المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم. وصلّى - ذيل طبقات الحنابلة - لابن رجب - ت الفقي - جـ ١

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم. وصلّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى أزواجه الطيبات الطاهرات، أمهات المؤمنين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال الشيخ الإمام، العالم المقرئ، العامل الزاهد، الحافظ المحدث، زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الزاهد، الإمام العالم المقرئ، شهاب الدين، أبى العباس أحمد بن حسن بن رجب - رحمهم الله تعالى برحمته -:

هذا كتاب جمعته، وجعلته ذيلا على كتاب «طبقات فقهاء أصحاب الإمام أحمد» للقاضى أبى الحسين محمد بن القاضى أبى يعلى. رحمهم الله تعالى.

وابتدأت فيه بأصحاب القاضى أبى يعلى. وجعلت ترتيبه على الوفيات.

والله المسئول أن ينفع به فى الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.

ص: 5

‌وفيات المائة الخامسة

من سنة 460 هـ - إلى سنة 500 هـ

‌1 - على بن أبي طالب

بن زبيبا البغدادى، أبو الغنائم.

من قدماء أصحاب القاضى أبى يعلى، تفقه عليه.

قال القاضى أبو الحسين: كان يدرس فى الحريم بالمسجد المقابل لباب بدر، وله أيضا حلقة بجامع المهدى. وقرأ عليه أبو تراب بن البقال، وأبو الحسين ابن الفاعوس وغيرهما. ونسخ بخطه كثيرا من تصانيف القاضى، كالخلاف الكبير، نسخه مرتين، والعدة، وأحكام القرآن، والجامع الصغير. وغير ذلك.

وهو أول من توفى من أصحاب القاضى أبى يعلى بعده بنحو سنة. ودفن قريبا منه. رحمه الله.

ذكره ابن النجاد قال: كان من أعيان أصحاب القاضى أبى يعلى، وله حلقة بجامع المهدى للمناظرة. روى عن أبى الحسين بن بشران، ونصر بن محمد بن على الآمدى. روى عنه القاضى عزيزى بن عبد الملك الجيلى. ثم أرّخ وفاته يوم الخميس ثانى عشرين شهر ربيع الآخر سنة ستين وأربعمائة. وصلّى عليه من الغد بجامع القصر. وكان له جمع كثير.

و «زببيا» قيّده ابن نقطة: بكسر الزاى، وكسر الباء المعجمة بواحدة بعدها باء أخرى مثلها ساكنة، وياء مفتوحة معجمة من تحتها باثنتين.

وقال ابن عقيل: كان من أصحاب القاضى أبى يعلى أرباب الحلق: ابن البازكردى، وابن زبيبا، فقيهان مفتيان، ولهما حلقتان بجامع الرصافة، يقصّان الفقه شرحا للمذهب على وجه ينتفع به العوام.

‌2 - علىّ بن الحسن القرميسينى أبو منصور.

ذكره أبو الحسين، وقال:

أحد من علق عن الوالد من الخلاف والمذهب. وسمع منه الحديث، وزوّج ابنته لأبى على بن البناء، وأولدها أبا نصر.

ص: 7

وتوفى فى رجب سنة ستين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.

‌3 - عبد الله بن عبد الله

بن عبيد الله بن توبة العكبرى، الخياط الأديب الكاتب، أبو محمد.

روى عن الأحنف العكبرى من شعره. روى عنه الخطيب.

وتوفى يوم الثلاثاء سابع عشر محرم سنة إحدى وستين وأربعمائة.

ذكره ابن البناء فى تاريخه، وقال: هو صاحب الخط والأدب.

‌4 - عبد الله البردانى،

أبو محمد الزّاهد.

كان منقطعا فى بيت بجامع المنصور، يتعبد خمسين سنة.

قال ابن البناء: كان من خيار المسلمين، لا يقبل من أحد شيئا، مع الزهادة والعبادة. روى عنه أبو بكر المزرفىّ الفرضى أنه قال: رأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام، فقال لى: يا عبد الله، من تمسّك بمذهب أحمد فى الأصول سامحته فيما اجترح - أو فيما فرّط - فى الفروع.

وذكر ابن البناء، عمن يثق به: أنه رأى فى منامه، فى حياة البردانى - هذا - ملكين قد نزلا من السماء، فقال أحدهما لصاحبه: فيم جئت؟ قال:

جئت أخسف بأهل بغداد، فإنّه قد عمّ فيها الفساد! فقال له الملك الآخر: كيف تفعل هذا، وفيها عبد الله البردانى؟

قال ابن البناء: توفى عبد الله البردانى الزاهد الحنبلى يوم السبت سادس ربيع الأول، سنة إحدى وستين وأربعمائة. وصلّى عليه بجامع المنصور. وكان خلقا عظيما. ودفن فى مقبرة الإمام أحمد، وتولّى غسله والصلاة عليه الشريف أبو جعفر. رحمه الله تعالى.

‌5 - علي بن محمد بن عبد الرحمن البغدادى،

أبو الحسن المعروف بالآمدى

ص: 8

ويعرف قديما بالبغدادى. نزل ثغر آمد. وهو أحد أكابر أصحاب القاضى أبى يعلى.

قال ابن عقيل فيه: بلغ من النظر الغاية، وكانت له مروءة. يحضر عنده الشيخ أبو إسحاق الشيرازى، وأبو الحسن الدّامغانى - وكانا فقيهين - فيضيفهما بالأطعمة الحسنة، وكان يتكلم معهما إلى أن يمضى من الليل أكثره.

وذكر أنه كان هو المتقدم على جميع أصحاب القاضى أبى يعلى.

قال ابن عقيل: وسمعت المتولى لما قدم: يذكر أنه لم يشهد فى سفره أحسن نظرا من الشيخ أبى الحسن البغدادى بآمد.

قال القاضى أبو الحسين، وتبعه ابن السّمعانى: أحد الفقهاء الفضلاء، والمناظرين الأذكياء. وسمع الحديث من أبى القاسم بن بشران، وأبى إسحاق البرمكى، وأبى الحسن بن الحرانى، وابن المذهب وغيرهم. وسمع من القاضى أبى يعلى، ودرس عليه الفقه، وأجلس فى حلقة النظر والفتوى بجامع المنصور فى موضع ابن حامد. ولم يزل يدرّس ويفتى ويناظر إلى أن خرج من بغداد، ولم يحدّث ببغداد بشئ، لأنه خرج منها فى فتنة البساسيرى، فى سنة خمسين وأربعمائة إلى آمد، وسكنها واستوطن بها، ودرس بها الفقه إلى أن مات فى سنة سبع - أو ثمان - وستين وأربعمائة. وقبره هناك مقصود بالزيارة. وكان يدرس فى مقصورة بجامع آمد.

وله هناك أصحاب يتفقهون عليه. وبرع منهم طائفة.

وله كتاب: «عمدة الحاضر وكفاية المسافر» فى الفقه، فى نحو أربع مجلدات، وهو كتاب جليل يشتمل على فوائد كثيرة نفيسة. ويقول فيه: ذكر شيخنا ابن أبى موسى فى الإرشاد، فالظاهر: أنه تفقه عليه أيضا. وسمع منه بآمد: أبو الحسن ابن الغازى السّنّة للخلاّل عن أبى إسحاق البرمكى، وعبد العزيز الأزجى.

‌6 - محمد بن عمر بن الوليد الباجسرائى،

الفقيه، أبو عبد الله

ص: 9

قال أبو الحسين: كانت له حلقة بجامع المنصور، تردد إلى مجلس الوالد السعيد الزمان الطويل، وسمع منه الحديث والدرس.

ومات سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان قد بلغ من السنّ خمسا وتسعين سنة. رحمه الله تعالى.

‌7 - محمد بن علي بن محمد

بن موسى بن جعفر، أبو بكر الخيّاط، المقرئ البغدادى.

ولد سنة ست وسبعين وثلاثمائة، وقرأ على أبى أحمد الفرضى، وأبى الحسين السّوسنجردى، وبكر بن شاذان، وأبى الحسن الحمامي، وغيرهم. وسمع الحديث من ابن الصّلت المجبّر، وأبى عمر بن مهدى، وخلق من طبقتهما. ورأى أبا عبد الله بن حامد. وكان يتردّد إلى القاضى أبى يعلى، ويسمع درسه، ويحضر أماليه، واشتغل بإقراء القرآن، ورواية الحديث فى بيته ومسجده وجامع المنصور.

وكان يحضره خلق كثير.

وقرأ عليه خلق، منهم: القاضى أبو الحسين بن القاضى أبى يعلى، وأبو عبد الله البارع، وأبو بكر المزرفى، وهبة الله بن الطبرى.

وحدّث عنه جماعة كثيرون، منهم: أبو بكر الخطيب فى تاريخه، وأبو منصور القزاز، ويحيى بن الطراح، وغيرهم. وانتهى إليه إسناد القراءة فى وقته.

قال ابن الجوزى: ما يوجد فى عصره فى القراءات مثله. وكان ثقة صالحا.

وقال المؤتمن الساجى: كان شيخا ثقة فى الحديث والقراءة، صالحا، صبورا على الفقر.

وقال أبو ياسر البردانى: كان من البكائين عند الذكر، أثرت الدموع فى خدّيه.

وقال ابن النجار: كان شيخ القراء فى وقته، تفرد بروايات، وكان عالما، ورعا متدينا.

ص: 10

وذكره الذهبى فى طبقات القراء، فقال: كان كبير القدر، عديم النظير، بصيرا بالقراءات، صالحا عابدا، ورعا ناسكا، بكاء قانتا، خشن العيش، فقيرا متعففا، ثقة فقيها على مذهب أحمد. وآخر من روى عنه بالإجازة: أبو الكرم الشهرزورى.

قال ابن الجوزى: توفى ليلة الخميس ثالث جمادى الأولى سنة ثمان وستين وأربعمائة، ودفن فى مقبرة جامع المدينة - يعنى مدينة المنصور - وقال غيره:

صلّى عليه أبو محمد التميمى فى الجامع.

‌8 - على بن الحسين

بن أحمد بن إبراهيم بن جدا، أبو الحسن العكبرى.

ذكره ابن شافع فى تاريخه، فقال: هو الشيخ الصالح، الزاهد، الفقيه، الأمّار بالمعروف، والنّهاء عن المنكر.

سمع: أبا على بن شاذان، والبرقانى، وأبا القاسم الخرقى، وأبا القاسم بن بشران. وكان فاضلا، خيرا ثقة، مستورا صينا، شديدا فى السنة على مذهب أحمد. رضى الله عنه.

وقال القاضى أبو الحسين، وابن السمعانى: كان شيخا صالحا، دينا كثير الصلاة، حسن التلاوة للقرآن، ذا لسن وفصاحة، فى المجالس والمحافل، وله فى ذلك كلام منثور، وتصنيف مذكور مشهور.

وذكره أبو الحسين وابن الجوزى وقالا: سمع من أبى على بن شهاب، وأبى على بن شاذان، وكان فقيها صالحا فصيحا.

قال أبو الحسين: قرأ الفقه على الوالد السعيد، وله مصنف فى الأصول.

وتوفى فجأة فى الصلاة فى رمضان سنة ثمان وستين وأربعمائة، ودفن فى مقبرة أحمد.

وذكر ابن شافع وغيره: أنه توفى يوم الأحد سابع عشر رمضان المذكور.

وقال ابن شافع: جدا - بفتح الجيم - كذا سمعته من أشياخنا، ورأيته مضبوطا بخط أسلافنا.

ص: 11

وروى عنه القاضى أبو بكر، وأبو منصور القزاز، وسمع منه مكى الرّميلى الحافظ وجماعة.

وقال ابن خيرون: حدث بشئ يسير، كان مستورا صينا ثقة.

وروى عنه الخطيب فقال: حدثنى على بن الحسين بن جدا العكبرى قال:

رأيت هبة الله الطبرى فى المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لى. قلت:

بماذا؟ قال: كلمة خفيفة: بالسنة.

قال الحافظ عبد القادر الرهاوى: أنبأنا أبو موسى المدينى الحافظ قال:

رأيت بخط ابن البناء - وقرأته على ابن ناصر بإجازته من ابن البناء - قال: حكى أبو الحسن على بن الحسين بن جدا العكبرى قال: سمعت أبا مسعود أحمد بن محمد البجلى الحافظ قال: دخل ابن فورك على السلطان محمود، فتناظرا.

قال ابن فورك لمحمود: لا يجوز أن تصف الله بالفوقية، لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية. لأنه من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت.

فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فتلزمنى أن أصفه بالتحتية، وإنما هو وصف نفسه بذلك. قال: فبهت.

أخبرنا محمد بن إسماعيل الصوفى - بالقاهرة - أخبرنا عبد العزيز بن عبد المنعم الحرانى أخبرنا أبو على بن الحريف أخبرنا القاضى أبو بكر بن عبد الباقى أخبرنا أبو الحسن بن جدا أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبرى الحافظ قال: ذكر أن فتى من أصحاب الحديث أنشد فى مجلس أبى زرعة الرازى هذه الأبيات، فاستحسنت منه:

دين النبى «محمد» أختار

نعم المطية للفتى الآثار

لا تغفلنّ عن الحديث وأهله

فالرأى ليل، والحديث نهار

ولربّما غلط الفتى إثر الهدى

والشمس بازغة لها أنوار

‌9 - عبيد الله بن محمد

بن الحسين الفراء، أبو القاسم بن القاضى أبى يعلى.

ص: 12

ذكره أخوه فى الطبقات، وأنه ولد يوم السبت سابع شعبان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وقرأ بالروايات على أبى بكر الخياط، وابن البناء، وأبى الخطاب الصوفى، وأحمد بن الحسن اللحيانى، وغيرهم. وسمع الحديث من والده، وجده لأمه جابر بن ياسين، وأبى محمد الجوهرى، وغيرهم، وابن المهتدى وابن النّقور، وابن الآبنوسى، وابن المسلمة، وابن المأمون، والصّريفينى، وغيرهم.

ورحل فى طلب الحديث والعلم إلى: واسط، والبصرة، والكوفة، وعكبرا، والموصل، والجزيرة، وآمد، وغير ذلك.

وقرأ بآمد من الفقه على أبى الحسن البغدادى قطعة صالحة من الخلاف والمذهب. وكان قد علق قبل سفره على الشريف أبى جعفر، وكان قد حضر قبل ذلك درس والده وعلق عنه.

وكان يحضر مجالس النظر فى الجمع وغيرها، ويتكلم فى المسائل مع شيوخ عصره. وكان والده يأتم به فى صلاة التراويح إلى أن توفى. وكان أكبر ولد القاضى أبى يعلى، وهو الذى تولى الصلاة عليه بجامع المنصور. وكان ذا عفة، وديانة وصيانة، حسن التلاوة للقرآن، كثير الدرس له، مع معرفته بعلومه. وله معرفة بالجرح والتعديل، وأسماء الرجال والكنى، وغير ذلك من علوم الحديث، حسن القراءة، وله خط حسن.

ولما وقعت فتنة ابن القشيرى: خرج إلى مكة، فتوفى فى مضيه إليها بموضع يعرف بمعدن النقرة، أواخر ذى القعدة سنة تسع وستين وأربعمائة، وله ست وعشرون سنة وثلاثة أشهر ونيف وعشرون يوما تقريبا. رحمه الله وعوضه الجنة.

‌10 - محمد بن أحمد بن محمد

بن الحسن بن على بن الحسين بن هارون، أبو الحسن البردانى الفرضى الأمين. والد الحافظ أبى على، الآتى ذكره إن شاء الله تعالى.

ولد بالبردان سنة ثمان وثمانين - وقيل: سنة ثمان وسبعين - وثلاثمائة. ونشأ بها

ص: 13

ثم انتقل إلى بغداد سنة ست وأربعين وأربعمائة واستوطنها. وسمع الكثير من أبى الحسن بن رزقويه، وأبى الحسين بن بشران، وأخيه أبى القاسم، وأبى الفضل التميمى، وأخيه أبى الفرج، وأبى الحسن بن مخلد، وأبى على بن شاذان، البرقانى، وخلق.

وروى عنه ولداه: أبو على، وأبو ياسر، والقاضى أبو بكر بن عبد الباقى وغيرهم.

قال القاضى أبو الحسين بن أبى يعلى: صحب الوالد، وتردد إلى مجالسه فى الفقه وسماع الحديث، وكان رجلا صالحا.

قال ابن النجار: وكان رجلا صالحا صدوقا، حافظا لكتاب الله تعالى، عالما بالفرائض وقسمة التركات. كتب بخطه الكثير، وخرّج تخاريج، وجمع فنونا من الأحاديث وغيرها. وخطه ردئ كثير السقم. وكان أمين القاضى أبى الحسين بن المهتدى. ثم ذكر عن ابنه أبى ياسر عبد الله: أن أباه أبا الحسن سرد الصوم ثلاثين سنة.

وذكر عن السلفى: أنه جرى ذكر ابنه أبى علي، فقال الحافظ أبو محمد السمرقندى: لو رأيت أباه وصلاحه لرأيت العجب. روى لنا عن ابن رزقويه وطبقته. وكان فقيها، وضيئا محدثا، مرضيا.

وذكر عن ابن خيرون: أن البردانى كان رجلا صالحا ثقة.

وقال ابن الجوزى: كان له علم بالقراءات والفرائض. وكان ثقة، عالما صالحا أمينا.

توفى يوم الخميس ثامن عشرين ذى القعدة سنة تسع وستين وأربعمائة.

ودفن يوم الجمعة بباب حرب. كذا ذكره ابن النجار.

وذكر ابن شافع: أنه توفى ليلة الجمعة تاسع عشرين ذى القعدة؛ ثم قال:

قرأت بخط ابنه أبى علي: أن أباه توفى يوم الخميس مستهل ذى الحجة من السنة.

قال: وصليت عليه يوم الجمعة فى المقصورة. وتبعه خلق عظيم. رحمه الله تعالى

ص: 14

قلت: له كتاب «فضيلة الذكر والدعاء» رواه عنه ابنه أبو على.

أخبرنا محمد بن إسماعيل الأيوبى الصوفى - بالقاهرة - أخبرنا عبد العزيز ابن عبد المنعم الحرانى أخبرنا أبو على الحريف أخبرنا القاضى أبو بكر محمد بن عبد الباقى أخبرنا أبو الحسن البردانى أخبرنا أبو الحسن بن مخلد أخبرنا إسماعيل الصفار حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا المعتمر بن سليمان: سمعت عاصما الأحول يقول: حدثنى شرحبيل أنه سمع أبا سعيد، وأبا هريرة، وابن عمر يحدّثون أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذّهب بالذّهب وزنا بوزن، مثلا بمثل.

من زاد أو ازداد فقد أربى».

وأنبأناه عاليا أبو الفتح الميدومى أخبرنا عبد اللطيف بن عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرانى أخبرنا أبو الفرج بن كليب أخبرنا أبو القاسم بن بيان أخبرنا ابن مخلد - فذكره.

‌11 - عبد الخالق بن عيسى

بن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، الشريف أبو جعفر بن أبى موسى الهاشمى العباسى.

و «أبو موسى» هو كنية جده الأعلى: عيسى بن أحمد بن موسى.

هذا هو الصحيح فى نسبه. وهو الذى ذكره صاحباه القاضيان: أبو بكر الأنصارى، وأبو الحسين بن القاضى، وابن الجوزى، وابن السمعانى، وغيرهم.

فإن الشريف أبا جعفر هو ابن أخ الشريف أبى على محمد بن أحمد بن محمد ابن عيسى بن أحمد بن موسى صاحب «الإرشاد» .

ووقع فى تاريخ ابن شافع وغيره: عبد الخالق بن أحمد بن عيسى بن أبى موسى عيسى بن أحمد، وهو وهم.

ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة.

ص: 15

قال ابن الجوزى: كان عالما فقيها، ورعا عابدا، زاهدا، قوالا بالحق، لا يحابى، ولا تأخذه فى الله لومة لائم.

سمع أبا القاسم بن بشران، وأبا محمد الخلال، وأبا إسحاق البرمكى، وأبا طالب العشارى، وغيرهم.

وتفقه على القاضى أبى يعلى، وشهد عند أبى عبد الله الدامغانى، ثم ترك الشهادة قبل وفاته. ولم يزل يدرس بمسجده بسكة الخرقى من باب البصرة وبجامع المنصور. ثم انتقل إلى الجانب الشرقى، فدرس فى مسجد مقابل لدار الخلافة، ثم انتقل - لأجل ما لحق نهر المعلّى من الغرق - إلى باب الطاق، وسكن درب الديوان من الرّصافة، ودرس بمسجد على باب الدرب، وبجامع المهدى.

وذكر القاضى أبو الحسين نحو ذلك، وقال: بدأ بدرس الفقه على الوالد من سنة ثمان وعشرين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسين، يقصد إلى مجلسه ويعلق، ويعيد الدّرس فى الفروع وأصول الفقه. وبرع فى المذهب، ودرّس، وأفتى فى حياة الوالد.

وكان مختصر الكلام، مليح التّدريس، جيد الكلام فى المناظرة، عالما بالفرائض، وأحكام القرآن والأصول. وكان له مجلس للنظر فى كل يوم اثنين ويقصده جماعة من فقهاء المخالفين. وكان شديد القول واللسان على أهل البدع ولم تزل كلمته عالية عليهم، ولا يردّ يده عنهم أحد. وانتهى إليه فى وقته الرحلة لطلب مذهب الإمام أحمد.

وذكره ابن السمعانى فقال: إمام الحنابلة فى عصره بلا مدافعة. مليح التدريس، حسن الكلام فى المناظرة، ورع زاهد، متقن عالم بأحكام القرآن والفرائض، مرضى الطريقة. ثم ذكر بعض شيوخه، وقال: روى لنا عنه أبو بكر محمد بن عبد الباقى البزار، ولم يحدثنا عنه غيره.

وقال ابن خيرون: مقدم أهل زمانه شرفا، وعلما وزهدا.

ص: 16

وقال ابن عقيل: كان يفوق الجماعة من أهل مذهبه وغيرهم فى علم الفرائض.

وكان عند الإمام - يعنى الخليفة - معظما حتى إنه وصّى عند موته بأن يغسله، تبركا به. وكان حول الخليفة ما لو كان غيره لأخذه. وكان ذلك كفاية عمره فو الله ما التفت إلى شئ منه، بل خرج ونسى مئزره حتى حمل إليه. قال:

ولم يشهد منه أنه شرب ماء فى حلقة على شدة الحر، ولا غمس يده فى طعام أحد من أبناء الدنيا.

قلت: وللشريف أبى جعفر تصانيف عدّة، منها «رءوس المسائل» وهى مشهورة، ومنها «شرح المذهب» وصل فيه إلى أثناء الصّلاة، وسلك فيه مسلك القاضى فى الجامع الكبير. وله جزء فى أدب الفقه، وبعض فضائل أحمد، وترجيح مذهبه. وقد تفقه عليه طائفة من أكابر المذهب، كالحلوانى، وابن المخرّمى، والقاضى أبى الحسين.

وكان معظما عند الخاصة والعامة، زاهدا فى الدنيا إلى الغاية، قائما فى إنكار المنكرات بيده ولسانه، مجتهدا فى ذلك.

قال أبو الحسين، وابن الجوزى: لما احتضر القاضى أبو يعلى أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر، فلما احتضر القائم بأمر الله قال: يغسلنى عبد الخالق، ففعل، ولم يأخذ مما هناك شيئا. فقيل له: قد وصى لك أمير المؤمنين بأشياء كثيرة، فأبى أن يأخذ. فقيل له: فقميص أمير المؤمنين تتبرك به! فأخذ فوطة نفسه، فنشفه بها، وقال: قد لحق هذه الفوطة بركة أمير المؤمنين. ثم استدعاه فى مكانه المقتدى، فبايعه منفردا. قال: وكان أول من بايع، وقال الشريف: لما بايعته أنشدته:

«إذا سيّد منّا مضى قام سيّد

ثم أرتج عليّ تمامه، فقال هو:

قئول لما قال الكرام فعول

ص: 17

قال: وأنبأنا ابن عبد الله عن أبى محمد التميمى قال: ما حسدت أحدا إلاّ الشريف أبا جعفر، فى ذلك اليوم، وقد نلت مرتبة التدريس والتذكير والسفارة بين الملوك، ورواية الأحاديث، والمنزلة اللطيفة عند الخاص والعام.

فلمّا كان ذلك اليوم خرج الشريف علينا، وقد غسل القائم عن وصيته بذلك.

ثم لم يقبل شيئا من الدنيا، ثم انسل طالبا لمسجده، ونحن كلّ منا جالس على الأرض متحف، متغير لونه، مخرق لثوبه، يهوله ما يحدث به بعد موت هذا الرجل على قدر ما له تعلق بهم، فعرفت أن الرجل هو ذلك.

قال القاضى أبو الحسين - أى ابن أبى يعلى -: قلت له - أى قلت لعبد الخالق - بعد اجتماعه معه: أين سهمنا مما كان هناك؟ فقال: أحييت جمال شيخنا والدك الإمام أبى يعلى. يقال: هذا غلامه، تنزه عن هذا القدر الكثير، فكيف لو كان هو؟

وفى سنة أربع وستين وأربعمائة: اجتمع الشريف أبو جعفر ومعه الحنابلة فى جامع القصر، وأدخلوا معهم أبا إسحاق الشيرازى وأصحابه. وطلبوا من الدولة قلع المواخير، وتتبع المفسدين والمفسدات، ومن يبيع النبيذ، وضرب دراهم تقع بها المعاملة عوض القراضة. فتقدم الخليفة بذلك. فهرب المفسدات، وكبست الدور، وأريقت الأنبذة. ووعدوا بقلع المواخير، ومكاتبة عضد الدولة برفعها، والتقدم بضرب الدراهم التى يتعامل بها. فلم يقنع الشريف ولا أبو إسحاق بهذا الوعد. وبقى الشريف مدة طويلة متعتبا مهاجرا لهم.

وحكى أبو المعالى صالح بن شافع عمن حدّثه: أن الشريف رأى محمدا وكيل الخليفة حين غرقت بغداد سنة ست وستين، وجرى على دار الخلافة العجائب، وهم فى غاية التخبط. فقال الشريف أبو جعفر: يا محمد، يا محمد، فقال له: لبيك يا سيدنا، فقال له: قل له: كتبنا وكتبتم، وجاء جوابنا قبل جوابكم، يشير إلى قول الخليفة: سنكاتب فى رفع المواخير، ويريد بجوابه: الغرق وما جرى فيه

ص: 18

وفى سنة ستين وأربعمائة كان أبو على بن الوليد - شيخ المعتزلة - قد عزم على إظهار مذهبه لأجل موت الشيخ الأجل أبى منصور بن يوسف، فقام الشريف أبو جعفر، وعبر إلى جامع المنصور، هو وأهل مذهبه، وسائر الفقهاء وأعيان أهل الحديث، وبلغوا ذلك. ففرح أهل السنة بذلك، وقرءوا كتاب التوحيد لابن خزيمة. ثم حضروا الديوان، وسألوا إخراج الاعتقاد الذى جمعه الخليفة القادر. فأجيبوا إلى ذلك. وقرئ هناك بمحضر من الجميع، واتفقوا على لعن من خالفه، وتكفيره. وبالغ ابن فورك فى ذلك.

ثم سأل الشريف أبو جعفر، والزاهد الصحراوى: أن يسلم إليهم الاعتقاد، فقال لهم الوزير: ليس ههنا نسخة غير هذه. ونحن نكتب لكم به نسخة لتقرأ فى المجالس. فقالوا: هكذا فعلنا فى أيام القادر، قرئ فى المساجد والجوامع.

فقال: هكذا تفعلون، فليس اعتقاد غير هذا، وانصرفوا. ثم قرئ بعد ذلك الاعتقاد بباب البصرة، وحضره الخاص والعام.

وكذلك أنكر الشريف أبو جعفر على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وغيره، فاختفى مدة ثم تاب وأظهر توبته. وسنذكر مضمون ذلك فى ترجمة ابن عقيل، إن شاء الله تعالى.

وآخر ذلك كله: فتنة ابن القشيرى، قام فيها الشريف قياما كليا، ومات فى عقبها.

ومضمون ذلك: أن أبا نصر بن القشيرى ورد بغداد، سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس فى النظامية. وأخذ يذم الحنابلة، وينسبهم إلى التجسيم.

وكان المتعصب له أبو سعد الصوفى، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازى، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة، ويسأله المعونة. فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبى جعفر فى مسجده، والإيقاع به، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومه إن وقعت. فلما وصل أولئك إلى باب المسجد

ص: 19

رماهم هؤلاء بالآجر. فوقعت الفتنة، وقتل من أولئك رجل من العامة، وجرح آخرون، وأخذت ثياب.

وأغلق أتباع ابن القشيرى أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله، يا منصور - يعنون العبيدى صاحب مصر - وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسى، وأنه ممالئ للحنابلة، لا سيما والشريف أبو جعفر ابن عمه.

وغضب أبو إسحاق، وأظهر التأهب للسفر. وكاتب فقهاء الشافعية نظام الملك بما جرى، فورد كتابه بالامتعاض من ذلك، والغضب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى. وكان الخليفة يخاف من السلطان ووزيره نظام الملك ويداريهما.

وحكى أبو المعالى صالح بن شافع، عن شيخه أبى الفتح الحلوانى وغيره، ممن شاهد الحال: أن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير أن يجيل الفكر فيما تنحسم به الفتنة. فاستدعى الشريف أبا جعفر بجماعة من الرؤساء منهم ابن جردة، فتلطفوا به حتى حضر فى الليل، وحضر أبو إسحاق، وأبو سعد الصوفى، وأبو نصر بن القشيرى. فلما حضر الشريف عظّمه الوزير ورفعه، وقال: إن أمير المؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين فى عقائدهم، وهؤلاء يصالحونك على ما تريد، وأمرهم بالدنوّ من الشريف. فقام إليه أبو إسحاق، وكان يتردد فى أيام المناظرة إلى مسجده بدرب المطبخ، فقال:

أنا ذاك الذى تعرف، وهذه كتبى فى أصول الفقه، أقول فيها: خلافا للأشعرية، ثم قبل رأسه.

فقال له الشريف: قد كان ما تقول، إلاّ أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما فى نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجا بزرك

(1)

- يعنى النظام - أبديت ما كان مخفيا.

(1)

معناه: العظيم. وكان لقب الوزير نظام الملك

ص: 20

ثم قام أبو سعد الصوفى، فقبّل يد الشريف، وتلطف به، فالتفت مغضبا وقال: أيها الشيخ، إنّ الفقهاء إذا تكلموا فى مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأما أنت: فصاحب لهو وسماع وتعبير فمن، زاحمك على ذلك حتى داخلت المتكلمين والفقهاء، فأقمت سوق التعصب؟

ثم قام ابن القشيرى - وكان أقلّهم احتراما للشريف - فقال الشريف:

من هذا؟ فقيل: أبو نصر بن القشيرى، فقال لو جاز: أن يشكر أحد على بدعته لكان هذا الشاب؛ لأنه باد هنا بما فى نفسه، ولم ينافقنا كما فعل هذان.

ثم التفت إلى الوزير فقال: أى صلح يكون بيننا؟ إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية، أو دنيا، أو تنازع فى ملك. فأما هؤلاء القوم: فإنهم يزعمون أنّا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافرا، فأىّ صلح بيننا؟ وهذا الإمام يصدع المسلمين، وقد كان جدّاه - القائم والقادر - أخرجا اعتقادهما للناس، وقرئ عليهم فى دواوينهم، وحمله عنهم الخراسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض، ونحن على اعتقادهما.

وأنهى الوزير إلى الخليفة ما جرى، فخرج فى الجواب: عرف ما أنهيته من حضور ابن العم - كثّر الله فى الأولياء مثله - وحضور من حضر من أهل العلم. والحمد لله الذى جمع الكلمة، وضم الألفة، فليؤذن للجماعة فى الانصراف، وليقل لابن أبى موسى: إنه قد أفرد له موضع قريب من الخدمة ليراجع فى كثير من الأمور المهمة، وليتبرك بمكانه.

فلما سمع الشريف هذا قال: فعلتموها.

فحمل إلى موضع أفرد له بدار الخلافة. وكان الناس يدخلون عليه مدة مديدة. ثم قيل له: قد كثر استطراق الناس دار الخلافة، فاقتصر على من تعيّن دخوله، فقال: مالى غرض فى دخول أحد علىّ. فامتنع الناس.

ثم إن الشريف مرض مرضا أثّر فى رجليه فانتفختا. فيقال: إن بعض المتفقّهة من الأعداء ترك له فى مداسه سما. والله تعالى أعلم.

ص: 21

ثم إن أبا نصر بن القشيرى أخرج من بغداد، وأمر بملازمة بلده لقطع الفتنة.

وذلك نفى فى الحقيقة.

قال ابن النجار: كوتب نظام الملك الوزير بأن يأمره بالرجوع إلى وطنه، وقطع هذه الثائرة، فبعث واستحضره، وأمره بلزوم وطنه، فأقام به إلى حين وفاته

قال القاضى أبو الحسين: أخذ الشريف أبو جعفر فى فتنة أبى نصر بن القشيرى، وحبس أياما، فسرد الصوم وما أكل لأحد شيئا.

قال: ودخلت عليه فى تلك الأيام ورأيته يقرأ فى المصحف، فقال لى:

قال الله تعالى: (45:2 {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)} تدرى ما الصبر؟ قلت:

لا، قال: هو الصوم. ولم يفطر إلى أن بلغ منه المرض، وضج الناس من حبسه.

وأخرج إلى الحريم الطاهرى بالجانب الغربى

(1)

فمات هناك.

وذكر ابن الجوزى: أنه لما اشتد مرضه، تحامل بين اثنين، ومضى إلى باب الحجرة، فقال: جاء الموت، ودنا الوقت، وما أحبّ أن أموت إلا فى بيتى بين أهلى. فأذن له. فمضى إلى بيت أخته بالحريم.

قال: وقرأت بخط أبى على بن البناء قال: جاءت رقعة بخط الشريف أبى جعفر، ووصيته إلى أبى عبد الله بن جردة فكتبها. وهذه نسختها:

«مالى - يشهد الله - سوى الحبل والدلو، وشئ يخفى علىّ لا قدر له.

والشيخ أبو عبد الله، إن راعاكم بعدى، وإلاّ فالله لكم. قال الله عز وجل:

(9:4 {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ)} ومذهبى: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وما عليه أحمد، ومالك والشافعى، وغيرهم ممن يكثر ذكرهم، والصلاة: بجامع المنصور إن سهل الله تعالى ذلك عليهم.

(1)

نسبة إلى طاهر بن الحسين. وبه كانت منازلهم. وسمى «الحريم» لأن من لجأ إليه أمن.

ص: 22

ولا يعقد لى عزاء، ولا يشق علىّ جيب، ولا يلطم خد. فمن فعل ذلك فالله حسيبه».

وتوفى رحمه الله تعالى ليلة الخميس سحرا، خامس عشر صفر سنة سبعين وأربعمائة، وغسله أبو سعيد البردانى، وابن الفتى بوصية منه، وكانا قد خدماه طول مرضه.

وصلّى عليه يوم الجمعة ضحى بجامع المنصور، وأمّ الناس أخوه الشريف أبو الفضل محمد. ولم يسع الجامع الخلق وانضغطوا، ولم يتهيأ لكثير منهم الصلاة، ولم يبق رئيس ولا مرءوس من أرباب الدولة وغيرهم إلا حضره، إلا من شاء الله، وازدحم الناس على حمله. وكان يوما مشهودا بكثرة الخلق. وعظم البكاء والحزن. وكانت العامة تقول: ترحّموا على الشريف الشهيد، القتيل المسموم؛ لما ذكر من أن بعض المبتدعة: ألقى فى مداسه سما. ودفن إلى جانب الإمام أحمد.

قال ابن السمعانى: سمعت أبا يعلى بن أبى حازم بن أبى يعلى بن الفراء الفقيه الحنبلى - يوم خرجنا إلى الصلاة على شيخنا أبى بكر بن عبد الباقى، ورأى ازدحام العوام، وتزاحمهم لحمل الجنازة - فقال أبو يعلى: العوام فيهم جهل عظيم.

سمعت أنه فى اليوم الذى مات فيه الشريف أبو جعفر حملوه ودفنوه فى قبر الإمام أحمد، وما قدر أحد أن يقول لهم: لا تنبشوا قبر الإمام أحمد، وادفنوه بجنبه.

فقال أبو محمد التميمى - من بين الجماعة - كيف تدفنونه فى قبر الإمام أحمد بن حنبل وبنت أحمد مدفونة معه فى القبر؟ فإن جاز دفنه مع الإمام لا يجوز دفنه مع ابنته.

فقال بعض العوام: اسكت، فقد زوجنا بنت أحمد من الشريف، فسكت التميمى، وقال: ليس هذا يوم كلام.

ولزم الناس قبره، فكانوا يبيتون عنده كل ليلة أربعاء، ويختمون الختمات، ويخرج المتعيشون، فيبيعون الفواكه والمأكولات، فصار ذلك فرجة للناس. ولم

ص: 23

يزالوا على ذلك مدة شهور، حتى دخل الشتاء ومنعهم البرد. فيقال إنه: قرئ على قبره فى تلك المدة عشرة آلاف ختمة.

ورآه بعضهم فى المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لما وضعت فى قبرى رأيت قبة من درة بيضاء لها ثلاثة أبواب، وقائل يقول: هذه لك، أدخل من أى أبوابها شئت.

ورآه آخر فى المنام، فقال: ما فعل الله بك؟ قال: التقيت بأحمد بن حنبل فقال لى: يا أبا جعفر، لقد جاهدت فى الله حق جهاده، وقد أعطاك الله الرضى رضى الله عنه.

وقع لى جملة من حديث الشريف أبى جعفر بالسماع، فمنها: ما أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الصوفى - بالقاهرة - أخبرنا أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحرانى أخبرنا أبو على بن أبى القاسم ابن الحريف أخبرنا القاضى أبو بكر محمد بن عبد الباقى البزار أخبرنا أستاذى أبو جعفر عبد الخالق ابن عيسى الهاشمى - بقراءتى عليه - قلت له: حدثكم أبو القاسم عبد الملك بن محمد ابن بشران أخبرنا أبو على محمد بن أحمد بن الصواف حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبى، حدثنا يزيد بن هارون وأبو عبد الرحمن قالا: أخبرنا المسعود عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبى طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا يلج النار أحد بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن فى الضرع، ولا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان جهنم فى منخرى امرئ أبدا» .

وقرأت بخط ابن عقيل فى الفنون قال: مما استحسنته من فقه الشريف الإمام الزاهد أبى جعفر عبد الخالق بن عيسى بن أبى موسى الهاشمى رضى الله عنه وتدقيقه - وإن كان أكثر من أن يحصى -: ما قاله فى أوائل قدوم الغزالى بغداد، وجعلوا يأخذون من أموال الناس فى الطرقات، وتقصر أيدى العوام عنهم، فقال: الذى نسبه من مذهب أبى حنيفة: أن تجرى عليهم أحكام

ص: 24

قطّاع الطريق، وإن كان ذلك فى الحضر. لأنهم عللوا بأن فى الحضر يلحق الغوث، فلا يكون لهم حكم قطاع الطريق فى الصحارى والبرارى. وهذا التعليل موجود فى الحضر؛ لأنه لا مغيث يغيث منهم، لقوتهم واستطالتهم على العوام.

قلت: هذا قريب من قول القاضى أبى يعلى: إن أصحابنا اختلفوا فى المحاربين فى الحضر: هل تجرى عليهم أحكام المحاربين؟ فظاهر كلام الخرقى:

أنها لا تجرى عليهم. وقال أبو بكر: بل أحكام المحاربين جارية عليهم. وفصّل القاضى بين أن يفعلوا ذلك فى حضر يلحق فيه الغوث عادة أولا. فإن كان يلحق فيه الغوث عادة: فليسوا بمحاربين، وإلاّ فهم محاربون. ومعلوم أن السلطان إذا امتنع من دفعهم - إمّا لضعفه وعجزه، وإما لكونه ظالما يسلط أعوانه على الظلم - تعذّر لحوق الغوث مع ذلك عادة. فيثبت لهم - على قوله - أحكام المحاربين والله أعلم.

ونقلت من بعض تعاليق الإمام أبى العباس أحمد بن تيمية رحمه الله. مما نقله من الفنون لابن عقيل: حادثة رجل حلف على زوجته بالطلاق الثلاث:

لا فعلت كذا، فمضى على ذلك مدة، ثم قالت: قد كنت فعلته. هل تصدق مع تكذيب الزوج لها؟ أجاب الشريف الإمام أبو جعفر بن أبى موسى: تصدّق ولا ينفعه تكذيبه. وأجاب الشيخ الإمام أبو محمد: لا تصدق عليه، والنكاح بحاله.

قلت: أبو محمد: أظنه التميمى.

ومن الفنون أيضا: مسألة، إذا وجد على ثوبه ماء واشتبه عليه: أمذى أم منى؟ إن قلتم: يجب حمله على أقل الأحوال، من كونه مذيا، لأن الأصل سقوط غسل البدن: أوجبتم غسل الثوب. لأن المذى نجس، والأصل سقوط غسل الثوب متقابلا. فقال الشريف أبو جعفر بن أبى موسى رضى الله عنه:

لا يجب غسل الثوب ولا البدن جميعا، لتردد الأمر فيهما. وأوجب غسل أربعة الأعضاء. لأن الخارج - أىّ خارج كان - يوجب غسل الأعضاء.

ص: 25

وقد ذكر هذه المسألة ابن تميم فى كتابه، من الفنون، وعزاها إلى ابن أبى موسى، فربما توهم السامع أنه ابن أبى موسى صاحب الإرشاد، وليس كذلك.

وهذه المسألة تشبه مسألة الرجلين إذا وجدا على فراشهما منيّا ولم يعلما من خرج منه، أو سمعا صوتا ولم يعلما صاحبه. وفى وجوب الغسل والوضوء عليهما روايتان؛ لكن أرجحهما لا يجب. وعلى القول بانتفاء الوجوب، فقالوا: لا يأتمّ أحدهما بصاحبه، ولا يصافّه وحده، لأنه يظهر حكم الحدث المتيقن باجتماعهما، ويعلم أن صلاة أحدهما باطلة. فتبطل الجماعة والمصافّة.

ونظير هذا: ما قلنا فى المختلفين فى جهة القبلة: إنه لا يأتمّ أحدهما بصاحبه فإنه يتيقن باجتماعهما فى الصلاة خطأ أحدهما فى القبلة، فتبطل جماعتهما.

وكذلك ما ذكره أكثر الأصحاب: فى رجلين علّق كل منهما عتق عبده على شرط، ووجد أحد الشرطين يقينا، ولا يعلم عينه أنه لا يحكم بعتق عبد واحد منهما، ويستصحب أصل ملكه. فإن اشترى أحدهما عبد الآخر: أخرج المعتق منهما بالقرعة على الصحيح أيضا.

فكذلك يقال ههنا: يستصحب أصل طهارة الثوب والبدن من النجاسة والجنابة، ولكن ليس له أن يصلى بحاله فى الثوب؛ كأنّا نتيقن بذلك حصول المفسد لصلاحيته، وهو إما الجنابة وإما النجاسة.

ومن غرائب الشريف: ما نقله عنه ابن تميم فى كتابه: أن المتوضى إذا نوى غسل النجاسة مع الحدث: لم يجزه، وأن طهارة المستحاضة لا ترفع الحدث.

وذكر الشريف فى رءوس مسائله: أنّ القدر المجزئ مسحه من الخفين:

ثلاثة أصابع، وأن أحمد رجع إلى ذلك فى مسح الخف ومسح الرأس. قال:

وكان شيخنا ينصر أولا مسح الأكثر، ثم رأيته مائلا إلى هذا. وهذا غريب جدا.

‌12 - عبد الرحمن بن محمد

بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم ابن الوليد بن منده بن بطّة بن أستندار - واسمه الفيرزان - بن جهار بخت،

ص: 26

العبدى الأصبهانى الإمام الحافظ، أبو القاسم ابن الحافظ الكبير أبى عبد الله بن منده. ومنده لقب إبراهيم جده الأعلى.

ذكره أبو الحسين، وابن الجوزى فى طبقات الأصحاب فى آخر المناقب.

وترجمه ابن الجوزى فى تاريخه، فقال: ولد سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.

وسمع أباه وأبا بكر بن مردويه، وخلقا كثيرا. وكان كثير السماع، كبير الشأن، سافر فى البلاد، وصنف التصانيف، وخرّج التخاريج. وكان ذا وقار وسمت، وأتباع فيهم كثرة. وكان متمسكا بالسنة، معرضا عن أهل البدع، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا يخاف فى الله لومة لائم.

وكان سعد بن محمد الزّنجانى يقول: حفظ الله الإسلام برجلين، أحدهما بأصبهان، والآخر بهراة: عبد الرحمن بن منده، وعبد الله الأنصارى.

وقال ابن السمعانى: كان كبير الشأن، جليل القدر، كثير السماع، واسع الرواية. سافر إلى الحجاز وبغداد وهمذان، وخراسان، وصنف التصانيف.

وقال القاضى أبو الحسين: لم يكن فى عصره وبلده مثله فى ورعه وزهده وصيانته، وحاله أظهر من ذلك. وكانت بينه وبين الوالد السعيد مكاتبات.

وقال غيره: سمع أبو القاسم من أبيه، وإبراهيم بن خرشيد قوله، وإبراهيم ابن محمد الجلاب، وأبى جعفر بن المرزبان، وأبى ذر بن الطبرانى، وخلق بأصبهان، ومن أبى عمر بن مهدى، وهلال الحفار، وغيرهما ببغداد. ومن ابن خزيمة الواسطى بها، ومن ابن جهضم بمكة، ومن أبى بكر الحيرى، وأبى سعيد الصيرفى بنيسابور، لكنه لم يرو عن الحيرى كما فعل الأنصارى، وأجاز له زاهر السّرخسى، وتفرد بذلك، ومحمد بن عبد الله الجوزقى، وعبد الرحمن ابن أبى شريح.

وقال أبو عبد الله الدقاق الحافظ: فضائل ابن منده ومناقبه أكثر من أن تعد - إلى أن قال: ومن أنا لنشر فضله؟ كان صاحب خلق وفتوة، وسخاء

ص: 27

وبهاء، والإجازة كانت عنده قوية، وله تصانيف كثيرة، وردود جمّة على المبتدعين والمنحرفين فى الصفات وغيرها.

قال: وكان جذعا فى أعين المخالفين، لا يخاف فى الله لومة لائم - إلى أن قال: ووصفه أكثر من أن يحصى.

وقال يحيى بن منده: كان عمى سيفا على أهل البدع، وهو أكبر من أن يثنى عليه مثلى، كان والله آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، وفى الغدوّ والآصال ذاكرا، ولنفسه فى المصالح قاهرا، أعقب الله من ذكره بالشرّ الندامة. وكان عظيم الحلم كثير العلم، قرأت عليه قول شعبة «من كتبت عنه حديثا فأنا له عبد» فقال «من كتب عنى حديثا فأنا له عبد»

قلت: قد ذكر عن شيخ الإسلام الأنصارى أنه قال: كانت مضرته فى الإسلام أكثر من منفعته. وعن إسماعيل التيمى أنه قال: خالف أباه فى مسائل، وأعرض عنه مشايخ الوقت، وما تركنى أبى أسمع منه. وكان أخوه خيرا منه.

وهذا ليس بقادح - إن صح - فإن الأنصارى والتيمى وأمثالهما يقدحون بأدنى شئ ينكرونه من مواضع النزاع، كما هجر التيمىّ عبد الجليل الحافظ كوباه على قوله «ينزل بالذات» وهو فى الحقيقة يوافقه على اعتقاده، لكن أنكر إطلاق اللفظ لعدم الأثر به.

قال ابن السمعانى: سمعت الحسين بن عبد الملك يقول: سمعت عبد الرحمن ابن منده يقول: قد تعجبت من حالى مع الأقربين والأبعدين، فإنى وجدت بالآفاق التى قصدتها أكثر من لقيته بها - موافقا كان أو مخالفا - دعانى إلى مساعدته على ما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة له فى فعله على قبول ورضى.

فإن كنت صدّقته: سمانى موافقا، وإن وقفت فى حرف من قوله، أو فى شئ من فعله: سمانى مخالفا. وإن ذكرت فى واحد منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك: سمانى خارجيا. وإن رويت حديثا فى التوحيد: سمانى مشبها. وإن كان

ص: 28

فى الرؤية: سمانى سالميا. وأنا متمسك بالكتاب والسنة، متبرئ إلى الله من التشبيه، والمثل والضد والند، والجسم والأعضاء والآلات، ومن كل ما ينسب إلىّ ويدّعى علىّ، من أن أقول فى الله تعالى شيئا من ذلك أو قلته، أو أراه، أو أتوهمه، أو أتخذه، أو أنتحله.

قال ابن السمعانى: وسمعت الحسن بن محمد بن الرضى العلوى يقول: سمعت خالى أبا طالب بن طباطبا يقول: كنت أشتم أبدا عبد الرحمن بن منده، فرأيت عمر رضى الله عنه فى المنام، ويده فى يد رجل عليه جبة صوف زرقاء، وفى عينيه نكتة، فسلمت عليه، فلم يردّ على، وقال لى: لم تشتم هذا إذا سمعت اسمه؟ فقيل لى: هذا أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه، وهذا عبد الرحمن بن منده.

فانتبهت، فأتيت أصبهان، وقصدت الشيخ عبد الرحمن، فلما دخلت عليه صادفته على النعت الذى رأيت فى المنام، وعليه جبة زرقاء. فلما سلمت عليه قال:

وعليك السلام يا أبا طالب، وقبلها ما رآنى ولا رأيته، فقال قبل أن أنطق:

شئ حرمه الله ورسوله يجوز لنا أن نحلّه؟ فقلت: اجعلنى فى حلّ، وناشدته الله وقبّلت بين عينيه. فقال: جعلتك فى حل مما يرجع إلى.

حدّث عن الحافظ أبى القاسم خلق كثير من الحفاظ، والأئمة، وغيرهم، مثل: ابن أخيه يحيى بن عبد الوهاب، وأبى نصر الغازى، وأبى سعد البغدادى، والحسين الخلال، وأبى عبد الله الدقاق، وأبى بكر الباغبان، وروى عنه بالإجازة مسعود الثقفى.

وله تصانيف كثيرة، منها: كتاب «حرمة الدين» وكتاب «الرد على الجهمية» بين فيه بطلان ما روى عن الإمام أحمد فى تفسير حديث «خلق الله آدم على صورته» بكلام حسن. وله كتاب «صيام يوم الشك» .

وبأصبهان طائفة من أهل البدع ينتسبون إلى ابن منده هذا، وينسبون إليه أقوالا فى الأصول والفروع، هو منها برئ.

ص: 29

منها: أن التيمم بالتراب يجوز مع القدرة على الماء.

ومنها: أن صلاة التراويح بدعة، وقد ردّ عليهم علماء أصبهان من أهل الفقه والحديث، وبيّنوا أن ابن منده برئ مما نسبوه إليه من ذلك.

توفى فى شوال سنة سبعين وأربعمائة بأصبهان، وشيّعه خلق كثير لا يحصيهم إلاّ الله تعالى.

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم بمصر، أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف ابن عبد المنعم الحرانى، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن على الحافظ أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد البغدادى، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أبى عبد الله بن منده، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن المرزبان حدثنا محمد بن إبراهيم الحرانى، حدثنا محمد بن سليمان لوين، حدثنا عبد الحميد بن سليمان عن محمد بن عجلان عن سعيد ابن يسار عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من امرئ يتصدق بصدقة من كسب طيّب - ولا يقبل الله إلاّ طيّبا - حتى ولو بتمرة، إلاّ أخذها الله بيمينه، ثم ربّاها له كما يربّى أحدكم فلوّه أو فصيله، حتى يوافيه يوم القيامة مثل الجبل العظيم» .

قرأت بخط الإمام أبى العباس أحمد بن تيمية رحمه الله: أن أبا القاسم بن منده كان من الأصحاب، وكان يذهب إلى الجهر بالبسملة فى الصلاة.

وذكر أيضا فى مسائله الماردانيات: أن طائفة من الأصحاب لم يذهبوا إلى صيام يوم الغيم، منهم أبو القاسم بن منده.

وذكر أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن منده قال: قال عمى الإمام - يعنى أبا القاسم رحمه الله علامة الرضا: إجابة الله تبارك وتعالى من حيث دعا بالكتاب والسنة. وعلامة الورع: الخروج من الشبهات بالأخبار والآيات. وعلامة القناعة السكوت على الكتاب والسنة فى الوقوف عند الشبهة. وعلامة الإخلاص:

ص: 30

زيادة السرّ على الإعلان فى إيثار قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم على الأقاويل كلها بالإيمان والاحتساب. وعلامة الصبر: حبس النفس فى استحكام الدرس بالكتاب والسنة. وعلامة التسليم: الثقة بالله الحكيم فى قوله، والسكون إلى الله العليم بقول رسوله صلى الله عليه وسلم فى جميع الأشياء.

وقال أبو القاسم بن منده فى كتاب «الرد على الجهمية» : التأويل عند أصحاب الحديث: نوع من التكذيب.

‌13 - أحمد بن محمد بن أحمد

بن يعقوب الرزّاز، المقرئ الزاهد، أبو بكر المعروف بابن حمّدوه. ذكره ابن الجوزى فى الطبقات والتاريخ.

ولد يوم الأربعاء لثمانى عشرة خلت من صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.

وحدّث عن خلق كثير. منهم: أبو الحسين بن بشران، وابن القواس، وهو آخر من حدّث عن أبى الحسين بن سمعون. وتفقه على القاضى أبى يعلى، وكان ثقة، زاهدا، متعبدا، حسن الطريقة.

وقال القاضى أبو الحسين: تفقه على الوالد مع الشريف أبى جعفر، وكانا يصطحبان إلى المجلس. وكان كثير القراءة للقرآن والإقراء له، ختّم خلقا كثيرا.

وحدّث عنه الخطيب فى تاريخه. وقال: وكان صدوقا. وأبو الحسن بن مرزوق فى مشيخته، وأبو القاسم بن السمرقندى، والقاضى أبو الحسين فى طبقات الأصحاب، وغيرهم.

توفى ليلة السبت رابع عشرين ذى الحجة سنة سبعين وأربعمائة. ودفن من الغد بباب حرب.

قال السلفى: سألت أبا على البردانى عن ابن حمدويه صاحب ابن سمعون فقال: هو بضم الحاء وتشديد الميم وضمه أيضا، يعنى وبالياء.

ذكره ابن نقطة. قال: وغيره يقول بخلاف قوله. منهم من يقول: حمّدوه بضم الحاء، وتشديد الميم وفتحها، بغير ياء بعد الواو.

ص: 31

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم - بمصر - أخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرانى، أخبرنا عبد الوهاب بن على الأمين، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقى، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حمدويه الرزاز، حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن سمعون، حدثنا أحمد بن سليمان بن ريان، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبى العشرين الأوزاعى، حدثنا الزهرى، حدثنى سالم عن ابن عمر أنه حدّثه «أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه تصدّق على رجل بفرس له، ثم وجدها تباع فى السوق، فأراد عمر أن يشتريها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترتد فى صدقتك»

قال الزهرى: فكان ابن عمر يصنع فى صدقته إن ردّها عليه الميراث يوما لا يحبسها عنده.

‌14 - الحسن بن أحمد

بن عبد الله بن البناء البغدادى، الإمام، أبو على المقرئ، المحدّث الفقيه الواعظ، صاحب التصانيف.

ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة.

وقرأ القراءات السبع على أبى الحسن الحمامى وغيره. وسمع الحديث من هلال الحفار، وأبى محمد السكرى، وأبى الحسن بن رزقويه، وأبى الفتح بن أبى الفوارس، وابن رزقويه، وأبى الحسين بن بشران، وأخيه أبى القاسم، وأبى على بن شهاب، وأبى الفضل التميمى، وخلق كثير.

وتفقه أولا على أبى طاهر بن الغبارى، ثم على القاضى أبى يعلى، وهو من قدماء أصحابه. وحضر عند أبى على بن أبى موسى وناظر فى مجلسه. وتفقه أيضا على أبى الفضل التميمى، وأخيه أبى الفرج.

وقرأ عليه القرآن جماعة، مثل أبى عبد الله البارع، وأبى العز القلانسى، وأبى بكر المزرفىّ.

ص: 32

وسمع منه الحديث خلق كثير. وقرأ عليه الحافظ الحميدى كثيرا.

حدّث عنه ولداه أبو غالب أحمد ويحيى، وأبو الحسين بن الفراء، وأبو بكر ابن عبد الباقى، وابن الحصين، وأبو القاسم بن السمرقندى وغيرهم.

ودرس الفقه كثيرا وأفتى زمانا طويلا.

قال القاضى أبو الحسين: تفقه على الوالد، وعلق عنه المذهب والخلاف، ودرس بدار الخلافة فى حياة الوالد وبعد وفاته. وصنف كتبا فى الفقه والحديث والفرائض، وأصول الدين، وفى علوم مختلفات. وكان متفننا فى العلوم. وكان أديبا شديدا على أهل الأهواء.

وقال ابن عقيل: هو شيخ إمام فى علوم شتى: فى الحديث، والقراءات، والعربية، وطبقة فى الأدب والشعر والرسائل، حسن الهيئة، حسن العبادة. كان يؤدب بنى جردة.

وقال ابن شافع: كان له حلقتان، إحداهما: بجامع المنصور، وسط الرواق.

والأخرى: بجامع القصر، حيال المقصورة، للفتوى والوعظ وقراءة الحديث. وكان يفتى الفتوى الواسعة، ويفيد المسلمين بالأحاديث والمجموعات وما يقرئه من السنن.

وكان نقى الذهن، جيد القريحة، تدل مجموعاته على تحصيله لفنون من العلوم، وقد صنف قديما فى زمن شيخه الإمام أبى يعلى فى المعتقدات وغيرها، وكتب له خطه عليها بالإصابة والاستحسان.

ولقد رأيت له فى مجموعاته من المعتقدات ما يوافق بين المذهبين: الشافعى، وأحمد. ويقصد به تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، مما قد استقر له وجود فى استنباطه، مما أرجو له به عند الله الزلفى فى العقبى. فلقد كان من شيوخ الإسلام النصحاء، الفقهاء الألباء. ويبعد غالبا أن يجتمع فى شخص من التفنن فى العلوم ما اجتمع فيه.

وقد جمع من المصنفات فى فنون العلم فقها وحديثا، وفى علم القراءات والسير،

ص: 33

والتواريخ والسنن، والشروح للفقه، والكتب النحوية إلى غير ذلك جموعا حسنة، تزيد على ثلاثمائة مجموع. كذا قرأته محققا بخط بعض العلماء.

وقال ابن الجوزى: ذكر عنه أنه قال: صنفت خمسمائة مصنف.

وقال أبو نصر بن المجلى، مما ذكره ابن شافع عنه: له مجموعات ومؤلفات فى المذهب، وفيما سواه من المذاهب، وفى الحديث وغيره. وتراجم كتبه مسجوعة على طريقة أبى الحسين بن المنادى.

قال: وكتبت الحديث عن نحو من ثلاثمائة شيخ لم أر فيهم من كتب بخطه أكثر من ابن البناء.

قال: وقال لى هو رحمه الله: ما رأيت بعينى من كتب أكثر منى.

قال: وكان طاهر الأخلاق، حسن الوجه والشيبة، محبا لأهل العلم مكرما لهم.

توفى رحمه الله ليلة السبت خامس رجب سنة إحدى وسبعين وأربعمائة.

