينفرد به مجاهد عن ابن عمر، فقد تابعه عليه ابن أبي مليكة عند أحمد والنسائي، وعمرو بن دينار، عند أحمد أيضًا باختصار، ومن حديث عثمان بن أبي طلحة، عند أحمد، والطبراني بإسناد قوي. ومن حديث أبي هريرة عند البزار، ومن حديث عبد الرحمن بن صفوان، قال:"فلما خرج سألت من كان معه؟ فقالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى" أخرجه الطبراني بإسناد صحيح. ومن حديث شيبة بن عثمان، قال:"لقد صلى ركعتين عند العمودين". أخرجه الطبراني بإسناد جيد.
فالعجب من الإقدام على تغليط جبل من جبال الحفظ بقول من خفي عليه وجه الجمع بين الحديثين، فقال بغير علم، ولو سكت لسلم. انتهى. "فتح" جـ 3 ص 596 - 597.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الحافظ في وجه الجمع
بين الحديثين أقرب مما تقدم، وحاصله أن ابن عمر رضي الله عنه فهم من إشارة بلال رضي الله عنه أنه صلى ركعتين، ثم ندم على عدم تثبته بالسؤال اللفظي عن عدد الركعات، فبهذا تجتمع الروايتان. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
6 - فَضْلُ المَسْجِدِ الأقْصَى، والصَّلاةُ فيهِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على بيان فضل المسجد الأقصى، وفضل الصلاة فيه.
يقال لبيت المقدس: المسجد الأقصى على الصفة، ومسجد الأقصى على إضافة الموصوف إلى الصفة، وقد جوزه الكوفيون، واستشهدوا له بقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، والبصريون يؤولونه بإضمار المكان، أي المكان الذي بجانب المكان الغربي، ومسجد المكان الأقصى، ونحو ذلك، وإلى مذهب البصريين أشار ابن مالك في الخلاصة حيث قال:
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ
…
معنَى وَأوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ
وإنما قيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، وقيل: لبعد الزمان، وفيه نظر، لقوله في الحديث السابق (3/ 690): بينهما
أربعون سنة.
وقال الزمخشري: سمي الأقصى؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبث. وقيل: هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة؛ لأنه بعيد من مكة، وبيت المقدس أبعد منه.
قال الجامع: وفيه نظر؛ لأنه كان يسمى بهذا الاسم قبل المدينة.
ولبيت المقدس عدة أسماء تقرب من العشرين: منها: إيلياء،
بالمد، والقصر، وبحذف الياء الأولى. وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث. وبيت المقدس بسكون القاف، وبفتحها مع التشديد- والقدس -بغير ميم، مع ضم القاف، وسكون الدال، وضمها أيضًا- وشلم -بالمعجمة، وتشديد اللام، وبالمهملة- وشلام بمعجمة، وسَلِم -بفتح المهملة، وكسر اللام الخفيفة- وأرْوِي سَلِم -بسكون الواو، وبكسر الراء، بعدها تحتانية ساكنة، قال الأعشى [من المتقارب]:
وَقَدْ طُفْتُ لِلْمَالِ آفَاقَهُ
…
دِمَشْقَ فَحِمْصَ فأرْوِي سَلِمْ
ومن أسمائه كورة، وبيت إيل، وصهيون، ومصروث، آخره مثلثة، وكورشيلا، وبابوش -بموحدتين، ومعجمة- وقد تتبع أكثر هذه الأسماء الحسين بن خالويه اللغوي في كتاب "ليس". أفاده في الفتح جـ 3 ص 78.
وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: القدس -بضم القاف- هو بيت المقدس- زاده الله تعالى شرفًا -يقال: بفتح الميم، وإسكان القاف، وكسر الدال، ويقال: بضم الميم، وفتح القاف، وفتح الدال المشددة، لغتان مشهورتان. قال الجوهري في صحاحه: بيت المقدس، يشدد، ويخفف، والنسبة إليه مقدِسِي، مثال مَجْلِسِي، ومُقَدَّسِي. قال امرؤ القيس [من الطويل]:
فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِ وَالنَّسَا
…
كَمَا شَبْرَقَ الوِلْدَانُ ثَوْبَ المُقَدَّسِي
والهاء في أدركنه ضمير الثور الوحشي، والنون في أدركنه ضمير الكلاب. أي أدركت الكلاب الثور، فأخذن بساقه ونساه، وشَبْرَقَتْ جلده، كما شبرق ولدان النصارى ثوب الراهب المُقَدَّسِي، وهو الذي جاء بيت المقدس، فقطعوا ثيابه تبركًا بها، والشَّبْرَقَة: تقطيع الثوب، وغيره.
والقُدْس والقُدُس: الطهر، اسم ومصدر، ومنه قيل للجنة: حظِيرةَ القدس. والتقديس: التطهير، والأرض المقدسة: المطهرة.
وقال الواحدي في أول سورة البقرة: البيت المقدس -يعني بالتخفيف-: المطهر، قال: وقال أبو علي: وأما بيت المقدس -يعني بالتخفيف- فلا يخلو، إما أن يكون مصدرًا، أو مكانًا، فإن كان مصدرًا كان كقوله تعالى:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} [يونس: 4]، ونحوه من المصادر، وإن كان مكانًا، فالمعنى: بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة، أو بيت مكان الطهارة. وتطهيره على معنى إخلائه من الأصنام، وإبعاده منها. وقال الزجاج: البيت المقدس، أي المكان المطهر، وبيت المقدس، أي المكان الذي يطهر فيه من الذنوب. هذا ما ذكره الواحدي.
وقال غيره: البيت المقدس، وبيت المقدس، لغتان: الأولى على الصفة، والثانية على إضافة الموصوف إلى صفته، كصلاة الأولى، ومسجد الجامع. انتهى. كلام النووي جـ 4 ص 109، بزيادة من "لسان العرب". والله تعالى أعلم.
693 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ، سَأَلَ اللَّهَ عز وجل، خِلَالاً ثَلَاثَةً: سَأَلَ اللَّهَ عز وجل حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عز وجل مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عز وجل حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ، كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(عمرو بن منصور) النسائي، أبو سعيد، ثقة ثبت، من [11] تقدم في 108/ 147، أخرج له النسائي.
2 -
(أبو مُسْهِر) عبد الأعلي بن مسهر الغساني الدمشقي، ثقة فاضل، توفي سنة 218، وله 78 سنة، من كبار [10] أخرج له الجماعة، تقدم في 5/ 460.
3 -
(سعيد بن عبد العزيز) التنوخي الدمشقي، ثقة إمام، اختلط في آخره، من [7] تقدم في 460.
4 -
(ربيعة بن يزيد) الإيادي القصير، أبو شعيب الدمشقي، ثقة عابد، من [4] تقدم في 148.
5 -
(أبو إِدريس الخَوْلاني) عائذ الله بن عبد الله، الدمشقي، ثقة عالم، من [2] تقدم في 72/ 88.
6 -
(ابن الديلمي) عبد الله بن فيروز، أبو بشر، ويقال: أبو بسر، أخو الضحاك بن فيروز، وعم التعريف بن عياش بن فيروز، كان يسكن بيت المقدس، ثقة، من كبار التابعين، ومنهم من ذكره في الصحابة.
قال ابن معين: ثقة، وقال العجلي: شامي تابعي، ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وذكره ابن قانع في معجم الصحابة، وأبو زرعة الدمشقي في تابعي أهل الشام. وأما ابن حبان، فقال: هو عبد الله بن ديلم بن هوشع الحميري، عداده في أهل مصر. كذا قال.
وقال أبو أحمد الحاكم في الكنى: قال مسلم: أبو بشر -يعني بالمعجمة- قال: وقد بينا أن ذلك خطأ، أخطأ فيه مسلم، وغيره، وخليق أن يكون محمد -يعني البخاري- قد اشتبه عليه، مع جلالته، فلما نقله مسلم من كتابه تابعه عليه، ومن تأمل كتاب مسلم في الكنى
علم أنه منقول من كتاب محمد، حذو القُذَّة بالقذة، وتجلد في نقله حق الجلادة، إذ لم ينسبه إلى قائله، والله يغفر لنا وله. أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. انتهى تت.
7 -
(عبد الله بن عمرو) بن العاص، رضي الله عنهما، تقدم في 89/ 111. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فمن أفراده، وابن الديلمي، فانفرد به هو، وأبو داود، وابن ماجه.
ومنها: أنه مسلسل بالشاميين، إلا شيخه فنيسابوري، وأما عبد الله بن عمرو الصحابي، فإنه وإن كان نزل مصر، فقد دخل الشام، وقيل: مات بها. وقيل غير ذلك.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، ربيعة، عن أبي إدريس، عن ابن الديلمي.
ومنها: أن فيه رواية الأقران، فأبو إدريس، وابن الديلمي، كلاهما من كبار التابعين.
ومنها: أن صحابيه هو أحد السابقين المكثرين من الصحابة -كما وصفه بكثرة الرواية أبو هريرة رضي الله عنه- وأحد العبادلة الأربعة الفقهاء منهم. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بني بيت المقدس) والمراد فراغه من بنائه، لما في رواية ابن ماجه "لَمَّا فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس".
(سأل الله عز وجل خلالًا ثلاثة) الخلال -بالكسر- جمع خَلَّة، كَخَصْلَة وخِصَال، وزنًا ومعنى، و"ثلاثة" صفة، أو بدل، أو عطف بيان، له. وإنما أنث "ثلاثة" مع كون المعدود مؤنثًا؛ لأن وجوب تذكير العدد لتأنيث المعدود إنما هو إذا وقع المعدود تمييزًا، وأما إذا قدم أو حذف فلا يجب. كما هو مقرر في محله.
(سأل الله عز وجل حكمًا يصادف حكمه) أي يوافق حكم الله عز وجل. والمراد: التوفيق للصواب في الاجتهاد، وفصل الخصومات بين الناس. قاله السندي (فأوتيه) أي أعطاه الله ذلك. هذه هي إحدى الخلال الثلاث.
(وسأل الله عز وجل ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده) أي لا ينبغي لأحد أن يسأله، فكأنه سأل منع السؤال بعده، حتى لا يتعلق به أمل أحد، ولم يسأل منع الإجابة. وقيل: إن سؤاله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، ليكون محله وكرامته من الله ظاهرًا في خلق السموات
والأرض، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم تنافس في المحل عنده، فكل يحب أن تكون له خصوصية يستدل بها على محله عنده، ولهذا لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العِفْرِيت الذي أراد أن يقطع عليه صلاته، وأمكنه الله منه، أراد ربطه، ثم تذكر قول أخيه سليمان:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، فرده خاسئا.
فلو أعطي أحد بعده مثله ذهبت الخصوصية، فكأنه كره صلى الله عليه وسلم أن يزاحمه في تلك الخصوصية، بعد أن علم أنه شيء هو الذي خص به من تسخير الشياطين
(1)
، وأنه أجيب إلى ألا يكون لأحد بعده. أفاده القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره. جـ 15 ص 204 - 205.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكًا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله، وهذا هو ظاهر السياق من الآية، وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أورد حديث العفريت في الصحيحين وغيرهما.
ولفظ البخاري في التفسير: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن عفريتًا من الجن تَفَلَّتَ عليَّ البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع عليَّ الصلاة، فأمكنني الله تبارك وتعالى منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا، وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، قال رَوْحٌ:
(1)
هكذا عبارة القرطبي، وفيها ركاكة ولعل الصواب:"بعد أن علم أنه هو الذي خُصَّ بتسخير الشياطين له"، أو نحو ذلك والله تعالى أعلم.
فرده خاسئًا". انتهى. تفسير ابن كثير باختصار جـ 4 ص 41.
(فأوتيه) أي أعطي ذلك الملك، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله:{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:36 - 40].
فسخر الله تعالى له الريح تحمله بعسكره وجنوده إلى حيث أصاب، أي أراد، وسخر له الشياطين يبنون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب، وقدور راسيات، وسخر له آخرين متمردين، يقرنهم في السلاسل، وقيود الحديد تعذيبًا لهم حتى يرجعوا عن تمردهم.
ثم امتن الله تعالى عليه، حيث قال:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص: 39]، أي هذا الملك عطاؤنا، فأعط من شئت، وامنع من شئت، فلا حساب عليك.
قال الحسن رحمه الله: ما أنعم الله على أحد نعمة، إلا عليه فيه تبعة، إلا سليمان عليه السلام، فإن الله تعالى قال له:{فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص: 39].
قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى: يقال: كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا، مع ذمها من الله تعالى وبغضه لها، وحقارتها؟
فالجواب أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله تعالى وسياسة ملكه، وترتيب منازل خلقه، وإقامة حدوده، والمحافظة على رسومه، وتعظيم شعائره، وظهور عبادته، ولزوم طاعته، ونظم قانون الحكم النافذ عليهم منه، وتحقيق الوعد في أنه يعلم ما لا يعلم أحد من خلقه، حسب ما صرح بذلك لملائكته، فقال:{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
وحوشي سليمان عليه السلام أن يكون سؤاله طلبًا لنفس الدنيا، لأنه هو والأنبياء أزهد خلق الله فيها، وإنما سأل مملكتها لله، كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله؛ فكانا محمودين مجابين إلى ذلك، فأجيب نوح، فأهلك من عليها، وأعطي سليمان المملكة.
وقد قيل: إن ذلك كان بأمر من الله عز وجل على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه إلا هو وحده، دون سائر عباده، أو أراد أن يكون ملكًا عظيمًا، فقال:{لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، وهذا فيه نظر، والأول أصح.
ثم قال له: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص: 39]، وهذا يرد ما روي في الخبر: إن آخر الأنبياء دخولًا الجنة سليمان بن داود عليهما السلام لمكان ملكه في الدنيا، وفي بعض الأخبار:"يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفًا"، ذكره صاحب القوت، وهو حديث لا أصل له؛ لأنه سبحانه إذا كان عطاؤه لا تبعة فيه؛ لأنه من
طريق المنة، فكيف يكون آخر الأنبياء دخولًا الجنة، وهو سبحانه يقول:{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} [ص: 40]، وفي الصحيح "لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته". . . وقد تقدم، فجعل له من قبل السؤال حاجة مقضية، فلذا لم تكن عليه تبعة.
(وسأل الله عز وجل حين فغ من بناء المسجد) الأقصى، ظاهر رواية المصنف يدل على أن السؤال الثالث كان عند فراغه من البناء، بخلاف الأولين، لكن تقدم في رواية ابن ماجه أن الثلاثة كانت عند الفراغ، ولفظ ابن ماجه "لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثًا". .. الحديث.
فيحتمل أن يكون الدعاء الثالث مقارنًا لفراغه، بخلاف الأولين، فهما بعد الفراغ من دون مقارنة، ويحتمل أن الثلاث وقعت معًا، ويكون قوله هنا:"حين فرغ" ذكر تأكيدًا.
(أن لا يأتيه) أي لا يجيء المسجد، ولا يدخله (أحد، لا ينهزه) أي لا يحركه، يقال: نَهَزَ، نَهْزًا، من باب نَفَع: نَهَضَ ليتناول الشيء، قال الأزهري: وأصل النَّهْزِ: الدفع، وانتهز الفرصة: انتهض إليها مبادرًا. أفاده في المصباح.
(إِلا الصلاة فيه) أي أداؤها فيه، والمراد أنه ما أخرجه من بيته، إلا أداء الصلاة فيه.
(أن يخرجه من خطيئته) هكذا رواية المصنف هنا، وفي الكبرى "أن يخرجه من خطيئته".
فلابد في الكلام من استثناء يدل عليه السياق، تقديره: لا يأتيه أحد، لا ينهزه إلا الصلاة فيه، إلا أكرمه الله تعالى. وقوله: أن يخرجه. . . إلخ خبر لمحذوف، أي ذلك أن يخرجه من خطيئته، كيوم ولدته أمه، فتكون الجملة بيانًا لذلك المقدر.
وقال السندي رحمه الله: (أن يخرجه) من الإخراج، أو الخروج، والظاهر أن في الكلام اختصارًا، والتقدير:"لا يأتيه أحد، إلا يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقوله: "أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه" بدل من تمام هذا الكلام المشتمل على الاستثناء، إلا أنه حذف الاستثناء لدلالة البدل عليه، فليتأمل. والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله "أو الخروج": غير صحيح، بل هو من الإخراج فقط. ثم إن التقدير الذي ذكره فيه ركاكة، فالأولى ما
ذكرته. والله أعلم.
ولفظ ابن ماجه "وألا يأتي هذا المسجد أحد، لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". ولفظ أحمد "أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم
ولدته أمه".
(كيوم ولدته أمه) كناية عن تكفير جميع ذنوبه؛ لأن المولود حين يولد ليس عليه شيء من الذنوب.
وقوله: "كيوم" يجوز جره بالكسرة، ويجوز بناؤه على الفتح، وهو المختار، لإضافته إلى جملة فعلية، فعلها ماض، كما قال في "الخلاصة":
وابْنِ أو اعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيا
…
وَاخْتَر بِنَا مَتْلُوَّ فِعْلٍ بُنِيَا
وَقَبْلَ فِعْلِ مُعْرَبٍ أو مُبْتَدَا
…
أعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا
تنبيه:
رواية المصنف رحمه الله فيها اختصار، إذ ليس فيها بيان حال المسألة الثالثة؛ لأنه قال في كل من الأوليين:"فأوتيه"، ولم يذكر في الثالثة شيئًا، وقد بين في رواية غيره، فعند ابن ماجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أما اثنتان، فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة". ولفظ أحمد: "إن سليمان بن داود عليه السلام سأل الله ثلاثًا، فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون له الثالثة"، فذكر الحديث.
ولما كان رجاؤه صلى الله عليه وسلم في مثل هذا يفيد التحقيق، استدل به المصنف، رحمه الله، على فضل المسمجد الأقصى والصلاة فيه، وكذا فعل ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (6/ 693)، و"الكبرى"(6/ 772) عن عمرو بن منصور، عن أبي مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن
يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبد الله بن الديلمي، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه ابن ماجه في الصلاة رقم (1408) عن عبيد الله بن الجهم الأنماطي، عن أيوب بن سويد الرملي، عن أبي زرعة، يحيى بن أبي
عمرو السيباني، عن ابن الديلمي، عنه، نحوه.
وأخرجه أحمد (2/ 176)، وابن خزيمة رقم (1334).
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما بوب له المصنف، وهو بيان فضل المسجد الأقصى، وبيان فضل الصلاة فيه.
ومنها: فضل سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، حيث فضله الله تعالى بهذه الخصال.
ومنها: بيان أن الله تعالى يفضل بعض أنبيائه على بعضهم ببعض الخصال، كما قال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية [البقرة: 253].
ومنها: إثبات الاجتهاد للأنبياء، حيث إن سليمان عليه السلام طلب من الله تعالى أن يوافق حكمه حكمه، وهذا معنى الاجتهاد، إذ لو كان مراده نزول الوحي إليه بحكم الله تعالى، لما كان بينه وبين غيره من الأنبياء فرق، وهذه المسألة فيها اختلاف بين أهل العلم، ومحلها أصول الفقه، وسنعود إلى تحقيقها في المحل المناسب لها، إن شاء الله تعالى.
ومنها: مشروعية الدعاء لمن عمل عملًا صالحًا عند الفراغ منه، لأنه يكون وسيلة لقبول دعائه، فإن التوسل بالعمل الصالح من أسباب الإجابة، كما ثبت في الصحيح توسل الثلاثة الذي أطبقت على فم غارهم صخرة، بأعمالهم الصالحة، فأزالها الله تعالى، فخرجوا يمشون، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما.
ومنها: أن من أتى المسجد الأقصى ينبغي له تجريد نيته لأداء الصلاة، ومثله في ذلك سائر المساجد، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين درجة، وذلك أنه إذا توضأ، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا
الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة" الحديث. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
7 - فَضْلُ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والصَّلاةِ فِيهِ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على بيان فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان فضل أداء الصلاة فيه.
694 -
أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْديِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ، مَوْلَى الْجُهَنِيِّينَ، وَكَانَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخِرُ الأَنْبِيَاءِ، وَمَسْجِدُهُ آخِرُ الْمَسَاجِدِ.
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ نَشُكَّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمُنِعْنَا أَنْ نَسْتَثْبِتَ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ أَبُو هُرَيْرَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَتَلَاوَمْنَا أَنْ لَا نَكُونَ كَلَّمْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي
ذَلِكَ، حَتَّى يُسْنِدَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَ سَمِعَهُ مِنْهُ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ جَالَسْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ الْحَدِيثَ، وَالَّذِي فَرَّطْنَا فِيهِ مِنْ نَصِّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي آخِرُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّهُ آخِرُ الْمَسَاجِدِ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(كثير بن عبيد) بن نمير المَذْحِجِي، أبو الحسن الحمصي الحذاء المقرئ، ثقة، توفي في حدود سنة 250، من [10] أخرج له
أبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 5/ 486.
2 -
(محمد بن حرب) الخَوْلاني الحمصي الأبرش، ثقة، من [9] توفي سنة 194، تقدم في 122/ 172.
3 -
(الزُّبَيْدِي) محمد بن الوليد بن عامر، أبو الهذيل الحمصي القاضي، ثقة ثبت، من كبار أصحاب الزهري، من [7] تقدم
في 45/ 56.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم، أبو بكر المدني الإمام الحافظ الحجة، من [4] تقدم في 1/ 1.
5 -
(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني، اسمه كنيته على الصحيح، ثقة مكثر، توفي سنة بضع وعشرين ومائة، من
[3]
تقدم في 1/ 1.
6 -
(أبو عبد الله الأغر) سلمان المدني، أصله من أصبهان، ثقة من كبار [3].
قال حجاج عن شعبة: كان الأغر قاصًا من أهل المدينة، وكان رضي. وقال الواقدي: سمعت ولده يقولون: لقي عمر بن الخطاب، ولا أثبت ذلك عن أحد غيرهم، وكان ثقة، قليل الحديث.
وقال عبد الغني بن سعيد في الإيضاح: سلمان الأغر مولى جهينة، هو أبو عبد الله الأغر الذي روى عنه الزهري، وهو أبو عبد الله المدني مولى جهينة، وهو أبو عبد الله الأصبهاني الأغر، وهو أبو مسلم المديني الذي يحدث عنه الشعبي. وقال قوم: هو الأغر أبو مسلم الذي يروي عنه أهل الكوفة. وقال ابن أبجر: هو الأغر بن سليك. ولا يصح ذلك، الأغر بن سليك آخر. انتهى.
وأبو مسلم الذي يروي عنه الشعبي آخر، وكذا الأغر أبو مسلم الذي يروي عنه أهل الكوفة، وأن حديثه عند أهلها دون أهل المدينة، وهو مولى أبي هريرة، وأبي سعيد، وهذا مولى جهينة. والله أعلم.
قال الحافظ: وممن فرق بينهما البخاري، ومسلم، وابن المديني، والنسائي، وأبو أحمد الحاكم، وغيرهم، والأغر أبو عبد الله هذا ذكره
ابن حبان في الثقات. وقال ابن عبد البر: هو من ثقات تابعي أهل الكوفة. وقال ابن خلفون: وثقه الذهلي. أخرج له الجماعة.
7 -
(عبد الله بن إِبراهيم بن قارظ) وقيل: إبراهيم بن عبد الله ابن قارظ، ووهم من زعم أنهما اثنان، صدوق، من [3] أخرج له
مسلم، وأبو داود والترمذي والنسائي، تقدم في 122/ 171.
8 -
(أبوهريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فلم يخرج له الشيخان، والترمذي، وعبد الله بن إبراهيم، فما أخرج له البخاري، وابن ماجه.
ومنها: أنهم ما بين حمصيين ومدنيين، فإلى الزبيدي حمصيون، والباقون مدنيون.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعيين، الزهري عن أبي سلمة والأغر.
ومنها: أن فيه رواية الأقران، فأبو سلمة والأغر وابن قارظ أقران.
ومنها: أن صحابيه أكثر الصحابة رواية، روى 5374 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري (وأبي عبد الله الأغر، مولى الجهنيين) -بضم الجيم، وفتح الهاء- نسبة إلى جهينة قبيلة من قُضَاعة. قاله في اللب. (وكانا) أي أبو سلمة، وأبو عبد الله الأغر (من أصحاب أبي هريرة) رضي الله عنه (أنهما سمعا أبا هريرة يقول: صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل) ثوابًا (من) ثواب (ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إِلا المسجد الحرام) فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقيل: التقدير: إلا المسجد الحرام، فإنه يفضله بدون الألف، والأول هو الراجح، وتقدم تحقيقه في شرح الحديث (4/ 691)، فراجعه تستفد.
ثم علل هذا التفضيل بقوله (فإِن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء) قال الله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وأخرج الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها، فنظر إليها، قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة، خُتِمَ بِي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام".
(ومسجده آخر المساجد) قال الحافظ أبو حاتم بن حبان رحمه الله-
في صحيحه جـ 4 ص 502: يريد به آخر المساجد للأنبياء، لا أن مسجد المدينة آخر مسجد بني في هذه الدنيا. انتهى.
وقال السندي رحمه الله: أي آخر المساجد الثلاثة المشهود لها بالفضل، أو آخر مساجد الأنبياء، أو أنه يبقى آخر المساجد، ويتأخر عن المساجد الأُخَرِ في الفناء، أي فكما أنه تعالى شرف آخر الأنبياء، شرف كذلك مسجده الذي هو آخر المساجد، بأن جعل الصلاة فيه كألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام. والله أعلم. انتهى.
(قال أبو سلمة) بن عبد الرحمن (وأبو عبد الله) الأغر (لم نشك أن أبا هريرة، كان يقول عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي يخبر بهذا الحديث، آخذًا عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد أنهما كانا لا يشكان في كون أبي هريرة رضي الله عنه يخبر بهذا الحديث عنه صلى الله عليه وسلم لا من عنده، ولجزمهما بذلك لم يسألاه من أين أخذه، كما بَيَّنَا ذلك بقولهما: فَمُنِعْنَا أن نستثبت. . . إلخ.
فائدة:
يجوز في قوله: "لم نشك" تحريك كافه بالحركات الثلاث: الفتح تخفيفًا، والكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين، والضم، وهو أكثر في كلامهم، اتباعًا لحركة الفاء، وكذا كل فعل مضعف مجزوم، إذا كان مضموم الفاء، كلم يرد، أو مكسورها، كلم يَفِرّ، وأما مفتوحها، فليس فيه الضم، كلم يَعَضّ، ومثله الأمر في هذا
كله، كرُدّ، وفِرّ، وعَضّ.
(فمنعنا) ببناء الفعل للمفعول، و"نا" نائب فاعله، يقال: منعته الأمر، ومنعته من الأمر، منعًا، فهو ممنوع: أي محروم. يتعدى إلى
مفعولين تارة بنفسه، وتارة بحرف الجر إلى الثاني، كما في المصباح.
(أن نستثبت أبا هريرة في ذلك الحديث) أي نطلب منه ثبوت كون الحديث عنه صلى الله عليه وسلم. قال في اللسان: واستثبت في أمره: إذا شاور، وفحص عنه.
فقوله: أن نستثبت إلخ في تأويل المصدر مفعول ثان لمُنِعْنَا على الأول، وعلى الثاني يكون مجرورًا بمن محذوفة قياسًا، كما قال في
الخلاصة:
وَعدِّ لازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ
…
وِإنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ
نَقْلًا وَفِي أنَّ وَأنْ يَطَّرِدُ
…
مَعَ أمْنِ لَبْسٍ كعَجِبْتُ أنْ يَدُوا
والتقدير: مُنِعْنَا من استثباته في ذلك الحديث.
(حتى إِذا توفي أبو هريرة ذكرنا ذلك) الحديث (وتلاومنا) أي لام بعضنا بعضًا، أي عذله (أن لا نكون كلمنا أبا هريرة في ذلك الحديث) والمصدر المؤول مجرور بعلى مقدرة أيضًا، أي عذل بعضنا بعضًا على عدم تكليمنا إياه في شأن هذا الحديث (حتى يسنده إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِن كان سمعه منه) صلى الله عليه وسلم. وفي الكبرى "حتى
نسنده" بالنون بدل الياء، أي حتى نرويه مسندًا إليه صلى الله عليه وسلم (فبينا نحن على ذلك) أي على ذكر شأن ذلك الحديث، وتلاومهم على تقصيرهم في عدم الاستثبات.
