الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح
سنن النسائي
المسَمَّى
ذخيرة العقبى فى شرح المجتبى
لجامعة الفقير إلى مولاه الغني القدير
محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الوَلَّوِي
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
عفا الله عنه وعن والديه آمين
الجُزْءُ التّاسِع
دَار آل بُروم
للنشر والتوزيع
بسم الله الرحمن الرحيم
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1420 هـ - 1999 م
دَار آل بروم للنشر والتوزيع
المملكة العربية السعودية - مكة المكرمة - المكتب الرئيسي التنعيم
صَ بُ: 4145 - (تلفاكس 5211545 - جوال 055541026)
20 - رَبْطُ الأسِيرِ بِسَارِيَةِ المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز ربط الأسير الكافر بسارية من سوار المسجد.
والرَّبْطُ -بفتح فسكون- مصدرٌ، يقال: رَبَط الشيء، يَرْبِطُهُ رَبْطًا، من باب ضرب: شَدَّهُ، ومن باب قَتَلَ لغة. كما في المصباح.
والأسير: فعيل، بمعنى مفعول، قال المجد: الأسْر: الشَّدُّ، والعَصَبُ، والأسير: الأخيذُ -أي المأخوذ والمقيد، والمسجون، جمعه: أسراءُ، وأسَارى -بالضم فيهما- وأسَارَى، وأسْرَى. اهـ.
وفي المصباح: أسرته، أسْرًا، من باب ضرب، فهو أسير، وامرأة أسير أيضًا؛ لأن فعيل بمعنى مفعول ما دام جاريًا على الاسم يستوي فيه المذكر والمؤنث، فإن لم يذكر الموصوف ألْحِقَت العلامة، وقيل: قتلت الأسيرة، كما يقال: رأيت القتيلة. اهـ. ج 1 ص 14.
والسارية: الأسطُوَانَة، جمعها: سَوارٍ، مثل جارية، وجوارٍ. والله أعلم.
712 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ
لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرُبِطَ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ. مُخْتَصَرٌ.
رجال هذا الإسناد: أربعة
كلهم تكلمنا عنهم في السند الماضي، إلا الصحابي رضي الله عنه، فتقدم الكلام عليه غير مرة. والسند من رباعياته، وهو (36) من رباعيات الكتاب، وتقدم الحديث سنداً ومتنًا برقم (127/ 189). والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن سعيد بن أبي سعيد) واسم أبيه كيسان المقبري (أنه سمع أبا هريرة) رضي الله عنه. فيه تصريح سعيد بسماعه من أبي هريرة رضي الله عنه، وهو كذلك عند البخاري، في المغازي، لكن أخرجه ابن إسحاق عن سعيد، فقال: عن أبيه، عن أبي هريرة، قال الحافظ رحمه الله: وهو من المزيد في متصل الأسانيد، فإن الليث موصوف بأنه أتقن الناس لحديث سعيد المقبري، ويحتمل أن يكون سعيد سمعه من أبي هريرة، وكان أبوه قد حدثه به قبلُ، أو ثبته في شيء منه، فحدث به على الوجهين.
(يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا قبل نجد) أي بعث رُكْبَانَ
خيل إلى جهة نجد.
قال الفيومي رحمه الله: النَّجْد: ما ارتفع من الأرض، والجمع نُجُود، مثل فلس وفلوس، وبالواحد سمي بلاد معروفة من ديار العرب مما يلي العراق، وليست من الحجاز، وإن كانت من جزيرة العرب. قال في التهذيب: كل ما وراء الخندق الذي خَنْدَقَه كسرى على سواد العراق، فهو نجد إلى أن تميل إلى الحَرَّة، فإذا ملت إليها فأنت في الحجاز. وقال الصَّغَاني: كل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد. اهـ. المصباح ج 2 ص 593.
(فجاءت برجل من بني حنيفة) -بفتح المهملة، وكسر النون- ابن لجيم -بجيم- بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وهي قبيلة كبيرة شهيرة، ينزلون اليمامة بين مكة واليمن.
وقد تقدم برقم (127/ 189) -عن ابن إسحاق، قال: السرية التي أخذت ثمامة كان أميرها محمد بن مسلمة أرسله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين راكبًا إلى القُرَطاء من بني بكر بن كلاب بناحية ضَرِيَّةَ بالبَكَرَات لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست.
وقال في الفتح: وزعم سيف في "كتاب الزهد" له أن الذي أخذ ثمامة، وأسره هو العباس بن عبد المطلب. وفيه نظر؛ لأن العباس إنما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان فتح مكة، وقصة ثمامة تقتضي أنها كانت قبل ذلك بحيث اعتمر ثمامة، ثم رجع إلى بلاده، ثم منعهم أن
يَمِيرُوا أهل مكة، ثم شكا أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم بعث يشفع فيهم عند ثمامة. اهـ.
(يقال له: ثمامة بن أثال) وثمامة -بضم المثلثة، وتخفيف الميمين، بينهما ألف- و"أثال" -بضم الهمزة، وتخفيف المثلثة، والسلام بينهما ألف- ابن النعمان بن مسلمة الحنفي، وهو من فضلاء الصحابة.
(سيد أهل اليمامة) أي رئيسهم. واليمامة -بفتح الياء، وتخفيف الميمين- بلدة من بلاد العوالي، وهي بلاد بني حنيفة، قيل: من عروض اليمن، وقيل: من بلاد الحجاز. قاله الفيومي.
وأصل قصته هو ما ساقه البخاري رحمه الله في "كتاب المغازي"، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، قال: حدثني سعيد ابن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال:"بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري السجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتُرِكَ حتِى كان الغد، ثم قال له: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر.
فتركه، حتى كان بعد الغد، فقال:"ما عندك يا ثمامة؟ " قال:
عندي ما قلت لك، فقال:"أطلقوا ثمامة"، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة، قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
انظر "صحيح البخاري" ج 1 ص 419 بنسخة "الفتح".
وزاد ابن هشام "ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل إليهم".
وقد تقدم برقم (128/ 189) أن ابن الأثير ساقه في أسد الغابة من طريق ابن إسحاق بأطول من هذا، فراجعه تزدد علمًا.
(فربط بسارية من سواري المسجد) النبوي، وهذا محل الترجمة للمصنف، إذ فيه جواز ربط الأسير بسارية المسجد.
قال الحافظ رحمه الله: وفي قصة ثمامة من الفوائد: ربط الكافر في
المسجد، والمن على الأسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسيء؛ لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًا في ساعة واحدة لمَا أسْدَاهُ النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل.
وفيه الاغتسال عند الإِسلام، وأن "الإحسان يزيل البغض، ويثبت الحب، وأن الكافر إذا عمل عمل خير، ثم أسلم شرع له أن يستمر في عمل ذلك الخير.
وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه. وفيه بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد منهم، والتخيير بعد ذلك في قتله، أو الإبقاء عليه. اهـ. فتح ج 8 ص 421. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
تنبيهان:
الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه. وقد مضى تخريجه، والمسائل المتعلقة به في كتاب الطهارة برقم (127/ 189) فلا نطيل الكتاب بإعادتها، فإن شئت التحقيق فارجع إليه. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.
الثاني: قد وعدت برقم (127/ 189) أن أذكر في هذا الباب اختلاف العلماء في دخول الكافر المساجد، فها أنا الآن أبَيِّنُ ذلك، فأقول:
ذهبت طائفة من أهل العلم إلي جواز دخول الكافر المسجد، سواء كان كتابيًا، أو غيره، وبه قال الشافعي رحمه الله، واستثنى من ذلك مسجد مكة وحرمه، واحتج بحديث ثمامة المذكور في الباب، وبأن ذات المشرك ليست بنجسة.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز دخوله مطلقًا، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وقتادة، ومالك، والمزني، واحتجوا بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]، وبقوله:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، ودخول الكفار فيها مناقض لرفعها، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والقذر" رواه مسلم. والكافر لا يخلو عن ذلك، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لا أحل المسجد لحائض ولا جنب". والكافر جنب. أفاده في عمدة القاري ج 4 ص 237.
قال الجامع: الحديث رواه أبو داود، وحسنه ابن القطان، وابن سيد الناس -كما تقدم- (127/ 189).
وقال القرطبي رحمه الله في "تفسيره" ما حاصله: وقال قتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك، إلا أن يكون صاحب جزية، أو عبدًا كافرًا لمسلم. وروى إسماعيل بن إسحاق، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: حدثنا شريك، عن أشعث، عن الحسن، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يقرب المسجد مشرك، إلا أن يكون عبدًا أو أمة، فيدخله
لحاجة". وبهذا قال جابر بن عبد الله؛ فإنه قال: العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام، وهو مخصوص في العبد، والأمة.
قال الجامع: تقدم آنفاً أن قتادة ممن يقول بالمنع مطلقاً، فلعل له قولين في المسألة. والله أعلم.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]: إلا أن يكون عبدًا أو أحدًا من أهل الذمة. وقد روي مرفوعًا من وجه آخر، فقال الإِمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شريك، عن أشعث بن سوَّار، عن الحسن، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك، غير أهل الكتاب، وخدمهم"، وفي لفظ:"إلا أهل العهد، وخدمهم". انظر مسند أحمد ج 3 ص 339، 392.
قال الحافظ ابن كثير: تفرد به الإِمام أحمد مرفوعًا، والموقوف أصح إسناداً. انظر تفسير ابن كثير ج 2 ص 360.
قال الجامع: في سند أحمد شريك القاضي، وهو متكلم فيه، وأشعث بن سوار الكندي ضعيف. كما قاله الحافظ في التقريب. والله أعلم.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه يجوز للكتابي دخول المسجد،
دون غيره، واحتج بالحديث المذكور.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى: ودخول المشركين في جميع المساجد جائز، حاشا حرم مكة كله، والمسجد وغيره، فلا يحل البتة أن يدخله كافر، وهو قول الشافعي، وأبي سليمان. وقال أبو حنيفة: لا بأس أن يدخله اليهودي والنصراني، ومنع سائر الأديان. وكره مالك دخول أحد من الكفار في شيء من المساجد. قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، فخص الله المسجد الحرام، فلا يجوز تعديه إلى غيره بغير نص، وقد كان الحرم قبل بنيان المسجد، وقد زيد فيه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"جعلت لي الأرض مسجداً وطهورًا"، فصح أن الحرم كله هو المسجد الحرام، ثم ذكر حديث قصة ثمامة المذكور.
وقال أبو محمد رحمه الله تعالى: وأما أبو حنيفة فإنه قال: إن الله تعالى قد فرق بين المشركين، وبين سائر الكفار، فقال تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} [الحج: 17]، قال: والمشرك هو من جعل لله شريكًا لا من لم يجعل له شريكًا.
قال: فأما تعلقه بالآيتين فلا حجة له فيهما؛ لأن الله تعالى قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68]، والرمان من الفاكهة.
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وهما من الملائكة. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الأحزاب: 7]، وهؤلاء من النبيين. إلى آخر ما قاله ابن حزم في الرد على أبي حنيفة رحمه الله تعالى. انظر: المحلى ج 4 ص 243 - 246.
قال الجامع عفا الله عنه:
الراجح عندي ما رجحه ابن حزم، وهو قول الشافعي وداود الظاهري رحمهم الله تعالى، وحاصله جواز دخول الكافر مطلقًا المساجد، إلا المسجد الحرام لظاهر الآية، ولحديث قصة ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وهذا هو الأولى مما ادعاه القائلون بالمنع مطلقًا من نسخ الحديث بالآية، وغير ذلك من التأويلات التي ذكرها القرطبي في تفسيره جـ 8 ص 105؛ لأن الجمع إذا أمكن لا يصار إلى غيره، والله أعلم، ومنه العون والتوفيق.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
21 - إدْخَالُ الْبَعِيرِ المَسْجِدَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز إدخال البعير المسجد.
والبعير -بفتح الباء، وقد تكسرُ، وكسرِ العين المهملة-: الجملُ البَازِل، أو الجَذَع وقد يكون للأنثى- والحمارُ، وكلُّ ما يُحْمَلُ، وهاتان عن ابن خالوَيْهِ، جَمْعُهُ: أبْعِرَة، وأبَاعِرُ، وأبَاعِيرُ، وبُعْرانُ، وبِعْرَان. اهـ.
وقال الفيومي: البعير: مثل الإنسان، يقع على الذكر والأنثى، يقال: حلَبْت بعيري، والجملُ بمنزلة الرجل يختص بالذكر، والناقةُ بمنزلة المرأة تختص بالأنثى، والبَكْر والبكرة، مثل الفتى والفتاة، والقَلُوص، كالجارية. هكذا حكاه جماعة، منهم ابن السكيت، والأزهري، وابن جني، ثم قال الأزهري: هذا كلام العرب، ولكن لا يعرفه إلا خواص أهل العلم باللغة.
ووقع في كلام الشافعي رضي الله عنه في الوصية: "لو قال: أعطوه بعيرًا لم يكن لهم أن يعطوه ناقة"، فحمل البعير على الجمل، ووجهه أن الوصية مبنية على عرف الناس لا على محتملات اللغة التي لا يعرفها إلا الخواص، وحكى في كفاية المتحفظ معنى ما تقدم، ثم قال: وإنما يقال: جمل، أو ناقة إذا أرْبَعَا، فأما قبل ذلك، فيقال: قَعُود، وبَكْرَ، وبَكْرَة، وقَلُوص. اهـ "المصباح" ج 1 ص 53.
وقوله: "البازل" يستوي فيه الذكر والأنثى، جمعه: بَوازلُ، وبُزَّلٌ: يقال: بَزَل البعيرُ، بُزُولاً، من باب قعد: فَطرَ نَابُهُ بدخوله في السنة التاسعة.
وقوله: "أرْبَعَا" يقال: أرْبَعَ، إرْبَاعاً: إذا ألقى رَبَاعيته، والرَّبَاعية بوزن الثمانية: السِّنُّ التي بين الثنية، والناب. قاله في "المصباح". والله تعالى أعلم.
713 -
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ.
رجال هذا الأسناد: ستة
1 -
(سليمان بن داود) أبو داود الربيع المَهْرِي المصري، ثقة، من [11]، تقدم في 63/ 79، أخرج له أبو داود والنسائي.
2 -
(ابن وهب) عبد الله المصري، ثقة حافظ عابد، من [9]، تقدم في 9/ 9.
3 -
(يونس) بن يزيد الأيلي، ثم المصري، ثقة من كبار [7]، تقدم في 9/ 9.
4 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني، ثقة حجة، من كبار [4]، تقدم في 1/ 1.
5 -
(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني، ثقة فقيه، من [3]، تقدم في 45/ 56.
6 -
(عبد الله بن عباس) الحبر البحر رضي الله عنه، تقدم في 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، إلا شيخه، فانفرد هو به، وأبو داود، وأن نصفهم الأول مصريون، والثاني مدنيون، وأن فيه عبيد الله أحد الفقهاء السبعة، وأن فيه رواية تابعي عن تابعي، ابن شهاب، عن عبيد الله، وأن فيه ابن عباس رضي الله عنه، أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى 1696 حديثاً، وأن فيه الإخبار في موضعين، والعنعنة في الباقي. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع) -بفتح الواو- اسم من التوديع، مثل الكلام، من التكليم، يقال: وَدَّعَهُ، تَوْديعاً: شيَّعه عند سفره، وحجة الوداع هي حجة النبي صلى الله عليه وسلم التي حجها في السنة العاشرة من الهجرة، وهي
حجة واحدة، لم يحج غيرها بعد الهجرة، سميت بذلك لكونه صلى الله عليه وسلم وَدَّعَ الناسَ فيها، حيث كان يقول لهم:"خذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا" فكان كما قال.
(على بعير) قال السندي رحمه الله: قد جاء أنه فعل ذلك لمرض، أو لزحام، قيل: هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم، إذ يحتمل أن تكون راحلته عُصِمَتْ من التلويث كرامَةً له، فلا يقاس عليه غيره، وذلك لأن المأمور به بقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29] طو اف الإنسان، فلا ينوب طواف الدابة منابه، إلا عند الضرورة. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله السندي غير صحيح، بل الطواف راكبًا جائز إذا احتاج إليه، ودعوى الخصوصية لا دليل عليها، وما قاله من أن المأمور به طواف الإنسان إلخ باطل؛ لأنه لم تنب الدابة عن طواف الإنسان، بل هو طاف عليها، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على بعير"، ولم يقل: طاف عنه البعير، وهذا واضح غاية الوضوح، وسيأتي تمام البحث في المسألة في "كتاب المناسك" إن شاء الله تعالى.
قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن بولها لا ينجسه، بخلاف غيرها من الدواب.
قال الحافظ: وتعقب بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز
مع الحاجة، بل ذلك دائر على التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول، وقد قيل: إن ناقته صلى الله عليه وسلم كانت مُنَوَّقَةً، أي مدربة مُعَلَّمَةً، فيؤمن منها ما يحذر من التلويث، وهي سائرة. اهـ.
"فتح" جـ 2 ص 132.
قال العلامة العيني رحمه الله: وفيه -يعني قوله: "فحيث يخشى التلويث" إلخ- نظر؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة حين قالت له: إني أشتكي: "طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة" لا يدل على أن الجواز وعدمه دائران مع التلويث، بل ظاهره يدل على الجواز مطلقًا عند الضرورة.
وقال في قوله: إن ناقته صلى الله عليه وسلم كانت منوقة، إلخ: ما نصه: قلت: سلمنا هذا في ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما يقال في الناقة التي كانت عليها أم سلمة، وهي طائفة، ولئن قيل: إنها كانت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له: يحتاج إلى بيان ذلك بالدليل. اهـ "عمدة القاري" جـ 4 ص 241.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قالوه من التلويث وغيره مبني على نجاسة الأبوال، وقد قدمنا في شرح الحديث (191/ 305) أن الراجح طهارة أبوال الحيوانات المأكولة اللحم، اللهم إلا إذا أريد الاستقذار من غير نجاسة، كمنع النخامة والبزاق في المسجد للاستقذار، لا للنجاسة فتأمل. والله أعلم.
(يستلم الركن بمحجن) زاد مسلم في روايته: "ويقبل المحجن".
قال الجوهري رحمه الله: استلم الحجر: لمَسَهُ، إما بالقُبْلَة، أو باليد، لا يُهْمَزُ؛ لأنه مأخوذ من السّلام، وهو الحجر، كما تقول: اسْتَنْوَقَ الجملُ، وبعضهم يَهْمِزُهُ، اهـ لسان جـ 3 ص 2083.
والمراد بالركن ركن الحجر الأسود.
والمحجن -بكسر الميم، وسكون المهملة، وكسر الجيم- وِزَان مِقَوَدٍ: خشبة في طرفها اعوجاج، مثل الصَّوْلَجان. قال ابن دُرَيْدٍ: كل عود معطوف الرأس فهو محجن، والجمع: مَحَاجِنُ. قاله في المصباح.
والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لعدم تمكنه من تقبيل الحجر الأسود كان يلمسه بمحجنه، ثم يقبل المحجن.
وفيه استحباب تقبيل الحجر الأسود إن أمكن، وإلا يمسه بشيء كالمحجن، ثم يقبل ذلك، والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (21/ 713)، وفي "الكبرى"(21/ 792)، عن
سليمان بن داود، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عنه.
وفي "المناسك"(159/ 2954)، عن يونس بن عبد الأعلى، وسليمان ابن داود، كلاهما عن ابن وهب، به.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في الحج عن أحمد بن صالح، ويحيى بن سليمان. ومسلم فيه عن أبي الطاهر بن السرح، وحرملة بن يحيى. وأبو داود فيه عن أحمد بن صالح. وابن ماجه فيه عن أبي الطاهر -أربعتهم عن ابن وهب، به. وأخرجه ابن خزيمة برقم (2780). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو جواز إدخال البعير المسجد.
ومنها: جواز الطواف راكباً للمعذور، ولا كراهة فيه، قال العيني: فإن كان غير معذور يعتبر عندنا وعند الشافعي لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم:"الطواف بالبيت صلاة"، ولنا إطلاق قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج 290]، وهو مطلق، والحديث للتشبيه فلا عموم له، وبقولنا قال ابن المنذر، وجماعة.
وقال القرطبي: الجمهور على كراهة ذلك. قلنا: نحن أيضًا نقول
بالكراهة، حتى إنه يعيده ما دام بمكة، وسيجيء مزيد الكلام فيه في باب الحج، إن شاء الله تعالى. اهـ. "عمدة" جـ 4 ص 241.
قال الجامع: القول بالكراهة يحتاج إلى دليل.
ومنها: استحباب استلام الحجر الأسود، وتقبيله، إن أمكن، وإلا يستلمه بمحجن، ونحوه، ثم يقبل المحجن، والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
22 - النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ والشِّرَاءِ فِي المَسْجِدِ، وَعَنِ التَّحَلُّقِ قَبْلَ صَلاةِ الجُمُعَةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن البيع والشراء، والنهي عن التحلق؛ أي الجلوس حِلقًا قبل أداء صلاة الجمعة.
714 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ.
رجال هذا الأسناد: ستة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي ثم النيسابوري، ثقة حجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.
2 -
(يحيى بن سعيد) القطان البصري، ثقة حافظ حجة، من [9]، تقدم في 4/ 4.
3 -
(ابن عجلان) محمد المدني، صدوق اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه، توفي سنة 148، من [5]، تقدم في 36/ 40.
4 -
(عمرو بن شعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، صدوق، من [5]، مات سنة 128 تقدم في 105/ 140.
5 -
(شعيب) بن محمد، صدوق، ثبت سماعه من جده عبد الله، من [3]، تقدم في 105/ 140.
6 -
(عبد الله بن عمرو) بن العاص الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم في 89/ 111. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله موثقون.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن أبيه عن جده.
ومنها: أن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مما اختلف المحدثون فيه، فمنهم من صححه، ومنهم من ضعفه، والصحيح أنه سند حسن، وإلى ذلك أشار السيوطي رحمه الله في ألفية الأثر بقوله:
وَمَا لِعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِهْ
…
عَنْ جَدِّهِ فَالأكْثَرُونَ احْتَجَّ بِهْ
حَمْلًا لِجَدِّهِ عَلَى الصَّحَابِي
…
وَقِيلَ بِالإِفْصَاحِ واسْتِيعَابِ
وقد تقدم تمام البحث فيه برقم (105/ 140)، فارجع إليه تزدد علمًا. والله أعلم، ومنه العون والتوفيق.
شرح الحديث
(عن عمرو بن شعيب، عن أبيه) شعيب (عن جده) الصحيح أن الضمير راجع إلى شعيب، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أو الضمير لعمرو، والمراد بجده جده الأعلى، وقد وقع التصريح بأنه عبد الله بن عمرو عند أحمد في مسنده من رواية أسامة بن زيد الليثي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، فالسند متصل، وقد أشبعت الكلام على هذا السند في الباب (105/ 140).
(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التَّحَلُّق) أي الجلوس على هيئة الحَلَقَة (يوم الجمعة قبل الصلاة) الظرفان متعلقان بالتحلق، وإنما نهى عنه لما يترتب عليه من قطع الصفوف مع كون الناس مأمورين بالتبكير يوم الجمعة، والتراص في الصفوف الأُول، فالأول، ولأنه يخالف هيئة اجتماع المصلين، ولأن الاجتماع للجمعة خَطْب عظيم، لا يَسَعُ مَنْ حَضَرَهَا أن يشتغل بغيرها حتى يفرغ منها، والتحلق يوهم غفلتهم عن الأمر الذي نُدِبُوا إليه، ولأن الوقت وقت الاشتغال بالإنصات للخطبة.
والتحلق المنهي عنه أعم من أن يكون للعلم، أو للمذاكرة، أو المشاورة.
والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم، ونحوه، والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيره، مطلقًا، لما أخرجه
الشيخان من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب واحد، فأما أحدهما، فرأى فرجة في الحلقة، فجلس فيها، وأما الآخر، فجلس خلفهم
…
" الحديث.
ثم إن الجمهور حملوا النهي في الحديث على الكراهة.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكره الشوكاني رحمه الله في نيله جـ 2 ص 273، ولم يتعقبه، ولم يذكروا مستنداً لصرف النهي عن التحريم، فالظاهر أنه للتحريم، لعدم وجود صارف، والله أعلم.
وقال الطحاوي رحمه الله: التعليق المنهي عنه قبل الصلاة إذا عَمَّ المسجد، وغلبه، فهو مكروه، وغير ذلك لا بأس به. اهـ.
قال الجامع: هذا الذي قاله الطحاوي من التفريق المذكور لا دليل عليه، فالظاهر أن النهي على عمومه. والله أعلم.
(و) نهى (عن الضراء والبيع في المسجد) فيه تحريم الشراء والبيع في المسجد.
قال الإِمام الترمذي رحمه الله تعالى في جامعه: وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد، وقد روي عن بعض أهل العلم من التابعين رخصة في البيع والشراء في المسجد. اهـ جـ 1 ص 202.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: والبيع جائز في المساجد، قال
الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، ولم يأت نهي عن ذلك إلا من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي صحيفة. اهـ. المحلى جـ 4 ص 249.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت فيما سبق أن الراجح في عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه سند حسن إذا صح الطريق إليه، فحديث الباب حديث حسن، يحتج به، فيكون مخصصاً للآية المذكورة، فتبصر، والله أعلم.
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى ما حاصله: ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة.
قال العراقي رحمه الله: وقد أجمع العلماء على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه، وهكذا قال الماوردي.
قال الشوكاني: وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين بأن النهي حقيقةٌ في التحريم، وهو الحق، وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم، فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة.
وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا يكره البيع والشراء في المسجد، والأحاديث ترد عليه، وفرق أصحاب أبي حنيفة بين أن يغلب ذلك، ويكثر، فيكره، أو يقل، فلا كراهة، وهو فرق لا دليل عليه.
اهـ. "نيل" جـ 2 ص 271 - 272.
قال الجامع عفا الله عنه: ما حققه الشوكاني رحمه الله تعالى هو الحق. وحاصله: أن البيع والشراء محرم في المسجد مطلقاً، قليلاً أو كثيراً، للمعتكف أو غيره، للنهي المذكور في هذا الحديث، وهو للتحريم لعدم صارف له إلى الكراهة.
وأما كون البيع ينعقد مع التحريم، فيدل له ما أخرجه الترمذي وحسنه، وصححه ابن خزيمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك".
قال ابن خزيمة رحمه الله: وفيه ما دل على أن البيع ينعقد، وإن كانا عاصيين بفعلهما، قال: لو لم يكن البيع ينعقد لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أربح الله تجارتك" معنى. اهـ انظر صحيح ابن خزيمة جـ 2 ص 274 - 275. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا حسن.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (22/ 714)، وفي "الكبرى"(22/ 793)، عن
إسحاق بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وفي (23/ 715) عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن ابن عجلان، به، في النهي عن تناشد الأشعار في المسجد، وفي "عمل اليوم والليلة" عن قتيبة، عن الليث، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
فأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن مسدد، عن يحيى القطان، به، بلفظ:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن التعليق قبل الصلاة يوم الجمعة".
وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة، عن الليث، به، نحوه، وليس فيه: إنشاد الضالة، وقال: حسن.
وأخرجه ابن ماجه فيه عن عبد الله بن سعد الكندي، عن أبي خالد الأحمر، عن ابن عجلان، به، بقصة البيع والشراء وتناشد الأشعار. وعن محمد بن رمح، عن عبد الله بن لهيعة، وعن أبي كريب، عن حاتم بن إسماعيل، كلاهما عن ابن عجلان به، بالنهي عن إنشاد الضالة. وفي موضع آخر، بالنهي عن التحلق.
وأخرجه أحمد جـ 2 ص 179، جـ 2 ص 212، وابن خزيمة برقم 1306. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
تابع ابن عجلان في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن شعيب أسامةُ ابن زيد الليثي، فقد أخرجه أحمد في مسنده جـ 2 ص 212، قال: حدثنا علي بن إسحاق، قال: أخبرنا عبد الله -يعني ابن المبارك- قال: حدثني أسامة بن زيد، قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال. "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والاشتراء في المسجد". والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
23 - النَّهْىُ عَنْ تَنَاشُدِ الأشْعَارِ فِي المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن تناشد الأشعار في المسجد.
والتَّنَاشُدُ: مصدر تَنَاشَدَ. يقال: أنشد الشِّعْرَ: قرأه، ورفَعَه، وأشاد بذكره، كنَشَدَه، وأنشد بهم: هجاهم، وتناشدوا: أنشد بعضهم بعضًا. اهـ "ق" مع التاج جـ 2 ص 514.
والشِّعْر -بكسر، فسكون- لغة: العلم، واصطلاحًا: كلام موزون قصدًا بوزن عربي، فخرج بموزون المنثورُ، وبقصدًا ما كان اتفاقيًا، أي لم يقصد وزنه، فلا يكون شعرًا، كآيات قرآنية، اتفق وزنها، كقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فإنها على وزن مَجْزُوِّ الرَّمَلِ المسبغ، فلا يسمى شعرًا، لقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69]، وكمركبات نبوية، اتفق وزنها، كقوله صلى الله عليه وسلم:
هل أنت إِلا إِصبع دَمِيتِ
…
وَفِي سَبيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ
فإنه على وزن الرجز المقطوع، فلا يسمى شعرًا، للنص المذكور.
انظر "حاشية الدمنهوري على متن الكافي في علمي العروض والقوافي" ص 14. والله تعالى أعلم.
715 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَنَاشُدِ الأَشْعَارِ فِي الْمَسْجِدِ.
رجال هذا الإسناد: ستة
كلهم ذكروا في الباب الماضي إلا قتيبة، والليث، فذُكِرَا قبل بابين، والحديث قطعة من الحديث المذكور في الباب الماضي، كما سبقت الإشارة إليه.
تنبيه:
في هذا الحديث النهي عن تناشد الأشعار في المسجد، وهو محمول على الأشعار المشتملة على الهجاء والسباب ومدح الظلمة ونحو ذلك، وأما الأشعار التي تشتمل على الخير كمدح الله تعالى ومدح النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن والإِسلام ونحو ذلك، فيجوز إنشادها في المسجد، لحديث حسان رضي الله عنه الآتي في الياب التالي، كما بينه المصنف رحمه الله تعالى بالترجمة التالية.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: وأما إنشاد الأشعار في المسجد، فحديث الباب، وما في معناه يدل على عدم جوازه،
ويعارضه ما سيأتي من قصة عمر وحسان رضي الله عنهما، وتصريح حسان بأنه كان ينشد الشعر بالمسجد، وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال:"شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد، وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم معهم". رواه أحمد وأخرجه الترمذي، ولفظه:"جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو ساكت، فربما تبسم معهم"، وقال: هذا حديث صحيح.
وقد جُمِعَ بين الأحاديث بوجهين:
الأول: حمل النهي على التنزيه، والرخصة على بيان الجواز.
الثاني: حمل أحاديث الرخصة على الشعر الحسن المأذون فيه، كهجاء حسان للمشركين، ومدحه صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، ويحمل النهي على التفاخر، والهجاء، ونحو ذلك. ذكر هذين الوجهين العراقي في شرح الترمذي.
قال الجامع عفا الله عنه: والمسلك الثاني هو الأولى في الجمع، وهو الذي سلكه المصنف، حيث قال في الترجمة التالية:"الرخصة في إنشاد الشعر الحسن في المسجد".
وقال الشافعي رحمه الله: الشعر كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح. وقد ورد هذا مرفوعًا في غير حديث، فأخرج أبو يعلى عن
عائشة رضي الله عنها قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشعر، فقال: "هو كلام، فحسنه حسن وقبيحه قبيح". قال العراقي: وإسناده حسن، رواه أيضًا البيهقي في سننه من طريق أبي يعلى، ثم قال: وصله جماعة، والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل.
وروى الطبراني في الأوسط من رواية إسماعيل بن عياش، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع، وحبان بن أبي جبلة، وبكر بن سوادة، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام". قال الطبراني: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبد الرحمن.
وقال الهيثمي في "المجمع" جـ 6 ص 209 - 210: وإسناده حسن. اهـ. وليس كما قال، بل إسناده ضعيف، لضعف عبد الرحمن بن زياد، لكن الحديث له شواهد، فهو حسن، وقال الشيخ الألباني: صحيح لغيره. انظر "صحيح الأدب المفرد" رقم 664.
وقد جمع الحافظ رحمه الله بين الأحاديث يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية، والمبطلين، وحمل المأذون فيه على ما سلم من ذلك، ولكن حديث جابر بن سمرة الماضي فيه التصريح بأنهم كانوا يتذاكرون الشعر، وأشياء من أمر الجاهلية.
قال الجامع: هذا لا ينافي النهي المذكور؛ لأن المراد بالمنهي عنه
هو ما كان على صفة أهل الجاهلية من التفاخر، والسباب، والطعون، وأما ما ذكر من تذاكر الصحابة الشعر الجاهلي، فالمراد به أنهم يتذاكرونه تحدثًا بنعمة الله عليهم حيث هداهم الله إلى الإِسلام عما كانوا عليه من أمور الجاهلية، وعوضهم من أشعارهم المشتملة على الخنا والفجور بالقرآن العظيم، لا أنهم يريدون إحياء ما كانوا عليه، وتجديد ما تابوا منه، فإن هذا لا يُظَنُّ بهم، ولا يقرهم النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
وقيل: المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالبًا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه، وأبعد أبو عبد الله البوني، فأعمل أحاديث النهي، وادعى النسخ في حديث الإذن، ولم يُوافَقْ على ذلك. حكاه ابن التين عنه. انتهى.
قال الشوكاني رحمه الله: وقد تقرر أن الجمع بين الأحاديث ما أمكن هو الجواب، وقد أمكن بلا تعسف كما عرفت.
قال ابن العربي رحمه الله: لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين، وإقامة الشرع، وإن كان فيه الخمر ممدوحة بصفاتها الخبيثة من طيب رائحة، وحسن لون إلى غير ذلك مما يذكره من يعرفها. وقد مدح فيه كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (من البسيط):
بَانتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
…
.. .. .. .. .. ..
إلى قوله في صفة ريقها:
................
…
كَأَنَّهُ مَنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
قال العراقي: وهذه القصيدة قد رويناها من طرق لا يصح منها شيء، وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع، وعلى تقدير ثبوت هذه القصيدة عن كعب، وإنشادها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، أو غيره، فليس فيها مدح خمر، وإنما فيها مدح ريقها، وتشبيهه بالراح، قال: ولا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا لم يرفع به صوته بحيث يشوش بذلك على مصل، أو قارىء، أو منتظر للصلاة، فإن أدى إلى ذلك كره، ولو قيل بتحريمه لم يكن بعيداً. اهـ. "نيل" جـ 2 ص 272 - 273. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
24 - الرُّخْصَةُ فِي إنْشَادِ الشِّعْرِ الحَسَنِ فِي المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز إنشاد الشعر الحسن، كمدح الله تعالى، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن، والدين، والزهد، والورع، ونحو ذلك.
وأراد المصنف رحمه الله تعالى أن النهي المذكور في حديث الباب الماضي محمول على ما إذا كان الشعر مذمومًا، كالهجاء، ومدح الظلمة، ووصف النساء، والخمر، ونحو ذلك، وهو حمل حسن، جمعًا بين الأدلة. والله أعلم.
716 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ يُنْشِدُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَحَظَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ أَنْشَدْتُ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(سفيان) بن عيينة الكوفي، ثم المكي، ثقة ثبت حجة فقيه، منه [8]، تقدم في 1/ 1.
3 -
(الزهري) محمد بن مسلم المدني، ثقة حجة إمام، من [4]، تقدم في 1/ 1.
4 -
(سعيد بن المسيب) بن حَزْن القرشي المخزومي، المدني، حجة فقيه ثقة إمام، من كبار [2]، تقدم في 9/ 9.
5 -
(حسان بن ثابت) بن المنذر بن حرام بن عمرو الأنصاري النجاري، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو الحسام، ويقال: أبو الوليد المدني شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه الفريعة بنت خالد بن حبيش.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه البراء بن عازب، وسعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو الحسن مولى بني نوفل، وابنه عبد الرحمن بن حسان، وخارجة بن زيد بن ثابت، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب. قال ابن سعد: كان قديم الإِسلام، ولم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً، كان يُجَبَّنُ، وكانت له سن عالية.
توفي في خلافة معاوية، وله 120 سنة. عاش ستين سنة في
الجاهلية، وستين سنة في الإِسلام.
وقال ابن سعد: قال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: عاش حرام عشرين ومائة سنة، وعاش ابنه المنذر كذلك، وعاش ابنه ثابت كذلك، وعاش ابنه حسان كذلك، قال: وكان عبد الرحمن إذا ذكر هذا استلقى على فراشه، وضحك، وتمدد، فمات وهو ابن 48 سنة.
قال أبو نعيم: لا نعرف في العرب أربعة تناسلوا من صلب واحد، اتفقت مدة عمرهم مائة وعشرين سنة غيرهم.
وإلى هذا أشار السيوطي في "ألفية الحديث" في تعداد من عاش من الصحابة مائة وعشرين سنة، فقال:
…
ثُمَّةَ حَسَّانَ انْفَرَدْ
…
أنْ عَاشَ ذَا أبٌ وَجَدُّهُ وَجَدْ
وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، حدثني من شئت من رجال قومي، عن حسان بن ثابت، قال: إني والله لغلام يَفَعَة ابن سبع سنين، أو ثمان أعقل كل ما سمعت إذ سمعت يهوديًا يصرخ على أطم يثرب يا معشر يهود إذ اجتمعوا إليه، قالوا: ويلك مالك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي يبعث الليلة.
وقال لوين في جزئه المشهور: حدثنا حديج، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، قال: قيل لابن عباس: قدم حسان اللعين،
قال: فقال ابن عباس: ما هو بلعين، قد جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ولسانه. قال أبو عبيدة: مات سنة 54، وقال ابن حبان: ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة، وأربع سنين، أيام قتل علي. وقيل: إنه مات سنة 55، وقال عمرو بن العلاء: أشعر أهل الحضر حسان بن ثابت. وقال الحطيئة: أبلغوا الأنصار أن شاعرهم أشعر العرب. وقال ابن قتيبة في الطبقات: انقرض عقبه. أخرج له الجماعة، إلا الترمذي. اهـ. تت بزيادة. جـ 2 ص 247 - 248. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفق الجماعة عليهم، إلا الصحابي، فما أخرج له الترمذي، كما مر آنفاً.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني، وسفيان، فكوفي، ثم مكي.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، الزهري عن سعيد.
ومنها: أن فيه سعيد بن المسيب، أحد الفقهاء السبعة، وقد تقدم ذكرهم غير مرة.
ومنها: قال الخزرجي رحمه الله في "الخلاصة" ص 75 - ما حاصله: لحسان عند الجماعة فرد حديث، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم سواه، وكذا قال ابن الجوزي في "المجتبى" ص 75. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن الزهري، عن سعيد بن المسيب) وهكذا أخرجه البخاري في بدء الخلق، من رواية ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب. وتابعه معمر، عند مسلم، وإبراهيم بن سعد، وإسماعيل بن أمية عند المصنف. وأخرجه المصنفة في عمل اليوم والليلة من الكبرى (43/ 10000) عن عمران بن بكار، عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أبي سلمة، وهكذا عند البخاري في الصلاة عن أبي اليمان، قال الحافظ رحمه الله: وتابعه إسحاق بن راشد، عن الزهري. أخرجه النسائي.
وهذا من الاختلاف الذي لا يضر؛ لأن الزهري من أصحاب الحديث، فالراجح أنه عنده عنهما معًا، فكان يحدث به تارة عن هذا، وتارة عن هذا، وهذا من جنس الأحاديث التي يتعقبها الدارقطني على الشيخين، لكنه لم يذكره، فليُسْتَدْرَكْ عليه. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 120.
(قال: مر عمر بحسان بن ثابت) وهكذا رواية سعيد لهذه القصة بلفظ "مر عمر بحسان" الحديث. قال الحافظ رحمه الله: وهي عندهم مرسلة؛ لأنه لم يدرك زمن المرور، ولكن يحمل على أن سعيدًا سمع ذلك من أبي هريرة بعدُ، أو من حسان، أو وقع لحسان استشهاد أبي هريرة مرة أخرى، فحضر ذلك سعيد، ويقويه سياق حديث الباب -يعني رواية الزهري، عن أبي سلمة- فإن فيه أن أبا سلمة
سمع حسان يستشهد أبا هريرة، وأبو سلمة لم يدرك زمن مرور عمر أيضًا، فإنه أصغر من سعيد، فدل على تعدد الاستشهاد، ويجوز أن يكون التفات حسان إلى أبي هريرة، واستشهاده به إنما وقع متأخرًا، لأن "ثم" لا تدل على الفورية، والأصل عدم التعدد، وغايته أن يكون سعيد أرسل قصة المرور، ثم سمع بعد ذلك استشهاد حسان لأبي هريرة، وهو المقصود؛ لأنه المرفوع، وهو مو صول بلا تردد. والله أعلم. اهـ. فتح جـ 2 ص 120.
(وهو ينشد في المسجد) جملة في محل نصب على الحال من "حسان"، أي والحال أن حسان رضي الله عنه يقرأ أشعاره في المسجد النبوي.
(فلحظ إِليه) يقال: لحظته بالعين، ولَحَظتُ إليه، لَحْظاً، من باب نَفَعَ: راقبته، ويقال: نظرت إليه بمُؤخِرِ العين عن يمين ويسار، وهو أشد التفاتاً من الشَّزْرِ. قاله في المصباح.
قال الجامع عفا الله عنه: المعنى الثاني هو المراد هنا، أي نظر عمر إلى حسان رضي الله عنهما بمؤخرِ عينه إنكارًا لإنشاده في المسجد (فقال) حسان ردّاً لإنكار عمر عليه:(قد أنشدت فيه) أي المسجد (وفيه من هو خير منك) يعني النبي صلى الله عليه وسلم، والجملة في محل نصب على الحال من الضمير المجرور (ثم التفت) حسان رضي الله عنه (إِلى أبي هريرة) رضي الله عنه (فقال: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني") وفي رواية أبي سلمة: "أجب عن رسول الله"،
فيحتمل أن تكون روايته بالمعنى، والمراد بالإجابة الرد على الكفار الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وفي الترمذي من طريق أبي الزناد، عن عروة، عن عائشة، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب لحسان منبرًا في المسجد، فيقوم عليه، يهجو الكفار". قاله في الفتح.
(اللهم أيده) هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله عنه، دعا له بالتأييد، وهو القوة على الكفار (بروح القدس) متعلق بأيد، والمراد بروح القدس هنا جبريل عليه السلام، كما بينه ما رواه البخاري من حديث البراء وهو عند المصنف في كتاب القضاء من الكبرى (56/ 6024)، ولفظه:"اهجهم، وجبريل معك".
والقدس -بضم القاف والدال- بمعنى الطهر، وسمي جبريل بذلك لأنه خلق من الطهر. وقال كعب: القدس الرب عز وجل، ومعنى روح القدس روح الله، وإنما سمي بالروح لأنه يأتي بالبيان عن الله تعالى، فتحيى به الأرواح. وقيل: معنى القدس البركة. ومن أسماء الله تعالى القُدُّوس، أي الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص، ومنه الأرض المقدسة، وبيت المقدس؛ لأنه الموضع الذي يُتَقَدَّسُ فيه، أي يتطهر فيه من الذنوب. قاله في "عمدة القاري" جـ 4 ص 218.
(قال) أبو هريرة رضي الله عنه: (نعم) ولفظ الكبرى "اللهم نعم"، أي سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث حسان رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (24/ 716) و"الكبرى"(24/ 795) عن قتيبة، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: مر عمر
…
الحديث.
وقال أبو الحجاج المزي رحمه الله: أخرجه النسائي في "الصلاة"، وفي "اليوم والليلة" عن قتيبة، ومحمد بن منصور -فرقهما- كلاهما عن سفيان، به. وعن عمران بن بكار، عن أبي اليمان، عن شعيب ابن أبي حمزة، عن الزهري، عن أبي سلمة، أنه سمع حسان يستشهد أبا هريرة، وعن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد -وعن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن سليمان بن داود الهاشمي، عن إبراهيم بن سعد- وعن محمد بن علي بن حرب، عن مُحْرِز بن الوَضَّاح، عن إسماعيل بن أمية - ثلاثتهم عن الزهري، عن سعيد به.
وعن محمد بن جبلة الرافقي، عن أحمد بن عبد الملك، عن عتاب ابن بشير، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن أبي سلمة به. وعن محمد بن جبلة، عن محمد بن موسى بن أعين، قال: أصبت
في كتاب أبي: عن إسحاق بن راشد به. ولم يذكر ابن أبي خلف، وأحمد بن عبدة، وقتيبة، ومحمد بن إسماعيل، ومحمد بن علي بن حرب في حديثهم: استشهاد حسان بأبي هريرة، وذكره الباقون.
قال المزي: وفي القضاء -يعني في "الكبرى"- عن محمد بن عبد الله ابن بزيع، عن يزيد -يعني ابن زريع- عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، عن حسان بن ثابت، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهجهم، أو هاجهم -يعني المشركين- وجبريل معك". رواه سفيان ابن حبيب، عن شعبة، فجعله من مسند البراء.
قال المزي: حديث محمد بن عبد الله بن بزيع ليس في الرواية، ولم يذكره أبو القاسم. اهـ. "تحفة الأشراف" جـ 3 ص 104 - 105.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه من أصحاب الأصول، وغيرهم:
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود.
فأخرجه البخاري في "بدء الخلق" عن علي بن المديني، عن ابن عيينة، به. وفي "الأدب" عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه أبي بكر، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن أبي عتيق، وفيه، وفي "الصلاة" عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة -كلاهما عن الزهري، عن أبي سلمة، به.
ومسلم في "الفضائل" عن إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن يحيى ابن أبي عمر، وعمرو بن محمد الناقد، ثلاثتهم عن سفيان، به. وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن أبي اليمان، به. وعن إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن رافع، وعبد بن حميد، ثلاثتهم عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد، به.
وأبو داود في "الأدب" عن محمد بن أحمد بن صالح، عن عبد الرزاق، به.
وأخرجه الحميدي برقم 1105، وأحمد ج 2 ص 269، ج 5 ص 222، وابن خزيمة رقم 1307. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو جواز الشعر الحسن في المسجد، وأما النهي الوارد في الباب الماضي، فهو محمول على الشعر المشتمل على الخَنَا، والزور، والكلام الساقط، وبهذا يُجْمَعُ بين الأحاديث المختلفة في هذا الباب، كما هو صنيع المصنف رحمه الله تعالى.
ومنها: أن الإِمام يتعين عليه الإنكار إذا رأى من أتباعه ما ظن أنه منكر حتى يظهر له عدم كونه منكرًا.
ومنها: أنه ينبغي للشخص أن يثبت دعواه بالإشهاد تأكيدًا، وإن
كان لا يتهم.
ومنها: جواز هجاء الكفار، قال العلماء: ينبغي أن لا يُبْدأ المشركون بالسب والهجاء، مخافةً من سبهم الإِسلام وأهله، قال الله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وتنزيهًا لألسنة المسلمين عن الفحش، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة، كابتدائهم به، فيكافئون، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن فيه منقبة عظيمة لحسان رضي الله عنه؛ حيث دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤيد بروح القدس. والله تعالى أعلم
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
25 - النَّهْيُ عَنْ إنْشَادِ الضَّالَّةِ فِي المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن طلب الضالة في المسجد.
والإنشاد -بكسر الهمزة- مصدر أنشد، رباعيًا، يقال: أنشد الضالة: عَرَّفَهَا، واسترشد عنها، ضدٌّ. ومثله نَشَدَ الضالة ثلاثيًا - نَشْدًا -من باب قتل-، ونِشْدَةً، ونِشْدانًا- بكسرهما: إذا طلبها، وعَرَّفَها. اهـ. "ق". بتصرف، وزيادة.
قال الجامع عفا الله عنه: والمناسب هنا معنى الاسترشاد؛ لأن المراد طلبها. والله أعلم.
والضالة: -بالهاء-: الحَيَوان الضائع ذكرًا كان، أو أنثى.
قال الفيومي رحمه الله تعالى -في مادة "ضل"-: والأصل في الضَّلال: الغَيْبَةُ، ومنه قيل للحيوان الضائع: ضالة -بالهاء- للذكر والأنثى، والجمع ضَوَال، مثل دابَّة، ودَوَابّ، ويقال لغير الحيوان: ضائع، ولُقَطَة، وضَلَّ البعيرُ: غاب، وخَفِيَ موضعه، وأضللته بالألف: فقدته.
قال الأزهري: وأضللت الشيء بالألف: إذا ضاع منك، فلم تعرف موضعه، كالدابة والناقة، وما أشبهها، فإن أخطأت موضع الشيء الثابت، كالدار، قلت: وضَلِلْتُهُ، ولا تقل: أضللته بالألف.
وقال ابن الأعرابي: أضَلَّنِي كذا بالألف: إذا عجزت عنه، فلم تقدر عليه. وقال في البارع: ضَلَّنِي فلان، وكذا في غير الإنسان، يَضلُّنِي: إذا ذهب عنك، وعَجَزْت عنه، وإذا طلبت حيوانًا، فأخطأت مكانه، ولم تهْتَدِ إليه، فهو بمنزلة الثوابت، فتقول: ضَلَلْتُهُ. وقال الفارابي: أضْلَلتُهُ بالألف: أضَعْتُهُ. اهـ "الصباح" جـ 2 ص 364. والله تعالى أعلم.
717 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا وَجَدْتَ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن وهب) بن عمر بن أبي كريمة، أبو المعافى الحرَّاني، صدوق، من [10]، توفي سنة 243 هـ.
قال النسائي: لا بأس به، وقال أيضًا: صالح. وقال مسلمة: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: مات بقرية بحران في رمضان سنة 243 هـ، انفرد به المصنف.
2 -
(محمد بن سلمة) بن عبد الله الباهلي مولاهم أبو عبد الله الحراني، ثقة، توفي سنة 191 على الصحيح، من [9]، أخرج له
البخاري في "جزء القراءة" ومسلم، والأربعة، تقدم في 200/ 306.
3 -
(أبو عبد الرحيم) خالد بن يزيد سماك بن رستم الأموي، مولاهم الحراني، ثقة، توفي سنة 144 هـ، من [6]، وقيل اسم أبيه يزيد، وقيل: اسم جده سمال -بفتح أوله، وتشديد الميم، وآخره لام، تقدم في 200/ 306 أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
4 -
(زيد بن أبي أنيسمة) الجزري، أبو أسامة، كوفي الأصل، ثم سكن الرها، ثقة له أفراد، توفي سنة 119 هـ، من [6]، وقيل: غيره، أخرج له الجماعة، تقدم في 200/ 306.
5 -
(أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي مولاهم المكي، صدوق، يدلس، توفي سنة 126، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35.
6 -
(جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السَّلَمي المدني، صحابي ابن صحابي رضي الله عنهما، أخرج له الجماعة. تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم موثقون، أخرج لهم الجماعة، إلا شيخه،
فانفرد هو به، ومحمد بن سلمة فما أخرج له البخاري، إلا في "جزء القراءة"، وأبو عبد الرحيم، فانفرد به مسلم، والمصنف، وأبو داود، وأخرج له البخاري في "الأدب المفرد".
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن خاله، محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم.
ومنها: أن فيه جابر بن عبد الله أحد المكثرين السبعة من الصحابة، روى 1540 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه (قال: جاء رجل ينشد) تقدم أنه من باب قتل، ويحتمل كونه من الإسناد رباعيًا، والمراد به هنا الطلب (ضالة) تقدم أيضًا أنه الحيوان الضائع ذكرًا كان أو أنثى، ويقال لغيره: ضائع، ولقيط (في المسجد) النبوي (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا وجدت") أي صادفت ضالتك، وهو دعاء عليه بعدم مصادفته لضالته.
وقال السندي رحمه الله: يحتمل أنه دعاء عليه، فكلمة "لا" لنفي الماضي، ودخولها على الماضي بلا تكرار في الدعاء جائز، وفي غير الدعاء الغالب هو التكرار، كقوله تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} [القيامة: 31]، ويحتمل أن "لا" ناهية، أي لا تنشُدْ، وقوله:"وجدت" دعاء له، لإظهار أن النهي منه نصح له، إذ الداعي لخير لا
ينهى إلا نصحًا، لكن اللائق حينئذ الفصل، بأن يقال: لا، ووجدت، لأن تركه موهم، إلا أن يقال: الموضع موضع زجر، فلا يضر به الإيهام، لكونه إيهام شيء، هو آكد في الزجر. اهـ. جـ 2 ص 49.
قال الجامع: الاحتمال الأول هو الأولى؛ لأن الثاني بعيد عن ظاهر النص، فتبصر. والله أعلم.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث جابر رضي الله عنه حديث صحيح؛ أخرجه المصنف هنا (25/ 717)، و"الكبرى"(25/ 796) بالسند المذكور. وهو من أفراده، لم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، كما أشار إليه الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله تعالى في "تحفته" جـ 2 ص 302.
المسألة الثانية: حديث الباب يدل على منع إنشاد الضالة في المسجد، وقد وردت أحاديث فيه:
منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع رجلًا ينشد في مسجدنا ضالة، فليقل: لا أداها الله إليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا". رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه.
ومنها: حديث بريدة رضي الله عنه: "أن رجلًا نَشَدَ في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وجدت، إنما
بنيت المساجد لما بنيت له". رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه أيضًا، والمصنف في "عمل اليوم والليلة".
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا: في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا ردها الله عليك" رواه الترمذي، وحسنه، ورواه المصنف في "عمل اليوم والليلة".
ومنها: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تنشد فيه الضالة، وعن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة"، رواه أحمد والأربعة، وقد تقدم للمصنف (22/ 714)، ولكن ليس فيه إنشاد الضالة.
وفي هذه الأحاديث دليل على جواز الدعاء على الناشد في المسجد بعدم الوجدان معاقبةً له في ماله، ومعاملَةً له بنقيض قصده.
فينبغي لسامعه أن يقول: لا وجدت، فإن المساجد لم تبن لهذا، أو يقول: لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له. كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال النووي رحمه الله تعالى: يستفاد من الحديث النهي عن نشد الضالة في المسجد، ويلحق به ما في معناه من البيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد.
قال القاضي عياض: قال مالك، وجماعة من العلماء: يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم، وغيره، وأجاز أبو حنيفة رحمه الله، ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رحمه الله رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة، وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس؛ لأنه مجمعهم، ولابد لهم منه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بنيت المساجد لما بنيت له": معناه لذكر الله، والصلاة والعلم، والمذاكرة في الخير، ونحوها. قال القاضي عياض: فيه دليل على منع الصنائع في المسجد كالخياطة وشبهها، قال: وقد منع بعض العلماء من تعليم الصبيان في المسجد. قال: قال بعض شيوخنا: إنما يمنع في المسجد من عمل الصنائع التي يختص بنفعها آحاد الناس، ويكتسب به، فلا يتخذ المسجد متجراً، فأما الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة، وإصلاح آلات الجهاد، مما لا امتهان للمسجد في عمله، فلا بأس به، وحكى بعضهم خلافاً في تعليم الصبيان فيها. اهـ. "شرح مسلم" جـ 5 ص 55.
وفي "النيل" جـ 2 ص 269: وكره بعض المالكية تعليم الصبيان في المساجد، وقال: إنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة، فإن كان بغير أجرة كان مكروهاً، لعدم تحرزهم من الوسخ الذي يصان عنه المسجد.
ونقل في "الفتح" جـ 2 ص 126 - عن مالك رواية أخرى، وهي
التفرقة بين رفع الصوت بالعلم والخير وما لابد منه، فيجوز، وبين رفعه باللفظ ونحوه؛ فلا.
قال الجامع عفا الله عنه:
هذا التفصيل المنقول عن مالك في هذه الرواية هو الذي يترجح عندي في المسألة.
وحاصله أن يقال: إن رفع الصوت في المسجد إن كان فيما يتعلق به غرض ديني، أو نفع دنيوي فجائز، وإلا فلا، وعلى ذلك يدل عمل الإِمام البخاري رحمه الله في صحيحه، حيث ترجم "باب رفع الصوت في المساجد"، ثم ساق بسنده عن السائب بن يزيد، قال:"كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما -أو من أين أنتما-؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ثم أورد بسنده حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حَدْرَدٍ دينًا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجْفَ حُجْرَته، ونادى:"يا كعب بن مالك، يا كعب"، قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضَعِ الشطر من دينك، قال: قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قم فاقضه".
فأورد البخاري رحمه الله حديث عمر الدال على المنع، وحديث كعب الدال على الجواز، حيث قرر صلى الله عليه وسلم المتخاصمين في رفع أصواتهما في المسجد، إشارة منه إلى أن المنع فيما لا منفعة فيه، وعدمه فيما تلجىء الضرورة إليه.
وهو تفصيل حسن، وأما الأحاديث الواردة في النهي عن رفع الصوت في المساجد فإنها -كما قال الحافظ في الفتح جـ 2 ص 136 - ضعيفة، فلا تصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة، وعلى تقدير صحتها، فإنها تحمل على اللغو واللَّغَط، ومما لا فائدة فيه. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
26 - إِظْهَارُ السِّلاحِ فِي المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم إظهار السلاح في المسجد.
والسلاح -بالكسر-: ما يقَاتَلُ به في الحرب، ويُدَافَعُ، والتذكير أغلب من التأنيث، فيجمع على التذكير: أسْلحَة، وعلى التأنيث: سِلاحات، والسِّلْح - وِزان حمْل لغة في السلاح، وأخذ القوم أسلحتهم، أي أخذ كل واحد سلاحه. قاله في المصباح جـ 1 ص 284.
ثم اعلم أن الظاهر أنه أراد بإظهار السلاح حمله ظاهرًا مع الأخذ بنصله، فيكون حكمه الجواز، ويحتمل أن يكون إبداء نصله، فيكون حكمه المنع، لأجل الإيذاء، ويؤيد إلاحتمال الأول -وهو الأقرب لظاهر الحديث- الترجمة التالية، فإنها لبيان جواز تشبيك الأصابع، ويؤيد الاحتمال الثاني الترجمة السابقة، فإنها لبيان النهي عن إنشاد الضالة. والله أعلم.
718 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ الزُّهْرِيُّ، بَصْرِيٌّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرٍو: أَسَمِعْتَ جَابِرًا، يَقُولُ: مَرَّ رَجُلٌ بِسِهَامٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"خُذْ بِنِصَالِهَا". قَالَ: نَعَمْ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور) بن مخرمة، أبو بكر الزهري البصري، صدوق، توفي سنة 256، من صغار [10]، أخرج له مسلم والأربعة، وتقدم في 42/ 48.
تنبيه:
قوله: "بصري" هكذا في النسخ منكراً، وهو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو بصري، والله أعلم.
2 -
(محمد بن منصور) بن ثابت بن خالد الخزاعي الجوَّاز المكي، ثقة، من [10]، توفي سنة 252، أخرج له النسائي، تقدم في 20/ 21.
3 -
(سفيان) بن عيينة، أبو محمد الحافظ الحجة المثبت، توفي سنة 198 هـ، من [8]، تقدم في 1/ 1.
4 -
(عمرو) بن دينار الجمحي، أبو محمد الأثرم المكي، ثقة ثبت، توفي سنة 126، من [4]، أخرج له الجماعة تقدم في 112/ 154.
5 -
(جابر) بن عبد الله رضي الله عنهما المذكور في السند السابق. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعياته، وهو (37) منها.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، من رجال الجماعة، إلا شيخيه، فالأول لم يخرج له البخاري، والثاني من أفراده.
ومنها: أن هذا السند أصح أسانيد أهل مكة، قال أبو عبد الله الحاكم: وأصح أسانيد المكيين سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر. انظر تدريب الراوي جـ 1 ص 84.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبارَ، والتحديثَ، والقولَ، والسماعَ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(قال) سفيان بن عيينة: (قلت لعمرو) بن دينار: (أسمعت جابرًا يقول: مر رجل بسهام في المسجد) النبوي، ولمسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا كان يتصدق بالنبل في المسجد أن لا يمر بها، إلا وهو آخذ بنصالها.
قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه إلى الآن.
(فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ بنصالها")"النصال" -بالكسر- جمع "نصل" -بفتح فسكون- وهي -كما في "ق"- حديدة السهمِ والرمحِ والسيفِ ما لم يكن له مَقْبِضٌ، ويجمع أيضًا على أنْصُلٍ ونُصُولٍ.
وإنما أمره بالأخذ بنصالها، لئلا يؤذي أحدًا من المسلمين، ففي رواية الشيخين من طريق حماد بن زيد، عن عمرو:"أن رجلًا مر في المسجد بأسهم قد أبدى نصولها، فأمره أن يأخذ بنصولها، كي لا تخدش مسلمًا".
قال الجامع عفا الله عنه: حكم المجامع كالأسواق ونحوها حكم المساجد في هذا، لما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من مر في شيء من مساجدنا، أو أسواقنا بنبل، فليأخذ على نصالها، لا يعقِرْ مسلمًا". وفي رواية لمسلم: "فليمسك على نصالها بكفه أن يصيب أحدًا من المسلمين"، وفي رواية:"فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها".
(قال) عمرو بن دينار: (نعم) سمعته يقول ذلك. والله أعلم، ومنه التوفيق وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث جابر رضي الله تعالى عنه متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا (26/ 718)، و"الكبرى"(26/ 797) بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن قتيبة، وفي "الفتن" عن علي بن عبد الله، ومسلم في "الأدب" عن أبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، وابن ماجه في "الأدب" عن هشام بن عمار، خمستهم عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو جواز حمل السلاح في المسجد مع الإمساك بنصله، لئلا يؤدي مسلمًا، وأما ما رواه الطبراني في الأوسط -كما في الفتح جـ 2 ص 118 - من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقليب السلاح في المسجد"، فمحمول على ما إذا خيف منه الضرر.
ومنها: تعظيم قليل الدم وكثيره، وتأكيد حرمة المسلمين.
ومنها: أن فيه بيان كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وشدة رأفته بالمؤمنين، كما وصفه الله تعالى بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: لم يقع في رواية البخاري عن قتيبة في الصلاة جواب عمرو بقوله: نعم، فقال: ابن بطال رحمه الله: حديث جابر لا يظهر فيه الإسناد، لأن سفيان لم يقل: إن عمرًا قال له: نعم،
قال: ولكن ذكره البخاري في غير كتاب الصلاة، وزاد في آخره، "فقال: نعم"، فبان بقوله: نعم إسناد الحديث.
قال الحافظ رحمه الله: قلت: هذا مبني على المذهب المرجوح في اشتراط قول الشيخ: "نعم" إذا قال له القارىء مثلًا: أحدثك فلان؟ والمذهب الراجح الذي عليه أكثر المحققين -ومنهم البخاري- أن ذلك لا يشترط، بل يكتفى بسكوت الشيخ إذا كان متيقظًا، وعلى هذا فالإسناد في حديث جابر ظاهر، والله أعلم. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 118.
قال الجامع عفا الله عنه: المسألة المذكورة قد حقق الاختلاف فيها النووي رحمه الله في تقريبه، فقال: إذا قرأ على الشيخ قائلًا: أخبرك فلان، أو نحوه، والشيخ مُصْغٍ إليه، فَاهِمٌ له، غير منكر، ولا مقر لفظًا، صح السماع، وجازت الرواية به، اكتفاء بالقرائن الظاهرة، ولا يشترط نطق الشيخ بالإقرار، كقوله: نعم، على الصحيح الذي قطع به جماهير أصحاب الحديث والفقه والأصول، وشرط بعض الشافعيين، كالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، وسليم الرازي، وبعض الظاهريين نطقه به، وقال ابن الصباغ الشافعي: ليس له أن يقول: حدثني، ولا أخبرني، وله أن يعمل به، وأن يرويه قائلًا: قرأت عليه، أو قرىء عليه، وهو يسمع، وصححه الغزالي، والآمدي، وحكاه عن المتكلمين، وحكى تجويز ذلك عن الفقهاء والمحدثين، وحكاه الحاكم عن الأئمة الأربعة، وصححه ابن الحاجب. وقال
الزركشي: يشترط أن يكون سكوته لا عن غفلة أو إكراه، وفيه نظر، ولو أشار الشيخ برأسه، أو أصبعه للإقرار، ولم يتلفظ فجزم في المحصول بأنه لا يقول: حدثني، ولا أخبرني، قال العراقي: وفيه نظر. اهـ. "تقريب مع شرحه التدريب" جـ 2 ص 20.
وإلى هذا أشار الحافظ السيوطي في "ألفية الأثر" بقوله:
إِذَا قُرِي وَلَمْ يُقِرَّ المُسْمَعُ
…
لَفْظًا كَفَى وَقِيلَ: لَيَسَ يَنْفَعُ
ثَالِثُهَا يَعْمَلُ أوْ يَرُوِيهِ
…
بِقَدْ قَرَأتُ أوْقُرِي عَلَيْهِ
والحاصل أن المذهب الراجح هو مذهب الجمهور، وهو صحة السماع بذلك، فيكون سكوته مع خلو الموانع مُنَزَّلا منزلة إقراره. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
27 - تَشْبِيكُ الأصَابِعِ فِي المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز تشبيك الأصابع في المسجد.
والتشبيك مصدر شَبَّكَ، بالتشديد. قال العلامة ابن منظور رحمه الله: الشَّبْك: من قولك: شَبَكْتُ أصابعي بعضها في بعض، فاشتبكت، وشَبَّكتُهَا، فتشَبَّكَتْ، على التكثير، والشَّبْك: الخَلْط، والتداخل، ومنه تشبيك الأصابع، وفي الحديث:"إذا مضى أحدكم إلى الصلاة، فلا يشبكن بين أصابعه، فإنه في صلاة". وهو إدخال الأصابع بعضها في بعض، قيل: كره ذلك كما كره عَقْص الشعر، واشتمال الصماء، والاحتباء، وقيل: التشبيك، والاحتباء مما يجلب النوم، فنهي عن التعرض لما ينقض الطهارة، وتأوله بعضهم أن تشبيك اليد كناية عن ملابسة الخصومات، والخوض فيها، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الفتن، وشبك بين أصابعه، وقال:"اختلفوا، فكانوا هكذا" اهـ. لسان جـ 4 ص 2187.
قال الجامع عفا الله عنه: الحديث أخرجه أبو داود عن كعب بن عجرة رضي الله عنه مرفوعًا، بلفظ:"إذا توضأ أحدكم، ثم خرج عامدًا إلى المسجد، فلا يشبكن يديه، فإنه في صلاة"، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وفي إسناده اختلاف ضعفه بعضهم بسببه. قاله في "الفتح" جـ 2 ص 144.
ومحل استدلال المصنف من حديث الباب قوله: "إذا ركع شبك بين أصابعه"، فالحديث وإن كان منسوخًا -كما يأتي- من حيث توسط الإِمام بين المأمومَينِ، ومن حيث التطبيق للأحاديث المعارضة له المتأخرة عنه، فهو باق فيما عدا ذلك، إذ لم يوجد دليل يعارضه فيه، فتبصر. والله أعلم، ومنه التوفيق.
719 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعَلْقَمَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَنَا أَصَلَّى هَؤُلَاءِ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: قُومُوا، فَصَلُّوا. فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ خَلْفَهُ، فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، فَصَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، فَجَعَلَ إِذَا رَكَعَ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَجَعَلَهَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي، ثقة حافظ حجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.
2 -
(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، ثقة مأمون، من [8]، تقدم في 8/ 8.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مهران، أبو محمد الكوفي، ثقة ثبت مدلس، من [5]، تقدم في 17/ 18.
4 -
(إِبراهيم) بن يزيد النخعي، أبو عمران الفقيه، ثقة يرسل كثيراً، من [5]، تقدم في 29/ 39.
5 -
(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة مخضرم مكثر فقيه، من [2]، تقدم في 29/ 33.
6 -
(عبد الله بن مسعود) أبو عبد الرحمن الكوفي رضي الله عنه، تقدم في 35/ 39. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، اتفق عليهم الجماعة إلا شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
ومنها: أنه مسلسل بالكوفيين، إلا شيخه، فمروزي، ثم نيسابوري.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض؛ الأعمش، وإبراهيم، والأسود.
ومنها: أن فيه رواية الأقران؛ فالأعمش، وإبراهيم كلاهما من الطبقة الخامسة.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبار، والإنباء، والتحديث والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن إِبراهيم، عن الأسود) أنه (قال: دخلت أنا وعلقمة) بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ثقة، مات بعد 60 هـ، وقيل: بعد 70 هـ، من [2]، وتقدمت ترجمته في (61/ 77)(على عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه، ولمسلم:"أتينا عبد الله في داره"، وللمصنف في الرواية الآتية (1029):"أنهما كانا مع عبد الله في بيته".
(فقال لنا: أصلى هؤلاء؟) ولمسلم: "أصلى هؤلاء خلفكم"، يعني الأمير والتابعين له، وفيه إشارة إلى إنكار تأخيرهم الصلاة (قلنا: لا) أي لم يصلوا (قال: قوموا، فصلوا)، قال النووي رحمه الله: فيه جواز إقامة الجماعة في البيوت، لكن لا يسقط بها فرض الكفاية، إذا قلنا بالمذهب الصحيح أنها فرض كفاية، بل لابد من إظهارها، وإنما اقتصر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على فعلها في البيت؛ لأن الفرض كان يسقط بفعل الأمير، وعامة الناس، وإن أخروها إلى أواخر الوقت. اهـ. "شرح مسلم" جـ 5 ص 15.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح أن صلاة الجماعة فرض عين، لا يسقط إلا من عذر، ومن جملة الأعذار تأخير الأئمة الصلاة عن وقتها، فيحمل فعل ابن مسعود على هذا. وسيأتي تحقيق المسألة في كتاب الإمامة إن شاء الله تعالى.
(فذهبنا) أي أردنا، أو شرعنا (لنقوم خلفه) كما هو مذهب جمهور الصحابة (فجعل أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله) أي
جعلنا في جنبيه، وقام هو في الوسط، ولمسلم:"فأخذ بأيدينا، فجعل أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله".
قال النووي رحمه الله تعالى: وهذا مذهب ابن مسعود وصاحبيه، وخالفهم جميع العلماء من الصحابة، فمن بعدهم إلى الآن، فقالوا: إذا كان مع الإِمام رجلان وقفا وراءه صفًا، لحديث جابر، وجبار بن صخر رضي الله عنهما، وقد ذكره مسلم في صحيحه في آخر الكتاب في الحديث الطويل عن جابر رضي الله عنه، وأجمعوا إذا كانوا ثلاثة أنهم يقفون وراءه، وأما الواحد، فيقف عن يمين الإِمام عند العلماء كافة، ونقل جماعة الإجماع فيه، ونقل القاضي عياض رحمه الله تعالى عن ابن المسيب أنه يقف عن يساره، ولا أظنه يصح عنه، وإن صح فلعله لم يبلغه حديث ابن عباس، وكيف كان فهم مجمعون على أنه يقف عن يمينه. اهـ. "شرح مسلم" جـ 5 ص 16.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق القول في هذه المسألة في
محله من كتاب الإمامة، إن شاء الله تعالى.
(فصلى بغير أذان ولا إِقامة) هذا أيضًا مذهب ابن مسعود رضي الله عنه وبعض السلف من أصحابه وغيرهم، أنه لا يشرع الأذان ولا الإقامة لمن يصلي وحده في البلد الذي يؤذن فيه، ويقام لصلاة الجماعة العظمى، بل يكفي أذانهم وإقامتهم، وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أن الإقامة سنة في حقه، ولا يكفيه إقامة الجماعة، واختلفوا في الأذان، فقال بعضهم: يشرع له، وقال بعضهم: لا يشرع.
قال النووي رحمه الله: ومذهبنا: الصحيح أنه يشرع له الأذان إن لم يكن سمع أذان الجماعة، وإلا فلا يشرع. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي مشروعية الأذان لكل فصل مطلقًا، لظواهر النصوص، كما تقدم البحث عنه في بابه. والله أعلم.
(فجعل إِذا ركع شبك بين أصابعه، وجعلها بين ركبتيه) ولمسلم: "فلما ركع وضعنا أيدينا على ركبنا، قال: فضرب أيدينا، وطبق بين كفيه، ثم أدخلهما فخذيه".
وهذا الفعل هو المسمى بالتطبيق، وهو منسوخ كنسخ توسط الإِمام المتقدم آنفاً، لكنه لم يبلغ ابن مسعود، وطائفة.
قال النووي رحمه الله: مذهبنا، ومذهب العلماء كافة أن السنة وضع اليدين على الركبتين، وكراهة التطبيق، إلا ابن مسعود وصاحبيه علقمة والأسود، فإنهم يقولون: إن السنة التطبيق؛ لأنه لم يبلغهم الناسخ، وهو حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -يعني الآتي للنسائي برقم (1032، 1033) - قال: والصواب ما عليه الجمهور، لثبوت الناسخ الصريح. اهـ - وسيأتي تمام البحث في ذلك في بابه إن شاء الله تعالى.
(وقال) ابن مسعود رضي الله عنه: (هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل) يعني التطبيق.
وفي رواية مسلم: "قال: فلما صلى، قال: إنه ستكون عليكم أمراء، يؤخرون الصلاة عن ميقاتها، ويَخْنُقُونها إلى شَرَقِ الموتَى، فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك، فصلُّوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سُبْحة، وإذا كنتم ثلاثة، فصلوا جميعًا، وإذا كنتم أكثر من ذلك، فليؤمكم أحدكم، وإذا ركع أحدكم، فليُفْرِش ذراعيه على فخذيه، ولْيَجْنَأ، وليطبق بين كفيه، فلكأني انظر إلى اختلاف أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراهم"، ومعنى "وليجنأ": ينعطف.
والله أعلم ومنه التوفيق وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا (27/ 719)، و"الكبرى"(27/ 798) عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عنه. وفي (720) و"الكبرى"(799) عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر، عن شعبة، عن الأعمش، عن علقمة، والأسود، كلاهما عنه. و (1029) عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن الأعمش، به، نحوه، والكبرى عن محمد بن رافع، عن يحيى بن آدم، عن مفضل بن مهلهل، عن الأعمش، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم مطولًا في "الصلاة" عن أبي كريب، عن أبي معاوية، وعن منجاب بن الحارث، عن علي بن مسهر، وعن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن محمد ابن رافع، عن يحيى بن آدم، عن مفضل ابن مهلهل؛ أربعتهم عن الأعمش -وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور- كلاهما
عن إبراهيم، عن علقمة، والأسود، به، وأخرجه أحمد في "مسنده". والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو جواز التشبيك في المسجد، وقد تقدم وجه الاستدلال من الحديث في أول الباب.
ومنها: الإنكار على الأئمة إذا أخروا الصلاة، والمبادرة إلى أدائها في أول وقتها، ثم إذا أدركها معهم يصليها نافلة، إحرازاً لفضيلة أول الوقت، وفضيلة الجماعة، فقد تقدم في رواية مسلم، قال:"فلما صلى، قال: إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها، ويخنُقونها إلى شَرَقِ الموتى، فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك، فصلوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سُبْحة"
…
الحديث.
وأما التطبيق، وقيام الإِمام بين الاثنين، فقد تقدم أن ذلك مذهب ابن مسعود رضي الله عنه، وخالفه في ذلك كافة العلماء، لكونه منسوخاً، وأما الصلاة بغير أذان ولا إقامة فقد تقدم أن الأرجح خلافه. والله أعلم.
المسألة الخامسة قد جاءت أحاديث تدل على جواز التشبيك:
فمنها: حديث أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه" متفق عليه.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها، كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه"
…
الحديث. متفق عليه.
ومنها: ما أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه كما ذكره أبو مسعود في الأطراف، عن رواية ابن رميح، عن الفربري، وحماد بن شاكر جميعًا عن البخاري، قال: حدثنا حامد بن عمر، عن بشر ابن المفضل، قال: حدثنا عاصم بن محمد، قال: حدثنا واقد -يعني أخاه-، عن أبيه -يعني محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر- عن ابن عمر -أو ابن عمرو- رضي الله عنهما، "شبك النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه".
قال البخاري: وقال عاصم بن علي: حدثنا عاصم بن محمد، سمعت هذا الحديث من أبي، فلم أحفظه، فقومه لي واقد عن أبيه، قال: سمعت أبي وهو يقول: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله بن عمرو، كيف بك إذا بقيت في حُثالة من الناس بهذا".
وقد ساقه الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" نقلًا عن أبي مسعود، وزاد هو "قد مَرَجَتْ عهودهم، وأماناتهم، واختلفوا، فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه"؟. قال: فكيف أفعل يا رسول الله، قال: "تأخذ ما تعرف، وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصتك،
وتدعهم وعوامهم". انظر "الفتح" جـ 2 ص 143 - 144، وعمدة القاري جـ 4 ص 260.
والحثالة -بضم المهملة، وتخفيف المثلثة-: الرديء من كل شيء، وقيل: غير ذلك. ومعنى "مرجت عهودهم، وأماناتهم": فسدت، ولم يوفوا بها. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: دل حديث الباب، والأحاديث التي ذكرناها على جواز تشبيك الأصابع، سواء كان في المسجد، أو غيره، وكره إبراهيم ذلك في الصلاة، وهو قول مالك، ورخص في ذلك ابن عمر، وابنه سالم، فكانا يشبكان بين أصابعهما في الصلاة، ذكره ابن أبي شيبة.
وكان الحسن البصري يشبك بين أصابعه في الصلاة، ذكره ابن أبي شيبة، وكان الحسن البصري يشبك بين أصابعه في المسجد، وقال مالك: إنهم لينكرون تشبيك الأصابع في المسجد، وما به بأس، وإنما يكره في الصلاة. أفاده العيني في "عمدته" جـ 4 ص 261.
وقد وردت أحاديث تعارض أحاديث الباب:
فمنها: حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا كعب إذا توضأت، فأحسنت الوضوء، ثم خرجت إلى المسجد، فلا تشبك بين أصابعك، فإنك في صلاة". أخرجه ابن حبان
في صحيحه جـ 5 ص 524.
وأخرجه أبو داود بلفظ: "إذا توضأ أحدكم، فأحسن وضوءه، ثم خرج إلى الصلاة، فلا يشبكن يده، فإنه في صلاة"، وأخرجه الترمذي، وأحمد، وابن خزيمة، والطبراني. وفي إسناده اختلاف، ضعفه بعضهم بسببه، قاله في "الفتح" جـ 2 ص 144.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، وشبك بين أصابعه". أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
وروى ابن أبي شيبة: "إذا صلى أحدكم، فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه". قال في "الفتح" جـ 2 ص 44: وفي إسناده ضعيف، ومجهول.
قال الجامع عفا الله عنه: قد جمع العلماء بين هذه الأحاديث، فقال العلامة ابن المنَيِّر رحمه الله: التحقيق أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض، إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، والذي في الحديث -يعني حديث الجواز- إنما هو لمقصود التمثيل، وتصوير المعنى في النفس بصورة الحس.
قال الحافظ: هو في حديث أبي موسى، وابن عمر كما قال، بخلاف حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وجمع الإسماعيلي رحمه الله بأن النهي مقيد بما إذا كان في الصلاة، أو قاصدًا لها، إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي، وأحاديث الباب الدالة على الجواز خالية عن ذلك، أما حديث ابن عمر، وأبي موسى، فظاهران. وأما حديث أبي هريرة، فلأن تشبيكه إنما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه، فهو في حكم المنصرف من الصلاة. والرواية التي فيها النهي عن ذلك ما دام في المسجد ضعيفة، كما قدمنا، فهي غير معارضة لحديث أبي هريرة، كما قال ابن بطال رحمه الله تعالى. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 144.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: وأحاديث الباب خالية عن ذلك، فيه نظر؛ لأن حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي استدل به النسائي على جواز التشبيك غير خال عن ذلك؛ لأنه داخل الصلاة، اللهم إلا إذا قلنا بنسخه، كالتطبيق، وقيام الإمام بين الاثنين، وهو خلاف رأي النسائي، فعندي الأولى حمل النهي على فعل ذلك عبثًا، كما تقدم في قول ابن المنير، والله أعلم.
وقوله أيضًا: أحاديث النهي ضعيفة، فيه نظر، إذ هي بمجموعها صالحة للاحتجاج بها، فقد صححها ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والذهبي. راجع تحقيق صحيح ابن حبان للشيخ شعيب
الأرناؤوط جـ 5 ص 383 - 385. فالأولى الجمع بينها بما ذكر آنفًا. والله أعلم.
وجمع المجد ابن تيمية رحمه الله في المنتقى بأن فعله صلى الله عليه وسلم يفيد عدم التحريم، ولا يمنع الكراهة، لكون فعله نادرًا.
قال الشوكاني رحمه الله: ولكن يبعد أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما كان مكروهًا، والأولى أن يقال: إن النهي عن التشبيك ورد بألفاظ خاصة بالأمة، وفعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض قوله الخاص بهم، كما تقرر في الأصول. اهـ. "نيل" جـ 3 ص 231.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم غير مرة رد هذه القاعدة التي تبناها الشوكاني، في كثير من الأحاديث الفعلية إذا تعارضت مع القولية، والمسألة مختلف فيها عند الأصوليين، والحق أن فعله صلى الله عليه وسلم مثل قوله، ما لم يدل دليل على اختصاصه به، فالأولى في الجمع هنا أن يقال: إن أحاديث النهي محمولة على من فعل ذلك عبثًا، كما تقدم تقريره قريبًا. والله أعلم. وهو ولي التوفيق.
واختلف في حكمة النهي عن التشبيك، فقيل: لكونه من الشيطان، كما تقدم في رواية ابن أبي شيبة. وقيل: لأن التشبيك يجلب النوم، وهو من مظان الحدث. وقيل: لأن صورة التشبيك تشبه صورة الاختلاف، كما نبه عليه في حديث ابن عمر، فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في المنهي عنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم-
للمصلين: "ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم". اهـ "فتح" جـ 2 ص 144.
والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
720 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا النَّضْرُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
رجال هذا الإسناد: ثمانية
كلهم تقدموا في السند الماضي، إلا اثنين:
1 -
(النضر) بن شميل المازني أبو الحسن النحوي البصري، نزيل مرو، ثقة، ثبت، من كبار [9]، توفي سنة 204، وله 82 سنة أخرج له الجماعة، تقدم في 41/ 45.
2 -
(شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي، ثم البصري، الإِمام الحجة المثبت العابد، توفي سنة 160 هـ، من [7] أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 26.
تنبيهات:
الأول: سليمان في هذا السند: هو الأعمش المذكور في السند السابق.
الثاني: السند الأول عال؛ لأن المصنف وصل إلى الأعمش فيه
بواسطتين، بخلاف الثاني، فقد وصل إليه بثلاث وسائط.
الثالث: قوله: "فذكر نحوه"، الظاهر أن الضمير يرجع إلى إسحاق شيخه، يعني أنه أخبره عن شيخه النضر، عن شعبة إلخ، فذكر نحو ما ذكره عن شيخه عيسى بن يونس، عن الأعمش إلخ.
ويحتمل أن يكون الضمير راجعًا إلى شعبة، يعني أن شعبة ذكر عن الأعمش نحو ما ذكره عيسى بن يونس، عنه.
الرابع: إذا ساق المحدث حديثًا بإسناده، ثم أتبعه إسنادًا آخر، وقال في آخره:"مثله" فأراد السامع منه رواية المتن بالإسناد الثاني، فالأظهر منعه، وهو قول شعبة، وأجازه الثوري، وابن معين إذا كان متحفظًا مميزًا بين الألفاظ، وكان جماعة من العلماء إذا روى أحدهم مثل هذا ذكر الإسناد، ثم قال: مثل حديث قبله، متنه كذا، واختار الخطيب هذا، وأما إذا قال:"نحوه" -كما قال المصنف هنا- فأجازه الثوري، ومنعه شعبة، وابن معين.
قال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله: إن مما يلزم الحديثي من الضبط والإتقان أن يفرق بين "مثله"، و"نحوه"، فلا يحل أن يقول: مثله إلا إذا اتفقا في اللفظ، ويحل "نحوه" إذا كان بمعناه، انظر التقريب مع التدريب جـ 2 ص 119 - 120.
وإلى هذا أشار السيوطي رحمه الله في "ألفية الحديث"، حيث قال:
وَلَوْ رَوَى مَتْنًا بِإِسْنَادٍ وَقَدْ
…
جَدَّدَ إِسْنَادًا وَمَتنٌ لَمْ يُعَدْ
بَلْ قالَ فِيه "نَحْوَهُ" أوْ "مِثْلَهُ"
…
لا تَرْوِ بِالثَّانِ حَديثًا قبْلَهُ
وَقِيلَ جَازَ إِنْ يَكُنْ مَنْ يَرْوِهِ
…
ذَا مَيْزَةٍ وَقِيلَ لا في "نَحْوِهِ"
الحَاكمْ اخْصصْ "نَحْوَهُ" بِالمَعْنَى
…
وَ"مِثْلَهُ" بِاللَّفْظِ فَرْقٌ سُنّا
وَالوَجْهُ أنْ يَقُولَ مِثْلَ خَبَرِ
…
قَبْلُ وَمَتْنُهُ كذَا فَلْيَذْكرِ
والله أعلم. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
28 - الاسْتِلْقَاءُ فِي المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز الاستلقاء في المسجد.
والاستلقاء: مصدر "استلقى"، يقال: استلقى على قفاه: إذا نام. ومحل استدلال المصنف رحمه الله تعالى من الحديث واضح.
721 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، "أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد، ثقة، ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإِمام الحجة الفقيه، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(ابن شهاب) الزهري محمد بن مسلم الإِمام الحجة الثبت، من [4]، تقدم في 1/ 1.
4 -
(عباد بن تميم) بن غَزِيَّةَ الأنصاري المازني المدني، ثقة، من [3]، وقد قيل: له رؤية. أخرج له الجماعة، تقدم في 59/ 74.
5 -
(عمه) عبد الله بن عاصم بن كعب الأنصاري المازني، أبو محمد، الصحابي الشهير، استشهد بالحرة، سنة 63، أخرج له الجماعة، تقدم في 80/ 97. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، اتفق الجماعة عليهم.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني.
ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، ابن شهاب، عن عباد.
ومنها: أن فيه رواية الراوي عن عمه، عباد، عن عبد الله بن زيد. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عباد بن تميم) المازني المدني (عن عمه) عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، وهو أخو أبيه تميم لأمه، كما في تهذيب التهذيب، والتقريب، وفي تهذيب الكمال: أخوه لأمه، وقيل: لأبيه (أنه رأى) بمعنى أبصر، فلذا اكتفت بمفعول واحد، وهو قوله:(رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقوله: (مستلقيًا) منصوب على الحال من "رسول الله"، وكذا قوله:"واضعاً"، وهما حالان مترادفتان، ويجوز أن يكون "واضحًا" حالًا من الضمير المستتر في "مستلقيًا"، فعلى هذا يكون
الحالان متداخلتين. قاله العيني. (في المسجد) متعلق بما قبله.
(واضعًا إِحدى رجليه على الأخرى) قال الخطابي رحمه الله: فيه أن النهي الوارد عن ذلك منسوخ، أو يحمل النهي حيث يخشى أن تبدو العورة، والجواز حيث يؤمن ذلك.
قال الجامع عفا الله عنه: النهي الوارد في ذلك هو ما أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب اللباس، عن جابر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد، وأن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى، وهو مستلق على ظهره".
وفي رواية: "لا تمش في نعل واحد، ولا تَحْتَبِ في إزار واحد، ولا تأكل بشمالك، ولا تشتمل بالصماء، ولا تضع إحدى رجليك على الأخرى إذا استلقيت"، وفي رواية:"لا يستلقين أحدكم، ثم يضعُ إحدى رجليه على الأخرى". انظر "صحيح مسلم" جـ 6 ص 154.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: الثاني -يعني الوجه الثاني مما قاله الخطابي- أولى من ادعاء النسخ؛ لأنه لا يثبت بالاحتمال، وممن جزم به البيهقي، والبغوي، وغيرهما من المحدثين، وجزم ابن بطال، ومن تبعه بأنه منسوخ، وقال المازري: إنما بوب على ذلك؛ لأنه وقع في كتاب أبي داود، وغيره، لا في الكتب الصحاح: النهي عن أن يضع إحدى رجليه على الأخرى، لكنه عام؛ لأنه قول يتناول الجميع، واستلقاؤه في المسجد فعل يُدَّعَى قصرُهُ عليه، فلا يؤخذ منه الجواز،
لكن لما صح أن عمر وعثمان كانا يفعلان ذلك دل على أنه ليس خاصًا به صلى الله عليه وسلم، بل هو جائز مطلقًا، فإذا تقرر هذا صار بين الحديثين تعارض، فيجمع بينهما، فذكر نحو ما ذكره الخطابي.
قال الحافظ: وفي قوله عن حديث النهي: ليس في الكتب الصحاح إغفال، فإن الحديث عند مسلم في اللباس من حديث جابر، وفي قوله:"فلا يؤخذ منه الجواز" نظر؛ لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، والظاهر أن فعله صلى الله عليه وسلم، كان لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة، لا عند مُجْتَمَع الناس، لما عرف من عادته من الجلوس بينهم بالوقار التام.
قال الخطابي رحمه الله: وفيه جواز الاتكاء في المسجد، والاضطجاع، وأنواع الاستراحة. وقال الداودي رحمه الله: فيه أن الأجر الوارد للاَّبِث في المسجد لا يختص بالجالمس، بل يحصل للمستلقي أيضًا. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 140.
قال البخاري رحمه الله: وعن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، قال: كان عمر وعثمان يفعلان ذلك -يعني الاستلقاء في المسجد، ووضع الرجل على الأخرى-. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (28/ 721)، و"الكبرى"(28/ 800) عن قتيبة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عباد بن تميم، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن القعنبي، عن مالك -وفي اللباس عن أحمد بن يونس، عن إبراهيم بن سعد- وفي الاستئذان عن علي بن عبد الله، عن سفيان - ثلاثتهم، عن الزهري، عنه، به.
ومسلم في "اللباس" عن يحيى بن يحيى، عن مالك، به. وعن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وزهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، خمستهم، عن سفيان، به. وعن أبي الطاهر بن السرح، وحرملة، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس - وعن إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حُميد، كلاهما، عن عبد الرزاق، عن معمر، كلهم عن الزهريّ به.
وأبو داود في "الأدب" عن القعنبي، والنفيلي، كلاهما عن مالك، به.
والترمذي في "الاستئذان" عن سعيد بن عبد الرحمن، عن سفيان، به. وقال: حسن صحيح.
وأخرجه مالك في "الموطأ"(124)، وأحمد في "مسنده"(4/ 38)،
(4/ 40)، والحميدي رقم 414، والدارمي (2659). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: اختلف العلماء في جواز الاستلقاء، فذهب محمد بن سيرين، ومجاهد، وطاوس، وإبراهيم النخعي إلى أنه يكره وضع إحدى الرجلين على الأخرى، وروي ذلك عن ابن عباس، وكعب بن عجرة.
وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بذلك، وهم الحسن البصري، والشعبي، وسعيد بن المسيب، وأبو مجلز، ومحمد بن الحنفية، ويروى ذلك عن أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وأبيه عمر بن الخطاب، وعثمان، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك.
وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا وكيع، عن عبد العزيز الماجشون، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر، وعثمان كانا يفعلانه.
حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن عجلان، عن يحيى بن عبد الله بن مالك، عن أبيه، قال: دُخل على عمر، روئي مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى.
حدثنا مروان بن معاوية، عن سفيان بن الحسن، عن الزهري، عن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن الحارث: أنه رأى ابن عمر يضطجع، فيضع إحدى رجليه على الأخرى.
حدثنا وكيع، عن أسامة، عن نافع، قال: كان ابن عمر يستلقي على قفاه، ويضع إحدى رجليه على الأخرى، ولا يرى بذلك بأسًا، ويفعل ذلك، وهو جالس، لا يرى بذلك بأساً.
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر بن عبد الرحمن بن الأسود، عن عمه، قال: رأيت ابن مسعود رضي الله عنه مستلقيًا واضعاً إحدى رجليه فوق الأخرى، وهو يقول: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.
حدثنا ابن مهدي عن سفيان، عن عمران -يعني ابن مسلم- قال: رأيت أنساً واضعًا إحدى رجليه على الأخرى. ذكره العيني في عمدته جـ 4 ص 255. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
29 - النَّوْمُ فِي المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز النوم في المسجد.
واستدلال المصنف رحمه الله تعالى عليه بالحديث واضح، وسيأتي تحقيق أقوال العلماء في ذلك في المسائل، إن شاء الله تعالى.
722 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ، وَهُوَ شَابٌّ عَزْبٌ، لَا أَهْلَ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) اليشكري، أبو قدامة السرخسي، نزيل نيسابور، ثقة مأمون سنين، توفي سنة 241 هـ، من [10]، تقدم في 15/ 15، أخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإِمام الحجة المثبت، من [9]، تقدم في 4/ 4، أخرج له الجماعة.
3 -
(عبيد الله) بن عمر العمري المدني، ثقة ثبت، من [5]، تقدم في 15/ 15، أخرج له الجماعة.
4 -
(نافع) العدوي مولى ابن عمر المدني، ثقة، ثبت، من [3]، تقدم في 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12.
ولطائف هذا الإسناد تقدمت غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أنه كان ينام، وهو شاب) جملة اسمية في محل نصب حال من الفاعل (عزب) وللبخاري: "أعزب" بالهمزة، والمشهور الأول، والثاني لغة قليلة، وقد أنكرها القزاز.
والعَزَبُ -بفتحتين-: من لا أهل له. قال الفيومي رحمه الله: وعَزَب الرجل، يَعْزُبُ، من باب قتل، عُزْبَةً، وزان غرفة، وعُزُوبة: إذا لم يكن له أهل، فهو عَزَبٌ -بفتحتين- وامرأة عَزَب، أيضًا كذلك، قال الشاعر [من الرجز]:
يَا مَنْ يَدُلُّ عَزَبًا عَلَى عَزَبْ
…
عَلَى ابْنَةِ الحُمَارِسِ الشَّيْخ الأزَبْ
والحمارس -بالضم: الشديد، والأزب: الكريه الذي لا يُدْنِي من حُرْمَتِه.
وجمع الرجل: عُزَّاب، باعتبار بنائه الأصلي، وهو عازب، مثل كافر، وكفار. قال أبو حاتم: ولا يقال: رجل أعزب. قال الأزهري: وأجازه غيره. وقياس قول الأزهري: أن يقال: امرأة عَزْباء، مثل أحمر وحمراء. اهـ."المصباح" جـ 2 ص 407.
وفي "المحكم": رجل عَزَب، ومِعْزَابة: لا أهل له، وامرأة عَزَبَة، وعَزَبٌ، والجمع أعْزَاب، وجمع العازب: عُزَّاب. والعزَبُ: اسم للجمع، وكذلك العَزِيب اسم للجمع. وقال صاحب "المنتهى":
العزَب -بفتحتين-: نعت للذكر، والأنثى. وقال الكسائي: العَزَبَة التي لا زوج لها، والأول أشهر. نقله في "عمدة القاري" جـ 4 ص 198.
(لا أهل له) أي لابن عمر رضي الله عنه، قيل: العزب، هو الذي لا زوج له، فما فائدة قوله:"لا أهل له"، وأجيب بأنه للتأكيد، أو للتعميم؛ لأن الأهل أعم من الزوجة.
(على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم) الجاران متعلقان بينام. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (29/ 722)، و"الكبرى"(29/ 851) بهذا السند.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" بنحوه، وفي "فضل قيام الليل" مطولًا، وفي "باب فضل من تعار من الليل"، وفي مناقب ابن عمر، وأخرجه مسلم في فضائل عبد الله بن عمر مطولاً، أيضًا.
وأخرجه ابن ماجه في "كتاب المساجد"، بلفظ:"كنا ننام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأخرجه الترمذي من رواية سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما، بلفظ:"كنا ننام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ونحن شباب". والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في مذاهب أهل العلم فى جواز النوم فى المسجد:
قال الإِمام الترمذي رحمه الله: وقد رخص قوم من أهل العلم في النوم في المسجد، وقال ابن عباس: لا يتخذه مبيتًا، ولا مقيلًا. وذهب قوم من أهل العلم إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الحافظ رحمه الله: ذهب الجمهور إلى جوازه. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما كراهيته، إلا لمن يريد الصلاة. وعن ابن مسعود كراهته مطلقاً. وعن مالك التفصيل بين من له مسكن، فيكره، وبين من لا مسكن له فيباح. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 103.
وقال العلامة العيني رحمه الله: وقد اختلف العلماء في ذلك، فممن رخص في النوم فيه ابن عمر، وقال: "كنا نبيت فيه، ونقيل
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وعن سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء، ومحمد بن سيرين مثله، وهو أحد قولي الشافعي، واختلف عن ابن عباس، فروي عنه أنه قال: "لا تتخذوا المسجد مرقداً"، وروي عنه أنه قال: "إن كنت تنام فيه لصلاة، فلا بأس". وقال مالك: لا أحب لمن له منزل أن يبيت في المسجد، ويقيل فيه. وبه قال أحمد، وإسحاق. وقال مالك: وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيتون في المسجد.
وكره النوم فيه ابن مسعود، وطاوس، ومجاهد، وهو قول الأوزاعي، وقد سئل سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار عن النوم فيه، فقالا: كيف تسألون عنها، وقد كان أصحاب الصفة ينامون فيه، وهم قوم كان مسكنهم المسجد.
وذكر الطبري عن الحسن، قال: رأيت عثمان بن عفان نائماً فيه، ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين. قال: وقد نام في المسجد جماعة من السلف بغير محذور للانتفاع به فيما يحل، كالأكل، والشرب، والجلوس، وشبه النوم من الأعمال، والله أعلم. اهـ. "عمدة القاري". جـ 4 ص 198 - 199.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح من هذه الأقوال قول الجمهور، وهو جواز النوم في المسجد مطلقًا، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الباب، وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر
رضي الله عنهما: "كان أصحاب الصفة الفقراء" الحديث. أخرجه البخاري.
والصفة كانت موضعًا مظللًا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان الفقراء المهاجرون الذين ليس لهم منزل يسكنونها.
ولحديث سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة رضي الله عنها، فلم يجد عليًا في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني، فخرج، فلم يقل عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان:"انظر أين هو؟ " فجاء، فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه، ويقول:"قم أبا تراب، قم أبا تراب". متفق عليه.
فهذه الأحاديث تدل على أن النوم في المسجد جائز مطلقًا، للفقير، والغني والغريب، والحاضر. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
30 - البُصَاقُ فِي المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم البصاق في المسجد.
وفي الكبرى "البزاق" -بالزاي-.
والبُصَاقُ -بضم الباء الموحدة، والصاد المهملة-: لغة في البزاق -بالزاي- يقال: بصَقَ، يبْصُقُ، بَصْقًا، من باب قتل، وقال الليث: بصَقَ: لغة في "بَزَقَ"، و"بَسَقَ". أفاده في اللسان.
وقال المجد: البُصَاق، كغُراب، البُسَاق، والبزاق: ماء الفم إذا خرج منه، وما دام فيه، فهو رِيقٌ. اهـ. "ق". والله تعالى أعلم.
723 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا".
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة) بن سعيد تقدم قبل باب.
2 -
(أبو عوانة) وضاح بن عبد الله اليشكري الواسطي البزاز ثقة ثبت، من [7]، تقدم في 41/ 46.
3 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري، ثقة،
ثبت مدلس، من [4]، تقدم في 30/ 34.
4 -
(أنس) بن مالك الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو (38) منها، وهي أعلى ما وقع له من الأسانيد.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، اتفق الأئمة بالتخريج لهم.
ومنها: أنه مسلسل بالبصريين، إلا شيخه، فواسطي.
ومنها: أنه لا يوجد في الكتب الستة من يسمى بقتيبة غير شيخه، ولا بالوضاح، ولا من يكنى بأبي عوانة غير شيخ شيخه.
ومنها: أن فيه أنسًا أحد المكثرين السبعة، روى 2286 حديثًا، وأنه آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس) بن مالك رضي الله عنه، وعند البخاري:"سمعت أنس بن مالك" فصرح قتادة بالسماع، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البصاق) تقدم في أول الباب ضبطه، ومعناه، وفي "الكبرى""البزاق" -بالزاي- وهي رواية البخاري، ولمسلم "التفل"، والتفل -
بالمثناة من فوق- أخف من البزاق، والنفث -بمثلثة آخره- أخف منه. قاله في "الفتح".
(في المسجد) متعلق بحال محذوف، تقديره من البصاق، أي حال كونه كائنًا في المسجد. وقال الحافظ رحمه الله: قوله: "في المسجد" ظرف للفعل، فلا يشترط كون الفاعل فيه، حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه يتناوله النهي. اهـ.
(خطيئة) أي إثم، وهي بالهمز، ويجوز إبدالها ياء، وإدغام الياء فيها. أفاده العيني.
قال القاضي عياض رحمه الله: إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فلا، ورده النووي رحمه الله، فقال: هو خلاف صريح الحديث.
وحاصل النزاع -كما قال الحافظ- أن هنا عمومين تعارضا، وهما قوله:"البزاق في المسجد خطيئة"، وقوله:"يبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى" كما في الحديث الآتي برقم (725)، فالنووي يجعل الأول عامًا، ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي بخلافه، يجعل الثاني عامًا، ويخص الأول بمن لم يرد دفنها.
وقد وافق القاضيَ جماعةٌ، منهم ابن مكي في التنقيب، والقرطبي في المفهم، وغيرهما. ويشهد لهم ما رواه أحمد بإسناد حسن من
حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا، قال:"من تنخم في المسجد فَلْيُغَيِّبْ نخَامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه".
وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد أيضًا بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعًا، قال:"من تنخم في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة"، فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوُهُ حديثُ أبي ذر عند مسلم مرفوعًا، قال:"ووجدت في مساوي أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن". قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد، بل به، وبتركها غير مدفونة. اهـ.
وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح: "أنه تنخم في المسجد ليلة، فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار، ثم جاء، فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب علي خطيئة الليلة"، فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها، لا بمن دفنها، وعلة النهي ترشد إليه، وهي تأذي المؤمن بها.
ومما يدل على أن عمومه مخصوصٌ جوازُ ذلك في الثوب، ولو كان في المسجد بلا خلاف، وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشِّخِّير:"أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق تحت قدمه اليسرى، ثم دلكه بنعله"، وإسناده صحيح، وأصله في مسلم. والظاهر أن ذلك كان في المسجد، فيؤيد ما تقدم.
وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر، كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر، وهو تفصيل حسن، والله أعلم.
وينبغي أن يفصل أيضًا بين من بدأ بمعالجة الدفن قبل الفعل، كمن حفر أوّلا، ثم بصق، ووارى، وبين من بصق أوَّلاً بنية أن يدفن مثلًا، فيجري فيه الخلاف، بخلاف الذي قبله؛ لأنه إذا كان المكفِّر إثمَ إبرازها هو دفنَهَا، فكيف يأثم مَنْ دفنها ابتداء؟. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 72 - 73.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن ما ذهب إليه عياض ومن وافقه رحمهم الله من أنه إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فلا يكون خطيئة هو الراجح، لما سمعت في تقرير الحافظ رحمه الله تعالى.
(وكفارتها دفنها) أي مزيل هذه الخطيئة سترها. وإنما أنث الضمير مع أن البصاق مذكر، نظرًا لمعنى الخطيئة.
واختلف العلماء في كيفية دفنها، فقال الجمهور: يدفنها في تراب المسجد، أو رمله، أو حصبائه. وحكى الروياني أن المراد بدفنها إخراجها من المسجد أصلاً، قال الحافظ: الذي قاله الروياني يجري على ما يقول النووي من المنع مطلقًا، وقد عرفت ما فيه.
وقال السندي رحمه الله: ومفاده -يعني مفاد قوله: "وكفارتها"-: أنه ليس لتعظيم المسجد، وإلا لما أفاد الدفن شيئًا، بل لتأذي الناس به،
وبالدفن يندفع التأذي، ثم ذكر ما تقدم عن الحافظ، قال: وزعم بعض أنه لتعظيم المسجد، فقال: إن اضطر إلى ذلك كان البصاق فوق البواري والحصر خيرًا من البصاق تحتها؛ لأن البواري ليست من المسجد حقيقة، ولها حكم المسجد، بخلاف ما تحتها، وهذا بعيد بالنظر إلى الأحاديث، والأقرب عكس ذلك؛ لأن التأذي في البواري أكثر من التأذي فيما تحتها بمنزلة الدفن لها
(1)
. والله أعلم. اهـ. كلام السندي جـ 2 ص 51.