وصلّى عليه فى الجامعين: جامع القصر، وجامع المنصور. وكان الجمع فيهما متوفرا جدا. أمّ الناس فى الصلاة عليه: أبو محمد التميمى، وتبعه خلق كثير، وعالم عظيم.

ودفن بباب حرب.

وقد غمزه ابن السمعانى، فقال: سمعت أبا القاسم بن السمرقندى يقول: كان واحد من أصحاب الحديث اسمه الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابورى. وكان قد سمع الكثير. وكان ابن البناء يكشط من التسميع بورى، ويمدّ السّين، وقد صار الحسن بن أحمد بن عبد الله البناء، كذا قيل إنه يفعل هذا.

قال أبو الفرج بن الجوزى: وهذا القول بعيد الصحة؛ لثلاثة أوجه. أحدها:

أنه قال «كذا قيل» ولم يحك عن علمه بذلك. فلا يثبت هذا. والثانى: أن الرجل مكثر، لا يحتاج إلى استزادة لما يسمع. والثالث: أنه قد اشتهرت كثرة رواية أبى على بن البناء. فأين ذكر هذا الرجل، الذى يقال له: الحسن بن أحمد ابن عبد الله النيسابورى؟ ومن ذكره؟ ومن يعرفه؟ ومعلوم أن من اشتهر سماعه لا يخفى، فمن هذا الرجل؟ فنعوذ بالله من القدح بغير حجة. اهـ.

ص: 34

وذكر السلفى عن شجاع الذهلى، والمؤتمن الساجى: أنهما غمزاه أيضا. ولم يفسرا. وفسره السلفى بأنه كان يتصرف فى أصوله بالتغيير والحكّ.

وذكر ابن النجار: أن تصانيفه تدل على قلة علمه، وسوء تصرفه، وقلة معرفته بالنحو واللغة. كذا قال. وابن النجار أجنبى من هذه العلوم فما باله يتكلم فيها؟ وقد وقع لنا الكثير من حديثه عاليا.

فمن ذلك: ما أخبرنا به أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم - بفسطاط مصر - قال: أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرانى، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن محمد بن الجوزى، أخبرنا أبو المعالى أحمد بن محمد بن الحسين المدارى، أخبرنا أبو على الحسن بن أحمد بن البناء، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا أبو على بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد القرشى حدثنى الوليد ابن سفيان، حدثنا ابن أبى عدىّ عن شعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» .

ذكر ما وقفت عليه من أسماء مصنفات ابن البناء:

شرح الخرقى فى الفقه، الكامل فى الفقه، الكافى المحدد فى شرح المجرد.

الخصال والأقسام، نزهة الطالب فى تجريد المذاهب، آداب العالم والمتعلم، شرح كتاب الكرمانى فى التعبير، شرح قصيدة ابن أبى داود فى السنة، المنامات المرئية للإمام أحمد: جزء، أخبار الأولياء، والعبّاد بمكة: جزء، صفة العباد فى التهجد والأوراد: جزء، المعاملات والصبر على المنازلات: أجزاء كثيرة. الرسالة فى السكوت ولزوم البيوت: جزء، سلوة الحزين عند شدة الأنين: جزء، طبقات الفقهاء، أصحاب الأئمة الخمسة، التاريخ، مشيخة شيوخه، فضائل شعبان، كتاب اللباس، مناقب الإمام أحمد، أخبار القاضى أبى يعلى: جزء، شرف أصحاب الحديث، ثناء أحمد على الشافعى، وثناء الشافعى على أحمد، وفضائل الشافعى،

ص: 35

كتاب الزكاة وعقاب من فرط فيها: جزء، المفصول فى كتاب الله: جزء، شرح الإيضاح فى النحو الفارسى، مختصر غريب الحديث لأبى عبيد، مرتب على حروف المعجم.

‌ومن فوائد ابن البناء الغريبة:

أنه حكى فى شرح الخرقى عن بعض الأصحاب أنه يعفى عن يسير يغيّر رائحة الماء بالنجاسة، كقول الخرقى فى التغير بالطاهرات.

وذكر فى شرح المجرد: أن من أخر الصلاة عمدا فى السفر وقضاها فى الحضر له القصر كالناسى.

قال: ولم يفرق الأصحاب بينهما. وإنما يختلفان فى المأثم وعدمه. وهذا النقل غريب جدا.

وقد ذكر نحوه القاضى أبو يعلى الصغير فى شرح المذهب، ولا يعرف فى هذه المسألة كلام صريح للأصحاب، إلا أن بعض الأئمة المتأخرين ذكر: أنه لا يجوز القصر للعامد، واستشهد على ذلك بكلام جماعة من الأصحاب فى مسائل، وليس له فيما ذكره حجة. والله تعالى أعلم.

وذكر فى هذا الكتاب: أن حكم اقتداء بعض المسبوقين ببعض فيما يقضونه من صلاتهم: لا فرق فيه بين الجمعة وغيرها. وأن الخلاف جار فى الجميع. وهذا خلاف ما ذكره القاضى وأصحابه موافقة للشافعية: أن الجمعة لا يجوز ذلك فيها وجها واحدا؛ لأنها لا تقام فى موضع واحد فى جماعتين.

قال ابن البناء: وفى هذا عندنا نظر؛ لأنه يجوز إقامتها مرتين، يعنى للحاجة.

ومما أنشده السلفى عن ابن أبى الحسين الطيورى: أن ابن البناء أنشده لنفسه على البديهة:

إذا غيّبت أشباحنا كان بيننا

رسائل صدق فى الضمير تراسل

وأرواحنا فى كل شرق ومغرب

تلاقى بإخلاص الوداد تواصل

وثمّ أمور لو تحققت بعضها

لكنت لنا بالعذر فيها تقابل

ص: 36

وكم غائب والقلب منه مسالم

وكم زائر فى القلب منه بلابل

فلا تجز عن يوما إذا غاب صاحب

أمين، فما غاب الصديق المجامل

‌15 - حمزة بن الكيال البغدادى،

أبو يعلى الفقيه الزاهد.

ذكره أبو الحسين فيمن تفقه على أبيه وعلق عنه، وسمع منه.

وقال فى ترجمته: كان رجلا صالحا، تردد إلى الوالد زمانا مواصلا، وسمع منه علما واسعا، وكان عبدا صالحا. وقيل: إنه كان يحفظ الاسم الأعظم.

وقال ابن خيرون: كان صالحا زاهدا، ملازما لبيته ومسجده، معتزل الخصومات والمراء.

وقال ابن شافع فى تاريخه: كان رجلا صالحا، ملازما لبيته ومسجده، حافظا للسانه، معتزلا عن الفتن.

توفى يوم الأربعاء سابع عشر من شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ودفن بمقبرة باب الدير.

‌16 - أبو بكر بن عمر الطحان

قال أبو الحسين: حضر درس الوالد، وعلق عنه. ومات فى شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.

‌17 - عبد الباقي بن جعفر

بن شهلى، الفقيه الحنبلى، أبو البركات.

قال ابن السمعانى: أحد المقلّين. حدّث بشئ يسير عن أبى إسحاق البرمكى، وروى عنه هبة الله السقطى فى معجمه. وذكر القاضى أبو الحسين، فى أسماء من تفقه على أبيه وعلق وسمع الحديث: أبا البركات بن شهلى، وهو هذا. رأيت ذلك فى طبقة سماعه.

قال القاضى أبو يعلى: وهو ابن شهلى بالياء.

‌18 - علي بن محمد بن الفرج

بن إبراهيم البزاز، المعروف بابن أخى نصر

ص: 37

العكبرى. ذكره ابن الجوزى فى الطبقات، وقال: سمع من أبى على بن شاذان والحسن بن شهاب العكبرى. وكان له تقدم فى القرآن والحديث، والفقه والفرائض، وجمع إلى ذلك النسك والورع.

وذكر ابن السمعانى نحو ذلك، وقال: كان فقيه الحنابلة بعكبرا، والمفتى بها.

وكان خيّرا، ورعا متزهدا، ناسكا كثير العبادة. وكان له ذكر شائع فى الخير، ومحلّ رفيع عند أهل بلدته.

وتوفى فى سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.

وذكر ابن شافع وغيره: أنه حدث بشئ يسير، وأن وفاته كانت يوم الاثنين ثالث عشر شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة بعكبرا.

روى عنه إسماعيل بن السمرقندى، وأخوه عبد الله وغيرهما. وسمع منه مكى الرّميلى وجماعة. ومما أنشده لنفسه:

اعجب لمحتكر الدنيا وبانيها

وعن قليل على كره يخلّيها

دار عواقب مفروحاتها حزن

إذا أعارت أساءت فى تقاضيها

يا من يسرّ بأيام تسير به

إلى الفناء وأيام يقضّيها

قف فى منازل أهل العز معتبرا

وانظر إلى أى شئ صار أهلوها

صاروا إلى جدث قفر، محاسنهم

على الثرى ودوىّ الدود يعلوها

‌19 - طاهر بن الحسين بن أحمد

بن عبد الله بن القواس البغدادى، الفقيه الزاهد الورع، أبو الوفاء.

ولد سنة تسعين وثلاثمائة. وقرأ القرآن على أبى الحسن الحمامى، وسمع الحديث من هلال الحفار، وأبى الحسين بن بشران، وأبى نصر بن الزينبى، وأبى الحسين ابن الفضل القطان، وأبى سهل العكبرى وغيرهم.

وتفقه أولا على القاضى أبى الطيب الطبرى الشافعى، ثم تركه وتفقه على

ص: 38

القاضى أبى يعلى، ولازمه حتى برع فى الفقه، وأفتى ودرس. وكانت له حلقة بجامع المنصور للفتوى والمناظرة. وكان يلقى المختصرات من تصانيف شيخه القاضى أبى يعلى درسا، ويلقى مسائل الخلاف درسا. وكان إليه المنتهى فى العبادة والزهد والورع.

ذكر ابن ناصر: أنه كان زاهد وقته فى الطبقة الثانية عشرة.

وذكره ابن السمعانى فى تاريخه، فقال: من أعيان فقهاء الحنابلة وزهادهم.

كان قد أجهد نفسه فى الطاعة والعبادة، واعتكف فى بيت الله خمسين سنة، وكان يواصل الطاعة ليله بنهاره، وكان قارئا للقرآن، فقيها ورعا، خشن العيش انتهى كلامه.

وكانت له كرامات ظاهرة.

ذكر ابن شافع فى ترجمة صاحبه أبى الفضل بن العالمة الإسكافى المقرئ:

أنه كان يحكى من كرامات الشيخ أبى الوفاء أشياء عجيبة.

منها: أنه قال: كنت أحمل معى رغيفين كل يوم، فأعبر - يعنى فى السفينة - برغيف، وأمشى إلى مسجد الشيخ فأقرأ، ثم أعود ماشيا إلى ذلك الموضع، فأنزل بالرغيف الآخر. فلما كان يوم من الأيام، أعطيت الملاح الرغيف، فرمى به واستقله، فألقيت إليه الرغيف الآخر، وتشوش قلبى لما جرى، وجئت الشيخ، فقرأت عليه عادتى، وقمت على العادة، فقال لى: - قف - ولم تجر عادته قط بذلك - ثم أخرج من تحت وطائه قرصا، فقال: اعبر بهذا. فلحقنى من ذلك أمر بان علىّ، ومضيت فعبرت به. وكان ابن العالمة - هذا - قد قرأ على الشيخ أبى الوفاء القرآن بالروايات.

وقال أبو الحسين، وابن الجوزى فى الطبقات: كانت له حلقة بجامع المنصور يفتى ويعظ، وكان يدرس الفقه، ويقرئ القرآن. وكان زاهدا أمارا بالمعروف، نهاء عن المنكر، أقام فى مسجده نحوا من خمسين سنة، وأجهد نفسه فى العبادة وخشونة العيش.

ص: 39

قال ابن السمعانى: سمعت عبد الوهاب بن المبارك الحافظ يقول: سأل واحد أبا الوفاء بن القواس عن مسألة فى حلقته بجامع المنصور، وكان الشيخ ممن قد رأى السائل فى الحمام بلا مئزر، مكشوف العورة، فقال له: لا أجيبك عن مسألتك حتى تقوم ههنا فى وسط الحلقة، وتخلع قميصك وسراويلك، وتقف عريانا، فقال السائل: يا سيدنا، أنا أستحيى، وهذا مما لا يمكن، فقال له:

يا فلان، فهؤلاء الحضور، أو جماعة منهم الذين كانوا فى الحمام، ودخلت مكشفا بلا مئزر، إيش الفرق بين جامع المنصور والحمام؟ فاستحيى الرجل من ذلك.

ثم ذكر فصلا طويلا فى النهى عن كشف العورة، وأجاب عن سؤاله.

وقال ابن عقيل: كان حسن الفتوى، متوسطا فى المناظرة فى مسائل الخلاف إماما فى الإقراء، زاهدا شجاعا مقداما، ملازما لمسجده، يهابه المخالفون، حتى إنه لما توفى ابن الزوزنى، وحضره أصحاب الشافعى - على طبقاتهم وجموعهم - فى فورة أيام القشيرى وقوتهم بنظام الملك حضر، فلما بلغ الأمر إلى تلقين الحفار قال له: تنحّ حتى ألقنه أنا، فهذا كان على مذهبنا، ثم قال: يا عبد الله وابن أمته، إذا نزل عليك ملكان فظّان غليظان، فلا تجزع ولا ترع، فإذا سألاك فقل:

رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، لا أشعرى ولا معتزلى، بل حنبلى سنّى. فلم يتجاسر أحد أن يتكلم بكلمة، ولو تكلم أحد لفضخ رأسه أهل باب البصرة.

فإنهم كانوا حوله قد لقّن أولادهم القرآن والفقه، وكان فى شوكة ومنعة، غير معتمد عليهم، لأنه أمة فى نفسه.

حدّث عن الشيخ أبى الوفاء جماعة، منهم: عبد الوهاب الأنماطى، وأبو القاسم ابن السمرقندى، وعلىّ بن طراد الزينبى، والقاضى أبو بكر الأنصارى، وغيرهم.

وتوفى يوم الجمعة سابع عشر شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة. ودفن إلى جانب الشريف أبى جعفر بدكة الإمام أحمد رضى الله عنه، ليس بينه وبينه غير قبر الشريف رحمه الله تعالى.

ص: 40

قرئ على أبى عبد الله محمد بن إسماعيل الأيوبى - بالقاهرة وأنا أسمع -:

أخبرنا أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحرانى، أخبرنا أبو على بن أبى القاسم ابن الحريف، أخبرنا القاضى أبو بكر بن محمد بن عبد الباقى، أخبرنا أبو الوفاء ابن القواس، أخبرنا أبو سهل العكبرى، حدثنا إبراهيم بن أحمد الخرقى، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سابور، حدثنا إسحاق بن إسرائيل، حدثنا الفضل بن حرب البجلى، حدثنا عبد الرحمن بن بديل عن أبيه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل شئ حلية، وإنّ حلية القرآن: الصوت الحسن» .

ذكر أبو الحسن بن البناء فى كتاب «أدب العالم والمتعلم» : أنه حدث فى زمانه مسألة، وهى: هل يجوز أن يقرأ على المحدّث الثقة كتاب، ذكر أنه سماعه، وليس هناك خط يشهد به من شيخ ولا غيره؟ وأن فقهاء عصرهم اتفقوا على جواز ذلك وكتبوا به خطوطهم، وذكر خلقا ممن أفتى بذلك. أولهم: أبو محمد التميمى من أصحابنا. وقال: الخط عادة محدثة، استظهرها المحدثون من غير إيجاب لها.

وكتب أبو إسحاق الشيرازى تحت خطه: جوابى مثله.

قال ابن البناء: وكتبت أنا: المحدث الثقة: القول قوله فى ذلك، ولو رأوا سماعه فى كتاب، حتى يقول المحدّث:«ما سمعته» لم يجز أن يقرأ عليه والسلف رضى الله عنهم، على هذا كانوا يحدثون بالأحاديث، وأكثرهم يذكرها من حفظه، ويسمعونها منهم، وإن لم يظهروا خط من حدّثهم به.

قال: وبلغنى أن الشريف الأجل أبا جعفر بن أبى موسى كذلك أفتى.

وذكر أجوبة كثيرة، منها: جواب ابن القواس. ولفظه: الظاهر العدالة، يقنع بمجرد قوله، ولا يطالب بخط من أسند عنه من شيوخه، وكتبه ابن القواس الحنبلى.

وذكر مثل ذلك عن قاضى القضاة أبى عبد الله بن الدامغانى، وأبى نصر ابن الصباغ، وأبى بكر الشامى وغيرهم.

ص: 41

وذكر أن مثل هذه المسألة وقع مرتين فيما تقدم، وأن الفقهاء والمحدثين اتفقوا على السماع بذلك، منهم: الحافظ أبو عبد الله الصورى قال: وامتنع من السماع بذلك نفر، لا يعتد بخلافهم. قال: ولا أعلم أحدا يخالف فى هذه المسألة من فقهاء العصر والمتقدمين قبلهم، من أئمة أصحاب الحديث: المتقدمين العلماء، والمتأخرين البلغاء.

قلت: وقد وقع فى المائة السابعة مثل هذه المسألة فى صحيح مسلم لما قال القاسم الإربلى: سمعته من المؤيد الطوسى، فقبل ذلك منه. وسمع عليه الكتاب غير مرة، وسمعه منه الحفاظ والفقهاء. وأفتى بالسماع عليه جماعة، منهم: قاضى القضاة شمس الدين بن أبى عمر المقدسى.

‌20 - عبد الوهاب بن أحمد

بن عبد الوهاب بن جلبة، البغدادى ثم الحرانى الجزار، أبو الفتح قاضى حرّان.

اشتغل ببغداد، وتفقه بها على القاضى أبى يعلى، وسمع الحديث من البرقانى، وأبى طالب العشارى، وأبى على بن شاذان، وأبى على بن شهاب العكبرى، والقاضى أبى يعلى، وغيرهم. ثم استوطن حران، وصحب بها الشريف أبا القاسم الزيدى، وأخذ عنه، وتولى بها القضاء.

قال ابن السمعانى: بغدادى سكن حران، وولي بها القضاء، وعمل المظالم، وكان فقيها واعظا فصيحا.

وذكره أبو الحسين فى الطبقات، ونسبه إلى حران.

ورأيت بخط نفسه فى نسبه «الحرانى» .

قال أبو الحسين: وقدم بغداد من ثغر حران قاصدا لمجلس الوالد، وطالبا لدرس الفقه عليه، فتفقه عليه، وكتب كثيرا من مصنفاته. وكان يلى قضاء حرّان من

ص: 42

من قبل الوالد، كتب له عهدا بولاية القضاء بحران، وكان ناشرا للمذهب، داعيا إليه. وكان مفتى حران، وواعظها وخطيبها ومدرسها.

قلت: وله تصانيف كثيرة، قال أبو عبد الله بن حمدان: اختصر المجرد، وله:«رءوس مسائل» و «أصول فقه» و «أصول دين» . وله أيضا - مما لم يذكره ابن حمدان -: «كتاب النظام بخصال الأقسام» .

وسمع منه الحديث جماعة، منهم: هبة الله بن عبد الوارث الشيرازى، ومكى الرّميلى، وغيرهما. وفى زمانه كانت حران لمسلم بن قريش صاحب الموصل، وكان رافضيا، فعزم القاضى أبو الفتح على تسليم حرّان إلى «جبق» أمير التركمان لكونه سنيا، فأسرع ابن قريش إلى حران وحصرها، ورماها بالمنجنيق، وهدم سورها وأخذها، ثم قتل القاضى أبا الفتح وولديه، وجماعة من أصحابه، وصلبهم على السور سنة ست وسبعين وأربعمائة. وقبورهم ظاهرة بحران تزار رحمة الله عليهم.

أنبأتنى زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم المقدسى عن عبد الرحمن بن مكى الحاسب، أخبرنا جدى أبو طاهر أحمد بن محمد السلفى قال: أخبرنا أبو الفتح أحمد بن محمد بن حامد الأسدى الحرانى - بما كسين، وكان قد ولى قضاءها - قال:

كتب إلىّ أبو طالب محمد بن على بن الفتح العشارى من بغداد. وحدثنا عنه أبو الفتح عبد الوهاب بن أحمد بن جلبة القاضى - بحران إملاء - حدثنا أبو الحسين محمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا الحسين بن صفوان البرذعى حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد القرشى، حدثنا محمد بن بشير، حدثنا عبد الرحمن بن جرير حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الله تعالى كلّ لسانه ولم يشف غيظه»

ذكر أبو العباس أحمد بن تيمية فى أول «شرح العمدة» : أن أبا الفتح بن جلبة كان يختار استحباب مسح الأذنين بماء جديد، بعد مسحهما بماء الرأس.

وهو غريب جدا.

ص: 43

وذكر ابن حمدان عنه أنه قال: الحق أن الحروف كلها قديمة، وتركيبها فى غير القرآن محدث، إن قلنا: اللّغة اصطلاح، وإن قلنا: توقيف، فقديمة.

قال يحيى بن منده فى مناقب الإمام: وجدت بخط المؤتمن البغدادى الشيخ الصالح الثقة المتدين رحمه الله، قال: قال أبو يعلى الحنبلى البغدادى: أخرج إلىّ أبو الفتح عبد الوهاب بن أحمد الحرانى صاحبنا هذه الأبيات، قال: وجدتها فى كتاب المصباح، قال: أنشدنى أبو منصور الفقيه لأحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله:

يا طالب العلم، صارم كلّ بطال

وكل غاد إلى الأهواء ميّال

واعمل بعلمك سرا أو علانية

ينفعك يوما على حال من الحال

ولا تميلنّ - يا هذا - إلى بدع

تضل أصحابها بالقيل والقال

خذ ما أتاك به ما جاء من أثر

شبها بشبه وأمثالا بأمثال

ألا فكن أثريّا خالصا فهما

تعش حميدا ودع آراء ضلال

«جلبة» بفتح الجيم واللاّم والباء الموحدة - قيده ابن نقطة وغيره.

وقد روى هذه الحكاية ابن النجار من طريق أبى منصور الخياط، عن القاضى أبى يعلى، قال: أخرج إنّي أبو الفتح عبد الوهاب بن أحمد هذه الأبيات قال: وجدتها فى كتاب المصباح.

قال: أنشدنى على بن منصور، ولم يذكر أحمد. وهذا هو الصحيح.

‌21 - عبد الله بن عطاء

بن عبد الله بن أبى منصور بن الحسن بن إبراهيم الإبراهيمى، الهروى، المحدث الحافظ، أبو محمد.

أحد الحفاظ المشهورين الرحالين، سمع بهراة من عبد الواحد المليحى وشيخ الإسلام الأنصارى، وببوشنج من أبى الحسن الداودى، وبنيسابور من أبى القاسم القشيرى، وأبى عثمان النميرى وجماعة، وببغداد من أبى الحسين ابن النقور

ص: 44

وطبقته، وبأصبهان من عبد الرحمن وعبد الوهاب ابنى منده، وجماعة.

وكتب بخطه الكثير، وخرج التخاريج للشيوخ، وحدث.

وروى عنه أبو محمد سبط الخياط، وأبو بكر ابن الزعفرانى. وآخر من روى عنه: أبو المعالى ابن النحاس، ووثقه طائفة من حفاظ وقته فى الحديث، منهم:

المؤتمن الساجى.

وقال شهردار الديلمى عنه: كان صدوقا حافظا، متقنا واعظا، حسن التذكير.

وقال يحيى بن منده: كان أحد من يفهم الحديث ويحفظ، صحيح النقل، كثير الكتابة، حسن الفهم، وكان واعظا حسن التذكير.

وقال خميس الجوزى: رأيته ببغداد ملتحقا بأصحابنا، ومتخصصا بالحنابلة، يخرّج لهم الأحاديث المتعلقة بالصفات، ويرويها لهم. وأضداده من الأشعرية يقولون: هو يضعها. وما علمت فيه ذلك. وكان يعرفه. انتهى.

وقد تكلم فيه هبة الله السقطى، والسقطى مجروح، لا يقبل قوله فيه مقابلة هؤلاء الحفاظ. وقد رد كلامه فيه ابن السمعانى وابن الجوزى وغيرهما.

وخرّج الإبراهيمى شيوخ الإمام أحمد وتراجمهم.

وتوفى فى طريق مكة بعد عوده منها، على يومين من البصرة، سنة ست وسبعين وأربعمائة. رحمه الله تعالى.

‌22 - أحمد بن على

بن عبد الله المقرئ، الصوفى المؤدب، أبو الخطاب البغدادى.

ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. قرأ على أبى الحسن الحمامى وغيره. تلا على الحمامى المذكور بالسبع. وقرأ عليه خلق كثير، منهم: أبو الفضل بن المهتدى، وهبة الله بن المجلى، وغيرهما.

وروى عنه الحديث أبو بكر بن عبد الباقى وغيره. وله مصنف فى السبعة، وقصيدة فى السنة، رواها عنه عبد الوهاب الأنماطى وغيره، وقصيدة فى عدد

ص: 45

الآى. وكان من شيوخ الإقراء ببغداد المشهورين بتجويد القراءة وتحسينها.

توفى يوم الثلاثاء سادس عشرين رمضان سنة ست وسبعين وأربعمائة. ودفن بباب حرب.

أنبئت عن القاضى أبى الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر المقدسى، أنبأنا عمر ابن محمد بن طبرزد، أنبأنا أبو عبد الله الحسين بن على المقرئ قال: أنبأنا أبو الخطاب الصوفى قال: كنت على مذهب الإمام الشافعى، وكان عادتى: أن لا أرجّع فى الأذان، ولا أقنت فى صلاة الفجر، غير أننى أجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وكان عادتى أيضا ليلة الغيم: أنوى من رمضان كما جرت عادة أصحاب أحمد، فلما كان فى بعض الليالى: رأيت كأننى فى دار حسنة جميلة، وفيها من الغلمان والخدم والجند خلق كثير، وهم صغار وكبار، والدخل والخرج، والأمر والنهى. فإذا رجل بهى شيخ على سرير، والنور على وجهه ظاهر، وعلى رأسه تاج من ذهب مرصع بالجوهر، وثياب خضر تلمع. وكان إلى جنبى رجل ممنطق يشبه الجند، فقلت له: بالله هذا المنزل لمن؟ قال لمن ضرب بالسوط حتى يقول:

القرآن مخلوق. قلت أنا فى الحال: أحمد بن حنبل؟ قال: هو ذا. فقلت: والله إن فى نفسى أشياء كثيرة، أشتهى أن أسأله عنها، وكان على سرير، وحول السرير خلق قيام. فأومأ إلىّ أن اجلس، وسل عما تريد. فمنعنى الحياء من الجلوس. فقلت: يا سيدى، عادتى لا أرجّع فى الأذان، ولا أقنت فى صلاة الفجر، غير أننى أجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأخشع. فقال بصوت رفيع عال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقى منك وأخشع، وأكثرهم لم يجهروا بقراءتها.

فقلت: عادتى ليلة الغيم أصوم، كما قال الإمام أحمد بن حنبل. فقال اعتقد ما شئت من أى مذهب تدين الله به، ولا تكن معمعيّا. وأنا أرعد. فلما أصبحت أعلمت من يصلّى ورائى بما رأيت، ولم أجهر بعد، ودعانى ذلك إلى أن قلت هذه القصيدة وهى:

حقيقة إيمانى: أقول لتسمعوا

لعلّى به يوما إلى الله أرجع

ص: 46

بأن لا إله غير ذى الطول وحده

تعالى، بلا مثل، له الخلق خضع

وليس بمولود، وليس بوالد

يرى ما عليه الخلق طرا، ويسمع

وذكر أبياتا إلى أن قال:

وإن كتاب الله ليس بمحدث

على ألسن تتلو، وفى الصدر يجمع

وما كتب الحفاظ فى كلّ مصحف

كذلك إن أبصرت، أو كنت تسمع

وللجبل الرحمن لما بدا له

تدكدك خوفا كالشظى يتقطع

وكلّم موسى ربه فوق عرشه

على الطور تكليما، فما زال يخضع

وذكر بقية الاعتقاد إلى أن قال:

وعن مذهبى - إن تسألوا - فابن حنبل

به أقتدى ما دمت حيا أمتّع

وذاك لأنى فى المنام رأيته

يروح ويغدو فى الجنان ويرتع

وفى منزل بنيانه غير مشبه

لبنيان ذى الدنيا وفى العين أوسع

وفيه من الأصحاب مالا أعدهم

وحور وولدان بهم يتمتّع

وفيه بيوت ما استدارت منيرة

زرابيّها مبثوثة فيه تلمع

وكان إلى جنبى نقيب ممنطق

عليه ثياب مسكها يتضوّع

فقلت له: بالله ذا المنزل الذى

أراه لمن؟ قل لى، فإنى مروّع

فقال: ولا تدرى؟ فقلت: وكيف لى

بعلم إليه، أنت أهدى وأسرع

فقال: لمن بالسوط يضرب تارة

ليرجع فى الأخرى، وما فيه مطمع

يقول: كلام الله ليس بمحدث

وليس بمخلوق، فما شئتم اصنعوا

فقلت له فى الحال: ذاك ابن حنبل

إمام، تقى، زاهد، متورع

وإنّي لمشتاق إليه، فدلّنى

ففى النفس حاجات إليه تسرّع

فأوما إليه، فالتفت إذا به

على سدة من وجهه النور يسطع

ومن سندس أثوابه فى اخضرارها

على رأسه تاج بدرّ مرصّع

ومن حوله ولد صباح وغلمة

تواصل بالكاسات قوما وتقطع

ص: 47

أشار بأطراف البنان تعطفا:

أن اقرب، فقل ما شئته منك نسمع

وأوما: أن اجلس، فامتنعت مهابة

وداخلنى رعب وعيناى تدمع

فقلت له: يا أزهد الناس كلهم،

عليك اعتمادى، دلّنى كيف أصنع؟

طبعت على أشياء هنّ ثلاثة

وكلّ على ما قدّر الله يطبع

فمنها: إذا غمّ الهلال لليلة

صبيحتها عشر وعشرون تتبع

أصوم، كما قال الإمام ابن حنبل

فللصوم خير من سواه وأنفع

وعند صلاة الصبح لست بقانت

وعند ندائى عادتى لا أرجّع

ولكن إذا ما قمت لله طائعا

أبسمل جهرا فى الصلاة وأخضع

فقال بصوت جهورى، سمعته:

صحاب رسول الله أتقى وأخشع

وأكثرهم لم يجهروا بقراتها

وهم قدوة فى الدين أيضا ومفزع

وأن تعتقد ما شئت من أىّ مذهب

به الله يرضى والنبيّ المشفّع

ولا تك فيه معمعيا كلاعب

يدين بما يهوى، وللغرم يدفع

فقلت له: فى النفس شئ أقوله

أنا فى صفات الحق أيضا متعتع

فقال تعالى الله {(لَيْسَ كَمِثْلِهِ

}

- كما قال - شئ) ثم للذكر فاتبعوا

فما كان فيه من صفات مليكنا

على الرأس والعينين، ما عنه مدفع

وما جاء فى الأخبار عن سيد الورى

روته ثقات عنه لا يتمنع

فليس لترك الحق عندى رخصة

إذا كان جهال له قد تتبعوا

فكن حنبليا تنج من كل بدعة

«فأحمد» عند الله فى الزهد أبرع

وذكر باقى القصيدة.

‌23 - أحمد بن مرزوق

بن عبد الله بن عبد الرزاق الزعفرانى، المحدث أبو المعالى.

سمع الكثير، وطلب بنفسه. وكتب بخطه.

ص: 48

قال أبو على البردانى: كان همه جمع الحديث وطلبه. حدّث باليسير عن أحمد بن محمد بن عمر بن الأخضر، وأبى الحسين أحمد بن محمد بن الحسن العكبرى، وأبى الفضل هبة الله بن محمد الأزدى.

روى عنه أبو على البردانى، وقال: إنه مات ليلة الثلاثاء مستهل المحرم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ودفن من الغد بباب حرب. وكان شابا. انتهى.

وهو أخو أبى الحسن محمد الشافعى الذى هو من أصحاب الخطيب أبى بكر.

‌24 - شافع بن صالح

بن حاتم بن أبى عبد الله الجيلى، أبو محمد.

قدم بغداد بعد الثلاثين وأربعمائة. وسمع من أبى على بن المذهب، والعشارى، وابن غيلان، والقاضى أبى يعلى، وعليه تفقه.

وكتب معظم تصانيفه فى الأصول والفروع. ودرس الفقه بمسجد الشريف أبى جعفر بدرب المطبخ شرقى بغداد، وكان يؤم به أيضا. وخلفه أولاده من بعده فى ذلك، حتى عرف المسجد بهم.

قال أبو الحسين، وابن الجوزى: كان متعففا متقشّفا ذا صلاح.

قال ابن السمعانى: كان ذا دين وصلاح، وتعفف وتقشف، حسن الطريقة، صحيح الأصول. كتب التصانيف فى مذهب الإمام أحمد كلها. ودرس الفقه، وروى لنا عنه عبد الوهاب الأنماطى.

وتوفى يوم الثلاثاء سادس عشرين صفر سنة ثمانين وأربعمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب رحمه الله تعالى.

‌25 - عبد الله بن نصر الحجازى،

أبو محمد الزاهد.

قال ابن الجوزى: سمع الحديث، وصحب الزهاد، وتفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. وكان خشن العيش متعبدا. وحج على قدميه بضع عشر حجة.

وتوفى فى ربيع الأول سنة ثمانين وأربعمائة. ودفن بباب حرب.

ص: 49

‌26 - محمد بن على

بن الحسين بن القيم الخزاز الخريمى أبو بكر الحنبلى.

طلب الحديث. وسمع من أبى الغنائم بن المأمون، والجوهرى، والعشارى، وغيرهم. وكتب بخطه الحديث والفقه. وأظنه جالس القاضى أبا يعلى.

وحدّث باليسير. سمع منه أبو طاهر بن الرحبى القطان، وأبو المكارم الظاهرى.

توفى يوم الأحد سلخ ذى الحجة آخر يوم من سنة ثمانين وأربعمائة. ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى.

‌27 - عبد الله بن محمد

بن على بن محمد بن أحمد بن على بن جعفر بن منصور بن متّ الأنصارى، الهروى، الفقيه المفسر الحافظ، الصوفى الواعظ، شيخ الإسلام أبو إسماعيل.

وهو من ولد أبى أيوب زيد بن خالد الأنصارى، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولد فى شعبان سنة ست وتسعين وثلاثمائة.

ذكره عبد القادر الرهاوى فى كتاب «المادح والممدوح» وهو مجلد ضخم يتضمن مناقب شيخ الإسلام الأنصارى وما يتعلق بها، قال: رأيته فى تاريخ أبى عبد الله الحسين بن محمد الهروى الكتبى، الذى ذيل به على تاريخ إسحاق القرّاب الحافظ، وذكر: أنه سأل أبا إسماعيل عن سنه؟ فأخبره بذلك. وكذا ذكر ابن نقطة.

وهذا أصح مما ذكره ابن الجوزى: أنه ولد فى ذى الحجة سنة خمس وتسعين.

وذكر عبد الغافر بن إسماعيل الفارسى فى ذيل تاريخ نيسابور: أنه ولد سنة ست وتسعين.

وسمع الحديث بهراة من يحيى بن عمار السجزى، وأخذ منه علم التفسير،

ص: 50

وأبى منصور الأزدى، وأبى الفضل الجارودى الحافظ، وأخذ منه علم الحديث، وشعيب البوشنجى وغيرهم. وبنيسابور من أبى سعيد الصيرفى، وأبى نصر المفسر المقرئ، وأبى الحسن الطرازى، وجماعة من أصحاب الأصم. ورأى القاضى أبا بكر الحيرى، وحضر مجلسه، ولم يسمع منه. وكان يقول: تركته لله. وكان قد سمع منه فى مجلسه ما ينكره عليه من مخالفة السنة. ذكره الرهاوى عن السلفى، عن المؤتمن الساجى، عنه.

وسمع بطوس وبسطام، من خلق يطول ذكرهم. وصحب الشيوخ، وتأدّب بهم. وخرج الأمالى والفوائد الكثيرة لنفسه ولغيره من شيوخ الرواة. وأملى الحديث سنين.

وصنف التصانيف الكثيرة، منها: كتاب «ذم الكلام» وكتاب «الفاروق» وكتاب «مناقب الإمام أحمد» وكتاب «منازل السائرين» وكتاب «علل المقامات» وله كتاب فى «تفسير القرآن» بالفارسية جامع، و «مجالس التذكير» بالفارسية حسنة، وغير ذلك.

وكان سيدا عظيما، وإماما عالما عارفا، وعابدا زاهدا، ذا أحوال ومقامات وكرامات ومجاهدات، كثير السهر بالليل، شديد القيام فى نصر السنة والذب عنها والقمع لمن خالفها. وجرى له بسبب ذلك محن عظيمة. وكان شديد الانتصار والتعظيم لمذهب الإمام أحمد.

قال ابن السمعانى: سمعت أبا طاهر أحمد بن أبى غانم الثقفى، سمعت صاعد ابن سيار الحافظ، سمعت أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصارى الإمام يقول:

«مذهب أحمد. أحمد مذهب» .

وقال محمد بن طاهر الحافظ فى كتابه «المنثور من الحكايات والسؤالات» :

سمعت عبد الله بن محمد الأنصارى يقول: لما قصدت الشيخ أبا الحسن الجركانى

ص: 51

الصوفى، وعزمت على الرجوع وقع فى نفسى أن أقصد أبا حاتم بن خاموش الحافظ بالرى، وألتقى به. وكان مقدم أهل السنة بالرى.

وذلك أن السلطان محمود بن سبكتكين لما دخل الرّىّ قتل بها الباطنية ومنع سائر الفرق الكلام على المنابر غير أبى حاتم. وكان من دخل الرى من سائر الفرق يعرض اعتقاده عليه، فإن رضيه أذن له فى الكلام على الناس وإلا منعه، فلما قربت من الرى كان معى فى الطريق رجل من أهلها، فسألنى عن مذهبى؟ فقلت: أنا حنبلى، فقال: مذهب ما سمعت به، وهذه بدعة. وأخذ بثوبى، وقال: لا أفارقك حتى أذهب بك إلى الشيخ أبى حاتم. فقلت: خيرة؛ فإنى كنت أتعب إلى أن ألتقى به، فذهب بى إلى داره.

وكان له ذلك اليوم مجلس عظيم، فقال: أيها الشيخ، هذا الرجل الغريب سألته عن مذهبه، فذكر مذهبا لم أسمع به قط. قال: ما قال؟ قال: أنا حنبلى.

فقال: دعه، فكلّ من لم يكن حنبليا فليس بمسلم، فقلت: الرجل كما وصف لى. ولزمته أياما، وانصرفت.

وإنما عنى أبو حاتم فى الأصول.

وذكر عبد القادر الرهاوى: أخبرنا أبو سعد الصائغ: سمعت عبد الجبار ابن أبى الفضل الصيرفى، سمعت جماعة من أصحاب شيخ الإسلام الأنصارى يقولون: سمعنا شيخنا شيخ الإسلام أبا إسماعيل يقول: فذكر أبياتا بالفارسية تفسيرها بالعربية:

إلهنا مرئىّ على العرش مستو

كلامه أزلىّ رسوله عربىّ

كل من قال غير هذا أشعرىّ

مذهبنا مذهب حنبلىّ

قال عبد القادر: سمعت أبا عروبة عبد الهادى بن محمد الزاهد بسجستان

ص: 52

يقول: سمعت شيخ الإسلام أبا نصر هبة الله بن عبد الجبار بن فاخر يقول:

قال لى شيخ الإسلام - يعنى الأنصارى - كيف تفعلون فى القنوت؟ قلت:

أوصانى أبى أن أقنت فى الوتر. قال: وما قال لك: لا تقنت فى الصبح؟ قلت:

لا. قال: فما أنصفك.

وذكر ابن طاهر الحافظ فى كتابه المذكور قال: سمعت الإمام عبد الله بن محمد الأنصارى ينشد على المنبر فى يوم مجلسه بهراة:

أنا حنبلىّ ما حييت وإن أمت

فوصيّتى للناس أن يتحنبلوا

ولشيخ الإسلام قصيدة نونية طويلة مشهورة ذكر فيها أصول السنة ومدح أحمد وأصحابه. وقد أنبأتنى بها زينب بنت أحمد، عن عجيبة بنت أبى بكر، عن أبى جعفر محمد بن الحسين بن الحسن الصيدلانى. قال: أنشدنا شيخ الإسلام فذكر القصيدة إلى أن قال:

وإمامي القوّام لله الّذى

دفنوا حميد الشأن فى بغدان

جمع التقى والزهد فى دنياهم

والعلم بعد طهارة الأردان

خطم النبى، وصيرفىّ حديثه

ومفلّق أعرافها بمعان

حبر العراق، ومحنة لذوى الهوى

يدرى ببغضته ذوو الأضغان

عرف الهدى فاختار ثوبى نصرة

وشجى بمهجته عرى عرفان

عرضت له الدنيا فأعرض سالما

عنها كفعل الراهب الخمصان

هانت عليه نفسه فى دينه

ففدى الامام الدين بالجثمان

لله ما لقى ابن حنبل صابرا

عزما وينصره بلا أعوان

أنا حنبلى ما حييت وإن أمت

فوصيّتى ذا كم إلى إخوانى

إذ دينه دينى ودينى دينه

ما كنت إمّعة له دينان

وقال ابن طاهر: سمعت الإمام أبا إسماعيل الأنصارى بهراة يقول: عرضت

ص: 53

على السيف خمس مرات، لا يقال لى: ارجع عن مذهبك، لكن يقال لى:

اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت.

قال: وحكى لنا أصحابنا أن السلطان «ألب أرسلان» حضر هراة، وحضر معه وزيره أبو على الحسن بن على بن إسحاق، فاجتمع أئمة الفريقين من أصحاب الشافعى، وأصحاب أبى حنيفة، للشكاية من الأنصارى، ومطالبته بالمناظرة.

فاستدعاه الوزير. فلما حضر قال: إن هؤلاء القوم اجتمعوا لمناظرتك: فإن يكن الحق معك رجعوا إلى مذهبك، وإن يكن الحق معهم: إما أن ترجع، وإما أن تسكت عنهم. فقام الأنصارى وقال: أنا أناظر على ما فى كمّيّ. فقال له: وما فى كميك؟ فقال: كتاب الله، وأشار إلى كمه اليمين، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى كمه اليسار، وكان فيه الصحيحان. فنظر إلى القوم كالمستفهم لهم، فلم يكن فيهم من يمكنه أن يناظره من هذه الطريق.

قال: وسمعت أحمد بن اميرجه القلانسى خادم الأنصارى يقول: حضرت مع الشيخ للسلام على الوزير أبى على الطوسى، وكان أصحابه كلفوه بالخروج إليه، وذلك بعد المحنة، ورجوعه من بلخ، فلما دخل عليه أكرمه وبجّله، وكان فى العسكر أئمة من الفريقين فى ذلك اليوم، وقد علموا أنه يحضر، فاتفقوا جميعا على أن يسألوه عن مسألة بين يدى الوزير: فإن أجاب بما يجيب به بهراة سقط من عين الوزير، وإن لم يجب سقط من عيون أصحابه وأهل مذهبه. فلما دخل واستقر به المجلس انتدب له رجل من أصحاب الشافعى، يعرف بالعلوى الدبوسى، فقال: يأذن الشيخ الإمام فى أن أسأل مسألة؟ فقال: سل، فقال: لم تلعن أبا الحسن الأشعرى؟ فسكت، وأطرق الوزير لما علم من جوابه. فلما كان بعد ساعة، قال له الوزير: أجبه، فقال: لا أعرف الأشعرى. وإنما ألعن من لم يعتقد أن الله عز وجل فى السماء، وأن القرآن فى المصحف، وأن النبى اليوم نبى.

ثم قام وانصرف، فلم يمكن أحد أن يتكلم بكلمة من هيبته وصلابته وصولته.

ص: 54

فقال الوزير للسائل ومن معه: هذا أردتم؟ كنا نسمع أنه يذكر هذا بهراة فاجتهدتم حتى سمعناه بآذاننا: وما عسى أن أفعل به؟ ثم بعث خلفه خلعا وصلة فلم يقبلها. وخرج من فوره إلى هراة ولم يلبث.

قال ابن طاهر: وسمعت أصحابنا بهراة يقولون: لما قدم السلطان «ألب أرسلان» هراة فى بعض قدماته اجتمع مشايخ البلد ورؤساؤه، ودخلوا على الشيخ أبى إسماعيل الأنصارى، وسلموا عليه، وقالوا: قد ورد السلطان، ونحن على عزم أن نخرج ونسلم عليه، فأحببنا أن نبدأ بالسلام على الشيخ الإمام، ثم نخرج إلى هناك. وكانوا قد تواطئوا على أن حملوا معهم صنما من الصّفر صغيرا، وجعلوه فى المحراب تحت سجادة الشيخ. وخرجوا وخرج الشيخ من ذلك الموضع إلى خلوته.

ودخلوا على السلطان واستغاثوا من الأنصارى، وقالوا له: إنه مجسم. فإنه يترك فى محرابه صنما، ويقول: إن الله عز وجل على صورته. وإن يبعث السلطان الآن يجد الصنم فى قبلة مسجده. فعظم ذلك على السلطان، وبعث غلاما ومعه جماعة. ودخلوا الدار، وقصدوا المحراب، وأخذوا الصنم من تحت السجادة، ورجع الغلام بالصنم، فوضعه بين يدى السلطان. فبعث السلطان بغلمان، وأحضر الأنصارى: فلما دخل رأى مشايخ البلد جلوسا، ورأى ذلك الصنم بين يدى السلطان مطروحا، والسلطان قد اشتد غضبه.

فقال له: ما هذا؟ قال: هذا صنم يعمل من الصفر شبه اللّعبة. فقال: لست عن هذا أسألك، فقال: فعن ماذا يسأل السلطان؟ قال: إنّ هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا الصنم، وأنك تقول: إن الله عز وجل على صورته، فقال الأنصارى: سبحانك! هذا بهتان عظيم. بصوت جهورى وصولة. فوقع فى قلب السلطان أنهم كذبوا عليه، فأمر به فأخرج إلى داره مكرما. وقال لهم: اصدقونى القصة، أو أفعل بكم وأفعل، وذكر تهديدا عظيما، فقالوا: نحن

ص: 55

فى يد هذا الرجل فى بلية من استيلائه علينا بالعامة، وأردنا أن نقطع شرّه عنا. فأمر بهم، ووكل بكل واحد منهم، ولم يرجع إلى منزله حتى كتب خطه بمبلغ عظيم من المال يؤديه إلى خزانة السلطان جناية، وسلموا بأرواحهم بعد الهوان العظيم.

وقد جرى لشيخ الإسلام محن فى عمره، وشرد عن وطنه مدّة

فمن ذلك: أن قوما من المتصوفة بهراة عاثوا وأفسدوا بأيديهم على وجه الإنكار، فنسب ذلك إلى الشيخ، ولم يكن بأمره ولا رضاه. فاتفق أكابر أهل البلد على إخراج الشيخ وأولاده وخدمه، فأخرجوه يوم الجمعة عشرين رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة قبل الصلاة، ولم يمهل للصلاة. فأقام بقرب البلد، فلم يرضوا منه بذلك فخرج إلى بوشنج، وكتب أهل هراة محضرا بما جرى، وأرسلوه إلى السلطان، فجاء جواب السلطان ووزيره «نظام الملك» بإبعاد الشيخ وأهله، وخدمه إلى ما وراء النهر. وقرئ الكتاب الوارد بذلك فى الجامع على منبر يحيى بن عمار، وفيه حطّ على الشيخ، فأخرج الشيخ ومن كان يعقد المجلس من أقاربه خاصّة إلى مرو، ثم ورد الأمر بردّه إلى بلخ، ثم إلى مرو الرّوذ. ثم أذن له فى الرجوع إلى هراة، فدخلها يوم الأربعاء رابع عشر المحرم سينة ثمانين وأربعمائة. وكان يوما مشهودا.

قال الرهاوى: سمعت شيخنا أبا طاهر السلفى بالاسكندرية يقول: لما خرج شيح الإسلام قال أصحابه وأهل البلد: لا يحمل على الدواب إلا على رقاب الناس. فجعل فى محفة. وكان يتناوب حملها أربعة رجال، حتى وصل بلخ. فخرج أهلها وهمّوا برجمه. فردّهم ابن نظام الملك، وقال: تريدون أن تكونوا مسبة الدهر؛ ترجمون رجلا من أهل العلم؟! ثم سألوه أن يعظ، فقرأ:

(23:39 {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً}، الآية) ثم قال: كلّ المسلمين يقولون هذا، إلاّ أهل غورجه وغرجستان وفلانة وطالقان. لعنهم الله لعنة عاد وثمود، والنصارى واليهود. قولوا: آمين، فقالوا: آمين.

ص: 56

قال الرهاوى: وإنما همّ أهل بلخ بما همّوا به؛ لأنهم معتزلة شديدة الاعتزال.

وكان شيخ الإسلام مشهورا فى الآفاق بالحنبلة والشدة فى السنّة.

قال: وسمعت السلفى يقول: لما أمر نظام الملك بإخراج الشيخ من هراة سمع بذلك الشيخ معمر اللّنبانى

(1)

، فمضى إلى نظام الملك فى أمره، فقال له نظام الملك:

قد صار لذلك الشيخ عليّ منة عظيمة؛ حيث بسببه دخلت علىّ. ثم كتب فى الحال بردّه إلى بلده.

وذكر الرّهاوىّ: أن الحسين بن محمد الكتبى ذكر فى تاريخه: أن مسعود ابن محمود بن سبكتكين قدم هراة سنة ثلاثين وأربعمائة، فاستحضر شيخ الإسلام، وقال له: أتقول: إن الله عز وجل يضع قدمه فى النار؟ فقال - أطال الله بقاء السلطان المعظم - إن الله عز وجل لا يتضرر بالنار، والنار لا تضره، والرسول لا يكذب عليه، وعلماء هذه الأمة لا يتزيدون فيما يروون عنه ويسندون إليه. فاستحسن جوابه، وردّه مكرّما.

قال: وعقد أهل هراة للشيخ مجلسا آخر، سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، وعملوا فيه محضرا، وأخرجوه من البلد إلى بعض نواحى بوشنج، فحبس بها وقيّد ثم أعيد إلى هراة سنة تسع وثلاثين، وجلس فى مجلسه للتذكير. ثم سعوا فى منعه من مجلس التذكير عند السلطان «ألب أرسلان» سنة خمسين.

قال: وفى شهور سنة اثنتين وستين، خلع على الشيخ من جهة الإمام القائم بأمر الله خلعة شريفة، وفى شهور سنة أربع وسبعين خلعة أخرى فاخرة من جهة الإمام المقتدى مع الخطاب واللقب بشيخ الإسلام، شيخ الشيوخ زين العلماء أبى إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصارى، وخلعة أخرى لابنه عبد الهادى.

قال: وكان السبب فى هذه الخلع الوزير «نظام الملك» شففة منه على أصحاب الحديث، وصيانة عن لحوق شين بهم.

(1)

نسبة إلى «لنبان» وهى قرية كبيرة بأصبهان.

ص: 57

وكان الشيخ رحمه الله آية فى التفسير، وحفظ الحديث. ومعرفته، ومعرفة اللغة والأدب. وكان يفسّر القرآن فى مجلس التذكير.

فذكر الكتبى فى تاريخه: أن الشيخ لما رجع من محنته الأولى ابتدأ فى تفسير القرآن، ففسره فى مجالس التذكير، سنة ست وثلاثين. وفى سنة سبع وثلاثين افتتح القرآن يفسره ثانيا فى مجالس التذكير.

قال: وكان الغالب على مجلسه القول فى الشرع، إلى أن بلغ إلى قوله عز وجل (165:2 {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ)} فافتتح تجريد المجالس فى الحقيقة، وأنفق على هذه الآية من عمره مدة مديدة، وبنى عليها مجالس كثيرة. وكذلك قوله تعالى:(101:21 {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى)} بنى عليها ثلاثمائة وستين مجلسا. فلما بلغ قوله تعالى (43:24 {يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ)} كفّ بصره سنة ثلاث وسبعين، ولما بلغ إلى قوله عز وجل:(17:32 {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)} قال: فى كل اسم من أسماء الله تعالى سر خفى. وأخذ يفسّر خفايا الأسماء حتى بلغ المميت، فأخرج من البلد فى الفتنة الأخيرة. فلما عاد سنة ثمانين، عقد المجلس على أمر جديد، ولم يكمل الكلام على الأسماء الحسنى. وأخذ يستعجل فى التفسير، ويفسر فى مجلس واحد مقدار عشر آيات أو نحوها، يريد أن يختم فى حياته، فلم يقدر له على ذلك وتوفى، وقد انتهى إلى قوله عز وجل:(67:38، 68 {قُلْ: هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)}

وقال ابن طاهر الحافظ. سمعت شيخنا الأنصارىّ يقول: إذا ذكرت التفسير فإنما أذكره من مائة وسبعة تفاسير. قال: وجرى يوما - وأنا بين يديه - كلام، فقال: أنا أحفظ اثنى عشر ألف حديث أسردها سردا، قال: وقطّ ما ذكر فى مجلسه حديثا إلا بإسناده. وكان يشير إلى صحته وسقمه.

وقال الرهاوى: سمعت أبا بشر محمد بن محمد بن هبة الله الهمذانى بهمذان يقول: سمعت بعض الأدباء يقول: سئل شيخ الإسلام الأنصارى عن تفسير آية؟

ص: 58

فأنشد أربعمائة بيت من شعر الجاهلية، فى كل بيت منها لغة تلك الآية.

قال ابن الجوزى: أخبرنا ابن ناصر عن المؤتمن بن أحمد الحافظ، قال: كان عبد الله الأنصارى لا يشذ على المذهب شيئا، ويتركه كما يكون، ويذهب إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا توك فيوكأ عليك» وكان لا يصوم شهر رجب، وينهى عن ذلك، ويقول: ما صح فى فضل رجب وفى صيامه شئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يملى فى شعبان وفى رمضان، ولا يملى فى رجب.

وقال ابن طاهر الحافظ: سمعت أبا إسماعيل الأنصارى يقول: كتاب أبى عيسى الترمذى عندى أفيد من كتاب البخارى ومسلم، فقلت: لم؟ قال:

لأن كتاب البخارى ومسلم لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة. وهذا كتاب قد شرح أحاديثه وبينها، فيصل إلى فائدته كل أحد من الناس من الفقهاء والمحدثين وغيرهم. قال: وسمعته يقول: المحدّث يجب أن يكون سريع المشى، سريع الكتابة، سريع القراءة.

قال الرّهاوى: سمعت السلفى يقول: سمعت أبا الخير عبد الله بن مرزوق الهروىّ يقول: سمعت أبا إسماعيل الأنصارى الحافظ بهراة يقول: ينبغى لمن يكون من أهل الفقه أن يكون له أبدا ثلاثة أشياء جديدة: سراويله، ومداسه، وخرقة يصلى عليها.

قال الرّهاوى: وسمعت بعض الناس بهراة يحكى: أن شيخ الإسلام دخل يوما على القاضى أبى العلاء صاعد بن سيار، وعلى يمينه رجل من البوسعديّة، فجلس شيخ الإسلام على يسار القاضى، فغضب البوسعدى، وقال: أجلس عن يمينك ويجلس عن يسارك؟ فوثب شيخ الإسلام، وجلس ناحية، وقال: الحدّة ينبغى أن تكون فى أكل البصل، والشدّة فى تشقيق الحطب. وأما الجلوس فى المجالس فإنما يكون بالعلم. وغضب القاضى من كلام الرجل، وقال: إيش تنكر من حاله؟ حيث لم يكن له مركوب ولا ثياب، وأمر له بثياب ومركوب، وجعل له فى الجامع موضعا يعظ فيه.

ص: 59

قال الرّهاوى: وقد رأيت كرسى شيخ الإسلام قليل المراقى فى زاوية من جامع هراة، والناس يتبركون به.

وقال ابن طاهر: سألت الأنصارى عن الحاكم أبى عبد الله؟ فقال: ثقة فى الحديث، رافضى خبيث.

وذكر ابن السمعانى عن يحيى بن منده عن عبد الله بن عطاء الإبراهيمى قال:

سمعت شيخ الإسلام الأنصارىّ قال: سألت أبا يعقوب الحافظ عن قول البخارى فى الصحيح: قال لى فلان؟ قال: هو راوية بالإجازة، ثم قال شيخ الإسلام:

عندى أن ذاك الرجل ذاكر البخارى فى المذاكرة: أنه سمع من فلان حديث كذا، وكتاب كذا، أو مسند كذا، أو حديث فلان، فيرويه بين المسموعات وهو طريق حسن، طريق مليح. ولا أحد أفضل من البخارى.

وقال المؤتمن الساجى: كان يدخل عليه الجبابرة والأمراء، فما كان يبالى بهم. ويرى بعض أصحاب الحديث من الغرباء فيكرمه إكراما يعجب منه الخاص والعامّ رحمه الله.

قال صاعد بن سيار الهروى فى أماليه: سمعت شيخ الإسلام الأنصارى يقول: إلهى عصمة أو مغفرة، فقد ضاقت بنا طريق المعذرة.

وقد أثنى على الشيخ الإمام أبى إسماعيل شيوخه وأقرانه. ومن دونه من الفقهاء، والمحدثين، والصوفية، والأدباء وغيرهم. وقد سبق فى ترجمة عبد الرحمن ابن منده قول سعد الزنجانى فيه: إنّ الله حفظ به الإسلام، وبابن منده.

وقال الرّهاوى: سمعت بهراة: أن شيخ الإسلام لما أخرج من هراة، ووصل إلى مرو، وأذن له فى الرجوع إلى هراة، رجع ووصل إلى مرو الروذ، قصده الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوى الفرّاء صاحب التصانيف. فلما حضر عنده قال لشيخ الإسلام: إن الله قد جمع لك الفضائل، وكانت قد بقيت فضيلة

ص: 60

واحدة، فأراد أن يكملها لك، وهى الإخراج من الوطن، أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الرّهاوى: وسمعت أبا عبد الله سفيان بن أبى الفضل الخرقى السفيانى وكان من أهل الحديث والفضل والدّين، وكان سفيانى المذهب يقول: سمعت الحافظ أبا مسعود كوتاه يقول: سمعت أبا الوقت عبد الأول بن عيسى يقول:

دخلت على الجوينى - يعنى أبا محمد عبد الله بن يوسف الفقيه - فسألنى عن شيخ الإسلام؟ فقلت: أنا خادمه. فقال: رضى الله عنه.

قال الرّهاوى: وذكر الحسين بن محمد الكتبى الهروىّ فى تاريخه: أنّ شيخ الإسلام الأنصارى سافر إلى نيسابور سنة سبع عشر وأربعمائة، طالبا للحديث والفقه، ورؤية المشايخ، والاستفادة منهم، والتبرك بصحبتهم. ورجع فى تلك السنة. ثم سافر ثانيا للحج مع الفقيه الإمام أبى الفضل بن أبى سعد الزاهد الواعظ، ومعهما خلق كثير سنة ثلاث وعشرين. فلما وردوا نيسابور أخرج الإمام أبو عثمان الصابونى لخاله الإمام أبى الفضل بن أبى سعد الزاهد مجلسا فى الحديث ليمليه بنيسابور، فنظر فيه الأنصارى ونبّه على خلل فى رجال الحديث وقع فيه. فقبل الصابونى قوله، وعاد إلى ما قال، وأحسن الثناء عليه، وأظهر السرور به، وهنأ أهل العصر بمكانه، وقال: لنا جمال، ولأهل السنة مكانة، وانتفاع المسلمين بعلمه ووعظه. وكان ذلك بمشهد من مشايخ فيهم كثرة، وشهرة وبصيرة.