وأصل بينا: بين، فأشبعت فتحتها، فصارت ألفًا، ويقال: بينما، وبينا، وهما ظرفا زمان، بمعنى المفاجاة، ويضافان إلى الجملة، فعلية كانت أو اسمية، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وقد يقترن بإذ وإذا، والأفصح عدمه، كما بينه ابن منظور في لسان العرب.
فبينا هنا مضافة إلى جملة نحن على ذلك، وجوابها قوله:(جالسنا عبد الله بن إِبراهيم بن قارظ) المدني (فذكرنا ذلك الحديث، و) ذكرنا الأمر (الذي فرطنا فيه) أي قصرنا فيه. يقال: فرط في الأمر، تفريطًا: قصر فيه، وضيعه، وأفرط إفراطًا، أسرف، وجاوز الحد. قاله الفيومي.
وقوله: (من نص أبي هريرة) بيان للموصول، أي من رفعه الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقال: نَصَصْت الحديثَ نَصًّا، من باب قتل: رفعته إلى من أحْدَثَه، ونص النساء العروس، نصًا، رفعنها على المِنَصَّة- بكسر الميم، وهي الكرسي الذي تقف عليه في جِلائها. قاله الفيومي.
يعني أنهما ذكرا لعبد الله بن إبراهيم تفريطهما في شأن هذا الحديث، حيث إنهما لم يسألاه هل سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو لا؟
قال الجامع عفا الله عنه: إنما تلاوما على هذا، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى ذلك، إذ الحديث ليس مما يقال من قبل الرأي، فهو مرفوع حكمًا لكونهما تركا الأولى في ذلك، وهو الرفع اللفظي، فإنه أرفع منزلة من الرفع الحكمي.
والحاصل أنهما تأسفا على عدم تلقيهما الحديث مرفوعًا لفظًا، وإن كان مرفوعًا حكمًا. والله أعلم.
(فقال لنا عبد الله بن إِبراهيم: أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإِني آخر الأنبياء، وإِنه آخر المساجد) الظاهر أن الحديث فيه اختصار من أوله، وهو قوله:"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام"، فتكون الفاء في قوله:"فإني" للتعليل، كما سبق.
ويدل على أن عبد الله بن إبراهيم سمع أول الحديث المذكور من أبي هريرة رضي الله عنه ما يأتي للمصنف في المناسك، من طريق سعد بن إبراهيم: أن أبا سلمة قال: سألت الأغر عن هذا الحديث، فحدث الأغر، أنه سمع أبا هريرة، يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا الكعبة".
يعني أن عبد الله بن إبراهيم أفادهما كون أبي هريرة أثبت سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار الحديث مرفوعًا لفظًا أيضًا.
والحاصل أن أبا هريرة رضي الله عنه حدث بهذا الحديث أبا سلمة، وأبا عبد الله الأغر، وهو بصورة الموقوف، وحدث به عبد الله بن إبراهيم مصرحًا فيه بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من رواية أبي سلمة، وأبي عبد الله الأغر كلاهما عنه متفق عليه، ومن روايتهما عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، عنه أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (7/ 694)، و "الكبرى"(7/ 773) عن كثير بن عبيد، عن محمد بن حرب، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي عبد الله الأغر، كلاهما عنه، وفي "المناسك"(124/ 2899)، و"الكبرى"(124/ 3882) عن عمرو بن علي، عن محمد بن جعفر، غندر، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن الأغر، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن زيد بن رباح، وعبيد الله بن أبي عبد الله الأغر، كلاهما عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة.
ومسلم في "الحج" عن إسحاق بن منصور، عن عيسى بن المنذر، عن محمد بن حرب، بسند المصنف وسياقه.
والترمذي في "الصلاة" عن إسحاق الأنصاري، عن معن، عن مالك، به. وعن قتيبة، عن مالك، عن زيد بن رباح وحده به.
وابن ماجه في "الصلاة" عن أبي مصعب، عن مالك به عنهما.
وأخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، والطحاوي في مشكل الآثار، والدارمي، وابن حبان. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
695 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت، من [10] تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس، الإمام المدني، أبو عبد الله، ثقة ثبت حجة، من [7] تقدم في 7/ 7.
3 -
(عبد الله بن أبي بكر) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني القاضي، ثقة، توفي سنة 135، عن 70 سنة، أخرج
له الجماعة، تقدم في 118/ 163.
4 -
(عباد بن تميم) بن غزية الأنصاري المازني المدني، ثقة، من [3] وقيل: له رؤية، تقدم في 59/ 74.
5 -
(عبد الله بن زيد) بن عاصم بن كعب الأنصاري المازني، أبو محمد الصحابي المشهور رضي الله عنه، استشهد بالحرة سنة 63، أخرج له الجماعة، تقدم في 80/ 97. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن زيد) رضي الله عنه، أنه (قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة") "ما" اسم موصول مبتدأ، والظرف صلتها، و"روضة" خبرها، و"من رياض الجنة" بيان لما.
فقوله: "ما بين بيتي ومنبري" كذا وقع عند البخاري في فضائل المدينة، في رواية الأكثرين، قال الحافظ: ووقع في رواية ابن عساكر وحده "قبري" بدل "بيتي"، وهو خطأ، فقد تقدم هذا الحديث في كتاب الصلاة قبيل الجنائز بهذا الإسناد بلفظ "بيتي"، وكذلك هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه.
وقال القرطبي: الرواية الصحيحة "بيتي" ويروى "قبري" وكأنه بالمعنى؛ لأنه دفن في بيت سكناه.
نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات، وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ القبر، فعلى هذا المراد بالبيت في قوله:"بيتي" أحد بيوته، لا كلها، وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ "ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة"، أخرجه الطبراني في الأوسط. انتهى. فتح جـ 4 ص 120، بزيادة من جـ 3 ص 84.
وقد أخرج النسائي في "الكبرى" في "المناسك"(313/ 4289)، قال: أنبأنا قتيبة بن سعيد، والحارث بن مسكين قراءة عليه، وأنا
أسمع، عن سفيان عن عمار الدهني، عن أبي سلمة، عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" قال النسائي في حديث الحارث: "ما بين قبري ومنبري".
قال الجامع عفا الله عنه: رجاله رجال الصحيح، فما قاله في الفتح من أن رواية "قبري" خطأ غير صحيح، اللهم إلا إذا أراد بالنسبة
لرواية البخاري.
فالصواب أن رواية "قبري" صحيحة، ويكون ذلك علمًا من أعلام النبوة، بأن أشار صلى الله عليه وسلم أنه سيدفن في ذلك المحل، أو يكون من الرواية بالمعنى، والأول أولى. والله أعلم.
ثم قيل: هو على ظاهره، وأنه روضة حقيقة، بأن ينقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة.
وقال في "الفتح": قوله: "روضة من رياض الجنة": أي كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة، وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر، لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم، فيكون تشبيهًا بغير أداة، أو المعنى: أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة، فيكون مجازًا، أو هو على ظاهره، وأن المراد أنه روضة حقيقة، بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة. هذا محصل ما أوله العلماء في هذا الحديث، وهي على ترتيبها هذا في القوة. انتهى. "فتح" جـ 3 ص 120.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأولى كون الحديث على ظاهره؛ لأن حمل النص على ظاهر ما يتبادر إلى الذهن إذا أمكن هو المتعيّن، ثم هو مع ذلك لا ينافي المعاني الأُخَر، بأن يقال: هو روضة من رياض الجنة، وهو محل نزول الرحمة، وأن العبادة فيه توصل إلى الجنة. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (7/ 695)، و"الكبرى" هنا (7/ 774)، وفي المناسك (313/ 4289) عن قتيبة، عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو ابن حزم، عن عباد بن تميم، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم.
فأخرجه البخاري في آخر "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، به.
ومسلم في "المناسك" عن قتيبة، عن مالك، به. وعن يحيى بن
يحيى، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن يزيد بن الهاد، عن أبي بكر بن حزم به. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
696 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ قَوَائِمَ مِنْبَرِي هَذَا رَوَاتِبُ فِي الْجَنَّةِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد المذكور قبله.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمد الكوفي، ثم المكي الإمام الحجة المثبت، من [8] تقدم في 1/ 1.
3 -
(عمار الدُّهْنِيُّ) بن معاوية، ويقال: ابن أبي معاوية، ويقال: ابن صالح، ويقال: ابن حبان، أبو معاوية البجلي الكوفي، صدوق يتشيع، من [5].
قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال ابن المديني، عن سفيان: قطع بشر بن مروان عرقوبيه في التشيع. وقال القواريري، عن أبي بكر بن عياش: قال لي عمار: إنه لم يسمع من سعيد بن جبير. وذكره ابن حبان في الثقات. قال مطين: مات سنة 133، أخرج له مسلم، والأربعة.
فائدة:
الدُّهْني -بضم الدال المهملة، وسكون الهاء، وفي آخره نون: نسبة إلى دُهْن بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار، وهو بطن من بَجِيلة. قاله في اللباب جـ 1 ص 520.
4 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني ثقة فقيه، من [3] تقدم في 1/ 1.
5 -
(أم سلمة) هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية، أم المؤمنين رضي الله عنها، توفيت سنة 62 على الأصح، أخرج لها الجماعة، تقدمت في 123/ 183. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا عمارًا، فلم يخرج له البخاري.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، فإن عمارًا الدهني من الطبقة الخامسة، يروي عن أبي الطفيل.
ومنها: أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أم سلمة) رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن قوائم
منبري) جمع قائمة، وهي ما يقوم عليها المنبر، كقوائم الدابة، وفي اللسان: وقوائم الخِوَان، ونحوها: ما قامت عليه. قال الجوهري: قائم السيف، وقائمته: مَقْبِضُهُ، والقائمة: واحدة قوائم الدواب. وقوائم الدواب: أرْبَعَتُهَا، وَقد يستعار ذلك في الإنسان. انتهى.
(رواتب في الجنة) جمع راتبة، من رتب: إذا انتصب قائمًا، أي إن الأرض التي هو فيها من الجنة، فصارت القوائم مقرها الجنة، أو أنه
سينقل إلى الجنة. والله أعلم. قاله السندي.
وقال في "الفتح" في شرح حديث "ومنبري على حوضي"، ما نصه: أي ينقل يوم القيامة، فينصب على الحوض. وقال الأكثر: المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة، وهو فوقه. وقيل: المراد المنبر الذي يوضع له يوم القيامة، والأول أظهر. ويؤيده حديث أبي سعيد المتقدم. ورواه الطبراني في الكبير من حديث أبي واقد الليثي، رفعه:"إن قوائم منبري رواتب في الجنة".
وقيل معناه: أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض، ويقتضي شربه منه. والله أعلم. ونقل ابن زبالة أن ذراع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعًا، وقيل: أربع وخمسون وسدس، وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع، وهو الآن كذلك، فكأنه نقص لما أدخل من
الحجرة في الجدار.
واستدل به على أن المدينة أفضل من مكة؛ لأنه أثبت التي بين البيت والمنبر من الجنة، وقد قال في الحديث الآخر:"لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها".
وتعقبه ابن حزم بأن قوله: إنها من الجنة مجاز، إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118]، وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، كما يقال في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الجنة تحت ظلال السيوف" قال: ثم لو ثبت أنه على الحقيقة لما كان الفضل إلا لتلك البقعة خاصة، فإن قيل: إن ما قرب منها أفضل مما بعد، لزمهم أن يقولوا: إن الجحفة أفضل من مكة، ولا قائل به. انتهى. "فتح" جـ 4 ص 120.
تنبيه:
حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا صحيح، وهو من أفراد المصنف رحمه الله، كما أشار إليه في "تحفة الأشراف" جـ 13 ص 41 - أخرجه هنا (7/ 696)، و"الكبرى"(7/ 775)، وفي "المناسك" منه (312/ 4287) عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن عمار بن معاوية الدهني، عن أبي سلمة، عنها. وعن عمرو بن علي، عن يحيى، عن سفيان الثوري، عن عمار، به.
تنبيه:
أسقط في نسخة "الكبرى" ذكر سفيان الثوري بعد يحيى، فجعله عن يحيى، عن عمار، والإصلاح من "تحفة الأشراف" جـ 13 ص 41. فتنبه.
وأخرجه ابن حبان، وابن سعد في الطبقات، وأبو نعيم في "الحلية"، وأحمد. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
8 - ذِكْرُ المَسْجِدِ الذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على بيان المسجد الذي بنيت قواعده على تقوى الله تعالى.
697 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الآخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هُوَ مَسْجِدِي هَذَا".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) المتقدم في الذي قبله.
2 -
(الليث) بن سعد، أبو الحارث الإمام الفقيه الحجة الثبت المصري، من [7] تقدم في 31/ 35.
3 -
(عمران بن أبي أنس) القرشي العامري المدني، نزيل الإسكندرية، ثقة من [5].
قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال ابن
يونس: قدم الإسكندرية سنة 100، وكان سماع الليث منه بالمدينة، وتوفي بالمدينة سنة 117، وكذا أرخه ابن حبان في الثقات، وزعم أن اسم أبيه عبد العزيز بن شُرَحْبيل بن حسنة. وقال العجلي: مدني ثقة.
وقال ابن سعد: كانوا يزعمون أنهم من بني عامر بن لؤي، والناس يقولون: إنهم موالي، ثم انتموا بعد ذلك إلى اليمن، ومات عمران قديمًا، وله أحاديث.
وقال ابن إسحاق: حدثني عمران بن أبي أنس، وكان ثقة.
وحكي عن ابن أبي شيبة أن أبا أنس كان مولى لعبد الله بن سعد بن أبي السرح، واسمه نوفل.
أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأخرج له البخاري في "الأدب المفرد".
4 -
(ابن أبي سعيد الخدري) عبد الرحمن بن سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي، ثقة، توفي سنة 112 عن 77 سنة، من [3] أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم، والأربعة. تقدم في 1/ 326.
5 -
(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 169/ 262. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، أخرجوا لهم، إلا عمران، فأخرج
له البخاري في الأدب المفرد، ولم يخرج له ابن ماجه، وابن أبي سعيد، فعلق عنه البخاري.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، فعمران بن أبي أنس روى عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو صحابي.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.
ومنها: أن فيه أبا سعيد الخدري أحد المكثرين السبعة من الصحابة، روى (1170) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه، أنه (قال: تمارى رجلان) أي تخاصما، وتجادلا، وفي رواية أحمد والترمذي "امترى رجل من بني خُدْرَة، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؟، فقال: "هو هذا" يعني مسجده، وفي ذلك خير كثير".
(في المسجد الذي أسس على التقوى) أي في المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} الآية [التوبة: 108].
فقوله: "أسس على التقوى: أي بنيت جُدُرُه، ورُفِعت قواعده.
والأُس: أصل البناء، وكذلك الأسَاسُ، والأسسُ مقصور منه.
وجمع الأُس: إِسَاس، مثل عُسِّ، وعِسَاسَ، وجمع الأسَاس: أسُس، مثل قَذَال، وقُذُل، وجمع الأسَسِ: آسَاس، مثل سَبَب، وأسباب. انتهى. تفسير القرطبي جـ 1 ص 259.
وتأسيس البناء: تثبيته، ورفعه. ومعنى تأسيسه على التقوى: تأسيسه على الخصال التي تتقى بها العقوبة. انتهى. فتح القدير جـ 2 ص 403.
(من أول يوم) متعلق بأسس، أي أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه. فمن لابتداء الغاية في الزمان، كما في قول الشاعر [من الطويل]:
تُخُيِّرْنَ مِنْ أزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمَةٍ
…
إِلَى اليَوْمِ قَدْ جُرِّبْنَ كُلَّ التَّجَارِب
وقيل: من بمعنى "في".
(فقال رجل) تقدم في رواية أحمد، والترمذي: أنه من بني عمرو ابن عوف (هو) أي المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم (مسجد قباء) موقع بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الجنوب، نحو ميلين، وهو -بضم القاف، يقصر، ويمد، ويصرف، ولا يصرف. قاله الفيومي.
(وقال الآخر) هو الرجل الخدري (هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعند أحمد والترمذي: "فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال": (هو مسجدي هذا) أي المسجد الذي ذكره الله تعالى بقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108]، هو مسجدي هذا. وزاد أحمد والترمذي:"وفي ذلك خير كثير".
قال النووي رحمه الله: هذا نص بأنه المسجد الذي أسس على التقوى المذكور في القرآن، ورَدٌّ لما يقوله بعض المفسرين: إنه مسجد قباء. وقال العراقي رحمه الله في شرح الترمذي: قد وردت أحاديث تدل على أنه مسجد قباء، وهذا الحديث أرجح وأصح وأصرح. وقال ابن عطية رحمه الله في تفسيره: الذي يليق بالقصة أنه مسجد قباء، قال: إلا أنه لا نظر مع الحديث. انتهى. "زهر".
قال الجامع: سأحقق اختلاف أهل العلم في هذا الموضوع في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، ونعم الوكيل.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان المواضع التي ذكره المصنف فيها:
أخرجه هنا (8/ 697)، والكبرى (8/ 776)، وفي التفسير فيه
(11228)
عن قتيبة، عن الليث، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم والترمذي.
فأخرجه مسلم في "الحج" عن أبي بكر بن أبي شيبة، وسعيد بن عمرو الأشعثي، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن حميد الخراط، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عنه. وعن محمد ابن حاتم، عن يحيى القطان، عن حميد، عن أبي سلمة: أنه سأل عبد الرحمن بن أبي سعيد، كيف سمعت أباك في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فذكره، فقال: هكذا سمعت أباك.
وأخرجه الترمذي في "التفسير" بسند المصنفة وقال: حسن صحيح.
وأخرجه أحمد في مسنده (3/ 23، 91، 24، 8، 89). والله أعلم.
المسألة الرابعة: اختلف أهل العلم في المعنى المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108].
فقالت طائفة: إنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، واختاره ابن جرير الطبري.
وقالت طائفة: إنه مسجد قباء، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري عن عروة بن الزبير، وبه قال عطية العوفي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والشعبي، والحسن البصري، ونقله البغوي عن سعيد بن جبير، وقتادة. انظر تفسير ابن كثير جـ 2 عى 404 - 405.
وقال في الفتح: وقد اختلف في المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] فالجمهور على أن المراد به مسجد قباء، وهو ظاهر الآية، ثم ذكر حديث أبي سعيد المذكور، وغيره، ثم قال: قال القرطبي: هذا السؤال صدر ممن ظهرت له المساواة بين المسجدين في اشتراكهما في أن كلًا منهما بناه النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فأجاب بأن المراد مسجده، وكأن المزية التي اقتضت تعيينه دون مسجد قباء، لكون مسجد قباء لم يكن بناؤه بأمر جزم من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، أو كان رأيًا رآه بخلاف مسجده، أو كان حصل له أو لأصحابه فيه من الأحوال القلبية ما لم يحصل لغيره. انتهى.
ويحتمل أن تكون المزية لما اتفق من طول إقامته صلى الله عليه وسلم بمسجد المدينة، بخلاف مسجد قباء، فما أقام به إلا أيامًا قلائل، وكفى بهذا مزية، من غير حاجة إلى ما تكلفه القرطبي.
والحق أن كلًا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية:
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108]، يؤيد كون المراد مسجد قباء، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نزلت {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} في أهل قباء".
وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء. والله أعلم.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا؛ لأن كلا منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي، وزاد غيره أن قوله تعالى:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يقتضي أنه مسجد قباء؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة. والله أعلم. انتهى. "فتح" جـ 7 ص 288 - 289.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في تفسيره: وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري، قال: اختلف رجلان، رجل من بني خدرة، وفي لفظ: تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: العَمْرِي: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن ذلك؟ فقال:"هو هذا المسجد"، لِمَسْجِدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"وفي ذلك خير كثير"، يعني مسجد قباء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والزبير بن بكار في أخبار المدينة، وأبو يعلى، وابن حبان، والطبراني، والحاكم في الكنى، وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب، والضياء في المختارة، عن أبي بن كعب، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: "هو مسجدي هذا".
وأخرج الطبراني، والضياء المقدسي في المختارة، عن زيد بن ثابت مرفوعًا، مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه، والطبراني من طريق عروة ابن الزبير، عن زيد بن ثابت، قال: المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عروة: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير منه، إنما نزلت في مسجد قباء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه عن ابن عمر، قال: المسجد الذي أسس على التقوى: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج المذكوران عن أبي سعيد الخدري مثله.
وقد روي عن جماعة غير هؤلاء مثل قولهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في
الدلائل عن ابن عباس أنه مسجد قباء، وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك مثله.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: ما خلاصته: أنه لا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عين هذا المسجد الذي أسس على التقوى، وجزم بأنه مسجده صلى الله عليه وسلم، كما قدمنا من الأحاديث الصحيحة، فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة، ولا جماعة منهم، ولا غيرهم، ولا يصح إيراده في مقابلة ما قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فائدة من إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء، فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى، على أن ما ورد في فضائل مسجده صلى الله عليه وسلم أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء بلا شك.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الشوكاني رحمه الله، واختاره قبله ابن جرير، وابن عطية، والقرطبي في تفسيرهم، من ترجيح قول من قال بظاهر حديث الباب، من أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا مسجد قباء، تحقيق حقيق بالقبول، لموافقته الصريح الصحيح من النقول. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
9 - فَضْلُ مَسْجِد قُبَاء، والصَّلاةِ فِيهِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على فضل مسجد قباء، وفضل الصلاة فيه.
وقباء -بضم القاف، وتخفيف الباء الموحدة-: فيه أربع لغات:
المد، والقصر، والصرف، وعدمه. كما تقدم قريبًا. ومثله في هذا الضبط حِرَاء.
وقال في الفتح: وقباء- بضم القاف، ثم موحدة ممدودة عند أكثر أهل اللغة، وأنكر السكري قصره، لكن حكاه صاحب العين. قال البكري: من العرب من يذكره، فيصرفه، ومنهم من يؤنثه، فلا يصرفه. وفي المطالع: هو على ثلاثة أميال من المدينة. وقال ياقوت: على ميلين، على يسار قاصد مكة، وهو من عوالي المدينة. وسمي باسم بئر هناك، والمسجد المذكور هو مسجد بني عمرو بن عوف، وهو أول مسجد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. "فتح" جـ 3 ص 82.
698 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا.
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة) بن سعيد المذكور في السابق.
2 -
(مالك) بن أنس الإمام المدني المذكور قبل الباب الماضي.
3 -
(عبد الله بن دينار) العدوي مولى ابن عمر، أبو عبد الرحمن المدني، ثقة، من [4] توفي سنة 127، تقدم في 167/ 260.
4 -
(ابن عمر) عبد الله العدوي الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو الرابع والثلاثون من رباعيات الكتاب.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، وقتيبة، وإن كان بغلانيًا، فقد دخل المدينة.
ومنها: أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما، أحد المكثرين السبعة، روى (2263) حديثًا، وأحد المفتين من الصحابة رضي الله عنهم، وأحد العبادلة الأربعة منهم. وقد تقدم هذا غير مرة، وإنما أعدته تذكيرًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عمر) رضي الله عنهما، أنه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء) وعند البخاري:"كان يزوره"(راكبًا وماشيًا) أي راكبًا أحيانًا، وماشيًا أحيانًا. والمراد أنه يأتيه بحسب ما تيسر له، والواو بمعنى "أو".
زاد مسلم من رواية نافع "فيصلي فيه ركعتين". وعلقه البخاري. وادعى الطحاوي أن هذه الزيادة مدرجة، وأن أحد الرواة قاله من عنده، لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن لا يجلس حتى يصلي.
قال الجامع: هذا الذي قاله الطحاوي دعوى بلا حجة، بل هي زيادة صحيحة مسندة، فتبصر، والله أعلم.
وللشيخين من رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيًا وراكبًا، وكان عبد الله بن عمر يفعله".
ودل حديث الباب على اختلاف طرقه على استحباب إتيان مسجد قباء، وصلاة ركعتين فيه، وأن ذلك ليس من باب شد الرحل المنهي عنه في الباب الآتي؛ لأن ذلك كناية عن السفر، وهذا ليس سفرًا.
وفيه -كما قال في الفتح- جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة، والمداومة على ذلك.
قال الجامع: يعني إلا ما ورد النهي عنه، كالنهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصوم، وليله بالقيام. والله أعلم.
وقال النووي رحمه الله: فيه جواز تخصيص بعض الأيام بالزيارة، وهذا هو الصواب، وقول الجمهور، وكره ابن مسلمة المالكي ذلك، قالوا: لعله لم تبلغه هذه الأحاديث. والله أعلم.
والسر في كونه صلى الله عليه وسلم يخص السبت بالإتيان فيه، كونه أمكن لمواصلة الأنصار، وتفقد أحوالهم، وحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (9/ 698)، و"الكبرى"(9/ 777) عن قتيبة، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" في مسجد مكة والمدينة عن مسدد.
ومسلم في "الحج" عن محمد بن المثنى.
وأبو داود فيه عن مسدد، كلاهما عن يحيى القطان، عن عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عنه.
ومسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير- وأبي بكر بن أبي شيبة.
وأبو داود عن عثمان بن أبي شيبة، ثلاثتهم عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، به. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
699 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَمِّعُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْكِرْمَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: قَالَ أَبِي: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ، مَسْجِدَ قُبَاءٍ، فَصَلَّى فِيهِ، كَانَ لَهُ عِدْلَ عُمْرَةٍ".
رجال هذا الإسناد: خمسه
1 -
(قتيبة) بن سعيد المتقدم قريبًا.
2 -
(مُجَمِّع بن يعقوب) بن مجمع بن يزيد بن جارية الأنصاري القبائي المدني، صدوق، من [8].
قال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ليس به بأس، وكذا قال النسائي. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن سعد: كان ثقة. مات
سنة 160 بالمدينة، وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: هذا وهم في تاريخ وفاته، فإن رحلة قتيبة كانت بعد السبعين ومائة. انتهى. وقد أرخه في سنة ستين أيضًا خليفة بن خياط، وابن قانع، فينظر في رواية قتيبة. انتهى تت. أخرج له أبو داود، والنسائي.
3 -
(محمد بن سليمان الكرماني) المدني القُبَائِي، نزيل كرمان، مقبول، من [6].
روى عن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف، عن أبيه في فضل مسجد قباء. وعنه سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، وعبد الرحمن بن أبي الموالي، وعاصم بن سويد القبائي، وعبد العزيز الدراوردي، وعيسى ابن يونس، ومجمع بن يعقوب الأنصاري، وحاتم بن إسماعيل. ذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له النسائي، وابن ماجه.
فائدة:
الكرماني -بكسر، فسكون- نسبة إلى كِرْمَان وِلاية كبير، وإلى مُرَبَّعَة الكرمانية، محلة بنيسابور. قاله في "اللب" جـ 2 ص 206.
4 -
(أبو أمامة بن سهل بن حنيف) اسمه أسعد معروف بكنيته، وله رؤية، من [2] تقدم في 509.
5 -
(سهل بن حُنَيف) بن واهب بن العكيم بن ثعلبة بن مجدعة
ابن الحارث الأوسي الأنصاري، أبو ثابت، ويقال: أبو سعيد، ويقال: أبو سعد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو الوليد المدني. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زيد بن ثابت. وعنه ابناه أبو أمامة أسعد، وعبد الله، ويقال: عبد الرحمن، وأبو وائل، وعبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، وعبيد بن السباق، ويسير بن عمرو، والرباب جدة عثمان حكيم بن عباد بن حنيف، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم.
قال ابن عبد البر: شهد بدرًا، والمشاهد كلها، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان بايعه على الموت، ثم صحب عليًا من حين بويع، فاستخلفه على البصرة، ثم شهد معه صفين، وولاه فارس، ومات سنة 38، وصلى عليه علي رضي الله عنهما، وكبر ستًا.
وقال ابن سعد: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين علي، وشهد بدرًا، وكان عمر يقول: سهل غير حزن، ولما توفي كبر علي خمسًا، ثم التفت إليهم، فقال: إنه بدري. انتهى تت، أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله موثقون.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني، وقد دخلها.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن سهل بن حنيف) رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من خرج) أي من بيته، ففي رواية ابن ماجه "من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء". . . (حتى يأتي هذا المسجد، مسجد قباء) بدل من المسجد، أو مفعول لفعل مقدر، أعني مسجد قباء. (فصلى فيه) زاد في رواية ابن ماجه "صلاة"(كان له عدل عمرة) أي مثل أجر عمرة. فعَدْلُ يحتمل الرفع على أنه اسم كان وخبرها الجار والمجرور قبله، ويحتمل النصب على الخبرية، واسم كان محذوف، أي كان عمَلُهُ المذكور عمرة، أي مثل عمرة في الأجر.