والله أعلم، ومنه التوفيق وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (30/ 723)، و"الكبرى"(30/ 802) عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة، عنه.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أما طريق أبي عوانة، فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، وقتيبة بن سعيد -وأبو داود فيه عن مسدد- والترمذي فيه عن
(1)
هكذا عبارة السنديّ، وفيها ركاكة، ولعل فيه سقطًا، والأصل:"لكونه بمنزلة الدّفن فيها" أو نحو ذلك. والله تعالى أعلم.
قتيبة- ثلاثتهم عن أبي عوانة به.
وأخرجه من طريق شعبة البخاري في "الصلاة" عن آدم بن أبي إياس -ومسلم فيه عن يحيى بن حبيب، عن خالد بن الحارث- وأبو داود فيه عن مسلم بن إبراهيم - ثلاثتهم عنه به.
وأخرجه أحمد (3/ 173)، و (277 و277) والدارمي رقم (1402) وابن خزيمة رقم (1309)، والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
31 - النَّهْيُ عَنْ أنْ يَتَنَخَّم الرَّجُلُ فِي قِبْلَةِ المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على النهي عن تنخم الرجل في قبلة المسجد.
ووجه مطابقة الحديث للباب من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو في المسجد، حين رأى البصاق في جداره. والله أعلم.
724 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ، فَحَكَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:"إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى".
رجال هذا الإسناد: أربعة
كلهم تكرر الكلام فيهم، وأن السند أعلى ما وقع للمصنف من الأسانيد، كسابقه، وهو (39) من رباعياته، وأنه السند المسمى بسلسلة الذهب.
شرح الحديث
(عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
بصاقاً) تقدم معنى "البصاق" في الباب السابق (في جدار القبلة) وللبخاري في رواية المستملي: "في جدار المسجد"، وفي رواية له في أواخر الصلاة من طريق أيوب، عن نافع:"في قبلة المسجد"، وزاد فيه:"ثم نزل، فحكها بيده"، وفيه إشعار بأنه كان في حال الخطبة، وقد صرح به أبو داود في روايته، قال:"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يومًا إذ رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيظ على الناس، ثم حكها، قال: وأحسبه قال: فدعا بزعفران، فلطخه به"
…
الحديث.
(فحكه) أي قَشَره، يقال: حككت الشيء حكًّا، من باب قتل: قَشَرْتُهُ. قاله في المصباح. ولم يبين في هذه الرواية بأي شيء حكه، وسيأتي في حديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي في الباب التالي (725)"فحكها بحصاة"، وفي حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري "فحكه بيده"، وفي حديث جابر رضي الله عنه عند أبي داود "حكها بعرجون"، فالظاهر حمل المطلق هنا على المقيد في هذه الروايات، وأما اختلافها في كون الحك باليد، أو الحصى، أو العرجون، فيحمل على تعدد الواقعة، والله أعلم.
(ثم أقبل على الناس، فقال: إِذا كان أحدكم يصلي، فلا يبصقن قبل وجهه) -بكسر القاف، وفتح الباء- أي جهة قدامه.
وفيه تعظيم المساجد عن أثْفَال البدن، وعن القاذورات بالطريق
الأولى، وفيه احترام جهة القبلة، وقد بين علة النهي بقوله:(فإِن الله عز وجل قبل وجهه) هذا وأمثاله من أحاديث الصفات مما يجب الإيمان به، وإثباته كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلا تأويل، ولا تشبيه، ولاتعطيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في جملة كلامه في آيات الصفات وأحاديثها ما نصه: وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قبل وجهه، فلا يبصق قبل وجهه"
…
الحديث. حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي.
بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء، أو يناجي الشمس والقمر، لكانت السماء، والشمس، والقمر فوقه، وكان أيضًا قبل وجهه.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك- ولله المثل الأعلى، ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليًا به"، فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله، وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"سأنبيك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخليًا به، وهو آية من آيات الله، فالله أكبر". انظر تمام كلامه في "مجموع الفتاوى" جـ 5 ص 107، فقد حقق هذا الموضوع تحقيقًا بالغًا لا
تجده عند غيره ممن تكلم فيه.
وقال الحافظ: قال الخطابي: معناه أنَّ توجهه إلى القبلة مُفْضٍ بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير: فان مقصوده بينه وبين قبلته، وقيل: هو على حذف مضاف، أي عظمة الله، أو ثواب الله.
وقال ابن عبد البر: هو كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة، وقد نزع به بعض المعتزلة القائلين بأن الله في كل مكان، وهو جهل واضح، لأن في الحديث أنه يبزق تحت قدمه، وفيه نقض ما أصلوه، وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته، ومهما تؤول به هذا جاز أن يتأول به ذاك، والله أعلم. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 68.
وقد رد على ما قاله صاحب "الفتح" هنا بعض الأفاضل المحققين، فقال: ليس في الحديث المذكور رد على من أثبت استواء الرب سبحانه على العرش بذاته؛ لأن النصوص من الآيات، والأحاديث في إثبات استواء الرب على العرش بذاته محكمة قطعية واضحة لا تحتمل أدنى تأويل.
وقد أجمع أهل السنة على الأخذ بها والإيمان بما دلت عليه على الوجه الذي يليق بالله سبحانه من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته.
وأما قوله في هذا الحديث: "فإن الله قبل وجهه إذا صلى"، وفي لفظ:"فإن ربه بينه وبين القبلة" فهذا لفظ محتمل أن يفسر بما يوافق
النصوص المحكمة، كما أشار الإِمام ابن عبد البر إلى ذلك، ولا يجوز حمل هذا اللفظ وأشباهه على ما يناقض نصوص الاستواء الذي أثبتته النصوص القطعية المحكمة الصريحة. والله أعلم. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الرد حسن جداً، إلا قوله:"بذاته" فإنها وإن وجدت في عبارة بعض العلماء لإيضاح المعنى، فلا ينبغي ذكرها لئلا يكون زيادة على النص، وقد أنكر الحافظ الذهبي رحمه الله في كتابه "العلو للعلي الغفار" على من قال:"هو تعالى فوق عرشه بذاته" لعدم ورودها عن السلف، واعتبرها من فضول الكلام، انظر "مختصر العلو" للعلامة الألباني ص 255 - 256.
وأما ما نقله عن الخطابي، وكذا قول السندي: إنه يناجيه، ويقبل عليه تعالى في تلك الجهة، وهو تعالى من هذه الحيثية كأنه في تلك الجهة، فلا يليق إلقاء البصاق فيها. اهـ. ففيه نظر لا يخفى.
والحاصل أن الصواب في هذا الباب إثبات النصوص كما وردت على ظاهر معناها على الوجه الذي أراده الله تعالى مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن مشابهة الخلق، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] والله اعلم، ومنه العون والتوفيق، وعليه التكلان.
(إِذا صلى) أي دخل في الصلاة، ونص في الحديث على النهي عن البصاق قبل وجهه حال الصلاة، لفضيلة تلك الحال على سائر
الأحوال، وإلا فالبصاق إلى جهة القبلة ممنوع مطلقًا، في الصلاة وغيرها، وفي المسجد وغيره، كما يأتي قريبًا، خلافًا لمن خصه بقبلة المسجد، أو حال الصلاة.
وقال الباجي رحمه الله: يحتمل أن يكون خص بذلك حال الصلاة لأنه حينئذ يكون مستقبل القبلة، وفي سائر الأحوال قد تكون عن يساره، وهي الجهة التي أمر بالبصاق إليها. اهـ ذكره في "المنهل" جـ 4 ص 99. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (31/ 724)، و"الكبرى"(31/ 803) بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك به. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: مشروعية إنكار المنكر لمن رآه، وإزالته باليد، وفي حديث
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". أخرجه مسلم وأصحاب السنن.
ومنها: غضب الإِمام على رعيته وزجرهم إذا رأى منهم إخلالاً بأمر من أمور الشرع، فعند أبي داود "فتغيظ على الناس". وفي حديث أنس في الصحيح "فشق ذلك عليه، حتى رئي في وجهه".
ومنها: وجوب احترام القبلة وتعظيمها، وقد علل ذلك بقوله:"فإن الله عز وجل قبل وجهه".
قال في "الفتح": وهذا التعليل يدل على أن البزاق في القبلة حرام، سواء كان في المسجد أو لا. ولاسيما من المصلي، فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البزاق في المسجد هل هي للتنزيه أو للتحريم.
وفي صحيحي ابن خزيمة، وابن حبان من حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا:"من تَفَلَ تُجَاه القبلة جاء يوم القيامة، وتَفْلُهُ بين عينيه"، وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة، وهي في وجهه"، ولأبي داود، وابن حبان، واللفظ لأبي داود من حديث السائب بن خلاد رضي الله عنه: "أن رجلًا أمَّ قومًا، فبصق في
القبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ:"لا يصلي لكم" فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"نعم"، وحسبت أنه قال:"إنك آذيت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم". والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: ذكر ابن عبد البر رحمه الله تعالى في "التمهيد" عند هذا الحديث إجماع العلماء على أن العمل القليل في الصلاة لا يضرها.
قال العراقي رحمه الله: فما أدري هل أراد بالعمل القليل نفس البصاق، أو أراد ما ورد في حديث آخر من كونه يبصق في ثوبه، أو أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم حكه من القبلة وهو في الصلاة، وهو الظاهر، فقد روى البخاري من رواية الليث، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد، وهو يصلي، فحتها، ثم قال حين انصرف
…
الحديث".
وفي بعض طرقه أنه كان يخطب، كما رواه أبو داود بإسناد صحيح من رواية أيوب عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوماً إذ رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيظ على الناس، ثم حكها، قال: -وأحسبه- قال: فدعا بزعفران، فلطخه به". اهـ. "طرح التثريب". والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: قال الحافظ العراقي رحمه الله: اختلفت الأحاديث أيضًا في البصاق الذي وجده النبي صلى الله عليه وسلم في القبلة، هل كان ذلك في مسجده صلى الله عليه وسلم، أو في مسجد آخر؟
فقيل: إنه كان في مسجد الأنصار، بدليل ما رواه مسلم، وأبو داود من رواية عبادة بن الوليد، قال: أتينا جابرًا، وهو في مسجده، فقال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب، فنظر، فرأى في قبلة المسجد نخامة، فأقبل عليها، فحتها بالعرجون"
…
الحديث. لفظ أبي داود.
وظاهر ما تقدم من كونه كان في الخطبة أنه كان في مسجد المدينة، والظاهر أنهما واقعتان، أو وقائع، ففي قصة مسجد الأنصار أنه حتها بالعرجون، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه حكها بحصاة، وفي قصة مسجد الأنصار "أروني عبيرًا"، فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخَلُوق في راحته، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله على رأس العرجون، ثم لطخ به على أثر النخامة.
وعند النسائي (728) من حديث أنس رضي الله عنه: أنه رأى نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكتها، وجعلت مكانها خلوقًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أحسن هذا".
وفي بعضها أنه كان في الصلاة، وفي بعضها أنه كان يخطب، كما
تقدم، فهذا يدل على اختلاف واقعتين، أو وقائع من غير تعارض. والله أعلم. اهـ "طرح التثريب" ج 2 ص 386 - 387.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
32 - ذِكْرُ نَهْي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أنْ يَبْصُقَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، أوْ عَنْ يَمِينِهِ، وَهُوَ فِي صَلاتِهِ
أي هذا باب ذكر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بَصْق الرجل أمامه، ولا عن جهة يمينه، وهو في صلاته.
ومثل الرجل في ذلك المرأة، إذ لا يختلف حكمهما في هذا؛ لأن علة النهي تعمهما، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم علل النهي بقوله:"فإن الله قبل وجهه"، وقوله:"فإن عن يمينه ملكاً" وإنما اقتصر على ذكر الرجل موافقة لحديث الباب. والله تعالى أعلم.
725 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَحَكَّهَا بِحَصَاةٍ، وَنَهَى أَنْ يَبْصُقَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ "يَبْصُقُ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد المذكور في السند الماضي.
2 -
(سفيان) بن عيينة، الكوفي المكي، ثقة ثبت حجة، من
[8]
، تقدم في 1/ 1.
3 -
(الزهري) محمد بن مسلم، الإِمام الحجة المثبت، من [4] تقدم في 1/ 1.
4 -
(حميد بن عبد الرحمن) بن عوف أبو إبراهيم، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عثمان، الزهري، المدني، ثقة، من [2]، توفي سنة 105 هـ على الصحيح.
وثقه العجلي، وأبو زرعة، وابن خراش. وقال ابن سعد: روى مالك عن الزهري عن حميد: "أن عمر وعثمان كانا يصليان المغرب في رمضان، ثم يفطران" ورواه يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد، قال: رأيت عمر وعثمان.
قال الواقدي: وأثبتهما عندنا حديث مالك، وأن حميداً لم ير عمر، ولم يسمع منه شيئاً، وسنه وموته يدل على ذلك، ولعله قد سمع من عثمان؛ لأنه كان خاله.
وكان ثقة كثير الحديث، توفي سنة 95 هـ وهو ابن 73 سنة. قال ابن سعد: وقد سمعت من يقول: إنه توفي سنة 105 هـ، وهذا غلط.
قال الحافظ رحمه الله: هو قول الفلاس، وأحمد بن حنبل، وأبي إسحاق الحربي، وابن أبي عاصم، وخليفة بن خياط، ويعقوب ابن سفيان، وفي كتاب الكلاباذي: قال الذهلي: ثنا يحيى -يعني ابن
معين- قال: مات سنة 105 هـ. قال الحافظ: وإن صح ذلك على تقدير صحة ما ذكر من سنه فروايته عن عمر منقطعة قطعًا، وكذا عن عثمان وأبيه. والله أعلم.
وقال أبو زرعة: حديثه عن أبي بكر، وعلي رضي الله عنهما مرسل. اهـ. تت ج 3 ص 45 - 46، أخرج له الجماعة.
قال الجامع عفا الله عنه: جعله الحافظ في التقريب من الطبقة الثانية، والذي يظهر لي أنه من الثالثة. والله أعلم.
5 -
(أبو سعيد الخدري) سعد بن مالك بن سنان الصحابي المشهور رضي الله عنه، تقدم في 169/ 262. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات نبلاء، اتفق الجماعة على التخريج لهم، وأنهم مدنيون إلا شيخه فبغلاني، وأن أبا سعيد أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، وفيه رواية تابعي عن تابعي. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي سعيد الخدري) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة) النخامة -بضم النون، وتخفيف الخاء المعجمة- كالنخاعة وزناً ومعنى، يقال: تنخم الرجل: إذا تنخع، وفي المطالع:
النخامة: ما يخرج من الصدر، وهو البلغم اللَّزِج، وفي النهاية: النخامة: البَزْقَة التي تخرج من الرأس، ويقال: النخامة: ما يخرج من الصدر، والبصاق: ما يخرج من الفم، والمخاط: ما يسيل من الأنف. قاله في "عمدة القاري" جـ 4 ص 149.
(في قبلة المسجد) متعلق برأى، أو محذوف صفة لنخامة، أي نخامة كائنة في حائط قبلة المسجد النبوي (فحكها) أي قشَر تلك النخامة (بحصاة) واحدة الحصى، وهي صغار الحجارة.
فإِن قيل: ظاهر هذا الحديث كحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الباب الماضي يدل على أن الذي تولى إزالتها هو النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ورواية أنس رضي الله عنه الآتية للمصنف برقم (35/ 728) يدل على أن الذي باشر ذلك امرأة من الأنصار، فكيف التوفيق بينهما؟ أجيب يحمل الاختلاف على تعدد الواقعة. والله أعلم.
(ونهى أن يبصق الرجل بين يديه) قد تقدم علة النهي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: فإن الله قبل وجهه (أو عن يمينه) والعلة في النهي عنه كونه محل ملك، فعند أبي داود من طريق ابن عجلان، وصححه الحاكم على شرط مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العراجين، ولا يزال في يده منها، فدخل المسجد، فرأى نخامة في قبلة المسجد، فحكها، ثم أقبل على الناس مغضبًا، فقال: أيسُر أحدكم أن يبصق في وجهه، إن أحدكم إذا استقبل القبلة، فإنما يستقبل
ربه عز وجل، والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه، ولا في قبلته، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه، فإن عجل به أمر فليقل هكذا" ووصف لنا ابن عجلان ذلك أن يتفل في ثوبه، ثم يرد بعضه على بعض.
(وقال: يبصُقُ عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى) وللبخاري: "ولكن عن يساره أو تحت قدمه": قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي روية أبي الوقت "وتحت قدمه" بالواو، ووقع عند مسلم من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"ولكن عن يساره تحت قدمه" بحذف "أو" وكذا للبخاري من حديث أنس في أواخر الصلاة، والروايات التي فيها "أو" أعم لكونها تشمل ما تحت القدم، وغير ذلك. اهـ.
وقال صاحب "المفهم": وظاهر"أو" الإباحة، أو التخيير ففي أيهما بصق لم يكن به بأس، قال: وإليه يرجع معنى قوله "عن شماله تحت قدمه". اهـ طرح جـ 2 ص 383 - 384. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (32/ 725)، و"الكبرى"(32/ 804) عن قتيبة، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عنه. وفي الشروط -عن أبي الطاهر بن السرح، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري به. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم ابن سعد، وعن علي بن عبد الله عن ابن عيينة وعن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل -ثلاثتهم عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد، وأبي هريرة، ولم يذكر سفيان أباهريرة.
ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، ثلاثتهم عن سفيان، به، وعن زهير بن حرب، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، به، وعن أبي الطاهر بن السرح، وحرملة بن يحيى كلاهما، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن حميد، عن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما. وابن ماجه فيه عن أبي مروان محمد بن عثمان العثماني، عن إبراهيم ابن سعد، به.
وأخرجه أحمد (3/ 6)، والحميدي رقم (728)، وابن خزيمة رقم (874)، والدارمي رقم (1405). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: تقدم في رواية أبي داود تعليل النهي عن البصاق في اليمين بأن فيه ملكًا، قال الحافظ رحمه الله: فإن قلنا: المراد بالملك الكاتب، فقد يستشكل اختصاصه بالمنع مع أن عن يساره ملكًا آخر، وأجيب باحتمال اختصاص ذلك بملك اليمين تشريفًا له وتكريمًا. هكذا قال جماعة من القدماء، ولا يخفى ما فيه.
وأجاب بعض المتأخرين بأن الصلاة أم الحسنات البدنية، فلا دخل لكاتب السيئات فيها، ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة من حديث أبي أمامة في هذا الحديث:"فإنه يقوم بين يدي الله، وملكه عن يمينه، وقرينه عن يساره" اهـ. فالتفل حينئذ إنما يقع على القرين، وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين. والله أعلم. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 74. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: أطلق في هذا الحديث الإذن في أن يبصق عن يساره، وهو محمول على ما إذا كان جهة يساره فارغًا من المصلين بدليل ما يأتي للمصنف في الباب التالي -من حديث طارق بن عبد الله المحاربي في هذا الحديث، فقال:"ولكن تلقاء يساره إن كان فارغًا، أو تحت قدمه اليسرى".
قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وكذا يدل عليه قوله في بعض طرق حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم: "فليتنخع عن
يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا" أي فإن لم يجد جهة شماله فارغًا. قاله العراقي رحمه الله. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: قد ذكر العراقي رحمه الله تعالى في "طرح التثريب" فوائد تتعلق بحديث الباب، أحببت إيرادها هنا، مع المناقشة في بعضها، وإن كان بعضها تقدم تكميلاً للفوائد، وتكثيرًا للعوائد، قال رحمه الله:
الأولى: هذا النهي في البصاق أمامه، أو عن يمينه، هل يفيد كونه في المسجد أو عام في المصلين في أي موضع كانوا؟ الظاهر أن المراد العموم؛ لأن المصلي مناج لله في أي موضع صلى، والملك الذي عن يمينه معه، أيّ موضع صلى، ولكن البخاري بوب على هذا الحديث "باب دفن النخامة في المسجد" وإنما قيده البخاري بالمسجد لأنه لم يأمر بدفن النخامة في غير المسجد.
ويدل عليه ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة، فحكها، فقال:"إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمنّ قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى". لفظ البخاري، ولم يسق مسلم لفظه.
الثانية: هل المراد بالقيام للصلاة -يعني قوله: "إذا قام أحدكم للصلاة فلا يبصق أمامه"- الدخول فيها، أو النهوض، والانتصاب
لها ولو قبل الإحرام؟ والجواب أنه إن كان في غير المسجد، أو غيره، فلا حرج في ذلك قبل الشروع في الصلاة إذا كان في غير المسجد، وإن كان المراد بذلك تقييد كونه في المسجد، فسواء في ذلك بعد الإحرام، أو قبله، بل دخول المسجد كان في النهي عن البزاق فيه، وإن لم يكن قام إلى الصلاة، كما ثبت في حديث أنس المتفق عليه:"البزاق في المسجد خطيئة".
الثالثة: هذا النهي عن بصاق المصلي أمامه، أو عن يمينه، هل على التحريم، أو التنزيه؟
قال القرطبي رحمه الله: إن إقباله صلى الله عليه وسلم على الناس مغضبًا يدل على تحريم البصاق في جدار القبلة، وعلى أنه لا يكفر بدفنه، ولا بحكه، كما قال في جملة المسجد:"البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها".
قال العراقي رحمه الله: ويدل على تحريم البصاق في القبلة ما رواه أبو داود بإسناد جيد من حديث السائب بن خلاد رضي الله عنه: أن رجلًا أم قومًا، فبصق في القبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال حين فرغ:"لا يصلي لكم"
…
الحديث. وفيه أنه قال له: "إنك آذيت الله ورسوله".
وأطلق جماعة من الشافعية كراهية البصاق في المسجد، منهم المحاملي، وسليم الرازي، والروياني، وأبو العباس الجرجاني،
وصاحب البيان رحمهم الله، وجزم النووي رحمه الله في شرح المهذب، والتحقيق بتحريمه، وكأنه تمسك بقوله في الحديث الصحيح "إنه خطيئة".
وقال أبو الوليد الباجي رحمه الله: فأما من بصق في المسجد، وستر بصاقه، فلا إثم عليه، وحكى القرطبي رحمه الله أيضًا عن ابن مكي إنه إنما يكون خطيئة لمن تفل فيه ولم يدفنه. قال القرطبي: وقد دل على صحة هذا قوله في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم: "ووجدت في مساوي أعمالها النخامة تكون في المسجد، لا تدفن"، فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد، بل بذلك، وببقائها غير مدفونة.
قال العراقي رحمه الله: ويدل عليه أيضًا إذنه صلى الله عليه وسلم في ذلك في حديث الباب بقوله: "أو تحت رجليه، فيدفنه"، إن حملنا الحديث على إرادة كونه في المسجد، كما تقدم، وهو مصرح به في حديث أبي سعيد، وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التفصيل عندي هو الأولى جمعًا بين الأحاديث.
والحاصل أن البصاق في المسجد محرم إذا لم يدفن. وقد تقدم تحقيق هذا فيما سبق. والله أعلم.
الرابعة: علل النهي عن البصاق أمامه بكونه مناجيًا لله، وعلله في حديث ابن عمر بأن الله قبل وجهه إذا صلى، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم:"ما بال أحدكم يقوم مستقبلًا ربه، فيتنخع أمامه"، ولا منافاة بين ذلك، فإن المراد إقبال الله تعالى عليه، كما سيأتي.
وقال ابن عبد البر: وهذا كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة، وإكرامها، قال: وقد نزع بهذا الحديث بعض من ذهب مذهب المعتزلة إلى أن الله تعالى في كل مكان، وليس على العرش، قال: وهذا جهل من قائله؛ لأن قوله في الحديث: "يبصق تحت قدمه، وعن يساره" ينقض ما أصلوه في أنه في كل مكان.
قال العراقي: هذا كلام ابن عبد البر، وهو أحد القائلين بالجهة، فاحذره، وإنما ذكرته لأنبه عليه، لئلا يغتر به، والصواب ما قدمناه بدليل ما أخرجه القاضي إسماعيل بإسناد صحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا قام الرجل في صلاته أقبل الله تعالى عليه بوجهه، فلا يبزقن أحدكم في قبلته"
…
الحديث.
قال الجامع عفا الله عنه:
هذا الذي قاله العراقي ردًا على ابن عبد البر، وصوبه غير صواب؛ بل الصواب مع ابن عبد البر، وهو الذي عليه أهل الحديث، وهو
مذهب سلف هذه الأمة، وذلك أن ابن عبد البر من كبار المحدثين، ومن محققي الفقهاء والأصوليين، ومذهب هؤلاء: الإيمان بما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفه به، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل.
فيا أيها العقلاء، ويا أصحاب الألباب، فهل من يؤمن بقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] الآية، بأن الله تعالى استوى على العرش على معناه اللغوي العربي، استواء يليق بجلاله، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي اتفقت الأمة على صحته وقبوله:"ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا"
…
الحديث، بان الله تعالى ينزل نزولاً حقيقيًّا يليق بجلاله من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تشبيه، ولا تمثيل، فهل هو على الصواب؟ أم من يعتقد أن معنى استوى: استولى، وأن معنى ينزل: ينزل ملكه، ويسلك مسلك التحريف والتأويل هو الذي على الصواب؟!
فبالله أنصفوا، وقولوا الحق، أيهما على الصواب، وأيهما معه الحق؟! {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] اللَّهُمَ فاَطِرَ السَّموات والأرضِ عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَة، أنْتَ تُحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كَانُوا فِيَهِ يَخْتَلِفون، اهْدِنَا لِمَاَ اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ، إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وقال صاحب "المفهم": إنه لما كان المصلي يتوجه بوجهه وقصده
وكليته إلى هذه الجهة، نزّلها في حقه وجود منزلة الله تعالى، فيكون هذا من باب الاستعارة، كما قال:"الحجر الأسود يمين الله في الأرض"، أي بمنزلة يمين الله.
قلت: وقد أول الإِمام أحمد هذا الحديث. قال القرطبي: وقد يجوز أن يكون من باب حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فكأنه قال: مستقبل قبلة ربه، أو رحمة ربه، كما قال في الحديث الآخر "فلا يبصق قبل القبلة، فإن الرحمة تواجهه"، قال العراقي: ولا أحفظ هذا اللفظ في البصاق، وإنما هو في مسح الحصى، كما رواه أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه" اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: كلام صاحب "المفهم" هو عين ما قاله العراقي فتنبه.
وأما قوله: وقد أول الإمام أحمد هذا الحديث، فقد رده شيخ الإِسلام ابن تيمية -كما في "مجموع الفتاوى" (جـ 5 ص 398) قال رحمه الله تعالى: وأما ما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنابلة: أن أحمد لم يتأول إلا ثلاثة أشياء: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض"، و"قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن"، و"إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمين"، فهذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه،
وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف، لا علمه بما قال، ولا صدقه فيما قال. انتهى كلام شيخ الإِسلام. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: هل المراد بقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: "فإنه مناج لله عز وجل ما دام في مصلاه" أي المكان الذي صلى فيه، أو المسجد الذي صلى فيه، أو المراد بالمصلى نفس الصلاة؟ والأول هو الحقيقة، فحملة عليه أولى، ويدل على الثاني قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"فإن الله قبل وجهه إذا صلى"، والله أعلم.
وقال الحافظ رحمه الله: قوله: "ما دام في مصلاه" يقتضي تخصيص المنع بما إذا كان في الصلاة، لكن التعليل المتقدم بأذى المسلم يقتضي المنع في جدار المسجد مطلقًا، ولو لم يكن في صلاة، فيجمع بأن يقال: كونه في الصلاة أشد إثمًا مطلقًا، وكونه في جدار القبلة أشد إثمًا من كونه في غيرها من جدار المسجد، فهي مراتب متفاوتة مع الاشتراك في المنع. اهـ. "فتح" جـ 2 ص 73 - 74. والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: فيه بيان طهارة البصاق والنخامة، إذ لو لم يكن طاهرًا لما أمر بدفنه في المسجد، ولا بأن يبصق في ثوبه ويدلكه، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وهو كذلك.
قال ابن عبد البر: ولا أعلم خلافًا في طهارة البصاق، إلا شيئًا يروى عن سلمان، والسنن الثابتة ترده. وحكاه الزكي عبد العظيم في
حواشيه على السنن عن النخعي أيضًا. والله تعالى أعلم.
المسألة السابعة: في أمره صلى الله عليه وسلم بدفن النخامة في المسجد دليل على تنظيف المسجد وتنزيهه عما يستقذر. وروى أبو داود وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف، وتطيب".
وقال ابن عبد البر رحمه الله: وفي حكم البصاق في المسجد تنزيهه عن أن يؤكل فيه مثل البَلُّوط -نوع من الشجر- والزبيب لعَجَمه -نواه- وماله دسم وتلويث، وحَبّ رقيق، وما يكنسه المرء من بيته. والله تعالى أعلم.
المسألة الثامنة: قال ابن عبد البر أيضًا: فيه أن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة إذا لم يبصق قبل وجهه، ولا يقطع ذلك صلاته، ولا يفسدها إذا غلبه ذلك واحتاج إليه، ولا يبصق قبل وجهه الْبَتَّةَ. والله أعلم.
المسألة التاسعة: في إباحة البصاق في المسجد لمن غلبه ذلك دليل على أن النفخ، والتنحنح في الصلاة إذا لم يقصد به صاحبه اللعب والعبث، وكان يسيرًا، لا يضر المصلي في صلاته، ولا يفسد شيئاً منها؛ لأنه قلما يكون بصاق، إلا ومعه شيء من النفخ، والنحنحة، والبصاق، والنخاعة، والنخامة كل ذلك متقارب.
قال: والتنخم، والتنخع ضرب من التنحنح، ومعلوم أن للتنخم
صوتًا كالتنحنح، وربما كان معه ضرب من النفخ عند القذف بالبصاق، فإن قصد النافخ أو المتننخم في الصلاة بفعله ذلك اللعب، أو شيئًا من العبث أفسد صلاته، وأما إذا كان نفخه تأوهًا من ذكر النار إذا مربه ذكرها في القرآن، وهو في الصلاة فلا شيء عليه.
ثم ذكر اختلاف العلماء في ذلك، فروى ابن القاسم عن مالك أنه يقطع الصلاة النفخ والتنحنح، وروى ابن عبد الحكم، وابن وهب أنه
لا يقطع الصلاة النفخ، والتنحنح. وقال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن: يقطع النفخ إن سمع. وقال أحمد وإسحاق: لا يقطع. وقال الشافعي: ما لا يفهم منه حروف الهجاء فليس بكلام.
قال ابن عبد البر: وقول من راعى حروف الهجاء، وما يفهم من الكلام أصح الأقاويل، إن شاء الله. انتهى.
ومذهب الشافعي في النحنحة، والضحك، والبكاء، والنفخ، والأنين أنه إن بان منه حرفان بطلت ما لم يكن معذورًا بغلبة، أو تعذر قراءة الفاتحة ما لم يكثر الضحك، وإن كان مغلوبًا فإنه يضر. والله أعلم. اهـ - "طرح التثريب" جـ 2 ص 380 - 386.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
33 - الرُّخْصَةُ لِلْمُصَلَّي أنْ يَبْصُقُ خَلْفَهُ أوْ تِلْقَاءَ شِمَالِهِ
أي هذا باب ذ كر الحديث الدال على التسهيل للمصلي في البصاق خلفه، أو جهة شماله.
والرخصة، وزان غرفة، وتضم الخاء للاتباع: التسهيل في الأمر، والتيسير، والجمع: رُخَصٌ كغرف ورُخُصَات كغرُفات. وتقدم بأوضح من هذا في أوائل هذا الشرح. وبالله تعالى التوفيق.
726 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كُنْتَ تُصَلِّي، فَلَا تَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَا عَنْ يَمِينِكَ، وَابْصُقْ خَلْفَكَ، أَوْ تِلْقَاءَ شِمَالِكَ، إِنْ كَانَ فَارِغًا، وَإِلاَّ فَهَكَذَا، وَبَزَقَ تَحْتَ رِجْلِهِ، وَدَلَكَهُ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) اليشكري السرخسي، ثقة مأمون من [10]، تقدم في 15/ 15.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري الإِمام الحجة، من [9]، تقدم 4/ 4.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوري الإِمام الحجة من [7]، تقدم في 33/ 37.
4 -
(منصور) بن المعتمر أبو عتاب الكوفي، ثقة ثبت، حجة، من [6]، تقدم في 2/ 2.
5 -
(ربعي) بن حِراش أبو مريم العبسي الكوفي، ثقة عابد مخضرم، توفي سنة 100، من [2]، تقدم في 508.
6 -
(طارق بن عبد الله المحاربي) الكوفي، له رؤية وصحبة.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو صخرة جامع بن شداد، وربعي بن حراش، وأبو الشعثاء سليم بن الأسود المحاربي.
قال البرقي، والبغوي: له حديثان، وقال ابن السكن: له ثلاثة أحاديث. وقال البخاري في البيوع: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتالوا حتى تستوفوا". وهذا طرف من حديث لطارق هذا طويل، أخرجه ابن حبان، وابن منده، وغيرهما بطوله، وأخرج النسائي منه قطعًا متفرقة، أخرج له البخاري في "خلق أفعال العباد"، والأربعة. اهـ. تت جـ 5 ص 4. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، من رجال الجماعة، إلا شيخه،
فلم يخرج له إلا هو، والشيخان، وإلا الصحابي، فلم يخرج له مسلم أصلًا، وأخرج له البخاري في "خلق أفعال العباد".
ومنها: أنه مسلسل بالكوفيين، إلا شيخه، فسرخسي.
ومنها: أن صحابيه من المقلين، كما تقدم قريبًا، فله عند الأربعة حديث الباب، وعند المصنف حديث آخر في "الزكاة"، وآخر في "الديات"، وعند ابن ماجه حديث في "الديات". انظر "تحفة الأشراف" جـ 4 ص 208 - 209. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن طارق بن عبد الله المحاربي) الكوفي رضي الله عنه، أنه قال:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (إِذا كنت تصلي فلا تبزقن) -بضم الزاي، من باب قتل- ولفظ أبي داود:"إذا قام الرجل إلى الصلاة، -أو إذا صلى أحدكم- فلا يبزقن أمامه، ولا عن يمينه، ولكن عن تلقاء يساره، إن كان فارغًا، أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به".
(بين يديك) أي أمامك، وتقدم علة النهي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما (724)"فإن الله عز وجل قبل وجهه إذا صلى"(ولا عن يمينك) أي ولا تبزقن في جهة يمينك، وقد تقدم علة النهي في حديث أبي داود:"والملك عن يمينه"(وابصق) -بضم الصاد- من باب قتل (خلفك، أو تلقاء شمالك) بكسر التاء، أي حِذَاء شمالك.
وظاهر الإطلاق يعم المسجد وغيره، بل حديث أبي سعيد المتقدم
صريح في كونه في المسجد، حيث قال:"رأى نخامة في قبلة المسجد"، فيدل على أن الحكم ليس معللاً بتعظيم المسجد، وإلا لكان اليمين واليسار سواء، بل المنع عن تلقاء الوجه للتعظيم بحالة المناجاة مع الرب سبحانه وتعالى، وعن اليمين للتأدب مع ملك اليمين، كما يفهم من الحديث. أفاده السندي رحمه الله تعالى.
(إِن كان فارغًا) أي خالياً عن فصل، ونحوه (وإِلا) هي "إن" الشرطية، أدغمت في "لا" النافية، وفعل الشرط محذوف، أي وإن لم يكن شمالك فارغاً، بان كان مشغولاً بما ذكر (فهكذا) الفاء رابطة لجواب "إن"، و"ها" حرف تنبيه، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف، تقديره: فافعل هكذا، والجملة في محل جزم جواب الشرط.
ثم بين معنى ما أشار إليه، بقوله:(وبزق تحت رجله)، والمراد به رجله اليسرى، لما تقدم التصريح به في رواية أبي داود، ولما يأتي في الباب التالي من حديث أبي العلاء بن الشخير، عن أبيه (ودلكه) أي مسحه بالأرض.
تنبيه:
الظاهر من هذه الرواية أن فاعل "بزق"، و"دلك" هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عند المصنف في الكبرى "وبزق يحيى تحت رجله، ودلكه"، فصرح بأن الفاعل هو يحيى بن سعيد، ولم أر ذلك لغيره، فقد أخرج الحديث أحمد، رحمه الله، ونص "المسند" جـ 6 ص 396:
حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن طارق بن عبد الله المحاربي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صليت، فلا تبصق عن يمينك، ولا بين يديك، وابصق خلفك، وعن شمالك، إن كان فارغًا، وإلا فهكذا، وذلك تحت قدمه" ولم يقل وكيع ولا عبد الرزاق: "وابصق خلفك"، وقالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم رواه عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، بلفظ:"إذا صليت فلا تبصق بين يديك، ولا عن يمينك، ولكن ابصق تلقاء شمالك، إن كان فارغًا، وإلا فتحت قدميك، وادلكه"، ثم رواه عَبِيدة بن حُميد، عن منصور، بنحوه.
وأخرجه ابن خزيمة (876) من رواية بندار، وأبي موسى -يعني محمد بن المثنى- عن يحيى بن سعيد، بلفظ:"إذا كنت في الصلاة، فلا تبزقن عن يمينك، ولكن خلفك، أو تلقاء شمالك، أو تحت قدمك اليسرى".
قال: هذا حديث بندار، وقال أبو موسى: حدثني منصور، وقال أيضًا: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال: "وابصق خلفك أو تلقاء شمالك، إن كان فارغًا، وإلا فهكذا" تحت قدمه اليسرى.
وأخرجه أيضًا في (877) من رواية جرير، عن منصور، وفيه:"فإن لم يكن فارغًا، فتحت قدمك اليسرى، ثم قل به". قال
منصور: يعني ادلكه بالأرض. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (33/ 726)، و"الكبرى"(33/ 805) بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
فأخرجه أبو داود في "الصلاة" عن هناد بن السري، عن أبي الأحوص، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عنه. وأخرجه الترمذي فيه عن بندار، عن يحيى بن سعيد، به. وقال: حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، به.
وأخرجه أحمد، وابن خزيمة، كما تقدم قريبًا. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف وهو جواز بَصْق المصلي خلفه، أو تلقاء
شماله.
ومنها: عدم جواز البصق إلى اليسار إذا كان فيه أحد، لئلا يتأذى به.
ومنها: إذا كان في شماله أحد، يبصق تحت رجله ويدلكه.
ومنها: طهارة البصاق؛ لأنه أمر بدلكه، وهو في الصلاة، وقد تقدم أنه لم يخالف فيه أحد، إلا ما روي عن سلمان والنخعي.
ومنها: ما قاله ابن خزيمة رحمه الله -أن فيه دلالة على إباحة لَيِّ عنقه وراء ظهره إذا أراد أن يبصق في صلاته، إذ البَزْق خلفه غير ممكن إلا بِلَيِّ العنق. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
34 - بِأيِّ الرِّجْلَيْنِ يَدْلُكُ بُصَاقَهُ
وفي الكبرى "بزاقه". والبصاق، والبزاق: بمعنى واحد، كما تقدم.
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أن المصلي إذا بصق تحت رجله بأيِّ الرِّجْلَيْنِ يدلك بصاقه. فالجار والمجرور متعلق بيدلك قدم عليه وجوبًا لكون المجرور اسم استفهام. والله أعلم.
727 -
أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنَخَّعَ، فَدَلَكَهُ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(سويد بن نصر) المروزي، ثقة من [10]، تقدم في 45/ 55.
2 -
(عبد الله) بن المبارك الحنظلي المروزي، الإِمام الحجة الحافظ، من [8]، تقدم في 32/ 36.
3 -
(سعيد الجريري)
(1)
هو ابن إياس، أبو مسعود البصري، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين، توفي سنة 144 هـ، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 32/ 672.
4 -
(أبو العلاء بن الشِّخِّير) يزيد بن عبد الله بن الشخير -بكسر
(1)
الجريري -بصيغة التصغير-: نسبة إلى جُرَير بن عَبَّاد.
الشين المعجمة، وتشديد الخاء المعجمة، البصري، ثقة، توفي سنة 111 هـ أو قبلها من [2]، أو قبلها، وكان مولده في خلافة عمر رضي الله عنه، ووهم من زعم أنه له رؤية، أخرج له الجماعة، تقدم في 32/ 672.
5 -
(عبد الله بن الشخير) بن عوف بن كعب بن وقدان بن الحُرَيش -وهو معاوية بن كعب- بن ربيعة بن عامر بن صعصعة الحرشي العامري، له صحبة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه بنوه: مطرف، وهانىء، ويزيد، وعداده في أهل البصرة. وذكره ابن سعد في طبقة مسلمة الفتح. وقال ابن منده: وَفَدَ في وَفْدِ بني عامر. أخرج له مسلم والأربعة. تت جـ 5 ص 251، و"تحفة الأشراف" جـ 4 - ص 358. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، من رجال الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو والترمذي، والصحابي، فلم يخرج له البخاري، وأنهم بصريون، إلا شيخه، وابن المبارك، فمروزيان.
ومنها: أن فيه رواية الابن عن أبيه.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبار، والإنباء، والعنعنة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي العلاء) يزيد بن عبد الله (بن الشخير) البصري (عن أبيه) عبد الله بن الشخير العامري رضي الله عنه، أنه (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تنخع) أي رمى بنُخَاعته، وفي الكبرى "يتنخع" بلفظ المضارع.
والنُّخَاعة -بالضم-: ما يخرجه الإنسان من حلقه من مخرج الخاء المعجمة، هكذا قيده ابن الأثير. وقال المطَرِّزي: النخاعة: هي النخامة، وهكذا قال في العباب، وزاد المُطَرِّزِي: وهي ما يخرج من الخَيْشُوم عند التنخع، وكأنه مأخوذ من قولهمَ: تنخع السحاب: إذا قاء ما فيه من المطر؛ لأن القيء لا يكون إلا من الباطن. قاله في "المصباح" جـ 2 ص 596.
(فدلكه) بتذكير الضمير المنصوب وهو راجع إلى المفهوم من "تنخع" أي دلَكَ ماتنخعه، وعند مسلم "فدلكها"، أي النخاعة (برجله اليسرى) وهذا موضع الترجمة، وهو أن ذلك البصاق يكون بالرجل اليسرى. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن الشخير هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (34/ 727)، و"الكبرى"(34/ 806) بالسند المذكور.
تنبيه:
لم يذكر الحافظ المزي رحمه الله المصنف فيمن أخرج حديث عبد الله بن الشخير هذا، بل ذكر مسلمًا، وأبا داود، فقط. ولم يستدركه الحافظ في النكت، وهذا من الغريب.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود.
فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه، عن كهمس بن الحسن -وعن يحيى بن يحيى، عن يزيد بن زريع، عن سعيد الجُريري -كلاهما عن أبي العلاء، عن أبيه، بلفظ:"صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيته تنخع، فدلكها بنعله".
وأبو داود فيه عن مسدد، عن يزيد بن زريع به. وعن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن أخيه مطرف بن عبد الله، عن أبيه:"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فبزق تحت قدمه اليسرى" - ولم يقل "فدلكها بنعله".
وأخرجه أحمد (4/ 25) وابن خزيمة رقم (878، 879). والله تعالى أعلم.
تنبيه:
رواية المصنف رحمه الله من طريق عبد الله بن المبارك -أن أبا العلاء
يروي هذا الحديث عن أبيه بدون واسطة، وهي رواية مسلم من طريق يزيد بن زريع- ورواية أحمد من طريق معمر -وعلي بن عاصم، ورواية ابن خزيمة من طريق إسحاق بن يوسف، ومن طريق إسماعيل بن علية، ومن طريق خالد كلهم عن سعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن أبيه، فهؤلاء السبعة ليس عندهم ذكر مطرف، وكذا رواية مسلم من طريق معاذ العنبري، عن كهمس، عن أبي العلاء ليس فيها ذكره.
وأخرجه أحمد، وأبو داود، وابن خزيمة من طريق حماد بن سلمة، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن أخيه، مطرف بن عبد الله، عن أبيه.
فالظاهر أن المصنف كمسلم يرجح رواية الجماعة على رواية حماد ابن سلمة، فلذلك أخرجاها، ولم يتعرضا لرواية حماد، لمخالفته لهؤلاء الجماعة، مع أنه وصف بسوء الحفظ لَمَّا كبر.
فقد ذكر في "تت" عن البيهقي أنه قال: هو أحد الأئمة المسلمين إلا أنه لما كبر ساء حفظه، فلذا تركه البخاري، وأما مسلم فاجتهد، وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثًا أخرجها في الشواهد. اهـ. جـ 3 ص 14، والله أعلم.
وفوائد الحديث تقدمت فيما مضى، فراجعها، والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
35 - تَخلِيقُ المَسَاجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية تخليق المساجد.
والتخليق: مصدر خَلَّقه، يقال: خَلَّقْتُهُ: إذا طَلَيْته بالخَلُوق.
قال الفيومي رحمه الله: والْخلُوق، مثل رَسُول: ما يُتخَلق به من الطيب. قال بعض الفقهاء: وهو مائع فيه صُفْرة. والخِلاق، مثل كتاب بمعناه. اهـ. وسيأتي مزيد على هذا في شرح الحديث إن شاء الله تعالى.
728 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَائِذُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَحَكَّتْهَا، وَجَعَلَتْ مَكَانَهَا خَلُوقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا أَحْسَنَ هَذَا".
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي الإِمام الحجة، من [10]، تقدم في 2/ 2.
2 -
(عائذ بن حبيب) بن المَلّاح
(1)
العبسي، ويقال: القرشي مولاهم، أبو أحمد الكوفي، ويقال: أبو هشام، بيَّاع الهروي
(2)
صدوق، ورمي بالتشيع، من [9].
قال الأثرم: سمعت أحمد ذكره، فأحسن الثناء عليه، وقال: كان شيخًا جليلًا عاقلًا. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس، قد سمعنا منه. وقال عباس، عن ابن معين: صويلح. وقال الجوزجاني: غال زائغ.
وقال سعيد بن عمرو البردعي: شهدت أبا حاتم يقول لأبي زرعة: كان ابن معين يقول: يوسف السَّمْتي زنديق، وعائذ بن حبيب زنديق، فقال أبو زرعة: أما عائذ بن حبيب، فصدوق في الحديث، وأما يوسف، فذاهب الحديث، كان يحيى يقول: كذاب.
قال البردعي: فرأيت هذه الحكاية التي حكاها أبو حاتم عندي عن بعض شيوخنا، عن يحيى: كان عائذ بن حبيب زيديًا، قال: وهو بهذا أشبه. وذكره ابن حبان في الثقات، قال عبد الله الحضرمي: مات سنة 190، أخرج له المصنف وابن ماجه.
3 -
(حميد الطويل) بن أبي حميد، أبو عبيدة البصري، اختلف
(1)
بفتح الميم، وتشديد اللام، وبمهملة. اهـ. ت.
(2)
قوله: بياع الهروي، هو على تقدير محذوف، إما بياع القماش الهروي، أو غيره. اهـ. ت.
في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقة، مدلس، عابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الأمراء، توفي سنة 142 هـ ويقال سنة 143 هـ، وله 75 سنة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 87/ 108.
4 -
(أنس بن مالك) أبو حمزة الصحابي الخادم رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو (40).
ومنها: أن رجاله موثقون.
ومنها: أن فيه أنسًا أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس بن مالك) رضي الله عنه، أنه (قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد) أي في الجدار الذي في مواجهة المسجد (فغضب حتى احمر وجهه) فيه غضب الإِمام على رعيته إذا رأى منهم المخالفة الشرعية، لينزجروا، ويرتدعوا (فقامت امرأة من الأنصار، فحكتها) أي أزالت تلك النخامة (وجعلت مكانها خَلُوقًا) بفتح الخاء المعجمة، وضم اللام، ويقال فيه: الخِلاق -ككتاب-: قال ابن منظور رحمه الله: والخَلُوق، والخِلاق:
ضرب من الطيب، وقيل: الزعفران. وقال أيضًا: والخَلُوق: طيب معروف يتخذ من الزعفران، وغيره من أنواع الطيب، وتغلب عليه العمرة والصفرة. اهـ. لسان جـ 2 ص 1247.
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا") تعجبًا من حسن صنيع تلك المرأة واستحسانًا له. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا (35/ 728)، و"الكبرى"(45/ 807) بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن محمد بن طريف، عن عائذ بن حبيب، بسند المصنف، وأخرجه ابن خزيمة، رقم (1296) عن يوسف بن موسى، عن عائذ بن حبيب، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو مشروعية تخليق المساجد، واتخاذ الخَلُوق له، وقد تقدم حديث جابر رضي الله عنه عند أبي داود،
وفيه: "ثم قال: أروني عَبِيرًا، فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخلوق في راحته، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله على رأس العرجون، ثم لطخ به على أثر النخامة، قال جابر: فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم".
ومنها: كون المرأة كالرجل في خدمة المساجد، فيشرع لها أن تقوم بتنظيفها.
ومنها: إزالة ما يستقذر من المسجد.
ومنها: أنه ينبغي للإمام أن يتفقد أحوال المساجد لتعظيمها، وصيانتها عن الأقذار.
ومنها: مشروعية الغضب عند رؤية المنكر.
ومنها: عظيم تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تقدم أنه حك البصاق بنفسه، ووضع الخلوق مكانه. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
36 - القَوْلُ عِنْدَ دُخُولِ المَسْجِدِ، وَعِنْدَ الخُرُوج مِنْهُ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الذكر عند دخول المسجد، وعند الخروج منه. فالمراد بالقول: الذكر، فيكون الكلام على حذف مضاف، أي مشروعية الذكر. والله تعالى أعلم.
729 -
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغَيْلَانِيُّ بَصْرِيٌّ
(1)
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حُمَيْدٍ، وَأَبَا أُسَيْدٍ يَقُولَانِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ".
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(سليمان بن عبيد الله) بن عمرو بن جابر الغيلاني
(2)
(المازني)، أبو أيوب البصري، صدوق، توفي سنة 246، أو 247 هـ، من [11].
(1)
قوله: بصري، هكذا وقع عند المصنف هنا وفي الكبرى بالتنكير، وله وجه صحيح، فيكون خبرًا المحذوف، أي هو بصري.
(2)
الغيلاني -بفتح المعجمة، وسكون التحتانية، نسبة إلى غيلان بن عبد الله. أفاده في "اللباب".
قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ثقة. وقال مسلمة: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات. ذكره ابن أبي عاصم فيمن مات سنة 246 هـ، وفيمن مات سنة 247 هـ، انفرد به مسلم والمصنف.
2 -
(أبو عامر) عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي البصري، ثقة من [9]، تقدم في 2/ 327.
3 -
(سليمان) بن بلال التيمي مولاهم المدني، ثقة من [8]، تقدم في 30/ 558.
4 -
(ربيعة) بن أبي عبد الرحمن التيمي مولاهم أبو عثمان المدني المعروف بربيعة الرأي، واسم أبيه فَرُّوخ، ثقة فقيه مشهور، من [5].
قال أبو زرعة الدمشقي، عن أحمد: ثقة، وأبو الزناد أعلم منه، وقال العجلي، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت، أحد مفتيِّ المدينة. وقال مصعب الزبيري: أدرك بعض الصحابة، والأكابر من التابعين، وكان صاحب الفتوى بالمدينة، وكان يجلس إليه وجوه الناس بالدينة، وكان يحصى في مجلسه أربعون مُعْتَمّا، وعنه أخذ مالك. وقال الليث، عن يحيى بن سعيد: مما رأيت أحدًا أفطن منه. وقال الليث، عن عبيد الله بن عمر: هو صاحب معضلاتنا، وأعلمنا، وأفضلنا. وقال معاذ بن معاذ العنبري، عن سوار العنبري: ما رأيت أحدًا أعلم منه، قلت: ولا
الحسن، وابن سيرين؟ قال: ولا الحسن وابن سيرين.
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: يا أهل العراق، تقولون: ربيعة الرأي، والله ما رأيت أحدًا أحفظ لسنةٍ منه. وقال ابن سعد: توفي سنة 136 هـ بالمدينة فيما أخبرني الواقدي، وكان ثقة كثير الحديث، وكانوا يتقونه لموضع الرأي. وقال يحيى بن معين وأبو داود: توفي بالأنبار، واتفقوا كلهم على سنة وفاته.
وقال مطرف: سمعت مالكًا يقول: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة. وقال ابن حبان في الثقات: توفي سنة 33. وقال الباجي في رجال البخاري عنه: توفي سنة 42، وجرت له محنة. قال أبو داود: كان الذي بين أبي الزناد وربيعة متباعدًا، وكان أبو الزناد وجيهًا عند السلطان، فأعان على ربيعة، فضرب، وحلقت نصف لحيته، فحلق هو النصف الآخر.
وقال الحميدي أبو بكر: كان حافظًا. وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: قلت لربيعة في مرضه الذي مات فيه: إنا قد تعلمنا منك، وربما جاءنا من يستفتينا في الشيء لم نسمع فيه شيئًا، فنرى أن رأينا خير له من رأيه لنفسه، فنفتيه، قال: فقال: أقعدوني، ثم قال: ويحك يا عبد العزيز لأن تموت جاهلًا خير من أن تقول في شيء بغير علم، لا، لا، ثلاث مرات. وقال أبو داود: قال أحمد: وأيش عند ربيعة من العلم. أخرج له الجماعة.
5 -
(عبد الملك بن سعيد) بن سويد الأنصاري المدني، ثقة من [3].
قال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، قال الحافظ رحمه الله: وله رواية عن أبيه مذكورة في الطبراني وغيره، واستشهد أبوه بأحد، فكانت روايته عنه مرسلة، ولا يبعد أن يكون لعبد الملك رؤية. أخرج له الجماعة إلا البخاري والترمذي، له عندهم حديثان، أحدهما هذا، والآخر في قبلة الصائم. قاله في تت جـ 6 ص 395 - 396.
6 -
(أبو حميد) الساعدي الأنصاري الصحابي المدني، قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: المنذر بن سعد بن المنذر. وقيل: اسم جده مالك. وقيل: عمرو بن سعد بن المنذر بن سعد بن خالد بن ثعلبة ابن عمرو بن الخزرج. يقال: إنه عم سهل بن سعد الساعدي.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه إسحاق بن عبد الله بن عمر بن الحكم، وجابر بن عبد الله، وابن ابنه سعد بن المنذر بن أبي حميد، وعباس ابن سهل بن سعد الساعدي، وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، وعبد الملك بن سعيد بن سويد، وعمرو بن سليم الزرقي، وعروة بن الزبير، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وموسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي، ويزيد بن زيد الأنصاري.
قال الواقدي: توفي في آخر خلافة معاوية، أو أول خلافة يزيد. وقال خليفة وابن سعد وغيرهما: إن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد
شهد أحداً وما بعدها. أخرج له الجماعة.
7 -
(أبو أسيد) مالك بن ربيعة بن البَدَن
(1)
بن عمرو بن عوف ابن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب أبو أسيد
(2)
الساعدي، شهد بدراً والمشاهد كلها.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أولاده: حمزة، والزبير، والمنذر، ومولاه علي بن عبيد، وأنس بن مالك، وعباس بن سهل بن طلحة، وقرة بن أبي قرة، ويزيد بن زياد المدني مولى بني ساعدة. مات سنة 60 هـ، وهو آخر من مات من البدريين فيما ذكر المدائني. وقال الواقدي وخليفة: مات سنة 30 هـ.
قال ابن عبد البر: هذا اختلاف متباين. وقال غيره: مات سنة 40 هـ. أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو ومسلم، وعبد الملك بن سعيد، فلم يخرج له البخاري والترمذي، وأنهم مدنيون، إلا شيخه وشيخ شيخه، فبصريان.
(1)
البَدَن -بالموحدة، وفتح الدال المهملة، وكسرها.
(2)
أُسَيْد -بصيغة التصغير.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، ربيعة عن عبد الملك.
ومنها: أن عبد الملك ليس له عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، إلا حديثان، أحدهما هذا، والآخر في قبلة الصائم. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الملك بن سعيد) الأنصاري، أنه (قال: سمعت أبا حميد، وأبا أسيد) هكذا وقع عند المصنف هنا، وفي الكبرى بالعطف بالواو، وهي رواية لابن ماجه، وفي رواية له "عن أبي حميد"، ولم يذكر أبا أسيد، ووقع عند مسلم، وأبي داود "سمعت أبا حميد، أو أبا أسيد" بالشك.
(يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذا دخل أحدكم المسجد) الظاهر أنه يقول هذا الذكر مع دخوله، فيكون المعنى: إذا شرع في الدخول، ويحتمل أن يكون المعنى: أي أراد الدخول (فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وعند أبي داود من رواية عبد العزيز الدراوردي، عن ربيعة، زيادة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل:"اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج، فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك".
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر من الأمر في قوله: "فليقل"
الوجوب، إذ لا صارف له إلى الاستحباب، ولم أر من نَبَّه عليه. والله أعلم.
(وإِذا خرج فليقل: اللهم إِني أسألك من فضلك) أي من رزقك الحلال. وخصت الرحمة بالدخول، والفضل بالخروج؛ لأن المسجد محل رحمة الله ومغفرته، وخارج المسجد محل طلب الرزق، فشرع لكلٍّ أن يدعو ربه بما يناسب حاله. والله أعلم.
وقال ولِيُّ الله الدهلوي رحمه الله تعالى في حجة الله البالغة: الحكمة في تخصيص الداخل بالرحمة، والخارج بالفضل أن الرحمة في كتاب الله أريد بها النعم النفسانية، والأخروية، كالولاية والنبوة، قال تعالى:{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]، والفضل على النعم الدنيوية، قال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، ومن دخل المسجد إنما يطلب القرب من الله تعالى، والخروج وقت ابتغاء الرزق. اهـ.
وقال ابن رسلان رحمه الله: سؤال الفضل عند الخروج موافق لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ، يعني الرزق الحلال، وقيل:{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} هو طلب العلم، والوجهان متقاربان؛ فإن العلم من رزق الله تعالى؛ لأن الرزق لا يختص بقوت البدن، بل يدخل فيه قوت الأرواح،
والأسماع، وغيرها. وقيل: فضل الله عيادة المريض، وزيارة أخ صالح. انظر المنهل العذب جـ 3 ص 74 - 75. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي حميد، وأبي أسيد رضي الله عنهما هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف رحمه الله.
أخرجه هنا (36/ 729)، و"الكبرى" في "الصلاة"(36/ 808) - وفي "عمل اليوم والليلة" -10005 - عن سليمان بن عبيد الله الغيلاني، عن أبي عامر العقدي، عن سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد، عنهما. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال، عن ربيعة، عن عبد الملك، عن أبي حميد، أو أبي أسيد به. قال مسلم: سمعت يحيى يقول: كتبت هذا الحديث من كتاب سليمان بن بلال، قال: بلغني أن يحيى الحِمَّاني يقول: وأبي أسيد.
وأخرجه عن حامد بن عمر البكراوي، عن بشر بن المفضل، عن عمارة بن غزية، عن ربيعة، به.
تنبيه:
قول مسلم رحمه الله: سمعت يحيى يقول: كتبت
…
إلخ: يعني أن الحماني يقول عن سليمان المذكور: عن أبي حميد، وأبي أسيد، بواو العطف، وأن يحيى بن يحيى رواه بأو التي للتردد.
قال الحافظ رحمه الله في "نتائج الأفكار" جـ 1 ص 276 - 277: ولم ينفرد الحماني بذلك، فقد أخرجه أحمد، عن أبي عامر العقدي، عن سليمان بواو العطف أيضًا، وكذا أخرجه النسائي، وأبو يعلى، وابن حبان من رواية سليمان، ولم ينفرد به سليمان أيضًا، بل جاء من رواية عمارة بن غزية أيضًا.
أخرجه الطبراني في "الدعاء"، عن زكريا الساجي، عن أحمد بن سعيد، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمارة بن غزية، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: سمعت عبد الملك بن سعيد، يقول: سمعت أبا حميد، وأبا أسيد رضي الله عنهما [يقولان: قال] رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث. وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه" عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب. اهـ.
وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن عثمان الدمشقي، عن الدراوردي، عن ربيعة بإسناده، وتقدم لفظه.
وأخرجه ابن ماجه فيه عن عمرو بن عثمان الحمصي، وعبد الوهاب بن الضحاك، كلاهما عن إسماعيل بن عياش، عن
عمارة بن غزية، لكن قال: عن أبي حميد، ولم يذكر أبا أسيد. بلفظ أبي داود المتقدم. والله أعلم.
المسأله الرابعة: يستفاد من حديث الباب مشروعية طلب الرحمة من الله تعالى عند دخول المسجد، وطلب الفضل منه عند الخروج منه.
وقد وردت أحاديث فيما يقال في دخول المسجد والخروج منه.
فمنها: حديث الباب، وزاد في رواية أبي داود -كما تقدم- في أوله:"فليسلم، ثم ليقل"
…
ولفظ الطبراني: "إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج من المسجد، فليسلم على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب فضلك".
وأخرجه أيضًا أبو عوانة في صحيحه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمارة بن غزية، بإسناد الطبراني، كما تقدم. وأخرجه أيضًا أبو عوانة من رواية عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، عن الدراوردي، فقال في روايته، عن أبي حميد:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول، إذا دخل المسجد: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وسهل لي أبواب رزقك".
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: اللهم
افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج من المسجد، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم". أخرجه المصنف في اليوم والليلة، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، وأخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.
ووقع في رواية النسائي "باعدني" وفي نسخة "أعذني" وفي رواية ابن خزيمة، وابن حبان "أجرني"، ورجال هذا الحديث من رجال الصحيح، لكن أعله النسائي، فأخرجه من طريق محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار، أنه قال له: أوصيك باثنين، فذكر هذا الحديث بنحوه.
ومن طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن كعب كذلك. قال النسائي: ابن أبي ذئب أثبت عندنا من الضحاك بن عثمان، ومن محمد بن عجلان، وحديثه أولى بالصواب.
قال الحافظ: ورواية ابن عجلان أخرجها عبد الرزاق، وابن أبي شيبة في مصنفيهما كذلك، وأخرجه عبد الرزاق، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري أن كعبًا قال لأبي هريرة، فذكره، فهؤلاء ثلاثة خالفوا الضحاك في رفعه، وزاد ابن أبي ذئب في السند راويًا، وخفيت هذه العلة على من صحح الحديث من طريق الضحاك.
وفي الجملة هو حسن لشواهد، والله أعلم. انظر "نتائج الأفكار"
جـ 1 ص 279 - 280.
ومنها: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أخرجه أبو داود، عن إسماعيل بن بشر بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح، قال: لقيت عقبة ابن مسلم، فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول إذا دخل المسجد:"أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم"، قال: أقط؟ قلت: نعم، قال:"فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم".
قال الحافظ رحمه الله: هذا حديث حسن غريب، ورجاله موثقون، وهم من رجال الصحيح، إلا إسماعيل وعقبة، ومعنى قوله:"أقط"؟: أما بلغك إلا هذا خاصة، والهمزة للاستفهام، والمشهور في طاء "قط" التخفيف. والله أعلم.
ومنها: حديث عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، ثم قال:"اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك"، وإذا خرج صلى على محمد وسلم، ثم قال:"اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك". أخرجه الإِمام أحمد عن إسماعيل بن علية، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الله
ابن الحسن، قال إسماعيل: فلقيت عبد الله بن الحسن، فسألته عن هذا الحديث؟ فقال: كان إذا دخل قال: "رب افتح لي أبواب رحمتك"، وإذا خرج قال:"رب افتح لي أبو اب فضلك"، وهكذا أخرجه الترمذي عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن علية.
قال الترمذي: حديث فاطمة حسن، وليس إسناده بمتصل، وفاطمة بنت الحسين لم تدرك جدتها فاطمة الكبرى؛ لأنها عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشهراً.
قال الجامع عفا الله عنه:
فتحسين الترمذي مع كونه منقطعًا لشواهده، وصححه الشيخ الألباني. انظر صحيح الترمذي جـ 1 ص 102. والله أعلم.
وأخرجه الطبراني بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد حمد الله وسمى، وقال: "اللهم اغفر لي، وافتح لي أبواب رحمتك" وإذا خرج قال مثل ذلك، وقال: "اللهم افتح لي أبواب فضلك"، ورجال السند -كما قال الحافظ- ثقات، لكن فيه الانقطاع الذي ذكره الترمذي.
قال الحافظ: ووقع لنا ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من وجه آخر، ثم ساقه بإسناده إلى عبد الرزاق، عن قيس بن الربيع، عن عبد الله بن الحسن بإسناده: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: اللهم صل على محمد، وسلم، واغفر لي ذنوبي، وافتح لي
أبواب رحمتك" وإذا خرج قال مثلها، لكنه يقول: "أبواب فضلك".
وقال أيضاً: ووقع لنا من وجه آخر فيه الحمد، والتسمية، والصلاة، والتسليم، ثم ساقه بإسناده إلى أبي بشر الدولابي، عن محمد بن عوف، عن موسى بن داود، عن عبد العزيز الدراوردي، عن عبد الله بن الحسن، بإسناده:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دخل المسجد، قال: بسم الله، والحمد لله، وصلى الله على النبي وسلم، اللهم اغفر لي" فذكر مثل الذي قبله، لكن قال:"سهل" بدل "افتح" في الموضعين، ورواة هذا الإسناد ثقات، إلا أن فيه الانقطاع الذي تقدم ذكره.
ومنها: ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من مرسل أبي بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: "السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم أجرني من الشيطان، ومن الشر كله". قال الحافظ رحمه الله: ورجاله ثقات، ليس فيه الإرسال، والله أعلم. انظر نتائج الأفكار جـ 1 ص 288 - 289.
قال الجامع عفا الله عنه: ينبغي للمسلم أن يلازم هذه الأذكار في دخول المسجد وخروجه، فإن تيسر له أن يقول كلها، فحسن، وإلا فليقل منها ما تيسر له. ومن الغريب أن كثيراً من طلاب العلم، فضلًا عن عامة الناس، لا يهتمون بمثل هذه الأذكار، وهو حرمان عظيم، فقد سبق في بعضها أنه حرز من الشيطان، حيث يقول
الشيطان إذا سمع الإنسان يقوله: حُفِظَ مني سائر اليوم، وهذا فضل عظيم. ألهمنا الله تعالى الاقتداء بحبيبه صلى الله عليه وسلم في أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا، إنه ولي ذلك. {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74].
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
37 - الأمْرُ بالصَّلاةِ قَبْلَ الجُلُوسِ فِيهِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أمر داخل المسجد بأن يصلي فيه قبل أن يجلس.
والمراد بالأمر هنا: الطلب، وجمعه أوامر.
قال ابن منظور رحمه الله تعالى: الأمر: معروف، نقيض النهي. أمره به، وأمره إياه، على حذف الحرف، يأمره، أمْرًا، وإمَارًا، فأتمر، أي قَبِلَ أمره، وقوله عز وجل:{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].العرب تقول: أمرتك أن تفعل، ولتفعل، وبأن تفعل، فمن قال: أمرتك بأن تفعل، فالباء للإلصاق، والمعنى وقع الأمر بهذا الفعل، ومن قال: أمرتك أن تفعل، فعلى حذف الباء، ومن قال: أمرتك لتفعل فقد أخبرنا بالعلة التي لها وقع الأمر، والمعنى: أمرنا للإسلام. اهـ. لسان جـ 1 ص 125.
وقال الفيومي رحمه الله تعالى: الأمر بمعنى الحال، جمعه أمور، وعليه {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]، والأمر بمعنى الطلب، جمعه أوامر، فرقًا بينهما.
قال الجامع عفا الله عنه: والمعنى الثاني هو الموافق هنا. والله أعلم.
730 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي البَغْلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإِمام الحجة الفقيه المدني، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(عامر بن عبد الله بن الزبير) بن العوّام الأسدي، أبو الحارث المدني، وأمه حنتمة بنت عبد الرحمن بن هشام، ثقة عابد توفي سنة 121، من [4].
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقة من أوثق الناس. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح. وقال مالك: كان يغتسل كل يوم، ويواصل صوم سبع عشرة ثم يمسي، فلا يذوق شيئًا حتى القابلة يومين وليلة. أخرج له الترمذي في الأمر بتحية المسجد. وقال العجلي: مدني ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: كان
عالمًا فاضلًا. مات سنة 121 وقال ابن سعد: كان عابدًا فاضلًا، وكان ثقة مأمونًا، وله أحاديث يسيرة. وقال الخليلي: أحاديثه كلها يحتج بها. قال الواقدي: مات قبل هشام، أو بعده بقليل، ومات هشام سنة 124 قال الحافظ: بل سنة 125. اهـ. أخرج له الجماعة.
4 -
(عمرو بن سليم)
(1)
بن خَلْدَةَ بن مُخَلَّد بن عامر بن زُرَيْق الأنصاري الزُّرقي -ثقة، من كبار التابعين، توفي سنة 104.
قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن خراش: ثقة، في حديثه اختلاط. وقال العجلي: مدني ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الواقدي: كان قد راهق الاحتلام يوم مات عمر. وقال الفلاس: مات سنة 104، أخرج له الجماعة.
5 -
(أبو قتادة) الأنصاري، الحارث بن رِبْعي، وقيل: غيره، الصحابي المشهور رضي الله عنه، توفي سنة 54 على الأصح، تقدم في 23/ 24. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وكلهم من رجال الجماعة.
(1)
سُلَيْم: بصيغة التصغير. و"خَلْدَة": بفتح المعجمة، وسكون اللام، وقيل بفتحها، وإهمال قال. و"مُخَلَّد": بميم مضمومة، وفتح معجمة، وشد لام. و"الزُّرقِي": بضم الزاي، وفتح الراء، بعدها قاف. اهـ من هامش تت جـ 8 ص 44.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني، قرية من قرى بَلْخَ.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، عامر بن عبد الله، عن عمرو بن سليم.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنة. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي قتادة) رضي الله عنه، قال في الفتح: هكذا اتفق عليه الرواة عن مالك، ورواه سهيل بن أبي صالح، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، فقال:"عن جابر" بدل أبي قتادة، وخطَّأه الترمذي، والدارقطني، وغيرهما. اهـ. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إِذا دخل أحدكم المسجد، فليركع) أي فليصل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل (ركعتين) هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق، واختلف في أقله، والصحيح اعتباره، فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين. قاله في الفتح.
ويتأدى ذلك بصلاة الفرض، فإذا دخل والناس في الصلاة فدخل معهم فيها، سقط عنه الطلب، فلا حاجة -كما قال السندي- إلى تخصيص الحديث بما إذا لم تُقَمِ المكتوبة. والله أعلم.
وقال في الفتح: واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب، ونقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، والذي صرح به ابن حزم عدمه.
ومن أدلة عدم الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم للذي رآه يتخطى: "اجلس، فقد آذيت" ولم يأمره بصلاة. كذا استدل به الطحاوي، وغيره. قال الحافظ: وفيه نظر.
قال الجامع: ومن أدلته أيضًا ما يأتي للمصنف في الباب التالي.
وقال الطحاوي أيضًا: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.
قال الحافظ: هما عمومان تعارضا؛ الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، فلابد من تخصيص أحد العمومين، فذهب جمع إلى تخصيص النهي، وتعميم الأمر، وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه، وهو قول الحنفية، والمالكية. اهـ "فتح" جـ 2 ص 106.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي ما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله تعالى، لما سنحققه، في المسائل إن شاء الله تعالى.
(قبل أن يجلس) صرح جماعة بأنه إذا خالف، وجلس لا يشرع له التدارك، وفيه نظر، لما رواه ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي ذر
رضي الله عنه، أنه دخل المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أركعت ركعتين؟ " قال: لا، قال:"قم فاركعهما". ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس. ولحديث جابر رضي الله عنه، جاء سُلَيْك الغَطَفَاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له:"أصليت ركعتين؟ " فقال: لا، فقال:"قم فاركعهما". متفق عليه. وسيأتي للمصنف برقم: 1395، 1400.
وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال: وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة، وبعده وقت جواز، أو يقال: وقتهما قبله أداء، وبعده قضاء، ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذكره المحب الطبري فيه نظر، بل يشرع لمن لم يصل قبل الجلوس نسيانًا، أو جهلًا أن يصلي بعده مطلقًا، على ظاهر النصوص المذكورة، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة قبل الجلوس، وأمر من لم يصل قبله أن يقوم فيصلي، ولم يبين التفصيل الذي ذكره المحب فتنبه. والله أعلم.
فائدة:
حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا ورد على سبب، وهو أن أبا قتادة دخل المسجد، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه، فجلس معهم، فقال له:"ما منعك أن تركع؟ " قال: رأيتك جالسًا، والناس
جلوس، قال:"فإذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين". أخرجه مسلم.
وعند ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي قتادة: "أعطوا المساجد حقها" قيل له: وما حقها؟ قال: "ركعتين قبل أن تجلس". اهـ فتح جـ 2 ص 106 - 107. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
الأولى: في درجته:
حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (37/ 730)، و"الكبرى"(30/ 809) عن قتيبة، عن مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عنه. والله تعالى أعلم.
الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، به -وعن مكي بن إبراهيم، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند- كلاهما عن عامر بن عبد الله، به.
وأخرجه مسلم فيه عن يحيى بن يحيى، والقعنبي، وقتيبة، ثلاثتهم عن مالك، به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن حسين بن علي، عن زائدة، عن عمرو بن يحيى بن عُمَارة، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن عمرو بن سُلَيْم، به، وفيه قصة، وقد تقدم ذكرها.
وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، به. وعن مسدد، عن عبد الواحد بن زياد، عن أبي العُمَيس عُتْبَة بن عبد الله، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن رجل من بني زُرَيق، به -ولم يسمه.
وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة، به. وقال: حسن صحيح. وقد روى ابن عجلان، وغير واحد هذا الحديث عن عامر نحو رواية مالك. وروى سهيل بن أبي صالح هذا الحديث عن عامر بن عبد الله، عن عمرو بن سليم، عن جابر -وهو غير محفوظ. قال ابن المديني: حديث سهيل خطأ.
وأخرجه ابن ماجه فيه عن العباس بن عثمان، عن الوليد بن مسلم، عن مالك نحوه. رواه الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، عن عامر بن عبد الله، عن أبي قتادة -ولم يذكر "عمرو بن سليم"، وهو وَهَم. قاله الحافظ المزي رحمه الله في تحفته جـ 9 ص 262 - 263.
وأخرجه الحميدي في مسنده رقم 421، وأحمد 5/ 295، 296، 303، 305، 311، والدارمي 1400، وابن خزيمة في صحيحه 1825، 1826، 1827، 1829، وابن حبان في صحيحه جـ 6
245.
بتحقيق الأرنؤوط. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في بيان مذاهب العلماء في حكم ركعتي تحية المسجد:
ذهب الجمهور إلى أنهما سنتان، قائلين: إن الأمر في ذلك للندب، لا للوجوب.
قال الإِمام الترمذي رحمه الله تعالى في جامعه جـ 1 ص 198 - 199 في حديث أبي قتادة رضي الله عنه المذكور في الباب: والعمل على هذا الحديث عند أصحابنا، استحبوا إذا دخل الرجل المسجد أن لا يجلس حتى يصلي الركعتين، إلا أن يكون له عذر. اهـ.
وذهب بعضهم إلى وجوبهما، ونسب إلى الظاهرية ما عدا ابن حزم، واستدلوا بحديث أبي قتادة المذكور في الباب، فإنه بصيغة الأمر، والأمر للوجوب. وسيأتي الجواب عنه، إن شاء الله تعالى.
قال الجامع عفا الله عنه: نسبة الوجوب إلى الظاهرية، وإن حكاه القاضي عياض، وابن بطال، محل نظر، فإن ابن حزم رحمه الله قال في "المحلى" في الرد على القائلين بوجوب شيء من الصلوات غير الخمس: ما نصه: وأما كون ما عدا ذلك تطوعًا فإجماع من الحاضرين من المخالفين، إلا في الوتر، فإن أبا حنيفة قال: واجب، وقد روي عن بعض المتقدمين: أنها فرض. اهـ.
فقد بَيَّنَ ابنُ حزم وهو أعلم الناس بالظاهرية أن القول بعدم وجوب
ما عدا الخمس إجماع، إلا ما ذكر في الوتر. فتنبه. والله أعلم.
واستدل الأولون بحديث ضمام بن ثعلبة عند الشيخين، والمصنف، وأبي داود، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة"، قال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوع" .... الحديث.
قال الحافظ أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في صحيحه جـ 2 ص 164: باب الدليل على أن الأمر بركعتين عند دخول المسجد أمر ندب، وإرشاد، وفضيلة. والدليل على أن الزجر عن الجلوس قبل صلاة ركعتين عند دخول المسجد نهي تأديب، لا نهي تحريم، بل حض على الخير، والفضيلة.
قال أبو بكر: خبر طلحة بن عبيد الله جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ قال: "الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئًا"، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا فرض من الصلاة إلا خمس صلوات، وأن ما سوى الخمس فتطوع، لا فرض في شيء من ذلك. اهـ. "صحيح ابن خزيمة" جـ 3 ص 164.
واستدلوا أيضًا بالحديث الآتي للمصنف في الباب التالي، فإن كعب بن مالك رضي الله عنه جلس عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمره بالصلاة، كما يأتي استدلال المصنف به على عدم الوجوب.
واستدلوا أيضًا بما تقدم من أن سبب حديث أبي قتادة رضي الله عنه
المذكور في الباب أنه دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جالسين. فجلس من غير أن يصلي ركعتين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما منعك أن تركع؟ " قال: رأيتك جالساً، والناس جلوس. قال:"فإذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين". أخرجه مسلم. ففيه أنه لم يأمره بالقيام لأداء الركعتين. فيدل على عدم وجوبهما أيضاً.
واستدلوا أيضاً بما رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن خزيمة عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه، قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس، يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اجلس فقد آذيت"، وزاد أحمد "وآنيت". -يعني تأخرت- فقد أمره بالجلوس، ولم يأمره بالصلاة. لكن فيه أنه يحتمل أنه صلى في جانب المسجد قبل التخطي. والله أعلم.
وقال العلامة العيني رحمه الله: لو قلنا بوجوبهما لحرم على المحدث الحدث الأصغر دخول المسجد حتى يتوضأ، ولا قائل به، فإذا جاز دخول المسجد على غير وضوء لزم منه أنه لا يجب عليه سجودهما عند دخوله. اهـ.
وقال الإِمام العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: وجمهور العلماء على عدم الوجوب لهما. ثم اختلفوا، فظاهر مذهب مالك أنهما من النوافل. وقيل: إنهما من السنن. وهذا على اصطلاح المالكية في الفرق بين النوافل والسنن والفضائل. ونقل عن بعض الناس أنهما
واجبتان، تمسكًا بالنهي عن الجلوس قبل الركوع. وعلى الرواية الأخرى -التي وردت بصيغة الأمر- يكون التمسك بصيغة الأمر.
ولاشك أن ظاهر الأمر الوجوب، وظاهر النهي التحريم، ومن أزالهما عن الظاهر فهو محتاج إلى دليل. ولعلهم يفعلون في هذا ما
فعلوا في مسألة الوتر، حيث استدلوا على عدم الوجوب فيه بقوله صلى الله عليه وسلم:"خمس صلوات كتبهن الله على العباد"، وقول السائل: هل علي غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع"، فحملوا لذلك صيغة الأمر على الندب، لدلالة هذا الحديث على عدم وجوب غير الخمس، إلا أن هذا يشكل عليهم بإيجابهم الصلاة على الميت، تمسكًا بصيغة الأمر. اهـ "إحكام الأحكام" جـ 2 ص 467 - 468.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: فهو محتاج إلى الدليل. أقوى الدليل للجمهور هو الحديث الذي ذكره هو، فدلالته على عدم وجوب ما سوى الخمس واضحة.
وأما جواب من أجاب بأن ذلك قبل أن يجب غيرها من الصلوات -كما ذكره الصنعاني، والشوكاني- فيرد عليه بحديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال له: إنك ستأتي قومًا أهل كتاب
…
الحديث". وفيه "فأعْلِمْهُم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" وبَعْثُ معاذ كان سنة عشر قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكره البخاري رحمه الله في أواخر المغازي. ويقال:
إنه ما قدم إلا بعد موته صلى الله عليه وسلم.
فهذا واضح في عدم افتراض شيء من الصلوات غير الخمس؛ لأن هذا الحديث متأخر بيقين.
وأما قوله: يشكل عليهم إيجابهم الصلاة على الميت. فجوابه أن الصلاة على الميت ليست فرض عين؛ لأن السائل سأله عما يجب عليه، ولا يسقط بفعل غيره عنه، بدليل اقتصاره صلى الله عليه وسلم في جوابه على فرائض الأعيان.
وقد طول العلامة الشوكاني في انتصار القول بالوجوب في نيله جـ 3 ص 347 - 349 - ومثله الصنعاني في "عدته" جـ 2 ص 468. وأقوى مستندهما في ذلك دعوى أن حديث "هل علي غيرهن؟ قال: "لا .... " كان أوّلا، ثم تزايدت التشريعات بعد ذلك. وهذا مردود عليهما بحديث معاذ المذكور المتأخر يقينًا. فتبصر. والله أعلم.
فالحاصل أن قول الجمهور بعدم الوجوب هو الحق، لظهور دليله. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: ظاهر الحديث يدل على مشروعية هاتين الركعتين في جميع الأوقات حتى في أوقات الكراهة، ووقت الخطبة. وبه قالت الشافعية، وجماعة، وهو الذي اختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله. وكره ذلك أبو حنيفة، والأوزاعي، والليث، محتجين بأحاديث النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة.
وأجاب الأولون بأن النهي إنما هو عما لا سبب له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين قضاء سنة الظهر. رواه الشيخان.
وبحديث "أن رجلًا صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح. ولم يكن ركع ركعتي الفجر، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يركع ركعتي الفجر. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فلم ينكر ذلك عليه". رواه ابن حبان في صحيحه.
وبحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح في مسجد الخيف، فلما انصرف إذا هو برجلين لم يصليا معه، فقال: "عليّ بهما"، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ " قالا: صلينا في رحالنا، قال: "فلا تفعلا، فإذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة". رواه أبو داود والنسائي، وصححه الترمذي.
وبحديث "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بركعتي تحية المسجد لمن جاء يوم الجمعة، والإمام يخطب"، مع أن الوقت وقت سماع الخطبة. ففي رواية الشيخين من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإِمام، فليصل ركعتين". وفي رواية لمسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما".
قال الجامع عفا الله عنه: فترجح بما ذكر أن الراجح قول من قال بمشروعية ركعتي تحية المسجد مطلقًا في أوقات الكراهة وغيرها. والله أعلم.
تنبيه:
قال الإِمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى بعد ذكر الخلاف المتقدم ما نصه: وهذا الخلاف في هذه المسألة ينبني على مسألة أصولية مُشْكِلَة، وهو ما إذا تعارض نصان كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه، خاص من وجه. ولست أعني بالنصين هاهنا ما لا يحتمل التأويل.
وتحقيق ذلك أوَّلاً يتوقف على تصوير المسألة. فنقول: مدلول أحد النصين إن لم يتناول مدلول الآخر، ولا شيئًا منه، فهما متباينان، كلفظة "المشركين" و"المؤمنين" مثلًا، وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر، فهما متساويان، كلفظة "الإنسان" و"البشر" مثلًا، وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر، ويتناول غيره، فالمتناول له ولغيره عام من كل وجه بالنسبة إلى الآخر، والآخر خاص من كل وجه، وإن كان مدلولهما يجتمع في صورة، وينفرد كل واحد منهما بصورة، أو صُور، فكل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه.
فإذا تقرر هذا، فقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دخل أحدكم المسجد" إلخ مع قوله: "لا صلاة بعد الصبح" من هذا القبيل، فإنهما يجتمعان في صورة، وهو ما إذا دخل المسجد بعد الصبح، أو العصر، وينفردان أيضًا، بأن توجد الصلاة في هذا الوقت من غير دخول المسجد، ودخول المسجد في غير ذلك الوقت، فإذا وقع مثل هذا فالإشكال قائم؛ لأن أحد الخصمين لو قال: لا تكره الصلاة عند دخول المسجد في هذه الأوقات؛ لأن هذا الحديث دل على جوازها عند دخول المسجد، وهو خاص بالنسبة إلى الحديث الأول المانع من الصلاة بعد الصبح، فأخص قوله:"لا صلاة بعد الصبح" بقوله: "إذا دخل أحدكم المسجد"، فلخصمه أن يقول: قوله: "إذا دخل أحدكم المسجد" عام بالنسبة إلى الأوقات، فأخصه بقوله:"لا صلاة بعد الصبح" فإن هذا الوقت أخص من عموم الأوقات.
فالحاصل أن قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا دخل أحدكم المسجد" خاص بالنسبة إلى هذه الصلاة -أعني الصلاة عند دخول المسجد- عام بالنسبة إلى هذه الأوقات. وقوله: "لا صلاة بعد الصبح" خاص بالنسبة إلى هذا الوقت، عام بالنسبة إلى الصلوات. فوقع الإشكال من هاهنا.
وذهب بعض المحققين إلى التوقف حتى يأتي ترجيح خارج بقرينة،
أو غيرها. فمن ادعى أحد هذين الحكمين -أعني الجواز، أو المنع- فعليه إبداء أمر زائد على مجرد الحديث. اهـ إحكام الأحكام جـ 2 ص 470 - 472. بنسخة العدة.
قال الجامع عفا الله عنه: الأمر الزائد المرجح موجود -والحمد لله- وهو ما تقدم من النصوص الدالة على جواز الصلوات التي لها أسْبَاب.
والمراد بذوات الأسباب هي التي لها سبب متقدم عليها. فاندفع بهذا ما قاله الصنعاني من أن الحكم على بعض الصلوات بأنها من ذوات الأسباب دون بعض تفريق بين المتماثلات، إذ ما من صلاة إلا ولها سبب باعث عليها أقله الندب إليها، فإن أرادوا ما نص عليه بخصوصه من النوافل، فهو من التنصيص على بعض أفراد العام الشامل له ولغيره، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة خير موضوع، فمن أراد أن يستكثر منها، فليستكثر". حديث حسن أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: "فمن استطاع أن يستكثر".
والتنصيص على بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص، وأنه مع ذلك يلزم أن لا يبقى لأحاديث النهي محل يتوجه -إليه- اهـ. "العدّة" جـ 2 ص 469. بزيادة يسيرة.
قال الجامع: هذا الذي قاله الصنعاني رحمه الله بعيد كل البعد عما تقدم، فإن المراد بالأسباب هنا هي الأسباب التي قدمها الشخص على
فعل الصلاة، فاقتضت فعلَها. وذلك كأن تفوته صلاة، فيتذكرها في ذلك الوقت، فيصليها، أو يدخل المسجد فيصلي ركعتين، أو يتوضأ فيصلي ركعتي الوضوء، أو يأتي المسجد، وقد صلى العصر، أو الصبح في رحله، فأدرك الجماعة، فصلى معهم، أو فاتته ركعتا الفجر، فصلاهما بعد أداء الفرض جماعة، أو نحو ذلك، فمثل هذه الأشياء هي التي لها أسباب تقدمت على فعلها، وأما البواعث المقتضية للفعل من جهة الشرع، كالحديث الذي ذكره، فليست مرادة هاهنا. فتنبه والله أعلم.
وأما ما قاله الشوكاني رحمه الله -بعد ذكره التعارض المتقدم، وأنه لا يمكن الترجيح-: والمقام عندي من المضائق، والأوْلى للمتورع ترك دخول المساجد في أوقات الكراهة. فعجيب من مثله! فكيف يمنع المسلم، من دخول المساجد؟ وأي نص في ذلك حتى نعتمد عليه؟ بل الصواب أن المساجد مأذون في دخولها في جميع الأوقات، إلا فيمن ورد النص بتحريم الدخول في حقه كمن أكل ثومًا، أو نحو ذلك. والله أعلم.
والحاصل أن أدلة تخصيص عموم النهي بذوات الأسباب واضحة، لا لبس فيها، فيشرع أداء ركعتي تحية المسجد في جميع الأوقات. وقد تقدم تمام البحث في المسألة في 31/ 559 فأرجع إليه تزدد علماً. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة السادسة:
قال الإِمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: إذا دخل المسجد بعد أن صلى ركعتي الفجر في بيته فهل يركعهما في المسجد؟.
اختلف قول مالك فيه، وظاهر الحديث يقتضي الركوع.
وقيل: إن الخلاف في هذا من جهة معارضة هذا الحديث للحديث الذي رووه من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة بعد الفجر، إلا ركعتي الفجر". وهذا أضعف من المسألة السابقة؛ لأنه يحتاج في هذا إلى إثبات صحة هذا الحديث حتى يقع التعارض، فإن الحديثين الأولين في المسألة الأولى صحيحان، وبعد التجاوز عن هذه المطالبة، وتقدير تسليم صحته يعود الأمر إلى ما ذكرناه من تعارض أمرين، يصير كل واحد منهما عامًا من وجه، خاصًا من وجه، وقد ذكرناه. اهـ إحكام جـ 2 ص 472 - 473.
قال الجامع عفا الله عنه: أما الحديث فصحيح بمجموع طرقه -كما تقدم البحث عنه في 39/ 583 وأما التعارض المذكور، فتقدم الجواب عنه في الذي قبله.
والحاصل أن النهي المذكور في هذا الحديث لا يتناول من دخل المسجد بعد أداء ركعتي الفجر، فيشرع له أن يصلي ركعتي التحية، لكونهما من ذوات الأسباب. فتفطن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة السابعة:
إذا دخل مجتازًا، فهل يؤمر بالركعتين؟.
خفف في ذلك مالك رحمه الله. قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وعندي أن دلالة هذا الحديث لا تتناول هذه المسألة؛ فإنا إن نظرنا إلى صيغة النهي، فالنهي يتناول جلوسًا قبل الركعتين، فإذا لم يحصل الجلوس أصلًا لم يفعل المنهي. وإن نظرنا إلى صيغة الأمر، فالأمر توجه بركوع قبل الجلوس، فإذا انتفيا معًا لم يخالف الأمر. اهـ إحكام. جـ 2 ص 474.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن دقيق العيد رحمه الله هو الظاهر، فمن دخل المسجد مجتازًا ليس عليه أن يركع الركعتين، لظاهر النص. والله أعلم.
المسألة الثامنة:
لفظة "المسجد" تتناول كل مسجد، وقد أخرجوا عنه المسجد الحرام، وجعلوا تحيته الطواف.
قال الإِمام ابن دقيق العيد رحمه الله: فإن كان في ذلك خلاف، فلمخالفهم أن يستدل بهذا الحديث، وإن لم يكن فالسبب في ذلك النظر إلى المعنى، وهو أن المقصود افتتاح الدخول في محل العبادة بعبادة، وعبادة الطواف تُحَصِّل هذا المقصود، مع أن غير هذا المسجد لا يشاركه فيها، فاجتمع في ذلك تحصيل المقصود مع الاختصاص.
وأيضًا فقد يؤخذ ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته حين دخل
المسجد، فابتدأ بالطواف على ما يقتضيه ظاهر الحديث، واستمر عليه العمل، وذلك أخص من هذا العموم. وأيضًا فإذا اتفق أن طاف، ومَشَى على السنة في تعقيب الطواف بركعتيه، وجرينا على ظاهر اللفظ في الحديث، فقد وفينا بمقتضاه. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا معنى لإخراج المسجد الحرام من هذا الحديث -كما يشير إليه آخر كلام ابن دقيق العيد- رحمه الله -فإن من دخله، إما أن يكون محرمًا بأحد النسكين، أوْ لا، فإن كان محرمًا بأحدهما، فالسنة في حقه أن يبدأ بالطواف، ثم يصلي ركعتين- كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن فعل بالسنة فقد عمل بحديث الباب؛ لأن المطلوب منه أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس، وقد وجد، وإن لم يكن محرمًا، فإن أراد الطواف فكذلك، وإلا فليركع ركعتين قبل أن يجلس.
والحاصل أن المسجد الحرام كسائر المساجد في طلب الركعتين قبل الجلوس، تقدمهما طواف، أم لا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة التاسعة:
إذا صلى العيد في المسجد، فهل يصلي التحية عند الدخول فيه؟
اختلف فيه؛ قال ابن دقيق العيد رحمه الله: والظاهر من لفظ الحديث أنه يصلي. ولكن جاء في الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها
ولا بعدها"، أعني صلاة العيد. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في المسجد، ولا نقل عنه ذلك، فلا معارضة بين الحديثين، إلا أن يقول قائل، ويفهم فاهم أن ترك الصلاة قبل العيد، وبعدها من سنة صلاة العيد، من حيث هي هي، وليس لكونها واقعة في الصحراء أثر في ذلك الحكم، فحينئذ يقع التعارض، غير أن ذلك يتوقف على أمر زائد، وقرائن تشعر بذلك، فإن لم يوجد فالاتباع أولى استحبابًا، أعني في ترك الركوع في الصحراء، وفعله في المسجد للمسجد، لا للعيد. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: لم يصل العيد في المسجد، ولا نقل عنه ذلك. هو كما قال، وأما ما رواه أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أنه أصابهم مطر يومًا، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم العيد في المسجد". فضعيف؛ لأن في سنده عيسى بن عبد الأعلي بن عبد الله بن أبي فروة مجهول.
وقوله: فإن لم يوجد ذلك فالاتباع أولى، أي إن لم توجد القرائن الدالة على ما ذكره، فالاتباع بترك الركعتين في الصحراء، وفعلهما في المسجد له، لا للعيد، هو الأولى.
قال العلامة الصنعاني رحمه الله: وهذا هو النهج الواضح، وصلاته في المسجد لأجله، لا للعيد، وتركها في الصحراء، أعني ترك صلاة التحية في مصلى الصحراء، لا للمنع عن الصلاة، فإن الترك لا ظاهر له يقتضي المنع عن الصلاة مطلقًا، ولا يوجد منه ما يعارض حديث "الصلاة خير موضوع".
والعجب من ذكر هذا الخلاف في تحية المسجد، والصحراءُ ليست من المساجد، وهذا بناءٌ على أن الصحراء غير مُسَبَّلَة، وإلا فهي مسجد. نعم يؤخذ من ترك الصلاة قبل صلاة العيد استحباب تعجيلها، وعدم الاشتغال بغيرها من النوافل، ولمثل هذا أخرت الخطبة. اهـ "العدة" جـ 2 ص 475. والله تعالى أعلم.
المسألة العاشرة:
قال الإمام النووي رحمه الله: لو تكرر دخوله في المسجد في الساعة الواحدة مرارًا، قال صاحب التتمة: تستحب التحية لكل مرة. وقال المحاملي في اللباب: أرجو أن تجزئه التحية مرة واحدة. والأول أقوى، وأقرب إلى ظاهر الحديث. اهـ "المجموع" جـ 4 ص 52.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: من كثر تردده إلى المسجد، وتكرر، هل يؤمر بتكرار الركعتين
قال بعضهم: لا. وقاسه على الحَطَّابين، والفَكَّاهين المترددين إلى مكة في سقوط الإحرام عنهم، إذا تكرر ترددهم. والحديث يقتضي التكرر بتكرر الدخول.
وقول هذا القائل يتعلق بمسألة أصولية، وهو تخصيص العموم بالقياس، وللأصوليين في ذلك أقوال متعددة. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: في هذا الكلام نظر، إذ هذا القياس غير صحيح؛ لأن دخول مكة لمن لم يرد الحج والعمرة بغير إحرام جائز على
القول الراجح، سواء تكرر أم لا، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح بلا إحرام، فالقول بوجوب الإحرام مما لا دليل عليه، فقياس دخول المسجد عليه مع وجود النص قياس فاسد. فالراجح ما رجحه النووي رحمه الله تعالى.
والحاصل أن تكرر الصلاة بتكرر الدخول هو الظاهر، لظاهر النص. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
38 - الرُّخْصَةِ فِي الجُلُوسِ فِيهِ، وَالخُرُوجِ مِنْهُ بِغَيْرِ صَلاةٍ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الرخصة في الجلوس في المسجد، والخروج منه بغير أداء صلاة.
ومحل الاستدلال قول كعب رضي الله عنه: "فجئت حتى جلست بين يديه"، حيث إنه جلس بغير صلاة، وقوله:"فقمت، فمضيت" حيث خرج بغير صلاة أيضًا، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، كما أمر غيره.
قال الجامع عفا الله عنه: لكن هذا الاستدلال محل نظر، إذ يحتمل أن يكون صلى قبل مجيئه إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن المصنف رحمه الله تعالى يرى أن احتمال عدم الصلاة أقوى من هذا الاحتمال، تمسكًا بظاهره. والله أعلم.
731 -
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، قَالَ: وَصَبَّحَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعًا وَثَمَانِينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَانِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل حَتَّى جِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ:"تَعَالَ". فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي:"مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟! ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ لِتَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشَكُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُسْخِطُكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ
تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ". فَقُمْتُ فَمَضَيْتُ
…
مُخْتَصَرٌ.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(سليمان بن داود) بن حماد المهري، أبو الربيع المصري، ابن أخي رِشْدين بن سعد، ثقة، توفي سنة 253 من [11]، أخرج له أبو داود والنسائي، وتقدم في 36/ 79.
2 -
(ابن وهب) عبد الله أبو محمد المصري، ثقة ثبت عابد، من [9] تقدم في 9/ 9.
3 -
(يونس) بن يزيد الأيلي، ثقة ثبت من [7]، تقدم في 9/ 9.
4 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري المدني الإِمام الحجة المثبت من [4]، تقدم في 1/ 1.
5 -
(عبد الرحمن بن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي، أبو الخطاب المدني، ثقة من كبار التابعين، ويقال: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الهيثم بن عدي: مات في خلافة سليمان بن عبد الملك. وقال ابن سعد: كان ثقة، وهو أكثر حديثًا من
أخيه، وتوفي في خلافة سليمان. وكذا ذكر خليفة، ويعقوب بن سفيان، وغير واحد. وذكره العسكري فيمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرو عنه شيئًا. وقال أحمد بن صالح: لم يسمع الزهري من عبد الرحمن بن كعب شيئًا، إنما روى عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب. ولم يذكره النسائي في شيوخ الزهري، إنما ذكر ابن أخيه حسبُ. أخرج له الجماعة.
قال الجامع عفا الله عنه: قول أحمد بن صالح يرده تصريح الزهري في سند المصنف بقوله: أخبرني. والله أعلم.
6 -
(عبد الله بن كعب) بن مالك الأنصاري السلمي المدني، كان قائد أبيه حين عمي، ثقة، يقال: له رؤية.
قال أبو زرعة: ثقة. ؤذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات في ولاية سليمان سنة 97 - أو 98 - وقال ابن سعد: سمع من عثمان، وكان ثقة، وكنَّاه أبا فضالة. وقال العجلي: مدني ثقة. وذكر البخاري أنه روى عن عمر. وذكره العسكري فيمن لحق النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو القاسم البغوي: قال الواقدي: ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج له الجماعة، إلا الترمذي.
7 -
(كعب بن مالك) بن أبي كعب، واسمه عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السَّلمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو بشير المدني
الشاعر.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أسيد بن حضير. وعنه أولاده: عبد الله، وعبيد الله، ومحمد، ومعبد، ومعبد الرحمن، وابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الله، وابن عباس، وجابر، وأبو أمامة الباهلي، وعمر بن الحكم بن ثوبان،. وعمر بن الحكم بن رافع، وعمر بن كثير بن أفلح، وعلي بن أبي طلحة، وأبو جعفر الباقر، ولم يدركاه.
قال ابن الكلبي: شهد بدرًا، كذا قال. وقد صح عن كعب أنه قال: تخلفت عن بدر. وقال الهيثم بن عدي: توفي سنة 51. وقال ابن البرقي: مات قبل الأربعين. وذكر ابن حبان أنه مات أيام قتل علي. وقال الواقدي: سنة 50. وقال ابن عون، عن ابن سيرين: كان ثلاثة من الأنصار يهاجون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسان، وابن رواحة، وكعب بن مالك. وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، وأنزل فيهم:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]. وهو أحد السبعين الذين شهدوا العقبة. وقال ابن سعد: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين الزبير، وقيل: طلحة. أخرج له الجماعة. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، من رجال الجماعة، إلا شيخه،
فانفرد هو به، وأبو داود، وعبد الله بن كعب، فما أخرج له الترمذي.
ومنها: أن الثلاثة الأولين مصريون، فيونس، وإن كان أيليًا، إلا أنه نزل مصر، والباقون مدنيون.
ومنها: أن كعبًا، وولديه، هذا أول محل ذكرهم من الكتاب.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض؛ ابن شهاب، وعبد الرحمن بن كعب، وعبد الله بن كعب.
ومنها: أن فيه رواية الأخ عن أخيه، والابن عن أبيه.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الأخبار، والتحديث، والعنعنة، والسماع. والله أعلم.
شرح الحديث
(قال ابن شهاب) الزهري: (وأخبرني عبد الرحمن بن كعب ابن مالك) هكذا في رواية المصنف هنا وفي "الكبرى""عبد الرحمن بن كعب بن مالك"، وسيأتي للمصنف برقم -3422، و3423، و3424، و3425 - عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، وهي رواية البخاري في "المغازي". قال الحافظ رحمه الله: قوله: "عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب" ما نصه: كذا عند الأكثر، ووقع عن الزهري في بعض هذا الحديث رواية عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وهو عم عبد الرحمن بن عبد الله
الذي حدث به عنه هنا، وفي رواية عن عبد الله بن كعب، نفسه. قال أحمد بن صالح فيما أخرجه ابن مردويه: كان الزهري سمع هذا القدر من عبد الله بن كعب نفسه، وسمع هذا الحديث بطوله من ولده عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، وعنه أيضًا رواية عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن كعب، عن عمه عبيد الله بالتصغير. ووقع عند ابن جرير من طريق يونس، عن الزهري في أول الحديث بغير إسناد، قال الزهري: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، وهو يريد نصارى العرب، والروم بالشام، حتى إذا بلغ تبوك أقام بضع عشرة ليلة، ولقيه بها وقد أذرح، ووفد أيلة، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، ثم قفل من تبوك، ولم يجاوزها، وأنزل الله تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]، والثلاثة الذين خُلِّفُوا رهط من الأنصار في بضعة وثمانين رجلًا، فلما رجع صدقه أولئك، واعترفوا بذنوبهم، وكَذَبَ سائرهم، فحلفوا ما حبسهم إلا العذر، فقبل ذلك منهم، ونهى عن كلام الذين خلفوا. قال الزهري: وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب. فساق الحديث بطوله. اهـ "فتح الباري" جـ 8 ص 456.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي وقع عند ابن جرير بغير إسناد في أوله وقع نحوه عند مسلم. انظر "صحيح مسلم" جـ 8 ص 106.
ثم الظاهر مما ذكر أن الزهري يروي هذا الحديث عن الثلاثة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن أبيه عن كعب، وهي رواية
الأكثرين، وعن عبد الله بن كعب، عن كعب، وعن عبد الرحمن بن كعب، عن أخيه عبد الله بن كعب، كما هي رواية المصنف، ويرويه أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن عمه عبيد الله بن كعب، عن كعب، كما يأتي للمصنف (3425) إن شاء الله تعالى.
(أن عبد الله بن كعب) زاد في رواية الشيخين "وكان قائد كعب من بنيه حين عمي"، وفي رواية لمسلم من رواية معقل بن عبيد الله، عن الزهري، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن عمه عبيد الله بن كعب، وكان قائد كعب حين أصيب بصره، وكان أعلم قومه، وأوعاهم لأحاديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن عبد الله، وعبيد الله كانا يقودان أباهما بالتناوب، دون سائر بنيه. والله أعلم.
(قال: سمعت كعب بن مالك، يحدث) جملة في محل نصب على الحال من المفعول، أو مفعول ثان على رأي من يقول: إن "سمع" تتعدى إلى مفعولين (حين تخلف) مفعول به ليحدث، وليس منصوبًا على الظرفية له؛ لأن التحديث لم يقع فيه، وإنما وقع بعده بزمان، فهو واقع عليه، لا فيه، فهو مثل قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281].
والتخلف: التأخر، يقال: تخلف عن القوم: إذا قعد عنهم، ولم يذهب معهم. قاله في المصباح.
(عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) متعلق بتخلف، وكذا قوله:(في غزوة تبوك) بفتح التاء، وضم الباء الموحدة، وسكون الواو، آخره كاف. مكان معروف. قيل: سميت تبوك بالعين التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن لا يَحْسُوا من مائها شيئًا، فسبق إليها رجلان، وهي تَبِضُّ بشيء من ماء، فجعلا يُدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها، فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهما: فيما ذكر القتبي: "ما زلتما تبوكانها منذ اليوم"، قال القتبي: فبذلك سميت تبوك، والتبوك، كالنَّقش، والحَفْر في الشيء. ويَرُدُّ هذا ما رواه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لا تأتونها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي". فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها تبوك قبل أن يأتيها. وفي رواية ابن إسحاق، فقال: -يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "من سبق إليها؟ " قالوا: يا رسول الله فلان، وفلان، وفلان. وفي رواية الواقدي: سبقه إليها أربعة من المنافقين: مُعَتِّب بن قُشَير، والحارث بن يزيد الطائي، ووديعة بن ثابت، ويزيد بن لصيت.
وبينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة. وقال الكرماني: تبوك موضع بالشام. قال في عمدة القاري: فيه نظر؛ لأن أهل تقويم البلدان، قالوا: تبوك بُلَيْدة بين الحجر والشام، وبها عين ونخيل. وقيل: كان أصحاب الأيكة بها. والمشهور ترك الصرف للتأنيث والعلمية، وجاء في البخاري. "حتى بلغ تبوكًا" تغليبًا للموضع.
وغزوة تبوك -وتسمى غزوة العسرة- آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. وقال ابن سعد: خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب سنة تسع يوم الخميس، قالوا: بلغه صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت لَخْم، وجُذَام، وعاملة، وغسان، وقَدَّمُوا مقدماتهم إلى البَلْقاء، فَنَدَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وذلك في حرٍّ شديد، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة، وهو أثبت عندنا. وقال أبو عمر: الأثبت عندنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال ابن سعد: فلما سار تخلف ابن أبَيّ، ومن كان معه، فقدم صلى الله عليه وسلم تبوك في ثلاثين ألفًا من الناس، وكانت الخيل عشرة آلاف، وأقام بها عشرين يومًا يقصر الصلاة، ولحقه بها أبو ذر، وأبو خيثمة، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلق كيدًا، وقَدِمَ في شهر رمضان سنة تسع. وقال ابن الأثير في كتاب الصحابة عن أبي زرعة الرازي: شهد معه تبوك أربعون ألفًا. وفي كتاب الحاكم عن أبي زرعة: سبعون ألفًا. ويجوز أن يكون عد مرة المتبوع، ومرة التابع.
وقال البيهقي: وقد رُوِي في سبب خروجه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وسبب رجوعه خبر إن صح. ثم ذكر من حديث شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقًا أنك نبي فالْحَقْ بالشام، فإنها أرض المحشر، وأرض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فصَدَّقَ ما قالوا، فغزا غزوة
تبوك، لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل:{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} إلى قوله {تَحْوِيلًا} [الإسراء: 76، 77]، وأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها مَحْياك، وفيها مماتك، ومنها تبعث. الحديث. وهو مرسل بإسناد حسن. اهـ. عمدة القاري جـ 14 ص 377، 378.
قال الجامع عفا الله عنه: الحديث أخرجه البيهقي رحمه الله في "دلائل النبوة"ج 5 ص 254.
وقوله: مرسل حسن، من كلام العيني، لا من كلام البيهقي. وفي تحسينه نظر، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وفي هذا الإسناد نظر، والأظهر أن هذا ليس بصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالاً لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، ولقوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وغزاها ليقتص، وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه. والله أعلم. انظر "تفسير ابن كثير" جـ 3 ص 57.
(قال) كعب: (وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم) بتشديد الباء، من التصبيح، أي نزل صباحًا، وللبخاري:"وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أي صار، فقوله:(قادمًا) حال على الأول، وخبر على الثاني؛ لأن
"أصبح" تعمل عمل "كان"، أي نزل المدينة حال كونه قادمًا من تبوك، أو صار قادمًا منها (وكان) صلى الله عليه وسلم (إِذا قدم) بكسر الدال (من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس) فيه استحباب البداءة بالمسجد قبل البيت لمن قَدمَ من سفر، والجلوس للزائرين تسهيلًا عليهم، ورفقًا بهم. ولفظ أحمد من طريق ابن جريج، عن ابن شهاب:"لا يقدم من سفر إلا في الضحى، فيبدأ بالمسجد، فيصلي فيه ركعتين، ويقعد"، وفي رواية ابن أبي شيبة:"ثم يدخل على أهله". وللطبراني: "كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم يثني بفاطمة، ثم يأتي أزواجه"، وفي لفظ:"ثم بدأ ببيت فاطمة، ثم أتى بيوت نسائه". أفاده في "الفتح". جـ 8 ص 459.
(فلما فعل ذلك) أي ما ذكر من أداء ركعتين في المسجد، وجلوسه فيه للناس (جاءه المُخَلَّفُون) بصيغة اسم المفعول، والُمخَلَّف -كما قال الجوهري-: المتروك؛ أي خلَّفهم الله، وثبطهم، أو خلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لمَّا علموا تثاقلهم عن الجهاد. قولان. انظر تفسير القرطبي جـ 8 ص 116.
والمراد بهم هنا: الذين تأخروا عن الذهاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك.
(فطفقوا يعتذرون إِليه) قال المجد رحمه الله: وطفق يفعل كذا، كفرح، وضرب، طفْقًا، وطفوقًا: إذا واصل الفعل، خاص بالإثبات،
لا يقال: ما طفق. اهـ "ق". و"طفق" من أفعال الشروع التي ترفع المبتدأ، وتنصب الخبر، ويكون خبرها مضارعًا، ولا يجوز اقترانه بأن كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى:
....................
…
وَتَرْكُ أنْ مَعْ ذِي الشُّرُوع وَجَبَا
كَأنْشَأ السَائِقُ يَحْدُو وَطَفِقْ
…
كذَا جَعَلْتُ وَأخَذْتُ وَعَلِقْ
وجملة "يعتذرون في محل نصب خبرها. يعني أنهم شرعوا يقيمون العذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تأخرهم عن المسير معه إلى تبوك.
(ويحلفون له) أي يُقْسمُونَ بالله على عدم قدرتهم على الخروج معهم. والجملة عطف على "يعتذرون"، أو في محل نصب على الحال من الفاعل، بتقدير مبتدأ، كما قال ابن مالك أيضاً:
وَذاتُ بَدْءٍ بِمُضَارع ثَبَتْ
…
حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاو خَلَتْ
وَذَاتُ وَاوٍ بَعْدَهَا انْوِ مُبْتَدَا
…
لَهُ المُضَارِعَ اجْعَلَنَّ مُسْنَدَا
أي وهم يحلفون له.
(وكانوا بضعًا وثمانين رجلًا) قال الفيومي رحمه الله: و"بضع" في العدد بالكسر، وبعض العرب يفتح، واستعماله من الثلاثة إلى التسعة، وعن ثعلب: من الأربعة إلى التسعة. اهـ. وقال المجد رحمه الله: البضع ما بين العَقْدين، من واحد إلى عشرة، ومن أحد عشر إلى عشرين. ومع المذكر بهاء، ومعها بغير هاء يقال: بضعة
وعشرون رجلًا، وبضع وعشرون امرأة، ولا يعكس، أو البضع غير محدود؛ لأنه بمعنى القطعة. اهـ "ق".
والمراد أنهم كانوا أكثر من ثمانين وأقل من تسعين. قال في "الفتح" جـ 8 ص 459 - : ذكر الواقدي أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار، وأن المُعَذَّرين من الأعراب كانوا أيضًا اثنين وثمانين رجلًا من بني غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبَيّ ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء، وكانوا عددًا أكثر.
(فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم) أي ظاهرهم (وبايعهم) أي جدد البيعة لهم (واستغفر لهم) لِمَا حصل لهم من التقصير بسبب التخلف (ووَكَلَ) بفتح الواو، وتخفيف الكاف، يقال: وَكَلْت الأمر إليه وَكْلًا، من باب وَعَدَ، ووُكُولا: فوَّضته إليه، واكتفيت به. قاله في المصباح.
(سرائرهم) أي بواطن أمورهم (إِلى الله عز وجل لأنه العليم بذات الصدور، وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا يعلم ما في القلوب، إلا بالوحي، وإنما يحكم بالظاهر. فقد روت أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار". أخرجه الجماعة.
(حتى جئت، فلما سلمت تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضَب) بفتح الضاد المعجمة، أي كتبسم الرجل الذي أغضبه شيء.
قال في "الفتح" جـ 8 ص 460: وعند ابن عائذ في المغازي: "فأعرض عنه، فقال: يا نبي الله لِمَ تُعرِض عني؟ فوالله ما نافقت، ولا ارتبت، ولا بدلت، قال: فما خلفك"؟.
والظاهر أنه ما رد عليه السلام، ففيه مشروعية عدم رد السلام على العاصي، زجرًا له وعقوبة.
(ثم قال: تعال) فعل أمر من تَعَالى، يَتَعالى، تَعَالِيًا: إذا ارتفع. وأصله -كما قال الفيومي- أن الرجل العالي كان ينادي السافل، فيقول: تعالَ، ثم كثر في كلامهم حتى استعمل بمعنى "هَلُمَّ" مطلقًا، سواء كان موضع المدعوّ أعلى، أو أسفل، أو مساويًا، فهو في الأصل لمعنى خاص، ثم استعمل في معنى عام، ويتصل به الضمائر باقيًا على فتحه، فيقال: تعالَوْا، تعالَيا، تعالَين، وربما ضمت اللام مع جمع المذكر السالم، وكسرت مع المؤنثة.
(فجئت حتى جلست بين يديه) أخذ منه المصنف رحمه الله أنه جلس بلا صلاة، وهو وإن كان يحتمل أنه صلى قبل الجلوس، إلا أن الأول أظهر الاحتمالين بقرينة أنه وصف مجيئه، وسلامه على النبي صلى الله عليه وسلم، وجلوسه بين يديه، ووصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل المسجد ركعتين، فَتَرْكُه لذكر تحية المسجد مما يقوي احتمال أنه جلس بدون صلاة، فيكون من جملة صوارف الأمر في قوله:"فليركع ركعتين قبل أن يجلس" إلى الاستحباب. والله أعلم.
(فقال لي: ما خلَّفك؟) أيْ أيُّ شيء حملك على التأخر من الغزو؟ وفيه أنه ينبغي للإمام إذا رأى من بعض رعيته مخالفة، أن لا يبادر في عتابه وتوبيخه، بل يسأله عن سبب مخالفته، فلعله يكون له عذر (ألم تكن ابتعت ظهرك) أي اشتريت راحلتك. قال ابن منظور رحمه الله: والظهر: الركاب التي تحمل الأثقال في السفر لحملها إياها على ظهورها، وبنو فلان مظهرون إذا كان لهم ظهر ينقُلُون عليه، كما يقال: منْجِبون إذا كانوا أصحاب نجائب، وقال أيضًا: والظهر: الإبل التي يُحمل عليها ويُركب، يقال: عند فلان ظهر، أي إبل، وتجمع على ظُهْران بالضم. اهـ "لسان" باختصار.
(فقلت: يا رسول الله، إِني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني ساخرج من سخطه) بفتحتين، كالغضب، وزنًا ومعنى، والسُّخْط -بضم فسكون- اسم منه. يقال: سَخِطَ، سَخَطًا، من باب تعب، ويتعدى بنفسه، وبالحرف، فيقال: سخِطته، وسَخِطت عليه، وأسخطته، فسَخِطَ، مثل أغضبته، فغَضِبَ، وزناً ومعنى. قاله في المصباح.
(ولقد أعطيت) بالبناء للمفعول (جَدَلًا) مفعول ثان لأعْطِيَ. والجَدَل -بفتحتين-: اللَّدَدُ في الخصومة، والقدرة عليها، وقد جادل، مُجادلة، وجِدالاً، ورجل جَدِلٌ، ومِجْدل، ومِجْدال: شديد الجَدَل. قاله في اللسان.
وفي المصباح: جدِلَ الرجل جَدَلاً، فهو جَدِل، من باب تعب: إذا
اشتدت خصومته، وجادَلَ مجادلة، وجِدالا: إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق، ووضوح الصواب، هذا أصله، ثم استعمل على لسان حَمَلَة الشرع في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحق، وإلا فمذموم، ويقال: أول من دَوَّن الجدَلَ أبو عليّ الطبري. اهـ.
وأراد كعب هنا أنه أعطي فصاحة، وقوة كلام بحيث يخرج عن عهدة ما ينسب إليه بما يقبل، ولا يرد.
فجملة القسم بمنزلة التعليل لقوله: لرأيت أني سأخرج إلخ.
(ولكن والله لقد علمت) أي أيقنت (لئن حدثتك اليوم) أي في هذا اليوم، قال للعهد الحضوري، كما في قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ويحتمل أن يكون المراد به الدنيا، ويؤيده قوله عند البخاري:"بماذا أخرج من سخطه غدًا"(حديث كذب) من إضافة العام إلى الخاص (لترضى به عني، ليوشك الله عز وجل يسخطك علي) أي بما ينزله من الوحي بفضيحته، كما فعل بالمنافقين (ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي) بكسر الجيم: أي تغضب عليّ. يقال: وجَد عليه، من باب وَعَدَ، مَوْجدَةً: إذا غضب. والجملة في محل نصب صفة حديث (فيه) أي بسببه، ففي سببية (إِني لأرجو) أي أأمِّلُ، أو أريد، يقال: رجوته، أرجوه، رُجُوًّا، على فُعُول:
أمَّلْته، أو أردته، قال الله تعالى:{لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي لا يريدونه، والاسم الرجاء بالمد، ورجَيته، أرْجِيه، من باب رَمَى لغة. قاله في المصباح (عفو الله عز وجل بالنصب مفعول أرجو.
(والله ما كنت قط) قال في "ق": وما رأيته قَطُّ -بفتح القاف وضم الطاء المشددة- ويضمان، ويخففان، وقَطِّ، بالتشديد مجرورة: بمعنى الدهر، مخصوص بالماضي، أي فيما مضى من الزمان، أو فيما انقطع من عمري. وقال أيضًا: وتختص بالنفي ماضيًا، وتقول العامة: لا أفعله قطُّ، وفي مواضع من البخاري جاء بعد المثبت، منها في الكسوف:"أطول صلاة صليتها قط". وفي سنن أبي داود: "توضأ ثلاثًا قطُّ". وأثبته ابن مالك في الشواهد لغة، قال: وهي مما خفي على كثير من النحاة. اهـ.
ونظم شيخنا عبد الباسط بن محمد المِنَاسِيّ رحمه الله لغات "قط" المذكورة، فقال [من الرجز]:
وَخَمْسَةً جَعَلَ مَنْ قَطُّ ضَبَطْ
…
قَطُّ وَقُطُّ قَطِّ ثُمَّ قَطُ قَطْ
(أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك فقمت، فمضيت) أخذ المصنف رحمه الله تعالى منه جواز الخروج من المسجد دون أن يصلي ركعتين، فيكون من جملة صوارف الأمر إلى الاستحباب أيضًا.
(مختصر) خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا مختصر. يعني أن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه المذكور هنا مختصر من حديثه الطويل. وقد ساقه الشيخان رحمهما الله تعالى في "صحيحيهما" بطوله؛ البخاري في "المغازي"، ومسلم في "التوبة".
قال البخاري رحمه الله في "صحيحه" جـ 6 ص 3: حديث كعب ابن مالك، وقول الله عز وجل:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118].
حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله ابن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يُعَاتَب أحد تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإِسلام، وما أحب أن لي بها مَشْهَد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى، ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا
وَرَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد، واستقبل سفرًا بعيداً ومفاوز، وعَدُوًا كثيراً، فجَلَّى للمسلمين أمرهم ليَتَأهَّبُوا أهْبَة غَزْوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتابٌ حافظ -يريد الديوان- قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع، ولم أقض شيئًا، فأقول في نفسي أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي، حتى اشتد الناس بالجدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جَهَازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فَصَلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئًا، ثم غدوت، ثم رجعت، ولم أقض شيئًا، فلم يزل بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل، فأدْركهم، وليتني فعلت، فلم يُقَدَّر ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفقت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلًا مَغْمُوصًا عليه النفاق، أو رجلًا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال -وهو جالس في القوم بتبوك-: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سَلِمَة: يا رسول الله، حبسه برداه، ونظره في عطْفه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما عَلمنَا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلًا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول:
بماذا أخرج من سخطه غداً، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا، زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخَلَّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، وَوَكلَ سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلمت عليه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَب، ثم قال:"تَعَالَ"، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي:"ما خَلَّفَك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ " فقلت: بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جَدَلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخِطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى وأيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول صلى الله عليه وسلم:"أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك"، فقمت، وثار رجال من بني سَلمَة، فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبَكَ استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله
ما زالوا يُؤنّبُوني، حتى أردت أن أرجع، فأكَذِّب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مُرَارة بن الربيع العَمْريّ، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتَنَبَنَا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرتْ في نفسي الأرضُ، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي، فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج، فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام عليّ، أو لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل علي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوَّرْتُ جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إليّ فسلمت عليه، فوالله ما ردَّ عليّ السلام، فقلت يا أبا قتادة، أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله، فسكت، فقعدت له، فنشدته، فسكت، فقعدت له، فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت، حتى تسوَّرت الجدار، قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطِيّ من أنْبَاط أهل الشام، ممن قَدِمَ بالطعام يبيعة بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا
جاءني دفع إليّ كتاباً من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هَوَان، ولا مَضْيَعَة، فالْحَقْ بنا نُوَاسِك، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التَّنُّور، فَسَجَرْتُه بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطَلِّقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها، ولا تقربها، وأرسل إلى صَاحِبَيّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي الْحقي بأهلك، فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه، قال:"لا، ولكن لا يَقْرَبْك"، قالت: إنه والله ما به حَرَكَة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخْدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب، فلبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صُبْحَ خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت
صوت صارخ أوفَى على جبل سَلْعٍ بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فَرَج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَلَ صاحبيَّ مبشرون، وركض إليّ رجل فرسًا، وسعى ساع من أسلم، فأوفَى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبَيَّ، فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين، فلبستهما، وانطلقت إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنُّوني بالتوبة، يقولون: لِتَهْنك توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهَرْوِل حتى صافحني، وهنّاني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرُقُ وجهه من السرور:"أبشر بخير يوم مَرَّ عليك منذ ولدتك أمك"، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال:"لا، بل من عند الله"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله، وإلى رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك" قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا
رسول الله، إن الله نجّاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيتُ، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بَقِيتُ، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117 - 119]، فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كَذَبُوا، فإن الله قال للذين كذَبُوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95 - 96]. قال كعب: وكنا تخَلَّفْنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبِلَ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قَضَى الله فيه، فبذلك قال الله:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} ، وليس الذي ذكر الله مما خُلّفنا عن الغزو، إنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه. اهـ "صحيح البخاري" جـ 6 ص 3 - 9. والله تعالى أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
***
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث كعب بن مالك رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (38/ 731) عن سليمان بن داود، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أخيه، عبد الله بن كعب، عن أبيه رضي الله عنه. و"الطلاق"(18/ 3422) عن سليمان، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن كعب بقصة اعتزال امرأته. و (3423) عن محمد بن جَبَلَةَ، ومحمد بن يحيى، كلاهما عن محمد بن موسى بن أعين، عن أبيه، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، به. و (3424) عن يوسف بن سعيد، عن حجاج ابن محمد، عن الليث بن سعد، به. و (3425) عن محمد بن معدان، عن الحسن بن محمد بن أعين، عن مَعْقِل بن عبيد الله، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن عمه عبيد الله بن كعب، عن أبيه، به.
وأخرجه في "الكبرى" - في "الصلاة"(38/ 810) بلفظ الباب. والسير (117/ 8776) عن سليمان بن داود، عن ابن وهب، عن
يونس، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أخيه عبد الله بن كعب، عن أبيه رضي الله عنه بلفظ:"صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً المدينة، وكان إذا قدم من سفر أتى المسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس". وفي "السير"(117/ 8775) عن عمرو بن علي، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه عبد الله، وعمه عبيد الله بن كعب، كلاهما عن كعب بن مالك رضي الله عنه بلفظ:"كان لا يقدم من سفر إلا نهاراً ضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه". و (8777) عن يوسف بن سعيد، عن حجاج ابن محمد، عن ليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن كعب بنحوه. و (118/ 8778) عن محمد بن معدان، عن الحسن بن محمد بن أعين، به بلفظ:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد وجهًا إلا ورى بغيره حتى كانت غزوة تبوك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلى للناس فيها أمره، وأراد أن يتأهب الناس أهبة غزوهم". و (8779) عن محمد بن جبلة، ومحمد ابن يحيى بن محمد الحراني، كلاهما عن محمد بن موسى بن أعين، عن أبيه، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري به، بنحوه. و (123/ 8785) عن إبراهيم بن الحسن، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن
جده، بقصة الخروج يوم الخميس. و (8786) عن محمد بن معدان، عن الحسن بن أعين، عن معقل، به بلفظ:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد وجهاً إلا ورى بغيره، حتى كانت غزوة تبوك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلى للناس فيها أمره، وأراد أن يتأهب الناس أهبة غزوهم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً يوم الخميس". و (8787) عن سليمان بن داود، عن ابن وهب، به، بلفظ:"قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر جهاد وغيره إلا يوم الخميس". والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
فأما حديث تخلفه في غزوة تبوك، وتوبة الله عليه
…
الحديث بطوله -منهم من اختصره- فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود.
فأخرجه البخاري في "الوصايا"، وفي "الجهاد"، وفي "صفة النبي صلى الله عليه وسلم"، وفي "وفود الأنصار"، وموضعين من "المغازي"، وموضعين من "التفسير" و"الاستئذان"، و"الأحكام" مطولاً ومختصرًا عن يحيى بن بكير، عن ليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن كعب ابن مالك، عن أبيه، عن كعب. وفي "التفسير" أيضًا عن محمد بن أحمد ابن أبي شعيب، عن موسى بن أعين، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، به.، وفي "النذور والأيمان" عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب -وعنبسة- كلاهما عن يونس، عن الزهري، به. وفي وفود الأنصار عن أحمد بن صالح، عن عنبسة بإسناده.
وأخرجه مسلم في "التوبة" عن أبي الطاهر، عن ابن وهب -بطوله.
وعن محمد بن رافع، عن حُجَيْن بن المُثَنَّى، عن الليث نحوه.
وأخرجه أبو داود في "الطلاق" عن أبي الطاهر بن السرح، وسليمان بن داود، كلاهما عن ابن وهب -بقصة اعتزاله امرأته.
وأما حديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر ضُحًى بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين". وهو طرف من الحديث الذي قبله؛ فأخرجه البخاري في "الجهاد" عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، وعمه عبيد الله، عن أبيهما كعب، به. وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي موسى، عن أبي عاصم به. وعن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، به. وأخرجه أبو داود في "الجهاد" عن محمد ابن المتوكل العسقلاني، والحسن بن علي الخلال، كلاهما عن عبد الرزاق بإسناده نحوه. وعن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري -أتم منه، ولم يذكر عبيد الله في إسناده. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
حديثُ كعب بن مالك رضي الله عنه بطوله، له -كما قال بعض العلماء- أكثر من خمسين فائدة:
فمنها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو الرخصة في الجلوس في المسجد، والخروج منه بغير صلاة. وقد تقدم البحث عنه.
ومنها: جواز طلب أموال الكفار من ذوي الحرب.
ومنها: جواز الغزو في الشهر الحرام.
ومنها: التصريح بجهة الغزو إذا لم تقتض المصلحة ستره.
ومنها: أن الإِمام إذا استنفر الجيش عمومًا لزمهم النفير، ولحق اللوم بكل فرد إن تخلف. وقال السهيلي رحمه الله: إنما اشتد الغضب على من تخلف، وإن كان الجهاد فرض كفاية، لكنه في حق الأنصار خاصة فرض عين؛ لأنهم بايعوه على ذلك، ومصداق ذلك قولهم، وهم يحفرون الخندق [من الرجز]:
نَحْنُ الذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا
…
عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أبَدًا
فكان تخلفهم عن هذه الغزوة كبيرة؛ لأنها كالنكث لبيعتهم، كذا قال ابن بطال رحمه الله. قال السهيلي: ولا أعرف له وجهًا غير الذي قال. قال الحافظ رحمه الله: وقد ذكرت وجهًا غير الذي ذكره، ولعله أقعد، ويؤيده قوله تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] وعند الشافعية وجه أن الجهاد كان فرض عين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا، فيتوجه العِتاب على من تخلف مطلقًا.
ومنها: إباحة الغنيمة لهذه الأمة، إذ قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش.
ومنها: أن العاجز عن الخروج بنفسه، أو بماله لا لوم عليه.
ومنها: استخلاف الإِمام مَنْ يقوم مقامه على أهله والضعفة.
ومنها: ترك قتل المنافقين، ويستنبط منه ترك قتل الزنديق إذا أظهر التوبة. وأجاب من أجازه بأن الترك كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة التأليف على الإِسلام.
ومنها: عظم أمر المعصية. وقد نبه الحسن البصري رحمه الله تعالى على ذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم عنه، قال: يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حرامًا، ولا سفكوا دمًا حرامًا، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟.
ومنها: أن القوىّ في الدِّين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بَلْتَعَة رضي الله عنه، ولا هجره، حين كاتب قريشًا بتوجه النبي صلى الله عليه وسلم لغزوهم، وعاقب كعباً وصاحبيه.
أجيب: بأن حاطبًا إنما كاتب قريشًا خشية على أهله وولده، فأراد أن يتخذ له عندهم يدًا، فقبل عذره ذلك، بخلاف كعب وصاحبيه، فإنهم لم يكن لهم عذر أصلًا. أفاده في "الفتح" جـ 8 ص 461.
ومنها: أنه يجوز إخبار المرء عن تقصيره، وتفريطه، وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمره تحذيراً ونصيحة لغيره.
ومنها: جواز مدح المرء بما فيه من الخير إذا أمن الفتنة.
ومنها: تسلية نفسه عما لم يحصل له بما وقع لنظيره.
ومنها: فضل أهل بدر، والعقبة.
ومنها: جواز الحلف للتأكيد من غير استحلاف.
ومنها: جواز التورية عن المقصد.
ومنها: رد الغيبة عن المسلم.
ومنها: جواز ترك وطء الزوجة مدة.
ومنها: أن المرء إذا لاحت له فرصة في الطاعة فحقه أن يبادر إليها، ولا يسوِّف بها لئلا يُحْرمَها، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] ومثله قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] ونسأل الله تعالى أن يلهمنا المبادرة إلى طاعته، وأن لا يسلبنا ما خَوَّلَنا من نعمته. آمين.
ومنها: جواز تمني ما فات من الخير.
ومنها: أن الإِمام لا يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور، بل يُذَكّرُه ليراجع التوبة.
ومنها: جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حمية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد وَهَمُ الطاعن، أو غلطه.
ومنها: أن المستحب للقادم أن يكون على وضوء، وأن يبدأ بالمسجد قبل بيته، فيصلي فيه، ثم يجلس لمن يسلم عليه.
ومنها: مشروعية السلام على القادم وتلقيه.
ومنها: الحكم بالظاهر، وقبول المعاذير.
ومنها: استحباب بكاء العاصي أسَفًا على ما فاته من الخير.
ومنها: إجراء الأحكام على الظاهر، ووكول السرائر إلى الله تعالى.
ومنها: ترك السلام على من أذنب، وجواز هجره أكثر من ثلاث، وأما النهي عن الهجر فوق ثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيًا.
ومنها: أن التبسم قد يكون عن غضب، كما يكون عن تعجب، ولا يختص بالسرور.
ومنها: معاتبة الكبير أصحابه، ومن يَعِزُّ عليه دون غيره.
ومنها: بيان فائدة الصدق وشؤم عاقبة الكذب.
ومنها: العمل بمفهوم اللقب إذا حَفَّتْه قرينة، لقوله صلى الله عليه وسلم لَمَّا حدثه كعب:"أما هذا فقد صدق"، فإنه يشعر بأن سواه كذَبَ، لكن ليس على عمومه في حق كل أحد سواه؛ لأن مُرَارة، وهلالاً أيضًا قد صدقا، فيختص الكذب بمن حلف، واعتذر، لا بمن اعترف، ولهذا عاقب من صَدَق بالتأديب الذي ظهرت فائدته عن قريب، وأخّر من كَذَبَ للعقاب الطويل، وفي الحديث الصحيح:"إذا أراد الله بعبده خيرًا عَجَّل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد به شرّاً أمسك عنه عقوبته، فيرِدُ القيامة بذنوبه". قيل: وإنما غُلِّظَ في حق هؤلاء الثلاثة لأنهم تركوا الواجب عليهم من غير عذر، ويدل عليه قوله تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] وقول الأنصار [من الرجز]:
نَحْنُ الذِين بَايَعُوا مُحَمَّدًا
…
عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أبَدَا
ومنها: تبريد حَرِّ المصيبة بالتأسي بالنظير.
ومنها: عظم مقدار الصدق في القول والفعل، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرِّهما به.
ومنها: أن من عوقب بالهجر يُعذَر في التخلف عن صلاة
الجماعة؛ لأن مُرَارة وهلالاً لم يخرجا من بيوتهما تلك المدة.
ومنها: سقوط رد السلام على المهجور عمن سلم عليه إذ لو كان واجباً لم يقل كعب: هل حرك شفتيه برد السلام؟.
ومنها: جواز دخول المرء دار جاره وصديقه بغير إذنه ومن غير الباب إذا علم رضاه.
ومنها: أن قول المرء: "الله ورسوله أعلم" ليس بخطاب، ولا كلام، ولا يحنث به من حلف أن لا يكلم فلاناً إذا لم ينو به مكالمته، وإنما قال أبو قتادة ذلك لمَّا ألحَّ عليه كعب، وإلا فقد تقدم أن رسول ملك غسان لَمَّا سأل عن كعب جعل الناس يشيرون له إلى كعب، ولا يتكلمون بقولهم مثلًا: هذا كعب، مبالغة في هجره، والإعراض عنه.
ومنها: أن مسارقة النظر في الصلاة لا تقدح في صحتها.
ومنها: إيثار طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على مَوَدَّة القريب.
ومنها: مشروعية خدمة المرأة زوجها.
ومنها: الاحتياط بمجانبة ما يخاف منه الوقوع في منهي عنه حيث لم يستأذن كعب في خدمة امرأته لذلك.
ومنها: جواز تحريق ما فيه اسم الله تعالى للمصلحة.
ومنها: مشروعية سجود الشكر.
ومنها: مشروعية الاستباق إلى البشارة بالخير.
ومنها: مشروعية إعطاء البشير أنْفَسَ ما يحضر الذي يأتيه بالبشارة.
ومنها: مشروعية تهنئة من تجددت له نعمة، والقيام إليه إذا أقبل.
ومنها: اجتماع الناس عند الإِمام في الأمور المهمة.
ومنها: سرور الإِمام بما يَسُرُّ أتباعه.
ومنها: مشروعية العارية.
ومنها: مشروعية مصافحة القادم.
ومنها: التزام المداومة على الخير الذي ينتفع به.
ومنها: استحباب الصدقة عند التوبة.
ومنها: أن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
راجع "الفتح" جـ 8 ص 466 - 467. و"عمدة القاري" جـ 14 ص 389.
39 - صَلاةُ الذِي يَمُرُّ عَلَى المَسْجِدِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الصلاة في المسجد لمن مر به، وإن لم يقصد الاعتكاف فيه. لكن الاستدلال بحديث الباب غير صحيح؛ لأن في سنده مروان بن عثمان، وهو ضعيف، كما يأتي، إن شاء الله تعالى.
732 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَرْوَانُ بْنُ عُثْمَانَ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ حُنَيْنٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: كُنَّا نَغْدُو إِلَى السُّوقِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَمُرُّ عَلَى الْمَسْجِدِ فَنُصَلِّي فِيهِ.
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعْيَنَ) المصري الفقيه، ثقة، توفي سنة 268، وله 86 سنة، من [11]، أخرج له النسائي، تقدم في 120/ 166.
2 -
(شعيب) بن الليث بن سعد الفَهْمِيّ مولاهم، أبو عبد الملك
المصري، ثقة نبيل فقيه، توفي سنة 199 وله 64 سنة، من كبار [10]، أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، تقدم في 120/ 166.
3 -
(الليث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور، توفي سنة 175 من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35.
4 -
(خالد) بن يزيد الجُمَحِي، ويقال: السَّكْسَكِيّ، أبو عبد الرحيم المصري، ثقة فقيه توفي سنة 139، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 41/ 686.
5 -
(ابن أبي هلال) هو سعيد الليثي مولاهم، أبو العلاء المصري، صدوق، حكي عن أحمد أنه قال: اختلط، توفي قبل سنة 130، وقيل غير ذلك، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 41/ 686.
6 -
(مروان بن عثمان) بن أبي سعيد بن الُمعَلَّى الأنصاري الزُّرقِيّ، أبو عثمان المدني، ضعيف من [6].
قال أبو حاتم: ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحافظ رحمه الله: ذكر المزي رحمه الله أنه رَوَى عن أم الطفيل. وفيه نظر، فإن روايته إنما هي عن عمارة بن عمرو بن حزم، عن أم الطفيل امرأة أُبَيّ، في الرؤية، وهو متن منكر، قال أبو بكر بن الحداد الفقيه: سمعت
النسائي يقول: ومن مروان بن عثمان؟ حتى يصدَّق على الله عز وجل. اهـ. تت جـ 10 ص 95. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنف.
7 -
(عُبَيْد بن حُنَيْن) -بنونين مصغرًا- أبو عبد الله المدني، مولى آل زيد بن الخطاب، ويقال: مولى بني زُرَيق. ثقة قليل الحديث من [3].
قال ابن سعد: كان ثقة، وليس بكثير الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. له عند أبي داود حديث في النهي عن بيع السلعة حيث تباع. قال الواقدي، وغيره: مات سنة خمس ومائة، وهو ابن سبعين سنة. قال المزي: وكان في الكمال: وهو ابن تسعين سنة، بتقديم التاء. قال: وهو خطأ. قال الحافظ: بل هو الصواب، فهو ثابت فيما ذكره ابن سعد، عن الواقدي، وكذا في ثقات ابن حبان، ومما يؤيده أن الواقدي روى عنه أنه قال: قلت لزيد بن ثابت مَقْتلَ عثمان: اقرأ عليَّ الأعراف، فقال: اقرأها علي أنت، قال: فقرأتها عليه، فما أخذ علي ألِفًا، ولا واوًا. انتهى. وكان مقتل عثمان سنة -35 - فلو كان كما ذكر المزي كان يكون عمره إذ ذاك خمس سنين، ويبعد أن مثله يحفظ سورة الأعراف، ويتأهل لأن يقرأها على زيد بن ثابت. اهـ تت. جـ 7 ص 63. أخرج له الجماعة.
8 -
(أبو سعيد بن المعلى) بن لوذان بن حبيب بن عدي بن زيد ابن ثعلبة بن مالك بن زيد مناة الأنصاري المدني، صحابي، يقال: اسمه رافع بن أوس بن المعلى. وقيل: الحارث بن أوس بن المعلى. وقيل: الحارث بن نفيع الخزرجي. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه حفص بن عاصم، وعبيد بن حنين. قال أبو حسان الزيادي، توفي سنة -73 - وهو ابن أربع وستين. وقال غيره: توفي سنة -74 - قال الحافظ. هو قول الواقدي، لكن رواه أبو الشيخ في تاريخه عن الواقدي، فقال: سنة -94 - بتقديم التاء على السين. وقال ابن حبان: اسمه رافع بن المعلى. وقال ابن عبد البر: من قال فيه رافع بن المعلى، فقد وَهِم؛ لأن رافع بن المعلى قتل ببدر، وأصح ما قيل فيه: الحارث بن نفيع بن المعلى، توفي سنة -74 - وهو ابن -84 - سنة. أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من ثمانيات المصنف، وأن رجاله ما بين مصريين، ومدنيين، فإلى ابن أبي هلال مصريون، ومن بعده مدنيون، وفيه رواية الابن عن أبيه، شعيب، عن الليث، وأن صحابيه، ممن اشتهر بكنيته، وأن هذا الباب أول موضع ذكره في هذا الكتاب، وفيه الإخبار، والتحديث والعنعنة. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي سعيد بن المعلى) الأنصاري رضي الله عنه، أنه (قال: كنا نغدو إلى السوق) أي نذهب إلى السوق، يقال: غدا، غُدُوّاً، من باب قعد: ذهب غُدْوَةً، وهي ما بين صلاة الصبح، وطلوع الشمس، وجمع الغُدْوة: غُدًى، مثل مُدْية، ومُدًى، هذا أصله، ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أيَّ وقت كان، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:"واغد يا أُنيَس".
والسوق: موضع البِيَاعات. قال ابن سيده: السوق التي يُتعَامل فيها تذكر، وتؤنث، قال الشاعر في التذكير [من الطويل]:
ألمْ يَعِظِ الفِتْيَانَ مَا صَارَ لِمَّتِي
…
بِسُوق كثِيرٍ رِيحُهُ وَأعَاصِرُه
عَلَوْنِي بِمَعْصُوبٍ كَأنَّ سَحِيفَهُ
…
سَحِيفُ قُطَامِيٍّ حَمَامًا يُطَايِرُهْ
المعصوب: السَّوْط، وسحيفه: صوته. وجمع السوق: أسواق؛ والسوقة لغة. أفاده في اللسان.
(على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في زمانه، متعلق بنغدو، كسابقه (فنمر على المسجد) قال الفيومي رحمه الله: يقال: مَرَّ يزيد، وعليه مَرّاً، ومُرُورًا، ومَمَرّاً: اجتاز (فنصلي فيه) هذا موضع استدلال المصنف رحمه الله تعالى على مشروعية الصلاة لمن مر في المسجد، ولكن الحديث لا يصح. فتبصر. والله سبحانه، وتعالى أعلم.
تنبيه:
حديث الباب ضعيف، لضعف مروان بن عثمان، وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا (39/ 732)، و"الكبرى"(39/ 811) بالسند المذكور. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
40 - التَّرغِيبُ فِي الجُلُوس فِي المَسْجِدِ وانْتَظَار الصَّلاةِ
أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على الترغيب في الجلوس في المسجد بعد الصلاة، وانتظار الصلاة الأخرى ليصليها في جماعة.
733 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِى صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس الإِمام الحجة المثبت المدني، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(أبو الزناد) عبد الله بن ذكران القرشي، أبو عبد الرحمن المدني، ثقة فقيه توفي سنة 130، وقيل: بعدها، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.
4 -
(الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود المدني، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت عالم، توفي سنة 117، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.
5 -
(أبو هريرة) الصحابي الشهير رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، نبلاء، اتفق عليهم الجماعة.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني.
ومنها: أنه مما قيل فيه: إنه أصح أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، أبي الزناد عن الأعرج.
ومنها: أن صحابيه أحفظ مَن رَوَى الحديث في دهره، رَوَى -5374 - حديثًا.
ومنها: أن فيه الإخبارَ، والعنعنةَ، والقولَ. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِن الملائكة تصلي على أحدكم) أي تستغفر له، قيل: عَبَّرَ بتصلي
ليتناسب الجزاء مع العمل. قاله في الفتح (ما دام في مصلاه الذي صلى فيه)"ما" مصدرية ظرفية، وجملة "دام" صلتها، أي مدة دوامه في المكان الذي صلى فيه من المسجد، ينتظر صلاة أخرى، كما يدل عليه الحديث التالي. ويحتمل أن المراد بالمصلى المسجد كله، ويؤيده ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد، ما لم يحدث". فقال رجل أعجمي: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال الصوت. -يعني الضرطة- ولفظ الترمذي: "لايزال أحدكم في صلاة ما دام ينتظرها، ولا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في المسجد، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث، فقال رجل من حضرموت: وما الحدث يا أبا هريرة؟ فقال: فُساء، أو ضُراط". فأفاد أنه لو انتقل إلى موضع آخر من المسجد غير موضع صلاته منه يحصل له ذلك الثواب.
وقال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله: هل المراد بمصلاه البقعة التي صلى فيها من المسجد، حتى لو انتقل إلى بقعة أخرى في المسجد لم يكن له هذا الثواب المترتب عليه، أو المراد بمصلاه جميع المسجد الذي صلى فيه؟ يحتمل كلًا من الأمرين، والاحتمال الثاني أظهر، وأرجح، بدليل رواية البخاري:"ما دام في المسجد"، وكذا في رواية الترمذي، فهذا يدل على أن المراد بمصلاه جميع المسجد، وهو واضح، ويؤيد الاحتمال الأول قوله في رواية مسلم، وأبي داود، وابن ماجه: "ما دام
في مجلسه الذي صلى فيه". اهـ طرح. جـ 2 ص 367.
وقال السندي رحمه الله: قوله: "في مصلاه" لفظ الحديث يعم المسجد وغيره، وكان المصنف حمله على الخصوص للرواية التي بعدها، فإن فيه ما يقتضي الخصوص في الجملة، وعلى كل تقدير فالمراد بقعة صلى فيها فقط، أو تمام المسجد مثلًا، والأول هو الظاهر، ويحتمل الثاني أيضًا. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي ما رجحه ولي الدين رحمه الله تعالى. والله أعلم.
وقال في "المنهل" جـ 4 ص 83: ولا فرق في ذلك بين المسجد ومصلى البيت، فلو جلست المرأة في مصلى بيتها تنتظر وقت صلاة أخرى لم يبعد أن تصلي عليها الملائكة أيضًا؛ لأنها حبست نفسها لأجل الصلاة. اهـ.
وقال في "الطرح": قوله: "في مصلاه" يقتضي حصول الثواب المذكور بمجرد جلوسه في مصلاه، حتى يخرج، لكن رواية البخاري تقتضي تقييد حصول الثواب يكون جلوسه ذلك لانتظار الصلاة، فإنه قال فيها:"ما دام في المسجد ينتظر الصلاة"، وهو واضح.
قال ابن بطال: ويدخل في ذلك من أشبههم في المعنى ممن حبس نفسه على أفعال البِرِّ كلها. والله أعلم. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: فيما قاله ابن بطال نظر، إذ الحديث نص في التقييد بالصلاة، حيث قال:"لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أنه ينقلب إلى أهله إلا الصلاة". متفق عليه. ففيه أنه لو حبسه غير الصلاة لم يكن له هذا الفضل. والله أعلم.
(ما لم يحدث)"ما" مصدرية ظرفية أيضًا، أي مدة عدم حدثه. ويحدث -بضم الياء، وكسر الدال- مضارع أحدث رباعيًا. أي ما لم ينقض وضوؤه، وظاهره العموم لغير الاختياري، أيضًا، ويحتمل الخصوص. قاله السندي رحمه الله.
وفي رواية للبخاري من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"ما لم يُؤْذِ، يُحْدِثْ فيه". قال الحافظ: كذا للأكثر بالفعل المجزوم على البدلية، ويجوز الرفع على الاستئناف، وللكشميهني "ما لم يؤذ بِحَدَثٍ" بلفظ الجار والمجرور متعلقًا بيؤذ. والمراد بالحدث الناقض للوضوء، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك، لكن صرح في رواية أبي داود من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه بالأول. اهـ فتح جـ 2 ص 142.
وفي رواية لمسلم: "ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه". وفي رواية أبي داود: "ما لم يؤذ فيه، أو يحدث فيه".
أي لم يخرج منه ناقض للوضوء، والمراد به خروج الريح، لما تقدم من قول أبي هريرة رضي الله عنه لما سأله السائل ما الحدث؟ قال:
فُسَاء، أو ضُرَاط.
قال في المرقاة: ولعل سببَ الاستفسار إطلاقُ الحدث على غير ذلك عندهم، أو ظنوا أن الإحداث بمعنى الابتداع. قال السفاقسي: الحدث في المسجد خطيئة يُحْرَمُ به المحدثُ استغفار الملائكة، ولما لم يكن للحديث فيه كفارة ترفع أذاه، كما يرفع الدفن أذى النخامة فيه عوقب بحرمان الاستغقار من الملائكة لما آذاهم به من الرائحة الخبيثة.
وقال ابن بطال: من أراد أن تُحَط عنه ذنوبه من غير تعب، فليغتنم ملازمة مصلاه بعد الصلاة، ليستكثر من دعاء الملائكة، واستغفارهم له، فهو مرجُوُّ إجابته، لقوله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] اهـ عمدة القاري جـ 4 ص 203 - 204.
(اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) بيان لصلاة الملائكة، بتقدير "تقول"، أو قائلة، وفي رواية للبخاري:"اللهم صل عليه" وزاد في رواية مسلم، وابن ماجه:"اللهم تب عليه" والفرق بين المغفرة والرحمة أن المغفرة ستر الذنوب، والرحمة إفاضة الإحسان. أفاده العيني.
وقال في الفتح جـ 2 ص 361: قوله: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه" هو مطابق لقوله تعالىْ: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] قيل: السر فيه أنهم يَطَّلِعون على أفعال بني آدم، وما فيها من المعصية والخَلَل في الطاعة، فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك؛ لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من تحفظ من ذلك، فإنه يعوض من المغفرة بما يقابلها
من الثواب. اهـ.
وقال ابن بطال رحمه الله: إن هذا الحديث تفسير لقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7] يريد المصلين والمنتظرين للصلاة. اهـ.
وقد سمى الله تعالى الصلاة إيمانًا في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم نزلت في الذين ماتوا قبل تحويل القبلة، كما ثبت في الصحيح. اهـ "طرح" جـ 2 ص 367. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (40/ 733) و"الكبرى"(40/ 812) عن قتيبة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه. وذكر في "تحفة الأشراف" جـ 10 ص 191 أن النسائي أخرجه في "الملائكة" عن ابن القاسم، عن مالك به. وقال: حديث محمد بن مسلمة ليس في الرواية، ولم يذكره أبو القاسم. اهـ. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه من رواية الأعرج البخاري في "الصلاة" عن القعنبي، وعن
عبد الله بن يوسف، وأبو داود فيه عن القعنبي، كلاهما عن مالك به.
وأخرجه من رواية أبي صالح عنه البخاري في "الصلاة" عن مسدد، ومسلم فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، وأبو داود فيه عن مسدد، والترمذي فيه عن هناد بن السري، وابن ماجه فيه عن أبي بكر ابن أبي شيبة أربعتهم عن أبي معاوية، عن الأعمش عنه، به مطولًا.
وأخرجه مسلم من رواية أبي رافع عنه في "الصلاة" عن محمد بن حاتم، عن بهز بن أسد، وأبو داود عن موسى بن إسماعيل، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عنه، به.
وأخرجه مسلم من رواية ابن سيرين عنه في "الصلاة" عن ابن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن أيوب السختياني، عنه، به.
وأخرجه البخاري من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، عنه في الشرب عن إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فليح، عن أبيه، عن هلال بن علي، عنه، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، الترغيب في الجلوس في المسجد وانتظار الصلاة.
ومنها: فضيلة من انتظر الصلاة مطلقًا، سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد، أو تحول إلى غيره.
ومنها: أنه ينبغي لمن يجلس في المسجد أن يكون على طهارة، وأن يبتعد عن الأذى.
ومنها: أن الحدث في المسجد يبطل استغفار الملائكة ودعاءهم، ولو استمر جالسًا.
ومنها: أن الحدث في المسجد أشد من النخامة فيه؛ لأنها تكفر بالدفن، ولا يُحْرَم بها صاحبها من استغفار الملائكة.
ومنها: أنه يستدل به على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال، لما ذكر من صلاة الملائكة عليه، ودعائهم له بالرحمة والمغفرة والتوبة.
ومنها: أنه يستدل به على تفضيل صالحي الناس على الملائكة، لأنهم يكونون في تحصيل الدرجات بعبادتهم، والملائكة مشغولون بالاستغفار، والدعاء لهم. قاله في الفتح.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاستدلال غير واضح؛ لأن الاستغفار والدعاء لهم لا يدل على ذلك، فإن ذلك امتثال لأمر الله تعالى، كما أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار للمؤمنين، لا يدل على ذلك. فتبصر.
ومنها: أن الحدث لا يمنع الجلوس في المسجد، وقد اختلف السلف في الجلوس في المسجد للمحدث، فروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه خرج من المسجد، فبال، ثم دخل فتحدث مع أصحابه، ولم يمس ماء، وعن علي رضي الله عنه مثله، وروي ذلك
عن عطاء، والنخعي، وابن جبير. وكره ابن المسيب، والحسن البصري أن يتعمد الجلوس في المسجد على غير وضوء. قاله في "العمدة" جـ 4 ص 204. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: قال في "الطرح" جـ 2 ص 366:
ما المراد بكونه في مصلاه، هل قبل صلاة الفرض، أم بعد الفراغ من الفرض؟ يحتمل الأمرين، وقد بوَّب البيهقي رحمه الله "الترغيب في مكث المصلي في مصلاه لإطالة ذكر الله تعالى". وهذا يدل أن المراد الجلوس بعد الفراغ من صلاة الفرض، وهو ظاهر قوله أيضًا:"في مصلاه الذي صلى فيه"، ويكون المراد بجلوسه انتظار صلاة أخرى، لم تأت، وهو مصرح به في بعض طرق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند أحمد، ولفظه:"منتظر الصلاة بعد الصلاة، كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كشحه، تصلي عليه ملائكة الله، ما لم يحدث، أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر".
(1)
وفي الصحيح أيضًا: "وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط". وروى ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بإسناد صحيح: "صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فرجع من
(1)
أخرجه أحمد في مسنده، ورجاله رجال الصحيحين، غير نافع بن سليمان، وهو وثقه ابن معين، كما في تعجيل المنفعة ص 274. وعبد الرحمن بن مهران، أخرج له مسلم حديثًا، وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات". والله أعلم.
رجع، وعقَّب من عقَّب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً، قد حَفَزَه النفَسُ، قد حَسَرَ عن ركبتيه، قال:"أبشروا هذا ربكم، قد فتح باباً من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي، قد قضوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى".
ويحتمل أن يراد إنتظار الصلاة قبلها، ويكون قوله:"ما دام في مصلاه الذي صلى فيه"، أي الذي صلى فيه تحية المسجد، أو سنة الصلاة مثلًا، ويدل على أن هذا هو المراد: قوله في بعض طرقه عند مسلم: "فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه". الحديث. ويدل عليه أيضًا حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح في تأخير العشاء إلى شطر الليل، وقوله صلى الله عليه وسلم:"صلى الناس، ورقدوا، ولم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها". اهـ "طرح" جـ 2 ص 366 - 367.
المسألة السادسة: قال في "الطرح" جـ 2 ص 367 - أيضًا:
قد يستدل بصلاة الملائكة بلفظ: "اللهم صل عليه" على جواز إفراد آحاد الناس من غير الأنبياء بالصلاة عليه. وقد اختلف فيه أصحابنا على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خلاف الأولى والثاني: مكروه. والثالث: حرام.
وقد حكى عن نص الشافعي الجواز، ومما روينا عنه من شعره، قوله:
عَلَى آل الرَّسُولِ صَلاةُ رَبِّي
…
.......................
وقد يجيب من ذهب إلى المنع أنه لا يلزم من دعاء الملائكة بذلك جوازه لنا؛ لأنهم ليسوا في محل التكليف بما ألزم به بنو آدم. اهـ "طرح" جـ 2 ص 367.
قال الجامع عفا الله عنه: الصواب في المسألة هو الجواز، كما حكي عن نص الشافعي رحمه الله تعالى، وما عداه من الأقوال مما لا دليل عليه. وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه، إن شاء الله تعالى.
المسألة السابعة: قال في "الطرح" جـ 2 ص 367 - 368:
إذا كان المراد من الحديث الجلوس في المصلى بعد الفراغ من الصلاة، فما الجمع بينه وبين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". وعند البخاري من حديث أم سلمة رضي الله عنها: "أنه كان يمكث يسيرًا، كي ينصرف النساء".
فهذان الحديثان دالان على أن الأولى أن لا يمكث في مصلاه إلا بقدر ذلك، والجواب عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك الشيء، وهو يحب فعله، خشية أن يشق على الناس، أو خشية أن يفرض عليهم، كما ثبت في الصحيح، وكان يَندُبُ إلى ذلك بالقول، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمكث كثيرًا في مصلاه عند عدم الشغل، كما ثبت في صحيح مسلم من
حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس". وفي لفظ له: "كان لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح"، أو "الغداة، حتى تطلع الشمس". وثبت أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو في سنن ابن ماجه: "ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الذي لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح"، أو "الغداة، حتى تطلع الشمس". وثبت أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو في سنن ابن ماجه: "ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الذين جلسوا بين المغرب والعشاء في المسجد، ينتظرون الصلاة". كما تقدم.
فهذان الوقتان يكون الشخص غالبًا فارغًا فيهما، بعد الصبح، وبعد المغرب، وبقية صلوات النهار ربما يكون للرجل معاش، وأشغال بعدها، وكذلك العشاء للاشتغال بأسباب النوم، وقد ذهب مالك إلى حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما في انصراف الإِمام بعد السلام، فكره للإمام المقام في موضع مصلاه بعد سلامه، ولا حجة فيه، فقد ثبت إقامته في مصلاه حتى تطلع الشمس، فما وجه الكراهة حينئذ؟. والله أعلم.
المسألة الثامنة: قال في"الطرح" أيضًا جـ 2 ص 368:
اختلف في المراد بالحدث في قوله: "ما لم يحدث"، وقد فسره أبو هريرة رضي الله عنه بقوله:"يفسو، أو يضرِط"، كما هو عند مسلم من رواية أبي رافع. وعند البخاري أيضًا من رواية أبي سعيد المقبري،
فقال رجل أعجمي: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: الصوت. -يعني الضرطة- وكذا فسره أيضاً أبو سعيد الخدري في روايته للحديث، وهو عند أحمد. قال صاحب المفهم: وهو منه -أي من أبي هريرة- تمسك بالعرف الشرعي، قال: وقد فسره غيره بأنه الحدث الذي يصرفه عن إحضار قصد انتظار الصلاة، وحمله على الإعراض عن ذلك، سواء كان مسوغاً، أو غير مسوغ، وهو تمسك بأصل اللغة. قال: وحمله بعضهم على إحداث مَأثَم. والله أعلم.
المسألة التاسعة:
إذا فسرنا الحدث بالعرف الشرعي، كما فسره أبو هريرة رضي الله عنه، فما وجه اقتصاره على ذكر الضُّراط، والفُسَاء، وليس الحدث منحصراً فيهما.
والجواب أنه لما ذكر الحدث في المسجد ترك أبو هريرة منه ما لا يشكل أمره من البول والغائط في المسجد، فإنه لا يتعاطاه في المسجد ذو عقل، ونبه أبو هريرة بالأدنى على الأعلى، كما ثبت في جامع الترمذي من حديثه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا وضوء إلا من صوت أو ريح"، فإنه لم يرد به أنه لا يجب الوضوء من البول والغائط، وإنما المراد به تفسير ما عدا العين الخارجة من أحد السبيلين، وأنه لا يجب إلا من هذين الأمرين، من قرقرة البطن ونحوها، وأما بقية الأحداث، كلمس النساء، ومس الفرج، فمن لم ير النقض بها لا يجعل ذلك
قاطعًا لصلاة الملائكة؛ لأنه باق على طهارته، ولم يؤذ، ولم يحدث، وأما الذين رأوا ذلك ناقضًا، فيحتمل أن يقولوا: ليس ذلك قاطعًا لصلاة الملائكة أيضًا؛ لأن راوي الحديث فسره بما فسره به، وهو أعرف بمقصود الحديث، وهو واضح من جهة المعنى، إذ ليس في الحدث بذلك إيذاء لبني آدم، ولا للملائكة، لعدم الرائحة الكريهة، وكونه انتقض وضوؤه لا يمنعه ذلك من كونه ينتظر الصلاة، إذ هو منتظر يمكنه الوضوء عند الأذان، أو عند حضور الصلاة في المسجد، أو غيره، فلا يخرجه ذلك عن كونه منتظرًا للصلاة. ويحتمل أن يقال: إن الحدث كله قاطع لصلاة الملائكة؛ لأنه ليس متهيئًا لانتظار الصلاة، وقد شرط في حصول ذلك كونه في المسجد ينتظر الصلاة، كما هو عند البخاري. اهـ "طرح" جـ 2 ص 369.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الاحتمال الأول أولى؛ لأن المقصود بالحدث المذكور في الحديث ما يُتأذَّى به، مثل الريح، ونحوه. والله أعلم.
المسألة العاشرة: في رواية مسلم:
"ما لم يؤذ فيه" إلى آخره. قال صاحب المفهم: أي ما لم يصدر عنه ما يتأذى به بنو آدم، أو الملائكة. قال ابن بطال: تأول العلماء في ذلك الأذى أنه الغيبة، وشبهها، قال: وإنما هو -والله أعلم- أذى الحدث، يفسر ذلك حديث الثوم، لكن النظر يدل أنه إذا آذى أحدًا بلسانه أنه
ينقطع عنه استغفار الملائكة؛ لأن أذى السب والغيبة فوق رائحة الحدث، فأولى أن ينقطع بأذى السب وشبهه. وقال صاحب المفهم: يحتمل أن يكون قوله: "ما لم يحدث فيه" بدلًا من قوله: "ما لم يؤذ فيه". قال الحافظ ولي الدين رحمه الله: ويدل عليه رواية البخاري: "ما لم يُحْدِثّ فيه" ففسر الأذى بأنه الحدث، وهو صريح فيما ذكره، لكن في رواية أبي داود:"ما لم يؤذ فيه، أو يحدث فيه"، وهذا يقتضي المغايرة. اهـ "طرح". جـ 2 ص 369 - 370.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأولى حمل معنى الإيذاء على ما يعم الحدث وغيره، من أنواع الأذى، سواء كان للآدمي، أو للملائكة، عملًا برواية أبي داود المذكورة، ولا ينافيه ما في رواية البخاري، فإن البدلية لا تقتضي كون البدل والمبدل منه بمعنى واحد، فكون "يحدث": بدلاً من "يؤذ"، لا يستلزم كونه تمام معناه، بل يكون بدل بعض من كل، فإن الإيذاء يعم الحدث، وغيره، وقد ذكر بعض النحاة في باب البدل أن بدل البعض من الكل يأتي في الأفعال، كالأسماء، نحو "إن تُصَلِّ، تَسْجُدْ لله يَرْحَمْكَ"، فتسجد بدل من تُصَلِّ، بدل بعض من كل. انظر "حاشية الخضري على ابن عقيل"، جـ 2 ص 70 - 71 - عند قول ابن مالك رحمه الله تعالى:
وَيُبْدَلُ الفِعْلُ مِنَ الفِعْلِ كَمَنْ
…
يَصِلْ إِلَيْنَا يسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ
والحاصل أن الحَدَثَ بعض الإيذاء، فيشمل الحديثُ كلَّ أنواع
الايذاء، فمن آذى أحدًا بلسانه، أو يده، أو إخراج ريح منه، أو غير ذلك فإنه يحرم من استغفار الملائكة، ودعائهم له. والله أعلم.
المسألة الحادية عشرة: في قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة". متفق عليه - بيان أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر، من انتظار أحد، أو تنزه، أو نحو ذلك أنه ينقطع عنه أجر الصلاة، فإن تجددت له نية أخرى مع استحضار انتظار الصلاة فهل ينقطع عنه الثواب لما وجد من التشريك، أو لا ينقطع لوجود النية في انتظار الصلاة؟ محتمل، لكن الظاهر انقطاع الثواب بالتشريك في النية، لقوله:"لا يمنعه إلا انتظارها"، فهو يدل على أنه إذا منعه مانع آخر، ولو مع وجود قصد الانتظار لها فإنه لا يكون كالمصلي. أفاده في الطرح. جـ 2 ص 371.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأولى أن ينظر إلى الأغلب، فلو كان الأمر الذي أشركه في النية أغلب، بأن يكون لو حصل غرضه منه لانقلب إلى أهله، ولا ينتظر الصلاة، فليس له هذا الثواب، وإن كان لا ينقلب بل ينتظر الصلاة بعد حصول غرضه الآخر، حصل له ذلك؛ لأنه لم يمنعه من الانقلاب إلى أهله إلا الصلاة، كما هو ظاهر النص. فتبصر. والله أعلم.
المسألة الثانية عشر:
المراد بكون الجالس ينتظر الصلاة في صلاة أنه يكتب له أجر المصلي، لا أن عليه ما على المصلي من اجتناب ما يحرم في الصلاة، أو يكره فيها، إلا أنه يجتنب العبث المنهي عنه في الصلاة، لما روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، وشبك بين أصابعه". وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وروى أبو داود، وابن حبان في "صحيحه" من حديث كعب ابن عجرة رضي الله عنه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"إذا توضأ أحدكم، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة عامدًا، فلا يشبكن يديه، فإنه في صلاة". والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
734 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عُقْبَةَ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَيْمُونٍ، حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلاً السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فى الصَّلَاةِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد المذكور في السند السابق.
2 -
(بكر بن مضر) بن محمد بن حكيم المصري، أبو محمد، أو أبو عبد الملك، ثقة ثبت، توفي سنة 174، وله نيف وسبعون سنة، من [8]، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، تقدم في 122/ 173.
3 -
(عياش بن عقبة) بن كُلَيب بن تغلب الحضرمي أبو عقبة المصري، صدوق توفي سنة 160، من [7].
قال المقري هو عم ابن لهيعة قال الدارقطني: والمصريون ينكرون ذلك. وقال أحمد: ثنا المقري ثنا عياش بن عقبة الحضرمي، عم ابن لهيعة، شيخ صدوق. قال النسائي، والدارقطني: ليس به بأس. وقال النسائي في موضع آخر: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن يونس: ولي بحر مصر لمروان بن محمد. وقال يحيى بن بكير: ولد سنة 74 أو 90 - الشك من ابن يونس، قال: وتوفي في ولاية يزيد بن حاتم، وكانت ولايته سنة 44، وعزل سنة 52. وقال أحمد بن يحيى بن الوزير: توفي سنة 160 - أخرج له أبو داود، والمصنف.
4 -
(يحيى بن ميمون) الحضرمي، أبو عمرة المصري القاضي، صدوق، لكن عيب عليه شيء يتعلق بالقضاء، توفي سنة 114، من [5].
قال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن يونس: ولي القضاء بمصر سنة 102، وعزل سنة 114، وفيها مات. وكان غير محمود في قضائه. وقال أبو عمرو الكندي: كانت ولايته 9 سنين؛ لأنه ولي سنة 105 في رمضان. قال المفضل بن فضالة: كان كُتَّاب يحيى بن ميمون لا يكتبون قضية إلا برشوة، فكُلّمَ في ذلك، فلم يغيره، فعتب بذلك. وقال الدارقطني: ثقة سمع من سهل بن سعد لمَّا قدم مصر. أخرج له أبو داود، والمصنف.
5 -
(سهل) بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي الساعدي، أبو العباس، ويقال: أبو يحيى، له ولأبيه صحبة. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبَيّ بن كعب، وعاصم بن عدي، وعمرو بن عَبَسَة، ومروان بن الحكم، وهو دونه. وعنه ابنه عباس، والزهري، وأبو حازم ابن دينار، ووَفَاءُ بن شريح الحضرمي، ويحيى بن ميمون الحضرمي، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، وعمرو بن جابر الحضرمي، وغيرهم. له 188 حديثًا، اتفق الشيخان على 28، وانفرد البخاري بأحد عشر حديثًا.
قال شعيب، عن الزهري، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
توفي، وهو ابن 15 سنة. قال أبو نعيم، وغير واحد: مات سنة 88 زاد بعضهم، وهو ابن 96 سنة. وقال الواقدي، وغيره: مات سنة 91 وهو ابن مائة سنة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة. قال الحافظ: رواية شعيب صحيحة، وهي المعتمدة في مولده، فيكون مولده قبل الهجرة بخمس سنين، فأي سنة مات يضاف إليها الخمس، فيخرج مبلغ عمره على الصحة، وما يخالف ذلك لا يعول عليه. وقال ابن حبان: كان اسمه حَزْنًا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلًا. وقال أبو حاتم الرازي: عاش مائة سنة، أو أكثر، فعلى هذا يكون تأخر إلى سنة 96، أو بعدها. وزعم قتادة أنه مات بمصر. وزعم أبو بكر بن أبي داود أنه مات بالإسكندرية، قال الحافظ: وهذا عندي أنه ولده عباس بن سهل، انتقل الذهن إليه، وأما سهل فموته بالمدينة. أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.
ومنها: أن رجاله كلهم موثقون.
ومنها: أنه مسلسل بالمصريين، وقتيبة، وإن كان بغلانيًا، إلا أنه سكن مصر أيضًا، وكذلك سهل رضي الله عنه، كما مر قريبًا.
ومنها: أن فيه الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنةَ، والسماعَ، من صيغ الأداء. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(قال) يحيى بن ميمون: (سمعت سهلًا الساعدي رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان في المسجد، ينتظر الصلاة) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل، أي حال كونه منتظرًا لأداء الصلاة جماعة (فهو في الصلاة) أي في ثواب الصلاة، لا في حكمها؛ لأنه يحل له الكلام، وغيره مما يمنع في الصلاة. كما تقدم.
تنبيه:
حديث سهل بن سعد رضي الله عنه هذا صحيح. وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا (40/ 734)، و"الكبرى"(40/ 813) بالسند المذكور. وتقدم سائر المسائل المتعلقة به في الحديث السابق، فراجعه تستفد.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
41 - باب ذِكْرِ نَهْىِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يصلي المرء في مبارك الإبل حول الماء.
وإضافة "ذكر" لما بعده من إضافة المصدر إلى فاعله، وحذف مفعوله للتعميم، أي كل من يريد الصلاة.
و"الأعطان" -بفتح فسكون-: جمع عَطَنٍ -بفتحتين. وهو مَبْرَكُ الإبلِ حولَ الماء.
قال العلامة الفيّومي رحمه الله تعالى: العَطَن للإبل: المُنَاخُ، والمَبْركُ، ولا يكون إلا حول الماء، والجمع أعْطان، مثلُ سَبَبٍ، وأسْبَاب، والمَعْطِنُ، وزَان مَجْلِس، مثلُهُ، وعَطَنت الإبلُ، من بابَيْ ضرب، وقتل، عُطُونًا، فهي عاطنة، وعَوَاطن، وعَطَنُ الغنمِ، ومَعْطِنُها أيضًا: مَرْبِضُها حولَ الماء، قاله ابن السكيت، وابن قتيبة. وقال ابن فارس: قال بعض أهل اللغة: لا تكون أعطان الإبل إلا حول الماء، فأما مباركها في البَرِّيّة، أو عند الحيّ فهي المأوَى.
وقال الأزهري أيضًا: عَطنُ الإبل: موضعُها الذي تتنحى إليه إذا شربت الشَّرْبَةَ الأولى، فتَبْركُ فيه، ثم يُمُلأ الحوضُ لها ثانيًا، فتعود من
عَطَنِهَا إلى الحوض، فتَعُلُّ، أي تشرب الشَّرْبَةَ الثانيةَ، وهو العَلَلُ، لا تعطن الإبل على الماء إلا في حَمَارَّةِ القَيْظِ
(1)
، فإذا برُدَ الزمان، فلا عطن للإبل. والمراد بالمَعاطن في كلام الفقهاء المبارك. اهـ.
وفي اللسان: العَطَن للإبل، كالوَطنِ للناس، وقد غلب على مَبْرَكِها حولَ الحوض، والمَعْطَن كذلك، والجمع أعْطَان، وعَطَنَت الإبلُ عن الماء، تَعْطِن -بكسر الطاء- وتعطُنُ -بضمها- عُطُونًا، فهي عَوَاطن، وعُطُون: إذا رَوِيَتْ، ثم بَرَكَتْ، فهي إبل عاطنة، وعواطن، ولا يقال: إبل عُطَّانٌ، وعَطَّنتْ أيضًا، وأعطنها: ساقها، ثم أناخها، وحبسها عند الماء، فبركت بعد الورود، لتعود، فتشرب؛ قال لبيد [من الرمل]:
عَافَتَا المَاءَ فَلَمْ نُعْطِنْهُمَا
…
إِنَّمَا يُعْطِنُ أصْحَابُ العَلَلْ
والاسم العَطَنَةُ. وقال الليث: كل مَبْرك يكون مَألَفًا للإبل فهو عَطَن له بمنزلة الوَطَن للغنم والبقر، قال: ومعنى معاطن الإبل في الحديث: مواضعها، وأنشد [من البسيط]:
وَلا تُكَلِّفُنِي نَفْسِي وَلا هَلَعِي
…
حِرْصًا أقيمُ بِهِ في مَعْطَنِ الهُونِ
وقال الأزهري: أعْطان الإبل، ومَعَاطنها لا تكون إلا مَبَاركها على الماء، وإنما تُعْطِنُ العرب الإبل على الماء حين تَطلُعُ الثُّرَيَّا، ويرجع الناس من النُّجَعِ إلى المَحَاضِرِ، وإنما يُعْطِنُون النعم يوم ورْدِها، فلا يزالون
(1)
الحمَارَّة -بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الميم، وتشديد الراء، وقد تخفف في الشعر: شدة الحرّ. أفاده في "ق".
كذلك إلى وقت مَطْلعِ سُهَيْلِ في الخَرِيف، ثم لا يُعطنونها بعد ذلك ولكنها ترد الماء، فتشرب شربتها، وتَصْدُرُ من فَورها. اهـ "لسان" جـ 4 ص 3000.
والإبل: اسم جمع، لا واحد لها، وهي مؤنثة؛ لأن اسم الجمع الذي لا واحد له من لفظه إذا كان لما لا يعقل يلزمه التأنيث، وتدخله الهاء إذا صغر، نحو أبَيْلَة، وغُنَيْمَة، وسمع إسكان الباء للتخفيف، ومن التأنيث، لاسكان الباء قولُ أبي النجم [من الرجز]:
وَالإبْلُ لا تَصْلُحُ لِلْبُسْتَانِ
…
وَحَنَّتِ الإِبْلُ إِلى الأوْطَانِ
والجمع آبالٌ، وأبِيلٌ، وزان عَبيد، وإذا ثُنِّيَ، أو جمع فالمراد قَطيعَان، أو قطيعات. وكذلك أسماء الجموع، نحو أبقار، وأغنام. والإبل بناء نادر. قال سيبويه: لم يجيء على فِعِل -بكسر الفاء، والعين- من الأسماء إلا حرفان، إبل، وحبرٌ، وهو القَلَح، -أي صفرة الأسنان- ومن الصفات إلا حرف، وهي امرَأَة بِلِزٌ، وهي الضخمة، وبعضى الأئمة يذكر ألفاظًا غير ذلك، لم يثبت نقلها عن سيبويه. اهـ "المصباح" جـ 1 ص 2. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
735 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عمرو بن علي) الفلاس الصيرفي أبو حفص البصري، ثقة حافظ، من [10]، تقدم في 4/ 4.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة ثبت حجة من [9]، تقدم في 4/ 4.
3 -
(أشعث) قال الجامع عفا الله عنه: هو إما ابن عبد الله بن جابر الحدّاني
(1)
-بمهملتين مضمومة، ثم مشددة- الأزدي البصري، أبو عبد الله الحُمْلي -بضم المهملة، وسكون الميم- صدوق، من [5] أخرج له البخاري تعليقًا، والأربعة.
وإما ابن عبد الملك الحُمْرَاني -بضم المهملة، وسكون الميم- أبو هانىء البصري، ثقة فقيه، توفي سنة 146، من [6]، أخرج له البخاري تعليقًا، والأربعة أيضًا.
فإن كلًا منهما يروي عن الحسن البصري، ويروي عنهما يحيى بن سعيد القطان، ولم يتبين لي من هو المراد هنا.
وأما أشعث بن سوَّار الكندي النجار الأفرق الأثرم صاحب التوابيت، قاضي الأهواز، ضعيف من [6]، وإن روى عن الحسن،
(1)
الحدّاني -بضم الحاء المهملة، وتشديد الدال المهملة-: نسبة إلى حُدّان بطن من الأزد، ومحلة لهم بالبصرة. أفاده في اللب. جـ 1 ص 238.
وأخرج له النسائي، فليس مرادًا هنا؛ لأنه لا يروي عنه يحيى القطان، فقد قال عمرو بن علي الفلاس -كما في "تهذيب الكمال" جـ 2 ص 267: كان يحيى -يعني القطان- وعبد الرحمن -يعني ابن مهدي- لا يحدثان عنه. ولذا لم يذكروا يحيى في الرواة عنه.
وقال أبو بكر البَرْقَاني: قلت للدارقطني: أشعث عن الحسن؟ قال: هم ثلاثة، يحدثون عن الحسن جميعًا، أحدهم الحُمْرَاني، منسوب إلى حُمْرَان مولى عثمان، ثقة. وأشعث بن عبد الله الحُدَّاني، بصري، يروي عن الحسن، وأنس بن مالك يُعْتَبَر به. وأشعث بن سوَّار الكوفي، يعتبر به، وهو أضعفهم، وروى عنه شعبة حديثًا. اهـ "تهذيب الكمال" جـ 2 ص 285.
4 -
(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصري، ثقة فاضل فقيه، من [3]، تقدم في 32/ 36.
5 -
(عبد الله بن مُغَفَّل) بن عبيد بن نَهْم، أبو عبد الرحمن المزني صحابي بايع تحت الشجرة، ونزل البصرة، ومات رضي الله عنه سنة 57، وقيل: بعد ذلك، أخرج له الجماعة، تقدم في 32/ 36. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أنه مسلسل بالبصريين.
ومنها: أن الرواة اتفق الجماعة بالرواية لهم، إلا أشعث، فلم يخرج له البخاري إلا تعليقًا، كما تقدم قريبًا.
ومنها: أن شيخه أحد مشايخ الستة بدون واسطة، كما تقدم غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن مغفل) المزني رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإِبل) جمع عَطن، وهو مَبْرك الإبل حول الماء. وقد تقدم تمام البحث في العَطَن أول الباب، فراجعه، تستفد.
قال السندي رحمه الله تعالى: قالوا: ليس علة النهي نجاسة المكان، إذ لا فرق حينئذ بين أعطان الإبل وبين مرابض الغنم، مع أن الفرق بينهما قد جاء في الأحاديث، وإنما العلة شدة نفار الإبل، فقد يؤدي ذلك إلى بطلان الصلاة، أو قطع الخشوع، وغير ذلك. والله أعلم. اهـ كلام السندي رحمه الله تعالى. جـ 2 ص 56.
وقال ابن الأثير رحمه الله: لم ينه عن الصلاة فيها من جهة النجاسة، فإنها موجودة في مرابض الغنم، وقد أمر بالصلاة فيها، والصلاة مع النجاسة لا تجوز، وإنما أراد أن الإبل تزدحم في المنهل، فإذا شربت رفعت رؤوسها، ولا يؤمن من نِفارِها، وتفرقها في ذلك الموضع، فتؤذي المصلي عندها، أو تلهيه عن صلاته، أو تنجسه
برشاش بولها. اهـ نهاية جـ 3 ص 258 - 259.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: تنجسه برشاش بولها هذا على مذهب من يرى نجاسة بولها، وقد تقدم في الطهارة أن الراجح عدم نجاسة الأبوال إلا من الآدمي، والروث، فراجع (191/ 305) تستفد.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في شرح حديث: "صَلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل" رواه أحمد، والترمذي، وصححه، وابن ماجه ما نصه: والحديث يدل على جواز الصلاة في مرابض الغنم، وعلى تحريمها في معاطن الإبل. وإليه ذهب أحمد بن حنبل، فقال: لا تصح بحال، وقال مرة: من صلى في عطن إبل أعاد أبدًا. وسئل مالك عمن لا يجد إلا عَطنَ إبل؟ قال: لا يصلي فيه. قيل: فإن بسط عليه ثوبًا؟ قال: لا. وقال ابن حزم: لا تحل في عطن إبل.
وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة، وعلى التحريم مع وجودها. وهذا إنما يتم على القول بأن علة النهي هي النجاسة، وذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل، وأزْبالها، وقد عرفت ما قدمنا فيه. ولئن سلمنا النجاسة فيه لم يصح جعلها علة؛ لأن العلة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها، وبين مرابض الغنم، إذ لا قائل بالفرق بين أرواث كل من الجنسين، وأبوالها، كما قال العراقي. وأيضًا قد قيل: إن حكمة النهي ما فيها من النفور، فربما نفرت، وهو
في الصلاة، فتؤدي إلى قطعها، أو أذًى يحصل له منها، أو تَشَوُّشُ الخاطر المُلْهِي عن الخشوع في الصلاة. وبهذا عَلَّلَ النهيَ أصحابُ الشافعي، وأصحاب مالك، وعلى هذا، فيفرق بين كون الإبل في معاطنها، وبين غيبتها عنها، إذ يؤمن نفورها حينئذ، ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل رضي الله عنه عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ:"لا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها، وهيئتها إذا نفرت؟ ". وقد يحتمل أن علة النهي أن يجاء بها إلى معاطنها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها، أو يستمر فيها مع شغل خاطره.
وقيل: لأن الراعي يبول بينها. وقيل: الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين، ويدل على هذا أيضًا حديث ابن مغفل السابق. وكذا عند النسائي من حديثه. وعند أبي داود من حديث البراء رضي الله عنه. وعند ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
إذا عرفت هذا الاختلاف في العلة تَبَيَّنَ لك أن الحق الوقوف على مقتضى النهي، وهو التحريم، كما ذهب إليه أحمد، والظاهرية.
وأما الأمر بالصلاة في مرابض الغنم فأمر إباحة، وليس للوجوب. قال العراقي: اتفاقًا. وإنما نبه صلى الله عليه وسلم على ذلك لئلا يُظنَّ أن حكمها حكم الإبل، أو أنه خرج على جواب السائل حين سأله عن الأمرين، فأجاب
في الإبل بالمنع، وفي الغنم بالإذن. وأما الترغيب المذكور في الأحاديث بلفظ:"إنها بركة" فهو إنما ذُكِرَ لقصد تبعيدها عن حكم الإبل، كما وُصِفَ أصحابُ الإبل بالغلظ والقسوة، ووصف أصحاب الغنم بالسكينة. اهـ كلام الشوكاني رحمه الله تعالى جـ 2 ص 240 - 242.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي رجحه الشوكاني رحمه الله من حمل النهي على التحريم هو الراجح؛ لأن النهي للتحريم إذا لم يوجد صارف، وهنا لم يوجد. وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف رحمه الله:
أخرجه هنا (41/ 735)، و"الكبرى"(41/ 814) بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عنه، بلفظ:"صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين".
وأخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 85، 86، 5/ 54، 55، 56. وعبد ابن حميد برقم 501. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة:
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى في شرح الترمذي: والمواضع التي لا يُصَلَّى فيها ثلاثة عشر موضعًا: المَزْبَلَة، والمَجْزَرة، والمقبَرَة، وقارعة الطريق، والحَمَّامُ، ومعاطن الإبل، وفوق بيت الله، والصلاة إلى القبر، وإلى جدارِ مِرْحَاض عليه نجاسة، والكنيسة، والبِيعَة، وإلى التماثيل، وفي دار العذاب.
وزاد العراقي الصلاة في الدار المغصوبة، والصلاة إلى النائم، والمتحدث، والصلاة في بطن الوادي، والصلاة في الأرض المغصوبة، والصلاة في مسجد الضرار، والصلاة إلى التنور. فصارت تسعة عشر موضعًا.
ودليل المنع من الصلاة في هذه المواطن، أما السبعة الأولى، فلحديث ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُصَلَّى في سبعة مواطن: في المَزْبَلَة، والمَجْزَرَة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمَّامِ، وفي أعطان الأِبل، وفوق ظهر بيت الله". أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وعبد بن حميد في مسنده.
قال الترمذي: إسناده ليس بذاك القوي، وقد تُكُلَّمَ في زيد بن جَبِيرة من قبل حفظه. وفي التقريب: متروك. وفي التلخيص الحبير: إنه ضعيف جدًا، وفي إسناد ابن ماجه عبد الله بن صالح، وعبد الله بن عمر العمري، وهما ضعيفان. قال ابن أبي حاتم في العلل: هما جميعًا -يعني الحديثين- واهيان.
قال الجامع عفا الله عنه: أما الصلاة في المقبرة، والحمام وأعطان الإبل، فقد صحت أحاديثها. وأما غير ذلك مما ذكر في هذا الحديث فلا يصح له دليل. والله أعلم.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: وأما الصلاة إلى جدار مِرْحاض، فلحديث ابن عباس في سبعة من الصحابة رضي الله عنهم بلفظ:"نهى عن الصلاة في المسجد تجاهه حُشُّ". أخرجه ابن عدي، قال العراقي: ولم يصح إسناده. وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: "لا يصلى إلى الحش". وعن علي رضي الله عنه قال: "لا يصلى تجاه حش". وعن إبراهيم: كانوا يكرهون ثلاثة أشياء، فذكر منها الحش. وفي كراهة استقباله خلاف بين الفقهاء.
وأما الكنيسة، والبيعة، فروى ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير. وقد رويت الكراهة عن الحسن. ولم ير الشعبي، وعطاء بن أبي رباح بالصلاة في الكنيسة، والبيعة بأسًا. ولم ير ابن سيرين بالصلاة في الكنيسة بأسًا. وصلى أبو موسى الأشعري، وعمر بن عبد العزيز في كنيسة. ولعل وجه الكراهة ما تقدم من اتخاذهم لقبور أنبيائهم، وصلحائهم مساجد؛ لأنها تصير جميع البِيَع والكنائس مظنة لذلك.
وأما الصلاة إلى التماثيل، فلحديث عائشة رضي الله عنها الصحيح أنه قال لها صلى الله عليه وسلم: "أزيلي عني قِرَامك هذا، فإنه لا تزال
تصاويره تَعْرِض لي في صلاتي". وكان لها ستر فيه تماثيل.
وأما الصلاة في دار العذاب فلما عند أبي داود من حديث علي رضي الله عنه، قال:"نهاني حِبِّي أن أصلي في أرض بابل؛ لأنها ملعونة". وفي إسناده ضعف.
وأما إلى النائم، والمتحدث، فهو في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود، وابن ماجه، وفي إسناده من لم يسم.
وأما في بطن الوادي، فورد في بعض طرق حديث النهي عن الصلاة في سبعة مواطن، بدل المقبرة. قال الحافظ: وهي زيادة باطلة، لا تعرف.
وأما الصلاة في الأرض المغصوبة، فلما فيها من استعمال مال الغير بغير إذنه.
وأما الصلاة في مسجد الضرار، فقال ابن حزم: إنه لا يجزىء أحدًا الصلاة فيه، لقصة مسجد الضرار، وقوله:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108]، فصح أنه ليس موضع صلاة.
وأما الصلاة إلى التَّنُّور، فكرهها محمد بن سيرين، وقال: بيت نار. رواه ابن أبي شيبة في المصنف. وزاد ابن حزم، فقال: لا تجوز الصلاة في مسجد يُستَهزأ فيه بالله، أو برسوله، أو شيء من الدين، أو في مكان يكفر بشيء من ذلك فيه.
وزادت الهادوية كراهة الصلاة إلى المحدث، والفاسق، والسراج.
وزاد الإِمام يحيى: الجنب، والحائض، فيكون الجميع ستة وعشرين موضعًا.
واستدل على كراهة الصلاة إلى المحدث بحديث ذكره الإِمام يحيى في "الانتصار" بلفظ: "لا صلاة إلى محدث، لا صلاة إلى جنب، لا صلاة إلى حائض".
وقيل في الاستدلال على كراهة الصلاة إليه القياس على الحائض، وقد ثبت أنها تقطع الصلاة. وأما الفاسق فإهانة له، كالنجاسة. وأما السراج فللفرار من التشبه بعبدة النار، والأولى عدم التخصيص بالسراج، ولا بالتنور، بل إطلاق الكراهة على استقبال النار، فيكون استقبال التنور والسراج وغيرهما من أنواع النار قسماً واحدًا.
وأما الجنب، والحائض فللحديث الذي في الانتصار، ولما في الحائض من قطعها الصلاة.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث الذي ذكره صاحب "الانتصار"، لم يبين الشوكاني رحمه الله درجته، ولا أورده بسنده حتى ننظر فيه، فالله أعلم بصحته.
قال: واعلم أن القائلين بصحة الصلاة في هذه المواطن، أو في أكثرها تمسكوا في المواطن التي صحت أحاديثها بأحاديث:"أينما أدركتك الصلاة فصل"، ونحوها، وجعلوها قرينة قاضية بصحة تأويل الأحاديث القاضية بعدم الصحة. وقد عرفناك أن أحاديث النهي عن المقبرة، والحمام، ونحوهما خاصة، فتبنى العامة عليها. وتمسكوا في
المواطن التي لم تصح أحاديثها بالقدح فيها، لعدم التعبد بما لم يصح، وكفاية البراءة الأصلية حتى يقوم دليل صحيح ينقل عنها، لاسيما بعد ورود عمومات قاضية بأن كل موطن من مواطن الأرض مسجد تصح الصلاة فيه، وهذا متمسك صحيح، لابد منه. اهـ "نيل الأوطار" جـ 2 ص 243 - 245.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبين بما قرره العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى أن الصحيح صحة الصلاة في جميع بقاع الأرض، إلا ما صح استثناء الشارع له، وقد تقدم من ذلك: أعطان الإبل، والمقبرة، والحَمَّام، وما عدا ذلك فهو باق على معنى حديث جابر رضي الله عنه:"جعلت لي الأرض مسجدًا، وصهورًا، أينما أدرك رجلٌ من أمتي الصلاة صلى" وهو الحديث الآتي للمصنف في الباب التالي، وتقدم نحوه برقم 26/ 432.
والحاصل أن الصلاة تصح في كل مكان، إلا ما صح الدليل باستثنائه. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
42 - الرُّخْصَةُ فِي ذَلكَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على تسهيل الأمر في الصلاة في أعطان الإبل.
ووجه استدلال المصنف رحمه الله تعالى للرخصة من حديث الباب تقديم العموم على الخصوص، لكن الأولى كما تقدم التقرير أن يكون بالعكس، فيقدم الخاص على العام، فيخص عموم حديث الباب بحديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل، ونحوه. والله أعلم
736 -
أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةَ صَلَّى".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(الحسن بن إِسماعيل بن سليمان) بن مجالد، أبو سعيد المجالدي المصيصي، ثقة توفي بعد سنة 240، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 26/ 432.
2 -
(هُشَيم) بن بَشير بن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية الواسطي، ثقة ثبت، كثيَر التدليس والإرسال الخفي توفي سنة 183، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 88/ 109.
3 -
(سيار) بن أبي سيار، وَرْدَان، وقيل: غيره، أبو الحَكَم العَنَزي الواسطي، ثقة توفي سنة 122، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 26/ 432.
4 -
(يزيد الفقير) بن صُهيب الكوفي، أبو عثمان، ثقة، من [4]، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، تقدم في 26/ 432.
5 -
(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي رضي الله عنهما، أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.
ومنها: أن شيخه ممن انفرد به.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، اتفقوا عليهم، غير شيخه، فممن انفرد به، ويزيد، فما أخرج له الترمذي.
ومنها: أن الفَقِير لقب يزيد، وليس لفقره من المال، وإنما لكونه كان يشكو ألمًا في فَقَار ظهره.
ومنها: أن صحابيه أحد المكثرين السبعة، روى 1540 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجدًا) هو طرف من حديث تقدم برقم 26/ 432 ونصه: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا، وطهورًا، فأينما أدرك رجل من أمتي الصلاة يصلي، وأعطيت الشفاعة، ولم يعط نبي قبلي، وبعثت إلى الناس كافة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة".
وقد تقدم أنه سقطت في رواية المصنف الخصلة الخامسة، وقد ثبتت في الصحيحين، وهي "وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي".
والمراد من كونها مسجدًا كونها صالحة للصلاة فيها بأن كانت على حالتها الأصلية، وإلا بأن تنجست بوقوع نجس، فليست صالحة لها.
(وطهورًا) -بفتح الطاء- أي مطهرة عن الأحداث، والمراد به جواز التيمم بها.
(أينما أدرك)"أينما" ظرف مكان، متضمن معنى الشرط، في محل نصب على الظرفية، متعلق بأدرك، وهو فعل الشرط (رجل)
بالرفع فاعل "أدرك"(من أمتي) متعلق بمحذوف صفة لرجل (الصلاة) بالنصب مفعول أدرك (صلى) جواب الشرط.
والمعنى أن أيّ رجل من أمته صلى الله عليه وسلم أدرك وقت الصلاة في أي موضع من الأرض أدى فيه الصلاة، لكون الأرض مسجده، خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الأنبياء السابقين، فكانوا لا يصلون إلا في كنائسهم، ونحوها.
وهذا محل الاستدلال للمصنف رحمه الله تعالى في دعواه الرخصة في الصلاة في أعطان الإبل، عملًا بعمومه، لكن قد عرفت في أول الباب أن الأصح تقييد عموم هذا الحديث بخصوص حديث الباب السابق، فتكون أعطان الإبل، ونحوها مما صح النص بالنهي عن الصلاة فيه مستثنى من عموم هذا الحديث، عملا بالنصين، إذ الجمع بين المتعارضين متعين إذا أمكن، كما هنا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وتمام شرح الحديث، وذكر متعلقاته تقدمت برقم 26/ 432 فراجعها تستفد. والله ولي التوفيق.
إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
43 - الصَّلاةُ عَلَى الحَصِيرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مشروعية الصلاة على الحصير.
الحَصِير -بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين- جمعه أحْصِرَة، وحُصُرٌ -بضمتين، وتسكن الصاد تخفيفًا. قال ابن منظور رحمه الله: والحصير: وجه الأرض، وسَفِيفَة تُصنَع من بَرْديٍّ، وأسَل، ثم تُفْرشُ، سُمِّيَ بذلك لأنه يلي وجه الأرض، وقيل: الحصير المنسوج، سمي حصيراً لأنه حُصِرت طاقته بعضها مع بعض. اهـ "لسان" باختصار جـ 2 ص 897.
وقوله: سَفِيفَة بسين مفتوحة، ففاءين بينهما تحتانية ساكنة: أي منسوجة. والبَرْديّ بالفتح نبت معروف واحدته بَرْدية. والأسَلُ بفتحتين: عِيدَان تَنُبت طِوالاً دقاقاً مستوية، لا ورق لها، يعمل منها الحُصُر.
وهو: مُصَلَّى كبير قدر طول الرجل، وأكثر، فإن كان صغيراً قدر ما يسجد عليه سمي خُمْرة وسيأتي في الباب التالي. إن شاء الله تعالى.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: النكتة في ترجمة الباب الإشارة إلى ما رواه ابن أبي شيبة، وغيره من طريق شُرَيْح بن هانىء أنه سأل عائشة
رضي الله عنها: "أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير، واللهُ يقول: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]؟ فقالت: لم يكن يصلي على الحصير" فكأنه لم يثبت عند المصنف، أو رآه شاذًا مردودًا، لمعارضته ما هو أقوى منه، كحديث الباب، بل سيأتي عنه من طريق أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حصير، يبسطه، ويصلي عليه". وفي مسلم من حديث أبي سعيد "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حصير". اهـ "فتح" جـ 2 ص 46. والله تعالى أعلم.
737 -
أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ "أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَهَا، فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهَا، فَتَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، فَأَتَاهَا فَعَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ، فَنَضَحَتْهُ بِمَاءٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَصَلَّوْا مَعَهُ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(سعيد بن يحيى بن سعيد) بن أبان بن سعيد بن العاص بن سعيد ابن العاص بن أمية القرشي الأموي، أبو عثمان البغدادي، ثقة ربما أخطأ، من [10].
قال ابن المديني: هو أثبت من أبيه. وقال يعقوب بن سفيان: هما ثبتان، الأب والابن. وقال النسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال صالح بن محمد: صدوق، إلا أنه كان يغلط. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. قال محمد بن إسحاق السراج: مات للنصف من ذي القعدة سنة 249 هـ، وكذا أرخه البخاري، وابن نافع، وغير واحد. ووهم أبو القاسم البغوي، فأرخه سنة 59، وقد رد ذلك الخطيب. روى عنه الجماعة سوى ابن ماجه. وروى النسائي عنه أيضًا بواسطة.
2 -
(يحيى بن سعيد) بن أبان بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي، أبو أيوب الكوفي، نزيل بغداد، لقبه الجَمَل، صدوق يُغْرِب، من كبار [9].
قال الأثرم، عن أحمد: ما كنت أظن عنده هذا الحديث الكثير، فإذا هم يزعمون أن عنده عن الأعمش حديثًا كثيرًا، وعن غيره، وقد كتبنا عنه، وكان له أخ، له قدر وعلم، يقال له: عبد الله بن سعيد، ولم يبين أمر يحيى في الحديث، كأنه يقول: يصدق، وليس بصاحب حديث. وقال المرُّوذي، عن أحمد: لم تكن له حركة في الحديث. وقال أبو داود، عن أحمد: ليس به بأس، عنده عن الأعمش غرائب. وقال أبو داود: ليس به بأس، ثقة. وقال يزيد بن الهيثم، عن ابن معين: هو من أهل الصدق، ليس به بأس. وقال الدوري، وغيره، عن
ابن معين: ثقة. وكذا قال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، والدارقطني. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وأورده العقيلي في الضعفاء، واستنكر له عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله:"لا يزال المسروق متغيظًا، حتى يكون أعظم إثمًا من السارق".
وقال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: مات أبي سنة 194 في النصف من شوال، وبلغ 80 سنة. أخرج له الجماعة.
3 -
(يحيى بن سعيد) الأنصاري أبو سعيد القاضي المدني، ثقة ثبت، توفي سنة 144، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 22/ 23.
4 -
(إِسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري، أبو يحيى المدني، ثقة حجة توفي سنة 132، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 54/ 68.
5 -
(أنس بن مالك) الصحابي الخادم الشهير رضي الله عنه، تقدم 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله موثقون، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، وفيه رواية الراوي عن أبيه؛ سعيد، عن يحيى، ورواية الراوي عن عمه؛ إسحاق،
عن أنس، ورواية تابعي، عن تابعي؛ يحيى الأنصاري، عن إسحاق، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه، أحد المكثرين السبعة، روى 2286 حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة 92، وقيل غيره. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أنس بن مالك) الأنصاري رضي الله عنه (أن أم سليم) بنت مِلْحان بن خالد بن زيد الأنصارية، من الصحابيات الفاضلات. واسمها: سَهْلة، ويقال: رُمَيلة، ويقال: رُمَيثة، ويقال: أنَيفَة، وقيل: مليكة. والدة أنس بن مالك، وأخت أم حرام بنت ملحان، وزوج أبي طلحة الأنصاري، يقال: إنها هي الغُمَيصاء، أو الرُّمَيْصَاء. ثبت ذلك في صحيح البخاري في حديث ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دخلت الجنة، فإذا بالرميصاء امرأة أبي طلحة". وفي صحيح مسلم من حديث ثابت، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دخلت الجنة، فسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذه الرميصاء". وفي رواية "الرميصاء بنت ملحان، أم أنس بن مالك"، ورواه عبد بن حميد نحوه، إلا أنه قال:"الغميصاء".
وقال ابن عبد البر: كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت له أنس بن مالك، فلما جاء الله بالإِسلام أسلمت مع قومها،
وعرضت الإِسلام على زوجها، فغضب عليها، وخرج إلى الشام، فهلك هناك، ثم خَلَفَ عليها بعده أبو طلحة الأنصاري خطبها مشركًا، فلما علم أنه لا سبيل له عليها إلا بالإِسلام أسلم، وتزوجها، وحسن إسلامه، فوُلِدَ له منها غلام كان قد أعْجِبَ به، فمات صغيرًا، فَأسِفَ عليه، ويقال: إنه أبو عُمَير صاحب النُّغير، ثم وَلَدَتْ له عبدَ الله بن أبي طلحة، فبورك فيه، وهو والد إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الفقيه، وإخوته، وكانوا عشرة كلهم حُمِلَ عنه العلم. وروي عن أم سليم أنها قالت: لقد دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ما أريد زيادة. ومناقبها كثيرة مشهورة. روى لها الجماعة، سوى ابن ماجه.
(سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيها) أي يجيء إليها (فيصلي في بيتها، فتتخذه) أي المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، تبركًا بأثره (فأتاهما، فعمدت) أي قصدت أم سليم رضي الله عنها، يقال: عَمَدت للشيء، محمدًا من باب ضرب، وعمدت إليه: قصدت، وتعمدته: قصدت إليه. قاله في المصباح (إِلى حصير) متعلق بعمدت، أي إلى إصلاح حصير، وتقدم معنى الحصير في أول الباب (فنضحته) أي رشَّته (بماء) قال في "الفتح": يحتمل أن يكون النضح لتليين الحصير، أو لتنظيفه، أو لتطهيره، ولا يصح الجزم بالأخير، بل المتبادر غيره؛ لأن الأصل الطهارة. اهـ جـ 2 ص 45.
(فصلى عليه) أي صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك الحصير الذي نضحته
أم سليم (وصلوا معه) أي صلى القوم الحاضرون معه صلى الله عليه وسلم جماعة. والحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى على الحصير.
فإن قلت: أخرج أبو يعلى الموصلي عن عائشة رضي الله عنها، بسند؛ قال العراقي: رجاله ثقات: "أنها سئلت أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير؟ قالت لم يكن يصلي عليه". فكيف الجمع بين الحديثين؟
قلت: يجاب بأنها إنما نَفَتْ علمها، والمثبت مقدم على النافي، ومن حَفِظَ حجة على من لم يحفظ. وأيضاً فإن حديثها، وإن كان رجاله ثقات، فإن فيه شذوذاً، ونكارة، كما قال العراقي، رحمه الله تعالى. أفاده في "نيل الأوطار" جـ 2 ص 227 - 228. والله أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح. وهو من أفراد المصنف، أخرجه هنا (43/ 737)، و"الكبرى"(43/ 816) بالسند المذكور.
المسألة الثانية: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو جواز الصلاة على الحصير.
ومنها: بيان فضل أم سليم رضي الله عنها، وما كانت عليه من شدة محبتها للنبي صلى الله عليه وسلم، واقتفائها آثاره.
ومنها: بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، من عظيم الخلق، حيث كان يقضي رغبة من رغب إليه، ولو كانت امرأة، فهو كما وصفه الله تعالى في محكم كتابه، حيث قال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].
ومنها: بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم، حيث كان يصلي على الحصير الذي يفترشه الرجال، والنساء، والأطفال، ويَدُوسُونَه بأقدامهم.
ومنها: مشروعية الجماعة في التطوع. والله سبحانه وتعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في مذاهب العلماء في الصلاة على الحصير، ونحوه:
ذهب طائفة من أهل العلم إلى جواز الصلاة على الحصير. ومثله ما في معناه، مما يفرش، سواء كان من حيوان، أو نبات. وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، من الصحابة، ومن بعدهم، وهو قول أحمد، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وجمهور الفقهاء.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: قال العراقي: وقد ذهب إلى استحباب الصلاة على الحصير أكثر أهل العلم، كما قال الترمذي. قال: إلا أن قومًا من أهل العلم اختاروا الصلاة على الأرض استحبابًا. انتهى. وقد روي عن زيد بن ثابت، وأبي ذر، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، ومكحول، وغيرهما من
التابعين استحباب الصلاة على الحصير. وصرح ابن المسيب بأنها سنة. اهـ "نيل" جـ 2 ص 228.
وذهب جماعة من التابعين إلى كراهة الصلاة على غير الأرض. فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين أن الصلاة على الطّنْفِسَة -وهي البساط الذي تحته خمل- محدثة.
وعن جابر بن زيد أنه كان يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان، ويستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض. وعن عروة بن الزبير أنه كان يكره أن يسجد على شيء دون الأرض.
قال الشوكاني رحمه الله: وإلى الكراهة ذهب الهادي، ومالك. ومنعت الإمامية صحة السجود على ما لم يكن أصله من الأرض. وكره مالك أيضًا الصلاة على ما كان من نبات الأرض، فدخلته صناعة أخرى، كالكتان، والقطن.
قال ابن العربي رحمه الله: وإنما كرهه من جهه الزخرفة. واستدل الهادي على كراهه ما ليس من الأرض بحديث "جعلت لي الأرض مسجداً وطهورًا" بناء على أن لفظ الأرض لا يشمل ذلك.
قال في ضوء النهار: وهو وَهَم؛ لأن المراد بالأرض في الحديث التراب، بدليل "وطهورًا" وإلا لزم مذهب أبي حنيفة في جواز التيمم بما أنبتت الأرض. انتهى.
قال الشوكاني: وأقول: بل المراد بالأرض في الحديث ما هو أعم من التراب، بدليل ما ثبت في الصحيح بلفظ:"وتربتها طهورًا" وإلا لزم صحة إضافة الشيء إلى نفسه، وهي باطلة بالاتفاق. ولكن الأولى أن يقال في الجواب عن الاستدلال بالحديث: إن التنصيص على كون الأرض مسجدًا لا ينفي كون غيرها مسجدًا بعد تسليم عدم صدق مسمى الأرض على البسط، على أن السجود على البسط، ونحوها سجود على الأرض، كما يقال للراكب على السرج الموضوع على ظهر الفرس: راكب على الفرس، وقد صح:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على البسط"، وهو لا يفعل المكروه. اهـ "نيل الأوطار" جـ 2 ص 226 - 227.
وقال في "النيل" أيضًا جـ 2 ص 228: وممن اختار مباشرة المصلي للأرض من غير وقاية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ فروى الطبراني عنه أنه كان لا يصلي ولا يسجد إلا على الأرض. وعن إبراهيم النخعي أنه كان يصلي على الحصير، ويسجد على الأرض.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه الأقوال ليس عليها حجة، من كتاب، ولا سنة، بل الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على الحصير، كما في حديث الباب، وصلى على الخمرة، كما في الحديث الآتي في الباب التالي، وصلى على البِساط، كما في الحديث المتفق عليه، عن أنس رضي الله عنه قال:"ونُضِحَ بساط لنا، فصَلَّى عليه". فالصواب ما قاله الجمهور، من جواز الصلاة
والسجود على الحصير، ونحوه والله سبحانه وتعالى أعلم.
المسألة الرابعة:
حديث أنس رضي الله عنه هذا غير حديثه الآتي برقم 801 و802 - فإن ذلك وقع لجدته مُلَيْكَة، رضي الله عنها، "دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام قد صنعته له، فأكل منه، ثم قال: "قوموا، فلأصليَ لكم"، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا، قد اسودّ من طول ما لُبِسَ، فنضحته بماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصففت أنا، واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا ركعتين، ثم انصرف". متفق عليه.
فالداعية في حديث الباب أم سليم، أم أنس، دعته ليصلي في بيتها، لتتخذه مصلَّى، وهناك الداعية مليكة جدة أنس، دعته لطعام صنعته له، ولكنه، صلى لها في بيتها، مكافأة على إحسانها.
وإنما نبهت عليه، وإن كان واضحًا؛ لأنه ربما يلتبس على بعض الناس، لتقارب القصتين. والله سبحانه وتعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
44 - الصَّلاةُ عَلَى الخُمْرَةِ
أي هذا باب في ذى الحديث الدال على جواز الصلاة على الخمرة.
و"الخمرة" -بضم الخاء، وسكون الميم-: وزان غُرْفة: يأتي تفسيرها قريباً، إن شاء الله تعالى.
738 -
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ -يَعْنِي الشَّيْبَانِيَّ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إِسماعيل بن مسعود) الجَحْدَري أبو مسعود البصري، ثقة، توفي سنة 248، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 42/ 47.
2 -
(خالد) بن الحارث الهُجَيمي أبو عثمان البصري، ثقة ثبت توفي سنة 186 هـ، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الواسطي، ثم البصري، الإِمام الحجة الثبت، توفي سنة 160، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في
24/ 26.
4 -
(سليمان) بن أبي سليمان، فيروز، أبو إسحاق الشيباني الكوفي ثقة، توفي في حدود سنة 140 هـ، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 172/ 267.
5 -
(عبد الله بن شداد) بن الهاد، واسم الهاد: أسامة بن عمرو ابن عبد الله بن جابر، وقيل: خالد بن بشر بن عَتوارة بن عامر بن مالك ابن ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار الليثي، أبو الوليد المدني، كان يأتي الكوفة، وأمه سلمى بنت عميس الخثعمية، أخت أسماء بن عميس.
قال الميموني: سئل أحمد، أسمع عبد الله بن شداد من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا؟ قال: لا. وقال ابن المديني: شهد مع علي يوم النهروان. وقال العجلي، والخطيب: هو من كبار التابعين، وثقاتهم. وقال أبو زرعة، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان عثمانيًا، ثقة في الحديث، توفي في ولاية الحجاج على العراق. وقال الواقدي: خرج مع القراء أيامَ ابن الأشعث على الحجاج، فقتل يوم دُجَيْل، وكان ثقة فقيهًا، كثير الحديث، متشيعًا. وقال ابن نمير: قتل بدجيل سنة 81. وقال يحيى بن بكير، وغير واحد: فُقِدَ ليلة دجيل سنة 82. وقال الثوري: فقد ابن شداد، وابن أبي ليلى بالجَمَاجِم. وكذا قال العجلي، وزاد: اقتحم بهما فرساهما الماء، فذهبا. وقال ابن حبان في الثقات: غَرِقَ بدُجيل. وقال
ابن عبد البر في الاستيعاب: ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال يعقوب ابن شيبة في مسند عمر: كان يتشيع. قال الحافظ: وما تقدم عن ابن سعد: كان عثمانيًا. فيه نظر. أخرج له الجماعة. وفي "ت" مات بالكوفة مقتولاً سنة 81، وقيل بعدها.