قال صاحب التاريخ: وكنت حاضرا يومئذ. قال: وسمعت الإمام عبد الله الأنصارى بنيسابور يقول: دخلت على الإمام ناصر المروزى بنيسابور، وكان مجلسه غاصّا بتلامذته، واحتفّ به الفقهاء، وكان يدرّس ويقول: روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه: أنه كان يقرأ فى الركعة الثالثة من صلاة المغرب:

(114:20 {رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)} فقلت - أيد الله الشيخ الإمام -: أحديث عهد أنت

ص: 61

بهذا الحديث وهو على ذكرك؟ فقال: لا، فقلت: كان يقرأ فى الركعة الثالثة من صلاة المغرب: (8:3 {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا)} فقال: صدقت ورجع إلى قولى، وحثّ القوم على إثباته وتعليقه. ثم بكرت إليه من غد هذا اليوم، فرحب بى، وأعلى محلّى، وأجلسنى فوق جماعة زهاء سبعين، كنت بالأمس جالسا دونهم، ومدحته بقصيدة، وواظبت على الاختلاف إليه وأخذ الفقه عنه مدة.

قال صاحب التاريخ: ورجع الشيخ من حرقات، والريّ عن زيارة الشيخ أبى الحسن الحرقانى، وكان الحرقانى أحسن الثناء عليه، ولاطفه فى المخاطبة سنة أربع وعشرين.

قال: ولقى الشيخ بنيسابور الشيخ أبا عبد الله بن باكويه الشيرازى، وتكلم بين يديه. فرضى ابن باكويه قوله، واستحسن فى الحقيقة كلامه، وبشر بأيامه، فلما عزم على الخروج من عنده قال: إلى أين؟ قال: نويت سفرا. قال: لست من بابة السفر، بل بابتك أن تعقد حلقة تكلمهم على الحق.

قال صاحب التاريخ: وكان إسحاق القرّاب الحافظ يتأمل ما كان يخرجه الأنصارى، وكذلك إسماعيل الصابونى. قال: وكلهم تعجبوا من تخريجه، وأعجبوا به، وأثنوا على الشيخ عبد الله الأنصارى، واغتبطوا بمكانه، ودعوا له بالخير. وكان من عادة إسحاق القراب الحافظ الحث على الاختلاف إلى الأنصارى، والبعث على القراءة عليه، واستماع الأحاديث بقراءته، والاستفادة منه، والمواظبة على مجلسه، والاختيار له على غيره. وكان يقول: لا يمكن أن يكذب على النبى صلى الله عليه وسلم كاذب من الناس، وهذا الرجل فى الإحياء.

قال: وكلّ من لقيت من أهل هراة وفى سائر البلدان، حين خرجت مسافرا، ومن سمعت يخبر منهم فى الآفاق من القضاة والأئمة والأفاضل، والمذكورين، كانوا يحسنون الثناء عليه، ولا ينكرون فضله.

ص: 62

وقال الرّهاوى: سمعت أبا بشر محمد بن محمد الهمذانى يقول: سمعت شيخى عبد الهادى الذى أخذت عنه العلم يقول: عبد الله الأنصارى يعدّ فى العبادلة. قال الرّهاوى: عبد الهادى هذا من أئمة همذان.

وقد ذكر أبو النصر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامى

(1)

فى تاريخ هراة شيخ الإسلام الأنصارى، فقال: كان بكر الزمان، وزناد الفلك، وواسطة عقد المعانى والمعالى، وصورة الإقبال فى فنون الفضائل، وأنواع المحاسن.

منها: نصرة الدين والسنة، والصلابة فى قهر أعداء الملّة، والمتحلين بالبدعة.

حيى على ذلك عمره، من غير مداهنة ومراقبة لسلطان ولا وزير، ولا ملاينة مع كبير ولا صغير. وقد قاسى بذلك السبب قصد الحساد فى كل وقت وزمان، ومنى بكيد الأعداء فى كل حين وأوان، وسعوا فى روحه مرارا، وعمدوا إلى هلاكه أطوارا، مقدرين بذلك الخلاص من يده ولسانه، وإظهار ما أضمروا فى زمانه.

فوقاه الله شرهم، وأحاط بهم مكرهم، وجعل قصدهم لارتفاع أمره، وعلو شأنه، أقوى سبب. وليس ذلك من فضل الله تعالى ببدع ولا عجب (7:47 {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)} .

وأما قبوله عند الخاص والعام، واستحسان كلامه، وانتشاره فى جميع بلاد الإسلام، فأظهر من أن يقام عليه حجة وبرهان، أو يختلف فى سبقه وتقدمه فيها من الأئمة اثنان. ولقد هذّب أحوال هذه الناحية عن البدع بأسرها، ونقح أمورهم عما اعتادوه منها فى أمرها، وحملهم على الاعتقاد الذى لا مطعن لمسلم بشئ عليه، ولا سبيل لمبتدع إلى القدح إليه.

ومنها: تصانيفه التى حاز فيها قصب السبق بين الأضراب، وذكرها فى باب المصنفين من الكتاب.

وذكره أيضا الإمام أبو الحسين عبد الغافر بن إسماعيل الفارسى، خطيب نيسابور فى تاريخ نيسابور، فذكر اسمه ونسبه، وقال: أبو إسماعيل الإمام شيخ

(1)

نسبة إلى «فامية» قرية من قرى واسط بناحية فم الصلح.

ص: 63

الإسلام بهراة، صاحب القبول فى عصره، والمشهور بالفضل وحسن الوعظ والتذكير فى دهره. لم ير أحد من الأئمة فى فنه حلما ما رآه عيانا من الحشمة الوافرة القاهرة، والرونق الدائم، والاستيلاء على الخاص والعام، فى تلك الناحية واتساق أمور المريدين والأتباع، والغالين فى حقه، والتئام المدارس والأصحاب والخانقاه، ونواب المجالس، إلى غير ذلك مما هو أشهر من أن يحتاج إلى الشرح.

وكان على حظ تام من العربية ومعرفة الأحاديث والأنساب والتواريخ، إماما كاملا فى التفسير والتذكير، حسن السيرة والطريقة فى التصوف ومباشرة التصوف ومعاشرة الأصحاب الصوفية. مظهر السنة، داعيا إليها، محرضا عليها.

غير مشتغل بكسب الأسباب والضياع والعقار، والتوغل فى الدنيا. مكتفيا بما يباسط به المريدين والأتباع من أهل مجلسه فى السنة مرة أو مرتين. حاكما عليها حكما نافذا بما كان يحتاج إليه هو وأصحابه من السنة إلى السنة على رأس الملأ.

فيحصل على ألوف من الدنانير بها، وأعداد جمة من الثياب والحلى وغير ذلك.

فيجمعها ويفرقها على الخبّاز، والبقّال، والقصّاب، وينفق منها موسعا فيها من السنة إلى السنة، ولا يأخذ من السلاطين والظلمة والأعوان وأركان الدولة شيئا.

وقلّما يراعيهم. ولا يدخل عليهم ولا يبالى بهم. فبقى عزيزا مقبولا، قبولا أتم من الملك على الحقيقة، مطاع الأمر قريبا من ستين سنة، من غير مزاحمة ولا فتور فى الحال.

ومن خصائصه: أنه كان إذا حضر المجلس لبس الثياب الفاخرة، وركب الدواب الثمينة، والمراكب المعروفة، وتكلّف غاية التكلف، ويقول: إنما أفعل هذا إعزازا للدّين، ورغما لأعدائه، حتى ينظروا إلى عزّى وتجملى، فيرغبوا فى الإسلام إذا رأوا عزّه. ثم إذا انصرف إلى بيته عاد إلى المرقّعة والقعود مع الصوفية فى الخانقاه، يأكل معهم ما يأكلون، ويلبس ما يلبسون، ولا يتميز فى المطعوم والملبوس عن آحادهم. على هذا كان يزجى أيامه. وكلّ ما نقل عنه من سيرته محمود.

ص: 64

ومن جملة ما أخذه أهل هراة عنه من محاسن سيرته: التبكير بصلاة الصبح، وأداء الفرائض فى أوائل أوقاتها، واستعمال السّنن والأدب فيها.

ومن ذلك: تسمية الأولاد فى الأغلب بالعبد، المضاف إلى اسم من أسماء الله تعالى: كعبد الخالق، وعبد الخلاق، وعبد الهادى، وعبد الرشيد، وعبد المجيد، وعبد المعز، وعبد السلام. وإلى غير ذلك مما كان يحثّهم، ويدعوهم إلى ذلك، فتعوّدوا الجرى على تلك السنة، وغير ذلك من آثاره.

ثم ذكر بعض شيوخه، ثم قال: أنشدنى أبو القاسم أسعد بن علي البارع الزوزنى لنفسه فى الإمام، وقد حضر مجلسه:

وقالوا:

رأيت كعبد الإله

إماما إذا عقد المجلسا؟

فقلت:

أما إننى ما رأي

ت ولم يلق قبلى ممن عسى

فقالوا:

يجئ نظير له

فقلت: كمستقبل من عسى

قال عبد الغافر: وقرأت فى «دمية القصر لأبى الحسن الباخرزى» فصلا فى الإمام عبد الله الأنصارى، وذلك أنه قال:

هو فى التذكير فى الدرجة العليا، وفى علم التفسير أوحد الدنيا. يعظ فيصطاد القلوب بحسن لفظه، ويمحص الذنوب بيمن وعظه. ولو سمع قسّ بن ساعدة تلك الألفاظ، لما خطب بسوق عكاظ.

ثم ذكر بيتين للإمام عبد الله فى نظام الملك، وهما:

بجاهك أدرك المظلوم ثاره

ومنّك شاد بانى العدل داره

وقبلك هنّئ الوزراء حتّى

نهضت بها فهنّئت الوزاره

ثم قال: وحضرت يوما مجلسه بهراة، مع أبى عاصم الحسين بن محمد ابن الفضيلى الهروىّ شيخ الأفاضل بهراة. فلما طاب فؤاده، وعرق جواده وطنّت نقرات العازفين فى جو السماء، ودنت الملائكة فتدلّت للإصغاء.

ص: 65

قال أبو العاصم:

عيون النّاس لم تل

ق ولا تلقى كعبد الله

ولا ينكر هذا غي

ر من مال عن الله

قال الباخرزى: فقلت أنا:

مجلس الأستاذ عبد الله

روض العارفينا

ألحق الفخر بنا

بعد حكم العارفينا

قال عبد الغافر: وفى المنقولات من أخباره وآثاره، وما قيل فيه من الأشعار، وما نقل عنه من العبارات كثير. وفى هذا القدر دليل على أمثالها.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية فى كتاب «الأجوبة المصرية» :

شيخ الإسلام مشهور، معظم عند الناس. هو إمام فى الحديث، والتصوف، والتفسير. وهو فى الفقه على مذهب أهل الحديث، يعظّم الشافعى، وأحمد.

ويقرن بينهما فى أجوبته فى الفقه ما يوافق قول الشافعى تارة وقول أحمد أخرى.

والغالب عليه اتباع الحديث على طريقة ابن المبارك ونحوه.

قال: وقال الشيخ أبو الحسن الكرخى، شيخ الشافعية فى بلاده، فى كتابه «الفصول فى الأصول»: أنشدنى غير واحد من الفضلاء للإمام عبد الله ابن محمد الأنصارى، أنه أنشد فى معرض النصحية لأهل السنة:

كن إذا ما حاد عن حدّ الهدى

أشعرىّ الرأى شيطان البشر

شافعىّ الشّرع، سنّى الحلى

حنبلى العقد، صوفىّ السّير

ومن شعر شيخ الإسلام مما أنشده الرهاوى بإسناده عنه:

سبحان من أجمل الحسنى لطالبها

حتى إذا ظهرت فى عبده مدحا

ليس الكريم الذى يعطى لتمدحه

إنّ الكريم الّذى يثنى بما منحا

وأنشد له:

نهواك نحن ونحن منك نهاب

أهوى وخوفا إنّ ذاك عجاب!

شخص العقول إليك ثم استحسرت

وتحيّرت فى كنهك الألباب

ص: 66

قلت: ولشيخ الإسلام شعر كثير حسن جدّا. ولأجل هذا ذكره الباخرزى الأديب فى كتابه «دمية القصر فى شعراء العصر» وله كلام فى التصوف والسلوك دقيق.

وقد اعتنى بشرح كتابه «منازل السائرين» جماعة. وهو كثير الإشارة إلى مقام الفناء فى توحيد الربوبية، واضمحلال ما سوى الله تعالى فى الشهود لا فى الوجود. فيتوهم فيه أنه يشير إلى الاتحاد حتى انتحله قوم من الاتحادية، وعظموه لذلك. وذمّه قوم من أهل السنة، وقدحوا فيه بذلك. وقد برأه الله من الاتحاد. وقد انتصر له شيخنا أبو عبد الله بن القيم فى كتابه الذى شرح فيه «المنازل» وبيّن أن حمل كلامه على قواعد الاتحاد زور وباطل.

توفى رحمه الله تعالى يوم الجمعة بعد العصر ثانى عشرين ذى الحجة سنة إحدى وثمانين وأربعمائة. ودفن يوم السبت بكازياركاه - مقبرة بقرب هراة -

وكان يوما كثير المطر، شديد الوحل. وقد كان الشيخ يقول فى حياته:

إن استأثر الله بى فى الصيف فلا بد من نطع مخافة المطر، فصدق الله ظنه فى ذلك حدّث عنه جماعة من الحفاظ وغيرهم، كالمؤتمن الساجى، ومحمد بن طاهر، وأبى نصر الغازى، وأبى الوقت السجزى، وأبى الفتح الكروخى.

قرأت على أبى حفص عمر بن علي القزوينى ببغداد: أخبركم أبو عبد الله محمد ابن أبى القاسم المقرئ ح وأخبرنا الربيع عليّ بن عبد الصمد بن أحمد البغدادى بها قراءة عليه، وأنا فى الخامسة، أخبرنا والدى أبو أحمد عبد الصمد قالا:

أخبرنا أبو الحسن على بن أبى بكر بن روزبه، أخبرنا أبو الوقت عبد الأول ابن عيسى السجزى، أخبرنا شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروى، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن العالى البوشنجى، أخبرنا أبو أحمد الغطريفى، ومنصور بن العباس الفقيه قالا: أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو صالح الحكم بن موسى، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سليمان التيمى، عن أبى عثمان

ص: 67

- وليس بالنهدى - عن معقل بن يسار: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:

«اقرأوها على موتاكم» يعنى: يس.

وبالإسناد الأول إلى شيخ الإسلام، أنشدنا يحيى بن عمار أنشدنى أبو المنذر محمد بن أحمد بن جعفر الأديب، أنشدنى الصولى لأبى العباس ثعلب:

ربّ ريح لا ناس عصفت

ثمّ ما إن لبثت أن ركدت

وكذاك الدّهر فى أفعاله

قدم زلّت وأخرى ثبتت

بالغ ما كان يرجو دونه

ويد عما استقلت قصرت

وكذا الأيام من عاداتها

أنّها مفسدة ما أصلحت

ثمّ تأتيك مقادير لها

فترى مصلحة ما أفسدت

‌28 - عبد الواحد بن محمد

بن على بن أحمد الشيرازى ثم المقدسى، ثم الدمشقى، الفقيه الزاهد، أبو الفرج الأنصارى، السعدى العبادى الخزرجى.

شيخ الشام فى وقته.

قرأت بخط بعض طلبة الحديث فى زماننا قال: أخرج إلىّ شيخنا يوسف ابن يحيى بن عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ أبى الفرج نسب جده: وهو أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن يعيش ابن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة. كذا رأيته. ويوسف هذا أدركته.

وسمعت منه جزءا عن أبيه عن الخشوعى.

ولكن قرأت بخط جده ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم قال: كتبت إلى الشريف النسّابة ابن الجوانى كتابا إلى مصر أسأله: هل نحن من ولد قيس بن سعد أو من أخيه؟ فجاءنى خطه فى جزء يقول: قيس بن سعد انقرض عقبه.

وحكاه عن جماعة من النسابين، مثل ابن شجرة وابن طباطبا وغيرهما. وقال:

إنما أنتم من ولد أخيه عبد العزيز بن سعد بن عبادة. ورفع نسب سعد بن عبادة إلى آدم عليه السلام.

ص: 68

وهذا يدل على أن «الناصح» لم يكن يعرف نسبهم إلى سعد، ولا ذكر أن النسابة كتب له ذلك، وإنما كتب له نسب سعد إلى آدم، وأيضا فقد قال له:

أنتم من ولد عبد العزيز بن سعد بن عبادة. وفى هذا النسب المذكور: عبد العزيز ابن سعيد بن سعد بن عبادة. وهذا مخالف لما قال ابن الجوانى.

لكن ذكر «الناصح» أن أباه وجماعة من العلماء اجتمعوا ليلة عند السلطان صلاح الدين فى خيمة، مع الشريف الجوانى هذا، فقال السلطان: هذا الفقيه - يشير إلى والد «الناصح» - ليس فى آبائه وأجداده صاحب صنعة إلا أمير أو عالم إلى سعد بن عبادة. وهذا يدل على أنه كان يعرف نسبهم إلى سعد بن عبادة.

والله أعلم.

ثم رأيت الشريف عزّ الدين أحمد بن محمد الحسينى الحافظ صاحب «صلة التكملة فى وفيات النقلة» ذكر نسب الشيخ أبى الفرج إلى سعد مثل ما أخرجه شيخنا يوسف سواء، إلا أنه قال عبد العزيز بن سعد بن عبادة، بلا واسطة بينهما ولقّب أباه محمدا بالصافى.

تفقه الشيخ أبو الفرج ببغداد على القاضى أبى يعلى مدة، وقدم الشام فسكن ببيت المقدس، فنشر مذهب الإمام أحمد فيما حوله. ثم أقام بدمشق فنشر المذهب وتخرج به الأصحاب، وسمع بها من أبى الحسن السمسار، وأبى عثمان الصابونى ووعظ، واشتهر أمره، وحصل له القبول التام.

وكان إماما عارفا بالفقه والأصول، شديدا فى السنة، زاهدا عارفا، عابدا متألها، ذا أحوال وكرامات. وكان «تتش» صاحب دمشق يعظّمه.

قال أبو الحسين فى الطبقات: صحب الوالد من سنة نيف وأربعين وأربعمائة وتردد إلى مجلسه سنين عدة، وعلق عنه أشياء فى الأصول والفروع، ونسخ واستنسخ من مصنفاته. وسافر إلى الرحبة والشام وحصل له الأصحاب والأتباع والتلامذة والغلمان. وكانت له كرامات ظاهرة، ووقعات مع الأشاعرة، وظهر

ص: 69

عليهم بالحجة فى مجالس السلاطين ببلاد الشام. ويقال: إنه اجتمع مع الخضر عليه السلام دفعتين.

وكان يتكلم فى عدة أوقات على الخاطر كما كان يتكلم ابن القزوينى الزاهد.

فبلغنى: أن «تتشا» لما عزم على المجئ إلى بغداد فى الدفعة الأولى لما وصلها السلطان سأله الدعاء؟ فدعا له بالسلامة، فعاد سالما. فلما كان فى الدفعة الثانية استدعى السلطان وهو ببغداد لأخيه «تتش» فرعب وسأل أبا الفرج الدعاء له.

فقال له: لا تراه ولا تجتمع به. فقال له «تتش» : وهو مقيم ببغداد، وقد برزت إلى عنده، ولا بد من المصير إليه. فقال له: لا تراه، فعجب من ذلك، وبلغ «هيت» فجاءه الخبر بوفاة السلطان ببغداد، فعاد إلى دمشق وزادت حشمة أبى الفرج عنده ومنزلته لديه.

وبلغنى أن بعض السلاطين من المخالفين كان أبو الفرج يدعو عليه، ويقول:

كم أرميه ولا تقع الرمية به؟ فلما كان فى الليلة التى هلك ذلك المخالف فيها، قال أبو الفرج لبعض أصحابه: قد أصبت فلانا وقد هلك، فورّخت الليلة، فلما كان بعد بضعة عشر يوما ورد الخبر بوفاة ذلك الرجل فى تلك الليلة التى أخبر أبو الفرج بهلاكه فيها.

قال: وكان أبو الفرج ناصرا لاعتقادنا، متجردا فى نشره، مبطلا لتأويل أخبار الصفات. وله تصنيف فى الفقه والوعظ والأصول.

وقرأت بخط الناصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ أبى الفرج قال: حدثنا الشريف الجوانى النسّابة عن أبيه قال: تكلم الشيخ أبو الفرج - أى الشيرازى الخزرجى - فى مجلس وعظه، فصاح رجل متواجدا، فمات فى المجلس. وكان يوما مشهودا. فقال المخالفون فى المذهب: كيف نعمل إن لم يمت فى مجلسنا أحد، وإلا كان وهنا. فعمدوا إلى رجل غريب، دفعوا له عشرة دنانير، فقالوا: احضر مجلسنا، فإذا طاب المجلس فصح صيحة عظيمة،

ص: 70

ثم لا تتكلم حتى نحملك ونقول: مات. ونجعلك فى بيت، فاذهب فى الليل، وسافر عن البلد. ففعل، وصاح صيحة عظيمة، فقالوا: مات، وحمل. فجاء رجل من الحنابلة، وزاحم حتى حصل تحته، وعصر على خصاه، فصاح الرجل فقالوا: عاش، عاش. وأخذ الناس فى الضحك، وقالوا المحال ينكشف.

قال الناصح: وكان الشيخ موفق الدين المقدسى يقول: كلّنا فى بركات الشيخ أبى الفرج. قال: وحدثنى ونحن ببغداد قال: لما قدم الشيخ أبو الفرج إلى بلادهم من أرض بيت المقدس تسامع الناس به، فزاروه من أقطار تلك البلاد قال: فقال جدّى قدامة لأخيه: تعال نمشى إلى زيارة هذا الشيخ لعله يدعو لنا.

قال: فزاروه، فتقدم إليه قدامة فقال له: يا سيدى، ادع لى أن يرزقنى الله حفظ القرآن. قال: فدعا له بذلك، وأخوه لم يسأله شيئا، فبقى على حاله. وحفظ قدامة القرآن. وانتشر الخير منهم ببركات دعوة الشيخ أبى الفرج.

وللشيخ أبى الفرج تصانيف عدة فى الفقه والأصول.

منها: «المبهج» و «الإيضاح» و «التبصرة فى أصول الدين» و «مختصر فى الحدود، وفى أصول الفقه، ومسائل الامتحان» .

وقرأت بخط الناصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ قال:

سمعت والدى يقول: للشيخ أبى الفرج «كتاب الجواهر» وهو ثلاثون مجلدة يعنى: فى التفسير. قال: وكانت بنت الشيخ تحفظه، وهى أم زين الدين على بن نجا الواعظ، الآتى ذكره إن شاء الله تعالى.

قال أبو يعلى بن القلانسى فى تاريخه فى حق الشيخ أبى الفرج: كان وافر العلم، متين الدين، حسن الوعظ، محمود السمت.

توفى يوم الأحد ثامن عشرين ذى الحجة، سنة ست وثمانين وأربعمائة بدمشق. ودفن بمقبرة الباب الصغير، وقبره مشهور يزار.

وللشيخ رحمه الله ذرية. فيهم كثير من العلماء، نذكرهم إن شاء الله تعالى فى مواضعهم من هذا الكتاب، يعرفون ببيت ابن الحنبلى.

ص: 71

وقد ذكر الشيخ موفق الدين فى المغنى، والشيخ مجد الدين بن تيمية فى شرح الهداية، عن أبى الفرج المقدسى: أن الوضوء فى أوانى النحاس مكروه وهو هذا.

وذكرا عنه أيضا: أن التسمية على الوضوء يصح الإتيان بها بعد غسل بعض الأعضاء، ولا يشترط تقدمها على غسلها. وقد نسب أبو المعالى بن المنجى هذا فى كتابه «النهاية» إلى أبى الفرج بن الجوزى. وهو وهم.

وله غرائب كثيرة.

فمنها: أنه نقل فى الإيضاح رواية عن أحمد: أن مس الأمرد لشهوة ينقض

ومنها: أن المسافر إذا مسح فى السفر أكثر من يوم وليلة، ثم أقام، أو قدم:

أتم مسح مسافر.

ومنها: أن الجنب يكره له أن يأخذ من شعره وأظفاره. ذكره فى الإيضاح وهو غريب. مخالف لمنصوص أحمد فى رواية جماعة.

ومنها: حكى فى وجوب الزكاة فى الغزلان روايتين.

ومنها: أنه خرّج وجها: أنه يعتبر لوجوب الزكاة فى جميع الأموال: إمكان الأداء، من رواية اعتبار إمكان الأداء لوجوب الحج.

ومنها: ما قاله فى الإيضاح: إذا وقف أرضا على الفقراء والمساكين: لم يجب فى الخارج منها العشر، وإن كان على غيرهم: وجب فيها العشر. وللامام أحمد نصوص تدل على مثل ذلك. وهو خلاف المعروف عند الأصحاب.

ومنها: ما قاله فى الإيضاح أيضا، قال: والصداق يجب بالعقد ويستقر جميعه بالدخول، ولو أسقطت حقها من الصداق قبل الدخول: لم يسقط؛ لأنه إسقاط حق قبل استقراره، فلم يسقط كالشفيع إذا أسقط حقه قبل الشراء. هذا لفظه.

وهو غريب جدا.

ومنها: أنه ذكر فى المبهج فى آخر الوصايا: إذا قال لعبده: إن أدّيت

ص: 72

إلىّ ألفا فأنت حر، ثم أبرأه السّيّد من الألف. عتق فجعل التعليق كالمعاوضة ولأحمد فى رواية أبى الصقر ما يدلّ عليه.

وذكر فى كتاب الزكاة من المبهج أيضا: أنه يجوز دفع الزكاة إلى من علّق عتقه بأداء مال، وهو يرجع إلى هذا الأصل، وأنّ التعليق معاوضة تثبت فى الذمة.

وذكر أيضا فى المبهج: إذا باع أرضا فيها زرع قائم قد بدا صلاحه: لم يتبع قولا واحدا، وإن لم يبد صلاحه: فهل يتبع أم لا؟ على وجهين، فإن قلنا:

لا يتبع: أخذ البائع بقطعه، إلا أن يستأجر الأرض من المشترى إلى حين إدراكه وأما إذا بدا صلاحه: فإنه يبقى فى الأرض من غير أجرة إلى حين حصاده.

وذكر فيه أيضا: أنه إذا اشترى شيئا فبان معيبا ونما عنده نماء متصلا، ثم ردّه: أخذ قيمة الزيادة من البائع، وقد وافقه على ذلك ابن عقيل فى كتاب الصداق من فصوله.

وقد نقل ابن منصور عن أحمد، فيمن اشترى سلعة فنمت عنده، وبان بها داء: فإن شاء المشترى حبسها ورجع بقدر الداء، وإن شاء ردّها ورجع عليه بقدر النماء. وهذا ظاهر فى الرجوع بقيمة النماء المتصل، لأن النماء المنفصل مع بقائه إما أن يستحقه المشترى أو البائع. وأما قيمته فلا يستحقها أحد منهما مع بقائه ولا تلفه.

‌29 - يعقوب بن إبراهيم

بن أحمد بن سطور، العكبرى البرزبيني، القاضى أبو على، قاضى باب الأزج.

قدم بغداد بعد الثلاثين والأربعمائة. وسمع الحديث من أبى إسحاق البرمكى وتفقه على القاضى أبي يعلى، حتى برع فى الفقه، ودرس فى حياته، وشهد عند ابن الدامغانى، هو والشريف أبو جعفر فى يوم واحد، سنة ثلاث وخمسين.

وزكّاهما شيخهما القاضى.

وتولى يعقوب القضاء بباب الأزج مدة، ورأيت فى تاريخ القضاة لابن

ص: 73

المنذرى

(1)

: أن القاضى يعقوب عزل نفسه عن قضاء باب الأزج والشهادة، سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.

وقال أبو الحسين: ولى القضاء بباب الأرج من جهة الوالد، ثم عزل نفسه عن القضاء والشهادة سنة اثنتين وسبعين، ثم عاد إليهما سنة ثمان وسبعين، واستمر إلى موته. قال: وكان ذا معرفة تامة بأحكام القضاء، وإنفاذ السجلات متعففا فى القضاء، متشددا فى السنة.

وقال ابن عقيل: كان أعرف قضاة الوقت بأحكام القضاء والشروط.

سمعت ذلك من غير واحد. ولم يكن أحد من الوكلاء يهاب قاضيا مثل هيبته له.

وله المقامات المشهورة «بالديوان» حتى يقال: إنه كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة من الصحابة، فى قوة الرأى.

وذكره ابن السمعانى، فقال: كانت له يد قوية فى القرآن والحديث، والفقه والمحاضرة. وقرأ عليه عامة الحنابلة ببغداد، وانتفعوا به. وكان حسن السيرة، جميل الطريقة، جرت أموره فى أحكامه على سداد واستقامة.

وحدّث بشئ يسير عن أحمد عمر بن ميخائيل العكبرى، وغيره.

قال: وذكر لى شيخنا الجنيد بن يعقوب الجيلى الفقيه بباب الأزج: أنه سمع الحديث من القاضى أبى على يعقوب، ولم يكن له أصل حاضر بما سمع منه.

وقال: علّقت عنه الفقه، وكان لجماعة من شيوخنا الأصبهانيين منه إجازة، مثل أبى عبد الله الخلال، وغانم بن خالد، وأبى نصر الغازى، ومحمد بن عبد الواحد الدقاق الحافظ، وغيرهم.

وقال ابن الجوزى: حدّث وروى عنه أشياخنا.

قلت: قال أبو الحسين: صنف كتبا فى الأصول والفروع. وكان له غلمان كثيرون - يعنى تلامذة - قال: وكان مبارك التعليم، لم يدرس عليه أحد إلا أفلح وصار فقيها. وكانت حلقته بجامع القصر.

(1)

فى خطية إدارة الثقافة «لابن المندائى»

ص: 74

وعليه تفقه القاضى أبو حازم، وأبو الحسين بن الزاغونى، وأبو سعد المخرّمى، وطلحة العاقولى، وغيرهم.

وله تصانيف فى المذهب. منها: «التعليقة فى الفقه» فى عدّة مجلدات، وهى ملخصة من تعليقة شيخه القاضى.

وممن روى عنه القاضى أبو طاهر بن الكرخى، وأخوه أبو الحسن.

وتوفى يوم الثلاثاء ثاني عشرين شوال سنة ست وثمانين وأربعمائة. كذا نقله ابن السمعانى من خط شجاع الذهلى. وذكره أيضا ابن المندائى - وذكر الشهر والسنة - وأبو الحسين، وابن الجوزى فى تاريخه.

وقال ابن الجوزى فى الطبقات: توفى فى شوال سنة ثمان - وقيل: سنة ست وثمانين - وكان عمره سبعا وسبعين سنة. ودفن من الغد بباب الأزج، بمقبرة الفيل إلى جانب أبى بكر عبد العزيز غلام الخلال. رحمهم الله تعالى.

قال أبو الحسين: وصلّى عليه أكابر أولاده بجامع القصر، وحضر جنازته خلق كثير من أرباب الدين والدنيا، وأصحاب المناصب: نقيب العباسيين.

ونقيب العلويّين، وحجاب السلطان، وجماعة الشهود. وغيرهم.

و «برزبين» بفتح الباء وسكون الراء وفتح الزاى وكسر الباء الثانية، ثم بياء ساكنة ونون - قرية كبيرة على خمسة فراسخ من بغداد. بينها وبين أوانا.

وذكر القاضى يعقوب فى تعليقته، قال: إذا نذر عتق عبده ولا مال له غيره:

يحتمل أن يعود فيه، كما لو نذر الصدقة بماله كله فعتق ثلثه. وإن سلّمنا فالعتاق آكد. ولهذا يفترقان فى نذر اللجاج والغضب. وهذا الاحتمال الأول مخالف لما ذكره القاضى وابن عقيل وغيرهما من أهل المذهب.

لكن منهم من يعلل بأن العتق لا يتبعّض فى ملك واحد، كالقاضى فى خلافه. وهذا موافقة على أن الواجب بالنذر عتق ثلثه لا غير. وإنما الباقى يعتق بالسراية.

ص: 75

ومنهم من يعلل بقوة العتق وتأكيده، كما ذكره القاضى يعقوب هنا. وعلى هذا فالواجب عتق العبد كله بالنذر.

وذكر القاضى يعقوب أيضا: فيما إذا حلف ليقضينّه دراهمه التى عنده فأحاله بها، وقال: يحتمل أن يبرأ؛ لأن ذمته قد برئت بالحوالة. وهذا مخالف لقول القاضى والأصحاب؛ فإن الحوالة نقلت الحق من ذمة إلى ذمة، ولم يحصل بها الاستيفاء.

ورأيت بخط أبى زكريا بن الصيرفى الفقيه: أن القاضى أبا على يعقوب اختار جواز أخذ الزكاة لبنى هاشم، إذا منعوا حقهم من الخمس.

وقرأت بخط الجنيد بن يعقوب الجيلى الفقيه «فرع: تملك الأم الرجوع فى الهبة» وهو اختيار القاضى يعقوب بن إبراهيم. وفيه رواية أخرى: لا تملك.

اختارها بقية الأصحاب. وذكر القاضى يعقوب الخلاف بين أصحابنا فى أن الحروف: هل هى حرف واحد قديم، أو حرفان: قديم ومحدث؟ وقال: كلام أحمد يحتمل القولين. ولكنه اختار أنها حرف واحد. وحكاه عن شيخه القاضى وذكر أنه سمع ابن جلبة الحرانى يحكيه عن الشريف الزبدى، وجماعة من أهل حران.

والتزم القاضى يعقوب: أن كل ما كان موافقا لكتاب الله من الكلام فى لفظه ونظمه وحروفه، فهو من كتاب الله، وإن قصد به خطاب آدمى، حتى إنه لا يبطل الصلاة.

قال أبو العباس بن تيمية: وهذا مخالف للاجماع. وهو كما قال. فإنه إذا جرّد قصده للخطاب، فهو يتكلم بكلام الآدميين. وأما إن قصد التنبيه بالقرآن، فمن الأصحاب من قال: لا يحنث، ومنهم من بناه على الخلاف فى بطلان الصلاة بذلك.

ص: 76

‌30 - عبد الوهاب بن طالب

بن أحمد بن يوسف بن عبد الله بن عنبسة ابن عبد الله بن كعب بن زيد بن بهم، أبو القاسم التميمى الأزجى البغدادى، المقرئ الفقيه.

نزيل دمشق. أقام بها مدة يؤم بمسجد درب الريحان. حدّث بها بالإجازة من الطناجيرى. سمع منه ابن صابر الدمشقى المحدث وأخوه.

وتوفى ليلة الثلاثاء ثامن عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وأربعمائة.

ودفن من الغد بمقبرة الباب الصغير. رحمه الله تعالى.

‌31 - رزق الله بن عبد الوهاب

بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن الهيثم بن عبد الله التميمى، البغدادى المقرئ، المحدث الفقيه الواعظ، شيخ أهل العراق فى زمانه، أبو محمد بن أبى الفرج بن أبى الحسن.

ولد سنة أربعمائة - وقيل: سنة إحدى وأربعمائة - وفى الطبقات لابن الجوزى:

سنة أربع.

وقال السلفى: سمعت أبا الحسن على بن محمد بن سلامة الروحانى بمصر يقول:

سمعت رزق الله التميمى ببغداد يقول: مولدى سنة ست وتسعين وثلاثمائة.

وقرأ القرآن بالروايات على أبى الحسن الحمامى. وسمع الحديث من أبى الحسين بن التميم، وأبى عمر بن مهدى، وابنى بشران، وأبى علي بن شاذان، وغيرهم.

وأجاز له أبو عبد الرحمن السلمى الصوفى، وتفقه على أبيه أبى الفرج، وعمه أبى الفضل عبد الواحد، وأبى علىّ بن أبى موسى صاحب الإرشاد.

قال أبو الحسين: وقرأ على الوالد السعيد قطعة من المذهب.

وأدرك من أصحاب ابن مجاهد رجلا يقال له: أبو القاسم عبد الله بن محمد

ص: 77

الخفاف، وقرأ عليه سورة البقرة. وقرأها على ابن مجاهد، وأدرك من أصحاب أبى بكر الشبلى رجلا، وهو عمر بن تعويذ. وحكى عنه حكاية عن الشبلى

قال ابن الجوزى: وشهد عند أبى الحسين بن ما كولا قاضى القضاة. فلما توفى وولى ابن الدامغانى ترك الشهادة؛ ترفعا عن أن يشهد عنده. فجاء قاضى القضاة إليه مستدعيا لمودّته وشهادته عنده، فلم يخرج له عن موضعه، ولم يصحبه مقصوده.

قال: وكان قد اجتمع للتميمى القرآن، والفقه والحديث، والأدب والوعظ. وكان جميل الصورة، فوقع له القبول من الخواص والعوام. وأخرجه الخليفة رسولا إلى السلطان فى مهام الدولة. وكان له الحلقة فى الفقه، والفتوى والوعظ بجامع المنصور. فلما انتقل إلى باب المراتب كانت له حلقة بجامع القصر يروى فيها الحديث، ويفتى. وكان يمضى فى السنة أربع دفعات: فى رجب، وشعبان، ويوم عرفة، وعاشوراء، إلى مقبرة أحمد، ويعقد هناك مجلسا للوعظ.

وقال فى الطبقات: كانت له المعرفة الحسنة بالقرآن والحديث، والفقه والأصول، والتفسير، واللغة والعربية، والفرائض. وكان حسن الأخلاق.

وحكى عن ابن عقيل قال: كان سيد الجماعة من أصحاب أحمد بيتا ورئاسة وحشمة أبا محمد التميمى. وكان أحلى الناس عبارة فى النظر، وأجراهم قلما فى الفتيا، وأحسنهم وعظا.

وقال ابن عقيل فى فنونه - والكلام أظنه فى تاريخ بغداد -: ومن كبار مشايخى: أبو محمد التميمى شيخ زمانه. كان حسنة العالم، وماشطة بغداد.

وذكر عن التميمى أنه كان يقول: كلّ الطوائف تدّعينى.

وقال شجاع الذهلى - فيما حكاه عن السلفى - كان له لسان وعارضة، وحلاوة منطق. وهو أحد الوعاظ المذكورين، والشيوخ المتقدمين. وقد سمعت منه.

ص: 78

وقال السلفى: سألت المؤتمن الساجى عن أبى محمد التميمى؟ فقال: هو الإمام علما ونفسا وأبوة، وما يذكر عنه فتحامل من أعدائه.

وقال شيرويه الديلمى الحافظ: هو شيخ الحنابلة، ومقدمهم. سمعت منه.

وكان ثقة صدوقا، فاضلا ذا حشمة.

وقال أبو عامر العبدرى: رزق الله التميمى كان شيخا بهيا، ظريفا لطيفا، كثير الحكايات والملح، ما أعلم منه إلاّ خيرا.

وقال أبو على بن سكرة فى مشيخته: ما لقيت فى بغداد مثله - يعنى التميمى - قرأت عليه كثيرا. وإنما لم أطل ذكره لعجزى عن وصفه لكماله وفضله

وقال ابن ناصر ما رأيت شيخا ابن سبع وثمانين سنة أحسن سمتا وهديا، واستقامة منه، ولا أحسن كلاما، وأظرف وعظا، وأسرع جوابا منه؛ فلقد كان جمالا للاسلام كما لقب، وفخرا لأهل العراق خاصة، ولجميع بلاد الإسلام عامة، وما رأينا مثله. وكان مقدما على الشيوخ والفقهاء وشهود الحضرة، وهو شاب ابن عشرين سنة، فكيف به وقد ناهز التسعين سنة؟ وكان مكرما وذا قدر رفيع عند الخلفاء، منذ زمن القادر ومن بعده من الخلفاء إلى خلافة المستظهر.

وله تصانيف. منها «شرح الإرشاد» لشيخه ابن أبى موسى فى الفقه والخصال والأقسام.

قرأ عليه بالروايات جماعة، منهم: أبو الكرم الشهرزورى، وغيره. وأملى الحديث. وسمع منه خلق كثير ببغداد وأصبهان، لما قدمها رسولا من جهة المقتدى.

وممن سمع منه الحفاظ: إسماعيل التميمىّ، وأبو سعد بن البغدادى، وأبو عبد الله الحميدى، وابن الخاضبة، وأبو مسعود سليمان بن إبراهيم، وأبو نعيم ابن الحداد، وأبو علي البردانى، وأبو نصر الغازى، وإسماعيل بن السمرقندى، وابن ناصر، ومحمد بن طاهر، وعبد الوهاب الأنماطى.

ص: 79

وسمع منه أيضا: نصر الله المصيصى، وهبة الله بن طاوس، وعلىّ بن طراد، والقاضى أبو بكر، والقاضى أبو الحسين، وأخوه أبو حازم، وابن البطّى، وخلق كثير.

وقد روى ابن السمعانى: حديث «من عادى لى وليّا» عن أربعة وسبعين، سماعا له، سمعوه من التميمى.

وروى عنه من أهل أصبهان أزيد من مائة راو. وآخر من روى عنه:

السلفى بالإجازة.

وذكر ابن النجار فى أول تاريخه بإسناده عن خميس الجوزى الحافظ:

سمعت طلحة بن على الرازى، قال: رأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام ببغداد، كأنه فى مسجد عتاب، جالس فى القبلة، وعليه برد كحل

(1)

، وهو متقلد بسيف، والمسجد غاص بأهله. وفى الجماعة أبو محمد التميمى وهو يقول له:

يا رسول الله، ادع الله لنا فرفع يديه، فقال - وأنا أقول معه -: اللهم إنّا نسألك حسن الاختيار فى جميع الأقدار، ونعوذ بك من سوء الاختيار فى جميع الأقدار.

قال أحمد بن طارق الكركى: سمعت أبا الكرم الشهرزورى يقول:

سمعت التميمى يقول: لما دخلت سمرقند برسالة المقتدى إلى «ملكشاه» رأيتهم يروون الناسخ والمنسوخ لهبة الله عن خمسة رجال إليه، فقلت لهم: الكتاب معى، والمصنّف جدى لأمى، ومنه سمعته، ولكن ما أسمع كل واحد منكم إلا بمائة دينار. فما كان الظهر حتى جاءنى كيس فيه خمسمائة دينار والجماعة فسمعوا علىّ، وسلموا إلىّ الذهب. قال: ولما عدنا من سمرقند ودخلنا أصبهان، وأمليت الحديث يوم جمعة، فقام الجماعة ومدحونى، وقالوا: ما سمعنا أحسن من هذا.

ولأبى محمد التميمى شعر حسن. قال ابن السمعانى: أنشدنا هبة الله ابن طاوس بدمشق، أنشدنا التميمى لنفسه:

وما شنآن الشيب من أجل لونه

ولكنه حاد إلى البين مسرع

(1)

فى خطية إدارة الثقافة «كحلىّ»

ص: 80

إذا ما بدت منه الطليعة آذنت

بأنّ المنايا خلفها تتطلع

فإن قصّها المقراض صاحت بأختها

فتظهر تتلوها ثلاث وأربع

وإن خضبت حال الخضاب لأنّه

يغالب صنع الله، والله أصنع

فيضحى كريش الديك فيه تلمّع

وأقطع ما يكساه ثوب ملمّع

إذا ما بلغت الأربعين فقل لمن

يودك فيما تشتهيه وتسرع

هلموا لنبكى قبل فرقة بيننا

فما بعدها عيش لذيذ ومجمع

وخلّ التصابى، والخلاعة، والهوى

وأمّ طريق الحق، فالحقّ أنفع

وخذ جنّة تنجى وزادا من التقى

وصحبة مأمون، فقصدك مفزع

قال: وأنشدنا إسماعيل بن السمرقندى، أنشدنا التميمى لنفسه:

مررنا على رسم الديار فسلّمنا

وقلنا له: يا ربع أين نأوا عنّا؟

وجدنا بدمع كالرذاذ على الثّرى

فصمّ المنادى، فانصرفنا كما كنّا

وما ذاك إلاّ أنّ رسم ديارهم

به كالذى نلقى فقد زادنا حزنا

فلما أيسنا من جواب رسومهم

نزلنا فقبلنا الثرى قبل أن رحنا

ومن شعره:

يا ويح هذا القلب ما حاله

مشتغلا فى الحى بلباله

سكران لو يصحو لعاتبه

وكيف بالعتب لمن حاله

دمع غزير، وجوى كامن

يرحمه من ذاك عذّاله

ما ينثنى باللوم عن حبّه

تغيّرت فى الحب أحواله

قال: وأنشدنا لنفسه:

ولم أستطع يوم الفراق وداعه

بلفظى فناب الدمع منّي عن القول

وشيّعه صبرى ونومى كلاهما

فعدت بلا أنس نهارى ولا ليلى

فلما مضى أقبلت أسعى مولّها

يدى على رأسى وناديت: يا ويلى

تبدّلت يوم البين بالأنس وحشة

وجرّرت بالخسران يوم النوى ذيلى

ص: 81

وله أيضا:

لا تسألانى عن الحىّ الذى بانا

فإننى كنت يوم البين سكرانا

يا صاحبيّ على وجدى بنعمانا

هل راجع وصل ليلى كالذى كانا؟

أم ذاك آخر عهد للّقاء بها

فنجعل الدهر ما عشناه أحزانا

ما ضرّهم لو أقاموا يوم بينهم

بقدر ما يلبس المحزون أكفانا

ليت الجمال التى للبين ما خلقت

وليت حاد حدا للبين حيرانا

توفى أبو محمد التميمى رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء خامس عشر جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وصلّى عليه ابنه أبو الفضل من الغد. ودفن بداره بباب المراتب بإذن الخليفة المستظهر. ولم يدفن بها أحد قبله.

ثم لما توفى ابنه أبو الفضل سنة إحدى وتسعين، نقل معه إلى مقبرة باب حرب، فدفن إلى جانب أبيه وجده وعمه، بدكة الإمام أحمد عن يمينه.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الصالحى، أخبرنا أبو المعالى أحمد بن إسحاق الهمدانى، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن سابور، أنبأنا عبد العزيز بن محمد بن منصور الشيرازى ح وأنبأتنا زينب بنت أحمد عن عبد الرحمن بن مكى عن جده أبى الطاهر بن أحمد بن محمد الأصبهانى، قالا: أنبأنا أبو محمد رزق الله ابن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحرث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود ابن سفيان بن يزيد بن أكينة بن الهيثم بن عبد الله التميمى - قال الأول:

سماعا، وقال الثانى: إجازة - قال: سمعت أبى أبا الفرج عبد الوهاب يقول:

سمعت أبى أبا الحسن عبد العزيز يقول: سمعت أبى أبا بكر الحرث يقول: سمعت أبى أسدا يقول: سمعت أبى الليث يقول: سمعت أبى سليمان يقول: سمعت أبى الأسود يقول: سمعت أبى سفيان يقول: سمعت أبى يزيد يقول: سمعت أبى أكينة يقول: سمعت أبى الهيثم يقول: سمعت أبى عبد الله يقول:

ص: 82

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما اجتمع قوم على ذكر الله إلاّ حفّتهم الملائكة وغشيتهم الرّحمة» .

«أكينة» بضم الهمزة وفتح الكاف وبالياء والنون المفتوحة قيّده ابن ماكولا وغيره. وعبد الله هذا هو ابن الحرث بن سيدان بن مرّة بن سفيان بن مجاشع ابن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمى. كذا نسبه ابن ماكولا.

وقال ابن الجوزى: كان عبد الله هذا اسمه عبد اللات، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله، وعلمه. وأرسله إلى اليمامة والبحرين؛ ليعلمهم أمر دينهم، وقال:«نزع الله من صدرك وصدر ولدك الغل والغش إلى يوم القيامة» .

قرأت بخط الإمام أبى العباس بن تيمية: أن أبا محمد التميمى وافق جده أبا الحسن على كراهة الماء المسخن بالشمس.

ونقل بعض الأصحاب عن أبى محمد التميمى: أنه اختار أن خروج المنى بغير شهوة يوجب الغسل.

وذكر ابن الصيرفى فى نوادره قال: نقل أبو داود عن أحمد: المرأة تعدم الماء، ويكون عنده مجتمع الفساق، فتخاف أن تخرج: أتتيمم؟ قال: لا أدرى.

قال أبو محمد التميمى فى شرح الإرشاد: يتوجه أن تتيمم لأنه ضرورة. وهل تعيد الوضوء إذا قدرت على الماء؟ على وجهين. أصحهما: لا إعادة عليها.

قال: وكان عبد العزيز يقول: تعيد الوضوء والصلاة إذا قدرت، فإن لم تعد فلا جناح.

وقال غيره من أصحابنا: لا إعادة. قال: وهو الصحيح. وبه يقول شيخنا - يعنى: ابن أبى موسى.

ص: 83

قلت: فحقيقة الوجهين فى الإعادة إنما هى فى الاستحباب وعدمه؛ فإن أبا بكر قد قال: فإن لم تعد فلا حرج.

وقد ذكر الأصحاب: أن أحمد نصّ فى رواية أخرى على أنها لا تمضى وتتيمم بل قالوا: لا يجوز لها المضى إذا خافت على نفسها منهم.

وفى النوادر أيضا: أن أبا محمد التميمى حكى رواية عن أحمد: بصحة الصلاة عن يسار الإمام مع الكراهة.

وفى المنثور لابن عقيل: ذكر شيخنا فى الجامع الكبير: إذا فصد، وشد العصابة: مسح عليها وتيمم. فاعترض عليه أبو محمد التميمى بأنه لا يخلو: إما أن يكون جرحا فيتيمم له، أو مثل الجبيرة فيمسحه فقط. فقال القاضى: وجدته عن أحمد كذلك - يعنى: جواب التميمى.

وذكر ابن الجوزى فى تاريخه: أن جلال الدولة أمره أن يكتب شاهنشاه

(1)

الأعظم ملك الملوك، وخطب له بذلك. فنفر العامة، ورجموا الخطباء، ووقعت فتنة. وذلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة. فاستفتى الفقهاء فكتب الصّيمرى:

أنّ هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية. وكتب أبو الطيب الطبرى: أن إطلاق ملك الملوك جائز، ويكون معناه ملك ملوك الأرض. وإذا جاز أن يقال: قاضى القضاة، وكافى الكفاة، جاز أن يقال: ملك الملوك. وكتب التميمى نحو ذلك وذكر محمد بن عبد الملك الهمذانى: أن القاضى الماوردى منع من جواز ذلك.

قال ابن الجوزى: والذى ذكره الأكثرون هو القياس إذا قصد به ملوك الدنيا، إلا أنى لا أرى إلا ما رآه الماوردى؛ لأنه قد صحّ فى الحديث ما يدل على المنع لكنهم عن النقل بمعزل. ثم ساق حديث أبى هريرة الذى فى الصحيحين.

وابن الجوزى وافق على جواز التسمية بقاضى القضاة ونحوه. وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله بن القيم قال: وقال بعض العلماء: وفى معنى ذلك - يعنى: ملك الملوك - كراهية التسمية بقاضى القضاة، وحاكم الحكام؛ فإنّ حاكم الحكام

(1)

فى خطية إدارة الثقافة «شاه شاه» .

ص: 84

فى الحقيقة هو الله تعالى. وقد كان جماعة من أهل الدين والفضل يتورعون عن إطلاق لفظ قاضى القضاة، وحاكم الحكام، قياسا على ما يبغضه الله ورسوله من التسمية بملك الأملاك. وهذا محض القياس.

قلت: وكان شيخنا أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن جماعة الكنانى الشافعى - قاضى الديار المصرية، وابن قاضيها - يمنع الناس أن يخاطبوه بقاضى القضاة، أو يكتبوا له ذلك، وأمرهم أن يبدلوا ذلك بقاضى المسلمين.

وقال: إنّ هذا اللفظ مأثور عن على رضى الله عنه.

يوضح ذلك: أن التقليب بملك الملوك إنما كان من شعائر ملوك الفرس من الأعاجم المجوس ونحوهم. وكذلك كان المجوس يسمون قاضيهم «موبذ موبذان» يعنون بذلك: قاضى القضاة. فالكلمتان من شعائرهم، ولا ينبغى التسمية بهما. والله أعلم.

‌32 - عبد الوهاب بن رزق الله

بن عبد الوهاب التميمى، أبو الفضل بن أبى محمد المذكور قبله.

ذكره ابن السمعانى، فقال: كان فاضلا، متقنا، واعظا، جميل المحيا.

سمع أبا طالب بن غيلان. وحدثنا عنه عبد الوهاب الأنماطى. ثم ساق له حديثا، ثم قال: سمعت أبا الفضل بن ناصر يقول: مات أبو الفضل عبد الوهاب ابن أبى محمد التميمى يوم الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب.

وقد قدمنا أن أباه نقل معه إلى باب حرب فى هذا اليوم.

وذكر أبو الحسين فى الطبقات: أنه كان يحضر بين يدى أبيه فى مجالس وعظه بمقبرة الإمام أحمد، وينهض بعد كلامه قائما على قدميه، ويورد فصولا مسجوعة.

‌33 - عبد الواحد بن رزق الله

بن عبد الوهاب التميمى، أبو القاسم، أخو المذكور قبله.

ص: 85

ذكره ابن السمعانى أيضا، فقال: من أولاد الأئمة والمحدثين، قرأ القرآن والحديث والفقه. وكان من محاسن البغداديين فى الوعظ. ختم به بيته، ولم يعقب.

سمع أبا طالب بن غيلان، وحدث بشئ يسير.

قلت: وسمع هو وأخوه عبد الوهاب من القاضى أبى يعلى. ثمّ قال: سالت عبد الوهاب الأنماطى عنه؟ فقال: كان صدعا

(1)

. وكان يلبس الحرير.

وذكر ابن النجار: أنه كان يراسل به إلى الملوك فى أيام المستظهر، وأنه كان شديد القوة فى بدنه، وأنه حدّث بأصبهان.

وسمع منه محمد بن عبد الواحد الدقاق الحافظ.

وتوفى يوم الأحد سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة.

ودفن من الغد بمقبرة باب حرب عند أخيه أبى الفضل. رحمهم الله تعالى.

‌34 - على بن عمرو

بن على بن الحسن بن عمرو الحرانى، أبو الحسن بن الضرير، الفقيه، الزاهد.

صحب الشريف أبا القاسم الزيدى الحرّانى وأخذ عنه، وسمع منه. وتفقه ببغداد على القاضى. وكان من أكابر شيوخ حرّان.

ذكره أبو الفتح بن عبدوس، وغيره وحدّث بالإبانة الصغرى لا بن بطّة، سنة أربع وثمانين وأربعمائة بحران، بسماعه من الشريف الزيدى، بسماعه من ابن بطّة.

قرأت بخط بعض أصحابه أنه أنشدهم لغيره:

ولا تمش فوق الأرض إلاّ تواضعا

فكم تحتها قوم هم منك أرفع

فإن كنت فى عزّ، وحرز، ومنعة

فكم مات من قوم هم منك أمنع

وذكره أبو الحسين، فقال: الصالح التقى، صاحب الوالد السعيد.

توفى بسروج، فى شعبان سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.

وحكى لى ابنه خليفة، قال: حكى لى رجل من أهل سروج من الصالحين:

(1)

فى خطية إدارة الثقافة «صداعا» .

ص: 86

أنه رأى فى تلك الليلة قائلا يقول له: يا فلان، إلى متى تنام؟ قم، قد انهدم ربع الإسلام. قال: فانتبهت، وانزعجت، ثم عدت نمت، فرأيت القائل يقول:

كم تنام، قد انهدم ربع الإسلام. قال: فقعدت واستغفرت الله تعالى. وقلت:

إيش هذا؟ قال: ثمّ نمت، فقال لى يا فلان، قد انهدم ربع الإسلام. قد مات عليّ بن عمرو. قال: فأصبحت وقد مات رحمه الله تعالى.

‌35 - على بن المبارك الكرخى

النهرىّ، الفقيه أبو الحسن.

وقال ابن نقطة: هو علىّ بن محمد الفقيه، من أقران ابن عقيل.

قال أبو الحسين: تفقه على الوالد، ودرس فى حياته وبعد مماته. وكان كثير الذكاء، قيما بالفرائض.

سمع من الوالد الحديث الكثير.

وتوفى فى ذى القعدة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وصليت عليه إماما.

ودفن بمقبرة جامع المنصور.

قال: وسمعت أبا الحسن النهرى قال: كنت فى بعض الأيام أمشى مع القاضى الإمام والدك، فالتفت، فقال لى: لا تلتفت إذا مشيت؛ فإنه ينسب فاعل ذلك إلى الحمق.

قال: وقال لى يوما آخر - وأنا أمشى معه -: إذا مشيت مع من تعظمه، أين تمشى منه؟ قلت: لا أدرى، قال: عن يمينه، تقيمه مقام الإمام فى الصلاة، وتخلى له الجانب الأيسر، فإذا أراد أن يستنثر أو يزيل أذى جعله فى الجانب الأيسر.

‌36 - عبد الله بن جابر

بن ياسين بن الحسن بن محمد بن أحمد بن محمويه ابن خالد العسكرىّ، الحنائى، العطار، الفقيه، المحدث، أبو محمد ابن أبى الحسن.

ص: 87

ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة. وسمع الحديث من أبى على بن شاذان، وأبى القاسم بن بشران، وغيرهما وتفقه على القاضى أبى يعلى، واستملى عليه الحديث

قال ابن السمعانى: تفقه على القاضى أبى يعلى. وكان خال أولاده. وكان صدوقا، مليح المحاضرة، حسن الخط، بهىّ المنظر. وكان يستملى للقاضى أبى يعلى بجامع المنصور.

وقال القاضى أبو الحسين: علق عن الوالد قطعة من المذهب والخلاف.

وكتب أشياء من تصانيفه. وكان صادق اللهجة، حسن الوجه، مليح المحاضرة، كثير القراءة للقرآن، مليح الخط، حسن الحساب.

وذكر القاضى عياض: أنه سأل أبا على بن سكرة عنه؟ فقال: كان شيخا مستورا، فاضلا.

روى عنه القاضى أبو الحسين، وأبو القاسم بن السمرقندى، وعبد الوهاب الأنماطى، وعمر بن ظفر، وجماعة.

قال القاضى أبو الحسين: مات خالى يوم الأربعاء عشرين شوال سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وصليت عليه إماما. ودفن بمقبرة باب حرب. قريبا من قبر الإمام أحمد.

قال شجاع الذهلى: مات يوم الخميس حادى عشرين شوال.

قال ابن السمعانى: والأول هو الصواب؛ وإنما دفن يوم الخميس. وكان أبوه أبو الحسن جابر بن ياسين ثقة، من أهل السنة.

سمع من أبى حفص الكنانى، والمخلص، وجماعة. وحدّث.

روى عنه القاضى أبو بكر الأنصارى.

وتوفى سنة أربع وستين وأربعمائة فى شوال.

و «محمويه» فى نسبه: - بميم مفتوحة، ثم حاء مهملة، ثم ميم مضمومة.

هذا هو الصحيح. وذكره ابن السمرقندى: «حمويه» بلا ميم فى أوله. والحنائى أظنه منسوب إلى بيع الحناء.

ص: 88

‌37 - زياد بن على بن هارون

أبو القاسم الحنبلى الفقيه.

نزيل بغداد. سمع بها من أبى مسلم عمر بن على اللّيثى البخارىّ. وحدّث عنه بكتاب الوجيز لا بن خزيمة. سمعه منه أبو الحسن بن الزاغونى، وأبو الحسين ابن الأبنوسى، ورواه عنه.

وذكر هبة الله السقطى: أن زيادا الفقيه الحنبلى توفى فى طاعون، سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. رحمه الله تعالى.