قال ابن الأثير: العدل بالفتح: ما عادله من جنسه، وبالكسر ما ليس من جنسه، وقيل: بالعكس. وقال الزجاج: العدل- بالفتح والكسر: بمعنى المثل من الجنس، أو من غير الجنس. أفاده في اللسان جـ 4 ص 2840.
وقال السندي رحمه الله: والأقرب أن الفتح في المساوي حسًا، والكسر في المساوي عقلًا، إذ الحسي يدرك بفتح العين، والعقلي بالفكر المحتاج إلى خفض العين، وغمضها، وهذا مثل العوج، والعلاقة، فهما بالفتح في المبصرات، وبالكسر في المعقولات، وهذا مبني على ما قالوا: إن الواضع الحكيم لم يهمل مناسبة الألفاظ بالمعاني قضاء لحق الحكمة. وعلى هذا فالأقرب في الحديث كسر
العين، وبه ضبط في بعض النسخ المصححة. والله أعلم. انتهى المراد من كلام السندي رحمه الله تعالى.
ومما ورد في فضل مسجد قباء ما رواه عمر بن شبة في "أخبار بيت المقدس" بإسناد صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال:"لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلى من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل".
قال الجامع عفا الله عنه: مثل هذا له حكم الرفع، إذ لا يقال من قبل الرأي. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث سهل بن حُنَيْف رضي الله عنه هذا حديث صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (9/ 699)، و"الكبرى"(9/ 777) عن قتيبة، عن مجمع بن يعقوب، عن محمد بن سليمان الكرماني، عن أبي أمامة بن سهل، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن هشام بن عمار، عن حاتم بن إسماعيل، وعيسى بن يونس، كلاهما عن محمد بن سليمان، به.
قال الحافظ المزي رحمه الله: تابعه موسى بن عبيدة، عن يوسف ابن طهمان، عن أبي أمامة. وقال:"عدل رقبة". انتهى. "تحفة"
جـ 1 ص 98.
قال الجامع عفا الله عنه: ذَكَرَ في "المسند الجامع" جـ 7 ص 244، نقلًا عن مسند عبد بن حميد ما نصه: روايةُ يوسف بن طهمان: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم جاء مسجد قباء، فركع أربع ركعات، كان ذلك كعدل عمرة ". انتهى. فليس فيه ذكر رقبة. بل هو موافق لرواية غيره في ذكر العمرة. فليحرر. والله أعلم.
وأخرجه أحمد في "مسنده" جـ 3 ص 487، وعبد بن حميد رقم 469. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
10 - ما تُشَدُّ الرِّحَالُ إليه مِنَ المَسَاجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على بيان المحل الذي تشد إليه الرحال من المساجد.
والرِّحَال -بالكسر-: جمع رَحْل -بفتح، فسكون- مثل سهم، وسهام، ويجمع على أرْحُلٍ، مثل أسْهُمٍ، وهو كل شيء يعد للرحيل، من وعاء للمتاع، ومركب للبعير، وحِلْسٍ، ورَسَنٍ. أفاده الفيومي.
وشد الرحال: كناية عن السفر. والله تعالى أعلم.
700 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمد بن منصور) الخُزَاعي الجَوَّاز المكي، ثقة، من [10] تقدم في 20/ 21.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمد الكوفي المكي الإمام الحجة المثبت، من [8] تقدم في 1/ 1.
3 -
(الزهري) محمد بن مسلم المدني الحجة الثبت، الإمام، من [4] تقدم في 1/ 1.
4 -
(سعيد) بن المسيب المدني الإمام الفقيه، الحجة، من [2] تقدم 9/ 9.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1.
ولطائف الإسناد تقدم غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لا تشد الرحال) بضم أوله، بلفظ النفي، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها. قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع، لاختصاصها بما اختصت به.
والرِّحال: جمع رَحْل، وهو للبعير كالسرج للفرس، وكنى بشد الرحال عن السفر؛ لأنه لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل، والخيل، والبغال، والحمير، والمشي، في المعنى المذكور، ويدل عليه قوله في بعض طرقه "إنما يسافر" أخرجه مسلم من طريق عمران بن أبي أنس، عن سلمان الأغر، عن أبي هريرة. قاله في "الفتح".
(إِلا إِلى ثلاثة مساجد) الاستثناء مفرغ، والتقدير: لا تشد
الرحال إلى موضع، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها؛ لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام. قال الحافظ: لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص، وهو المسجد، كما سيأتي. انتهى.
قال الجامع: والأول أولى.
(مسجد الحرام) بالجر على البدلية، ويجوز الرفع على الاستئناف، أي أحدها المسجد الحرام، كما في رواية أخرى، فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وهو مذهب الكوفيين، والبصريون يمنعونه، ويتأولون ما ورد من ذلك بإضمار مضاف، كما تقدم الكلام عليه.
وفي الفتح: قوله: المسجد الحرام، أي المحرم، وهو كقولهم الكتاب، بمعنى المكتوب، والمراد به جميع الحرم، وقيل: يختص بالموضع الذي يصلى فيه، دون البيوت، وغيرها من أجزاء الحرم.
وقال الطبري: ويتأيد بقوله: "مسجدي هذا" لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة، فينبغي أن يكون المستثنى كذلك. وقيل: المراد به الكعبة. حكاه المحب الطبري، وذكر أنه يتأيد بما رواه النسائي بلفظ "إلا الكعبة"، وفيه نظر؛ لأن الذي عند النسائي "إلا مسجد الكعبة" حتى ولو سقطت لفظة مسجد لكانت مرادة، ويؤيد الأول ما رواه الطيالسي من طريق عطاء أنه قيل له: هذا الفضل في المسجد وحده، أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم؛ لأنه كله مسجد. انتهى ما في "الفتح" جـ 3 ص 77 - 78.
(ومسجدي هذا) -وإعرابه كسابقه- المراد به مسجد الصلاة خاصة، لا كل الحرم. قاله في الزهر.
(ومسجد الأقصى) هو أيضًا من إضافة الموصوف إلى الصفة، والمراد به بيت المقدس.
قال في "الزهر": قال الشيخ تقي الدين السبكي: ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تشد الرحال إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة، وأما غيرها من البلاد فلا تشد الرحال إليها لذاتها بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك. انتهى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (10/ 700)، و "الكبرى"(10/ 779) عن محمد بن منصور الجوَّاز، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في أواخر "الصلاة" عن علي بن عبد الله، عن ابن عيينة به.
ومسلم في "الحج" عن عمرو الناقد، وزهير بن حرب كلاهما عن ابن عيينة به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن
معمر، عن الزهري به.
وأبو داود فيه عن مسدد، عن ابن عيينة به.
وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة به.
وأخرجه أحمد (2/ 234، 238، 278)، والحميدي رقم (943). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: بيان فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها، لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأول قبلة الناس جميعًا، وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الأم السالفة، والثالث أسس على التقوى.
ومنهما: أن من نذر إتيان هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها يلزمه الوفاء به؛ لأنه طاعة، والطاعة تلزم بالنذر. وسيأتي تحقيق اختلاف العلماء فيه في المسألة السادسة إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة للصلاة لا يلزمه الوفاء به؛ لأنها لا فضل لبعضها على بعض، فتكفي صلاته في أي مسجد كان، وسيأتي بيان اختلاف العلماء فيه في المسألة السابعة.
المسألة الخامسة: اختلف أهل العلم في حكم شد الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة، كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتًا، وإلى المواضع الفاضلة، لقصد التعبد فيها بالصلاة، أو غيرها، فقال
الشيخ أبو محمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها، عملًا بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين من الشافعية إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة.
ويدل عليه ما يأتي للمصنف في الجمعة (45/ 1430) من إنكار بصرة بن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه على أبي هريرة رضي الله عنه، حين لقيه راجعًا من الطور، وكان قد أتى إليه ليصلي فيه، فقال له: لو لقيتك من قبل أن تأتيه لم تأته، قال أبو هريرة: وَلمَ؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُعْمَلُ المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس". . . الحديث. فاستدل به بصرة على إنكاره إتيانه الطور، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة.
قال في "الفتح": والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة: منها أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد، بخلاف غيرها، فإنه جائز، وقد وقع في رواية لأحمد بلفظ "لا ينبغي للمطي أن تعمل"، وهو لفظ ظاهر في غير التحريم.
قال الجامع عفا الله عنه: فيه نظر، إذ هو ظاهر في المنع والتحريم، فقد كثر استعمال الشرع له في ذلك، قال الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري "شتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن
يشتمني". .. وقال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92]، وقال:{قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] وبالجملة فهذه اللفظة في استعمال الشرع عظيمة الشأن. فالقول بأنها ظاهر في غير التحريم غير صحيح. والله أعلم.
ومنها: أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة، فإنه لا يجب الوفاء به. قاله ابن بطال.
وقال الخطابي: اللفظ لفظ الخبر، ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها، أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة.
قال الجامع: هذا التخصيص لا دليل عليه، بل الظاهر إجراء عموم النص على ظاهره، فيعم النذر وغيره. والله أعلم.
ومنها: أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرجال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه المساجد الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح، أو قريب، أو صاحب، أو طلب علم، أو تجارة، أو نزهة، فلا يدخل في النهي.
قال الحافظ: ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب، قال: سمعت أبا سعيد، وذكرت عنده الصلاة في الطور، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".
وشهر حسن الحديث، وإن كان فيه بعض الضعف.
ومنها: أن المراد قصدها بالاعتكاف، فيما حكاه الخطابي عن بعض السلف أنه قال: لا يعتكف في غيرها، وهو أخص من الذي
قبله. قال الحافظ: ولم أر عليه دليلًا.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي مذهب الأولين، وهو أن النهي للتحريم عمومًا، فيحرم شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة،
إلا ما خُصَّ بالدليل، كالسفر للجهاد، والتجارة، وطلب العلم، ونحو ذلك. والله أعلم.
المسألة السادسة: اختلف أهل العلم فيمن نذر إتيان هذه المساجد الثلاثة:
فقال بوجوب الوفاء: مالك، وأحمد، والشافعي، والبويطي رحمهم الله، واختاره أبو إسحاق المروزي رحمه الله.
وقال أبو حنيفة: لا يجب مطلقًا.
وقال الشافعي رحمه الله في الأم: يجب في المسجد الحرام، لتعلق النسك به، بخلاف المسجدين الآخرين، قال الحافظ: وهذا هو المنصور لأصحاب الشافعي.
قال ابن التين: والحجة على الشافعي أن إعمال المطي إلى مسجد المدينة، والمسجدالأقصى، والصلاة فيهما قربة، فوجب أن يلزم
بالنذر، كالمسجد الحرام.
وقال ابن المنذر رحمه الله: يجب إلى الحرمين، وأما الأقصى فلا، واستأنس بحديث جابر رضي الله عنه:"أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، قال: "صل ها هنا".
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي قول الأولين، لحديث الباب، إذ شد الرحل إلى هذه المساجد مشروع، ومن نذر أن يطيع الله في المشروع لزمه الوفاء به، لما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه".
والحاصل: أن من نذر السفر إلى أحد هذه المساجد الثلاثة لزمه الوفاء به. والله أعلم.
المسألة السابعة: من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة لصلاة أو لغيرها لا يلزمه الوفاء به؛ لأنه لا فضل لبعضها على بعض، فتكفي صلاته في أي مسجد كان.
قال النووي رحمه الله: لا اختلاف في ذلك إلا ما روي عن الليث أنه قال: يجب الوفاء به. وعن الحنابلة رواية يلزمه كفارة يمين، ولا ينعقد نذره، وعن المالكية رواية إن تعلقت به عبادة تختص به، كرباط لزم، وإلا فلا، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد
قباء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يأتيه كل سبت".
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما كان من غير شد رحل يلزم الوفاء به، لقوله تعالى:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أوْفِ بِنذرك". فالوفاء بالنذر واجب بالنص، إلا أن يكون في أحد المساجد الثلاثة، فيكفيه أن يصلي ما نذره في غيرها، لكونها أفضل، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أمر من نذر أن يصلي في بيت المقدس بالصلاة في مسجده، لكونه أفضل. والله أعلم.
المسألة الثامنة: أنه قد وقع نزاع في شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بتحريمه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واحتج على ذلك بحديث الباب، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله، وألف في ذلك كتابًا، وانتصر الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي رحمه الله لابن تيمية، ورد على السبكي، وألف في ذلك كتابًا.
وخلاصة القول: أن شيخ الإسلام لا يقول بتحريم الزيارة مطلقًا، بل يقول باستحبابها، وإنما يقول بتحريم شد الرحال إليها، لحديث الباب. وقد يتوهم بعض الجهالة أنه يقول بتحريم الزيارة مطلقًا، وهذا خطأ عليه. فتنبه.
قال الجامع عفا الله عنة: عندي أن الأولى أن ينوي المسجد عند شد الرحل، فإذا وصل هناك توجه للزيارة لأنها مشروعة في أصلها
إجماعًا، فهذا أسلم، استبراء لدينه، وقد أخرج الشيخان عن النعمان
ابن بشير رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
11 - اتِّخَاذُ البِيَعِ مَسَاجِدَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية اتخاذ محل عبادة اليهود والنصارى مساجد للمسلمين.
والبِيَعُ -بكسر، ففتح-: جمع بِيعَة -بكسر، فسكون- وهي كنيسة النصارى، وقيل: كنيسة اليهود. قاله في "اللسان".
701 -
أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ مُلَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَدْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ، عَنْ أَبِيهِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: خَرَجْنَا وَفْدًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَايَعْنَاهُ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا بِيعَةً لَنَا، فَاسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْ فَضْلِ طَهُورِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ، وَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَبَّهُ فِي إِدَاوَةٍ، وَأَمَرَنَا، فَقَالَ:"اخْرُجُوا، فَإِذَا أَتَيْتُمْ أَرْضَكُمْ، فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ، وَانْضَحُوا مَكَانَهَا بِهَذَا الْمَاءِ، وَاتَّخِذُوهَا مَسْجِدًا"، قُلْنَا: إِنَّ الْبَلَدَ بَعِيدٌ، وَالْحَرَّ شَدِيدٌ، وَالْمَاءَ يَنْشَفُ؟ فَقَالَ: "مُدُّوهُ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلاَّ طِيبًا، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا بَلَدَنَا، فَكَسَرْنَا بِيعَتَنَا، ثُمَّ نَضَحْنَا مَكَانَهَا، وَاتَّخَذْنَاهَا
مَسْجِدًا، فَنَادَيْنَا فِيهِ بِالأَذَانِ، قَالَ: وَالرَّاهِبُ رَجُلٌ مِنْ طَيِّئٍ، فَلَمَّا سَمِعَ الأَذَانَ قَالَ: دَعْوَةُ حَقٍّ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ تَلْعَةً مِنْ تِلَاعِنَا، فَلَمْ نَرَهُ بَعْدُ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(هناد بن السري) أبو السري الكوفي، ثقة، من [10] تقدم في 23/ 25.
2 -
(ملازم) بن عمرو بن عبد الله بن بدر أبو عمرو اليمامي، صدوق، من [8] تقدم في 119/ 165.
3 -
(عبد الله بن بدر) بن عميرة الحنفي السُّحَيْمِي اليمامي، ثقة، من [4] تقدم في 119/ 165.
4 -
(قيس بن طلق) بن علي الحنفي اليمامي، صدوق، من [3]، تقدم في 119/ 165.
5 -
(طلق بن علي) بن المنذر الحنفي السُّحَيْمِي، أبو علي صحابي له وفادة، رضي الله عنه، تقدم في 119/ 165. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم موثقون، وأنهم من رجال الأربعة، إلا
شيخه، فأخرج له مسلم، وأخرج له البخاري في خلق أفعال العباد.
ومنها: أنه مسلسل باليماميين، إلا شيخه، فكوفي.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه، قيس عن طلق، ورواية الراوي عن جده، ملازم عن عبد الله بن بدر، قيل: إنه ابن ابنه، وقيل ابن بنته. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن طلق بن علي) الحنفي اليمامي رضي الله عنه، أنه (قال: خرجنا وَفْدًا) بفتح فسكون: وهو هنا جمع وافد، كصاحب، وصحب، يقال: وَفَدَ إليه، وعليه، يَفدُ، وَفْدًا، وَوُفُودًا، وَوفَادَةً: قَدِمَ، وورَدَ. وأوفده عليه، وإليه، وهم وُفُودٌ، وَوَفْدٌ، وأوفَادٌ، وَوُفَّدٌ. قاله المجد.
وفي اللسان: قيل: الوفد الرُّكبان المكرمون. قال الأصمعي: وقد فلان، يفد وِفَادة: إذا خرج إلى ملك، أو أمير. وقال الجوهري: وقد فلان إلى الأمير: أي ورد رسولًا. انتهى باختصار.
ونصبه على الحال من الفاعل، أي خرجنا حال كوننا وافدين، أي مرسلين من قومنا (إِلى النبي صلى الله عليه وسلم) متعلق بخرجنا، أو بوفد (فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن) بفتح الهمزة، لكونه مفعولًا ثانيًا لأخبر (بأرضنا بيعة لنا) بكسر الباء، وسكون الياء، وتجمع على بِيَعٍ، مثل سِدْرَة، وَسِدَرٍ، وهي مَعْبَدُ النَّصَارَى، قاله في
المصباح، و"ق"، وزاد في اللسان: وقيل: كنيسة اليهود. كما تقدم في أول الباب.
(فاستوهبناه من فضل طَهوره) أي طلبنا منه أن يعطينا بعض فضل طهوره، بفتح الطاء.
قال السندي: والظاهر أن المراد ما استعمله في الوضوء، وسقط من أعضائه الشريفة، ويحتمل أن المراد ما بقي في الإناء عند الفراغ من الوضوء. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول هو الصحيح، لقوله:"فتوضأ، وتمضمض، ثم صبه في إداوة" إلخ، فإنه ظاهر في كونه هو الماء الذي استعمله في الوضوء. فتنبه. والله أعلم.
(فدعاء بماء، فتوضأ، وتمضمض) يحتمل أن يريد به المضمضة التي في الوضوء، وأن يريد أنه تمضمض بعد الوضوء، وفي رواية أحمد جـ 4 ص 23 "فلما ودعنا أمرني، فأتيته بإداوة من ماء، فحثا منها، ثم مج فيها ثلاثًا، ثم أوكاها". . . وهذا يؤيد كون المضمضة مستقلة. والله أعلم.
(ثم صبه) أي صب ما توضأ، وتمضمض به (في إِداوة) بالكسر: المِطْهَرَة، وجمعها الأدَاوَى. كما في المصباح (وأمرنا) أي بالخروج، والكسر، والنضح، واتخاذ المسجد مكان البيعة، فجملة قوله (فقال: اخرجوا إِلخ) تفسير للأمر. أي قال: اخرجوا إلى بلدكم (فإِذا أتيتم
أرضكم) أي اليمامة (فاكسروا بِيعَتَكم) أي محل عبادتكم (وانضحوا) من باب ضرب، ونفع، من النضح، وهو البَلُّ بالماء، والرَّشُّ. كما في المصباح (مكانها) منصوب على الظرفية، متعلق بانضحوا، أي رُشُّوا محل البِيعَة (بهذا الماء) إزالة لأثر الشرك، وفيه التبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم (واتخذوها مسجدًا) أي اجعلوا مكان البيعة محلًا لعبادة الله تعالى، فيه مشروعية اتخاذ محل عبادة غير الله محلًا لعبادة الله تعالى.
(قلنا: إِن البلد بعيد، والحر شديد) بنصب الحر عطفًا على اسم "إن"، وفيه عطف المعمولين على معمولي عامل واحد، وهو
جائز بالاتفاق.
ويجوز رفعه على أنه مبتدأ، و"شديد" خبره، كما قال في الخلاصة:
وَجَائِزٌ رَفْعكَ مَعْطوفًا عَلَى
…
مَنْصُوبِ "إنَّ" بَعْدَ أنْ تَسْتَكْمِلا
وعلى هذا فهو من عطف الجملة على الجملة.
(والماء ينشف) وإعرابه كسابقه، و"ينشف" بفتح الشين، نَشَفًا، من باب "تعب"، ونَشْفًا، كفَلْسٍ: أي يَيْبَسُ، ويَجِفُّ.
(فقال) صلى الله عليه وسلم (مدوه) أي زيدوا عليه (من الماء، فإِنه لا يزيده إِلا طيبًا) قال السندي رحمه الله: الظاهر أن المراد أن فضل الطهور لا يزيد الماء الزائد إلا طيبًا، فيصير الكل طيبًا، والعكس غير مناسب،
فليتأمل. انتهى.
(فخرجنا) أي من المدينة (حتى قدِمنا) بكسر الدال (بلدنا) أي اليمامة (فكسرنا بِيعَتَنَا، ثم نضحنا مكانها) أي محل البيعة بذلك الماء، (واتخذْناها مسجدًا) أي جعلنا البيعة محل صلاة (فنادينا فيه) أي في ذلك المسجد (بالأذان، قال) طلق رضي الله عنه (والراهب رجل من طيئ) والراهب اسم فاعل مِنْ رَهِبَ، رَهَبًا، من باب تَعِبَ: إِذَا خاف، والاسم الرَّهْبَةُ، وجمع الراهبَ: رُهْبَان -بضم، فسكون- وربما قيل: رَهَابين -بفتحتين- وَتَرهَّبَ الراهب: انقطع للعبادة. أفاده في المصباح.
والمعنى أن الرجل الذي انقطع للعبادة في تلك البِيعَة كان من قبيلة طيىء.
(فلما سمع الأذان، قال: دعوة حق) خبر لمحذوف، أي هذه الكلمات دعوة حق.
ثم إنه يحتمل أنه آمن، وإنما ذهب إلى التلاع طلبًا للبعد عن الناس لئلا يشغلوه عن عبادته، ويحتمل أنه على دينه، وإنما قال ذلك اعترافًا يكون الأذان دعوة حق، كما قال الله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]. وهذا هو الظاهر؛ لأنه يدل عليه هروبه إلى التلعة. والله أعلم.
(ثم استقبل تَلْعَة من تِلاعنَا) يقال: استقبلت الشيء: إذا واجهته، فهو مُسْتَقْبَلٌ -بالفتح- والتَّلْعَة -بفتح، فسكون- مَجرى الماء من أعلى الوادي، والجمع: تِلاع، مثل كَلْبَةً، وكلاب، والتلعة، أيضًا: ما انهبط من الأرض، فهو من الأضداد. قاله الفيومي.
وقال المجد: التلعة: ما ارتفع من الأرض، وما انهبط منها، ضدّ، جمعه تَلَعَات، وتِلاع. انتهى.
وكلا المعنيين هنا محتمل، أي توجه إلى جبل من جبالنا، أو توجه إلى واد من أوديتنا.
(فلم نره بعد) من الظروف المبنية على الضم لقطعة عن الإضافة لفظًا، أي لم نر ذلك الراهب بعد ذلك اليوم. والله تعالى أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث طلق بن علي رضي الله عنه صحيح. وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا (11/ 701)، و"الكبرى"(11/ 780) عن هناد ابن السري، عن ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في "مسنده" جـ 4 ص 23.
المسألة الثانية: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو استحباب اتخاذ البيع مساجد، تغييرًا لأثر الشرك.
ومنها: أن فيه التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن خلط الماء المبارك كماء زمزم بماء آخر لا يخرجه عن خاصيته، إذ بركته تعود عليه، فما يفعله بعض الحجاج عند رجوعهم
إلى بلدهم من زيادة الماء على ما يحملونه من زمزم ليتكاثر فيمكنهم المواساة به لأقاربهم، وأصحابهم شيء مستحسن. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
12 - نَبْشُ القُبُورِ، وَاتِّخَاذُ أَرْضِهَا مَسْجِدًا
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية نبش القبور، واتخاذ مكانها مسجدًا للصلاة فيه.
والنَّبْشُ -بفتح فسكون-: مصدر نَبَشَ، من باب قتل، يقال: نبشت الشيء، نبشًا إذا استخرجته من الأرض، ونبشت الأرض نبشًا: كشفتها، ومنه نَبَشَ الرجل القبر، والفاعل نَبَّاش للمبالغة. أفاده الفيومي.
والمراد بالقبور قبور المشركين لا قبور الأنبياء والصالحين، بدليل الباب الآتي.
وأصرح منه ترجمة البخاري في الصحيح، حيث قال:"باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مسجد"، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
قال في الفتح عند قوله: "قبور مشركي الجاهلية" ما نصه: أي دون غيرها من قبور الأنبياء، وأتباعهم، لما في ذلك من الإهانة لهم، بخلاف المشركين، فإنه لا حرمة لهم، وأما قوله: لقول النبي صلى الله عليه وسلم. . . إلخ، فوجه التعليل أن الوعيد على ذلك يتناول من اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ومغالاة، كما صنع أهل الجاهلية، وجرهم ذلك إلى عبادتهم، ويتناول من اتخذ أمكنة قبورهم مساجد، بأن تنبش، وترمى عظامهم، فهذا يختص بالأنبياء، ويلتحق بهم أتباعهم.
وأما الكفرة فإنه لا حرج في نبش قبورهم، إذ لا حرج في إهانتهم، ولا يلزم من اتخاذ المساجد في أمكنتها تعظيم، فعرف بذلك أن لا تعارض بين فعله صلى الله عليه وسلم في نبش قبور المشركين، واتخاذ مسجده مكانها، وبين لعنه صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء مساجد لما تبين من الفرق. انتهى. فتح جـ 1 ص 624 - 625.
والحاصل أن جواز نبش القبور، واتخاذ مكانها مساجد خاص بالقبور التي لا تعظم، كقبور المشركين، وأما القبور التي تعظم، كقبور الأنبياء، فلا يجوز نبشها. ولا اتخاذ المساجد مكانها. والله أعلم.
702 -
أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ فِي عُرْضِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مَلإٍ، مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي سُيُوفِهِمْ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه رَدِيفُهُ، وَمَلأٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبٍ، وَكَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، فَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلإٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاءُوا، فَقَالَ: يَا بَنِي
النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: وَاللَّهُ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ عز وجل، قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ فِيهِ خَرِبٌ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ، وَبِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ:
اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآخِرَةِ
…
فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(عمران بن موسى) القزاز الليثي، أبو عمرو البصري، صدوق، من [10] تقدم في 6/ 6.
2 -
(عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان البصري، ثقة ثبت، من [8] تقدم في 6/ 6.
3 -
(أبو التيَّاح) يزيد بن حميد الضبعي البصري، ثقة ثبت، من [5] تقدم في 53/ 67.
4 -
(أنس بن مالك) الأنصاري الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو الخامس والثلاثون منها، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا شيخه، فانفرد به هو والترمذي وابن ماجه.
ومنها: أنه مسلسل بالبصريين.
ومنها: أن فيه أنسًا رضي الله عنه، من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة 92، أو 93، وقد جاوز 100 سنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه، أنه (قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي المدينة (نزل في عُرض المدينة) العُرْض -بضم العين المهملة وسكون الراء- الجانب، والناحية من كل شيء. أي نزل صلى الله عليه وسلم في أول قدومه في ناحية من نواحي المدينة.
وفي رواية للبخاري "نزل في عُلْو المدينة"، قال في الفتح: كل ما في جهة نجد يسمى العالية، وما في جهة تهامة يسمى السافلة، وقباء من عوالي المدينة، وأخذ من نزول النبي صلى الله عليه وسلم التفاؤل له ولدينه بالعلو. انتهى. جـ 7 ص 312.
ثم بَيَّنَ تلك الناحية بمَا أبْدَلَهُ، فقَال (في حي) -بفتح المهملة، وتشديد التحتانية- القبيلة، وجمعه أحياء (يقال لهم: بنو عمرو بن عوف) بفتح العين فيهما- أي ابن مالك بن الأوس بن حارثة، ومنازلهم بقباء، وهي على فرسخ من المسجد النبوي، وكان نزوله على كلثوم بن الهْدِم، وقيل: كان يومئذ مشركًا، وجزم به محمد بن الحسن بن زبالة في أخبار المدينة.
وكان ذلك في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، على المعتمد، وشذ من قال: يوم الجمعة. وفي رواية موسى بن عقبة، عن ابن شهاب "قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول"، ونحوه عند أبي معشر، لكن قال: ليلة الاثنين، ومثله عن ابن البرقي، وثبت كذلك في أواخر صحيح مسلم، وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق "قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول"، وعند أبي سعيد في "شرف المصطفى" من طريق أبي بكر بن حزم "قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول".