6 -
(ميمونة) بنت الحارث الهلالية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: اسمها برة، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، تزوجها بسرف سنة 7، وماتت به، ودفنت سنة 51، على الصحيح، أخرج لها الجماعة. تقدمت في 14/ 236. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، من رجال الجماعة، إلا شيخه، فمن أفراده.
ومنها: أنهم ما بين بصريين، وهم الثلاثة الأولون، وكوفي، وهو سليمان، ومدنييْن، وهما عبد الله بن شداد، وميمونة.
ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، سليمان، عن عبد الله بن شداد.
شرح الحديث
(عن ميمونة) أم المؤمنين رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الخمرة) هذا الحديث مختصر، ولفظه عند البخاري:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وأنا حِذاءه، وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد، قالت: وكان يصلي على الخمرة".
والخُمْرة -بضم الخاء المعجمة، وسكون الميم-: قال الطبري: هو مصَلَّى صغير يعمل من سَعَفِ النخل، سميت بذلك لسترها الوجه والكفين من حر الأرض وبردها، فإن كانت كبيرة سميت حصيرًا. وكذا قال الأزهري في تهذيبه، وصاحبه أبو عبيد الهروي، وجماعة بعدهم. قاله في الفتح. جـ 1 ص 572.
وقال ابن منظور: الخُمْرة: حَصِيرة أو سَجَّادة صغيرة، تُنْسَج من سَعَف النخل
(1)
وتُرَمَّلُ
(2)
بالخيوط. وقيل: حَصِيرة أصغر من المُصَلَّى. وقيل: الخمرة: الحصير الصغير الذي يُسجَدُ عليه. قال الزجاج: سميت خمرة لأنها تستر الوجه من الأرض. لسان. جـ 2 ص 1261.
وقال ابن الأثير رحمه الله: هي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه
(1)
السَّعَف -بفتحتين- أغصان النخل ما دامت بالخوص، فإن زال الخوص عنها قيل: جَريد، الواحدة سَعَفَة، مثل قَصَب، وقَصَبَة. والخوص بالضم: ورق النخل، الواحدة خُوصة. اهـ المصباح.
(2)
قوله: "يُرَمَّل"، يقال: رَمَّلَ النسْجَ: رفَّقَه، كأرملة، والسريرَ، أو الحصيرَ: زيَّنه بالجوهر، ونحوه. اهـ "ق".
في سجوده من حصير، أو نسيج خُوص، ونحوه، من النبات، قال: ولا تكون خُمْرة إلا في هذا المقدار، وسميت خمرة لأن خيوطها مستورة بسعَفَها. وقد تكررت في الحديث". هكذا فسرت. وقد جاء في سنن أبي داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "جاءت فأرة، فأخذت تَجُرُّ الفَتِيلة، فجاءت بها، فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كاَن قاعداً عليها، فأحرقت منها مثل موضع درهم". وهذا صريح في إطلاق الخمرة على الكبير من نوعها. اهـ "نهاية". جـ 2 ص 77 - 78.
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن المراد هنا الكبيرة، إذ لو كانت صغيرة لقالت:"كان يسجد على الخمرة".
وفي "المنهل": أن الخمرة يجعلها المصلي تحت جبهته، لتَقِيه من الحر، والبرد، وتطلق أيضًا على الكبير من نوعها، وهو المراد في الحديث. اهـ. جـ 5 ص 46.
وفيه دلالة على جواز الصلاة على الخمرة. قال ابن بطال: لا خلاف بين فقهاء الأمصار في جواز الصلاة على الخمرة، إلا ما روي عن عمر ابن عبد العزيز أنه كان يؤتى بالتراب، فيوضع على الخمرة، فيسجد عليه. ولعله كان يفعله على جهة المبالغة في التواضع، والخشوع، فلا يكون فيه مخالفة للجماعة. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: مثل هذا الفعل لا ينبغي الاقتداء به، وإن كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عَمِلَ به مبالغة في التواضع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشد تواضعًا منه، وهو القدوة الحسنة، قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فلا ينبغي العدول عما ثبت عنه؛ لأن الله تعالى ضمن الهداية في اتباعه فقط، قال الله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ميمونة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضعه عند المصنف:
أخرجه هنا (44/ 738)، و"الكبرى"(44/ 817) بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه.
فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي الوليد، عن شعبة، بلفظ المصنف. وفي "الطهارة" مطولًا عن الحسن بن مدرك، عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن الشيباني، به بلفظ "أنها كانت تكون حائضًا، وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي على الخمرة- فإذا سجد أصابني بعض ثوبه". وفي "الصلاة" عن مسدد، باللفظ
المتقدم في شرح الحديث. وقال في موضع آخر تعليقًا: وزاد مسدد، عن خالد ابن عبد الله -وعن عمرو بن زُرَارة، عن هُشيم- وعن أبي النعمان، عن عبد الواحد -ثلاثتهم عن الشيباني، به.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن خالد، به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عباد بن عباد، عن الشيباني، به.
وأخرجه أبو داود فيه عن عمرو بن عون، عن خالد، به.
وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، به.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
45 - الصَّلاةُ عَلَى المِنْبَرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على جواز الصلاة على المنبر.
والمِنْبَرُ -بكسر الميم، وسكون النون، وفتح الباء، آخره راء-: مِرْقاة الخاطب، سمي منبراً لارتفاعه، وعُلُوِّه. وانْتَبَرَ الأمُير: ارتفع فوق المنبر. اهـ لسان جـ 6 ص 4323.
وفي المصباح: وكلُّ شيءٍ رُفِعَ: فقد نُبِرَ، ومنه: المنبر، لارتفاعه، وكسرت الميم على التشبيه بالآلة. اهـ.
739 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّ رِجَالاً أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، وَقَدِ امْتَرَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِمَّ عُودُهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُ مِمَّ هُوَ؟ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وُضِعَ، وَأَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى فُلَانَةَ، امْرَأَةٍ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ، أَنْ مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ، ثُمَّ
جَاءَ بِهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهَا، فَوُضِعَتْ هَاهُنَا، ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَقِيَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَبَّرَ، وَهُوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَكَعَ، وَهُوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى، فَسَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي".
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلاني، أبو رجاء الثقفي، ثقة ثبت، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
2 -
(يعقوب بن عبد الرحمن) بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ، القاريُّ، المدني، نزيل الإسكندرية، حليف بني زهرة، ثقة، توفي سنة 181، من [8].
قال الدوري، عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. قال أحمد: ثقة. أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه.
3 -
(أبو حازم بن دينار) سلمة الأعرج، التمار المدني القاص، مولى الأسود بن سفيان، ثقة عابد، توفي في خلافة المنصور، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 40/ 44.
4 -
(سهل بن سعد الساعدي) الأنصاري رضي الله عنهما، تقدم قبل أربعة أبواب، أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه (41) من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، من رجال الجماعة، إلا يعقوب، فما أخرج له ابن ماجه.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني.
ومنها: أنه مسلسل بالإخبار، والتحديث. والله تعالي أعلم.
شرح الحديث
قال (أبو حازم) سلمة (بن دينار: أن رجالًا) قال الحافظ رحمه الله لم أقف على أسمائهم (أتوا سهل بن سعد الساعدي) نسبة إلى ساعدة بن كعب بن الخَزْرج بن الحارث بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة الأنصاري (وقد امتروا) جملة في محل نصب على الحال، أي حال كونهم ممترين. وهو افتعال، من المِرْيَة. قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: المِرْية: التردد في الأمر، وهي أخص من الشك. قال تعالى:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [الحج: 55] والامتراء،
والمماراة: المجادلة فيما فيه مرية. قال تعالى: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34]. وأصله من مَرَيْتُ الناقة: إذا مَسَحْت ضرعها. اهـ باختصار. ص 766.
وقال ابن منظور: والامتراء في الشيء: الشك فيه، وكذلك التماري. والمراء: المماراة، والجدل. والمراء أيضاً: من الامتراء، والشك. وفي التنزيل العزيز:{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22]، قال وأصله في اللغة: الجدال، وأن يستخرج الرجل من مُنَاظِرِه كلامًا، ومعاني الخصومة، وغيرها من مَرَيت الشاة: إذا حلبتها، واستخرجت لبنها. وقد ماراه مماراة، وميراء، وامترى فيه، وتمارى: شك، قال سيبويه: وهذا من الأفعال التي تكون للواحد. اهـ. "لسان"4190.
(في المنبر) متعلق بما قبله، وقد تقدم ضبطه، ومعناه أولَ الباب (مِمَّ عُوده) أي من أيّ شيء عود ذلك المنبر. فما استفهامية حذفت ألفها لكونها مجرورة، كما في قوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)} [النبأ: 1] قال ابن مالك:
وَمَا في الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
ألِفُهَا وَأوْلِهَا الْهَا إنْ تَقِفْ
وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضا
…
بِاسْم كَقَوْلِكَ: اقْتِضَاء مَا اقْتَضَى
(فسألوه عن ذلك؟) أي سأل الرجال الذين امتروا سهل بن سعد عن عود المنبر، النبوي (فقال) سهل:(والله إني لأعرف مم هو؟) أي
من أيّ شيء عوده، وإنما أتى بالقسم مؤكدًا بالجملة الاسمية، وبكلمة "إن" التي للتحقيق، وبلام التأكيد في الخبر لإرادة التأكيد فيما قاله السامع. قاله في "العمدة".
(ولقد رأيته أول يومٍ وضع) أي لقد رأيت المنبر في أول يوم وُضِعَ في موضعه. وهو زيادة على السؤال، وكذا قوله (وأول يوم جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال في "العمدة" جـ 6 ص 215: وفائدة هذه الزيادة المؤكدة باللام، وكلمة "قد" الإعلام بقوة معرفته بما سألوه. وقوله (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى آخره شرح جوابه لهم، وبيانه، فلذا فَصَلَه عما قبله، ولم يذكره بعطف (إِلى فلانة) كناية عن اسم المرأة، ممنوع من الصرف لوجود علتين فيه، العلمية، والتأنيث. قال ابن منظور: فلانٌ، وفلانةُ: كناية عن أسماء الآدميين. والفلان، والفلانة -بالألف واللام-: كناية عن غير الآدميين. تقول العرب: ركبت الفلان، وحلبت الفلانة. وقال السراج: فلان: كناية عن اسم، سمي به المحدَّثُ عنه، خاص غالب. اهـ "لسان" جـ 5 ص 3468.
(امرأة) بالجر بدل عن "فلانة"، ويحتمل الرفعَ على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي امرأة، والنصبَ على أنه مفعول لفعل محذوف، أعني امرأة (سماها سهل) قال في "الفتح": لا يعرف اسمها ،لكنها أنصارية. ونقل ابن التين، عن مالك: أن النَّجَّارَ كان مولى لسعد بن عبادة، فيحتمل أن يكون في الأصل مولى امرأته، ونسب إليه مجازًا،
واسم امرأته فُكَيهة بنت عبيد بن دليم، وهي ابنة عمه، أسلمت، وبايعت، فيحتمل أن تكون هي المرادة. لكن رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن ابن عيينة، فقال: مولى لبني بياضة. وأما ما وقع في الدلائل لأبي موسى المديني نقلًا عن جعفر المستغفري أنه قال: في أسماء النساء من الصحابيات: علاثة -بالعين المهملة، وبالمثلثة- ثم ساق هذا الحديث من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، قال: وفيه أرسل إلى علاثة، امرأة، قد سماها سهل. فقد قال أبو موسى: صحف فيه جعفر، أو شيخه، وإنما هو:"فلانة" انتهى. ووقع عند الكرماني: قيل اسمها عائشة، فقال الحافظ: وأظنه صحف المصحف، ولو ذكر مستنده في ذلك لكان أولى. ثم وجدت في الأوسط للطبراني من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى سارية في المسجد، ويخطب إليها، ويعتمد عليها، فأمرت عائشة، فصنعت له منبره هذا. فذكر الحديث، وإسناده ضعيف، ولو صح لما دل على أن عائشة هي المرادة في حديث سهل هذا إلا بتعسف. والله أعلم. اهـ "فتح". جـ 2 ص 40 - 41.
وجملة "سماها سهل" في محل جر صفة "امرأة".
(أن مري)"أن" تفسيرية، لما في الإرسال من معنى القول. قاله السندي.
قال الجامع: ويحتمل كونها مصدرية، و"مري" فعل أمر، من
أمَرَ، يَأمُرُ، من باب نصر، وأصله "اؤمري" على وزن "افْعُلِي"، فاجتمعت همزتان، فثقلتا، فحذفت الثانية، واستغني عن همزة الوصل، فصار "مُرِي" على وزن "عُلِي" بحذف فاء الفعل. والفعل في تأويل المصدر مجرور بحرف جر محذوف قياسًا، كما قال في الخلاصة:
وَعَدِّ لازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ
…
وِإنْ حُذِفْ فَالنَّصْب لِلْمُنْجَرِّ
نَقْلاً وَفِي "أنَّ" و"أنْ" يَطَّرِدُ
…
مَعْ أمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أنْ يَدُو
والجار والمجرور متعلق بأرسل، أي أرسل إليها بأمر غلامها.
(غلامك) بالنصب على المفعولية. وسماه عباس بن سهل، عن أبيه، فيما أخرجه قاسم بن أصبغ، وأبو سعد في "شرف المصطفى" جميعًا من طريق يحيى بن بكير، عن ابن لهيعة: حدثني عُمَارة بن غَزِيَّةَ، عنه، ولفظه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى خشبة، فلما كثر الناس قيل له: لو كنت جعلت منبرًا. قال: وكان بالمدينة نَجَّار واحد، يقال له: ميمون"، فذكر الحديث. وأخرجه ابن سعد من رواية سعيد بن سعد الأنصاري، عن ابن عباس، نحو هذا السياق، ولكن لم يسمه. وفي الطبراني من طريق أبي عبد الله الغفاري: سمعت سهل بن سعد، يقول: كنت جالسًا مع خال لي من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"اخرج إلى الغابة، وائتي من خشبها، فأعمل لي منبرًا" الحديث.
وجاء في صانع المنبر أقوال أخرى:
أحدها: أن اسمه إبراهيم. أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبي نضرة، عن جابر، وفي إسناده العلاء بن مسلمة الرَّوَّاس، وهو متروك.
ثانيها: بَاقُول -بموحدة، وقاف مضمومة- رواه عبد الرزاق بإسناد ضعيف منقطع، ووصله أبو نعيم في المعرفة، لكن قال: باقوم -آخره ميم- وإسناده ضعيف أيضًا.
ثالثها: صُبَاح -بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة، وآخره مهملة أيضًا. ذكره ابن بشكوال بإسناد مرسل.
رابعها: كلاب مولى العباس. روى ابن سعد في الطبقات من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب، وهو مُستَند إلى جِذْع، فقال:"إن القيام قد شق علي" فقال له تميم الداري: أَلا أعمل لك منبرًا، كما رأيتُ يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فرأو أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلامًا يقال له: كلاب أعْمَلُ الناسِ، فقال:"مره أن يعمل". الحديث، ورجاله ثقات إلا الواقدي.
خامسها: تميم الداري. رواه أبو داود مختصرًا، والحسن بن سفيان، والبيهقي، من طريق أبي عاصم، عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن نافع، عن ابن عمر: أن تميماً الداري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لحمه: ألا نتخذ لك منبرًا يحمل عظامك؟ قال: "بلى"، فاتخذ له
منبراً. الحديث، وإسناده جيد.
سادسها: ميناء. ذكره ابن بشكوال عن الزبير بن بكار: حدثني إسماعيل، هو ابن أبي أويس، عن أبيه، قال: عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار، من بني سَلِمَةَ، أو من بني ساعدة، أو امرأة لرجل منهم، يقال له: ميناء. انتهى. قال الحافظ رحمه الله: وهذا يحتمل أن يعود الضمير فيه على الأقرب، فيكون ميناء اسم زوج المرأة، وهو بخلاف ما حكيناه عن ابن التين أن المنبر عمله غلام سعد بن عبادة، وجوزنا أن تكون المرأة زوج سعد.
وليس في جميع الروايات التى سُمِّيَ فيها النجارُ شيء قوي السند، إلا حديث ابن عمر، وليس فيه التصريح بأن الذي اتخذ المنبر تميم الداري، بل قد تبين من رواية ابن سعد أن تميمًا لم يعمله، وأشبه الأقوال بالصواب قول من قال: هو ميمون، لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضاً، وأما الأقوال الأخرى فلا اعتداد بها لِوَهَائها، ويبعد جدّا أن يُجْمَع بينها بأن النجار كانت له أسماء متعددة، وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله، فيمنع منه قوله في كثير من الروايات:"لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد"، إلا إن كان يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقية أعوانه، فيمكن. والله أعلم.
ووقع عند الترمذي، وابن خزيمة، وصححاه من طريق عكرمة بن
عمار، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجمعة، فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد، يخطب، فجاء إليه رومي، فقال: ألا نصنع لك منبرا". الحديث، ولم يسمه، فيحتمل أن يكون المراد بالرومي تميم الداري؛ لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم. وقد عرفت مما تقدم سبب عمل المنبر.
وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة السابعة. وفيه نظر لذكر العباس، وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع. وجزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان. وفيه نظر أيضًا، لما ورد في حديث الإفك في "الصحيحين" عن عائشة، قالت:"فثار الحيان، الأوس والحزرج حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل، فخفضهم، حتى سكتوا". فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر، وإلا فهو أصح مما مضى.
وحكى بعض أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر من خشب، ويعكر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب.
ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: بعث معاوية إلى مروان، وهو عامله على المدينة أن يحمل إليه
المنبر، فأمر به، فقُلِعَ، فأظلمت المدينة، فخرج مروان، فخطب، وقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجاراً وكان ثلاث درجات، فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم. ورواه من وجه آخر، قال: "فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم، وقال: فزاد فيه ست درجات، وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس.
قال ابن النجار، وغيره: استمر على ذلك إلا ما أصْلِحَ منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، فاحترق، ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرًا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرًا، فأزيل منبر المظفر، فلم يزل إلى هذا العصر، فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين وثمانمائة منبرًا جديدًا، وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرًا جديدًا إلى مكة أيضًا، شكر الله له صالح عمله آمين. اهـ "فتح" جـ 3 ص 59 - 61.
وقال في "العمدة" جـ 6 ص 216: فإن قلت: رَوَى أبو داود عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بَدَّنَ
(1)
قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرًا يا رسول الله، يَجْمَع -أو يَحْمِل- عظامك؟ قال:"بلى" فاتخذ له منبرًا مِرْقاتين". أي اتخذ له منبرًا درجتين، فبينه وبين ما ثبت في
(1)
قوله: بدن: يقال: بَدَنَ، بُدُونًا، من باب قَعَدَ: عظُم بدنه بكثرة لحمه، فهو بَادن، يشترك فيه المذكر، والمؤنث، والجمع: بُدَّن، مثل راكع ورُكَّع، وبَدَّن، تبدينًا: كَبِرَ، وأسنَّ. اهـ مصباح. جـ 1 ص 4.
الصحيح أنه ثلاث درجات منافاة. قلت: الذي قال: مرقاتين لم يعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها صلى الله عليه وسلم. اهـ.
(النَّجَّارَ) بالنصب صفة لغلام. قال الفيومي رحمه الله: نَجَرْتُ الخشبة، نَجْرًا، من باب قتل، والفاعل نَجَّار، والنِّجارة، مثلُ الصِّنَاعة. اهـ. وفي اللسان: النَّجْرُ: نَحْتُ الخشبة، نَجَرَهَا، ينجُرها، نَجْرًا: نَحَتَها. ونُجَارة العُودِ: ما انتُحِتَ منه عند النَّجْر. اهـ. جـ 6 ص 4350.
(أن يعمل لي أعواداً) أي يجمعها، ويصورها، ويرتبها على وجه يمكن الجلوس عليها. قاله السندي رحمه الله تعالى. و"أن" مصدرية، والمصدر المؤول مجرور بحرف جر مقدر، كما سبق تقريره في قوله:"أنْ مُري". وفي الكبرى "يعمل لي" بحذف "أن" فيحتمل الرفع على الاستئناف، والجزم على أنه جواب الأمر. والله أعلم.
(أجلس عليهن إِذا كلمت الناس) برفع "أجلس" على الاستئناف، ولا يحتاج إلى تقدير "وأنا أجلس"، كما قدره العيني في العمدة. وجَزْمِهِ على أنه جواب الأمر.
(فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة) وفي رواية سفيان عن أبي حازم: "من أثْلِ الغابة".
والطَّرْفَاء -بفتح الطاء، وسكون الراء المهملتين، وبعد الراء فاء
ممدودة- قال سيبويه: الطرْفاء: واحدٌ، وجمعٌ، والطرفاء: اسم للجمع. وقيل: واحدتها: طرْفَاءة. وقال ابن سيدَه: والطرَفَة: شجرة، وهي الطَّرَف، والطرْفاء: جماعة الطَّرَفَة، وبها سمي طَرَفَة بن العبد. والطَّرَفُ -بفتحتين-: اسم يُجْمَعُ على طَرْفَاء، وقلما يستعمل في الكلام إلا في الشعر، والواحدة طرَفَة، وقياسه قَصَبَة، وقَصَب، وقَصْبَاء وشجرة، وشجر، وشَجْراء. اهـ "لسان" بتصرف.
والأثْلُ -بفتح، فسكون-: شجر يشبه الطَّرفاء، إلا أنه أعظم منه، وأكرم، وأجود عودًا، تسوَّى به الأقداح الصُّفْر الجِيَاد. وفي الصحاح: هو نوع من الطرفاء. والأثْلُ: أصول غليظة، يسوَّى منها الأبواب، وغيرها، ووَرَقُهُ عَبْلٌ
(1)
كوَرَق الطرْفَاء.
وقال أبو حنيفة: قال أبو زياد: من العِضَاة: الأثْلُ، وهو طُوَال في السماء، مستطيل الخشب، وخشبه جيد يُحمل إلى القرى، فتُبْنى عليه بيوتُ المَدَر، وورَقُه هَدَبٌ طوال دُقَاق، وليس له شوك، ومنه تُصنع القِصَاع والجِفَان، وله ثمر حمراء، كأنها أُبْنَة -يعني عُقْدة الرِّشاء- واحدته أثْلَة، وجمعه: أُثُول، كتمر، وتمور. اهـ لسان جـ 1 ص 28.
والغابة -بالغين المعجمة، وبعد الألف باء موحدة-: هي أرض علي تسعة أميال من المدينة، كانت بها إبل النبي صلى الله عليه وسلم مُقيمةً بها للمَرْعَى، وبها وقعت قصة العُرَنيين الذين أغاروا على سَرْحِه. وقال ياقوت: بينها وبين المدينة أربعة أميال. وقال الزمخشري: الغابة بَرِيد من المدينة، من
(1)
أي: ضَخْمٌ.
طريق الشام. وفي الجامع: كل شجر مُلْتَفٍّ فهو غابة. وفي المحكم: الغابة: الأجَمَة التي طالت، ولها أطراف مرتفعة باسقة. وقال أبو حنيفة: هي أجَمَة القصب، قال: وقد جُعِلَت جماعة الشجر غابًا، مأخوذًا من الغيابة، والجمع غابات، وغاب. اهـ "عمدة القاري" جـ 6 ص 216.
والأجَمُ: الشجر المُلْتَفُّ، جمعه أجم، كقصبة، وقصب، والآجام جمع الجمع. قاله في المصباح.
(ثم جاء بها) أي جاء الغلام بتلك الأعواد المعمولة منبرًا إلى بيت المرأة الآمرة له (فأرسلت) أي المرأة (إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) تعلمه بأنه فرغ من عملها (فأمر بها) أي أمر بوضع تلك الأعواد بعد أن جيء بها إليه (فوضعت هنا) أي في محلها التي هي فيه حينما حَدَّثَ سهل بالحديث، ولا زال موضعها إلى الآن (ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رقي) من باب تَعِبَ، ومصدره رُقِيّ، على وزن فُعُول، ورَقْيٌ، كفَلْسٍ. قاله في المصباح (فصلَّى عليها) أي على تلك الأعواد، وكانت صلاته على الدَّرَجَة العليا من المنبر. قاله في "الفتح" جـ 3 ص 61.
(وكبر وهو عليها، ثم ركع، وهو عليها، ثم نزل القهقرى) أي نزل من المنبر نزولاً إلى جهة ورائه.
والقَهْقَرى: الرجوع إلى خَلْف، فإذا قلت: رَجَعتُ القَهْقَرى، فكأنك قلت: رجعت الرجوعَ الذي يُعرفُ بهذا الاسم؛ لأن القهقرى ضرب من الرجوع، وقَهْقَرَ الرجلُ في مشيته: فَعَلَ ذلك. وتقهقر: تراجع على قفاه. والقَهْقرى: مصدر قَهْقَرَ: إذا رجع على عقبيه. قاله
في اللسان. جـ 5 ص 3765.
وقال في العمدة جـ 6 ص 216: قيل: يقال: رجع القهقرى، ولا يقال: نزل القهقرى؛ لأنه نوع من الرجوع، لا من النزول. وأجيب بأنه لما كان النزول رجوعًا من فوق إلى تحت صح ذلك.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره العيني لا حاجة إليه؛ لأن معنى القهقرى موجود في حال النزول، إذ هو الرجوع إلى خلف ونزول النبي صلى الله عليه وسلم كان إلى جهة خلفه، وإنما فعل ذلك محافظةً على استقبال القبلة. فتبصر. والله أعلم.
قال الحافظ: لم يذكر القيام بعد الركوع في هذه الرواية، وكذا لم يذكر القراءة بعد التكبيرة، وقد تبين ذلك في رواية سفيان، عن أبي حازم، ولفظه:"كبر، فقرأ، وركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى". وفي رواية هشام بن سعد، عن أبي حازم، عند الطبراني:"فخطب الناس عليه، ثم أقيمت الصلاة، فكبر، وهو على المنبر". فأفادت هذه الرواية تقدم الخطبة على الصلاة. اهـ "فتح" جـ 3 ص 62.
(فسجد في أصل المنبر) أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه (ثم عاد) زاد مسلم من رواية عبد العزيز: "حتى فرغ من صلاته"، يعني أنه صلى الله عليه وسلم رجع إلى درجات المنبر بعد القيام من السجدة الثانية، ثم فعل هكذا إلى أن انتهى من تلك الصلاة.
قال السندي رحمه الله: وهذا العمل القليل لا يبطل الصلاة، وقد فعله صلى الله عليه وسلم لبيان كيفية الصلاة وجواز هذا العمل، فلا إشكال، ويفهم منه
أن نظر المقتدي إلى إمامه جائز (فلما فرغ) من صلاته (أقبل على الناس، فقال: يا أيها الناس إِنما صنعت هذا لتأتموا بي) -بكسر اللام: أي لتقتدوا بأفعالي (ولتعلَّموا صلاتي) -بكسر اللام، وفتح التاء المثناة من فوق، وتشديد اللام- وأصله لتتعلموا، فحذفت إحدى التاءين، تخفيفًا لتوالي المثلين، كما قال ابن مالك:
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ الْعِبَرْ
وعطف جملة "لتعلموا" على ما قبله للتأكيد.
يعني أنه إنما صلى على المنبر ليرى من قد يخفى عليه رؤية صلاته إذا صلى على الأرض.
وقال ابن حزم: وبكيفية هذه الصلاة قال أحمد، والشافعي، والليث، وأهل الظاهر. ومالك، وأبو حنيفة لا يجيزانها. وقد رد العيني هذا على ابن حزم، وقال: هذا غير صحيح، بل مذهب أبي حنيفة الجواز مع الكراهة. وقال ابن التين: الأشبه أن ذلك كان له خاصة. اهـ "عمدة" جـ 6 ص 216.
قال الجامع عفا الله عنه: دعوى الخصوصية غير صحيحة، فالصواب جواز ذلك لكل من احتاج التعليم لمن لا يعلم كيفية الصلاة. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (45/ 739)، و"الكبرى"(45/ 818) بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود في "الصلاة" كلهم بسند المصنف. وأخرجه البخاري أيضًا في "البيوع" به. وفي "الصلاة"، عن علي ابن المديني، عن ابن عيينة، عن أبي حازم، به.
ومسلم فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة -وزهير بن حرب- وابن أبي عمر-. وابن ماجه فيه عن أحمد بن ثابت الجحدري، كلهم عن ابن عيينة به. وأخرجه الحميدي -برقم 926 - وأحمد 5/ 330 و 339. والدارمي 1261. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز الصلاة على المنبر، وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم صلاته عليه، وارتفاعه على المأمومين بالاتباع له، والتعليم، فإذا ارتفع الإِمام على المأموم لغير حاجة كمثل هذا كره، وبه قال الشافعي، وأحمد، والليث. وعن مالك، والشافعي، المنع، وبه قال الأوزاعي.
ومنها: جواز اختلاف موقف الإِمام والمأموم في العلو والسفل. قال البخاري في صحيحه: قال علي بن عبد الله -يعني المديني-:
سألني أحمد بن حنبل رحمه الله عن هذا الحديث؟ قال: إنما أردتُّ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى من الناس، فلا بأس أن يكون الإِمام أعلى من الناس بهذا الحديث؟ قال: فقلت: إن سفيان بن عيينة كان يُسأل عن هذا، فلم تسمعه منه؟ قال: لا. اهـ.
ولابن دقيق العيد في ذلك بحث، فإنه قال: من أراد أن يستدل به على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستقم؛ لأن اللفظ لا يتناوله، ولانفراد الأصل بوصف معتبر، تقتضي المناسبةُ اعتبارَه، فلابد منه.
ومنها: جواز العمل اليسير في الصلاة، وكذا الكثير إن تفرق.
ومنها: جواز الصلاة على الخشب، وكره ذلك الحسن، وابن سيرين. أخرجه ابن أبي شيبة عنهما. وأخرج أيضًا عن ابن مسعود، وابن عمر نحوه. وعن مسروق أنه كان يحمل لَبِنةً ليسجد عليها إذا ركب السفينة. وعن ابن سيرين نحوه. قال الحافظ: والقول بالجواز هو المعتمد.
ومنها: جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وأن ذلك لا يقدح في صلاته.
ومنها: أن من فعل شيئاً يخالف العادة يبين حكمته لأصحابه.
ومنها: استحباب اتخاذ المنبر لكل خطيب، خليفة كان، أو غيره، لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب، والسماع منه.
وقال ابن بطال: إن كان الخطيب هو الخليفة، فسنته أن يخطب على
المنبر، وإن كان غيره يخير بين أن يقوم على المنبر، أو على الأرض. وتعقبه الزين ابن المنير بأن هذا خارج عن مقصود الترجمة، ولأنه إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء، فإن كان من الخلفاء الراشدين، فهو سنة متبعة، وإن كان من غيرهم، فهو بالبدعة أشبه منه بالسنة.
قال الحافظ: قلت: ولعل هذا هو حكمة هذه الترجمة -يعني ترجمة البخاري بقوله: "باب الخطبة على المنبر"- أشار بها إلى أن هذا التفصيل غير مستحب، ولعل مراد من استحبه أن الأصل أن لا يرتفع الإِمام عن المأمومين، ولا يلزم من مشروعية ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم لمن ولي الخلافة أن يشرع لمن جاء بعدهم. وحجة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السامعين، وتعليمهم بعض أمور الدين.
ومنها: استحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد، إما شكرًا، وإما تبركًا.
ومنها: جواز نظر المأموم إلى إمامه في الصلاة، ليتعلم منه، وأن ذلك لا ينافي الخشوع. والله ولي التوفيق. ذكر معظم هذه الفوائد في الفتح جـ 2 ص 41، جـ 3 ص 62.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
46 - الصَّلاةُ عَلَى الحِمَارِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز الصلاة على الحمار.
والحمار -بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم-: الذكر، والأنثى أتَانٌ، وحمارة بالهاء نادر، والجمع حَمِير، وحُمُر -بضمتين- وأحمِرَة. أفاده في "المصباح". والله تعالى أعلم.
740 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:"رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى خَيْبَرَ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة بن سعيد) تقدم في الباب الماضي.
2 -
(مالك) بن أنس الإِمام الحجة المدني، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(عمرو بن يحيى) بن عمارة بن أبي حسن المازني المدني ثقة، من [6]، تقدم في 80/ 97.
4 -
(سعيد بن يسار) أبو الحُباب -بضم المهملة، وموحدتين-
المدني، مولى ميمونة، وقيل: مولى شُقْران، أو مولى الحسن بن علي، وقيل: مولى بني النجار، والصحيح أنه غير سعيد بن مرجانة. ثقة متقن، من [3].
وثقه ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال العجلي: مدني ثقة. وقال ابن عبد البر: لا يختلفون في توثيقه. وقال الواقدي: مات سنة 116، وقيل: 117، وهو ابن 80 سنة. وقال ابن حبان في الثقات: مات بالمدينة سنة 117، وفي نسخة أخرى 120، أخرج له الجماعة.
5 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رواته كلهم ثقات، من رجال الجماعة.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبلخي، والظاهر أنه دخل المدينة.
ومنها: أن فيه ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى 2630 حديثًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عمر) رضي الله عنهما، أنه (قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل. وظاهره يشمل الفرض، لكنه وقع الإجماع على المنع من صلاة الفرض على الدابة بغير عذر، فوجب حمله على النافلة. وتقدم تمام البحث في هذا في أوائل كتاب الصلاة برقم 23/ 490، 491، 492. فراجعه تستفد. والله ولي التوفيق.
(وهو متوجه) أي ذاهب. وفي رواية مسلم "مُوَجِّةٌ"، وهو بمعنى "متوجه". والجملة في محل نصب عطفاً على الحال الأولى، أو حال من فاعل "يصلي"(إِلى خيبر) بلد في الشمال الشرقي من المدينة، على ثلاثة أيام منها، والمدينة واقعة بين مكة وخيبر، فمستقبل خيبر مستدبر للكعبة. قيل: أول من سكنها رجل إسرائيلي اسمه خيبر، فسميت باسمه. وهي ممنوعة من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي، باعتبار البقعة.
دل الحديث على ما ترجم له المصنف، وهو جواز الصلاة على الحمار، ومثله سائر الدواب كالجمل ونحوه وعلى طهارة عرقه؛ لأن التحرز منه متعذر مع ملامسته، ولاسيما إذا طال زمن الركوب.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا صحيح أخرجه المصنف هنا (46/ 740)، و"الكبرى"(46/ 819)، عن قتيبة، عن مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عنه. وتكلم فيه
المصنف، وسيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى مع الجواب عنه. وأخرجه مسلم في "كتاب صلاة المسافرين" عن يحيى بن يحيى، وأبو داود فيه عن القعنبي -كلاهما عن مالك، به. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
741 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:"أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ رَاكِبٌ إِلَى خَيْبَرَ، وَالْقِبْلَةُ خَلْفَهُ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى عَلَى قَوْلِهِ: "يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ" وَحَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ: الصَّوَابُ مَوْقُوفٌ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن منصور) بن داود بن إبراهيم الطوسي، نزيل بغداد، أبو جعفر العابد، ثقة من صغار [10].
سئل عنه أحمد، فقال: لا أعلم إلا خيرًا، صاحب صلاة. وقال النسائي: ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به. وقال ابن أبي داود:
كان من الأخيار. ووثقه مسلمة، وابن حبان. وقال أبو بكر الخلال: كان يشبه في صلاته بمعروف الكرخي. وقال السراج: مات سنة 254 عن 80 سنة. وقال البغوي: مات سنة 265. روى عنه أبو داود، والنسائي.
2 -
(إِسماعيل بن عمر) أبو المنذر الواسطي، نزيل بغداد، ثقة، من [9].
قال أحمد بن منصور: قلت: لأحمد: عمن أكتب من المشيخة؟ قال: أبو المنذر إسماعيل بن عمر. قال: وكان عابدًا. وقال ابن معين: من تجار أهل واسط، ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق. ووثقه ابن المديني، وأبو بكر الخطيب. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد سنة 200. أخرج له البخاري في "خلق أفعال العباد"، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
3 -
(داود بن قيس) الفَرَّاء الدَّبَّاغ، أبو سليمان القرشي مولاهم المدني، ثقة، فاضل، من [5]، أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم، والأربعة. تقدم في 96/ 120.
4 -
(محمد بن عجلان) المدني صدوق، اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، من [5]، توفي سنة 148، أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم، والأربعة. تقدم في 36/ 40.
5 -
(يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني، ثقة ثبت، من [5] تقدم في 22/ 23.
6 -
(أنس بن مالك) الأنصاري الصحابي الشهير، رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، ورجاله كلهم ثقات، غير ابن عجلان، فصدوق، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم، عن بعض؛ داود، وابن عجلان، ويحيى بن سعيد، وهو من رواية الأقران، فكلهم من الطبقة الخامسة.
وشرح الحديث واضح من شرح الحديث الماضي.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أنس بن مالك هذا صحيح. أخرجه المصنف هنا (46/ 741)، و"الكبرى"(46/ 820)، وهو من أفراده، لم يخرجه غيره من أصحاب الأصول. كما أشار إليه الحافظ المزي في "تحفته" جـ 1 ص 429.
(قال أبو عبد الرحمن) النسائي رحمه الله تعالى: (لا نعلم أحدًا تابع عمرو بن يحيى على قوله: "يصلي على حمار"). هكذا نسخ "المجتبى" بتأخير هذا الكلام إلى هنا، والذي في "الكبرى" تقديمه مع حديث ابن عمر رضي الله عنه، وهو الأولى لأنه مرتبط به.
وغرض المصنف بهذا أن عمرو بن يحيى المازني خالف الجماعة في قوله: "على حمار"، فإنهم رووه بلفظ:"على راحلته" و"على دابته". وقد تقدمت رواية الجماعة برقم 490، 491، 492 وتقدم الكلام عليها مستوفى هناك، فراجعه تستفد.
وكذا اعترض الدارقطني على مسلم في رواية عمرو هذه.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: قال الدارقطني، وغيره: هذا غلط من عمرو بن يحيى المازني، قالوا: وإنما المعروف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وعلى البعير، والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس، كما ذكره مسلم بعد هذا، ولهذا لم يذكر البخاري حديث عمرو. هذا كلام الدارقطني، ومتابعيه.
وفي الحكم بتغليط عمرو نظر؛ لأنه نقل شيئًا محتملًا، فلعله كان الحمار مرة، والبعير مرة، والشاذ مردود، وهو المخالف للجماعة. والله أعلم. اهـ كلام النووي جـ 5 ص 211 - 212.
قال الجامع عفا الله عنه: أول كلام النووي هو الصواب، فالحديث صحيح، كما صححه مسلم، فزيادة عمرو مقبولة، لعدم منافاتها لما رواه الجماعة، إذ أمكن الجمع يحمل روايته على وقت، وروايتهم على وقت، أو أوقات. ويشهد لذلك حديث أنس رضي الله عنه الذي بعده.
وقال الحافظ رحمه الله في الفتح جـ 3 ص 288: وقد روى السرَّاج من طريق يحيى بن سعيد، عن أنس رضي الله عنه "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار، وهو ذاهب إلى خيبر". وإسناده حسن، وله شاهد عند مسلم من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار، وهو متوجه إلى خيبر" اهـ.
فدل كلام الحافظ رحمه الله على أن الحديثين صحيحان، يشهد أحدهما للآخر. وهذا هو الراجح عندي. وأما الشذوذ الذي ذكره النووي في كلامه السابق، على خلاف عادته، فإنه كان يدافع عن مسلم في مثله إذا اعترض الدارقطني وغيره بالشذوذ، فيجيب عنه بأنه من زيادات الثقات. فيجاب عنه هنا بما يجيب هو به في غير هذا المحل، ولاسيما مع وجود الشاهد المذكور. والله سبحانه، وتعالى أعلم.
(وحديث يحيى بن سعيد، عن أنس، الصواب أنه موقوف. والله سبحانه، وتعالى أعلم).
غرض المصنف رحمه الله تعالى بهذا تضعيف رواية يحيى بن سعيد المرفوعة، وأن صوابها الوقف على أنس رضي الله عنه من فعله.
وذلك لمخالفة غيره، فقد رواه الشيخان من طريق همام بن يحيى، عن أنس بن سيرين، فجعله من فعله، ولفظه عند البخاري: "قال استقبلنا أنسًا حين قدم من الشام، فلقيناه بعَينِ التَّمْرِ، فرأيته يصلي على
حمار، ووجهه من ذا الجانب -يعني عن يسار القبلة- فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة، فقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَلَه، لم أفعله".
والجواب عنه ما تقدم من أن المرفوع لا ينافي الموقوف، فأنس بن سيرين روى فعلَه، ويحيى بن سعيد روى قولَه، ولقوله شاهد من حديث ابن عمر المتقدم، كما تقدم في كلام الحافظ رحمه الله تعالى.
والحاصل أن الحديثين صحيحان. والله سبحانه، وتعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
9 - كِتَابُ الْقِبْلَةِ
أي هذا كتاب ذكر الأحاديث الدالة على أحكام القبلة.
اعلم أن أبواب القبلة المذكورة هنا تقدمت بأسانيدها، وأحاديثها، في أوائل كتاب الصلاة، قبيل كتاب المواقيت، برقم (22/ 488، 489)، (23/ 490، 491، 492)، (24/ 493).
والظاهر أنه ذكرها هناك استطرادًا، لمناسبة فرض الصلاة، ولذا ترجم هناك بقوله:"باب فرض القبلة"، وأما ذكرها هنا فهو أصل وضعها المناسب. وذكرها في الكبرى بعد كتاب الإمامة، وما هنا أحسن، إذ ترتيبها المناسب تقديم بيان فرض الصلاة، وما يتبع ذلك، ثم الأوقات، ثم الأذان، ثم المساجد، ثم القبلة.
وذلك لأن المكلف يحتاج أن يعرف أولًا فرض الصلاة، وأحكامها، ثم مواقيتها ، ليؤديها في الأوقات المطلوبة لها، ثم إنه ربما يكون مشغولاً بحوائجه، كما هو حال أكثر الناس، فيحتاج إلى التنبيه بدخول وقت الصلاة، فلذا شرع له الأذان، إذ هو إعلام بدخول وقت الصلاة، ثم يحتاج إلى مكان يؤدي فيه الصلاة، وهو المسجد، ونحوه، ثم بعد أن يدخل مكان الصلاة يحتاج إلى معرفة الجهة التي يتوجه إليها في أداء الصلاة، وهي القبلة.
فرتبها المصنف -رحمه الله تعالى- هكذا، فذكر أوَّلاً فرض الصلاة،
وما يتبع ذلك، ثم المواقيت، ثم الأذان، ثم المساجد، ثم القبلة. وهكذا ترتيبًا متناسباً، فما خالف ذلك يعتبر استطرادًا لمناسبة مَّا.
وقد تقدم البحث عن أحاديث هذه الأبواب الثلاثة، وما يتعلق بذلك مستوفى بالأرقام المذكورة، فأقتصر هنا على حل بعض الغوامض، من الأسانيد، والمتون، وأحيل تمام البحث إلى الأرقام المذكورة، إن شاء الله تعالى.
***
1 - بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
742 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ:"قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وُجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَمَرَّ رَجُلٌ، قَدْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ وُجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَانْحَرَفُوا إِلَى الْكَعْبَةِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمد بن إِسماعيل بن إِبراهيم) الأسدي المعروف أبوه بابن علية، البصري نزيل دمشق، وقاضيها، ثقة، مات سنة 264 من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 22/ 489.
2 -
(إِسحاق بن يوسف الأزرق) الواسطي، ثقة، مات سنة 195، من [9] أخرج له الجماعة، تقدم في 22/ 489.
3 -
(زكريا بن أبي زائدة) خالد، وقيل: غيره، أبو يحيى
الكوفي، ثقة، يدلس، وسماعه من أبي إسحاق بآخره، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 93/ 115.
4 -
(أبو إِسحاق) السبيعي، عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي، ثقة عابد اختلط بآخره، من [3]، تقدم في 38/ 42.
5 -
(البراء بن عازب) أبو عمارة الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، تقدم في 86/ 105. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن البراء بن عازب) رضي الله عنهما، أنه (قال: قدم) -بكسر الدال- (رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فصلى نحو) أي جهة (بيت المقدس) فيه لغتان: إحداهما: فتح الميم، وسكون القاف، وكسر الدال، ومعناه: محل الطهارة من الذنوب. والثانية: بوزن محمد، ومعناها: المطهَّر. وتقدم البحث فيه مستوفى بالرقم المتقدم.
(ستة عشر شهرًا) وتقدم "ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا" بالشك، ووجه الجمع فيه أن من قال:"ستة عشر" ألغى الكسر من شهر القدوم، وشهر التحويل، ومن قال:"سبعة عشر" عدهما معًا (ثم وجه) بالبناء للمجهول، أي أمره الله تعالى بالتوجه (إلى الكعبة) حيث قال له {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] الآية.
(فمر رجل) هو عباد بن بشر بن قَيْظِيّ، وقيل: عبَّاد بن نَهِيك (قد صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم) جملة في محل جر صفة لرجل (على قوم من الأنصار) متعلق بمَرَّ، وهم بنو سَلمة (فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجه إِلى الكعبة، فانحرفوا إِلى الكعبة) بصيغة الماضي أي تحول القوم إلى جهة الكعبة، بأن تحول الإِمام من مقدم المسجد إلى مؤخره، وتحول الرجال، فصاروا خلفه، وتحولت النساء، فصِرْنَ خلف الرجال.
ويحتمل أن يكون بصيغة الأمر، أي أمرهم ذلك الرجل بالانحراف، إليها. والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم تمام البحث في شرح الحديث، والمسائل المتعلقة به بالرقم المذكور، فلا نطيل الكتاب بإعادتها، فراجعها تستفد. والله ولي التوفيق.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
2 - بَابُ الْحَالِ الَّتِي يَجُوزُ عَلَيْهَا اسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ
وقد تقدم برقم (23/ 490) بلفظ "يجوز فيها"، وهي واضحة، فتكون "على" هنا، بمعنى "في". والله أعلم.
743 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ، حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ".
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة) بن سعيد، تقدم قبل باب.
2 -
(مالك بن أنس) الإِمام الحجة المدني، تقدم قبل باب.
3 -
(عبد الله بن دينار) العدوي مولاهم المدني، ثقة، من [4]، تقدم في 167/ 260.
4 -
(ابن عمر) هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، تقدم قبل باب.
والإسناد من رباعيات المصنف، وهو (42) من رباعيات الكتاب، ورجاله مدنيون، غير قتيبة، فبغلاني. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عمر) رضي الله عنهما، أنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر) والمراد به التطوع، لا الفريضة، كما تقدم تحقيقه بالرقم المذكور (حيثما توجهت) إليه.
(قال مالك) بن أنس (قال عبد الله بن دينار: وكان) عبد الله (ابن عمر) رضي الله عنهما (يفعل ذلك) أي المذكور من الصلاة على الراحلة في السفر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الجامع عفا الله عنه: المسائل المتعلقة بهذا الحديث تقدمت بالرقم المتقدم، فراجعها تستفد. وبالله التوفيق.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
3 - بَابُ اسْتِبَانَةِ الْخَطَأ بَعْدَ الاجْتِهَادِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم اتضاح الخطأ في القبلة بعد أداء الصلاة إليها بالاجتهاد.
ومحل الاستدلال قوله: "وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة". وذلك لأن الشام غير قبلة حينئذ، إلا أنهم ما علموا بذلك، واعتمدوا على الدليل المنسوخ الذي هو دليل ظاهرًا، وليمس بدليل عند التحقيق، فكل من خفي عليه جهة القبلة، فصلى إلى جهة أخرى اعتمادًا على الظن والاجتهاد، فحكمه حكم هؤلاء يستدير إلى القبلة إذا علم بها، وما صلى قبل العلم فهو صحيح. والله أعلم.
745 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا السند هو السند الذي مر في الباب الماضي، وهو (43) من رباعيات الكتاب، وشرح الحديث يعلم من شرح حديث البراء رضي الله عنه الذي قبل باب. وأيضًا قد مر شرحه
مستوفى في أوائل الصلاة برقم (24/ 493). فراجعه تستفد. والله سبحانه ولي التوفيق.
وقوله: (فاستقبلوها) يحتمل أن يكون بكسر الباء على أنه صيغة أمر، وهو من كلام الرجل الآتي، ويحتمل أن يكون بفتحها فعلًا ماضيًا، وهو حكاية لحالهم. والأول هو الظاهر؛ لأن الثاني يغني عنه قوله:"فاستداروا إلى الكعبة". والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ، وإليه أنيب.
***
4 - سُتْرَةُ الْمُصَلِّي
أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على مشروعية اتخاذ السترة للمصلي.
اعلم أنه كان الأولى للمصنف رحمه الله تعالى أن يجعل لأبواب السترة كتابًا خاصًا، ولا يذكرها تحت كتاب القبلة، وأحسن من هذا صنيعه في "الكبرى"، حيث ترجم بقوله:"أبواب السترة"، ثم قال:"سترة المصلي". وهو قريب من صنيع البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، حيث قال:"أبواب سترة المصلي"، ثم قال:"بابٌ سترةُ المصلي سترةُ من خلفه".
والسُّتْرَةُ -بضم المهملة، وسكون المثناة من فوق-: ما استُتِر به، من شيء كائنًا ما كان. قال الفيومي رحمه الله تعالى: السُّتْر -يعني بكسر، فسكون-: ما يُسْتَر به، وجمعه: ستور. والسُّتْرة -بالضم- مثله. قال ابن فارس: والسُّتْرة: ما استترت به، كائنًا ما كان، والسِّتَارة -بالكسر- مثله، والسِّتار بحذف الهاء لغة. وسترت الشيء سَتْرًا، من باب قتل.
ويقال لما يَنصِبه المصلي قُدَّامه علامة لمصلاه، من عصا، وتَسنيم تراب، وغيره: سُتْرَةٌ؛ لأنه يستر المار من المرور، أي يحجبه.
وفي "اللسان": سَتَرَ الشيءَ، يستُره -بضم التاء- ويستره -بكسرها- سَتْرًا -بفتح فسكون- وسَتَرًا -بفتحتين- فافاد أن فعله من بابي
قتل، وضرب.
تنبيه:
حكم اتخاذ السترة الوجوب على الراجح، وقيل باستحبابه، وهو رأي الجمهور. وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسائل الآتية، إن شاء الله تعالى.
746 -
أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي؟ فَقَالَ: "مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(العباس بن محمد الدوري) أبو الفضل البغدادي، خُوَارَزْمي الأصل، ثقة حافظ، من [11] توفي سنة 271، وقد بلغ 88 سنة، أخرج له الأربعة، تقدم في 102/ 135.
و"الدُّورِيّ" -بضم الدال المهملة، بعدها راء مهملة-: نسبة إلى دُور، محلة ببغداد، أو إلى بيع الدُّور، أو إلى دُورِ سُرَّ مَنْ رأى، أو إلى محلة بنيسابور. أفاده في "اللب". جـ 1 ص 326.
2 -
(عبد الله بن يزيد) أبو عبد الرحمن المقرىء المكي، أصله من البصرة، أو الأهواز، ثقة فاضل، من [9].
قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ثقة. وقال الخليلي: ثقة، حديثه عن الثقات يحتج به، ويتفرد بأحاديث. وقال أبو سعد الصفار، عن جده، عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء: كان ابن المبارك إذا سئل عن أبي؟ قال: زرزده، يعني ذهبًا مضروبًا خالصًا.
وقال محمد بن عاصم الأصبهاني: سمعت المقرىء يقول: أنا ما بين التسعين إلى المائة، وأقرأت القرآن بالبصرة ستاً وثلاثين سنة، وهاهنا بمكة خمساً وثلاثين سنة.
وقال البخاري: مات بمكة سنة 232، وفيها أرخه ابن سعد، وزاد: في رجب، قال: وكان كثير الحديث وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن قانع: مكي ثقة.
وذكر أبو العرب الحافظ أن ابن وهب روى عنه مع تقدمه، قال الحافظ: فلئن كان كذلك، فبين وفاته، ووفاة بشر بن موسى نيف وتسعون سنة. وفي "الزهرة": روى عنه البخاري اثني عشر حديثًا. أخرج له الجماعة.
3 -
(حيوة بن شريح) -بفتح أول حيوة، وسكون التحتانية، وفتح الواو، وتصغير شريح- بن صفوان بن مالك، التُّجِيبي، أبو زرعة المصري، ثقة ثبت، فقيه زاهد، من [7].
قال عبد الله بن أحمد: قيل لأبي: حيوة بن شريح، وعمرو بن الحارث، فقال: جميعًا، كأنه سوى بينهما. وقال حرب، عن أحمد: ثقة ثقة. وقال ابن معين: ثقة. وقال ابن يونس: كانت له عبادة وفضل.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي، وسئل عن حيوة، ويحيى بن أيوب، وسعيد بن أبي أيوب؟ فقال: حيوة أعلى القوم، وهو ثقة، وأحب إليّ من المفضل بن فضالة.
وقال ابن وهب: ما رأيت أشد استخفافًا بعمله من حيوة، وكان يعرف بالإجابة.
وقال ابن المبارك: ما وصف لي أحد، ورأيته، إلا كانت رؤيته دون صفته، إلا حيوة، فإن رؤيته كانت أكبر من صفته.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا المقرىء، ثنا حيوة بن شريح، وهو كندي شريف عدل رضي ثقة، توفي سنة 158، وأرخه الكلاباذي سنة 59، ووثقه العجلي، ومسلمة.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مستجاب الدعوة، يقال: إن الحصاة كانت تتحول في يده تمرة بدعائه، وقال: مات سنة 8 أو 9، وأرخه ابن يونس نقلًا عن ابن بكير 8.
وقال ابن سعد: مات في آخر خلافة المنصور، وكان ثقة. وقال ابن
وضاح: بلغني أن رجلًا كان يطوف، ويقول: اللهم اقض عني الدين، فرأى في المنام: إن كنت تريد وفاء الدين، فائت حَيْوَةَ بن شُرَيْحٍ، يدعو لك، فأتى الإسكندرية بعد العصر يوم الجمعة، قال: فأقمت حتى صار ما حوله دنانير، فقال لي: اتق الله، ولا تأخذ إلا قدر دينك، فأخذت ثلاثمائة.
وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": كتب إليّ عبد الله بن أحمد، قال: سمعت أبي يقول: لم يسمع حيوة من الزهري، ولا من بكير بن الأشج، ولا من خالد بن أبي عمران. أخرج له الجماعة.
4 -
(أبو الأسود) محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى الأسدي، المدني، يتيم عروة، لأن أباه كان أوصى إليه، وكان جده الأسود من مهاجري الحبشة، ثقة، من [6] توفي سنة بضع و130.
قال ابن لهيعة: قدم مصر سنة ست وثلاثين. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه، فقال: ثقة، قيل له: يقوم مقام الزهري، وهشام بن عروة؟ فقال: ثقة. وقال النسائي: ثقة. وقال الواقدي: مات في آخر سلطان بني أمية.
وذكره ابن حبان في الثقات، وزعم أنه توفي سنة سبع عشرة ومائة، قال الحافظ: وهذا وهم لا مرية فيه، والأشبه أن يكون من سقم النسخة، وكأنها كانت سنة سبع وثلاثين. وقال القراب: مات
سنة 31، وقال ابن سعد بعد ذكر وفاته عن الواقدي: ليس له عقب. وكان كثير الحديث، ثقة. وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن صالح: هو ثبت، له شأن، وذكر. وقال ابن البرقي: لا يعلم له رواية عن أحد من الصحابة، مع أن سنه يحتمل ذلك. أخرج له الجماعة.
5 -
(عروة) بن الزبير بن العوام المدني الفقيه، ثقة، من [3]، تقدم في 40/ 44.
6 -
(عائشة) رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، من رجال الجماعة، إلا شيخه فمن رجال الأربعة، وشيخه بغدادي، وعبد الله بن يزيد مكي، وحيوة مصري، والباقون مدنيون. وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة من المكثرين السبعة، روت 2210 أحاديث. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أنها (قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، عن سترة المصلي؟) أي مقدار ما يستر المصلي عما يقطع صلاته (فقال: "مثل مؤخرة الرحل) برفع "مثل"، بتقدير مبتدأ؛ أي هي مثل مؤخرة الرحل، أو مبتدأ حذف خبره؛ أي مثلُ
مؤخرة الرحل يكفي في الستر.
ومُؤْخِرَة الرحل، ومُؤَخَّرَتُهُ، وآخِرته، وآخره: خلاف قادِمَته، وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب، من كُورِ البعير. أفاده في اللسان.
وعبارة "ق" وشرحه: والآخِرَةُ من الرَّحْلِ: خلافُ قادِمَته، وكذا من السرج، وهي التي يستند إليها الراكب، والجمع الأوَاخِر، وهذه أفصح اللغات، كما في المصباح، كآخره، من غير تاء، ومُؤَخَّره، كمُعَظَّم، ومُؤَخَّرته، بزيادة التاء، وتكسر خاؤهما، مخففة، ومشددة، أما الُمؤْخِر، كمُؤْمِنٍ، لغة قليلة، وقد جاء في بعض روايات الحديث، وقد منع منها بعضهم، والتشديد مع الكسر أنكره ابن السِّكِّيت، وجعله في المصباح من اللحن. اهـ. "ق" مع شرحه "تاج". جـ 3 ص 9.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تحصل مما تقدم أن لآخرة الرحل ثماني لغات، آخرة؛ كقائمة، وآخر، كقائم، ومؤخَّر، ومؤَخَّرة، كمعظَّم، ومعَظَّمَة، بصيغة اسم المفعول المضعف، ومؤخِّر، ومؤَخِّرة، كمُعَلِّم، ومُعَلِّمَة، بصيغة اسم الفاعل المضعف، ومؤْخِر، ومؤْخِرة، كمُؤْمِن، ومؤمنة؛ بصيغة اسم الفاعل المخفف. وأفصحها آخرة.
والمؤخرة: هي العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب، من كور البعير. وهي -كما قال النووي رحمه الله قدر عظم الذراع، وهو نحو ثلثي ذراع. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم في "الصلاة"، عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن عبد الله بن يزيد، به. وعن زهير بن حرب، عن عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أيوب -كلاهما، عن أبي الأسود، به. والله أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (4/ 746)، و"الكبرى"(1/ 821) بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: قال النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" جـ 4 ص 216 - 217:
في هذا الحديث الندب إلى السترة بين يدي المصلي، وبيان أن أقل السترة مؤخرة الرحل. وهي قدر عظم الذراع، وهو نحو ثلثي ذراع، ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه هكذا وشرط مالك رحمه الله تعالى أن يكون في غلظ الرمح.
قال الجامع: قوله: "التدب إلى السترة" سيأتي أن الراجح القول بالوجوب، لقوة دليله.
قال العلماء: والحكمة في السترة كف البصر عما وراءه، ومنع من يجتاز بقربه.
واستدل القاضي عياض رحمه الله بهذا الحديث على أن الخط بين يدي المصلي لا يكفي، قال: وإن كان قد جاء به حديث، وأخذ به أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى، فهو ضعيف. واختلف فيه، فقيل: يكون مقوسًا كهيئة المحراب. وقيل: قائمًا بين يدي المصلي إلى القبلة. وقيل: من جهة يمينه إلى شماله. قال: ولم ير مالك رحمه الله تعالى، ولا عامة الفقهاء الخط.
قال النووي رحمه الله تعالى: وحديث الخط رواه أبو داود، وفيه ضعف، واضطراب، واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى فيه، فاستحبه في سنن حرملة، وفي القديم، ونفاه في البويطي. وقال جمهور أصحابنا باستحبابه، وليس في حديث مؤخرة الرحل دليل على بطلان الخط. والله أعلم. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي ما قاله القاضي عياض رحمه الله تعالى من أن الخط لا يكفي في السترة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أقل مقدار السترة لمَّا سئل عنها، فلو كان يكفي أقل من ذلك لبينه، فاتضح بذلك أن ما كان أقل من مؤخرة الرحل لا يعتبر ساترًا للمصلي. والله أعلم.
تنبيه:
حديث الخط المذكور هو ما أخرجه أبو داود في "سننه"، فقال: حدثنا مسدد، ثنا بشر بن المفضل، ثنا إسماعيل بن أمية، حدثني أبو عمرو بن
محمد بن حريث، أنه سمع جده حريثًا، يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد، فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا، فليخط خطًا، ثم لا يضره ما مر أمامه". وأخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي.
وذكر أبو داود عن ابن عيينة أنه قال: لم نجد شيئًا نشد به هذا الحديث، ولم يجيء إلا من هذا الوجه.
فهو حديث ضعيف؛ لاضطرابه، ولجهالة أبي محمد بن عمرو بن حريث، وجده. وقد ضعفه سفيان بن عيينة، والشافعي، والبغوي، وغيرهم. انظر:"التلخيص الحبير" جـ 1 ص 286 - فلا يصلح للاحتجاج به.
وقد حقق الكلام فيه العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى فيما كتبه على "مسند أحمد" رحمه الله تعالى جـ 13 - ص 123 - 126. قال رحمه الله تعالى تحت حديث رقم 7386 ما نصه:
إسناد ضعيف؛ لاضطرابه، ولجهالة حال راويه، كما سنبين في التخريج، إن شاء الله.
فقد رواه أحمد هنا عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي محمد بن عمرو بن حريث العذري، عن جده. وحكى أحمد أن سفيان قال مرة أخرى: عن أبي عمرو بن محمد بن حريث، عن جده -يعني أن
سفيان رواه عن إسماعيل، ثم اضطرب قوله في شيخ إسماعيل، بين أبي محمد بن عمرو بن حريث، وبين أبي عمرو بن محمد بن حريث.
ثم ذكر أحمد اختلافًا ثالثًا في رواية ابن عيينة نفسه -فرواه عقبة 7387 عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه. وكان يمكن الجواب عن هذه الرواية الأخيرة: أنه نسب أبا عمرو إلى جده، وسماه في الرواية أباه، ومثل هذا في الرواية كثير- لولا الاضطراب بعد ذلك على سفيان، وعلى إسماعيل بن أمية.
ثم ذكر رواية رابعة، عقب تيك: 7388 - عن عبد الرزاق، عن معمر، والثوري، كلاهما عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه، مثل رواية ابن عيينة الأخيرة. وستأتي هذه الرواية -رواية عبد الرزاق- مرتين أخريين في "المسند": 7454، 7604.
ورواه أبو داود -690: (255 - 256 - بنسخة "عون المعبود" عن محمد بن يحيى بن فارس، عن ابن المديني، عن ابن عيينة، مثل رواية ابن عيينة التي هنا: 7386 - بإسنادها الأول.
ورواه قبل ذلك: 689 - عن مسدد، عن بشر بن المفضل، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث، عن جده. فهي مثل رواية ابن عيينة التي هنا، بإسنادها الثاني.
ورواه ابن ماجه 943 بإسنادين معًا: عن أبي بكر بن خلف، عن حميد بن الأسود -وعن عمار بن خالد، عن ابن عيينة- كلاهما عن
إسماعيل بن أمية، عن أبي عمرو بن محمد بن عمرو بن حريث، عن جده حريث بن سليم.
ورواه ابن حبان في "الثقات" في ترجمة حريث بن عمارة، من بني عذرة، ص 169 - 170، عن أبي يعلى، عن أبي خيثمة، وهو زهير بن حرب، عن سفيان، وهو ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي محمد بن عمرو بن حريث، عن جده.
وللحديث أسانيد أخر من هذا الوجه، توافق بعض هذه الروايات، أو تخالفها، وكلها تدل على الاضطراب، وعلى جهالة هذا الشيخ الذي يروي عنه إسماعيل بن أمية.
وقد ذكر البيهقي بعضها في "السنن الكبرى" جـ 2 ص 270 - 271، وأشار البخاري في الكبير إليها كلها، أو إلى أكثرها، في ترجمة حريث، من بني عذرة، 2/ 1/ 66 - 67. وذكر ابن أبي حاتم بعضها، في كتاب العلل، رقم 534.
وعلماء الاصطلاح ضربوا هذا الحديث مثلًا للحديث المضطرب الإسناد. ومنهم من تكلف، فحاول ترجيح بعض الأسانيد على بعض. ولو ذهبنا ننقل أقاويلهم، أو نذكر ملخصها طال الكلام جدًا. ويكفي الإشارة إلى أماكنها لمن شاء أن يستوعب:
فانظر "التهذيب": (2/ 235، 236)، و (12/ 180، 181، 233). و"الإصابة": (4/ 2). و"التلخيص الحبير": 111. وشرح العراقي لمقدمة
ابن الصلاح: (104 - 106). وشرح العراقي أيضاً لألفيته: (1/ 114)، وشرح السخاوي عليها:(99، 100). وتدريب الراوي: (93، 94).
وابن عيينة نفسه كان يدرك الاضطراب في هذا الحديث من عند نفسه، بل لعله من عند شيخه إسماعيل بن أمية أيضاً، فقد روى عنه علي بن المديني ما يدل على ذلك:
ففي الكبير -بعد رواية إسناد علي بن المديني- قال سفيان: جاءنا بصري عتبة أبو معاذ، قال: لقيت هذا الشيخ الذي روى عنه إسماعيل، فسألته، فخلط عليّ، وكان إسماعيل إذا حدث بهذا يقول: عندكم شيء تشدونه؟!
وروى هذا أيضاً أبو داود عقب رواية الحديث من طريق ابن المديني عن سفيان: 69، بأوضح من ذلك: قال سفيان: لم نجد شيئاً نشد به هذا الحديث! ولم يجىء إلا من هذا الوجه! قال (القائل ابن المديني): قلت لسفيان: إنهم يختلفون فيه؟ فتفكر ساعة، ثم قال: ما أحفظ إلا أبا محمد بن عمرو، قال سفيان: قدم هاهنا رجل بعدما مات إسماعيل بن أمية، فطلب هذا الشيخ أبا محمد، حتى وجده، فسأله عنه، فخلط عليه!!
ثم قد رواه البيهقي (2/ 271) مفصلاً بأكثر من هذا، من طريق عثمان بن سعيد الدارمي: سمعت علياً -يعني ابن عبد الله بن المديني- يقول: قال سفيان في حديث إسماعيل بن أمية، عن أبي محمد بن
عمرو
…
(فأشار إلى هذا الحديث) قال علي: قلت لسفيان: إنهم يختلفون فيه؛ بعضهم يقول: أبو عمرو بن محمد، وبعضهم يقول: أبو محمد بن عمرو؟ فسكت سفيان ساعة، ثم قال: ما أحفظه إلا أبا محمد بن عمرو. قلت لسفيان: فابن جريج يقول: أبو عمرو بن محمد؟ فسكت سفيان ساعة، ثم قال: أبو محمد بن عمرو، أو أبو عمرو بن محمد! ثم قال سفيان: كنت أراه أخا لعمرو بن حريث. قال مرة: العذري.
قال علي: قال سفيان: كان جاءنا إنسان بصري لكم؛ عتبة، ذاك أبو معاذ، فقال: إني لقيت هذا الرجل الذي روى عنه إسماعيل، قال علي: ذلك بعدما مات إسماعيل بن أمية، فطلب هذا الشيخ، حتى وجده، قال عتبة: فسألته عنه، فخلطه عليّ. قال سفيان: ولم نجد شيئاً يَشُد هذا الحديث، ولم يجىء إلا من هذا الوجه.
قال سفيان: وكان إسماعيل إذا حدث بهذا الحديث يقول: عندكم شيء تشدونه به؟. وعتبة أبو معاذ الذي يحكي سفيان أنه لقي ذاك الشيخ: -أبا عمرو بن حريث، أو أبا محمد بن عمرو- هو عتبة بن حميد الضبي البصري، ضعفه أحمد، وذكره ابن حبان في الثقات، وسأل ابن أبي حاتم عنه أباه؟، فقال: كان بصري الأصل، كان جوّالة في طلب الحديث، وهو صالح الحديث. انظر ترجمته في: التهذيب (7/ 96)، وفي الجرح والتعديل (3/ 1/ 370). اهـ. ما حققه العلامة أحمد محمد
شاكر رحمه الله تعالى فيما كتبه على مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
قال الجامع عفا الله عنه: يستفاد من هذا التحقيق أن حديث الخط ضعيف، ولا يوجد له تابع، ولا شاهد يقويه، وأما ما رد به الحافظ قولَ ابن عيينة:"لم نجد شيئاً نشد به هذا الحديث" إلخ، في نكته على ابن الصلاح جـ 2 ص 773 - من أن الطبراني رواه من طريق أبي موسى الأشعري، وفي إسناده أبو هارون العبدي، وهو ضعيف. اهـ- فلا يلتفت إليه؛ لأن أبا هارون هذا لا يعتبر به؛ ففي "التقريب": عُمارة ابن جُوَين -مصغراً- أبو هارون العبدي مشهور بكنيته، متروك، ومنهم من كذبه، شيعي، من الرابعة. فكيف يرد بمثله على قول ابن عيينة: لم نجد شيئاً نشد به إلخ؟ إن هذا لشيء غريب من مثل الحافظ رحمه الله تعالى. وكذا تحسينه له في "بلوغ المرام"، ليس مما ينبغي. فتبصر.
والحاصل أن حديث الخط لا يثبت، وأن من صححه، أو حسنه، لم يأت بشيء يشد به وهنه، فلا ينبغي الالتفات إليه. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: اتخاذ السترة واجب -كما قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى- لصحة الأمر به.
فقد أخرج أبو داود، وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم، فليصل إلى سترة،
ولْيَدْنُ منها". حديث صحيح.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصل إلا إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله؛ فإنما هو شيطان". رواه ابنا خزيمة، وحبان في "صحيحيهما".
وعن سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه مرفوعاً: "ليستر أحدكم صلاته، ولو بسهم". أخرجه الحاكم، وقال على شرط مسلم.
وحمله جمهور الفقهاء على الاستحباب، بدليل حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر ذلك عليّ أحد". متفق عليه.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: المراد بقوله: "إلى غير جدار" إلى غير سترة. قال الحافظ رحمه الله: وسياق الكلام يدل على ذلك؛ لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته. ويؤيده رواية البزار بلفظ: "والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة، ليس لشيء يستره". اهـ "فتح". جـ 1 ص 231.
قال الجامع: حديث ابن عباس رضي الله عنهما لا يصلح لصرف الأمر إلى الاستحباب؛ لأن التفسير المذكور غير متفق عليه، حيث إن
بعض أهل العلم فسره بأنه صلى إلى سترة غير جدار، وهو الذي يدل عليه عمل البخاري حيث استدل بالحديث على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقد تبعه النووي فقال في شرح مسلم في كلامه على فوائد هذا الحديث:"فيه أن سترة الإمام سترة لمن خلفه".
وعندي أن حمل قول ابن عباس رضي الله عنهما: "إلى غير جدار" على ظاهره -كما فهمه البخاري- هو المتعين، فيكون المراد أنه صلى إلى سترة غير جدار، ولا تنافيه رواية البزار "إلى غير سترة" لإمكان حملها على سترة عريضة تستر الصفوف، أو هي رواية بمعنى ما فهمه الراوي.
والحاصل أنه أراد بذلك أن سترته غير كافية للصفوف؛ إذ لو صلى إلى جدار لستره، وستر الصفوف، فالظاهر أن ابن عباس رضي الله عنه لا يرى سترة الإمام سترة لمن خلفه.
وجملة الأمر أن الاستدلال بهذا الحديث على صرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب غير صحيح. والله أعلم.
وأما قول الشوكاني في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضاء ليس بين يديه شيء" -وفيه ضعف- ما نصه: "فيه دليل على أن اتخاذ السترة غير واجب، فيكون قرينة لصرف الأمر إلى الندب، ولكنه تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بنا، وتلك الأوامر السابقة خاصة بالأمة، فلا يصلح هذا الفعل أن يكون قرينة لصرفها"، فغير صحيح؛ إذ هذه القاعدة التي ذكرها ليست محل إجماع، بل فيها خلاف، والراجح قول من يقول: إن فعله
غير الخاص به مثل قوله، فيصلح لما يصلح له القول، فيُخَصّ به العام، ويقيد به المطلق، ونحو ذلك. وقد أشبعت الكلام فيه في غير هذا المحل. والله أعلم.
والحاصل أن اتخاذ السترة واجب، لظاهر الأمر الوارد في النصوص المتقدمة؛ إذ لم يوجد لها صارف. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
747 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَانَ يَرْكُزُ الْحَرْبَةَ، ثُمَّ يُصَلِّي إِلَيْهَا".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) أبو قدامة السرخسي، ثقة مأمون سني، من [10]، تقدم في 15/ 15.
2 -
(يحيي) بن سعيد القطان البصري، ثقة ثبت حجة، من [9]، تقدم في 4/ 4.
3 -
(عبيد الله) بن عمر العمري المدني، ثقة ثبت، من [5]، تقدم في 15/ 15.
4 -
(نافع) العدوي مولى ابن عمر المدني، ثقة ثبت فقيه، من
[3]
، تقدم في 12/ 12.
5 -
(ابن عمر) عبد الله رضي الله عنهما، تقدم في 12/ 12.
ولطائف الإسناد واضحة مما تقدم غير مرة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما (عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال) هكذا نسخ المجتبى بزيادة "قال". وفي الكبرى "أنه كان يركز الحربة" إلخ وهو واضح، والأول أيضاً له وجه، فيعود الضمير المستتر في "قال" إلى ابن عمر.
(يركز الحربة) يقال: ركَزت الرمح رَكْزاً، من باب قتل: أثبته بالأرض، والمركِز وِزان مسجِدٍ: موضع الثبوت. قاله الفيومي. وقال ابن منظور: الرَّكز: غَرْزك شيئاً منتصباً، كالرمح، ونحوه، ترْكُزُه، رَكْزًا في مَرْكَزه -بفتح الكاف. وقد ركزه يركُزُه، ويركِزُهُ رَكْزاً، ورَكَّزه: غرزه في الأرض. اهـ. فأفاد أن فعله من بابي قتل، وضرب، وأن المَرْكَزَ فيه فتح الكاف.
والحَرْبة -بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء-: دون الرمح عريضة النصل.
ومعنى "يركز الحربة": يأمر بغرزها له. ففي رواية الشيخين من طريق عبد الله بن نمير، عن عبيد الله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها
…
" الحديث.
ويحتمل أنه يركزها بنفسه في بعض الأحيان. والله أعلم.
(فيصلي إِليها) يصلي إلى الحربة، مستترًا بها عمن يمر بين يديه، وفيه مشروعية اتخاذ السترة للمصلي. وفي تعبيره بـ"كان" دلالة على أنه كان يلازم ذلك. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (4/ 747) و"الكبرى"(2/ 822) بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري في "الصلاة" عن مسدد، عن يحيي القطان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عنه، ومسلم فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن محمد بن بشر العبدي، عن عبيد الله به.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
***
5 - الأَمْرُ بِالدُّنُوِّ مِنَ السُّتْرَةِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على أمر المصلي أن يقرُب من السترة التي نصبها لتحجبه عن المار بين يديه.
748 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ، فَلْيَدْنُ مِنْهَا، لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(علي بن حجر) السعدي المروزي، ثقة حافظ، من صغار [9]، تقدم في 13/ 13.
2 -
(إِسحاق بن منصور) الكوسج المروزي، ثقة ثبت، من [11]، تقدم في 72/ 88.
3 -
(سفيان) بن عيينة، أبو محمد الكوفي، ثم المكي، ثقة، ثبت حجة، من [8]، تقدم في 1/ 1.
4 -
(صفوان بن سليم) المدني، أبو عبد الله الزهري، مولاهم،
ثقة مفتٍ عابد رمي بالقدر، توفي سنة 132، عن 72 سنة، من [4]، تقدم في 47/ 59.
5 -
(نافع بن جُبير) بن مُطْعِم النوفلي، أبو محمد، أو أبو عبد الله، المدني، ثقة فاضل، توفي سنة 99، من [3]، تقدم في 96/ 124، أخرج له الجماعة.
6 -
(سهل بن أبي حثمة) -بفتح الحاء المهملة، وسكون المثلثة- واسمه عبد الله، وقيل: عامر بن ساعدة بن عامر بن عَديّ بن جُشَم بن مَجْدَعَة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاري، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو يحيى، ويقال: أبو محمد، المدني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن أبيه: بايع تحت الشجرة، وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أحد، وشهد المشاهد كلها، إلا بدراً. قال عبد الرحمن سمعت رجلاً من ولده سأله أبي عن ذلك؟ فأخبره به.
وقال الواقدي: مات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان سنين، وحفظ عنه. قال ابن منده: قول الواقدي أصح. وكذا جزم به ابن حبان، وأبو جعفر الطبري، وابن السكن، والحاكم أبو أحمد، وغيرهم. ومنهم من عين مولده سنة ثلاث من الهجرة.
وقال ابن القطان: قول أبي حاتم لا يصح عندهم البتة، والغلط فيه من هذا الرجل الذي لا يُدرَى مَنْ هو؟ وإنما الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم خارصًا: أبوه، أبو حثمة، وهو الذي كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، كذا ذكره ابن
جرير، وغيره. وتوفي في أول خلافة معاوية، وهكذا ذكر ابن عبد البر.
قال الحافظ: والذي يظهر لي أنه اشتبه بسهل ابن الحنظلية، فإنه مذكور بهذا الوصف، وقرأت بخط الذهبي: أظن سهلاً مات زمن معاوية. قال الحافظ: ويقويه حكمهم على رواية الزهري بالإرسال. لكن الذي جزم به الطبري أن الذي مات في خلافة معاوية هو أبوه، أبو حثمة. والله أعلم. أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، من رجال الجماعة، إلا شيخه علياً، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وإسحاق، فما أخرج له أبو داود. وأنهم مدنيون، إلا شيخيه فمروزيان، وسفيان فكوفي ثم مكي، وفيه رواية تابعي، عن تابعي. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن سهل بن أبي حثمة) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا صلي أحدكم إِلى سترة، فليدن منها) أمر من الدنوّ، وهو القرب. أي ليقرب من تلك السترة. والظاهر أن الأمر فيه للوجوب -كما قال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى لظاهر الأمر. وسيأتي مقدار الدنو في الباب التالي، إن شاء الله تعالى.
قال في "المنهل" جـ 5 ص 87: فيه إشارة إلى أن اتخاذ السترة
للمصلي محقق، حيث عبر بـ"إذا" ويؤيده ما جاء من الأحاديث التي فيها الأمر باتخاذها، وليس المراد أنه مخير في اتخاذ السترة، وعدمه، كما قد يتوهم من العبارة. اهـ.
قال الجامع: ما قاله في "المنهل" حسن جِدّاً، كما تقدم تحقيقه. والله سبحانه، وتعالى أعلم.
(لا يقطع الشيطان صلاته) برفع "يقطع" على أن الجملة مستأنفة، في قوة التعليل، أي لئلا يقطع الشيطان صلاته، بأن يحمل من يمر بين يديه، فيقطع صلاته عليه حقيقة، كالمرأة، والحمار، والكلب، عند قوم، أو يقطع عليه خشوعه، عند آخرين. وسيأتي تمام الكلام على ذلك، إن شاء الله تعالى. ويحتمل أن المراد بالشيطان الكلب، أو المار، فقد جاء في الحديث إطلاق الشيطان على كل منهما، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
والحديث يدل على مشروعية القرب من السترة، وعلى أن القرب منها يحفظ على المصلي صلاته، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنهما هذا صحيح. أخرجه المصنف هنا (5/ 748)، و"الكبرى"(4/ 824)، بالسند المذكور.
المسألة الثانية: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود في "الصلاة" عن محمد بن الصباح، وعثمان بن أبي شيبة، وحامد بن يحيي، وابن أبي السرح، كلهم عن سفيان بن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا صلى أحدكم إلى سترة
…
" الحديث.
المسألة الثالثة: أنه وقع اختلاف في هذا الحديث:
قال أبو داود بعد إخراجه له: ورواه واقد بن محمد، عن صفوان، عن محمد بن سهل، عن أبيه، أو عن محمد بن سهل، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال بعضهم: عن نافع بن جبير، عن سهل بن سعد، واختلف في إسناده. اهـ.
وأخرجه البيهقي جـ 2 ص 272، من طريق يزيد بن هارون، عن شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد، أنه سمع صفوان يحدث عن محمد ابن سهل، عن أبيه، أو عن محمد بن سهل، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه من طريق ابن وهب، عن داود بن قيس المدني، عن نافع بن جبير بن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
الحديث. مرسلاً. قال البيهقي رحمه الله تعالى: قد أقام إسناده سفيان بن عيينة، وهو حافظ حجة. اهـ.
وأخرجه البغوي رقم 537 من طريق إسماعيل بن جعفر، عن داود ابن قيس، عن نافع بن جبير، عن سهل -ولم ينسبه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الجامع عفا الله عنه: القول قول البيهقي رحمه الله تعالى حيث رجح رواية سفيان بن عيينة، لكونه حافظاً حجة، فيكون الحكم
للوصل لأنه زيادة ثقة ثبت. فالحديث صحيح. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
6 - مِقْدَار ذَلِكَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على مقدار القرب من السترة. فاسم الإشارة راجع إلى قوله: "الدنو من السترة" في الترجمة السابقة.
واستدلال المصنف رحمه الله تعالى على مقدار الدنو بحديث الباب واضح من قوله: "وجعل بينه، وبين الجدار نحواً من ثلاثة أذرع". فإن فعله صلى الله عليه وسلم هذا يفسر ما أجمله قوله في الحديث السابق: "فليدن منها".
فإِن قلت: أخرج مسلم في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما، قال:"كان بين مُصَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الجدار ممر الشاة".
والمراد بالمصلى موضع السجود. كما قاله النووي في شرحه. جـ 4 ص 225 فكيف يُوَفَّقُ بينه، وبين حديث الباب؟
أجيب بأن حديث الباب يكون بياناً لأقصى الدنوّ، وحديث سهل بيان لأدنى الدنو.
هذا إذا قلنا: إن الأذرع الثلاثة تبدأ من موضع السجود، وأما إذا قلنا: أنها تبدأ من موضع القيام فلا تخالف بين الحديثين. والله أعلم.
749 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: "حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ، هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ، فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَسَأَلْتُ بِلَالاً حِينَ خَرَجَ، مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى، وَجَعَلَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْجِدَارِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن سلمة) المرادي الجَمَلي أبو الحارث المصري، ثقة ثبت، من [11]، تقدم في 19/ 20.
2 -
(الحارث بن مسكين) القاضي المصري أبو عمرو الفقيه، ثقة، من [10]، تقدم في 9/ 9.
3 -
(ابن القاسم) عبد الرحمن أبو عبد الله المصري، ثقة فقيه، من كبار [10]، تقدم في 19/ 20.
4 -
(مالك) بن أنس الإمام المدني الحجة الثبت الفقيه، من كبار [7]، تقدم في 7/ 7.
والباقيان تقدما قبل باب، وكذا لطائف الإسناد واضحة حيث تكررت غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة) وتقدم برقم 5/ 692 أن ذلك كان في عام الفتح (هو، وأسامة بن زيد) بن حارثة، وهو، وأبوه، وجده صحابيون، رضي الله عنهم، مات بالمدينة سنة 54 وهو ابن 57 سنة، وتقدمت ترجمته برقم 96/ 120.
(وبلال) بن رباح أبو عبد الله المؤذن، مولى أبي بكر رضي الله عنهما، مات سنة 17، وقيل: غير ذلك. وتقدمت ترجمته برقم 86/ 104.
(وعثمان بن طلحة) بن أبي طلحة (الحجبي) بفتحتين: نسبة إلى حجابة الكعبة، مات رضي الله عنه سنة 42، وقيل غير ذلك. وتقدمت ترجمته برقم 5/ 692. وتقدم وجه حكمة إدخال هؤلاء الثلاثة فقط، بالرقم المذكور، فراجعه، تستفد.
(فأغلقها عليه) أي أغلق عثمان الكعبة على النبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يجتمع عليه الناس، ويزدحموا، فينالهم بذلك ضرر، ويتشوش عليه الحال بسبب لغطهم.
(قال عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما (فسألت بلالاً حين خرج، ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) أيْ أيَّ شيء صنع داخل الكعبة (قال) بلال رضي الله عنه (جعل) صلى الله عليه وسلم (عموداً عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه) هذه رواية البخاري، عن إسماعيل بن
أبي أويس، وهي أصح الروايات. وفي رواية للبخاري "جعل عموداً عن يساره، وعموداً عن يمينه". وفي رواية لمسلم "عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه".
وقال في "الفتح" عند قوله: "بين العمودين المقدمين" ما نصه: كذا في هذه الرواية، وفي رواية مالك التي تليها:"جعل عموداً عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه".
وليس بين الروايتين مخالفة، لكن قوله في رواية مالك:"وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة" مشكل؛ لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ولهذا عقبه البخاري برواية إسماعيل التي قال فيها:"عمودين عن يمين". ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه حيث ثُنِّيَ أشار إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وحيث أُفرِدَ أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك، ويرشد إلى ذلك قوله:"وكان البيت يومئذ"؛ لأن فيه إشعاراً بأنه تغير عن هيئته الأولى.
وقال الكرماني: لفظ العمود جنس يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجمل بينته رواية "عمودين". ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت، والثالث على غير سمتهما، ولفظ "المقدمين" في الحديث السابق مشعر به. والله أعلم.
قال الحافظ: ويؤيده أيضاً رواية مجاهد عن ابن عمر فإن فيها "بين الساريتين اللتين على يسار الداخل". وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار، وأنه صلى بينهما، فيحتمل أنه كان ثَمَّ عمود آخر
عن اليمين، لكنه بعيد، أو على غير سَمْت العمودين، فيصح قول من قال:"جعل عن يمينه عمودين" وقول من قال: "جعل عموداً عن يمينه".
وجوز الكرماني احتمالاً آخر، وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة، فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال:"جعل عموداً عن يمينه، وعموداً عن يساره" لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه، ومن قال:"عمودين" اعتبره.
قال الحافظ: ثم وجدته مسبوقاً بهذا الاحتمال. وأبْعَدُ منه من قال: انتقل في الركعتين من مكان إلى مكان، ولا تبطل الصلاة بذلك؛ لقلته. والله أعلم. اهـ "فتح" جـ 2 ص 160.
وقد تقدم الكلام في اختلاف الروايات، وبيان التوفيق بينها مستوفى في شرح حديث (5/ 692) فراجعه تستفد.
(وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة) فيه إشعار بأن البيت تغير عما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد هُدم، وبُني في عهد ابن الزبير رضي الله عنهما. كما أفاده في "الفتح".
(ثم صلى، وجعل بينه، وبين الجدار) الذي أمامه (نحواً من ثلاثة أذرع) أي مقدارها. وهذه الرواية توافق ما في صحيح البخاري من طريق موسى بن عقبة، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل، وجعل الباب قبل ظهره، فمشى حتى يكون بينه، وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع صلى،
يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه. قال: "وليس على أحد بأس إن صلى في أي نواحي البيت شاء".
وفي تاريخ مكة للأزرقي أن معاوية سأل ابن عمر رضي الله عنهم أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام دخلها؟ قال: بين العمودين المقدمين، اجعل بينك، وبين الجدار ذراعين، أو ثلاثة.
وفي رواية أبي داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك "ثم صلى، وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع". وذكر ابن عبد البر أن ابن عفير، وابن وهب، وشبابة بن سوار، رووها عن مالك كذلك.
قال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله تعالى: وينبغي تحري هذه البقعة للصلاة فيها، وقد يقال بأن الصلاة فيها أفضل من غيرها من بقاع الكعبة للاتباع. وقد يقال: إنما فعل عليه الصلاة والسلام ذلك اتفاقاً، لا أنه مقصود، فيكون كالأمور الجبلية. والله أعلم.
وقال والدي رحمه الله في "إحياء القلب الميت": ينبغي أن لا يجعل بينه وبين الجدار أقل من ثلاثة أذرع، فإما أن يصادف مصلاه، أو يقع وجهه، وذراعاه في مكان قدميه، فهو أولى من التقدم عنه. اهـ. طرح جـ 5 ص 137 - 138.
قال الجامع عفا الله عنه: قول ولي الدين رحمه الله: "فيكون كالأمور الجبلية"؛ فيه أن الأمور الجبلية ليست محل تأسٍّ، وهذا خلاف الصواب، بل الصواب أن أفعاله صلى الله عليه وسلم محل تَأسّ، إلا أن تكون خصوصية
له. وقد أشبعت الكلام في هذا في غير هذا المحل. فتنبه. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا من رواية نافع متفق عليه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (6/ 749)، و"الكبرى"(5/ 825)، عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم، عن مالك، عن نافع، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك به. قال: وقال لنا إسماعيل: حدثني مالك، فقال:"عمودين عن يمينه". ومسلم في "الحج" عن يحيى بن يحيى. وأبو داود في "المناسك" عن القعنبي -وعن عبد الله بن محمد الأذرمي، عن عبد الرحمن بن مهدي- كلهم عن مالك به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما بوب له المصنف رحمه الله تعالى، وهو مقدار القرب من السترة، فقد أفاد الحديث أن المسافة التي تكون بين المصلي، وبين السترة لا تزيد عن ثلاثة أذرع، وأما ما أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما، أنه قال:"كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الجدار ممر الشاة". فيحمل على أقل المسافة. وقال بعضهم: الأول في حال القيام والقعود، والثاني في حال الركوع والسجود. وقال ابن الصلاح رحمه الله: قدروا ممر الشاة بثلاثة أذرع. قال الحافظ رحمه الله ولا يخفى ما فيه.
وقال البغوي رحمه الله تعالى: استحب أهل العلم الدنو من السترة، بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف، وقد ورد الأمر بالدنو منها.
وفيه بيان الحكمة في ذلك، وهو حديث سهل بن أبي حثمة المذكور في الباب الماضي.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدم أن الظاهر وجوب الدنوّ لظاهر الأمر، فتنبه. والله أعلم.
ومنها: جواز الصلاة في داخل الكعبة.
ومنها: حرص عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: جواز غلق أبواب المساجد للحاجة.
وقد تقدم تمام ما يتعلق بالحديث مستوفى (5/ 692) فراجعه تستفد. والله ولي التوفيق.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
7 - ذِكْرُ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَمَا لَا يَقْطَعُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلَّي سُتْرَةٌ
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدالة على الأشياء التي تقطع صلاة المصلي، والتي لا تقطعها إذا لم تكن بين يديه سترة.
750 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ:"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ قَائِمًا يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ الأَسْوَدُ".
قُلْتُ: مَا بَالُ الأَسْوَدِ مِنَ الأَصْفَرِ، مِنَ الأَحْمَرِ، فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي؟ فَقَالَ: "الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن علي) الفلاس البصري، ثقة حافظ، من [10]،
تقدم في 4/ 4.
2 -
(يزيد) بن زريع، أبو معاوية البصري، ثقة ثبت، توفي سنة 182، من [8]، تقدم في 5/ 5.
3 -
(يونس) بن عبيد بن دينار العبدي، أبو عبيد البصري ثقة ثبت فاضل ورع، توفي سنة 139، من [5]، تقدم في 88/ 109.
4 -
(حميد بن هلال) العدوي، أبو نصر البصري، ثقة عالم، توقف فيه ابن سيرين لدخوله في عمل السلطان، من [3]، تقدم في 4/ 4.
5 -
(عبد الله بن الصامت) الغفاري البصري ابن أخي أبي ذر رضي الله عنه، ثقة، توفي بعد 70 سنة، من [3]، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم والأربعة.
روى عن عمه أبي ذر، وعمر، وعثمان، والحكم ورافع ابني عمرو، وحذيفة، وابن عمر، وعائشة. وعنه حميد بن هلال، وأبو العالية البَرَّاء، وأبو عمران الجوني، وسَوَادَة بن عاصم، ومحمد بن واسع، والمشعث بن طريف، وأبو عبد الله الحربي، وأبو نعامة السعدي، وغيرهم.
قال النسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد: يكنى أبا النضر، وكان ثقة، وله أحاديث. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. وذكره البخاري في الأوسط في فصل
من مات ما بين السبعين إلى الثمانين. ونقل الذهبي أن بعضهم قال: ليس بحجة. علق عنه البخاري، وأخرج له الباقون.
6 -
(أبو ذر) جندب بن جُنَادة الغفاري الصحابي المشهور رضي الله عنه، تقدم في 203/ 322. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأنه مسلسل بالبصريين إلى الصحابي، وأن شيخه أحد مشايخ الستة، وأن فيه رواية ثلاثة من التابعين، بعضهم عن بعض، يونس، عن حميد، عن عبد الله بن الصامت. ورواية حميد، عن عبد الله بن الصامت من رواية الأقران. وفيه رواية الراوي عن عمه، عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي ذر) رضي الله تعالى عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا كان أحدكم قائماً) ولفظ مسلم: "إذا قام أحدكم يصلي". والمراد بالقيام هنا الشروع في الصلاة، لا خصوص القيام خلاف الجلوس، فيشمل جميع حالات الصلاة. والله أعلم.
(يصلي) جملة فعلية في محل نصب خبر لـ"كان" بعد الخبر، أو حال (فإِنه) الضمير لأحد، ويحتمل أن يكون ضمير شأن، أي إن
الأمر والشأن (يستره) عما يقطع صلاته (إِذا كان بين يديه مثلُ آخرة الرحل) الظرف خبر "كان" مقدماً، و"مثل" اسمها مؤخراً.
و"آخرة الرحل" -بالمد-: الخشبة التي يستند إليها الراكب، من كور البعير. وهي خلاف قادمته. وتقدم أن لها ثماني لغات، وهذه أفصحها، في شرح حديث عائشة رضي الله عنها (4/ 746)، والرَّحْل:-بفتح، فسكون: مَرْكب للبعير، أو الناقة، جمعه: أرْحُلٌ، ورِحَال (فإِن لم يكن بين يديه مثل آخرة الرَّحّلِ فإِنه) الضمير كسابقه (يقطع صلاته) أي يبطلها، أو يقلل ثوابها، على خلاف بين العلماء في ذلك، سنحققه في المسائل الآتية، إن شاء الله تعالى.
(المرأة) بالرفع فاعل مؤخر لـ"يقطع"، ومفعوله "صلاته" مقدماً، أي مرور المرأة.
(والحمار، والكلب الأسود) يعني أن مرور هذه الأشياء قدام المصلي يقطع صلاته، إن لم يكن له سترة، مثل مؤخرة الرحل.
قال عبد الله بن الصامت: (قلت) لأبي ذر رضي الله عنه: (ما بال الأسود؟)"ما" استفهامية مبتدأ، و"بال" خبره. و"البال": الحال، والشأن. أي ما شأن الكلب الأسود يقطع الصلاة؟.
(من الأصفر) متعلق بحال مقدر من "الأسود"، على حذف مضاف، أي حالَ كونه كائناً من دون الكلب الأصفر. وقوله:(من الأحمر) بدل إضراب من الجار والمجرور قبله. ويحتمل أن يكون
معطوفاً عليه بعاطف مقدر، أي ومن الأحمر.
فقد ذكر العلامة ابن هشام الأنصاري رحمه الله تعالى في "مغني اللبيب" جـ 2 ص 170: أنه حَكَى أبو زيد: أكلت خبزاً، لحماً، تمراً، فقيل: على حذف الواو، وقيل: بدل الإضراب. وحكى أبو الحسن: "أعطه درهماً، درهمين، ثلاثة". وخُرِّجَ على إضمار "أو" ويحتمل البدل المذكور. اهـ.
(قال) أبو ذر رضي الله عنه (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سألتني؟) أي من مخالفة حكم الكلب الأسود لحكم غيره من الكلاب، حيث قطع الصلاة بمروره بين يدي المصلي، ولم يقطع غيره (فقال) صلى الله عليه وسلم:(الكلب الأسود شيطان) حمله بعضهم على ظاهره، وقال: إن الشيطان يتصور بصور الكلاب السود. وقيل: سمي شيطاناً لأنه أشد ضرراً من غيره. وبهذا علمت الحكمة في كون الكلب يقطع الصلاة. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي ذر رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (7/ 750) و"الكبرى"(6/ 826) عن عمرو بن علي
الفَلاَّس، عن يزيد بن زُريع، عن يونس بن عبيد، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن شيبان بن فَرُّوخ، عن سليمان بن المغيرة -وعن أبي بكر ابن أبي شيبة، وزهير بن حرب، كلاهما عن إسماعيل بن علية، عن يونس ابن عبيد- وعن محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، كلاهما عن غندر، عن شعبة -وعن إسحاق بن إبراهيم، عن وهب بن جرير، عن أبيه- وعن إسحاق، عن المعتمر بن سليمان، عن سَلْم بن أبى الذَّيَّال -وعن يوسف بن حماد المَعْنِيّ، عن زياد بن عبد الله البكَّائي، عن عاصم الأحول- ستتهم عن حميد بن هلال به.
وأبو داود فيه عن حفص بن عمر، عن شعبة به. وعن عبد السلام ابن مُطَهَّر، ومحمد بن كثير العبدي، كلاهما عن سليمان بن المغيرة به.
والترمذي فيه عن أحمد بن منيع، عن هشيم، عن يونس بن عبيد، ومنصور بن زاذان، كلاهما عن حميد بن هلال بمعناه. وقال: حسن صحيح.
وابن ماجه فيه عن بندار، عن غندر به. وفي "الصيد" عن عمرو بن عبد الله، عن وكيع، عن سليمان بن المغيرة -ببعضه: "سألت عن
الكلب". والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو بيان الأشياء التي تقطع الصلاة عند عدم السترة، وهي المرأة، والحمار، والكلب الأسود، وسيأتي تحقيق أقوال العلماء في معنى القطع في المسألة السادسة، إن شاء الله تعالى.
ومنها: تأكيد الأمر باتخاذ السترة محافظة على الصلاة.
ومنها: الحث على ابتعاد المصلي عما يخل بالخشوع في حال صلاته.
ومنها: التنفير عن الكلب الأسود؛ لكونه شيطاناً. والله أعلم.
المسألة الخامسة: وردت أحاديث بمعنى حديث أبي ذر رضي الله عنه:
فمنها: ما أخرجه مسلم، وأحمد، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار". زاد مسلم في روايته: "ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل".
ومنها: ما أخرجه أحمد، بإسناد صحيح، وابن ماجه عن عبد الله ابن مغفل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يقطع الصلاة: المرأة، والكلب، والحمار".
ومنها: ما أخرجه البزار عن أنس رضي الله عنه بإسناد رجاله ثقات
-كما قال العراقي- ولفظه: "يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والمرأة".
ومنها: ما أخرجه أبو داود، وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً "يقطع الصلاة الكلب، والمرأة الحائض". وفي رواية ابن ماجه: "والكلب الأسود". ورواه الأكثرون موقوفاً على ابن عباس. وذكر أبو داود أن شعبة رفعه، وأوقفه سعيد -يعني ابن أبي عروبة- وهشام الدستوائي، وهمام بن يحيى على ابن عباس رضي الله عنهما.
ومنها: ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً قال: أحسبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا صلى أحدكم إلى غير سترة، فإنه يقطع صلاته الكلب، والحمار، والخنزير، واليهودي، والمجوسي، والمرأة، ويجزىء عنه إذا مروا بين يديه على قَذْفَة بحجر".
وصرح أبو داود بأن زيادة الخنزير، والمجوسي، والقَذْفَة بالحجر وَهَمٌ من شيخه محمد بن إسماعيل بن أبي سَمِينَةَ، لتفرده بذلك.
لكن في نسبة الوهم إليه نظر؛ لأنه ثقة، ومع ذلك لم يتفرد به، فقد تابعه المُقَدَّمي عند الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، ولفظه:"يقطع الصلاة: المرأة الحائض، والكلب، والحمار، واليهودي، والنصراني، والخنزير، يكفيك إذا كانوا منك قدر رمية لم يقطعوا عليك صلاتك".
وتابعه أيضاً علي بن بحر القطان عند البيهقي، ولفظه: "يقطع
الصلاة: الكلب، والحمار، والمرأة الحائض، واليهودي، والنصراني، والمجوسي، والخنزير". قال:"ويكفيك إذا كانوا منك على قدر رمية بحجر لم يقطعوا صلاتك". والله أعلم.
ومنها: ما أخرجه أحمد في "مسنده"، بإسناد رجاله ثقات، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض أعلى الوادي، يريد أن يصلي قد قام، وقمنا، إذ خرج علينا حمار من شِعْب أبي دُبٍّ؛ شعبِ أبي موسى، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكبر، وأجرى إليه يعقوبَ بنَ زَمْعَةَ حتى رده".
ومنها: ما أخرجه أحمد عن عائشة رضي الله عنها بإسناد رجاله ثقات -كما قال العراقي- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع صلاة المسلم شيء، إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة، لقد قرنا بدواب السوء". والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: في مذاهب العلماء في حكم مرور هذه الأشياء بين يدي المصلي، إذا لم تكن له سترة:
ذهب جماعة من الصحابة، والتابعين إلى بطلان الصلاة بمرور المرأة، والحمار والكلب الأسود. وممن قال بهذا: أبو هريرة، وأنس، وابن عباس في رواية عنه. وحكي أيضاً عن أبي ذر، وابن عمر، رضي الله عنهم. وجاء عن ابن عمر أنه قال به في الكلب. وقال به الحكم بن عمرو الغفاري في الحمار.
وممن قال من التابعين بقطع الثلاثة المذكورة: الحسنُ البصري، وأبو الأحوص صاحب ابن مسعود، ومن الأئمة: أحمد بن حنبل، فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري. وحكى الترمذي عنه أنه يخصص بالكلب الأسود، ويتوقف في الحمار، والمرأة. قال ابن دقيق العيد: وهو أجود مما دل عليه كلام الأثرم من جزم القول عن أحمد بأنه لا يقطع: المرأة، والحمار.
وذهب أهل الظاهر أيضاً إلى قطع الصلاة بالثلاثة المذكورة، إذا كان الكلب، والحمار بين يديه، سواء كان الكلب، والحمار مارّاً، أم غير مارّ، وصغيراً، أم كبيراً، حيّاً، أم ميتاً، وكون المرأة بين يدي الرجل مارة، أم غير مارة، صغيرة، أم كبيرة، إلا أن تكون مضطجعة معترضة.
وذهب إلى أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود، والمرأة الحائض: ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح. واستدلا بالحديث السابق عند أبي داود، وابن ماجه بلفظ:"يقطع الصلاة الكلب الأسود، والمرأة الحائض".
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: ولا عذر لمن يحمل المطلق على المقيد من ذلك؛ وهم الجمهور. وأما من يعمل بالمطلق، وهم الحنفية، وأهل الظاهر، فلا يلزمهم ذلك.
وقال ابن العربي: إنه لا حجة لمن قيد بالحائض؛ لأن الحديث ضعيف. وقال: وليست حيضة المرأة في يدها، ولا بطنها، ولا
رجلها. قال العراقي: إن أراد بضعفه ضعف رواته، فليس كذلك، فإن جميعهم ثقات. وإن أراد به كون الأكثرين وقفوه على ابن عباس، فقد رفعه شعبة، ورفع الثقة مقدم على وقف من وقفه، وإن كانوا أكثر على القول الصحيح في الأصول، وعلوم الحديث. انتهى.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها ذهبت إلى أنه يقطعها الكلب، والحمار، والسنور، دون المرأة. ولعل دليلها على ذلك ما روته من اعتراضها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أن الاعتراض غير المرور، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
قال الشوكاني رحمه الله: وقد تقدم عنها أنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن المرأة تقطع الصلاة" فهي محجوجة بما روت. ويمكن الاستدلال بما أخرجه أحمد، وابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في حجرتها، فمر بين يديه عبد الله، أو عمر، فقال بيده هكذا، فرجع، فمرت ابنة أم سلمة، فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "هن أغلب".
لكن الحديث لا يصح؛ لأن في سنده قيساً المدني، وهو مجهول.
وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنه يقطعها الكلب الأسود فقط. وحكاه ابن المنذر عن عائشة.
ودليل هذا القول أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي أخرج الحمار، وحديث أم سلمة رضي الله عنها المذكور، وحديث عائشة
رضي الله عنها الآتي أخرجا المرأة، والتقييد بالأسود أخرج ما عداه من الكلاب.
وذهب مالك، والشافعي، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف أنه لا يبطل الصلاة مرور شيء. قال النووي رحمه الله تعالى: وتأول هؤلاء حديث أبي ذر رضي الله عنه على أن المراد بالقطع نقص الصلاة، لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها. ومنهم من يدعي النسخ بالحديث الآخر:"لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم". قال: وهذا غير مرضي؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، وتأويلها، وعلمنا التاريخ، وليس هنا تاريخ، ولا تعذر الجمع والتأويل، بل يتأول على ما ذكرناه، مع أن حديث:"لا يقطع صلاة المرء شيء". ضعيف. والله أعلم. اهـ. شرح مسلم جـ 4 ص 227.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: وروي القول بالنسخ عن الطحاوي، وابن عبد البر، واستدل على تأخير تاريخ حديث ابن عباس رضي الله عنهما بأنه في حجة الوداع، وهي في سنة عشر، وفي آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى تأخير حديث عائشة، وحديث أم سلمة، بأن ما حكاه زوجاته عنه يعلم تأخره لكون صلاته بالليل عندهن، ولم يزل على ذلك حتى مات، خصوصاً مع عائشة، مع تكرار قيامه في كل ليلة، فلو حدث شيء مما يخالف ذلك لعلمن به.