‌38 - إسماعيل بن أحمد

بن محمد بن خيران البزّار الهمذانى

(1)

، أبو محمد الحافظ.

مكثر. سمع بنيسابور عبد الغافر الفارسى، وأبا عثمان الصابونى، وأخاه أبا يعلى، وأبا حفص بن مسرور. وبأصبهان أبا عمر بن منده، وغيره. وسمع ببلدان شتى. وحدّث ببغداد.

سمع منه أبو عامر العبدرى. وروى عنه ابن السقطى فى معجمه. وقال شيرويه الديلمى عنه. وهو الذى وصفه بالحنبلى

سمع عليه مشايخ الوقت بخراسان والجبل، وكان حافظا مكثرا، قديم الحديث.

وذكر ابن النجار: أنه توفى ببغداد يوم الأربعاء رابع عشرين المحرم سنة تسع وثمانين وأربعمائة، بالمارستان. ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى.

‌39 - محمد بن علي

بن الحسين بن جدا العكبرى، أبو بكر بن أبى الحسين المتقدم.

ذكره ابن الجوزى فى التاريخ، وقال: كان من العلماء. نزل يتوضأ فى دجلة فغرق، فى ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة.

وقال شجاع الذهلى: يوم الخميس خامس ربيع الأول.

(1)

فى خطية إدارة الثقافة «البزاز الهمدانى»

ص: 89

قال ابن النجار: سمع مع والده من أبى الحسين بن المهتدى حضورا سنة ست وستين وأربعمائة. ومات شابا. وما أظنه روى شيئا.

‌40 - عبد الباقي بن حمزة

بن الحسين الحدّاد، الفرضى، أبو الفضل.

ولد سنة خمس وعشرين وأربعمائة.

وذكره ابن السمعانى، فقال: شيخ صالح، خيّر. كان قد قرأ الفقه. وكانت له يد فى الفرائض والحساب.

سمع أبا محمد الجوهرى وغيره.

وروى لنا عنه أبو الغنائم سرايا بن هبة الله الحرانى، وأبو الفضل بن ناصر الحافظ. سألته عنه؟ فأحسن الثناء عليه ووثّقه، وقال: ثقة خيّر.

وذكر ابن النجار: أنه سمع أيضا من أبوى الحسين بن المهتدى، وابن حسنون، وأبى علىّ المبارك، وهناد النسفى، وغيرهم. وأنه حدّث باليسير.

وروى عنه سعيد بن الرزاز الفقيه، وأبو محمد المقرئ المعروف بسبط الخياط، وأبو بكر محمد بن خداداد الحداد.

توفى يوم السبت رابع عشر شعبان سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. ودفن فى مقبرة باب أبرز.

قلت: له كتاب «الإيضاح فى الفرائض» . رأيت منه المجلد الأول. وهو حسن جدا. صنفه على مذهب الإمام أحمد. وحرّر فيه نقل المذهب تحريرا جيدا

ومما ذكر فيه، فى باب توريث ذوى الأرحام، فى عمة لأبوين وعمة لأب وعمة لأم: المال بينهن على خمسة: للعمة من الأبوين ثلاثة أسهم، وللعمة من الأب سهم، وللعمة من الأم سهم. هذا إذا نزلناهن أبا، فأما إذا نزلناهن عمّا، ففى ذلك خلاف بين أصحابنا. فمنهم من قال: الأشبه بمذهبنا: أن يكون المال للعمة مع الأبوين، بمنزلة الأعمام المفرقين. ومنهم من قال: الأشبه أن يجعل

ص: 90

المال بينهن على خمسة، كأنّ العم مات وترك ثلاث أخوات مفترقات، كما قلنا فى الأب.

قال: وهذا هو المنصوص عن أحمد. وجدته فى كتاب الشافى لأبى بكر عبد العزيز، من رواية حرب بن إسماعيل.

سمعت أحمد قيل له فى ثلاث عمّات مفترقات؟ قال: على النصف والسدس.

قيل له: أليس المال للعمة من الأب والأم؟ قال: لا. وهذا نص.

قلت: لم يبين أحمد الأصل الذى تفرع عنه هذا الجواب، وهل هو تنزيل العمات أبا أو عمّا؟ وعنه فى ذلك روايات معروفة. لكنه لما أنكر أن يكون المال تختص به العمة للأبوين، ولم يفصل بين أن يقال: بتنزيلهن أبا أو عمّا، ظهر منه: أنه لا فرق فى ذلك بين تنزيلهن أبا أو عمّا. وهذا هو الصواب الذى عليه جمهور الأصحاب. والأول الذى ذكره ابن الحداد عن بعض الأصحاب، قد قاله الشيرازى فى المبهج وغيره، وجعلوا العمات بمنزلة الأعمام المفرقين.

وهذا مع مخالفته لنص أحمد، فهو ضعيف فى القياس أيضا؛ فإنّا لا ننزل العمات أعماما متفرقين بمنزلة إخوتهن حتى ننزل العمة لأم عمّا لأم. فإنه يلزم من ذلك سقوطها البتة؛ لأنه غير وارث. وإنما ننزلهن كلهن أعماما لأبوين بمنزلة أخيهن العم من الأبوين.

ولا يقال: فيلزم من ذلك أن يقتسموا المال بينهن بالسّويّة كالأعمام المتفقين؛ لأنّا نجعل المدلى به وهو العم كميّت ورثه أخواته، وهن العمات الثلاث، فيقتسمون المال على خمسة، كما قلنا مثل ذلك فى تنزيلهن أبا. ولا فرق بينهما.

فإن القاعدة: أنه إذا أدلى جماعة بوارث واحد، ولم يتفاضلوا بالسبق إليه فنصيبه بينهم على حسب ميراثهم منه لو ورثوه، سواء اختلفت منازلهم منه كالإخوة والأخوات المفترقين، أو تساوت كأولاده وإخوته المتفقين.

‌41 - محمد بن الحسن

بن جعفر الراذانى، المقرئ الفقيه الزاهد، نزيل أوانا أبو عبد الله.

ص: 91

ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة.

قال القاضى أبو الحسين: صحب الوالد. وكان زاهدا، ورعا، عالما بالقراءات وغيرها. وعدّه أيضا ممن تفقه على أبيه، وعلق عنه.

وذكر ابن النجار: أنه سمع من القاضى أبى يعلى، ومن أبى الغنائم بن المأمون، وأبى بكر بن حمدويه، وخلق. وأنه حدّث باليسير.

وروى عنه الحافظ أبو نصر اليونارتى فى معجمه، وقال: أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد أبو عبد الله الراذانى.

وقال ابن السمعانى: كان فقيها، مقرئا، من الزهاد المنقطعين، والعباد الورعين، مجاب الدعوة، صاحب كرامات. سمع من القاضى أبى يعلى وغيره.

سمعت الحسن بن حريفا الشيخ صالح باللجمة يقول: دخلت على أبى عبد الله الراذانى، واعتذرت عن تأخرى عنه، فقال: لا تعذر؛ فإن الاجتماع مقدّر.

وسمعت ظافر بن معاوية المقرئ بالخريبة

(1)

يقول: سمعت أن أبا عبد الله الراذانى، أراد أن يخرج إلى الصلاة، فجاء ابنه إليه، وكان صغيرا، وقال: يا أبى أريد غزالا ألعب به. فسكت الشيخ، فلحّ الصبى، وقال: لا بدّ لى من غزال، فقال له الشيخ: اسكت يا بنى، غدا يجيئك غزال. فمن الغد كان الشيخ قاعدا فى بيته، فجاء غزال ووقف على باب الشيخ، وكان يضرب بقرنيه الباب إلى أن فتحوا له الباب ودخل، فقال الشيخ لابنه: يا بنى، جاءك الغزال.

وذكر ابن النجار بإسناده: أن رجلا حلف بالطلاق أنه رآه بعرفة، ولم يكن الشيخ حج تلك السنة، فأخبر الشيخ بذلك فأطرق، ثم رفع رأسه، وقال:

أجمعت الأمة قاطبة على أن إبليس عدو الله يسير من المشرق إلى المغرب، فى إفتان مسلم أو مسلمة، فى لحظة واحدة، فلا ينكر لعبد من عبيد الله أن يمضى فى

(1)

فى خطية إدارة الثقافة «بالحربية»

ص: 92

طاعة الله بإذن الله فى ليلة إلى مكة ويعود. ثم التفت إلى الحالف، وقال: طب نفسا؛ فإن زوجتك معك حلال.

قال ابن الجوزى: كان الراذانى كثير التهجد، ملازما للصيام.

توفى رحمه الله يوم الأحد رابع عشر جمادى الأولى، سنة أربع وتسعين وأربعمائة. ودفن بأوانا.

‌42 - أبو الحسن بن زفر العكبرى

ذكره القاضى أبو الحسين فيمن تفقه على أبيه، وعلق عنه، وسمع منه.

وقال فى ترجمته: صحب الوالد، وسمع درسه. وكان صالحا، كثير التلاوة والتلقين للقرآن. وبلغنى أنه سرد الصوم خمسا وسبعين سنة.

ومات قبل أبى عبد الله بن الراذانى بأيام يسيرة وله تسعون سنة رحمه الله تعالى.

‌43 - محمد بن الحسن

بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن البردانى، الفقيه الزاهد، أبو سعد.

أحد الفقهاء من أصحاب القاضى أبى يعلى. سمع منه.

قال ابن النجار: وما أظنه روى شيئا.

قال ابن الخشاب: أنشدنى أبو بكر هبة الله بن أحمد الحفار، أنشدنى أبو سعد البرداني عند موته:

إنّ من يأمر بالص

بر من الصبر نفر

إنّ فى الصّدر من الصّ

بر كأينات تصرّ

قال: أنشدنيهما، ثم فاضت نفسه رحمه الله.

توفى يوم الأحد ثامن عشر المحرم سنة ست وتسعين وأربعمائة. ودفن فى مقبرة باب حرب.

ذكر ابن عقيل فى فنونه قال: وجدت رواية عن أحمد بخط أبى سعد البردانى: أن عبدة الأوثان يقرون بالجزية.

ص: 93

قال: وذكر ابن السمعانى: أنه مذهب أبى حنيفة. وهذا النقل عام فى العرب وغيرهم. وليست هذه الرواية المشهورة: أن الجزية تؤخذ من كل الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب؛ فإن هذه الرواية مشهورة عن أحمد، وهى معروفة فى كتب القاضى وغيرها، فلا يحتاج من دون ابن عقيل - فضلا عن ابن عقيل - فى نقلها إلى أن يجدها فى تعليق أبى سعد البردانى

‌44 - محمد بن عبيد الله

بن محمد بن أحمد بن كادش العكبرىّ، المحدث، المستملى، أبو ياسر.

مفيد أهل بغداد. ولد سنة سبع وعشرين وأربعمائة: وسمع، وكتب الكثير وأفاد الناس. وسمع الطلبة والغرباء بقراءته وإفادته الكثير.

سمع قديما من الجوهرى، والقاضى الماوردى، والقاضى أبى يعلى، وأبى الحسن ابن حسنون. وقرأ بنفسه الكثير على طراد، وابن البطى، وطبقتهما.

وحدّث باليسير.

روى عنه السمرقندى، والسلفى وقال عنه: كان قارئ بغداد، والمستملى بها على الشيوخ، ثقة، كثير السماع، ولم يكن له أنس بالعربية. وكان حنبلى المذهب، جهورى الصوت عند قراءة الحديث والاستملاء.

توفى فى يوم الاثنين رابع صفر سنة ست وتسعين وأربعمائة. ودفن بمقبرة باب حرب.

‌45 - أحمد بن محمد

بن أحمد بن محمد بن الحسن البردانى، المستملى، أبو على الحافظ. وقد سبق ذكر والده أبى الحسن.

ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة. وسمع من العشارى سنة ثلاث وثلاثين.

وهو أول سماعه. ومن أبى القاسم الأزجى، وأبى الحسن القزوينى، وابن غيلان، والبرمكى، والخطيب، وغيرهم. وكتب الكثير وخرّج، وانتقى، واستملى.

وتفقه على القاضى أبى يعلى.

ص: 94

قال أبو الحسين فى الطبقات: سمع درس الوالد سنين، وسمع منه الحديث الكثير. وكان أحد المستملين عليه بجامع المنصور.

قال ابن السمعانى: كان أحد المتميزين فى صنعة الحديث.

وقال ابن الجوزى: كان ثقة، ثبتا، صالحا، له معرفة تامة بالحديث.

وقال غيره: كان بصيرا بالحديث، محققا حجة. سمع منه جماعة، وحدّث عنه علىّ بن طرّاد، وإسماعيل التميمى، والسلفى، وسأله عن أحوال جماعة؟ فأجاب وأجاد.

قال السلفى: كان أبو علىّ أحفظ وأعرف من شجاع الذهلى. وكان ثقة، نبيلا، له تصانيف.

قال الذهبى: جمع مجلدا فى المنامات النبوية.

قلت: وله جزء فى صلاة النبى صلى الله عليه وسلم خلف أبى بكر الصديق.

ونقل السلفى عن خميس الجوزى الحافظ قال: كان أبو على بن البردانى أحد الحفاظ الأئمة الذين يعلمون ما يقولون.

توفى ليلة الخميس حادى عشرين شوال، سنة ثمان وتسعين وأربعمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب.

وفى الطبقات لأبى الحسين: أنه توفى عشية الأربعاء عاشر شوال.

‌46 - محمد بن أحمد

بن على بن عبد الرزاق، الشيرازى الأصل، البغدادى، الصّفّار، المقرئ، الزاهد، المعروف بأبى منصور الخياط.

ولد سنة إحدى وأربعمائة، فى شوال - أو ذى القعدة - وقرأ القرآن على أبى نصر أحمد بن عبد الوهاب بن مسرور، وغيره. وسمع الحديث فى كبره من أبى القاسم ابن بشران، وأبى منصور بن السواق، وأبى طاهر عبد الغفار بن محمد المؤدب، والحسين بن محمد الخلال، وأبى الحسن القزوينى وغيرهم.

ص: 95

وتفقه على القاضى أبى يعلى. وصنف كتاب «المهذب فى القراءات» وروى الحديث الكثير.

وروى عنه سبطه أبو محمد عبد الله بن على المقرئ وأخوه أبو عبد الله الحسين، وعبد الوهاب بن الأنماطى، وابن ناصر، والسلفى، وسعد الله بن الدجاجى، وأبو الفضل خطيب الموصل وغيرهم.

وكان إماما بمسجد ابن جرده ببغداد، بحريم دار الخلافة. اعتكف فيه مدة طويلة، يعلّم العميان القرآن، لوجه الله تعالى، ويسأل لهم، وينفق عليهم. فختم عليه القرآن خلق كثير، حتى بلغ عدد من أقرأهم القرآن من العميان سبعين ألفا.

قال ابن النجار: هكذا رأيته بخط أبى نصر اليونارتى الحافظ. وقد زعم بعض الناس أن هذا مستحيل، وأنه من سبق القلم. وإنما أراد: سبعين نفسا.

وهذا كلام ساقط؛ فإن أبا منصور قد تواتر عنه إقراء الخلق الكثير فى السنين الطويلة.

قال ابن الجوزى: أقرأ السنين الطويلة. وختم عليه القرآن ألوف من الناس

وقال القاضى أبو الحسين: أقرأ بضعا وستين سنة، ولقن أمما. وهذا موافق لما قاله أبو نصر. وهذا أمر مشهور عن أبى منصور، فيكون جميع من ختم عليه القرآن سبعين نفسا. وهذا باطل قطعا. ونحن نرى آحاد المقرئين يختم عليه أكثر من سبعين نفسا. وإنما كان الشيخ أبو منصور يقرئ هو بنفسه وبأصحابه هذه المدد الطويلة، فاجتمع فيها إقراء هذا العدد الكثير.

قال ابن الجوزى: كان أبو منصور من كبار الصالحين الزاهدين المتعبدين.

كان له ورد بين العشاءين، يقرأ فيه سبعا من القرآن قائما وقاعدا، حتى طعن فى السن.

وقال ابن ناصر عنه: كان شيخا صالحا، زاهدا، صائما أكثر وقته، ذا كرامات ظهرت له بعد موته.

ص: 96

قال أبو الحسين: كان الوالد السعيد إذا جلس للحكم بنهر المعلى يقصد الجلوس للحكم بمسجده ويصلى خلفه.

قال عبد الوهاب الأنماطى: توفى الشيخ الزاهد أبو منصور، فى يوم الأربعاء، وقت الظهر، السادس عشر من المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة.

وصلّى عليه يوم الخميس فى جامع القصر ابن ابنته أبو محمد عبد الله. وكان الجمع كثيرا جدا. وعبر به إلى جامع المنصور، فصلى عليه أيضا، وحضرت ذلك.

وكان الجمع وافرا عظيما. وكانت الصلاة عليه فى داخل المقصورة عند القبلة.

ومضيت معه إلى باب حرب. ودفن فى الدكة بجنب الشيخ أبى الوفاء بن قواس.

وقال ابن الجوزى: مات وسنة سبع وتسعون سنة، ممتعا بسمعه وبصره وعقله. وحضر جنازته ما لا يحد من الناس، حتى إن الأشياخ ببغداد كانوا يقولون: ما رأينا جمعا قط هكذا، لا جمع ابن القزوينى، ولا جمع ابن الفراء، ولا جمع الشريف أبى جعفر. وهذه الجموع التى تناهت إليها الكثرة، وشغل الناس ذلك اليوم وفيما بعده عن المعاش، فلم يقدر أحد من نقاد الباعة فى ذلك الأسبوع على تحصيل نقده.

وقال أبو منصور بن خيرون: ما رأيت مثل يوم صلّى على أبى منصور الخياط، من كثرة الخلق والتبرك بالجنازة.

وقال السلفى: ذكر لى المؤتمن فى ثانى جمعة من وفاة الشيخ أبى منصور:

أن اليوم ختموا على رأس قبره مائتى وإحدى وعشرين ختمة.

قال السلفى: وقال لى على بن محمد بن الأيسر العكبرى - وكان رجلا صالحا -: حضرت جنازة الشيخ الاجل أبى منصور بن يوسف، وأبى تمام بن أبى موسى القاضى، فلم أرقط خلقا أكثر ممن حضر جنازة الشيخ أبى منصور.

قال: واستقبلنا يهوديّ فرأى كثرة الزحام والخلق، فقال: أشهد أن هذا الدين هو الحق، وأسلم.

ص: 97

وذكر ابن السمعانى: سمعت أبا حفص عمر بن المبارك بن سهلان، سمعت الحسين بن خسرو البلخى، قال: رئى الشيخ أبو منصور الخياط فى النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لى بتعليمى الصبيان فاتحة الكتاب.

قرأت على أبى حفص عمر بن حسن المزى: أخبركم إسماعيل بن عبد الرحمن الفراء أنبأنا الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد المقدسى قال: قرأت على أبى عبد الله مظفر بن أبى نصر البواب، وابنه أبى محمد عبد الله بن مظفر ببغداد، قلت لهما:

حدثكما الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر قال: كنت أسمع الفقهاء فى النظامية يقولون: فى القرآن معنى قائم بالذات، والحروف والأصوات عبارات ودلالات على الكلام القديم القائم بالذات، فحصل فى قلبى شئ من ذلك حتى صرت أقول بقولهم موافقة. وكنت إذا صليت أدعو الله تعالى أن يوفقنى لأحبّ المذاهب والاعتقادات إليه، وبقيت على ذلك مدة طويلة أقول: اللهم وفقنى لأحب المذاهب إليك وأقر بها عندك.

فلما كان فى أول ليلة من رجب سنة أربع وتسعين وأربعمائة رأيت فى المنام كأنى قد جئت إلى مسجد الشيخ أبى منصور الخياط، والناس على الباب مجتمعون، وهم يقولون: إن النبى صلى الله عليه وسلم عند الشيخ أبى منصور، فدخلت المسجد، وقصدت إلى الزاوية التى كان يجلس فيها الشيخ أبو منصور، فرأيته قد خرج من زاويته، وجلس بين يدى شخص، فما رأيت شخصا أحسن منه على نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم الذى وصف لنا. وعليه ثياب ما رأيت أشد بياضا منها، وعلى رأسه عمامة بيضاء. والشيخ أبو منصور مقبل عليه بوجهه، فدخلت فسلمت، فردّ علىّ السلام، ولم أتحقق من الرادّ علىّ؛ لدهشتى برؤية النبىّ صلى الله عليه وسلم. وجلست بين أيديهما، فالتفت إلى النبى صلى الله عليه وسلم من غير أن أسأله عن شئ، أو أستفتحه بكلام أصلا، وقال لى: عليك بمذهب هذا الشيخ. عليك بمذهب هذا الشيخ. عليك بمذهب هذا الشيخ.

ص: 98

قال الحافظ أبو الفضل: وأنا أقسم بالله ثلاثا، وأشهد بالله لقد قال لى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا. ويشير فى كل مرة بيده اليمنى إلى الشيخ أبى منصور.

قال: فانتبهت وأعضائى ترعد، فناديت والدتى رابعة بنت الشيخ أبى حكيم الحبرى، وحكيت لها ما رأيت، فقالت: يا بنى، هذا منام وحى، فاعتمد عليه.

فلما أصبحت بكرت إلى الصلاة خلف الشيخ أبى منصور. فلما صلينا الصبح قصصت عليه المنام، فدمعت عيناه، وخشع قلبه، وقال لى: يا بنى، مذهب الشافعى حسن، فتكون على مذهب الشافعى فى الفروع، وعلى مذهب أحمد وأصحاب الحديث فى الأصول، فقلت له: أى سيدى، ما أريد أكون لونين.

وأنا أشهد الله وملائكته وأنبيائه، وأشهدك على أبى منذ اليوم لا أعتقد ولا أدين الله ولا أعتمد إلا على مذهب أحمد فى الأصول والفروع. فقبّل الشيخ أبو منصور رأسى، وقال: وفقك الله، فقبّلت يده.

وقال لى الشيخ أبو منصور: أنا كنت فى ابتدائى شافعيا. وكنت أتفقه على القاضى الإمام أبى الطيب الطبرى، وأسمع الخلاف عليه. فحضرت يوما عند الشيخ أبى الحسن علىّ بن عمر القزوينى الزاهد الصالح لأقرأ عليه القرآن، فابتدأت أقرأ عليه القرآن، فقطع على القراءة مرة أو مرتين، ثم قال: قالوا وقلنا، وقلنا وقالوا. فلا نحن نرجع إليهم، ولا هم يرجعون إلى قولنا، ورجعنا إلى عادتنا. فأىّ فائدة فى هذا؟ ثم كرر علىّ هذا الكلام، فقلت فى نفسى: والله ما عنى الشيخ بهذا أحدا غيرى، فتركت الاشتغال بالخلاف. وقرأت مختصر أبى القاسم الخرقى على رجل كان يقرئ القرآن.

قال الحافظ: ورأيت بعد ذلك ما زادنى يقينا، وعلمت أنّ ذلك تثبيت من الله، وتعليم لأعرف حق نعمة الله علىّ وأشكره، والله المسئول الخاتمة بالموت على الإسلام والسنة. آمين.

ص: 99

‌47 - جعفر بن أحمد

بن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج، المقرئ، المحدث، الأديب أبو محمد.

ولد سنة سبع عشرة وأربعمائة فى آخرها - أو فى أول سنة ثمان عشرة - ذكره السلفى عنه.

وقال شجاع الذهلى: سنة ست عشرة.

وقرأ القرآن بالروايات. وأقرأ سنين.

وسمع أبا على بن شاذان، وأبا محمد الخلال، وأبا القاسم بن شاهين، والبرمكى والقزوينى، وخلقا كثيرا.

وسافر إلى مكة، وسمع بها، ودخل الشام، وسمع بدمشق من عبد العزيز الكنانى والخطيب وغيرهما. وسمع بطرابلس، وتوجه إلى الديار المصرية، فسمع بها من أبى إسحاق الحبال وأبى محمد بن الضراب. وخرّج له الخطيب خمسة أجزاء معروفة، تسمى السراجيات.

وكان أدبيا شاعرا، لطيفا صدوقا، ثقة. وصنف كتبا حسانا، منها:

كتاب «مصارع العشاق» وكتاب «حكم الصبيان» وكتاب «مناقب السودان» . وشعره مطبوع. وقد نظم كتبا كثيرة شعرا، فنظم كتاب «المبتدأ» وكتاب «مناسك الحج» وكتاب «الخرقى» وكتاب «التنبيه» وغيرها.

ذكر ذلك ابن الجوزى، وقال: حدثنا عنه أشياخنا. وآخر من حدثنا عنه شهدة بنت الإبرى، قال: وقرأت عليها كتابه المسمى «بمصارع العشاق» بسماعها منه.

قال: ومن أشعاره:

بان الخليط فأدمعى

وجدا عليهم تستهلّ

وحدا بهم حادى الفرا

ق عن المنازل فاستقلوا

ص: 100

قل للذين ترحّلوا

عن ناظرى والقلب حلوا

ودمى بلا جرم أتي

ت غداة بينهم استحلّوا

ما ضرّهم لو أنهلو

من ماء وصلهم وعلوا

قال: وأنبأنا أبو المعمر الأنصارى، أنشدنا جعفر السراج لنفسه:

قل للذين بجهلهم

أضحوا يعيبون المحابر

والحاملين لها من الأ

يدى بمجتمع الأساور

لولا المحابر والمقا

لم والصحائف والدفاتر

والحافظون شريعة الم

بعوث من خير العشائر

والناقلون حديثه

عن كابر ثبت وكابر

لرأيت من شيع الضلا

ل عساكرا تتلو عساكر

كل يقول بجهله

والله للمظلوم ناصر

سميتم أهل الحد

يث: أولى النهى وأولى البصائر

حشوية فعليكم

لعن يزيركم المقابر

هم حشو جنات النع

يم على الأسرة والمنابر

رفقاء أحمد كلهم

عن حوضه ريان صادر

أنبأنا أحمد بن على الجزرى، عن محمد بن عبد الهادى، عن أبى طاهر السلفى أنشدنا أبو محمد جعفر بن محمد السراج لنفسه:

سقى الله قبرا حلّ فيه ابن حنبل

من الغيث وسميّا على إثره ولى

على أن دمعى فيه روّى عظامه

إذا فاض ما لم يبل منها وما بلى

فلله رب الناس مذهب أحمد

فإنّ عليه ما حييت معوّلى

دعوه إلى خلق القرآن كما دعوا

سواه فلم يسمع ولم يتأوّل

ولا ردّه ضرب السياط وسجنه

عن السّنّة الغراء والمذهب الجلى

ولما يزدهم، والسياق تنوشه

فشلّت يمين الضارب المتبتل

ص: 101

على قوله: القرآن، وليشهد الورى

كلامك يا ربّ الورى، كيفما ما تلى

فمن مبلغ أصحابه أننى به

أفاخر أهل العلم فى كل محفل

وألقى به الزهاد كلّ مطلّق

من الخوف دنياه طلاق التبتل

مناقبه إن لم تكن عالما بها

فكشفا طروس القوم عنهن واسأل

لقد عاش فى الدنيا حميدا موفقا

وصار إلى الأخرى إلى خير منزل

وإنّي لراج أن يكون شفيع من

تولاّه من شيخ ومن متكهل

ومن حدث قد نوّر الله قلبه

إذا سألوا عن أصله. قال: حنبلى

وقد روى هذه الأبيات عن جعفر الحافظان: محمد بن ناصر، ويحيى بن منده.

وساقها فى كتابه «مناقب أحمد» .

وقد أثنى عليه شجاع الذهلى، وعبد الوهاب الأنماطى، وابن ناصر، وقال:

كان ثقة، مأمونا عالما، فهما صالحا.

كتب الكثير. وصنّف عدّة مصنفات وكان قديما يستملى على أبى الحسن القزوينى، وأبى محمد الخلال، وغيرهما.

قال القاضى عياض: سألت أبا على بن سكرة عن جعفر السراج؟ فقال:

شيخ فاضل جميل وسيم مشهور يفهم. عنده لغة وقراءات. وكان الغالب عليه الشعر.

وذكره القاضى أبو بكر بن العربى، فقال: ثقة، عالم، مقرئ. له أدب ظاهر، واختصاص بالخطب.

وقال السلفى: كان ممن يفتخر برويته وروايته لديانته ودرايته. وله تواليف مفيدة. وفى شيوخه كثرة. وأعلاهم إسنادا ابن شاذان.

وقال ابن النجار: كتب بخطه الكثير، وكانت له معرفة بالحديث والأدب وحدّث بالكثير على استقامة وسداد، ببغداد، والشام، ومصر.

ص: 102

وسمع منه الأئمة الكبار والحفاظ. وكان متدينا حسن الطريقة، مع ظرفه ولطف أخلاقه.

روى عنه أبو القاسم بن السمرقندى، وعبد الوهاب الأنماطى، وابن ناصر، والسلفى، وغيرهم.

ومن شعر جعفر السراج:

لله درّ عصابة

يسعون فى طلب الفوائد

يدعون أصحاب الحدي

ث بهم تجلت المشاهد

طورا تراهم بالصعي

د وتارة فى ثغر آمد

يتتبعون من العلو

م بكل أرض كلّ شارد

فهم النجوم المهتدى

بهم إلى سبل المقاصد

وله:

إذا كنتم تكتبون الحدي

ث ليلا وفى صبحكم تسمعون

وأفنيتم فيه أعماركم

فأىّ زمان به تعملون؟

قال ابن الجوزى: كان جعفر السراج صحيح البدن، لم يعتوره فى عمره مرض يذكر، فمرض أياما.

وتوفى ليلة الأحد العشرين من صفر سنة خمسمائة. ودفن بالمقبرة المعروفة بالأجمة من باب أبرز.

وقيل: مات ليلة الأحد، حادى عشرين صفر. كذا قال ابن ناصر والذهلى.

ص: 103

‌وفيات المائة السادسة

من سنة 501 هـ - إلى سنة 540 هـ

‌48 - رجب بن قحطان

بن الحسن بن قحطان الأنصارى، الضرير أبو المعالى المقرئ الأديب.

سمع من أبى الحسين بن النقور. وحدّث باليسير. سمع منه هزار سب ابن عوض وغيره.

وقال أبو الفضل بن عطّاف: كان من مجوّدى القراء، والمحسنين فى الأداء ذا فضل وعقل وأدب.

توفى سنة اثنتين وخمسمائة.

ومن شعره أنشده عنه أبو بكر المزرفى:

إنما المرء خلاص جائز

فإذا جربته فهو شبه

وتراه راقدا فى غفلة

فهو حىّ فإذا مات انتبه

‌49 - أحمد بن على

بن أحمد العلثى، أبو بكر الزاهد.

ذكره أبو الحسين، وابن الجوزى فى الطبقات فقال: أحد المشهورين بالزهد والصلاح. سمع الحديث على القاضى أبى يعلى، وقرأ عليه شيئا من المذهب.

وقال أبو الحسين: صحب الوالد سنين. سمع درسه والحديث منه. وكان يعمل بيده يجصص الحيطان، ثم ترك ذلك، ولازم المسجد يقرئ القرآن ويؤم الناس وكان عيفا لا يقبل من أحد شيئا، ولا يسأل أحدا حاجة لنفسه من أمر الدنيا، مقبلا على شأنه ونفسه، مشتغلا بعبادة ربه، كثير الصوم والصلاة، مسارعا إلى قضاء حوائج المسلمين، مكرما عند الناس أجمعين.

وكان يذهب بنفسه كل ليلة إلى دجلة، فيأخذ فى كوز له ماء يفطر عليه.

ص: 104

وكان يمشى بنفسه فى حوائجه ولا يستعين بأحد. وكان إذا حج يزور القبور بمكة، ويجئ إلى قبر الفضيل بن عياض، ويخط بعصاه، ويقول: يا رب ههنا، يا رب ههنا. فاتفق أنه خرج فى سنة ثلاث وخمسمائة إلى الحج. وكان قد وقع من الجمل فى الطريق دفعتين، فشهد عرفة محرما، وبه بقية من ألم الوقوع.

وتوفى عشية ذلك اليوم - يوم الأربعاء، يوم عرفة - فى أرض عرفات.

فحمل إلى مكة، فطيف به البيت. ودفن يوم النحر إلى جنب قبر الفضيل ابن عياض رضى الله عنه.

وذكره فى التاريخ أيضا، فذكره نحوا من ذلك. وقال: كان يتنزه عن عمل النقوش والصور. وكان له عقار قد ورثه عن أبيه، فكان يبيع منه شيئا فشيئا، فيتقوّت به.

وذكر أبو الحسين: أن سبب تركه لصناعته: أنه دخل مرة مع الصناع إلى بعض دور السلاطين مكرها. وكان فيها صور من الاسفيداج مجسمة، فلما خلا كسرها كلها، فاستعظموا ذلك. فقال: هذا منكر، والله أمر بكسره فانتهى أمره إلى السلطان، وقيل له: هذا رجل صالح مشهور بالديانة، وهو من أصحاب ابن الفراء، فقال: يخرج، ولا يكلم، ولا يقال له شئ يضيق به صدره، ولا يرجع يجاء به إلى عندنا.

قال: وظهر له من الكرامات غير قليل.

أخبرنى من أثق به: أنه كان لبعض أهله صبى صغير، فظهر به وجع فى حلقه ورقبته، وخافوا منه على الصبيّ، فحمله إلى الشيخ فقرأ عليه، ونفث من ريقه، فزال ما كان به بعد يوم أو يومين، ولم يحتج إلى علاج.

قال ابن الجوزى: وصحب القاضى أبا يعلى. وقرأ عليه طرفا من الفقه، وسمع منه الحديث، وحدّث عنه بشئ يسير.

قلت: روى عنه ابن ناصر، والسلفى. ولما بلغ خبر موته إلى بغداد نودى

ص: 105

فى البلد بالصلاة عليه صلاة الغائب، فحضر الناس فى جامعى بغداد من الجانبين.

وحضر أصحاب دولة المستظهر بالله أمير المؤمنين. وتقدم للصلاة عليه فى الجانب الشرقى بعض أصحاب القاضى.

قال أبو الحسين: وصليت عليه أنا فى مسجدى بباب المراتب، لعذر، وصلّى معى جماعة.

‌50 - محمد بن على

بن محمد بن عثمان بن المراق الحلوانى، أبو الفتح الفقيه الزاهد.

ولد سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. وسمع الحديث من أبى الحسين بن المهتدى وأبى الغائم بن المأمون، والقاضى أبى على، وأبى جعفر بن المسلمة، والصريفينى، والنهروانى، وغيرهم.

ورأى القاضى أبا يعلى وصحبه مدة يسيرة، ثم تفقه على صاحبيه الفقيهين:

أبى على يعقوب، وأبى جعفر الشريف. ودرس عليهما الفقه أصولا وفروعا، حتى برع فيهما. وأفتى، ودرس بمسجد الشريف أبى جعفر بالحريم بعد شافع.

وحدّث بشئ يسير.

قال ابن شافع: كان ذا زهادة وعبادة. وروى عنه السلفى فى مشيخته، وقال: كان من فقهاء الحنابلة ببغداد. وكان مشهورا بالورع الثخين، والدين المتين.

توفى يوم الجمعة - يوم عيد النحر - سنة خمس وخمسمائة، وصلّى عليه من الغد يوم السبت بالجامع. وكان الجمع متوفرا جدا، لا يعلم عددهم إلا الله تعالى. ودفن بمقبرة باب حرب.

وقال المبارك بن كامل: توفى يوم الجمعة حادى عشر ذى الحجة.

قلت: له كتاب «كفاية المبتدى» فى الفقه مجلدة، ومصنف آخر فى الفقه أكبر منه، ومصنف فى أصول الفقه فى مجلدين، وله «مختصر العبادات» . قاله ابن النجار.

ص: 106

‌51 - المعمر بن علي

بن المعمر بن أبى عمامة البقال البغدادىّ، أبو سعد الفقيه الواعظ. ريحانة البغداديين

ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائة. وسمع من ابن غيلان، وأبى محمد الخلال والجوهرىّ، وأبى القاسم الأزجى، وغيرهم.

وكان فقيها مفتيا، وواعظا بليغا فصيحا، له قبول تام، وجواب سريع، وخاطر حاد، وذهن بغدادىّ. وكان يضرب به المثل فى حدّة الخاطر، وسرعة الجواب بالمجون، وطيب الخلق، وله كلمات فى الوعظ حسنة، ورسائل مستحسنة.

وجمهور وعظه حكايات السلف. وكان يحصل بوعظه نفع كثير. وكان فى زمن أبى على بن الوليد شيخ المعتزلة، يجلس فى مجلسه، ويلعن المعتزلة.

وخرج مرة فلقى مغنية قد خرجت من عند تركى فقبض على عودها، وقطع أوتارها، فعادت إلى التركىّ فأخبرته، فبعث من كبس دار أبى سعد وأفلت، واجتمع بسبب ذلك الحنابلة، وطلبوا من الخليفة إزالة المنكرات كلها، كما سبق ذكر ذلك فى ترجمة الشريف أبى جعفر.

وكان أبو سعد يعظ بحضرة الخليفة المستظهر والملوك. وقال يوما للمستظهر فى وعظه: أهون ما عنده أن يجعل لك أبواب العراص توابيت.

ووعظ «نظام الملك» الوزير مرة بجامع المهدى، فقال:

الحمد لله ولى الإنعام، وصلّى الله على من هو للأنبياء ختام، وعلى آله سرج الظلام، وعلى أصحابه الغرّ الكرام. والسلام على صدر الإسلام. ورضىّ الإمام. زينه الله بالتقوى، وختم له بالحسنى، وجمع له بين خير الآخرة والدنيا.

معلوم يا صدر الإسلام، أن آحاد الرعية من الأعيان مخيّرون فى القاصد والوافد:

إن شاءوا وصلوا، وإن شاءوا فصلوا، وأما من توشح بولاية فليس مخيرا فى القاصد والوافد؛ لأن من هو على الخليفة أمير، فهو فى الحقيقة أجير، قد باع زمنه وأخذ ثمنه. فلم يبق له من نهاره ما يتصرف فيه على اختياره، ولا له أن يصلى

ص: 107

نفلا،، ولا يدخل معتكفا، دون الصدد لتدبيرهم، والنظر فى أمورهم، لأن ذلك فضل، وهذا فرض لازم.

وأنت يا صدر الإسلام، وإن كنت وزير الدولة، فأنت أجير الأمة، استأجرك جلال الدولة بالأجرة الوافرة؛ لتنوب عنه فى الدنيا والآخرة، فأما فى الدنيا: ففى مصالح المسلمين. وأمّا فى الآخرة: فلتجيب عنه ربّ العالمين. فإنه سيقفه بين يديه، فيقول له: ملّكتك البلاد، وقلدتك أزمّة العباد. فما صنعت فى إفاضة البذل، وإقامة العدل؟ فلعله يقول: يا ربّ اخترت من دولتى شجاعا عاقلا، حازما فاضلا، وسمّيته قوام الدين ونظام الملك، وها هو قائم فى جملة الولاة وبسطت بيده فى الشرط والسيف والقلم، ومكنته فى الدينار والدرهم، فاسأله يا ربّ:

ماذا صنع فى عبادك وبلادك؟.

أفتحسن أن تقول فى الجواب: نعم، تقلدت أمور البلاد، وملكت أزمة العباد، وبثثت النوال، وأعطيت الإفضال، حتى إذا قربت من لقائك، ودنوت من تلقائك، اتخذت الأبواب والبواب، والحجاب والحجاب؛ ليصدّوا عنى القاصد، ويردّوا عنى الوافد؟.

فاعمر قبرك كما عمرت قصرك، وانتهز الفرصة ما دام الدهر يقبل أمرك، فلا تعتذر، فما ثمّ من يقبل عذرك.

وهذا ملك الهند. وهو عابد صنم ذهب سمعه، فدخل عليه أهل مملكته يعزونه فى سمعه، فقال: ما حسرتى لذهاب هذه الجارحة من بدنى، ولكن تأسفى لصوت المظلوم لا أسمعه فأغيثه، ثم قال: إن كان قد ذهب سمعى فما ذهب بصرى فليؤمر كل ذى ظلامة أن يلبس الأحمر، حتى إذا رأيته عرفته فأنصفته.

وهذا «أنوشروان» قال له رسول ملك الروم: لقد أقدرت عدوّك عليك بتسهيل الوصول إليك. فقال: إنما أجلس هذا المجلس لأكشف ظلامة، وأقضى حاجة.

ص: 108

وأنت يا صدر الإسلام، أحق بهذه المأثرة، وأولى بهذه وأحرى من أعدّ جوابا لتلك المسألة، فإنّه الله الّذى (90:19 {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ)} فى موقف ما فيه إلا خاشع، أو خاضع أو مقنع، فينخلع فيه القلب، ويحكم فيه الرب، ويعظم فيه الكرب، ويشيب فيه الصغير، ويعزل فيه الملك والوزير، يوم (23:89 {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنّى لَهُ الذِّكْرى؟)،} (30:3 {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)}.

وقد استجلبت لك الدعاء، وخلدت لك الثناء، مع براءتى من التهمة.

فليس لى - بحمد الله تعالى - فى أرض الله ضيعة ولا قرية، ولا بينى وبين أحد خصومة، ولا بى - بحمد الله تعالى - فقر ولا فاقة.

فلما سمع «نظام الملك» هذه الموعظة بكى بكاء شديدا، وأمر له بمائة دينار.

فأبى أن يأخذها، وقال: أنا فى ضيافة أمير المؤمنين. ومن يكن فى ضيافة أمير المؤمنين يقبح عليه أن يأخذ عطاء غيره. فقال له: فضّها على الفقراء، فقال:

الفقراء على بابك أكثر منهم على بابى، ولم يأخذ شيئا.

توفى أبو سعد يوم الاثنين ثامن عشرين ربيع الأول، سنة ست وخمسمائة، ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

قال ابن الجوزى: حكى أبو المكارم بن رميضاء السقلاطونى قال:

رأيت أبا سعد بن أبى عمامة فى المنام، حين اختصم المسترشد والسلطان محمود، وعليه ثياب بياض فسلمت عليه، وقلت: من أين أقبلت؟ قال: من عند الإمام أحمد بن حنبل، وها هو ورائى، فالتفت فرأيت أحمد بن حنبل، ومعه جماعة من أصحابه، فقلت: إلى أين تقصدون؟ قال: إلى أمير المؤمنين المسترشد بالله لندعو له، فصحبتهم، فانتهينا إلى الحربية إلى مسجد ابن القزوينى. فقال أحمد بن حنبل: ندخل، فأخذ الشيخ معنا، فدخل باب المسجد. فقال: السلام

ص: 109

عليكم ورحمة الله وبركاته. فإذا الصوت من صدر المسجد: وعليك السلام، ثم قال: يا أبا عبد الله، الإمام قد نصر. قال: فانتبهت مرعوبا. وكان كما قال الشيخ.

‌52 - جعفر بن الحسن

الدّرزيجانى، المقرئ، الفقيه، الزاهد.

ذكره القاضى أبو الحسين فيمن تفقه على أبيه، وعلق وسمع الحديث. ثم ذكر ترجمته كما ذكرها ابن شافع فى تاريخه، فقال: هو الأمّار بالمعروف، والنّهاء عن المنكر، ذو المقامات المشهودة فى ذلك، والمهيب بنور الإيمان واليقين لدى الملوك والمتصرفين.

صحب القاضى أبا يعلى، وتفقه عليه، ثم تمم على صاحبه الشريف أبو جعفر.

وختم عليه القرآن خلق لا يحصون كثرة.

وكان من عباد الله الصالحين، أمّارا بالمعروف، قوّالا بالحق، ناهيا عن المنكر، لا تأخذه فى الله تعالى لومة لائم، مهيبا وقورا، له حرمة عند الملوك والسلاطين، ولا يتجاسر أحد أن يقدم عليه إذا أنكر منكرا. وله المقامات المشهودة فى ذلك. مداوما للصيام والتهجد والقيام. وله ختمات كثيرة جدا، كل ختمة منها فى ركعة واحدة. وسمع الحديث من أبى علي بن البناء.

توفى فى الصلاة ساجدا، فى شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسمائة، بدرزيجان. رحمه الله تعالى.

قال المبارك بن كامل: سمعت عبد الوهاب بن قاسم بن علي الشعرانى قال:

رأيت جعفر الدرزيجانى جاء إلى بغداد، فالتقى به أبو الحسين الدرزيجانى، فقال له: كيف تركت الصبيان؟ فقال له (9:3 {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)} تقوى الله لنا ولهم.

‌53 - على بن محمد

بن علي بن أحمد بن إسماعيل الأنبارى، القاضى أبو منصور، الفقيه الواعظ.

ص: 110

ولد يوم الخميس خامس عشرين ذى الحجة، سنة خمس وعشرين وأربعمائة.

وقرأ القرآن على ابن الشرمقانى.

وسمع الحديث من أبى طالب بن غيلان، والجوهرى، وأبى إسحاق البرمكى، وأبى بكر بن بشران، وأبى محمد الصريفينى، وأبى الحسين بن المهتدى، وأبى الغنائم ابن المأمون، وأبى جعفر بن المسلمة، وأبى بكر الخطيب، وغيرهم.

وسمع من القاضى أبى يعلى. وتفقه عليه حتى برع فى الفقه. وأفتى ووعظ بجامع القصر وجامع المنصور وجامع المهدى. وكان مظهرا للسنة فى مجالسه.

وشهد عند أبى عبد الله بن الدامغانى، وأبى بكر السامى، وغيرهما. وولى القضاء بباب الطّاق وحدث وانتشرت الرواية عنه. فروى عنه عبد الوهاب الأنماطى، وعبد الخالق بن أحمد بن يوسف، وأبو المعمر الأنصارى، والمبارك ابن خضير، والسلفى.

توفى يوم السبت رابع عشرين جمادى الآخرة، سنة سبع وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. وتبعه من الخلق ما لا يحصى كثرة، ولا يعدّهم إلا أسرع الحاسبين. كذا ذكره ابن شافع.

وفى تاريخ ابن السمعانى عن أبى الفضل بن عطّاف: أنه توفى ليلة السبت المذكورة.

قال أبو الحسين: صليت عليه إماما بجامع المنصور فى المقصورة. قال:

وحدّث عن الوالد بكثير من سماعاته ومصنّفاته.

‌54 - إسماعيل بن محمد

بن الحسن بن داود الأصبهانى، الخياط أبو على.

سمع الكثير، وكتب بخطه. وكان خطه دقيقا مطبوعا.

دخل بغداد سنة سبع وخمسمائة. وحدّث بها عن والده، وعن أبى بكر محمد ابن أحمد بن الحسن بن ماجة، وأبى مطيع المضرى، وغيرهم.

ص: 111

سمع منه أبو منصور محمد بن ناصر البردى. وقال: كان من الأئمة الكبار، وهو أخو أبى سعد محمد بن داود.

قال ابن النجار: قرأت بخط أخيه أبى سعد: توفى أخى أبو علي إسماعيل فى العشر الأواخر من جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسمائة. رحمه الله تعالى.

‌55 - إسماعيل بن المبارك

بن محمد بن أحمد بن وصيف البغدادى، الفقيه أبو حازم.

ولد سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.

وقرأ الفقه على القاضى أبى يعلى، وسمع منه، ومن ابن العشارى، والجوهرى.

روى عنه أبو المعمر الأنصارى، وبالإجازة ابن كليب.

وتوفى فى رجب سنة ثمان وخمسمائة.

‌56 - أحمد بن الحسن

بن أحمد المخلّطىّ، البغدادى الفقيه، أبو العباس الدباس.

صحب القاضى أبا يعلى. وتفقه عليه، ولازمه، وسمع منه الحديث. وكتب الخلاف وغيره من تصانيفه.

وسمع أيضا من أبى الحسن بن المهتدى، وأبى جعفر بن المسلمة، وأبى الحسين ابن الأبنوسى، وأبى علي بن وشاح، وأبى علي المباركى غيرهم. وحدّث عنهم.

قال ابن ناصر الحافظ: وسمعت منه. قال: وكان رجلا صالحا من أهل القرآن، والسّتر والصيانة، ثقة مأمونا.

توفى ليلة الأربعاء ثانى عشر جمادى الأولى سنة ثمان وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله.

و «المخلّطى» بفتح اللاّم المشددة - نسبة إلى المخلّط، وهو النّقل، ولعله كان يبيعه.

نقلت من بعض تعاليق الإمام أبى العباس بن تيمية، قال: نقلت من خط

ص: 112

أحمد بن الحسن بن أحمد المخلّطى على ظهر الجزء الثانى والأربعين من تعليق القاضى، ثم رأيته أنا بخط المخلطى، قال: رأيت بخط شيخنا - يعنى القاضى أبا يعلى - قال: إذا وقف داره على مسجد وعلى إمام يصلى فيه: كان للإمام نصف الارتفاع، كما لو وقفها على زيد وعمرو، إنه بينهما. فإن وقفه على مساجد القرية وعلى إمام يصلى فى واحد منها: قسم الارتفاع على عدد المساجد، وعلى الإمام. فإن وقفها على المسجد خاصة: لم يجز أن يدفع إلى إمام يصلى فيه.

ولا يصرف فى بوارى المسجد؛ لأن ذلك من مصلحة المصلين، لا من مصلحة المسجد.

‌57 - محمد بن سعد

بن سعيد العسّال، المقرئ، أبو البركات بن الحنبلى، يلقب التاريخ.

ولد فى ربيع الآخر سنة سبعين وأربعمائة.

وقرأ بالروايات على رزق الله التميمى، ويحيى بن البستى، وغيرهما.

سمع من أبى نصر الزينبى، وأبى الغنائم بن أبى عثمان، والقاضى ابن البطر والنعالى وغيرهم. وعلق الفقه عن ابن عقيل.

وكان من القراء المجوّدين، الموصوفين بحسن الأداء، وطيب النغمة. يقصد فى رمضان، لسماع قراءته فى صلاة التراويح، من الأماكن البعيدة. وكان دينا صالحا، صدوقا، حدّث.

سمع منه ابن ناصر، والسلفى. قال: وكان من أحسن الناس تلاوة للقرآن، وكتب الحديث الكثير معنا وقبلنا. وهو حنبلى المذهب. علق الفقه عن ابن عقيل.

توفى يوم الثلاثاء سابع رمضان سنة تسع وخمسمائة. وصلّى عليه بجامع القصر.

وكان الجمع متوفرا. ودفن بباب حرب رحمه الله تعالى.

ص: 113

‌58 - هبة الله بن المبارك

بن موسى بن علي بن يوسف السّقطى، أبو البركات المحدّث، الرّحّال.

ذكر أنه ولد سنة خمس وأربعين وأربعمائة.

وسمع الحديث ببلده بغداد، من جماعة، منهم: القاضى أبو يعلى. وتفقه عليه. ورحل إلى واسط، والبصرة، والكوفة، والموصل، وأصبهان، والجبال، وغيرها. وبالغ فى الطلب. وتعب فى جمع الحديث وكتابته.

وكان له فضل ومعرفة بالحديث واللغة. وجمع الشيوخ وخرج التخاريج.

جمع لنفسه معجما لشيوخه فى نحو ثمانية أجزاء ضخمة. وجمع تاريخا لبغداد ذيل به على تاريخ الخطيب. وكان مجدّا فى الطلب والسماع، والبحث عن الشيوخ، وإظهار مسموعاتهم، والقراءة عليهم.

كتب عن أصحاب الدارقطنى، وابن شاهين، والمخلص، وابن حبابة والحربى، وطبقتهم ومن دونهم، حتى كتب عن أقرانه، ومن دونه. وزاد به الشّره فى هذا لأمر، حتى ادّعى السماع من شيوخ لم يسمع منهم. ولا يحتمل سنّة السماع منهم، كأبى محمد الجوهرى وغيره.

وسئل شجاع الذهلى عن روايته عن الجوهرى؟ فقال: ما سمعنا بهذا قط وضعّفه فيه جدا.

قال ابن السمعانى: سألت ابن ناصر عن السقطى، فقلت له: أكان ثقة؟ فقال: لا والله. حدّث بواسط عن شيوخ لم يرهم، وظهر كذبه عندهم.

قال: وسمعت ابن ناصر غير مرّة يقول: السقطىّ لا شئ، وهو مثل نسبه من سقط المتاع. وقد أثنى عليه السلفى، وعدّه من أكابر الحفاظ الّذين أدركهم. وكان له نظم حسن، ومعرفة بالادب.

قال أبو القاسم بن السمرقندى: كنّا فى مجلس أبى محمد رزق الله التميمى، فأنشدنا:

ص: 114

فما تنفع الآداب والعلم والحجى

وصاحبها عند الكمال يموت

كما مات لقمان الحكيم وغيره

وكلّهم تحت التراب صموت

وكان هبة الله السقطى فى المجلس حاضرا، فأجابه ببيتين، وأنشدناهما من لفظه لنفسه.

بلى أثر يبقى له بعد موته

وذخر له فى الحشر ليس يفوت

وما يستوى المنطيق ذو العلم والحجى

وأخرس بين الناطقين صموت

توفى يوم الاثنين ثالث عشرين ربيع الأول سنة تسع وخمسمائة وصلّى عليه من الغد بالجامع أبو الخطاب الكلوذانى الفقيه إماما، ثم حمل إلى باب حرب فدفن قريبا من قبر منصور بن عمّار.

وقيل: توفى يوم الثلاثاء المذكور. وقيل: فى جمادى الآخرة.

والصحيح الأول.

قال ابن الجوزى: حكى هبة الله السقطى، قال: قال محمد بن الخليل البوشنجى: حدثنى محمد بن على الهروى - وكان تلميذ أبى المعالى الجوينى - قال:

دخلت عليه فى مرضه الذى مات فيه، وأسنانه تتناثر من فيه، ويسقط منها الدود، لا يستطاع شم فيه. فقال: هذا عقوبة تعرّضى بالكلام، فاحذروا.

‌59 - محمد بن الحسن

بن أحمد بن عبد الله بن البناء البغدادى، الواعظ، أبو نصر بن الإمام أبى على، المتقدم ذكره.

ولد حادى عشرين صفر، سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.

وسمع من الجوهرى، وأبى بكر بن بشران، والعشارى، وأبى على المباركى ووالده أبى على بن البناء وطبقتهم. وتفقه على أبيه، وحدّث.

روى عنه أبو المعمر الأنصارى، وأبو سعد بن البغدادى، وابن ناصر، وأثنى عليه ووثقه. وكان من أهل الدين والصدق، والعلم والمعرفة. وخلف أباه فى حلقته بجامع القصر وجامع المنصور.

ص: 115

توفى ليلة الأربعاء خامس عشر ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة - وفى تاريخ ابن النجار: سادس ربيع الأول - وصلّى عليه من الغد أبو الحسن الفاعوسى الزاهد، بجامع القصر. ودفن بباب حرب.

وقيل: توفى فى صفر. والأول أصح.

‌60 - محفوظ بن أحمد

بن الحسن بن أحمد الكلوذانى، أبو الخطاب البغدادى، الفقيه. أحد أئمة المذهب وأعيانه.

ولد فى ثانى شوال سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.

وسمع الحديث من الجوهرى والعشارى، وأبى على الجازرى، والمباركى، وأبى الفضل بن الكوفى، والقاضى أبى يعلى، وأبى جعفر بن المسلمة، وأبى الحسين بن المهتدى، وغيرهم.

وكتب بخطه كثيرا من مسموعاته. ودرس الفقه على القاضى أبى يعلى، ولزمه حتى برع فى المذهب والخلاف. وقرأ عليه بعض مصنفاته. وقرأ الفرائض على أبى عبد الله الونى، وبرع فيها أيضا. وصار إمام وقته، وفريد عصره فى الفقه.

ودرّس وأفتى، وقصده الطلبة.

وصنف كتبا حسانا فى المذهب والأصول والخلاف. وانتفع بها بحسن قصده

فمن تصانيفه: «الهداية» فى الفقه، «والخلاف الكبير» المسمى «بالانتصار فى المسائل الكبار» ، و «الخلاف الصغير» المسمى «برءوس المسائل»

ونقل عن صاحب المحرر أبى البركات بن تيمية: أنه كان يشير إلى أن ما ذكره أبو الخطّاب فى رءوس المسائل هو ظاهر المذهب.

وله أيضا كتاب «التهذيب» فى الفرائض، و «التمهيد» فى أصول الفقه، وكتاب «العبادات الخمس» ، و «مناسك الحج» .

ص: 116

وكانت له يد حسنة فى الأدب. ويقول الشعر اللطيف. وله قصيدة دالية فى السنة معروفة، ومقطعات عديدة من الشعر.

وكان حسن الأخلاق، ظريفا، مليح النادرة، سريع الجواب، حادّ الخاطر. وكان مع ذلك كامل الدين، غزير العقل، جميل السيرة، مرضى الفعال محمود الطريقة. شهد عند قاضى القضاة أبى عبد الله بن الدامغانى. وحدّث بالكثير من مسموعاته على صدق واستقامة.

روى عنه ابن ناصر وأبو النعم الأنصارى، وأبو طالب بن خضير، وسعد الله ابن الدجاجى، ووفاء بن الأسعد التركى، وأبو الفتح بن شاتيل، وغيرهم.

وروى عند ابن كليب بالإجازة. وقرأ عليه الفقه جماعة من أئمة المذهب منهم عبد الوهاب ابن حمزة، وأبو بكر الدينورى، والشيخ عبد القادر الجيلى الزاهد، وغيرهم.

قال أبو بكر بن النقور: كان الكيا الهراسى إذا رأى الشيخ أبا الخطاب مقبلا قال: قد جاء الفقه.

وقال السلفى: أبو الخطاب من أئمة أصحاب أحمد، يفتي على مذهبه ويناظر.

وكان عدلا رضيا ثقة. عنده كتاب «الجليس والأنيس» للقاضى أبى الفرج الجريرى عن الجازرى عنه. وكان ينفرد به ولم يتفق لى سماعه. وندمت بعد خروجى من بغداد على فواته. وكذلك أثنى ابن ناصر على أبى الخطاب ثناء كثيرا.

وذكر ابن السمعانى: أن أبا الخطاب جاءته فتوى فى بيتين من شعر، وهما:

قل للامام أبى الخطّاب مسألة

جاءت إليك، وما يرجى سواك لها

ماذا على رجل رام الصلاة فمذ

لاحت لناظره ذات الجمال لها؟

ص: 117

فكتب عليها أبو الخطاب:

قل للأديب الذى وافى بمسألة

سرّت فؤادى لمّا أن أصخت لها

إنّ الذى فتنته عن عبادته

خريدة ذات حسن فانثنى ولها

إن تاب ثمّ قضى عنه عبادته

فرحمة الله تغشى من عصى ولها

توفى رحمه الله فى آخر يوم الأربعاء ثالث عشرين جمادى الآخرة سنة عشر وخمسمائة، وترك يوم الخميس، وصلّى عليه يوم الجمعة فى جامع القصر. ودفن إلى جانب قبر الإمام أحمد رضى الله عنه. كذلك حرّر وفاته القاضى أبو بكر بن عبد الباقى. وكذا ذكره ابن شافع.

وذكر ابن الجوزى: أنه توفى سحر يوم الخميس. ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة.

وذكر ابن شافع: أن أبا الحسن بن الفاعوس الزاهد صلّى عليه إماما. وحضر الجمع العظيم والجند الكثير. ودفن بين يدى صف الإمام أحمد، بجنب أبى محمد التميمى. رحمه الله تعالى.