قال الحافظ رحمه الله: وهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال، وعنده من حديث عمر "ثم نزل بني عمرو ابن عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول"، كذا فيه، ولعله كان فيه "خلتا" ليوافق رواية جرير بن حازم، وعند الزبير في خبر المدينة عن ابن شهاب "في نصف ربيع الأول". وقيل: كان قدومه في سابعه.
وجزم ابن حزم بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر، وهذا يوافق قول هشام بن الكلبي: إنه خرج من الغار ليلة الاثنين أول يوم من ربيع الأول.
فإن كان محفوظًا، فلعل قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأول، وإذا ضم إلى قول أنس: إنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة، خرج منه أن دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه، لكن الكلبي جزم بأنه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه، فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط، وبه جزم ابن حبان، فإنه قال:"أقام بها الثلاثاء، والأربعاء، والخميس"، يعني: وخرج يوم الجمعة، فكأنه لم يعتد بيوم الخروج.
وكذا قال موسى ابن عقبة: إنه أقام فيهم ثلاث ليال، فكأنه لم يعتد بيوم الخروج، ولا الدخول، وعن قوم من بني عمرو بن عوف: أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يومًا، حكاه الزبير بن بكار، وفي مرسل عروة بن الزبير ما يقرب منه.
والأكثر أن قدومه كان نهارًا، ووقع في رواية مسلم "ليلًا" ويجمع بأن القدوم كان آخر النهار، فدخل نهارًا. أفاده في "الفتح" جـ 7 ص 287.
(فأقام فيهم أربع عشرة ليلة) وفي رواية للبخاري "بضع عشرة ليلة"، وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب:"أقام فيهم ثلاثًا". قال: وروى ابن شهاب عن مُجَمِّع بن جارية: "أنه أقام اثنتين وعشرين
ليلة"، وقال ابن إسحاق: أقام فيهم خمسًا، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك.
قال الحافظ: ليس أنس من بني عمرو بن عوف، فإنهم من الأوس، وأنس من الخزرج، وقد جزم بما ذكرته، فهو أولى بالقبول من غيره. انتهى.
(ثم أرسل إِلى ملأ من بني النجار) وفي نسخة "إلى الملأ" أي جماعة منهم، قال الفيومي رحمه الله: والملأ مهموز: أشراف القوم، سموا بذلك لمَلاءَتِهِمْ بما يُلْتَمس عندهم من المعروف، وجَودَة الرأي، أو لأنهم يَملئُون الَعيون أبَّهَةً، والصدور هَيْبَةً، والجمع أملاء، مثل سبب، وأسباب. انتهى.
وبنو النجار: هم بنو تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الجموح، والنجار قبيل كبير من الأنصار، منه بطون وعمائر وأفخاذ وفصائل، وتيم اللات هو النجار، سمي بذلك لأنه اختتن بقَدُوم، وقيل: بل ضرب رجلًا بقدوم فجرحه. ذكره الكلبي، وأبو عبيدة.
وإنما طلب النبي صلى الله عليه وسلم بني النجار لأنهم كانوا أخواله؛ لأن هاشمًا جده تزوج سَلْمَى بنت عمرو بن زيد، من بني عدي بن النجار بالمدينة، فولدت له عبد المطلب. قاله في "عمدة القاري" جـ 4 ص 175.
(فجاءوا متقلدي سيوفهم) بالإضافة، وهو منصوب على الحال من الفاعل، والتقلد: جعل نِجَاد السيف على المنكب. قاله العيني.
قال أنس رضي الله عنه (كأني أنظر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أنه مستحضر الآن لتلك الهيئة، وأراد بذلك تأكيد خبره بأنه لم ينس منه شيئًا، بل كأنه ينظر إليهم الآن، وهم على الهيئة المذكورة (على راحلته) جار ومجرور متعلق بحال مقدر من رسول الله، أي حال كونه راكبًا على راحلته.
والراحلة: المركب من الإبل، ذكرًا كان أو أنثى، وبعضهم يقول: الراحلة: الناقة التي تصلح أن تُرْحَلَ، وجمعها رواحل. قاله الفيومي.
وراحلته صلى الله عليه وسلم هذه أخذها من أبي بكر رضي الله عنه في الهجرة، وذلك أن أبا بكر جهز للهجرة راحلتين، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أرجو أن يؤذن لي" يعني في الهجرة، فعلفهما ورق السمر أربعة أشهر، فلما أذن له صلى الله عليه وسلم في الهجرة، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله، إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بالثمن"، فأخذها به.
قال الحافظ: وأفاد الواقدي أن الثمن ثمانمائة، وأن التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر هي القصواء، وأنها كانت من نعم بني قشير، وأنها عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلًا، وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع، وذكر ابن إسحاق أنها الجذعاء، وكانت من إبل بني الحريش، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة أنها الجذعاء. انتهى. "فتح" جـ 7 ص 277 - 278.
(وأبو بكر رضي الله عنه رديفه) جملة اسمية في محل نصب على الحال، أي حال كون أبي بكر راكبًا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرديف: الذي تحمله خلفك على ظهر الدابة، يقال: أرْدَفْتُهُ، إرْدَافًا، وارتدفته فهو رَدِيفٌ، ورِدْفٌ. قاله الفيومي.
وقال السندي رحمه الله: الرديف هو الذي يركب خلف الراكب، والمراد أنه كان راكبًا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وهما على بعير واحد، وهو الظاهر، أو على بعيرين، لكن أحدهما يتلو الآخر. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: كأن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه تشريفًا له، وتنويهًا بقدره، وإلا فقد كان لأبي بكر ناقة هاجر عليها. انتهى.
وقال العيني رحمه الله: فلعله تركها في بني عمرو بن عوف لمرض، أو غيره، ويجوز أن يكون ردها إلى مكة، ليحمل عليها أهله، وثَمَّ وجه آخر حسن، وهو أن ناقته كانت معه، ولكنه ما ركبها لشرف الارتداف خلفه؛ لأنه تابعه، والخليفة بعده. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ما استحسنه أخيرًا قريب مما قاله الحافظ رحمه الله، وهو الأولى.
وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم أردفه على ناقته ليتشرف بذلك، وليعلم الناس منزلته عنده. والله أعلم.
(وملأ من بني النجار حوله) وفي نسخة "وملأ بني النجار"
بالإضافة، وهي جملة اسمية في محل نصب على الحال أيضًا، أي حال كون أشراف بني النجار محيطين به صلى الله عليه وسلم، وإنما أحاطوا به تعظيمًا له، وفرحًا بقدومه إليهم.
(حتى ألقى) أي رحله، فالمفعول محذوف، يقال: ألقيتُ الشيء: إذا طرحته. و"حتى" غاية لمحذوف، أي واصل سيره حتى ألقى رحله (بفناء أبي أيوب) متعلق بألقى، والفِنَاء -بالكسر-: سعة أمام الدار، والجمع أفْنِيَة، وفي المجمل: فناء الدار ما امتد من جوانبها، وفي المحكم: وتبدل الباء من الفاء. ذكره العيني.
وأبو أيوب: اسمه خالد بن زيد بن كُلَيب الأنصاري النجاري رضي الله عنه من كبار الصحابة، مات غازيًا بالروم سنة 50، وقيل بعدها، وتقدمت ترجمته في 20/ 20.
تنبيه:
قال في "الفتح": وقع عند ابن إسحاق، وابن عائذ أنه ركب من قباء يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فقالوا: يا رسول الله، هَلُم إلى العَدَدِ، والعُدَدِ، والقُوَّة، انزل بين أظهرنا.
وعن أبي الأسود، عن عروة نحوه، وزاد: وصاروا يتنازعون زمام ناقته، وسمى ممن سأله النزول عندهم عتبان بن مالك في بني سالم، وفروة بن عمرو، في بني بياضة، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وغيرهما في بني ساعدة، وأبا سَلِيط، وغيره في بني عدي، يقول لكل
منهم: "دعوها، فإنها مأمورة".
وعند الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس "جاءت الأنصار، فقالوا إلينا يا رسول الله، فقال: "دعوا الناقة، فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب".
وفي حديث البراء، عن أبي بكر "فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال: إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكْرِمُهُم بذلك"، وعند ابن عائذ، عن الوليد بن مسلم، وعند سعيد بن منصور، كلاهما عن عطاف بن خالد:"أنها استناخت به أولًا، فجاءه ناس، فقالوا: المنزل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "دعوها"، فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد، ثم تحلحلت، فنزل عنها، فأتاه أبو أيوب، فقال: إن منزلي أقرب المنازل، فأذن لي أن أنقل رَحْلك، قال: "نعم"، فنقل، وأناخ الناقة في منزله".
وذكر ابن سعد أن أبا أيوب لما نقل رحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"المرء مع رحله"، وأن سعد بن زُرَارَة جاء فأخذ ناقته، فكانت عنده، قال: وهذا أثبت. وذكر أيضًا أن مدة إقامته عند أبي أيوب كانت سبعة أشهر. انتهى ما في "الفتح" جـ 7 ص 289.
وذكر في الفتح أيضًا أن البخاري أخرج في التاريخ الصغير عن ابن شهاب، قال: بين ليلة العقبة -يعني الأخيرة- وبين مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر، أو قريب منها.
قال الحافظ: هي ذو الحجة، والمحرم، وصفر، لكن مضى من ذي الحجة عشرة أيام، ودخل المدينة بعد أن استهل ربيع الأول، فمهما كان الواقع أن اليوم الذي دخل فيه من الشهر يعرف منه القدر على التحرير، فقد يكون ثلاثة سواء، وقد ينقص، وقد يزيد؛ لأن أقل ما قيل: إنه دخل في اليوم الأول منه، وأكثر ما قيل: إنه دخل الثاني عشر منه. انتهى "فتح" جـ 7 ص 291.
تنبيه:
قد ذكر الحافظ أبو الفضل زين الدين العراقي رحمه الله تعالى في ألفيته في السيرة وُصُولَه صلى الله عليه وسلم إلى قباء، ثم إلى المدينة، فأجاد في ذلك وأفاد، حيث قال:
حَتَّى إِذَا أتَى إِلَى قُبَاءِ
…
نَزَلَهَا بِالسَّعْدِ وَالهَنَاءِ
فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ لِثِنْتَي عشْرَه
…
مِنْ شَهْرِ مَوْلِدٍ فَنِعْمَ الهِجْرهُ
أقَامَ أرْبَعًا لَدَيْهِمْ وَطَلَعْ
…
فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ فَصَلَّى وَجَمَعْ
فِي مَسْجِدِ الْجُمْعَةِ وَهْوَ أوَّلُ
…
مَا جَمَّع النَّبِيُّ فِيمَا نَقَلُوا
وَقِيلَ بَلْ أقَامَ أرْبَعْ عَشْرَه
…
فِيهمْ وَهُمْ يَنْتَحِلُوْنَ ذِكْرَهْ
وَهْوَ الَّذِي أخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
…
لَكِنَّ مَا مَرَّ مِنَ الإِتْيَانِ
لِمَسْجِدِ الجُمْعَةِ يَوْمَ جُمْعَةِ
…
لا يَسْتَقِيمُ مَعَ هَذِي المُدَّةِ
إلا عَلَى قَوْلٍ بِكَونِ الْقَدْمَةِ
…
إِلى قُبَا كانَتْ بِيَومِ الجُمْعَةِ
بَنَى بِهَا مَسْجِدَهُ وارْتَحَلا
…
لِطَيبَةَ الفَيْحَاءِ طَابَتْ مَنزِلَا
فَبَرَكْتْ نَاقَتُهُ الْمَأْمُورَه
…
بِمَوْضِعِ الْمَسْجِدِ فِي الظَّهِيرَهْ
فَحَلَّ فِي دَارِ أبي أيّوبَا
…
حَتَّى ابْتَنَى مَسْجِدَهُ الرَّحِيبَا
وَحْوْلَهُ مَنَازِلًا لأهْلِهِ
…
وَحَوْلَهُ أصْحَابُهُ فِي ظِلِّهِ
طَابَتْ بِهِ طَيْبَة مِنْ بَعْدِ الرَّدَى
…
أشْرَقَ مَا قَدْ كَانَ مِنْهَا أَسْوَدَا
كَانَتْ لَمِنْ أوْبَا أرَاضِي اللهِ
…
فَزَالَ دَؤُهَا بِهَذَا الجَاهِ
وَلَيْسَ دَجَّالُ وَلا طَاعُونٌ
…
يَدْخُلُهَا فَحِرْزُهَا حَصِينُ
انتهى المقصود من كلام الحافظ العراقي رحمه الله تعالى.
(وكان يصلي حيث أدركته الصلاة) وللبخاري "وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة".
يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصلاة في أي موضع أدركه وقتها، مبادرة إليها في أول وقتها.
(فيصلي في مرابض الغنم) جمع مَرْبِضٍ، كمَجْلِسٍ، ومَقْعَدٍ: مأواها ليلًا، يقال: رَبَضَتْ الدابة، رَبْضًا، من باب ضَرَبَ، رُبُوضًا، وهو مثل بُرُوك الإبل. أفاده المجد، والفيومي.
(ثم أمر بالمسجد) بالبناء للفاعل، أي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ببناء المسجد، وروي بالبناء للمفعول، أي أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم به.
(فأرسل إِلى ملأ بني النجار) وفي نسخة "ملأ من بني النجار" بزيادة "من"(فجاءوا، فقال: يا بني النجار ثامنوني) أي قرروا معي ثمنه، وبيعونيه بالثمن. يقال: ثامنت الرجل في المبيع، أثَامِنُهُ: إذا قاولته في ثمنه، وساومته على بيعه، واشترائه. قاله في اللسان.
(بحائطكم هذا) مشيرًا إلى بستان هناك، والحائط: البستان من النخيل، إذا كان عليه حائط، وهو الجدار، وجمعه الحوائط. قاله في
اللسان. ومتعلق بثامنوني.
(قالوا: لا) وفي نسخة "ما" (نطلب ثمنه إِلا إِلى الله عز وجل أي لا نطلب الثمن إلا من الله تعالى. وقال الكرماني ما حاصله: لا نطلب ثمن المصروف في سبيل الله، وأطلق الثمن على سبيل المشاكلة، ثم قال: فإن قلت: الطلب يستعمل بمن، فالقياس أن يقال: إلا من الله. قلت: معناه: لا نطلب الثمن من أحد، لكنه مصروف إلى الله تعالى.
قال البدر العيني رحمه الله: هذا كله تعسف مع تطويل بل معناه: لا نطلب الثمن إلا من الله تعالى، وكذا وقع عند الإسماعيلي:"لا نطلب ثمنه إلا من الله"، وقد جاء "إلى" في كلام العرب للابتداء، كقوله [من الطويل]:
تَقُولُ وَقَدْ عَالَيْتُ بِالْكُورِ فَوْقَهَا
…
أيُسْقَى فَلا يَرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا
أي تقول الناقة بلسان الحال ذلك، والكور: الرحل، والسقي
بمعنى الركوب مجازًا، وإليَّ بمعنى مني. انظر مغني اللبيب مع حاشية الأمير جـ 1 ص 70 - 71.
ويجوز أن تكون "إلى" هنا على معناها لانتهاء الغاية، ويكون التقدير: نُنْهِي طلب الثمن إلى الله تعالى، كما في قولهم: أحمد إليك الله، والمعنى: أنهي حمده إليك، والمعنى هنا: لا نطلب منك الثمن بل نتبرع به، ونطلب الأجر من الله تعالى. انتهى عمدة القاري جـ 4 ص 177. بزيادة من المغني.
تنبيه:
ظاهر هذا الحديث يدل على أنه لم يشتره منهم، ولم يأخذوا منه ثمنًا، لكن وقع في صحيح البخاري في الهجرة ما ظاهره مخالف له، ففيه: قال: "ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس، حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مِرْبَدًا للتمر، لسهيل، وسهل، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: "هذا -إن شاء الله- المنزل"، ثم دعا رسول الله الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا، فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة، حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا. . ." الحديث.
فهذه الرواية تدل على أنه اشتراه منهما، وذكر أهل السير ما يدل
على أنهم أخذوا الثمن، فقد ذكر ابن سعد في الطبقات، عن الواقدي، عن معمر، عن الزهري:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يعطيهما ثمنه"، قال: وقال غير معمر: أعطاهما عشرة دنانير. قاله في الفتح.
وفي "المنهل": روي أن أسعد بن زرارة عَوَّض الغلامين نخلًا له في بني بَيَاضَة. وروي أيضًا أن أبا أيوب قال: هو ليتيمين، وأنا أرضيهما، فأرضاهما. انتهى. جـ 4 ص 56.
وقد أجاب الحافظ رحمه الله، بما حاصله أنه لا منافاة بينهما؛ لأنه يجمع بأنهم لمَّا قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله سأل عمن يختص بملكه منهم، فعينوا له الغلامين، فابتاعه منهما، فحينئذ يحتمل أن يكون الذين قالوا له: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تحملوا عنه للغلامين بالثمن، وعند الزبير أن أبا أيوب أرضاهما عن ثمنه. انتهى ما قاله في "الفتح" جـ 7 ص 290.
وقال في "المنهل" بعد ذكر نحو ما قاله الحافظ ما نصه: ويجمع بين رواية الواقدي، وما بعدها بأن أبا بكر رغب في الخير كما رغب فيه أسعد، وأبو أيوب، ومعاذ بن عفراء، فدفع أبو بكر العشرة، ودفع كل من أولئك ما دفع، فاشتركوا في الثمن. انتهى جـ 4 ص 56.
قال الجامع عفا الله عنه: الجمع المذكور حسن جدًّا، إذ به تجتمع الروايات المختلفة في الباب. والله أعلم.
(قال أنس) رضي الله عنه (وكانت فيه قبور المشركين) وللبخاري، فقال أنس:"فيه ما أقول لكم: قبور المشركين". . . (وكانت فيه خَرِب) قال ابن الأثير رحمه الله: الخِرَبُ، يجوز أن يكون بكسر الخاء، وفتح الراء، جمع خرَبَة كَنِقمَةٍ، وَنِقَم، ويجوز أن يكون جمع خِرْبَة -بكسر الخاء، وسكَون الراء- على التخفيف، كنِعْمَة، ونِعَمٍ، ويجوز أن يكون الخَرِبَ -بفتح الخاء، وكسر الراء- كَنَبِقَة، ونَبِقٍ، وكَلِمَة، وكَلِمٍ، قال: وقد روي بالحاء المهملة والثاء المثلثة، يريد به الموضع المحروث للزراعة. انتهى. نهاية جـ 2 ص 18.
وفي الفتح: قال ابن الجوزي رحمه الله: المعروف فيه: فتح الخاء المعجمة، وكسر الراء بعدها موحدة، جمع خَرِبَة، ككلم، وكلمة.
قال الحافظ: وكذا ضبط في سنن أبي داود، وقال الخطابي رحمه الله: أكثر الرواة بالفتح، ثم الكسر، وحدثناه الخيام بالكسر، ثم الفتح، ثم حكى احتمالات: منها الخُرْب- بضم أوله، وسكون ثانيه، قال: هي الخروق المستديرة في الأرض، والِجرَفُ -بكسر الجيم، وفتح الراء، بعدها فاء: ما تجرفه السيول، وتأكلهَ الأرض، والحَدَبُ -بالمهملة، وبالدال المهملة- أيضًا المرتفع من الأرض، قال: وهذا لائق بقوله: "فسوِّيتْ"؛ لأنه إنما يستوي المكان المُحْدَوْدِبُ، وكذا الذي جرفته السيول، وأما الخراب فيبنى، ويعمر دون أن يصلح، ويُسَوَّى. انتهى. "فتح" جـ 7 ص 312.
قال القاضي عياض رحمه الله رَدًّا على الخطابي: هذا التكلف لا حاجة إليه، فإن الذي ثبت في الرواية صحيح المعنى، كما أمر بقطع النخل لتسوية الأرض، أمر بالخرب، فرفعت رسومها، وسويت مواضعها لتصير جميع الأرض مبسوطة مستوية للمصلين، وكذلك فعل بالقبور.
وفي مصنف ابن أبي شيبة بسند صحيح "وأمر بالحرث، فحرث"، وهو الذي زعم ابن الأثير أنه روي بالحاء المهملة، والثاء المثلثة، يريد الموضع المحروث للزراعة. انتهى. "عمدة القاري" جـ 4 ص 178.
(وكانت فيه) أي في الحائط الذي بني في مكانه المسجدُ (نخل) اسم جمع، الواحدة نَخْلَة، وكل جمع بينه، وبين واحده الهاء. قال ابن السكيت: فأهل الحجاز يؤنثون أكثر، فيقولون: هي التمر، وهي البُرُّ، وهي النخل، وهي البقر. وأهل نجد، وتميم يذكرون، فيقولون: نخل كريم، وكريمة، وكرائم، وفي التنزيل "نخل منقعر"، و"نخل خاوية"، وأما النخيل بالياء، فمؤنثة. أفاده في "المصباح".
قال الجامع عفا الله عنه: ولكون الأكثر في النخل التأنيث، ألحق التاء بالفعل في المواضع الثلاثة. والله أعلم.
(فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنُبِشَتْ) أي كشفت، وأخرج ما فيها من العظام.
قال ابن بطال: لم أجد في نبش قبور المشركين لتتخذ مسجدًا نصًا عن أحد من العلماء، نعم اختلفوا هل تنبش بطلب المال؟ فأجازه الجمهور، ومنعه الأوزاعي، وهذا الحديث حجة للجواز؛ لأن المشرك لا حرمة له حيًّا ولا ميتًا. قاله في الفتح جـ 7 ص 312.
(وبالنخل فقطعت) أي أمر بقطع النخل، فقطعت، وهذا -كما قال في الفتح-: محمول على أنه لم يكن يثمر، أو يثمر، ولكن دعت الحاجة إليه ليمكن بناء المسجد في ذلك المكان. والله أعلم.
(وبالخَرِبِ فسويت) أي أمرهم بتعديل الخَرِب، فعدلت، يقال: سويت المكان: إذا عدلته. كما في المصباح. وإنما أمر بذلك لتستوي الأرض، فتصلح لبناء المسجد عليها.
(فصفُّوا النخل قبلة المسجد) من صَفَفْتُ الشيءَ صَفًّا. أي جعلوها سواري جهة القبلة ليسقف عليها. أفاده في المنهل.
وفي مغازي ابن بكير، عن ابن إسحاق: جعلت قبلة المسجد من اللبن، ويقال: بل من حجارة منضودة بعضها على بعض.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيًا باللَّبِنِ، وسَقْفُهُ الجريد، وعَمَدُه خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا". . . قال البدر العيني رحمه الله: ولعل المراد بالقبلة جهتها، لا القبلة المعهودة اليوم، فإن ذلك لم يكن ذلك الوقت.
(وجعلوا عضادتيه الحجارة) أي بنوا جانبي الباب بحجارة، والعِضَادتان: تثنية عضادة -بكسر العين المهملة، بعدها ضاد معجمة- وفي التهذيب للأزهري: عضادتا الباب: الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل منه، وشماله، وزاد القزاز: فوقهما العارضة. انتهى. عمدة القاري.
(وجعلوا ينقلون الصخرة) أي شرعوا، وأخذوا ينقلون الحجارة العظيمة لتأسيس المسجد. فروي أنهم أسسوه إلى ثلاثة أذرع بالحجارة، وكملوه باللبن.
(وهم يرتجزون) جملة حالية من الضمير في ينقلون، أي يقولون الرجز، ويتعاطونه، والرجز نوع من أنواع الشعر معروف، أجزاؤه "مستفعلن" ست مرات.
(ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم) جملة حالية أيضًا، إما مترادفة، أو متداخلة، أي والحال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مصاحب لهم في النقلِ، وقولِ الرجز.
(وهم يقولون) وفي بعض النسخ "وهو يقول"، والضمير عليه للنبي صلى الله عليه وسلم.
وللبخاري في الهجرة من طريق الزهري، قال:"وَطَفِقَ" رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبِنَ في بنيانه، ويقول -وهو ينقل اللبن-:
هذَا الحِمَالُ لاحِمَالُ خَيْبَرْ
…
هَذَا أبَرُّ رَبَّنَا وَأطْهَرْ
ويقول:
اللَّهُمَّ إِنَّ الأجْرَ أجْرُ الآخِرَهْ
…
فارْحَمِ الأنْصَارَ والمُهَاجِرَهْ
فتمثل بشعر رجل من المسلمين، لم يسم لي.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا -في الأحاديث- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.
قال في "الفتح": زاد ابن عائذ في آخره: "التي كان يرتجز بهن، وهو ينقل اللبن لبناء المسجد".
وقال ابن التين: أنكر على الزهري هذا من وجهين:
أحدهما: أنه رجز، وليس بشعر، ولهذا يقال لقائله راجز، ويقال: أنشد رجزًا، ولا يقال له شاعر، ولا أنشد شعرًا.
والوجه الثاني: أن العلماء اختلفوا هل ينشد النبي صلى الله عليه وسلم شعرًا، أم لا؟ وعلى الجواز، هل ينشد بيتًا واحدًا، أو يزيد؟ وقد قيل: إن البيت الواحد ليس بشعر، وفيه نظر. انتهى.
قال الحافظ: والجواب عن الأول أن الجمهور على أن الرجز من أقسام الشعر إذا كان موزونًا، وقد قيل: إنه كان صلى الله عليه وسلم إذا قال ذلك لا يطلق القافية، بل يقولها متحركة التاء، ولا يثبت ذلك.
وعن الثاني بأن الممتنع عنه صلى الله عليه وسلم إنشاؤه، لا إنشاده، ولا دليل على
منع إنشاده متمثلًا. وقول الزهري: لم يبلغنا، لا اعتراض عليه فيه، ولو ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنشد غير ما نقله الزهري؛ لأنه نفى أن يكون بلغه، ولم يطلق النفي المذكور. على أن ابن سعد روى عن عفان، عن معتمر بن سليمان، عن معمر، عن الزهري، قال:"لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من الشعر، قيل قبله، أو يروى عن غيره، إلا هذا"، كذا قال، وقد قال غيره: إن الشعر المذكور لعبد الله بن رواحة، فكأنه لم يبلغه، وما في الصحيح أصح، وهو قوله "شعر رجل من المسلمين". انتهى. "فتح" جـ 7 ص 291.
تنبيه:
قد ذكر العلامة القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] بحثًا نفيسًا، فقال:
إصابة الوزن أحيانًا لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانًا من نثر كلامه ما يدخل في وزن، كقوله يوم حنين، وغيره:
هَلْ أنْتِ إلا إصبَغٌ دَمِيتِ
…
وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ
وقوله:
أنَا النَبِيُّ لا كَذِبْ
…
أنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفي كل كلام، وليس ذلك شعرًا، ولا في معناه، كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وقوله: {نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]. وقوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]. إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ذكر ابن العربي منها آيات، وتكلم عليها، وأخرجها عن الوزن، على أن أبا الحسن الأخفش قال في قوله:"أنا النبي لا كذب":
ليس بشعر.
وقال الخليل في كتاب العين: إن ما جاء من السجع على جزءين لا يكون شعرًا. وروي عنه أنه من منهوك الرجز. وقد قيل: لا يكون من منهوك الرجز إلا بالوقف على الباء من قوله: "لا كذب". ومن قوله: "عبد المطلب". ولم يعلم كيف قاله النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربي: والأظهر من حاله أنه قال: "كَذِبٌ" الباء مرفوعة، وبخفض الباء من عبد المطلب على الإضافة.
وقال النحاس: قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرًا؛ لأنه إذا فَتَحَ الباء من البيت الأول، أو ضمها، أو نونها، وكسر الباء من البيت الثاني خرج عن وزن الشعر.
وقال بعضهم: ليس هذا الوزن من الشعر. وهذا مكابرة العيان، لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره.
وأما قوله: "هل أنت إلا إصبع دميت"، فقيل: إنه من بحر السريع، وذلك لا يكون إلا إذا كسرت التاء من دميت، فإن سكن لا
يكون شعرًا بحال؛ لأن هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعولْ، ولا مدخل لفعول في بحر السريع، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قالها ساكنة التاء، أو متحركة التاء من غير إشباع.