قال الشوكاني رحمه الله: وعلى تسليم صحة هذا الاستدلال على التأخر لا يتم به المطلوب من النسخ. أما أوَّلاً، فقد عرفت أن حديث عائشة، وميمونة خارجان عن محل النزاع. وحديث أم سلمة أخص من المتنازع فيه؛ لأن الذي فيه مرور الصغيرة بين يديه صلى الله عليه وسلم. وحديث ابن عباس ليس فيه إلا مرور الأتان، فهو أخص من الدعوى.
وأما ثانياً فالخاص بهذه الأمور لا يصلح لنسخ ما اشتمل عليه زيادة عليها، لما تقرر من وجوب بناء الخاص على العام مطلقاً.
وأما ثالثاً فقد أمكن الجمع بما تقدم.
وأما رابعاً فيمكن الجمع أيضاً بأن يحمل حديث عائشة، وميمونة، وأم سلمة، على صلاة النفل، وهي يغتفر فيها ما لا يغتفر في الفرض، على أنه لم ينقل أنه اجتزأ بتلك الصلاة. أو يحمل على أن ذلك وقع في غير حالة الحيض، والحكم بقطع المرأة للصلاة إنما هو إذا كانت حائضاً، كما تقدم. وأيضاً قد عرفت أن وقوع ثوبه صلى الله عليه وسلم على ميمونة لا يستلزم أنها بين يديه، فضلاً عن أن يستلزم المرور، وكذلك اعتراض عائشة لا يستلزم المرور.
ويحمل حديث ابن عباس رضي الله عنهما على أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت إلى سترة، ومع وجود السترة لا يضر مرور شيء من الأشياء المتقدمة، كما يدل على ذلك قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل".
وقوله في حديث أبي ذر رضي الله عنه: "ويستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل". ولا يلزم من نفي الجدار نفي سترة أخرى من حربة، أو غيرها، كما ذكره العراقي. ويدل على هذا أن البخاري بوب على هذا الحديث "بابٌ سترةُ الإمام سترة لمن خلفه"، فاقتضى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى سترة، لا يقال: قد ثبت في بعض طرقه عند البزار بإسناد صحيح، بلفظ:"ليس شيء يستره، يحول بيننا وبينه"؛ لأنا نقول: لم ينف السترة مطلقاً، إنما السترة التي تحول بينهم وبينه، كالجدار المرتفع الذي يمنع الرؤية بينهما، وقد صرح بمثل ذلك العراقي.
ولو سلم أن هذا يدل على نفي السترة مطلقاً لأمكن الجمع بوجه آخر، ذكره ابن دقيق العيد، وهو أن قول ابن عباس:"ولم ينكر ذلك عَلَيَّ أحد"، ولم يقل: ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، يدل على أن المرور كان بين يدي بعض الصف، ولا يلزم من ذلك اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لجواز أن يكون الصف ممتداً، ولا يطلع عليه.
لا يقال: إن قوله "أحد" يشمل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا معنى للاستدلال بعدم الإنكار من غير النبي صلى الله عليه وسلم مع حضرته، ولو سلم اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك، كما ورد في بعض روايات الصحيح بلفظ:"فلم ينكر ذلك عليّ"، بالبناء للمجهول، لم يكن ذلك دليلاً على الجواز؛ لأن ترك الإنكار إنما جعل أن الإمام سترة للمؤتمين، ولا قطع مع السترة، لما عرفت، ولو سلم صحة الاستدلال بهذا الحديث على الجواز، وخلوصه
من شوائب هذه الاحتمالات لكان غايته أن الحمار لا يقطع الصلاة، ويبقى ما عداه.
وأما الاستدلال بحديث: "لا يقطع الصلاة شيء"، فلا يتم، لعدم انتهاضه للاحتجاج به، ولو سلم انتهاضه، فهو عام مخصص بهذه الأحاديث. أما عند من يقول: إنه يبنى العام على الخاص مطلقاً فظاهر، وأما عند من يقول: إن العام المتأخر ناسخ، فلا تأخر لعدم العلم بالتاريخ، ومع عدم العلم يبنى العام على الخاص، عند الجمهور. وقد ادعى أبو الحسين الإجماع على ذلك. وأما على القول بالتعارض بين العام والخاص مع جهل التاريخ، كما هو مذهب جمهور الزيدية، والحنفية، والقاضي عبد الجبار، والباقلاني، فلا شك أن الأحاديث الخاصة فيما نحن بصدده أرجح من هذا الحديث العام.
إذا تقرر لك ما أسلفنا عرفت أن الكلب الأسود، والمرأة الحائض يقطعان الصلاة، ولم يعارض الأدلة القاضية بذلك معارض، إلا ذلك العموم على المذهب الثاني، وقد عرفت أنه مرجوح. وكذلك يقطع الصلاة الخنزير، والمجوسي، واليهودي، إن صح الحديث الوارد بذلك، وقد تقدم ما يؤيده، ويبقى النزاع في الحمار، وقد أسلفنا لك ما فيه الكفاية. وأما المرأة غير الحائض، والكلب الذي ليس بأسود، فقد عرفت الكلام فيهما. أفاده في "نيل الأوطار" جـ 3 ص 263 - 267.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي رجحه العلامة الشوكاني
رحمه الله تعالى هو الذي لا يتجه عندي غيره.
والحاصل أن بطلان الصلاة بمرور الكلب الأسود، والمرأة الحائض، والحمار، هو الراجح لصحة دليله، وما ذكروه من المعارض ليس مقنعاً حتى نترك به النص الصريح. وأما الخنزير، والمجوسي، واليهودي فلو صح الحديث قلنا به، وقد تقدم ما يدل على صحته، فينبغي القول به. والله الهادي إلى سواء السبيل.
ثم بعد كتابتي ما تقدم رأيت الحافظ أبا بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى حقق هذا الموضوع في "صحيحه" جـ 2 ص 22 - 28، وقريب منه ما ذكره تلميذه ابن حبان رحمه الله تعالى في "صحيحه" جـ 6 ص 141 - 154، مما يؤيد ما سبق تقريره. فدونك خلاصة ما قاله ابن خزيمة رحمه الله تعالى:
(باب) ذكر البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالمرأة التي قرنها إلى الكلب الأسود والحمار، وأعلم أنها تقطع الصلاة الحائضُ دون الطاهر، وهذا من ألفاظ المفسر، كما فسر خبر أبي هريرة، وعبد الله ابن مغفل في ذكر الكلب في خبر أبي ذر، فأجمل ذكر الكلب في خبر أبي هريرة، وعبد الله بن مغفل، فقال:"يقطع الصلاة الكلب، والحمار، والمرأة" وبَيَّنَ في خبر أبي ذر أن الكلب الذي يقطع الصلاة هو الأسود دون غيره، وكذلك بين في خبر ابن عباس أن المرأة الحائض هي التي تقطع الصلاة، دون غيرها. ثم قال:
(باب) ذكر خبر روي في مرور الحمار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، قد يحسب بعض أهل العلم أنه خلاف خبر النبي صلى الله عليه وسلم:"يقطع الصلاة الحمار، والكلب، والمرأة".
ثم أخرج بسنده حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور هنا، ثم قال:
قال أبو بكر: وليس في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأتان تمرّ، وترتع بين يدي الصفوف، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك، فلم يأمر من مرت الأتان بين يديه بإعادة الصلاة، والخبر ثابت صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكلب الأسود، والمرأة الحائض، والحمار يقطع الصلاة، وما لم يثبت خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بضد ذلك لم يجز القول والفتيا بخلاف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجَزّار، عن صهيب، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"جئت أنا، وغلام من بني هاشم على حمار، أو حمارين، فمررت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فلم ينصرف، وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب، فأخذتا بركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففَرَعَ -أو فرق- بينهما، ولم ينصرف".
قال أبو بكر: وليس في هذا الخبر أن الحمار مرّ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: فمررت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه اللفظة تدلّ أن ابن عباس رضي الله عنهما مر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي.
إلا أن عبيد الله بن موسى رواه عن شعبة، قال: فمررنا بين يديه، ثم نزلنا، فدخلنا معه في الصلاة.
قال: والحكم لعبيد الله بن موسى على محمد بن جعفر محال، لاسيما في حديث شعبة، ولو خالف محمد بن جعفر عدد مثل عبيد الله في حديث شعبة لكان الحكم لمحمد بن جعفر عليهم.
وقد روى هذا الخبر منصور بن المعتمر، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي الصهباء -وهو صهيب- قال: كنا عند ابن عباس، فذكرنا ما يقطع الصلاة، فقالوا: الحمار، والمرأة. فقال ابن عباس: لقد جئت أنا وغلام من بني عبد المطلب مرتدفين على حمار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس في أرض خلاء، فتركنا الحمار بين أيديهم، ثم جئنا حتى دخلنا بين أيديهم، فما بالَى ذلك، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاءت جاريتان من بني عبد المطلب اقتتلتا، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزع إحداهما من الأخرى، فما بالى ذلك.
قال أبو بكر: وهذا الخبر ظاهره كخبر عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أن الحمار إنما مر بين يدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك، فإن كان في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بمرور الحمار بين يدي بعض من كان خلفه، فجائز أن تكون سترة النبي صلى الله عليه وسلم كانت سترة لمن خلفه؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستتر بالحربة إذا صلى بالمصلى، ولو كانت سترته لا تكون سترة لمن خلفه
لاحتاج كل مأموم أن يستتر بحربة، كاستتار النبي صلى الله عليه وسلم بها، فحمل العنزة للنبي صلى الله عليه وسلم يستتر بها دون أن يأمر المأمومين بالاستتار خلفه، كالدال على أن سترة الإمام تكون سترة لمن خلفه.
وقد روى ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم أن مجاهدًا أخبره عن ابن عباس، قال: جئت أنا والفضل على أتان، فمررنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وهو يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره يحول بيننا وبينه.
قال أبو بكر: وغير جائز أن يحتج بعبد الكريم عن مجاهد، على الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله. وهذه اللفظة قد رويت عن ابن عباس خلاف هذا المعنى، ثم أخرج بسنده عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"ركزت العنزة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، فصلى إليها، والحمار من وراء العنزة".
قال أبو بكر: فهذا الخبر مضاد خبر عبد الكريم (يعني ابن مالك الجزري) عن مجاهد؛ لأن في هذا الخبر أن الحمار إنما كان وراء العنزة، وقد ركز النبي صلى الله عليه وسلم العنزة بين يديه بعرفة، فصلى إليها. وفي خبر عبد الكريم، عن مجاهد، قال:"وهو يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره، يحول بيننا وبينه".
وخبر عبد الكريم، وخبر الحَكَمِ بن أَباَنَ قريب من جهة النقل؛ لأن
عبد الكريم قد تكلم أهل المعرفة بالحديث في الاحتجاج بخبره، وكذلك خبر الحكم بن أبان، غير أن خبر الحكم بن أبان تؤيده أخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم صحاح من جهة النقل، وخبر عبد الكريم، عن مجاهد يدفعه أخبار صحاح من جهة النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الفعل الذي ذكره عبد الكريم، عن مجاهد، عن ابن عباس قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد زجر عن مثل هذا الفعل في خبر سهل بن أبي حَثْمة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته".
وفي خبر عون بن أبي جحيفة، عن أبيه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم ركز عنَزَة، فجعل يصلي إليها، يمر من ورائها الكلب، والمرأة، والحمار". وفي خبر الرَّبِيع بن سَبْرَة الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"استتروا في صلاتكم، ولو بسهم". وفي خبر أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا صلى أحدكم، فليصل إلى سترة، وليدن منها".
قال أبو بكر: فهذه الأخبار كلها صحاح، قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المصلي أن يستتر في صلاته. وزعم عبد الكريم، عن مجاهد، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى غير سترة، وهو في فضاء؛ لأن عرفات لم يكن بها بناء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يستتر به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد زجر صلى الله عليه وسلم أن يصلى المصلي إلا إلى سترة.
وفي خبر صدقة بن يسار، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلا إلى سترة". وقد زجر صلى الله عليه وسلم أن يصلي المصلي إلا إلى سترة، فكيف يفعل ما يزجر عنه صلى الله عليه وسلم.
وفي
(1)
خبر موسى بن طلحة، عن أبيه، كالدال على أن الحمار إذا مر بين يدي المصلي، ولا سترة بين يديه، ضره مرور الحمار بين يديه.
قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عمر ابن عبيد الطنافسي، عن سماك بن حرب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: كنا نصلي، والدواب تمر بين أيدينا، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال:"مثل آخرة الرحل يكون بين يدي أحدكم، فلا يضره ما مر بين يديه".
حدثنا أبو موسى، حدثنا عبد الرحمن، ثنا إسرائيل، عن سماك، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ليجعل أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل، ثم لا يضره ما مر بين يديه".
قال أبو بكر: ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل مؤخرة الرحل يكون بين يدي أحدكم، ثم لا يضره ما مر بين يديه" دلالة واضحة، إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل ضره مرور الدواب بين يديه.
والدواب التي تضر مرورها بين يديه هي الدواب التي أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنها تقطع الصلاة، وهو الحمار، والكلب الأسود على ما
(1)
هكذا نسخة "صحيح ابن خزيمة"، ولعل الصواب:"وخبر موسى" بحذف لفظة "في".
أعلم المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا غيرهما من الدواب التي لا تقطع الصلاة. اهـ كلام ابن خزيمة رحمه الله تعالى في "صحيحه".
قال الجامع عفا الله عنه: قد تحصل من مجموع ما ذكرناه من الأدلة، ومن كلام هؤلاء الأعلام أن اتخاذ السترة واجب، وأن من صلى بدون سترة يفسد صلاته مرور المرأة الحائض، والكلب الأسود، والحمار، وأن ما ورد من مرور بعض هذه الأشياء بين يديه صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي محمول على ما وراء السترة، وأن رواية "ليس شيء يستره" لا تصح، لمخالفتها للأحاديث الصحاح الكثيرة، كما أشار إليه ابن خزيمة رحمه الله تعالى، أو تحمل على نفي سترة طويلة كالجدار ونحوه كما أشار إليه غيره، ويؤيد هذا ما في الرواية الأخرى:"يصلي إلى غير جدار". هذا ما ظهر لي. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
751 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، وَهِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ، وَالْكَلْبُ". قَالَ يَحْيَى: رَفَعَهُ شُعْبَةُ.
رجال الإسناد: خمسة
1 -
(عمرو بن علي) الفلاس المتقدم في السند الماضي.
2 -
(يحيى بن سعيد) القطان البصري ثقة حجة، من [9]، تقدم في 4/ 4.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة، من [7]، تقدم في 24/ 26
4 -
(هشام) بن أبي عبد الله الدستوائي البصري، ثقة حجة من كبار [7]، تقدم في 30/ 34.
5 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة حجة مدلس من كبار [4]، تقدم في 30/ 34.
6 -
(جابر بن زيد) أبو الشعثاء الأزدي البصري، ثقة فقيه، من [3]، تقدم في 44/ 589.
7 -
(ابن عباس) رضي الله عنهما، تقدم في 27/ 31. والله أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه عمرو بن علي ممن اتفق الجماعة بالرواية عنه بلا واسطة، كما تقدم غير مرة، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه ابن
عباس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المفتين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن قتادة) بن دعامة السدوسي، أنه (قال: قلت لجابر بن زيد) أبي الشعثاء البصري (ما يقطع الصلاة؟)"ما" استفهامية، أيْ أيُّ شيء يقطع صلاة الرجل؟
(قال) جابر بن زيد: (كان ابن عباس) رضي الله عنهما (يقول:) يقطع الصلاة (المرأة الحائض، والكلب) وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما، وعطاء؛ قالا: لا يقطع الصلاة إلا مرور المرأة الحائض، والكلب، أي الأسود، كما صرح به في رواية ابن ماجه.
(قال يحيى) بن سعيد القطان الراوي عن شعبة، وهشام (رفعه شعبة) أي رفع شعبة في روايته هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرفعه هشام الدستوائي.
وحاصل المعنى أن هذا الحديث اختلف الرواة عن قتادة في رفعه، ووقفه؛ فرفعه شعبة، ووقفه غيره على ابن عباس، منهم هشام، كما قال المصنف، وسعيد بن أبي عروبة، وهمام بن يحيى العَوْذي، كما قال أبو داود.
ونصه في سننه: "حدثنا مسدد، ثنا يحيى، عن شعبة، ثنا قتادة،
قال: سمعت جابر بن زيد يحدث عن ابن عباس، رفعه شعبة، قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب.
قال أبو داود: أوقفه سعيد، وهشام، وهمام عن قتادة، عن جابر ابن زيد على ابن عباس. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح عندي -كما تقدم عن الحافظ العراقي- صحة الرفع؛ لأنه زيادة ثقة حافظ، فإن شعبة إمام حجة ثبت، فلا يضر مخالفة غيره له، وأيضاً فلا تخالف بين الرفع، والوقف؛ لأن من رفع نقل الحديث، ومن وقف نقل الفتوى، فابن عباس رضي الله عنهما روى الحديث، وأفتى بموافقة ما رواه. والله أعلم.
والحديث أخرجه المصنف أيضاً في "الكبرى"(6/ 827) بالسند المذكور.
وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى، عن شعبة، به.
قال الحافظ المزي رحمه الله في "تحفته" جـ 4 ص 372: رواه بهز، وعفان، عن همام، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس. اهـ.
وأخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" جـ 2 ص 274، من طريق ابن المديني، عن يحيى بن سعيد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت
جابر بن زيد يحدث عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب".
قال يحيى -هو القطان-: لم يرفع هذا الحديث أحد عن قتادة غيرُ شعبة. قال يحيى: وأنا أَفْرَقُهُ، قال: ورواه ابن أبي عروبة، وهشام، عن قتادة -يعني موقوفاً-. قال يحيى: وبلغني أن همام يدخل بين قتادة وبين جابر بن زيد أبا الخليل، قال علي: ولم يرفع همام الحديث.
قال البيهقي رحمه الله: والثابت عن ابن عباس أن شيئاً من ذلك لا يفسد الصلاة، ولكن يكره، وذلك يدل مع قوله:"يقطع" على أن المراد بالقطع غير الإفساد. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدم بيان ما يتعلق بالحديث من بيان مذاهب أهل العلم، وذكر أدلته، وترجيح الراجح بدليله، وغير ذلك، مستوفى في الحديث السابق فلا حاجة إلى إعادته. وبالله التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
752 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "جِئْتُ أَنَا، وَالْفَضْلُ، عَلَى أَتَانٍ لَنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا فَمَرَرْنَا
عَلَى بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْنَا، وَتَرَكْنَاهَا تَرْتَعُ، فَلَمْ يَقُلْ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمد بن منصور) بن ثابت الخُزَاعي الجَوَّاز المكي، ثقة، توفي سنة 252، من [10]، تقدم في 20/ 21.
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمد الكوفي، ثم المكي، ثقة ثبت حجة، توفي سنة 198، من [8]، تقدم في 1/ 1.
3 -
(الزهري) محمد بن مسلم أبو بكر المدني، الإمام الحجة الثبت، توفي سنة 125، من [4]، تقدم في 1/ 1.
4 -
(عبيد الله) بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت، فقيه، توفي سنة 94، من [3]، تقدم في 45/ 56.
5 -
(ابن عباس) عبد الله الحبر البحر، رضي الله عنه، تقدم في 27/ 31. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسياته، وأن رجاله كلهم ثقات، وكلهم من رجال الجماعة، إلا شيخه، فمن أفراده، وفيه رواية تابعي، عن تابعي،
وفيه أحد الفقهاء السبعة؛ عبيد الله، وفيه ابن عباس أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، وآخر من مات بالطائف من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن ابن عباس) رضي الله عنهما، أنه (قال: جئت أنا) أتى بالضمير المنفصل؛ لأنه إذا عطف على ضمير الرفع المتصل وجب الفصل بينه وبين ما عطف عليه بشيء، إلا في الشعر، والغالب كون الفصل بالضمير المنفصل، كما في قوله تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19] قال ابن مالك رحمه الله تعالى:
وإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصلْ
…
عَطفْتَ فَافْصِلْ بالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
وفَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْل يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِياً وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
(والفضل) بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي شقيق عبد الله، وأكبر أولاد العباس، أبو عبد الله، ويقال: أبو العباس، ويقال: أبو محمد المدني، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية.
أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
(1) انظر: تهذيب التهذيب. جـ 8 ص 280.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه أخواه: عبد الله، وقُثَم، وابن أخيه عباس بن عبيد الله بن عباس، وابن عمه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وعمير مولى أم الفضل، وأبو معبد وكريب، موليا ابن عباس، وأبو هريرة، وسليمان بن يسار، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وقيل: إنه لم يسمع منه سوى أخيه عبد الله، وأبي هريرة، ورواية من ذكرنا هنا عنه مرسلة.
قال الحافظ رحمه الله: رواية ربيعة بن الحارث عنه ممكنة، لا أعلم من نص على أنه لم يسمع منه، وأما رواية الباقين عنه، فظاهرة الإرسال، لقدم موته.
قال عباس الدوري عن ابن معين: قتل يوم اليرموك، وعليه درع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو داود: قتل بدمشق. وقال الواقدي: مات بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة. وقال ابن سعد: كان أسن أولاد العباس، وثبت يوم حنين، ومات بناحية الأردن في خلافة عمر رضي الله عنه. أخرج له الجماعة.
(على أتان لنا) -بفتحتين- الأنثى من الحمير. قال ابن السّكِّيت: ولا يقال: أتانة، وجمع القلة آتُنٌ، مثل عَنَاق وأعْنُق، وجمع الكثرة أتُنٌ -بضمتين- قاله الفيّومي. وقال المجد:"الأتَان": الحمارة، والأتانة قليلة، والجمع آتُن، وأتُن، وأتْن.
وعند الشيخين "على حمارٍ أتانٍ". قال الحافظ رحمه الله تعالى: "حمار" اسم جنس يشمل الذكر والأنثى، كقولك: بعير. وقد شذ حمارة في الأنثى، حكاه في الصحاح. وأتان -بفتح الهمزة، وشذ كسرها- كما حكاه الصغاني: هي الأنثى من الحمير، وربما قالوا للأنثى: أتانة. حكاه يونس، وأنكره غيره. فجاء في الرواية على اللغة الفصحى.
وحمار أتان بالتنوين فيهما على النعت، أو البدل، وروي بالإضافة. وذكر ابن الأثير أن فائدة التنصيص على كونها أنثى للاستدلال بطريق الأولى على أن الأنثى من بني آدم لا تقطع الصلاة؛ لأنهن أشرف. وهو قياس صحيح من حيث النظر، إلا أن الخبر الصحيح لا يُدفَع بمثله. اهـ "فتح" جـ 1 ص 231.
والجار والمجرور الأول متعلق بحال مقدر من الفاعل، أي حال كوننا راكبين على أتان. والثاني متعلق بصفة "أتان"، أي كائنة لنا.
وزاد في العلم من "الكبرى" جـ 3 ص 438: "وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام". وهي رواية الشيخين أيضاً. ومعنى "ناهزت": قاربت.
وهو يؤيد -كما قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله قولَ مَن قال: إن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وقولَ من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات، وابنُ عباس ابن ثلاث عشرة سنة، خلافاً لمن قال غير ذلك، مما
لا يقارب البلوغ. اهـ. "إحكام" جـ 2 ص 457.
(ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل أيضاً (بالناس) متعلق بـ "يصلي"(بعرفة) متعلق بـ "يصلي" أيضاً، وتكون الباء بمعنى "في" لئلا يتحد الجاران المتعلقان بفعل واحد، أو الباء الأولى بمعنى اللام، أو "بعرفة" متعلق بحال محذوف، أي حال كونه كائناً بعرفة.
هكذا الرواية عند المصنف من رواية ابن عيينة "بعرفة"، وكذا وقع عند مسلم من روايته.
ووقع في "الكبرى" للمصنف -وهو الذي عند الشيخين- من رواية مالك "بمنى"، وكذا هو عند أكثر أصحاب الزهري. قال الحافظ رحمه الله: قال النووي رحمه الله: يحمل ذلك على أنهما قضيتان. وتعقب بأن الأصل عدم التعدد، ولاسيما مع اتحاد مخرج الحديث، فالحق أن قول ابن عيينة:"بعرفة" شاذ.
قال الجامع: عندي أن ما قاله النووي رحمه الله من الحمل على تعدد الواقعة أولى من تغليط إمام حافظ، ولاسيما ابن عيينة، ومما يؤيد هذا أن في رواية ابن عيينة "قال: جئت أنا، والفضل على أتان"، فكأن
ابن عباس كان راكباً مع الفضل، وفي رواية مالك "قال: أقبلت راكباً على حمار"، فالظاهر أنه وحده. ولا يضر اتحاد المخرج في مثل هذا، فكم من أحاديث يجمع بينها بهذا الطريق. والله أعلم.
ووقع عند مسلم أيضاً من رواية معمر، عن الزهري:"وذلك في حجة الوداع، أو الفتح" وهذا الشك من معمر لا يعوّل عليه، والحق أن ذلك كان في حجة الوداع. اهـ "فتح" جـ 2 ص 151.
ورواية البخاري: "يصلي إلى غير جدار"، أي يصلي إلى سترة غيرِ جدار، وقيل: يصلي إلى غير سترة، ونسب هذا التفسير إلى الشافعي رحمه الله تعالى، قال الحافظ رحمه الله تعالى: وسياق الكلام يدل على ذلك؛ لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، ويؤيده رواية البزار بلفظ:"والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ليس شيء يستره". اهـ "فتح" جـ 1 ص 231.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن التفسير الأول هو الأولى، كما جنح إليه البخاري رحمه الله في "صحيحه"، حيث استدل به على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وهو الذي مال إليه النووي رحمه الله في شرح مسلم جـ 4 ص 222 حيث قال عند ذكر فوائد الحديث ما نصه: وفي هذا الحديث أن صلاة الصبي صحيحة، وأن سترة الإمام بنفسها سترة لمن خلفه. اهـ.
(ثم ذكر) الظاهر أن الفاعل ضمير ابن عباس، أي ذكر ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما (كلمة معناها: فمررنا على بعض الصف)، ولفظ البخاري:"فمررت بين يدي بعض الصف"(فنزلنا) أي عن الأتان، (وتركناها ترتع) أي تأكل ما تشاء؛ من رَتَعَت الماشية تَرْتَعُ رَتْعاً، من باب نفع، ورُتُوعاً: رَعَت كيف شاءت. قاله الفيومي. وقال في الفتح: وقيل: تسرع في المشي. وجاء أيضاً بكسر العين، على وزن تفتعِلُ، من الرَّعْيِ، وأصله ترتعي، لكن حذفت الياء تخفيفاً، والأول أصوب، ويدل عليه رواية البخاري في الحج:"نزلت عنها، فرتعت". اهـ.
(فلم يقل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً)؛ أي لم ينكر علينا في ذلك.
قال العلامة السندي رحمه الله تعالى: ولا دلالة في الحديث على أن مرور الحمار لا يقطع، لما تقرر أن سترة الإمام سترة القوم، فلا يتحقق المرور المضر في حق الإمام والقوم، إلا إذا مرت بين يدي الإمام ما بينه وبين السترة، ولا دلالة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما على ذلك. اهـ. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (7/ 752)، و"الكبرى"(6/ 828)، بالسند المذكور، وفي العلم منه (17/ 5864)، عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك، عن ابن شهاب، به. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه:
فأخرجه البخاري في "العلم" عن إسماعيل بن أبي أويس، وفي "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، والقعنبي -فرقهما- ثلاثتهم عن مالك، وفي الحج عن إسحاق، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن ابن أخي ابن شهاب، وفي المغازي تعليقاً. وقال الليث: حدثني يونس، وعن يحيى ابن قَزَعَةَ، عن مالك.
ومسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن مالك، وعن يحيى ابن يحيى، وعمرو الناقد، وإسحاق بن إبراهيم -ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة، وعن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، وعن إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر- خمستهم عنه به.
وأبو داود فيه عن عثمان بن أبي شيبة، عن سفيان به. وعن
القعنبي، عن مالك به.
والترمذي فيه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، عن يزيد ابن زريع، عن معمر نحوه، وقال: حسن صحيح.
وابن ماجه فيه عن هشام بن عمار، عن سفيان به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو عدم قطع الصلاة بمرور الحمار وراء السترة، والظاهر أنه يحمل مرور ابن عباس والفضل على الحمار وراء السترة، وهذا هو الذي يترجح عندي كما مر تقريره.
ومنها: أن فيه دليلاً على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وعلى هذا بوب البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، حيث قال:"باب سترة الإمام سترة من خلفه".
وأورده الطبراني في الأوسط حديثاً، من طريق سويد بن عبد العزيز، عن عاصم، عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً:"سترة الإمام سترة لمن خلفه". وقال: تفرد به سويد، عن عاصم. اهـ. وسويد ضعيف عندهم. وورد أيضاً في حديث موقوف على ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه عبد الرزاق.
قيل: واستدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، فيكون
ناسخاً لحديث أبي ذر رضي الله عنه -الذي تقدم أول الباب رقم 750 في كون مرور الحمار يقطع الصلاة، وكذا مرور المرأة، والكلب الأسود. وتعقب بأن مرور الحمار متحقق في حال مرور ابن عباس رضي الله عنهما، وهو راكبه، وقد تقدم أن ذلك لا يضر؛ لكون سترة الإمام سترة لمن خلفه، وأما مروره بعد أن نزل عنه فيحتاج إلى نقل.
وقال ابن عبد البر رحمه الله: حديث ابن عباس هذا يخصص حديث أبي سعيد: "إذا كان أحدكم يصلي، فلا يدع أحداً يمر بين يديه"، فإن ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد، فأما المأموم فلا يضره مَنْ مر بين يديه، لحديث ابن عباس هذا. قال: وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء. وكذا نقل عياض الاتفاق على أن المأمومين يصلون إلى سترة، لكن اختلفوا، هل سترتهم سترة الإمام، أم سترتهم الإمام نفسه. اهـ.
قال الجامع: وفي دعوى الاتفاق -كما قال الحافظ- نظر، لما رواه عبد الرزاق، عن الحكم بن عمرو الغفاري الصحابي رضي الله عنه، أنه صلى بأصحابه في سفر، وبين يديه سترة، فمرت حمير بين يدي أصحابه، فأعاد بهم الصلاة. وفي رواية له أنه قال لهم: إنها لم تقطع صلاتي، ولكن قطعت صلاتكم، فان هذا يعكر على ما نقل من الاتفاق.
قال في "الفتح" جـ 2 ص 152: ويظهر أثر الخلاف الذي نقله عياض فيما لو مر بين يدي الإمام أحد، فعلى قول من يقول: إن سترة الإمام سترة من خلفه، يضر صلاته، وصلاتهم معاً، وعلى قول من يقول: إن الإمام نفسه سترة من خلفه يضر صلاته، ولا يضر صلاتهم. اهـ.
قال الجامع: القول الأول عندي هو الأولى. والله أعلم.
ومنها: جواز الارتداف على الدابة إذا كانت مطيقة لذلك.
ومنها: أنه إذا فعل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم شيء، ولم ينكره، فهو حجة.
ومنها: أن في قول ابن عباس: "وأنا يومئذ قد ناهزت البلوغ" جواز سماع الصغير، وضبطه السنن، إذا كان مميزاً، وأن التحمل لا يشترط فيه كمال الأهلية، وإنما يشترط عند الأداء.
وقد بوب البخاري رحمه الله في "صحيحه" في كتاب "العلم" على هذا، حيث قال:"باب متى يصح سماع الصغير"، ثم أورد حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحديث محمود بن الربيع، قال:"عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مجَّها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين، من دلو". ومثل الصبي في ذلك: الفاسق، والكافر.
وإلى ذلك أشار الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث"
حيث قال:
وَمَنْ بِكُفْرٍ أَوْ صِباً قَدْ حَمَلَا
…
أَوْ فِسْقِهِ ثُمَّ رَوَى إذْ كَمَلَا
يَقْبَلُهُ الْجُمْهُورُ وَالْمُشْتَهِرُ
…
لَا سِنَّ لِلْحَمْلِ بَلِ الْمُعْتَبَرُ
تَمْيِيزُهُ أَنْ يَفْهَمَ الْخِطَابَا
…
قَدْ ضَبَطُوا وَرَدُّهُ الْجَوَابَا
والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
753 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ:"حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: زَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبَّاسًا، فِي بَادِيَةٍ لَنَا، وَلَنَا كُلَيْبَةٌ، وَحِمَارَةٌ، تَرْعَى، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ، وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يُزْجَرَا، وَلَمْ يُؤَخَّرَا".
رجال الإسناد: ستة
1 -
(عبد الرحمن بن خالد) بن يزيد القطان الواسطي، ثم الرَّقّيّ، صدوق، من [11].
قال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: هو الواسطي، دخل الشام، وحدث بها. قال أبو علي الحراني: مات سنة 251.
روى عنه أبو داود، والمصنف.
2 -
(حجاج) بن محمد الأعور، أبو محمد المصيصي، ترمذي الأصل، نزيل بغداد، ثم المصيصة، ثقة ثبت اختلط في آخر عمره لمّا قدم بغداد، توفي سنة 206، من [9]. أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 32.
3 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، نسب لجده، المكي، ثقة فقيه فاضل، كان يدلس، ويرسل، توفي سنة 150 أو بعدها، من [6]. أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 32.
4 -
(محمد بن عُمَرَ بن علي) بن أبي طالب، الهاشمي، أمه أسماء بنت عَقِيل، صدوق من [6].
روى عن جده مرسلاً، وأبيه، وعمه محمد بن الحنفية، وابن عمه علي بن الحسين بن علي، والعباس بن عبيد الله بن العباس، وعبيد الله ابن أبي رافع، وكريب، مولى ابن عباس، وغيرهم.
روى عنه أولاده: عبد الله، وعبيد الله، وعمر، وابن جريج، وابن إسحاق، ويحيى بن أيوب، وهشام بن سعد، وغيرهم. قال ابن سعد:
قد روي عنه، وكان قليل الحديث، وكان قد أدرك أول خلافة بني العباس. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: روَى عن علي. وقال ابن القطان: حاله مجهول، ولكن زعم أنه محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال الحافظ رحمه الله: وأظنه وَهِمَ في ذلك. أخرج له الأربعة.
5 -
(عباس بن عبيد الله بن عباس) بن عبد المطلب الهاشمي مقبول، من [4].
روى عن عمه الفضل، وخالد بن يزيد بن معاوية، ومحمد بن مسلمة صاحب أبي هريرة. وعنه محمد بن عمر بن علي، وابن جريج، وأيوب السختياني، وموسى بن جبير.
ذكره ابن حبان في "الثقات". روى له أبو داود، والمصنف هذا الحديث، فقط. وقد أعله ابن حزم بالانقطاع، قال: لأن عباساً لم يدرك عمه الفضل. قال الحافظ: وهو كما قال. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله.
6 -
(الفضل بن العباس) بن عبد المطلب رضي الله عنهما، تقدمت ترجمته في الحديث الماضي. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن الفضل بن العباس) رضي الله عنهما أنه (قال: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم عباسًا) أي قصده إكراماً له، واستئناساً به. يقال: زاره زِيارةً، وزَوْراً: قصده، فهو زائر، وزَوْرٌ، وقوم زَوْرٌ، وزُوّارٌ، مثل سافر، وسفر، وسُفَّار، ونسوة زَوْرٌ أيضاً، وزُوَّرٌ، وزائرات، والمَزَار يكون مصدراً، وموضع الزيارة، والزيارة في العرف: قصد المزور، إكراماً له، واستئناساً به. اهـ. "المصباح".
(في بادية) خلاف الحضر، ويقال فيها: البَادَاة، والبَدْو -بفتح، فسكون- والبَدَاوَة -بالفتح، وقد تكسر، وحكى بعضهم فيها الضم-، والنسبة: بَدَاوي، كسَخَاوي، وبِدَاوي -بالكسر- وبَدَوِي -محركة نادر. قاله في "ق". والجار والمجرور متعلق بـ "زار".
وقوله (لنا) متعلق بصفة مقدرة لـ "بادية"، أي كائنة لنا (ولنا كليبة) تصغير كلبة، أنثى كلب، والجملة في محل نصب على الحال، (وحمارة) عطف على "كلبة" وهي أنثى حمار، وتقدم أنها نادرة، والأكثر في الأنثى أتَان (ترعى) مضارع رَعَت الماشيةُ، تَرْعَى رَعْياً، فهي راعية: إذا سَرَحَتْ بنفسها. والجملة في محل رفع صفة "حمارة".
(فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر) زاد في رواية أبي داود: "ليس بين يديه سترة"(وهما بين يديه) جملة من المبتدأ والخبر في محل نصب على الحال، أي والحال أن الكلبة والحمار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية
أبي داود: "وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه"، أي تلعبان أمامه، وهي أصرح من رواية المصنف في الدلالة على المرور (فلم يزجرا، ولم يؤخرا) ببناء الفعلين للمفعول. أي لم يمنعا عن العبث بين يديه، ولم يؤخرا عن الأمام إلى الخلف. وعند أبي داود "فما بالى ذلك" أي لم يَعُدّ مرورهما شيئاً قاطعاً للصلاة.
والحديث يدل على أن مرور الكلب والحمار لا يقطع الصلاة، ولكنه ضعيف لانقطاع سنده، فلا يعارض حديث أبي ذر رضي الله عنه المتقدم الصحيح الدال على أن مرور المرأة، والكلب الأسود، والحمار، يقطع الصلاة.
قال السندي: ولا دلالة في الحديث على المرور بين المصلي والسترة، ولا أن الكلبة كانت سوداء، وكذا في دلالة الأحاديث اللاحقة على أن المرور لا يقطع بحث، فهذه الأحاديث لا تعارض حديث القطع أصلاً. اهـ. جـ 2 ص 65.
قال الجامع: قوله: "بين المصلي والسترة" فيه نظر، حيث إنه لم يكن هناك سترة، كما صرحت به رواية أبي داود المتقدمة. فالأولى في الجواب ما ذكرته من الضعف بسبب الانقطاع. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما هذا ضعيف.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (7/ 753)، وفي "الكبرى"(6/ 829)، بالسند المذكور.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود في "الصلاة" عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن يحيى بن أيوب، عن محمد بن عمر بن علي، به، نحوه. وأخرجه أحمد، والدارقطني، والبيهقي. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
754 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، قَالَ:"حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنَّ الْحَكَمَ أَخْبَرَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ الْجَزَّارِ، يُحَدِّثُ عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، هُوَ وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى حِمَارٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُصَلِّي، فَنَزَلُوا، وَدَخَلُوا مَعَهُ، فَصَلَّوْا، وَلَمْ يَنْصَرِفْ، فَجَاءَتْ جَارِيَتَانِ تَسْعَيَانِ، مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَخَذَتَا بِرُكْبَتَيْهِ، فَفَرَعَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَنْصَرِفْ".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(أبو الأشعث) أحمد بن المِقْدَام العجلي، بصري صدوق، صاحب حديث، طعن فيه أبو داود في مروءته، توفي سنة 253، من [10]، تقدم في 138/ 219.
2 -
(خالد) بن الحارث الهجيمي أبو عثمان البصري، ثقة، ثبت، من [8]، تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة، من [7]، تقدم في 24/ 26.
4 -
(الحكم) بن عتيبة الكندي الكوفي ثقة ثبت فقيه ربما دلس، من [5]، تقدم في 86/ 104.
5 -
(يحيى بن الجَزَّار) بفتح الجيم، ثم الزاي -العُرَني- بضم المهملة، وفتح الراء، ثم نون -الكوفي، قيل: اسم أبيه زَبّان -بزاي، وموحدة- وقيل: بل هو لقبه، صدوق رمي بالغلو في التشيع من [3].
روى عن علي، وأُبَيّ بن كعب، وابن عباس، والحسن بن علي، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنهم. وغيرهم. قال الجوزجاني: كان غالياً مفرطاً. وقال أبو زرعة، والنسائي، وأبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال محمود بن غيلان، عن شبابة، عن شعبة: لم يسمع يحيى بن الجزار من علي إلا ثلاثة أحاديث: أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على فُرْضَة
من فُرَض الخندق، والآخر سئل علي عن يوم الحج الأكبر، ونسي محمود الثالث.
وقال ابن سعد: كان يغلو في التشيع، وكان ثقة، وله أحاديث. وقال العجلي، عن الحكم بن عتيبة أنه قال: كان يحيى بن الجزار يغلو في التشيع، وقال حرب: قلت لأحمد: هل سمع من علي؟ قال: لا.
وقال ابن أبي خيثمة: لم يسمع من ابن عباس. قال الحافظ: كذا رأيت هذا بخط مغلطاي، وفيه نظر؛ فإن ذلك إنما وقع في حديث مخصوص، وهو حديثه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي، فذهب جَدْيٌ يمر بين يديه"
…
الحديث.
قال ابن أبي خيثمة: رواه عفان، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عنه، عن ابن عباس، قال: ولم أسمعه منه، وهو في كتاب أبي داود عن سليمان بن حرب، وغيره، عن شعبة، عن عمرو، عن يحيى، عن ابن عباس، ولم يقل في سياقه:"ولم أسمعه منه"، ولذلك رواه ابن أبي شيبه كما رواه ابن أبي خيثمة.
أخرج له الجماعة، إلا البخاري.
6 -
(صهيب) أبو الصهباء البكري البصري، أو المدني مولى ابن عباس، مقبول من [4].
قال أبو زرعة: ثقة. وقال النسائي: أبو الصهباء صهيب بصري
ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات. له في مسلم ذكر في حديث داود عن أبي نضرة، عن أبي سعيد في الصرف. أخرج له أبو داود، والمصنف.
7 -
(ابن عباس) رضي الله عنهما. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن صهيب، قال: سمعت ابن عباس) رضي الله عنهما (يحدث أنه مر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو وغلام من بني هاشم) وعند أبي داود: "عن أبي الصهباء، قال: تذاكرنا ما يقطع الصلاة عند ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: جئت أنا، وغلام من بني عبد المطلب"(على حمار) متعلق بحال مقدر من الفاعل، أي والحال أنا راكبان على حمار.
(بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا عند المصنف بتكرار الظرف، فيحتمل أن يكون تأكيداً للظرف الأول، أو متعلقاً بصفة مقدر لـ "حمار"، أي كائن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل فائدة إعادته أن لا يظن أن مرورهما كان بعد النزول عن الحمار، فبَيَّنَ أنهما مرّا بين يديه صلى الله عليه وسلم، وهما راكبان. والله أعلم.
ثم إن هذا المرور محمول على أنه كان وراء السترة، جمعًا بينه وبين أحاديث السترة. كما يأتي تحقيقه. إن شاء الله تعالى.
(وهو يصلي) جملة في محل نصب على الحال (فنزلوا) أي مَن كان على الحمار. قاله السندي. وعند أبي داود: "فنزل، ونزلت، وتركنا الحمار أمام الصف، فما بالاه"(ودخلوا معه، فصلَّوا) أي دخلوا معه صلى الله عليه وسلم في الصلاة التي كان يصليها، فصلوا معه تلك الصلاة.
(فجاءت جاريتان) أي صغيرتان، تثنية جارية، وهي في الأصل الشابة، ثم توسعوا حتى سموا كل أمة جارية، وإن كانت عجوزاً لا تقدر على السعي، تسمية بما كانت عليه، وجمعها جوار. وسميت جارية تشبيهاً لها بالسفينة، لجريها مسخرة في أعمال مواليها. أفاده في المصباح.
(تسعيان) أي تهرولان، وتسرعان، والجملة في محل رفع صفة لـ "جاريتان"، وفي رواية لأبي داود:"فجاءت جاريتان من بني عبد المطلب اقتتلتا".
(من بني عبد المطلب) متعلق بمحذوف صفة بعد صفة لـ "جاريتان"، أو حال (فأخذتا بركبتيه) أي بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، تستغيثان به.
(ففرع بينهما) -بفاء مفتوحة، وراء وعين مهملتين، ويجوز في الراء التخفيف، والتشديد- من الفَرعْ، أو التفريع، وهو الحجز، والفرق. قال ابن منظور: وفرعَ بين القوم يفرعَ فَرْعاً -أي من باب نَفَعَ-: حجز، وأصلح. ويقال: فَرَّعَ يفَرِّع أيضاً -بالتضعيف- اهـ. أي حجز
بين الجاريتين المتقاتلتين. وفي رواية لأبي داود: "فنزع إحداهما من الأخرى، فما بالى ذلك".
(ولم ينصرف) أي لم يرجع عن الصلاة، وفيه أن مرور المرأة لا يقطع الصلاة، لكن هذا لا يعارض ما تقدم من قطع المرأة الصلاة؛ لأن ذلك خاص بالمرأة الحائض، وهاتان الجاريتان ليستا حائضتين، فتنبه. والله أعلم.
وقال السندي رحمه الله: ولو سُلّم مرور الجاريتين بين يديه، أي بينه وبين السترة، فالجواب أن الذي يقطع الصلاة مرور البالغة؛ لأنها المتبادرة من اسم المرأة، ويدل عليه رواية "المرأة الحائض". والله أعلم. اهـ.
قال الجامع: الأولى حمل "الحائض" على التي بها الحيض، لا البالغة؛ لأنها الحقيقة المتبادرة، ولا داعي إلى حمله على البالغة، كما تقدم. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا صحيح.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه المصنف هنا (7/ 754)، وفي "الكبرى"(6/ 830)، بالسند
المذكور. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود في "الصلاة" عن عثمان بن أبي شيبة، وداود بن مِخْراق الفريابي، كلاهما عن جرير بن عبد الحميد -وعن مسدد، عن أبي عوانة، كلاهما عن منصور- عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب أبي الصهباء، عنه.
وأخرجه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، والبيهقي.
وفوائد الحديث، وأقوال أهل العلم في حكمه تعلم مما تقدم من الأحاديث، فلا حاجة إلى إعادتها. والله أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
755 -
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ:"حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُصَلِّي، فَإِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُومَ، كَرِهْتُ أَنْ أَقُومَ، فَأَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، انْسَلَلْتُ انْسِلَالاً".
رجال الإسناد: سبعة
1 -
(إِسماعيل بن مسعود) الجَحْدَري أبو مسعود البصري ثقة، توفي سنة 248، من [10]، تقدم في 42/ 47.
2 -
(خالد) بن الحارث الهُجَيمي أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، توفي سنة 186، من [8]، تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصري، توفي سنة 160، من [7]، تقدم في 24/ 26.
4 -
(منصور) بن المعتمر أبو عتّاب الكوفي ثقة حجة ثبت، توفي سنة 132، تقدم في 2/ 2.
5 -
(إِبراهيم) بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه، ثقة، توفي سنة 96، من [5]، تقدم في 29/ 33.
6 -
(الأسود) بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي مخضرم ثقة فقيه، توفي سنة 47، من [2]، تقدم في 29/ 33.
7 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعياته، وأن رواته كلهم ثقات، وأن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، ورواية تابعي، عن تابعي، وأن الثلاثة الأولين بصريون، والباقين كوفيون، إلا عائشة فمدنية، وأنها من المكثرين السبعة، روت 2210 من الحديث. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أنها (قالت: كنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية الشيخين من طريق الأعمش، عن مسلم ابن صُبَيح، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها:"ذُكِرَ عندها ما يقطع الصلاة -الكلب، والحمار، والمرأة- فقالت: شبهتمونا بالحمر، والكلاب، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وإني على السرير، بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس، فأوذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأنسلّ من عند رجليه".
ولمسلم من طريق أبي بكر بن حفص، عن عروة، قال: قالت عائشة: "ما يقطع الصلاة؟ فقلت: المرأة، والحمار. فقالت: إن المرأة لدابة سوء، لقد رأيتني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معترضة كاعتراض الجنازة، وهو يصلي".
(وهو يصلي) جملة في محل نصب على الحال، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل (فإِذا أردت أن أقوم كرهت أن أقوم، فأمرّ) بالنصب عطفاً على "أقوم"(بين يديه) صلى الله عليه وسلم (انسللت انسلالاً) أي خرجت بتأنٍّ وتدريج، وهذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانيّاً، وهو ما وقع جواباً عن سؤال مقدر، كأنه قيل لها: فماذا تفعلين؟ فقالت: انسللت انسلالاً.
وهذا الحديث لا يدل على مرور المرأة أمَام المصلي؛ إذ الانسلال غير المرور، فلا يتم الاستدلال به على جواز مرورها أمَامه. فتبصر.
وقال في "الفتح": الظاهر أن عائشة إنما أنكرت إطلاق كون المرأة
تقطع الصلاة في جميع الحالات، لا المرور بخصوصه. اهـ. جـ 2 ص 174.
وقد تقدم تمام البحث في التوفيق بين الأحاديث في شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه مستوفى، فراجعه تستفد. والله تعالى ولي التوفيق، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (7/ 755)، وفي "الكبرى"(6/ 831) بالسند المذكور. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري في "الصلاة" عن عثمان، ومسلم فيه عن إسحاق بن إبراهيم -كلاهما عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عنها.
وبقية مباحث الحديث واضحة مما تقدم. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
8 - التَّشْدِيدُ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على التشديد والوعيد على من يمر بين المصلي وبين سترته.
756 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ، يَسْأَلُهُ، مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي؟ فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة بن سعيد) البغلاني، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(مالك) بن أنس، الإمام الحجة الفقيه المدني، من [7]، تقدم في 7/ 7.
3 -
(أبو النضر) سالم بن أبي أمية المدني، ثقة ثبت، توفي سنة 129، من [5]، تقدم في 96/ 121.
4 -
(بسر بن سعيد) المدني العابد، ثقة جليل، توفي سنة 100، من [2]، تقدم في 517.
5 -
(أبو جُهَيم) -بالتصغير- بن الحارث بن الصِمّة -بكسر المهملة، وتشديد الميم- بن عمرو الأنصاري، قيل: اسمه عبد الله، وقد ينسب لجده، وقيل: هو عبد الله بن جهيم بن الحارث بن الصمة، وقيل: اسمه الحارث بن الصمة، وقيل: هو آخر غيره، صحابي معروف، وهو ابن أخت أُبَي بن كعب، بقي إلى خلافة معاوية رضي الله عنهما. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه بشر بن سعيد الحضرمي، وأخوه مسلم بن سعيد، وعمير مولى ابن عباس، وعبد الله بن يسار، مولى ميمونة.
قال الحافظ
(1)
: وصحح الحاكم كون الحارث اسم أبيه، لا اسمه. وقال ابن أبي حاتم: عبد الله بن جهيم، أبو جهيم، فرق بينه وبين ابن الصمة. وفي أسد الغابة، عن الاستيعاب، والمعرفة: عبد الله بن جهيم ابن الحارث بن الصمة، فذكره؛ جعل الحارث جده، وهكذا قاله ابن منده، وكأنه أراد أن يجمع الأقوال المختلفة، ومع ذلك فما سلم. والله أعلم. أخرج له الجماعة. له أحاديث، اتفق الشيخان منها على حديثين. والله تعالى أعلم.
(1)
"تهذيب التهذيب" جـ 12 ص 61. وصه ص 447.
لطائف الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلاني، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أبو جهيم رضي الله عنه من المشهورين بالكنية، وهذا الباب أول موضع ذكره في هذا الكتاب، وهو من المقلين في الرواية، فليس له في الكتب الستة، إلا هذا الحديث، وآخر في التيمم، وقد تقدم برقم 195/ 311. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن بسر بن سعيد) المدني العابد (أن زيد بن خالد) هو الجُهَني الصحابي المشهور، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو طلحة، المدني، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عثمان، وأبي طلحة، وعائشة. وعنه ابناه خالد، وأبو حرب، ومولاه أبو عمرة، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وقيل: أبو عمرة الأنصاري، وأبو الحباب سعيد بن يسار، وعبيد الله الخولاني، وغيرهم. قال أحمد بن البرقي: توفي بالمدينة سنة 78 وهو ابن 85 سنة. وقال غيره: بالكوفة. وقال ابن سعد، وآخرون: مات في آخر أيام معاوية. وقال البغوي: مات سنة 68، وقال ابن حبان في الصحابة: مات سنة 78، قال: وقد قيل: سنة 68، وقال أبو عمر: كان صاحب لواء جهينة يوم الفتح. أخرج له الجماعة
(1)
.
(1)
تهذيب التهذيب جـ 3 ص 410 - 411.
(أرسله) أي أرسل بسرَ بنَ سعيد (إِلى أبي جُهَيم) رضي الله عنه، قال الحافظ رحمه الله: هكذا روى مالك هذا الحديث في الموطأ، لم يختلف عليه فيه أن المُرسِل هو زيد، وأن المرسَل إليه هو أبو جهيم، وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضر عند مسلم، وابن ماجه، وغيرهما، وخالفهما ابن عيينة، عن أبي النضر، فقال: عن بسر بن سعيد، قال: أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله، فذكر هذا الحديث.
قال ابن عبد البر: هكذا رواه ابن عيينة مقلوباً، أخرجه ابن أبي خيثمة عن أبيه، عن ابن عيينة، ثم قال ابن أبي خيثمة: سئل عنه يحيى ابن معين، فقال: هو خطأ، إنما هو أرسلني زيد إلى أبي جهيم، كما قال مالك. وتعقب ذلك ابن القطان، فقال: ليس خطأ ابن عيينة فيه بمتعين؛ لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بسراً إلى زيد، وبعثه زيد إلى أبي جهيم يستثبت كل منهما ما عند الآخر.
قال الحافظ: تعليل الأئمة للأحاديث مَبْنِيّ على غلبة الظن، فإذا قالوا: أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجح الاحتمال، فيعتمد، ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشذوذ، وهو ما يخالف الثقة فيه من أرجح منه في حد الصحيح.
قال الجامع: اشتراط انتفاء الشذوذ في حد الصحيح فيه نظر، قد حققته في الشرح الكبير على ألفية السيوطي في الحديث.
وبالله تعالى التوفيق.
(يسأله) جملة حالية من المفعول، أي حال كون بسر يسأل أبا جهيم (ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المار بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو يعلم المار بين يدي المصلي) أي أمامه بالقرب منه، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما. واختلف في تحديد ذلك، فقيل: إذا مر بينه وبين مقدار سجوده. وقيل بينه وبين قدر ثلاثة أذرع.
وقيل: بينه وبين قدر رمية بحجر
(1)
(ماذا عليه) كلمة "ما" استفهام، ومحله الرفع علي الابتداء، وكلمة "ذا" إشارة خبره، والأولى أن تكون "ذا" موصولة بدليل افتقاره إلى شيء بعده؛ لأن تقديره ماذا عليه من الإثم، أو نحوه، ثم إن "ماذا عليه" في محل النصب على أنه سد مسد المفعولين لقوله:"يعلم" وقد علق عمله بالاستفهام. أفاده العيني
(2)
.
وقال في "الفتح": زاد الكشميهني "من الإثم" وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات عند غيره، والحديث في الموطأ بدونها. وقال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في شيء منه، وكذا رواه باقي الستة، وأصحاب المسانيد، والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيء
(1)
فتح الباري جـ 2 ص 168.
(2)
عمدة القاري جـ 4 ص 294،
من الروايات مطلقاً. لكن في مصنف ابن أبي شيبة: "يعني من الإثم"، فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية، فظنها الكشميهني أصلاً؛ لأنه لم يكن من أهل العلم، ولا من الحفاظ، بل كان راوية.
وقد عزاها المحب الطبري في الأحكام للبخاري، وأطلق، فعيب ذلك عليه، وعلى صاحب العمدة في إيهامه أنها في الصحيحين. وأنكر ابن الصلاح في مشكل الوسيط على من أثبتها في الخبر، فقال: لفظ "الإثم" ليس في الحديث صريحاً. ولما ذكر النووي في شرح المهذب دونها، قال: وفي رواية رويناها في الأربعين لعبد القادر الرهاوي: "ماذا عليه من الإثم"
(1)
.
(لكان أن يقف أربعين) جواب "لو"، وكلمة "أن" مصدرية، والتقدير لو يعلم المار ما الذي عليه من الإثم من مروره بين يدي المصلي لكان وقوفه أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه.
وقال الكرماني رحمه الله: جواب "لو" ليس هو المذكور، بل التقدير: لو يعلم ما عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيراً له. اهـ. وتعقبه العيني، فقال: لا ضرورة إلى هذا التقدير، وهو تصرف فيه تعسف، وحق التركيب ما تقدم
(2)
.
قال الكرماني: وأبهم المعدود تفخيماً للأمر، وتعظيماً.
(1)
فتح جـ 2 ص 168.
(2)
عمدة القاري جـ 4 ص 294.
قال الحافظ رحمه الله: قلت: ظاهر السياق أنه عيَّنَ المعدود، ولكن شك الراوي فيه. اهـ.
وقال الكرماني رحمه الله: فإن قلت: هل للتخصيص بالأربعين حكمة معلومة؟ قلت: أسرار أمثال هذا لا يعلمها إلا الشارع. ويحتمل أن يكون ذلك لأن الغالب في أطوار الإنسان أن كمال كل طور بأربعين، كأطوار النطفة، فإن كل طور منها بأربعين، وكمال عدل
(1)
الإنسان في أربعين سنة، ثم الأربعة أصل جميع الأعداد؛ لأن أجزاءه هي عشرة، ومن العشرات المئات، ومنها الألوف، فلما أريد التكثير ضوعف كلٌّ إلى عشرة أمثاله. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الوجه الذي ذكره الكرماني رحمه الله أوّلاً هو الأوجه عندي، فهذا العدد ونحوه مما لا يعرف وجه حكمته، وأما الوجه الثاني فإنه تكلف ظاهر، ترده رواية المائة، ففي رواية ابن ماجه، وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لكان أن يقف مائة عام خيراً له من الخطوة التي خطاها".
وأما ما ذكره العيني في وجه الحكمة للمائة أيضاً، فتكلف ظاهر. وقال الحافظ بعد ذكر رواية المائة ما نصه: وهذا يشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معين.
(1)
هكذا نسخة العمدة "عدل" بالدال، ولعل الصواب "عقل" بالقاف.
(2)
عمدة القارىء جـ 4 ص 294.
وجنح الطحاوي رحمه الله إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار؛ لأنهما لم يقعا معاً؛ إذ المائة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر. ومميز المائة إن كان هو السنة ثبت المُدَّعَى، وأما ما دونها فمن باب أولى.
وقد وقع في مسند البزار من طريق ابن عيينة التي ذكرها ابن القطان: "لكان أن يقف أربعين خريفاً". أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي، عن ابن عيينة. وقد جعل ابن القطان الجزم في طريق ابن عيينة، والشك في طريق غيره، دالاً على التعدد. لكن رواه أحمد، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وغيرهم من الحفاظ عن ابن عيينة، عن أبي النضر على الشك أيضاً، وزاد فيه "أو ساعة" فيبعد أن يكون الجزم، والشك، وقعا معاً من راوٍ واحد في حالة واحدة، إلا أن يقال: لعله تذكر في الحال، فجزم، وفيه ما فيه
(1)
.
(خيراً له) أي لكان الوقوف خيراً له من المرور عنده، ولهذا علق بالعلم، وإلا فالوقوف خير له، سواء علم، أو لم يعلم. و"خيراً" وقع في بعض النسخ بالنصب خبراً لـ "كان" وهو الذي في روايات البخاري، ووقع في النسخة الهندية، والكبرى بالرفع، كما في نسخ أبي داود، والترمذي، وأعربها ابن العربي على أنها اسم "كان"، وأشار
(1)
فتح جـ 2 ص 169.
إلى تسويغ الابتداء بالنكرة؛ لكونها موصوفة. ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها
(1)
.
واعترض السندي رحمه الله بأن القواعد تَأْبَى ذلك؛ لأن قوله: "أن يقف" بمنزلة الاسم المعرفة، فلا يصلح أن يكون خبراً لـ "كان"، وتكون النكرة اسماً له، بل "أن" مع الفعل يكون اسماً لـ "كان" مع الخبر معرفة متقدمة، مثل قوله تعالى:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [آل عمران: 147]. ولهذا نظائر في القرآن، وكذلك المعنى يأبى ذلك عند التأمل، فالوجه أن اسم "كان" ضمير الشأن، والجملة مفسرة للشأن، أو أن "خيراً" منصوب على أنه خبر "كان"، وترك الألف بعده من تسامح أهل الحديث، فإنهم كثيراً ما يتركون كتابة الألف بعد الاسم المنصوب، كما صرح به النووي، والسيوطي، وغيرهما في مواضع. والله تعالى أعلم
(2)
.
(من أن يمر) متعلق بـ "خير"(بين يديه) متعلق بـ "يمر" أي من مروره أمام المصلي.
زاد في رواية الشيخين: "قال أبو النضر: لا أدري، أقال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة". قال الحافظ: هو من كلام مالك، وليس من تعليق البخاري؛ لأنه ثابت في الموطأ من جميع الطرق، وكذا ثبت في رواية الثوري، وابن عيينة.
(1)
فتح جـ 2 ص 169.
(2)
شرح السندي جـ 2 ص 66.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي جهيم رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (8/ 756)، وفي "الكبرى"(7/ 832) عن قتيبة، عن مالك، عن أبي النضر، عن بُسر بن سعيد، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، به. ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، عن مالك، به. وعن عبد الله بن هاشم، عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن سالم أبي النضر، به. وأبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك، به. والترمذي فيه عن إسحاق ابن موسى الأنصاري، عن مَعْنٍ، عن مالك، به. وابن ماجه فيه عن علي بن محمد، عن وكيع، به. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو التشديد في المرور بين يدي المصلي، وبين سترته. قال النووي رحمه الله: فيه دليل عَلَى تحريم المرور؛ فإن مَعْنَى الحديث النهي الأكيد، والوعيد الشديد على ذلك.
انتهى. قال الحافظ: ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر.
ومنها: أخذ القرين عن قرينه ما فاته، أو استثباته فيما سمعه.
ومنها: الاعتماد على خبر الواحد.
ومنها: ما كان عليه الصحابة من شدة طلبهم للعلم حيث يتلقونه بالمراسلة.
ومنها: الاقتصار على النزول مع القدرة على العلو؛ لأن زيد بن خالد أرسل بسر بن سعيد، إلى أبي جهيم، ولو طلب العلو لسعى إليه بنفسه.
ومنها: جواز استعمال "لو" في باب الوعيد، ولا يدخل ذلك في النهي؛ لأن محل النهي أن يشعر بما يعاند المقدور.
ومنها: أن ابن بطال رحمه الله استنبط من قوله: "لو يعلم" أن الإثم يختص بمن يعلم بالنهي، وارتكبه. اهـ. قال الحافظ: وفي أخذ ذلك منه بعد، ولكنه معروف من أدلة أخرى.
ومنها: أن ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر، لا بمن وقف عامداً مثلاً بين يدي المصلي، أو قعد، أو رقد، لكن إن كانت العلة التشويش على المصلي فهو في معنى المار. قاله في الفتح.
قال الجامع: عندي الأولى ما دل عليه ظاهر النص؛ لأن علة النهي ليست معروفة. والله أعلم.
ومنها: أن ظاهره يدل على عموم النهي في كل مصل، وخصه بعض المالكية بالإمام والمنفرد؛ لأن المأموم لا يضره مَنْ مر بين يديه؛ لأن سترة إمامه سترة له، أو إمامه سترة له. اهـ. قال في الفتح: والتعليل المذكور لا يطابق المدَّعَى، لأن السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي، لا عن المار، فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله في "الفتح" فيه نظر، بل ما ذكره بعض المالكية واضح، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل، فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك" إباحة للمرور وراء السترة، وقد قدمنا أن الراجح أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، ولو طالت الصفوف، فالسترة ترفع الحرج عن المصلي، والمار، فيختص منع المرور بالإمام والمنفرد، فقط. فتأمل، والله أعلم.
المسألة الخامسة: ذكر ابن دقيق العيد رحمه الله أن بعض الفقهاء قسم أحوال المار والمصلي في الإثم وعدمه إلى أربعة أقسام:
يأثم المار، دون المصلي، وعكسه، ويأثمان جميعاً، وعكسه.
فالصورة الأولى: أن يصلي إلى سترة في غير مشرع، وللمار مندوحة
(1)
، فيأثم المار دون المصلي.
(1)
أي متسع، من النَّدْح، وهو ما اتسع من الأرض. اهـ. عدّة حاشية العمدة. جـ 2 ص 450.
الثانية: أن يصلي في مشرع مسلوك بغير سترة، أو مباعداً عن السترة، ولا يجد المار مندوحة، فيأثم المصلي دون المار.
الثالثة: مثل الثانية، لكن يجد المار مندوحة، فيأثمان جميعاً.
الرابعة: مثل الأولى، لكن لم يجد المار مندوحة، فلا يأثمان جميعاً. انتهى
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله تعالى بعد نقله لكلام ابن دقيق العيد هذا، ما حاصله: وظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقاً، ولو لم يجد مسلكاً، بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته. ويؤيده قصة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه -يعني الآتية في الحديث التالي- فإن فيها:"فنظر الشاب، فلم يجد مساغاً، إلا بين يديه".
وقال إمام الحرمين: إن الدفع لا يشرع للمصلي في هذه الصورة. وتبعه الغزالي، ونازعه الرافعي. وتعقبه ابن الرفعة بما حاصله أن الشاب إنما استوجب من أبي سعيد الدفع لكونه قصر في التأخر عن الحضور إلى الصلاة حتى وقع الزحام. انتهى. وما قاله محتمل، لكن لا يدفع الاستدلال؛ لأن أبا سعيد لم يعتذر بذلك، ولأنه متوقف على أن ذلك وقع قبل صلاة الجمعة، أو فيها مع احتمال أن يكون ذلك وقع بعدها، فلا يتجه ما قاله من التقصير بعدم التبكير، بل كثرة الزحام حينئذ
(1)
اهـ. إحكام الأحكام جـ 2 ص 450 - 451 بتوضيح من الفتح.
أوجه. والله أعلم
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأرجح هو ما دل عليه ظاهر الحديث من منع المرور مطلقاً. والله أعلم.
تنبيه:
قال في الفتح: وقع في رواية أبي العباس السراج من طريق الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر:"لو يعلم المار بين يدي المصلِّي والمصلَّى" فحمله بعضهم على ما إذا قصر المصلِّي في دفع المار، أو بأن صلى في الشارع. ويحتمل أن يكون قوله: "والمصلى بفتح اللام، أي بين يدي المصلى من داخل سترته، وهذا أظهر. والله أعلم. قاله في الفتح
(2)
. والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
757 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلَا يَدَعْ أَحَدًا أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ".
(1)
فتح جـ 1 ص 698 طبعة دار الريان للتراث.
(2)
فتح جـ 1 ص 698.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة) بن سعيد.
2 -
(مالك).
تقدما في السند السابق.
3 -
(زيد بن أسلم) العدوي المدني، ثقة عالم يرسل، توفي سنة 136، من [3]، تقدم في (64/ 80).
4 -
(عبد الرحمن بن أبي سعيد) الخدري المدني، ثقة توفي سنة 112، من [3]، تقدم في (1/ 326).
5 -
(أبو سعيد) سعد بن مالك الأنصاري الخدري الصحابي المشهور ابن الصحابي رضي الله عنهما. تقدم في (169/ 262). والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، اتفق الجماعة عليهم، فقد علق البخاري لعبد الرحمن بن أبي سعيد، وأخرج له الباقون.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فبغلاني.
ومنها: أن فيه رواية الأقران، فإن زيداً، وعبد الرحمن تابعيان كلاهما من الطبقة الثالثة، ورواية الراوي عن أبيه.
ومنها: أن أبا سعيد أحد المكثرين السبعة، روى 1170 حديثاً. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذا كان أحدكم يصلي) أي إلى شيء يستره، كما قيد في الرواية الأخرى؛ ففي رواية أبي سعيد رضي الله عنه عند الشيخين:"إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يمر بين يديه فليدفعه" الحديث. فإطلاق حديث الباب مقيد بهذا الحديث، ونحوه.
قال أبو بكر بن المنذر رحمه الله: ليس لأحد أن يمر بين يدي من يصلي إلى سترة، وإن مر بين يديه، وهو يصلي إلى سترة كان له دفعه، فإن لم يندفع قاتله إن أبى إلا أن يمر بين يديه. وقد رخص في المرور بين يدي من يصلي إلى غير سترة بعض أهل العلم، واحتج بحديث المطلب ابن أبي وداعة. يعني الآتي للمصنف في الباب التالي
(1)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: وقد يستدل بالحديث على أنه إذا لم يكن له سترة لم يثبت هذا الحكم من حيث المفهوم، وبعض المصنفين من أصحاب الشافعي نص على أنه إذا لم يستقبل شيئاً، أو تباعد عن السترة، فأراد أن يمر وراء موضع السجود لم يكره، وإن أراد أن يمر في موضع السجود كره، ولكن ليس للمصلي أن يقاتله، وعلل ذلك
(1)
الأوسط جـ 5 ص 95.
بتقصيره. حيث لم يقرب من السترة. اهـ
(1)
.
تنبيه:
ذكر عند الشيخين سبب ذكر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لهذا الحديث، فقد أخرجا من طريق حميد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو صالح السمان، قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم الجمعة، يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب، فلم يجد مساغاً إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان، فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: مالك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟. قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان".
(فلا يدع) أي لا يترك (أحدًا أن يمر) هكذا نسخ "المجتبى" بزيادة "أن" المصدرية، وفي الكبرى:"يمر" بدونها، وهي التي عند مسلم، وأبي داود، وهي واضحة؛ إذ الجملة في محل جر صفة لـ "أحد"، ويمكن توجيه ما في "المجتبى" بجعل المصدر المئَول مجروراً بحرف جر محذوف، أي في مروره، يعني أنه لا يترك أحداً في حال مروره.
(1)
إحكام الأحكام جـ 2 ص 454.
(بين يديه) متعلق بـ "يمر"، أي أمامه، والمراد المرور بينه وبين السترة. زاد في رواية مسلم، وأبي داود:"وليدرأ ما استطاع". أي ليدفع المصلي من أراد المرور بينه وبينها قدر استطاعته.
ثم إن ظاهر الأمر وجوب الدفع، وبه قال أهل الظاهر. وقال النووي رحمه الله: الأمر بالدفع أمر ندب متأكد، ولا أعلم أحداً من العلماء أوجبه، بل صرح أصحابنا وغيرهم بأنه مندوب غير واجب. اهـ
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله: فكأنه لم يراجع كلام أهل الظاهر، أو لم يعتد بخلافهم. اهـ
(2)
.
قال القاضي عياض رحمه الله: اتفقوا على أنه لا يجوز له المشي إليه من موضعه ليرده، وإنما يدفعه، ويرده من موقفه؛ لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره من بعيد بين يديه، وإنما أبيح لى قدر ما تناله يده من موقفه، ولهذا أمر بالقرب من سترته، وإنما يرده إذا كان بعيداً منه بالإشارة، أو التسبيح. اهـ.
(فإِد أبى) أي امتنع المار من عدم المرور. يقال: أبَى الرجل يَأبَى إباء -بالكسر والمد- وإباءة: امتنع، فهو آب، وأبِيّ، على فاعل، وفَعِيل، وتأبَّى مثله، وبناؤه شاذ؛ لأن فَعِلَ يَفْعَل -بفتحتين- يكون
(1)
شرح مسلم جـ 4 ص 223.
(2)
فتح جـ 1 ص 695.
حلقيَّ العين، أو اللام. وحكى ابن سِيدَهْ عن قوم: أبِيَ يَأبَى، كنَسِي يَنْسَى، وحكى ابن جني، وصاحب القاموس: أبَى يَأبِي، كضرب يضرب.
(فليقاتله) زاد في الكبرى: "فإن معه القرين"؛ أي الشيطان. وفي رواية البخاري: "فليدفعه"، ولمسلم "فليدفع في نحره، فإن أبى فليقاتله"؛ أي يدفع بيده في نحره، فإن لم يندفع بذلك، فليدفعه، ولو بما يؤدي إلى قتله.
وقال في الفتح: قوله: "فليدفعه"؛ قال القرطبي رحمه الله: أي بالإشارة، ولطيف المنع. وقوله:"فليقاتله"؛ أي يزيد في دفعه الثاني أشد من الأول. قال: وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح؛ لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة، والاشتغال بها، والخشوع فيها. اهـ.
قال الجامع: ما قاله القرطبي مخالف لظاهر الحديث؛ فإن رواية مسلم صريحة في الدفع باليد، لا بالإشارة. وأصرح منه رواية الإسماعيلي، ولفظه:"فإن أبى فليجعل يده في صدره، ويدفعه"، وأما دعواه مخالفة الإقبال على الصلاة، والخشوع، فليس بمسلم؛ لأن من أمر بالخشوع في الصلاة هو الذي شرع المقاتلة فيها، فلا منافاة، ولا معارضة؛ إذ كل من عند الله. فتبصر.
قال الحافظ رحمه الله: وأطلق جماعة من الشافعية أن له أن يقاتله
حقيقة.
واستبعد ابن العربي ذلك في "القبس" وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة.
وأغرب الباجي، فقال: يحتمل أن يكون المراد بالمقاتلة اللعن، أو التعنيف. وتعقب بأنه يستلزم التكلم في الصلاة، وهو مبطل، بخلاف الفعل اليسير. ويمكن أن يكون أراد أنه يلعنه داعياً، لا مخاطباً، لكن فعل الصحابي يخالفه، وهو أدرى بالمراد. وقد رواه الإسماعيلي بلفظ:"فإن أبى فليجعل يده في صدره، ويدفعه" وهو صريح في الدفع باليد.
ونقل البيهقي رحمه الله عن الشافعي رحمه الله أن المراد بالمقاتلة، دفع أشد من الدفع الأول.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"لا تدع أحداً يمر بين يديك، وأنت تصلي، فإن أبى إلا أن تقاتله فقاتله". وهذا يقتضي أن المقاتلة إنما تشرع إذا تعينت في دفعه. قال الحافظ: وبنحوه صرح أصحابنا -يعني الشافعية- فقالوا: يرده بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشد، ولو أدى إلى قتله. فلو قتل، فلا شيء عليه؛ لأن الشارع أباح له مقاتلته، والمقاتلة المباحة لا ضمان فيها.
ونقل عياض وغيره أن عندهم -يعني المالكية- خلافاً في وجوب الدية في هذه الحالة. ونقل ابن بطال وغيره الاتفاق على أنه لا يجوز له المشي من مكانه ليدفعه، ولا العمل الكثير في مدافعته؛ لأن ذلك أشد في الصلاة من المرور.
وذهب الجمهور إلى أنه إذا مر، ولم يدفعه فلا ينبغي له أن يرده؛ لأن فيه إعادة للمرور. وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود، وغيره أن له ذلك. أفاده في الفتح.
وقال أبو بكر بن المنذر رحمه الله تعالى: وقد اختلف أهل العلم في رد المصلي من مر بين يديه من حيث جاء، فرخص قوم في رده إذا مر. روي هذا القول عن عبد الله بن مسعود، وكذلك فعله سالم. وروي هذا عن الحسن البصري.
وقال آخرون: لا يرده بعد أن جاز، كذلك قال الشعبي، والثوري، وإسحاق بن راهويه. وكذلك نقول؛ لأن رجوعه من حيث جاء يكون مروراً ثانياً بين يدي المصلي، وليس لذلك وجه.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي رجحه ابن المنذر رحمه الله تعالى هو القول الراجح عندي. لما ذكره. والله أعلم.
تنبيه:
قدمنا أنه زاد في الكبرى "فإن معه القرين"، ولمسلم، وأبي داود: فإنما هو شيطان".
قال القاضي عياض رحمه الله: قيل: معناه إنما حمله على مروره وامتناعه من الرجوع الشيطان. وقيل: معناه يفعل فعل الشيطان؛ لأن
الشيطان بعيد من الخير وقبول السنة. وقيل: المراد بالشيطان القرين. كما جاء في الحديث الآخر "فإن معه القرين". والله أعلم.
وقال في "الفتح": أي فعله فعل الشيطان؛ لأنه أبَى إلا التشويش على المصلي، وإطلاق الشيطان على المارد من الإنس سائغ شائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى:{شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112].
وقال ابن بطال: في هذا الحديث جواز إطلاق لفظ الشيطان على من يفتن في الدين، وأن الحكم للمعاني دون الأسماء؛ لاستحالة أن يصير المار شيطاناً بمجرد مروره. انتهى.
وهو مبني على أن لفظ "الشيطان" يطلق حقيقة على الجني، ومجازاً على الإنسي، وفيه بحث. ويحتمل أن يكون المعنى: فإنما الحامل له على ذلك الشيطان. وقد وقع في رواية الإسماعيلي: "فإنما معه الشيطان"، ونحوه لمسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"فإن معه القرين".
قال الجامع: عندي أن الاحتمال الأخير هو الأولى؛ لأن أولى ما تفسر به الرواية رواية جاءت من طريق آخر. كما قال السيوطي رحمه الله في "ألفية الحديث":
وَخَيْرُهُ مَا جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أِوْ
…
عَنِ الصَّحَابِيِّ وَرَاوٍ قَدْ حَكَوْا
أي خير ما فسر به الغريب التفسير الذي جاء من طريق آخر، أو جاء
عن الصحابي، أو جاء عن بعض الرواة. والله أعلم.
واستنبط ابن أبي جمرة من قوله: "فإنما هو شيطان" أن المراد بقوله: "فليقاتله" المدافعة اللطيفة، لا حقيقة القتال، قال: لأن مقاتلة الشيطان إنما هو بالاستعاذة والتستر عنه بالتسمية ونحوها. وإنما جاز الفعل اليسير في الصلاة للضرورة، فلو قاتله حقيقة المقاتلة لكان أشد على صلاته من المار.
قال الجامع عفا الله عنه: بل الأولى هو حمل المقاتلة على حقيقته، كما تقدم تحقيقه. والله أعلم.
قال: وهل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي من المرور، أو لدفع الإثم عن المارّ؟ فالظاهر الثاني. انتهى.
وقال غيره: بل الأول أظهر؛ لأن إقبال المصلي على صلاته أولى له من اشتغاله بدفع الإثم عن غيره. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه "أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته".
وروى أبو نعيم عن عمر: "لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس"
(1)
. فهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي، ولا يختص
(1)
فتح جـ 1 ص 695 - 696.
بالمار، وهما وإن كانا موقوفين لفظاً، فحكمهما حكم الرفع؛ لأن مثلهما لا يقال بالرأي. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (8/ 757)، و"الكبرى"(7/ 833) عن قتيبة، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
اعلم أن حديث أبي سعيد له طريقان أحدهما: طريق عبد الرحمن ابن أبي سعيد، عن أبيه، فأخرجه منها المصنف هنا كما ذكر آنفاً، ومسلم في "الصلاة" عن يحيى بن يحيى، عن مالك، به. وأبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك، به. وعن محمد بن العلاء، عن أبي خالد الأحمر، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، به نحوه. وابن ماجه فيه عن أبي كريب محمد بن العلاء، به.
الثانية: طريق أبي صالح السمان، فأخرجه منها البخاري،
ومسلم، وأبو داود، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي معمر، عن عبد الوارث، عن يونس بن عبيد -وعن آدم بن أبي إياس، عن سليمان ابن المغيرة- كلاهما عن حميد بن هلال العدوي، عن أبي صالح، عنه. وأعاده عن أبي معمر في "صفة إبليس" من "بدء الخلق". ومسلم في "الصلاة" عن شيبان بن فَرُّوخ، وأبو داود فيه عن موسى بن إسماعيل كلاهما عن سليمان بن المغيرة به
(1)
. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو التشديد في المرور بين يدي المصلي وبين سترته، حيث إن المار شرع دفعه، ولو أدى إلى قتله، وحيث سمي شيطاناً.
ومنها: مشروعية دفع المار بين المصلي وسترته، وهذا إذا اتخذ سترة، أما إذا لم يتخذها، أو ابتعد عنها، فليس له الدفع على الراجح.
ومنها: أن دفع المار يكون بالأسهل فالأسهل، فإن لم يرتدع، فبالأشد، ولو بقتله.
ومنها: أن المار بين يدي المصلي شيطان، في كونه يشغل قلب المصلي عن المناجاة لربه، وأنه يجوز أن يقال لمن يفسد في الدين
(1)
تحفة الأشراف جـ 3 ص 342، 385.
شيطان. والله الهادي إلى سواء السبيل.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
9 - الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ
أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على التسهيل في المرور بين يدي المصلي، لكن الحديث ضعيف، فلا يصلح دليلاً للرخصة المذكورة، كما يأتي تحقيق الكلام فيه، إن شاء الله تعالى.
758 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:"رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِحِذَائِهِ فِي حَاشِيَةِ الْمَقَامِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطُّوَّافِ أَحَدٌ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه، ثقة حجة فقيه، من [10]، تقدم في 2/ 2.
2 -
(عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، ثقة مأمون، من [8]، تقدم في 8/ 8.
3 -
(عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج) المكي، ثقة فقيه
فاضل يدلس ويرسل، من [6]، تقدم في 28/ 32.
4 -
(كثير بن كثير) بن المطلب بن أبي وداعة القرشي السهمي المكي، ثقة من [6].
روى عن أبيه، وسعيد بن جبير، وعلي بن عبد الله البارقي، وغيرهم. وروى عنه ابن جريج، ومعمر، وهشام بن حسان، وإبراهيم ابن نافع، وسالم الخياط، وابن عيينة، وآخرون. قال ابن سعد: كان شاعراً قليل الحديث. وقال أحمد، وابن معين: ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه
(1)
.
5 -
(كثير بن المطلب) بن أبي وداعة السهمي المكي، مقبول من [3] روى عن أبيه. وعنه بنوه: كثير، وجعفر، وسعيد. ذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه حديث الباب فقط
(2)
.
6 -
(المطلب بن أبي وداعة) الحارث بن أبي صبيرة
(3)
بن سُعَيد ابن سعد بن سهم السهمي القرشي، أمه أروَى بنت الحارث بن عبد المطلب. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن حفصة، وعنه أولاده: جعفر،
(1)
تقريب ص 285، وتت جـ 8 ص 426.
(2)
ت ص 285، تت جـ 8 ص 429.
(3)
(صُبَيرة) بمهملة، ثم موحدة، و (ابن سعيد) بالتصغير. ت ص 339.
وعبد الرحمن، وكثير، وحفيده أبو سفيان بن عبد الرحمن بن المطلب، والسائب بن يزيد، وعكرمة بن خالد، وعبد الله بن الحارث بن نوفل على خلاف فيه.
روى له مسلم حديثه عن حفصة في صلاة السبحة قاعدًا، وأخرج له الأربعة.
وقال الواقدي: نزل المدينة، وله بها دار، وبقي دهراً، ومات بها. وذكره ابن سعد في مسلمة الفتح
(1)
. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن كثير بن كثير، عن أبيه) كثير بن المطلب (عن جده) المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه، أنه (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً، ثم صلى ركعتين) وهما ركعتا الطواف ففي رواية ابن خزيمة، وابن حبان قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من طوافه أتى حاشية المطاف، فصلى ركعتين، وليس بينه وبين الطوّافين أحد".
(بحذائه) أي بمُوازاة البيت، ولأبي داود:"يصلي مما يلي باب بني سهم" قال بعضهم: باب بني سهم في الشمال الغربي من المسجد الحرام، وهو المعروف بباب العمرة؛ لأن الناس يخرجون منه إلى التنعيم للإحرام بالعمرة. وبنو سهم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن
(1)
تت جـ 10 ص 179 - 180، تهذيب الكمال جـ 28 ص 86 - 87.
لؤيّ بن غالب، قبيلة من قريش.
(في حاشية المقام) أي بجانب المقام، والحاشية: الجانب. قال الفيومي رحمه الله تعالى: وحاشية الثوب: جانبه، والجمع الحواشي، وحاشية النسب: كأنه مأخوذ منه، وهو الذي يكون على جانبه، كالعم، وابنه، وحاشية المال: جانب منه غير معين. اهـ
(1)
.
يعني أنه صلى في جانب مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفي الرواية الآتية (2959)"جاء حاشية المطاف، فصلى ركعتين"، ولا تنافي بين الروايتين؛ لأن المقام قريب من المطاف.
(وليس بينه وبين الطُّوَّاف أحد) الطُّواف جمع طائف، قال ابن مالك في "خلاصته":
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِ لَهْ
وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا
…
وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرًا
وفي الرواية الآتية: "وبين الطوافين" بصيغة جمع المذكر السالم، والجملة في محل نصب على الحال، من فاعل "صلى": يعني أنه صلى جنب المقام بلا سترة تستره عن المارين. وفي رواية أبي داود: "والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة".
واستدل به المصنف على الرخصة في جواز المرور بين يدي المصلي
(1)
المصباح جـ 1 ص 138.
إذا لم يتخذ سترة. واستدل به غيره على أنه يباح ترك اتخاذ السترة في المسجد الحرام. وكل ذلك غير مسلم لعدم صحة الدليل، كما سيأتي تحقيق القول في ذلك قريباً إن شاء الله تعالى.
وقال السندي عند قوله: "وليس بينه وبين الطُّوّاف أحد" ما نصه: قلت: لكن المقام يكفي سترة، وعلى هذا فلا يصح هذا الحديث دليلاً لمن يقول: لا حاجة في مكة إلى سترة. فليتأمل
(1)
.
قال الجامع: في قوله: لكن المقام يكفي سترة. نظر؛ إذ ليس في الحديث ما يدل على أنه جعل المقام سترة. بل إنما صلى إلى جنبه. كما قدمنا قريباً فتبصر. والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه هذا ضعيف؛ لكونه معلولاً؛ لأن كثير بن كثير لم يسمعه من أبيه، كما بينه ابن عيينة رحمه الله تعالى.
قال أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا سفيان ابن عيينة، حدثني كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، عن بعض أهله، عن جده، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم،
(1)
شرح السندي جـ 2 ص 67.
والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة. قال سفيان: ليس بينه وبين الكعبة سترة. قال سفيان: كان ابن جريج أخبرنا عنه قال: أخبرنا كثير، عن أبيه، فسألته، فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي عن جدي
(1)
.
ولفظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الحسن بن عبدوس، قال: سمعت عثمان بن سعيد، يقول: سمعت علياً -يعني ابن المديني- يقول في هذا الحديث: قال سفيان: سمعت ابن جريج يقول: أخبرني كثير بن كثير، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، والناس يمرون
…
قال سفيان: فذهبت إلى كثير، فسألته، قلت: حديث تحدثه عن أبيك؟ قال: لم أسمعه من أبي، حدثني بعض أهلي عن جدي المطلب. قال علي قوله:"لم أسمعه من أبي" شديد على ابن جريج. قال أبو سعيد عثمان: يعني ابن جريج لم يضبطه
(2)
.
قال الجامع: فتبين بهذا أن قوله: "عن أبيه، عن جده" خطأ أخطأ فيه ابن جريج، والصواب عن بعض أهله، عن جده، فيكون الحديث ضعيفاً؛ لأن في سنده مجهولاً فتبصر. والله أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (9/ 758)، وفي "الكبرى"(8/ 834) عن إسحاق بن
(1)
سنن أبي داود جـ 2 ص 211.
(2)
السنن الكبرى جـ 2 ص 273.
إبراهيم، عن عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن كثير بن كثير، عن أبيه، عن جده. وفي (162/ 2959)، وفي "الكبرى"(162/ 3953) من كتاب الحج عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج به. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود في "الحج" عن أحمد بن حنبل، عن سفيان بن عيينة، عن كثير بن كثير، عن بعض أهله، عن جده.
وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن ابن جريج، بسند المصنف
(1)
، وأخرجه أحمد في مسنده، وابنا خزيمة، وحبان في صحيحيهما. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في حكم هذا الحديث:
قال الإمام عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله تعالى في مصنفه:
"باب لا يقطع الصلاة شيء بمكة" فأخرج عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: لا يقطع الصلاة بمكة شيء، لا يضرك أن تمر المرأة بين يديك.
وعن ابن جريج، قال: أخبرني أبي عن أبي عامر، قال: رأيت ابن الزبير يصلي في المسجد، فتريد المرأة أن تُجِيز أمامه، وهو يريد السجود
(1)
أفاده في تحفة الأشراف جـ 8 ص 389 - 390.
حتى إذا هي جازت سجد في موضع قدميها.
وعن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: رأيت محمد بن الحنفية يصلي في مسجد منى، والناس يمرون بين يديه، فجاء فتى من أهله، فجلس بين يديه، قال عبد الرزاق: ورأيت أنا ابن جريج يصلي في مسجد منى على يسار المنارة، وليس بين يديه سترة، فجاء غلام، فجلس بين يديه
(1)
.
وقال العلامة ابن قدامة رحمه الله تعالى: ولا بأس أن يصلي بمكة إلى غير سترة. وروي ذلك عن ابن الزبير، وعطاء، ومجاهد. قال الأثرم: قيل لأحمد: الرجل يصلي بمكة، ولا يستتر بشيء؟ فقال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ثَمَّ ليس بينه وبين الطُّوَّاف سترة. قال أحمد: لأن مكة ليست كغيرها، كأن مكة مخصصة؛ وذلك كثير بن كثير بن المطلب، عن أبيه، عن جده، فذكر حديث الباب.
وقال ابن أبي عمار: رأيت ابن الزبير جاء يصلي، والطُّوَّاف بينه وبين القبلة، تمر المرأة بين يديه، فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها. رواه حنبل في كتاب "المناسك".
وقال المعتمر: قلت لطاوس: الرجل يصلي -يعني بمكة- فيمر بين يديه الرجل والمرأة؟ فقال: أو لا يرى الناس بعضهم بعضاً. وإذا هو يرى أن لهذا البلد حالاً ليس لغيره من البلدان، وذلك لأن الناس يكثرون
(1)
المصنف جـ 2 ص 35 - 36.
بمكة لأجل قضاء نسكهم، ويزدحمون فيها، ولذلك سميت بمكة؛ لأن الناس يتباكون فيها، أي يزدحمون، ويدفع بعضهم بعضاً، فلو مَنَعَ المصلي من يجتاز بين يديه لضاق على الناس.
وحكم الحرم كله حكم مكة في هذا؛ بدليل ما روى ابن عباس؛ قال: أقبلت راكباً على حمار أتان، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار. متفق عليه. ولأن الحرم كله محل المشاعر، والمناسك، فجرى مجرى مكة في ما ذكرناه. اهـ كلام ابن قدامة رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في "صحيحه": "باب السترة بمكة وغيرها" حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن أبي جحيفة، قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فصلى بالبطحاء الظهر والعصر ركعتين، ونَصَبَ بين يديه عَنَزَةً، وتوضأ، فجعل الناس يتمسحون بوَضُوئه".
وأراد البخاري -كما قال الحافظ رحمه الله أن ينكت على ترجمة عبد الرزاق المذكورة، وأن الحديث الذي استدل به ضعيف، للعلة المتقدمة، وأنه لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة رضي الله عنه. وهذا هو المعروف عند الشافعية، وأنه لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها.
(1)
المغني جـ 3 ص 89 - 90.
واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة، وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الراجح في هذه المسألة وجوب اتخاذ السترة ومنع المرور بين يدي المصلي مطلقاً في مكة وغيرها؛ لعموم الأدلة، والحديث الذي استدلوا به على الجواز ضعيف كما سمعت، فلا يصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة الموجبة لذلك. فتبصر. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
انظر: الفتح جـ 1 ص 686 - 687.
10 - الرُّخْصَةُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّائِمِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على التسهيل في الصلاة خلف الشخص النائم.
والظاهر من الرخصة هنا مطلق الجواز، لا الرخصة المقابلة للنهي السابق؛ إذ لم يصح نهي عن ذلك.
والحديث الوارد في النهي عن الصلاة إلى النائم غير صحيح، وعلى تقدير الصحة لا يعرف تاريخه حتى يقال: نسخ بهذا الحديث. وسيأتي تحقيقه في المسائل، إن شاء الله تعالى.
759 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي، فَأَوْتَرْتُ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسي، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 15/ 15.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة ثبت حجة، من [9]، تقدم في 4/ 4.
3 -
(هشام) بن عروة أبو المنذر المدني، ثقة فقيه، من [5]، تقدم في 49/ 61.
4 -
(عروة) بن الزبير بن العوام المدني، ثقة ثبت فقيه، من [3]، تقدم في 40/ 44.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات أجلاء، من رجال الجماعة، إلا شيخه، فإنه من أفراد الشيخين، والمصنف. وأنهم مدنيون، إلا شيخه، فسرخسي، ويحيى فبصري، وأن فيه رواية الراوي، عن خالته، وأن عروة أحد الفقهاء السبعة، وأن عائشة من المكثرين السبعة، روت 2210 أحاديث. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل)"من" بمعنى بعض، أي بعض الليل، ويحتمل أن تكون بمعنى "في"، أي يصلي في الليل (وأنا راقدة) جملة في محل نصب على الحال، أي والحال أنا راقدة، و"الراقدة": النائمة، يقال: رَقَدَ
رَقْداً، ورُقوداً، ورُقَاداً: نام، ليلاً كان، أو نهاراً، وبعضهم يخصه بنوم الليل، والأول هو الحق، ويشهد له المطابقة في قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]. قال المفسرون: إذا رأيتهم حسبتهم أيقاظاً؛ لأن أعينهم مفتحة، وهم نيام. قاله الفيومي
(1)
.
(معترضة بينه وبين القبلة) أي نائمة عَرْضًا، وفي رواية للبخاري:"كان يصلي، وهي معترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة".
يقال: عَرَضَ الشيء يَعرِض، واعترض: انتصب، ومنع، وصار عارضاً، كالخشبة المنتصبة في النهر، والطريق، ونحوها، تمنع السالكين
سلوكها. ويقال: اعترض الشيءُ دون الشيءِ: أي حال دونه. قاله ابن منظور
(2)
.
والمراد أنها متوسطة بينه صلى الله عليه وسلم، وبين قبلته.
(على فراشه) أي الفراش الذي ينام عليه، ففي رواية أبي داود:"على الفراش الذي يرقد عليه".
(فإِذا أراد أن يوتر أيقظني، فأوترت) فيه أن عائشة كانت تؤخر الوتر اعتماداً على أنه صلى الله عليه وسلم يوقظها. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
المصباح جـ 1 ص 234 - 235.
(2)
لسان جـ 4 ص 2886.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه البخاري، في "الصلاة"، وفي الوتر عن مسدد، عن يحيى القطان. والله أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (10/ 759)، وفي "الكبرى"(9/ 835) عن عبيد الله ابن سعيد، عن يحيى القطان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها. والله أعلم.
المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة خلف النائم:
الصلاة خلف النائم جائزة عند الجمهور؛ لحديث الباب، وأما ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تصلوا خلف النائم، ولا المتحدث". فحديث ضعيف باتفاق الحفاظ، كما قاله النووي.
وقال الخطابي: هذا حديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لضعف سنده. وعبد الله بن يعقوب لم يُسَمِّ من حدثه، عن محمد بن كعب، وإنما رواه عن محمد بن كعب رجلان كلاهما ضعيفان، تمام بن بَزِيع، وعيسى بن ميمون، وقد تكلم فيهما يحيى بن معين، والبخاري.
ورواه أيضاً عبد الكريم أبو أمية، عن مجاهد، عن ابن عباس،
وعبد الكريم متروك الحديث. قال أحمد: ضربنا عليه، فاضربوا عليه، وقال يحيى بن معين: ليس بثقة، ولا يحمل عنه. اهـ
(1)
.
وأخرج الحديث أيضاً ابن ماجه، وفي سنده أبو المقدام هشام بن زياد البصري، ولا يحتج بحديثه. قاله المنذري.
وقال مالك: لا يصلي إلى نائم إلا أن يكون دونه سترة، وهو قول طاوس، قال ابن بطال: كرهت طائفة من العلماء الصلاة خلف النائم خوف ما يحدث منه، فيشغل المصلي، أو يضحكه، فتفسد صلاته. وقال مجاهد: أصلي وراء قاعد أحب إليّ من أن أصلي وراء نائم. قال ابن بطال: والقول الأول قول من أجاز ذلك للسنة الثابتة. اهـ.
وقال الخطابي: فأما الصلاة إلى المتحدثين فقد كرهها الشافعي، وأحمد من أجل أن كلامهم يشغل المصلي. وكان ابن عمر لا يصلي خلف رجل يتكلم إلا يوم الجمعة
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن قول الجمهور بجواز الصلاة خلف النائم من غير كراهة هو الصحيح؛ لصحة دليله من غير معارض. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
معالم السنن جـ 1 ص 341 - 342.
(2)
طرح التثريب جـ 2 ص 388.
11 - النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ إِلَى الْقَبْرِ
760 -
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ، عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(علي بن جُحْر) السعدي المروزي، ثقة، تقدم 13/ 13.
2 -
(الوليد) بن مسلم القرشي مولاهم، أبو العباس الدمشقي، ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية، توفي سنة 194، من [8]، أخرج له الجماعة تقدم في 5/ 454.
3 -
(ابن جابر) هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي، أبو عتبة الشامي الداراني، ثقة، توفي سنة بضع وخمسين ومائة، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 45/ 595.
4 -
(بُسر بن عبيد الله) الحضرمي الشامي، ثقة حافظ، من [4]، أخرج له الجماعة.
روى عن واثلة، وعمرو بن عبَسَة، ورُويفع بن ثابت، وعبد الله بن
مُحَيريز، وأبي إدريس الخَوْلاني، وغيرهم. وعنه عبد الله بن العلاء بن زبر، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وزيد بن واقد، وغيرهم. قال العجلي، والنسائي: ثقة. قال أبو مسهر: هو أحفظ أصحاب أبي إدريس. وقال مروان بن محمد: من كبار أهل المسجد ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة.
5 -
(واثلة بن الأسقع)
(1)
بن كعب بن عامر بن ليث بن عبد مناة.
ويقال: ابن الأسقع بن عبد الله بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث، أبو الأسقع، ويقال: أبو قرصافة، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو الخطاب، ويقالى: أبو شداد الليثي، أسلم قبل تبوك، وشهدها، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي مرثد الغنوي، وأبي هريرة، وأم سلمة. وعنه ابنته فسيلة، ويقال: حصيلة، ويقال: جميلة، وأبو إدريس الخولاني، وبُسْر بن عبيد الله الحضرمي، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان من أهل الصفة، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشام. وقال أبو حاتم: نزل الشام. وكان يشهد المغازي بدمشق، وحمص. وقال أبو الحسن بن سميع، عن دُحَيم: مات بدمشق في خلافة عبد الملك. وقال أبو المغيرة، عن ابن عياش، عن سعيد بن خالد: مات سنة 83 وهو ابن 105، وكذا قال الدوري وغيره
(1)
بقاف بعد السين المهملة.
عن ابن معين. وقال أبو مسهر، وجماعة: مات سنة خمس.
وقال سعيد بن بشير عن قتادة: كان آخر الصحابة موتاً بدمشق. أخرج له الجماعة.
قال الحافظ رحمه الله: صحح ابن عبد البر رحمه الله القول الثاني في نسبه. وهو الصواب، أو يكون سقط من الأول عدة آباء. وحكى ابن أبي خيثمة أنه واثلة بن عبد الله بن الأشج. وقال البخاري: قال بعضهم: كنيته: أبو قرصافة، وهو وهم
(1)
.
6 -
(أبو مرثد الغَنَوِيّ) كَنَّاز
(2)
بن الحُصَين، ويقال: ابن حصين ابن يَربوع بن عمرو بن يربوع بن خرشة بن سعد بن طَريف بن جلان بن غَنْم بن غَنِيّ بن أعصُر بن سَعْد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد. أبو مرثد بن أبي مرثد، وجد أُنَيس بن مرثد بن أبي مرثد، وثلاثتهم لهم صحبة، وهو حليف حمزة بن عبد المطلب، وكان تربه.
قال أبو بكر بن أبي داود: ليس أحد بدري بن بدري إلا مرثد بن أبي مرثد. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا. وروى عنه واثلة بن الأسقع. قال الواقدي: توفي سنة 12 من الهجرة. زاد غيره: بالشام في خلافة أبي بكر الصديق. واستشهد ابنه مرثد بن أبي مرثد يوم الرجيع في حياة
(1)
تهذيب التهذيب جـ 11 ص 101 - 102.
(2)
"أبو مرثد"، بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها مثلثة، و"كناز" بتشديد النون، وآخره زاي. ت. و"الغنوي" بفتح الغين المعجمة. صه.
رسول صلى الله عليه وسلم.
روى له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي
(1)
. قال الحافظ: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه، وبين عبادة بن الصامت
(2)
. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أنه مسلسل بالشاميين، فكل رواته شاميون إلا شيخ المصنف، فمروزي، فبغدادي.
ومنها: أن فيه رواية صحابي، عن صحابي.
ومنها: أن أبا مرثد من المقلين، ليس له غير حديث واحد، وهو حديث الباب، كما مر قريياً. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي مَرْثَد) كَنَّاز بن الحصين. (الغَنَوي) نسبة إلى غَنِيّ أحد أجداده كما مر في نسبه؛ لأن القاعدة في النسبة إلى فَعِيل معتلِّ اللام، كغَنِيّ، وعَديّ، وفُعَيل، كقُصَيّ، وجوب حذف يائه، وفتح عينه، فتقول: غَنَويّ، وعَدَويّ، وقُصَويّ، كما قال في "الخلاصة":
(1)
تهذيب الكمال جـ 24 ص 223 - 224.
(2)
تهذيب التهذيب جـ 8 ص 448.
وَفَعَلِيُّ فِي فَعِلَةَ الْتُزِمْ
…
وَفُعَلِيٌّ فِي فُعَيْلَةَ حُتِمْ
وَأَلْحَقُوا مُعَلَّ لَامٍ عَرِيَا
…
مِنَ الْمِثَالَيْنِ بِمَا التَّا أُولِيَا
أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُصلّوا إلى القبور) أي بالاستقبال إليها؛ لما فيه من التشبه بعبادتها. قاله السندي رحمه الله
(1)
.
وقال النووي رحمه الله: فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى قبر. قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً، مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس
(2)
.
قال الجامع: ظاهر النهي للتحريم، إذ لا صارف له، فلا تصح إلى القبر مطلقاً. والله أعلم.
(ولا تجلسوا عليها") قال السندي رحمه الله: الظاهر أن المراد بالجلوس معناه المتعارف، وقيل: كناية عن قضاء الحاجة. والله أعلم. وفيه تحريم الجلوس على القبور. وسيأتي تمام البحث فيه في كتاب الجنائز برقم (105/ 2044) إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي مرثد الغَنَويّ أخرجه مسلم.
(1)
شرح السندي جـ 2 ص 67.
(2)
شرح مسلم جـ 7 ص 38.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (11/ 760) وفي "الكبرى"(10/ 736) عن علي بن حُجْر، عن الوليد بن مسلم، عن بُسْر بن عبيد الله، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد الغَنَويّ رضي الله عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي: فأخرجه مسلم في "الجنائز" عن علي بن حجر، بسند المصنف بلفظ "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها"
…
وعن الحسن بن الربيع البجلي، عن ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخَوْلاني، عن واثلة، عن أبي مرثد الغنوي، بلفظ المصنف.
وأبو داود فيه عن إبراهيم بن موسى، عن عيسى بن يونس، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بإسناد الوليد بن مسلم.
والترمذي فيه عن هناد بن السَّرِيّ، وعن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مهدي -كلاهما عن عبد الله بن المبارك به. وعن علي ابن حجر، وأبي عمار الحسين بن حريث، كلاهما عن الوليد بن مسلم به. وقال: قال محمد بن إسماعيل: حديث ابن المبارك خطأ، إنما هو عن بسر بن عبيد الله، عن واثلة. هكذا روى غير واحد، عن ابن جابر، وبُسرٌ سمع من واثلة.
قال أبو الحسن الدارقطني: زاد ابن المبارك في إسناد هذا الحديث: "أبا إدريس الخولاني" ولا أحسبه إلا أدخل حديثاً في حديث؛ لأن وهيب بن خالد رواه عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره الحافظ المزيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في
مقدمته رواية ابن المبارك المذكورة مثالاً للمزيد في متصل الأسانيد، وهاك نصه:
(النوع السابع والثلاثون معرفة المزيد في متصل الأسانيد) مثاله ما روى عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني بسر بن عبيد الله، قال: سمعت أبا إدريس، يقول: سمعت واثلة بن الأسقع، يقول: سمعت أبا مرثد الغنوي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها".