قرأت بخطّ أبى العباس بن تيمية فى تعاليقه القديمة: رئى الإمام أبو الخطاب فى المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فأنشد:

أتيت ربى بمثل هذا

فقال: ذا المذهب الرشيد

محفوظ نم فى الجنان، حتى

ينقلك السائق الشهيد

قرأت على أبى الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم المصرى بها: أخبركم أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرّانى، أخبرنا عبد المنعم بن عبد الوهاب بن على الحرانى، أخبرنا أبو الخطاب محفوظ بن أحمد فى كتابه، أخبرنا أبو على محمد بن الحسين الجازرى، أخبرنا أبو الفرج المعافى بن زكريا النهروانى، أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمى، حدثنا فضل - يعنى: ابن سهل - حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد الخدرى، قال: قال

ص: 118

رجل: «يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك. فقال: طوبى لمن رآنى وآمن بى، وطوبى ثمّ طوبى ثمّ طوبى لمن آمن بى ولم يرنى. فقال الرجل:

يا رسول الله، ما طوبى؟ قال: شجرة فى الجنة مسيرة مائة عام. ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها». وبه إلى أبى الخطاب.

وأنشد من قوله:

بأبى من إذا شكوت إليه

حبّه قال: ذا محال ولهو

وإذا ما حلفت بالله أنى

صادق، قال لى: يمينك لغو

لا ومن خصّه بحسن بديع

وجمال جسمى به اليوم نضو

لا تبدّلت فى هواه ولا خنت

ولا حلّ لى عليه السلوّ

وقوله أيضا:

يقول لى الأحبّة: لا تزرنا

على حال، ونحن فلا نزور

فقلت: متى أطعت؟ فقال هذا

وقلت أحبكم فالقول زور

وقوله أيضا:

كيف أخفى هواكم وعليه

شاهد الحزن والنّحول ينمّ

وإذا اللائمون لاموا فطرفى

فى هواكم أعمى وسمعى أصمّ

أنتم للفؤاد همّ وللعي

ن سهاد وللجوانح سقم

كل يوم تجدّدون على قل

بى عذابا وليس للقلب جرم

ولئن دام ذا، ولا دام منكم

تلفت مهجتى وفى ذاك إثم

وقوله أيضا:

علام أجازى بالوصال قطيعة

وبالحب بغضا؟ إنّ ذا لعجيب!

وكم ذا التجنى منك فى كل ساعة

أما لفؤادى من رضاك نصيب؟

لئن لان جنبى عندكم فهو والهوى

منيع ولكنّ الحبيب حبيب

وإن كان ذنبى عندكم كلفى بكم

فما أنا منه ما حييت أتوب

ص: 119

غرامى بكم حتى الممات مضاعف

وقلبى لكم عندى علىّ رقيب

ومن شعر أبى الخطّاب، أورده ابن النجار من طريق أبى المعمر الأنصارى رضى الله عنه:

إن كنت يا صاح بوجدى عالما

فلا تكن لى فى هواه لائما

وإن جهلت ما ألاقى بهم

فانظر تر دموعى السواجما

هم قتلونى بالصدود والقلى

وما رعوا فى قتلى المحارما

يا من يخاف الإثم فى وصلى أما

تخاف فى سفك دمى المآثما؟

هبنى رضيت أن تكون قاتلى

فهل رضيت أن تكون ظالما؟

سلوا النجوم بعدكم عن مضجعى

هل قرّ جنبى أو رأتنى نائما؟

واستقبلوا الشمال كيما تنظروا

من حرّ أنفاسى بها سمائما

وهذه الأيك سلوا الأيك: ألم

أعلّم النوح بها الحمائما

لقد أقمت بعد أن فارقتكم

على فؤادى بينها مآثما؟؟؟

كان أبو الخطاب رضى الله عنه فقيها عظيما كثير التحقيق، وله من التحقيق والتدقيق الحسن فى مسائل الفقه وأصوله شئ كثير جدا. وله مسائل ينفرد بها عن الأصحاب.

فمما تفرد به قوله: إن للعصر سنة راتبة قبلها أربع ركعات.

وقوله: إن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر، وإنها ترد إلى من أخذت منه من المسلمين على كل حال، ولو قسمت فى المغنم أو أسلم الكافر وهى فى يده.

ومن ذلك قوله: إن الأضحية يزول الملك فيها بمجرد الإيجاب، فلا يملك صاحبها إبدالها بحال.

ومن ذلك ما ذكره فى الهداية: أن الزرافة حرام. وقال السامرى: هو سهو منه.

ص: 120

ومن ذلك: قوله بطهارة الأدهان المنجسة، التى يمكن غسلها بالغسل.

ومن ذلك قوله: إنّ من ملك أختين: لم يجز له الإقدام على وطء واحدة منهما حتى تحرم الأخرى عليه، بإزالة ملكه عنها أو عن بعضها، كما لو كان قد وطئ إحداهما، ثم أراد وطء الأخرى. وقد رأيت فى كلام الإمام أحمد فى رواية إسحاق بن هاني ما يدل على مثل ذلك. ونصه مذكور فى مسائل ابن هاني فى كتاب الجهاد.

ومن ذلك قوله: إنّ النكاح لا ينفسخ بسبى واحد من الزوجين بحال، سواء سبيا معا، أو سبى أحدهما وحده. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على انفساخ نكاح المسبية وحدها إذا كان زوجها فى دار الحرب. وحكاه غير واحد من أصحابنا أيضا كابن عقيل. وهو ظاهر القرآن. وحديث أبى سعيد فى صحيح مسلم صريح فى ذلك. والعجب أنه ذكر فى الانتصار: أن حديث أبى سعيد لا يصح. قال: والدليل على ضعفه أن سبايا أوطاس كنّ مجوسيات.

وهذا مما يعلم بطلانه قطعا؛ فإن العرب لم يكونوا مجوسا.

وقد نسب إلى أبى الخطّاب التفرّد بتخريج رواية: بأن الترتيب لا يشترط فى الوضوء، وليس كذلك؛ فقد وافقه على هذا التخريج ابن عقيل، واتفقا على تخريجها من رواية سقوط الترتيب بين المضمضة والاستنشاق، وسائر أعضاء الوضوء.

وذكر أبو الخطاب فى كتاب الصيام من الهداية، رواية عن أحمد: أنّ من دخل فى حجّ تطوع، ثم أفسده: لم يلزمه قضاؤه. ولم يذكر ذلك فى كتاب الحج، ولا فى غير الهداية.

قال أبو البركات ابن تيمية: ولعله سها فى ذلك، وانتقل ذهنه من مسألة الفوات إلى مسألة الإفساد.

وذكر فى الانتصار رواية عن أحمد: أن صلاة الفرض تقضى عن الميت

ص: 121

كالنذر. وذكر فى الانتصار فى مسألة ما إذا قتل واحد جماعة عمدا: أن أولياءهم بالخيار، إن شاءوا قتل للجميع ولا يكون لهم غير ذلك، ويسقط باقى حقوقهم.

وإن اختار بعضهم القود وبعضهم الدية: قتل لمختار القود، وأخذ من ماله الدية لطالبها، وأن أحمد نصّ على ذلك فى رواية الميمونى.

وذكره الخرقى فى مختصره، قال: ويتخرج لنا كقول أبى حنيفة ومالك:

يقتل للجميع، وليس لهم غير ذلك، على الرواية التى تقول: لا يثبت بقتل العمد غير القود.

ثم قال فى آخر المسألة: هذا الفصل مشكل على قول أحمد رحمه الله؛ لأنه إن قال: حقوق الجميع تساوت، فإذا طلبوا القتل ليس لهم غيره. وعلّل بأنهم أخذوا بعض حقوقهم، وسقط بعضها. فقد قال: بأن القصاص يتبعّض فى الاستيفاء والإسقاط. وهذا بعيد. فإنه لو قتل رجل رجلين، فقال ولىّ كلّ واحد منهما: قد عفوت لك عن نصف القصاص، ولكن قد بقى لكل واحد منّا النصف فيستحق قتلك به: لم يجز لهم ذلك، وسقط حقهم من القصاص.

ولو كان يتبعض لثبت ذلك. وإن لم يقل بالتبعيض لم يصح قوله: أخذ بعض الحق وأسقط بعضه. واقتضى أن يقول كقول أبى حنيفة، وأنه يقتل للجميع، لأن دمه يساوى دم الجميع، أو لأنه لم يبق محل يستوفى منه، أو يقول كما قال الشافعى: يقتل بالأول، أو بمن تخرجه القرعة، وتؤخذ الديات للباقين.

والذى يتحقق عندى: أنه يقتل للجميع وتؤخذ من ماله ديات الجميع تقسم بينهم، كما قال أبو حنيفة: إذا قطع يمينى رجلين فيقطع لهما، وتؤخذ دية يد فتقسم بينهما، وكما قال أبو حامد وشيخنا وأصحابنا: إذا قطع من يده ناقصة الأصابع يدا تامة يجوز للمقطوعة يده أن يقطع اليد الناقصة، ويأخذ دية الأصابع فيجتمع القصاص والدية ليكمل حقه، كذلك فى مسألتنا. والله أعلم.

وذكر فى الانتصار فى مسألة ضمان العارية: أن المبيع إذا فسخ لعيب أو

ص: 122

غيره، فتلفت السلعة فى يد المشترى: أنه لا ضمان عليه؛ لأن يده يد أمانة.

وهذا غريب مخالف لما ذكره غير واحد من الأصحاب، كالقاضى فى خلافه، وابن عقيل، والأزجى فى النهاية.

واختار فيه: أنه يصح أن يضمن بعض ما على فلان من الدين، وإن لم يعين به البعض، وقال: لا أعلم فيه نصا عن أحمد.

وفى الفنون لا بن عقيل قال: إن الشريف أبا جعفر قال: إن الصحة قياس المذهب، وأنه اختاره.

واختار فيه: أن عامل الزكاة شريك لبقية الأصناف لا أجير، فلا يجوز أن يكون هاشميا ولا عبدا.

وحكى فيه رواية: أن السيد إذا أذن لعبده فى نوع من التجارة. ملك التصرف فى سائر الأنواع.

وحكى فيه وجها: أن كل صلاة تفتقر إلى تيمم، وإن كانت نوافل.

واختار فى الهداية: ردّ اليمين على المدّعى، فيقضى له بيمينه. وقد أشار إليه أحمد فى رواية أبى طالب.

ووقفت على فتاوى أرسلت إلى أبى الخطّاب رحمه الله من الرحبة، فأفتى فيها فى الشهر الذى توفى فيه فى جمادى الآخرة سنة عشر وخمسمائة.

وأفتى فيها ابن عقيل وابن الزاغونى أيضا.

فمنها: إذا غاب الزوج قبل الدخول فطلبت المرأة المهر، فإن الحاكم يراسل الزوج، ويعلمه بالمطالبة بالمهر، وأنه إن لم يبعث به إلى الزوجة باع عليه ملكه.

فإن لم يبعث باع عليه. وإن لم يعلم موضعه باع بمقدار نصف الصداق، ودفعه إليها؛ لجواز أن يكون قد طلقها قبل الدخول ويبقى بقية الصداق موقوفا.

ووافقه ابن عقيل على ذلك.

وظاهر هذا: أنه إن أمكن مراسلته وامتنع باع عليه، ودفع إليها كل الصداق؛ للعلم بأنه لم يطلق.

ص: 123

وأما ابن الزاغونى: فإنه أفتى بأنه لا يدفع الحاكم إليها أكثر من نصف الصداق بكل حال؛ لأنه الثابت لها باليقين، والنصف الباقى يحتمل أن يسقطه بطلاق متجدّد.

ويرد على هذا التعليل: أن هذا النصف أيضا يحتمل سقوطه بفسخ لعيب أو غيره من المسقطات.

ومنها، فى وقف الستور على المسجد: أفتى أنه يصح وقفها وتباع، وتنفق أثمانها على عمارته، ولا تستر حيطانه بخلاف الكعبة، فإنها خصّت بذلك كما خصّت بالطواف حولها.

وخالفه ابن عقيل، وابن الزاغونى، وقالا: الوقف باطل من أصله، والمال على ملك الواقف.

ومنها: إذا وجد شاة بمضيعة فى البرية فإنه يجوز له أخذها، وذبحها.

ويلزمه ضمانها إذا جاء مالكها. وإذا وجدها بمصر وجب تعريفها. ووافقه ابن الزاغونى.

وخالفهما ابن عقيل، وقال: لا يجوز له ذبحها بحال، وإن ذبحها أثم ولزمه ضمانها.

ومنها: أن الشاهد لا يجوز له أن يشهد على آخر فى كتاب مكتوب عليه حتى يقرأه عليه، أو يقرّ عنده المكتوب عليه: أنه قرئ عليه أو أنه فهم جميع ما فيه ولا يجوز الشهادة عليه بمجرد قوله: اشهد عليّ بما فى هذا الكتاب.

ووافقه ابن الزاغونى على ذلك.

ومنها: كم قدر التراب الذى يستعمل فى غسل الإناء من ولوغ الكلب؟

أفتى: أنه ليس له حدّ. وإنما يكون بحيث تمر أجزاء التراب مع نداوة الماء على جميع الإناء.

وأفتى ابن عقيل: أنه تكون بحيث تظهر صفته ويغير الماء.

ص: 124

وقال ابن الزاغونى: إن كان المحل لا يضره التراب، فلا بد أن يؤثر فى الماء، وإن كان يتضرر بالتراب: فهل يجب ذلك، أم يكفى ما يقع عليه اسم التراب وإن لم يظهر أثره؟ على وجهين.

ومنها: إشارة الأخرس فى الصلاة؟ أفتى: إذا كثر ذلك منه بطلت صلاته.

وأفتى ابن الزاغونى: أن الإشارة بردّ السلام لا تبطل من الأخرس ولا من المتكلم. وما عداها يجرى مجرى العمل فى الصلاة، فيفرق بين كثيرها ويسيرها.

وأفتى ابن عقيل: أن إشارة الأخرس المفهومة تجرى مجرى الكلام، فإن كانت بردّ سلام خاصة لم تبطل، وما سوى ذلك تبطل.

ومنها: إذا كتب القرآن بالذهب تجب فيه الزكاة إذا كان نصابا. ويجوز له حكه وأخذه.

ووافقه ابن الزاغونى، وزاد: إن كتابته بالذهب حرام، ويؤمر بحكّه.

ولا يجوز للرجل اتخاذه.

ومنها: إذا أجرت نفسها للإرضاع فى رمضان: هل لها أن تفطر، إذا تغير لبنها بالصوم بحيث يتأذى بذلك المرتضع؟

أجاب: يجوز لها ذلك. وإذا امتنعت لزمها ذلك. فإن لم تفعل كان لأهل الصبى الخيار فى الفسخ.

ووافقه ابن الزاغونى، وزاد: متى قصدت بصومها تضرر الصبىّ عصت وأثمت وكان للحاكم إلزامها بالفطر، إذا طلبه المستأجر.

ومنها: إذا رأى إنسانا يغرق، يجوز له الإفطار إذا تيقن تخليصه من الغرق، ولم يمكنه الصوم مع التخليص.

ووافقه ابن الزاغونى.

ومنها: هل يجوز التفريق بين الأم وولدها بالسفر، إذا قصد أن يجعل وطنها دون وطنه؟

ص: 125

أجاب: إنه لا يجوز ذلك.

وأجاب ابن عقيل: إذا كان الولد مستقلا، غير محتاج إلى تربية الأم، كان الأب أحق به سفرا، لتخريجه فى عمل أو تجارة. وانقطع آخر جوابه.

وأجاب ابن الزاغونى: إذا افترقت بالأبوين الدار، ولم يقصد الأب ضرر الأم بمنعها من كفالة الولد، فالأب أحق به.

‌فصل

صنّف بعض أصحابنا - وهو الوزير ابن يونس - مصنفا فى أوهام أبى الخطاب فى الفرائض ومتعلقاتها من الوصايا والمسائل الحسابية. ولم أقف عليه كله، بل على بعضه. لكن لأبى الخطاب فى هذه المواضع مسائل متفرقة، يقال: إنها وهم وغلط.

فمنها: مسألة فى البيع بتخيير الثمن

(1)

، والوضيعة منه.

ومسألة فى وقف المريض داره التى لا يملك سواها على ابنه وابنته بالسوية، وحكم إجازتهما وردّهما، وإجازة أحدهما وردّ الآخر. ولتصحيح كلامه فيها وجه فيه تعسيف شديد.

ومسألة فى الوصايا، فيما إذا ترك ابنين ووصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلثه، وحكم إجازتهما وردّهما، وإجازة أحدهما ورد الآخر، وإجازتهما لأحدهما وردهما على الآخر. وقد تأملت هذه المسألة، فوجدت الخلل فيها وقع من جهة النسخ. فإن فى الأصل فيها إلحاقا اشتبه على النسّاخ موضعه، فألحقوه فى غير موضعه، فنشأ الخلل فى الكلام، ولزم بسبب ذلك لوازم فاسدة. وقد نسب السامرى الوهم فيها إلى أبى الخطاب، وليس كذلك.

ومنها: مسألة، فى باب الإقرار بمشارك فى الميراث. وقد ذكرها أبو البركات فى المحرر، وذكر أنها سهو.

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «بتخيير الإمام»

ص: 126

ومنها: مسألة فى الوصية بسهم من سهام الورثة. وقد بين خللها السامرى فى مستوعبه.

ومنها: عده الجهات فى ذوى الأرحام، وأنها خمسة. وقد اعترف بأنه لم يسبق إلى ذلك. وقد ألزمه صاحب المغنى وصاحب المحرر وغيرهما لوازم فاسدة، بسبب ذلك. وطائفة محققى المتأخرين صححوا كلامه فى الجهات، وأجابوا عما أورد عليه، وبينوا أنه غير لازم له. ولولا خشية الإطالة، وأن نخرج عما نحن بصدده من التراجم لذكرنا هذه المسائل مسألة مسألة، وبينا ما وقع فيه الوهم من غيره، ولكن نذكر ذلك فى موضع آخر إن شاء الله تعالى ..

‌61 - يحيى بن عبد الوهاب

بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدى الأصبهانى، الحافظ، الإمام أبو زكريا بن أبى عمرو بن الإمام الحافظ أبى عبد الله بن أبى محمد بن أبى يعقوب المحدث بن المحدث، بن المحدث ابن المحدث، بن المحدث، بن المحدث.

ولد يوم الثلاثاء تاسع عشر شوال، سنة أربع وثلاثين وأربعمائة بأصبهان.

وسمع من أبيه أبى عمرو، وعميه: أبى القاسم عبد الرحمن، وأبى الحسن عبيد الله، وأبى بكر بن ريذة، وسمع منه المعجم الكبير للطبرانى عنه، وأبى طاهر الكاتب، وأبى منصور محمد بن عبد الله بن فضلويه، وأبى طاهر أحمد بن محمود الثقفى، وغيرهم.

ورحل إلى نيسابور، وسمع بها من أبى بكر أحمد بن منصور بن خلف المقرئ، وأبى بكر البيهقى الحافظ بهمذان، وأبى بكر محمد بن عبد الرحمن النّهاوندى.

وسمع بالبصرة من أبى القاسم إبراهيم بن محمد بن أحمد الشاهد، وعبد الله ابن الحسين السعيدانى، وخلق كثير سواهم

ص: 127

وصنف التصانيف، وأملى، وخرّج التخاريج لنفسه، ولجماعة من شيوخ أصبهان.

وحدّث بالكثير، وسمع منه الكبار والحفاظ من أهل بلده وغيرهم.

منهم: الحافظ أبو القاسم إسماعيل التيمى، ومحمد بن عبد الواحد الدقاق، وأبو الفضل محمد بن هبة الله بن العلاء.

وقدم بغداد حاجّا، وحدّث بها، وأملى بجامع المنصور.

سمع منه بها: أبو منصور الخياط، وأبو الحسين بن الطيورى، وهما أسن منه، وأقدم إسنادا.

وسمع منه بها أيضا: ابن ناصر، وعبد الوهاب الأنماطى، والسلفى، والشيخ عبد القادر الجيلى، وأبو محمد بن الخشاب، وعبد الحق اليوسفى، وآخر أصحابه موتا أبو جعفر الطرسوسى، وروى عنه بالإجازة؟؟؟ أبو سعد بن السمعانى الحافظ.

قال ابن السمعانى: سألت إسماعيل التيمى الحافظ عنه؟ فأثنى عليه ووصفه بالحفظ والمعرفة والدراية. قال: وسمعت أبا بكر اللفتوانى

(1)

الحافظ يقول: بيت ابن منده بدئ بيحيى، وختم بيحيى.

قال ابن السمعانى: يريد فى معرفة الحديث والفضل والعلم.

وذكره شيرويه بن شهردار الحافظ، فقال: قدم علينا، سمع منه عامة مشايخ الجبل وخراسان. وكان حافظا، فاضلا مكثرا، صدوقا، ثقة، يحسن هذا الشأن جيدا، كثير التصانيف، شيخ الحنابلة ومقدمهم، حسن السيرة، بعيدا من التكلف، متمسكا بالأثر.

وذكره محمد بن عبد الواحد الدقاق الحافظ، فقال: الشيخ الإمام الأوحد،

(1)

نسبة إلى «لفتوان» بفتح اللام وسكون الفاء وتاء مثناة من فوق مفتوحة وآخره نون -: قرية من قرى أصبهان.

ص: 128

عنده الحديث الكثير، والكتب الكثيرة الوافرة، جمع وصنف تصانيف كثيرة. منها: كتاب الصحيح على كتاب مسلم بن الحجاج.

وذكره إسماعيل بن عبد الغافر، فى تاريخ نيسابور، فقال: رجل فاضل، من بيت العلم والحديث، المشهور فى الدنيا، سمع من مشايخ أصبهان، وسافر ودخل نيسابور، وأدرك المشايخ، وسمع منهم، وجمع، وصنف على الصحيحين.

وعاد إلى بلده.

وقال ابن السمعانى فى حقه: جليل القدر، وافر الفضل، واسع الرواية، ثقة حافظ، فاضل، مكثر، صدوق، كثير التصانيف، حسن السيرة، بعيد التكلف، أوحد بيته فى عصره. صنف تاريخ أصبهان، وغيره من الجموع.

قلت: وصنف مناقب العباس رضى الله عنه فى أجزاء كثيرة.

وللحافظ السلفى فيه يمدحه:

إنّ يحيى فديته من إمام

حافظ، متقن، تقىّ، حليم

جمع النبل والأصالة والفض

ل وفى العلم فوق كلّ عليم

وصنف مناقب الإمام أحمد رضى الله عنه فى مجلد كبير، وفيه فوائد حسنة.

وقال فى أوله: ومن أعظم جهالاتهم - يعنى المبتدعة - وغلوهم فى مقالاتهم:

وقوعهم فى الإمام المرضى، إمام الأئمة، وكهف الأمة، ناصر الإسلام والسنة، ومن لم تر عين مثله علما وزهدا، وديانة وأمانة. إمام أهل الحديث أبى عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانى قدّس الله روحه، وبرد عليه ضريحه. الإمام الذى لا يجارى، والفحل الذى لا يبارى. ومن أجمع أئمة الدين رحمة الله ورضوانه عليهم فى زمانه على تقدمه فى شأنه، ونبله وعلو مكانه. والذى له من المناقب ما لا يعدّ ولا يحصى. قام لله تعالى مقاما لولاه لتجهم الناس، ولمشوا على أعقابهم القهقرى، ولضعف الإسلام، واندرس العلم.

ص: 129

ولقد صدق الإمام أبو رجاء قتيبة بن سعيد البغلانى

(1)

حيث قال: إنّ أحمد ابن حنبل فى زمانه بمنزلة أبى بكر وعمر فى زمانهما. وأحسن من قال: لو كان أحمد فى بنى إسرائيل لكان آية أعاشنا الله تعالى على عقيدته، وحشرنا يوم القيامة فى زمرته.

وحين وقفت على سرائر هؤلاء، وخبث اعتقادهم فى هذا الإمام، قصدت لمجموع نبهت فيه على بعض فضائله، ونبذة من مناقبه. وذكرت طرفا مما منحه الله تعالى من المنزلة الرفيعة، والرتبة العلية فى الإسلام والسنة. مع أنى لست أرى لنفسى أهلية لذلك، وأن المشايخ الماضين رحمهم الله تعالى قد عنوا بجمعه فشفوا لكنى أردت أن يبقى له بجمع مناقبه ذكر، وأن أكون مشرفا فيما بين أهل العلم من أهل السنة بانتسابى إليه، ونحلى مذهبه وطريقته.

وذكر فى أثناء هذا الكتاب: أخبرنا أحمد بن محمد بن جعفر الفقيه إجازة:

أخبرنا أبو مسعود أحمد بن محمد البجلى الطبرى قال: قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الأسدى، فى فضائل الإمام أبى عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل:

لما فرغت من سماع كتاب المسند من أبى بكر القطيعى ببغداد، عن عبد الله عن أبيه رحمهم الله. وتحصيل نسخة من مائة ونيف وعشرين جزءا، وجملة ما وعاه الكتاب أربعون ألف حديث غير ثلاثين - أو أربعين - حديثا.

سمعت ذلك من ابن مالك، يقول: وسمعته أيضا يقول: سمعت عبد الله يقول:

أخرج والدى هذا المسند من جملة سبعمائة ألف حديث. وقد أفردت لذلك كتابا فى جزء واحد، سميته: كتاب «المدخل فى المسند» أشبعت فيه ذكر ذلك أجمع. وأنا أسأل الله تعالى انتفاعنا بالعلم، وتوفيقا لما يقربنا إليه، فإنه قريب مجيب.

ومنه قال: أخبرنا عمى الإمام، أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب،

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «البعلانى» .

ص: 130

أخبرنا أبو الحسن العبدى، حدثنى أبو الحسين، حدثنا رزين بن أبى هارون قال:

قال فوران: ماتت امرأة لبعض أهل العلم، قال: فجاء يحيى بن معين والدورقى. قال: فلم يجدوا امرأة تغسلها إلا امرأة حائض. قال: فجاء أحمد ابن حنبل، وهم جلوس، فقال: ما شأنكم؟ فقال أهل المرأة: ليس نجد غاسلة إلا امرأة حائض، قال: فقال أحمد بن حنبل: أليس تروون عن النبى صلى الله عليه وسلم «يا عائشة، ناولينى الخمرة؟ قالت: إنّى حائض، فقال: إنّ حيضتك ليست فى يدك» يجوز أن تغسلها. قال: فخجلوا وبقوا.

سمعت أبا العباس البيهقى يقول: سمعت أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد يقول: سمعت العباس بن حمزة يقول: سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فمن لم يعمل هنا ندم هناك.

وروى من طريق النقاش: سمعت الدارقطنى: سمعت أبا سهل بن زياد:

سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سئل أحمد رحمه الله عن الفتوة؟ فقال: ترك ما تهوى لما تخشى.

ومن طريق أحمد بن مروان المالكى، حدثنا إدريس الحداد قال: كان أحمد بن حنبل إذا ضاق به الأمر آجر نفسه من الحاكة فسوّى لهم. قال إدريس: فلما كان أيام المحنة، وصرف إلى بيته حمل إليه مال جليل، وهو محتاج إلى رغيف يأكله، فردّ جميع ذلك، ولم يقبل منه قليلا ولا كثيرا، قال:

فجعل عمه إسحاق يحسب مارد، فإذا هو خمسمائة ألف - أو نحوها - فقال له:

يا عم، أراك مشغولا بحساب ما ليس يحسب، فقال: قد رددت اليوم كذا وكذا، وأنت محتاج إلى حبة. فقال: يا عم، لو طلبنا لم يأتنا. وإنما أتانا لمّا تركناه.

أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الرحيم، أخبرنا أبو محمد بن حبان: سمعت

ص: 131

أبا جعفر البردى: سمعت إسماعيل بن قتيبة سمعت أحمد بن حنبل يقول:

إن القلنسوة لتقع من السماء على رأس من لا يحبّها.

أخبرنا أبى رحمه الله، أخبرنا أبو عمر بن عبد الوهاب إجازة، حدثنا أحمد ابن محمد بن عمر، حدثنا أبو عبد الرحمن - يعنى: عبد الله بن أحمد - قال: قلت لأبى رحمه الله: يقولون: إنك تتوضأ مما مسّت النار؟ قال: ما فعلته قط، ولم يثبت عندى فى ذا خبر.

أخبرنا عمّى الإمام، أخبرنا علىّ بن عبد الله بن جهضم بمكة، حدثنا محمد ابن أبى زكريا الفقيه، حدثنا عبدوس بن أحمد، حدثنا أبو حامد الخلقانى قال:

قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول فى القصائد؟ فقال: فى مثل ماذا؟ قلت:

مثل ما تقول:

إذا ما قال لى ربّى:

أما استحييت تعصينى

وتخفى الذنب من غيرى

وبالعصيان تأتينى؟

قال: فرد الباب، وجعل يقول:

إذا ما قال لى ربّى:

أما استحييت تعصينى

وتخفى الذنب من غيرى

وبالعصيان تأتينى؟

فخرجت وتركته.

أخبرنا عمى، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن قاذويه، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا أبو حاتم محمد بن إدريس قال: ولقد ذكر لأبى عبد الله أحمد بن حنبل رجل من أهل العلم، كانت له زلة، وأنه تاب من زلته، فقال: لا يقبل الله ذلك منه حتى يظهر التوبة والرجوع عن مقالته، وليعلمن أنه قال مقالته كيت وكيت، وأنه تاب إلى الله تعالى من مقالته، ورجع عنه، فإذا ظهر ذلك منه حينئذ تقبل، ثم تلا أبو عبد الله (160:2 {إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا)} .

ومن طريق أبى أحمد بن عدى، حدثنا عبد المؤمن بن أحمد بن جوثرة

ص: 132

الجرجاني: سمت عمار بن رجاء يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: طلب إسناد العلو من السنة.

أخبرنا عمى الإمام، أخبرنا يحيى بن عمار بن يحيى كتابة: أن أبا جعفر محمد ابن أحمد بن محمد الصفار أخبره: حدثنا محمد بن إبراهيم الصرام، حدثنا عثمان ابن سعيد الدارمى، قال: قال أحمد بن حنبل رحمه الله: كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء. فلما أظهروه لم نجد بدا من مخالفتهم.

ووجدت فى كتب الإمام عمّى بخطّه: قال القاسم بن محمد أبو الحارث:

حدثنا يعقوب بن إسحاق البغدادى، سمعت هارون الحمال يقول: سمعت أحمد ابن حنبل، وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله: إن ههنا رجل يفضّل عمر بن عبد العزيز على معاوية بن أبى سفيان، فقال أحمد: لا تجالسه، ولا تؤاكله، ولا تشاربه، وإذا مرض فلا تعده.

أخبرنا أبى وعماى رحمهم الله، أخبرنا والدنا رحمه الله، أخبرنا محمد بن عبد الله بن يوسف العمانى، حدثنى جدّى العباس بن حمزة قال: سمعت أحمد ابن حنبل يقول: سبحانك، ما أغفل هذا الخلق عما أمامهم! الخائف منهم مقصر، والراجى منهم متوان.

أخبرنا عمى الإمام، أخبرنا عبد الله بن عمر الكرخى، أخبرنا سليمان بن أحمد ابن أيوب، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سئل أبى عن رجل وجب عليه تحرير رقبة مؤمنة، فكان عنده مملوك سوء، لقنه أن يقول بخلق القرآن؟ فقال: لا يجزى عنه عتقه؛ لأن الله تبارك وتعالى أمره بتحرير رقبة مؤمنة، وليس هذا بمؤمن. هذا كافر.

أخبرنا الإمام عمى، أخبرنا أبى، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبى عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى عليه السلام لم يتكلم الله بصوت، فقال أبى رحمه الله: بل تكلم عز وجل بصوت. هذه الأحاديث نمرها كما جاءت.

ص: 133

قال أبى رحمه الله: حديث ابن مسعود «إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كمرّ السلسلة على الصفوان» . قال أبى: وهذه الجهميّة تنكره. قال أبى: وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس. من زعم أن الله عز وجل لم يتكلم فهو كافر. إلا أنا نروى هذه الأحاديث كما جاءت.

أخبرنا عمى الإمام، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الرحمن، أخبرنا عبد الله ابن جعفر بن فارس، حدثنا إسماعيل بن أحمد، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت أبى عن رجل يمتحن بالقرآن: مخلوق، فيحدث؟ فقال: كان ابن عيينة يتحدّث به، ولم أسمعه أنا منه.

عن إسماعيل عن قيس قال: اجتمع الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله على جنازة، فقدم الأشعث جريرا عليها، وقال للناس: إنّي ارتددت، ولم يرتد.

قال: أنا أقول بهذا الحديث فى هذه المسألة. فقلت: إن اجتمع رجلان، أحدهما قد امتحن، والآخر لم يمتحن؟ فقال: لا يتقدم، وليصل بهم الذى لم يمتحن.

ورأى ذلك فضيلة له على من امتحن، وأعجبه حديث قيس عن جرير، وقال:

هذا أصل من الأصول، وأعجبه جدا. وقال: أنا آخذ به.

ومن طريق ابن عبد الرحمن السلمى، أخبرنا أبو محمد، حدثنا الأزهرى، حدثنا إسماعيل بن عمر: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أحاديث حماد بن سلمة تأخذ بحلوق المبتدعة.

ومن طريق عبد الله بن محمد بن مندويه، سمعت أحمد بن محمد بن مصقلة يقول: سمعت المثنى الأنبارى يقول: سألت - أو سئل - عبد الله أحمد بن حنبل عن بيع الماء؟ فقال: هو ما لا يملكه الرجل. وأما بيع الماء السائح فهو جائز.

وكل ما يملكه الرجل فهو جائز.

أخبرنا أبو القاسم عمى، أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله بن إسحاق الويذاباذى، أخبرنا أبو القاسم الطبرانى، حدثنا معاذ بن المثنى العنبرى قال: سمعت

ص: 134

أحمد بن حنبل يقول: أصول الإيمان ثلاثة: دالّ، ودليل، ومستدل. فالدال:

الله تبارك وتعالى، والدليل: القرآن، والمستدل: المؤمن. فمن طعن على حرف من القرآن فقد طعن على الله تعالى وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

أخبرنا عمى، أخبرنا أبو القاسم بن قاذويه، أخبرنا عبد الله بن محمد الشروطى سمعت أبا زكريا القسام يحيى بن عبد الله يقول: سمعت أبا عمران الصوفى موسى ابن محمد، وأبا الشيخ الأبهرى، يذكران عن أبى بكر الأثرم: أنه سأل أحمد ابن حنبل عن دعاء النبى صلى الله عليه وسلم، وتعوذه من الفقر؟ فقال: إنما أراد به فقر القلب.

ومن طريق ابن عدى: سمعت محمد بن سعيد الحرانى، سمعت الميمونى يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازى، والملاحم، والتفسير.

ومن طريق أحمد بن ياسين: سمعت أبا أحمد بن عبدوس يقول: قال أحمد بن حنبل: من لم يجمع علم الحديث. وكثرة طرقها واختلافها، لا يحل له الحكم على الحديث، ولا الفتيا به.

أخبرنا عمى، أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ كتابة: أن يحيى بن محمد العنبرى حدثهم: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد السجزى، سمعت النّوفلى، سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدّدنا فى الأسانيد. وإذا روينا عن النبى صلى الله عليه وسلم فى فضائل الأعمال، وما لا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا فى الأسانيد.

ومن طريق محمد بن الحسين - أظنه النقاش - أخبرنا عبد الله بن محمد بن على ابن زياد، حدثنا محمد بن إبراهيم الماستوى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كتبت فى كتاب الحيض تسع سنين حتى فهمته.

ص: 135

أخبرنا عمى، أخبرنا محمد بن عبد الرزاق، أخبرنا جدى، حدثنا محمد بن محمد ابن فورك: سمعت عبد الله بن عبد الوهاب يقول: سئل أحمد بن حنبل رحمه الله:

هذه الكتابة إلى متى العمل به؟ قال: أخذه العمل به.

أخبرنا أحمد بن الفضل المقرئ إجازة، أخبرنا أبو العباس النسوى شيخ الحرم، حدثنا عمر بن المقرئ، حدثنا إبراهيم بن المولد، حدثنا أحمد بن مروان الخزاعى، حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبى يقول: ما الناس إلا من يقول: حدثنا، وأخبرنا، وسائر الناس لا خير فيهم.

أخبرنا أبو بكر البيهقى، أنبأنى أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا مهنا بن يحيى: سألت أحمد بن حنبل عن الإقعاء فى الصلاة؟ قال: أليس يروى عن العبادلة: أنهم كانوا يفعلون ذلك؟ قلت: ومن العبادلة؟ قال: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو رضى الله عنهم. قلت لأحمد: فابن مسعود؟ قال: ليس ابن مسعود من العبادلة.

ومن طريق محمد بن مخلد: حدثنا حاتم بن محمد، سمعت أبا رجاء قتيبة ابن سعيد يقول: أحمد بن حنبل إمام، ومن لا يرضى بإمامته فهو مبتدع ضال.

قال يحيى بن منده: نقول - وبالله التوفيق -: إن أحمد بن حنبل إمام المسلمين، وسيّد المؤمنين، وبه نحيا، وبه نموت، وبه نبعث، إن شاء الله تعالى.

فمن قال غير هذا، فهو عندنا من الجاهلين.

ومن طريق محمد بن مخلد: حدثنا محمد بن الحسين بن عبد الرحمن الأنماطى عن أحمد بن عمر بن يونس، حدثنا شيخ رأيته بمكة، يكنى أبا عبد الله من أهل سجستان ذكر عنه فضل ودين، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام، فقلت: يا رسول الله، من تركت لنا فى عصرنا هذا من أمتك نقتدى به فى ديننا؟ قال: أحمد بن حنبل.

ص: 136

قال يحيى بن منده: فما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نومه ويقظته فهو حق. وقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء به، فلزمنا جميعا امتثال مرسومه، واقتفاء مأموره.

توفى يحيى بن منده رحمه الله فى يوم الجمعة حادى عشر ذى الحجة، سنة إحدى عشرة وخمسمائة. كذا نقله ابن النجار عن أبى موسى الحافظ.

وذكر ابن السمعانى عن بعض الأصبهانيين: أنه توفى فى ذى الحجة سنة اثنتى عشرة وخمسمائة بأصبهان. قال: ثم كتب إلى معمر بن الفاخر من أصبهان:

أن ابن منده توفى يوم عيد الأضحى من السنة.

وذكر غيره: أنه دفن بباب درية عند قبر والده وجده رحمة الله عليهم أجمعين.

وذكره ابن الجوزى ممن توفى سنة اثنتى عشرة، ثم قال: وقيل: توفى سنة إحدى عشرة.

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم المصرى بها، بقراءتى عليه، أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرانى، أخبرنا أبو جعفر محمد بن إسماعيل الطرسوسى، أخبرنا يحيى بن منده الحافظ، أخبرنا محمد بن عبد الله، حدثنا سليمان ابن أحمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبرى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثورى عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصى» .

‌62 - محمد بن على بن طالب

بن محمد بن زبيبا الخرقى البزّار، الفقيه، أبو الفضل ابن أبى الغنائم. وقد سبق ذكر والده.

ولد فى العشر الأخير من المحرم سنة ست وثلاثين وأربعمائة.

وقيل عنه: إنه قال: سنة خمس وثلاثين.

وسمع من القاضى أبى يعلى، والجوهرى، وابن المذهب، وأبى بكر ابن بشران، وعمر بن أبى طالب المكى، وحدث وروى عنه السلفى، وأبو المعمر

ص: 137

الأنصارى، وابن ناصر، والمبارك ابن كامل، وعمر بن ظفر، وبالإجازة ذاكر ابن كامل، وابن كليب. وكان فقيها فاضلا. أظنه تفقه على القاضى أو على أبيه المذكور.

وقال ابن الجوزى: قال شيخنا ابن ناصر: لم يكن بحجة. كان على غير السمت المستقيم.

وذكر ابن النجار: أنه قرأ بخط ابن ناصر عنه: أنه كان يعتقد عقيدة الفلاسفة، تقليدا عن غير معرفة. نسأل الله العافية.

توفى ليلة السبت تاسع شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة. ودفن بمقابر باب أبرز في العالية. رحمه الله وسامحه.

أخبرنا أبو الفتح محمد بن إبراهيم - بفسطاط مصر - أخبرنا عبد اللطيف ابن عبد المنعم الحرانى، أخبرنا أبو الفتح عبد المنعم بن على، أخبرنا محمد بن على ابن زبيبا إذنا، أخبرنا القاضى أبو يعلى بن الفراء، أخبرنا أبو الفضل عبد الله ابن عبد الرحمن الزهرى، فيما أذن لنا: أن حمزة بن الحسين بن عمر البزار حدّثه:

حدثنى أحمد بن جعفر عن عاصم

(1)

الحربى، قال: رأيت فى المنام كأنى قد دخلت درب هشام، فلقينى بشر بن الحارث رحمه الله، فقلت: من أين يا أبا نصر؟ فقال:

من عليين. قلت: ما فعل أحمد بن حنبل؟ قال: تركت الساعة أحمد بن حنبل وعبد الوهاب الوراق بين يدى الله عز وجل، يأكلان ويشربان ويتنعمان.

قلت: فأنت؟ قال: علم الله قلة رغبتى فى الطعام فأباحنى النظر إليه.

‌63 - طلحة بن أحمد

بن طلحة بن أحمد بن الحسين بن سليمان بن بادى ابن الحارث بن قيس بن الأشعث بن قيس الكندى العاقولى، الفقيه، القاضى أبو البركات.

ولد يوم الجمعة بعد صلاتها ثالث عشرين شعبان سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «عصام» .

ص: 138

بدير العاقول، وهى على خمسة عشر فرسخا من بغداد. ودخل بغداد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، واشتغل بالعلم سنة اثنتين وخمسين.

وسمع من أبى محمد الجوهرى سنة ثلاث وخمسين، ومن القاضى أبى يعلى، وأبى الحسين بن حسنون، وأبى الغنائم بن المأمون، وأبى جعفر بن المسلمة، وأبى الحسين بن المهتدى، وأبى الغنائم بن الدجاجى، وهناد النسفى، وجابر بن ياسين، وابن هزار مرد، وأبى الفتح أحمد بن محمد بن أحمد الحداد الحنفى، وأبى القاسم بن البسرى، وغيرهم.

قال القاضى أبو الحسين: قرأ على الوالد الخصال، وحضر درسه الفقه.

قلت: وروى عنه الجامع الصغير أيضا. قال: وقال لى: اقرأ فى كل أسبوع ختمتين.

وقال ابن الجوزى: قرأ الفقه على القاضى يعقوب، وهو من متقدمى أصحابه. وكان عارفا بالمذهب، حسن المناظرة. وكانت له حلقة بجامع القصر للمناظرة.

وقال ابن شافع: سماعه صحيح. وكان ثقة، أمينا. ومضى على السلامة والستر. سمع منه ابن كاملى وغيره.

وقال ابن السمعانى: كان صالحا، دينا خيرا. روى لنا عنه هبة الله ابن الحسن الأمين بدمشق، والمبارك بن أحمد الأنصارى، وغيرهما.

قلت: وروى عنه ابن ناصر، والشيخ عبد القادر. وبالإجازة ابن كليب وذاكر بن كامل.

قال ابن ناصر: حدثنى أبو البركات طلحة بن أحمد بن طلحة القاضى، قال:

كان لى صديق اسمه ثابت. وكان رجلا صالحا، يقرأ القرآن، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فتوفى فلم أصلّ عليه لعذر منعنى، فرأيته فى المنام، فسلمت عليه، فلم يردّ علىّ السلام، وأعرض عنى، فقلت: يا ثابت، ما تكلمنى وأنت

ص: 139

صديقى وبينى وبينك مودّة؟ فقال: أنت صديقى، ولم تصلّ علىّ، فاعتذرت إليه، ثم قلت له: حدثنى كيف أنت بقبر أحمد بن حنبل؛ لأنه دفن هناك، فقال: ليس فى قبر أحمد أحد يعذب بالنار.

توفى طلحة العاقولى ليلة الثلاثاء ثانى شعبان - وقال ابن نقطه: ثالث شعبان سنة اثنتى عشرة وخمسمائة - ودفن بمقبرة الفيل من باب الأزج، قريبا من قبر أبى بكر عبد العزيز.

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومى - بمصر - أخبرنا أبو الفرج الحرّانى، أخبرنا ابن كليب، أخبرنا طلحة بن أحمد العاقولى، أخبرنا أبو محمد الجوهرى، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان حدثنا الحسين بن بحر، حدثنا عبد الله بن رجاء، قال ابن المرزبان: وحدثنا محمد ابن عبد الله الحضرمى حدثنا أحمد بن عون القواس قالا: حدثنا مسلم بن خالد عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «كرم المرء دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه» .

ذكر الشيخ موفق الدين، فى المغنى فى باب الإيمان، عن طلحة العاقولى:

أن العبد إذا ملّكه سيده مالا، وقلنا: يملكه، وأعتق منه بإذن سيده، فإن الولاء يكون موقوفا. فإن عتق فهو له، وإن مات فهو لسيده. وهذا خلاف ما ذكره الأكثرون: أن العبد لا يرث بالولاء ولا غيره.

وحكوا فى المكاتب: إذا عتق له عبد فى حال كتابته: هل يكون ولاؤه للسيد، أو يكون موقوفا، فإن عتق المكاتب كان له؟ على وجهين.

واختار أبو بكر، والقاضى فى خلافه: أنه للسيد بكل حال.

وحكى الشيخ أيضا فى المغنى والكافى عن طلحة العاقولى: أن الحالف إذا قال: والخالق، والرزاق، والربّ: كان يمينا بكل حال، وإن نوى بذلك غير الله تعالى سبحانه؛ لأنها لا تستعمل مع التصريف إلا فى اسم الله تعالى، فهى كاسم الله، والرحمن.

ص: 140

قلت: وقد وافقه على ذلك ابن الزاغونى فى الإقناع: فى الخالق، والرزاق وسائر أسماء الأفعال. قال: وهذا مبنىّ عندنا على أصل؛ فإنّ صفات الأفعال قديمة، استحقها الله تعالى فى القدم كصفات الذات.

‌64 - يحيى بن عثمان

بن الحسين بن عثمان بن عبد الرحمن البيع، الأزجى، الفقيه أبو القاسم بن الشواء.

ولد فى شوال سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.

وقرأ القرآن بالروايات. وسمع من ابن المهتدى، وابن المسلم، والجوهرى، والقاضى أبى يعلى، وأبى الغنائم بن المأمون، وأبوى الحسين بن حسنون، وابن النقور. وتفقه على القاضى أبى يعلى، ثم على القاضى يعقوب. وكان فقيها حسنا، صحيح السماع. وحدّث بشئ يسير.

روى عنه أبو المعمر الأنصارى فى معجمه. وقال أبو الحسين: سمع من الوالد، وحضر درسه، ونسخ معظم كتبه.

توفى ليلة الثلاثاء، تاسع عشر جمادى الآخرة سنة اثنتى عشرة وخمسمائة.

ودفن بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

‌65 - صمد بن نصر

بن أحمد بن محمد بن معروف الهمذانى، الحافظ الفقيه، الأديب أبو العلاء، المعروف بالأعمش.

ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة.

وسمع بهمذان من عبيد الله بن الحافظ بن منده، وأبى مسلم بن عوف النهاوندى، وأبى محمد بن ماهلة وطبقتهم.

روى عنه السلفى وأبو العلاء القطان، وأبو الفتوح الطائى، وغيرهم.

ذكره الذهبى فى تذكرة الحفاظ، فقال: شيخ، حافظ ثقة، مكثر.

وكان - مع بصره بهذا الشأن - عارفا بفقه أحمد بن حنبل، ناصرا للسنة، عالما بالعربية، وافر الجلالة بهمذان، وأملى عدة مجالس من حفظه.

ص: 141

قال أبو سعد السمعانى: أجاز لى مروياته. وكان عارفا بالحديث، حافظا، ثقة. سمع الكثير بنفسه، وأملى، وحدّث.

توفى عاشر شوال سنة اثنتى عشرة وخمسمائة. رحمه الله تعالى.

‌66 - على بن عقيل

بن محمد بن عقيل بن أحمد - كذا قرأت نسبه بخطه - البغدادى، الظفرى، المقرئ الفقيه، الأصولى، الواعظ المتكلم، أبو الوفاء، أحد الأئمة الأعلام، وشيخ الإسلام.

ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة فى جمادى الآخرة. كذا نقله عنه ابن ناصر السلفى.

قال ابن الجوزى. ورأيته بخطّه.

ونقل عنه على بن مسعود بن هبة الله البزار أنه قال: ولدت فى جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين، وتفقهت فى سنة سبع وأربعين.

وذكر أبو محمد بن السمرقندى عنه: أنه ولد سنة ثلاثين. والأول أصح.

وحفظ القرآن. وقرأ بالروايات القرآن على أبى الفتح بن شيطا، وغيره.

وكان يقول: شيخى فى القراءة: ابن شيطا. وفى النحو والأدب: أبو القاسم بن برهان. وفى الزهد: أبو بكر الدينورى، وأبو بكر بن زيدان، وأبو الحسين القزوينى، وذكر جماعة غيرهم من الرجال والنساء. وفى آداب التصوف:

أبو منصور صاحب الزيادة العطار، وأثنى عليه بالزهد والتخلق بأخلاق متقدمى الصوفية. وفى الحديث: ابن النّورى، وأبو بكر بن بشران، والعشارى، والجوهرى وغيرهم. وفى الشعر والترسل: ابن شبل، وابن الفضل. وفى الفرائض: أبو الفضل الهمذانى. وفى الوعظ: أبو طاهر بن العلاف صاحب ابن سمعون. وفى الأصول:

أبو الوليد وأبو القاسم ابن التبان. وفى الفقه: القاضى أبو يعلى المملوء عقلا وزهدا وورعا. قرأت عليه سنة سبع وأربعين، ولم أخل بمجالسه وخلوته التى تتسع لحضورى، والمشى معه ماشيا وفى ركابه إلى أن توفى. وحظيت من قربه بما

ص: 142

لم يحظ به أحد من أصحابه مع حداثة سنى. والشيخ أبو إسحاق الشيرازى، إمام الدنيا وزاهدها، وفارس المناظرة وواحدها. كان يعلمنى المناظرة، وانتفعت بمصنّفاته. وأبو نصر بن الصباغ، وأبو عبد الله الدامغانى، حضرت مجالس درسه ونظره. وقاضى القضاة الشامى انتفعت به غاية النفع، وأبو الفضل الهمذانى.

وأكبرهم سنا وأكثرهم فضلا: أبو الطيب الطبرىّ حظيت برؤيته، ومشيت فى ركابه. وكانت صحبتى له حين انقطاعه عن التدريس والمناظرة، فحظيت بالجمال والبركة.

ومن مشايخى: أبو محمد التميمى. كان حسنة العالم، وماشطة بغداد.

ومنهم: أبو بكر الخطيب. كان حافظ وقته. وكان أصحابنا الحنابلة يريدون منى هجران جماعة من العلماء. وكان ذلك يحرمنى علما نافعا. وأقبل علي أبو منصور بن يوسف، فحظيت منه بأكبر حظوة. وقدمنى على الفتاوى، مع حضور من هو أسن منى، وأجلسنى فى حلقة البرامكة، بجامع المنصور، لما مات شيخى سنة ثمان وخمسين. وقام بكل مؤونتى وتحملى، فقمت من الحلقة أتتبع حلق العلماء لتلقط الفوائد.

وأما أهل بيتى: فإن بيت أبى كلهم أرباب أقلام، وكتابة، وشعر، وآداب. وكان جدّى محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة. وهو المنشئ لرسالة عزل الطائع وتولية القادر، ووالدى انظر الناس وأحسنهم جزلا وعلما.

وبيت أبى

(1)

بيت الزهرى صاحب الكلام والدرس على مذهب أبى حنيفة.

وعانيت من الفقر والنسخ بالأجرة، مع عفة وتقى. ولا أزاحم فقيها فى حلقة، ولا تطلب نفسى رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لى عن الفائدة. وتقلبت عليّ الدول فما أخذتنى دولة سلطان ولا عامة عما أعتقده أنه الحق، فأوذيت من أصحابى حتى طلب الدم وأوذيت فى دولة النظام بالطلب والحبس - فيا من خفت الكل لأجله، لا تخيب ظنى فيك - وعصمنى الله تعالى فى عنفوان شبابى بأنواع

(1)

فى مخطوطة بأيدينا «وبيت أمى» .

ص: 143

من العصمة، وقصر محبتى على العلم وأهله، فما خالطت لعّابا قط، ولا عاشرت إلا أمثالى من طلبة العلم.

قال: والغالب على أحداث طائفة أصحاب أحمد العفة، وعلى مشايخهم الزهادة والنظافة. آخر كلامه.

والأذية التى ذكرها من أصحابه له، وطلبهم منه هجران جماعة من العلماء، نذكر بعض شرحها. وذلك:

أن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد، وابن التبان شيخى المعتزلة. وكان يقرأ عليهما فى السر علم الكلام، ويظهر منه فى بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله.

ففى سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شئ من تعظيم المعتزلة، والترحّم على الحلاّج وغير ذلك. ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه، فاختفى. ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره فى تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر فى أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا ولم يحضر الشريف أبو جعفر؛ لأنه كان عاتبا على ولاة الأمر بسبب إنكار منكر قد سبق ذكره فى ترجمته.

فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه وكتب خطّه:

يقول على بن عقيل بن محمد: إنّي أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم، والتكثر بأخلاقهم. وما كنت علّقته، ووجد بخطّى من مذاهبهم وضلالتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته. ولا تحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.

وإننى علقت مسألة الليل فى جملة ذلك. وإن قوما قالوا: هو أجساد سود.

ص: 144

وقلت: الصحيح: ما سمعته من الشيخ أبى عليّ، وأنه قال: هو عدم ولا يسمى جسما، ولا شيئا أصلا. واعتقدت أنا ذلك. وأنا تائب إلى الله تعالى منهم.

واعتقدت فى الحلاج أنه من أهل الدّين والزّهد والكرامات. ونصرت ذلك فى جزء عملته. وأنا تائب إلى الله تعالى منه، وأنه قتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا فى ذلك، وأخطأ هو. ومع ذلك فإنى أستغفر الله تعالى، وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة، والمبتدعة، وغير ذلك، والترحم عليهم، والتعظيم لهم؛ فإن ذلك كله حرام. ولا يحل لمسلم فعله؛ لقول النبى صلى الله عليه وسلم:«من عظّم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» .

وقد كان الشريف أبو جعفر، ومن كان معه من الشيوخ، والأتباع، سادتى وإخوانى - حرسهم الله تعالى - مصيبين فى الإنكار عليّ؛ لما شاهدوه بخطّى من الكتب التى أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحقق أنى كنت مخطئا غير مصيب.

ومتى حفظ عليّ ما ينافى هذا الخط وهذا الإقرار: فلامام المسلمين مكافأتى على ذلك. وأشهدت الله وملائكته وأولى العلم، على ذلك غير مجبر، ولا مكره وباطنى وظاهرى - يعلم الله تعالى - فى ذلك سواء. قال تعالى:(99:5 {وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ، وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)}.

وكتب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة.

وكانت كتابته قبل حضوره الديوان بيوم، فلما حضر شهد عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء.

قال ابن الجوزى: وأفتى ابن عقيل، ودرس وناظر الفحول، واستفتى فى الديوان فى زمن القائم، فى زمرة الكبار. وجمع علم الفروع والأصول وصنّف فيها الكتب الكبار. وكان دائم التشاغل بالعلم، حتى أنى رأيت بخطّه:

إنّي لا يحل لى أن أضيع ساعة من عمرى، حتى إذا تعطّل لسانى عن

ص: 145

مذاكرة ومناظرة، وبصرى عن مطالعة، أعملت فكرى فى حال راحتى، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلاّ وقد خطر لى ما أسطره. وإنّي لأجد من حرصى على العلم. وأنا فى عشر الثمانين أشدّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة.

قال: وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغوامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى «بالفنون» مناطا لخواطره وواقعاته. ومن تأمل واقعاته فيه عرف غور الرجل.

وتكلم على المنبر بلسان الوعظ مدة. فلما كانت سنة خمس وسبعين وأربعمائة جرت فيها فتن بين الحنابلة والأشاعرة، فترك الوعظ، واقتصر على التدريس.

ومتعه الله تعالى بسمعه وبصره، وجميع جوارحه.

قال: وقرأت بخطه. قال: بلغت الاثنتى عشرة سنة، وأنا فى سنة الثمانين وما أرى نقصا فى الخاطر والفكر والحفظ، وحدة النظر، وقوة البصر، لرؤية الأهلة الخفية، إلاّ أن القوة بالإضافة إلى قوة الشبيبة والكهولة ضعيفة.

قلت: وذكر ابن عقل، فى فنونه: قال حنبلى - يعنى نفسه -: أنا أقصر بغاية جهدى أوقات أكلى، حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه.

قال ابن الجوزى: وكان ابن عقيل قوى الدين، حافظا للحدود. وتوفى له ولدان، فظهر منه من الصبر ما يتعجب منه. وكان كريما ينفق ما يجد، ولم يخلف سوى كتبه وثياب بدنه. وكانت بمقدار كفنه، وقضاء دينه.

وقال ابن عقيل: قدم علينا أبو المعالى الجوينى بغداد، أول ما دخل الغزالى فتكلم مع أبى إسحاق، وأبى نصر الصباغ، وسمعت كلامه. ثم ذكر عنه مسألة العلم بالأعراض المشهورة عنه، وبالغ فى الرد عليه.

ولما ورد الغزالى بغداد، ودرس بالنظامية، حضره ابن عقيل، وأبو الخطاب،

ص: 146

وغيرهما. وكان ابن عقيل كثير المناظرة للكيا الهراسى. وكان الكيا ينشده فى المناظرة:

ارفق بعبدك إنّ فيه فهاهة

جبلية ولك العراق وماؤها.

قال السلفى: ما رأت عيناى مثل الشيخ أبى الوفاء بن عقيل؛ ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته.

ولقد تكلم يوما مع شيخنا أبى الحسن الكيا الهرّاسى فى مسألة، فقال شيخنا:

هذا ليس بمذهبك. فقال: أنا لى اجتهاد، متى ما طالبنى خصمى بحجة كان عندى ما أدفع به عن نفسى، وأقوم له بحجتى، فقال له شيخنا: كذلك الظنّ بك.

وذكر ابن النجار فى تاريخه: أن ابن عقيل قرأ الفقه على القاضى أبى يعلى، وعلى أبى محمد التميمى، وقرأ الأصول والخلاف على القاضى أبى الطيّب الطبرىّ، وأبى نصر بن الصباغ، وقاضى القضاة أبى عبد الله الدامغانى.

وكان ابن عقيل رحمه الله عظيم الحرمة، وافر الجلالة عند الخلفاء والملوك.

وكان شهما مقداما، يواجه الأكابر بالإنكار بلفظه، وخطه، حتى إنه أرسل مرة إلى حماد الدباس، مع شهرته بالزهد والمكاشفات، وعكوف العامة عليه، يتهدده فى أمر كان يفعله، ويقول له: إن عدت إلى هذا ضربت عنقك.

وكتب مرة إلى الوزير عميد الدولة ابن جهير لما بنى سور بغداد، وأظهر العوام، فى الاشتغال ببنائه المنكرات:

لولا اعتقاد صحة البعث، وأن لنا دارا أكون فيها على حال أحمدها، لما نصبت نفسى إلى مالك عصرى، وعلى الله أعتمد فى جميع ما أورده، بعد أن أشهده: أنى محب متعصب. لكن إذا تقابل دين محمد ودولة بنى جهير، فو الله ما أردت هذه بهذه، ولو كنت كذلك كنت كافرا. فقلت: إن هذا الخرق الذى جرى بالشريعة لمناصبة واضعها. فما بالنا نعقد الختمات ورواية

ص: 147

الأحاديث؟ فإذا نزلت بنا الحوادث تقدمنا بجميع الختمات، والدعاء عقيبها، ثم بعد ذلك طبول وصوانى، ومخانيث، وخيال، وكشف عوارت الرجال مع حضور النساء، إسقاطا لحكم الله تعالى.