والمعول عليه في الانفصال على تسليم أن هذا شعر، ويُسْقِطُ الاعتراض، ولا يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالمًا بالشعر، ولا شاعَرًا أن التمثل بالبيت النزر، وإصابة القافيتين من الرجز وغيره لا يوجب أن يكون قائلها عالمًا بالشعر، ولا يسمى شاعرًا باتفاق العلماء، كما أن من خاط خيطًا لا يكون خياطًا.
قال أبو إسحاق الزجاج: معنى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69]: وما علمناه أن يشعر، أي ما جعلناه شاعرًا، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئًا من الشعر.
قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا. وقد قيل: إنما خَبَّرَ الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر، ولم يخبر أنه لا ينشد شعرًا، وهو ظاهر الكلام. وقيل فيه قول بَيِّنٌ، زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة، وذلك أنهم قالوا. كل من قال قولًا موزونًا لا يقصد به إلى شعر، فليس بشعر، وإنما وافق الشعر، وهذا قول بَيِّنٌ.
قالوا: وإنما الذي نفاه الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم فهو العلم بالشعر، وأصنافه، وأعاريضه، وقوافيه، والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفًا بذلك بالاتفاق، ألا ترى أن قريشًا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا
قدموا عليهم الموسم، فقال بعضهم: إنه شاعر، فقال أهل الفطنة منهم: والله لتكذبنكم العرب، فإنهم يعرفون أصناف الشعر، فوالله ما يشبه شيئًا منها، وما قوله بشعر.
وقال أنيس أخو أبي ذرّ: لقد وضعت قوله على أقراء الشعراء، فلم يلتئم. أخرجه مسلم. وكان أنيس من أشعر العرب- وأقراءُ الشعر: أنواعه، وطرقه، وبحوره-.
وكذلك عتبة بن أبي ربيعة لما كلمه: والله ما هو بشعر، ولا كهانة، ولا سحر. وكذلك قال غيرهما من فصحاء العرب العرباء واللُّسْن البلغاء.
ثم إن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعد شعرًا، وإنما يعد منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه، فقد يقول القائل: حدثنا شيخ لنا، وينادي: يا صاحب الكسائي. ولا يعدّ هذا شعرًا.
وقد كان رجل ينادي في مرضه، وهو من عُرض العامة العقلاء: اذهبوا بي إلى الطبيب، وقولوا: قد اكتوى. انتهى كلام القرطبي رحمه الله جـ 15 ص 52 - 54.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الجواب الأخير هو الأحسن عندي، وحاصله أن الشعر المعني في قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] هو الذي وقع عن قصد، وأما ما وقع اتفاقًا، فلا. فما وقع من كلامه صلى الله عليه وسلم موزونًا، وكذا ما أنشده لغيره،
وما وقع في الآيات القرآنية، فليس شعرًا، لما قلنا. وبهذا يزول الإشكال. والله أعلم.
(اللهم) معناه: يا الله، وقال البصريون: اللهم دعاء بجميع أسمائه، إذ الميم تشعر بالجمع، كما في عليهم، وقال الكوفيون: أصله الله أمَّنَا بخير، أي اقصدنا، فخفف، فصار "اللهم"(لاخير إِلا خير الآخرة)، وفي رواية أبي داود "اللهم إن الخير خير الآخرة (فانصر الأنصار) هكذا رواية المصنف "فانصر"، وهي رواية البخاري في الهجرة، ورواية أبي داود أيضًا، ووقع في رواية الأكثرين للبخاري "فاغفر للأنصار"، وللمستملي، والحموي "فاغفر الأنصار" بحذف اللام، بتضمين "اغفر" معنى "استر".
والأنصار: جمع نصير، كأشْراف، جمع شريف، والنصير: الناصر، من نصره الله على عدوه، ينصره، نصرًا، والاسم: النصرة، وسموا بذلك؛ لأنهم آووا النبي صلى الله عليه وسلم، وعزروه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، رضي الله عنهم.
(والمهاجرة) أي الجماعة المهاجرة، وهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة فرارًا بدينهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
والهجرة في الأصل، من الهَجْرِ، ضِدِّ الوصل، وقد هَجَرَه، هَجْرًا، وهِجْرانا، ثم غلب على الخرَوج منَ أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية. يقال منه: هاجر مهاجرة. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (12/ 702)، و"الكبرى"(12/ 781) عن عمران بن موسى، عن عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس رضي الله تعالى عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة"، وفي موضعين من الوصايا، وفي الهجرة من المناقب، عن مسدد، وفي "الحج" عن أبي معمر عبد الله ابن عمرو، وفي "البيوع" عن موسى بن إسماعيل، وفي الوصايا عن إسحاق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، وفي الهجرة عن إسحاق بن منصور، عن عبد الصمد.
ومسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، وشيبان بن فروخ، ستتهم عن عبد الوارث بن سعيد، به.
وأبو داود فيه عن مسدد به. وعن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عنه نحوه.
وابن ماجه فيه عن علي بن محمد، عن وكيع، عن حماد بن سلمة ببعضه: كان موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار. . . إلى آخر الحديث.
وأخرجه أحمد (3/ 211، 118، 180، 123، 244)، وابن خزيمة رقم (788). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز نبش قبور المشركين، واتخاذ أرضها مسجدًا للصلاة فيه.
ومنها: مشروعية الهجرة من بلاد الكفر إلى دار الإسلام.
ومنها: جواز الارتداف على دابة واحدة، لكن إذا كانت تطيق ذلك.
ومنها: جواز التِفَافِ المَرْءُوسِينَ حول رئيسهم، احترامًا له.
ومنها: أن للرئيس أن يخص بعض قومه بالنزول عنده، إذا كان قريبًا له، تقديمًا لحق القرابة.
ومنها: مشروعية الصلاة في أي مكان حضرت.
ومنها: جواز الصلاة في مرابض الغنم، وكون بعرها وبولها طاهرًا على الراجح من أقوال أهل العلم.
ومنها: المبادرة ببناء المسجد قبل بناء المنازل.
ومنها: مشروعية بيع الأرض وشرائها ومنع اغتصابها.
ومنها: مشروعية التبرع لله تعالى بما يملكه من الأراضي.
ومنها: جواز قطع الأشجار، وإن كانت مثمرة للحاجة.
ومنها: جواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها، وإخراج ما فيها.
ومنها: أن المشرك لا حرمة لدمه، ولا لعظامه بعد موته.
ومنها: جواز قول الشعر، ولا سيما الرجز للتعاون على الأعمال الشاقة لما فيها من تحريك الهمة، وتشجيع النفوس على معالجة الأمور الصعبة.
قال في "الفتح": وذكر الزبير من طريق مجمع بن يزيد، قال قائل من المسلمين في ذلك [من الرجز]:
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ
…
ذَاكَ إذًا لَلْعَمَلُ المضَلَّلُ
ومن طريق أخرى عن أم سلمة نحوه، وزاد: قال: وقال علي بن أبي طالب [من الرجز]:
لا يَسْتَوِي مَنْ يَعْمُرُ المَسَاجِدَا
…
يَدْأب فِيهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا
وَمَنْ يُرَى عَنِ التُّرَابِ حَائدًا
ومنها: أن ما ورد في كراهية البناء مختص بما زاد على الحاجة، أو لم يكن في أمر ديني، كبناء المساجد.
ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع، وكمال الخلق، حيث ينقل معهم الصخر، ويجيبهم في شعرهم.
ومنها: أن الخير كل الخير هو خير الآخرة، لكونه لا ينقطع بخلاف خير الدنيا فإنه سريع الزوال.
ومنها: استحباب الدعاء بالنصر للمسلمين. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
13 - النَّهْيُ عَنِ اتّخَاذِ القُبورِ مَسَاجِدَ
أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على النهي عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة فيها.
والمراد بالقبور: قبور الأنبياء والصالحين بدليل الباب السابق.
703 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَيُونُسَ، قَالَا: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، قَالَ -وَهُوَ كَذَلِكَ-:"لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(سويد بن نصر) أبو الفضل المروزي، ثقة، من [10]، تقدم في 45/ 55.
2 -
(عبد الله بن المبارك) أبو عبد الرحمن الحنظلي المروزي، ثبت حجة، من [8] تقدم في 32/ 36.
3 -
(معمر) بن راشد أبو عروة البصري ثم اليمني، ثقة ثبت، من [7] تقدم في 10/ 10.
4 -
(يونس) بن يزيد الأيلي، ثقة ثبت، من [7] تقدم في 9/ 9.
5 -
(الزهري) محمد بن مسلم المدني، ثبت حجة، من [4] تقدم في 1/ 1.
6 -
(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه، من [3] تقدم في 222.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5.
8 -
(ابن عباس) عبد الله، الحبر البحر رضي الله عنه، تقدم في 27/ 31.
ولطائف الإسناد تقدم غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(أن عائشة، وابن عباس) رضي الله عنهم (قالا: لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم) بالبناء للمفعول، ونائب الفاعل الجار والمجرور، والأصل: لما نَزَل الموتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الفتح: قوله: (لما نزَلَ) كذا لأبي ذر بفتحتين، والفاعل محذوف، أي الموت، ولغيره بضم النون، وكسر الزاي. انتهى. جـ 1 ص 63. فأفاد أن رواية الأكثرين بالبناء للمفعول.
(فطَفِقَ) هكذا نسخ المجتبى التي بين يدي بالفاء، ونسخة الكبرى "طفق" بدونها، وهو الذي في الصحيحين، وهو ظاهر؛ لأن "طفق" عليه جواب "لَمَّا"، والأول أيضًا له وجه صحيح؛ لأن "طفق" عطف على "نزل"، وجواب "لما" قوله:"قال" من قوله: "قال -وهو كذلك-: لعنة الله على اليهود" إلخ.
و"طفق" من أفعال الشروع التي تعمل عمل "كان"، كما أشار إليها في الخلاصة حيث قال:
كَأَنْشَأ السَّائق يَحْدُو، وَطَفِقْ
…
كذَا جَعَلْتُ، وَأَخذْتُ، وَعَلِقْ
حكى الأخفش طَفَقَ، يَطْفِقُ، مثل ضرب يضرب، وطَفِقَ يَطْفَقُ، مثل عَلِمَ يعلَمُ، ولم يستعمل له اسم فاعل، واستعمل له مصدر، حكى الأخفش طُفُوقًا، عمن قال: طفَقَ- بالفتح، وطَفَقًا عمن قال: طَفِقَ- بالكسر. ومعناه هنا: جعل. أفاده العيني.
(يطرح) جملة في محل نصب خبر "طفق"(خميصة) بالنصب مفعول "يطرح". وهي -بفتح المعجمة، وكسر الميم، بعدها ياء ساكنة، ثم صاد مهملة-: كساء أسود مربع، له علمان، فإن لم يكن معْلَمًا، فليس بخميصة، وهي ثوب خَزّ، أو صوف مُعلَم.
وقيل: لا تسمى خَمِيصَة، إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديمًا، وجمعها الخمائص.
وقيل: الخمائص: ثياب من خَزٍّ ثِخَانٌ سُودٌ، وحُمْرٌ، ولها
أعلام ثِخَان أيضًا. أفاده في اللسان.
(له) متعلق بمحذوف صفة لخميصة أي كائنة له (على وجهه) متعلق بيطرح (فإِذا اغتم) بالغين المعجمة -أي احتبس نفسه عن الخروج، وقيل: سخن بالخميصة، وأخذ بنفسه من شدة الحر. قاله السندي (كشفيها عن وجهه) أي أزال تلك الخميصة عن وجهه ليزول اغتمامه.
(قال) وللبخاري "فقال" بالفاء (-وهو كذلك-) جملة في محل نصب على الحال، وهي معترضة بين القول ومقوله، أي والحال أنه في تلك الحال، من الطرح والكشف (لعنة الله على اليهود والنصارى) مقول القول، واللعنة: الطرد والإبعاد عن الرحمة، أي أبعدهم الله عن رحمته.
وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا يقوم من مرضه ذلك، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى، إشارة إلى ذم من فعل مثل فعلهم.
(اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) جملة مستأنفة، استئنافًا بيانيًا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدر، فكأن سائلًا سأله، فقال:"ما سبب لعنهم؟ " فأجابه بقوله: "اتخذوا". . .
وزاد في الكبرى، في الوفاة:"يُحذِّرُ مثل ما صنعوا". ونحوه عند الشيخين، وهو مستأنف من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت، فأجاب بذلك.
وقد استشكل ذكر النصارى فيه؛ لأن اليهود لهم أنبياء بخلاف النصارى، فليس بين عيسى، وبين نبينا صلى الله عليه وسلم نبي غيره، وهو في السماء لم يمت، فليس له قبر:
والجواب: أنه كان فيهم أنبياء أيضًا، لكنهم غير مرسلين، كالحواريين، ومريم في قول، أو الجمع في قوله:"أنبيائهم" بإزاء المجموع من اليهود والنصارى، والمراد الأنبياء، وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده -كما قال الحافظ رحمه الله: قوله في رواية مسلم من طريق جندب "كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد"، ولهذا لما أفرد النصارى في حديث عائشة الآتي (704) قال:"إذا مات فيهم الرجل الصالح"، ولما أفرد اليهود في حديث أبي هريرة المتفق عليه، قال:"قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، أو المراد بالاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعًا، أو اتباعًا، فاليهود ابتدعت، والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود. قاله في "الفتح". جـ 1 ص 634.
تنبيه:
نقل السيوطي عن البيضاوي أنه قال: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم، تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا، لعنهم، ومنع المسلمين من مثل ذلك، فأما من اتخذ مسجدًا في جوار صالح، وقصد التبرك بالقرب
منه، لا التعظيم له، ولا التوجه نحوه، فلا يدخل في ذلك الوعيد. انتهى. وذكر في الفتح نحوه، وذكر نحوه أيضًا السندي.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا عجيب من هؤلاء الأكابر، كيف جاز لهم مثل هذا الكلام المنابذ للسنة، والمناقض للنص الصريح، وهل دخل على اليهود والنصارى هذا الضلال إلا من هذا الباب، فأول بداية ضلالهم هذا هو التبرك بقبور أنبيائهم وصالحيهم، فآل بهم الأمر إلى أن عبدوهم، ومن يرى حال أكثر الناس اليوم، فيما يفعلونه عند قبور الصالحين من أنواع الشرك والضلال، يتبين له أن ما فعله اليهود والنصارى بأنبيائهم وصالحيهم هو عين ما فعله هؤلاء.
ومن الداهية العظمى سكوت أهل العلم عن بيان ذلك، بل بعضهم يشاركهم، ويزين لهم ذلك، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة، وابن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له.
أخرجه هنا (13/ 703)، و"الكبرى"(13/ 782)، وفي "الوفاة" منه (7/ 7089)، عن سويد بن نصر عن ابن المبارك، عن معمر، ويونس، كلاهما عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة،
عنهما، و (7090) عن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، عن عمه يعقوب ابن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب به. قال: وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن الزهري.
أنبأنا عبيد الله بن سعد، قال: حدثنا عمر، قال: حدثنا أبي، عن أبي إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عائشة، وابن عباس، حدثاه أنه: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال -وهو يفعل ذلك-:"لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، حَذَرًا على أمته ما صنعوا.
وقد روى هذا الحديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
أنبأنا عمرو بن سَوَّاد بن الأسود بن عمرو، عن ابن وهب، قال: أنبيائهم مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
قال أبو عبد الرحمن: خالفه قتادة، فرواه عن سعيد بن المسيب، عن عائشة.
أنبأنا عمرو بن علي، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: "لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". انظر الكبرى جـ 4 ص 256 - 257. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي اليمان، عن شعيب، وفي اللباس عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، وفي ذكر بني إسرائيل، عن بشر بن محمد، عن ابن المبارك، عن معمر، ويونس، أربعتهم عن الزهري، به.
ومسلم في "الصلاة" عن هارون بن سعيد الأيلي، وحرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو النهي عن اتخاذ القبور مساجد، لما يترتب عليه من الفساد بتعظيمها المؤدي إلى عبادتها.
ومنها: بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من شدة العناية في تحذير أمته من الوقوع في الشرك، حتى في آخر لحظة من حياته.
ومنها: بيان اشتداد مرضه صلى الله عليه وسلم، وذلك لتضعيف درجاته، فعن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:"ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أخرجه الشيخان.
ومنها: مشروعية لعن اليهود والنصارى، لانحرافهم عن دينهم، وما أنزل الله على أنبيائهم، حتى عبدوا الأنبياء، والصالحين من دون الله،
كما قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31] الآية.
ومنها: أن من فعل مثل ما فعله اليهود والنصارى يستحق اللعن. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
704 -
أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَتَاهَا بِالْحَبَشَةِ، فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا تِيكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(يعقوب بن إبراهيم) الدورقي البغدادي، ثقة حافظ، من [10] تقدم في 21/ 22.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة حجة، من [9] تقدم في 4/ 4.
3 -
(هشام بن عروة) أبو المنذر المدني، ثقة فقيه، من [5]،
تقدم في 49/ 61.
4 -
(عروة) بن الزبير بن العوام المدني، الفقيه، ثقة، من [3]، تقدم في 40/ 44.
5 -
(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5.
ولطائف الإسناد تقدم غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها (أن أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أسلمت قديمًا، وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، ومات هناك، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي هناك سنة ست، وقيل: سنة سبع.
روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زينب بنت جحش، وعنها ابنتها حبيبة، وأخواها معاوية وعنبسة، وابن أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وابن أختها أبو سفيان بن سعيد بن المغيرة بن الأخنس بن شَرِيق، ومولاها سالم بن سوَّار، ومولاها الآخر أبو الجراح، وأبو صالح السمان، وعروة بن الزبير، وزينب بنت أم سلمة، وصفية بنت شيبة، وشهر بن حوشب، وآخرون.
قال أبو عبيد: توفيت سنة (44)، وقال ابن أبي خيثمة: توفيت
قبل معاوية بسنة، يعني سنة 59، وقال ابن حبان، وابن قانع: ماتت سنة (42)، وقال ابن عبد البر: قيل: إن اسمها هبيرة. أخرج لها الجماعة. انتهى. تت جـ 12 ص 419.
(وأم سلمة) هند بنت أبي أمية، حذيفة، ويقال: سهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن المغيرة بن مخزوم المخزومية، أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت ترجمتها في 123/ 183.
(ذكرتا) بلفظ التثنية للمؤنث من الماضي، والضمير فيه يرجع إلى أم حبيبة، وأم سلمة.
(كنيسة) -بفتح الكاف، وكسر النون: مُتَعَبَّدُ اليهود، وتطلق على متعبد النصارى، وهو المراد هنا، وهو مُعَرَّب، كما قال الفيومي.
وفي رواية للبخاري، في "بابُ الصلاة في البِيعَة" من طريق عبدة، عن هشام: أن تلك الكنيسة، كان تسمى مَارِيَة بكسر الراء، وتخفيف الياء التحتانية، وله في الجنائز من طريق مالك، عن هشام نحوه، وزاد في أوله "لَمَّا اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طريق هلال، عن عروة، بلفظ "قال في مرضه الذي مات فيه".
ولمسلم من حديث جندب أنه صلى الله عليه وسلم قال نحو ذلك قبل موته بخمس ليال، وزاد فيه:"فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
قال الحافظ رحمه الله: وفائدة التنصيص على زمن النهي الإشارة إلى أنه المُحكَم الذي لم ينسخ، لكونه صدر في آخر حياته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
فتح جـ 1 ص 625.
(رأتاهما) -بضمير التثنية للمؤنث- على الأصل، وهكذا عند البخاري في رواية الأصيلي، والكشميهني، ووقع في رواية غيرهما، وهي رواية المصنف في الكبرى "رأينها" بصيغة جمع المؤنث الماضي، ووجه الجمع فيها باعتبار من كان مع أم حبيبة، وأم سلمة رضي الله عنهما.
(فيها تصاوير) جملة اسمية، في محل نصب على الحال من كنيسة، لكونها موصوفة بجملة "رأتاها"، أو في محل نصب صفة بعد صفة لها، والتصاويرُ: التماثيلُ.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِن أولئك) -بكسر الكاف، ويجوز فتحها. قاله في الفتح، والعمدة. وقال السندي: قيل بكسر الكاف، لأن الخطاب لمؤنث، وقد تفتح.
قلت: كأن الفتح لتوجيه الخطاب إلى كل ما يصلح له، لا لتوجيهه إليهما، وأنت خبير بأن مقتضى توجيه الخطاب إليهما أن يقال:
أولئكما، لا أولئك -بالكسر- وعند الإفراد ينبغي الفتح بتوجيه الخطاب إلى كل ما يصلح له. فليتأمل. انتهى.
(إِذَا كان فيهم الرجل الصالح، فمات) عطف على قوله: "كان"(بَنوا) جواب "إذا"(على قبره مسجدًا) أي محل عبادة
(وصوروا تيك الصور) -بكسر التاء المثناة، وسكون الياء بدل اللام، من "تلك"، وهي لغة فيه، وهي نسخة الكبرى.
(أولئك) -بكسر الكاف، وفتحها- كما مر آنفاً (شِرَارُ الخلق) بكسر الشين المعجمة، جمع شَرٍّ، كالخِيَار، جمع خَيْرٍ، والبحار، جمع بحر، وأما الأشرار، فقال يونس: واحدها شَرّ أيضًا. وقال الأخفش: شَرِيرٌ، مثل يَتِيم، وأيتام. أفاده العيني.
وإنما كانوا شرار الخلق لأنهم ضموا إلى كفرهم الأعمال القبيحة، فهم أقبح الناس عقيدة وعملًا. قاله السندي.
(عند الله يوم القيامة) متعلقان بشرار. وإنما خص يوم القيامة، لأن الأمور تشتد فيه، بخلاف الدنيا، فمن كان أشر الناس فيه كان أشدهم عذابًا، ولأن من كان في الدنيا ربما يوفق للتوبة، وأما الآخرة فليست إلا دار الجزاء. والله أعلم.
تنبيه:
قال القرطبي رحمه الله تعالى: إنما صَوَّر أوائلُهم الصورَ، ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خَلَفَ من بعدهم خُلُوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها، فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وسدًا للذرائع في قبره صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في مرض
موته، إشارة إلى أنه من الأمر المحكم الذي لا ينسخ بعده.
ولما احتاجت الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون إلى زيادة في مسجده صلى الله عليه وسلم بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله، لئلا تَصِلَ إليه العوام، فيؤدي إلى ذلك المحذور، ثم بنوا جدارين بين ركني القبر الشمالي، حرَّفُوهما حتى التقيا، حتى لا يمكن أحدا أن يستقبل القبر. أفاده في عمدة القاري جـ 4 ص 174. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (13/ 704)، والكبرى (13/ 783) عن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى القطان، عن هشام بن عروة، عن عروة، عنها. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم.
فأخرجه البخاري في "الصلاة"، وفي هجرة الحبشة، من المناقب عن محمد بن المثنى.
ومسلم في "الصلاة" عن زهير بن حرب، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان، به.
وأخرجه أحمد جـ 6/ 63، وابن خزيمة رقم 790.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: منع بناء المساجد على القبور، ومنع الصلاة في المقابر، سواء كانت بجنب القبر، أو عليه، أو إليه، كما قال في الفتح جـ 1 ص 626.
وقال العيني رحمه الله: ومقتضاه التحريم، كيف، وقد ثبت اللعن عليه، وأما الشافعي، وأصحابه فصرحوا بالكراهة. وقال البندنيجي: والمراد أن يسوى القبر مسجدًا، فيصلى فيه فوقه، وقال: إنه يكره أن يبنى عنده مسجد، فيصلى فيه إلى القبر، وأما المقبرة الداثرة إذا بني فيها مسجد ليصلى فيه، فلم أر فيه بأسًا؛ لأن المقابر وقف، وكذا المسجد، فمعناهما واحد. انتهى. عمدة جـ 4 ص 174.
قال الجامع: ما نقله عن البندنيجي أخيرًا من قوله: فلم أر به بأسًا. . . إلخ ، نظر، إذ النص يشمله، فكيف يجوز. فتبصر. والله أعلم.
ومنها: أن فيه تحريم تصوير الحيوان، ولا سيما الرجل الصالح، وحمل بعضهم الوعيد على من كان في ذلك الزمان، لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا، وقد أطنب ابن دقيق العيد رحمه الله في رد ذلك. كما قال في الفتح.
قال الجامع: هو حقيق بالرد لمنابذته النص الصريح المطلق. والله أعلم.
ومنها: جواز حكايته ما يشاهده المرء من العجائب، ووجوبُ بيانِ حكم ذلك على العالم به.
ومنها: أن فيه ذَمَّ فاعل المحرمات.
ومنها: أن فيه أن الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل. انظر الفتح جـ 1 ص 626. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
14 - الفَضْلُ فِي إِتْيَانِ المَسَاجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على بيان الفضل الموعود في إتيان المساجد للصلاة.
ثم إن استدلال المصنف على ما ترجم له ظاهر على نسخة المجتبى في قوله: "مسجده" بضمير الغائب، وأما على نسخة الكبرى:"مسجدي" بضمير المتكلم فغير واضح؛ لأن المراد المسجد النبوي، لا جميع المساجد. اللهم إلا أن يريد إلحاق سائر المساجد بمسجده صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تطهير في بيته، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله، ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه، إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة". والله أعلم.
705 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ -هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"حِينَ يَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى مَسْجِدِهِ، فَرِجْلٌ، تُكْتَبُ حَسَنَةً، وَرِجْلٌ تَمْحُو سَيِّئَةً".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن علي) الفلاس، ثقة، ثبت، من [10] تقدم في 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة ثبت حجة، من [9] تقدم في 4/ 4.
3 -
(ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث ابن أبي ذئب القرشي العامري، أبو الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل،
توفي سنة 185، من [7] تقدم في 681.
4 -
(الأسود بن العلاء بن جارية الثقفي) ويقال له: سويد، ثقة، من [6].
قال أبو زرعة: شيخ ليس بالمشهور. وقال النسائي في التمييز: ثقة. وكذا قال العجلي. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: من قال: العلاء بن الأسود بن جارية، فقد وهم، يشير إلى أن بعضهم قلبه، وأشار البخاري في التاريخ إلى أنه يقال له أيضًا: سويد. أخرج له مسلم، والمصنف.
5 -
(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري المدني، ثقة فقيه، من [3] تقدم في 1/ 1.
6 -
(أبو هريرة) الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا الأسود، فانفرد به هو ومسلم.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، ويحيى، فبصريان.
ومنها: أن شيخه أحد التسعة الذين اتفق عليهم أصحاب الأصول بالرواية عنهم بلا واسطة.
ومنها: أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
ومنها: أن أبا هريرة أكثر الصحابة رواية، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه (قال: حين يخرج الرجل من بيته إِلى مسجده) هكذا نسخ المجتبى "مسجده" بضمير الغائب، وكذا في مسند أحمد جـ 2 ص 319، والاستدلال عليها للترجمة واضح.
ووقع في "الكبرى""إلى مسجدي" بضمير المتكلم، وهو الذي في "تحفة الأشراف" جـ 10 ص 458، وكذا في "مسند أحمد" جـ 2 ص 432، وص 478. وعلى هذا فيكون المراد المسجد النبوي، وهو
لا يناسب ترجمة المصنف؛ لأنها أعم، وهو أخص. إلا أن يريد إلحاق سائر المساجد به، كما تقدم البحث عنه في أول الباب. والله أعلم.
والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: يثاب، وفي رواية أحمد "من حين يخرج الرجل" بزيادة "من"، ثم فصل ذلك الثواب بقوله (فرجل) -بكسر الراء، وسكون الجيم- أي قدم، والمراد الخطوة، وهو مبتدأ سوغه التفصيل، كقول الشاعر [من المتقارب]:
فَأَقْبَلْتُ زَحْفًا عَلَى الرُّكبَتَيْنِ
…
فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثوْبٌ أَجُرُّ
والخبر جملة قوله (تكتب حسنة) ببناء الفعل للفاعل، والفاعل ضمير الرجل، و"حسنة" بالنصب مفعوله، وإسناد الكتابة للرجل مجاز، لكونها سببًا، وإلا فالكاتب حقيقة هو الله تعالى.
ويحتمل -كما قال السندي- كونه مبنيًا للمفعول، والضمير للرجل أيضًا، و"حسنة" بالنصب مفعول ثان لتكتب، على تضمينه، معنى "تجعل". والأول أولى ليوافق ما بعده. والله أعلم.
(ورجل تمحو سيئة) أي إن كانت له سيئة، وإلا فكل الخطوات تكتب حسنات. والله أعلم.
تنبيه:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح. وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا (14/ 705)، وفي "الكبرى"(14/ 785) عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن ابن أبي ذئب، عن الأسود ابن العلاء الثقفي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عنه.