فذكر سفيان في هذا الإسناد زيادة وهم، وهكذا ذكر أبي إدريس. أما الوهم في ذكر سفيان فممن دون ابن المبارك لا من ابن المبارك؛ لأن جماعة ثقات رووه عن ابن المبارك، عن ابن جابر نفسه، ومنهم من صرح فيه بلفظ الإخبار بينهما.
(1)
تحفة الأشراف جـ 8 ص 329، وتهذيب الكمال جـ 24 ص 225.
وأما ذكر أبي إدريس فيه فابن المبارك منسوب فيه إلى الوهم؛ وذلك لأن جماعة من الثقات رووه عن ابن جابر، فلم يذكروا أبا إدريس بين بسر وواثلة، وفيهم من صرح فيه بسماع بسر من واثلة.
قال أبو حاتم الرازي يرون أن ابن المبارك وَهِمَ في هذا، وكثيراً ما يحدث بسر عن أبي إدريس، فغلط ابن المبارك، وظن أن هذا مما روى عن أبي إدريس، عن واثلة، وقد سمع هذا بسر من واثلة نفسه.
قال: قد ألف الخطيب الحافظ في هذا النوع كتاباً سماه "تمييز المزيد في متصل الأسانيد" وفي كثير مما ذكره نظر؛ لأن الإسناد الخالي عن الراوي الزائد إن كان بلفظة "عن" في ذلك، فينبغي أن يحكم بإرساله، ويجعل معللاً بالإسناد الذي ذكر فيه الزائد، وإن كان فيه تصريح بالسماع، أو بالإخبار، كما في المثال الذي أوردناه فجائز أن يكون قد سمع ذلك من رجل عنه، ثم سمعه منه نفسه، فيكون بُسْر في هذا الحديث قد سمعه من أبي إدريس، عن واثلة، ثم لقي واثلة، فسمعه منه، كما جاء مثله مصرحاً به في غير هذا. اللهم إلا أن توجد قرينة تدل على كونه وهماً، كنحو ما ذكره أبو حاتم في المثال المذكور، وأيضاً فالظاهر ممن وقع له مثل ذلك أن يذكر السماعين، فإذا لم يجىء عنه ذكر ذلك حملناه على الزيادة المذكورة. والله أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح
(1)
.
(1)
مقدمة ابن الصلاح بنسخة التقييد والإيضاح ص 289 - 290.
قال الجامع: لكن الإمام مسلماً يرى صحة الطريقين، فلذا أخرج الحديث بالطريقين، وهو الظاهر، فإن ابن المبارك إمام حافظ ثبت تقبل زيادته، فالظاهر ما مشى عليه مسلم.
وقد أخرج ابن حزم رحمه الله الحديث في "الْمُحَلَّى" جـ 4 ص 29، محتجاً به، وهاك نصه: حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، ثنا أحمد ابن الفضل الدينوري، ثنا محمد بن جرير الطبري، ثنا محمد بن بشار بندار، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني بُسر بن عبيد الله، سمعت أبا إدريس الخولاني، قال: سمعت واثلة بن الأسقع، يقول: سمعت أبا مرثد الغنوي، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" ..
قال العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المحلَّى" ما نصه: ويظهر أن بسراً سمع الحديث من أبي إدريس، عن واثلة، ثم من واثلة، ولذلك جاء عنه بالإسنادين في مسند أحمد، وصحيح مسلم، وصرح بالسماع من واثلة في أبي داود، و"المسند". اهـ.
ونص "المسند" جـ 4 ص 135: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت ابنُ جابرٍ يقول: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي، أنه سمع واثلة بن الأسقع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث.
فقد صرح بُسْرٌ بسماعه من أبي إدريس، كما في المسند، والمحلَّى، ومن واثلة كما في "المسند" وأبي داود جـ 3 ص 217، فظهر صحة الطريقين، وهذا أولى من تخطئة ابن المبارك الإمام الجبل في الحفظ. والله أعلم.
المسألة الرابعة: في حكم الصلاة إلى المقبرة، ومثله الصلاة فيها، وعليها:
وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب أحمد رحمه الله إلى تحريم الصلاة في المقبرة، ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيئاً يقيه من النجاسة، أم لا، ولا بين أن يكون في القبور، أو في مكان منفرد عنها كالبيت، وإلى ذلك ذهبت الظاهرية، ولم يفرقوا بين مقابر المسلمين والكفار. قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: وبه يقول طوائف من السلف، روينا عن نافع بن جبير بن مطعم أنه قال: ينهى أن يصلى وسط القبور، والحمام، والحُشّان
(1)
.
وعن ابن عباس قال: لا تصلين إلى حش، ولا في حمام، ولا في مقبرة. وعن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يكرهون أن يتخذوا ثلاث أبيات قبلة: الحش، والحمام، والقبر. وعن العلاء بن زياد، عن أبيه، وعن خيثمة بن عبد الرحمن أنهما قالا: لا تصل إلى حمام، ولا إلى
(1)
بالضم والكسر جمع حش -بالفتح، والضم: النخل المجتمع، أو البستان، والمراد محل قضاء الحاجة.
حش، ولا وسط مقبرة. وقال أحمد: من صلى في حمام أعاد أبداً.
وعن أنس قال: رآني عمر بن الخطاب أصلي إلى قبر، فنهاني، وقال: القبر أمامك. وعن ثابت البناني، عن أنس، قال: رآني عمر بن الخطاب أصلي عند قبر، فقال لي: القبر لا تصلي إليه. قال ثابت: فكان أنس يأخذ بيدي إذا أردا أن يصلي، فيتنحى عن القبور.
وعن علي بن أبي طالب: من شرار الناس من يتخذ القبور مساجد. وعن ابن عباس رفعه: "لا تصلوا إلى قبر، ولا على قبر". وعن ابن جريج، أخبرني ابن شهاب، حدثني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يقول: قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
قال ابن جريج: قلت لعطاء: أتكره أن تصلي وسط القبور، أو إلى قبر؟ قال: نعم، كان ينهى عن ذلك، لا تصل وبينك وبين القبلة قبر، فإن كان بينك وبينه سترة ذراع فصلّ. قال ابن جريج: وسئل عمرو بن دينار عن الصلاة وسط القبور؟، فقال: ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلعنهم الله".
قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن طاوس، عن أبيه قال: لا أعلمه إلا أنه كان يكره الصلاة وسط القبور كراهية شديدة. وعن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا إذا خرجوا في جنازة تنحوا عن القبور للصلاة. وقال أحمد: من صلى في مقبرة، أو إلى مقبرة أعاد أبداً.
فهؤلاء عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وأنس، وابن عباس ما نعلم لهم مخالفاً من الصحابة رضي الله عنهم
(1)
. انتهى كلام ابن حزم باختصار
(2)
.
وذهب الشافعي إلى الفرق بين المقبرة المنبوشة، وغيرها، فقال: إذا كانت مختلطة بلحم الموتى وصديدهم، وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة، فإن صلى رجل في مكان طاهر منها أجزأته
(3)
.
(1)
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: قوله: لا نعلم لهم مخالفاً إلخ إخبار عن علمه، وإلا فقد حكى الخطابي في معالم السنن عن عبد الله بن عمر أنه رخص في الصلاة في المقبرة. وحكي أيضاً عن الحسن أنه صلى في المقبرة. اهـ نيل الأوطار جـ 2 ص 236.
وقال النووي رحمه الله: قال ابن المنذر: روينا عن علي، وابن عباس، وابن عمر، وعطاء، والنخعي أنهم كرهوا الصلاة في المقبرة، ولم يكرهها أبو هريرة، وواثلة بن الأسقع، والحسن البصري، وعن مالك روايتان أشهرهما لا يكره ما لم يعلم نجاستها. وقال أحمد: الصلاة فيها حرام، وفي صحتها روايتان، وإن تحقق طهارتها. ونقل صاحب الحاوي عن داود أنه قال: تصح الصلاة، وإن تحقق نبشها. اهـ المجموع جـ 3 ص 158.
(2)
المُحلَّى جـ 4 ص 30 - 32.
(3)
ونص النووي رحمه الله في المجموع باختصار: أما حكم المسألة؛ فإن تحقق أن المقبرة منبوشة لم تصح صلاته فيها بلا خلاف إذا لم يبسط تحته شيء، وإن تحقق عدم نبشها صحت بلا خلاف، وهي مكروهة كراهة تنزيه، وإن شك في نبشها فقولان: أصحهما تصح الصلاة مع الكراهة، والثاني لا تصح. انتهى. المجموع جـ 3 ص 158. وقوله: بلا خلاف. أي بين أصحاب الشافعي، لا بين أهل العلم مطلقاً. فتنبه.
وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة، ولم يفرقوا كما فرق الشافعي، ومن معه بين المنبوشة وغيرها.
وذهب مالك إلى جواز الصلاة في المقبرة وعدم الكراهة، والأحاديث ترد عليه. وقد احتج له بعض أصحابه بما يقضي منه العجب؛ فاستدل له بأنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المسكينة السوداء، وأحاديث النهي لا تقصر عن الدلالة على التحريم الذي هو المعنى الحقيقي له، وقد تقرر في الأصول أن النهي يدل عَلَى فساد المنهي عنه، فيكون الحق التحريم والبطلان؛ لأن الفساد الذي يقتضيه النهي هو المرادف للبطلان من غير فرق بين الصلاة على القبر وبين المقابر، وكل ما صدق عليه لفظ المقبرة. أفاده العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحق ما ذهب إليه المانعون من الصلاة في المقبرة، أو إليها، أو عليها مطلقاً، وأن الصلاة باطلة؛ لأن النهي للتحريم، ولا صارف له، والنهي يقتضي الفساد والبطلان. إلا الصلاة على الميت عملاً بما صح من الأحاديث في ذلك. فعموم النهي عن الصلاة فيها، وإليها، مخصوص بأحاديث الصلاة على الميت، وبهذا تجتمع الأحاديث من غير تعارض. وبالله التوفيق.
قال العلامة المحقق أبو محمد ابن حزم رحمه الله: وكل هذه الآثار حق، فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا، إلا صلاة الجنازة؛ فإنها تصلى في
(1)
نيل الأوطار جـ 2 ص 336 - 337.
المقبرة، وعلى القبر الذي قد دفن صاحبه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحرم ما نهى عنه، ونعد من القرب إلى الله تعالى أن نفعل مثل ما فعل، فأمره ونهيه حق، وفعله حق، وما عدا ذلك فباطل. والحمد لله رب العالمين. انتهى
(1)
.
قال الجامع: ما قاله أبو محمد رحمه الله تحقيق حقيق بالقبول. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
المحلى جـ 4 ص 32.
12 - الصَّلَاةُ إِلَى ثَوْبٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم الصلاة إلى ثوب فيه تصاوير، ومثل الثوب غيره.
والظاهر أن المصنف يرى الجواز؛ لأنه غاير بينه وبين الترجمة السابقة، حيث عبر فيها بـ "النهي عن الصلاة إلى القبر"، وعبر هنا بـ "الصلاة إلى ثوب فيه تصاوير"، وهو ظاهر حديث الباب، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى ثوب فيه صورة، ولم يقطع الصلاة، ولم يعدها؛ بل أمر بعد الصلاة بتأخيره عنه.
وقد ترجم البخاري رحمه الله في "صحيحه" بقوله "باب إن صلى في ثوب مصلب، أو تصاوير، هل تفسد صلاته؟ وما ينهى عن ذلك". ثم أورد حديث أنس رضي الله عنه، قال: كان قِرام لعائشة، سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أميطي عنا قِرَامك؛ فإنه لا تزال تصاويره تَعرِض عليّ في صلاتي".
قال في "الفتح": جرى المصنف على قاعدته في ترك الجزم فيما فيه اختلاف، وهذا من المختلف فيه. وهذا مبني على أن النهي هل يقتضي الفساد، أم لا؟ والجمهور إن كان لمعنى في نفسه اقتضاه، وإلا فلا.
وقال في شرح الحديث ما نصه: ودل الحديث على أن الصلاة لا
تفسد بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقطعها، ولم يعدها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لكنها تكره؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بتأخيره، وقوله:"فإنه لا تزال تصاويره تعرض عليّ في صلاتي". والله أعلم.
761 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِي بَيْتِي ثَوْبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَجَعَلْتُهُ إِلَى سَهْوَةٍ فِي الْبَيْتِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ أَخِّرِيهِ عَنِّي، فَنَزَعْتُهُ، فَجَعَلْتُهُ وَسَائِدَ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(محمد بن عبد الأعلى الصنعاني) البصري، ثقة، مات سنة 245، من [10]، تقدم في 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهجيمي أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، مات سنة 186، من [8]، تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الثبت الحجة، مات سنة 160،
(1)
انظر الفتح جـ 2 ص 37 - 38.
من [7]، تقدم في 24/ 26.
4 -
(عبد الرحمن بن القاسم) أبو محمد المدني، ثقة جليل، مات سنة 126، من [6]، تقدم في 120/ 166.
5 -
(القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي أحد الفقهاء السبعة، ثقة ثبت فاضل، مات سنة 106، من كبار [3]، تقدم في 120/ 166.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أنه نصفه الأول بصريون، والثاني مدنيون.
ومنها: أن فيه رواية الراوي، عن أبيه، عن عمته.
ومنها: أن فيه أحد الفقهاء السبعة: القاسم بن محمد.
ومنها: أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة؛ روت 2210 أحاديث.
ومنها: أن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والسماع، من صيغ الأداء، وكلها من صيغ الاتصال على الأصح. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: كان في بيتي ثوب فيه تصاوير) وفي الرواية الآتية للمصنف في "كتاب الزينة" رقم (111/ 5352) من طريق هشام، عن أبيه، عنها، قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرْجَة، ثم دخل، وقد علقت قِراماً فيه الخيل أولات الأجنحة، فلما رآه قال:"انزعيه". وفي رواية سعد بن هشام عنها، قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طير مُستقبِل البيت إذا دخل الداخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عَائشة حوليه؛ فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا"، قالت: وكان لنا قطيفة لها علم، فكنا نلبسها فلم نقطعه.
(فجعلته إِلى سَهْوة في البيت) -بفتح المهملة، وسكون الهاء-: هي صُفَّة من جانب البيت. وقيل: الكوّة. وقيل: الرّفّ. وقيل: أربعة أعواد، أو ثلاثة يعارَض بعضها ببعض، يوضع عليها شيء من الأمتعة. وقيل: أن يبنى من حائط البيت حائط صغير، ويجعل السقف على الجميع، فما كان وسط البيت فهو السَّهوة، وما كان داخله فهو المخدع. وقيل: دخلة في ناحية البيت. وقيل: بيت صغير يشبه المُخْدَع. وقيل: بيت صغير منحدر في الأرض، وسمكه مرتفع من الأرض كالخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع. ورجح هذا الأخير أبو عبيد. ولا مخالفة بينه وبين الذي قبله.
ووقع في رواية للبخاري: "وقد سترت بقِرام لي على سهوة لي فيها
تماثيل". وفي رواية: "أنها علقته على بابها"، وكذا في رواية زيد بن خالد عن عائشة عند مسلم. قال الحافظ رحمه الله: فتعين أن السهوة بيت صغير، علقت الستر عَلَى بابه. انتهى
(1)
.
(فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إِليه، ثم قال: "يا عائشة أخريه عني) وفي رواية للبخاري: "أميطي عنا قِرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تَعْرِض في صلاتي".
دل الحديث على أن الصلاة لا تفسد بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقطعها، ولم يعدها. قاله في "الفتح"
(2)
.
(فنزعته) أي قلعته، وأزلته، وبابه ضرب. كما في المصباح (فجعلته وسائد) جمع وسادة -بالكسر-: المِخَدَّة، ويجمع على وِسادات
(3)
.
وفي رواية للبخاري في "المظالم" من طريق عبيد الله العمري، عن عبد الرحمن بن القاسم بهذا الإسناد، قالت: "فاتخذت منه نمرقتين
(4)
،
(1)
فتح جـ 11 ص 587. طبعة دارالفكر.
(2)
جـ 1 ص 578. طبعة دار الريان للتراث.
(3)
المصباح جـ 2 ص 658.
(4)
النمرقة -بفتح النون، وسكون الميم، وضم الراء، بعدها قاف. كذا ضبطها القزاز وغيره. وضبطها ابن السكيت- بضم النون أيضاً، وبكسرها، وكسر الراء. وقيل: في النون الحركات الثلاث، والراء مضمومة جزماً، والجمع نمارق: وهي الوسائد التي =
فكانتا في البيت يجلس عليهما". وفي رواية لمسلم: "فأخذته، فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت". أفاده في "الفتح"
(1)
. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (12/ 761)، وفي "الزينة"(111/ 5352)، و"الكبرى"(11/ 837) عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، عن خالد بن الحارث الهجيمي، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها. وفي الزينة (111/ 5355) عن وهب بن بيان، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن عبد الرحمن بن القاسم، به. بلفظ: "أنها نَصَبَتْ ستراً فيه تصاوير، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزعه، فقَطَعَتْهُ وسادتين. قال رجل في المجلس حينئذ يقال له: ربيعة بن عطاء: أنا سمعت أبا محمد -يعني القاسم- عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفق بهما. والله تعالى أعلم.
= يُصَفُّ بعضها إلى بعض. وقيل: النمرقة: الوسائد التي يجلس عليها. اهـ فتح جـ 11 ص 59.
(1)
جـ 11 ص 587.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري ومسلم؛ فأخرجه البخاري في "اللباس" عن علي ابن عبد الله، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم به، بلفظ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت على سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه، وقال:"أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُضاهُون بخلق الله". قالت: فجعلته وسادة، أو وسادتين.
ومسلم فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة -وزهير بن حرب- كلاهما عن ابن عيينة، به.
وأخرجه البخاري في "الصلاة" من حديث أنس رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس:"كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أميطي عنا قِرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي".
المسألة الرابعة: في ذكر اختلاف أهل العلم في حكم الصور:
قال الخطابي رحمه الله: فيه دليل على أن الصور كلها منهي عنها سواء كانت أشخاصاً ماثلة، أو غير ماثلة، كانت في ستر، أو بساط، أو في وجه جدار، أو غير ذلك. قال ابن بطال رحمه الله: علم من الحديث النهي عن اللباس التي فيها التصاوير بالطريق الأولى، وهذا كله على الكراهة، فإن من صلى فيه فصلاته مجزئة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعد
الصلاة، ولأنه ذكر أنها عرضت له، ولم يقل: قطعتها. ومن صلى بذلك، أو نظر إليه فصلاته مجزئة عند العلماء.
وقال المهلب: وإنما أمر باجتناب هذا لاحضار الخشوع في الصلاة، وقطع دواعي الشغل. وقيل: إنه منسوخ بحديث سهل بن حنيف، رواه مالك بن أنس عن أبي النضر، عن عبيد الله بن عبد الله أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده، فوجد عنده سهل بن حنيف، فأمر أبو طلحة إنساناً ينزع نَمَطاً تحته، فقال له سهل: لم نزعته؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما قد علمت، قال سهل: أو لم يقل: "إلا ما كان رقماً في ثوب"؟ قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي. وأخرجه النسائي عن علي بن شعيب، عن معن، عن مالك به. برقم (111/ 5349).
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في شرح حديث مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن رافع بن إسحاق مولى الشفاء، أخبره، قال: دخلت أنا وعبد الله بن أبي طلحة على أبي سعيد الخدري نعوده، فقال لنا أبو سعيد:"أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تماثيل، أو تصاوير" يشك إسحاق، لا يدري أيتهما قال أبو سعيد الخدري.
قال أبو عمر: هذا أصح حديث في هذا الباب، وأحسنه إسناداً، وقال فيه زيد بن الحباب عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن
أبي طلحة، عن رافع بن إسحاق بن طلحة، ذكره أبو بكر بن أبي شيبة، عن زيد. وقد روي من حديث علي، وابن عباس، وأسامة بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة". وقيل في "الملائكة" هاهنا: ملائكة الرحمة. وقيل: بل كل ملك على ظاهر اللفظ، كما أن "بيت" على لفظ النكرة يقتضي كل بيت. والله أعلم.
وظاهر هذا الحديث يقتضي الحظر عن استعمال الصور على كل حال، في حائط كانت، أو في غيره، ومثله حديث نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة في النمرقة التي فيها تصاوير.
وقد استثني في حديث سهل بن حنيف: "إلا ما كان رقماً في ثوب".
واختلف الناس في الصور المكروهة؛ فقال قوم: إنما كره من ذلك ما له ظل، وما لا ظل له فليس به بأس. وقال آخرون: ما قطع رأسه فليس بصورة. وقال آخرون: تكره الصورة في الحائط، وعلى كل حال كان لها ظل، أو لم يكن، إلا ما كان في ثوب يوطأ ويمتهن. وقال آخرون: هي مكروهة في الثياب، وعلى كل حال، ولم يستثنوا شيئاً. وروت طائفة منهم بما قالته أثراً، اعتمدت عليه، وعملت به.
وأما اختلاف فقهاء الأمصار أهل الفتوى في هذا الباب، فذكر ابن القاسم، قال: قال مالك: يكره التماثيل في الأسِرَّة، والقباب، وأما البُسُط، والوسائد، والثياب فلا بأس به. وكره أن يصلى إلى قبلة فيها
تماثيل. وقال الثوري: لا بأس بالصور في الوسائد؛ لأنها توطأ، ويجلس عليها. وكره الحسن بن حَيّ أن يدخل بيتاً فيه تمثال؛ في كنيسة، أو غير ذلك، وكان لا يرى بأسًا بالصلاة في الكنيسة، والبيعة.
وكان أبو حنيفة وأصحابه يكرهون التصاوير في البيوت بتمثال، ولا يكرهون ذلك فيما يبسط، ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة، وكذلك عندهم ما كان خرطاً، أو نقشاً في البناء.
وكره الليث التماثيل التي تكون في البيوت، والأسرة، والقباب، والطِّساس، والمنارات، إلا ما كان رقماً في ثوب.
وقال المُزَني عن الشافعي: وإن دُعِي رجل إلى عرس، فرأى صورةَ ذاتِ رُوح، أو صُوَر ذوات أرواح، لم يدخل إن كانت منصوبة، وإن كان يوطأ فلا بأس، وإن كانت صور الشجر فلا بأس.
وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: إذا دعيت لأدخل، فرأيت ستراً معلقاً فيه تصاوير أأرجع؟ قال: نعم، قد رجع أبو أيوب. قلت: رجع أبو أيوب من ستر الجدار. قال: هذا أشد، وقد رجع عنه غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت له: فالستر يجوز أن يكون فيه صورة؟ قال: لا. قيل: فصورة الطائر وما أشبهه؟ فقال: ما لم يكن له رأس فهو أهون. فهذا ما للفقهاء في هذا الباب
(1)
.
(1)
التمهيد جـ 1 ص 300 - 302.
وقال في شرح حديث أبي طلحة المتقدم ما نصه: وللعلماء في هذا الباب أقاويل، ومذاهب:
منها: أنه لا يجوز أن يمسك الثوب الذي فيه تصاوير وتماثيل، سواء كان منصوباً، أو مبسوطاً، ولا يجوز دخول البيت الذي فيه التصاوير والتماثيل في حيطانه، وذلك مكروه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تدخل الملائكة بيتاً فيه تصاوير". فإن فعل ذلك فاعل بعد علمه بالنهي عن ذلك كان عاصياً عندهم. ولم يحرم عليه بذلك مالك
(1)
الثوب، ولا البيت، ولكنه ينبغي أن يتنزه عن ذلك كله، ويكره، وينابذه، لما ورد من النهي فيه.
وحجة من ذهب هذا المذهب في الثياب، وفي حيطان البيوت وغيرها حديث ابن شهاب وغيره، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مستترة بقرام فيه صور، فتلون وجهه، وتناول الستر فهتكه؛ ثم قال:"إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله".
وقال آخرون: إنما يكره من الصور ما كان في الحيطان، وصور في البيوت، وأما ما كان رقماً في ثوب فلا. واحتجوا بحديث سهل بن حنيف، وأبي طلحة، وهو حديث أبي النضر المذكور، وفيه: عن
(1)
هكذا نسخة التمهيد "مالك الثوب والبيت". ولعل الصواب "ملك الثوب والبيت". فليحرر.
النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا ما كان رقماً في ثوب". فكل صورة مرقومة في ثوب فلا بأس بها على كل حال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى الرقم في الثوب، ولم يخص من ذلك شيئاً، ولا نوعاً. وذكروا عن القاسم -وهو راوية حديث عائشة- ما رواه ابن أبي شيبة، عن أزهر، عن ابن عون، قال: دخلت على القاسم، وهو بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بابه حجلة فيها تصاوير السندس، والعنقاء.
وقال آخرون: لا يجوز استعمال شيء من الصور رقماً كان في ثوب، أو غير ذلك، إلا أن يكون الثوب يوطأ ويمتهن؛ فأما أن ينصب كالستر ونحوه فلا.
قالوا: وفي حديث عائشة من رواية ابن شهاب ما يخص الثياب ويعينها، وهو يعارض حديث سهل بن حنيف، وأبي طلحة؛ إلا أنا قد روينا عن عائشة أن ذلك من الثياب فيما ينصب دون ما يبسط، فبان بذلك وجه الحديثين، وأنهما غير متعارضين، وعائشة قد علمت مخرج حديثها، ووقفت عليه.
وذكروا من الأثر ما رواه وكيع، وغيره، عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "سترت سهوة لي بستر فيه تصاوير، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم هتكه، فجعلت منه مِنْبَذَتين
(1)
فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم متكئاً على إحداهما".
(1)
"المِنْبذَة" كمكنسة: الوسادة. اهـ. قاموس.
قالوا: ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره من ذلك ما كان ستراً منصوباً، ولم يكره ما اتكأ عليه من ذلك، وامتهنه.
قال أبو عمر رحمه الله: وقد يحتمل أن يكون الستر لما هتكه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير صورته، وتهتك، فلما صنع منه ما يتكأ عليه لم تظهر فيه صورة بتمامها؛ وإذا احتمل هذا لم يكن في حديث عائشة هذا حجة على ابن شهاب، ومن ذهب مذهبه؛ إلا أن ممن سلف من العلماء جماعة ذهبوا إلى أنّ ما كان من رقم الصور فيما يوطأ، ويمتهن، ويتكأ عليه من الثياب لا بأس به.
ذكر ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث، عن الجعد -رجل من أهل المدينة- قال: حدثتني ابنة سعد أن أباها جاء من فارس بوسائد فيها تماثيل، فكنا نبسطها. وعن ابن فضيل، عن ليث، قال: رأيت سالم بن عبد الله متكئاً على وسادة حمراء فيها تماثيل، فقلت له في ذلك؟ فقال: إنما يكره هذا لمن ينصبه ويصنعه.
وعن ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه كان يتكىء على المرافق فيها التماثيل؛ الطير والرجال. وعن ابن علية، عن سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: كانوا لا يرون ما وطىء، وبسط من التصاوير مثل الذي نصب. وعن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن عكرمة، أنه كان يقول في التصاوير في الوسائد والبسط التي توطأ هو أذلّ لها.
وعن أبي معاوية، عن عاصم، عن عكرمة، قال: كانوا يكرهون ما
نصب من التماثيل نصباً، ولا يرون بأساً بما وطئته الأقدام
وعن ابن إدريس، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، أنه كان لا يرى بأساً بما وطىء من التصاوير. وعن ابن اليمان، عن عثمان بن الأسود، عن عكرمة بن خالد، قال: لا بأس بالصورة إذا كانت توطأ. وعن ابن يمان، عن الربيع بن المنذر، عن سعيد بن جبير، قال: لا بأس بالصورة إذا كانت توطأ.
وعن عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء، في التماثيل ما كان مبسوطاً يوطأ، أو يبسط فلا بأس به. وما كان منه ينصب فإني أكرهها.
وعن الحسن بن موسى الأشيب، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، قال: كانوا لا يرون بما يوطأ من التصاوير بأساً.
قال أبو عمر رحمه الله: هذا أعدل المذاهب، وأوسطها في هذا الباب، وعليه أكثر العلماء، ومن حمل عليه الآثار لم تتعارض على هذا التأويل، وهو أولى ما اعتقد فيه.
وقد ذهب قوم إلى أن ما قطع رأسه فليس بصورة.
روى أبو داود الطيالسي قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن شعبة
(1)
(1)
شعبة بن دينار الهاشمي مولى ابن عباس المدني، صدوق سيىء الحفظ من الرابعة مات في وسط خلافة هشام. اهـ. تقريب ص 146.
مولى ابن عباس، قال: دخل المسور بن مخرمة على ابن عباس، وهو مريض، وعليه ثوب إستبرق، وبين يديه ثوب عليه تصاوير، فقال المسور: ما هذا يا ابن عباس؟ فقال ابن عباس: ما علمت به، وما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا إلا للكبر والتجبر، ولسنا -بحمد الله- كذلك، فلما خرج المسور أمر ابن عباس بالثوب فنزع عنه، وقال: اقطعوا رؤوس هذه التصاوير.
وروى ابن المبارك قال: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، قال: حدثنا مجاهد، قال: حدثنا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل أتاني البارحة، فلم يمنعه أن يدخل إليّ إلا أنه كان في البيت حجال وستر فيه تماثيل، وكلب، فأمر برأس التمثال أن يقطع، وبالستر أن يثنى، ويجعل منه وسادتان توطآن، وبالكلب أن يخرج".
وذكر ابن أبي شيبة، عن ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، قال: إنما الصورة الرأس، فإذا قطع فلا بأس. وعن يحيى بن سعيد، عن سلمة بن أبي بشر، عن عكرمة في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57]. قال: أصحاب التصاوير.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الصورة المكروهة في صنعتها واتخاذها ما كان له روح. وحجتهم: حديث القاسم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم".
ففي هذا دليل على أن الحياة إنما قصد بذكرها إلى الحيوان ذوات الأرواح.
ثم أخرج أبو عمر بسنده عن سعيد بن أبي الحسن، قال: كنت عند ابن عباس، إذ جاءه رجل، فقال: إني أردت أنمي معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول:"من صوّر صورة، فإن الله معذبه يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً". قال: فكبا لها الرجل كبوة شديدة، واصفر وجهه، ثم قال: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذه الشجرة، وكل شيء ليس فيه روح.
وقد كان مجاهد يكره صورة الشجر. قال أبو عمر: وهذا لا أعلم أحداً تابعه على ذلك. ذكر ابن أبي شيبة عن عبد السلام، عن ليث، عن مجاهد، أنه كان يكره أن يصور الشجر المثمر.
ومما يدل على أن الاختلاف في هذا الباب قديم: ما ذكره ابن أبي شيبة، عن ابن علية، عن ابن عون، قال: كان في مجلس محمد بن سيرين وسائد فيها تماثيل عصافير، فكان أناس يقولون في ذلك، فقال محمد: إن هؤلاء قد أكثروا علينا، فلو حولتموها. وهذا من ورع ابن سيرين رحمه الله. انتهى خلاصة ما ذكره الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى
(1)
.
(1)
"التمهيد" جـ 21 ص 191 - 201.
قال الجامع عفا الله عنه: أرجح الأقوال في المسألة عندي تحريم الصور مطلقاً، إلا ما كان رقماً في ثوب يمتهن، ويوطأ، كما تقدم ترجيحه في كلام الحافظ أبي عمر رحمه الله تعالى، وعزاه إلى أكثر العلماء، وكذا ما كان مقطوع الرأس، وصور ما لا روح له، والأدلة على هذا واضحة مما ذكر. ولله الحمد، والمنة.
وقد تقدم تحقيق الكلام في المسألة في شرح حديث رقم (168/ 261) -وإنما أعدته هنا لمزيد البسط والتحقيق، ولشدة حاجة الناس إلى التوضيح في ذلك لكثرة الابتلاء بالصور. وسيأتي أيضاً في "كتاب الزينة" في شرح حديث رقم (111/ 5347 - 5365). إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
13 - الْمُصَلِّي يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِمَامِ سُتْرَة
أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على جواز الصلاة خلف إمام بينه وبين المقتدي ساتر.
762 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَصِيرَةٌ يَبْسُطُهَا بِالنَّهَارِ، وَيَحْتَجِرُهَا بِاللَّيْلِ، فَيُصَلِّي فِيهَا، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الْحَصِيرَةُ، فَقَالَ:"اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عز وجل أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ". ثُمَّ تَرَكَ مُصَلاَّهُ ذَلِكَ فَمَا عَادَ لَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عز وجل وَكَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي، أبو رجاء البغلاني، ثقة ثبت، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
2 -
(الليث) بن سعد أبو الحارث الفهمي، الإمام الحجة الفقيه المصري، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35.
3 -
(ابن عجلان) هو محمد المدني، صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، مات سنة 148، من [5]، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم والأربعة، تقدم في 36/ 40.
4 -
(سعيد المقبري) بن أبي سعيد كيسان، أبو سعد المدني، ثقة، تغير قبل موته بأربع سنين، مات في حدود سنة 120، وقيل غير ذلك، من [3] أخرج له الجماعة، تقدم في 95/ 117.
5 -
(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقة مكثر، مات سنة 94، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وكلهم من رجال الجماعة؛ فابن عجلان علق عنه البخاري، وأخرج له الباقون، وأنهم مدنيون، إلا شيخه فبغلاني، والليث فمصري.
ومنها: أن فيه رواية تابعي، عن تابعي.
ومنها: أن فيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو أبو سلمة.
ومنها: أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، كما تقدم في السند الماضي.
ومنها: أن فيه الإخبار والتحديث والعنعنة؛ من صيغ الأداء. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة رضي الله عنها أنها (قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرة) هكذا رواية المصنف هنا، وفي الكبرى:"حصيره" بالهاء، والذي في كتب اللغة بدونها، وصرح في "المصباح" أن تأنيثها بالهاء عامي.
وهي -بفتح الحاء المهملة، وكسر الصاد المهملة أيضاً-: البساط الصغير من النبات. وقيل: سَفيفَة
(1)
تُصنع من بَرْديّ، وأسَل، ثم تفرش، سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض. وقيل: الحصير المنسوج، سمي حصيراً لأنه حُصِرت طاقاته بعضُهَا مع بعض. أفاده في "اللسان"
(2)
.
(1)
السَّفيفة -بفاءين-: النسيجة، يقال: سفَفتُ الخُوص اسُفّه -بالضم- سَفّاً، وأسففته إسفافاً: أي نسجته بعضه في بعض، وكل شيء ينسج بالأصابع فهو الإسفاف. اهـ لسان. والبَرْديُّ -بالفتح-: نبت معروف، واحدته بردية. اهـ. لسان. و"الأَسَل -بفتحتين-: عِيدَانٌ تنبت طِوالاً دِقاقاً مستوية، لا ورق لها، يعمل منها الحُصُر. اهـ. لسان.
(2)
لسان جـ 2 ص 897.
وقال الفيومي: والحصير البَارِيَّةُ
(1)
. وجمعه حُصُر، مثل بَرِيد وبُرُد
(2)
.
(يبسطها بالنهار) جملة في محل رفع على أنها صفة لحصيرة. أي يجعلها بساطاً يجلس عليها، والباء في قوله:"بالنهار" بمعنى "في"، وكذا في قوله:"بالليل".
(ويحتجرها بالليل) -بالراء المهملة- أي يتخذها كالحُجْرة، لئلا يمر عليه مارّ، ويتوفر خشوعه. وفي نسخة:"ويحتجز بها" بالزاي بدل الراء: أي يستتر بها عن غيره. وفي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أن ذلك كان في رمضان، فعند البخاري من حديثه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حُجرة -قال: حسبت أنه قال: من حصير- في رمضان، فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه
…
" الحديث.
(فيصلي فيها) أي يصلي صلاة الليل في داخل تلك الحجرة التي اتخذها من الحصير (ففطِن له الناس) أي تَنَبَّهُوا له. يقال: فَطِن، يَفْطَنُ فَطَنًا، وفِطْنة، وفَطانة: صار ذا فطْنة، وللأمر، وبه، وإليه: تنبه له
(3)
. وقال المجد رحمه الله: الفِطْنة -بالكسر-: الحِذْق، فَطِن به، وإليه، وله، كفَرِح، ونَصَرَ، وكَرُمَ، فطْناً، مثلثة، وبالتحريك، وبضمتين، وفُطُونَةً، وفَطانَة، وفَطانِيَة، مفتوحتين، فهو فَاطِن، وفَطِين،
(1)
"الباريَّة": الحصير المعمول من القصب. قاله في اللسان.
(2)
المصباح جـ 1 ص 138 - 139.
(3)
المعجم الوسيط جـ 2 ص 695.
وفَطُون، وفَطِن، وفَطُن، كنَدُس، وفَطْن، كَعَدْل، جمعه فُطُن، بالضم، وهي فاطنة. اهـ
(1)
.
وفي رواية البخاري: "فثاب إليه ناس" بالثاء المثلثة، ثم موحدة: أي اجتمعوا، ووقع عند الخطابي "آبُوا" أي رجعوا، وفي رواية الكشميهني والسرخسي " فثاروا" بالمثلثة، والراء: أي قاموا
(2)
.
(فصلوا بصلاته) أي بسبب صلاته، أو مع صلاته، فالباء سببية، أو بمعنى "مع"(وبينه وبينهم الحصيرة) فيه جواز الاقتداء، وإن كان بينهما حاجز، وسيأتي أقوال أهل العلم في ذلك في المسائل إن شاء الله تعالى.
(فقال) صلى الله عليه وسلم (اكلَفُوا) -بفتح اللام- أي احمِلُوا على مشقة. قال الفَيُّومي رحمه الله: وكَلفْتُ الأمرَ، من باب تَعب: حَمَلتُه على مشقة، ويتعدى إلى مفعول ثان بالتضعيف، فيقال: كَلَّفته الأمرَ، فتكلفه، مثل حمَّلتُه، فتحمله وزناً ومعنى على مشقة أيضاً. وكَلِفت به، كَلَفاً، فأنا كَلِف، من باب تَعبَ: أحببته، وأولعْتُ بهَ، والاسم الكَلافَةَ - بالفتح. اهـ
(3)
. وقال ابن منظور رحمه الله: ويقال: كَلِفْتُ بهذا الأمر: أي أولِعتُ به. وفي الحديث: "اكلَفُوا من العمل ما تطَيقون". هو من
(1)
القاموس المحيط.
(2)
فتح جـ 2 ص 453.
(3)
المصباح جـ 2 ص 537 - 538. بتقديم وتأخير.
كَلِفْتُ بالأمر: إذا أولِعتَ به، وأحببته. اهـ
(1)
.
(من العمل) بيان مقدم لـ "ما تطيقون" فهو متعلق بحال محذوف من "ما" أي حال كون "ما تطيقونه كائناً من العمل (ما تطيقونه)؛ "ما" اسم موصول في محل نصب مفعول "اكلَفوا"، أي اكلَفوا العمل الذي تستطيعون المداومة عليه، ثم علَّلَ ذلك بقوله:(فإِن الله عز وجل لا يمل حتى تملوا) قال الفَيُّومي رحمه الله: مَلِلْتُه، ومللتُ منه، مَلَلاً، من باب تَعبَ، ومَلَالةً: سَئِمتُ، وضَجِرْت، والفاعل مَلُول، ويتعدى بالهمز، فيقال: أمللته. اهـ
(2)
.
قال النووي رحمه الله:
قال العلماء: المَلَل، والسآمة بالمعنى المتعارف في حقنا محال في حق الله تعالى، فيجب تأويل الحديث. قال المحققون: معناه لا يعاملكم معاملة المالِّ، فيقطع عنكم ثوابه، وجزاءه، وبسط فضله ورحمته حتى تقطعوا عملكم.
وقيل: معناه لا يملّ إذا مَلِلْتم. قاله ابن قتيبة وغيره، وحكاه الخطابي وغيره، وأنشدوا فيه شعراً، قالوا: ومثاله قولهم في البليغ: فلان لا ينقطع حتى يقطع خصومه، معناه لا ينقطع إذا انقطع خصومه، ولو كان معناه ينقطع إذا انقطع خصومه لم يكن له فضل
(1)
لسان جـ 5 ص 3916 - 3917.
(2)
المصباح جـ 2 ص 580.
على غيره. اهـ
(1)
.
وقال السيوطي رحمه الله في شرحه لهذا الكتاب ما نصه:
والْمَلالَ: استثقال الشيء والنفور عنه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى باتفاق. قال الإسماعيلي، وجماعة من المحققين: إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازاً، كما قال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].
وقال القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لمّا قطع ثوابه عمن قطع العمل مَلالاً عبّر عن ذلك بالملال، من باب تسمية الشيء باسم سببه. وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله، فتزهدوا في الرغبة إليه. وهذا كله بناء على أن "حتى" على بابها في انتهاء الغاية، وما يترتب عليها من المفهوم.
وجنح بعضهم إلى تأويلها، فقيل: معناه لا يمل الله إذا مَلِلْتم، وهو مستعمل في كلام العرب، يقولون: لا يفعل كذا حتى يَبْيَضَّ القارُ، أو حتى يَشِيب الغراب، ومنه قولهم في البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه؛ لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية. وهذا المثال أشبه من الذي قبله؛ لأن شَيب الغراب ليس ممكناً عادة بخلاف الملال من العابد.
(1)
شرح مسلم جـ 6 ص 71.
وقال المازري: قيل: "حتى" هنا بمعنى الواو، فيكون التقدير: لا يملّ، وتملون، فنفى عنه الْمَلال، وأثبته لهم، قال: وقد قيل: "حتى" بمعنى "حين"، والأول أليق، وأحرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية. وقال ابن حبان في صحيحه: هذا من ألفاظ التعارف التي لا يتهيأ للمخاطب أن يعرف القصد مما يخاطب به إلا بها. وهذا رأيه في جميع المتشابه. اهـ كلام السيوطي
(1)
.
قال الجامع: ليس في هذا الحديث إثبات الملل لله عز وجل صريحاً، بل هو من باب مفهوم المخالفة، وأما صريحه فنفي الملل عنه، فلا ينبغي أن نثبت به صفة الملل، فالأولى عندي قول بعضهم: إن "حتى" هنا بمعنى الواو، وليست للغاية، فيكون المعنى إن الله لا يمل، وأنتم تملون، أو يكون المعنى لا يمل إذا مللتم.
والمراد به تشجيعهم على المداومة على الأعمال القليلة التي لا تنقطع، ولا تؤدي إلى الملل، حيث إن الله تعالى لا يلحقه ملل، فلا ينبغي للعبد أن يمل عن الإقبال عليه، إذ يؤدي ملله إلى إعراض الله عنه، فإن من أعرض عن الله أعرض الله عنه؛ فقد أخرج الشيخان عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"ألا أخبركم عن النفر الثلاثة، فأما أحدهم فاوى إلى الله، فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه".
(1)
زهر الربى جـ 2 ص 68 - 69.
متفق عليه.
ثم عطف عَلَى العلة المذكورة علة أخرى، فقال (وإِن أحب الأعمال إِلى الله عز وجل أدومه، وإِن قلّ) أي ولأن الأحب من الأعمال إلى الله عز وجل أكثره دواماً.
قال ابن العربي: معنى المحبة من الله تعالى تعلق الإرادة بالثواب، أي أكثر الأعمال ثواباً أدومها، وإن قل.
قال الجامع: هذا تأويل لمعنى المحبة بلازمها، وهذا غير صحيح؛ لأنه يؤدي إلى نفي صفة المحبة عن الله تعالى بمعناها الحقيقي اللائق به سبحانه وتعالى، فالصواب إثباتها له، كما أثبتتها النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة على المعنى اللائق به سبحانه وتعالى، كسائر صفاته العلية، من الرضا، والإرادة، والقدرة، والعلم، وغيرها من غير فرق. ولا يلزم في ذلك تشبيهه بالمخلوقين؛ إذ صفاته تعالى لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته تعالى لا تشبه ذواتهم، ولا فرقَ. وإنما يلزم التشبيه لو أثبتناها على المعنى الذي تفسر به إذا كانت للمخلوق، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيرًا، فتبصر، ولا تتحير، واسلك سبيل السلف، تسلم من الضلال والتلف.
وقال النووي رحمه الله: وفيه الحث على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة، والذكر، والمراقبة،
والنية، والإخلاص، والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة
(1)
.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: إنما أحب العمل الدائم؛ لمعنيين:
أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمُعرِض بعد الوصول، فهو متعرض لهذا، ولهذا أورد الوعيد في حق من حفظ آية، ثم نسيها
(2)
، وإن كان قبل حفظها لا تتعين عليه.
والثاني: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتاً مّا كمن لازم يوماً كاملاً ثم انقطع
(3)
.
(ثم ترك) صلى الله عليه وسلم (مصلاّه ذلك حتى قبضه الله عز وجل أي خوفاً من حرصهم على ذلك أوّلاً، ثم عجزهم عنه آخراً (وكان) صلى الله عليه وسلم (إِذا عمل عملاً أثبته) أي داوم عليه.
وفي رواية لمسلم: "وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه".
قال النووي رحمه الله: أي لازموه، وداوموا عليه. والظاهر أن المراد بالآل هنا أهل بيته، وخواصه صلى الله عليه وسلم من أزواجه، وقرابته، ونحوهم
(4)
.
(1)
شرح مسلم جـ 6 ص 71.
(2)
الحديث الوارد في هذا أخرجه الترمذي، وهو ضعيف.
(3)
نقله في زهر الربى جـ 2 ص 69 - 72.
(4)
شرح مسلم جـ 6 ص 72.
وأخرج مسلم أيضاً عن علقمة، قال: سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال: قلت: يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، هل كان يخص شيئاً من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع؟.
وأخرج أيضاً عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها، وإن قلّ. قال: وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (12/ 762)، وفي "الكبرى"(12/ 838) عن قتيبة، عن الليث، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي سلمة، عنها. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن إبراهيم بن المنذر، عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، وفي اللباس عن محمد بن أبي بكر، عن معتمر بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر -كلاهما عن سعيد المقبري به.
ومسلم في الصلاة عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر به.
وأبو داود فيه عن قتيبة، عن الليث، ببعضه:"اكلفوا من الأعمال ما تطيقون".
وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر، عن عبيد الله بن عمر -بقصة الحصير مختصرة.
وأخرجه الحميدي رقم (183)، وأحمد جـ 6 ص 40، 61، 84، 241، 267. وابن خزيمة رقم (1626). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو جواز الاقتداء بمن كان بينه وبينه حاجز، وهذا إذا لم يشتبه عليه انتقالات الإمام، وإلا فلا.
ومنها: بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العبادة، وقيام الليل.
ومنها: بيان ما كان عليه من الزهد في الدنيا، والتقلل منها، حيث إنه كان يكتفي بحصير واحد يجلس عليه نهاراً، ويتخذه حجرة ليلاً.
ومنها: مشروعية الجماعة في النافلة.
ومنها: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص في تتبع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، للاقتداء به.
ومنها: كمال شفقته صلى الله عليه وسلم، ورأفته بأمته، حيث أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو التمسك من الأعمال بما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط، والقلب منشرحاً، فتتم العبادة، بخلاف من تعاطى من الأعمال ما يشق عليه، فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه، أو يفعله بكلفة، وبغير انشراح القلب، فيفوته خير عظيم، وقد ذم الله سبحانه وتعالى من اعتاد عبادة، ثم أفرط فيها، فقال تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] الآية. وقد نَدِمَ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما على تركه قبول رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
المسألة الخامسة: في بيان اختلاف أهل العلم في جواز الاقتداء مع وجود الحائل بين الإمام والمأموم.
قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط، أو سترة): وقال الحسن: لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر. وقال أبو مِجْلَز: يأتم بالإمام وإن كان بينهما طريق أو جدار، إذا سمع تكبير الإمام. انتهى
(2)
.
قال العلامة العيني رحمه الله: وجواب "إذا" محذوف، تقديره: لا يضر ذلك. والمسألة فيها خلاف، ولكن ما في الباب يدل على أن ذلك
(1)
أفاده في شرح مسلم جـ 6 ص 71.
(2)
صحيح البخاري جـ 1 ص 185 - 186.
جائز، وهو مذهب المالكية أيضاً، وهو المنقول عن أنس، وأبي هريرة، وابن سيرين، وسالم، وكان عروة يصلي بصلاة الإمام، وهو في دار بينها وبين المسجد طريق.
وقال مالك: لا بأس أن يصلي، وبينه وبين الإمام نهر صغير، أو طريق، وكذلك السفن المتقاربة يكون الإمام في إحداها تجزيهم الصلاة معه. وكره ذلك طائفة. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا كان بينه وبين الإمام طريق أو حائط أو نهر فليس هو معه.
وكره الشعبي، وإبراهيم أن يكون بينهما طريق. وقال أبو حنيفة: لا تجزيه إلا أن تكون الصفوف متصلة في الطريق. وبه قال الليث، والأوزاعي، وأشهب
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجح عندي هو القول بجواز الاقتداء بمن كان بينه وبينه جدار، أو طريق، أو نهر، أو غير ذلك من الفاصل بينهما إذا كان يعلم بانتقالات الإمام، بسماع تكبيره، أو برؤيته، أو رؤية بعض الصفوف، أو نحو ذلك. والله أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
عمدة القاري جـ 5 ص 262.
14 - الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ
أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على حكم الصلاة في الثوب الواحد.
763 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ سَائِلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟ فَقَالَ: "أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة بن سعيد) المتقدم في الباب السابق.
2 -
(مالك) بن أنس الإمام الحجة الفقيه المدني، مات سنة 179، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 7/ 7.
3 -
(ابن شهاب) محمد بن مسلم أبو بكر الزهري، الحافظ الثبت الحجة، مات سنة 125، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
4 -
(سعيد بن المسيب) بن حَزْن المخزومي، المدني الثبت الحجة الفقيه، مات سنة 94، من كبار [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 9/ 9.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في 1/ 1. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله ثقات نُبَلاء، وكلهم من رجال الجماعة.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بَغْلانيا إلا أنه دخل المدينة.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي: ابن شهاب عن ابن المسيب.
ومنها: أنه أصح أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، كما ذكره أبو عبد الله الحاكم رحمه الله تعالى
(1)
.
ومنها: أن فيه ابن المسيب أحد الفقهاء السبعة.
ومنها: أن فيه أبا هريرة من المكثرين السبعة، روى 5374 حديثاً. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن سائلاً)، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه، لكن ذكر شمس الأئمة السرخسي الحنفي في كتابه "المبسوط" أن السائل ثوبان
(2)
(سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
انظر تدريب الراوي جـ 1 ص 83.
(2)
فتح جـ 2 ص 19.
عن الصلاة في الثوب الواحد) أي عن حكم الصلاة في الثوب الواحد.
وفي رواية لمسلم: "نادى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أيصلي أحدنا في ثوب واحد؟ فقال: أوكلكم يجد ثوبين". وفي رواية أبي داود: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في ثوب واحد".
(فقال) صلى الله عليه وسلم: (أو لكلكم ثوبان؟) استفهام بمعنى النفي، أي ليس لكل واحد منكم ثوبان، فهو صلى الله عليه وسلم يشير به إلى جواز الصلاة في الثوب الواحد، فكأنه قال: يكفي أحدكم في الصلاة الثوب الواحد؛ لأن الثوبين لا يقدر عليهما كل أحد.
وقال الخطابي رحمه الله في "معالمه": لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الإخبار عما كان يعلمه من حالهم في العدم، وضيق الثياب، يقول:
وإذا كنتم بهذه الصفة، وليس لكل واحد منكم ثوبان -والصلاة واجبة عليكم- فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة.
وقال في شرح البخاري: وفي ضمنه الفتوى من طريق الفحوى، ثم استقصار فهمهم، واستزادة علمهم، كأنه قال: إذا كان ستر العورة واجباً، والصلاة لازمة، وليس لكل واحد ثوبان، فكيف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة؟ انتهى
(1)
.
وقوله: "أَوَلكلكم": بواو مفتوحة بعد الهمزة، وهي واو العطف،
(1)
فتح جـ 2 ص 19.
وأصل الكلام: وألكلكم، لكن قدم الاستفهام؛ لأن له صدر الكلام. ومذهب الزمخشري في مثل هذا أن العطف على محذوف بعد الهمزة، دل عليه المعطوف، ولا تقديم، ولا تأخير، فالتقدير هنا أكلكم أغنياء، ولكلكم ثوبان. ومذهب الجمهور أولى، كما حققه ابن هشام الأنصاري في "مغني اللبيب"
(1)
.
وقال الكرماني رحمه الله: فإن قلت: ما المعطوف عليه بالواو؟ قلت: مقدر، أي أأنت سائل عن مثل هذا الظاهر، ومعناه لا سؤال عن أمثاله، ولا ثوبين لكلكم، إذ الاستفهام مفيد لمعنى النفي بقرينة المقام، وهذا التقدير على سبيل التمثيل. انتهى.
وقال النووي رحمة الله: ومعنى الحديث: أن الثوبين لا يقدر عليهما كل أحد، فلو وجبا لعجز من لا يقدر عليهما عن الصلاة، وفي ذلك حرج، وقد قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(2)
[الحج: 78].
وقال الطحاوي رحمه الله: معناه لو كانت الصلاة مكروهة في الثوب الواحد لكرهت لمن لا يجد إلا ثوباً واحداً. انتهى. قال الحافظ رحمه الله: وهذه الملازمة في مقام المنع، للفرق بين القادر وغيره، والسؤال إنما كان عن الجواز وعدمه، لا عن الكراهة. انتهى
(3)
.
(1)
مغني اللبيب جـ 1 ص 14 - 15.
(2)
شرح مسلم جـ 4 ص 231.
(3)
فتح جـ 2 ص 19.
فائدة:
قال في "الفتح": روى ابن حبان رحمه الله هذا الحديث من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب، لكن قال في الجواب:"ليتوشح به، ثم ليصل فيه". فيحتمل أن يكونا حديثين، أو حديثاً واحداً، فرقه الرواة، وهو الأظهر. وكأن البخاري رحمه الله أشار إلى هذا لذكره التوشح في الترجمة، حيث قال (باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به) قال الزهري في حديثه: الملتحف: المتوشح، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا (14/ 763)، وفي "الكبرى"(1/ 839) عن قتيبة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عنه. وأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف.
ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، وأبو داود فيه عن القعنبي -ثلاثتهم
(1)
فتح جـ 2 ص 19 بتصرف.
عن مالك، به.
ومالك في الموطأ رقم 106.
والحميدي رقم (937).
وأحمد (2/ 238، 265، 285، 345، 501).
وابن خزيمة رقم 758. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: قال ولي الدين العراقي رحمه الله في "طرح التثريب": استُدلّ بهذا الحديث على وجوب الصلاة في الثياب، لما دل عليه من أن جواز الاقتصار على ثوب واحد رخصة لضيق الحال، فدل على أنه لا يجوز ترك ذلك.
والمعتبر في ذلك الثوب أن يكون ساتراً للعورة بحسب اختلاف العلماء في العورة، وذلك أيضاً يختلف بالذكورة والأنوثة، وحرية المرأة ورقها، وإذا ثبت وجوب الستر في الصلاة كان دليلاً على أنه شرط فيها؛ لأن الغالب أن ما وجب في الصلاة كان شرطاً فيها، وبهذا قال الجمهور. وعند المالكية أربعة أقوال: الاشتراط مطلقاً، وهو المشهور، والاشتراط مع الذِّكر، دون النسيان، والوجوب خاصة
(1)
، والاستحباب.
وحكى القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله في كون ستر العورة
(1)
أي دون الاشتراط.
من فروض الصلاة أربعة أقوال، بعد أن صدّر كلامه بأن ستر العورة فرض إسلامي، لا خلاف فيه بين الأمة، قال: واختلف العلماء؛ هل هو من فروض الصلاة على أربعة أقوال:
الأول: أنه يجب ستر جميع الجسد، حكاه أبو الفرج.
الثاني: يكون متزر وسطه، كما فعل جابر. قاله ابن القاسم، كأنه غطى العورة، وحماها، وستر ما اتصل بها.
الثالث: يصلي مستور العورة خاصة، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، وأكثر علماء الأمصار.
الرابع: أن لا يجب ستر عورة، ولا غيرها. قال بعض شيوخنا: إذا كان في بيته، ولا يراه أحد. وحكاه القاضي أبو محمد، وغيره عن القاضي إسماعيل، والأبهري، وابن بكير، وجاء نحوه عن أشهب، لأنه قال: من صلى عرياناً أعاد في الوقت، قال: والصحيح وجوب ستر العورة في الصلاة، فإنها إذا وجبت خارج الصلاة تأكدت بالصلاة. انتهى.
قال الحافظ العراقي رحمه الله في شرح الترمذي: وفيه نظر؛ فإنه ذكر أن الأقوال الأربعة في أن ستر العورة من فروض الصلاة أوّلاً، ثم حكى القول الأول أنه يجب ستر جميع الجسد، ولا قائل فيما نعلم بأن جميع جسد الرجل عورة، فكان حقه أن يفرض الخلاف فيما يجب ستره في الصلاة، لا بقيد كونه عورة، على أن الذي حكاه ابن عبد البر
في "الاستذكار" عن أبي الفرج وجوب ستر العورة في الصلاة، لا ستر جميع البدن. انتهى.
قال ولي الدين رحمه الله: وحكى القاضي عياض عن أبي الفرج وجوب ستر جميع الجسد في الصلاة، كما حكاه ابن العربي. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الجمهور بأن ستر العورة واجب في الصلاة هو الحق، وأما القول بعدم الوجوب، أو بوجوب ستر جميع الجسد فمن الأقوال الساقطة التي لا تستند إلى دليل. والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في أقوال أهل العلم في الصلاة في الثوب الواحد:
ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين إلى جواز الصلاة في الثوب الواحد.
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: وممن رأى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في ثوب واحد: عمر بن الخطاب، وأُبَي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وخالد بن الوليد، وأبو هريرة. وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.
(1)
طرح التثريب جـ 2 ص 239 - 240.
وبه قال جماعة من التابعين، وهو قول مالك، ومن تبعه من أهل المدينة، والأوزاعي، ومن قال بمثل قوله من أهل الشام، وسفيان الثوري، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الحديث، وأهل الرأي من الكوفة.
وقد روينا عن ابن مسعود أنه قال: يصلي في ثوبين، وقال نافع: رآني ابن عمر أصلي في ثوب واحد، وقال: ألم أكسك ثوبين؟ فقلت: بلى، قال: أرأيت لو أرسلتك إلى فلان أكنت ذاهباً في هذا الثوب؟ فقلت: لا، قال: الله أحق أن تزين له، أو من تزينت له.
وثبت عنه أنه قال لنافع: إذا كان واسعاً تتوشح به، وإذا كان قصيراً فَاتَّزرر به.
ثم أخرج ابن المنذر أثري ابن عمر بسنده، ثم قال: وهذا من قول ابن عمر يدل على أنه استحب الصلاة في ثوبين، لا أنه رأى ذلك واجباً لا يجزي عنه، ويشبه أن يكون مراد ابن مسعود هذا المعنى، استحباباً لأن يصلي في ثوبين، ولو أوجب ابن مسعود الصلاة في ثوبين لكانت السنة مُستَغْنىً بها. والله أعلم
(1)
.
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن، قال: اختلف أُبَيّ بن كعب، وابن مسعود في الرجل يصلي في الثوب الواحد، فقال أُبَيّ: يصلي في الثوب الواحد، وقال ابن مسعود: في ثوبين، فبلغ ذلك
(1)
الأوسط جـ 5 ص 53 - 54.
عمر، فأرسل إليهما، فقال: اختلفتما في أمر، ثم تفرقتما، فلم يدر الناس بِأيٍّ يأخذون، لو أتيتما عندي لوجدتما علماً، القول ما قال أُبَيّ، ولم يألُ ابن مسعود.
وعن الحسن: أن أُبَيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود اختلفا في الصلاة في الثوب الواحد، فقال أُبَيّ: لا بأس به، قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد، فالصلاة فيه جائزة، وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك إذ كان الناس لا يجدون الثياب، وأما إذ وجدوها فالصلاة في ثوبين. فقام عمر على المنبر، فقال: القول ما قال أُبَيّ، ولم يأْلُ ابن مسعود
(1)
.
وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد، أنه قال: لا تصل في ثوب واحد إلا أن لا تجد غيره. وأخرج عن ابن مسعود، قال: لا يصلين في ثوب واحد، وإن كان أوسع مما بين السماء والأرض، يصلي، وهو مضطبع. وعن ابن علية عن ابن عون، قال: قيل للحسن: إنهم يقولون: يكره أن يصلي الرجل، وقد أخرج يده من تحت نحره، فقال الحسن: لو وكل الله دينه إلى هؤلاء لضيقوا على عباده
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحق ما ذهب إليه الجمهور، وما نقل عن هؤلاء إما محمول على الاستحباب، وإلا فحديث النبي صلى الله عليه وسلم حجة
(1)
مصنف عبد الرزاق جـ 1 ص 356.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة جـ 1 ص 315.
عليهم. لكن الصلاة في ثوبين أفضل إن تيسر.
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "أوَلكلكم ثوبان؟ " دليل على أن من كان معه ثوبان يتزر بالواحد، ويلبس الآخر، إنه حسن في الصلاة. انتهى
(1)
.
وأخرج البخاري عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد؟ قال:"أوَكلكم يجدون ثوبين؟ " ثم سأل رجل عمر؟، فقال: إذا وسّع الله فأوسعوا: جَمَعَ رجل عليه ثيابه، صلَّى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تُبَّان وقباء، في تبان وقميص، قال: وأحسبه قال: في تبان ورداء
(2)
.
قال الحافظ رحمه الله: وفي هذا الحديث دليل على وجوب الصلاة في الثياب؛ لما فيه من أن الاقتصار على الثوب الواحد كان لضيق الحال. وفيه أن الصلاة في الثوبين أفضل من الثوب الواحد. وصرح القاضي عياض بنفي الخلاف في ذلك، لكن عبارة ابن المنذر قد تفهم إثباته؛ لأنه حكى عن الأئمة جواز الصلاة في الثوب الواحد، قال: وقد استحب بعضهم الصلاة في ثوبين.
(1)
التمهيد جـ 6 ص 371.
(2)
صحيح البخاري جـ 1 ص 102.
وعن أشهب فيمن اقتصر على الصلاة في السراويل مع القدرة يعيد في الوقت، إلا إن كان صفيقاً. وعن بعض الحنفية يكره.
قال الجامع عفا الله عنه: وجوب إعادة من صلى في سراويل إذا لم يكن على عاتقه شيء مع القدرة عليه هو الحق، وسيأتي تحقيقه (18/ 769) إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
764 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(قتيبة).
2 -
(مالك).
تقدما في السند السابق.
3 -
(هشام بن عروة) أبو المنذر المدني، ثقة فقيه، مات سنة 145، من [5]، تقدم في 49/ 61.
4 -
(عروة) بن الزبير بن العوَّام المدني، ثقة فقيه، مات سنة 94، من [3]، تقدم في 40/ 44.
5 -
(عمر بن أبي سلمة) عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، أبو حفص المدني، رَبيب النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أمه أم سلمة. وروى عنه ابنه محمد، وأبو أمامة بن سهل بن حُنَيف، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وثابت البناني، وعطاء بن أبي رباح، وقدامة بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، وعبد الله بن كعب الحميري، ووهب بن كيسان، وأبو وجزة السعدي، وابن له غير مسمى.
قال ابن لهيعه، عن أبي الأسود، عن عروة: ولد بأرض الحبشة. وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير: كنت أنا وعمر ابن أبي سلمة يوم الخندق مع النسوة. وفي رواية عنه: كان أكبر مني بسنتين. قال الزبير بن بَكّار: وكان مع علي بن أبي طالب، فولاّه البحرين، وله عقب.
وقال ابن عبد البر ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة. وقيل: إنه كان ابن تسع سنين لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد مع علي الجمل، وتوفي بالمدينة سنة 83، وقال غيره: قتل مع علي يوم الجمل، وليس بشيء. أخرج له الجماعة
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
تهذيب التهذيب جـ 7 ص 455 - 456، وتهذيب الكمال جـ 21 ص 372 - 374.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات نُبَلاء، وكلهم من رجال الجماعة، وأنه مسلسل بالفقهاء المدنيين كسابقه، وأن فيه رواية الراوي عن أبيه، وأن صحابيه من المقلين، ليس له في الكتب الستة إلا نحو تسعة أحاديث. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عمر بن أبي سلمة) عبد الله بن عبد الأسد رضي الله عنهما (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ "رأى" هنا بصرية، فلذا تتعدى إلى مفعول واحد، وهو "رسول الله" وجملة قوله:(يصلي) في محل نصب على الحال من "رسول الله"، ويحتمل أن تكون "رأى" علمية، فتتعدى إلى مفعولين، فالأول "رسول الله"، والثاني جملة "يصلي"، وهو الذي اقتصر عليه العيني في شرح البخاري (في ثوب واحد) يتعلق بـ "يصلي"(في بيت أم سلمة) متعلق بـ "يصلي" أيضاً، ولا يلزم منه تعلق حرفي الجر بلفظ واحد بفعل واحد؛ لاختلاف معناهما؛ إذ الأولى بمعنى الباء، والثانية للظرفية (واضعاً طرفيه على عاتقيه) حال من فاعل "يصلي".
والمراد من وضع الطرفين على العاتقين هو المخالفة بين طرفي الثوب، كما فسرته رواية البخاري من طريق عبيد الله بن موسى، عن
هشام بن عروة، ففيها:"صلى في ثوب واحد، قد خالف بين طرفيه". وفي طريق يحيى القطان، عن هشام:"أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة، قد ألقى طرفيه على عاتقيه" ومن طريق أبي أسامة عن هشام قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملاً به في بيت أم سلمة، واضعاً طرفيه على عاتقيه".
وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد متوشحاً به".
قال البخاري رحمه الله: قال الزهري في حديثه: المُلتَحِف: المتوشح، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو الاشتمال على منكبيه. قالت أم هانىء: التحف النبي صلى الله عليه وسلم بثوب، وخالف بين طرفيه على عاتقيه. انتهى
(1)
.
وقال النووي رحمه الله: المشتمل، والمتوشح، والمخالف بين الطرفين معناها واحد هنا. قال ابن السكّيت: التوشح أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره
(2)
.
والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
(1)
صحيح البخاري جـ 1 ص 99 - 100.
(2)
شرح مسلم جـ 4 ص 233.
حديث عمر بن أبي سلمة هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (14/ 764) وفي "الكبرى"(2/ 840) عن قتيبة، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبيد الله بن موسى -وعن محمد بن المثنى، عن يحيى ابن سعيد- وعن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة.
ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، عن حماد بن زيد، وعن أبي كريب، عن أبي أسامة، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن وكيع.
والترمذي فيه عن قتيبة، عن الليث.
وابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع.
كلهم عن هشام بن عروة، به.
وأخرجه مالك في "الموطأ" ص 106، وأحمد في المسند جـ 4/ 26، وابن خزيمة رقم (761). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة:
في هذا الحديث بيان كيفية الصلاة في الثوب الواحد، وهي أن
يضع طرفيه على عاتقيه، وهو معنى المخالفة، والتوشح، والالتحاف، كما مر، وقد ورد الأمر به، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عكرمة، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه، يقول: أشهد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى في ثوب فليخالف بين طرفيه".
ولا يجوز أن يشتمل به اشتمال الصماء، لورود النهي بذلك، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصماء، وأن يحتبى الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء". متفق عليه.
واشتمال الصماء -بالصاد المهملة، والمد- قال أهل اللغة: هو أن يخَلِّلَ جسدَه بالثوب، لا يرفع منه جانباً، ولا يبقي ما يخرج منه يده. قال ابن قتيبة رحمه الله: سميت صماء لأنه يسد المنافذ كلها فتصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق.
وقال الفقهاء: هو أن يلتحف بالثوب، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبيه، فيصير فرجه بادياً. قال النووي رحمه الله: فعلى تفسير أهل اللغة يكون مكروهاً؛ لئلا يعرض له حاجة، فيتعسر عليه إخراج يده، فيلحقه الضرر. وعلى تفسير الفقهاء يحرم؛ لأجل انكشاف العورة.
قال الحافظ رحمه الله: ظاهر سياق المصنف -يعني البخاري- من رواية يونس في اللباس أن التفسير المذكور فيها مرفوع، وهو موافق لما
قال الفقهاء، ولفظه:"والصمّاء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدو أحد شقيه". وعلى تقدير أن يكون موقوفاً فهو حجة على الصحيح؛ لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر. انتهى
(1)
.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"
…
(1)
فتح جـ 2 ص 28.
15 - الصَّلَاةُ فِي قَمِيصٍ وَاحِدٍ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز الصلاة في قميص واحد، وعلى كيفية الصلاة فيه.
765 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَطَّافُ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لأَكُونُ فِي الصَّيْدِ، وَلَيْسَ عَلَيَّ إِلاَّ الْقَمِيصُ، أَفَأُصَلِّي فِيهِ؟ قَالَ:"وَزُرَّهُ عَلَيْكَ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ".
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة) تقدم في السند الماضي.
2 -
(العطاف) -بتشديد الطاء المهملة- بن خالد بن عبد الله بن العاص بن وابصة بن خالد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، المخزومي، أبو صفوان المدني، صدوق يهم مات قبل مالك، من [7].
قال مالك، وقد بلغه أن عطاف بن خالد قد حدث: ليس هو من أهل القباب
(1)
، قال مطرف: قال لي مالك: عطاف يحدث؟ قلت: نعم، فأعظم ذلك، وقال: لقد أدركت أناساً ثقات يحدثون ما يؤخذ
(1)
هكذا في تت: "من أهل القباب"، وفي تك:"من إبل القباب".
عنهم، قلت: كيف؟ قال: مخافة الزلل.
وقال في رواية عنه: إنما يكتب العلم عن قوم قد جرى فيهم العلم، مثل عبيد الله بن عمر، وأشباهه. وقال أحمد: لم يرضه ابن مهدي. وقال أبو طالب عن أحمد: هو من أهل المدينة، صحيح الحديث، يروي نحو مائة حديث.
وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس. قال: سئل عن يحيى بن حمزة، وعطاف؟ قال: ما أقربهما! عطاف صالح الحديث. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ليس به بأس، ثقة صالح الحديث. وقال أبو زرعة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح، ليس بذاك، محمد بن إسحاق، وعطاف بن خالد هما من باب رحمة
(1)
.
وقال الآجري عن أبي داود: ثقة. وقال مرة: صالح، ليس به بأس. قال مالك: عطاف يحدث؟ قيل: نعم. قال: إنا لله، وإنا إليه راجعون.
وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال مرة: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لم أر بحديثه بأساً إذا روى عنه ثقة. ووثقه العجلي. وقال الساجي: روى عن نافع، عن ابن عمر حديثاً لم يتابع عليه -يعني حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد من خداش.
(1)
هكذا نسخة تت بزيادة "من"، ونسخة تك: هما باب رحمة، بحذفها.
وقال أبو بكر البزار: قد حدث عنه جماعة، وهو صالح الحديث، وإن كان قد حدث بأحاديث لم يتابع عليها.
وقال الزبير: كان من ذوي السنن من قريش. وعن عطاف قال: ولدت سنة 91 وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما لا يشبه حديثهم، لا يجوز الاحتجاج به، إلا فيما يوافق فيه الثقات.
أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "القدر"، والترمذي، والنسائي
(1)
.
3 -
(موسى بن إِبراهيم) بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، مقبول من [4].
روى عن أبيه، وسلمة بن الأكوع. وعنه عبد الرحمن بن أبي الموال، وعطاف بن خالد، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي. ذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له أبو داود، والنسائي، حديث سلمة بن الأكوع هذا فقط. قال أبو داود: موسى ضعيف، وهو موسى بن محمد ابن إبراهيم. قال: وبلغني عن أحمد أنه كره الرواية عن موسى، وقال أبو حاتم: موسى بن إبراهيم هذا غير موسى بن محمد بن إبراهيم، ذاك ضعيف.
(1)
تهذيب التهذيب جـ 7 ص 221 - 223، وتهذيب الكمال جـ 20 ص 138 - 142.
قال الحافظ: وفرق البخاري أيضاً بين موسى بن إبراهيم المخزومي، وبين موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، وقال في الثاني: عنده مناكير، وإنما حصل الاشتباه
(1)
؛ لأن مسدد بن مسرهد روى الحديث عن عطاف بن خالد، عن موسى الشافعي، وإسحاق بن عيسى بن الطباع، ويونس بن محمد المؤدب، وغيرهم، كلهم عن عطاف، عن موسى بن إبراهيم، ونسبه العقدي كما في صدر الترجمة، وهو الصواب، وهكذا نسبه الشافعي، عن الدراوردي عنه في رواية عنه. وأخرج الحديث المذكور ابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما". وقال ابن المديني: موسى بن إبراهيم المخزومي وسط. والله أعلم
(2)
. انفرد به أبو داود، والمصنف.
4 -
(سلمة بن الأكوع) هو سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسمه سنان بن عبد الله بن بشير بن يقظة بن خزيمة بن مالك بن سلامان بن أسلم الأسلمي، أبو مسلم، ويقال: أبو إياس، ويقال: أبو عامر، وقيل: اسم أبيه وهب. وقيل: اسم بشير قشير، وقيل: قيس، شهد بيعة الرضوان.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وعنه ابنه إياس، ومولاه يزيد بن أبي عبيد، وعبد الرحمن بن عبد الله
(1)
قال الجامع: كلام الحافظ من قوله: "وإنما حصل الاشتباه" إلى قوله: "وهكذا نسبه الشافعي" ليست نسخة تت محررة، فتنبه.
(2)
تت جـ 10 ص 332، تك جـ 29 ص 18 - 19.
ابن كعب بن مالك، والحسن بن محمد بن الحنفية، وزيد بن أسلم، وموسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وغيرهم. كان شجاعاً رامياً، ويقال: كان يسابق الفرس شَدًا، وكان يسكن الرَّبَذَة.
قال يحيى بن بكير، وغير واحد: مات سنة 74، وهو ابن 80 سنة. وفي صحيح البخاري، عن يزيد بن أبي عبيد، قال: لما قتل عثمان خرج سلمة إلى الربذة، وتزوج بها امرأة، وولدت له أولاداً، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال، فنزل المدينة. قال أبو نعيم: استوطن الربذة بعد قتل عثمان، وتوفي سنة 74، وقيل: سنة ستين. وذكر إبراهيم بن المنذر أنه توفي سنة 64.
وذكر الكلاباذي عن الهيثم بن عدي أنه مات في أواخر خلافة معاوية.
قال الحافظ: وهو غلط؛ فإن له قصة مع الحجاج بن يوسف الثقفي في إنكاره عليه اختيار البدو، واعتذار سلمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في البدو، والقصة مشهورة، ذكرها البخاري وغيره، ولم يكن الحجاج في زمن معاوية ولا ابنه يزيد صاحب أمر ولا ولاية، وهذا يرجح قول من قال: مات سنة 74.
لكن في تقدير سنه على هذا نظر، فإنه غلط محض؛ إذ يلزم منه أنه شهد بيعة الرضوان، وعمره اثنا عشرة سنة، وقد قال هو فيما صح
عنه: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على الموت، ومن كان بهذا السن لا يتهيأ منه هذا، فيحرر هذا.
ثم رأيت مدار مقدار سنه على الواقدي، وهو من تخليطه، والمصنف -يعني الحافظ المزي صاحب تهذيب الكمال- تبع فيه صاحب الكمال، وكذا النووي في تهذيبه تبع صاحب الكمال، وصاحب الكمال تبع ابن طاهر، والصواب خلاف هذا، والله أعلم.
قال: ثم وجدت ما يدلّ على أن من أرخ موته في خلافة معاوية، أو ابنه يزيد، أو بعد ذلك إلى سنة 74 غلط، بل يدل على أنه تأخر إلى ما بعد الثمانين، فعند أحمد من طريق عمرو بن عبد الرحمن بن جرهد، سمعت رجلاً يقول لجابر: من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سلمة بن الأكوع وأنس، فقال رجل، فذكر كلاماً في حق سلمة.
فهذا يدل على ما قاله، فإن عبد الله بن أبي أوفى مات سنة 86 أو 87 أو 88 بالكوفة، فلو كان حين السؤال المذكور موجوداً ما خفي على جابر، ثم تبين لي أنه خفي عليه، أو أغفل ذكره الراوي، فإن جابراً مات قبل الثمانين، كما تقدم في ترجمته، والحديث المذكور يرجح قول من قال في سلمة: إنه مات سنة 74 لكن بقي النظر في مقدار سنه
(1)
. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى.
(1)
تت جـ 4 ص 150 - 152.
أخرج له الجماعة. له 77 حديثاً، اتفق الشيخان على 16، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة
(1)
. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه (44) من رباعيات المصنف، في هذا الكتاب.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بغلانياً إلا أنه دخلها.
ومنها: أن موسى بن إبراهيم ليس له عند المصنف غير هذا الحديث، وكذا عند أبي داود. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن سلمة بن الأكوع) رضي الله عنه، أنه (قال: قلت: يا رسول الله، إِني لأكون في الصيد) يحتمل أن يكون "الصيد" بمعنى المصيد، أي في طلب الحيوان الذي يُصاد، ويحتمل أن يكون بالمعنى المصدري، يقال: صادَ الصيدَ يَصِيدُه، ويَصَادُه صَيْدًا: إذا أخذه. قاله في اللسان
(2)
.
(وليس عليّ إِلا القميص) أي الواحد، ففي رواية أبي داود:
(1)
خلاصة ص 148.
(2)
لسان جـ 4 ص 2533.
"فأصلي في القميص الواحد؟ "، (أفأصلي فيه؟) أي في القميص الواحد (قال: وزُرَّه عليك ولو بشوكة) عطف على محذوف، أي قال: نعم، وزُرّه عليك ولو بشوكة. وفي رواية أبي داود:"قال: نعم، وازرره ولو بشوكة".
و"زُرّ" -بتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة المشددة- فعل أمر، من الزَّرِّ، وهو الربط بالأزرار، يقال: زَرَّ الرجلُ القميص زَرًا -من باب قتل-: أدَخَلَ الأزْرَار في العُرَا، وزَرَّرَه بالتضعيف، مبالغةٌ، وأزرّه بالألف جعل له أزْرَارًا، واحدها زِرّ بالكسر. قاله الفيّومي
(1)
.
والشَّوْكَة -بفتح المعجمة، وسكون الواو- واحدة الشوك. وهو ما يخرج من الشجر، أو النبات دقيقاً صُلْبًا محدد الرأس كالإبرة، جمعه أشْواك
(2)
.
والمعنى: اربط جيبك لئلا تظهر عورتك، ثم صل فيه.
أمره صلى الله عليه وسلم أن يزر قميصه مبالغة في حصول الستر، ولئلا يقع بصره على عورته حال ركوعه إذا كان جيب القميص واسعاً.
وفيه دلالة على جواز الصلاة في القميص الواحد، وهو الذي أراده المصنف رحمه الله تعالى بالترجمة هنا. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
المصباح جـ 1 ص 252.
(2)
المعجم الوسيط بزيادة جـ 1 ص 500.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا حسن.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (15/ 765)، وفي "الكبرى"(3/ 841) عن قتيبة، عن العطاف بن خالد، عن موسى بن إبراهيم، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه أبو داود في الصلاة عن القعنبي، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن موسى بن إبراهيم به. والشافعي في الأم (1/ 78)، وأحمد في المسند (4/ 49، 4/ 54)، وابن خزيمة رقم (777، 778)، والحاكم (1/ 250)، والبيهقي (2/ 240). والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
***
16 - الصَّلَاةُ فِي الإِزَارِ
أي هذا باب ذكر الحديثين الدالين على حكم الصلاة في الإزار.
و"الإزار" -بكسر الهمزة- ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن، يذكر، ويؤنث
(1)
.
وقال الفيومي: الإزَار: معروف، والجمع في القلة آزِرَة، وفي الكثرة أُزُر بضمتين -مثل حمار، وأحْمِرة، وحُمُر، ويذكر، ويؤنث، فيقال: هو الإزار، وهي الإزار، قال الشاعر (من الرجز):
قَدْ عَلِمَتْ ذَاتُ الإزَارِ الْحَمْرَا
…
أَنِّي مِنَ السَّاعِينَ يَوْمَ النَّكْرَا
وربما أنث بالهاء، فقيل: إِزارة، والمئْزَر -بكسر الميم- مثله، نظيرُ لِحَاف، ومِلْحَفٍ، وقِرَام، ومِقْرَم، وقِيادَ، ومِقْوَد
(2)
، والجمع مَآزر. انتهى
(3)
. والله تعالى أَعلم.
774 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ،
(1)
المعجم الوسيط جـ 1 ص 16.
(2)
المِقود -بالكسر-: الحبل يقال به، والجمع مقاود، والقِياد مثله. أفاده في المصباح. جـ 2 ص 518.
(3)
المصباح جـ 1 ص 13.
قَالَ: كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَاقِدِي أُزْرَهُمْ، كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ، فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ: لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) بن يحيى اليشكري أبو قُدامة السرخسي، نزيل نيسابور، ثقة مأمون سنيّ، مات سنة 241، من [10]، أخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي، تقدم في 15/ 15.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان، الثقة الحجة الثبت، مات سنة 198، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 4.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوري، الإمام الحجة الثبت، مات سنة 161، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 33/ 37.
4 -
(أبو حازم) سلمة بن دينار الأعرج التمار المدني، ثقة عابد، مات في خلافة المنصور، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 40/ 44.
5 -
(سهل بن سعد) بن مالك الساعدي الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، أخرج له الجماعة، تقدم في 40/ 734. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وهم من رجال الجماعة، إلا شيخه فمن رجال الشيخين والمصنف، وهم ما بين سرخسي؛ وهو شيخه، وبصري؛ وهو يحيى، وكوفي؛ وهو سفيان، ومدنيين؛ وهما أبو حازم، وسهل.
ومنها: أن فيه الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنةَ؛ من صيغ الأداء. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن سهل بن سعد) رضي الله عنهما، أنه (قال: كان رجال) التنكير فيه للتنويع، وهو يقتضي أن بعضهم كان بخلاف ذلك، وهو كذلك، ووقع في رواية أبي داود:"رأيت الرجال"، واللام فيه للجنس، فهو في حكم النكرة (يصلون) جملة في رفع خبر "كان"(مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) متعلق بـ"يصلون"(عاقدي أزرهم) أصله عاقدين أزرهم، فلما أضيف سقطت النون، وهي جملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن يكون انتصابه على أنه خبر "كان"، ويكون قوله:"يصلون" في محل نصب على الحال.
وفي رواية أبي داود: "لقد رأيت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الإزار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة
…
" الحديث (كهيئة الصبيان) "الهَيْئَة": الحالة الظاهرة، يقال: هَاءَ يَهُوءُ، ويَهِيء هَيْئَةً حسنةً: إذا صار إليها. قاله الفيومي
(1)
.
(1)
المصباح جـ 2 ص 645.
و"الصبيان" -بكسر الصاد المهملة، وضمها- جمع صبي، وهو من لم يُفْطَم بَعدُ. أفاده المجد
(1)
.
والمعنى أنهم يعقدون أزرهم على أعناقهم من ضيقها، كما يعقد الصبيان أزرهم على قفاهم.
(فقيل) وفي رواية للبخاري: "وقال للنساء". قال في الفتح: قال الكرماني: فاعل "قال" هو النبي صلى الله عليه وسلم، كذا جزم به، وقد وقع في رواية الكشميهني:"ويقال للنساء"، وفي رواية وكيع "فقال قائل: يا معشر النساء" فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من يقول لهن ذلك، ويغلب على الظن أنه بلال. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: لم يذكر الحافظ مستنداً لكونه بلالاً غير الظن، ويؤيد ما قاله الكرماني ما أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم. كراهية أن يَرَيْن من عورات الرجال".
(للنساء) أي اللاتي يصلين وراء الرجال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ترفعن رؤوسكن) أي من السجود (حتى يستوي الرجال) يقال: استوى جالساً، واستوى على الفرس: استقر. قاله الفيومي
(2)
: (جلوساً) إما جمع جالس، كالركوع جمع راكع، وإما مصدر بمعنى
(1)
القاموس المحيط ص 1679.
(2)
المصباح جـ 1 ص 298.
جالسين، وعلى كل حال انتصابه على الحال
(1)
.
وإنما نهي النساء عن ذلك لئلا يلمحن عند رفع رؤوسهن من السجود شيئاً من عورات الرجال عند نهوضهم، لضيق الأُزُر. وقد تقدم في حديث أسماء رضي الله عنها عند أحمد وأبي داود التصريح بذلك.
وفي رواية لابن خزيمة رقم (1695): "كن النساء يؤمرن في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يرفعن رؤوسهن، حتى يأخذ الرجال مقاعدهم من قباحة الثياب".
ويؤخذ منه أنه لا يجب التستر من أسفل. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا 16/ 766، وفي "الكبرى"(4/ 842) عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى القطان، عن الثوري، عن أبي حازم، عنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
(1)
عمدة القاري جـ 4 ص 69.
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن محمد بن كثير، وعن مسدد، عن يحيى، ومسلم فيه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن وكيع -ثلاثتهم عن الثوري، به. وأبو داود فيه عن محمد بن سليمان الأنباري، عن وكيع به. وأحمد في "مسنده"(3/ 433)، (5/ 331). وابن خزيمة رقم (763، 1695). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو حكم الصلاة في الإزار وحده، وهو الجواز، لكن بشرط أن يكون شيء منه على عاتقه.
ومنها: عدم وجوب ستر أسفل البدن في الصلاة.
ومنها: ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضيق المعيشة، واكتفائهم بالقليل.
ومنها: جواز صلاة النساء في المسجد جماعة، وإن كان الأفضل أن يصلين في بيوتهن، للحديث الصحيح، "وبيوتهن خير لهن".
ومنها: جواز نظر النساء إلى أعالي البدن من الرجال، لكن بشرط أن لا يترتب عليه فتنة لهن، وإلا حَرُمَ. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
767 -
أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَاصِمٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ، قَالَ: لَمَّا
رَجَعَ قَوْمِي مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالُوا: إِنَّهُ قَالَ: "لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قِرَاءَةً لِلْقُرْآنِ، قَالَ: فَدَعَوْنِي، فَعَلَّمُونِي الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ مَفْتُوقَةٌ، فَكَانُوا يَقُولُونَ لأَبِي: أَلَا تُغَطِّي عَنَّا اسْتَ ابْنِكَ".
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(شعيب بن يوسف) أبو عمرو النسائي، ثقة صاحب حديث، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في 42/ 49.
2 -
(يزيد بن هارون) أبو خالد الواسطي، ثقة متقن عابد، مات سنة 206، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 153/ 244.
3 -
(عاصم) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصري، ثقة، مات سنة 140، من [4]، أخرج له الجماعة، تقدم في 148/ 239.
4 -
(عمرو بن سلمة)
(1)
بن قيس، وقيل ابن نُفَيع، وقيل غير ذلك، الجَرْمي، أبو بُرَيد -بالموحدة، والراء- ويقال: أبو يزيد -بالتحتانية، والزاي- البصري.
روى عن أبيه. وعنه أبو قلابة الجَرْمي، وعاصم الأحول، وعَيّاش ابن عبد الله الهمداني، وأبو الزبير المكي، ومسعر بن حبيب الجرمي، وغيرهم.
(1)
"سَلِمَة" -بفتح السين المهملة، وكسر اللام، الجَرْمي- بفتح الجيم، وسكون الراء.
وكان يصلي بقومه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت له سماع ولا رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم، ووفد أبوه على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي من وجه غريب أن عمرًا أيضاً وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بثابت. هكذا قال الحافظ المزي رحمه الله
(1)
.
لكن قال الحافظ رحمه الله: روى ابن منده في كتاب الصحابة حديثه من طريق صحيحة، وهي رواية الحجاج بن المِنْهَال، عن حماد ابن سَلَمَة، عن أيوب، عن عمرو بن سَلمَة، قال: كنت في الوفد الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا تصريح بوفادته. وقد روى أبو نعيم في الصحابة أيضاً من طرق ما يقتضي ذلك. وقال ابن حبان: له صحبة
(2)
. وفي "ت": صحابي صغير
(3)
، أخرج له البخاري، وأبو داود، والمصنف. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه [45] من رباعيات المصنف رحمه الله في هذا الكتاب، وأن رجاله ثقات، وأنهم ما بين نسائي؛ وهو شيخه، وواسطي؛ وهو يزيد، وبصريين؛ وهما عاصم، وعمرو بن سلمة. وأن شيخه من أفراده، لم يرو عنه غيره من أصحاب الأصول. والله تعالى أعلم.
(1)
"تك" جـ 22 ص 50 - 51.
(2)
"تت" جـ 8 ص 42.
(3)
ص 260.
شرح الحديث
(عن عمرو بن سلِمَة) تقدم الخلاف في صحبته، والراجح أن له صحبة؛ لما تقدم:"أنه قال: كنت في الوفد الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم". أخرجه ابن منده، وأخرجه الطبراني، كما قال في الفتح
(1)
.
أنه (قال: لَمَّا رجع قومي من عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إِنه قال) وفي الرواية المتقدمة للمصنف (8/ 636) من طريق أيوب، "فقال: لمّا كان وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، فذهب أبي بإسلام أهل حِوَائنا
(2)
، فلما قدم استقبلناه، فقال: قد جئتكم -والله- من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقّاً، فقال:"صَلُّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً".
وقد ساقه البخاري بطوله في "كتاب المغازي" في غزوة الفتح من "صحيحه"، فقال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سَلِمَة، قال: قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه، فتسألَه، فقال: فلقيته، فسألته.
فقال: كنا بماء ممرَّ الناس، وكان يمرّ بنا الركبان فنسألهم ما للناس ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أو أوحَى إليه، أو أوحَى الله بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يُغْرَى في
(1)
فتح جـ 8 ص 338.
(2)
الحواء -بالكسر، والمد: بيوت مجتمعة من الناس على ماء.
صدري، وكانت العرب تَلَوَّم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومَه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق.
فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبَدَرَ أبي قومي بإسلامهم، فلما قَدِمَ قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقّاً، فقال:"صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً".
فنظروا، فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني لِمَا كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست، أو سبع سنين، وكانت عليَّ بردة كنت إذا سجدت تَقَلَّصَتْ عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تُغَطُّوا عنا است قارئكم، فاشتروا، فقطعوا لي قميصاً، فما فَرِحْتُ بشيء فَرَحِي بذلك القميص
(1)
.
(ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن) وفي رواية أبي داود من رواية مِسْعَر بن حبيب الجرمي، عن عمرو بن سلمَة قالوا: يا رسول الله، من يؤمنا؟ قال:"أكثركم جمعاً للقرآن"، أو "أخذاً للقرآن".
(قال) عمرو (فدعوني) أي نادوني (فعلموني الركوع والسجود، فكنت أصلي بهم) يعني أنه كان يؤمهم؛ لكونه أكثرهم قرآناً، ففي رواية البخاري المتقدمة، "فنظروا، فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني؛ لما كنت أتَلَقَّى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست،
(1)
صحيح البخاري جـ 5 ص 191 - 192.
أو سبع سنين
…
".
وفي رواية أبي داود: "قال: كنا بحاضر
(1)
، يمر بنا الناس إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا رجعوا مروا بنا، فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كذا وكذا، وكنت غلاماً حافظاً، فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً
…
" الحديث.
وفي رواية له: "قال: فلم يكن أحد من القوم جمع ما جمعت، قال: فقدموني، وأنا غلام، وعلي شَمْلة لي، قال: فما شهدت مَجْمعاً من جَرْم إلا كنت إمامهم، وكنت أصلي على جنائزهم إلى يومي هذا".
(وكانت عليَّ بردة) -بضم، فسكون- كساء صغير مربع، ويقال: كساء أسود صغير. قاله في المصباح
(2)
(مفتوقة) يقال: فتقتُ الثوب فَتْقًا، من باب قَتَلَ: نَقَضتُ خِياطتَه حتى فَصَلْتُ بعضه من بعض. قاله الفيّومي. وأراد هنا أنها مشقوقة، تظهر منها العورة. ففي رواية لأبي داود:"وعليّ بردة لي صغيرة صفراء، فكنت إذا سجدت تكشفت عني"، وفي رواية له:"فكنت أؤمهم في بردة مُوصَلَة فيها فتق، فكنت إذا سجدت خرجت استي".
(فكانوا يقولون لأبي) هو سَلِمَة بن قيس، وقيل: ابن نُفيع، وقيل: ابن لائم، وقيل: ابن لاي، أبو قدامة البصري الجَرمي، صحابي
(1)
"الحاضر" في الأصل: القوم النزول على ماء يقيمون به، ولا يرحلون عنه، والمراد به المكان المحضور الذي يقيمون به. اهـ. المنهل جـ 4 ص 301.
(2)
جـ 1 ص 43.
وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه. وعنه ابنه عمرو بن سلمة. وقد قيل فيه سلَمَة -بفتح اللام- والصواب كسرها
(1)
.
(ألا) أداة استفتاح وتنبيه (تغطي عنا) أي تستر عن أعيننا (است ابنك) أي عَجُزَه.
يعني أن بعض الناس كان يقول لأبيه: استر عنا عورة ابنك.
وقال السندي رحمه الله في شرحه: أي خذ من كل منّا شيئاً، واشتر به ثوباً يستر عورته. اهـ
(2)
.
وفي رواية أبي داود: "فقالت امرأة من النساء: وَارُوا عنّا عورة قارئكم، فاشْتَرَوْا لي قميصاً عُمَانيّا، فما فَرِحْتُ بشيء بعد الإسلام فَرَحِي به
…
" الحديث.
و"الاست" -كما قال الفيومي رحمه الله: العَجُزُ، ويراد به حَلْقَة الدبر، والأصل: سَتَهٌ -بالتحريك- ولهذا يجمع على أسْتاه، مثل سبب وأسباب، ويصغر على سُتَيْهٍ، وقد يقال: سَهٌ بالهاء، وسَتٌ بالتاء، فيعرب إعراب يَدٍ وَدَمٍ، وبعضهم يقول في الوصل بالتاء، وفي الوقف بالهاء، على قياس هاء التأنيث.
قال الأزهري: قال النحويون: الأصل سَتْهٌ -بالسكون-، فاستثقلوا الهاء لسكون التاء قبلها، فحذفوا الهاء، وسكنت السين، ثم اجتلبت همزة الوصل.
وما نقله الأزهري، في توجيهه نظر لأنهم قالوا: سَتِهَ سَتَهًا، من
(1)
"تت" جـ 4 ص 163.
(2)
شرح السندي جـ 2 ص 71.
باب تعب: إذا كبرت عَجِيزته، ثم سمي بالمصدر، ودخله النقص بعد ثبوت الاسم، ودعوى السكون لا يشهد له أصل، وقد نسبوا إليه سَتَهِيٌّ -بالتحريك- وقالوا في الجمع: أستاه، والتصغير وجمع التكسير يردان الأسماء إلى أصولها. انتهى كلام الفيومي
(1)
.
وهي من الأسماء العشرة التي سُمِعَ في أولها همزة الوصل، وهي المجموعة في قول ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":
وَفِي اسْمٍ اسْتٍ ابْنٍ ابْنِمٍ سُمِعْ
…
وَاثْنَيْنِ وَامْرِىءٍ وَتَأْنِيثٌ تَبِعْ
وَايْمُنُ هَمْزُ أَلْ كذَا وَيُبْدَلُ
…
مَدّاً فِي الاسْتِفْهَامِ أَوْ يُسَهَّلُ
تنبيه:
هذا الحديث أخرجه البخاري كما تقدم قريباً، ومحل مطابقة الحديث للترجمة قوله:"وكانت عليّ بُرْدة"؛ حيث إن الصلاة في بردة واحدة كالصلاة في إزار واحد.
وقد تقدم تخريجه، وما يتعلق به من المسائل (8/ 636)، وسيأتي ما تبقّى من مسائله في (11/ 789) إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
…
(1)
المصباح جـ 1 ص 266.
17 - صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ بَعْضُهُ عَلَى امْرَأتِهِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز صلاة الرجل في ثوب؛ بعضه على امرأته الحائض. والمراد جواز الصلاة في ثوب متصل بغير المصلي، سواء كان رجلاً أو امرأة، كما يأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى.
768 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:"أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَعَلَيَّ مِرْطٌ بَعْضُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) المعروف بابن راهويه الثقة الحافظ المجتهد، مات سنة 238، من [10]، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، تقدم 2/ 2.
2 -
(وكيع) بن الجرّاح الحافظ الحجة، مات سنة 197، من [9]، أخرج له الأربعة، تقدم في 23/ 25.
3 -
(طلحة بن يحيى) بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني، نزيل الكوفة، صدوق يخطىء، مات سنة 148، من [6]، أخرج له مسلم،
والأربعة، تقدم في 36/ 580.
4 -
(عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة الهذلي الثقة الثبت الفقيه، مات سنة 94، من [3]، أخرج له الأربعة، تقدم في 45/ 56.
5 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5.
لطائف هذا الإسناد
مرّ في 36/ 580. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها، أنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل) جملة في محل نصب خبر لـ "كان"(وأنا إِلى جنبه) جملة في محل نصب على الحال من فاعل "يصلي"(وأنا حائض) عطف على جملة الحال (وعليّ مِرْطٌ) -بكسر الميم، وسكون الراء المهملة-: كساء من صوف، أو خَزّ، يُؤْتَزَر به، وتَتَلَفَّع المرأة به، والجمع مرُوط، مثل حِمْلٍ وحُمُول
(1)
. وموضع الجملة كالتي قبله (بعضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم) تعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس بعضَ ذلك المِرط، ولبست هي بعضه. وهذا يدل على أن المرط ثوب واسع يمكن أن يكون بعضه على المصلي، وبعضه على من كان جنبه.
وفيه دلالة على ما ترجم له المصنف، وهو جواز الصلاة في ثوبٍ
(1)
المصباح جـ 2 ص 569.
بعضه على امرأته، ومثله كونه على غيرها، ولذا ترجم أبو داود بأعم؛ فقال:(باب الرجل يصلي في ثوب بعضه على غيره).
وقال النووي رحمه الله: وفيه دليل على أن وقوف المرأة بجنب المصلي لا يبطل صلاته، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وأبطلها أبو حنيفة رضي الله عنه. وفيه جواز الصلاة بحضرة الحائض طاهرة إلا موضعاً ترى عليه دماً أو نجاسة أخرى. وفيه الصلاة في ثوب بعضه على المصلي، وبعضه على حائض، أو غيرها، وأما استقبال المصلي وجه غيره فمذهبنا ومذهب الجمهور كراهته، ونقله القاضي عياض عن عامة العلماء رحمهم الله تعالى. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى
(1)
. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (17/ 768)، وفي "الكبرى"(5/ 844) عن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن طلحة بن يحيى، عن عبيد الله بن عبد الله، عنها. والله أعلم.
(1)
شرح مسلم جـ 4 ص 230.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ فأخرجه مسلم في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وأبو داود في "الطهارة" عن عثمان بن أبي شيبة، وابن ماجه في "الطهارة" عن أبي بكر ابن أبي شيبة -ثلاثتهم. عن وكيع به. وأحمد (6/ 67)، (6/ 99، 199)، (6/ 137، 204). والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
***
18 - صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْء
أي هذا باب، في ذكر الحديث الدال على حكم صلاة الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه شيء من ذلك الثوب.
وجملة "ليس
…
" إلخ في محل نصب على الحال من "الثوب".
و"العاتق": ما بين المنكب والعنق، مذكر، وقد أُنث، وليس بثَبَت، وزَعَمُوا أن هذا البيت مصنوع، وهو:
لَا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلَا خُلَّةٌ
…
اتَّسَعَ الْفتْقُ عَلَى الرَّاتِقِ
لَا صُلْحَ بَيْنِي فَاعْلَمُوهُ وَلَا
…
بَيْنَكُمْ مَا حَمَلَتْ عَاتِقِي
سَيْفِي وَمَا كُنَّا بِنَجْدٍ وَمَا
…
قَرْقَرَ قُمْرُ الْوَادِ بِالشَّاهِقِ
قال ابن بَرّيّ: والعاتق مؤنثة، واستشهد بهذه الأبيات، ونسبها لأبي عامر جَدّ العباس بن مِرْداس، وقال: ومن روى البيت الأول:
اتَّسَعَ الْخَرقُ عَلَى الرَّاقِعِ
فهو لأنس بن العباس بن مرداس؛ وقال اللحياني: هو مذكر لا غير، وهما عاتقان، والجمع عُتْق، وعُتَّقٌ، وعَوَاتِقُ. انتهى "لسان العرب"
(1)
.
وقال العلامة العيني رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدم ما نصه: وفي "الموعب": صفح العنق من موضع الرداء من الجانبين جميعاً يقال له
(1)
جـ 4 ص 2800.
العاتق. وقال أبو حاتم: روى من لا أثق به التأنيث، وسألت بعض الفصحاء، فأنكر التأنيث، وقد أنشدني من لا أثق به بيتاً، ليس بمعروف، ولا عن ثقة:"ولا صلح بيني" إلى آخره.
وقال ابن التباني: قال أبو عبيدة: قال الأحمر: العاتق يذكر ويؤنث، وأنشدنا:"لا صلح بيني" إلخ. وقال ابن الأنباري عن الفراء مثله.
وفي "الجامع": هو مذكر، وبعض العرب يؤنث. وأنكره بعضهم، وقال: هذا لا يعرف. وأما يعقوب بن السكيت فذكره مذكراً ومؤنثاً من غير تردد، وتبعه على ذلك جماعة، منهم أبو نصر الجوهري. وقد أنشد ابن عصفور في ذكر الأعضاء التي تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ (من الطويل):
وَهَاكَ مِنَ الأَعْضَاء مَا قَدْ عَدَدتُهُ
…
يُؤَنَّثُ أَحْيَانَا وَحِيناً يُذَكَّرُ
لِسَانُ الْفَتَى وَالْعُنْقُ وَالإِبْطُ وَالْقَفَا
…
وَعَاتِقُهُ وَالْمَتْنُ وَالضِّرْسُ يُذْكرُ
وَعِنْدِي ذِرَاعٌ وَالْكُرَاعُ مَعَ الْمِعَا
…
وَعَجْزُ الْفَتَى تَمَّ الْقَرِيضُ الْمُحَبَّرُ
كَذَا كُلُّ نَحْوِيٍّ حَكَى فِي كتَابِهِ
…
سِوَى سِيبَوَيْهِ وَهْوَ فِيهِمْ مُكَبَّرُ
يَرَى أَنَّ تَأْنِيثَ الذِّرَاعِ هُوَ الَّذِي
…
أَتَى وَهْوَ لِلتَّذْكِيرِ فِي ذَاكَ مَنْكِرُ
(1)
769 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ
(1)
عمدة القارىء جـ 4 ص 65.
الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمد بن منصور) بن ثابت الجوّاز المكي، ثقة، مات سنة 252، من [10]، أخرج له النسائي، تقدم في (20/ 21).
2 -
(سفيان) بن عيينة أبو محمد، الإمام الثبت الحجة، مات سنة 198، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في (1/ 1).
3 -
(أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان المدني، ثقة فقيه، مات سنة 130، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في (7/ 7).
4 -
(الأعرج) عبد الرحمن بن هُرمُز المدني، ثقة ثبت، مات سنة 117، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في (7/ 7).
5 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في (1/ 1). والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا شيخه، فمن أفراده، وأنهم مدنيون، إلا شيخه وسفيان، فمكيان.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ أبو الزناد عن الأعرج، وأن فيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والقول. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلينّ أحدكم) بنون التأكيد، وفي رواية الشيخين:"لا يصلي أحدكم". قال ابن الأثير: كذا في الصحيحين بإثبات الياء، ووجهه أن "لا" نافية، وهو خبر بمعنى النهي.
وقال الحافظ: ورواه الدارقطني في غرائب مالك من طريق الشافعي، عن مالك بلفظ:"لا يصل" بغير ياء، ورواه الإسماعيلي من طريق الثوري، عن أبي الزناد بلفظ:"لا يصل" بغير ياء، ورواه الإسماعيلي من طريق الثوري، عن أبي الزناد بلفظ:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(في الثوب الواحد) متعلق بـ "يصلي"(ليس على عاتقه منه شيء) وفي رواية مسلم "على عاتقيه" بالتثنية، وعند أبي داود:"ليس على منكبيه منه شيء".
و"شيء": اسم "ليس" مؤخراً، وخبرها الجار والمجرور الأول، والثاني صفة لـ "شيء" قدم عليه، فيعرب حالاً؛ لأن نعت النكرة إذا قدم عليها يعرب نعتاً، كما في قول الشاعر:
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ
…
يَلُوحُ كَأنَّهُ خِلَلُ
فـ "موحشاً" صفة لـ "طلل" فلما قدم نصب على الحال. وجملة
"ليس" في محل نصب على الحال من الثوب.