وما عندى يا شرف الدين، أن تقوم بسخطة من سخطات الله تعالى. ترى بأى وجه تلقى محمدا صلى الله عليه وسلم؟ بل لو رأيته فى المنام مقطبا كان ذلك يزعجك فى يقظتك. وأىّ حرمة تبقى لوجوهنا وأيدينا وألسنتنا عند الله، إذا وضعنا الجباه ساجدة له؟ ثم كيف تطالب الأجناد بتقبيل عتبة، ولثم ترابها، وتقيم الحدّ فى دهليز الحريم، صباحا ومساء، على قدح نبيذ مختلف فيه، ثم تمرح العوام فى المسكر المجمع على تحريمه؟ هذا مضاف إلى الزنا الظاهر بباب بدر، ولبس الحرير على جميع المتعلقين والأصحاب.

يا شرف الدين، اتق سخط الله تعالى؛ فإن سخطه لا يقاومه سماء ولا أرض وإن فسدت حالى بما قلت فلعلّ الله يلطف بى، ويكفينى هوائج الطباع. ثم لا تلمنا على ملازمة البيوت، والاختفاء عن العوام؛ لأنهم إن سألونا لم نقل إلاّ ما يقتضى الإعظام لهذه القبائح، والإنكار لها، والنياحة على الشريعة. أترى لو جاءت معتبة من الله سبحانه فى منام أو على لسان نبى - لو كان للوحى نزول - أو ألقى إلى روع مسلم بإلهام: هل كانت إلا إليك؟ فاتق الله تقوى من علم بمقدار سخطه، فقد قال:(56:43 {فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ)} وقد ملأتكم فى عيونكم مدائح الشراء ومداجاة المتمولين بدولتكم، الأغنياء الأغبياء، الذين خسروا الله فيكم، فحسنوا لكم طرائقكم. والعاقل من عرف نفسه، ولا يغره مدح من لا يخبرها.

وكتب ابن عقيل إلى السلطان جلال الدولة «ملكشاه» وقد كانت الباطنية أفسدوا عقيدته، ودعوه إلى إنكار الصانع:

أيّها الملك، اعلم أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس،

ص: 148

فإذا فقدوه جحدوه. وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة. وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس، ولم يجحدها العقل، ولا يمكننا جحدها لقيام دلالة العقل على إثباتها.

فإن قال لك أحد من هؤلاء: لا تثبت إلا ما ترى. فمن ههنا دخل الإلحاد على جهّال العوام، الذين يستثقلون الأمر والنهى، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة، التى تنمى ولا تفسد، وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة، كالطب، والهندسة. فعلموا أن ذلك صادر عن أمر وراء هذه الأجساد المستحيلة وهو الروح والعقل، فإذا سألناهم: هل أدركتم هذين الأمرين بشئ من إحساسكم قالوا: لا، لكننا أدركناهما من طريق الاستدلال بما صدر عنهما من التأثيرات قلنا: فما لكم جحدتم الإله، حيث فقدتموه حسا، مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم، وإدارة الأفلاك، وإنبات الزرع، وتقليب الأزمنة؟ وكما أن لهذا الجسد عقلا وروحا بهما قوامه ولا يدركهما الحس، لكن شهدت بهما أدلّة العقل من حيث الآثار، كذلك الله سبحانه - وله المثل الأعلى - ثبت بالعقل، لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه، وإتقان أفعاله.

وأرسل هذا الفصل إلى السلطان مع بعض خواصه. قال: فحكى لى أنه أعاده عليه فاستحسنه، وهش إليه، ولعن أولئك، وكشف إليه ما يقولون له.

وكتب ابن عقيل أيضا مرة إلى أبى شجاع، وزير الخليفة المقتدى. وكان دينا كثير التعبد، لكن كانت به وسوسة فى عباداته:

أما بعد، فإن أجلّ تحصيل عند العقلاء، بإجماع العلماء: الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص. فالتكاليف كثيرة، والآداب خاطفة. وأقلّ متعبد به الماء. ومن اطلع على أسرار الشريعة علم قدر التخفيف.

فمن ذلك قوله: «صبوا على بول الأعرابى ذنوبا من الماء» .

وقوله فى المنى: «أمطه عنك» .

وقوله فى الخف: «طهوره أن تدلكه بالأرض» . وفى ذيل المرأة: «يطهره ما بعده» .

ص: 149

وقوله: «يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام» . و «كان يحمل بنت أبى العاص فى الصلاة» .

ونهى الراعى فى إعلام السائل عن الماء وما يرده، وقال:«يا صاحب الميزاب لا تخبره» فإن خطر بالبال نوع احتياط فى الطهارة، كالاحتياط فى غيرها فى مراعاة الإطالة، وغيبوبة الشمس، والزكاة، فإنه يفوت من الأعمال ما لا يفى به الاحتياط فى الماء، الذى أصله الطهارة.

وقد صافح رسول صلى الله عليه وسلم الأعرابى، وركب الحمار، وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء. وقد توضأ من سقاية المسجد. ومعلوم حال الأعراب الذين بان من أحدهم الإقدام على البول فى المسجد. وتوضأ من جرة نصرانية وما احترز؛ تعليما لنا وتشريعا. وأعلمنا أن الماء أصله الطهارة. وتوضأ من غدير كان ماءه نقاعة الحناء.

فأما قوله: «تنزهوا من البول» فإن للتنزه حدا معلوما. فأما الاستشعار:

فإنه إذا نما وانقطع الوقت، ولا يقتضى مثله الشرع.

وكتب ابن عقيل غير مرّة إلى قاضى القضاة أبى الحسن بن الدامغانى رسائل تتضمن توبيخه على تقصير وقع منه فى حقّه. وفيها كلام خشن وعتاب غليظ.

ولما دخل السلطان جلال الدولة إلى بغداد، ومعه وزيره نظام الملك، سنة أربع وثمانين، قال النظام: أريد أن أستدعى بهم، وأسألهم عن مذهبهم، فقد قيل: إنهم مجسمة - يعنى: الحنابلة.

قال ابن عقيل: فأحببت أن أصوغ لهم كلاما يجوز أن يقال إذا، فقلت:

ينبغى لهؤلاء الجماعة أن يسألوا عن صاحبنا؟ فإذا أجمعوا على حفظه لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، إلا ما كان للرأى فيه مدخل من الحوادث الفقهية، فنحن على مذهب ذلك الرجل الذى أجمعوا على تعديله، على أنهم على مذهب قوم أجمعنا على سلامتهم من البدعة. فإن وافقوا على أننا على مذهبه فقد أجمعوا على

ص: 150

سلامتنا معه؛ لأن متبع السليم سليم. وإن ادّعوا علينا أنّا تركنا مذهبه، وتمذهبنا بما يخالف الفقهاء، فليذكروا ذلك ليكون الجواب بحسبه. وإن قالوا: أحمد ما شبّه وأنتم شبّهتم، قلنا: الشافعى لم يكن أشعريّا، وأنتم أشعرية. فإن كان مكذوبا عليكم فقد كذب علينا. ونحن نفزع من التأويل مع نفى التشبيه، فلا يعاب علينا إلا ترك الخوض والبحث وليس بطريقة السلف. ثم ما يريد الطاعنون علينا، ونحن لا نزاحمهم على طلب الدنيا؟

وفى هذه السنة المذكور: توفى أبو طاهر بن علك. وكان من صدر الشافعية، وأكابر المتمولين. فشيّعه نظام الملك وأرباب الدولة. ودفن بتربة أبى إسحاق الشيرازى، وجاء السلطان إلى القبر بعد دفنه.

قال ابن عقيل: جلست إلى جانب نظام الملك، بتربة أبى إسحاق، والملوك قيام بين يديه، واجترأت على ذلك بالعلم. وكان جالسا للتعزية بابن علك.

ولما بويع المستظهر حضر ابن عقيل مع الغزالى والشاشى للمبايعة. فلما توفى المستظهر غسله ابن عقيل مع الشيبى.

قال ابن عقيل: ولما تولد المسترشد تلقانى ثلاثة من المستخدمين، يقول كل واحد منهم: قد طلبك مولانا أمير المؤمنين. فلما صرت بالحضرة، وقال لى قاضى القضاة - وهو قائم بين يديه -: طلبك مولانا أمير المؤمنين ثلاث مرات، فقلت:

ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. ثم مددت يدى فبسط لى يده الشريفة، فصافحته بعد السلام، وبايعت، فقلت: أبايع سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين المسترشد بالله على كتاب الله وسنة رسوله، وسنة الخلفاء الراشدين، ما أطاق واستطاع، وعلى الطاعة منى.

وكان ابن عقيل رحمه الله من أفاضل العالم، وأذكياء بنى آدم، مفرط الذكاء، متسع الدائرة فى العلوم. وكان خبيرا بالكلام، مطلعا على مذاهب المتكلمين.

وله بعد ذلك فى ذم الكلام وأهله شئ كثير، كما ذكر ابن الجوزى وغيره عنه

ص: 151

أنه قال: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، وما عرفوا الجوهر والعرض. فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أنّ طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبى بكر وعمر، فبئس ما رأيت.

وذكر عنه أنه قال: لقد بالغت فى الأصول طول عمرى، ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب.

وقد حكى هذا عنه القرطبى فى شرح مسلم. وله من الكلام فى السنة والانتصار لها، والرد على المتكلمين شئ كثير. وقد صنّف فى ذلك مصنفا.

وقرأت بخط الحافظ أبى محمد البرزالى قال: قرأت بخط الحافظ ضياء الدين المقدسى، قال: كتب بعضهم إلى أبى الوفاء بن عقيل يقول له: صف لى أصحاب الإمام أحمد على ما عرفت من الإنصاف.

فكتب إليه يقول: هم قوم خشن، تقلّصت أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلّ عندهم الهزل، وغربت نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا فى العلوم الغامضة، بل دققوا فى الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا:

الله أعلم بما فيها، من خشية باريها. ولم أحفظ على أحد منهم تشبيها، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآى والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار.

والله يعلم أننى لا أعتقد فى الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق. والسلام.

وكان رحمه الله بارعا فى الفقه وأصوله. وله فى ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة. وكانت له يد طولى فى الوعظ، والمعارف.

وكلامه فى ذلك حسن، وأكثره مستنبط من النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارف جليلة، وإشارات دقيقة.

ص: 152

ومن معانى كلامه يستمدّ أبو الفرج بن الجوزى فى الوعظ.

فمن ذلك ما قاله فى الفنون:

لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، وخوف الضرر على نفسه، فقال:(106:16 {إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)}.

من قدّم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامى عن نفسك بذكره بما لا ينبغى له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتوقر أوامره، وزواجره.

وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقذفك، وعصم مالك بقطع مسلم فى سرقته، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل؛ إشفاقا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدّا لرمقك، وحفظا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل، ووعيد آجل، وخرق العوائد لأجلك، وأنزل الكتب إليك. أيحسن بك - مع هذا الإكرام - أن ترى على ما نهاك منهمكا، وعما أمرك متنكبا، وعن داعيه معرضا، ولسنته هاجرا، ولداعى عدوك فيه مطيعا؟

يعظمك وهو هو، وتهمل أمره وأنت أنت. هو حطّ رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لك.

هل عاديت خادما طالت خدمته لك لترك صلاة؟ هل نفيته من دارك للاخلال بفرض، أو لارتكاب نهى؟ فإن لم تعترف العبيد للموالى، فلا أقل من أن تقتضى نفسك للحق سبحانه، اقتضاء المساوى المكافى.

ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكة السماء سجود له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدإ والمآل، إلى أن يوجد ساجدا لصورة فى حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمس أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفر! ما أوحش زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والجور بعد الكور!

ص: 153

لا يليق بهذا الحى الكريم الفاضل على جميع الحيوان أن يرى إلا عابدا لله فى دار التكليف، أو مجاورا لله فى دار الجزاء والتشريف. وما بين ذلك فهو واضع نفسه فى غير مواضعها.

ومن كلامه فى تقرير البعث والمعاد:

والله لا أقنع من الله سبحانه بهذه اللمحة التى مزجت بالعلاقم، ولا أقنع من الأبدى السّرمدىّ، ولا يليق بذا الكرم إلا إدامة النعم. والله ما لوّح بما لوّح إلا وقد أعدّ ما تخافه الآمال. وما قدح أحد فى كمال جود الخالق وإنعامه بأكثر من جحده البعث مع تشريف النفوس، وتعليق القلوب بالإعادة، والجزاء على الأعمال الشاقة، التى هجر القوم فيها اللذّات، فصبروا على البلاء؛ طمعا فى العطاء.

قال: ويدلّ على أنّ لنا إعادة تتضمن بقاء دائما، وعيشا سالما: أنّ أصح الدلالة قد دلّت على كمال الباري سبحانه وتعالى، وخروجه عن النقائص.

وقد استقرينا أفعاله، فرأيناه قد أعدّ كل شئ لشئ. فالسمع للمسموعات، والعين للمبصرات، والأسنان للطحن، والمنخران للشمّ، والمعدة لطبخ الطعام.

وقد بقى للنفس غرض قد عجن فى طينها: وهو البقاء بغير انقطاع، وبلوغ الأغراض من غير أذى. وقد عدمت النفس ذلك فى الدنيا. ثم إنا نرى طالما لم يقابل ولا تقتضى الحكمة لذلك. فينبغى أن يكون لها ذلك فى دار أخرى.

قال: ولأنظر إلى صورة البلى فى القبور، فكم من بداية خالفتها النهاية.

فإن بداية الآدمى والطير ماء مسخّن مستقذر، ومبادى النبات حبّ عفن، ثم يخرج الآدمى والطاوس. وكذلك خروج الموتى بعد اليلى.

قال: وبينا أنا نائم سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، لاحت لى مقبرة، وكأن قائلا يقول: هذه خيم البلى، على باب الرجاء وعلى الوفاء. قال: وهذا الإلقاء من الله تعالى لكثرة لهجى بالبعث، وتشوفى إلى الاجتماع بالسلف النطاف، وتبرمى من مخالطة السفساف.

ص: 154

وكان ابن عقيل يقول: لا يعظم عندك بذلك نفسك فى ذات الله فهى التى بذلتها بالأمس فى حب مغنية، وهوى أمرد، وخاطرت بها فى الأسفار لأجل زيادة الدنيا. فلما جئت إلى طاعة الله تعالى عظمت ما بذلته، والله ما يحسن بذل النفس إلا لمن إذا أباد أعاد، وإذا أعاد أفاد، وإذا أفاد خلد فائدته على الآباد.

وذاك والله الذى يحسن فيه بذل النفوس، وإبانة الرءوس. أليس هو القائل:

(170:3 {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً)؟}.

سمع ابن عقيل الحديث الكثير من أبى بكر بن بشران، وأبى الفتح ابن شيطا، وأبى الحسن التوزى، وأبى محمد الجوهرى، وأبى طالب العشارى، والقاضى أبى يعلى، وأبى على المباركى، وغيرهم.

وحدث، وروى عنه ابن ناصر، وعمر بن ظفر المغازلى، وأبو المعمر الأنصارى، وأبو الرضى الفارسى، وأبو القاسم الناصحى، وأبو المظفر السّنجىّ، وأبو الفتح محمد بن يحيى البردانى، وغيرهم. وأجاز لأبى سعد بن السمعانى الحافظ، وعبد الحق اليوسفى، ويحيى بن بوش.

أنبأتنا زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم عن على بن عبد اللطيف الدينورى، عن أبى الحسين بن عبد الحق بن عبد الخالق، أخبرنا أبو الوفاء على بن عقيل الإمام، أخبرنا أبو طالب محمد بن على بن الفتح، أخبرنا محمود بن عمر العكبرى، أخبرنا أبو بكر بن محب إجازة، حدثنا أبو حفص الجوهرى، حدثنا أبو أحمد ابن محمد بن جعفر، حدثنا أحمد بن محمد الأنماطى - الذى كان ينزل سامرّا - أخبرنا أحمد بن نصر قال: رأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام، فقلت: يا رسول الله من تركت لنا فى عصرنا هذا ممن يقتدى به؟ قال: عليكم بأحمد بن حنبل.

ولا بن عقيل تصانيف كثيرة فى أنواع العلم.

وأكبر تصانيفه: كتاب «الفنون» وهو كتاب كبير جدا، فيه فوائد كثيرة جليلة، فى الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة،

ص: 155

والشعر، والتاريخ، والحكايات. وفيه مناظراته ومجالسه التى وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قيّدها فيه.

وقال ابن الجوزى: وهذا الكتاب مائتا مجلد. وقع لى منه نحو من مائة وخمسين مجلدة.

وقال عبد الرزاق الرسعنى فى تفسيره. قال لى أبو البقاء اللغوى: سمعت الشيخ أبا حكيم النهروانى يقول: وقفت على السّفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون.

وقال الحافظ الذهبى فى تاريخه: لم يصنف فى الدنيا أكبر من هذا الكتاب.

حدثنى من رأى منه المجلد الفلانى بعد الأربعمائة.

قلت: وأخبرنى أبو حفص عمر بن على القزوينى ببغداد، قال: سمعت بعض مشايخنا يقول: هو ثمانمائة مجلدة.

وله فى الفقه كتاب «الفصول» ويسمى «كفاية المفتى» فى عشر مجلدات، كتاب «عمدة الأدلة» ، كتاب «المفردات» ، كتاب «المجالس النظريات» ، كتاب «التذكرة» مجلد، كتاب «الإشارة» مجلد لطيف، وهو مختضر كتاب «الروايتين والوجهين» ، كتاب «المنثور» .

وفى الأصلين كتاب «الإرشاد فى أصول الدين» ، وكتاب «الواضح فى أصول الفقه» ، و «الانتصار لأهل الحديث» مجلد، «نفى التشبيه» ، «مسألة فى الحرف والصوت» جزء، «مسائل مشكلة فى آيات من القرآن» وأحاديث سئل عنها فأجاب. وله كتاب «تهذيب النفس» ، «تفضيل العبادات على نعيم الجنات» .

وكان ابن عقيل كثير التعظيم للامام أحمد وأصحابه، والرد على مخالفيهم.

ومن كلامه فى ذلك: ومن عجيب ما نسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه محدّث. وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد

ص: 156

خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم. وخرج عنه من دقيق الفقه ما لا تراه لأحد منهم. وذكر مسائل من كلام أحمد، ثم قال:

وما يقصد هذا إلا مبتدع، قد تمزق فؤاده من خمود كلمته، وانتشار علم أحمد، حتى إن أكثر العلماء يقولون: أصلى أصل أحمد، وفرعى فرع فلان. فحسبك بمن يرضى به فى الأصول قدوة.

وكان يقول: هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه؛ لأن أصحاب أبى حنيفة والشافعى إذا برع واحد منهم فى العلم تولى القضاء وغيره من الولايات. فكانت الولاية لتدريسه واشتغاله بالعلم. فأما أصحاب أحمد: فإنه قلّ فيهم من تعلق بطرف من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد؛ لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم.

وكان مع ذلك يتكلم كثيرا بلسان الاجتهاد والترجيح، واتباع الدليل الذى يظهر له ويقول: الواجب اتباع الدليل، لا اتباع أحمد.

وكان يخونه قلة بضاعته فى الحديث. فلو كان متضلعا من الحديث والآثار، ومتوسعا فى علومهما لكملت له أدوات الاجتهاد.

وكان اجتماعه بأبى بكر الخطيب، ومن كان فى وقته من أئمة الحفاظ، كأبى نصر بن ماكولا، والحميدى، وغيرهم أولى وأنفع له من الاجتماع بابن الوليد وابن التبان. وتركه لمجالسة مثل هؤلاء هو الذى حرمه علما نافعا فى الحقيقة. ولكن الكمال لله.

وله مسائل كثيرة ينفرد بها، ويخالف فيها المذهب. وقد يخالفه فى بعض تصانيفه، ويوافقه فى بعضها، فإن نظره كثيرا يختلف، واجتهاده يتنوع.

وكان يقول: عندى أن من أكبر فضائل المجتهد: أن يتردد فى الحكم عند تردد الحجة والشبهة فيه. وإذا وقف على أحد المترددين دلّه على أنه ما عرف الشبهة، ومن لا تعترضه شبهة لا تصفو له حجة. وكل قلب لا يقرعه التردد،

ص: 157

فإنما يظهر فيه التقليد والجمود على ما يقال له ويسمع من غيره.

فمن المسائل التى تفرّد بها: أن النساء لا يجوز لهن استعمال الحرير إلا فى اللبس دون الافتراش والاستناد. ذكره فى الفنون.

ومنها: أن صلاة الغد

(1)

تصح فى صلاة الجنازة خاصة. وهو معروف عنه.

ومنها: أن الربا لا يجرى إلاّ فى الأعيان الستة المنصوص عليها. ذكره فى نظرياته.

ومنها: أن الوقف لا يجوز بيعه، وإن خرب وتعطل نفعه. وله فى ذلك كلام فى جزء مفرد.

ومنها: أن الأب ليس له أن يتملك من مال ولده ما شاء، مع عدم حاجته ذكره فى الفصول فى كتاب النكاح.

ومنها: أن المشروع فى عطية الأولاد: التسوية بين الذكور والإناث.

ذكره فى الفنون.

ومنها: أنه يجوز استئجار الشجر المثمر تبعا للأرض؛ لمشقة التفريق بينهما.

حكاه عنه الشيخ تقى الدين بن تيمية.

ومنها: أنه لا يجوز أن يؤخذ العشر من تجار أهل الحرب ولا أهل الذمة، إذا اتجروا فى بلاد الإسلام، إلا بشرط أو تراض. ذكره فى فنونه.

وقد حكى القاضى فى شرحه الصغير رواية عن أحمد كذلك. ذكرها ابن تميم لكنها غريبة جدا.

ومنها: إذا حلف على فعل يتعلق بعين معينة، فتغيرت صفاتها بما يزيل اسمها:

لم يتعلق الحنث بها على هذه الحال مطلقا.

ومنها: أنه لا يجوز وطء المكاتبة، وإن اشترط وطأها فى عقد الكتابة.

وحكاه فى مفرداته رواية.

ومنها: أنه لا زكاة فى حليّ المواشط المعد للكراء. ذكره فى «عمدة

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «صلاة الفذ»

ص: 158

الأدلة» وخرج من قول الأصحاب بالوجوب وجها يوجب الزكاة فى سائر ما يعد للكراء من الأملاك، من عقار وغيره.

ومنها: أن الزروع والثمار التى تسقى بماء نجس طاهرة مباحة، وإن لم تسق بعده بماء طاهر.

ومنها: أن الزوجة إذا كانت نضوة الخلق لا يمكن زوجها وطأها إلا بجناية عليها: فإنه يملك فسخ نكاحها بذلك.

ومنها: أن الإمام لا يمتنع من الصلاة على الغالّ، ولا على من قتل نفسه، وأن امتناع النبى صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهما كان من خصائصه.

ومنها: تحريم الاستمناء بكل حال. وحكاه رواية.

ومنها: أنه يجب الحد بقذف العبد العفيف كالحرّ. ذكره فى مفرداته.

ومن المسائل الغريبة التى ذكرها ابن عقيل: مسألة فى الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفا على ولديهما: فهل تكون الكفارة على الأم من مالها، أو بينها وبين من تلزمه نفقته؟ ذكر فى الفنون: فيها احتمال.

قال: والأشبه أنه على الأم؛ لأنها هى المرتفقة بالإفطار لاستضرارها، وتغير لبنها، والولد تبع لها.

قال: ولأنه لو كان الطفل معتبرا فى إيجاب التكفير لكان على كل واحد منهما كفارة تامة، كالجماع فى رمضان، وكالمشتركين فى قتل الصيد، على أصح الروايتين.

قلت: وهذا ضعيف؛ فإن المشتركين فى الجماع كل منهما أفسد صومه والمشتركين فى القتل كل منهما جنى على إجرامه، فهما متساويان فى الجناية، بخلاف الطفل والأم ههنا.

وذكر أيضا فى الفنون: قال: سأل سائل عن قائل قال: والله لا رددت سائلا - أو قال: لله عليّ لا رددت - سائلا - وليس يتسع حاله لذلك، وإن

ص: 159

اعتمد ذلك لم يبق له وقت لعمل ولا لتجارة، ولو كان له مال يفى، فكيف ولا مال يفى، ولا وقت يتسع لذلك مع كثرة السؤال؟.

فأجاب حنبلى: بأن هذا قياس قولنا فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله: فإنه فى اليمين مخيّر بين الثلث، وكفارة يمين. وفى النذر: يلزمه أن يتصدق بثلث ماله، فيجب أن يتصدق بثلث ما يتحصل له، مما يزيد على حاجته. وإن لم يتحصل له ما يحتاج إليه: لم يدخل تحت نذره لزومه التصدق به، ويكفر كفارة يمين.

قال قائل: يشترى برّا أو حبّ رمان، ويعطى كل سائل حبة من ذلك؟

قال له الحنبلى: هذا لا يجئ على أصلنا؛ لأنا نعتبر المقاصد فى الأيمان والنذور، والقصد: أن لا يردّ سائلا عن سؤاله. وحبة رمان وحبة بر ليست سؤال السائل، فإعطاؤه كردّه.

وقال حنبلى: يحتمل أن يصح خروجه من نذره ببرّة برّ؛ لأنّا قد علّقنا حكم الربا على برة ببرتين. وما علق عليه الشرع مأثما، فأحرى أن يعلق عليه ما يحصل به الثواب. وقول عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم:

«اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة» يعضد القول بالتصدق بالبرّة.

وقال حنبلى آخر: بل إذا لم يجد شيئا أصلا وعد، فكانت العدة مخلصة له من الردّ. فإن الردّ لا يتحقق مع العدة. ألا ترى أنّ من وعد بزكاة ماله للساعى لا يستحق القتال، ولا التغرير، ولا يأثم؟ ولا يقال: إنه ردّ الساعى ولا المطالب بدينه، ولا الفقير. وللحديث الذى جاء:«العدة دين» وهذه العدة نافعة فى منع الحنث، من حيث إنها لا تقف مع العزم على الإعطاء على التوفية، بل من وعد فعزم أنه متى حصل له مال أعطى السائل ما سأله فما ردّه. والله أعلم.

ومن غرائب ابن عقيل: أنه اختار وجوب الرضى بقضاء الله تعالى فى الأمراض والمصائب. ذكره فى مواضع من كلامه. لكنه فسر الرضى فى

ص: 160

الفنون: بأنه الرضى عن الله تعالى بها، ثقة بحكمه وإن كانت مؤلمة للطبع، كما لا يبغض الطبيب عند بطء الدمّل وفتح العروق. وليس المراد هشاشة النفس وانشراحها لها، فإن هذا عنده مستحيل. وصرّح بأنه لم يحصل للأنبياء. كذا قال. وهو فاسد.

واختار: أن النهار أفضل من الليل.

واختار: أنه لا تجوز الصلاة على القبر فى شئ من أوقات النهى، بخلاف الصلاة على الجنازة. وخالفه بعض مشايخ أصحابنا فى زمنه.

ومن كلامه الحسن: أنه وعظ يوما فقال: يا من يجد فى قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهدا؛ فإن الله تعالى يقول:(15:5 {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً)}.

وسئل فقيل له: ما تقول فى عزلة الجاهل؟ فقال: خبال ووبال، تضره ولا تنفعه. فقيل له: فعزلة العالم؟ قال: مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها:

ترد الماء وترعى الشجر، إلى أن يلقاها ربها.

ومن كلامه فى صفة الأرض أيام الربيع: إن الأرض أهدت إلى السماء غبرتها بترقية الغيوم، فكستها السماء زهرتها من الكواكب والنجوم.

وقال: كأنّ الأرض أيام زهرتها مرآة السماء فى انطباع صورتها.

قال ابن النجار: قرأت فى كتاب أبى نصر المعمر بن محمد بن الحسن البيع يخطه، وأنبأنا عنه أبو القاسم الأزجى، قال: أنشدنا أبو الوفاء علىّ بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبلىّ لنفسه:

يقولون لى: ما بال جسمك ناحل

ودمعك من آماق عينيك هاطل؟

وما بال لون الجسم بدل صفرة

وقد كان محمرّا فلونك حائل؟

فقلت: سقاما حلّ فى باطن الحشا

ولوعة قلب بلبلته البلابل

وأنّى لمثلى أن يبين لناظر

ولكننى للعالمين أجامل

ص: 161

فلا تغترر يوما ببشرى وظاهرى

فلى باطن قد قطّعته النوازل

وما أنا إلا كالزناد تضمّنت

لهيبا، ولكنّ اللهيب مداخل

إذا حمل المرء الذى فوق طوره

يرى عن قريب من تجلد عاطل

لعمرى إذا كان التجمّل كلفة

يكون كذا بين الانام مجامل

فأما الذى أثنى له الدهر عطفه

ولان له وعر الأمور مواصل

بألطاف قرب يسهل الصعب عندها

وينعم فيها بالذى كان يأمل

تراه رخى البال من كل علقة

وقد صميت منه الكلا والمفاصل

توفى أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله بكرة الجمعة، ثانى عشر جمادى الأولى سنة ثلاثة عشرة وخمسمائة - وقيل: توفى سادس عشر الشهر - والأول أصح.

وصلّى عليه فى جامعى القصر والمنصور. وكان الإمام عليه فى جامع القصر ابن شافع. وكان الجمع يفوت الإحصاء.

قال ابن ناصر: حزرتهم بثلاثمائة ألف. ودفن فى دكة قبر الإمام أحمد رضى الله عنه. وقبره ظاهر رضى الله عنه. فما كان فى مذهبنا أحد مثله. آخر كلام ابن ناصر.

وذكر المبارك بن كامل الخفاف: أنه جرت فتنة - يعنى: على حمله - قال:

وتجارحوا، وقال الشيخ مطيع: كفن ونطع.

قال ابن الجوزى: حدثنى بعض الأشياخ: أنه لما احتضر ابن عقيل، بكى النساء. فقال: قد وقعت عنه خمسين سنة، فدعونى أتهنا بلقائه.

قال ابن السمعانى أنشدنى الإمام أبو المحاسن مسعود بن محمد بن غانم الأديب الغانمى لنفسه، يمدح الإمام أبا الوفاء بن عقيل:

لعلىّ بن عقيل البغدادى

مجد لفرق الفرقدين محاذى

قد كان ينصر أحمدا خير الورى

وكلامه أحلى من الأزاذ

وإذا تلهّب فى الجدال فعنده

سبحان فيه فى التجارب هاذى

ص: 162

ما أخرجت بغداد فحلا مثله

لله در الفاضل البغدادى

ولقد مضى لسبيله مع عصبة

كانوا لدين الحق خير ملاذ

وقد قرأ على ابن عقيل الفقه الأصول خلق من أصحابنا، يأتى ذكرهم فى مواضعهم إن شاء الله تعالى من الطبقة التى بعد هذه.

وممن قرأ عليه أبو الفتح بن برهان الأصولى، صاحب التصانيف فى الأصول، ومدرّس النظامية. وكان أولا حنبليا، ثم انتقل لجفاء أصحابنا له.

وكان لابن عقيل ولدان ماتا فى حياته: أحدهما:

‌أبو الحسن عقيل

كان فى غاية الحسن. وكان شابا، فهما، ذا خط حسن.

قال ابن القطيعى: حكى والده أنه ولد ليلة حادى عشر رمضان سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.

وذكر غيره: أنه سمع من هبة الله بن عبد الرزاق الأنصارى، وعلى بن حسين ابن أيوب، وغيرهما. وتفقه على أبيه، وناظر فى الأصول والفروع.

وسمع الحديث الكثير، وشهد عند قاضى القضاة أبى الحسن بن الدامغانى، فقبل قوله. وكان فقيها فاضلا يفهم المعانى جيدا، ويقول الشعر. وكان يشهد مجلس الحكم، ويحضر المواكب.

وتوفى رحمه الله يوم الثلاثاء، منتصف محرم سنة عشر وخمسمائة. وصلّى عليه يوم الأربعاء. كذا ذكر ابن شافع وغيره.

وفى تاريخ ابن المنادى: أنه توفى يوم الجمعة ثانى عشر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. ودفن يوم السبت بدكة الإمام أحمد.

فعلى هذا: تكون وفاته قبل والده بشهر واحد. ولا أظن هذا إلا غلطا.

وكان له من العمر سبع وعشرون سنة. ودفن فى داره بالظفرية، فلما مات أبوه نقل إلى دكة الإمام أحمد رضى الله عنه.

ص: 163

قال والده: مات ولدى عقيل. وكان قد تفقه وناظر، وجمع أدبا حسنا، فتعزّيت بقصة عمرو بن عبد ودّ الذى قتله على رضى الله عنه، فقالت أمه ترثيه:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

ما زلت أبكى عليه دائم الأبد

لكنّ قاتله من لا يقاد به

من كان يدعى أبوه بيضة البلد

فأسلاها، وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله. فنظرت إلى قاتل ولدى الحكيم المالك، فهان علىّ القتل والمقتول لجلالة القاتل.

وذكر عن الإمام أبى الوفاء: أنه أكب عليه وقبّله، وهو فى أكفانه.

وقال: يا بنىّ، استودعتك الله الذى لا تضيع ودائعه. الرب خير لك منى.

ثم مضى، وصلّى عليه بجنان ثابت. رحمه الله.

ومن شعر عقيل هذا:

شاقه والشوق من غيره

طلل عاف سوى أثره

مقفر إلا معالمه

واكف بالودق من مطره

فانثنى والدمع منهمل

كانسلال السلك عن درره

طاويا كشحا على نوب

سبحات لسن من وطره

رحلة الأحباب عن وطن

وحلول الشيب فى شعره

شيم للدهر سالفة

مستبينات لمختبره

وقبول الدر مبسمها

أبلج يفترّ عن خضره

هزّ عطفيها الشباب كما

ماس غصن البان فى شجره

ذات فرع فوق ملتمع

كدجى أبدى سنا قمره

وبنان زانه ترف

ذاده التسليم عن خفره

خصرها يشكو روادفها

كاشتكاء الصبّ من سهره

نصبت قلبى لها غرضا

فهو مصمىّ بمعتوره

وزهت تيها كأنّ لها

منبتا تزهى بمفتخره

وأناخت فى فنا ملك

دنت الأخطار عن خطره

ص: 164

والآخر:

‌أبو منصور هبة الله

ولد فى ذى الحجة سنة أربع وسبعين وأربعمائة. وحفظ القرآن وتفقه، وظهر منه أشياء تدل على عقل غرير، ودين عظيم. ثم مرض وطال مرضه، وأنفق عليه أبوه مالا فى المرض، وبالغ.

قال أبو الوفاء: قال لى ابنى، لما تقارب أجله: يا سيدى قد أنفقت وبالغت فى الأدوية، والطب، والأدعية، ولله تعالى فىّ اختيار، فدعنى مع اختياره. قال:

فو الله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدى بهذه المقالة التى تشاكل قول إسحاق لإبراهيم: (103:37 {اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ)} إلاّ وقد اختاره الله تعالى للحظوة.

توفى رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وله نحو أربع عشرة سنة.

وحمل أبو الوفا رحمه الله فى نفسه من شدة الألم أمرا عظيما، ولكنه تصبّر، ولم يظهر منه جزع. وكان يقول: لولا أن القلوب توقن باجتماع ثان لتفطرت المرائر لفراق المحبوبين.

وقال فى آخر عمره - وقد دخل فى عشر التسعين، وذكر من رأى فى زمانه من السادات من مشايخه وأقرانه، وغيرهم -: قد حمدت ربى إذ أخرجنى ولم يبق لى مرغوب فيه، فكفانى صحبة التأسف على ما يفوت؛ لأن التخلف مع غير الأمثال عذاب. وإنما هوّن فقدانى للسادات نظرى إلى الإعادة بعين اليقين وثقتى إلى وعد المبدئ لهم، فلكأنى أسمع داعى البعث قد دعا، كما سمعت ناعيهم وقد نعى. حاشا المبدئ لهم على تلك الأشكال والعلوم أن يقنع لهم من الوجود بتلك الأيام اليسيرة، المشوبة بأنواع التنغيص وهو المالك. لا والله، لا قنع لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة تليق بكرمه: نعيم بلا ثبور، وبقاء بلا موت واجتماع بلا فرقة، ولدات بغير نغصة.

ص: 165

‌67 - المبارك بن عليّ

بن الحسين بن بندار البغدادى المخرّمى، الفقيه القاضى، أبو سعد قاضى باب الأزج.

ولد فى رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة.

وسمع الحديث من القاضى أبى يعلى، وأبى الحسين بن المهتدى، وأبى جعفر ابن المسلمة، وجابر بن ياسين، والصريفينى، وابن المأمون، وابن النقور.

وسمع من القاضى أبى يعلى شيئا من الفقه، ثم تفقه على صاحبه الشريف أبى جعفر، ثم القاضى يعقوب البرزبيني. وأفتى ودرّس وناظر، وجمع كتبا كثيرة لم يسبق إلى جمع مثلها. وشهد عند أبى الحسن الدامغانى فى سنة تسع وثمانين، ثم ناب فى القضاء. وكان حسن السيرة، جميل الطريقة، سديد الأقضية، وبنى مدرسة بباب الأزج، ثم عزل عن القضاء فى سنة إحدى عشرة، ووكل به فى الديوان على حساب وقوف الترب، فأدى مالا.

ثم توفى فى ثانى عشر المحرم سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. ودفن إلى جانب أبى بكر الخلال عند رجلى الإمام أحمد رضى الله عنه. ذكر هذا كله أبو الفرج فى تاريخه.

وقال أبو الحسين: توفى ليلة الجمعة ثانى عشر المحرم. ودفن يوم الجمعة.

قبل الصلاة. وصلّى عليه فى عدة مواضع.

قال: وكان مليح المناظرة، سيرته جميلة، وعشرته مليحة. وكان بينى وبينه امتزاج، واجتمعنا فى مجلس الشريف للدرس. غفر الله له.

وفى تاريخ القضاة للميدانى: أنه توفى ليلة الأحد رابع عشر محرم. وهو وهم.

و «المخرّمى» بكسر الراء - منسوب إلى المخرّم: محلة ببغداد شرقيها.

نزلها بعض ولد يزيد بن المخرم، فنسبت إليه. ذكره المنذرى.

والمدرسة المذكورة التى بناها: هى المنسوبة الآن إلى تلميذه الشيخ عبد القادر

ص: 166

الجيلى؛ لأنه وسعها وسكن بها، فعرفت به. وللمخرّمى ذرية فيهم شيوخ تصوف، ورؤساء ذوو ولايات، ورواة حديث.

ولأبى سعد المخرمى مع ابن عقيل مناظرة فى مسألة بيع الوقف إذا خرب وتعطل. ونحن نذكر مضمون المناظرة ملخصا:

قال ابن عقيل: أنا أخالف صاحبى فى هذه؛ لدليل عرض لى، وهو أنّ الباقى بعد التعطل والدروس صالح لوقوع البيع وابتداء الوقف عليه، فإنه يصح وقف هذه الأرض العاطلة ابتداء، فالدوام أولى. ألا ترى أن الرّدّة والعدة يمنعان ابتداء النكاح، ولا يمنعان دوامه؟.

اعترض عليه المخرّمي، فقال: يحتمل أن لا أسلم ما عولت عليه فى صحة إنشاء وقفها، بل لا يصح وقف ما يجب نقله؟.

قال ابن عقيل: هذا لا يجوز أن يقال جملة، فإنك تقول: تباع ويصرف ثمنها فى وقف آخر. فهذه المالية التى قبلت البيع، وهو عقد معاوضة مستأنف كيف لا يصلح لبقاء دوام عقد قد انعقد بشروطه؟ وأكثر ما يقدر أن المسجد بقى فى بريّة، فيصلح لصلاة المارة والقوافل، ويصحّ أن يستأجر البقعة أهل قافلة لإيقاف دوابهم، وطرح رحالهم، وهذا القدر من بقاء مالية الأصل والمنافع، وقبولها للعقود المستجدة، لا يجوز معه قطع دوام الوقف.

قلت: هذا ليس بجواب؛ لما قاله المخرّمى من منع صحة إنشاء وقفها، فإن أكثر ما يفيد هذا: أن وقفيتها لم تزل بالخراب، والمخرمى موافق على ذلك، ولكنه يقول: إنه يجوز أو يجب بيعها وصرف ثمنها إلى مثلها، وهذا شئ آخر.

ولم يستدل ابن عقيل على صحة إنشاء وقفها.

فإن قال: فإذا صح إنشاء عقد البيع عليها صح إنشاء الوقف.

قلنا: هذا ممنوع، فكم من عين يصحّ بيعها، ولا يصح وقفها. فإنّ الواقف إنما يصح فى عين يدوم نفعها مع بقائها. ولو جاز وقف ما يجب بيعه ونقله لجاز بيع

ص: 167

وقف المطعومات ونحوها، وتباع ويصرف ثمنها فى غيرها. ثم يقال: إذا وقفها ابتداء وهى متعطلة، فإن كان يمكن الانتفاع بها فيما وقفت له كوقف أرض سباخ مسجدا: صح وقفها.

فإن قيل: مع هذا يقر لحاله، ولا يباع؛ فلأنه لم يفقد منه شئ من منافعه الموقوفة. بخلاف المسجد العامر إذا خرب، وإن لم يمكن الانتفاع بها فيما وقفت له، كفرس زمن حبس للجهاد، فهذا كيف يصح وقفه والمقصود منه مفقود؟ فإنّ هذا بمنزلة إجازة أرض سبخة للزرع، وبعير زمن للركوب. وإن سلّمنا صحة إنشاء وقفها، وأنها تباع، ويصرف ثمنها، فيما ينتفع به، كما هو ظاهر كلام أحمد فى مسألة السرج الفضية.

وأفتى بمثله جماعة فى وقف الستور على المسجد. فهذا حجة لنا، لأن صحة الوقف لما لم تناف جواز البيع والإبدال، بل وجوبها فى الابتداء، فكذا ينبغى أن يكون فى الدوام.

وقوله: وهذا القدر من بقاء المالية لا يجوز معه قطع دوام الوقف دعوى مجردة.

قال المخرمى: فما طلب بالنقل والبيع إلا دوام النفع، فإنّ نقل الوقف إلى مكان ينتفع به أبقى للنفع.

قال ابن عقيل: إلا أنك لما أسقطت حكم العين والتعيين، وذلك إسقاط، كمراعاة تعيين الواقف. وأحق الناس بمراعاة بقايا المحل أحمد. حتى إنه قال:

إذا حلف: لا دخلت هذا الحمام فصار مسجدا ودخله، أولا أكلت لحم هذا الجدى فصار تيسا، أو هذا التمر فاستحال ناطقا أو خلا: حنث بأكله، فهذا فى باب الأيمان.

وفى باب المالية والملك: تزول المالية بموت الشاة، وشدة العصير، ويبقى تخصيصه به بدءا، بحيث يكون أحق بالجلد دبغا واستصلاحا، وبالخمر تخليلا فى رواية. وكذلك الجلاّلة والماء النجس.

ص: 168

قلت: الإمام أحمد يراعى المعانى فى مسائل الأيمان، ومسألة الوقف، فإنّ الواقف إنما قصد بوقفه دوام الانتفاع بما وقفه، فإذا تعذّر حصول ذلك النفع من تلك العين أبدلناها بغيرها مما يحصل منه ذلك النفع، مراعاة بحصول النفع الموقوف ودوامه به. وهو المقصود الأعظم للواقف، دون خصوصية تلك العين المعينة.

وكذلك الحالف قصد الامتناع من تلك العين المحلوف عليها دخولا وأكلا.

وهذا القصد لا يتغير بتبدل صفات تلك العين، فإنّ ذاتها باقية. وهذا أفقه وأحسن مما اختاره ابن عقيل من تعليق الحكم على مجرد الاسم. فراعى العين فى صورة الوقف ولم يجز إبدالها، وإن فات المقصود منها لتعلق الوقف بها، وراعى الاسم المعلق به اليمين، فمنع الحنث بتبدله مع بقاء العين، ووجود المعنى الذى قصد اجتنابه باليمين.

وأما مسألة الميتة والخمر وما أشبههما: فهناك عين باقية على اختصاص صاحبها وتحت يده الحكمية لما بقى فيها من المنافع، فلذلك كان أحق بها. كذلك هنا العين باقية على الوقفية، لكن نحن نقول: يجوز إبدالها، والمخالف لم يذكر حجة على منع ذلك.

قال المخرمى: لا يجوز أخذ حكم الدوام من الابتداء، كما لم يجز فى باب تملك القريب ذى الرحم المحرم، وكما لم يجز فى باب تملك الكافر العبد المسلم بالإرث. فإنه لا يدوم الملك على الأب ولا على المسلم، ويصح ابتداء الملك فيهما، والأضحية المعينة يجوز نقلها إلى ما هو أسمن منها، فيقطع الدوام بالإبدال.

قال ابن عقيل: أما مسألة تملك ذى الرحم المحرم: فذاك ضد ما نحن فيه؛ لأن ذاك التملك جعل وسيلة الوسائل إلى الأغراض المقصودة، يعفى فيها عن خلل يدخل وضرر يحصل، كما فى مسألة النجاسة باليد، وإزالة المحرم الطيب عنه بيده. فالتملك للأب سبب للمجازاة والمكافأة التى نطق بها الشرع، وهى عتقه، ولا يمكنه ذلك فى ملك غيره، فصار التملك ضرورة لحريته، إذ لو ملكه

ص: 169

ودام ملكه صار مكافأة الشئ بضده؛ لما فيه من إذلاله لأبيه، والمطلوب مكافأته بالإعتاق والإطلاق، واغتفر دخوله فى ملكه لحظة لما يعقبه من العزّ الدائم. فهذه علّة انقطاع الدوام هناك، وهو ضدّ ما نحن فيه، فإن الموقوف موضوع لدوام الانتفاع، ولهذا لا يصح إلا فى محل يبقى على الدوام.

وأما الأضحية: فمن الذى أخبرك أنّى أنصر مذهب أحمد وأبى حنيفة، حتى يلزمنى إبدالها بخير منها، على أنها انقطعت لجواز المشاركة بالثلث أكلا للمضحى، وإهداء لثلثها، بخلاف مسألتنا. فههنا إبدال قليلة الانتفاع بأنفع منها لا يجوز.

فالأمران مختلفان. والله أعلم.

قلت: كان المخرّمى رجع معه، على وجه التنزل، إلى أنّ الوقف المعطّل، وإن صحّ ابتداؤه، فلا يلزم منه صحة دوامه، كشراء ذى الرحم، فاستطال ابن عقيل عليه، وقال: المقصود من شراء ذى الرحم قطع الدوام، بخلاف الوقف. ولكن لا حاجة إلى ما ذكره المخرمى هنا؛ فإنّ التحقيق فى ذلك ما تقدم، وهو أن العين المعطلة إن كان يمكن الانتفاع بها على وجه ما: صحّ وقفها ابتداء ودواما، لكن فى الدوام تبدل، وإن لم تبدل فى الابتداء؛ لما سبق من الفرق.

وفى الموضعين الوقف صحيح، لكنّ جواز الإبدال أو وجوبه أمر زائد على صحة الوقف. ولم يذكر ابن عقيل دليلا على امتناعه.

وأما إن كانت العين مسلوبة النفع بالكلية: فهذه لا يصح وقفها ابتداء ولا دواما، بل تخرج بذلك عن الوقفية، وإن سلم صحة بقائها على الوقفية فى الدوام - وهو ظاهر كلام الأصحاب - فلأنه يفتقر فى الدوام ما لا يفتقر فى الابتداء.

وأما الأضحية وتفريقه بينها وبين الوقف بالمشاركة فيها دون الوقف:

فالوقف أيضا قد يدخله المشاركة، بأن يقف على نفسه، أو يقف مسجدا ويصلى فيه مع الناس، ونحو ذلك.

وأما تفريقه بجواز الإبدال فى الأضحية بأنفع منها دون الوقف، فيقال:

ص: 170

والوقف فيه رواية أخرى عن أحمد: بجواز الإبدال كالأضحية، فلمن نصر هذا القول أن ينتصر لهذه الرواية، فلا يبقى بينهما فرق. والله أعلم.

‌68 - محمد بن أحمد

بن محمد بن أحمد بن الغازى البدليسى أبو الحسن.

أحد الفقهاء الأعيان. اشتغل قديما على أبى الحسن الآمدى بآمد، ولازمه وتفقه عليه، وسمع منه الحديث، وبرع فى الفقه.

وقد ذكره القاضى أبو الحسين فى ترجمة شيخه أبى الحسن. وشغل الناس، وتفقه عليه طائفة. وأظنه قديم الوفاة.

قرأت بخط شيخ الإسلام أبى العباس بن تيمية قال: نقلت من خط شيخنا يحيى بن الصيرفى الحرانى قال: ذكر الشيخ أبو على الحسن بن على بن سلامة الحرانى فيما علقه عن الشيخ أبى الحسن بن الغازى، فقال: وإذا وقع الإناء الذى أصابه الولوغ فى ماء كثير، فهو غسلة واحدة على ظاهر كلام أصحابنا، سواء أكان واقفا أو جاريا. ولا يعتبر لكل غسلة جرية. قال: ويحتمل وجها آخر. وهو أن يكون وقوعه فى الماء الواقف يحتسب به غسلة واحدة، وفى الماء الجارى يحتسب بكل جرية غسلة. وكلا الوجهين محتملان.

قال: وذكر: إذا مات فى الماء ما ليست له نفس سائلة، فإنه لا ينجس ما مات فيه من الماء اليسير والكثير والمائع على الظاهر من المذهب.

قال: وفيه رواية أخرى أنه ينجس ما مات فيه. والأول أصح.

‌69 - الحسن بن محمد

(1)

العكبرى، أبو المواهب.

أحد الفقهاء الأكابر، وله تصانيف فى المذهب أظنه من أصحاب القاضى - أو أصحابه القدماء - ووقفت له على رءوس المسائل، وهى منتخبة من الخلاف الكبير، على طريق أبى جعفر، وأبى الخطاب.

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية وفى المخطوطة التى بأيدينا «الحسين بن محمد»

ص: 171

وقد روى عن محمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله الخيّاط العكبرى المقرئ حديثا.

وروى عنه نصر المقدسى. وشيخه العكبرى هذا كان من أصحاب ابن بطة فقيها.

مات سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. ذكره ابن البناء فى طبقات الفقهاء.

ورواية نصر المقدسى عن أبى المواهب تدل على تقدم وفاته.

‌70 - أبو علي بن شهاب العكبرى

صاحب كتاب عيون المسائل، متأخر. ونقل من كلام القاضى وأبى الخطّاب كأنه من ولد ابن شهاب المتقدم. ما وقعت له على ترجمة. ومن الناس من يظنه الحسن بن شهاب الكاتب الفقيه صاحب ابن بطة. وهو خطأ عظيم.

‌71 - عبد الوهاب بن حمزة

بن عمر البغدادى، الفقيه المعدل، أبو سعد.

ولد فى أحد الربيعين سنة سبع وخمسين وأربعمائة. وسمع من ابن النقور، والصريفينى، وأبى القاسم بن البسرى، وأبى عبد الله الحميدى. وتفقه على أبي الخطاب. وأفتى وبرع فى الفقه. وشهد عند قاضى القضاة أبى الحسن بن الدامغانى

وكان مرضيّ الطريقة جميل السيرة من أهل السنة. وهو شيخ أبى حكيم النهروانى، الذى تفقه عليه. وروى عنه حكاية، ولم يحدث إلا باليسير.

توفى ليلة الثلاثاء ثالث شعبان سنة خمس عشرة وخمسمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد رضى الله عنه.

‌72 - محمد بن على

بن عبيد الله بن الدّنف البغدادى المقرئ الزاهد، أبو بكر ولد فى صفر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.

وسمع الحديث من ابن المسلمة، وابن المهتدى، والصريفينى، وابن المأمون، وابن النقور، وطبقتهم. وتفقه على الشريف أبى جعفر، وحدث بشئ يسير.

ص: 172

سمع منه ابن ناصر. وروى عنه المبارك بن خضير، وذاكر بن كامل، وابن بوش وغيرهم. وكان من الزهاد الأخيار، ومن أهل السنة، انتفع به خلق كثير.

ذكره ابن الجوزى.

وقال ابن النجار: كان مشهورا بالصلاح والدين. درس الفقه على الشريف أبى جعفر وصحبه، وانتفع به جماعة قرءوا عليه، وعادت عليهم بركته.

توفى يوم الاثنين سابع شوال سنة خمس عشرة وخمسمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب. رحمه الله.

و «الدنف» : بفتح الدّال المهملة وكسر النون وآخره فاء. قيّده ابن نقطة الحافظ وغيره.

‌73 - محمد بن أحمد

بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن داود الأصبهانى، أبو سعد بن أبى العباس، ويعرف بالخيّاط.

من أهل أصبهان، قدم بغداد، واستوطنها مدة طويلة. وسمع من مشايخها، وانتخب، وعلّق وكتب بخطه كثيرا. وحصل الأصول والنسخ، وجمع شيئا كثيرا جدا من الحديث والفقه، ونفذه إلى أصبهان. وأدركه أجله ببغداد.

حدّث ببغداد عن أبى القاسم بن منده إجازة، وعن غيره سماعا. كتب عنه ابن عامر العبدرى وابن ناصر، وخطه حسن.

قال ابن النجار: وكان من أهل السنة المحققين المبالغين المتشددين، ظاهر الصلاح، قليل المخالطة للناس. كان حنبليا متعصبا لمذهبه، متشددا فى ذلك.

توفى يوم الخميس سادس عشرين ذى الحجة

(1)

سنة سبع عشرة وخمسمائة.

ودفن بباب حرب، ولم يخلف وارثا؛ لأنه لم يتزوج قط رحمه الله.

‌74 - على بن المبارك

بن علي بن الفاعوس، البغدادى، الإسكاف، المقرئ، الزاهد أبو الحسن.

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية والمخطوطة التى بأيدينا «سادس عشر ذى الحجة»

ص: 173

سمع من القاضى أبى يعلى، وأبى منصور عبد الباقى بن محمد بن غالب العطار وغيرهما. وصحب الشريف أبا جعفر. وكان مشهورا بالزهد والورع والتقشف وحسن الطريقة، للخلق فيه اعتقاد عظيم.

وذكر ابن ناصر: أنه كان أزهد الناس فى عصره. وكان يقرأ يوم الجمعة على الناس أحاديث قد جمعها بغير أسانيد.

قال ابن الجوزى: حدثنى أبو حكيم النهروانى قال: كان ابن الفاعوس إذا صلّى الجمعة جلس يقرأ على أصحابه الحديث، فيأتى ساقى الماء، فيأخذ منه فيشرب؛ ليريهم أنه مفطر، وربما صامها فى بعض الأيام.

وكان ابن الفاعوس يتورع عن الرواية. وحدّث وسمع منه أبو المعمر الأنصارى، وأبو القاسم بن عساكر الحافظ.

وقال: كان أبو القاسم بن السمرقندى يقول: إن أبا بكر بن الخاضبة كان يسمى ابن الفاعوس الحجرى؛ لأنه كان يقول: الحجر الأسود يمين الله حقيقة.

قلت: إن صحّ عن ابن الفاعوس أنه كان يقول: الحجر الأسود يمين الله حقيقة، فأصل ذلك: أن طائفة من أصحابنا وغيرهم نفوا وقوع المجاز فى القرآن، ولكن لا يعلم منهم من نفى المجاز فى اللغة، كقول أبى إسحاق الأسفرايني.

ولكن قد يسمع بعض صالحيهم إنكار المجاز فى القرآن، فيعتقد إنكاره مطلقا.

ويؤيد ذلك: أن المتبادر إلى فهم أكثر الناس من لفظ الحقيقة والمجاز:

المعانى والحقائق دون الألفاظ.

فإذا قيل: إنّ هذا مجاز فهموا أنه ليس تحته معنى، ولا له حقيقة، فينكرون ذلك، وينفرون منه. ومن أنكر المجاز من العلماء فقد ينكر إطلاق اسم المجاز؛ لئلا يوهم هذا المعنى الفاسد، ويصير ذريعة لمن يريد جحد حقائق الكتاب والسنة ومد لولاتهما.

ويقول: غالب من تكلم بالحقيقة والمجاز هم المعتزلة ونحوهم من أهل البدع،

ص: 174

وتطرفرا بذلك إلى تحريف الكلم عن مواضعه، فيمنع من التسمية بالمجاز، ويجعل جميع الألفاظ حقائق، ويقول: اللفظ إن دل بنفسه فهو حقيقة لذلك المعنى، وإن دلّ بقرينة فدلالته بالقرينة حقيقة للمعنى الآخر، فهو حقيقة فى الحالين.

وإن كان المعنى المدلول عليه مختلفا فحينئذ يقال: لفظ اليمين فى قوله سبحانه وتعالى: (67:39 {وَالسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ)} حقيقة. وهو دال على الصفة الذاتية. ولفظ اليمين فى الحديث المعروف: «الحجر الأسود يمين الله فى الأرض. فمن صافحه فكأنّما صافح الله عز وجل»

وقيل: يمينه يراد به - مع هذه القرائن المحتفة به - محل الاستلام والتقبيل.

وهو حقيقة فى هذا المعنى فى هذه الصورة، وليس فيه ما يوهم الصفة الذاتية أصلا، بل دلالته على معناه الخاص قطعية لا تحتمل النقيض بوجه، ولا تحتاج إلى تأويل ولا غيره.

وإذا قيل: فابن الفاعوس لم يكن من أهل هذا الشأن - أعنى: البحث عن مدلولات الألفاظ؟

قيل: ولا ابن الخاضبة كان من أهله، وإن كان محدثا. وإنما سمع من ابن الفاعوس، أو بلغه عنه إنكار أن يكون هذا مجازا، لما سمعه من إنكار لفظ المجاز فحمله السامع لقصوره أو لهواه على أنه إذا كان حقيقة لزم أن يكون هو يد الرب عز وجل، التى هى صفته. وهذا باطل. والله علم.

توفى ابن الفاعوس ليلة السبت تاسع عشر شوال - وقيل: العشرين منه، والأول أصح - سنة إحدى وعشرين وخمسمائة. وصلّى عليه من الغد بجامع القصر. ودفن قريبا من قبر الإمام أحمد رضى الله عنه.

وكان ذلك يوما مشهودا، غلقت فيه أسواق بغداد. وكان أهل بغداد يصيحون فى جنازته: هذا يوم سنىّ حنبلى، لا قشيرى ولا أشعرى.

وكان حينئذ ببغداد أبو الفرج الأسفرايني الواعظ، وكان العوام قد رجموه

ص: 175

غير مرة فى الأسواق، ورموا عليه الميتات، فأظهروا فى ذلك اليوم لعنه وسبّه، فبلغ ذلك المسترشد، فمنعه من الوعظ، وأمره بالخروج من بغداد. وظهر فى ثانى يوم عند رجل من أصحابه كراريس فيها ما يتضمن الاستخفاف بالقرآن، فطيف به البلد، ونودى عليه، وهمّت العامة بإحراقه. وظهر الشيخ عبد القادر، وجلس للوعظ، وعكف الناس عليه، وانتصر به أهل السنة. رحمه الله تعالى.

‌77 -

[*]

موسى بن أحمد

بن محمد النشادرى

(1)

الفقيه أبو القاسم.

كان يذكر أنه من أولاد أبى ذر الغفارى رضى الله عنه.

سمع الحديث الكثير. وقرأ بالروايات، وتفقه على أبى الحسن بن الزغوانى، وناظر.

قال ابن الجوزى: رأيته يتكلم كلاما حسنا.

توفى رابع رجب سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب. رحمه الله تعالى.

وقال غيره: توفى ليلة الخميس خامس رجب.

وذكر ابن القطيعى: أنه سمع من أبى منصور الخازن، وأنه كمل التعليقة، وناظر، وتبصر فى المذهب.