وأخرجه أحمد في مسنده جـ 2 ص 319 و 431 و 478، وعبد بن حميد في مسنده رقم (1459). والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، واليه أنيب.
15 - النَهْيُ عَنْ مَنْعِ النِّسَاءِ مِنْ إتْيَانِ المَسَاجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على نهي الرجال عن منع نسائهم من إتيان المساجد للصلاة، ونحوها، إذا طلبن منهم ذلك.
ثم إن المصنف رحمه الله تعالى يرى إطلاق النهي، سواء كان ذلك ليلًا أو نهارًا، لإطلاق الحديث الذي أورده في الباب، وهذا مخالف لرأي البخاري رحمه الله تعالى حيث قال:(باب خروج النساء إلى المساجد بالليل، والغلس) فإنه يرى تقييد ذلك بالليل، لورود التقييد في بعض الروايات بالليل. وسيأتي تحقيق ذلك قريبًا، إن شاء الله تعالى.
706 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا يَمْنَعْهَا".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي بن راهويه، ثقة حافظ حجة، من [10] تقدم في 2/ 2.
2 -
(سفيان) بن عيينة المكي، ثقة إمام حجة، من [8] تقدم في 1/ 1.
3 -
(الزهري) محمد بن مسلم المدني، ثقة ثبت حجة، من [4] تقدم في 1/ 1.
4 -
(سالم) بن عمر العدوي المدني الفقيه، ثقة ثبت، من [3]، تقدم في 490.
5 -
(عبد الله) بن عمر بن الخطاب الصحابي المشهور رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا إسحاق، فلم يخرج له ابن ماجه.
ومنها: أن فيه سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
ومنها: رواية الابن عن أبيه، ورواية تابعي عن تابعي.
ومنها: أن ابن عمر أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن سالم عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذا استأذنت امرأة أحدكم) أي طلبت الخروج (إِلى المساجد) لأداء الصلاة، ونحوها (فلا يمنعها) من
الخروج ليلًا أو نهارًا، على ظاهر هذه الرواية، كما هو رأي المصنف، حيث أطلق الترجمة، أو ليلًا فقط، كما هو رأي البخاري -رحمه الله تعالى- حيث قيد ترجمته به، على رواية التقييد.
فقد أخرج البخاري حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من طريق حنظلة بن أبي سفيان الجمحي، عن سالم، عنه، بلفظ:"إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المساجد، فأذنوا لهن".
قال الحافظ رحمه الله تعالى: لم يذكر أكثر الرواة عن حنظلة قوله: "بالليل"، وكذلك أخرجه مسلم، وغيره. وقد اختلف فيه على الزهري، عن سالم أيضًا، فأورده البخاري من رواية معمر، ومسلم من رواية يونس بن يزيد، وأحمد من رواية عقيل، والسراج من رواية الأوزاعي، كلهم عن الزهري بغير تقييد. وكذا أخرجه البخاري في النكاح عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري بغير قيد.
ووقع عند أبي عوانة في صحيحه عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن عيينة مثله، لكن قال في آخره "يعني بالليل"، وبين ابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء أن سفيان بن عيينة هو القائل:"يعني"، وله عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن عيينة قال:"قال نافع: بالليل"، وله عن يحيى بن حكيم، عن ابن عيينة قال: "جاءنَا رجل، فحدثنا عن
نافع، قال: إنما هو بالليل" وسمي عبدُ الرزاق، عن ابن عيينة الرجلَ المبهَمَ، فقال بعد روايته عن الزهري: "قال ابن عيينة: وحدثنا عبد الغفار -يعني بن القاسم- أنه سمع أبا جعفر -يعني الباقر- يخبر بمثل هذا عن ابن عمر، قال: فقال له نافع مولى ابن عمر: "إنما ذلك بالليل".
وكأن اختصاص الليل بذلك لكونه أستر. ولا يخفى أن محل ذلك إذا أمنت المفسدة منهن، وعليهن.
وقال النووي رحمه الله: استدل به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن، وتعقبه ابن دقيق العيد رحمه الله بأنه إن أخذ من المفهوم، فهو مفهوم لقب، وهو ضعيف، لكن يتقوى بأن يقال: إنَّ منع الرجال نسائهم أمر مقرر، وإنما علق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز، فيبقى ما عداه على المنع.
وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب؛ لأنه لو كان واجبًا لانتفى معنى الاستئذان؛ لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذَنُ مخيرًا في الإجابة، أو الرد. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 404.
قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الاستنباط نظر لا يخفى، بل الصواب أن الأمر للوجوب، كما سيأتي تحقيقه. والله أعلم.
تنبيه:
وقع في رواية مسلم لحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا قصة مع أحد أبنائه، فأخرج من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله: أن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذَنَكم إليها" قال: فقال: بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله، فسبه سبًّا سيئًا، ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله لنمنعنهن.
وفي رواية مجاهد: فقال ابن لعبد الله بن عمر: لا ندعهن يخرجن، فيتخذنه دَغَلًا، قال: فزَبَرَه ابن عمر، وقال: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: لا ندعهن.
وفي رواية: فقال ابن له يقال له واقد: إذن يتخذنه دغلًا، قال: فضرب في صدره، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: لا.
قال في "الفتح": والراجح أن صاحب القصة بلال، لورود ذلك من رواية نفسه، ففي رواية الطبراني من طريق عبد الله بن هبيرة، عن بلال ابن عبد الله:"فقلت: أما أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فليسرح أهله"، وكذا من رواية أخيه سالم كما تقدم، ولم يختلف عليهما في ذلك.
وأما تسميته واقدًا، فإن كان محفوظًا، فيحتمل أن يكون كلٌّ من بلال وواقد وقع له ذلك، إما في مجلس، أو في مجلسين، وأجاب
ابن عمر كلًا منهما بجواب يليق به. ويقويه اختلاف النقلة في جواب ابن عمر، ففي رواية بلال عند مسلم "فأقبل عليه عبد الله، فسبه سبًّا سيئًا ما سمعته سبه مثله قط".
وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات، وفي رواية زائدة، عن الأعمش "فانتهره، وقال: أفٍّ لك". وله عن ابن نمير، عن الأعمش "فعل الله بك، وفعل"، ومثله للترمذي، من رواية عيسى بن يونس، ولمسلم من رواية أبي معاوية "فزبره"، ولأبي داود من رواية جرير "فسبه، وغضب".
فيحتمل أن يكون بلال البادئ، فلذلك أجابه بالسب المفسر للعن، وأن يكون واقد بدأه، فلذلك أجابه بالسب المفسر بالتأفيف مع الدفع في صدره.
وكأن السر في ذلك أن بلالًا عارض الخبر برأيه، ولم يذكر علة المخالفة، ووافقه واقد، لكن ذكرها بقوله:"يتخذنه دَغَلًا"، وهو بفتح المهملة، ثم المعجمة، وأصله الشجر الملتف، ثم استعمل في المخادعة، لكون المخادع يلف في ضميره أمرًا، ويظهر غيره.
وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت، وحملته على ذلك المغيرة، وإنما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث، وإلا فلو قال -مثلًا-: إن الزمان قد تغير، وإن بعضهن ربما ظهر منها قصد المسجد وإضمار غيره، لكان يظهر أن لا ينكر عليه.
وإلى ذلك أشارت عائشة بما ذكر في حديثها.
وأخذ من إنكار ابن عمر على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده، وإن كان كبيرًا، إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عند أحمد "فما كلمه عبد الله حتى مات"، وهذا إن كان محفوظًا يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 405 - 406. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من طريق ابن عيينة متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (15/ 706)، و"الكبرى"(15/ 785)، عن إسحاق ابن إبراهيم الحنظلي، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم.
فأخرجه البخاري في "النكاح"(117) عن علي بن عبد الله.
ومسلم في "الصلاة"(30/ 1) عن عمرو الناقد، وزهير بن حرب ثلاثتهم عن ابن عيينة، به.
وأخرجه من طريق حنظلة بن أبي سفيان الجمحي البخاري في الصلاة 313/ 2 عن عبيد الله بن موسى.
وأخرجه مسلم فيه (30/ 4) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، كلاهما عن حنظلة، عن سالم، عن أبيه.
ومن طريق معمر أخرجه البخاري في "الصلاة"(317/ 1) عن مسدد، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، به. وابن ماجه في المقدمة (3/ 5) عن محمد بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن معمر، به. ومن طريق يونس بن يزيد الأيلي، ومسلم في "الصلاة"(30/ 2) عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، به.
وأخرجه أحمد، والحميدي، والدارمي، وابن خزيمة. والله تعالي أعلم.
المسألة الرابعة: هذا الحديث- كما قال العلامة الحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله في "إحكام الأحكام" جـ 2 ص 139، صريح في النهي عن منع النساء عن المساجد عند الاستئذان.
وقد ثبت في "صحيح ابن حبان" جـ 5 ص 2211، و 2214 "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، وهو يشعر بطلبهن للخروج، فإن المانع إنما يكون مانعًا بعد وجود المقتضي، ويلزم من النهي عن منعهن من الخروج إباحته لهن؛ لأنه لو كان ممتنعًا لم ينه الرجال عن منعهن منه.
والحديث عام في النساء، ولكن الفقهاء قد خصوه بشروط وحالات: منها أن لا يتطيبن، وهذا الشرط مذكور في الحديث، ففي
بعض الروايات "وليخرجن تَفِلات"، قال الحافظ: وهو بفتح المثناة، وكسر الفاء، أي غير متطيبات، ويقال: امرأة تفلة: إذا كانت متغيرة الريح، وهو عند أبي داود، وابن خزيمة من حديث أبي هريرة، وعند ابن حبان من حديث زيد بن خالد، وأوله:"لا تمنعوا إماء الله مساجد"، ومسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنه:"إذا شهدت إحداكن المسجد، فلا تمسن طيبًا".
ويلحق بالطيب ما في معناه؛ لأن سبب المنع منه ما فيه من تحريك داعية الشهوة، كحسن الملبس، والحلي الذي يظهر، والزينة الفاخرة، وكذا الاختلاط بالرجال.
وفرق كثير من الفقهاء المالكية، وغيرهم بين الشابة وغيرها، وفيه نظر، إلا إن أخذ الخوف عليها من جهتها؛ لأنها إذا عريت مما ذكر، وكانت مستترة حصل الأمن عليها، ولا سيما إذا كان ذلك بالليل.
وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث وغيره ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وذلك في رواية حبيب ابن أبي ثابت، عن ابن عمر، بلفظ "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن"، أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة.
ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية "أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك، قال: "قد علمت، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في
حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في
مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة". وإسناده حسن، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود.
ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة، ومن ثم قالت عائشة رضي الله عنها -كما في صحيح البخاري- "لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن، كما منعت نساء بني إسرائيل".
وتمسك بعضهم بقول عائشة هذا في منع النساء مطلقًا، وفيه نظر، إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم؛ لأنها علقته على شرط، لم يوجد بناء على ظن ظنته، فقالت:"لو رأى لمنع"، فيقال عليه: لم ير، ولم يمنع، فاستمر الحكم، حتى إن عائشة لم تصرح بالمنع، وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع.
وأيضًا فقد علم الله سبحانه ما سيُحْدِثْنَ، فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها، كالأسواق أولى.
وأيضًا فالإحداث إنما وقع من بعض النساء، لا من جميعهن، فإن تعين المنع، فليكن لمن أحدثت، والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه من
الفساد، فيجتنب، لإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بمنع الطيب والزينة، وكذلك التقييد بالليل، كما سبق. انتهى فتح جـ 2 ص 407.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: وقد حصل من الأحاديث المذكورة في هذا الباب أن الإذن للنساء من الرجال إلى المساجد إذا لم يكن في خروجهن ما يدعو إلى الفتنة، من طيب، أو حلي، أو زينة واجب على الرجال، وأنه لا يجب مع ما يدعو إلى ذلك، ولا يجوز، ويحرم عليهن الخروج، لقوله صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة أصابت بَخُورًا فلا تشهدنَّ معنا العشاء الآخرة"، رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
وصلاتهن على كل حال في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المساجد. انتهى. "نيل" جـ 4 ص 16.
وقال النووي رحمه الله: وهذا النهي عن منعهن من الخروج محمول على كراهة التنزيه، إذا كانت المرأة ذات زوج، أو سيد، ووجدت الشروط المذكورة، فإن لم يكن لها زوج، ولا سيد حرم المنع، إذا وجدت الشروط. انتهى. "شرح مسلم" جـ 4 ص 162.
قال الجامع عفا الله عنه: تفريق النووي رحمه الله بين ذوات الأزواج، وبين غيرهن لا وجه له؛ لأن النص جاء صريحًا في ذوات الأزواج، فالراجح ما تقدم للشوكاني، من التحريم مطلقًا، للنصر الصريح. والله أعلم.
المسألة الخامسة: في اختلاف العلماء في خروج النساء إلى المساجد:
قال العلامة المجتهد أبو محمد بن حزم رحمه الله: ولا يحل لولي المرأة، ولا لسيد الأمة منعهما من حضور الصلاة في جماعة في المسجد، إذا عرف أنهن يردن الصلاة، ولا يحل لهن أن يخرجن متطيبات، وفي ثياب حسان، فإن فعلت فليمنعها، وصلاتهن في الجماعة أفضل من صلاتهن منفردات.
قال: وقال أبو حنيفة ومالك: صلاتهن في بيوتهن أفضل. وكره أبو حنيفة خروجهن إلى المساجد لصلاة الجماعة، وللجمعة، وفي العيدين، ورخص للعجوز خاصة في العشاء الآخرة، والفجر، وقد روي عنه أنه لم يكره خروجهن في العيدين.
وقال مالك: لا نمنعهن من الخروج إلى المساجد، وأباح لِلْمُتَجالَّةِ -أي الكبيرة السنن- شهود العيدين، والاستسقاء، وقال: تخرج الشابة إلى المسجد المرة. بعد المرة، قال: والمتجالة تخرج إلى المسجد، ولا تكثر التردد.
ثم رد أبو محمد رحمه الله على هؤلاء بما لا تجده في غير كتابه، فأجاد، وأفاد. انظر "المحلى" جـ 3 ص 129.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله أبو محمد رحمه الله تعالى
حسن جدًا، إلا قوله: وصلاتهن في الجماعة أفضل، فإنه غير مُسَلَّم له، فإن صلاتهن في بيوتهن أفضل، لصحة الأحاديث بذلك:
فمنها: حديث أم حميد المتقدم، وهو حديث حسن، كما تقدم عن الحافظ.
ومنها: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها"، أخرجه أبو داود بإسناد صحيح. والمخدع -بضم الميم-: بيت صغير، يحرز فيه الشيء، وتثليث الميم لغة. قاله في المصباح.
ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن". أخرجه أبو داود، وأحمد، والحاكم، والبيهقي، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه جماعة آخرون، لكن فيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلس. كما قال الشيخ الألباني. انظر "الإرواء" جـ 2 ص 293 - 294.
قال الجامع: لكنه ينجبر بالأحاديث المذكورة.
وبالجملة فأحاديث الباب صحيحة، فتضعيف ابن حزم لها، وكذا دعواه النسخ فيها على تقدير ثبوتها، مما لا يلتفت إليه.
والحاصل أن الأرجح من الأقوال المذكورة في هذا الباب قول من قال بوجوب إذن الرجل لامرأته إذا طلبت منه الخروج إلى المساجد، إذا كان على الوجه المشروع لها، بأن لا تتطيب، ولا تتزين، ونحو ذلك، ولكن الأفضل لها أن تصلي في بيتها. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
16 - مَنْ يُمْنَعُ مِنَ الَمسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على بيان الشخص الذي يمنع دخول المسجد.
فمن اسم موصول، و"يمنع" بالبناء للمفعول، والجار والمجرور متعلق به. ويحتمل أن تكون "من" استفهامية مبتدأ، والجملة بعدها
خبر، أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواب من سأل قائلًا: أيُّ شخص يُمْنَعُ من المسْجد؟ والله تعالى أعلم.
707 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ"، قَالَ أَوَّلَ يَوْمٍ:"الثُّومِ"، ثُمَّ قَالَ:"الثُّومِ، وَالْبَصَلِ، وَالْكُرَّاثِ، فَلَا يَقْرَبْنَا فِي مَسَاجِدِنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الإِنْسُ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(إِسحاق بن منصور) الكوسج، أبو يعقوب المروزي، ثقة ثبت، من [11] تقدم في 72/ 88.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة حجة، من [9] تقدم في 4/ 4.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة فقيه فاضل، كان يدلس ويرسل، من [6] تقدم في 28/ 32.
4 -
(عطاء) بن أبي رباح المكي، ثقة فقيه فاضل كثير الإرسال، من [3] تقدم في 112/ 154.
5 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السَّلَمي الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فلم يخرج له أبو داود.
ومنها: أنه ليس في الكتب الستة من يسمى إسحاق بن منصور، إلا الكوسج هذا، وإلا إسحاق منصور السَّلُولِيُّ من الطبقة (9).
ومنها: أن فيها جابرًا أحد المكثرين من الصحابة رضي الله عنهم، روى (1540) حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن جابر) عبد الله رضي الله عنهما، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكل) شرطية مبتدأ، جوابها قوله "فلا يقربنا". قال ابن بطال: هذا يدل على إباحة أكل الثوم؛ لأن قوله: "من أكل" لفظ إباحة. وتعقبه ابن المُنَيِّر بأن هذه الصيغة إنما تعطي الوجود، لا
الحكم. أي من وجد منه الأكل، وهو أعم من كونه مباحًا، أو غير مباح.
قال الجامع: لكن قد جاء ما يدل على عدم تحريمها، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه قال: لم نَعْدُ أن فتحت خيبر، فوقعنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك البَقْلَة الثوم، والناس جياع، فأكلنا منها أكلًا شديدًا، ثم رحنا إلى المسجد، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريح، فقال:"من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا، فلا يَقْرَبَنَّا في المسجد"، فقال الناس: حرمت، حرمت، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرة أكره ريحها". انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 5 ص 50 - 51.
(من هذه الشجرة) واحدة الشجر، وهو ماله ساق صُلْب يقوم به، كالنخل وغيره، ويجمع أيضًا على شَجَرات، وأشجار. قاله في المصباحُ.
وقال في الفتح: وفي قوله: "الشجرة" مجاز؛ لأن المعروف في اللغة أن الشجرة ما كان لها ساق، وما لا ساق له يقال له: نجم، وبهذا فسر ابن عباس وغيره قوله تعالى:{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6].
ومن أهل اللغة من قال: كل ما ثبتت له أرومة، أي أصل في الأرض يخلف ما قطع منه، فهو شجر، وإلا فنجم.
وقال الخطابي: في هذا الحديث إطلاق الشجر على الثوم، والعامة لا تعرف الشجر إلا ما كان له ساق. انتهى.
ومنهم من قال: بين الشجر والنجم عموم وخصوص، فكل نجم شجر من غير عكس، كالشجر والنخل، فكل شجر نخل، من غير
عكس. انتهى. فتح جـ 2 ص 396.
(قال أوَّلَ يوم: الثوم، ثم قال: الثوم، والبصل، والكراث) وفاعل "قال" ضمير عطاء، كما بينه أبو نعيم في مستخرجه من طريق رَوْح بن عبادة، عن ابن جريج، ولفظه: قال ابن جريج: وقال عطاء في وقت آخر: "الثوم، والبصل، والكراث". أفاده في الفتح.
وحاصل المعنى أن عطاء قال في أول يوم تحديثه بهذا الحديث: "من أكل من هذه الشجرة، الثوم"، ثم قال حين حدث بعد ذلك:"من أكل من هذه الشجرة: الثوم والبصل والكراث"، فزاد البصل والكراث.
فقوله: "أول" منصوب على الظرفية متعلق بقال، وقوله:"الثوم" مقول القول، ولفظه مجرور على الحكاية، فإنه في الأصل بدل من الشجرة.
والثُّومُ -بضم المثلثة، واحدته: ثُومَة. والبَصَلُ- بفتح الباء الموحدة، والصاد المهملة، واحدته بَصَلَة. والكُراَّث، بضم الكاف
وفتحها وتشديد الراء، وزان رُمَّان، وكَتَّان. كما في "ق".
(فلا يقربنا) بفتح الراء وضمها، يقال: قَرِبْتُ الأمرَ، أقرَبُهُ، من باب تعب، وفي لغة من باب قتل، قرْبانًا، بالكسر: فَعَلْتُهُ، أو دانيته، ومن الأول قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، ومن الثاني قولك: لا تَقْرَب الحِمَى، أي لا تَدْنُ منه. ومنه هذا الحديث، أي لا يَدْنُ منا.
فالفعل على هذا متعد، فَنَا في قوله:"يقربنا" في محل نصب مفعوله.
وأما قَرُبَ -بضم الراء، فلازم، ويتعدى بمن، يقال: قَرُب الشيء منا. كما تفيده عبارة المصباح.
(في مساجدنا) متعلق بيقرب، وهو بصيغة الجمع عند المصنف هنا، وفي "الكبرى" وفي رواية لمسلم "فلا يأتين المساجد"، ووقع في بعض روايات الشيخين "مسجدنا" بالإفراد.
قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: تعلق به بعضهم في أن هذا النهي مخصوص بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما يتأكد ذلك بأنه كان مهبط الملك بالوحي، والصحيح المشهور خلاف ذلك، وأنه عام، لما جاء في بعض الروايات "مساجدنا"، ويكون "مسجدنا" للجنس، أو لضرب المثال، فإن هذا النهي معلل: إما بتأذي الآدميين، أو بتأذي
الملائكة الحاضرين، وذلك يوجد في المساجد كلها. انظر العمدة بنسخة الحاشية جـ 2 ص 514.
ثم بين علة النهي، فقال:(فإِن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإِنس) الفاء للتعليل، أي لأن الملائكة. . . إلخ، أي إن سبب النهي عن الدُّنُوِّ من المسجد تأذي الملائكة برائحة تلك الشجرة. وفي رواية لمسلم "فلا يقربَنَّ مسجدنا، ولا يؤذِيَنَّا بريح الثوم". فدل أن تأذي الآدميين سبب للنهي أيضًا. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث جابر رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا (16/ 707)، وفي "الكبرى"(16/ 786) عن إسحاق ابن منصور، عن يحيى القطان، عن ابن جريج، عن عطاء، عنه.
وفي الوليمة من "الكبرى" عن إسحاق بن منصور به. وعن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن ابن جريج، به. وأخرجه من طريق ابن شهاب، عن عطاء، في الوليمة أيضًا: عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عنه، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
فأخرجه البخاري في "الصلاة"(211/ 2) عن عبد الله بن محمد، عن أبي عاصم، عن ابن جريج به. وأخرجه البخاري أيضًا من رواية ابن شهاب، عن عطاء في "الأطعمة"(49/ 2) عن علي بن عبد الله، عن أبي صفوان عبد الله بن سعيد، عن يونس، عنه به، وفي "الصلاة"(311/ 3) عن سعيد بن عفير، وفي "الاعتصام"(25/ 5) عن أحمد بن صالح، كلاهما عن ابن وهب عن يونس، به.
ولفظه في الصلاة: عن ابن شهاب، زعم عطاء، أن جابر بن عبد الله زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أكل ثومًا أو بصلًا، فليعتزلنا، أو قال: فليعتزل مساجدنا، وليقعد في بيته"، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقِدْر فيه خَضِرَات من بقول، فوجد لها ريحًا، فسأل؟ فأخبر بما فيها من البقول، فقال:"قربوها- إلى بعض أصحابه، كان معه، فلما رآه كره أكلها، قال: "كل، فإني أناجي من لا تناجي".
قال الجامع: هذا فيه تصريح في كونها حلالًا. والله أعلم.
وأخرج له مسلم فيه عن محمد بن حاتم، عن يحيى القطان، وعن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن بكر، وعن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، ثلاثتهم عن ابن جريج به، ومن رواية ابن شهاب عن عطاء عن أبي الطاهر، وحرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب، به.
وأبو داود في الأطعمة (41/ 1) عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، به.
والترمذي في الأطعمة (13/ 1) عن إسحاق بن منصور، عن يحيى، به.
وأخرجه من رواية ابن شهاب، عن عطاء: البخاري ومسلم والنسائي.
وأخرجه أحمد في مسنده جـ 3 ص 380، 397، 400، وابن خزيمة رقم 1664، و 1665. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو أن الشخص الذي يمنع من دخول المسجد هو الذي أكل من هذه البقول، فلا يجوز له أن يدخل
المسجد حتى يذهب ريحها.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: هذا صريح بنهي من أكل الثوم، ونحوه عن دخول كل مسجد، وهذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي عياض رحمه الله عن بعض العلماء أن النهي خاص في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات مسلم "فلا يقربن مسجدنا". وحجة الجمهور "فلا يقربن المساجد". انتهى. جـ 5 ص 48.
ووقع في صحيح البخاري من رواية أنس رضي الله عنه "من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربنا، أو لا يصلين معنا".
قال في "الفتح": وليس في هذا تقييد النهي بالمسجد، فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد، كمصلى العيد، والجنازة، ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس، والتمسك بهذا العموم أولى، ونظيره رواية "وليقعد في بيته".
لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة، وترك أذى المسلمين، فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد، وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلا لعم النهي كل مجمع كالأسواق، ويؤيد هذا البحث قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم "من أكل من هذه الشجرة شيئًا فلا يقربنا في المسجد".
قال القاضي ابن العربي: ذكر الصفة في الحكم يدل على التعليل بها، ومن ثَمَّ رُدَّ على المازري حيث قال: لو أن جماعة مسجد أكلوا كلهم ماله رائحة كريهة لم يمنعوا منه، بخلاف ما إذا أكل بعضهم؛ لأن المنع لم يختص بهم، بل بهم وبالملائكة، وعلى هذا يتناول المنع من تناول شيئًا من ذلك، ودخل المسجد مطلقًا، ولو كان وحده.
ومنها: أن بعضهم استدل به على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين.
قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا الحديث صريح في
التخلف عن الجماعة في المساجد بسبب أكل هذه الأمور، واللازم عن ذلك أحد أمرين: إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحًا، وصلاة الجماعة غير واجبة على الأعيان، أو تكون الجماعة واجبة على الأعيان، ويمتنع أكل هذه الأشياء إذا آذت، إن حملنا النهي عن القربان على التحريم، وجمهور الأمة على إباحة أكلها، لقوله عليه السلام "ليس لي تحريم ما أحل الله، ولكني أكرهه"، ولأنه علل بشيء يختص به، وهو قوله عليه السلام "فإني أناجي من لا تناجي"، ويلزم من هذا أن لا تكون الجماعة في المسجد واجبة على الأعيان.
وتقريره أن يقال: أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة، وترك الجماعة في حق آكلها جائز، ولازم الجائز جائز، وذلك ينافي الوجوب. انتهى. "إِحْكَام الأَحكام" جـ 2 ص 512 - 513.
قال الجامع عفا الله عنه: قد رد بعض المحققين هذا التقرير، فقال: ليس هذا التقرير بجيد، والصواب أن أكل هذه الخضروات ذوات الرائحة الكريهة لا ينافي كون الجماعة فرض عين، كما أن حضور الطعام يسوغ ترك الجماعة لمن قدم بين يديه مع كون ذلك مباحًا.
وخلاصة الكلام أن الله سبحانه يسر على عباده، وجعل مثل هذه المباحات عذرًا في ترك الجماعة لمصلحة شرعية، فإذا أراد أحد أن يتخذها حيلة لترك الجماعة حرم عليه ذلك. والله أعلم.
قال الجامع: هذا تحقيق حسن جدًّا. والله أعلم.
ومنها: أن ابن دقيق العيد قال: ونقل عن أهل الظاهر، أو بعضهم تحريم أكل الثوم بناء على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان.
وتقرير هذا أن يقال: صلاة الجماعة واجبة على الأعيان، ولا تتم إلا بترك أكل الثوم، لهذا الحديث، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فترك أكل الثوم واجب. انتهى. عمدة.
قال في "الفتح": وكذا نقله غيره عن أهل الظاهر، لكن صرح ابن حزم منهم بأن أكلها حلال مع قوله بأن الجماعة فرض عين، وانفصل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة. ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح، لكن يحرم على من أنشأه بعد سماع النداء. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 400.
قال الجامع: ما قاله ابن حزم رحمه الله هو الصواب، لموافقته للنصوص المتقدمة.