يعني أنه لا يتزر بالثوب الواحد في وسطه، ويشد طرفي الثوب في حقويه، بل يتوشح بهما على عاتقيه، ليحصل الستر لجزء من أعلى البدن، وإن كان ليس بعورة، ولكون ذلك أمكن في ستر العورة
(1)
.
وقد ورد بيان كيفية الصلاة في الثوب الواحد، وهو أن يخالف بين طرفي الثوب على عاتقيه؛ وهو التوشح المذكور فيما أخرجه البخاري، وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى في ثوب فليخالف يين طرفيه". ولفظ أبي داود: "إذا صلى أحدكم في ثوب فليخالف بطرفيه على عاتقيه".
هذا فيما إذا كان الثوب يتسع لذلك، وأما إذا كان ضيقاً فليصل به متزراً، لما أخرجه الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه صلى إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتملاً بثوب واحد، فقال له:"ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟ " قال: قلت: كان ثوبًا -يعني ضاق- قال: "فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به". ولفظ مسلم: "إذا كان واسعاً فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقاً فاشدده على حَقْوِك"
(2)
. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
فتح جـ 2 ص 20.
(2)
و"الحقو" -بفتح الحاء المهملة-: موضع شد الإزار، وهو الخاصرة، ثم توسعوا حتى سموا الإزار الذي يشد على العورة حقواً، والجمع أحْقٍ، وحُقِيّ، مثل فلس =
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (18/ 769)، وفي الكبرى (6/ 845) عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن أبي عاصم النبيل، عن مالك، عن أبي الزناد به. ومسلم فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب -وأبو داود فيه عن مسدد- أربعتهم عن سفيان بن عيينة، به.
والحميدي رقم (964)، وأحمد (2/ 243، 464)، والدارمي رقم (1378)، وابن خزيمة رقم (765). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
يستفاد من الحديث النهي عن الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على عاتقه شيء منه.
= وفلوس، وقد يجمع على حقَاء، مثل سهم وسهام. أفاده في المصباح. وذكر في القاموس أن حاء الحقو يكسر أَيضاً.
قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا النهي معلل بأمرين؛ أحدهما: أن في ذلك تعري أعالي البدن، ومخالفة الزينة المسنونة في الصلاة. والثاني: أن الذي يفعل ذلك إما أن يشتغل بإمساك الثوب، أو لا، فإن لم يشتغل خيف سقوط الثوب، وانكشاف العورة، وإن شُغِلَ كان فيه مفسدتان؛ إحداهما: أنه يمنعه من الإقبال على صلاته، والاشتغال بها، الثانية: أنه إذا شغل يده في الركوع والسجود لا يؤمن من سقوط الثوب وانكشاف العورة
(1)
. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى.
وقال النووي رحمه الله: قال العلماء: حكمته أنه إذا ائتزر به، ولم يكن على عاتقه منه شيء لم يؤمن أن تنكشف عورته، بخلاف ما إذا جعل بعضه على عاتقه، ولأنه قد يحتاج إلى إمساكه بيده، أو يديه فيشغل بذلك، وتفوته سنة وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت صدره، ورفعهما حيث شرع الرفع وغير ذلك، ولأن فيه ترك ستر أعلى البدن وموضع الزينة، وقد قال الله تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31].
ثم قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي رحمهم الله تعالى، والجمهور: هذا النهي للتنزيه، لا للتحريم، فلو صلى في ثوب واحد ساتر لعورته، ليس على عاتقه منه شيء صحت صلاته مع الكراهة، سواء قدر على شيء يجعله على عاتقه، أم لا.
(1)
إحكام الأحكام جـ 2 ص 509 - 510.
وقال أحمد وبعض السلف رحمهم الله: لا تصح صلاته إذا قدر على وضع شيء على عاتقه إلا بوضعه، لظاهر الحديث. وعن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى رواية أنه تصح صلاته، ولكن يأثم بتركه.
وحجة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: "فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به". رواه البخاري، ومسلم في آخر الكتاب في حديثه الطويل
(1)
. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله: والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد. قال النووي رحمه الله: ولا خلاف في هذا إلا ما حكي عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولا أعلم صحته. وأجمعوا أن الصلاة في ثوبين أفضل.
ويدل أيضاً على المنع من الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على عاتق المصلي منه شيء. وقد حمل الجمهور هذا النهي على التنزيه. وعن أحمد: لا تصح صلاة من قدر على ذلك فتركه. وعنه أيضاً تصح ويأثم. وغفل الكرماني عن مذهب أحمد، فادّعى الإجماع على جواز ترك جعل طرف الثوب على العاتق، وجعله صارفاً للنهي عن التحريم إلى الكراهة.
وقد نقل ابن المنذر عن محمد بن علي عدم الجواز. وكلام الترمذي يدل على ثبوت الخلاف أيضاً. وعقد الطحاوي له باباً في شرح معاني
(1)
شرح مسلم جـ 4 ص 231 - 232.
الآثار، ونقل المنع عن ابن عمر، ثم عن طاوس، والنخعي، ونقله غيره عن ابن وهب، وابن جرير. وجمع الطحاوي بين الأحاديث بأن الأصل أن يصلي مشتملاً، فإن ضاق اتزر.
ونقل الشيخ تقي الدين السبكي وجوب ذلك عن الشافعي، واختاره. قال الحافظ: لكن المعروف في كتب الشافعية خلافه. واستدل الخطابي على عدم الوجوب بأنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب كان أحد طرفيه على بعض نسائه، وهي نائمة. قال: ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لأن يتزر به، ويفضل منه ما كان لعاتقه. وفيما قاله نظر لا يخفى. قاله الحافظ.
إذا تقرر لك عدم صحة الإجماع الذي جعله الكرماني صارفاً للنهي، فالواجب الجزم بمعناه الحقيقي، وهو تحريم ترك جعل طرف الثوب الواحد حال الصلاة على العاتق، والجزم بوجوبه مع المخالفة بين طرفيه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم:"من صلى في ثوب فليخالف بطرفيه". حتى ينتهض دليل يصلح للصرف. ولكن هذا في الثوب إذا كان واسعاً، جمعاً بين الأحاديث، كما صرح به في حديث جابر رضي الله عنه المتقدم.
وقد عمل بظاهر الحديث ابن حزم رحمه الله، فقال: وفَرْضٌ على الرجل إن صلى في ثوب واسع أن يطرح منه على عاتقه، أو عاتقيه، فإن لم يفعل بطلت صلاته، فإن كان ضيقاً اتزر به، وأجزأه، سواء كان معه
ثياب غيره، أو لم يكن، ثم ذكر ذلك عن نافع مولى ابن عمر، والنخعي، وطاوس.
انتهى كلام الشوكاني
(1)
رحمه الله تعالى.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله المانعون من عدم صحة الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على عاتقه منه شيء، هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، لقوة دليله، ووضوحه، وخلافه رأي لا يؤيده دليل يصلح للتمسك به. فتبصر.
والحاصل أن حديث الباب يدل على تحريم الصلاة في الثوب الواحد الواسع إذا لم يكن على عاتقه منه شيء، والنهي للتحريم، لعدم وجود صارف له، فمن صلى في ثوب واحد واسع ولم يجعل على عاتقه منه شيئاً، وهو قادر، بطلت صلاته. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
نيل الأوطار جـ 2 ص 148 - 149.
19 - الصَّلَاةُ فِي الْحَرِيرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم الصلاة في ثوب الحرير.
770 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، وَعِيسَى بْنُ حَمَّادٍ زُغْبَةُ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ:"لَا يَنْبَغِى هَذَا لِلْمُتَّقِينَ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي البغلاني أبو رجاء، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 1/ 1.
2 -
(عيسى بن حماد زُغْبة)
(1)
التُّجيبي، أبو موسى الأنصاري، مات سنة 249 وقد جاوز 90 سنة، وهو آخر من حدث عن الليث من الثقات، من [10]، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، تقدم في 135/ 211.
(1)
"زُغْبة" -بضم الزاي، وسكون المعجمة، بعدها موحدة- وهو لقبه، وهو لقب أبيه أيضاً. اهـ ت ص 270. والزّغبة في الأصل دويبة كالفأر. قاله في القاموس. ص 121.
3 -
(الليث) بن سعد، الإمام الفقيه الحجة المصري، مات سنة 175، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 31/ 35.
4 -
(يزيد بن أبي حبيب) أبو رجاء، واسم أبيه سويد، ثقة فقيه، يُرسِل، مات سنة 128 وقد قارب 80 سنة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 134/ 207.
5 -
(أبو الخير) مَرْثَد بن عبد الله الْيَزَنِي المصري، ثقة فقيه، مات سنة 90، من [3]، أخرج له الجماعة، تقدم في 38/ 582.
6 -
(عقبة بن عامر) الجُهني صحابي مشهور، اختلف في كنيته عَلَى سبعة أقوال، أشهرها أبو حماد، ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيهاً فاضلاً، مات في قرب الستين، أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.
ومنها: أن رجاله ثقات نُبلاء.
ومنها: أنهم من رجال الجماعة، غير شيخه عيسى بن حماد، فإنه من رجال مسلم وأبي داود وابن ماجه.
ومنها: أنه مسلسل بالمصريين.
ومنها: أنه مسلسل بالفقهاء.
ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي؛ يزيد عن أبي الخير.
ومنها: أنه شيخه عيسى مشهور بلقب، وهو زُغبة، وهو لقب لأبيه أيضاً، وأصل الزغبة دُويبة كالفأرة، ولا أدري سبب تلقيبه بها.
ومنها: أن "زغبة" يعرب بدلاً، أو عطف بيان لعيسى، فيكون مرفوعاً، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو زغبة، أو مفعولاً لفعل مقدر، أي: أعني زغبةَ وهذا بالإجماع، وأوجب البصريون إضافة الاسم إلى اللقب إذا كانا مفردين، كسعيد كُرْز، وإلى هذا أشار ابن مالك في الخلاصة، حيث قال:
وَإِنْ يَكُونَا مُفْرَدَيْنِ فَأَضِفْ
…
حَتْمًا وَإلاَّ أَتْبِعِ الَّذِي رَدِفْ
ومنها: أنه يُقَدّر قبل قوله: "عن الليث" لفظ "كلاهما"، يعني أن قتيبة وعيسى يرويان هذا الحديث عن الليث. وقد تقدم هذا غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عقبة بن عامر) الجهني رضي الله عنه، أنه (قال: أهدي) -بضم الهمزة- قال الفَيّومي: يقال: أهديتُ للرجل كذا -بالألف-: بعثتُ به إليه إكراماً، فهو هديّة بالتثقيل، لا غير
(1)
(لرسول الله صلى الله عليه وسلم) متعلق بـ "أُهدي".
(1)
المصباح جـ 2 ص 636.
والذي أهدى إليه هو أُكَيدر بن عبد الملك صاحب دُومة الجَندَل
(1)
. وذكر أبو نعيم أنه أسلم، وأهدَى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حُلَّةَ سِيَرَاء. ومن قال: إنه أسلم فقد أخطأ خطأ ظاهراً، وكان نصرانياً، ولما صالحه النبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى حصنه، وبقي فيه، ثم إن خالداً أسره لَمّا حاصر دُومة الجندل أيام أبي بكر رضي الله عنه، فقتله مشركاً نصرانياً. قاله العيني
(2)
.
(فَرُّوجُ حرير) وفي رواية ابن إسحاق عند أحمد "فروج من حرير". والفرّوج -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وآخره جيم-: هو القباء المُفَرَّجُ من خلف، وحكى أبو زكريا التّبريزي، عن أبي العلاء المعريّ جواز ضم أوله، وتخفيف الراء. قاله في الفتح
(3)
. وقال ابن منظور: والفَرُّوج -بفتح الفاء-: القَبَاء؛ وقيل: الفرُّوج قباء فيه شق من خلفه. اهـ
(4)
.
وقال العلامة العيني رحمه الله: قوله: "فرّوج حرير" بالإضافة، كما في ثوب خَزّ، وخاتم حديد، ويجوز أن يكون "حرير" صفة
(1)
"أُكيدر" بضم الهمزة، و"دُومة الجندل": اسم حصن، قال الجوهري: أصحاب اللغة يقولون بضم الدال، وأهل الحديث يفتحونها، وهو اسم موضع فاصل بين الشام والعراق على سبعة مراحل من دمشق، وعلى ثلاثة عشر مرحلة من المدينة. اهـ. عمدة القاري جـ 4 ص 97.
(2)
عمدة القاري جـ 4 ص 97.
(3)
جـ 2 ص 38.
(4)
لسان العرب جـ 5 ص 3371.
لـ "فرّوج"، والإعراب يحتمل ذلك، والكلام في الرواية، والظاهر أنه الأول. اهـ
(1)
.
(فلبسه، ثم صلّى فيه) زاد في رواية ابن إسحاق، وعبد الحميد ابن جعفر عند أحمد:"ثم صلى فيه المغرب".
وقال الحافظ رحمه الله: وظاهر هذا الحديث أن صلاته صلى الله عليه وسلم فيه كانت قبل تحريم لبس الحرير، ويدل على ذلك حديث جابر عند مسلم بلفظ:"صلى في قباء ديباج، ثم نزعه، وقال: "نهاني عنه جبريل"، ويدل عليه أيضاً مفهوم قوله: "لا ينبغي هذا للمتقين"؛ لأن المتقي وغيره في التحريم سواء. ويحتمل أن يراد بالمتقي المسلم، أي المتقي للكفر، ويكون النهي سبب النزع، ويكون ذلك ابتداء التحريم.
وإذا تقرر هذا فلا حجة فيه لمن أجاز الصلاة في ثياب الحرير، لكونه صلى الله عليه وسلم لم يعد تلك الصلاة؛ لأن ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم، أما بعده فعند الجمهور تجزىء لكن مع التحريم، وعن مالك يعيد في الوقت
(2)
.
وقال العيني رحمه الله: قال أصحابنا -يعني الحنفية- تصح الصلاة، ولكنها تكره، ويأثم لارتكابه الحرام، وبه قال الشافعي،
(1)
عمدة جـ 4 ص 97.
(2)
فتح جـ 2 ص 38.
وأبو ثور. وقال القاسم عن مالك: من صلى في ثوب حرير يعيد في الوقت إن وجد ثوباً غيره، وعليه جل أصحابه. وقال أشهب: لا إعادة عليه في الوقت، ولا في غيره، وهو قول أصبغ، وخفف ابن الماجشون لباسه في الحرب والصلاة للترهيب على العدو والمباهاة. وقال آخرون: إن صلى فيه، وهو يعلم أن ذلك لا يجوز يعيد
(1)
. والله أعلم.
(ثم انصرف) وفي رواية ابن إسحاق: "فلما قضى صلاته"، وفي رواية عبد الحميد:"فلما سلم من صلاته"، وهو المراد بالانصراف في رواية الليث (فنزعه نزعاً شديداً) زاد أحمد في روايته عن حجاج، وهاشم:"عَنِيفاً" أي بقوة ومبادرة لذلك، على خلاف عادته في الرفق والتأني.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا مما يؤكد أن التحريم وقع حينئذ (كالكاره له) زاد أحمد في رواية عبد الحميد بن جعفر: "ثم ألقاه، فقلنا: يا رسول الله، قد لبسته، وصليت فيه"(ثم قال: لا ينبغي هذا) يحتمل أن تكون الإشارة للبس، أي لا يحل هذا اللبس، ويحتمل أن تكون للحرير، فيتناول غير اللبس من الاستعمال، كالافتراش أي لا يحل استعمال هذا الحرير.
قال الفيّومي رحمه الله: "وينبغي أن يكون كذا": معناه يندب ندباً
(1)
عمدة القاري جـ 4 ص 99.
مؤكداً، لا يحسن تركه، واستعمال ماضيه مهجور، وقد عَدُّوا "ينبغي" من الأفعال التي لا تتصرف، فلا يقال: انبغي، وقيل في توجيهه: إن انبغى مطاوع بَغَى، فلا يستعمل انفعل في المطاوعة إلا إذا كان فيه علاج وانفعال، مثل كسرته فانكسر، وكما لا يقال: طلبته فانطلب، وقصدته فانقصد، لا يقال: بغيته فانبغى؛ لأنه لا علاج فيه. وأجازه بعضهم، وحكي عن الكسائي أنه سمعه من العرب.
وما ينبغي أن يكون كذا: أي ما يستقيم، أو ما يحسن. انتهى
(1)
.
قال الجامع: المناسب هنا المعنى الأول، أي ما يستقيم هذا؛ لأنه محرم. والله أعلم.
(للمتقين) أي المتقين الكفر أو المعاصيَ كلها. وقال ابن بطال: يمكن أن يكون نزعه لكونه حريراً صِرْفاً، ويمكن أن يكون نزعه لأنه من جنس لباس الأعاجم، وقد ورد حديث ابن عمر رفعه:"من تشبه بقوم فهو منهم" أخرجه أبو داود بسند حسن.
قال الحافظ: وهذا التردد مبني على تفسير المراد بالمتقين، فإن كان المراد به مطلق المؤمن حمل على الأول، وإن كان المراد به قدراً زائداً على ذلك حمل على الثاني. والله أعلم.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: اسم التقوى يعم
(1)
المصباح جـ 2 ص 57.
جميع المؤمنين، لكن الناس فيه على درجات. قال الله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [المائدة: 93]. فكل من دخل في الإسلام فقد اتقى، أي وقى نفسه من الخلود في النار، وهذا مقام العموم، وأما مقام الخصوص فهو الإحسان، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أن تعبد الله كأنك تراه" انتهى. وقد رجح عياض رحمه الله أن المنع فيه لكونه حريراً.
وقال القرطبي رحمه الله في المفهم: المراد بالمتقين المؤمنون؛ لأنهم الذين خافوا الله تعالى، واتقوه بإيمانهم وطاعتهم له. وقال غيره: لعل هذا من باب التهييج للمكلف على الأخذ بذلك؛ لأن من سمع أن من فعل ذلك كان غير متق، فَهِم منه أنه لا يفعله إلا المستخف، فيأنف من فعل ذلك، لئلا يوصف بأنه غير متق.
قال البدر العيني رحمه الله: فإن قلت: النساء يدخلن فيهم مع أن الحرير حلال لهن. قلت: هذه مسألة مختلف فيها، والأصح أن جمع المذكر السالم لا يدخل فيه النساء، فلا يقتضي الاشتراك، ولئن سلمنا دخولهن فالحل لهن علم بدليل آخر. اهـ
(1)
. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
(1)
عمدة جـ 4 ص 98.
حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا متفق عليه. والله أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (19/ 770)، وفي الكبرى (7/ 846) عن قتيبة، وعيسى بن حماد، كلاهما عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عنه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله ابن يوسف، وفي "اللباس" عن قتيبة -كلاهما عن الليث، به.
ومسلم في "اللباس" عن قتيبة به. وعن أبي موسى، عن أبي عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب به.
وأحمد (4/ 243، 249، 150). وابن خزيمة رقم (774). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: جواز الصلاة في ثوب الحرير، والظاهر أن هذا هو مراد المصنف رحمه الله تعالى بالترجمة، ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم لم يعد تلك الصلاة، فدل على جوازها في الحرير، لكن هذا إنما يتم إن قلنا بأن تلك الصلاة وقعت بعد تحريم الحرير على الرجال، وقد تقدم ترجيح كون نزعه للفَرُّوج ابتداء التحريم، فالصلاة وقعت قبله. والله أعلم.
ومنها: أنه يدل على تحريم الحرير على الرجال دون النساء؛ لأن
اللفظ لا يتناولهن على الراجح، ودخولهن بطريق التغليب مجاز يمنع منه ورود الأدلة الصريحة على إباحته لهن.
ومنها: أن الصبيان لا يحرم عليهم لبسه؛ لأنهم لا يوصفون بالتقوى. وقد قال الجمهور بجواز إلباسهم ذلك في نحو العيد، وأما في غيره فكذلك في الأصح عند الشافعية، وعكسه عند الحنابلة، وفي وجه ثالث يمنع بعد التمييز.
ومنها: أنه لا كراهة في لبس الثياب الضيقة والمُفَرّجة لمن اعتادها، أو احتاج إليها
(1)
.
ومنها: أن فيه جواز قبول هدية المشرك للإمام لمصلحة يراها. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة:
قال العلامة أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في لباس الحرير على عشرة أقوال: الأول: محرم بكل حال، والثاني: محرم إلا في الحرب، والثالث: يحرم إلا في السفر، والرابع: يحرم إلا في المرض، والخامس: يحرم إلا في الغزو، والسادس: يحرم إلا في العَلَم، والسابع: يحرم على الرجال والنساء، والثامن: يحرم لبسه من فوق، دون لبسه من أسفل، وهو الفرش. قاله أبو حنيفة، وابن الماجشون، والتاسع: مباح بكل حال، والعاشر: يحرم، وإن خلط مع
(1)
فتح جـ 11 ص 446.
غيره، كالخزّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الجمهور على تحريم الحرير على الرجال دون النساء، إلا فيما استثني؛ كالمرض، ونحوه، وسيأتي تحقيق هذه الأقوال بأدلتها مستوفى في "كتاب الزينة" إن شاء الله تعالى.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
انظر عمدة القاري جـ 4 ص 98.
20 - الرُّخْصَةُ فِي الصَّلَاةِ فِي خَميصَةٍ لَهَا أعْلَامٌ
أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على الرخصة في الصلاة في خميصة لها أعلام.
"الرخصة" وزان غرفة، وتضم الخاء للإتباع، وجمعه رُخَصٌ، ورُخُصات، مثل غُرَف، وغُرُفات: التسهيل، والتيسير
(1)
.
"الخميصة": -بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم، بعدها صاد مهملة-: كساء أسود مُعْلَمُ الطرفين، ويكون من خزّ، أو صوف، فإن لم يكن معلماً فليس بخميصة. قاله الفيومي
(2)
.
وقال العيني رحمه الله: كساء أسود مربع، له علمان، أو أعلام، ويكون من خزّ، أو صوف، ولا تسمى خَمِيصة إلا أن تكون سوداء معلمة، سميت بذلك للينها ورقتها وصغر حجمها إذا طويت، ومأخوذ من الخَمَص، وهو ضمور البطن. وقال ابن حبيب في شرح الموطأ: الخميصة كساء صوف، أو مِرْعِزَّى
(3)
معلم الصنعة
(4)
.
و"الأعلام" -بالفتح-: جمع عَلَم -بفتحتين- مثل سبب وأسباب،
(1)
المصباح جـ 1 ص 224.
(2)
المصباح جـ 1 ص 182.
(3)
"المِرْعزُّ، والمِرْعِزَّى، ويمد إذا خفف، وقد تفتح الميم في الكل: الزَّغَب الذي تحت شعر العَنْز. اهـ. "ق".
(4)
عمدة القاري جـ 4 ص 93.
يقال: أعلمت الثوب: جعلتُ له علَمًا من طِراز وغيره
(1)
. والله تعالى أعلم.
771 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ، لَهَا أَعْلَامٌ، ثُمَّ قَالَ: شَغَلَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَائْتُونِى بِأَنْبِجَانِيِّهِ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) الحنظلي تقدم قبل بابين.
2 -
(قتيبة بن سعيد) تقدم في السند الماضي.
3 -
(سفيان) بن عيينة، تقدم قبل باب.
4 -
(الزهري) محمد بن مسلم المدني، الإمام الحجة الثبت، من [4]، تقدم في 1/ 1.
5 -
(عروة بن الزبير) بن العوام المدني، الفقيه الثبت، من [3]، تقدم في 40/ 44.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
(1)
المصباح جـ 2 ص 427.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، من رجال الجماعة، وفيه رواية تابعي، عن تابعي.
ومنها: قوله: "واللفظ له" أي لفظ الحديث لقتيبة، وأما إسحاق، فرواه بالمعنى، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة) تقدم ضبطها وتفسيرها في أول الباب (لها أعلام) جملة في محل جر صفة لـ "خميصة"(ثم قال: شغلتني أعلام هذه) أي كادت تشغلني، وتلهيني عن كمال الحضور في الصلاة، وليس المراد أنها شغلته بالفعل؛ ففي رواية البخاري:"كنت أنظر إلى علمها، وأنا في الصلاة، فأخاف أن تفتنني". وفي رواية مالك في الموطأ: "فإني نظرت إلى علمها في الصلاة، فكاد يفتنني".
فإطلاق رواية الباب للمبالغة في القرب، لا لتحقق وقوع الشغل، وعلى تقدير وقوعه له صلى الله عليه وسلم، فليس فيه نقص في حقه؛ لأنه بشر يؤثر فيه ما يؤثر في البشر من الأمور التي لا تؤدي إلى نقص في مرتبته الشريفة صلى الله عليه وسلم. أفاده في "المنهل"
(1)
.
(1)
جـ 6 ص 9 - 10.
وقال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله: أثبت في هذه الرواية -يعني رواية الشيخين- إِلْهَاَءَ الخميصة له بقوله: "فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي"، وقال في رواية مالك:"نظرت إلى علمها في الصلاة، فكاد يفتنني". قال ابن عبد البرّ: فيه دليل على أن الفتنة لم تقع. قال: والفتنة هنا الشغل عن خشوع الصلاة. انتهى.
فيحتمل أن يقال: الفتنة فوق الإلهاء، فلهذا أثبته، ولم يثبت الفتنة، ويحتمل أن يقال: هما واحد، ويكون قوله:"ألهتني" أي كادت، وقاربت، كما يقول المؤذن في الإقامة:"قد قامت الصلاة" أي قد قرب إقامتها. والله أعلم
(1)
.
وقال السندي في شرحه: قوله: "شغلتني أعلام هذه" هذا مبني على أن القلب قد بلغ من الصفاء عن الأغيار الغايةَ حتى يظهر فيه أدنى شيء، يظهر لك ذلك إذا نظرت إلى ثوب بلغ في البياض الغاية، وإلى ما دون ذلك، فيظهر في الأول من أثر الوسخ ما لا يظهر في الثاني. والله أعلم. انتهى
(2)
.
(اذهبوا بها) أي بالخميصة (إِلى أبي جهم) -بفتح الجيم، وسكون الهاء- ابن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج ابن عديّ بن كعب القرشي العدوي. قال البخاري وجماعة: اسمه
(1)
طرح التثريب جـ 2 ص 380.
(2)
جـ 2 ص 72.
عامر، وقيل: اسمه عبيد -بالضم- قاله الزبير بن بكار وابن سعد، وقالا: إنه من مسلمة الفتح. وقال البغوي، عن مصعب: كان من مُعَمّري قريش، ومن مشيختهم.
وحكى ابن منده أن أبا عاصم فرق بين أبي جهم ابن حذيفة، وعبيد ابن حُذيفة. قال الزبير: كان من مشيخة قريش، وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب، قال: وقال عمي: كان من المعمرين، حضر بناء الكعبة مرتين؛ حين بنتها قريش، وحين بناها ابن الزبير، وهو أحد الأربعة الذين تولوا دفن عثمان.
وأخرج البغوي من طريق حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لما أصيب عثمان أرادوا الصلاة عليه، فَمُنِعُوا، فقال أبو جَهْم: دعوه؛ فقد صلى الله عليه ورسوله.
وأخرج ابن أبي عاصم في كتاب الحكماء من طريق عبد الله بن الوليد، عن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي الجهم، قال: سمعت أبا الجهم يقول: لقد تركت الخمر في الجاهلية، وما تركتها إلا خشية على عقلي، وما فيها من الفساد. مات في آخر خلافة معاوية. قاله ابن سعد. ويقال: إنه وفد على معاوية، ثم على ابنه يزيد، وهذا يدل على أنه تأخرت وفاته. والله أعلم. انتهى ملخصاً من "الإصابة"
(1)
.
(1)
جـ 11 ص 66 - 67.
قال في "الفتح": وإنما خصه صلى الله عليه وسلم بإرسال الخميصة إليه لأنه كان أهداها له صلى الله عليه وسلم، كما رواه مالك في الموطأ من طريق أخرى عن عائشة قالت:"أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة لها علم، فشهد فيها الصلاة، فلما انصرف قال: "رُدَّي هذه الخميصة إلى أبي جهم".
ووقع عند الزبير بن بكار ما يخالف ذلك، فأخرج من وجه مرسل "أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما، وبعث الأخرى إلى أبي جهم"، ولأبي داود من طريق أخرى "وأخذ كرديّاً لأبي جهم، فقيل: يا رسول الله، الخميصة كانت خيراً من الكرديّ".
وقال ابن بطال: إنما طلب منه ثوباً غيرها ليُعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافاً به. قال: وفيه أن الواهب إذا ردت عليه عطيته من غير أن يكون هو الراجع فيها فله أن يقبلها من غير كراهة. قال الحافظ رحمه الله: وهذا مبني على أنها واحدة، ورواية الزبير والتي بعدها تصرح بالتعدد. انتهى
(1)
.
(وائتوني بأَنْبَجَانِيِّهِ) قال في النهاية: المحفوظ بكسر الباء، ويروى بفتحها، يقال: كساء أنْبَجَاني منسوب إلى مَنْبِج المدينة المعروفة، وهي مكسورة الباء، ففتحت في النسب، وأبدلت همزة. وقيل: إنها منسوبة إلى موضع اسمه أنبجان، وهو أشبه، والأول فيه
(1)
فتح جـ 2 ص 36.
تعسف. وهو كساء يتخذ من الصوف، وله خَمْلٌ، ولا عَلَمَ له، وهو من أدون الثياب الغليظة، قال: وإنما بعث الخميصة إلى أبي جهم لأنه هو الذي أهداها له، وإنما طلب منه الأنبجاني لئلا يؤثّر رَدّ الهدية في قلبه. والهمزة زائدة في قول
(1)
.
وقال القاضي عياض: يروى بفتح الهمزة، وكسرها، وبفتح الباء وكسرها، وبتشديد الياء وتخفيفها.
وقال البدر العيني رحمه الله: قد اختلفوا في ضبط هذا اللفظ، ومعناه؛ فقيل: بفتح الهمزة، وسكون النون، وكسر الباء الموحدة، وتخفيف الجيم، وبعد النون ياء النسبة. وقال ثعلب: يقال: كبش أنبجاني -بكسر الباء، وفتحها-: إذا كان ملتفّاً كثير الصوف، وكساء أنبجاني كذلك.
وقال الجوهري: إذا نسبت إلى مَنْبِج فتحت الباء، فقلت: كساء مَنَبجاني، أخرجوه مخرج مَخْبَراني، ومَنْظَرَاني.
وقال أبو حاتم في لحن العامة: لا يقال: كساء أنبجاني، وهذا مما تخطىء فيه العامة، وإنما يقول: مَنْبَجَاني -بفتح الميم والباء، قال: وقلت للأصمعي: لِمَ فتحت الباء، وإنما نسب إلى مَنبِج -بالكسر-؟، قال خرج مخرج منظراني، ومخبراني، قال: والنسب مما يُغَيِّرُ البناءَ.
(1)
النهاية في غريب الحديث جـ 1 ص 73 بتغيير يسير.
وقال القزاز في الجامع: والنِّبَاج موضع تنسب إليه الثياب المنبجانية. وفي الجمهرة: ومَنْبِج موضع أعجمي، وقد تكلمت به العرب، ونسبوا إليه الثياب المنبجانية. وفي المحكم: إن منبج موضع.
قال سيبويه: الميم فيه زائدة بمنزلة الألف؛ لأنها إنما كثرت مزيدة أوّلاً فموضع زيادتها كموضع الألف، وكثرتها ككثرتها إذا كانت أوّلاً في الاسم والصفة، وكذلك النِّبَاج، وهما نبَاجان؛ نباج ثَيْتَل، ونباج ابن عامر
(1)
، وكساء منبجاني منسوب إليه على غير قياس.
وفي المغيث: المحفوظ كسر باء الأنبجاني. وقال ابن الحصار في تقريب المدارك: من زعم أنه منسوب إلى منبج فقد وَهِمَ.
ومنبج -بفتح الميم، وسكون النون، وكسر الباء الموحدة، وفي آخره جيم-: بلدة من كور قِنِّسْرِين، بناها بعض الأكاسرة الذي غلب على الشام، وسماها منبه، وبنى بها بيت نار، ووكل بها رجلاً، فعربت، فقيل: منبج، والنسبة إليها منبجي على الأصل، ومنبجاني على غير قياس، والباء تفتح في النسبة، كما يقال في النسبة إلى صَدِف -بكسر الدال- صَدَفي -بفتحها- ومن هذا قال ابن قرقول: نسبة إلى منبج -بفتح الميم، وكسر الباء- ويقال: نسبة إلى موضع، يقال له:
(1)
وفي اللسان: النِّباج، وهما نباجان؛ نباج ثَيْتَلَ، ونباج ابن عامر. وقال الجوهري: والنِّبَاج قرية بالبادية أحياها عبد الله بن عامر. وقال الأزهري: وفي بلاد العرب نِبَاجان: أحدهما على طريق البصرة، يقال له نباج بني عامر، وهو بحذاء فَيْد، والنباج الآخر نباج بني سَعْد بالقريتين. اهـ جـ 6 ص 4320.
أنبجان، وعن هذا قال ثعلب: يقال: كساء أنبجاني، وهذا هو الأقرب إلى الصواب في لفظ الحديث.
وأما تفسيرها، فقال عبد الملك بن حبيب في شرح الموطأ: هي كساء غليظ، يشبه الشملة، يكون سداه قطناً غليظاً، أو كتاناً غليظاً، ولحمته صوف، ليس بالمبرم في فتله لين غليظ، يلتحف به في الفراش، وقد يشتمل به في شدة البرد. وقيل: هي من أدون الثياب الغليظة تتخذ من الصوف، ويقال: هو كساء غليظ لا عَلَمَ له، فإذا كان للكساء علم فهو خميصة، وإن لم يكن فهو أنبجانية. انتهى كلام العيني
(1)
. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (20/ 771)، وفي الكبرى (8/ 847) بالسند المذكور. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ فأخرجه
(1)
عمدة القاري جـ 4 ص 93.
البخاري في "الصلاة" عن قتيبة، ومسلم فيه عن عمرو الناقد، وزهير ابن حرب، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبو داود فيه، وفي "اللباس" عن عثمان بن أبي شيبة، وابن ماجه في "اللباس" -عن أبي بكر بن أبي شيبة- كلهم عن سفيان ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عنها.
وأخرجه الحميدي: رقم 172 - وأحمد: (6/ 37، 46، 208، 199)، وابن خزيمة: رقم (928، 929). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو صحة الصلاة في خميصة لها أعلام، وأن غيره أولى، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها، ولم يعد تلك الصلاة، بل أمر بإبعادها عنه خوف الافتتان بها؛ فدل على صحتها.
قال النووي رحمه الله: فيه أن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر في شاغل ونحوه مما ليس متعلقاً بالصلاة، وهذا بإجماع الفقهاء. وحكي عن بعض السلف والزهاد ما لا يصح عمن يعتد به في الإجماع. قال أصحابنا -يعني الشافعية-: يستحب له النظر إلى موضع سجوده، ولا يتجاوزه. قال بعضهم: يكره تغميض عينيه، وعندي لا يكره إلا أن يخاف ضرراً. انتهى
(1)
.
(1)
شرح مسلم جـ 5 ص 44.
ومنها: أن فيه الاجتهادَ في كمال حضور القلب في الصلاة، وتدبر أذكارها، وتلاوتها، ومقاصدها من الانقياد والخضوع لله عز وجل، ومنع النظر من الامتداد إلى ما يشغل القلب، وإزالة ما يخاف اشتغاله به، وكراهية تزويق محراب المسجد وحائطه ونقشه، وغير ذلك من الشاغلات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة في إزالة الخميصة هذا المعنى. أفاده النووي رحمه الله تعالى
(1)
.
واستدل به بعض المالكية على كراهة غرس الأشجار في المساجد لما فيه من شغل المصلي بذلك
(2)
.
ومنها: جواز لبس الثوب الذي له علم، وكذلك الكساء ونحوه.
ومنها: أن اشتغال الفكر في الصلاة يسيراً غير قادح في صحتها.
ومنها: ما قال صاحب المفهم: فيه سد الذرائع، والانتزاع عما يشغل الإنسان عن أمور دينه.
ومنها: ما قال ابن بطال: فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم آنس أبا جهم حين ردها إليه بأن سأله ثوباً مكانها ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافاً به، ولا كراهة للبسه. وقال صاحب المفهم: وفيه قبول الهدايا من الأصحاب، واستدعاؤه صلى الله عليه وسلم أنبجانية أبي جهم تطييب لقلبه، ومباسطة معه، وهذا مع من يعلم طيب نفسه، وصفاء ودّه جائز.
(1)
المصدر السابق.
(2)
طرح جـ 2 ص 378.
ومنها: أن الواهب والمهدي إذا ردت إليه عطيته، من غير أن يكون هو الراجع فيها، فله أن يقبلها، إذ لا عار عليه في قبولها. قاله ابن بطال، وابن عبد البر.
ومنها: أن للإنسان أن يشتري ما أهداه بخلاف الصدقة. قاله أبو الوليد الباجي رحمه الله تعالى.
ومنها: ما قاله الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله تعالى: جرت عادة الأنبياء والصالحين بإخراج ما شغلهم عن بعض العبادات عن ملكهم رأساً، وكذلك ما أعجبهم من ملكهم، كما قال الله تعالى في حق سليمان عليه السلام:{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 32، 33].
وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم الخميصة عن ملكه، ورمى بالخاتم أيضاً لما شغله، كما رواه النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً، ولبسه، قال:"شغلني هذا عنكم منذ اليوم، إليه نظرة، وإليكم نظرة، ثم ألقاه".
وأما نزعه خاتم الذهب عند التحريم فهو متفق عليه من حديث ابن عمر.
وفي "الصحيحين" من حديث أنس أنه كان من فضة. وقال القرطبي: إنه وَهَمٌ. قال ولي الدين رحمه الله: ولعله كان لما شغله عنهم، وإن كان فضة، فيكون لا لحرمته، ولكن لاشتغاله به عنهم، ولا
حاجة حينئذ إلى الحكم عليه بالوهم. والله أعلم.
قال: وروينا في الزهد لابن المبارك عن مالك، عن أبي النضر، قال: انقطع شراك نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصله بشيء جديد، فجعل ينظر إليه، وهو يصلي، فلما قضى صلاته قال: انزعوا هذا، واجعلوا الأول مكانه، فقيل: كيف يا رسول الله؟ قال: إني كنت أنظر إليه وأنا أصلي.
وروى محمد بن خفيف الشيرازي بإسناده إلى عائشة أنه صلى الله عليه وسلم احتذى نعلاً، فأعجبه حسنها، ثم خرج بها، فدفعها إلى أول مسكين لقيه، ثم قال: اشتر لي نعلين مخصوفتين.
وروى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائطه، فطار دُبْسِيّ
(1)
، فطفق يتردد يلتمس مخرجاً، فأعجبه ذلك، فجعل يتبعه ببصره ساعة، ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة، وقال: يا رسول الله، هو صدقة لك، فضعه حيث شئت. انتهى كلام ولي الدين رحمه الله تعالى
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"الدُّبْسِيّ" -بالضم ضرب من الفواخيت، قيل: نسبة إلى طير دُبْسٍ، وهو الذي لونه بين السواد والحمرة. اهـ. المصباح جـ 1 ص 189. والفواخيت جمع فاختة: طائر معروف. "ق" ص 201.
(2)
طرح التثريب جـ 2 ص 379.
المسألة الخامسة: في الأسئلة والأجوبة:
فإِن قيل: كيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالخميصة إلى أبي جهم، وقد أخبر عن نفسه بأنها ألهته في صلاته مع قوته صلى الله عليه وسلم، فكيف لا تشغل أبا جهم عن صلاته؟
أجيب: بأنه لم يبعث بها إليه ليلبسها في الصلاة، بل لينتفع بها في غير الصلاة، كما قال في حلة عُطارد لعمر رضي الله عنه:"إني لم أبعث بها إليك لتلبسها"
…
قاله ولي الدين العراقي رحمه الله
(1)
. وقال في الفتح: ويحتمل أن يكون ذلك من جنس قوله: "كل فإني أناجي من لا تناجي" انتهى
(2)
.
فإِن قيل: كيف يخاف الافتتان من لا يلتفت إلى الأكوان {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17].
أجيب بأنه كان في تلك الليلة خارجاً عن طباعه، فأشبه ذلك نظره من ورائه، فأما إذا ردّ إلى طبعه البشري، فإنه يؤثر فيه ما يؤثر في البشر.
فإِن قيل: إن المراقبة شغلت خلقاً من أتباعه حتى وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار، ولم يعلم به.
(1)
طرح جـ 2 ص 378.
(2)
جـ 2 ص 36.
أجيب بأن أولئك يؤخذون عن طباعهم، فيغيبون عن وجودهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص قال:"لست كأحدكم"، وإذا سلك طريق غيرهم قال:"إنما أنا بشر"؛ فنزع الخميصة يكون من الثاني
(1)
. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
"عمدة القاري" بتصرف جـ 4 ص 94 - 95.
21 - الصَّلَاةُ فِي الثِّيَابِ الْحُمْرِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز الصلاة في الثياب الحُمْر.
"الحمر" -بضم فسكون-: جمع أحمر، كما قال في "الخلاصة":
فُعْلٌ لِنَحْوِ أَحْمَرٍ وَحَمْرَا
…
وَفِعْلَةٌ جَمْعًا بِنَقْلٍ يُدْرَى
772 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، فَرَكَزَ عَنَزَةً، فَصَلَّى إِلَيْهَا، يَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْكَلْبُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(محمد بن بشار) أبو بكر بندار البصري، ثقة ثبت، مات سنة 252، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 24/ 27.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهدي، الإمام الحجة الثبت، أبو سعيد البصري، مات سنة 198، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 49.
3 -
(سفيان) بن سعيد الثوري، الإمام الحجة الثبت الكوفي، مات سنة 161، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 33/ 37.
4 -
(عون بن أبي جُحَيفة) السُّوائي الكوفي، ثقة، مات سنة 116، من [4]، تقدم في 103/ 137.
5 -
(أبو جحيفة) وهب بن عبد الله، ويقال: اسم أبيه وهب أيضاً، السُّوائي الصحابي رضي الله عنه، ويقال له: وهب الخير، مات سنة 74، أخرج له الجماعة. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من خماسيات المصنف، وأن رواته كلهم ثقات، وكلهم من رجال الجماعة، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول من غير واسطة، وقد تقدموا غير مرة. وفيه رواية الراوي عن أبيه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه) وهب بن عبد الله رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في حلة) -بضم الحاء المهملة، وتشديد اللام- جمعه حُلل، كغرفة، وغرف، قال الفيومي: الحُلَّة -بالضم- لا تكون إلا ثوبين من جنس واحد. اهـ
(1)
.
(1)
المصباح جـ 1 ص 148.
وفي اللسان: وقال اليمامي: الحلة كل ثوب جيّد جديد تلبسه، غليظٍ، أو دقيقٍ، ولا يكون إلا ذا ثوبين، وقال ابن شُمَيل: الحلة القميص والإزار والرداء، لا تكون أقل من هذه الثلاث. وقال شَمِرٌ: الحلة عند الأعراب ثلاثة أثواب. وقال ابن الأعرابي: يقال للإزار والرداء حلة، ولكل منهما على انفراده حلة. قال الأزهري: وأما أبو عبيد، فإنه جعل الحلة ثوبين. والجمع حُلَل، وحِلَالٌ. أنشد ابن الأعرابي (من الرجز):
لَيْسَ الْفَتَى بِالْمُسْمِنِ الْمُخْتَالِ
…
وَلَا الَّذِي يَرْفُلُ فِي الْحِلَالِ
اهـ. عبارة "اللسان" باختصار
(1)
.
(حمراء) صفة لـ "حلّة"، فيه جواز الصلاة في الثياب الحُمْر، وهو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك الحنفية؛ فقالوا بالكراهة، وتأولوا حديث الباب بأنها كانت حُلّة من برود فيها خطوط حُمْر، ومن أدلتهم ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو، قال: مَرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم رجل، وعليه ثوبان أحمران، فسلم عليه فلم يرد عليه". وهو حديث ضعيف الإسناد
(2)
، وإن وقع في بعض نسخ الترمذي أنه قال: حديث حسن.
وعلى تقدير أن يكون مما يحتج به فقد عارضه ما هو أقوى منه، وهو واقعة عين، فيحتمل أن يكون ترك الردّ عليه بسبب آخر. وحمله البيهقي على ما صبغ بعد النسج، وأما ما صبغ غزله، ثم نسج فلا
(1)
جـ 1 ص 978.
(2)
لأن في سنده أبا يحيى القَتَّات، ضعفه الأكثرون، وقال في "ت": لين الحديث.
كراهة فيه.
وقال ابن التين: زعم بعضهم أن لبس النبي صلى الله عليه وسلم لتلك الحلة كان من أجل الغزو. وفيه نظر؛ لأنه كان عقب حجة الوداع، ولم يكن له إذ ذاك غزو. أفاده الحافظ في الفتح
(1)
واعترض عليه العيني فيما نقله عن الحنفية بما فيه تعسف
(2)
.
(فركز عَنَزَة) يقال: ركَزَ الرمحَ رَكْزًا، من باب قتل: أثبته بالأرض. والعَنَزَة -بفتحات-: عَصًا أقصر من الرمح، ولها زُجّ
(3)
، من أسفلها، والجمع عَنَزٌ، وعَنَزَات، مثل قصَبٍ، وقَصَبَات. قاله في المصباح.
ثم إن معنى قوله: "رَكَزَ": أمر بركزها، فقد بينت الروايات الأخرى أن الذي ركزها هو بلال رضي الله عنه، ففي رواية البخاري من طريق عمر بن أبي زائدة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدَم، ورأيت بلالاً أخذ وَضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت الناس يبتدرون ذاك الوَضوء، فمن أصاب منه شيئاً تمسح به، ومن لم يصب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه، ثم رأيت بلالاً أخذ عنزة، فركزها، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مشمراً، صلى إلى العنزة بالناس ركعتين، ورأيت الناس والداوب يمرون من بين يدي العنزة".
(1)
جـ 2 ص 39.
(2)
انظر عمدة القاري جـ 4 ص 99.
(3)
الزُّج بالضم: الحديدة في أسفل الرمح، جمعه زِجَاج، وزِجَجَة .. "ق".
ولفظ مسلم: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، فخرج بلال بوَضوئه، فمن نائل وناضح، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، عليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بياض ساقيه، قال: فتوضأ، وأذّن بلال، قال: فجعلت أتتبع فاه هاهنا، وهاهنا، يقول يميناً وشمالاً يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح. قال: ثم ركزت له عنزة، فتقدم، فصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين، حتى رجع إلى المدينة".
(فصلى إِليها) أي صلى الظهر والعصر، لما في رواية البخاري من طريق شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، قال سمعت أبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم بالبطحاء -وبين يديه عنزة- الظهر ركعتين، والعصر ركعتين
…
الحديث (يمر من ورائها الكلب، والمرأة، والحمار) الجملة حال من الضمير المجرور، وفيه دليل على أن مرور هذه الأشياء وراء السترة لا يضر بالصلاة، وقد تقدم الكلام في ذلك مستوفى في أبواب السترة، فارجع إليه تزدد علماً. وبالله التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي جحيفة رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (21/ 772)، والكبرى (9/ 848) عن محمد بن
بشار، عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري، عن عون، عنه (103/ 137)، والكبرى (91/ 136)، عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن مالك بن مغول، عن عون عنه (13/ 643)، والكبرى (16/ 1607) عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان به. (123/ 5378)، والكبرى (119/ 9827)، عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان به. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن محمد بن عرعرة، عن عمر بن أبي زائدة -وعن أبي الوليد، عن شعبة- وعن آدم، عن شعبة -وعن إسحاق ابن منصور، عن جعفر بن عون، عن أبي العميس- وعن محمد بن يوسف، عن سفيان -وفي "صفة النبي صلى الله عليه وسلم " عن الحسن بن الصباح، عن محمد بن سابق، عن مالك بن مغول- وعن إسحاق، عن ابن شميل، عن عمر بن أبي زائدة.
ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب جميعاً عن وكيع، عن سفيان -وعن محمد بن حاتم، عن بهز، عن عمر بن أبي زائدة- وعن إسحاق بن منصور، وعبد بن حميد كلاهما عن جعفر بن عون، عن أبي العميس -وعن القاسم بن زكريا، عن حسين بن علي، عن زائدة، عن مالك بن مغول.
وأبو داود عن موسى بن إسماعيل، عن قيس بن الربيع -وعن محمد بن سليمان الأنباري، عن وكيع، عن سفيان- وعن حفص بن عمر، عن شعبة.
والترمذي عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق، عن الثوري.
وابن ماجه عن أيوب بن محمد، عن عبد الواحد بن زياد، عن حجاج بن أرطاة -كلهم عن عون بن أبي جحيفة، عنه.
والحميدي رقم (892)، وأحمد (4/ 307، 308)، وابن خزيمة رقم (387، 388، 2994، 2995). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو جواز الصلاة في الثياب الحمر، وتقدم أنه قول الجمهور، وكرهها الحنفية.
ومنها: جواز لبس الحلة الحمراء.
ومنها: مشروعية حمل العنزة، لتتخذ سترة عند الصلاة. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
***
22 - الصَّلَاةُ فِي الشِّعَارِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدّال على جواز الصلاة في الشعار.
والشعار -بكسر المعجمة-: ما ولي الجسد من الثياب
(1)
.
773 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ صُبْحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ خِلَاسَ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبُو الْقَاسِمِ فِي الشِّعَارِ الْوَاحِدِ، وَأَنَا حَائِضٌ طَامِثٌ، فَإِنْ أَصَابَهُ مِنِّى شَيْءٌ غَسَلَ مَا أَصَابَهُ، لَمْ يَعْدُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ يَعُودُ مَعِي، فَإِنْ أَصَابَهُ مِنِّى شَيْءٌ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَعْدُهُ إِلَى غَيْرِهِ.
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(عمرو بن منصور) أبو سعيد النسائي، ثقة ثبت، من [10]، تقدم في 108/ 147.
(1)
المصباح جـ 1 ص 314.
2 -
(هشام بن عبد الملك) أبو الوليد الطيالسي البصري، ثقة ثبت، من [9]، تقدم في 122/ 172.
3 -
(يحيى بن سعيد) القطان البصري، ثقة ثبت، من [9]، تقدم في 4/ 4.
4 -
(جابر بن صُبْح) الراسبي، أبو بشر البصري، صدوق، من [7]، تقدم في 179/ 284.
5 -
(خِلاس بن عمرو) الهَجَري البصري، ثقة، من [2]، تقدم في 46/ 57.
6 -
(عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدمت في 5/ 5. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
قال خِلاس بن عمرو (سمعت عائشة تقول: كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم أبو القاسم) بدل من "رسول الله"، وهو كنية النبي صلى الله عليه وسلم، كني بأكبر أولاده، ولد بمكة قبل النبوة، ومات وهو ابن سنتين. واختلف هل مات قبل البعثة، أو بعدها.
(في الشعار الواحد) متعلق بخبر كان مقدراً، وفي الرواية المتقدمة (179/ 284):"كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد"، (وأنا حائض طامث) جملة في محل نصب على الحال، والطامث كالحائض وزناً ومعنى، فيكون من التوكيد بالمرادف.
(فإِن أصابه مني شيء) أي من الدم (غسل ما أصابه، لم يعده) مضارع عدا، كغزا يغزو، أي لم يتجاوز محل ذلك الدم (إِلى) غسل (غيره) أي غير ذلك المحل الذي أصابه الدم من الشعار (وصلى فيه) أي في ذلك الشعار، وفيه جواز الصلاة في الشعار الذي يلبسه الرجل مع امرأته إذا تيقن طهارته، وهو الذي أراده المصنف بإيراده هنا.
(ثم يعود معي) تعني أنه يلبس ذلك الشعار معها مرة أخرى (فإِن أصابه مني شيء) من الدم (فعل مثل ذلك) الغسل (لم يعده إِلى غيره).
قال الجامع عفا الله عنه: حديث عائشة رضي الله عنها هذا صحيح. وقد تقدم -بحمد الله تعالى- شرحه مستوفىً، وكذا بيان المسائل المتعلقة به برقم (179/ 284). فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
23 - الصَّلَاةُ فِي الْخُفَّيْنِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على حكم الصلاة لابساً للخفين.
774 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، قَالَ: رَأَيْتُ جَرِيرًا بَالَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ هَذَا.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(محمد بن عبد الأعلى) الصنعاني، البصري، ثقة، مات سنة 245، من [10]، تقدم في 5/ 5.
2 -
(خالد) بن الحارث الهُجيمي البصري، ثقة ثبت، مات سنة 186، من [8]، تقدم في 42/ 47.
3 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت البصري، مات سنة 160، من [7]، تقدم في 24/ 26.
4 -
(سليمان) بن مِهْران الأعمش الكوفي، ثقة ثبت، مات سنة
147، من [5]، تقدم في 17/ 18.
5 -
(إِبراهيم) بن يزيد النخعي، الفقيه الحجة، مات سنة 96، من [5]، تقدم في 29/ 33.
6 -
(همّام) بن الحارث بن قيس بن عمرو النخعي الكوفي، ثقة عابد، مات سنة 65، من [2]، تقدم في 96/ 118.
7 -
(جرير) بن عبد الله بن جابر البجلي، الصحابي المشهور رضي الله عنه، تقدم في 43/ 51. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، وأنهم من رجال الجماعة، إلا شيخه، فلم يخرج له البخاري، وأخرج له أبو داود في القدر، وأن فيه ثلاثة من التابعين الكوفيين يروي بعضهم عن بعض؛ سليمان، وإبراهيم، وهمام. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن همام) بن الحارث أنه (قال: رأيت جريراً) أي ابن عبد الله، رضي الله عنه (بال، ثم دعا بماء، فتوضأ، ومسح على خفيه، ثم قام فصلى) هذا موضع استدلال المصنف رحمه الله على ما ترجم له؛ لأن الظاهر أنه صلى في خفيه؛ لأنه لو نزعهما بعد المسح لوجب غسل
رجليه، ولو غسلهما لنقل. أفاده في الفتح
(1)
.
وأصرح من هذا ما أخرجه أبو داود، والحاكم وصححه من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعاً:"خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم". وما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي العلاء، عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وعليه نَعل مخصوفة
(2)
.
(فسئل عن ذلك) أي سأل سائل جريراً رضي الله عنه عما فعله، وللطبراني من طريق جعفر بن الحارث، عن الأعمش: أن السائل له عن ذلك هو همام المذكور. وله من طريق زائدة، عن الأعمش:"فعاب عليه ذلك رجل من القوم".
(فقال) جرير (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا) الصنع، من المسح على الخفين، والصلاة فيهما، ولفظ الرواية السابقة (96/ 118):"أنه توضأ، ومسح على خفيه، فقيل له: أتمسح؟ فقال: قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح. وكان أصحاب عبد الله يعجبهم قول جرير، وكان إسلام جرير قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيسير".
قال الجامع عفا الله عنه: حديث جرير بن عبد الله هذا متفق
(1)
جـ 2 ص 50.
(2)
خصف النعل يخصفها: خرزها. قاله المجد في "ق".
عليه. وقد تقدم -بحمد الله تعالى- شرحه مستوفى، وكذا بيان المسائل المتعلقة به بالرقم المذكور، فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
24 - الصَّلَاةُ فِي النَّعْلَيْنِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على جواز الصلاة لابساً للنعلين.
775 -
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَغَسَّانَ بْنِ مُضَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مَسْلَمَةَ -وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ- قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي النَّعْلَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عمرو بن عليّ) الفلاس البصري، ثقة حافظ، مات سنة 249، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في (4/ 4).
2 -
(يزيد بن زريع) أبو معاوية البصري، ثقة ثبت، مات سنة 182، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في (5/ 5).
3 -
(غَسّان بن مُضَرَ) الأزدي النمري، أبو مضر البصري المكفوف، ثقة، من [8].
قال الميموني عن أحمد: كان شيخاً عسراً. وقال عبد الله عن أبيه: شيخ ثقة ثقة. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، أظن يحيى بن سعيد حدث عنه. وقال أبو زرعة: صدوق.
وقال أبو حاتم: لا بأس به صالح الحديث. وقال ابن حبان في الثقات: روى عن ثابت وعبد العزيز بن صهيب. روى عنه عمار بن هارون المستملي والبصريون. مات سنة 184، يعتبر حديثه من رواية الثقات. وفيها أرخه البخاري في تاريخه. وهو من أفراد النسائي، روى له حديث الباب فقط.
4 -
(أبو مسلمة، واسمه سعيد بن يزيد) بن مسلمة الأزدي، ثم الطاحي
(1)
، البصري القصير، ثقة، من [4]، أخرج له الجماعة.
قال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. ووثقه ابن سعد، والعجلي، وأبو بكر البزار، وذكره ابن حبان في الثقات. أخرج له الجماعة.
5 -
(أنس بن مالك) الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 6/ 6. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه [46] من رباعيات المصنف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.
ومنها: أنه مسلسل بالبصريين.
(1)
"الطاحي" كالقاضي: نسبة إلى طاحية، بطن من الأزد، ومحلة لهم بالبصرة. قاله في لب اللباب. جـ 2 ص 83.
ومنها: أن شيخه أحد مشايخ الستة الذين رووا عنهم بدون واسطة.
ومنها: أن غسان بن مضر من أفراد المصنف، ولم يخرج له إلا هذا الحديث.
ومنها: أن المصنف وَثّقَ أبا مسلمة، وذكر اسمه، ونسبه إلى بلده، ومثل هذا في الكتاب قليل.
ومنها: أن فيه أنسا أحد المكثرين السبعة، روى 2286 حديثاً، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة 92 أو 93 هـ. وأن فيه الإخبار، والتحديث من صيغ الأداء. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
قال أبو مسلمة رحمه الله: (سألت أنس بن مالك) رضي الله عنه (أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) استفهام على سبيل الاستفسار (يصلي في النعلين؟) وعند البخاري: "يصلي في نعليه". قال العيني رحمه الله: أي على نعليه، أو بنعليه؛ لأن الظرفية غير صحيحة. والنعل الحذاء، مؤنثة، وتصغيرها نُعيلة. اهـ
(1)
.
(قال) أنس رضي الله عنه (نعم) أي كان يصلي فيهما.
(1)
جـ 4 ص 119.
قال ابن بطال رحمه الله: معنى هذا الحديث عند العلماء إذا لم يكن في النعلين نجاسة، فلا بأس بالصلاة فيهما، وإن كان فيهما نجاسة فليمسحهما، ويصلي فيهما. واختلفوا في تطهير النعال من النجاسات؛ فقالت طائفة: إذا وطىء القذر الرطب يجزيه أن يمسحهما بالتراب، ويصلي فيه. وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يجزيه أن يطهر الرطب إلا بالماء، وإن كان يابساً أجزأه حكه. وقال الشافعي: لا يطهر النجاسات إلا الماء في الخف والنعل وغيرهما
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الراجح هو المذهب الأول لما أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وطىء أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور"، وفي لفظ:"إذا وطىء الأذى بخفيه فطهورهما التراب"، وهو حديث صحيح. ولم يفرق بين الرطب واليابس، فدل على أن النعل تطهر بالتراب. والله أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
(1)
عمدة القاري جـ 4 ص 119.
أخرجه هنا (24/ 775)، وفي الكبرى (12/ 851) بالسند المذكور. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن آدم، عن شعبة -وفي "اللباس" عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، عن بشر بن المفضل- وعن أبي الربيع الزهراني، عن عَبَاد بن العوّام، والترمذي فيه عن علي ابن حجر، عن إسماعيل بن إبراهيم - كلهم عن سعيد بن يزيد الأزدي، عنه. وأحمد:(3/ 100، 189). والدارمي رقم (1384)، وابن خزيمة رقم (1010). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: دلّ حديث الباب على مشروعية الصلاة في النعال:
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: وقد اختلف نظر الصحابة والتابعين في ذلك، هل هو مستحب، أو مباح، أو مكروه؟ فروي عن عمر بإسناد ضعيف أنه كان يكره خلع النعال، ويشتد على الناس في ذلك. وكذا عن ابن مسعود، وكان أبو عمرو الشيباني يضرب الناس إذا خلعوا نعالهم. وروي عن إبراهيم أنه كان يكره خلع النعال، وهذا يشعر بأنه مستحب عند هؤلاء.
قال الحافظ العراقي رحمه الله في شرح الترمذي: وممن كان يفعل ذلك -يعني لبس النعل في الصلاة- عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وعويمر بن ساعدة، وأنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع، وأوس الثقفي. ومن التابعين: سعيد بن المسيب، والقاسم، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله، وعطاء بن يسار، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وطاوس، وشريح القاضي، وأبو مِجْلَز، وأبو عمرو الشيباني، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، وإبراهيم التيمي، وعلي بن الحسين، وابنه أبو جعفر.
وممن كان لا يصلي فيهما: عبد الله بن عمر، وأبو موسى الأشعري.
وقال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: الحديث دليل على جواز الصلاة في النعال، ولا ينبغي أن يؤخذ منه الاستحباب؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة. ثم أطال البحث في ذلك
(1)
.
قال الشوكاني رحمه الله: إلا أن حديث: "خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا في خفافهم" أقل أحواله الدلالة على الاستحباب، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر؛ فإن رأى في نعليه قذراً، أو أذى فليمسحه، وليصل
(1)
إحكام الأحكام جـ 2 ص 344 بنسخة الحاشية.
فيهما"
(1)
.
ويمكن الاستدلال لعدم الاستحباب بما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صلى أحدكم، فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحداً، ليجعلهما بين رجليه، أو ليصل فيهما". وهو كما قال العراقي صحيح الإسناد.
وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً ومنتعلاً"
(2)
. أخرجه أبو داود، وابن ماجه.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نعليه، فصلى الناس في نعالهم، فخلع نعليه، فخلعوا، فلما صلى قال:"من شاء أن يصلي في نعليه فليصل، ومن شاء أن يخلع فليخلع". قال العراقي رحمه الله: وهذا مرسل صحيح الإسناد.
قال الشوكاني رحمه الله: ويجمع بين أحاديث الباب بجعل حديث أبي هريرة وما بعده صارفاً للأوامر المذكورة المعللة بالمخالفة لأهل الكتاب من الوجوب إلى الندب؛ لأن التخيير والتفويض إلى المشيئة بعد تلك الأوامر لا ينافي الاستحباب، كما في حديث: "بين كل أذانين
(1)
حديث صحيح.
(2)
حديث صحيح، وسيأتي للمصنف من حديث عائشة رضي الله عنها برقم 100/ 1361.
صلاة لمن شاء". وهذا أعدل المذاهب، وأقواها عندي
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التقرير الذي قرره الشوكاني رحمه الله، واختاره هو المختار عندي. والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
نيل الأوطار جـ 2 ص 232 - 233.
25 - أيْنَ يَضَعُ الإِمَامُ نَعْليْهِ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ
أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على جواب سؤال من سأل عن محل وضع الإمام نعليه عند صلاته بالناس. ومحل الاستدلال من الحديث واضح في قوله: "فوضع نعليه عن يساره". والله تعالى أعلم.
776 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَشُعَيْبُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ، فَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عَنْ يَسَارِهِ.
رجال هذا الإسناد: سبعة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسي، ثقة مأمون، مات سنة 241، من [10]، أخرج له البخاري ومسلم والنسائي تقدم في 15/ 15.
2 -
(شعيب بن يوسف) أبو عمرو النسائي، ثقة، من [10]، أخرج له النسائي، 42/ 49.
3 -
(يحيى) بن سعيد القطان البصري، ثقة حجة، مات سنة 198، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 4/ 4.
4 -
(ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، يرسل ويدلس، مات سنة 150، من [6]، أخرج له الجماعة، تقدم في 28/ 32.
5 -
(محمد بن عباد) بن جعفر بن رفاعة بن أمية بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي المكي، ثقة، من [3].
روى عن جده لأمه عبد الله بن السائب بن أبي السائب المخزومي، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبي سلمة ابن سفيان، وغيرهم. وروى عنه ابنه جعفر، والزهري، والأوزاعي، وابن جريج، وغيرهم. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة مشهور. وقال أبو زرعه: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس بحديثه. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة.
6 -
(عبد الله بن سفيان) المخزومي، أبو سلمة مشهور بكنيته، ثقة، من [4].
روى عن عبد الله بن السائب المخزومي، وأبي أمية بن الأخنس. وعنه محمد بن عباد بن جعفر، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن عبد الله بن صيفي، وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: ثقة مأمون. أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه حديث:"صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة"، وفيه:"أخذته سعلة، فحذف، وركع". وعلقه البخاري.
7 -
(عبد الله بن السائب) بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، أبو السائب، ويقال: أبو عبد الرحمن المكي القارىء، له ولأبيه صحبة، وكان أبوه شريك النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنه محمد، على خلاف فيه، وعبد الله بن عمرو العائذي، وليس بابن العاص، وابن عمه عبد الله ابن المسيب بن أبي السائب العابدي، وأبو سلمة بن سفيان، وعبيد المكي، وعطاء، ومجاهد، والمؤمل بن وهب المخزومي، وابن أبي مليكة، وغيرهم.
وكان قارىء أهل مكة، أخذ عنه أهل مكة القراءة، وقرأ عليه مجاهد وغيره. وقيل: إنه مولى مجاهد من فوق، وقرأ ابن السائب على أبي بن كعب، وتوفي بمكة قبل عبد الله بن الزبير بيسير. وهو عبد الله بن السائب قائد ابن عباس، أفرده صاحب "الكمال" بالذكر، وهو هو.
وقال ابن جريج عن ابن أبي مليكة: رأيت ابن عباس لما فرغوا من دفن عبد الله بن السائب، قام ابن عباس فوقف على قبره، فدعا له، وانصرف. قال الحافظ رحمه الله: قلت: فعلى هذا يكون مات قبل ابن الزبير بمدة لا يعبر عنها بيسير؛ لأن ابن عباس مات قبل ابن الزبير بخمس سنين. علق له البخاري في "الصحيح"، وأخرج له في "الأدب المفرد"، والباقون. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وهو مسلسل بالمكيين، غير شيخيه ويحيى، وفيه رواية تابعي عن تابعي، ورواية الأكابر عن الأصاغر، فمحمد بن عباد بن جعفر من الطبقة الثالثة، وعبد الله بن سفيان من الرابعة.
ومنها: أنه يقدر قبل قوله: "عن يحيى" لفظ "كلاهما"، وقد تقدم البحث عنه غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله بن السائب) رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح) أي فتح مكة، والصلاة التي صلاها هي الصبح، ففي رواية مسلم من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة
…
الحديث.
(فوضع نعليه عن يساره) فيه أن المصلي إذا لم يصل بنعليه يجعلهما عن يساره. وهذا إذا لم يكن عن يساره أحد، وإلا فليضعهما بين رجليه؛ لما أخرج أبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد، وليضعها بين رجليه". وفي رواية: "إذا صلى
أحدكم، فخلع نعليه، فلا يؤذ بهما أحداً، ليجعلهما بين رجليه، أو ليصل فيهما". والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن السائب هذا أخرجه مسلم
(1)
.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (25/ 776)، وفي "الكبرى"(13/ 852) بالسند المذكور. وأخرجه (76/ 1007)، و"الكبرى"(23/ 1079) عن محمد ابن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث الهجيمي، عن ابن جريج، قال: أخبرني محمد بن عباد حديثاً رفعه إلى ابن سفيان، عن عبد الله بن السائب، قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فصلى في قُبُل الكعبة، فخلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فافتتح بسورة المؤمنين، فلما جاء ذكر موسى، أو عيسى عليهما السلام أخذته سَعْلة، فركع". والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ فأخرجه مسلم في الصلاة عن هارون بن عبد الله، عن حجاج بن محمد -وعن محمد بن رافع،
(1)
أي أخرج أصل الحديث، وإلا فروايته ليس فيها وضع النعلين. كما سيأتي التنبيه عليه قريباً.
عن عبد الرزاق، وأبو داود فيه عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق -وأبي عاصم- ثلاثتهم عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي سلمة بن سفيان، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن المسيب العابدي، ثلاثتهم عن عبد الله بن السائب، رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
رواية مسلم، وأبي داود رحمهما الله تعالى ليس فيها ذكر وضع النعلين، ولفظها: عن عبد الله بن السائب، قال:"صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنون، حتى جاء ذكر موسى، وهارون، أو ذكر عيسى (محمد بن عباد يشك، أو اختلفوا عليه) أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة، فركع" وعبد الله بن السائب حاضر ذلك. والله تعالى أعلم.
تنبيه آخر:
وقع عند مسلم في رواية هارون بن عبد الله: ما نصه: "وعبد الله ابن عمرو بن العاص". قال الحفاظ: قوله: ابن العاص غلط، والصواب حذفه، وليس هذا عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي، بل هو عبد الله بن عمرو الحجازي
(1)
كذا ذكره البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم، وخلائق من الحفاظ المتقدمين والمتأخرين.
وأخرجه أبو داود بذكر النعلين، في "الصلاة" عن مسدد، وابن ماجه
(1)
شرح النووي على مسلم جـ 4 ص 177.
فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة - كلاهما عن يحيى بن سعيد، بسند المصنف ولفظه. وأحمد:(3/ 410، 411)، الحميدي رقم (821)، ابن خزيمة رقم (1015، 1649). وابن حبان رقم (2189). والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
***
10 - كتاب الإمامة
أي هذا كتاب في ذكر الأحاديث الدالة على أحكام الإمامة.
والإمامة لغة: التقدم. قال الفيومي رحمه الله: وتكره إمامة الفاسق، أي تقدمه إماماً. اهـ
(1)
. وقال بعضهم: الإمامة: رياسة المسلمين، ومنصب الإمام
(2)
.
والإمام: الخليفة، والعالم المُقتدَى به، ومن يؤتم به في الصلاة، ويطلق على الذكر والأنثى. قال بعضهم: وربما أنث إمام الصلاة بالهاء، فقيل: امرأة إمامة. وقال بعضهم: الهاء فيها خطأ، والصواب حذفها؛ لأن الإمام اسم، لا صفة.
ويقرب من هذا ما حكاه ابن السكيت في كتاب المقصور والممدود: تقول العرب عاملنا امرأة، وأميرنا امرأة، وفلانة وصي فلان، وفلانة وكيل فلان، قال: وإنما ذُكِّرَ لأنه إنما يكون في الرجال أكثر مما يكون في النساء، فلما احتاجوا إليه في النساء أجروه على الأكثر في موضعه، وأنت قائل: مؤذن بني فلان امرأة، وفلانة شاهد بكذا؛ لأن هذا يكثر في الرجال، ويقل في النساء.
وقال تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} فذكر "نذيراً"،
(1)
المصباح جـ 1 ص 24.
(2)
انظر المعجم الوسيط جـ 1 ص 27.
وهو لإحدى. ثم قال: وليس بخطأ أن تقول: وصية، ووكيلة بالتأنيث؛ لأنها صفة المرأة إذا كان لها فيه حظ، وعلى هذا فلا يمتنع أن يقال: امرأة إمامة؛ لأن في الإمام معنى الصفة، وجمع الإمام أئمة، والأصل أَأْمِمَة وزان أمْثِلَة، فأدغمت الميم في الميم بعد نقل حركتها إلى الهمزة، فمن القراء من يبقي الهمزة محققة على الأصل، ومنهم من يسهلها على القياس بين بين، وبعض النحاة يبدلها ياء للتخفيف، وبعضهم يعده لحنا، ويقول: لا وجه له في القياس. أفاده الفيومي
(1)
. والله تعالى أعلم.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب".
…
(1)
المصباح جـ 1 ص 23 - 24.
1 - ذِكْرُ الإِمَامَةِ وَالْجَمَاعَةِ. إِمَامَةُ أهل الْعِلْمِ وَالْفضْلِ
هكذا نسخ المجتبى بتكرار "الإمامة"، ونسخة الكبرى "كتاب الإمامة والجماعة. ذكر الإمامة والجماعة. إمامة أهل العلم والفضل". والظاهر أنه لا داعي إلى التكرار، بل الأولى أن يقول:"كتاب الإمامة والجماعة. ذكر إمامة أهل العلم والفضل". والله أعلم.
777 -
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتِ الأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَأَتَاهُمْ عُمَرُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ؟ فَأَيُّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ.
رجال هذا الإسناد: ثمانية
1 -
(إِسحاق بن إِبراهيم) هو ابن راهويه الحنظلي المروزي، نزيل نيسابور، ثقة ثبت حجة، مات سنة 238، من [10]، أخرج له البخاري ومسلم أبو داود، والترمذي والنسائي، تقدم في 2/ 2.
2 -
(هَنّاد بن السّرِيّ) بن مصعب التميمي أبو السّريّ الكوفي، ثقة، من [10]، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم والأربعة، تقدم في 23/ 25.
3 -
(حسين بن علي) بن الوليد الجعفي الكوفي المقرىء، ثقة عابد، مات سنة 203 أو 204، من [9]، أخرج له الجماعة، تقدم في 74/ 91.
4 -
(زائدة) بن قُدَامة الثقفي، أبو الصلت الكوفي، ثقة ثبت، صاحب سنة، مات سنة 160، وقيل: بعدها، من [7]، أخرج له الجماعة، تقدم في 74/ 91.
5 -
(عاصم) بن أبي النَّجُود وهو ابن بَهْدَلَة الأسدي مولاهم، أبو بكر الكوفي المقرىء، صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون، مات سنة 128، من [6]، تقدم في 98/ 126.
6 -
(زِرّ) بن حُبَيش بن حُباشة الأسدي أبو مريم الكوفي، ثقة جليل مخضرم، مات سنة 81 أو 82 أو 83 وهو ابن 127، أخرج له الجماعة، تقدم في 98/ 126.
7 -
(عبد الله) بن مسعود، الصحابي الجليل رضي الله عنه، أخرج له الجماعة، تقدم في 35/ 39.
8 -
(عمر) بن الخطاب العدوي، الخليفة الثاني رضي الله عنه،
أخرج له الجماعة، تقدم في 60/ 75. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سباعيات المصنف رحمه الله، وأن رجاله كلهم ثقات، وكلهم من رجال الجماعة، إلا شيخيه، فإن الأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد.
ومنها: أنه مسلسل بالكوفيين، إلا إسحاق، فهو مروزي، ثم نيسابوري، وعمر رضي الله عنه فهو مدني.
ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي.
ومنها: أنه يقدر قبل قوله: عن حسين بن علي لفظ "كلاهما"، وقد تقدم غير مرة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قال: لَمَّا قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول؛ أي مات (قالت الأنصار منا أمير، ومنكم أمير)، قد ساق البخاري رحمه الله القصة بطولها في "باب فضل أبي بكر رضي الله عنه" من صحيحه، فقال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، وأبو بكر بالسُّنْح -قال إسماعيل:
يعني بالعالية- فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبّله، فقال: بأبي أنت وأمي طِبْتَ حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يُذيقك الله الموتتين أبداً.
ثم خرج، فقال: أيها الحالف على رِسْلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر. فحمد الله أبو بكر، وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، وقال:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] قال: فَنَشج
(1)
الناس يبكون.
قالت: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير، ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ
(1)
أي بكوا بغير انتحاب، والنشج ما يعرض في حلق الباكي من الغصة. وقيل: هو صوت معه ترجيع كما يردد الصبي بكاءه في صدره. اهـ فتح جـ 7 ص 381.
الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، فقال حُباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير، ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايعوا عمر بن الخطاب، أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فانت سيدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده، فبايعه، وبايعه الناس، فقال: قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله". انتهى
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله: قوله: "لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير". زاد في رواية ابن عباس أنه قال: "أنا جُدَيلها الْمُحَكّك، وعُذَيْقُها الْمُرَجّب"، وشرح هاتين الكلمتين أن العُذيق بالذال المعجمة تصغير عذق، وهو النخلة، والمرجَّب بالجيم والموحدة، أي يدعم النخلة إذا كثر حملها، والجديل بالتصغير أيضاً، وبالجيم، والجدل عود ينصب للإبل الجرباء لتحتك فيه، والمُحَكَّك بكافين الأولى مفتوحة، فأراد أنه يستشفى برأيه.
ووقع عند ابن سعد من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد: "فقام حُباب بن المنذر، وكان بدريّاً، فقال: منا أمير، ومنكم أمير، فإنا والله ما نَنْفَسُ عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف أن يليه أقوام
(1)
صحيح البخاري جـ 5 ص 7 - 8.
قتلنا آباءهم وإخوانهم. قال: فقال له عمر: إذا كان ذلك، فمت إن استطعت، قال: فتكلم أبو بكر، فقال: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، وهذا الأمر بيننا وبينكم، قال: فبايع الناس، وأولهم بَشِير بن سعد والد النعمان".
وعند أحمد من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد: "فقام خطيب الأنصار، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلاً منكم قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك، فقام زيد بن ثابت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإنما الإمام من المهاجرين، فنحن أنصار الله، كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: جزاكم الله خيراً، فبايَعُوه".
ووقع في آخر المغازي لموسى بن عقبة عن ابن شهاب، أن أبا بكر قال في خطبته:"وكنا معاشر المهاجرين أول الناس إسلاماً، ونحن عشيرته، وأقاربه، وذوو رحمه، ولن تصلح العرب إلا برجل من قريش، فالناس لقريش تبع، وأنتم إخواننا في كتاب الله، وشركاؤنا في دين الله، وأحب الناس إلينا، وأنتم أحق الناس بالرضا بقضاء الله، والتسليم لفضيلة إخوانكم، وأن لا تحسدوهم على خير".
وقال فيه: "إن الأنصار قالوا: أوّلاً نختار رجلاً من المهاجرين، وإذا مات اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلاً من المهاجرين كذلك أبداً، فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ أن ينقض عليه
الأنصاري، وكذلك الأنصاري، قال: فقال عمر: لا والله لا يخالفنا أحد إلا قتلناه، فقام حباب بن المنذر، فقال كما تقدم، وزاد: وإن شئتم كررناها خدعة. أي أعدنا الحرب. قال: فكثر القول حتى كاد أن يكون بينهم حرب، فوثب عمر، فأخذ بيد أبي بكر".
وعند أحمد من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال:"توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر في طائفة من المدينة -فذكر الحديث، قال: فتكلم أبو بكر، فقال: والله لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وأنت قاعد: "قريش وُلاة هذا الأمر". فقال سعد: صدقت
(1)
.
قال ابن التين رحمه الله: إنما قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. على ما عرفوه من عادة العرب أن لا يتأمر على القبيلة إلا من كان منها، فلما سمعوا حديثَ:"الأئمةُ من قريش". رجعوا عن ذلك، وأذْعَنُوا
(2)
.
(فأتاهم عمر) رضي الله عنه (فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يصلي بالناس؟)؛ قال السندي رحمه الله تعالى: الباء للتعدية، وفيه تقديم أهل العلم والفضل، في الإمامة الصغرى والكبرى جميعاً، وأنهم فهموا من تقديم أبي بكر في الصغرى تقديمه في الكبرى أيضاً، بعد بيان عمر رضي الله عنه لهم
(1)
فتح جـ 7 ص 382 - 383.
(2)
فتح جـ 7 ص 383.
ذلك، وليس ذلك لقياس الكبرى على الصغرى حتى يقال: إنه قياس باطل، بل لأن الصغرى يومئذ كانت من وظائف الإمام الكبير، فتفويضها إلى أحد عند الموت دليل على نصبه للكبرى. فليتأمل
(1)
.
(فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟) أي في الخلافة، يعني أنه إذا رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً لكم في الصلاة التي هي أعظم أركان الدين بعد الشهادتين، فكيف لا ترضونه أنتم إماماً لأموركم؟
(قالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر)؛ يقال: عُذت بالله، مَعاذاً، وعِياذًا، واستعذت به: اعتصمت. أفاده في المصباح
(2)
؛ أي نعتصم بالله سبحانه وتعالى من التقدم أمام أبي بكر رضي الله عنه في ولاية أمور المسلمين. والله تعالى أعلم، وهو ولي التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عمر رضي الله عنه هذا صحيح. وهو من أفراد المصنف رحمه الله تعالى من بين أصحاب الأصول. وأخرجه أحمد (1/ 21، 1/ 405). والله تعالى أعلم.
(1)
شرح السندي جـ 2 ص 75.
(2)
جـ 2 ص 437.
المسألة الثانية: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو أن أهل العلم والفضل، أحق بالإمامة من غيرهم.
ومنها: أن الأعلم يقدم على الأقرأ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر دون أُبَيّ مع قوله: "أقرؤكم أُبَيّ". وسيأتي تمام البحث فيه في الباب الثالث، إن شاء الله تعالى.
ومنها: بيان عظيم ما مَنّ الله سبحانه وتعالى به على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ائتلافهم واجتماعهم على خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد أن كادوا يختلفون فيها.
ومنها: بيان فقه عمر رضي الله عنه، حيث استنبط من تقديم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة كونه يستحق الخلافة.
ومنها: فضل الأنصار رضي الله تعالى عنهم وانقيادهم للحق حيث تراجعوا عما كانوا عليه حين ذكّرهم عمر رضي الله عنه.
ومنها: أنه استدلّ بقول الأنصار: "منا أمير، ومنكم أمير" أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، ووجه ذلك أنهم قالوا ذلك في مقام من لا يخاف شيئاً، ولا يتقيه.
قال القرطبي رحمه الله في "المفهم": لو كان عند أحد من المهاجرين والأنصار نَصٌّ من النبي صلى الله عليه وسلم على تعيين أحد بعينه للخلافة لما اختلفوا في
ذلك، ولا تفاوضوا فيه. قال: وهذا قول جمهور أهل السنة. واستدل من قال: إنه نص على خلافة أبي بكر، بأصول كلية، وقرائن حالية تقتضي أنه أحق بالإمامة، وأولى بالخلافة. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: قد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه "التمهيد" بحثاً نفيساً في بيان استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، أحببت إيراده هنا لنفاسته، قال رحمه الله تعالى:
لَمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبا بكر يصلي بالناس"، في مرضه الذي توفي فيه، واستخلفه على الصلاة، وهي عُظْمُ الدين، وكانت إليه لا يجوز أن يتقدم إليها أحد بحضرته صلى الله عليه وسلم، فلما مرض استخلف عليها أبا بكر، والصحابة متوافرون، منهم علي، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم، استدل المسلمون بذلك على فضل أبي بكر، وعلى أنه أحق بالخلافة بعدُ، وعلموا ذلك، فارتضوا لدنياهم، وإمامتهم، وخلافتهم من ارتضاه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل دينهم؛ وذلك إمامتهم في صلاتهم، ولم يكن يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يصرح بخلافة أبي بكر بعده -والله أعلم- إلا أنه كان لا ينطق في دين الله بهواه، ولا ينطق إلا بما يوحى إليه فيه.
قال الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] ولم يكن يوحى إليه في الخلافة شيء، وكان لا
يتقدم بين يدي ربه في شيء، وكان يحب أن يكون أبو بكر الخليفة بعده، فلما لم ينزل عليه في ذلك وحي، ونعني لم يؤمر بذلك، أراهم موضع الاختيار، وموضع إرادته، فعرف المسلمون ذلك منه، فبايعوا أبا بكر بعده، فخير لهم في ذلك، ونفعهم الله به، وبارك لهم فيه، فقاتل أهل الردة حتى أقام الدين كما كان، وعَدَل في الرعية، وقسم بالسوية، وسار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفاه الله حميداً، رضي الله عنه.
قال ابن أبي مليكة رحمه الله في حديث: "مروا أبا بكر، فليصل بالناس": وأيّ خلافة أبين من هذا؟
قال أبو عمر رحمه الله: وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار تدلّ على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسره، ويعلم أن الخليفة أبو بكر -والله أعلم-:
منها: حديث حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر"
(1)
.
ومنها: حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن شيء، فأمرها أن ترجع، قالت: يا رسول الله، إن رجعت، فلم أجدك؟ -قال: كأنها تعني الموت- قال: "فأتِ أبا بكر"
(2)
. قال الشافعي رحمه الله: وفي هذا دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
(2)
أخرجه أحمد، والشيخان، والترمذي.
قال أبو عمر رحمه الله: وأجمعوا أن أبا بكر كان يكتب: من خليفة رسول الله في كتبه كلها. وذكر نافع بن عمر الجُمَحي، عن ابن أبي مليكة أن رجلاً قال لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال أبو بكر: أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا راضٍ بذلك. وبعث عمر بن عبد العزيز محمد بن الزبير إلى الحسن يسأله هل استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر؟ فقال: نعم.
قال أبو عمر: إنما قال هذا استدلالاً بنحو ما ذكرنا من الحديث -والله أعلم- ولم يُختَلَف عن عمر أنه لما حضرته الوفاة، قال: إن أستخلف، فقد استخلف أبو بكر، وإن لم أستخلف، فلم يستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت أنه لا يستخلف، وهذا معناه أنه لم يستخلف نصًا ولا تصريحًا. والله أعلم.
وقد استدل قوم من أهل العلم على خلافة أبي بكر بقوله الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]-ومعلوم أن الداعي لأولئك القوم غير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد منع المخلفين من الأعراب من الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 83]. وقد أرادوا الخروج معه إلى بعض ما رَجَوا فيه الغنيمة، فأنزل الله:{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}
[الفتح: 15]. يعني قوله: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} [التوبة: 83]. ولا تبديل لكلمات الله.
وفي قوله عز وجل: {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ، أوضح الدلائل على وجوب طاعة أبي بكر وإمامته، ووَعدَ الله المخلفين عن رسوله إذا أطاعوا الذي يدعوهم بعدُ بالأجر الحسن، وأوعدهم بالعذاب الأليم إن تولوا عنه.
وللعلماء في قول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ
…
} قولان، ولا ثالث لهما؛ أحدهما: أنهم قالوا: أراد بقوله: {إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : أهل اليمامة مع مسيلمة. وقال آخرون: أراد فارس، فإن كان -كما قالوا- أهلُ اليمامة، فأبو بكر هو الذي دعاهم إلى قتالهم، وإن كانوا فارس، فعمر دعا إلى قتالهم، وعمر إنما استخلفه أبو بكر؛ فعلى أيّ الوجهين كان، فالقرآن يقتضي بما وصفنا إمامة أبي بكر، وخلافته. وإن كان أراد فارس، فهو دليل إمامة عمر، وخلافته.
وقد قال من لا علم له بتأويل القرآن: إنهم هوازن وحُنَين، وهذا ليس بشيء؛ لقول الله:{فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} ، وقوله:{ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} الآية [الفتح: 15]. ومعلوم أن من وَاسَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصَحِبَه أخيراً لا يلحق في الفضل بمن واساه،
ونصره، وصحبه أوَّلاً؛ قال الله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية [الحديد: 10].
وكان أبو بكر أوّل الناس؛ عزّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصره، وآمن به، وصدقه، وصابر على الأذى فيه، فاستحق بذلك الفضل العظيم؛ لأن كل ما صنعه غيره بعده قد شاركه فيه، وفاتهم، وسبقهم بما تقدم إليه، فلفضله ذلك استحق الإمامة؛ إذ شأنها أن تكون في الفاضل أبداً ما وُجِدَ إليه سبيل، والآثار في فضائله ليس هذا موضعَ ذكرها، وإنما ذكرنا استحقاقه للخلافة بدليل الكتاب والسنة.
انتهى خلاصة ما كتبه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى
(1)
، وهو بحث نفيس، وتحرير أنيس. والله تعالى أعلم، وهو الهادي إلى الصراط الأقوم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
"التمهيد" جـ 22 ص 125 - 130.
2 - الصَّلَاةُ مَعَ أئِمَّةِ الْجَوْرِ
أي هذا باب ذكر الحديثين الدّالّين على حكم الصلاة مع أئمة الْجَوْر.
قد تقدم ضبط الأئمة في الباب الماضي، فراجعه، تستفد.
وأما "الجور"، فهو بفتح، فسكون-: مصدر جار، يقال: جار في حكمه، يجور، جَوْراً: إذا ظلم، وجار عن الطريق: إذا مال. قاله الفيومي
(1)
.
والمراد بأئمة الجور ما يشمل الذين جاروا بالخروج على الإمام، والذين جاروا بظلم الناس، والذين جاروا بمخالفة أهل السنة والجماعة، وهم المبتدعة.
وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" بقوله: [باب إمامة المفتون، والمبتدع] قال في الفتح: قوله: "باب إمامة المفتون". أي الذي دخل في الفتنة؛ فخرج على الإمام، ومنهم من فسره بما هو أعم من ذلك. قوله:"والمبتدع"، أي من اعتقد شيئاً مما يخالف أهل السنة والجماعة. انتهى
(2)
.
(1)
المصباح جـ 1 ص 114.
(2)
جـ 2 ص 418 - 419.
778 -
أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ
(1)
، قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ، قَالَ: أَخَّرَ زِيَادٌ الصَّلَاةَ، فَأَتَانِي ابْنُ صَامِتٍ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ كُرْسِيًّا، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ صُنْعَ زِيَادٍ، فَعَضَّ عَلَى شَفَتَيْهِ، وَضَرَبَ عَلَى فَخِذِي، وَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ، كَمَا سَأَلْتَنِي، فَضَرَبَ فَخِذِي، كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ، وَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي، فَضَرَبَ فَخِذِي، كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَ مَعَهُمْ، فَصَلِّ، وَلَا تَقُلْ: إِنِّي صَلَّيْتُ، فَلَا أُصَلِّي".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(زياد بن أيوب) بن زياد البغدادي، أبو هاشم الطوسي الأصل، يلقب دَلّويه، وكان يغضب منها، ولقبه أحمد: شعبة
(1)
"عُلَيّة" اسم لأم إسماعيل، فلذا لا تحذف همزة الوصل خطا؛ لأنها إنما تحذف إذا كان الثاني أبًا للأول، كما هو مقرر في محله من كتب النحو. فتنبه. وكان إسماعيل يكره النسبة إلى أمه.
الصغير، ثقة حافظ، مات سنة 252 وله 86 سنة، من [10]، أخرج له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، تقدم في 101/ 132.
2 -
(إِسماعيل ابن عُلية) هو ابن إبراهيم بن مِقْسَم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري، ثقة حافظ مات سنة 193، وهو ابن 83 سنة، من [8]، أخرج له الجماعة، تقدم في 18/ 19.
3 -
(أيوب) بن أبي تميمة/ كيسان السختياني، أبو بكر البصري، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العباد، مات سنة 131، وله 65 سنة، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 42/ 48.
4 -
(أبو العالية البَرَّاء) بتشديد الراء- البصري، مولى قريش، كان يَبْري النَّبْل، قيل: اسمه زياد بن فيروز، وقيل: زياد بن أُذَينة، وقيل: أذينة، وقيل: إن أذينة لقب، واسمه كلثوم، ثقة، من [4].
روى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأنس، وطلق بن حبيب، وعبد الله بن الصامت، وغيرهم. وعنه أيوب، وبديل بن ميسرة، ومطر الوراق، والحسن بن أبي الحسناء، ويونس بن عبيد، وغيرهم. قال أبو زرعة: ثقة. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال ابن عبد البر: زياد بن فيروز أكثر ما قيل فيه، وهو عندهم ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات
يوم الاثنين في شوّال سنة تسعين
(1)
. أخرج له الشيخان، والمصنف.
5 -
(ابن الصامت) هو عبد الله بن الصامت ابن أخي أبي ذرّ رضي الله عنه الغفاري البصري، ثقة، مات بعد سنة 70، من [3]، أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم والأربعة. تقدم في 7/ 750.
6 -
(أبو ذرّ) الغفاري جندب بن جُنادة الصحابي المشهور رضي الله عنه، تقدم في 203/ 322. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة إلا شيخه، فلم يخرج له مسلم، ولا ابن ماجه، وأنهم بصريون، إلا شيخه؛ فبغدادي، والصحابي؛ فمدني، مات بالرَّبَذَة، قرية قريبة من المدينة.
ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: أيوب، وأبو العالية، وابن الصامت.
ومنها: أن فيه من صيغ الأداء الإخبارَ، والتحديثَ، والعنعنةَ. والله تعالى أعلم.
(1)
"ت" ص 414. و"تت" جـ 12 ص 143 - 144. و"تك" جـ 34 ص 11 - 12.
شرح الحديث
(عن أبي العالية البرّاء) بتشديد الراء، نسبة إلى بَرْيِ النَّبْل، أنه (قال: أخر زياد) هكذا نسخة "المجتبى"، و"الكبرى""زياد"، والصواب كما في صحيح مسلم جـ 5 ص 150، ومسند أحمد (5/ 147)، وصحيح ابن خزيمة جـ 3 ص 66:"ابن زياد"، وقد صرح أحمد باسمه، فقال:"عبيد الله بن زياد".
والظاهر أنه عبيد الله بن زياد بن أبيه 28 - 67 هـ، كان والياً فاتحاً من الشجعان جباراً خطيباً ولد بالبصرة. ويحتمل أن يكون عبيد الله ابن زياد بن ظبيان البكري المتوفى سنة 75 هـ كان فاتكاً من الشجعان، وكان مقرباً من عبد الملك بن مروان
(1)
.
(فأتاني ابن الصامت) هو عبد الله الغفاري (فألقيت له كرسياً) فيه إكرام الضيف، والاهتمام به.
و"الكرسي": بضم الكاف أشهر من كسرها، والجمع مثقل وقد يخفف. قال ابن السِّكِّيت في باب ما يشدد، وكل ما كان واحده مشدداً، شدّدت جمعه، وإن شئت خففت
(2)
.
(فجلس عليه، فذكرت له صنع زياد)، الصواب "ابن زياد"،
(1)
انظر معجم الأعلام ص 479.
(2)
المصباح جـ 2 ص 530.
كما مر آنفاً (فعض على شفتيه)؛ قال الفيومي رحمه الله: عَضِضتُ اللُّقمة، وبها، وعليها، عَضّاً: أمسكتُها بالأسنان، وهو من باب تَعِبَ في الأكثر، لكن المصدر ساكن، ومن باب نَفَعَ لغة قليلة، وفي أفعال ابن القطان: من باب قتل. انتهى
(1)
.
وإنما عض عبد الله بن الصامت على شفتيه إظهاراً للكراهة لفعله
(2)
.
(وضرب على فخذي)"الفَخِذ" -ككتف-: ما بين الساق والورك، مؤنث، كالفَخْذِ -بفتح الفاء، وتكسر، مع سكون الخاء فيهما، ويجوز فيه فِخِذ- بكسرتين
(3)
. وإنما ضرب فخذه للتنبيه، وجمع الذهن، على ما يقوله له
(4)
.
(1)
المصباح جـ 2 ص 415.
(2)
أفاده في شرح السندي جـ 2 ص 75.
(3)
وعبارة القاموس، وشرحه: الفخذ -ككتف: ما وصل بين الساق والورك، مؤنث، كالفخذ -بفتح، فسكون- ويكسر مع السكون، فهي ثلاث لغات، وهي مشهورة في كل ثلاثي على وزان كتف، وزاد الزركشي في شرح البخاري أن فيه لغة فِخِذ -بكسرتين.
وفي تسهيل ابن مالك: في كل عين حلقية أربع لغات، سواء كانت اسْمًا كفخذ، أو فعلاً كشهد، الثلاثة وكسر الفاء والعين، وصرح بذلك في الكافية وشرحها.
ثم إن الإتباع بكسرتين هو الذي قيدوه بالحلقي، وأما اللغات الثلاث ففي كل ثلاثي على وزان كتف، ولو لم يكن فيه حرف حلق. اهـ "ق" و"تاج" بتصرف يسير جـ 2 ص 572 - 573.
(4)
أفاده النووي في شرح مسلم جـ 5 ص 149.
(وقال: إِني سألت أبا ذرّ) رضي الله عنه (كما سألتني، فضرب فخذي، كما ضربت فخذك، وقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سألتني، فضرب) صلى الله عليه وسلم (فخذي، كما ضربت فخذك)، هذا هو النوع المسمى في مصطلح المحدثين بالمسلسل قولاً، وفعلاً، حيث تسلسل بقول كلّ من عبد الله بن الصامت، وأبي ذرّ:"سألت، كما سألتني، وضرب فخذي، كما ضربت فخذك".
(فقال عليه الصلاة والسلام: "صل الصلاة) ولفظ مسلم من طريق حماد، عن أبي عمران الْجَوْني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذرّ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ "، أو "يميتون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصل، فإنها لك نافلة".
وفي رواية جعفر بن سليمان، عن أبي عمران:"يا أبا ذر إنه ستكون بعدي أمراء، يميتون الصلاة، فصل الصلاة لوقتها، كانت لك نافلة، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك".
وفي رواية شعبة، عن أبي عمران، قال: إن خليلي أوصاني أن أسمع، وأُطيع، وإن كان عبداً مُجَدَّع الأطراف، وأن أصلي الصلاة لوقتها، فإن أدركتَ القوم، وقد صلّوا كنتَ قد أحرزت صلاتك، وإلا كانت لك نافلة.
ومن طريق بُدَيل، عن أبي العالية، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب فخذي-: "كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قال: ما تأمر؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة، وأنت في المسجد، فصلّ".
ومن طريق خالد بن الحارث، عن شعبة، عن أبي نَعَامَة، عن عبد الله بن الصامت، قال:"كيف أنتم"، أو قال:"كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصل الصلاة لوقتها، ثم إذا أقيمت الصلاة، فصل معهم، فإنها زيادة خير".
ومن طريق هشام الدستوائي، عن مطر الورّاق، عن أبي العالية البرّاء، قال: قلت لعبد الله بن الصامت: نصلي الجمعة خلف أمراء، فيؤخرون الصلاة؟ قال: فضرب فخذي ضربة أوجعتني، وقال: سألت أبا ذر، عن ذلك، فضرب فخذي، وقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة". قال: وقال عبد الله: ذُكِرَ لي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ضرب فخذ أبي ذر.
(صلّ الصلاة لوقتها) أي في وقتها المأمور أداؤها فيه، جمعاً بين المصلحتين، مصلحةِ أداء الصلاة في الوقت المشروع، ومصلحة عدم شق العصا بإظهار المخالفة.
(فإِن أدركت) الصلاة (معهم) وقد بُيِّنَ معنى إدراكها معهم في
رواية مسلم المذكورة آنفاً، وهي الرواية الآتية للمصنف (55/ 859) من طريق بديل عن أبي العالية، ففيها:"صل الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة، وأنت في المسجد، فصلّ". فقد أفادت هذه الرواية أن المراد بالإدراك هو أن تقام الصلاة، وهو في المسجد، فأما إذا ذهب لحاجته قبل أن تقام، فليس عليه أن يرجع.
(فصلّ) تلك الصلاة جماعةً، إحرازاً للفضيلتين، فضيلة المبادرة بأداء الصلاة في أول الوقت، وفضيلة صلاة الجماعة (ولا تقل: إِني صليتُ) الصلاة في أول الوقت (فلا أصلي) معهم ثانياً.
والأمر للاستحباب بدليل ما رواه أبو داود بإسناد صحيح، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وفيه: فقال رجل يا رسول الله، أصلي معهم، قال:"نعم إن شئت". والله تعالى أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه هذا أخرجه مسلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (2/ 778)، وفي "الكبرى"(2/ 854) عن زياد بن أيوب، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب السختياني، عن أبي العالية
البرَّاء، عن عبد الله بن الصامت، عنه.
وفي (55/ 859)، و"الكبرى"(55/ 932) عن محمد بن عبد الأعلى، ومحمد بن صُدْرَان، كلاهما عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن بُدَيل بن ميسرة، عن أبي العالية به. بلفظ:"كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها"، قال: ما تأمر؟ قال: "صل الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة، وأنت في المسجد، فصلّ". والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم في "الصلاة" عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن علية، به. وعن يحيى بن حبيب بن عربي، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن بديل بن ميسرة، به. وعن أبي غَسَّان الْمِسْمَعِيِّ، مالك بن عبد الواحد، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن مطر الوراق، عن أبي العالية، به.
وعن خَلَف بن هشام، وأبي الربيع الزَّهراني، وأبي كامل الجَحْدَري، ثلاثتهم عن حماد بن زيد -وعن يحيى بن يحيى، عن جعفر ابن سليمان- وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس، عن شعبة، ثلاثتهم عن أبي عمران الجَوْني، عن عبد الله بن الصامت، عنه. وعن عاصم بن النضر، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، به.
وأبو داود فيه عن مسدد، عن حماد بن زيد به. والترمذي فيه عن محمد بن موسى البصري، عن جعفر بن سليمان به، وابن ماجه فيه
وفي الجهاد عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به. وأحمد في مسنده جـ 5/ ص 147، 156، 159، 160، 163، 168، 169 والدارمي رقم (1230، 1231)، والبخاري في الأدب المفرد رقم (954)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (1637، 1639). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف، وهو جواز الصلاة خلف أئمة الجَور، وسيأتي تحقيق اختلاف العلماء فيه في مسائل الحديث التالي، إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن فيه ما يسمى في مصطلح أهل الحديث بالمسلسل، وهو -كما قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في تقريبه-: ما تتابع رجال إسناده على صفة، أو حالة؛ للرواة تارة، وللرواية تارة أخرى، وصفاتُ الرواة: إما أقوال، أو أفعال، وأنواع كثيرة غيُرهما، كمسلسل التشبيك باليد، والعدّ فيها، وكاتفاق أسماء الرواة، أو صفاتهم، أو نسبتهم، كأحاديثَ رويناها، كلُّ رجالها دمشقيون، وكمسلسل الفقهاء، وصفاتُ الرواية، كالمسلسل بـ "سمعت"، أو بـ "أخبرنا فلان والله".
وأفضله ما دلّ على الاتصال، ومن فوائده: زيادة الضبط، وقلّما يسلم عن خلل في التسلسل، وقد ينقطع تسلسله في وسطه، كمسلسل أولُ حديث سمعته، على ما هو الصحيح فيه.
انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى
(1)
.
وإلى هذا أشار الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث"، حيث قال:
هُوَ الَّذِي إِسْنَادُهُ رِجَالَهْ
…
قَدْ تَابَعُوا فِي صِفَةٍ أوْ حَالَهْ
قَوْلِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ كِلَيْهِما
…
لَهُمْ أَوِ الإِسْنَادِ فِيمَا قُسِّمَا
وَخَيْرُهُ الدَّالُّ عَلَى الْوصْفِ وَمِنْ
…
مُفَادِهِ زِيَادَةُ الضَّبْطِ زُكِنْ
وَقَلَّمَا يَسْلَمُ فِي التَّسَلْسُلِ
…
مِنْ خَلَلٍ وَرُبَّمَا لَمْ يُوصَلِ
كَأَوَّلِيَّةٍ لِسُفْيَانَ انْتَهَى
…
وَخَيْرُهُ مُسَلْسَلٌ بِالْفُقَهَا
(2)
ومنها: الحث على الصلاة أول الوقت. وأن من صلى أول الوقت، ثم أقيمت الجماعة صلى مع الجماعة ثانياً، ولا يقول: إني قد صليت، فلا أصلي.
ومنها: مشروعية إعادة الصلاة، وسيأتي اختلاف أهل العلم في ذلك (53/ 857) إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
انظر التقريب مع شرحه التدريب جـ 2 ص 187 - 189.
(2)
انظر ألفية السيوطي بتحقيق العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله ص 199.
779 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّكُمْ سَتُدْرِكُونَ أَقْوَامًا، يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتُمُوهُمْ، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَصَلُّوا مَعَهُمْ، وَاجْعَلُوهَا سُبْحَةً".
رجال هذا الإسناد: خمسة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسي، تقدم قبل باب.
2 -
(أبو بكر بن عيّاش) بن سالم الأسدي الكوفي المقرىء الحنّاط مشهور بكنيته، واختلف في اسمه على نحو عشرة أقوال، والأصح أن اسمه كنيته. ثقة عابد كبر فساء حفظه، وكتابه صحيح، مات سنة 194، من [7]، وقيل: قبل ذلك، وقد قارب المائة. أخرج له الجماعة، تقدم في 98/ 127.
3 -
(عاصم) بن أبي النجود المقرىء.
4 -
(زِرّ) بن حُبيش.
5 -
(عبد الله) بن مسعود.
تقدموا في الباب الماضي. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلكم ستدركون) و"لعل" هنا للتحقيق، بدليل الروايات الأخرى، فقد تقدم في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه عند مسلم:"يا أبا ذر، إنه سيكون بعدي أمراء، يميتون الصلاة" الحديث.
ولأبي داود من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون عليكم أمراء بعدي، تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها، حتى يذهب وقتها، فصلّوا الصلاة لوقتها". فقال رجل: يا رسول الله، أصلي معهم؟ قال:"نعم، إن شئت". وفي رواية: إن أدركتها معهم أَأُصلي معهم؟ قال: "نعم، إن شئت". وهو حديث صحيح.
وله من حديث قبيصة بن وَقّاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون عليكم أمراء بعدي، يؤخرون الصلاة، فهي لكم، وهي عليهم، فصلوا الصلاة معهم ما صلَّوا القبلة". وفي إسناده صالح بن عبيد، وثقه ابن حبان، وقال ابن القطان: لا نعرف حاله، لكن الحديث صحيح لشواهده.