قلت: أظنه مات شابا؛ فإن شيخه ابن الزاغونى عاش بعده مدة.

‌78 - محمد بن محمد

بن الحسين بن محمد بن الفراء، القاضى الشهيد، أبو الحسين ابن شيخ المذهب، القاضى أبى يعلى.

ولد ليلة نصف شعبان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.

وقرأ ببعض الروايات على أبى بكر الخيّاط. وسمع الحديث من أبيه، وعبد الصمد بن المأمون، وأبوى الحسين بن المهتدى. وابن النقور، وأبى بكر

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «النشاورى»

[*](تعليق الشاملة): كذا الترقيم في المطبوع، بقفز عن السابق

ص: 176

الخطيب، والعاصمى، وطبقتهم. وتوفى والده وهو صغير، فتفقه على الشريف أبى جعفر، وبرع فى الفقه، وأفتى وناظر.

وكان عارفا بالمذهب، متشددا فى السنة.

وله تصانيف كثيرة فى الفروع والأصول، وغير ذلك، منها:«المجموع فى الفروع» ، «رءوس المسائل» ، «المفردات فى الفقه» ، «التمام لكتاب الروايتين والوجهين» الذى لأبيه، «المفردات فى أصول الفقه» ، «طبقات الأصحاب» ، «إيضاح الأدلة فى الردّ على الفرق الضالة المضلة» ، «الرد على زائغى الاعتقادات فى منعهم من سماع الآيات» ، «شرف الاتباع وسرف الابتداع» ، «تنزيه معاوية بن أبى سفيان المقنع فى النيات» ، «المفتاح فى الفقه» .

وقرأ عليه جماعة، منهم: الشيخ عبد المغيث الحربى، وغيره.

وحدّث، وسمع منه خلق كثير من الأصحاب وغيرهم، منهم: بن ناصر، ومعمر بن الفاخر، وابن الخشاب، وأبو الحسين البراندسي الفقيه، والجنيد بن يعقوب الجيلى الفقيه، وحدّثا عنه، وعبد الغنى بن الحافظ أبى العلاء الهمدانى، وأبو نجيح محمود بن أبى المرجا الأصبهانى الحنبلى، وعبد الوهاب بن أبى حبسة، ويحيى بن بوش.

وحدث عنه أيضا: على بن المرحب البطائحى، والمبارك بن الطباخ، وابن الحريف، وابن عساكر الحافظ. وبالإجازة أبو موسى المدينى، وابن كليب.

وكان للقاضى أبى الحسين بيت فى داره بباب المراتب يبيت فيه وحده، فعلم بعض من كان يخدمه ويتردد إليه بأن له مالا، فدخلوا عليه ليلا، وأخذوا المال وقتلوه، ليلة الجمعة - ليلة عاشوراء - سنة ست وعشرين وخمسمائة. وصلّى عليه يوم السبت حادى عشر المحرم. ودفن عند أبيه بمقبرة باب حرب. وكان يوما مشهودا. وقدر الله ظهور قاتليه، فقتلوا كلهم.

أخبرنا أبو الفتح الميدومى - بمصر - أخبرنا أبو الفرج الحرانى، أخبرنا

ص: 177

أبو على ضياء بن أحمد بن الحسن النجار، أخبرنا القاضى أبو الحسين ابن القاضى أبى يعلى، أخبرنا أبو الغنائم عبد الصمد بن المأمون، أخبرنا أبو القاسم بن حبابة حدثنا أبو القاسم البغوى، حدثنا أبو الربيع الزهرانى، حدثنا جعفر بن سليمان عن أبى عمران الجونى عن أنس قال:«وقّت لنا فى قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة: أن لا يترك أكثر من أربعين ليلة» أخرجه مسلم.

نقلت من خط القاضى أبى الحسين فى مفرداته فى الأصول: اختلفت الرواية عن أحمد هل يصح الاستثناء فى اليمين بالله؟ فقال: مع انقطاع يمينه على روايتين.

إحداهما: يصح، وإن كان منقطعا، وهى مذهب عبد الله بن عباس.

والرواية الثانية: لا يصح الاستثناء. اختارها الخرقى والوالد، وبها قال أكثرهم.

وجه الأولى: أن النسخ والتخصيص يجوز أن يتأخرا، فكذلك الاستثناء.

ووجه الثانية: أن الاستثناء يجرى مجرى الشرط؛ لأنه إذا انفصل عما قبله لم يفد ألا ترى أنه إذا قال: اضرب زيدا أو أعطه درهما، ثم قال بعد يوم: إذا قام أو أكل لم يفد ذلك، ولم يكن شرطا كذلك فى اليمين؟ هذا لفظه بحروفه.

وهو ظاهر فى أن الرواية الأولى، كما حكى عن ابن عباس من صحة الاستثناء.

فى اليمين، وإن طال الفصل. ولا أعلم أحدا من الأصحاب حكى ذلك عن أحمد.

‌79 - على بن الحسن الدواحى،

أبو الحسن الواعظ

تفقه على أبى الخطاب الكلوذانى، وسمع منه الحديث.

توفى ليلة الجمعة خامس شوال سنة ست وعشرين وخمسمائة، وصلّى عليه من الغد. ودفن بمقبرة باب حرب.

‌80 - محمد بن الحسين

بن على بن إبراهيم بن عبد الله الشيبانى، الحاجى، المزرفى، المقرئ، الفرضى أبو بكر.

ص: 178

ولد فى سلخ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. وقيل: سنة أربعين.

وقرأ القرآن بالروايات على جماعة من أصحاب الحمامى، منهم: أبو بكر ابن موسى الخياط، وطاهر بن الحسين القواس.

وسمع من ابن المسلمة، وابن المأمون، والصريفينى، وابن المهتدى، وابن النقور، والنهروانى، وأبى الحسين العاصمى، وابن البرى

(1)

، وأبى الغنائم بن الدجاجى. وكتب بخطه كثيرا. وبرع فى القراءات وتفرد بعلم الفرائض وألف فيه.

وذكر ابن ناصر أنه كان مقرئ زمانه، قرأ عليه القرآن جماعة، منهم:

أبو موسى المدينى الحافظ، وعلىّ بن عساكر البطائحى.

وحدث عنه ابن ناصر، وابن عساكر، واليونارتى، وأبو سعد بن أبى عصرون، وابن الجوزى، وجماعة آخرهم أبو الفتح الميدانى، ودرس عليه جماعة الفرائض والحساب.

قال أبو نصر اليونارتى فى معجمه. هو وحيد عصره فى خلقه، وحسن قراءته.

قال ابن الجوزى: كان ثقة عالما ثبتا، حسن العقيدة.

وقال ابن القطيعى: سمعت ابن الأخضر يقول: سمعت أبا محمد الخشاب يقول:

قد سمعت من يحيى بن منده سنة ثمان وتسعين، وحضر معى فى الطبقة أبو منصور الخياط المقرئ، ولا أفرح بسماعى منه مثل ما أفرح بسماعى من المزرفى، وذلك لأنه طلب الحديث بنفسه وفهم.

توفى يوم السبت مستهل سنة سبع وعشرين وخمسمائة فجأة. وقيل: إنه توفى فى سجوده. ودفن بباب حرب.

«والمزرفى» نسبة إلى المزرفة: قرية بين بغداد وعكبرا، ولم يكن منها،

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «ابن البسرى» وفى المخطوطة التى بأيدينا «ابن الزيمة» .

ص: 179

وإنما انتقل أبوه إليها أيام الفتنة، فأقام بها مدة، فلما رجع إلى بغداد قيل له: المزرفى.

أخبرنا أبو الفتح المصرى بها، أخبرنا أبو الفرج الحرانى، أخبرنا أبو الفرج ابن الجوزى، أخبرنا أبو بكر المزرفى - سنة عشرين وخمسمائة - أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة، أخبرنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهرى، أخبرنا جعفر بن محمد الفريابى، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبى سهيل نافع بن مالك بن أبى عامر عن أبيه عن أبى هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . أخرجاه عن قتيبة.

‌81 - على بن عبيد الله

بن نصر بن السرى.

كذا نسبه ابن شافع وابن الجوزى وغيرهما.

وقال ابن النجار: ابن نصر بن عبيد الله بن سهل بن السرى.

وقال ابن نقطة: نصر بن عبيد الله بن أبى السرى.

وقال ابن السمعانى نصر بن عبيد الله بن سهل بن الزاغوانى البغدادى، الفقيه المحدث الواعظ، أبو الحسن، أحد أعيان المذهب.

ولد سنة خمس وخمسين وأربعمائة فى جمادى الأولى - فيما نظنه.

وقرأ القرآن بالروايات، وطلب الحديث بنفسه، وقرأ وكتب بخطه.

وسمع من أبى الغنائم بن المأمون، وأبى جعفر بن المسلمة، وأبى محمد الصّريفينى وأبى الحسين بن النقور، وأبى القاسم بن اليسرى، وأبى محمد بن عبد الله بن عطاء الهروى، وجماعة آخرين. وقرأ الفقه على القاضى يعقوب البرزبيني، وقرأ الكثير من كتب اللغة والنحو والفرائض. وكان متفننا فى علوم شتى، من الأصول والفروع والحديث والوعظ وصنف فى ذلك كله.

قال ابن الجوزى: كان له فى كل فن من العلم حظ وافر، ووعظ مدة طويلة.

ص: 180

قال: وصحبته زمانا، فسمعت منه الحديث، وعلقت عنه من الفقه والوعظ وكانت له حلقة بجامع المنصور يناظر فيها يوم الجمعة قبل الصلاة، ثم يعظ بعد الصلاة. ويجلس يوم السبت أيضا.

وذكر ابن ناصر: أنه كان فقيه الوقت فى الطبقة الثالثة عشرة. وكان مشهورا بالصلاح والديانة والورع والصيانة.

قال ابن السمعانى: سمعت أبا عبد الله حامد بن أبى الفتح المدينى يقول:

سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن الزاغونى - يعنى: أخا أبى الحسن هذا - يقول:

ذكر بعض الناس ممن يوثق بهم: أنه رأى فى المنام ثلاثة، يقول واحد منهم:

أخسف، وواحد يقول: أغرق، وواحد يقول: أطبق - يعنى: البلد - فأجاب أحدهم: لا؛ لأن بالقرب منا ثلاثة: أبو الحسن بن الزاغونى، والثانى أحمد بن الطلاية، والثالث محمد بن فلان من الحربية.

ولابن الزاغونى تصانيف كثيرة، منها: فى الفقه: «الإقناع» فى مجلد، و «الواضح» و «الخلاف الكبير» و «المفردات» فى مجلدين، وهى مائة مسألة. وله مصنف فى الفرائض يسمى «التلخيص» وجزء فى «عويص المسائل الحسابية» ومصنف فى «الدور والوصايا» . وله «الإيضاح فى أصول الدين» مجلد، و «غرر البيان فى أصول الفقه» مجلدات عدة. وله ديوان خطب أنشأها، ومجالس فى الوعظ وله تاريخ على السنين من أول ولاية المسترشد إلى حين وفاته هو، ومناسك الحج، وفتاوى، ومسائل فى القرآن والفتاوى الرجعية، وجزء فى تصحيح حديث الأطيط، سدره فى المستحيل وسماع الموتى فى قبورهم.

وكان ثقة صدوقا، صحيح السماع. حدّث بالكثير.

وروى عنه ابن ناصر، وأبو المعمر الأنصارى، وابن عساكر، وابن الجوزى، وعمر بن طبرزد، وغيرهم.

وتفقه عليه جماعة، منهم: صدقة بن الحسين، وابن الجوزى.

ص: 181

توفى يوم الأحد سادس عشر محرم سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وصلّى عليه يوم الاثنين بجامع القصر وجامع المنصور. ودفن بمقبرة الإمام أحمد، بباب حرب. وكان له جمع عظيم يفوت الإحصاء رحمه الله تعالى.

هذا الذى ذكرناه فى تاريخ وفاته هو الذى ذكره صدقة بن الحسين. نقله عنه ابن النجار.

وذكره ابن السمعانى عن ابن عساكر، وغيره.

والذى ذكره ابن شافع وابن الجوزى فى عدة مواضع وابن نقطة: أنه توفى يوم الأحد بعد الظهر سابع عشر محرم. والأول أصح؛ فإن ابن شافع وابن الجوزى وافقا على أن وفاة المزرفى - المذكور قبله - كانت يوم السبت مستهل محرم. ومتى كان السبت مستهل محرم، فالأحد سادس عشرة، لا سابع عشرة، وقد علق ابن الجوزى فى جزء وفاة ابن الزاغونى، فقال: فى الأحد سادس عشر محرم، على الصواب.

أخبرنا أبو الفتح الميدومى - بفسطاط مصر - أخبرنا أبو الفرج الحرانى، أخبرنا الحافظ أبو الفرج بن الجوزى، أخبرنا أبو الحسين بن الزاغونى، أخبرنا أبو الحسين بن النقور. أخبرنا عيسى بن على بن الجراح، حدثنا أبو القاسم البغوى، حدثنا نعيم بن الهيضم، حدثنا أبو عوانة عن أبى بشر عن أبى سفيان عن جابر بن عبد الله «أن النبى صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم، فقالوا:

ما عندنا إلا خل. فدعا به، فجعل يأكل، ويقول: نعم الأدم الخلّ - مرتين» تفرّد به مسلم، فرواه عن يحيى بن يحيى عن أبى عوانة.

ذكر ابن الزاغونى فى مناسكه: أن رمى الجمار أيام منى، ورمى جمرة العقبة يوم النحر يجوز قبل الزوال وبعده، والأفضل بعده. ولهذا لم يوافقه عليه أحد فيما أعلم. وهو ضعيف مخالف للسنة فى رمى جمرة العقبة يوم النحر.

وحكى فى الإقناع رواية عن أحمد: أنه إذا اتخذ عصيرا للخمر، فانقلبت خلاّ لم تطهره؛ لأن اتخاذه كان محرما.

ص: 182

وحكى فيه رواية عن أحمد: أنه لا ينتقض عهد أهل الذمة بشئ غير منع الجزية.

وقال فيه: المشهور من المذهب أن السم نجس، وفى المذهب ما يحتمل أنه ليس بنجس؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم أكل من الذراع المسمومة.

وذكر فيه: أن المتوفى عنها زوجها لا يلزمها المقام فى منزل الوفاة، إلا إذا تبرع لها الورثة بالسكنى، ولا يلزمها فيما عدا ذلك، حتى لو كان المنزل ملكا لها لم يلزمها المقام فيه.

وحكى فيه رواية: أن البائن تجب لها السكنى والنفقة، وإن كانت حاملا

(1)

وذكر فيه: أن الحامل المتوفى عنها زوجها تجب لها النفقة والسكنى إن قلنا:

إن النفقة للحمل، كما لو كان الأب حيا. ولم أعلم أحدا من الأصحاب بنى رواية وجوب النفقة والسكنى لها على هذا الأصل، ولا جعلها من فوائد الخلاف فى أن النفقة: هل هى للحمل أو للحامل؟ فإن نفقة الأقارب تسقط بالموت، فكيف تجب نفقة الحمل من التركة؟.

وحكى فى باب نفقة الزوجات فى ثمن ماء الغسل والسدر والمشط والدهن الطيب وما أشبه ذلك وجهين.

أحدهما: أنه عليها؛ لأنّ به يحصل التمكين من الاستمتاع.

والثانى: هو عليه، وشبهه بالقوت وتوابعه، ولا أعلم أحدا من الأصحاب ألزم الزوج ثمن الطيب مطلقا، ولا حكى فى لزوم ثمن البواقى خلافا، سوى ماء الغسل الواجب.

وقال أيضا، فى نفقة الأقارب: إذا كان بعض ورثة الفقير موسرا، وبعضهم معسرا: فإن كان الفقير أبا أو أما لزم الموسر كمال النفقة عليه، وإن كان جدا أو جدة فوجهان. وأما سائر الورثة: فلا تلزم الموسر منهم النفقة إلا بقدر حصته من الميراث. وهذا تفصيل غريب.

(1)

فى المخطوطة التى بأيدينا «حائلا» .

ص: 183

وحكى فيه رواية عن أحمد: أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث إذا كان صوما، ويجوز بالمال.

وذكر فيه: أن نذر اللجاج والغضب نذر صحيح يلزم الوفاء به، وهذا لا يعرف فى المذهب، لكن قد قيل: إنه وقع فى كلام ابن أبى موسى ما يوهمه.

وذكر فيه أيضا: أن المستأمن إذا دخل دار الإسلام بتجارة أخذ منه الخمس، وأن الذمى إذا اتجر فى دار الإسلام فى غير بلده أخذ منه العشر. وهو غريب مخالف لنصوص أحمد وقول الأصحاب، والمأثور عن عمر رضى الله عنه

‌82 - محمد بن محمد بن الحسين

بن محمد بن أحمد بن خلف بن الفراء، الفقيه، الزاهد، أبو خازم بن القاضى الإمام أبى يعلى. وأخو القاضى أبى الحسين المتقدم ذكره.

ولد فى صفر سنة سبع وخمسين وأربعمائة

وسمع الحديث من أبى جعفر بن المسلمة، وابن المأمون، وجابر بن ياسين.

وذكر ابن نقطة: أنه حدث عن أبيه القاضى أبى يعلى، وما أظنه إلا بالإجازة؛ فإنه ولد قبل موت والده بسنة.

وقد ذكر أخوه القاضى أبو الحسين: أن والده أجاز له ولأخيه أبى خازم، وقرأ الفقه على القاضى يعقوب ولازمه، وعلق عنه وبرع فى معرفة المذهب والخلاف والأصول.

وصنف تصانيف مفيدة، وله كتاب «التبصرة» فى الخلاف وكتاب «رءوس المسائل» ، وشرح مختصر الخرقى، وغير ذلك.

وكان من الفقهاء الزاهدين، والأخيار الصالحين. وحدث وسمع منه جماعة وروى عنه ابنته نعمة، وأبو المعمر الأنصارى، ويحيى بن بوش.

وتوفى يوم الاثنين تاسع عشرين صفر سنة سبع وعشرين وخمسمائة. وصلّى عليه يوم الثلاثاء مستهل ربيع الأول بجامع القصر. وكان يومه يوما مشهودا.

ص: 184

ودفن بداره بباب الأزج، ثم نقل فى سنة أربع وثلاثين إلى مقبرة الإمام أحمد، فدفن عند أبيه. رحمهما الله تعالى.

و «أبو خازم» بالخاء والزاى المعجمتين.

نقلت من خط ابن الصيرفى الحرانى، مسألة: إذا حلق شار به بحيث إنه لا ينبت. فقال ابن أبى موسى: تجب فيه حكومة، وقال القاضى أبو خازم ابن القاضى أبى يعلى: يتوجّه أن لا يجب فيه لأنه مأمور بحفّه. قال: ويتوجه أن يجب إذا كان شابا دون الشيخ؛ لما روى عن قتادة أنه قال: من الشيخ سنّة، ومن الشابّ مثلة - يعنى: حلق الشارب.

‌83 - عبد الله بن المبارك

ويعرف بعسكر بن الحسن العكبرى، المقرئ، الفقيه أبو محمد، ويعرف بابن نيال.

سمع من أبى نصر الزينبى، وأبى الغنائم بن أبى عثمان، وأبى الحسين العاصمى وغيرهم. وتفقه على أبى الوفاء بن عقيل، وأبى سعد البردانى. وكان يصحب شافعا الحنبلىّ، فأشار عليه بشراء كتب ابن عقيل، فباع ملكا له واشترى بثمنه كتاب الفنون، وكتاب الفصول، ووقفها على المسلمين. وكان خيرا من أهل السنة، وحدّث.

وتوفى ليلة الثلاثاء ثانى عشرين جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة وصلّى عليه أبو محمد المقرئ الزاهد من الغد بجامع القصر. ودفن بمقبرة الإمام أحمد عن نيف وسبعين سنة. رحمه الله تعالى.

‌84 - عبد الواحد بن شنيف

بن محمد بن عبد الواحد الديلمى، البغدادى الفقيه أبو الفرج.

أحد أكابر الفقهاء. تفقه على أبى على البردانى وبرع. وكان مناظرا مجودا، وأمينا من قبل القضاة، وباشر بعض الولايات، وله دنيا واسعة. وكان ذا فطنة وشجاعة وقوة قلب وعفة ونزاهة وأمانة.

ص: 185

قال ابن النجار: كان مشهورا بالديانة وحسن الطريقة، ولم يكن له رواية فى الحديث.

قال ابن الجوزى: حدثنى أبو الحسن بن عربية

(1)

قال: كان تحت يده - يعنى:

ابن شنيف - مال لصبى، وكان قد قبض بعض المال، وللصبى فهم وفطنة، فكتب الصبى جملة التركة عنده، وأثبت ما يأخذ من الشيخ. فلما مرض الشيخ أحضر الصبى وقال له: أى شئ لك عندى؟ فقال: والله ما لى عندك شئ؛ لأن تركتى وصلت إلىّ بحساب محسوب. فأخرج الشيخ سبعين دينارا وقال: خذ هذه، فهى لك؛ فإنى كنت أشترى لك بشئ من مالك وأعود فأبيعه، فحصل لك هذا.

قال: وحدثنى أبو الحسن قال: توفى رجل حشرى بدار القز. وكان أبو العباس ابن الرطبى يتولى التركات. فكتب إلى الشيخ عبد الواحد يتولى تركة فلان، فحضر وأعطى زوجته حقها، وأعطى الباقى ذوى أرحامه، وكتب بذلك إليه.

فكتب ابن الرطبى مع مكتوبه إليه رقعة إلى المسترشد يخبره بما صنع، وأنه ورّث ذوى الأرحام. فكتب: نعم، ما فعل إذا عمل بمذهبه، وإنما الذنب لمن استعمل فى هذا حنبليا. وقد علم مذهبه فى ذلك.

توفى رحمه الله تعالى فى ليلة السبت حادى عشرين شعبان سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وصلّى عليه الشيخ عبد القادر. ودفن بمقبرة الإمام أحمد رضى الله عنه.

‌85 - ثابت بن منصور

بن المبارك الكيلى، المقرئ المحدّث، أبو العز.

سمع من أبى محمد التميمى، وأبى الغنائم بن أبى عثمان، وغانم بن الحسين وطبرزد، ونصر بن البطر، والحسين بن طلحة وخلق كثير. وعنى بالحديث.

وسمع الكثير، وكتب الكثير. وخرّج تخاريج لنفسه عن شيوخه فى فنون، وحدّث وسمع منه جماعة.

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية وفى المخطوطة بأيدينا «ابن غريبة» .

ص: 186

وروى عنه السلفى، والمبارك بن أحمد الأنصارى، وأبو الفرج الجوزى وغيرهم.

وقال أبو الفرج: كان دينا، ثقة، صحيح الإسناد. ووقف كتبه قبل موته.

وقال السلفى عنه: فقيه على مذهب أحمد. كتب كثيرا، وسمع معنا وقبلنا على شيوخ. وكان ثقة وعر الأخلاق.

وقال ابن السمعانى: سألت ابن ناصر عنه؟ فقال: صحيح السماع، ما كان يعرف شيئا.

وتوفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وقيل: سنة ثمان.

قال ابن النجار: قرأت بخط يحيى بن الطراح: أن ثابتا توفى يوم الاثنين سابع عشر ذى الحجّة سنة ثمان وعشرين. ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة الإمام أحمد رحمه الله تعالى. ورأيت جماعة من المحدثين وغيرهم قد نعتوه فى طابق السماع بالإمام الحافظ رحمه الله.

وهو منسوب إلى «كيل» : قرية على شاطئ دجلة على مسيرة يوم من بغداد مما يلى طريق واسط، ويقال لها:«جيل» أيضا.

أخبرنا أبو الفتح الميدومى - بمصر - أخبرنا أبو الفرج الحرانى، أخبرنا أبو الفرج بن الجوزى، أخبرنا أبو العز ثابت بن منصور الكيلى بقراءة شيخنا ابن ناصر عليه، أخبرنا أبو القاسم الفضل بن أبى حرب، أخبرنا أحمد بن محمد الجرجانى أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيرى، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن عبيد الله المنادى، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج قال: شهدت أبا سلمة بن عبد الرحمن أبى خالد بن عبد الله بن أسيد فى هذا المسجد - يعنى: مسجد البصرة - قال: وجاء الحسن، فجلس إليه قال: فحدث قال: حدّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشّمس والقمر

ص: 187

ثوران مكوّران فى النّار يوم القيامة». قال: فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فسكت الحسن.

‌86 - على بن أبى القاسم

بن أبى زرعة الطبرى، المقرئ، المحدّث الزاهد أبو الحسن.

من أهل آمل طبرستان. ذكره ابن السمعانى، فقال: شيخ صالح خيّردين كثير العبادة والذكر، مستعمل للسنن، مبالغ فيها جهده. وكان مشهورا بالزهد والديانة. رحل بنفسه فى طلب الحديث إلى أصبهان، وسمع بها جماعة من أصحاب أبى نعيم الحافظ، كأبى سعد المطرز، وأبى على الحداد، وغيرهما.

وسمع ببلده آمل من أبى المحاسن الرويانى الفقيه، وأبى بكر بن الخطاب الاخبارى قال: وكتب لى الإجازة ولم أره، ثم روى حديثا عن رجل عنه.

ثم قال: توفى بالعسيلة بعد فراغه من الحج والعمرة والزيارة فى المحرّم سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ودفن بها. وصلّى عليه أبو زيد البصرى الخطيب رحمه الله تعالى.

‌87 - أحمد بن على

بن عبد الله بن الأبرادى البغدادى، الفقيه، الزاهد أبو البركات.

سمع من أبى الغنائم بن أبى عثمان، وأبى الحسن بن الأخضر الانبارى، وأبى الحسن بن النحاس، وأبى القاسم بن فهد العلاف وغيرهم. وقرأ الفقه على ابن عقيل، وصحب الفاعوس وغيره من الصالحين. وتعبد ووقف دارا له بالبدرية شرق بغداد على أصحابنا مدرسة. وحدث وسمع منه جماعة.

وروى عنه أبو المعمر الأنصارى، وأبو القاسم بن عساكر.

وتوفى ليلة الخميس ثانى عشر رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. ودفن بباب أبرز.

ص: 188

قال ابن النجار: قرأته فى تاريخ ابن شافع بخطه. والذى رأيت فى تاريخ مختصر ابن شافع لا بن نقطة: فى هذه السنة وفاة أبى الحسن محمد بن أبى البركات أحمد بن الأبرادى. وقد تابعه على ذلك ابن الجوزى فى تاريخه، وترجماه بترجمة أبى البركات. وهو وهم. وسنذكر ابنه أبا الحسن فى موضعه إن شاء الله تعالى.

‌88 - يحيى بن الحسن

بن أحمد بن عبد الله بن البناء، أبو عبد الله ابن الإمام أبى على المتقدم ذكره، وأخو أبى نصر المتقدم ذكره أيضا.

ولد يوم الجمعة رابع عشرين ذى القعدة سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.

وبكر به أبوه فى السماع، فسمع من أبى الحسين بن المهتدى، وابن الأبنوسى وابن النقور، وأبى الغنائم، وجابر بن ياسين، ووالده أبى على بن البناء، وغيرهم

وحدث وروى عنه جماعة من الحفاظ وغيرهم، منهم: ابن عساكر، وابن الجوزى، وابن بوش.

وروى عنه ابن السمعانى إجازة، وقال: كان شيخا صالحا حسن السيرة واسع الرواية حسن الأخلاق متوددا متواضعا، برا لطيفا بالطلبة، مشفقا عليهم.

قال: وسمعت أبا محمد عبد الله بن عيسى بن أبى حبيب الأندلسى الحافظ قاضى اشبيلية يثنى عليه كثيرا، ويمدحه ويطريه، ويصفه بالعلم والتمييز والفضل وحسن الأخلاق، وعمارة المسجد. وقال: ما رأيت ببغداد فى الحنابلة مثله.

قال: وكان شيخنا أبو شجاع البسطامى كثير الثناء عليه، يصفه بالخير والصلاح والعلم. وكذلك كل من رأيته ممن سمع منه وأخذ عنه كان يثنى عليه ويمدحه.

وتوفى ليلة الجمعة ثامن شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة.

ودفن صبيحة يوم الجمعة بمقبرة الإمام أحمد.

أخبرنا أبو الفتح الميدومى بالفسطاط، أخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرانى، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن على الحافظ، أخبرنا يحيى بن أبى على

ص: 189

البناء بقراءة شيخنا أبى الفضل بن ناصر، أخبرنا أبو الحسين بن محمد بن على بن المهتدى، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عبد الله بن الخضر السوسنجردى، حدثنا محمد بن عمرو بن البحترى، حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردى، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبى سفيان طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد اهتزّ عرش الرّحمن لموت سعد بن معاذ» .

‌89 - أحمد بن محمد

بن أحمد الدّينورى البغدادى الفقيه، الإمام أبو بكر ابن أبى الفتح.

أحد الفقهاء الأعيان، وأئمة أهل المذهب.

سمع الحديث من أبى محمد التميمى، وجعفر السراج وغيرهما. وتفقه على أبى الخطاب وبرع فى الفقه. وتقدم فى المناظرة على أبناء جنسه، حتى كان أسعد الميهنى شيخ الشافعية يقول: ما اعترض أبو بكر الدينورى على دليل أحد إلا ثلم فيه ثلمة.

وله تصانيف فى المذهب، منها: كتاب «التحقيق فى مسائل التعليق» وتخرج به أئمة، منهم: أبو الفتح بن المنى، والوزير ابن هبيرة.

قال ابن الجوزى: حضرت درسه بعد موت شيخنا ابن الزاغونى نحوا من أربع سنين.

قال وأنشدنى:

تمنيت أن تمسى فقيها مناظرا

بغير عناء، والجنون فنون

وليس اكتساب المال دون مشقة

تلقيتها، فالعلم كيف يكون؟

قال: وحدثنى قال: كنت أتفقه على شيخنا أبى الخطاب. وكنت فى بدايتى أجلس فى آخر الحلقة، والناس فيها على مراتبهم، فجرى بينى وبين رجل كان يجلس قريبا من الشيخ بينى وبينه رجلان أو ثلاثة كلام. فلما كان فى الثانى جلست فى مجلسى على عادتى فى آخر الحلقة، فجاء ذلك الرجل، فجلس إلى

ص: 190

جانبى، فقال له الشيخ: لم تركت مكانك؟ فقال: أترك مثل هذا، فأجلس معه يزرى علىّ. فو الله ما مضى إلا قليل حتى تقدمت فى الفقه، وقويت معرفتى به، فصرت أجلس إلى جانب الشيخ، وبينى وبين ذلك الرجل رجال.

قال ابن الجوزى: وكان يرق عند ذكر الصالحين، ويبكى ويقول:

للعلماء عند الله قدر، فلعلّ الله أن يجعلنى منهم.

توفى يوم السبت غرة جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. ودفن عند رجل أبى منصور الخياط، قريبا من قبر الإمام أحمد رضى الله عنه.

وقيل: إنه لم يشيّعه إلاّ عدد يسير. رحمه الله تعالى.

قال أبو البقاء بن طبرزد: كنت يوم موته عند القاضى أبى بكر بن عبد الباقى، فخبر بذلك، فقال: لا إله إلا الله، موت الأقران هدّ الأركان.

وقال: إذا رأيت أخاك يحلق فبلّ أنت.

ومن غرائب أبى بكر الدينورى: أنه خرّج رواية عن أحمد: أنه من اشتبهت عليه القبلة لزمه أن يصلى أربع صلوات إلى أربع جهات، وقد قيل:

إنه قول مخالف للإجماع.

وحكى ابن تميم عنه: أنه ذكر وجها أن باطن اللحية الكثة فى الغسل كالوضوء.

قال ابن الجوزى فى كتاب «تلبيس إبليس» : كنت أصلى وراء شيخنا أبى بكر الدينورى فى زمن الصّبا فكنت - يعنى: إذا دخلت معه فى الصلاة وقد بقى فى الركعة يسير - أستفتح وأستعيذ، فيركع قبل أن أقرأ، فقال لى:

يا بنيّ، إن الفقهاء قد اختلفوا فى وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام، ولم يختلفوا فى أن الاستفتاح سنة. فاشتغل بالواجب ودع السّنّة.

‌90 - محمد بن محفوط

بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذانى الفقيه أبو جعفر بن الإمام أبوا الخطاب، المتقدم ذكره.

ص: 191

ولد سنة خمسمائة، فيما ذكره أبو الحسن بن القطيعى فى تاريخه عن ابن أخيه محفوظ بن أحمد بن محفوظ.

قال ابن القطيعى. وتفقه على أبيه وبرع فى الفقه.

قلت: هذا محال؛ فإنّ عمره يوم مات أبوه - على ما ذكر فى مولده - يكون عشر سنين، فكيف تفقه عليه وبرع؟.

قال: وصنف كتابا سماه «الفريد» وهو عندى بخطه، ثم ساق منه حديثا وحكايات وأشعارا.

قال: وتوفى - فيما ذكره لى ابن أخيه - فى سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. ودفن بمقبرة باب حرب.

قلت: وفى تاريخ ابن شافع: أنه توفى ليلة الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين. ودفن فى منزله بباب الأزج. ورأيت فى تاريخ القضاة لابن المندائى: أن المتوفى فى هذه السنة هو أبو الفرج أحمد بن الإمام أبى الخطاب.

وكان من المعدلين ببغداد، وأن وفاته يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين. ودفن بمقبرة باب حرب عند أبيه.

‌91 - محمد بن عبد الباقى

بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الربيع بن ثابت بن وهب بن مشجعة بن الحارث بن عبد الله بن كعب بن مالك - أحد الثلاثة الذين خلفوا، ثم تاب الله عليهم - الأنصارى الكعبى البغدادى البصرى البزاز

(1)

الفرضى، القاضى أبو بكر بن أبى طاهر، ويعرف بقاضى المارستان

كان والده أبو طاهر عبد الباقى - ويعرف بصهر هبة المقرئ، وكان من أكابر أهل بغداد والملازمين للقاضى أبى يعلى - شيخا صالحا محدثا، معدلا. سمع الحديث وحدّث.

وتوفى فى صفر سنة إحدى وستين وأربعمائة.

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية وفى المخطوطة بأيدينا «البزار»

ص: 192

وأما ولده أبو بكر هذا: فولد يوم الثلاثاء عاشر صفر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين. وحضر على أبى إسحاق البرمكى سنة خمس وأربعين.

وسمع من أخيه أبى الحسن على، والقاضى أبى الطيب الطبرى وأبى طالب العشارى، وأبى الحسن الباقلانى

(1)

، وأبى محمد الجوهرى، وأبى القاسم عمر بن الحسين الخفاف، وأبى الحسين بن حسنون، وأبى على بن غالب، وأبى الحسين ابن الأبنوسى، وأبى الحسن بن أبى طالب المكى، وأبى الفضل ابن المأمون، وتفرد بالرواية عن هؤلاء كلهم. وسمع من خلق آخرين.

وسمع بمكة من أبى معشر وغيره، وبمصر من أبى إسحاق الحبال. وقد خرجت له مشيخة عن شيوخه فى خمسة أجزاء سمعتها بالقاهرة. وكانت له إجازة من أبى القاسم التنوخي، وابن شيطا، والقضاعى مصنف الشهاب.

وتفقه فى صباه على القاضى أبى يعلى، وقرأ الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة، وبرع فى ذلك، وله فيه تصانيف. وشهد عند قاضى القضاة أبى الحسن ابن الدامغانى وتفنن فى علوم كثيرة.

قال ابن السمعانى: عارف بالعلوم متفنن، حسن الكلام، حلو المنطق، مليح المحاورة. ما رأيت أجمع للفنون منه نظر فى كل علم. وسمعته يقول: تبت من كل علم تعلمته إلا الحديث وعلمه.

قال: وكان سريع النسخ حسن القراءة للحديث، سمعته يقول: ما ضيعت ساعة من عمرى فى لهو أو لعب.

قال: وسمعته يقول: أسرتنى الروم، وبقيت فى الأسر سنة ونصفا، وكان خمسة أشهر الغلّ فى عنقى، والسلاسل على يدى ورجلى. وكانوا يقولون لى: قل:

المسيح ابن الله، حتى نفعل ونصنع فى حقك، فامتنعت وما قلت. قال: ووقت أن

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية والمخطوطة بأيدينا «الباقلاوي»

ص: 193

حبست كان ثمّ معلم يعلم الصبيان الخط بالرومية، فتعلمت فى الحبس الخط الرومى.

وسمعته يقول: حفظت القرآن ولى سبع سنين، وما من علم فى عالم الله إلا وقد نظرت فيه، وحصلت منه كله أو بعضه، وتفرد فى الدنيا بعلو الإسناد ورحل إليه المحدثون من البلاد.

قال ابن الجوزى: كان حسن الصورة، حلو المنطق، مليح المعاشرة، كان يصلى فى جامع المنصور، فيجئ فى بعض الأيام، فيقف وراء مجلسى وأنا على منبر الوعظ فيسلّم عليّ. وأملى الحديث فى جامع القصر باستملاء شيخنا ابن ناصر، وقرأت عليه الكثير. وكان ثقة فهما، ثبتا حجة؟؟؟، متفننا فى علوم كثيرة، منفردا فى علم الفرائض.

وكان يقول: ما أعلم أنى ضيّعت من عمرى شيئا فى لهو أو لعب، وما من علم إلا وقد حصلت بعضه أو كله. وكان قد سافر فوقع فى أيدى الروم، فبقى فى أسرهم سنة ونصفا، وقيّدوه وجعلوا الغل فى عنقه، وأرادوا منه أن ينطق بكلمة الكفر فلم يفعل، وتعلم منهم الخط الرومى.

قال: وسمعته يقول: يجب على المعلم أن لا يعنّف، وعلى المتعلم أن لا يأنف.

وسمعته يقول: من خدم المحابر خدمته المنابر.

قال: وأنشدنى:

لى مدّة لا بدّ أبلغها

فإذا انقضت وتصرّمت متّ

لو عاندتنى الأسد ضارية

ما ضرّنى ما لم يجئ الوقت

قال: ذكر لنا أنّ منجمين حضرا حين ولد، فأجمعا أن عمره اثنتان وخمسون سنة. قال: وها أنا قد جاوزت التسعين.

قال: ورأيته بعد ثلاث وتسعين صحيح الحواس، لم يتغير منها شئ، ثابت العقل، يقرأ الخط الدقيق من بعد. ودخلنا عليه قبل موته بمديدة، فقال: قد نزلت فى أذنى مادة، فقرأ علينا من حديثه، وبقى على هذا نحوا من شهرين،

ص: 194

ثم زال ذلك، وعاد إلى الصحة، ثم مرض فأوصى أن يعمق قبره زيادة على ما جرت به العادة، وقال: لأنه إذا حفر ما جرت به العادة لم يصلوا إلي، وأن يكتب على قبره (68:38، 69 {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)} وبقى ثلاثة أيام قبل موته لا يفتر من قراءة القرآن، إلى أن توفى يوم الأربعاء قبل الظهر ثانى رجب سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. وصلّى عليه بجامع المنصور. وحضر قاضى القضاة الزينبى، ووجوه الناس وشيعناه إلى مقبرة باب حرب، فدفن إلى جانب أبيه، قريبا من بشر الحافى رضى الله عنه.

قلت: وحدّث القاضى أبو بكر بالكثير من حديثه، وسمع منه الأئمة الحفاظ وغيرهم، وأثنوا عليه.

قال ابن الخشاب عنه: كان مع تفرده بعلم الحساب والفرائض، وافتنانه فى علوم عديدة، صدوقا، ثبتا فى الرواية، متحريا فيها.

وقال ابن ناصر عنه: كان إماما فى الفرائض والحساب، وهو آخر من حدث عن البرمكى، وذكر جماعة.

وكان سماعه صحيحا، ومتعه الله بعقله وسمعه وبصره وجوارحه إلى حين وفاته. ولم يخلف بعده من يقوم مقامه فى علمه. وكان قد خرجت له مجالس سنة ثمان عشرة، فأملاها بالجامع من دار الخليفة.

وقال ابن شافع: سمعت ابن الخشاب يقول: سمعت قاضى المارستان يقول:

قد نظرت فى كل علم حصلت منه بعضه أو كله، إلا هذا النحو فإنى قليل البضاعة فيه.

قال ابن شافع: وما رأيت أبا محمد - يعنى: ابن الخشاب - يعظم أحدا من مشايخه تعظيمه له. وكان أبو القاسم بن السمرقندى يقول: ما بقى مثله ويطريه فى الثناء.

ص: 195

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم - بمصر - أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف ابن عبد المنعم، أخبرنا الحافظان: أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزى، وأبو محمد ابن عبد العزيز بن محمود بن الأخضر، وأبو أحمد بن عبد الوهاب بن على بن سكينة وغيرهم ح وأخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الدمشقى بها - غير مرة - أخبرنا أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم التنوخى، وأبو محمد عبد العزيز بن عبد المنعم الحارثى وأبو الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر المقدسى، وأبو الغنائم المسلم بن محمد بن علان وغيرهم، قالوا: أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزد، وأبو اليمن زيد بن الحسن الكندى. زاد الأولان: وأبو البركات عبد اللطيف بن إسماعيل الصوفى، وزاد الأول وحده: وأحمد بن تزمش البغدادى. قالوا كلهم: أخبرنا أبو بكر محمد ابن عبد الباقى البزاز، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكى - حضورا - أخبرنا أبو محمد عبد الله بن إبراهيم البزار، حدثنا أبو مسلم، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصارى، حدثنا حميد عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«من كذب علىّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» :

أنبئت عن يوسف بن خليل الحافظ قال: أخبرنا الشيخ الصالح أبو القاسم عبد الله بن أبى الفوارس محمد بن على بن حسن الخزاز الصوفى البغدادى ببغداد قال: سمعت القاضى أبا بكر محمد بن عبد الباقى بن محمد البزاز الأنصارى يقول:

كنت مجاورا بمكة - حرسها الله تعالى - فأصابنى يوما من الأيام جوع شديد لم أجد شيئا أدفع به عنى الجوع، فوجدت كيسا من إبريسم مشدودا بشرابة من إبريسم أيضا فأخذته وجئت به إلى بيتى، فحللته فوجدت فيه عقدا من لؤلؤ لم أر مثله، فخرجت فإذا الشيخ ينادى عليه، ومعه خرقة فيها خمسمائة دينار وهو يقول: هذا لمن يرد علينا الكيس الذى فيه اللؤلؤ، فقلت: أنا محتاج، وأنا جائع، فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأرد عليه الكيس، فقلت له: تعالى إلىّ، فأخذته وجئت به إلى بيتى، فأعطانى علامة الكيس، وعلامة الشرابة، وعلامة اللؤلؤ

ص: 196

وعدده؟؟؟، والخيط الذى هو مشدود به، فأخرجته ودفعته إليه. فسلم إلىّ خمسمائة دينار، فما أخذتها، وقلت: يجب علىّ أن أعيده إليك ولا آخذ له جزاء، فقال لى:

لا بد أن تأخذ. وألح على كثيرا، فلم أقبل ذلك منه، فتركنى ومضى.

وأما ما كان منى: فإنى خرجت من مكة وركبت البحر، فانكسر المركب وغرق الناس، وهلكت أموالهم، وسلمت أنا على قطعة من المركب، فبقيت مدّة فى البحر لا أدرى أين أذهب، فوصلت إلى جزيرة فيها قوم، فقعدت فى بعض المساجد، فسمعونى أقرأ، فلم يبق فى تلك الجزيرة أحد إلا جاء إلىّ وقال:

علمنى القرآن. فحصل لى من أولئك القوم شئ كثير من المال.

قال: ثم إنّي رأيت فى ذلك المسجد أوراقا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها فقالوا لى: تحسن تكتب؟ فقلت: نعم، فقالوا: علّمنا الخط، فجاءوا بأولاهم من الصبيان والشباب، فكنت أعلمهم، فحصل لى أيضا من ذلك شئ كثير فقالوا لى بعد ذلك: عندنا صبيّة يتيمة، ولها شئ من الدنيا نريد أن تتزوج بها، فامتنعت، فقالوا: لا بد، وألزمونى، فأجبتهم إلى ذلك.

فلما زفوها إلىّ مددت عينى انظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقا فى عنقها، فما كان لى حينئذ شغل إلا النظر إليه. فقالوا: يا شيخ، كسرت قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها، فقصصت عليهم قصة العقد فصاحوا وصرخوا بالتهليل والتكبير، حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلت:

ما بكم؟ فقالوا: ذلك الشيخ الذى أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول:

ما وجدت فى الدنيا مسلما إلا هذا الذى رد على هذا العقد، وكان يدعو ويقول:

اللهم اجمع بينى وبينه حتى أزوجه بابنتى، والآن قد حصلت، فبقيت معها مدة ورزقت منها بولدين.

ثم إنها ماتت فورثت العقد أنا وولداى، ثم مات الولدان فحصل العقد لى فبعته بمائة ألف دينار. وهذا المال الذى ترون معى من بقايا ذلك المال. هكذا ساق هذه الحكاية يوسف بن خليل الحافظ فى معجمه.

ص: 197

وساقها ابن النجار فى تاريخه، وقال: هى حكاية عجيبة. وأظن القاضى حكاها عن غيره. وقد ذكرها أبو المظفر سبط ابن الجوزى فى تاريخه فى ترجمة أبى الوفاء بن عقيل.

وذكر عن ابن عقيل: أنه حكى عن نفسه: أنه جج، فالتقط العقد ورده بالموسم، ولم يأخذ ما بذل له من الدنانير، ثم قدم الشام، وزار بيت المقدس، ثم رجع إلى دمشق، واجتاز بحلب فى رجوعه إلى بغداد، وأنّ تزوجه بالبنت كان بحلب. ولكن أبا المظفر ليس بحجة فيما ينقله، ولم يذكر للحكاية إسنادا متصلا إلى ابن عقيل، ولا عزاها إلى كتاب معروف، ولا يعلم قدوم ابن عقيل إلى الشام، فنسبتها إلى القاضى أبى بكر الأنصارى أنسب. والله أعلم.

وقد تضمنت هذه القصة: أنه لا يجوز قبول الهدية على رد الأمانات؛ لأنه يجب عليه ردها بغير عوض، وهذا إذا كان لم يلتقطها بنيّة أخذ الجعل المشروط وقد نص أحمد رضى الله عنه على مثل ذلك فى الوديعة، وأنه لا يجوز لمن ردها إلى صاحبها قبول هديته إلا بنية المكافأة.

‌92 - عبد الوهاب بن عبد الواحد

بن محمد بن علي الشيرازى، ثم الدمشقى، المعروف بابن الحنبلى، الفقيه الواعظ المفسّر، شرف الإسلام أبو القاسم.

كذا كناه ابن القلانسى فى تاريخه. وكناه المنذرى وغيره: أبا البركات ابن شيخ الإسلام أبى الفرج الزاهد - المتقدم ذكره - شيخ الحنابلة بالشام فى وقته

توفى والده وهو صغير فاشتغل بنفسه، وتفقه وبرع، وناظر وأفتى، ودرس الفقه والتفسير ووعظ، واشتغل عليه خلق كثير. وكان فقيها بارعا، وواعظا فصيحا، وصدرا معظما، ذا حرمة وحشمة وسؤدد ورئاسة، ووجاهة وجلالة وهيبة.

ولما ورد الفرنج إلى دمشق سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، أرسله صاحب دمشق إلى الخليفة المسترشد ببغداد ليستنجدهم على الفرنج، فخلع عليه ووعده بالإنجاد.

ص: 198

وكان له بجامع دمشق مجلس يعقده للوعظ، وقيل: إنه منع منه بسبب الفتن.

قال ابن السمعانى: سمعت أبا الحجاج يوسف بن محمد بن مقلد التنوخى الدمشقى - مذاكرة - يقول: سمعت الشيخ الإمام عبد الوهاب بن أبى الفرج الحنبلى الدمشقى - بدمشق - ينشد على الكرسى فى جامعها، وقد طاب وقته:

سيّدى علّل الفؤاد العليلا

واحينى قبل أن ترانى قتيلا

إن تكن عازما على القبض روحى

فترفّق بها قليلا قليلا

قرأت بخط حفيده ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم قال: حكى لنا الفصيح الحنفى قال: احتجت، فأشار علىّ بعض الناس أن أقوم فى مجلس شرف الإسلام فأمتدحه بقصيد شعر. قال: ففعلت، فرمى علىّ الشيخ منديلا كان فى يده، فخلع على جماعة أصحابه ثيابا كثيرة، ونثروا علىّ، فخرجت من المجلس ومعى جمال تحمل الخلع. فبلغ ذلك البرهان البلخى شيخ الحنفية، فشكانى إلى والدى، فقلت: كنت محتاجا، ورحت إلى رجل أغنانى، فاسكتوا عنى وإلا رحت إليه بكرة.

قال ناصح الدين: وكان وجيه الدين مسعود بن شجاع شيخ الحنفية - بدمشق - يذكر شرف الإسلام جدّى، ويقول: كان يذكر مجلدة من التفسير فى المجلس الواحد ويثنى عليه.

قال: وكان زين الدين بن الحكيم الواعظ الحنفى يذكر جدى شرف الإسلام على المنبر، ويثنى عليه، وربما ذكره فبكى.

قلت: ولشرف الإسلام تصانيف فى الفقه والأصول، منها «المنتخب فى الفقه» فى مجلدين، و «المفردات» ، و «البرهان فى أصول الدين» ورسالة فى الرد على الأشعرية.

وحدث عن أبيه ببغداد ودمشق، وسمع منه ببغداد أبو بكر بن كامل، وناظر مع الفقهاء ببغداد فى المسائل الخلافيات.

ص: 199

قال ابن النجار: حدث عن والده بحديث منكر. وبنى بدمشق مدرسة داخل باب الفراديس، وهى المعروفة بالحنبلية. ولما شرع فى بنائها طلع بعض المخالفين إلى «زمرّد خاتون» أم شمس الملوك - وكان حكمها نافذا فى البلد - فقالوا لها: هذا ابن الحنبلى يبنى مدرسة للحنابلة، وهذا البلد عامته شافعية، وتصير الفتن وبناؤها مفسدة وضرر كبير. فبعثت إلى الشيخ، وقالت له: بطل هذا البناء، فقال: السمع والطاعة. وقال للصناع: انصرفوا، فانصرفوا. فلما كان الليل أحضر الصّناع والفعلة وأصحابه، وأشعلوا المشاعل والشمع، وشرعوا فى تأسيس حائط القبلة، ونصبوا المحراب ليلا، وقال: اغدوا على عملكم، فغدوا، وقال أولئك لها: قد خالف أمرك. فنزل إليه عشرة من القلعة، وقالوا له: أما قد نهتك خاتون عن بناء هذا المكان؟ فقال: أنا قد بنيت بيتا من بيوت الله عز وجل، ونصبت محرابا للمسلمين، فإن كانت هى تهدمه تبعث تهدمه، وصاح على الصناع: اعملوا. فبلغها ما قال. فقالت: صدق. أنا ما لى وللفقهاء.

ذكر ذلك الناصح عن بعض أصحاب أبى شرف الإسلام.

قال: سمعت والدى يقول: جاء رجل من أصحاب أبى شرف الإسلام إليه، فقال: رأيت الليلة فى منامى أبى، فقال لى: هذا الذى يقوله لكم الشيخ ما هو صحيح، ما رأينا لا جنة ولا نارا، ولا قيامة ولا حسابا، وهو يبكى، فقال له الشيخ: ما ذاك والدك. فقال: يا سيدى، والدى، أنا أعرفه، فقال له الشيخ: ذاك الشيطان، الساعة يعود ويقول لك مثل ما قال. فقل أنت له: بالله الذى لا إله إلا هو، أنت والدى؟ فيولى عنك ويضرط لك. فلما كانت الليلة الثانية أصبح وجاء إلى الشيخ، فقال له: ضرط لك؟ قال: إي والله يا سيدى.

توفى رحمه الله فى ليلة الأحد سابع عشر صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة.

ودفن عند والده بمقابر الشهداء من مقابر الباب الصغير.

وذكره أبو المعالى بن القلانسى فى تاريخه، فقال: كان على الطريقة

ص: 200

المرضية، والخلال الرضية،، ووفور العلم وحسن الوعظ وقوة الدين، والتنزه عما يقدح فى أفعال غيره من المتفقهين، وكان يوم دفنه مشهودا من كثرة المشيعين له والباكين حوله، والمؤبنين لأفعاله والمتأسفين عليه. رحمه الله تعالى.

وللمهذب أحمد بن منير

(1)

الشاعر الحلبى المشهور رسالة إلى شرف الإسلام يمدحه فيها وأهل بيته بقصيدة، يقول فيها:

ولعمرى لولا بقية عبد ال

واحد الحنبلىّ أعضل داؤه

هم أعادوا المعروف غضا وقد صوّ

ح مخضره وغاض بهاؤه

معشر أرضعوا النباهة من عو

د نضار ماء المروءة بهاؤه؟؟؟

كل معروفهم لمعروفهم طلق

وهم فى مكروهه شركاؤه

ألسن توّج المنابر منها

كل عضب فلّ القضاء مضاؤه

فالكتاب العزيز يشهد أن قد

سلمت خصلة له قراؤه

أهله أنتم، ومن لم يقل قو

لى عمّمت عينه أعضاؤه

فقهاء الإسلام إن عن

لبس أحباره خطباؤه

قال ناصح الدين حفيد شرف الإسلام: قد عرضت هذه القصيدة على أبى البقاء العكبرى، فأثنى عليها كثيرا.

‌93 - عبد الوهاب بن المبارك

بن أحمد بن الحسن الأنماطى، الحافظ أبو البركات، محدّث بغداد.

ولد فى رجب سنة اثنتين وستين وأربعمائة.

وسمع الكثير من أبى محمد الصريفينى، وأبى الحسين بن النقور، وأبى القاسم الأنماطى، وابن البسرى، وأبى نصر الزينبى، وطراد، وخلق كثير بعدهم.

وكتب بخطه الكثير، وسمع العالى والنازل، حتى إنه قرأ على أبى الحسين بن الطيورى جميع ما عنده.

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «ابن قيس»

ص: 201

قال ابن ناصر عنه: كان بقية الشيوخ، سمع الكثير. وكان يفهم، مضى مستورا وكان ثقة، ولم يتزوج قط.

وقال السلفى: كان عبد الوهاب رفيقا حافظا ثقة، لديه معرفة جيدة. وقال الحافظ أبو موسى المدينى فى معجمه: هو حافظ عصره ببغداد.

وذكره ابن السمعانى، فقال: حافظ ثقة، واسع الرواية، دائم البشر، سريع الدمعة عند الذكر، حسن المعاشرة. جمع الفوائد وخرج التخاريج، لعله ما بقى جزء مروى إلا وقد قرأه وحصل نسخته. ونسخ الكتب الكبار، مثل الطبقات لابن سعد، وتاريخ الخطيب. وكان متفرغا للتحديث: إما أن يقرأ عليه، أو ينسخ شيئا

وذكره ابن الجوزى فى عدّة مواضع من كتبه، كمشيخته، وطبقات الأصحاب المختصرة، والتاريخ، وصفوة الصفوة، وصيد الخاطر. وأثنى عليه كثيرا، وقال:

كان ثقة ثبتا، ذا دين وورع، وكنت أقرأ عليه الحديث وهو يبكى، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتى بروايته. وكان على طريقة السلف، وانتفعت به ما لم أنتفع بغيره، ودخلت عليه فى مرضه - وقد بلى وذهب لحمه - فقال لى: إنّ الله عز وجل لا يتهم فى قضائه.

وقال أيضا: ما رأينا فى مشايخ الحديث أكثر سماعا منه، ولا أكثر كتابة للحديث بيده مع المعرفة به، ولا أصبر على الإقراء، ولا أسرع دمعة وأكثر بكاء مع دوام البشر وحسن اللقاء.

وقال أيضا: كنت أقرأ عليه الحديث من أخبار الصالحين، فكلما قرأتها بكى وانتحب. وكنا ننتظره يوم الجمعة بجامع المنصور، فلا يجئ من قنطرة باب البصرة وإنما يجئ من القنطرة العتيقة. فسألته عن هذا؟ فقال: تلك كانت دار ابن معروف القاضى، فلما غضب عليه السلطان أخذها وبنى عليها القنطرة.

قال لنا: وسمعت أبا محمد التميمى يحكى عن ابن معروف: أنه أحل كل من يجوز عليها، إلا أنى أنا لا أفعل.

ص: 202

قال: وكانت فيه خلة أخرى عجيبة: لا يغتاب أحدا، ولا يغتاب عنده.

وكان صبورا على القراءة عليه، يقعد طول النهار لمن يطلب العلم. وكان سهلا فى إعارة الأجزاء لا يتوقف، ولم يكن يأخذ أجرا على العلم، ويعيب من يفعل ذلك، ويقول: علّم مجانا كما علّمت مجانا.

قلت: حدّث عبد الوهاب بالكثير، وسمع منه خلق عظيم.

وروى عنه من الحفاظ والأئمة وغيرهم خلق كثير، منهم: ابن ناصر، والسلفى، وابن عساكر، وأبو موسى المدينى، وأبو سعد السمعانى، وابن الجوزى، وابن الأخضر، وأبو أحمد بن سكينة، وابن طبرزد، وأحمد بن الديبقى، وعبد الوهاب ابن أحمد. هذا خلاف عبد الوهاب بن أحمد بن هذيمة، وهو خاتمة أصحابه.

وكان ابن السمعانى وغيره من الحفاظ يستفيدون منه، ويرجعون إلى قوله فى أحوال الرواة وجرحهم وتعديلهم.

ومن الفوائد المذكورة عنه: أنه كان لا يجيز الرواية بالإجازة عن الإجازة وجمع فى ذلك تأليفا. ذكره ابن السمعانى عنه. وهو مذهب غريب.

توفى رحمه الله تعالى يوم الخميس حادى عشر المحرم سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، ودفن من الغد بالشونيزية، وهى مقبرة أبى القاسم الجنيد غربى بغداد

أخبرنا أبو الفتح محمد بن إبراهيم - بمصر - أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرانى، أخبرنا الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن على، أخبرنا الحافظ عبد الوهاب بن المبارك الأنماطى بقراءتى عليه، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الصريفينى، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد الله

(1)

الصيرفى، حدثنا أبو القاسم البغوى، حدثنا على بن الجعد، أخبرنا شعبة عن منصور عن ربعى عن أبى مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «إنّ آخر ما أدرك النّاس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» .

أخرجه البخارى عن آدم عن شعبة.

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية والمخطوطة بأيدينا «ابن عبدان» .

ص: 203

‌92 -

[*]

محمد بن على

بن صدقة بن جلب الصائغ، أبو البركات، أمين الحكم بباب الأزج.

سمع من أبى محمد التميمى، وقرأ الفقه على القاضى أبى خازم.

وذكر ابن القطيعى عن أبى الحسين بن أبى البركات الصائغ قال: سمعت أبى قال: جاءت فتوى إلى القاضى أبى خازم، وفيها مكتوب.

ما يقول الإمام أصلحه اللّ

هـ وللسبيل هداه

فى محب أتى إليه حبيب

فى ليالى صيامه فأتاه

أفتنا: هل صباح ليلته أف

طر أم لا؟ وقل لنا ما تراه

قال: فقال لى القاضى أبو خازم: أجب يا أبا البركات، فكتبت الجواب وبالله التوفيق:

أيها السائل عن الوطء فى لي

لة الصيام الذى إليه دعاه

وجده بالذى أحبّ وقد أح

رق نار الغرام منه حشاه

كيف تعصى؟ ولو تفكّر فى قد

رة ربى مفكّر ما عصاه

أأمنت الذى دحا الأرض أن تط

بق دون الورى عليك سماه؟

ليس فيما أتيت ما يبطل الصّو

م جوابى فاعلم هداك الله

توفى ليلة الثلاثاء سابع عشر رجب سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. ودفن بباب حرب.