وحاصله أن صلاة الجماعة فرض عين، وأن أكل هذه الأشياء مباح، وأنه يسقط عمن أكلها فرض صلاة الجماعة، حتى تزول رائحتها.
فتبين بهذا أن قول الخطابي: توهم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لآكله على فعله، إذ حرم فضل الجماعة. انتهى. غير صحيح، بل الصواب أنه عذر في الخلف لظاهر
النص؛ لأن من فعل ما أبيح له لا يعاقب على فعله، فتنبه. والله أعلم.
ومنها: أنه اختلف هل كان أكل الثوم ونحوه حرامًا على النبي صلى الله عليه وسلم وسلم أولًا؟ والراجح الحل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وليس بمحرم". كما رواه ابن خزيمة من حديث أبي أيوب رضي الله عنه. قاله في الفتح.
ومنها: أنه نقل ابن التين عن مالك، قال: الفُجْل إن كان يظهر ريحه فهو كالثوم، وقيده عياض بالجشاء.
قال الحافظ: وفي الطبراني الصغير من حديث أبي الزبير عن جابر التنصيص على ذكر الفجل في الحديث، لكن في إسناده يحيى بن راشد، وهو ضعيف.
وألحق بعضهم بذلك من بفيه بَخَرٌ، أو به جرح له رائحة. وزاد بعضهم، فألحق أصحاب الصنائع كالسَّمَّاك، والعاهات كالمجذوم، ومن يؤدي الناس بلسانه. وأشار ابن دقيق العيد إلى أن ذلك كله توسع غير مرضي. انتهى. "فتح" جـ 2 ص 400.
قال الجامع: الحق ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله، فلا ينبغي إلحاق هذه الأشياء بالمنصوص؛ لأن هذه الأشياء كانت موجودة في ذلك الوقت، ومع ذلك لم يرد النص بنهي أصحابها عن دخول المسجد، مع وجود الحاجة إلى بيانها. والله أعلم.
فائدة:
قال الحافظ رحمه الله: حكم رحبة المسجد، وما قرب منها حكمه، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها في المسجد أمر بإخراج من وجدت منه إلى البقيع، كما ثبت في مسلم عن عمر رضي الله عنه. ويأتي للمصنف في الباب التالي.
تنبية:
وقع في حديث حذيفة عند ابن خزيمة: "من أكل من هذه البقلة الخبيثة، فلا يقربن مسجدنا، ثلاثًا". وبوب عليه "توقيت النهي عن إتيان الجماعة لآكل الثوم". قال الحافظ: وفيه نظر، لاحتمال أن يكون قوله "ثلاثًا" يتعلق بالقول، أي قال ذلك ثلاثًا، بل هذا هو الظاهر؛ لأن علة المنع وجود الرائحة، وهي لا تستمر هذه المدة. انتهى. فتح جـ 2 ص 400.
قال الجامع: ما قاله الحافظ رحمه الله حسن جدًّا. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
17 - مَنْ يُخْرَجُ مِنَ الَمْسجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الشخص الذي يستحق أن يخرج من المسجد، لكونه أحل بحرمته، حيث فعل ما لا يليق به، من أكله ماله رائحة كريهة. والله تعالى أعلم.
708 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ:"إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ مِنْ شَجَرَتَيْنِ مَا أُرَاهُمَا إِلاَّ خَبِيثَتَيْنِ، هَذَا الْبَصَلُ وَالثُّومُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا، فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن المثنى) أبو موسى العنزي البصري، ثقة ثبت، من [10] تقدم في 64/ 80.
2 -
(يحيى بن سعيد) القطان البصري، ثقة ثبت حجة، من [9] تقدم في 4/ 4.
3 -
(هشام) بن أبي عبد الله الدستوائي البصري، ثقة ثبت، من [7] تقدم في 30/ 34.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة حجة، من [4] تقدم في 30/ 34.
5 -
(سالم بن أبي الجعد) رافع الأشجعي الغطفاني الكوفي، ثقة يرسل كثيرًا، من [3] تقدم في 61/ 77.
6 -
(معدان بن أبي طلحة) ويقال: ابن طلحة الكناني اليَعْمَرِي، بفتح التحتانية والميم، بينهما مهملة، شامي، ثقة، من [2].
قال ابن معين: أهل الشام يقولون: ابن طلحة، وقتادة، وهؤلاء يقولون: ابن أبي طلحة، وأهل الشام أثبت فيه. وقال ابن سعد، والعجلي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات، وذكره ابن سعد، ومسلم، وخليفة في الطبقة الأولى من أهل الشام. أخرج له الجماعة إلا البخاري.
7 -
(عمر بن الخطاب) العدوي الخليفة الثاني رضي الله عنه، تقدم في 60/ 75. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا معدان، فما أخرج له البخاري.
ومنها: أن الثلاثة الأولين بصريون، وسالمًا كوفي، ومعدان شامي، وعمر رضي الله عنه مدني.
ومنها: أن شيخه من مشايخ الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض، قتادة، عن سالم، عن معدان. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن معدان بن أبي طلحة) الكناني الشامي (أن عمر بن الخطاب) رضي الله عنه (قال) أي في خطبة الجمعة.
وحديث عمر رضي الله عنه هذا حديث طويل مشتمل على أشياء، منها قصة البصل والثوم، فأخرجها المصنف هنا، وفي الوليمة من "الكبرى" ومنها قصة الكلالة، فأخرجها في التفسير من الكبرى.
وقد ساقه مسلم رحمه الله تعالى بطوله في كتاب الصلاة من صحيحه، فقال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة، فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر، قال: إني رأيت كأن ديكًا نَقَرَنِي ثلاث نَقَرات، وإني لا أرَاه إلا حضور أجلي، وإن قومًا يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن عجل بي أمر فالخلافة شُورَى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهو عنهم راض، وإني قد علمت أن أقوامًا يطعنون في هذا الأمر، أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام، فإن فعلوا ذلك، فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال.
ثم إني لا أدع بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن باصبعه في صدري، فقال:"يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء"، وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن، ومن لا يقرأ القرآن.
ثم قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، وإني إنما بعثتهم عليهم، ليعدلوا عليهم، وليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقسموا فيهم فيئهم، ويرفعوا إليَّ ما أشكل عليهم من أمرهم.
ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أرَاهُما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله إذا وجد ريحها من الرجل في المسجد أمر به، فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخًا". صحيح مسلم بشرح النووي جـ 5 ص 51 - 54.
(إِنكم أيها الناس تأكلون من شجرتين) وقد تقدم في الباب الماضي أن الشجر عند أكثر أهل اللغة اسم لما له ساق، وأما ما لا ساق له فهو النجم، لكن جعل بعض أهل اللغة الشجر أعم، وهو الراجح، ويؤيده هذا الحديث، والحديث المتقدم "من أكل من هذه الشجرة،
فلا يقربنا".
(ما أراهما) ولمسلم "لا أراهما"، أي لا أعتقدهما (إِلا خبيثتين) قال النووي رحمه الله: سماهما خبيثتين، لقبح رائحتهما، قال أهل اللغة: الخبيث في كلام العرب: المكروه من قول، أو فعل، أو مال، أو طعام، أو شراب، أو شخص. انتهى شرح مسلم جـ 5 ص 50.
(هذا البصل، والثوم) مبتدأ وخبر، بيان للشجرتين.
(ولقد رأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم إِذا وجد ريحهما من الرجل) ولمسلم زيادة "في المسجد"(أمر به) أي بإخراج ذلك الرجل (فأخرج إِلى البقيع) على بناء الفعل للمفعول، أي تأديبًا له على ما فعل من الدخول في المسجد مع الرائحة الكريهة. قاله السندي.
قال النووي رحمه الله: هذا فيه إخراج من وجد منه ريح الثوم، والبصل، ونحوهما من المسجد، وإزالة المنكر باليد لمن أمكنه. انتهى.
وفيه أيضًا أن رحبة المسجد له حكم المسجد، حيث إنه لم يخرج إليه، بل أمر بإبعاده إلى البقيع. وقد تقدم هذا في الباب الماضي.
(فمن أكلهما) أي من أراد أكل البصل، والثوم (فليمتهما طبخًا) أي ليزل رائحتهما الكريهة بالطبخ، وإماتة كل شيء: كسر حدته، ومنه قولهم: قتلت الخمر: إذا مزجها بالماء، وكسر حدتها. والله أعلم، ومنه التوفيق وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عمر رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (17/ 708)، وفي "الكبرى"(17/ 787) عن محمد ابن المثنى، عن يحيى القطان، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عنه.
و"التفسير"، من "الكبرى"(111/ 11135) عن إسحاق بن إبراهيم، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، به.
وفي أبواب الأطعمة منه (36/ 6682) عن محمد بن عبد الله بن المبارك، عن شبابة بن سوار، عن شعبة، عن قتادة، به. و (6673) عن سليمان بن منصور، عن أبي الأحوص، عن حصين، و (6684) عن قتيبة، عن جرير، عن منصور كلاهما عن سالم بن أبي الجعد، قال: قال عمر به، رفعه حصين، ووقفه منصور، ولم يذكرا معدان. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم وابن ماجه.
فأخرجه مسلم في "الفرائض"(3/ 6) عن محمد بن أبي بكر المقدمي، وفيه، وفي "الصلاة"(70/ 11)، عن محمد بن المثنى،
كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن هشام الدستوائي.
وفي "الفرائض"(3/ 7)، و"الصلاة"(70/ 12)، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، وفي الفرائض (3/ 7)، و"الصلاة"(70/ 12)، عن إسحاق بن إبراهيم، وزهير بن حرب، وفي "الفرائض"(3/ 7) عن محمد بن رافع، ثلاثتهم عن شبابة ابن سوار، عن شعبة، ثلاثتهم عن قتادة، عن سالم ابن أبي الجعد، عن معدان، عن عمر رضي الله عنه. ذكره في الصلاة بتمامه عن محمد ابن المثنى، ثم ذكر ما بعد ذلك من الأسانيد حوالة على حديثه، وذكر منه في الفرائض قصة الكلالة، ومن أوله إلى قوله:"أبا بكر" عن المقدمي، ومحمد بن المثنى؛ ثم ذكر ما بعد ذلك من الأسانيد حوالة على حديثهما.
وأخرج ابن ماجه قصة الكلالة في الفرائض (5/ 1) وقصة البصل، والثوم في "الأطعمة"(59/ 1) وفي الصلاة أيضًا (58/ 1014) جميعًا عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به.
وأخرجه الحميدي في مسنده رقم (10 و 29)، وأحمد (1/ 15، 1/ 26، 27، 48)، وابن خزيمة في "صحيحه" رقم 1666.
المسألة الرابعة: قال النووي رحمه الله: هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم، وقال: خالف قتادة في هذا الحديث
ثلاثة حفاظ، وهم منصور بن المعتمر، وحصين بن عبد الرحمن، وعمرو بن مرة، فرووه عن سالم، عن عمر منقطعًا، لم يذكروا فيه معدان.
قال الدارقطني: وقتادة، وإن كان ثقة، وزيادة الثقة مقبولة عندنا، فإنه مدلس، ولم يذكر سماعه من سالم، فأشبه أن يكون بلغه عن
سالم، فرواه عنه.
قال النووي رحمه الله: قلت: هذا الاستدراك مردود؛ لأن قتادة، وإن كان مدلسًا فقد قدمنا في مواضع من هذا الشرح أن ما رواه البخاري ومسلم عن المدلسين، وعنعنوه، فهو محمول على أنه ثبت من طريق آخر سماع ذلك المدلس هذا الحديث ممن عنعنه عنه، وأكثر هذا، أو كثير منه يذكر مسلم، وغيره سماعه من طريق آخر متصلًا به.
وقد اتفقوا على أن المدلس لا يحتج بعنعنته، ولا شك عندنا في أن مسلمًا رحمه الله تعالى يعلم هذه القاعدة، ويعلم تدليس قتادة، فلولا ثبوت سماعه عنده لم يحتج به، ومع هذا كله، فتدليسه لا يلزم منه أن يذكر معدانًا من غير أن يكون له ذكر، والذي يخاف من المدلس أن يحذف بعض الرواة أما زيادة من لم يكن فهذا لا يفعله المدلس، وإنما هذا فعل الكاذب المجاهر بكذبه، وإنما ذكر معدان زيادة ثقة، فيجب قبولها.
والعجب من الدارقطني رحمه الله تعالى في كونه جعل التدليس
موجبًا لاختراع ذكر رجل لا ذكر له، ونسبه إلى مثل قتادة الذي محله من العدالة والحفظ والعلم بالغاية العالية. والله أعلم. انتهى شرح مسلم جـ 5 ص 51 - 52.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما رد به النووي على الدارقطني أمران:
أحدهما: أن ما كان في الصحيحين معنعنًا عن طريق المدلسين محمول على السماع.
والثاني: أن هذا ليس من نوع التدليس؛ لأن التدليس إنما يخاف فيه من الإسقاط، وهذا زيادة، لا إسقاط، بل هو من زيادة الثقة، فيجب قبولها.
قال الجامع: وعلى تقدير صحة كونه منه -كما زعم الدارقطني- يقال: إن هذا مما لم يدلس فيه قتادة قطعًا؛ لأنه رواه شعبة عنه، وقد عرف أن شعبة لا يروي عنه إلا ما صرح فيه بالسماع، فقد نقل عنه أنه قال: كنت أتفقد فم قتادة، فإذا قال: حدثنا وسمعت، حفظته، وإذا قال: حدث فلان، تركته. وقال أيضًا: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة.
وقلت في منظومتي المسماة "الجوهر النفيس، في نظم أسماء ومراتب الموصوفين بالتدليس" في الرد على من زعم تدليس شعبة:
وَكيْفَ لا وَقَدْ كَفَاَنَا عَلَنَا
…
مِنْ شَرِّ تَدْلِيس ثَلاثَةٍ لَنَا
قَتَادَةٍ ثُمَّ السَّبِيعِي الأعْمَشِ
…
فَاقْنَعْ بِمَا قَالَ وَلا تفَتِّشِ
فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ جَيَّدَةُ
…
إِذَا أتَتْ لَنَا مِنْهُمْ رِوَايَةُ
أيْ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةٍ مُعَنْعَنَهْ
…
مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَاع آمِنَهْ
والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو بيان من يستحق أن يُخْرَجَ مِن المسجد، وهو الذي أكل بصلًا، أو ثومًا، ووجدت منه الرائحة الكريهة.
ومنها: أن كون الشيء خبيثًا لا يستلزم تحريمه، بل العكس هو اللازم، فكل محرم خبيث، ولا عكس، ففي هذا الحديث سَمَّى عمر رضي الله عنه البصل والثوم شجرتين خبيثتين، مع حل أكلهما، وقد ثبت هذا مرفوعًا، ففي صحيح مسلم رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: لم نَعدُ أنْ فُتحَتْ خيبر، فوقعنا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك البقلة الثوم، والناس جياع، فأكلنا منها أكلًا شديدًا، ثم رُحْنَا إلى المسجد، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريح، فقال:"من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا، فلا يقرَبَنَّا في المسجد" فقال الناس: حُرِّمَتْ، حُرِّمت، فبلغ ذاك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيها الناس، إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرة أكره ريحها".
فهذا نص في كونها حلالًا، مع كونها خبيثة، فيستفاد منه أن التحريم لا يكون إلا بالوحي، فلا يجوز لأحد أن يتسارع في الحكم على الشيء بالحرمة بمجرد أن تستخبثه نفسه، إلا بدليل شرعي. والله أعلم.
ومنها: أن رحبة المسجد له حكم المسجد -كما تقدم عن الحافظ- حيث لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه إليه، بل أبعده إلى البقيع.
ومنها: أن إزالة المنكر تكون باليد لمن أمكنه.
ومنها: أن من أراد أكل الثوم ونحوه، ممن يحضر المسجد، فليكسر حِدَّةَ رائحته بالطبخ، وهو معنى قوله:"فليمتهما طبخًا". والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
18 - ضَرْبُ الْخبَاءِ فِي الَمسَاجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على جواز ضرب الخباء في المسجد للاعتكاف ونحوه.
والخِبَاءُ: -بالكسر- وزان كِسَاء: ما يُعْمَلُ من وَبَر، أو صوف، وقد يكون من شعر، والجمعَ أخْبِيَةٌ، بغير همز، مثل كساء، وأكْسِيَةٍ، ويكون على عمودين، أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت. أفاده الفيومي.
709 -
أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمَرَ فَضُرِبَ لَهُ خِبَاءٌ، وَأَمَرَتْ حَفْصَةُ فَضُرِبَ لَهَا خِبَاءٌ، فَلَمَّا رَأَتْ زَيْنَبُ خِبَاءَهَا، أَمَرَتْ فَضُرِبَ لَهَا خِبَاءٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"آلْبِرَّ تُرِدْنَ"، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ، وَاعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(أبو داود) سليمان بن سَيْفَ بن يحيى بن درهم الطائي مولاهم الحرّاني، ثقة حافظ، من [11] توفي سنة 272، تقدم في 103/ 136.
2 -
(يعلى) بن عبيد بن أبي أمية الكوفي، أبو يوسف الطنافسي، ثقة إلا في حديثه عن الثوري، ففيه لين، توفي سنة بضع و200، من كبار [9] أخرج له الجماعة، تقدم في 105/ 140.
3 -
(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني، أبو سعيد القاضي، ثقة ثبت، توفي سنة 144، من [5] أخرج له الجماعة، تقدم في 22/ 23.
4 -
(عمرة) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، ثقة، من [3] توفيت قبل سنة 100 أو بعدها، أخرج لها الجماعة، تقدمت في 134/ 203.
5 -
(عائشة) بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم إلا شيخه، فإنه من أفراده، وأنهم مدنيون، إلا شيخه، فحراني، ويعلى، فكوفي.
ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعية، يحيى عن عمرة.
ومنها: أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210).
ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة من صيغ الأداء، وكلها من صيغ الاتصال على الأصح. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عمرة) وفي رواية الأوزاعي عند البخاري في أواخر الاعتكاف، عن يحيى بن سعيد "حدثتني عمرة بنت عبد الرحمن"(عن عائشة) رضي الله عنها، وفي رواية أبي عوانة، من طريق عمرو بن الحارث، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة "حدثتني عائشة". قاله في الفتح. أنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أراد يعتكف) الاعتكاف في اللغة: هو الحبس، واللزوم، والمكث، والاستقامة، والاستدارة.
وفي الشرع: هو المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة. قاله في "النيل" جـ 5 ص 356.
(صلى الصبح، ثم دخل في المكان الذي يريد أن يعتكف فيه) قال السندي رحمه الله تعالى: ظاهره أن المعتكف يشرع في الاعتكاف بعد صلاة الصبح، ومذهب الجمهور أنه يشرع من ليلة الحادي والعشرين، وقد أخذ بظاهر الحديث قوم، إلا أنهم حملوه على أنه
يشرع من صبح الحادي والعشرين، فرد عليهم الجمهور بأن المعلوم أنه كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر، ويحث أصحابه عليه، وعدد العشر عدد الليالي، فيدخل فيها الليلة الأولى، وإلا لا يتم هذا العدد أصلًا، وأيضًا من أعظم ما يطلب بالاعتكاف إدراك ليلة القدر، وهي تكون ليلة الحادي والعشرين، كما جاء في حديث أبي سعيد، فينبغي له أن يكون معتكفًا فيها، لا أن يعتكف بعدها.
وأجاب النووي عن الجمهور بتأويل الحديث أنه دخل المعتكف، وانقطع فيه، وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف، بل كان من قبل المغرب معتكفًا، لابثًا في جملة المسجد، فلما صلى الصبح انفرد. انتهى.
ولا يخفى أن قولها "كان إذا أراد أن يعتكف" يفيد أنه كان يدخل المعتكف حين يريد الاعتكاف، لا أنه يدخل فيه بعد الشروع في الاعتكاف، وعلى هذا التأويل لم يكن بيانًا لكيفية الشروع، ثم لازم هذا التأويل أن يقال: السنة للمعتكف أن يلبث أول ليلة في المسجد، ولا يدخل في المعتكف، وإنما يدخل فيه من الصبح، وإلا يلزم ترك العمل بالحديث، وعند تركه لا حاجة إلى التأويل، والجمهور لا يقولون بهذا السنة، فيلزمهم ترك العمل بالحديث.
وأجاب القاضي أبو يعلى من الحنابلة يحمل الحديث على أنه كان يفعل ذلك في يوم العشرين، ليستظهر ببعض يوم زيادة قبل يوم العشر.
قال السندي: وهذا الجواب هو الذي يفيده النظر في أحاديث الباب، فهو أولى، وبالاعتماد أحرى.
بقي أنه يلزم منه أن يكون السنة الشروع في الاعتكاف من صبح العشرين استظهارًا باليوم الأول، ولا بعد في التزامه، وكلام الجمهور لا ينافيه، فإنهم ما تعرضوا له إثباتًا، ولا نفيًا، وإنما تعرضوا للدخول ليلة الحادي والعشرين، وهو حاصل، غاية الأمران قواعدهم تقتضي أن يكون هذا الأمر سنة عندهم، فلنقل به، وعدم التعرض ليس دليلًا على العدم، ومثل هذا الإيراد يرد على جواب النووي، مع ظهور مخالفته للحديث. انتهى كلام السندي رحمه الله جـ 2 ص 44 - 45.
وذكر في "المنهل" ما حاصله: استدل به على أن أول وقت الاعتكاف من أول النهار، وبه قال الأوزاعي، والليث، والثوري.
وذهب جماعة منهم الأئمة الأربعة إلى أنه يدخل معتكفه قبل غروب الشمس، لما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال:"من كان اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر".
قالوا: فإن العشر بدون هاء عدد الليالي، قال الله تعالى:{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]، وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين.
وأجابوا عن حديث الباب بأنه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد أول الليل، ولكنه لم
يخل بنفسه في المكان الذي أعده للاعتكاف إلا بعد صلاة الصبح، وإنما لم يدخله ليلًا؛ لأن الدخول فيه للخلوة، والليل وقت خلوة بنفسه، فلم يحتج فيه إلى الخلوة. المنهل جـ 10 ص 231.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي أن الاعتكاف يكون من أول الليل، ولا ينافيه حديث الباب، لإمكان الجمع بحمله على أن المراد خلوته في المكان المعدّ بعد الصبح، فلا ينافي أنه دخل المسجد أول الليل.
وحاصل المسألة: أن من أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان يدخل المسجد من أول ليلة الحادي والعشرين، كما يدل عليه حديث "كان يعتكف العشر الأواخر"، إذ المراد بها عدد الليالي، كما تقدم، ثم إذا صلى الصبح دخل المكان الذي أعَدَّهُ ليخلو فيه، كما دل عليه "ثم دخل في المكان الذي يريد أن يعتكف فيه".
فحصل الجمع بين الحديثين. وأما ما ادعاه السندي من أن هذا التأويل يخالف الحديث فغير صحيح، بل هو أقرب من تأويله بزيادة
يوم قبل العشر، إذ هو يستلزم اعتكاف إحدى عشرة، ومخالفة هذا للحديث أظهر مما ادعاه. فتبصر. والله أعلم.
(فأراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فأمر) بالبناء للفاعل، أي أمر بضرب خبائه الذي يعتكف فيه، ففيه حذف معمول
"أمر"، ولفظ أبي داود "فأمر ببنائه"(فضرب له خباء) تقدم ضبط الخباء، ومعناه أول الباب، وقد بين في رواية البخاري أنها هي التي
ضربت الخباء، ولفظه "فكنت أضرب له خباء، فيصلي الصبح، ثم يدخله".
(وأمرت حفصة، فضرب لها خباء) وذلك بعد أن رأت ضرب قبة عائشة، وبعد أن استأذنت هي لها، ففي رواية للمصنف في الاعتكاف من الكبرى من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد الأنصاري "فاستأذنته -يعني عائشة- فأذن لها، فسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها، ففعلت، فلما رأت زينب بنت جحش، أمرت ببنائها، فبني".
وفيه من طريق ابن عيينة، عن يحيى "فاستأذنته عائشة، فأذن لها، ثم استاذنته حفصة، فأذن لها، وكانت زينب لم تكن استأذنته، فسمعت بذلك، فاستأذنت. . .".
وللبخاري من طريق الأوزاعي "فاستأذنته عائشة أن تعتكف، فأذن لها، فضربت فيه قبة، فسمعت بها حفصة، فضربت قبتها"، وفي رواية "وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها، ففعلت، فلما رأت زينب بنت جحش أمرت ببناء، فبني لها".
(فلما رأت زينب) بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها (خباءها) أي خباء حفصة رضي الله عنها (أمرت، فضرب لها خباء) وإنما فعلت ذلك غَيْرَةً، ففي رواية عمرو بن الحارث "فلما رأت زينب ضربت معهن، وكانت امرأة غيورًا".
قال الحافظ رحمه الله تعالى: ولم أقف في شيء من الطرق أن زينب استأذنت، وكان هذا هو أحد ما بعث على الإنكار الآتي. انتهى. فتح جـ 4 ص 324.
قال الجامع عفا الله عنه: فيما قاله الحافظ نظر؛ لأنه قد تقدم في رواية المصنف في الكبرى من طريق ابن عيينة: أنها استأذنت. فتنبه.
(فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الكبرى من رواية الأوزاعي "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه، فبصر بالأبنية، فقال: ما هذا؟ فقالوا: بناء عائشة، وحفصة، وزينب".
وله من رواية ابن عيينة "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح أتى معتكفه، فلما صلى الصبح إذا هو بأربعة أبنية، قال: لا لمن هذه؟ " قالوا: لعائشة، وحفصة، وزينب".
والمراد بالأربعة: قبتة، والثلاثة لهن.
ووقع في رواية أبي معاوية عند مسلم، وأبي داود "فأمرت زينب بخبائها، فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائها، فضرب". وهذا يقتضي تعميم الأزواج بذلك، وليس كذلك، بل هو مفسر بما تقدم من الروايات، فالمراد أزواجه الثلاث. أفاده الحافظ رحمه الله.
(قال: آلبر تردن) بهمزة الاستفهام الإنكاري، ممدودة، وبغير
مد، ونصب البر على أنه مفعول مقدم لتردن، بخطاب جمع المؤنث، والبر: الطاعة، والعبادة، أي ما أردتن البر بهذا العمل، وإنما أردتن قضاء مقتضى المغيرة.
ووقع في بعض النسخ النظامية "يردن" بالياء، ونحوه في الاعتكاف من الكبرى ولفظه "آلبر يردن بهذا؟ ".
ووقع في البخاري "آلبر تُرَون بهن" بضم أوله، أي تظنون، وفي رواية له:"آلبر تقولون بهن" أي تظنون، والقول يطلق على الظن.
(فلم يعتكف في رمضان، واعتكف عشرًا من شوال) وفي الاعتكاف من الكبرى من طريق سفيان "فلم يعتكف في ذلك العشر، واعتكف في العشر من شوال"، وفيه من طريق الأوزاعي "ما أنا بمعتكف، فرجع، فلما أفطر اعتكف عشرًا من شوال".
وفي رواية أبي معاوية عند البخاري "فأمر بخبائه، فقُوِّضَ"، وهو بضم القاف، وتشديد الواو المكسورة بعدها ضاد معجمة، أي نُقِضَ.
وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون الحامل لهن على ذلك المباهاة، والتنافس الناشئ عن المغيرة، حرصًا على القرب منه خاصة، فيخرج الاعتكاف عن موضوعه، أو لَمَّا أذن لعائشة وحفصة أوَّلًا كان ذلك خفيفًا بالنسبة إلى ما يفضي إليه الأمر، من توارد بقية النسوة على ذلك، فيضيق المسجد على المصلين، أو بالنسبة إلى أن اجتماع النسوة
عنده يصيره كالجالس في بيته، وربما شغلنه عن التخلي لما قصد من العبادة، فيفوت مقصود الاعتكاف. قاله في الفتح جـ 4 ص 324.
(واعتكف عشرًا من شوال) لم يبين العشر في هذه الرواية، ووقع عند الشيخين من رواية أبي معاوية، عن يحيى "فلم يعتكف في رمضان، حتى اعتكف في العشر الأُوَلِ من شوال"، وعند البخاري من رواية ابن فضيل "فلم يعتكف في رمضان، حتى اعتكف في آخر العشر من شوال".
وجمع في "الفتح" بين الروايتين، بأن المراد بقوله "آخر العشر من شوال" انتهاء اعتكافه.
والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (17/ 709)، و"الكبرى"(18/ 788) عن أبي داود الحرَّاني، عن يعلي بن عبيد، عن يحيى الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، وفي "الاعتكاف" من "الكبرى"(2/ 3345) عن أحمد بن سليمان الرهاوي، عن مسكين بن بكير، عن الأوزاعي،
عن يحيى، به. وفي. (53347) منه عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة، عن يحيى، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصوم" عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، وعن عبد الله بن يوسف، عن مالك، وعن محمد بن سلام، عن محمد بن فضيل، وعن محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، عن الأوزاعي.
وأخرجه مسلم فيه عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية، وعن ابن أبي عمر، عن ابن عيينة، وعن سلمة بن شبيب، عن أبي المغيرة، عن الأوزاعي، وعن عمرو بن سوَّاد، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، وعن محمد بن رافع، عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، وعن زهير بن حرب، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق.
وأخرجه أبو داود فيه عن عثمان بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، ويعلي بن عبيد، عشرتهم عن يحيى بن سعيد، به.
وأخرجه الترمذي فيه عن هناد، عن أبي معاوية، به. وقال: رواه الأوزاعي، وسفيان الثوري، عن يحيى هكذا. ورواه مالك،
وغير واحد، عن يحيى، مرسلًا.
وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يعلى بن عبيد، به، وفي ألفاظهم اختلاف، والمعنى متقارب. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو جواز ضرب الخباء في المسجد للحاجة، لكن بشرط أن لا يضيق بالمصلين.
ومنها: أنه قال الإسماعيلي: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأن أول شوال هو يوم الفطر، وصومه حرام.
ومنها: قول بعضهم: في اعتكافه صلى الله عليه وسلم في شوال دليل على أن النوافل المعتادة إذا فأتت تقضى استحبابًا.
ومنها: أنه استدل به المالكية على وجوب قضاء العمل لمن شرع فيه، ثم أبطله. قال الحافظ: ولا دلالة فيه لما يأتي.
ومنها: ما قال ابن المنذر وغيره: في الحديث أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها، وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها، وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها.
وعن أهل الرأي إذا أذن لها الزوج، ثم منعها، أثم بذلك، وامتنعت.
وعن مالك: ليس له ذلك، وهذا الحديث حجة عليهم.
ومنها: أن الأفضل للنساء أن لا يعتكفن في المسجد.
ومنها: أن فيه جواز الخروج من الاعتكاف بعد الدخول فيه، وأنه لا يلزم بالنية، ولا بالشروع فيه، ويستبط منه سائر التطوعات، خلافًا لمن قال باللزوم.
ومنها: أن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي، والليث، والثوري.
وقال الأئمة الأربعة، وطائفة: يدخل قبيل غروب الشمس، وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل، ولكن إنما تخلى بنفسه في
المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا الجواب يشكل على من منع الخروج من العبادة بعد الدخول فيها، وأجاب عن هذا الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل المعتكف، ولا شرع في الاعتكاف، وإنما هَمَّ به، ثم عرض له المانع المذكور، فتركه، فعلى هذا فاللازم أحد أمرين: إما أن يكون شرع في الاعتكاف، فيدل على جواز الخروج منه، وإما أن لا يكون شرع، فيدل على أن أول وقته بعد صلاة الصبح.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح عندي أن أول الاعتكاف من أول الليل، وأن المراد بدخوله معتكفه بعد صلاة الصبح خلوته بنفسه، لا إنشاء الاعتكاف، جمعًا بين الأدلة، كما تقدم. والله أعلم.
ومنها: أن المسجد شرط للاعتكاف؛ لأن النساء شرع لهن الاحتجاب في البيوت، فلو لم يكن المسجد شرطًا ما وقع ما ذكر من الإذن والمنع، ولاكتفى لهن بالاعتكاف في مساجد بيوتهن.
ومنها: قول إبراهيم بن علية: في قوله: "آلبر تردن" دلالة على أنه ليس لهن الاعتكاف في المسجد، إذ مفهومه أنه ليس ببر لهن. قال الحافظ: وما قاله ليس بواضح.
قال الجامع: الأمر كما قال الحافظ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة وحفصة فيه، فلو لم يكن برًا لما أذن لهما، وإنما جاء عدم كونه برًا من كونهن تنافسن فيه. فتبصر. والله أعلم.
ومنها: أن فيه شؤم المغيرة؛ لأنها ناشئة عن الحسد المفضي إلى ترك الأفضل لأجله.
ومنها: أن فيه ترك الأفضل إذا كان فيه مصلحة.
ومنها: أن من خشي على عمله الرياء جاز له تركه، وقطعه.
ومنها: أن الاعتكاف لا يجب بالنية، وأما قضاؤه صلى الله عليه وسلم له فعلى طريق الاستحباب؛ لأنه كان إذا عمل عملًا أثبته، ولهذا لم ينقل أن نساءه اعتكفن معه في شوال.
قال الجامع: هذا يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف بالفعل، وقد قدمنا أن الراجح أنه اعتكف، وإنما معنى "دخل معتكفه" أي خلا بنفسه في
ذلك المكان، فصواب هذا الاستنباط أن يقال: فيه جواز الخروج من نفل الاعتكاف، وأنه لا يجب قضاؤه إن تركه، وأما قضاؤه صلى الله عليه وسلم فعلى طريق الاستحباب إلخ. والله أعلم.
ومنها: أن المرأة إذا اعتكفت في المسجد استحب لها أن تجعل لها ما يسترها، ويشترط أن تكون إقامتها في موضع لا يضيق على
المصلين.
ومنها: أن فيه بيان مرتبة عائشة في كون حفصة لم تستأذن إلا بواسطتها، ويحتمل أن يكون سبب ذلك كونه صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في بيت عائشة. والله أعلم. ذكر هذه الفوائد في الفتح جـ 4 ص 325.
والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
710 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ رَمْيَةً فِي الأَكْحَلِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) أبو قدامة السرخسي، ثقة مأمون
سني، من [10] تقدم في 15/ 15.
2 -
(عبد الله بن نُمَير) الهمداني، أبو هشام الكوفي، ثقة صاحب حديث من أهل السنة، من كبار [9] توفي سنة 199، عن
84 سنة.
قال أبو نعيم: سئل سفيان عن أبي خالد الأحمر؟ فقال: نعم الرجل عبد الله بن نمير. وقال عثمان الدارمي: قلت ليحيى بن معين: ابن إدريس أحب إليك في الأعمش، أو ابن نمير؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال أبو حاتم: كان مستقيم الأمر. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي: ثقة، صالح الحديث، صاحب سنة. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، صدوقًا. قال ابنه محمد وغيره: مات سنة 199، وقيل: إنه ولد في سنة 115. أخرج له الجماعة.
3 -
(هشام بن عروة) أبو المنذر المدني، ثقة فقيه، من [5] تقدم في 49/ 61.
4 -
(عروة) بن الزبير بن العوام المدني، ثقة فقيه، من [3] تقدم في 40/ 44.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم،
إلا شيخه، فانفرد به هو، والشيخان.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، والابن عن أبيه، هشام عن عروة، وفيه أحد الفقهاء السبعة، عروة، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، من صيغ الاتصال على الأصح. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: أصيب سعد) هو ابن معاذ بن النعمان الأنصاري الأشهلي، أبو عمرو سيد الأوس
رضي الله عنه (يوم الخندق) أي يوم غزوة الخندق، وتسمى غزوة الأحزاب.
فأما تسميتها بالخندق فلأجل الخندق الذي حُفرَ حول المدينة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي أشار بذلك سلمان الفارسي، فيما ذكر أصحاب المغازي، منهم أبو معشر، قال: قال سلمان للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة، وعمل فيه بنفسه ترغيبًا للمسلمين، فسارعوا إلى عمله حتى فرغوا منه، وجاء المشركون، فحاصروهم.
وأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم قريش، وغطفان، واليهود، ومن تبعهم، وقد أنزل الله تعالى في هذه القصة صدر سورة الأحزاب.
واختلف في أي سنة هي، فقال موسى بن عقبة: كانت في شوال
سنة أربع. وتابعه عليه مالك. ومال إليه البخاري في الصحيح.
وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس. وبذلك جزم غيره من أهل المغازي. انظر التفصيل في "الفتح" في "كتاب المغازي" جـ 8 ص 148 - 149.
(رماه رجل من قريش) بَيَّنَ البخَاري اسمه في المغازي عن زكريا ابن يحيى، عن عبد الله بن نمير، بسند المصنف، فقال فيه: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش، يقال له: حِبَّان بن العَرِقَة". . . وحبان -بكسر المهملة، والعرقة -بفتح المهملة، وكسر الراء، ثم قاف، اسم أمه، وهو حبان بن قيس، ويقال: ابن أبي قيس ابن علقمة بن عبد مناف. أفاده في "الفتح".
(رَمْيَةً في الأكحل) وفي بعض النسخ "رماه" بصيغة الماضي، وهو الذي في الكبرى للمصنف، والرمية -بفتح الراء- المرة من الرمي،
كما قال ابن مالك:
وَفَعْلةٌ لِمَرَّةٍ كَجَلْسَهْ
…
وَفِعْلَةٌ لِهَيْئَةٍ كَجِلْسَهْ
وهو بالنصب على أنه مفعول مطلق لِرَمَى.
و"الأكحل": -بفتح الهمزة، والمهملة، بينهما كاف ساكنة-: وهو عِرْقٌ في وسط الذراع. قال الخليل: هو عرق الحياة، ويقال: إن في كل عضو منه شعبة، فهو في اليد الأكحل، وفي الظهر الأبهر، وفي الفخذ النَّسا، إذا قطع لم يرقأ الدم (فضرب عليه) أي على سعد،
وعدّاه بعلى؛ لأن الخيمة تعلوه، أو "على" بمعنى اللام، أي له (رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي "الكبرى" زيادة " تعني"(خيمة في المسجد) فيه جواز ضرب الخيمة في المسجد للمريض، وهو موضع الترجمة للمصنف، وهذا كما تقدم مشروط يكون المسجد واسعًا، لا يتضرر به أهله (ليعوده من قريب) أي ليمكنه عيادته من محل قريب منه.
وتمام الحديث عند البخاري "فلم يَرُعْهم -وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دمًا، فمات فيها". وقولها "يَرُعْهُم"، أي لم يفزعهم، وقولها:"يغذو" أي يسيل. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (18/ 710) - وفي "الكبرى"(18/ 789)، عن عبيد الله بن سعيد عن عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود.
فأخرجه البخاري في "الصلاة"، وفي "المغازي"، وفي "المناقب"، عن زكريا بن يحيى البلخي اللؤلؤي الحافظ، عن عبد الله نمير به. وقال في المناقب تعليقًا: تابعه أبان العطار- يعني، عن هشام بن عروة. وفي المغازي عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن نمير به.
وأخرجه مسلم في "المغازي" عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب.
وأخرجه أبو داود في "الجنائز" عن عثمان بن أبي شيبة- كلهم عن عبد الله بن نمير به.
وأخرجه ابن خزيمة برقم 1333. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو جواز ضرب الخباء في المساجد.
ومنها: بيان منقبة سعد بن معاذ رضي الله عنه.
ومنها: أن على الإمام العناية برعاياه، فيقوم بمصالحهم، من تمريض المريض، وعيادته، وإعطاء الدواء له.
ومنها: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق، وشدة الرأفة بأصحابه.
ومنها: مشروعية عيادة المريض.
ومنها: جواز ترك المريض في المسجد، وإن كان في ذلك مظنة
لخروج شيء منه يتلوث به المسجد. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
19 - إدْخَالُ الصِّبْيَانِ المَسَاجِدَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز إدخال الصبيان في المساجد.
وأما حديث "جَنِّبُوا مساجدكم صبيانكم" فضعيف، سيأتي الكلام عليه في المسائل إن شاء الله تعالى.
والصبيان -بكسر الصاد، وتضم- جمع صبي، قال المجد: والصبي: من لم يُفْطَمْ بعدُ، جمعه أصْبِيَةٌ، وأصْبٍ، وصَبْوَةٌ، وصِبْيَةٌ، وصِبْوانٌ، وَصِبْيَانٌ. اهـ. "ق". والله تعالى أعلم.
711 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ، يَقُولُ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ صَبِيَّةٌ يَحْمِلُهَا، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ عَلَى عَاتِقِهِ، يَضَعُهَا إِذَا رَكَعَ، وَيُعِيدُهَا إِذَا قَامَ، حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ، يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت، من [10] تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد أبو الحرث الفهمي المصري الإمام، ثقة فقيه حجة، من [7] تقدم في 31/ 35.
3 -
(سعيد بن أبي سعيد) كيسان المقبري أبو سَعْد المدني ثقة تغير قبل موته بأربع سنين، من [3] تقدم في 95/ 117.
4 -
(عمرو بن سليم) -بالتصغير- بن خَلْدَة -بفتح المعجمة، وسكون اللام، وقيل بفتحها، فدال مهملة- بن مَخْلَد بن عامر بن زريق ابن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن عصب بن جشم، بن الخزرج الأنصاري الزُّرَقي، ثقة من كبار التابعين، من [2] ويقال: له رؤية.
قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن خراش: ثقة، في حديثه اختلاط. وقال العجلي: مدني ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الواقدي: كان قد راهق الاحتلام يوم مات عمر، وقال الفلاس: مات سنة 104، أخرج له الجماعة.
5 -
(أبو قتادة) الحارث بن رِبْعِي، وقيل غيره، الأنصاري السَّلَمِي المدني صحابي شهير رضي الله عنه، تقدم في 23/ 24. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، نُبَلاء.
ومنها: أن الجماعة اتفقوا على تخريج أحاديثهم.
ومنها: أنهم مدنيون، إلا شيخه، فبغلاني، والليث، فمصري.
ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، سعيد، عن عمرو بن سليم.
ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والسماع. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عمرو بن سليم) بصيغة التصغير، كما تقدم قريبًا (الزرقي) -بضم الزاي، وفتح الراء- نسبة إلى زريق جده الأعلى، كما سبق في سلسلة نسبه (أنه سمع أبا قتادة) الأنصاري رضي الله عنه (يقول: بينما نحن جلوس) جمع جالس، و"بينا" مضافة إلى الجملة الاسمية، أي بين أوقات جلوسنا (في المسجد) متعلق بجلوس (إِذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) الجملة جواب بينا (يحمل أمامة) جملة فعلية في محل نصب على الحال من "رسول الله"، ولفظ البخاري "وهو حاملٌ أمامةَ" بالجملة الاسمية، وتنوين حامل، على المشهور، ويروى بالإضافة.
و"أُمامة" -بضم الهمزة، وتخفيف الميمين- بنت زينب - رضي الله
عنهما -. قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: تزوجها علي بعد موت فاطمة رضي الله عنها، زوجها منه الزبير بن العوام، وكان أبوها قد أوصى بها إلى الزبير، فلما قتل علي، وآمَتْ منه أمامة، قالت أم الهيثم النخعية [من الوافر]:
أِشَابَ ذَوائِبِي وَأذَلَّ رَكْبِي
…
أُمَامَةُ حِينَ فَارَقَتِ الْقرِينَا
تُطِيفُ بِهِ لِحَاجَتِهَا إلَيْه
…
فَلَمَّا اسْتَيْأسَتْ رَفَعَتْ رَنِينَا
وكان علي قد أمر المغيرة بن نوفل بن الحارث أن يتزوج أمامة بنت أبي العاص، فتزوجها المغيرة، فولدت له يحيى، وبه كان يكنى، وهلكت عند المغيرة. وقيل: إنها لم تلد لعلي، ولا للمغيرة، وقال الزبير بن بكار: ليس لزينب عقب. أفاده في "الإصابة" جـ 12 ص 128 - 129.
(بنت أبي العاص بن الربيع) بنصب "بنت" على البدلية من "أمامة"، ويحتمل القطع إلى الرفع، بتقدير مبتدأ، أي "هي" والنصب بتقدير فعل، أي "أعني".
هكذا وقع عند المصنف رحمه الله، والأكثرين: بنت أبي العاص ابن الربيع، على الصواب. ووقع عند البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، "ولأبي العاص بن ربيعة".
قال في الفتح: قوله: ابن رييعة، كذا رواه الجمهور عن مالك،
ورواه يحيى بن بكير، ومعن ابن عيسى، وأبو مصعب وغيرهم، عن مالك، فقالوا: ابن الربيع، وهو الصواب. وغفل الكرماني، فقال:
خالف البخاري، فقال: ربيعة، وعندهم الربيع، والواقع أن من أخرجه من القوم من طريق مالك، كالبخاري، فالمخالفة فيه إنما هي من مالك. وادعى الأصيلي أنه ابن الربيع بن ربيعة، فنسبه مالك مرة إلى جده. ورده عياض، والقرطبي، وغيرهما، لإطباق النسابين على خلافه. نعم قد نسبه مالك إلى جده في قوله: ابن عبد شمس، وإنما هو ابن عبد العزى بن عبد شمس، أطبق على ذلك النسابون أيضًا.
واسم أبي العاص: لقيط، وقيل: مِقْسم، وقيل: القاسم، وقيل: مِهْشم، وقيل: هشيم، وقيل: ياسر، وهو مشهور بكنيته. أسلم قبل الفتح، وهاجر، ورد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب، وماتت معه، وأثنى عليه في مصاهرته، وكانت وفاته في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 176.
(وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم) بَيَّنَ بهِذه الجملة قربها من النبي صلى الله عليه وسلم، حث حملها، وهو يصلي.
وزينب هي أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، وأول من تزوج منهن، ولدت قبل البعثة بمدة، قيل: إنها عشر سنين، واختلف هل القاسم قبلها، أو بعدها؟ وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع العبشمي، وأمه هالة بنت خُوَيْلِد. فولدت له عليًا، مات وقد ناهز الاحتلام، ومات في
حياته، وأمامة عاشت حتى تزوجها علي بعد فاطمة. وتوفيت زينب رضي الله عنها في أول سنة ثمان من الهجرة. أفاده في "الإصابة" جـ 2 ص 273 - 274.
(وهي صبية، يحملها) جملة معترضة بين المعطوف، وهو قوله:"فصلى"، والمعطوف عليه، وهو قوله:"خرج". بَيَّنَ بها اعتياده صلى الله عليه وسلم لحملها في غير الصلاة، يعني أنه جرت عادته صلى الله عليه وسلم يحمل أمامة رضي الله عنها (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أظهر الفاعل، وإن كان المحل محل إضمار، تلذذا بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهي على عاتقه) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل.
ولم تعين تلك الصلاة في رواية المصنف. وقد وقع تعيينها في رواية أبي داود، قال:"بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر، أو العصر، وقد دعا بلال إلى الصلاة، إذ خرج علينا، وأمامة على عاتقه في مصلاه، فقمنا خلفه، فكبر، فكبرنا، وهي في مكانها". وعند الزبير بن بكار، وتبعه السهيلي الصبح.
(يضعها إِذا ركع، ويعيدها إِذا قام) أي إذا انحنى للركوع وضعها على الأرض، وإذا قام من السجود أعادها إلى محلها، وهو عاتقه.
وللبخاري "فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها". قال في الفتح: كذا لمالك أيضًا، ورواه مسلم أيضًا من طريق عثمان بن أبي سليمان،
ومحمد بن عجلان، والنسائي من طريق الزبيدي، وأحمد من طريق ابن جريج، وابن حبان من طريق أبي العميس، كلهم عن عامر بن
عبد الله شيخ مالك، فقالوا: إذا ركع وضعها".
ولأبي داود من طريق المقبري، عن عمرو بن سليم:"حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع، وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده قام، وأخذها، فردها في مكانها".
قال الحافظ رحمه الله: وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه، لا منها، بخلاف ما أوله الخطابي، حيث قال: يشبه أن تكون الصبية كانت قد ألفته، فإذا سجد تعلقت بأطرافه، والتزمته، فينهض من سجوده، فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع، فيرسلها. قال: هذا وجهه عندي.
وقال ابن دقيق العيد: من المعلوم أن لفظ "حمل" لا يساوي لفظ "وضع" في اقتضاء فعل الفاعل؛ لأنا نقول: فلان حمل كذا، ولو كان غيره حمَّلَه، بخلاف "وضع"، فعلى هذا فالفعل الصادر منه هو الوضع، لا الرفع، فيقل العمل. قال: وكنت أحسب هذا حسنًا إلى أن رأيت في بعض طرقه الصحيحة: "فإذا قام أعادها".
قال الجامع: وهي رواية مسلم -كما قال الحافظ- ولفظ المصنف: "ويعيدها إذا قام". قال الحافظ: ورواية أبي داود التي قدمناها أصرح في ذلك، وهي:"ثم أخذها، فردها في مكانها"، ولأحمد من
طريق ابن جريج: "وإذا قام حملها، فوضعها على رقبته".
قال الحافظ: ووهم من عزاه للصحيحين.
(حتى قضى صلاته) أي حتى أتم صلاته (يفعل ذلك بها) أي يفعل ذلك الفعل، من الوضع، والرفع، بأمامة رضي الله عنها. والجملة مستأنفة ذكرت تأكيداً لما قبلها.
والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (18/ 711) -وفي "الكبرى"- 18/ 790 عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن عمرو بن سليم الزرقي، عنه.
وفي (37/ 827)، و"الكبرى"(37/ 901)، (48/ 1128) عن قتيبة، عن سفيان، عن عثمان بن أبي سليمان، عن عامر بن عبد الله ابن الزبير، عن عمرو بن سليم، عنه.
وفي (48/ 1127)، عن قتيبة عن مالك، عن عامر بن عبد الله، به. قال الحافظ المزي رحمه الله: وعن محمد بن صدقة الحمصي، عن محمد بن حرب، عامر بن عبد الله نحوه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، به. وفي "الأدب" عن أبي الوليد الطيالسي، عن ليث بن سعد، به.
ومسلم في "الصلاة" عن القعنبي، ويحيى بن يحيى، وقتيبة، ثلاثتهم، عن مالك به، وعن قتيبة، عن ليث به، وعن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن عثمان بن أبي سليمان، ومحمد بن عجلان، كلاهما عن عامر بن عبد الله به، وعن محمد بن المثنى، عن أبي بكر الحنفي، عن عبد الحميد بن جعفر، عن سعيد المقبري، به. وعن أبي الطاهر بن السرح، وهارون بن سعيد الأيلي، كلاهما عن ابن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن عمرو بن سليم، به.
وأبو داود فيه عن القعنبي، به. وعن قتيبة، عن الليث، به.
وعن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، به. وعن يحيى بن خلف، عن عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد المقبري نحوه، وهو أتمها. اهـ. "تحفة الأشراف" ج 9 ص 263، 264. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز إدخال الصبيان المساجد، وأما ما أخرجه الطبراني بسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنبوا مساجدكم صبيانكم، وخصوماتكم، وحدودكم، وشراءكم، وبيعكم،
وجمروها يوم جمعكم، واجعلوا على أبوابها مطاهركم"؛ فهو منقطع، لأن الراوي عن معاذ مكحول، وهو لم يسمع منه.
وكذا ما أخرجه ابن ماجه بسنده عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع". ففي سنده الحارث بن شهاب، وهو ضعيف.
وقد عارضهما حديث أمامة المذكرر في الباب، وهو متفق عليه، وحديث أنس رضي الله عنه المتفق عليه أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إني لأسمع بكاء الصبي، وأنا في الصلاة، فأخفف مخافة أن تفق أمه".
وعلى تقدير الصحة، فيجمع بين الأحاديث بحمل الأمر بالتجنيب على الندب، كما قال العراقي في شرح الترمذي، أو بأنه تُنَزَّهُ المساجدُ عمن لا يؤمن حدثه فيها. أفاده في "نيل الأوطار" جـ 2 ص 222.
ومنها: أن بعضهم استدل به على أن لمس المحارم، أو من لا تشتهى غير ناقض للطهارة. قال ابن دقيق العيد: وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون من وراء حائل، وهذا يستمد من أن حكايات الحال لا عموم لها. اهـ.
قال الجامع: مسألة نقض الطهارة بلمس المرأة قد قدمنا تحقيقها في
الطهارة، وأن الراجح من أقوال أهل العلم فيها القول بعدم النقض مطلقًا، لرجحان دليله. راجع باب رقم 120، وباب رقم 121 تستفد.
ومنها: أن الظاهر طهارة ثياب من لا يحترز من النجاسة كالأطفال.
ومنها: جواز صحة صلاة من حمل آدميًا، وكذا من حمل حيوانًا طاهرًا، قال في الفتح: وللشافعية تفصيل بين المستجمر وغيره، وقد يجاب عن هذه القصة بأنها واقعة حال، فيحتمل أن تكون أمامة كانت حينئذ قد غسلت.
قال الجامع: هذا فيه نظر، بل الظاهر أن الحمل جائز إلى أن تتحقق النجاسة، والله أعلم.
منها: أن فيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وشفقته على الصغار، وإكرامه لهم، جبرًا لهم، ولوالديهم.
ومنها: ما قاله الفاكهي: وكأن السر في حمله أمامة في الصلاة دفع ما كانت العرب تألفه من كراهة البنات، وحملهن، فخالفهم في ذلك حتى في الصلاة، للمبالغة في ردعهم، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول والله أعلم.
المسألة الخامسة: قال النووي رحمه الله تعالى: هذا الحديث يدل لمذهب الشافعي، ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي، والصبية، وغيرهما من الحيوان في صلاة الفرض، والنفل، للإمام، والمنفرد، والمأموم.
وقال القرطبي رحمه الله: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، والذي أحوجهم إلى ذلك أنه عمل كثير، فروى ابن القاسم عن مالك، أنه كان في النافلة، وهو تأويل بعيد، فإن ظاهر الأحاديث أنه كان في فريضة، وسبقه إلى استبعاد ذلك المازري، وعياض، لِمَا ثبت في مسلم:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، يؤم الناس، وأمامة على عاتقه". قال المازري: إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة. ولأبي داود: "بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر -أو العصر- وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج علينا، وأمامة على عاتقه في مصلاه، فقمنا خلفه، فكبر، فكبرنا، وهي في مكانها". وعند الزبير بن بكار، وتبعه السهيلي "الصبح".
قال القرطبي: وروى أشهب، وعبد الله بن نافع، عن مالك: أن ذلك للضرورة، حيث لم يجد من يكفيه أمرها. انتهى. وقال بعض أصحابه: لأنه لو تركها لبكت، وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها. وفرق بعض أصحابه بين الفريضة والنافلة. وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما.
قال القرطبي: وروى عبد الله بن يوسف التنيسي، عن مالك، أن الحديث منسوخ. قال الحافظ: روى ذلك الإسماعيلي عقب روايته للحديث من طريقه، لكنه غير صريح، ولفظه: قال التنيسي قال مالك: من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ناسخ ومنسوخ، وليس العمل على هذا.
وقال ابن عبد البر: لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة. وتعقب
بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن القصة كانت بعد قوله صلى الله عليه وسلم:"إن في الصلاة لشغلاً"، لأن ذلك كان قبل الهجرة، وهذه القصة كانت بعد الهجرة قطعًا بمدة مديدة.
وذكر عياض عن بعضهم أن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم، لكونه معصومًا من أن تبول وهو حاملها. ورُدَّ بأن الأصل عدم الاختصاص، وبأنه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في مثل ذلك.
وحمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير متوال، لوجود الطمأنينة في أركان صلاته.
وقال النووي: ادعى بعض المالكية أن هذا الحديث منسوخ، وبعضهم أنه من الخصائص، وبعضهم أنه كان للضرورة. وكل ذلك دعاوى باطلة مردودة، لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع، لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه معفو عنه، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة حتى تتبين النجاسة، والأعمال في الصلاة لا تبطلها إذا تفرقت، ودلائل الشرع متظاهرة على ذلك، وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لبيان الجواز. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 177.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النووي رحمه الله حسن جدًا. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه
توكلت وإليه أنيب.
"الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله".
"سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين".
"اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. السلام على النبي ورحمة الله وبركاته".
"سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير، محمد ابن العلامة علي ابن آدم بن موسى الإتْيُوبّيّ نزيل مكة عفا الله عنه، وعن والديه: بحمد الله تعالى، وحسن توفيقه تم الجزء الثامن من شرح سنن الإِمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله تعالى المسمى "ذَخِيرةَ العُقْبَى في شرح المجتبى" وذلك في شهر ربيع الأول، يوم الأربعاء المبارك 3/ 3/ 1415 هـ، الموافق 10 أغسطس/ 1994 م.
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع مفتتحًا بـ"باب ربط الأسير في المسجد" رقم 20/ 712.
***