(أقواماً، يصلون الصلاة لغير وقتها) هذا ظاهر في كونهم يخرجونها عن وقتها، وأصرح منه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المتقدم، ففيه: "تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب
وقتها
…
" الحديث.
وقال النووي رحمه الله: والمراد تأخيرها عن وقتها المختار، لا عن جميع وقتها، فإن المنقول عن الأمراء المتقدمين والمتأخرين إنما هو تأخيرها عن وقتها المختار، ولم يؤخرها أحد منهم عن جميع وقتها، فيجب حمل هذه الأخبار على ما هو الواقع. انتهى
(1)
.
واعترض الحافظ رحمه الله على هذا في الفتح، فقال في شرح حديث أنس رضي الله عنه "لا أعرف شيئاً مما أدركت، إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَتْ"، ما نصه: قال المهلب: والمراد بتضييعها تأخيرها عن وقتها المستحب، لا أنهم أخرجوها عن الوقت، كذا قال. وتبعه جماعة، وهو مع عدم مطابقته للترجمة -يعني ترجمة البخاري رحمه الله بقوله:"باب تضييع الصلاة عن وقتها"- مخالف للواقع، فقد صح أن الحجاج، وأميره الوليد، وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة:
منها: ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: أخر الوليد الجمعة حتى أمسى، فجئت، فصليت الظهر قبل أن أجلس، ثم صليت العصر، وأنا جالس، إيماء، وهو يخطب. وإنما فعل ذلك عطاء خوفاً على نفسه من القتل.
(1)
شرح مسلم جـ 5 ص 147.
ومنها: ما رواه أبو نعيم شيخ البخاري في "كتاب الصلاة" من طريق أبي بكر بن عتبة، قال: صليت إلى جنب أبي جحيفة، فمَسَّى الحجاج بالصلاة، فقام أبو جحيفة، فصلى. ومن طريق ابن عمر: أنه كان يصلي مع الحجاج، فلما أخر الصلاة ترك أن يشهدها معه. ومن طريق محمد بن أبي إسماعيل، قال: كنت بمنى، وصحف تقرأ للوليد، فأخروا الصلاة، فنظرت إلى سعيد بن جبير، وعطاء يومئان إيماء، وهما قاعدان. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الحافظ رحمه الله هو اللائق بظواهر الأحاديث، ففيها:"يصلون الصلاة لغير وقتها"، وفيها:"يميتون الصلاة عن وقتها"، وفيها:"تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها، حتى يذهب وقتها"، وكلها تقدمت، فتأويل هذه النصوص بتأخيرها عن وقتها المستحب تكلف بارد، وتعسف كاسد.
والحاصل أن الأولى أن يحمل الإخراج على ظاهره، فهم يخرجونها عن وقتها لاشتغالهم بأمورهم، لا جحداً لوجوبها، فإنهم لو أخروها جحداً وجب مقاتلتهم، وتحرم الصلاة خلفهم. والله تعالى أعلم.
(فإِن أدركتموهم) أي أدركتم وقتهم، وتولَّوا أمركم (فصلوا
(1)
فتح جـ 2 ص 196.
الصلاة لوقتها) أي في وقتها المستحب، وفي رواية البيهقي "فصلوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون
…
"
(وصلوا معهم، واجعلوها سبحة) أي اجعلوا تلك الصلاة التي صليتموها معهم نافلة. قال في اللسان: و"السُّبْحَة" -يعني بضم، فسكون-: الدعاءُ، وصلاةُ التطوع، والنافلةُ، يقال: فرغ فلان من سُبْحته: أي من صلاة النافلة، سميت الصلاة تسبيحاً لأن التسبيح تعظيم الله، وتنزيهه من كل سُوء. قال ابن الأثير: وإنما خصت النافلة بالسبحة، وإن شاركتها الفريضة في معنى التسبيح؛ لأن التسبيحات في الفرائض نوافل، فقيل لصلاة النافلة سُبْحة؛ لأنها نافلة كالتسبيحات والأذكار في أنها غير واجبة. اهـ
(1)
.
والحديث صريح في أن الصلاة الأولى هي الفريضة، وأن الثانية هي نافلة، وإلى هذا ذهب الجمهور، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسائل إن شاء الله تعالى. والله أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا صحيح. والله أعلم.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
(1)
لسان جـ 3 ص 1916.
أخرجه هنا (2/ 779) بالسند المذكور، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن محمد بن الصباح، عن أبي بكر بن عياش، بسند المصنف. وأحمد في مسنده (1/ 379) وابن خزيمة في صحيحه رقم (1640).
وأخرجه أبو داود بسند صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي، قال: قدم علينا معاذ بن جبل اليمن؛ رسولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، قال: فسمعت تكبيره مع الفجر، رجل أجَشُّ الصوت
(1)
، قال: فألقيت عليه محبتي، فما فارقته، حتى دفنته بالشام ميتاً، ثم نظرت إلى أفقه الناس بعده، فأتيت ابن مسعود، فلزمته حتى مات، فقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء، يصلون الصلاة لغير ميقاتها؟ " قلت: فما تأمرني إذا أدركني ذلك يا رسول الله؟ قال: "صل الصلاة لميقاتها، واجعل صلاتك معهم سبحة".
وأخرجه البيهقي في "الكبرى": أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، ثنا أبو جعفر أحمد بن مهران الأصفهاني، ثنا محمد بن الصباح، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله -يعني ابن مسعود- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيلي أمركم قوم يطفئون السنة، ويحدثون بدعة، ويؤخرون الصلاة
(1)
بفتح الهمزة: أي غليظه.
عن مواقيتها"، قال ابن مسعود: فكيف يا رسول الله إن أدركتهم؟ قال: "يا ابن أم عبد، لا طاعة لمن عصى الله" انتهى
(1)
. قالها ثلاثاً.
قال الجامع: رجال هذا الإسناد وُثّقوا، وقد سمع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده.
منها: أن الإمام إذا أخر الصلاة عن أول الوقت المستحب ينبغي للشخص أن يصليها في أول الوقت منفرداً، ثم يصليها مع الإمام إن أدركه، فيجمع بين فضيلتي أول الوقت، والجماعة.
قال النووي رحمه الله: فلو أراد الاقتصار على إحداهما، فهل الأفضل الاقتصار على فعلها منفرداً في أول الوقت، أم الاقتصار على فعلها جماعة في آخر الوقت؟ فيه خلاف مشهور لأصحابنا -يعني الشافعية- واختلفوا في الراجح، والمختارُ استحباب الانتظار إن لم يفحش التأخير.
ومنها: الحث على موافقة الأمراء في غير معصية، لئلا تتفرق الكلمة، وتقع الفتنة.
ومنها: أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيكون بعده من تحول الأمراء عن طريق الحق، بحيث إنهم لا يبالون
(1)
السنن الكبرى جـ 3 ص 127.
بتأخير الصلاة التي هي من أعظم أركان الدين، فكيف بما دونها من تغيير السنن، وإحداث البدع، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث وقع طبْقًا لما أخبر به، قال الله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].
ومنها: اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأصحابه الذين يتأخرون بعده، ويتولى عليهم من يغير الأمور، فأرشدهم إلى كيفية معايشتهم، وحثهم على عدم الخروج عليهم، وأمرهم بالإحسان معهم إذا أحسنوا، واجتنابهم إذا أساءوا.
ومنها: أن العالم ينبغي له أن يبدأ بالمسألة من غير أن يُسألَ، إذا كان الناس في حاجة إليها.
ومنها: أنه ينبغي للجاهل أن يطلب من العالم حَلَّ المسألة، وتوضيحها إذا لم يتبين له وجهها. والله تعالى أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
المسألة الرابعة: في اختلاف أهل العلم في الصلاة خلف أئمة الجْور، ومن لا يُرضَى حاله؛ من الخوارج، وأهل البدع:
ذهبت طائفة من أهل العلم إلى جواز الصلاة خلفهم:
قال الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في مصنفه: ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن عُمَير بن هاني، قال: شهدت ابن عمر، والحجاج محاصر ابن الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما، فكان
ربما حضر الصلاة مع هؤلاء، وربما حضر الصلاة مع هؤلاء.
حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: كان الحسن ابن علي، والحسين يصليان خلف مروان. قال: فقيل له: أما كان أبوك يصلي إذا رجع إلى البيت؟ قال: فيقول: لا والله، ما كانوا يزيدون على صلاة الأئمة.
حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يصلون خلف الأمراء، ما كانوا.
حدثنا هشيم، عن أبي حُرَّة، عن الحسن، قال: لا يضر المؤمن صلاته خلف المنافق، ولا ينفع المنافق صلاة المؤمن خلفه.
حدثنا أبو أسامة، عن حبيب بن جزي
(1)
، قال: سألت أبا جعفر عن الصلاة خلف الأمراء؟ قال: صل معهم.
حدثنا كثير بن هشام
(2)
، عن جعفر بن بُرقان، قال: سألت ميموناً عن الصلاة خلف الأمراء؟ فقال: صل معهم.
حدثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، قال: سألت ميموناً عن رجل، فذكر أنه من الخوارج، فقال: أنت لا تصل له، إنما تصل لله، قد كنا نصلي خلف الحجاج، وكان حرورياً أزرقياً
(3)
.
(1)
حبيب بن جزي العبسي الكوفي. ذكره الطوسي في رجال الشيعة، وقال: روى عن الصادق، ويقال: إنه أدرك الباقر رحمه الله تعالى. اهـ لسان الميزان جـ 2 ص 169.
(2)
كثير بن هشام الكلابي، أبو سهل الرقي، نزيل بغداد، ثقة من السابعة، مات سنة 207، وقيل:208.
(3)
قال في "ق": الأزارقة من الخوارج نسبوا إلى نافع بن الأزرق. اهـ.
حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان عبد الله يصلي معهم إذا أخروا عن الوقت قليلاً، ويرى أن مَأثَم ذلك عليهم.
حدثنا وكيع عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن رجل، عن سعيد بن جبير، أنه كان يصلي مع الحجاج عند أبواب كِنْدَة، وخرج عليه.
حدثنا وكيع، ثنا بَسَّام، قال: سألت أبا جعفر عن الصلاة مع الأمراء؟ فقال: صلّ معهم، فإنا نصلي معهم، قد كان الحسن والحسين يبتدران الصلاة خلف مروان. قال: فقلت: الناس يزعمون أن ذلك تَقِيّة، قال: وكيف إن الحسن بن علي يسب مروان في وجهه، وهو على المنبر حتى تولى!
حدثنا وكيع، ثنا سفيان، عن إبراهيم بن أبي حفصة، قال: قلت لعلي بن حسين: إن أبا حمزة الثُّمالي، وكان فيه غلوّ يقول: لا نصلي خلف الأئمة، ولا نناكح إلا من يرى مثل ما رأينا، فقال علي بن حسين: بل نصلي خلفهم، ونناكحهم بالسنة.
حدثنا وكيع، ثنا سفيان، عن الأعمش، قال: كانوا يصلون خلف الأمراء، ويحتسبون بها.
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عقبة الأسدي، عن زيد بن أبي سليمان أن أبا وائل كان يجمِّع مع المختار.
حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن مسلم، عن أبي فَرْوة، قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأشار إلى محمد بن سعد، والحجاج يخطب أن اسكت.
حدثنا الفضل بن دُكَين، عن الأعمش، عن القاسم بن مخيمِرَة أنه كان يصلي خلف الحجاج.
انتهى. "مصنف ابن أبي شيبة"
(1)
.
وأخرج البيهقي بسنده عن مكحول، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير بَرّاً كان أو فاجراً، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برّاً كان، أو فاجراً، وإن عمل الكبائر، والصلاة واجبة على كل مسلم برّاً كان، أو فاجراً، وإن عمل الكبائر". قال البيهقي: وهذا إسناده صحيح، إلا أن فيه إرسالاً بين مكحول وأبي هريرة
(2)
.
وأخرج أيضاً بسنده عن عمير بن هانىء، قال: بعثني عبد الملك بن مروان بكتب إلى الحجاج، فأتيته، وقد نصب على البيت أربعين مَنْجَنِيقاً، فرأيت ابن عمر إذا حضرت الصلاة مع الحجاج صلى معه، وإذا حضر ابن الزبير صلى معه؛ فقلت له يا أبا عبد الرحمن أتصلي مع هؤلاء، وهذة أعمالهم؟ فقال: يا أخا أهل الشام، ما أنا لهم بحامد، ولا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق، قال: قلت: ما تقول في أهل الشام؟ قال: ما أنا لهم بحامد. قلت: فما تقول في أهل مكة؟ قال: ما أنا لهم بعاذر؛ يقتتلون على الدنيا، يتهافتون في النار تهافت الذباب في المرق. قلت: فما تقول في هذه البيعة التي أخذ علينا مروان؟ قال: قال
(1)
جـ 2 ص 378 - 379.
(2)
معرفة السنن والآثار جـ 2 ص 400.
ابن عمر: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يلقننا "فيما استطعتم".
وأخرج أيضاً بسنده عن يونس بن عبيد، عن نافع، قال: كان ابن عمر يسلم على الخشبية
(1)
، والخوارج، وهم يقتتلون، فقاله: من قال: حي على الصلاة أجبته، ومن قال: حي على الفلاح أجبته، ومن قال: حي على قتل أخيك المسلم، وأخذ ماله، قلت: لا. انتهى
(2)
.
ومنعت طائفة الصلاة خلف أهل البدع، وأمر بعضهم من صلى خلفهم بالإعادة، كان سفيان الثوري يقول في الرجل يكذّب بالقدر: لا تقدموه.
وقال أحمد في الجهمي يصلي خلفه: يعيد، والقدري إذا كان يرد الأحاديث، ويخاصم فليعد، والرافضي يصلي خلفه: يعيد. وقال أحمد: لا يصلي خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه.
وقد حكي عن مالك أنه قال: لا يصلى خلف أهل البدع من القدرية، وغيرهم، ويصلى خلف أئمة الجور. قاله ابن المنذر رحمه الله تعالى
(3)
.
وقال العلامة العيني رحمه الله: وكان أبو حنيفة رحمه الله لا يرى الصلاة خلف المبتدعة، ومثله عن أبي يوسف. انتهى
(4)
.
(1)
الخشبية هم أصحاب المختار بن أبي عبيد. كذا في مجمع البحار. وقال صاحب القاموس: هم قوم من الجهمية. اهـ من هامش السنن الكبرى جـ 3 ص 122.
(2)
السنن الكبرى جـ 3 ص 122.
(3)
الأوسط جـ 4 ص 232.
(4)
عمدة القاري جـ 5 ص 232.
وقال النووي رحمه الله في "المجموع" ما حاصله:
من كفر ببدعته لا تصح الصلاة وراءه، ومن لا يكفر تصح؛ فممن يكفر: من يجسم تجسيماً صريحاً، ومن ينكر العلم بالجزئيات. وأما من يقول بخلق القرآن فهو مبتدع، واختلف أصحابنا في تكفيره، فأطلق أبو علي الطبري في "الإفصاح"، والشيخ أبو حامد الإسفرايني، ومتابعوه، القول بأنه كافر، قال أبو حامد، ومتابعوه: المعتزلة كفار، والخوارج ليسوا بكفار، ونقل المتولي تكفير من يقول بخلق القرآن عن الشافعي، وقال القفال، وكثيرون من الأصحاب: يجوز الاقتداء بمن يقول بخلق القرآن وغيره من أهل البدع، قال صاحب العدة: هذا هو المذهب.
قال النووي:
وهذا هو الصواب، فقد قال الشافعي رحمه الله: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. ولم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة، ونحوهم، ومناكحتهم، وموارثتهم، وإجراء سائر الأحكام عليهم.
وتأول الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي، وغيره من أصحابنا المحققين ما نقل عن الشافعي، وغيره من العلماء؛ من تكفير القائل بخلق القرآن على أن المراد كفران النعمة، لا كفران الخروج عن الملة، وحَمَلَهم على هذا التأويل ما ذكرته من إجراء أحكام الإسلام عليهم
(1)
.
(1)
انظر المجموع جـ 4 ص 253 - 254.
قال الشافعي رحمه الله: ومن صلى صلاة من بالغ مسلم، يقيم الصلاة، أجزأته، ومَن خلفه صلاتُهم، وإن كان غير محمود الحال في دينه، أيّ غاية بلغ، يخالف الحمد في الدين، وقد صلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خلف من لا يَحْمَدون فعاله، من السلطان وغيره. انتهى كلام الشافعي رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال ابن المنذر: إن كفر ببدعته لم تجز الصلاة وراءه، وإلا فتجوز، وغيره أولى
(2)
.
وقال الإمام المحقق أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى:
ما نعلم أحداً من الصحابة رضي الله عنهم امتنع من الصلاة خلف المختار، وعبيد الله بن زياد، والحجاج، ولا فاسق أفسق من هؤلاء، وقد قال الله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
ولا برّ أبرّ من الصلاة وجمعها في المساجد، فمن دعا إليها ففرض إجابته، وعونه على البر والتقوى الذي دعا إليهما، ولا إثم بعد الكفر آثم من تعطيل الصلوات في المساجد، فحرام علينا أن نعين على ذلك، وكذلك الصيام، والحج، والجهاد؛ من عمل شيئاً من ذلك عملناه معه، ومن دعانا إلى إثم لم نجبه، ولم نعنه عليه. وكل هذا قول أبي حنفية، والشافعي، وأبي سليمان -يعني داود الظاهري- رحمهم الله تعالى.
(1)
انظر الأم جـ 1 ص 140 طبعة مصورة عن طبعة بولاق.
(2)
انظر المجموع جـ 4 ص 254.
انتهى كلام ابن حزم رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله ما ملخصه: قد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة، ومن معهم من التابعين إجماعاً فعلياً، ولا يبعد أن يكون قولياً على الصلاة خلف الجائرين؛ لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم، في كل بلدة فيها أمير، وكان الدولة إذ ذاك لبني أمية، وحال أمرائهم لا يخفى.
وقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف.
وأخرج مسلم، وأهل السنن أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، وإخراج منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار بعض الحاضرين.
وأيضاً قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يكون على الأمة أمراء يميتون الصلاة ميتة الأبدان، ويصلونها لغير وقتها، فقالوا: يا رسول الله، بم تأمرنا؟ فقال:"صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة". ولاشك أن من أمات الصلاة، وفَعَلها في غير وقتها غير عدل، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلفه نافلة، ولا فرق بينها وبين الفريضة في ذلك.
(1)
المحلَّى جـ 4 ص 214.
والحاصل أن الأصل عدم اشتراط العدالة، وأن كل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره. فالقائل بأن العدالة شرط، كما روي عن العترة، ومالك، وجعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب محتاج إلى دليل، ينقل عن ذلك الأصل.
ثم إن محل النزاع إنما هو في صحة الصلاة خلف من لا عدالة له، وأما أنها مكروهة فلا خلاف في ذلك. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى في نيله باختصار
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كلام العلامة الشوكاني رحمه الله كلام نفيس جدّاً.
وحاصله جواز الصلاة خلف من صحت صلاته لنفسه من كل بالغ مسلم، وإن كانت سيرته غير محمودة؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون خلف من لا يحمدون سيرته من السلاطين وغيرهم، كما صرح به الشافعي رحمه الله تعالى فيما سبق، وهو الذي عليه جمهور السلف والخلف، فتصح الصلاة خلف أئمة الجَوْر، وأهل الأهواء الذين لا يكفّرون بأهوائهم، وإن كان الأولى الصلاة خلف الأئمة الصلحاء. والله تعالى أعلم، وهو الهادي إلى الطريق الأقوم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
…
(1)
نيل الأوطار جـ 4 ص 61 - 63.
3 - مَنْ أحَقُّ بِالإِمَامَةِ؟
أي هذا باب ذكر الحديث الدالّ على بيان من هو أحق الناس بأن يؤمهم.
780 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَوْسِ بْنِ ضَمْعَجٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ فِي الْهِجْرَةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا، وَلَا تَؤُمَّ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا تَقْعُدْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَكَ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(قتيبة) بن سعيد الثقفي، ثقة ثبت، مات سنة 244، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
2 -
(فُضيل بن عياض) بن مسعود التميمي، أبو علي الزاهد المشهور، أصله من خراسان، وسكن مكة، ثقة عابد إمام، مات
سنة 187، وقيل: قبلها، من [8]، أخرج له البخاري، وأبو داود في مراسيله، والترمذي، والنسائي، تقدم في 21/ 388.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مِهْران، أبو محمد الكوفي، ثقة حافظ ورع يدلس، مات سنة 147، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 17/ 18.
4 -
(إِسماعيل بن رجاء) بن رَبيعة الزُّبَيدي
(1)
، أبو إسحاق الكوفي، ثقة، تكلم فيه الأزدي بلا حجة، من [5].
روى عن أبيه، وأوس بن ضمعج، وعبد الله بن أبي الهذيل، وغيرهم. وعنه الأعمش -وهو من أقرانه- وشعبة، والمسعودي، وفِطْر ابن خليفة، وإدريس بن يزيد الأودي، وجماعة.
قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال ابن فضيل، عن الأعمش: كان يجمع صبيان المكتب، ويحدثهم لكيلا ينسى حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال اللالكائي: رأى المغيرة بن شعبة. وقال الذهبي: قال الأزدي وحده: منكر الحديث. أخرج له مسلم، والأربعة
(2)
.
5 -
(أوس بن ضَمْعَج)
(3)
الكوفي الحضرمي، ويقال: النخعي،
(1)
بضم الزاي مصغراً. كما أفاده في "ت".
(2)
"تت" جـ 1 ص 296.
(3)
بفتح المعجمة، وسكون الميم، بعدها مهملة مفتوحة، ثم جيم، بوزن جعفر. قاله في "ت" ص 39.
ثقة مخضرم، مات سنة 74
(1)
، من [2].
روى عن أبي مسعود الأنصاري، وسلمان الفارسي، وعائشة، وغيرهم. وعنه ابن عمران، وأبو إسحاق السبيعي، وإسماعيل بن رجاء، وقال: كان من القُرّاء الأُوَل، وذكر منه فضلاً.
وقال شبابة: حدثنا شعبة، وذُكِرَ عنده أوس بن ضمعج، فقال: والله ما أراه إلا كان شيطاناً -يعني لجودة حديثه
(2)
. وروى الحسين بن الحسن الرازي، عن ابن معين: لا أعرفه. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال ابن سعد: أدرك الجاهلية، وكان ثقة معروفاً قليل الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال خليفة بن خياط: مات في ولاية بشر ابن مروان سنة 74
(3)
. أخرج له مسلم، والأربعة، حديث الباب فقط
(4)
.
6 -
(أبو مسعود) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري، الصحابي الجليل رضي الله عنه مات قبل الأربعين، وقيل: بعدها، أخرج له الجماعة، تقدم في 6/ 494. والله تعالى أعلم.
(1)
"ت" ص 39.
(2)
هذا التفسير يحتاج إلى تأمل.
(3)
"تت" جـ 1 ص 383.
(4)
"تك" جـ 3 ص 383، 390 - 392.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من سداسيات المصنف، وأن رجاله كلهم ثقات، وفيه رواية تابعي عن تابعي، إسماعيل، عن أوس، وفيه من صيغ الأداء الإخبار، والإنباء، والعنعنة. والله أعلم.
شرح الحديث
(عن أبي مسعود) البدري، رضي الله عنه، أنه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) خبر بمعنى الأمر أي ليؤم القوم أقرؤهم، بدليل حديث عمرو بن سَلمَةَ الآتي (11/ 789) "ليؤمكم أكثركم قرآناً".
يعني أنه يقدم الأقرأ لكتاب الله تعالى في الصلاة بالناس على غيره.
وقد اختُلف في المراد من الأقرأ، فقيل: المراد أحسنهم قراءة، وأعلمهم بأحكامها، وإن كان أقلهم حفظاً. وقيل: أكثرهم حفظاً للقرآن، ويدلّ عليه حديث عمرو بن سَلِمة المذكور. وقيل: المراد به الأفقه؛ لأنك إذا اعتَبَرت أحوالَ الصحابة وجدت أن أفقههم أقرؤهم، فيكون المراد من قوله صلى الله عليه وسلم:"أقرؤهم لكتاب الله"، أي أعلمهم به
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأقرب تفسيره بالأكثر حفظاً للقرآن،
(1)
أفاده في المنهل جـ 4 ص 296 - 297.
لحديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه المذكور، وخير ما فسر به الحديث ما جاء في حديث آخر. والله تعالى أعلم.
وقال الإمام الخطابي رحمه الله:
وهذا هو الصحيح المستقيم في الترتيب، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل مِلاك الإمامة القراءة، وجعلها مقدمة على سائر الخصال المذكورة معها، والمعنى في ذلك أنهم كانوا قوماً أميين، لا يقرؤون، فمن تعلم منهم شيئاً من القرآن كان أحق بالإمامة ممن لم يتعلم؛ لأنه لا صلاة إلا بقراءة، وإذا كانت القراءة من ضرورة الصلاة، وكانت ركناً من أركانها صارت مقدمة في الترتيب على الأشياء الخارجة عنها.
ثم تلا القراءة بالسنة، وهي الفقه، ومعرفة أحكام الصلاة، وما سَنَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيها، وبيّنه من أمرها، فإن الإمام إذا كان جاهلاً بأحكام الصلاة، وبما يعرض فيها من سهو، ويقع من زيادة ونقصان أفسدها، وأخدجها، فكان العالم بها، والفقيه فيها مقدماً على من لم يجمع علمها، ولم يعرف أحكامها.
ومعرفةُ السنة، وإن كانت مؤخرة في الذكر، وكانت القراءة مبدوءاً بذكرها، فإن الفقيه العالم بالسنة إذا كان يقرأ من القرآن ما تجوز به الصلاة أحق بالإمامة من الماهر بالقراءة إذا كان متخلفاً عن درجته في علم الفقه، ومعرفة السنة. وإنما قُدم القارىء في الذكر؛ لأن عامة الصحابة إذا اعتبرت أحوالهم وجدت أقرأهم أفقههم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كان أحدنا إذا حفظ سورة من القرآن لم يخرج عنها إلى غيرها حتى يُحكِم علمها، أو يعرف حلالها وحرامها. أو كما قال. فأما غيرهم ممن تأخر بهم الزمان، فإن أكثرهم يقرؤون القرآن، ولا يفقهون، فقراؤهم كثير، والفقهاء منهم قليل.
انتهى كلام الخطابي رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: في الحديث حجة لمن قال: يقدم الأقرأ على الأفقه، وهو المذهب الراجح إذا كان يعرف أحكام الصلاة. وقال بعضهم: الأفقه مقدم على الأقرأ. وسيأتي تفاصيل المذاهب، وترجيح الراجح منها في المسائل، إن شاء الله تعالى.
(فإِن كانوا في القراءة سواء)"سواءً" خبر "كان" بمعنى مستوين، أي إن استووا في القدر المعتبر من القراءة؛ إما في حسنها، أو في كثرتها وقلتها على القولين (فأقدمهم في الهجرة) عطف على "أقرؤهم"، والفاء للترتيب، أي يؤم القوم أقدمهم في الهجرة. يعني أن الأسبق في الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، يكون أولى بالإمامة ممن تأخر في ذلك.
وإنما قُدِّمَ، إما لأن القِدَم في الهجرة شرف يقتضي التقديم، أو لأن من تقدمت هجرته لا يخلو غالباً عن كثرة العلم بالنسبة إلى من تأخر. قاله السندي.
(1)
معالم السنن جـ 1 ص 303.
ثم إن الهجرة المقدم بها في الإمامة لا تختص بالهجرة في عصره صلى الله عليه وسلم، بل هي التي لا تنقطع إلى يوم القيامة، كما وردت بذلك الأحاديث، وقال به الجمهور. وأما حديث:"لا هجرة بعد الفتح". فالمراد به الهجرة من مكة إلى المدينة، أو لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح. وهذا لابد منه للجمع بين الأحاديث. قاله الشوكاني رحمه الله
(1)
.
وقال النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: يدخل فيه طائفتان:
أحدهما: الذين يهاجرون اليوم من دار الكفر إلى دار الإسلام، فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة عندنا، وعند جمهور العلماء. وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح"؛ أي لا هجرة من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، أو لا هجرة فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح.
الطائفة الثانية: أولاد المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا استوى اثنان في الفقه والقراءة، وأحدهما من أولاد من تقدمت هجرته، والآخر من أولاد من تأخرت هجرته قدم الأول. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وفي الاستدلال بحديث الباب على الطائفة الثانية بُعْد لا يخفى.
(1)
نيل جـ 4 ص 53 - 54.
(2)
شرح مسلم جـ 5 ص 173.
وقال بعضهم: المعتبر اليوم الهجرة المعنوية، وهي هجرة المعاصي، فيكون الأورع أولى. اهـ.
قال الجامع: تخصيصه باليوم فيه نظر، بل الظاهر حمل الحديث على ما يعم الهجرتين مطلقاً، في أيّ زمن كان؛ لأن هجرة المعاصي هي الهجرة الحقيقية، لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المتفق عليه مرفوعاً:"والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
فيكون المعنى أنه يقدم في الإمامة من كان أسبق للهجرة، أي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو أسبق لهجران المعاصي على من تأخر في ذلك. والله أعلم.
تنبيه:
وقع عند المصنف رحمه الله تعالى هنا (3/ 780)، وفي الكبرى (3/ 855) من رواية فضيل بن عياض، عن الأعمش، تقديم الأقدم في الهجرة على الأعلم بالسنة.
ووقع تقديم الأعلم بالسنة على الأقدم هجرةً عند مسلم جـ 5 ص 172 بنسخة شرح النووي من رواية أبي خالد الأحمر، عن الأعمش، بسند المصنف، ثم ساق مسلم بإسناده عن أبي معاوية، وجرير، وابن فضيل، وسفيان كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد مثله. وعند أبي داود جـ 4 ص 298 بنسخة "المنهل" من رواية عبد الله بن نمير، عن الأعمش. وعند الترمذي جـ 2 ص 30 بنسخة "تحفة الأحوذي" من
رواية أبي معاوية، وعبد الله بن نمير، كلاهما عن الأعمش. وفي مسند أحمد (4/ 121) من رواية أبي معاوية، عن الأعمش. وصحيح ابن خزيمة جـ 3 ص 4 من رواية أبي معاوية، عن الأعمش.
قال الجامع: فالصواب عندي ما وقع عند هؤلاء من تقديم الأعلم بالسنة على الأقدم هجرةً لاتفاق هؤلاء الحفاظ عليه، ومخالفة فضيل لهم. والله تعالى أعلم.
(فإِن كانوا في الهجرة سواء، فأعلمهم بالسنة) أي فيؤم أكثرهم علماً بالسنة. قال السندي رحمه الله: حملوها على أحكام الصلاة. اهـ
(1)
. وقال الشوكاني رحمه الله: فيه أن مزية العلم مقدمة على غيرها من المزايا الدينية
(2)
.
وقال الطيبي رحمه الله: أراد بها الأحاديث، فالأعلم بها كان أفقه في عهد الصحابة. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: في عهد الصحابة فيه نظر؛ إذ الأعلم بالأحاديث هو الأفقه على الإطلاق في عهدهم وبعد عهدهم، فإن الفقه هو فهم الأحكام الشرعية التي أنزلها الله تعالى في كتابه، والأحاديث هي المبينة لمعاني الكتاب، كما قال الله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فأهل الحديث هم
(1)
شرح السندي جـ 2 ص 76.
(2)
نيل الأوطار جـ 4 ص 53.
الأفقهون، ولا التفات إلى ما يُهَوِّش به أعداء السنة من تهوين أمر الحديث، وتخذيلهم الأغبياء عن الاهتمام بالحديث، وكأن الحديث عندهم ليس مصدراً للفقه {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .
(فإِن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم سنًّا) أي إن استوى القوم في العلم بالسنة فيؤمهم أكبرهم سِنّاً.
وقال في النيل: أي يقدم في الإمامة من كبر سنه في الإسلام؛ لأن ذلك فضيلة يرجح بها. وجعل البغوي أولاد من تقدم إسلامه أولى من أولاد من تأخر إسلامه، والحديث لا يدل عليه
(1)
.
وفي رواية لمسلم "فأقدمهم سِلْماً" بدل "سِنّاً". قال النووي رحمه الله: معناه إذا استويا في الفقه، والقراءة، والهجرة، ورجح أحدهما بتقدم إسلامه، أو بكبر سنه قُدِّم؛ لأنها فضيلة يُرَجَّح بها. اهـ
(2)
.
(ولا تؤمّ الرجل)"لا" ناهية، فلذا جزم الفعل بعدها، وحرك لالتقاء الساكنين، وتجوز فيه الحركات الثلاث، الكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين، والفتح للتخفيف، والضم للإتباع. والفعل مبني للفاعل مسند لضمير المخاطب، و"الرجل" منصوب على المفعولية له.
(1)
نيل جـ 4 ص 54.
(2)
شرح مسلم جـ 5 ص 173.
وفي الرواية الآتية (6/ 783) من طريق شعبة، عن إسماعيل بن رجاء:"ولا يُؤَمُّ الرجلُ في سلطانه، ولا يُجلَسُ على تكرمته". بالبناء للمفعول. ومثله للترمذي. ولمسلم: "ولا تؤمَّنَّ الرجل" بنون التوكيد المشددة، وفي رواية له:"ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ" بالياء.
(في سلطانه) أي في مظهر سلطنته، ومحل ولايته، أو فيما يملكه، أو في محلٍّ يكون في حكمه، ويعضد هذا التأويل الرواية الأخرى:"في أهله". وفي رواية أبي داود: "في بيته، ولا في سلطانه". ولذا كان ابن عمر رضي الله عنه يصلي خلف الحجاج، وصح عن ابن عمر أن إمام المسجد مقدم على غير السلطان.
وتحريره أن الجماعة شرعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة، وتآلفهم، وتوادهم، فإذا أمَّ الرجل الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة، وخلع رِبْقَة الطاعة، وكذلك إذا أمه في قومه وأهله أدّى ذلك إلى التباغض، والتقاطع، وظهور الخلاف الذي شرع لدفعه الاجتماع، فلا يتقدم رجل على ذي السلطنة، لاسيما في الأعياد والجمعات، ولا على إمام الحي، ورب البيت إلا بالإذن. قاله الطيبي
(1)
.
وقال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في
(1)
انظر المرقاة جـ 3 ص 194.
سلطانه". معناه ما ذكره أصحابنا وغيرهم؛ أن صاحب البيت، والمجلس، وإمام المسجد، أحق من غيره، وإن كان ذلك الغير أفقه، وأقرأ، وأورع، وأفضل منه، وصاحب المكان أحق، فإن شاء تقدم، وإن شاء قدم من يريده، وإن كان ذلك الذي يقدمه مفضولاً بالنسبة إلى باقي الحاضرين؛ لأنه سلطانه، فيتصرف فيه كيف شاء.
قال أصحابنا: فإن حضر السلطان أو نائبه قدم على صاحب البيت، وإمام المسجد، وغيرهما؛ لأن ولايته وسلطنته عامة، قالوا: ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل منه. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى
(1)
.
(ولا تقعد على تكرمته إِلا بإِذنه) نهي للمخاطب أيضاً عن القعود على ما يُكرَمُ به الرجل في بيته من فراش أو نحوه، إلا بإذنه.
و"التكرمة": -بفتح التاء، وكسر الراء- هي في الأصل مصدر على تَفْعِلَة من كَرَّمَ المضعف، على قلة؛ لأن قياس مصدر فَعَّل المضاعف إذا كان صحيح اللام على تَفْعِيلٍ، ككلّم تكليماً، وسلّم تسليماً، وندر مجيئه على تفعلة، ككرم تكرمة، وجرّب تجربة، وإذا كان معتلّ اللام جاء على تفعِلَة، كزكَّى تزكية، وولّى تولية، وندر مجيئه على تفعيل،
(1)
شرح مسلم جـ 5 ص 173.
كقوله (من الرجز):
بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا
…
كَمَا تُنَزِّي شَهْلَةٌ صَبِيَّا
وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "لامية الأفعال"، حيث قال (من البسيط):
لِفَاعَلَ اجْعَلْ فِعَالاً أَوْ مُفَاعَلَةً
…
وَفَعَّلَ اجْعَلْ لَهُ التَّفْعِيلَ حَيْثُ خَلَا
مِنْ لَامٍ اعْتَلَّ لِلْحَاوِيهِ تَفْعِلَةً
…
الْزَمْ وَلِلْعَارِ مِنْهُ رُبَّمَا بُذِلَا
أطلق هنا مجازاً على ما يعد للرجل إكراماً له في منزله.
وفي صحيح ابن حبان: قال شعبة: فقلت لإسماعيل بن رجاء: ما تكرمته؟ قال: فراشه اهـ
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: التكرمة: الموضع الخاص لجلوس الرجل، من فراش، أو سرير، مما يُعَدُّ لإكرامه، وهي تفعلة من الكَرامة. اهـ
(2)
.
وقال النووي، وابن رسلان: التكرمة: الفراش، ونحوه، مما يبسط لصاحب المنزل، ويختص به، دون أهله، وقيل: هي الوسادة، وفي معناها السرير ونحوه
(3)
.
(1)
صحيح ابن حبان جـ 5 ص 517.
(2)
لسان جـ 5 ص 3863.
(3)
نيل الأوطار جـ 4 ص 54.
وإنما نهي عن القعود على تكرمة الرجل؛ لأن المكان الذي يجلس فيه صاحب الدار عادة، ويخص به نفسه، يكون محلاً لأشياء لا يحب أن يطلع عليها غيره، أو يكون مشرفاً على داره كلها، أو على ما يريده هو، فيرى منه أحوال أهل بيته، ويبلغهم ما يريد، فإذا أذن لغيره بالجلوس، علم أن المكان آمن من ذلك كله. والله تعالى أعلم.
(إِلا بإِذنه) قيل: الاستثناء متعلق بكلا الفعلين، فيجوز أن يؤم الزائر صاحب البيت، ويجلس على تكرمته بإذنه. وقيل: متعلق بالثاني فقط، والراجح الأول.
قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى:
والعمل على هذا -يعني حديث أبي مسعود المذكور في الباب- عند أهل العلم، قالوا: أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله، وأعلمهم بالسنة، وقالوا: صاحب المنزل أحق بالإمامة. وقال بعضهم: إذا أذن صاحب المنزل لغيره، فلا بأس أن يصلي بهم. وكرهه بعضهم، وقالوا: السنة أن يصلي صاحب البيت.
قال أحمد بن حنبل: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤَمُّ الرجلُ في سلطانه، ولا يجلس في بيته على تكرمته، إلا بإذنه". فإذا أذن، فأرجو أن الإذن في الكل، ولم ير به بأساً إذا أذن له أن يصلي به.
انتهى كلام الترمذي رحمه الله تعالى
(1)
. والله تعالى أعلم، ومنه
(1)
جامع الترمذي جـ 2 ص 33 - 35 بنسخة التحفة.
التوفيق، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.
وقال الحافظ رحمه الله: مدار هذا الحديث على إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضمعج، وليسا جميعاً من شرط البخاري، وقد نقل ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه أن شعبة كان يتوقف في صحة هذا الحديث. ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري، وقد علق منه طرفاً بصيغة الجزم، واستعمله هنا في الترجمة. انتهى
(1)
.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (3/ 780)، وفي "الكبرى"(3/ 855) عن قتيبة، عن فضيل بن عياض، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضَمْعج، عنه. وفي (6/ 783)، و"الكبرى"(6/ 858) عن إبراهيم بن محمد التيمي، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن إسماعيل به، مختصراً:"لا يُؤَمُّ الرجلُ في سلطانه، ولا يُجلسُ على تكرمته، إلا بإذنه". والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ فأخرجه مسلم
(1)
فتح جـ 2 ص 396.
في "الصلاة" عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي سعيد الأشج، كلاهما عن أبي خالد الأحمر -وعن أبي كريب، عن أبي معاوية- وعن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، وأبي معاوية -وعن أبي سعيد الأشج، عن ابن فضيل- وعن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة - خمستهم عن الأعمش، به. وعن أبي موسى، وبندار، كلاهما عن غندر، عن شعبة، عن إسماعيل به.
وأبو داود فيه عن أبي الوليد، عن شعبة به. وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة به. وعن الحسن بن علي، عن عبد الله بن نمير، عن الأعمش به.
والترمذي فيه عن هناد عن أبي معاوية به. وعن محمود بن غيلان، عن أبي معاوية، وابن نمير به.
وابن ماجه فيه عن بندار، به.
والحميدي رقم (457)، وأحمد (4/ 118، 121، 121)، (5/ 272)، وابن خزيمة رقم (1507، 1516). وابن حبان رقم (2127، 2133، 2144). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله، وهو بيان من أحق الناس بالإمامة، فيقدم الأقرأ لكتاب الله، فإن استووا قدم الأعلم بالسنة، فإن استووا قدم الأقدم في الهجرة، فإن استووا قدم الأكبر في السن.
ومنها: أن إقامة الصلاة من مهمات الأمور الدينية، فلذا أمر
الشارع أن يقدم لها الأكمل، فالأكمل.
ومنها: أن السلطان، وصاحب البيت لا يجوز أن يتقدم عليهما غيرهما، إلا بإذنهما، فإذا أذنا جاز؛ على خلاف سنذكره في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن المفضول يجوز أن يتقدم على الفاضل إذا أذن له.
ومنها: أنه لا يجوز للشخص أن يجلس على تكرمة غيره إلا بإذنه. والله تعالى أعلم.
المسألة الخامسة: في اختلاف أهل العلم في ترتيب الأحق بالإمامة:
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله تعالى:
هذه مسألة اختلف فيها السلف:
فقال مالك: يؤم القوم أعلمهم إذا كانت حاله حسنة، وللسنّ حق. قيل له: فأكثرهم قرآناً؟ قال: لا، قد يقرأ من لا يكون فيه خير.
وقال الثوري: يؤمهم أقرؤهم، فإن كانوا سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن استووا، فأسنهم.
وقال الأوزاعي: يؤمهم أفقههم في دين الله.
وقال أبو حنيفة: يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله، وأعلمهم للسنة، فإن استووا في القراءة والعلم بالسنة، فأكبر سنّاً، فإن استووا في القراءة، والفقه، والسن فأورعهم. قال محمد بن الحسن، وغيره: إنما قيل في
الحديث: "أقرؤهم" لأنهم أسلموا رجالاً، فتفقهوا فيما علموا من الكتاب والسنة، أما اليوم فيتعلمون القرآن، وهم صبيان، لا فقه لهم.
وقال الليث: يؤمهم أفضلهم، وخيرهم، ثم أقرأهم، ثم أسنهم إذا استووا.
وقال الشافعي: يؤمهم أقرؤهم، وأفقههم، فإن لم يجتمع ذلك، قدم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفى به في صلاته، وإن قدم أقرؤهم، وعلم ما يلزمه في الصلاة فحسن.
وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: رجلان أحدهما أفضل من صاحبه، والآخر أقرأ منه؟ فقال: حديث أبي مسعود: "يؤم القوم أقرؤهم". قال: ألا ترى أن سالماً مولى أبي حذيفة كان مع خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عمر، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وكان يؤمهم؛ لأنه جمع القرآن. وحديث عمرو بن سَلِمَة "أفهم للقرآن"
(1)
، فقلت له: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبا بكر، فليصل بالناس" أليس هو خلاف حديث أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم"؟، فقال: إنما قوله لأبي بكر "يصلي بالناس" إنما أراد الخلافة، وكان لأبي بكر فضل بَيِّن على غيره، وإنما الأمر في الإمامة إلى القراءة، وأما قصة أبي بكر فإنما أراد الخلافة.
(1)
هكذا نسخة "التمهيد"، وهو غير واضح المعنى، ولفظ عمرو بن سلمة الآتي:"فكنت أكثرهم قرآناً".
انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله: وقوله في حديث أبي مسعود: "أقرؤهم" قيل: المراد به الأفقه. وقيل: هو على ظاهره. وبحسب ذلك اختلف الفقهاء؛ قال النووي: قال أصحابنا: الأفقه مقدم على الأقرأ، فإن الذي يُحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يُحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، فقد يعرض في الصلاة أمر، لا يقدر على مراعاة الصلاة فيه إلا كامل الفقه، ولهذا قَدَّم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة على الباقين، مع أنه صلى الله عليه وسلم نص على أن غيره أقرأ منه. كأنه عنى حديث "أقرؤكم أُبَيّ". قال: وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه.
قال الحافظ: وهذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر، فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه. ثم قال النووي بعد ذلك: إن قوله في حديث أبي مسعود: "فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم في الهجرة" يدل على تقديم الأقرأ مطلقاً. انتهى.
قال الحافظ: وهو واضح للمغايرة. قال: ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفاً بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلاً بذلك، فلا يقدم اتفاقاً، والسبب فيه أن أهل ذلك العصر كانوا يعرفون معاني القرآن لكونهم أهل اللسان، فالأقرأ منهم، بل
(1)
"التمهيد" جـ 22 ص 124.
القارىء كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاءوا بعدهم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال الحافظ أبو بكر بن المنذر رحمه الله: بعد ذكر الأقوال المتقدمة: ما نصه: القول بظاهر خبر أبي مسعود يجب، فيُقَدِّم الناسُ على سبيل الوجوب ما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يجاوَزُ ذلك، ولو قدم إمام غير هذا المثال كانت الصلاة مجزية، ويكره خلافُ السنة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله هو الرأي الراجح عملاً بظاهر النص.
وحاصله أن الأئمة يرتبون كما رتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود رضي الله عنه المذكور في الباب، فيقدم الأقرأ، فإن استووا، فالأعلم بالسنة، فإن استووا، فالأقدم في الهجرة، فإن استووا فالأكبر سناً. فإن خالفوا ذلك جازت الصلاة مع الكراهة، وإنما قلنا بجوازها؛ لأن الأمر في قوله:"يؤم القوم أقرؤهم" ليس للوجوب، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وإنما قلنا بكراهتها لمخالفة السنة.
(1)
فتح جـ 2 ص 396 - 397.
(2)
الأوسط جـ 4 ص 150.
ثم إن تقديم الأقرأ على الأعلم بالسنة محله -كما سبق في كلام الحافظ- إذا كان عارفاً بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة. وأما إذا كان جاهلاً بذلك فلا يجوز تقديمه اتفاقاً. والله تعالى أعلم، ومنه التوفيق، وعليه التكلان.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
4 - تَقْدِيمُ ذَوِي السِّنِّ
أي هذا باب ذكر الحديث الدّالّ على حكم تقديم أصحاب السن الكبار في الصلاة
781 -
أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَنْبِجِيُّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا، وَابْنُ عَمٍّ لِي، وَقَالَ مَرَّةً: أَنَا، وَصَاحِبٌ لِي، فَقَالَ: "إِذَا سَافَرْتُمَا، فَأَذِّنَا، وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متفق عليه. وقد تقدم للمصنف سنداً، ومتناً في (كتاب الأذان) برقم (7/ 634)، وتقدم هناك شرحه، وبيان المسائل المتعلقة به سنداً، ومتناً، وتقدم في الباب الماضي بيان ما ترجم له المصنف هنا، وهو حكم تقديم الأكبر سناً، بما فيه الكفاية، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادتها، فإن شئت الاستفادة فراجعها.
وأوضّحُ هنا بعض ما لعله يخفى من السند والمتن:
فقوله: (حاجب بن سليمان) هو أبو سعيد مولى بني شيبان، صدوق يهم، مات سنة 265، من [10]، وهو من أفراد المصنف.
وقوله: (المَنْبِجِيّ) -بفتح، فسكون، فكسر موحدة، آخره جيم-: نسبة إلى قرية بالشام. أفاده في "لب اللباب" ص 276.
و (وكيع) هو ابن الجرّاح. و (سفيان): هو الثوري، و (أبو قلابة): اسمه عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الجرمي، البصري.
وقوله: (ابن عم لي) لم يسم في شيء من طرق الحديث، كما قاله الحافظ في "الفتح". والله تعالى أعلم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
5 - اجْتِمَاعُ الْقَوْمِ فِي مَوْضِعٍ، هُمْ فِيهِ سَوَاءٌ
أي باب ذكر الحديث الدالّ على حكم اجتماع القوم في محل هم فيه سواء.
والمراد أنهم في ذلك الموضع متساوون في الحكم، بحيث لا يتقدم أحدهم على الآخرين، وذلك كالمواضع التي لا تختص بأحد، كالرباط، والخانات، أو كانوا في سفر، أو في الصحراء، واحترز بذلك عن المواضع التي يختص بها بعضهم، دون الآخرين، كالبيت، ومحل الولاية، فإنه يؤمهم صاحب البيت، وولي الأمر، كما تقدم الكلام عليه مُستوفىً قبل باب. وبالله التوفيق.
782 -
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(عبيد الله بن سعيد) أبو قُدامة السرخسي، ثقة مأمون سني، من [10]، تقدم في 15/ 15.
2 -
(يحيى) بن سعيد القطان، الإمام الحجة الثبت، من [9]،
تقدم في 4/ 4.
3 -
(هشام) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائي، ثقة ثبت، من كبار [7]، تقدم في 30/ 34.
4 -
(قتادة) بن دعامة السدوسي البصري، ثقة حجة، من [4]، تقدم في 30/ 34.
5 -
(أبو نضرة) المنذر بن مالك بن قُطَعَة العبدي البصري، ثقة، من [3]، تقدم في 21/ 538.
6 -
(أبو سعيد) سعد بن مالك الخدري الصحابي رضي الله عنه، تقدم في 169/ 262.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث أخرجه المصنف هنا (5/ 782)، وفي "الكبرى"(5/ 857) بهذا السند.
وأخرجه مسلم في "الصلاة" عن قتيبة، عن أبي عوانة -وعن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة- وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن سعيد بن أبي عروبة -وعن أبي غسان المِسْمَعى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه- أربعتهم عن قتادة به.
وشرحه واضح مما تقدم، فلا حاجة إلى إطالة الكتاب بإعادته.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
6 - اجْتِمَاعُ الْقَوْمِ، وَفِيهِمُ الْوَالِي
أي هذا باب ذكر الحديث الدّالُ على الحكم فيما إذا اجتمع القوم، وفيهم السلطان.
783 -
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَوْسِ بْنِ ضَمْعَجٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ، إِلاَّ بِإِذْنِهِ".
رجال هذا الإسناد: ستة
1 -
(إِبراهيم بن محمد) بن عبد الله بن عبيد الله بن مَعْمَر التيمي المَعْمَري، أبو إسحاق البصري، قاضيها، ثقة، مات سنة 250، من [11]، أخرج له أبو داود، والنسائي، تقدم في 28/ 550.
2 -
(يحيى بن سعيد) القطان المذكور في الباب السابق.
3 -
(شعبة) بن الحجاج، الإمام الحجة الثبت، من [7]، تقدم في 24/ 26.
والباقون تقدموا قريباً في باب: "من أحق بالإمامة"(3/ 780).
وكذا شرح الحديث، وما يتعلق به من المسائل تقدمت في الباب المذكور، فراجعه تستفد.
وقوله: "لا يُؤَمُّ الرجلُ" ببناء الفعل للمفعول، و"الرجلُ" نائب الفاعل.
وفيه أنه إذا اجتمع القوم في موضع، فالذي يؤمهم هو الوالي، فلا يتقدم عليه غيره مطلقاً، إلا بإذنه، وهو غرض المصنف من إيراده هنا. والله تعالى أعلم، وهو الهادي إلى الصراط الأقوم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
***
7 - إِذَا تَقَدَّمَ الرَّجُلُ مِنَ الرَّعِيَّةِ، ثُمَّ جَاءَ الْوَالِي، هَلْ يَتَأخَّرُ
أي هذا باب ذكر الحديث الدال على الحكم فيما إذا تقدم رجل من القوم لغيبة الإمام الوالي، ثم جاء ذلك الوالي، فهل يتأخر الرجل الذي تقدم للوالي، أم يستمرّ على إمامته؟
والحديث يدل على جواز الأمرين، ولذا ترجم به البخاري، فقال:(باب من دخل ليؤم الناس، فجاء الإمام الأول، فتأخر الأوّل، أو لم يتأخر، جازت صلاته).
و"الرَّعِيَّةُ: فَعِيلَة، بمعنى مفعولة، هم عامة الناس الذين عليهم راعٍ، يدبر أمرهم، ويرعى مصالحهم، جمعه رَعَايا، كعطية وعطايا. والله تعالى أعلم.
784 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَانَتِ الأُولَى، فَجَاءَ بِلَالٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حُبِسَ، وَقَدْ حَانَتِ الصَّلَاةُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟
قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَأَقَامَ بِلَالٌ، وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَبَّرَ بِالنَّاسِ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ، حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، وَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ، حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ حِينَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِلاَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ، يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ يَنْبَغِى لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رجال هذا الإسناد: أربعة
1 -
(قتيبة) بن سعيد البغلاني، ثقة ثبت، مات سنة 240، من [10]، أخرج له الجماعة، تقدم في 1/ 1.
2 -
(يعقوب بن عبد الرحمن) بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ القاريّ -بتشديد التحتانية- المدني، نزيل الإسكندرية، حليف بني زهرة، ثقة، مات سنة 181، من [8]، أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه، تقدم في 18/ 739.
3 -
(أبو حازم) سلمة بن دينار التمار الأعرج الزاهد، ثقة عابد، من [5]، أخرج له الجماعة، تقدم في 40/ 44.
4 -
(سهل بن سعد) الساعدي الخزرجي رضي الله عنهما، أخرج له الجماعة، تقدم في 40/ 734. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد
منها: أنه من رباعيات المصنف، وهو [47] لرباعيات الكتاب.
ومنها: أن رجاله كلهم ثقات.
ومنها: أنهم من رجال الجماعة.
ومنها: أنه مسلسل بالمدنيين؛ وقتيبة، وإن كان بَغْلانياً، لكنه دخل المدينة.
ومنها: أن فيه قوله: "وهو ابن عبد الرحمن"، وذلك لأن القاعدة
أن الراوي إذا لم ينسب شيخه من فوقه، وأراد الراوي توضيحه بذكر نسبه لزمه أن يفصل زيادته من كلام شيخه بما يعرف به ذلك، من نحو "يعني"، و"هو" و"أنه"، وإلى هذه القاعدة أشار الحافظ السيوطي رحمه الله في "ألفية المصطلح"، حيث قال:
وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَوْ وَصْفِ مَنْ
…
فَوْقَ شُيُوخٍ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ
بِنَحْوِ "يَعْنِي" أَوْ "بِأَنَّ" أَوْ "بِهُو"
…
أَمَّا إذَا أَتَمَّهُ أَوَّلَهُ
أَجِزْهُ فِي الْبَاقِي لَدَى الْجُمْهُورِ
…
وَالْفَصْلُ أَوْلَى قَاصِرَ الْمَذْكُورِ
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث
(عن سهل بن سعد) الأنصاري الساعدي الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف) أي ابن مالك بن الأوس، والأوس أحد قبيلتي الأنصار، وهما الأوس، والخزرج، وبنو عمرو بن عوف بطن كثير من الأوس، فيه عدة أحياء، كانت منازلهم بقباء. منهم بنو أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو ابن عوف، وبنو ضبيعة بن زيد، وبنو ثعلبة بن عمرو بن عوف
(1)
.
(كان بينهم شيء) وفي الرواية الآتية (15/ 793) من طريق حماد بن زيد، عن أبي حازم: "كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ
(1)
فتح جـ 2 ص 392، وعمدة القارىء جـ 5 ص 209.
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم". وفي الرواية الآتية في "كتاب القضاء" (24/ 5413) من طريق سفيان: "وقع بين حيين من الأنصار كلام حتى تراموا بالحجارة". وفي رواية للبخاري في "الصلح" من طريق محمد بن جعفر، عن أبي حازم: "أن أهل قباء اقتتلوا، حتى تراموا بالحجارة، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اذهبوا بنا نصلح بينهم".
(فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم، في أناس معه) الجار والمجرور متعلق بحال محذوف، أي حال كونه كائناً في جملة أناس، والظرف متعلق بمحذوف أيضاً صفة لأناس، أي كائنين معه صلى الله عليه وسلم. وسمى الطبراني منهم من طريق موسى بن محمد، عن أبي حازم أبيَّ بن كعب، وسهيل بن بيضاء. وسيأتي للمصنف (15/ 793) من طريق حماد بن زيد المذكورة أن توجهه كان بعد صلاة الظهر. وللطبراني من طريق عمر ابن علي، عن أبي حازم:"أن الخبر جاء بذلك، وقد أذن بلال لصلاة الظهر".
(فحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، و"رسول الله" نائب فاعله، أي مُنِعَ من الحضور لأداء صلاة العصر، ويحتمل أن يكون مبنيًا للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الإصلاح المفهوم من "يصلح"، أي منعه الإصلاح من الحضور. أفاده السندي، والأول أولى. وفي بعض النسخ "فجلس" من الجلوس.
(فحانت الأولى) أي الصلاة الأولى، والمراد بها العصر، ففي
رواية البخاري في "الأحكام": "فلما حضرت صلاة العصر أذن بلال، وأقام، وأمر أبا بكر، فتقدم
…
".
فإن قلت: إن الأولى اسم لصلاة الظهر، لكونها أول صلاة صلاها جبريل إماماً بالنبي صلى الله عليه وسلم أول ما فرضت الصلاة ليلة الإسراء، فلِمَاذا سميت العصر في رواية المصنف هنا بالأُولى؟
أجيب: بأنها إنما سميت به لكونها أوّل صلاة حضرت بعد ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم للإصلاح. والله أعلم.
(فجاء بلال) بن رَبَاح المؤذن رضي الله عنه (إِلى أبي بكر) الصديق رضي الله عنه (فقال: يا أبا بكر، إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس) بالبناء للمفعول، أي منع من الحضور (وقد حانت الصلاة) أي قد قرب وقت الصلاة وهي العصر، كما تقدم.
(فهل لك أن تؤم الناس؟) ظاهر ما هنا أن بلالاً رضي الله عنه هو الذي طلب من أبي بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس، وفي رواية حماد بن زيد الآتية (15/ 793) أن ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظها: ثم قال لبلال: "يا بلال، إذا حضر العصر، ولم آت، فمر أبا بكر، فليصل بالناس"، فلما حضرت أذن بلال، ثم أقام، فقال لأبي بكر رضي الله عنه: تقدم، فتقدم أبو بكر
…
" ورواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان، ونحوه للطبراني، من رواية موسى بن محمد، عن أبي حازم.
ولا تنافي بين الروايتين؛ لأنه يحمل على أن بلالاً استفهم أبا بكر هل يبادر أول الوقت لتنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أنه ينتظر قليلاً مجيئه صلى الله عليه وسلم، حتى يصلي بالناس؟ فترجح لأبي بكر رضي الله عنه المبادرة؛ لأنها فضيلة متحققة، فلا تترك لفضيلة متوهمة. أفاده في الفتح
(1)
.
(قال) أبو بكر رضي الله عنه: (نعم، إِن شئت) وإنما فوض لمشيئته مع كونه أمره صلى الله عليه وسلم أن يؤم الناس؛ لاحتمال أن يكون عنده زيادة علم من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
(فأقام بلال) رضي الله عنه بالصلاة (وتقدم أبو بكر) رضي الله عنه (فكبر بالناس) وفي بعض النسخ "فكبر الناسُ" والظاهر أن يكون الناس فاعلاً، أي كبر أبو بكر، وكبر الناس معه.
وعند الطبراني من رواية المسعودي: "فاستفتح أبو بكر الصلاة". وعند البخاري: "فصلى أبو بكر"، أي دخل في الصلاة، وابتدأ فيها.
وبهذا يفرق بين ما هنا، حيث امتنع أبو بكر رضي الله عنه أن يستمر إماماً، وبين ما وقع في مرض موته صلى الله عليه وسلم، حيث استمر على صلاته، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه الركعة الثانية من الصبح، كما صرح به موسى بن عقبة في المغازي، فكأنه لمّا مضى معظم الصلاة هناك حسن الاستمرار، ولما لم يمض منها هنا إلا اليسير لم يستمرّ.
(1)
جـ 2 ص 392 - 393.
وكذا ما وقع لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه الركعة الثانية من الصبح، فإنه استمر في صلاته إماماً لهذا المعنى. أفاده في الفتح
(1)
.
وقصة عبد الرحمن قد تقدمت من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (88/ 109).
(وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الآتية: "ثم جاء" وفي البخاري: "فجاء"(يمشي في الصفوف) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل (حتى قام في الصف) أي الأول، ففي رواية حماد ابن زيد الآتية:"فجعل يشق الناس، حتى قام خلف أبي بكر". وفي رواية للبخاري: "فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، يمشي في الصفوف، يشُقُّها شَقَّاً، حتى قام في الصف الأول". ولمسلم: "فخرق الصفوف، حتى قام عند الصف المتقدم".
(فأخذ الناس في التصفيق) أي شرع الناس في ضرب إحدى اليدين بالأخرى إعلاماً لأبي بكر بحضور النبي صلى الله عليه وسلم، ففي رواية عبد الأعلى الآتية (4/ 1183):"وصفح الناس بأبي بكر ليؤذنوه برسول الله صلى الله عليه وسلم".
والتصفيق -بالقاف- والتصفيح -بالحاء، واحد، وقيل: التصفيح-
(1)
جـ 2 ص 392 - 393.
بالحاء-: الضرب بظاهر اليد إحداهما على صفحة الأخرى، وهو الإنذار والتنبيه، والتصفيق -بالقاف-: ضرب إحدى الصفحتين على الأخرى، وهو اللهو، واللعب.
وقال الكرماني رحمه الله: "التصفيق": الضرب الذي يسمع له صوت، والتصفيق باليد: التصويت بها. انتهى
(1)
.
وقال أبو داود رحمه الله: قال عيسى بن أيوب: التصفيح للنساء تضربُ بأصبعين من يمينها على كفها اليسرى
(2)
.
(وكان أبو بكر) رضي الله عنه (لا يلتفت في صلاته) لِمزيد خشوعه، واستغراقه في مناجاة ربه، ولأنه ورد ذم الالتفات في الصلاة، كما أخرج البخاري رحمه الله، ويأتي للمصنف (10/ 1196) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد".
وأخرج أحمد، وأبو داود، والمصنف -كما يأتي برقم (10/ 1195) - وصححه ابن خزيمة من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعاً:"لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه. وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه نحوه، وزاد: "فإذا
(1)
أفاده في عمدة القاري جـ 5 ص 209 - ونقلته بتصرف.
(2)
سنن أبي داود بشرح المنهل- جـ 6 ص 48.
صليتم، فلا تلتفتوا". وسيأتي تمام البحث فيه بالرقم المذكور، إن شاء الله تعالى.
(فلما أكثر الناس التفت) مفعول "أكثر" محذوف، وهو التصفيق، وقد بُين في رواية البخاري، وغيره، وفي رواية حماد بن زيد الآتية:"فلما رأى أبو بكر التصفيح لا يُمْسَكُ عنه". يعني أنه لما صَفّقَ أكثر الناس التفت أبو بكر رضي الله عنه لينظر ما أوجب تصفيقهم (فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم)"إذا" تُسَمَّى فُجائية، لدلالتها على هجوم ما بعدها لما قبلها، وهي ظرف زمان، أو مكان خبر مقدم، و"رسول الله" مبتدأ مؤخر، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك الوقت، أو في ذلك المكان، هذا على القول باسمية "إذا"، وأما على القول بحرفيتها، فالخبر محذوف جوازاً، تقديره "حاضر".
(فأشار إِليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) عطف على محذوف، أي فأخذ أبو بكر في التأخر ليتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم التأخر. (يأمره أن يصلي) جملة في محل نصب على الحال من "رسول الله". أي أشار إليه حال كونه آمراً له بالصلاة إماماً. وفي رواية حماد الآتية (15/ 793):"فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده". وفي رواية البخاري وغيره: "فأشار إليه أن امكث مكانك". وفي رواية: "فدفع في صدره ليتقدم، فأبى".
(فرفع أبو بكر يديه) قال السندي رحمه الله: فيه دليل لمشروعية
رفع اليدين بالدعاء في الصلاة، حيث لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبى بكر رضي الله عنه رفعه يديه.
(فحمد الله عز وجل شكراً، ففي رواية حماد المذكورة: فحمد الله عز وجل على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: "امْضِهْ".
وإنما حمد الله تعالى لأجل إكرام النبي صلى الله عليه وسلم إياه بالتقدم بين يديه، وإنما ترك امتثال الأمر؛ لكونه فهم أن الأمر بذلك مجرد إكرام، وليس للإلزام، فاختار التأدب، وإلا فلا يجوز له مخالفة الأمر.
ثم إن ظاهره أنه تلفظ بالحمد، لكن في رواية الحميدي عن سفيان:"فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكراً لله، ورجع القهقرى".
وادعى ابن الجوزي أنه أشار بالشكر، والحمد بيده، ولم يتكلم. وليس في رواية الحميدي هذه ما يمنع من أنه تلفظ بالحمد. وتقويه رواية أحمد، عن أبي حازم:"يا أبا بكر لِمَ رفعت يديك، وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك؟ " قال: رفعت يدي لأني حمدت الله عز وجل على ما رأيت منك
(1)
. أي مما فضله به صلى الله عليه وسلم من إرادة الاستمرار على الإمامة.
(ورجع القهقرى وراءه) وفي رواية سفيان: "ثم نكص القهقرى". و"القَهْقَرَى": المشي إلى خَلْفٍ من غير أن يعيد وجهه إلى وجهة مشيه. قال ابن منظور رحمه الله: والقهقرى: الرجوع إلى
(1)
قاله في الفتح جـ 2 ص 393 - 394.
خلف، فإذا قلت: رجعت القهقرى، فكأنك قلت: رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم؛ لأن القهقرى ضرب من الرجوع. وقهقر الرجل في مِشيته: فعل ذلك. وتقهقر: تراجع على قفاه. انتهى لسان العرب
(1)
.
يعني أن أبا بكر رضي الله عنه رجع وراءه؛ لئلا ينحرف عن القبلة -التي يجب استقبالها في الصلاة- ويستدبرها.
فقوله: "القهقرى" منصوب على أنه مفعول مطلق مبين للنوع لـ "رجع"، وقوله:"من وراءه" متعلق بـ "رجع" مؤكد لمعنى القهقرى؛ إذ معناه الرجوع إلى وراء، كما عرفت مما ذكره في اللسان.
(حتى قام في الصف) أي الذي يليه (فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية حماد: "ثم مشى أبو بكر القهقرى على عقبيه، فتأخر، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقدم (فصلى بالناس) فيه دليل على أن الإمام الراتب إذا حضر بعد أن دخل نائبه في الصلاة يتخير بين أن يأتم به، أو يؤم هو، ويصير النائب مأموماً من غير أن يقطع الصلاة، ولا يُبْطِلُ شيء من ذلك صلاة أحد من المأمومين. وهو الذي أراده المصنف رحمه الله بالترجمة.
(فلما فرغ) صلى الله عليه وسلم من الصلاة (أقبل على الناس، فقال: "يا أيها الناس، ما لكم)"ما" استفهامية، مبتدأ، والجار والمجرور خبره،
(1)
جـ 5 ص 3765.
والاستفهام للإنكار (حين نابكم) أي أصابكم، والظرف متعلق بـ "أخذتم"(شيء في الصلاة أخذتم) أي شرعتم (في التصفيق) وفي رواية البخاري، وغيره:"مالي رأيتكم أكثرتم التصفيق". قال في الفتح: ظاهره أن الإنكار إنما حصل عليهم؛ لكثرته، لا لمطلقه. انتهى
(1)
.
(إِنما التصفيق للنساء) وفي رواية عبد العزيز الماجشون عند البخاري: "وإنما التصفيح للنساء" -بالحاء. وفي رواية حماد الآتية للمصنف بصيغة الأمر، ولفظه:"إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفح النساء".
أي يشرع لهن فعله إذا نابهن شيء، كما تدل عليه الروايات الأخرى، أو هو من أفعال النساء، ولعبهن، فلا يليق لأحد أن يفعله في الصلاة، فقوله:"من نابه" على الأول يحمل على الرجال، وعلى الثاني يعم الرجال والنساء، والأول مختار الجمهور، وتشهد له الروايات، والثاني مختار المالكية. وسيأتي تمام البحث فيه قريباً، إن شاء الله تعالى (من نابه شيء في صلاته)"من" شرطية، مبتدأ، أي من عرض له في خلال صلاته شيء مما يقتضي إعلام غيره بشيء من تنبيه إمامه على خلل يريد فعله في الصلاة، أو رؤية أعمى يقع في بئر، أو نحو ذلك (فليقل: سبحان الله) حمل الجمهور الأمر على الندب.
(1)
فتح جـ 2 ص 394.
وسيأتي البحث عنه قريباً، إن شاء الله تعالى.
(فإِنه) الفاء للتعليل، والجملة تعليل للأمر بالتسبيح، والضمير للشأن (لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله إِلا التفت إِليه) ببناء "التفت" للفاعل، والفاعل ضمير "أحد". وفي رواية البخاري، وغيره:"فإنه إذا سَبَّحَ التُفِتَ إليه" بالبناء للمفعول.
(يا أبا بكر، ما منعك أن تصلي)"أن" مصدرية (للناس) أي إماماً لهم، وإلا فالصلاة لله. ويحتمل أن تكون اللام بمعنى الباء. قاله السندي
(1)
. (حين أشرت إِليك) وفي رواية حماد "ما منعك إذ أومأت إليك أن لا تكون مضيت". وعند البخاري، وأبي داود:"ما منعك أن تثبت إذ أمرتك". وفيه دلالة على أن الإشارة المفهومة تقوم مقام اللفظ، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها أمراً، وعاتب أبا بكر رضي الله عنه على مخالفتها.
(قال أبو بكر) رضي الله عنه: (ما كان ينبغي) أي ما كان يستقيم (لابن أبي قحافة) -بضم القاف، وتخفيف الحاء المهملة- والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، واسمه عثمان بن عامر القرشي، أسلم عام الفتح، وعاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، ومات سنة أربع عشرة، وإنما لم يقل أبو بكر رضي الله عنه: ما كان لي، أو ما كان
(1)
شرح السندي جـ 2 ص 79.
لأبي بكر؛ تحقيراً لنفسه، واستصغاراً لمرتبته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية سفيان الآتية (24/ 5413)"ما كان الله ليرى ابن أبي قحافة بين يدي نبيه".
والمراد من "بين يديه". قُدّامه، وقال الكرماني رحمه الله: ولفظ "يدي" مقحم. قال العلامة العيني رحمه الله: إذا كان لفظ "يدي" مقحماً لا ينتظم المعنى على ما لا يخفى. اهـ
(1)
.
وقال في المنهل: قوله: ما كان لابن أبي قحافة
…
إلخ. يعني ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يؤم النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبِل عذره، حيث لم يُعَنِّفه على مخالفة أمره.
وفيه أن من أُكرِم بكرامة يُخيّر فيها بين القبول والترك إذا علم أن الأمر بها ليس على طريق الإلزام. اهـ
(2)
. والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث
المسألة الأولى: في درجته:
حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له:
أخرجه هنا (7/ 784)، وفي "الكبرى"(7/ 859)، عن قتيبة
(1)
عمدة القاري جـ 5 ص 210.
(2)
المنهل جـ 6 ص 46 - 47.
ابن سعيد، عن يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عن أبي حازم، عن سهل رضي الله عنه. وفي (15/ 793) عن أحمد بن عبدة، عن حماد ابن زيد، عن أبي حازم به. وفي (4/ 1183)، و"الكبرى"(40/ 1106)، عن محمد بن عبد الله بن بَزيع، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن عبيد الله بن عُمَر، عن أبي حازم به. وفي (24/ 5413) عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن أبي حازم به. والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: فيمن أخرجه معه:
أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ فأخرجه البخاري في "الصلاة" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي حازم به. وعن عبد الله بن مسلمة، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه به. وعن يحيى، عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم به. وعن قتيبة، عن عبد العزيز، ويعقوب بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي حازم به. وعن سعيد بن أبي مريم، عن أبي غَسَّان، عن أبي حازم به. وعن أبي النعمان، عن حماد بن زيد عن أبي حازم به.
ومسلم فيه عن يحيى بن يحيى، عن مالك، به. وعن قتيبة بن سعيد به. وعن محمد بن عبد الله بن بَزيع به.
وأبو داود فيه عن القعنبي، عن مالك به. وعن عمرو بن عون، عن حماد بن زيد به.
وابن ماجه عن هشام بن عمار، وسهل بن أبي سهل، كلاهما عن
ابن عيينة به.
ومالك في الموطأ رقم (119). والحميدي رقم (927). وأحمد (5/ 330، 331، 332، 335، 336، 337، 338)، وعبد بن حميد رقم (450)، والدارمي (1371)، وابن خزيمة رقم (853، 854، 1517، 1574، 1623). والله تعالى أعلم.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف رحمه الله تعالى، وهو جواز تأخر الإمام لحضور الإمام الراتب.
ومنها: فضل الإصلاح بين الناس، وجمع كلمة القبيلة، وحسم مادة القطيعة.
ومنها: توجه الإمام بنفسه إلى بعض رعيته للإصلاح، وتقديم ذلك على مصلحة الإمامة بنفسه، واستُنبِط منه توجهُ الحاكم لسماع دعوى بعض الخصوم إذا رجح ذلك على استحضارهم.
ومنها: جواز الصلاة الواحدة بإمامين، أحدهما بعد الآخر.
ومنها: أن الإمام الراتب إذا غاب يستخلف غيره، وأنه إذا حضر بعد أن دخل نائبه في الصلاة يتخير بين أن يأتم به، أو يؤم هو، ويصير النائب مأموماً من غير أن يقطع الصلاة، ولا يُبطِلُ شيء من ذلك صلاة أحد من المأمومين.
وادعى ابن عبد البرّ أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وادعى
الإجماع على عدم جواز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم، ونوقض بأن الخلاف ثابت، فالصحيح المشهور عند الشافعي الجواز
(1)
، وعن ابن القاسم في الإمام يحدث، فيستخلف، ثم يرجع، فيخرج المستخلف، ويتم الأول أن الصلاة صحيحة.
ومنها: إحرام المأموم قبل الإمام، وأن المرء قد يكون في بعض صلاته إماماً، وفي بعضها مأموماً، وأن من أحرم منفرداً، ثم أقيمت الصلاة جاز له الدخول في الجماعة من غير قطع لصلاته. كذا استنبطه الطبري من هذه القصة، وهو مأخوذ من لازم جواز إحرام الإمام بعد المأموم، كما ذكرنا
(2)
.
ومنها: فضل أبي بكر على جميع الصحابة رضي الله عنهم.
واستدل به جمع من الشراح، ومن الفقهاء، كالروياني على أن أبا بكر رضي الله عنه كان عند الصحابة أفضلهم؛ لكونهم اختاروه دون غيره، وعلى جواز تقديم الناس لأنفسهم إذا غاب إمامهم، قالوا: ومحل ذلك إذا أمنت الفتنة، والإنكار من الإمام، وأن الذي يتقدم نيابة عن الإمام يكون أصلحهم لذلك الأمر، وأقومهم به، وأن المؤذن، وغيره يَعرِض التقدم على الفاضل، وأن الفاضل يوافقه بعد أن يعلم أن ذلك برضا الجماعة. اهـ.
(1)
وما قاله العيني ردّاً على الحافظ لنصرة مذهبه غير صحيح.
(2)
وما اعترض به العيني نصرة لمذهبه غير صحيح أيضاً.
قال الحافظ رحمه الله: وكل ذلك مبني على أن الصحابة فعلوا ذلك بالاجتهاد، وقد قدمنا أنهم إنما فعلوا ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن الإقامة، واستدعاء الإمام من وظيفة المؤذن، وأنه لا يقيم إلا بإذن الإمام.
ومنها: أن فعل الصلاة -لاسيما العصر- في أول الوقت مقدم على انتظار الإمام الأفضل.
ومنها: أن فيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة؛ لأنه من ذكر الله تعالى، ولو كان مراد المسبح إعلام غيره بما صدر منه.
ومنها: أن فيه رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء كذلك.
ومنها: أن فيه استحباب حمد الله لمن تجددت له نعمة، ولو كان في الصلاة.
ومنها: أن فيه جواز الالتفات للحاجة.
ومنها: أن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من مخاطبته بالعبارة.
ومنها: أن الإشارة تقوم مقام النطق؛ لمعاتبة النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على مخالفته إشارته.
ومنها: جواز شق الصفوف، والمشي بين المصلين، لقصد الوصول إلى الصف الأول، لكنه مقصور على من يليق ذلك المقام به، كالإمام، أو من بصدد أن يحتاج إليه الإمام إلى استخلافه، أو من أراد سد فرجة
في الصف الأول، أو ما يليه، مع ترك من يليه سدها، ولا يكون ذلك معدوداً من الأذى.
قال المهلب: لا تعارض بين هذا، وبين النهي عن التخطي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في أمر الصلاة، ولا غيرها؛ لأنه له أن يتقدم بسبب ما ينزل عليه من الأحكام، وأطال في تقرير ذلك.
وتعقب بأن هذا ليس من الخصائص، وقد أشار هو إلى المعتمد في ذلك؛ فقال: ليس في ذلك شيء من الأذى، والجفاء الذي يحصل من التخطي، وليس كمن شق الصفوف، والناس جلوس، لما فيه من تخطي رقابهم.
ومنها: كراهية التصفيق في الصلاة.
ومنها: مشروعية الحمد والشكر على الوجاهة في الدين.
ومنها: أن من أكرم بكرامة يتخير بين القبول والترك، إذا فهم أن ذلك الأمر عَلَى غير جهة اللزوم، وكأن القرينة التي بينت لأبي بكر رضي الله عنه ذلك هي كونه صلى الله عليه وسلم شق الصفوف إلى أن انتهى إليه، فكأنه فهم من ذلك أن مراده أن يؤم الناس، وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام له، والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب والتواضع، ورجح ذلك عنده احتمال نزول الوحي في حال الصلاة، لتغيير حكم من أحكامها، وكأنه لأجل هذا لم يتعقب صلى الله عليه وسلم اعتذاره بالرد عليه.
ومنها: جواز إمامة المفضول للفاضل.
ومنها: سؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره قبل الزجر عن ذلك؛ لاحتمال أن يكون له عذر يبيح المخالفة.
ومنها: إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية.
ومنها: اعتماد ذكر الرجل لنفسه بما يشعر بالتواضع من جهة استعمال أبى بكر خطاب الغيبة مكان خطاب الحضور، إذ كان حق الكلام أن يقول أبو بكر رضي الله عنه: ما كان لي، فعدل عنه إلى قوله:"ما كان لابن أبي قحافة"؛ لأنه أدل على التواضع من الأول.
ومنها: جواز العمل القليل في الصلاة، لتأخر أبي بكر رضي الله عنه عن مقامه إلى الصف الذي يليه، وأن من احتاج إلى مثل ذلك يرجع القهقرى، ولا يستدبر القبلة، ولا ينحرف عنها.
ومنها: أن الحافظ ابن عبد البر رحمه الله استنبط من الحديث جواز الفتح على الإمام؛ لأن التسبيح إذا جاز جازت التلاوة من باب أولى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة: اختلف أهل العلم في حكم التسبيح للرجل، إذا نابه شيء في صلاته:
(1)
راجع هذه الفوائد في "الفتح" جـ 2 ص 394 - 395. وعمدة القاري جـ 5 ص 210 - 212.
اعلم: أنه إذا ناب المصلي في صلاته شيءٌ مَّا، يقتضي إعلام غيره بشيء من تنبيه إمامه على خلل يريد فعله في الصلاة، أو رؤية أعمى يقع في بئر، أو استئذان داخل، أو كون المصلي يريد إعلام غيره بأمر، ينبغي له أن يسبح بأن يقول: سبحان الله، لإفهام ما يريد التنبيه عليه، لحديث سهل بن سعد رضي الله عنهما المذكور في الباب، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء في الصلاة" متفق عليه، وليس عند البخاري زيادة "في الصلاة". بل هي عند مسلم من طريق معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند النسائي من رواية سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي رواية للبيهقي من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة:"إذا استؤذن على الرجل، وهو يصلي، فإذنه التسبيح، وإذا استؤذن على المرأة، وهي تصلي، فإذنها التصفيق". قال في الخلافيات: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات.
قال الحافظ ولي الدين العراقي رحمه الله:
وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، والأوزاعي، وأبو ثور، وجمهور العلماء من السلف، والخلف رحمهم الله تعالى.
وقال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن رحمهما الله تعالى: متى أتى بالذكر جواباً بطلت صلاته، وإن قصد به الإعلام بأنه في الصلاة لم تبطل، فحملا التسبيح المذكور في هذا الحديث على ما إذا كان القصد به
الإعلام بأنه في الصلاة، وهما مُحْتَاجان لدليل على ذلك، وكذلك حملا قوله في حديث سهل رضي الله عنه:"من نابه شيء في صلاته". على نائبٍ مخصوصٍ، وهو إرادة الإعلام بأنه في الصلاة.
والأصل عدم هذا التخصيص؛ لأنه عام، لكونه نكرة في سياق الشرط، فيتناول النائب الذي يحتاج معه إلى الجواب، والنائب الذي يحتاج معه إلى الإعلام بأنه في الصلاة، فالحمل على أحدهما من غير دليل لا يمكن المصير إليه، كيف، والواقعة التي هي سبب الحديث لم يكن القصد فيها الإعلام بأنه في الصلاة، وإنما كان القصد تنبيه الصديق رضي الله عنه على حضور النبي صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه كان حقهم عند هذا النائب التسبيحَ، وكذا عند كل نائب، وقد اتفقوا على أن السبب لا يجوز إخراجه، ومن هنا رد أصحابنا -يعني الشافعية- على الحنفية في قولهم: إن الأمة لا تكون فراشاً. بأن قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" إنما ورد في أمة، والسبب لا يجوز إخراجه بلا خلاف. وعن أحمد رواية مثل قول أبي حنفية.
انتهى كلام ولي الدين رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: فتبين بهذا أن مذهب الجمهور هو الراجح، للأدلة الصحيحة الصريحة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
طرح التثريب جـ 2 ص 242 - 243.
المسألة السادسة: اختلف أهل العلم في حكم التصفيق للنساء في الصلاة:
ذهب الشافعي، وأحمد والجمهور رحمهم الله إلى أن المرأة إذا نابها شيء في صلاتها ينبغي لها أن تصفق، وخالف في ذلك مالك رحمه الله، فقال: إن المشروع في حقها التسبيح، كالرجل، وضعف أمر التصفيق للنساء.
وحكى أبو العباس القرطبي رحمه الله عن مشهور قول مالك أنه لا يجوز أن يفعله في الصلاة، لا الرجال، ولا النساء. وحكى القاضي عياض عن أبي حنيفة أنه رأى فساد صلاة المرأة إذا صفقت في صلاتها. قال: وخطأ أصحابه هذا القول. وقال الأبهري من المالكية: إن صفقت المرأة لم تبطل صلاتها، غير أن المختار التسبيح.
وذكر ابن عبد البر في توجيه قول مالك أنه أخذ بظاهر قوله في حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما: "من نابه شيء في صلاته فليسبح". قال: وهذا على عمومه في الرجال والنساء، وتأولوا قوله:"وإنما التصفيق للنساء" على أن التصفيق من أفعال النساء على جهة الذمّ لذلك. انتهى.
قال ولي الدين العراقي رحمه الله: وهذا التأويل مردود، وهو وإن كان محتملاً في لفظ هذه الرواية، فإنه يتعذر في رواية أخرى، رواها البخاري في صحيحه، لفظها "إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال، وليصفح النساء".
وعن مالك رواية موافقة للجمهور، وجزم بها عنه ابن المنذر، فقال بعد ذكر حديث:"التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء": قال بظاهر هذا الخبر مالك. انتهى.
واختار جماعة من المالكية موافقة الجمهور في ذلك، فقال القاضي أبو بكر ابن العربي بعد نقله مشهور مذهب مالك في ذلك: وليس بصحيح. وقال أبو العباس القرطبي بعد ذكره مذهب الجمهور في ذلك: وهذا القول هو الصحيح خبراً، ونظراً.
وقال ابن حزم: روينا عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري أنهما قالا: التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، ولا يعرف لهما من الصحابة رضي الله عنهم مخالف.
قال ولي الدين: قد روي ذلك أيضاً عن جابر بن عبد الله. رواه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه.
وقال القاضي عياض: قيل: كان الرجال والنساء يصفقون في الصلاة والطواف، فأنزل الله تعالى:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] أي صفيراً وتصفيقاً، فنهوا عن ذلك رجالاً ونساءً، ثم أعلم أنه من عادة النساء في خاصتهن، ولهوهن، لا أنه إباحة لهن، وسنة فيما يعتريهن في صلاتهن. انتهى.
قال الحافظ زين الدين العراقي رحمه الله: ليس في سبب نزول قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ} الآية، أنه نهى النساء عن ذلك، لا في حالة الصلاة، ولا في غيرها، وإنما ذكر غير واحد من المفسرين أنهم
كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الصلاة والطواف، ليشوشوا عليه، فنزلت الآية بمكة، ثم أمرهم بالمدينة أن يصفق النساء لِمَا نابهن، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن المذهب الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن النساء يصفقن إذا نابهن شيء في صلاتهن، كما أن الرجال يسبحون إذا نابهم ذلك، لصحة الدليل بذلك، ولم يأت المخالف بحجة مقبولة. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة السابعة: الخنثى المشكل إذا نابه في صلاته ما يحوجه إلى الإعلام، فهل المشروع في حقه التسبيح، أو التصفيق؟ مقتضى المفهوم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيه متدافع؟ لأنا إذا أخذنا بقوله:"التسبيح للرجال"، وقلنا: مقتضاه تصفيق الخنثى عارضنا قوله: "التصفيق للنساء".
وقيل: مقتضاه تسبيح الخنثى، فظاهر حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما أنه يسبح، لدخوله في عموم قوله:"من نابه شيء في صلاته، فليسبح"، ثم أخْرَجَ النساءَ من ذلك خاصة بقوله:"وإنما التصفيق للنساء".
وقيل: المشروع في حقه التصفيق، قال بعضهم: إنه القياس؛ لاحتمال أن يكون امرأة، فلا تأتي بالتسبيح جهراً.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأولى تسبيحه، لدخوله في عموم "من نابه شيء في صلاته، فليسبح". والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثامنة:
قال ولي الدين العراقي رحمه الله:
كون المشروع للرجال التسبيح، وللنساء التصفيق هو على سبيل الإيجاب، أو الاستحباب، أو الإباحة. الذي ذكره أصحابنا؛ ومنهم الرافعي والنووي أنه سنة، وحكاه الرافعي عن الأصحاب.
وحكى والدي في شرح الترمذي عن شيخه الإمام تقي الدين السبكي أنهما إنما يكونان سنتين إذا كان التنبيه قربة، فإن كان مباحاً كانا مباحين، قاله الشيخ أبو حامد، وغيره، قال السبكي: وقياس ذلك إذا كان التنبيه واجباً كإنذار الأعمى من الوقوع في بئر أن يكونا واجبين إذا تعينا طريقاً، وحصل المقصود بهما. انتهى.
وقال ابن قدامة في المغني: وإذا سها الإمام، فأتى بفعل في غير موضعه لزم المأمومين تنبيهه، فإن كانوا رجالاً سبحوا، وإن كانوا نساء صفقن. اهـ.
وهو موافق لما ذكره السبكي من الوجوب، إلا أنه في صورة غير الصورة التي ذكرها السبكي، ويوافق ما ذكره الشيخ أبو حامد من الإباحة ما رواه ابن ماجه في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء في التصفيق، وللرجال في
التسبيح". قال ابن أبي حاتم في العلل: قال أبي: هذا حديث منكر بهذا الإسناد
(1)
.
والتعبير بالرخصة يقتضي الاقتصار فيه على الإباحة إن جرينا على مدلول الرخصة اللغوي، فأما إذا فسرنا الرخصة بما ذكره غير واحد من أهل الأصول أنها الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر، فلا يدل على الإباحة؛ لأن الرخصة باصطلاحهم قد تكون واجبة، وقد تكون مندوبة، والحق انقسام التنبيه في حالة الصلاة إلى ما هو واجب، وإلى ما هو مندوب، وإلى ما هو مباح بحسب ما يقتضيه الحال.
وأما تعبير الرافعي وغيره بالتنبيه، فإنما عبروا بذلك لأجل التفريق والتفصيل في ذلك بين الرجل والمرأة، فيكون تنبيه الرجل واجباً بالتسبيح، وتنبيه المرأة يكون بالتصفيق هو السنة، وأما أصل التنبيه فقد يكون واجباً، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً، بل قد يكون مكروهاً أيضاً، وقد يكون حراماً بحسب الْمُنَبَّه عليه، فهما مسألتان:
إحداهما: حكم التنبيه، وهو معروف من حكم المنبه عليه، ومنقسم إلى الأحكام الخمسة.
الثانية: الكيفية التي يحصل بها التنبيه، وهذه الثانية هي التي تكلم عنها الأصحاب، وقالوا: إن السنة في حق الرجل التسبيح، وفي حق
(1)
وصححه الشيخ الألباني، لأنه يشهد له حديثا أبي هريرة، وسهل بن سعد رضي الله عنهم. انظر صحيح ابن ماجه جـ 1 ص 170.
المرأة التصفيق. اهـ كلام العراقي
(1)
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع المآب.
المسألة التاسعة: لو خالف الرجل المشروع في حقه، وصفق في صلاته لأمر ينوبه لم تبطل صلاته؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم صفّقوا في الصلاة في قضية إمامة الصديق رضي الله عنه، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة.
قال الحافظ العراقي رحمه الله في شرح الترمذي:
فيه خلاف للشافعية، والأصح أنه لا تبطل. هكذا أطلق الشيخ تقي الدين السبكي تصحيحه، وينبغي أن يقيد ذلك بالقليل، أما إذا فعل ثلاث مرات متواليات، فتبطل؛ لأنه ليس مأذوناً له فيه.
فإن قيل: ففي حديث سهل "ما لكم أكثرتم التصفيق؟ " ولم يأمرهم بالإعادة مع كثرة التصفيق.
فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنهم لم يكونوا يعلمون امتناع ذلك، وقد لا يكون حينئذ ممتنعاً، وإنما عرف امتناعه بهذا الحديث. والثاني: أن يكون المراد بإكثار التصفيق من مجموعهم، لا من كل واحد، فلا يضر ذلك، إذا لم يكن كل واحد أكثر منه.
وحكى بعضهم وجهاً أنه إن فعل ذلك عمداً بطلت صلاته، وإن فعله
(1)
طرح التثريب جـ 2 ص 245 - 246.
سهواً وطال سجد للسهو. انتهى.
ومحل هذا الخلاف إذا لم يكن تصفيقه على وجه اللهو واللعب، فإن فعله على وجه اللعب بطلت صلاته قطعاً.
وقال ابن حزم رحمه الله: لا يحل للرجل أن يصفق بيديه في صلاته، فإن فعل، وهو عالم بالنهي بطلت صلاته. انتهى.
قال الحافظ العراقي رحمه الله: والقول بهذا على إطلاقه مردود، وليس في الحديث نهي الرجل عن التصفيق في الصلاة، وإنما فيه استفهامهم عن إكثار التصفيق على جهة الإنكار لذلك، لكون المشروع للرجال خلافه، وهو التسبيح، فكيف يهجم ابن حزم على القول بورود النهي عنه؟ وكيف يصح القول ببطلان الصلاة مطلقاً مع كونه عليه الصلاة والسلام لم يأمرهم بالإعادة؟ فإن كان يدّعي أنه كان مباحاً، ثم صار حراماً بهذا الحديث، فليس في الحديث تحريمه، وليس في الحديث التصريح بتغيير حكمه، والأصل عدم التسبيح، وغاية الأمر أن يكون أولئك الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا في ذلك الوقت يعلمون الحكم في ذلك، فبيّن عليه الصلاة والسلام لهم الحكم المشروع فيه، وليس يلزم تحريم ما عداه، ولو كان حراماً لبيّنه. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
(1)
.
(1)
المصدر المذكور جـ 2 ص 246 - 247.
المسألة العاشرة: لو خالفت المرأة المشروع في حقها، وسبحت في صلاتها لأمر ينوبها لم تبطل صلاتها، قال ولي الدين العراقي رحمه الله: لكن إن أسرت به بحيث لم يسمعها أحد فليس هذا تنبيهاً يحصل به المقصود، وإن جهرت به بحيث أسمعت من تريد إفهامه، فالذي ينبغي أن يقال: إن كان امرأة، أو محرماً، فلا كراهة، وإن كان رجلاً أجنبياً كره ذلك، بل يحرم إذا قلنا إن صوتها عورة.
قال الجامع عفا الله عنه: كون صوت المرأة عورة يحتاج إلى دليل عليه. والله أعلم.
وقال ابن حزم رحمه الله: وأما المرأة فإن سبحت، فحسن، قال: وإنما جاز التسبيح للنساء؛ لأنه ذكر الله تعالى، والصلاة مكان ذكر الله تعالى. اهـ كلام ابن حزم.
ورد عليه الحافظ العراقي في شرح الترمذي، فقال: وما قاله من أن تسبيحها حسن ليس بجيد؛ لأن المراد هنا تسبيحها جهراً للتنبيه، لا تسبيحها في نفسها سرّاً، فإن ذلك حسن، فأما رفعها صوتها بالتسبيح لتنبيه الإمام، أو غيره، فليس بحسن. اهـ. وقد أطال البحث في هذا في طرح التثريب، فراجعه
(1)
. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
جـ 2 ص 249.
المسألة الحادية عشرة: لو أتى بغير التسبيح من الأذكار، هل يقوم مقامه، أم لا؟
ظاهر الحديث أنه لا يقوم غيره مقامه في ذلك، لاسيما وقد قال في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه:"فإنه إذا سبَّحَ التُفِتَ إليه". وفي بعض ألفاظه في الصحيح "فليقل: سبحان الله"، فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله إلا التَفَتَ". فدل على أن التسبيح قد صار شعاراً للتنبيه، وعلامة عليه، فلا يعدل إلى غيره، لعدم حصول المقصود به.
قال الحافظ العراقي في شرح الترمذي: لا شك أن الاتباع في ذلك مقصود، وربما يكون في التسبيح معنى لا يوجد في غيره من الأذكار؛ لأنه يكون في الغالب تنبيهاً للإمام، أو غيره على ما غفل عنه، فناسب أن يأتي بلفظ يقتضي تنزيه الله تعالى عما هو جائز على البشر من النسيان والغفلة. ولهذا المعنى استحب ابن أبي الدم الحموي أن يسبح الساهي في سجدتي السهو بلفظ: سبحان من لا يسهو ولا يغفل، أو نحو ذلك، لمناسبته في المعنى.
قال الجامع عفا الله عنه: ما استحبه ابن أبي الدم يحتاج إلى دليل. والله أعلم.
وفي كلام القاضي أبي بكر ابن العربي ما يدل على استعمال غير التسبيح لبعض ما ينوب، فقال عقب حديث علي رضي الله عنه:
"كنت إذا استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي يسبح". والذي أفعله أن أعلن بالقراءة، وأرفع صوتي بالتكبير، أيّ حالة كنت فيها أظهرها ليعلم أني مشتغل بها. ثم حكى عن ابن حبيب أنه قال: يجوز للرجل أن يراجع من يستأذن عليه بدعاء، أو قرآن يجوز له في الصلاة، كما فعل ابن مسعود رضي الله عنه.
قال العراقي رحمه الله: والاقتصار على ما ورد به النص أولى، حيث حصل به التنبيه، فإن لم يحصل به التنبيه انتقل إلى ما هو أصرح منه، بل إن احتاج إلى النطق، إذا لم يحصل التنبيه إلا به، وكان في أمر واجب، وجب ذلك.
قال الجامع: الذي ينبغي هو الاقتصار على الوارد، وأما الانتقال إلى غيره، فيحتاج إلى دليل. فتبصر. والله أعلم.
وأما ما رواه سويد بن عبد العزيز، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي، فمر أعرابي بين يديه، فسبحوا به، فلم يأبَهْ، فقال عمر: يا أعرابي، تَنَحَّ عن قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من القائل هذا؟ " قالوا: عمر. قال: "يا له فقهاً". فقال ابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث باطل، يشبه أن يكون يحيى، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل
(1)
.
(1)
علل ابن أبي حاتم جـ 1 ص 154.
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثانية عشرة:
لو أتت المرأة بغير التصفيق مما هو في معناه، كالضرب بعصا، أو نحوها، أو على الحائط، فظاهر الحديث أنه لا يشرع لها ذلك، وأن التصفيق لها متعين. قيل: ويحتمل أن يقال: إنما ذكر عليه الصلاة والسلام التصفيق لكونه هو المتيسر لها في كل وقت، وهو المعتاد للنساء، دون الضرب على الحائط، أو بعصا، فقد لا تتمكن من ذلك، لعدم وجوده عندها ذلك الوقت، فيكون ذكره عليه الصلاة والسلام التصفيق إنما للتنبيه به على ما عداه.
قال الجامع: والاتباع في ذلك كما قال الحافظ العراقي هو الأولى فتصفيق المرأة بيدها متيسر في حقها لاعتيادها ذلك في غير الصلاة، بخلاف الضرب بالعصا ونحوه، فقد يظن المنبه أنه لضرب عقرب ونحوه، والتصفيق باليد لعارض يعرض مما يتعلق بما هي فيه. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الثالثة عشرة:
ظاهر الحديث يقتضي حصول المقصود بالتصفيق على أيّ وجه كان. وروى أبو داود في سننه عن عيسى بن أيوب، وهو القيني -بفتح القاف، وإسكان الياء المثناة من تحت، بعدها نون- دمشقي من أصحاب مكحول: أنه قال: التصفيح للنساء تضرب بأصبعين من يمينها على كفها اليسرى. وحكى الرافعي وغيره من الشافعية في كيفية ذلك أوجهاً، بينها ولي الدين العراقي رحمه الله في طرحه، فراجعه
جـ 2 ص 249 - 250.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الراجح أنها يجوز لها أن تُصَفِّقَ كيف شاءت على ما هو ظاهر الحديث، قال صاحب الحاوي من الشافعية: إنه ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الرابعة عشرة:
قال الحافظ ولي الدين رحمه الله: حكى القاضي عياض، وأبو العباس القرطبي عن الشافعي، ومن قال مثله في أن المشروع للنساء التصفيق، إنهم عللوا ذلك بأن أصواتهن عورة كما منعهن من الأذان، ومن الجهر بالإقامة والقراءة.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في قوله: "وإنما التصفيق للنساء". يعني أن أصواتهن عورة، فلا يُظهِرْنه. اهـ. لكن الصحيح عند الشافعية أن صوتها ليس بعورة، نعم إن خُشِيَ الافتتانُ بسماعه حَرُمَ، وإلا فلا، فالتعليل بخوف الافتتان أولى، كما فعله ابن عبد البر، فقال في الاستذكار. وقال بعضهم: إنما كره التسبيح للنساء؛ لأن أصوات المرأة فتنة، ولهذا منعت من الأذان، والإقامة، والجهر بالقراءة في صلاتها. اهـ.
لكن قول القاضي عياض، والقرطبي: والجهر بالإقامة أولى من قوله: والإقامة؛ لأنها لم تمنع من الإقامة، وإنما منعت من الجهر بها، فالمرأة تقيم إلا أنها لا تجهر بذلك. اهـ.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ولي الدين؛ من أن الأولى التعليل بالافتتان، لا بأن صوت المرأة عورة هو الصحيح لعدم نص صريح في كون صوت المرأة عورة، بل الأدلة على خلافه، فقد كانت الصحابيات يرفعن أصواتهن، وهن في صفوف النساء، فيسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسائل، والصحابة يستمعون، وكذلك في عهد الخلفاء الراشدين، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون أمهات المؤمنين، وغيرهن من الصحابيات رضي الله عنهن عن أشياء، فيجبن، رافعات أصواتهن. وهذا لا ينكره من مارس كتب السنة، ولو ذكرت تفاصيل ما ثبت من هذا لطال عليّ الكتاب.
والحاصل أن صوت المرأة ليس بعورة، لكن إن خِيفَ الافتتانُ يحرم سماعه. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
المسألة الخامسة عشرة: أخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث أنه لا يجوز للرجل التصفيق باليدين مطلقاً؛ لا في الصلاة، ولا في غيرها؛ لكونه جعل التصفيق للنساء، لكنه محمول على حالة الصلاة؛ بدليل تقييده بذلك في رواية مسلم، وغيره، كما تقدم. ومقتضى قاعدة من يأخذ بالمطلق -وهم الحنابلة، والظاهرية- عدم جوازه مطلقاً، ومتى كان في تصفيق الرجل تشبه بالنساء، فيدخل في الأحاديث الواردة في ذم المتشبهين من الرجال بالنساء، ولكن ذلك إنما يأتي في ضرب بطن إحدى اليدين على بطن الأخرى، ولا يتأتى في مطلق
التصفيق. قاله ولي الدين رحمه الله. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
.
المسألة السادسة عشرة: أخرج مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن الزهري رحمه الله أنه قال: وقد رأيت رجالاً من أهل العلم، يسبحون، ويشيرون. اهـ. -يعني في الصلاة- وإنما جمعوا بينهما لأن في كل منهما إفهامَ ما في النفس.
قال ولي الله رحمه الله: وهل المراد أنهم كانوا يجمعونهما في حالة واحدة، أو يفعلونهما متفرقين، فيه نظر.
وأكثر العلماء من السلف والخلف على جواز الإشارة في الصلاة، وأنها لا تبطل بها، ولو كانت مُفهمة. وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وقد ورد في الإشارة في الصلاة أحاديث تكاد أن تبلغ حد التواتر، والأصح عند أصحاب الشافعية أنه لا تبطل الصلاة بإشارة الأخرس المفهمة، كالناطق.
ونقل ابن حزم من مصنف عبد الرزاق بأسانيده عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر خادمها تقسم المرقة، فتمر بها، وهي في الصلاة، فتشير إليها أن زيدي، وتأمر بالشيء للمسلمين، تومىء به، وهي في الصلاة.
(1)
طرح جـ 2 ص 250.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن أومأ إلى رجل في الصف -ورأى خللاً- أن تقدم.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: إني لأعدها للرجل عندي يَدًا أن يُعَدلني في الصلاة.
وعن عطاء بن أبي رباح أنه قيل له: إنسان يمر بي، فأقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، ثلاثاً، فيُقبِل، فأقول له بيدي أين تذهب؟ فيقول: إني كذا، وكذا، وأنا في المكتوبة، هل انقطعت صلاتي؟ فقال: لا، ولكن أكره. قلت: فأسجد للسهو؟ قال: لا.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قامت إلى الصلاة في درع وخمار، فأشارت إلى المِلْحَفَة، فناولتها، وكان عندها نسوة، فأومأت إليهن بشيء من طعام بيدها، يعني وهي تصلي.
وعن أبي رافع كان يجيء الرجلان إلى الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة، فيتشهد أنه على الشهادة، فيصغي لها سمعه، فإذا فرغ يومىء برأسه، أي نعم.
وعن ابن عمر رضي الله عنه إذا كان أحدكم في الصلاة، فسُلِّمَ عليه، فلا يتكلمن، وليشر إشارة، فإن ذلك رده.
وذهب الحنفية إلى بطلان الصلاة بالإشارة المفهمة، ونزلوها منزلة الكلام، واستدلوا لذلك بما رواه أبو داود في سننه، عن أبي هريرة
رضي الله عنه مرفوعاً: من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه، فليُعِدْ لها". يعني الصلاة، لكنه حديث ضعيف. قال أبو داود: هذا الحديث وَهَم. وقال أبو بكر بن أبي داود: أبو غطفان مجهول، ولعله من قول ابن إسحاق. والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير في الصلاة.
وقال أبو زرعة: ليس في شيء من الأحاديث هذا الكلام، وليس عندي بذاك الصحيح إنما رواه ابن إسحاق. وقال أحمد بن حنبل: لا يثبت هذا الحديث، إسناده ليس بشيء.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن المذهب الراجح هو ما عليه الجمهور، من جواز الإشارة المفهومة في الصلاة، للأحاديث الصحيحة في ذلك. والله تعالى أعلم، وهو الهادي إلى الصراط الأقوم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
"الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله". "سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين". "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". السلام عليك إياها النبي ورحمة الله وبركاته.
"سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك،
وأتوب إليك".
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى الإتيوبي نزيل مكة، عفا الله عنه، وعن والديه: بحمد الله تعالى، وحسن توفيقه تم الجزء التاسع من شرح سنن الإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله تعالى، المسمى ذخيرة العُقبى في شرح المجتبى.
وذلك بمكة المكرمة زادها الله تعالى عزًا، وكرامة، وزادني بها إقامة، وسلامة، بحي الهنداوية.
ويلية الجزء العاشر مفتتحًا بـ[صلاة الإِمام خلف رجل من رعيته] / رقم 8/ 785.
أسأل الله تعالى أن ييسر لي إتمامه على الوجه المطلوب، بمنه وكرمه آمين.
***