وكان سبب موته: أن زوجته سمّته فى طعام قدّمته له، وأكل معه منه رجلان فمات أحدهما من ليلته، والآخر من غده. وبقى أبو البركات مريضا مديدة، ثم مات رحمه الله تعالى.

‌93 - موهوب بن أحمد

بن محمد بن الخضر بن الحسن بن محمد الجواليقى، أبو منصور بن أبى طاهر. شيخ أهل اللغة فى عصره.

[*](تعليق الشاملة): كذا الترقيم في المطبوع

ص: 204

ولد فى ذى الحجة سنة خمس وستين وأربعمائة. ذكره ابن شافع وابن الجوزى

وقال ابن السمعانى: سألته عن مولده؟ فقال: سنة ست وستين.

وذكر غيره: أنه سأله عن ذلك؟ فقال: فى أواخر سنة خمس، أو أوائل سنة ست.

وسمع الحديث الكثير من أبي القاسم بن البسرى، وأبى طاهر بن أبى الصقر وأبى الحسن على بن محمد الخطيب الأنبارى، وطراد الزينبى، ونصر بن البطر، وأبى الحسين بن الطيورى، وجعفر السراج، وأبى طاهر بن سوار، وجماعة من بعدهم

وقرأ الأدب على أبى زكريا التبريزى سبع عشرة سنة. وبرع فى علم اللغة والعربية. ودرس العربية فى المدرسة النظامية بعد شيخه أبى زكريا مدّة، ثم قربه المقتفى لأمر الله تعالى، فاختص بإمامته فى الصلوات. وكان المقتفى يقرأ عليه شيئا من الكتب، وانتفع بذلك، وبان أثره فى توقيعاته. وكان من أهل السنة المحامين عنها. ذكر ذلك ابن شافع.

وقال ابن السمعانى فى حقه: إمام فى اللغة والأدب. وهو من مفاخر بغداد وهو متدين ثقة، ورع. غزير الفصل، كامل العقل، مليح الخطّ، كثير الضبط صنف التصانيف، وانتشرت عنه، وشاع ذكره. ونقل بخطه الكثير.

وقال ابن الجوزى: انتهى إليه علم اللغة. وكان غزير العقل، متواضعا فى ملبسه ورئاسته، طويل الصمت، لا يقول الشئ إلاّ بعد التحقيق والفكر الطويل.

وكثيرا ما كان يقول: لا أدرى. وكان من أهل السنة. سمعت منه كثيرا من الحديث وغريب الحديث، وقرأت عليه كتابه «المعرب» وغيره من تصانيفه وقطعة من اللغة.

وقال ابن خلكان فى تاريخه: صنّف التصانيف المفيدة وانتشرت عنه، مثل شرح كتاب «أدب الكاتب» وكتاب «المعرب» وتتمة «درّة الغوّاص» للحريرى. وخطه مرغوب فيه.

ص: 205

وكان يصلى بالمقتفى بالله، فدخل عليه - وهو أول ما دخل - فما زاد على أن قال: السلام على أمير المؤمنين. فقال: ابن التلميذ النّصرانى - وكان قائما، وله إدلال الخدمة، والطب -: ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ، فلم يلتفت إليه ابن الجواليقى وقال: يا أمير المؤمنين، سلامى هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى الحديث، ثم قال: يا أمير المؤمنين، لو حلف حالف أنّ نصرانيا أو يهوديا لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المرضى لما لزمته كفارة، لأن الله ختم على قلوبهم ولن يفك ختم الله إلا الإيمان. فقال: صدقت وأحسنت، وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر، مع فضله وغزارة أدبه.

وقال المنذرى: الإمام أبو منصور، أحد الفضلاء فى اللغة والنحو، وهو من مفاخر بغداد، وله التصانيف المشهورة. حدث أبو منصور بالعوالى من حديثه لعزة أوقاته.

وسمع منه جماعة، منهم: ابن ناصر، وابن السمعانى، وابن الجوزى، وأبو اليمن الكندى.

وتوفى سحر يوم الأحد خامس عشر محرم سنة أربعين وخمسمائة، وصلّى عليه من الغد فى جامع القصر، وحضر الصلاة عليه أرباب الدولة والعلماء، وتقدمهم فى الصلاة قاضى القضاة أبو القاسم الزينبى. ودفن بباب حرب عند والده. رحمهما الله تعالى.

ووهم ابن السمعانى فى وفاته، فقال: فى سنة تسع وثلاثين.

أخبرنا أبو الفتح الميدومى - بمصر - أخبرنا أبو الفرج الحرانى، أخبرنا عبد الرحمن بن على الحافظ، أخبرنا موهوب بن أحمد بن الجواليقى بقراءتى عليه، أخبرنا أبو القاسم على بن أحمد بن البسرى، خبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصلت، حدثنا إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمى، حدثنا أبو مصعب الزهرى عن مالك عن سمى - مولى أبى بكر - عن أبى صالح عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله

ص: 206

صلّى الله عليه وسلم: «السّفر قطعة من العذاب؛ يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه. فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجّل الرّجوع إلى أهله» .

أخرجاه عن القعنبى عن مالك.

‌94 - نصر بن الحسين

بن حامد الحرانى، أبو القاسم.

أحد شيوخ حران، وفقهائها الأكابر. وهو من أصحاب أبى الفتح بن جلبة القاضى، وأبى الحسين بن عمرو الزاهد، وعنهما أخذ العلم. ولا أعلم سنة وفاته.

ذكره أبو الفتح بن عبدوس، وقد عدّ شيوخ حرّان، وعلماءها، وفقهاءها، وذكر منهم: أبا المحاسن هبة الله بن نصر بن الحسين بن حامد ولد المذكور.

قلت: أبو المحاسن هذا تفقه ببغداد، وقرأ على ابن الزاغونى، وأبى الخطاب وغيرهما، وسمع من طلحة العاقولى.

وله تصنيف أظنه فى أصول الدين سماه «كفاية المنتهى ونهاية المبتدى» نقل منه الشيخ فخر الدين بن تيمية فى تفسيره.

وذكر ابن عبدوس: أبا القاسم صدقه بن على بن محشى، وصاحبه أبا المعالى رافع بن محمد بن الحكيم، وولده أبا الحسن محمد بن رافع. وقد كان روى السلفى عن أبى الفتح أحمد بن حامد الأسدى الحرانى بما كسين.

قال: وكان قد ولى قضاءها حديثا بإجازته من أبى طالب العشارى، وبسماعه من القاضى أبى الفتح بن جلبة، بسماعه من العشارى.

وذكر ابن نقطة عن السلفى قال: سمعت المؤتمن بن أحمد الساجى يقول:

على بن محمد بن على بن جلبة قاضى حران كان محبا للحديث، مجدّا فى السنة.

‌95 - نجيب بن عبد الله

السمرقندى، أبو بكر.

ذكره يحيى بن الصيرفى الحرانى الفقيه فى بعض تصانيفه، وقال: أظنه من تلامذة ابن عقيل.

ص: 207

قال: وله تخاريج حسنة فى المذهب.

وذكر من ذلك: أنه خرج رواية: أنه لا يجب القود فى صورة الإكراه على القتل إلا على المكره، ولا على المكره، من الرواية التى يقول فيها:

لا تقتل الجماعة بالواحد؛ لامتزاج الأفعال، فكذلك هنا وأولى؛ لأن السبب غير صالح.

‌96 - الحسين بن الهمذانى

أبو عبد الله شمس الحفاظ.

له كتاب «المقتدى» فى الفقه فى المذهب.

ذكره ابن الصقال الحرانى فى رسالته المسماة «بالإنباء عن تحريم الربا» .

وذكر: أنه ذكر فى هذا الكتاب: أن العروض المحلى بأحد النقدين لا يجوز بيعه بأحدهما، قولا واحدا. وهذا موافقة لطريقة ابن أبى موسى وغيره.

ولا أعلم من حاله غير هذا.

‌97 - المبارك بن عبد الملك

بن الحسين البغدادى، الحريمى، الفقيه، الإمام أبو على، المعروف بابن القاضى.

تفقه فى المذهب وبرع فيه. وسمع فى حال كبره من غير واحد. وكان من أكابر الفقهاء.

تفقه عليه جماعة. ولا أعلم سنة وفاته.

وله ابن يقال له: أبو منصور عبد الملك كان موصوفا بالصلاح والخير.

ولى القضاء بمدينة المنصور بالحريم الطاهرى.

وسمع من أبى منصور القزاز، وأبى البدر الكرخى وطبقتهما، وحدث.

وكان مولده سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.

وتوفى فى عشرين ذى الحجة سنة تسع وستمائة. ودفن بباب حرب.

سمع منه النجيب الحرانى. وسيأتى عنه حديث فى ترجمة ابن الطلاية.

ص: 208

بقية وفيات المائة السادسة من سنة 541 هـ - إلى سنة 600 هـ

‌98 - عبد الله بن على

بن أحمد بن عبد الله البغدادى، المقرئ النحوى الأديب الزاهد أبو محمد، سبط أبى منصور الخياط.

ولد ليلة الثلاثاء سابع عشرين شعبان سنة أربع وستين وأربعمائة.

وتلقن القرآن من شيخه أبى الحسن بن الفاعوس، وقرأ بالروايات على جده أبى منصور الزاهد، والشريف عبد القاهر العباسى، وابن سوار، وجماعة.

وسمع الحديث الكثير من أبى الحسين بن النقور، وأبى منصور بن عبد العزيز، وطراد، وغيرهم.

وقرأ الأدب على أبى الكرم بن فاخر، وبرع عليه فى العربية واللغة، وقرأ عليه كتاب سيبويه، وتصانيف ابن جنى. وصنف فى القراءات كتبا وقصائد، وأم بمسجد ابن جردة وأقرابه، من سنة سبع وثمانين وأربعمائة إلى وفاته، وختم ما لا يحصى.

وقرأ عليه بالروايات خلق كثير. آخرهم موتا تاج الدين زيد بن الحسن الكندى.

وسمع منه الحديث خلق كثير من الحفاظ وغيرهم، منهم: ابن ناصر، وابن السمعانى، وابن الجوزى. وكان أكابر العلماء وأهل بلده يقصدونه.

قال ابن الجوزى: قرأت عليه القرآن والحديث الكثير، ولم أسمع قارئا قط أطيب صوتا منه، ولا أحسن أداء على كبر سنه، وجمع الكتب الحسان. وكان كثير التلاوة، لطيف الأخلاق، ظاهر الكياسة والظرافة، وحسن المعاشرة للعوام والخواص.

وقال أيضا: كان قويا فى السّنة. وكان طول عمره منفردا فى مسجده.

وقال ابن السمعانى: كان له معرفة بالنحو واللغة، متوددا متواضعا، حسن

ص: 209

القراءة والتلاوة فى المحراب، خصوصا فى ليالى رمضان، يحضر الناس عنده لاستماع قراءته. وصنف تصانيف فى القراءات وعلوم القرآن، وخولف فى بعضها، وشنعوا عليه. وسمعت أنه رجع عن ذلك. والله تعالى يغفر لنا وله. وكتبت عنه وعلقت عنه من شعره.

وقال ابن شافع: سار ذكر سبط الخياط فى البلاد والأغوار والأنجاد ورأس أصحاب الإمام أحمد، وصار أوحد وقته ونسيج وحده، لم أسمع فى جميع عمرى من يقرأ الفاتحة أحسن ولا أوضح منه. وكان جمال العراق بأسره. وكان ظريفا كريما لم يخلف مثله فى أكثر فنونه.

ولصدقه بن الحسين فى مدحه:

يا قدوة القراء والأدبا

ومحجة الفقهاء والعلما

والعالم الحبر الإمام ومن سمى

بالعلم مرتبة على الجوازا

وقال ابن نقطة: كان شيخ العراق يرجع إلى دين وثقة وأمانة. وكان ثقة صالحا من أئمة المسلمين.

وقال الذهبى فى طبقات القراء: صنف التصانيف المليحة فى القراءات، مثل «المبهج» و «الكفاية» و «القصيدة المتحدة» و «الروضة» و «الإيجاز فى السبعة» و «المؤيدة للسبعة» و «الموضحة فى العشرة» و «الاختيار» و «التبصرة» وغير ذلك.

وله شعر حسن كثير، فمنه ما أنشده ابن السمعانى عنه.

يا من تمسك بالدنيا ولذتها

وجد فى جمعها بالكد والتعب

هل لا عمرت لدار سوف تسكنها

دار القرار وفيها معدن الطلب؟

فعن قليل تراها وهى دائرة

وقد تمزق ما جمعت من نشب

ومنه قوله:

ومن لم تؤدبه الليالى وصرفها

فما ذاك إلا غائب العقل والحس

ص: 210

يظن بأن الأمر جار بحكمه

وليس له علم: أيصبح أم يمسى؟

وقوله:

إذا كان أمر الله فى الخلق نافذا

ومقدوره فيهم يقيم ويقعد

فلا ينفع الحرص المركب فى الفتى

ولا أحد فيه يحل ويعقد

وقوله:

أيها الزائرون بعد وفاتى

جدثا ضمنى ولحدا عميقا

سترون الذى رأيت من الموت

عيانا وتسلكون الطريقا

وقال الحافظ الضياء المقدسى: أخبرنا أبو الفضل عبد الواحد بن سلطان ببغداد، أخبرنا محمد المقرئ، أجاز لهم، وأنشدنا لنفسه:

ترك التكلف فى التصوف واجب

ومن المحال تكلف الفقراء

قوم إذا امتد الظلام رأيتهم

يتركعون تركع القراء

والوجد منهم فى الوجوه محله

ثم السماع يحل فى الأعضاء

لا يرفعون بذاك صوتا مجهرا

يتجنبون مواقع الأهواء

ويواصلون الدهر صوما دائما

فى البأس إن يأتى وفى السراء

وتراهم بين الأنام إذا أتوا

مثل النجوم الغر فى الظلماء

صدقت عزائمهم وعز مرامهم

وعلت منازلهم على الجوزاء

صدقوا الإله حقيقة وعزيمة

ورعوا حقوق الله فى الآناء

والرقص نقص عندهم فى عقدهم

ثم القضيب بغير ما إخفاء

هذا شعار الصالحين ومن مضى

من سادة الزهاد والعلماء

فإذا رأيت مخالفا لفعالهم

فاحكم عليه بمعظم الإغواء

وله أيضا:

الفقه علم به الأديان ترتفع

والنحو عز به الإنسان ينتفع

ثم الحديث إذا ما رمته فرج

من كل معنى به الإنسان يبتدع

ثم الكلام فذره، فهو زندقة

وخرقه فهو خرق ليس يرتقع

ص: 211

وله أيضا:

ظهرت فى الأنام بدعة قوم

جحدوا الله والقرآن المبينا

عطلوا وصفه، وحادوا عن الحق

جميعا، وخالفوه يقينا

قال ابن الجوزى: توفى بكرة يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وتوفى فى غرفته التى فى مسجده، فحط تابوته بالحبال من سطح المسجد، وأخرج إلى جامع القصر، فصلى عليه عبد القادر. وكان الناس فى الجامع أكثر من يوم الجمعة، ثم صلّى عليه فى جامع المنصور.

وقال: وقد رأيت أنا جماعة من الأكابر، فما رأيت أكثر جمعا من جمعه على تقدير الناس، من نهر معلى إلى قبر أحمد، وغلقت الأسواق، ودفن فى دكة الإمام أحمد عند جده أبى المنصور.

أخبرنا أبو الفتح الميدومى - بفسطاط مصر - أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف ابن عبد المنعم، أخبرنا الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن على، أخبرنا أبو محمد عبد الله ابن على المقرئ - بقراءتى عليه - أخبرنا الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة، أخبرنا أبو عمر بن مهدى، حدثنا المحاملى، حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا إسماعيل ابن علية، حدثنى على بن المبارك عن يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة عن بشر ابن سعيد عن زيد بن خالد الجهنى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه فى أهله فقد غزا» . أخرجه البخارى عن أبى معمر عن عبد الوارث، ومسلم عن أبى الربيع الزهرانى عن يزيد بن زريع، كلاهما عن حسين المعلم عن يحيى بن أبى كثير.

‌99 - دعوان بن على

بن حماد بن صدقة الجبائى - ويقال له: الجبي أيضا - نسبة إلى قرية بسواد بغداد عند العقر على طريق خراسان، المقرئ الفقيه الضرير أبو محمد.

ولد سنة ثلاث وستين وأربعمائة بالجبة المذكورة.

ص: 212

وقدم بغداد فسمع بها من أبى محمد التميمى، وأبى عبد الله البسرى، والحسين ابن طلحة، وثابت بن بندار، والصريفينى، وابن البطر، وابن السراج.

وقرأ بالروايات على الشريف عبد القاهر المكى، وابن سوار، وتفقه على أبى سعد المخرمى، وأحكم الفقه، وأعاد شيخه المذكور فى درس الخلاف، وأقرأ القرآن، وحدث، وانتفع به الناس. قرأ عليه جماعة، وحدث عنه آخرون، منهم ابن السمعانى.

قال ابن الجوزى: كان خيرا دينا، ذا ستر وصيانة وعفاف، وطرائق محمودة، على سبيل السلف الصالح.

توفى يوم الأحد سادس عشر ذى القعدة سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.

ودفن من الغد بمقبرة أبى بكر - غلام الخلال - إلى جانبه.

قال ابن الجوزى: كتب إليّ عبد الله الجبائى الشيخ الصالح، قال: رأيت دعوان بن على بعد موته بنحو من شهر فى المنام، وكأن عليه ثيابا بيضاء شديدة البياض، وعمامة بيضاء، وهو يمضى إلى الجامع لصلاة الجمعة، وقد أخذت يده اليسرى بيدى، ومضينا. فلما بلغنا إلى حائط الجامع، قلت له: يا سيدى، إيش لقيت؟ قال لى: عرضت على الله تعالى خمسين مرة، وقال لى: إيش عملت؟ فقلت له:

قرأت القرآن وأقرأته. قال لى: أنا أتولاك، أنا أتولاك. قال عبد الله: فأصابنى من الوجد، وصحت وضربت بكفى اليمنى حائط الجامع ثلاث مرات، أتأوه وأضرب الحائط بكفى، ثم استيقظت.

‌100 - صالح بن شافع

بن صالح بن حاتم بن أبى عبد الله الجيلى الفقيه المعدل، أبو المعالى.

ولد ليلة الجمعة لست خلون من المحرم سنة أربع وسبعين وأربعمائة

وسمع من أبى منصور الخياط، وابن الطيورى، وغيرهما. وصحب ابن عقيل وغيره من الأصحاب. وتفقه ودرس بالمسجد المعروف به بدرب المطبخ شرقى بغداد

ص: 213

قال ابن المنذرى فى تاريخ القضاة: كان فقيها زاهدا من سروات الناس.

وقال ابن الجوزى: كان من المعدلين، فجرت حالة أوجبت أن عزل من الشهادة.

وقال ابن المنذرى: كان أحد الفضلاء الشهود. وحدث عنه الحافظان:

أبو القاسم الدمشقى وأبو سعد السمعانى.

توفى يوم الأربعاء سادس عشر رجب سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وصلّى عليه من الغد. وتقدم عليه فى الصلاة ولده أبو الفضل أحمد صاحب التاريخ. ودفن فى دكة الإمام أحمد رضى الله عنه. وذكر بن الجوزى: أنه دفن على ابن عقيل

‌101 - المبارك بن كامل

بن أبى غالب محمد بن أبى طاهر الحسين بن محمد البغدادى، الظفرى المحدث، مفيد العراق، أبو بكر، ويعرف أبوه بالخفاف

ولد يوم الخميس ثانى عشر ذى الحجة سنة خمس وتسعين وأربعمائة

وقرأ القرآن بالروايات. وسمع الحديث الكثير. وأول سماعه سنة ست وخمسمائة، وعنى بهذا الشأن.

سمع من أبى القاسم بن بيان، وأبى على بن شهاب، وأبى طالب بن يوسف وأبى سعد بن الطيورى، وابن شجاع الذهلى، وأبى الغنائم النرسى، وأبى الوفاء ابن عقيل، وخلق كثير غيرهم.

قال ابن الجوزى وما زال يسمع العالى والنازل، ويتتبع الأشياخ فى الزوايا وينقل السماعات، فلو قيل: إنه سمع من ثلاثة آلاف شيخ لما رد القائل. وجالس الحفاظ، وكتب بخطه الكثير، وانتهت إليه معرفة المشايخ، ومقدار ما سمعوا، والإجازات.

وكان قد صحب هذا رست، ومحمود الأصبهانى، وغيرهما ممن يعنى بهذا الشأن، وانتهى الأمر فى ذلك إليه، إلا أنه كان قليل التحقيق فيما ينقل من

ص: 214

السماعات مجازفة؛ لكونه يأخذ عن ذلك ثمنا، وكان فقيرا إلى ما يأخذ. وكان كثير التزويج والأولاد.

وقال ابن النجار: أفاد الطلبة والغرباء، وخرج التخاريج، وجمع مجموعات، منها كتاب «سلوة الأحزان» نحو ثلاثمائة جزء وأكثر، وحدث بأكثر ما جمعه، وبقليل من مروياته. وسمع منه الكبار والقدماء.

وكان صدوقا مع قلة فهمه ومعرفته، وخرج لنفسه معجما لشيوخه.

وقال: الذهبى سمع الكثير، وكتب عن الجم الغفير، وأفاد الطلبة، وانتفع به خلق كثير.

توفى فى يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ودفن بالشونيزية. رحمه الله تعالى.

‌102 - عبد الله بن الحسين

بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن قثامى الحريمى الفقيه المعدل، أبو القاسم ابن أبى على.

ولد سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.

وسمع من أبى نصر الزينبى، وأبي الحسين العاصمى، وأبى الغنائم ابن أبي عنان، وثابت بن بندار، وغيرهم.

قال ابن الجوزى: كان صدوقا فقيها مفتيا مناظرا، وروى عنه حكاية فى غير موضع من كتبه.

وسمع منه ابن السمعاني، وقال: فقيه فاضل على مذهب أحمد، حسن الكلام فى المسائل، جميل الصورة، مرضى الطريقة، متواضع، كثير البشر راغب فى الخير.

وقال ابن شافع: كان فقيها مفتيا مناظرا. صدوقا أمينا. ذكره شيخنا - يعنى: ابن ناصر - وأثنى عليه.

روى عنه أحمد بن عبد الملك بن يوسف بن بانانة.

ص: 215

وتوفى يوم الجمعة سادس ذى القعدة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

‌103 - عبد الله بن عبد الباقى

بن التبان الواسطى، ثم البغدادى، أبو بكر الفقيه، ويسمى محمد وأحمد أيضا.

قال ابن الجوزى: كان من أهل القرآن، وسمع من أبى الحسين بن الطيورى وتفقه على ابن عقيل، وناظر وأفتى ودرس. وكان أميا لا يكتب.

توفى فى شوال سنة أربع وأربعين وخمسمائة عن تسعين سنة. ودفن بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

وقال ابن شافع: كان مذهبيا جيدا، وخلافيا مناظرا، ومن أهل القرآن.

بقى على حفظه لعلومه إلى أن مات.

وذكر: أنه توفى يوم الخميس ثامن شوال المذكور، وله تسعون سنة أو أزيد

وقال ابن النجار: درس المذهب على ابن عقيل حتى برع فيه. وكان يتكلم فى مسائل الخلاف، ويفتى ويدرس

سمع الحديث من أبى منصور الخياط، وابن الطيورى وأبى الحسن بن الدهان المرتب. وحدث باليسير.

وسمع منه المبارك بن كامل، وأبو الفضل بن شافع.

‌104 - الجنيد بن يعقوب

بن الحسن بن الحجاج بن يوسف الجيلى، الفقيه الزاهد، أبو القاسم بن أبى يوسف بن أبى على.

ولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة بتولم: من أرض جيلان. كذا ذكره ابن السمعانى عنه.

وذكر ابن شافع عنه: أنه ولد سنة خمسين. ثم قدم بغداد، وأقام بباب الأزج. وقرأ الفقه على يعقوب البرزبيني، والأدب على أبى منصور بن الجواليقى.

ص: 216

وسمع الحديث من أبى محمد التميمى، وأبى الحسن الهكارى، وأبى الحسن بن العلاف، ومن طلحة العاقولى، والقاضى أبى الحسين، وغيرهم. وحدث باليسير.

وكتب بخطه الكثير من الفقه والأصول والخلاف والحديث والأدب.

وكان فاضلا دينا، حسن الطريقة. جمع كتابا كبيرا فى استقبال القبلة ومعرفة أوقات الصلاة. ذكر ذلك ابن النجار.

وروى عنه ابن عساكر، والسمعانى، وقال: شيخ صالح حسن السيرة.

وقال أبو العباس بن لبيدة عنه: كان صادقا زاهدا ثبتا، لم يعرف عليه إلا خيرا

قال: وتوفى يوم الأربعاء سادس عشرى جمادى الآخرة سنة ستة وأربعين وخمسمائة. وصلّى عليه الشيخ عبد القادر بمدرسته. ودفن من يومه بمقبرة الجلبة.

رحمه الله تعالى.

قرأت بخط أبى القاسم الجنيد بن يعقوب الجيلى فى بعض تعاليقه فى حادثة جاءت من بلد الهكار: قطعة جبل لرجل عليها شجر نابت، وتحتها أرض لرجل آخر مزروعة، انقطعت القطعة فسقطت على الأرض التى تحتها، فسترتها وصارت حاضنة لها، مانعة لصاحبها من زراعتها، والشجر بحاله ثابت فى تلك القطعة لا يستضر صاحبها، لكن صاحب الأرض التى تحتها يستضر: ما الحكم فى ذلك؟

الجواب - وبالله التوفيق -: أنه يحتمل القيمة؛ لأنها صارت كالمستهلكة فهى كاللآلئ إذا ابتلعها عبده. انتهى. ولم يعز الجنيد هذا الجواب إلى أحد بعينه والظاهر: أنه جوابه بنفسه.

وفيما قاله نظر؛ فإن جناية العبد تفارق بقية جنايات الأموال؛ لأن العبد مكلف مختار، فلا تسقط جنايته وتتعلق برقبته، وإن لزم من ذلك فوات حق المالك. وهذا بخلاف جنايات البهائم؛ فإنه لا يضمن مالكها إلا أن ينسب إلى نوع من تفريط فى حفظها، على ما فيه من اختلاف وتفصيل.

وأما الجنايات الحادثة من أمواله التى لا حياة فيها: فلا ضمان عليه فيها إلا

ص: 217

أن ينسب إلى نوع تفريط، مثل من مال حائطه إلى جاره أو إلى الطريق، فإنه إذا لم يعلم به فلا نعلم خلافا فى أنه لا ضمان عليه، وإن علم وامتنع من النقض حتى سقط فأتلف، ففى وجوب الضمان عليه خلاف مشهور. فهذه الأرض الساقطة بسيل أو غيره على أرض الغير تشبه ما تلف بسقوط الجدار ونحوه.

وقد يقال: المتلف نوعان.

أحدهما: ما فات ولم يمكن إعادته من مال ونفس، فهذا الذى تكلم الفقهاء فى ضمانه على ما سبق ذكره.

والثانى: ما هو باقى، ولكن المالك بينه وبين مالكه. فهذا يلزم المالك الذى حال ملكه بينه وبين مالكه: أن يخلى بين المالك ليأخذه. فإذا عجز فهل يقال: يلزمه ضمانه لحيلولة ملكه. فقد ذكره صاحب المحرر فى مسودته على الهداية فيما إذا ابتلعت بهيمته جوهرة فى حال لا يلزم المالك ضمان جنايتها: هل يلزمه هنا شئ أم لا؟ وبيض لذلك.

ولكن كلام ابن عقيل وغيره فى مسألة من وقع فى محبرته دينار لغيره بغير تفريط منه: أنه يلزمه بذلها للكسر مضمونة، ولا يلزمه أكثر من ذلك يدل على أنه لا يلزمه ضمان ما حال ملكه بينه وبين مالكه، وأنه لا يلزمه أكثر من بذل التسليم للمالك، ليخلص ملكه. وهذا يبقى الضمان عند العجز. وهو الأظهر.

ولو قيل: إنه يلزمه الأجرة مدة الانتفاع ببقاء أرضه على أرض غيره، إلحاقا بمن حمل السيل غراسه إلى أرض آخر.

قلنا: يلزمه الأجرة، وفيه نظر. والله أعلم.

والذى ذكره القاضى وابن عقيل فيمن ابتلعت بهيمته ما لا لغيره يبقى، كذهب وجوهر: فإن كان يلزمه الضمان وكانت مأكولة: فهل تذبح لاستخراجه؟ على وجهين؛ للنهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة، وإن كانت غير مأكولة تعين الضمان، وإن لم تكن مضمونة عليه فلا ضمان.

ص: 218

ولكن قياس ما ذكر ابن عقيل فى سقوط الدينار فى المحبرة: أنه يخير مالك المال المبتلع بين أن يذبح المأكول ويضمن نقصه، وبين أن يتركه. والله أعلم.

‌105 - عبد الملك بن عبد الوهاب

بن عبد الواحد بن محمد علي الأنصارى الشيرازى، ثم الدمشقى، القاضى بهاء الدين بن شرف الإسلام بن الشيخ أبى الفرج. وقد تقدم ذكر أبيه وجده.

تفقه وأفتى ودرس وناظر. وذكره أبو المعالى حمزة بن القلانسى فى ذيل تاريخ دمشق، فقال: كان إماما فاضلا، مناظرا مستقلا، مفتيا على مذهب الإمام أحمد وأبى حنيفة، يحكم عليه، ما كان عليه عند إقامته بخراسان لطلب العلم والتقدم. وكان يعرف اللسان الفارسى مع العربى. وهو حسن الحديث فى الجد والهزل.

توفى يوم الاثنين سابع عشر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة. وكان له يوم مشهود. ودفن فى جوار أبيه فى مقابر الشهداء - يعنى: بالباب الصغير، وكثر الباكون حول سريره من العالم، والمثنون له والمتأسفون عليه. رحمه الله تعالى

‌106 - عبد الله بن هبة الله

بن أحمد بن محمد السامرى الفقيه، أبو الفتح.

ولد يوم الاثنين ثانى عشر ذى الحجة سنة خمس وثمانين وأربعمائة.

وسمع الكثير من أبى بكر الطريثيثى، وثابت بن بندار، والمبارك بن عبد الجبار، وأبى سعد بن خشيش، وجعفر السراج، وغيرهم.

وتفقه على أبى الخطاب الكلوذانى. وحدث باليسير، روى عنه جماعة.

توفى ليلة الاثنين ثالث عشر محرم سنة خمس وأربعين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب.

‌107 - أيوب بن أحمد بن تيموه

الباجرائى الفقيه الحنبلى. ويكتب بخطه: القاضى أيوب.

ص: 219

قال ابن النجار: سمع ابن ناصر الدسكرى. والقاضى أبا الحسين بن الفراء.

وحدث عنه بأصبهان بيسير.

سمع منه أبو الكرم سعد بن الحسين بن ولاد المدينى.

توفى فى ذى القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

قلت: ووجدت خطه كثيرا على كتب كثيرة من كتب الأصحاب، قرئت عليه، وحدث بالغيلانيات. سماعه من ابن الحصين.

‌108 - الحسن بن محمد

بن الحسين الراذانى الأوانى، ثم البغدادى، الفقيه الواعظ أبو على الزاهد، ابن الزاهد أبى عبد الله. وقد تقدم ذكر أبيه.

ولد أبو على بأوانا، وسمع ببغداد من أبى الحسين بن الطيورى، ومن بيان وابن شهاب، وابن خشيش، ومن الحافظ بن ناصر، ولازمه إلى أن مات.

وتفقه على أبى سعد المخرمى، ووعظ وتقدم. ولما توفى ابن الزاغونى أخذ حلقته بجامع المنصور فى النظر والوعظ، وطلبها ابن الجوزى فلم يعطها لصغر سنه.

سمع منه ابن السمعانى،. وقال: واعظ حسن السيرة متودد. وسمع منه أبو الحسن بن عبدوس الحرانى الفقيه جزءا فيه أجوبة عن مسائل وردت من الموصل، تتضمن عدة مسائل من أصول الدين، أجاب عنها فى كراس، بجواب حسن موافق لمذهب أهل الحديث.

وذكر عبد المغيث الحربى، فى بعض مؤلفاته: فتيا من فتاويه، فى تحريم السماع.

قال ابن الجوزى: توفى يوم الأربعاء رابع صفر سنة ست وأربعين وخمسمائة. ودفن من الغد إلى جانب ابن سمعون بمقبرة الإمام أحمد. وكان موته فجأة؛ فإنه دخل إلى بيته ليتوضأ لصلاة الظهر، فقاء فمات. وكان قد تزوج وعزم تلك الليلة على الدخول بزوجته.

وفى تاريخ ابن السمعانى وابن شافع: أنه توفى سادس صفر.

ص: 220

‌109 - عبد الرحمن بن محمد

بن على بن محمد الحلوانى، الفقيه الإمام أبو محمد بن أبى الفتح، وقد سبق ذكر أبيه.

ولد سنة تسعين وأربعمائة.

تفقه على أبيه، وأبى الخطاب، وبرع فى الفقه وأصوله، وناظر وصنف تصانيف فى الفقه والأصول، منها: كتاب «التبصرة» فى الفقه، كتاب «الهداية» فى أصول الفقه.

رأيت بخطه ما يقتضى؛ أن له تعليقة فى مسائل الخلاف كبيرة، وله تفسير القرآن فى إحدى وأربعين جزءا حدث به.

وروى عن أبيه، وعلى بن أيوب البزار، والمبارك ابن عبد الجبار، والحسين الخلال، وأبى نصر بن ودعان، وغيرهم.

سمع منه يحيى ابن طاهر بن النجار الواعظ، وغيره.

قال ابن شافع: كان فقيها فى المذهب، يفتى وينتفع به جماعة أهل محلته.

وقال ابن النجار: كان موصوفا بالخير والصلاح والفضل.

وقال ابن الجوزى: كان يتجر فى الخل، وينتفع به، ولا يقبل من أحد شيئا.

وتوفى فى يوم الاثنين سلخ ربيع الأول سنة ست وأربعين وخمسمائة. وصلّى عليه من الغد الشيخ عبد القادر بالمصلى القديم بالجلبة. ودفن بداره بالمأمونية.

وذكر الحافظ المنذرى فى التكملة فى ترجمة ولده أبى عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحلوانى المتوفى سنة أربع عشرة وستمائة: أنه سمع بإفادة والده هذا من ابن المعالى بن السمين وغيره.

قال: ووالده أبو محمد عبد الرحمن كان من شيوخ الحنابلة وله معرفة بالفقه والتفسير، وحدث.

قال: والحلوانى - بفتح الحاء المهملة وسكون اللام - وهذه النسبة إلى بيع الحلواء أو عملها.

ص: 221

قلت: المعروف أنه بضم الحاء، وما أظنه منسوبا إلا إلى حلوان البلد المعروف بالعراق.

‌110 - محمود بن الحسين

بن بندار أبو نجيح بن أبى المرجا بن أبى الطيب الأصبهانى، الطلحى، الواعظ المحدث.

سمع الحديث الكثير، وطلب بنفسه وقرأ.

سمع بأصبهان كثيرا من يحيى بن منده الحافظ، ومن أبى الفتح أحمد بن محمد ابن أحمد الحداد. ورحل إلى بغداد، وسمع بها من أبى الحصين، والقاضى أبى الحسين والطبقة. وكتب بخطه كثيرا. وخطه حسن متقن. ووعظ وقال الشعر.

وسمع منه يحيى بن سعدون القرطبى، حدث عنه أبو عبد الله محمد بن بكر الأصبهانى وغيره. وأجاز للشيخ عبد المغيث زهير وأولاده، ولأبى المعالى بن شافع وغيرهما.

وتوفى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة - أظنه بأصبهان رحمه الله

قرأت بخطه فى الإجازة: فليرووا عنى بلفظة التحديث، وإن أرادوا بلفظة الإخبار.

قلت: وهذا وإن اشتهر عند المحدثين من المتأخرين إنكاره، كما أنكره الخطيب على أبى نعيم الأصبهانى، لكن هو قول طوائف من علماء الحديث.

وقد روى عن الإمام أحمد رضى الله عنه، أخبرنا أبو الفتوح الميدومى - بمصر - أخبرنا أبو الفرج الحرانى، حدثنا أبو المعالى أحمد بن يحيى الخازن من لفظه ببغداد، حدثنا أبو الكرم المبارك بن الحسن الشهرزورى إملاء، قال: سمعت الإمام أبا محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمى يقول: حدثنى عمى أبو الفضل عبد الواحد ابن عبد العزيز التميمى قال: سمعت غلام الخلال يقول: سمعت الخلال يقول:

قال الإمام أبو عبد الله أحمد رضى الله عنه لولده صالح: إذا أجزت لك شيئا فلا تبالى. قلت: أخبرنا أو حدثنا.

ص: 222

وروى الخطيب بإسناده عن أبى اليمان الحكم بن نافع قال: قال لى أحمد بن حنبل: كيف سمعت الكتب من شعيب بن أبى حمزة؟ قلت: قرأت عليه بعضا، وبعضا قرأه على، وبعضا أجاز لى، وبعضا مناولة. فقال أحمد: قل فى كل: أخبرنا شعيب. وقد روى هذا المذهب عن مالك، والحارث بن مسكين.

وذكره ابن الصلاح فى كتابه عن الزهرى ومالك وغيرهما من المتقدمين.

وحكاه ابن شاهين عن طائفة من العلماء.

وذكر السلفى فى مقدمته لإملاء الاستذكار: أن مذهب أبى عمر بن عبد البر وعامة حفاظ الأندلس: الجواز فيما يجاز قول حدثنا وأخبرنا، أو ما شاء المجاز مما يقرب منه. قال: بخلاف ما نحن وأهل المشرق عليه من إظهار السماع والإجازة، وتمييز أحدهما عن الآخر بلفظ لا إشكال فيه.

وقد صنف بعض المحدثين المتأخرين فى جواز إطلاق: حدثنا وأخبرنا فى الإجازة جزءا.

‌111 - أحمد بن عبد الرحمن

بن محمد بن نجا بن محمد بن على بن محمد الأزجى، القاضى أبو على ابن شاتيل.

سمع من أبى محمد التميمى، ونصر بن البطر، وابن طلحة النعالى، وأبى بكر ابن سوسين، وشيخ الإسلام الهكارى - وسمع منه سنة أربع وخمسين وأربعمائة.

كذا ذكره القطيعى. وفيه نظر - وغيرهم.

وتفقه على أبى الخطاب الكلوذانى، وولى القضاء بربع سوق الثلاثاء مدة، ثم ولى قضاء المدائن.

ذكره ابن السمعانى، فقال: أحد فقهاء الحنابلة وقضاتهم. قال: وكتبت عنه يسيرا.

وذكر ابن القطيعى فى تاريخه: أنه سمع منه جماعة. ثم روى عن أبى إسحاق الصقال الفقيه عنه.

ص: 223

وذكر: أنه توفى يوم السبت سابع عشر شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. رحمه الله تعالى.

‌112 - أحمد بن أبى غالب

بن الطلاية الحربى الزاهد، أبو العباس الوراق

ولد بعد الستين وأربعمائة.

وقرأ القرآن. وسمع من أبى القاسم عبد العزيز بن على الأنماطى جزءا من حديث المخلص، واشتهر به.

وسمعه منه خلق، فنسب الجزء إليه. وقد سمعناه. ثم اشتغل بالعبادة، ولازم المسجد يتعبد فيه ليلا ونهارا حتى انطوى من كثرة التعبد، فكان رأسه إذا قام عند ركبتيه.

قال ابن الجوزى: حدثنى أبو الحسن بن غريبة، قال: جاء إليه رجل فقال: سل لى فلانا فى كذا، فقال أحمد: قم معى فصل ركعتين، واسأل الله تعالى؛ فإني لا أترك بابا مفتوحا وأقصد بابا مغلقا.

توفى ليلة الاثنين حادى عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. ودفن إلى جانب ابن سمعون بمقبرة الإمام أحمد، بباب حرب.

أخبرنا أبو الفتح الميدومى، أخبرنا أبو الفرج الحرانى، أخبرنا القاضى أبو منصور عبد الملك ابن أبى على المبارك بن عبد الملك بن الحسن البغدادى الحريمى - ويعرف بابن القاضى، وقد سبق ذكر ترجمته فى هذا الكتاب - أخبرنا أبو العباس ابن الطلاية، أخبرنا أبو القاسم الأنماطى، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص، حدثنا يحيى بن صاعد، حدثنا زياد بن يحيى، حدثنا مالك بن سعيد حدثنا الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:«من ستر على مسلم عورة ستره الله تعالى فى الدنيا والآخرة - وذكر الحديث» .

ص: 224

‌113 - محمد بن ناصر

بن محمد بن على بن عمر السلامى، الفارسى الأصل، ثم البغدادى، الأديب اللغوى، الحافظ أبو الفضل بن أبى منصور.

ولد ليلة السبت نصف شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. كذا ذكره ابن الجوزى وابن السمعاني عنه.

وفى تاريخ ابن النجار: ليلة الخميس، وكان والده شابا تركيا، محدثا فاضلا من أصحاب أبى بكر الخطيب الحافظ توفى فى شبيبته. ومحمد جده اسمه «آي دغدي» وأبو جده على اسمه «تكين المضافرى» التركى الحر.

وتوفى ناصر وأبو الفضل هذا صغير، فكفله جده لأمه أبو حكيم الحيرى الفرضى، فأسمعه فى صغره شيئا من الحديث يسيرا، وشغله بحفظ القرآن، والفقه على مذهب الشافعى. ثم إنه صحب أبا زكريا التبريزى اللغوى، وقرأ عليه الأدب واللغة، حتى مهر فى ذلك. ثم جد فى سماع الحديث، وصاحب فى قراءة الأدب على التبريزى، وسماع الحديث أبا منصور بن الجواليقى.

وكان فى أول الأمر أبو الفضل أميل إلى الأدب، وابن الجواليقى أميل إلى الحديث. وكان الناس يقولون: يخرج ابن ناصر لغوى بغداد، وابن الجواليقى محدثها. فانعكس الأمر، فصار ابن ناصر محدث بغداد، وابن الجواليقى لغويها.

ولازم ابن ناصر أبا الحسن بن الطيورى. وسمع منه الكثير.

وسمع من أبى القاسم بن البسرى، وأبى طاهر بن أبى الصقر - وهو أول شيخ سمع عليه. وذلك سنة ثلاث وسبعين - وأبى الحسن العاصمى، ومالك البانياسى، وأبى الغنائم بن أبى عثمان، وأبى محمد التميمى، وطراد، والنعال، وابن البطر. وأكثر عن المتأخرين بعدهم، وعنى بهذا الفن. وبالغ فى الطلب والسماعات.

وكانت له إجازات قديمة من أبى الحسين بن النقور، والصريفينى، وأبى القاسم بن عليك، وأبى صالح المؤذن، وابن ماكولا الحافظ وغيرهم، وخالط

ص: 225

أصحابنا الحنابلة ومال إليهم، وانتقل إلى مذهبهم؛ لمنام رأى فيه النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: عليك بمذهب الشيخ أبى منصور الخياط. وقد سقناه بكماله فى ترجمة الشيخ أبى منصور.

وساقه ابن النجار مختصرا، وفى آخره قال ابن ناصر: ثم أخذت فى سماع كتب أحمد ومسائله، والتفقه على مذهبه، وذلك فى رمضان سنة ثلاث وتسعين

قال السلفى: سمع ابن ناصر معنا كثيرا، وهو شافعى أشعرى، ثم انتقل إلى مذهب أحمد فى الأصول والفروع، ومات عليه، وله جودة حفظ وإتقان، وحسن معرفة. وهو ثبت إمام.

قال أبو موسى المدينى: هو مقدم أصحاب الحديث فى وقته ببغداد.

وقال ابن الجوزى: كان حافظا ضابطا، متقنا، ثقة من أهل السنة، لا مغمز فيه. وكان كثير الذكر، سريع الدمعة. وهو الذى تولى تسمعي الحديث، وعنه أخذت ما أخذت من علم الحديث.

وقال أيضا: قرأت عليه ثلاثين سنة، ولم أستفد من أحد كاستفادتى منه.

وقال ابن النجار: كان جيد النقل، صحيح الضبط، كثير المحفوظ، له يد باسطة فى معرفة النحو واللغة. وكانت أصوله فى غاية من الصحة والإتقان. وكان ثقة نبيلا، حجة، حسن الطريقة، متدينا فقيرا، متعففا نظيفا نزها، وقف كتبه على أصحاب الحديث.

رأيت بخطه وصية له أوصى بها، ذكر فيها صفة ما يخلفه من التركة، وهو ثياب بدنه، وكلها خلق مغسولة، وأثاث منزله - وكان مختصرا جدا - وثلاثة دنانير من العين، لم يذكر سوى ذلك، ومات ولم يعقب.

قال: وسمعت ابن سكينة، وابن الأخضر وغيرهما يكثرون الثناء عليه، ويصفونه بالحفظ والإتقان والديانة، والمحافظة على السنن والنوافل.

وذكره ابن السمعانى فى كتابه، فقال: حافظ ثقة، دين خير، متقن متثبت

ص: 226

وله حظ كامل من اللغة، ومعرفة تامة فى المتون والأسانيد، كثير الصلاة، دائم التلاوة للقرآن الكريم، مواظب على صلاة الضحى، غير أنه يحب أن يقع فى الناس، ويتكلم فى حقهم. وقد رد هذا عليه الحافظ أبو الفرج بن الجوزى ردّا بليغا.

وقال صاحب الحديث: ما يزال يجرح ويعدل. وقد احتج بكلام ابن ناصر فى أكثر التراجم، فكيف عول عليه فى الجرح والتعديل، ثم طعن فيه؟ ولكن هذا من تعصب ابن السمعانى على أصحاب أحمد. وذكر كلاما كثيرا.

ونقل ابن السمعانى فى ترجمة أحمد بن على الطريثيثى عن ابن ناصر: أن الطريثيثى، كان كذابا ضعيفا فى الرواية، لا يحتج به، ولا يعتمد على روايته.

ثم قال أبو الفضل: لا يحسن الكلام؛ فإنه إذ قال: كذاب، لا يحتاج أن يقول: لا يعتمد على روايته، وإذا رماه بالكذب فلا يقال: إنه ضعيف فى الرواية؛ فإن الضعف دون الكذب.

قال الحافظ أبو محمد بن الأخضر ما معناه: قول شيخنا «كذاب» لأنه روى ما ليس من سماعه، ونهى عن ذلك فلم ينته. وقوله «ضعيف فى الرواية» حيث لم يميز صحيح حديثه من سقيمه. و «لا يحتج به» لأنه ليس من شرط الصحيح بهذا الوصف. و «لا يعتمد على روايته» لوجوب هذا التخليط فى معرفته وحديثه، فلو وصفه بمجرد الكذب لما كان من أهله؛ لأنه ليس من قبيل من يضع متنا ولا يهيئ على متن إسناد، فصاحب الترجمة لم ينفرد بوصف من هذه الأوصاف، بل اشتمل عليها جميعها، فكان الجرح على حسبها.

قال: وقول ابن السمعانى: إن ابن ناصر لا يحسن الكلام، عىّ من القول وقصور عن إدراك الفهم، أتراه من أدرك فى رحلته من اشتمل بصفة شيخنا فى طبقته من حفظ وإتقان، ودوام صلاة وصيام، وأوراد كثيرة، لا يقطعها فى أوقاتها، وحسن خط لم يماثله عالم فى تحقيقه وضبطه، حتى إنه لا يفتقر من قرأ كتابه

ص: 227

إلى إسناد، ولا من يعرفه طريق الإسناد، ويفيد من حفظه علوما جمة. له فى كل وصف شريف سيرة حسنة، يعلو شخصه المهابة، كأنه أحد الصحابة، فكيف يستجيز من تعقل وتفهم أن يطلق من لفظه، وقد شاء هذه أنه لا يحسن أن يتكلم؟

قلت: حدث ابن ناصر بالكثير، وأملى الحديث، واستملى للأشياخ الكثير وخرج لهم التخاريج الكثيرة، وتكلم فيها على الأسانيد، ومعانى الأحاديث وفقهها، وله مصنف فى مأخذ فى اللغة على الغريبين للهروى، ومصنف فى مناقب الإمام أحمد فى مجلد، وجزء فى الرد على من يقول: إن صوت العبد بالقرآن غير مخلوق.

وروى عنه خلق كثير من الحفاظ وغيرهم، كالسلفى، وابن عساكر، وأبى موسى، وابن السمعانى، وابن الجوزى، وابن الأخضر، وابن سكينة، وعبد الرزاق بن عبد القادر، ويحيى بن الربيع مدرس النظامية، وأبى بكر محمد ابن غنيمة بن الحلاوى الفقيه الحنبلي، وأبى اليمن الكندى، وخلق كثير. وآخر من روى عنه بالإجازة أبو الحسن بن المقير.

وتوفى ليلة الثلاثاء ثامن عشر شعبان سنة خمسين وخمسمائة، وصلّى عليه قريبا من جامع السلطان، ظاهر السور بالجانب الشرقى، ثم بجامع المنصور، ثم بالحربية ودفن بمقبرة باب حرب، إلى جانب أبى منصور بن الأنبارى تحت السدرة.

وذكر ذلك ابن الجوزى، وقال: حدثنى أبو بكر بن الخضرى الفقيه، قال: رأيته فى المنام، فقلت: يا سيدى، ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لى، وقال لى: قد غفرت لعشرة من أصحاب الحديث فى زمانك؛ لأنك رئيسهم وسيدهم. رحمه الله تعالى.

وذكر غيره: أنه صلّى عليه أولا على باب جامع السلطان أبو الفضل بن شافع بوصية منه، ثم صلّى عليه الشيخ عبد القادر، ثم ابن الفواريرى بجامع المنصور، ثم عمر الحربى بالحربية، ودفن وقت الظهر، وكانت جنازته عظيمة، وحضره عالم كثير. رحمه الله تعالى.

ص: 228

أخبرنا أبو الفتح الميدومى - بمصر - أخبرنا أبو الفرج الحرانى، أخبرنا أبو الفرج الحافظ، حدثنا محمد بن ناصر الحافظ من لفظه، أخبرنا أبو طاهر محمد ابن أحمد بن أبى الصقر، أخبرنا أبو الحسن بن ميمون بن محمد الحضرمى، أخبرنا محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيوة. حدثنا أبو عبد الرحمن النسائى، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت:«سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحى؟ قال: فى مثل صلصلة الجرس، فيفصم عنى وقد وعيت عنه، وهو أشد علي، وأحيانا يأتينى فى مثل صورة الفتى، فيفيده إلى» .

ومن غرائب ما حكى عن ابن ناصر: أنه كان يذهب إلى أن السلام على الموتى، يقدم فيه لفظة «عليكم» فيقال: عليكم السلام؛ لظاهر حديث أبى حرى الهجيمى.

وذكر فى بعض تصانيفه: أن الإحداد على الميت بترك الطيب والزينة لا يجوز للرجال بحال، ويجوز للنساء على أقاربهن ثلاثة أيام، دون زيادة عليها ويجب على المرأة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا.

‌114 - عبد الملك بن محمد

بن عبد الملك بن دويل اليعقوبي، المؤدب أبو الكرم.

ولد بعد السبعين والأربعمائة، وسمع من أبى النرسى، وأبى الغنائم بن المهتدى، وإسماعيل بن ملة، وعبد القادر بن يوسف.

وحدث وسمع منه ابن الخشاب، وابن شافع، وابن المندائى، وابن الأخضر.

قال أبو الفضل بن شافع: كان رجلا صالحا من خيار أصحابنا، تفقه على ابن عقيل، وسمع الحديث الكثير.

وتوفى سنة خمسين وخمسمائة، ودفن بباب أبرز.

ص: 229

قال وأنشدنا:

يا أهل ودى ويا أهلا دعوتكم

بالحق لكنها العادات والنوب

أشبهتم الدهر فى تلوين صبغته

فكلكم حائل الألوان منقلب

‌115 - أحمد بن الفرج

بن راشد بن محمد المدنى الوراق، البغدادى، القاضى أبو العباس. من أهل المدينة، قرية فوق الأنبار.

ولد فى عشر ذى الحجة سنة تسعين وأربعمائة.

وقرأ القرآن بالروايات على مكى بن أحمد الحنبلى وغيره. وتفقه على عبد الواحد ابن سيف.

وسمع من أبى منصور محمد بن أحمد الخازن، وأبى العباس بن قريش، وأبى غالب القزاز، وأبى بكر بن عبد الباقى وغيرهم. وشهد عند قاضى القضاة الزينبى. وولى القضاء بدجيل مدة.

وحدث، وروى عنه ابن السمعانى، وغيره.

وتوفى يوم السبت سادس ذى الحجة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

‌116 - محمد بن أحمد

بن محمد بن أحمد بن سعدان الأزجى، الفقيه أبو المظفر

سمع الحديث من القاضى أبى الحسين وابن العز بن كادش. وتفقه على القاضى أبى الحسين، وأبى بكر الدينورى، ولازمه.

وروى عن أبى محمد بن القحف الواعظ شيئا.

روى عنه أحمد بن طارق. وكتب عنه المبارك بن كامل حكاية بغير إسناد فى معجمه.

قال صدقة ابن الحسين فى تاريخه. كان فقيها كيسا من أصحاب أبى بكر الدينورى.

توفى فى ذى القعدة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. ودفن بباب حرب وسماه مظفرا.

ص: 230

‌117 - محمد بن خذاداذ

بن سلامة بن خذاداذ العراقى المأمونى المباردى الحداد الكاتب الفقيه الأديب، أبو بكر بن أبى محمد، ويعرف بنقاش المبارد.

سمع من نصر بن البطر، والحسين بن طلحة، وأبى نصر الزينبى، وأبى الخطاب بن الجراح، وطراد، وأبي طاهر بن قيداس، والمبارك بن عبد الجبار، وابن الحصين. وغيرهم.

وتفقه على أبى الخطاب. وكتب خطا حسنا.

ذكره ابن السمعاني، فقال: أحد فقهاء الحنابلة. درس الفقه على محفوظ الكلوذانى، يسكن المأمونية، شيخ صالح، كتبت عنه يسيرا.

وقال ابن نقطة: حدث، وسماعه صحيح.

وذكره ابن القطيعى، فقال: من أهل القرآن والفقه، وطريقته فى النسخ معروفة بالسرعة.

وروى قديما عن عبد الله بن جابر بن ياسين. ثم ساق حديثا عن أحمد بن أبى السرايا التاجر عن محمد بن خذاداذ حدثنا عبد الله بن جابر بن ياسين سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.

قال ومما أنشده لنفسه:

لما رأيت أوار الحب فى كبدى

أجريت دمعى على الخدين مهمولا

وقلت: يا قلب صبرا بعد بينهم

ليقضى الله أمرا كان مفعولا

وقال ابن النجار: كان فقيها مناظرا أصوليا، تفقه على أبى الخطاب، وعلق عنه مسائل الخلاف، وقرأ الأدب، وقال الشعر. وكان خطه رديئا.

روى لنا عنه ابن الأخضر، وثابت بن شرف. وكان صدوقا.

وتوفى محمد بن خذاداذ ليلة الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. وصلّى عليه من الغد بمسجد بن جردة. ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى. وأبوه خذاداذ بن سلامة أبو محمد الحداد، نقاش المبارد.

ص: 231

ذكره ابن السمعانى أيضا، وقال: كان من فقهاء الحنابلة، يسكن المأمونية.

سمع أبا نصر الزينبى. وحدث بشئ يسير. سمع منه، أفاد الطلبة، كتب لى الإجازة.

وتوفى فى نصف رمضان سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وصلّى عليه بجامع المنصور. ودفن بباب حرب.

وقال ابن نقطة: حدث عنه أبو القاسم بن عساكر.

وقيد ابن نقطة «خذاداذ» بدال مهملة بين ذالين معجمتين.

‌118 - سالم بن عبد الله

بن عبد الملك الشيبانى الفقيه الزاهد، أبو الفتح.

صحب أبا بكر الدينورى، وسمع من الشريف أبى العز بن المختار، وأبي الغنائم النرسى، وغيرهما. وحدث باليسير.

سمع منه الشريف أبو الحسن الزيدى، وإبراهيم بن الشعار، وأبو الفضل ابن شافع، وقال عنه: كان فقيها زاهدا مخمولا، ذكره عند أبناء الدنيا، رفيعا عند الله، وصالح عباده، وقال صدقة بن الحسين: كان فقيها متزهدا.

توفى ليلة الأربعاء سابع شعبان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى.

‌119 - أحمد بن معالى

-

ويسمى عبد الله أيضا - بن بركة الحربى.

تفقه على أبى الخطاب الكلوذانى، وبرع فى النظر.

ذكره ابن الجوزى فى عدة مواضع من كتبه، كالطبقات والتاريخ، وقال:

كان له فهم حسن، وفطنة فى المناظرة.

قال: وسمعت درسه مدة، وكان قد انتقل إلى مذهب الشافعى، ثم عاد إلى مذهب أحمد، ووعظ.

وقال صدقة بن الحسين: كان شيخا كبيرا قد نيف على الثمانين، فقيها مناظرا

ص: 232

عارفا له مخالطة مع الفقهاء، ومعاشرة مع الصوفية. وكان يتكلم كلاما حسنا، إلا أنه كان متلونا فى المذهب.

وتوفى فى يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وخمسمائة وصلّى عليه الشيخ عبد القادر. ودفن بمقبرة باب حرب.

وكان سبب موته: أنه ركب دابة فانحنى فى ضيق ليدخل، فاتكى بصدره على قربوس السرج فأثر فيه، وانضم إلى ذلك إسهال، فضعفت القوة. وكان مرضه يومين أو ثلاثة. رحمه الله.

وله تعليقة فى الفقه وقفت على جزء منها.

‌120 - الحسين بن جعفر

بن عبد الصمد بن المتوكل على الله العباسى الهاشمى المقرئ، الأديب أبو على.

ولد فى حادى عشر شوال سنة سبع وسبعين وأربعمائة.

وقرأ القرآن. وسمع قديما من أبى غالب الباقلانى، وأبى الحسن بن العلاف وشهفير، وابن أبى الفوارس الشاعر، وابن الحصين، وأبى بكر اللفتوانى وغيرهم.

وحدث.

وكان يؤم فى مسجد ابن الثعلبى الزاهد، وكان فيه لطف وظرف وأدب، ويقول الشعر الحسن، مع دين وخير. وجمع سيرة المسترشد، وسيرة المقتفى، وجمع لنفسه مشيخة، وجمع كتابا سماه «سرعة الجواب ومداعبة الأحباب» أحسن فيه.

قال ابن النجار: وكان أديبا فاضلا، يقول الشعر ويروى الحكايات والنوادر. وكان صالحا متدينا صدوقا.

روى لنا عنه ابن الأخضر، وغيره.

وذكره ابن السمعانى، وقال: كان صالحا فاضلا، له معرفة بالأدب والشعر.

ومن شعره مما كتبه فى بعض الأجائز.

أجزت للسادة الأخيار ما سألوا

فليرووا عنى بلا بخس ولا كذب

ص: 233

مهما أحيوه من شعر ومن خبر

ومن جميع سماعاتى من الكتب

وليحذروا السهو والتصحيف من غلط

ويسلكوا سنة الحفاظ فى الأدب

قال ابن النجار: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن هبة الله الضرير النحوى. أنشدنا الشريف أبو على الحسن بن جعفر لنفسه هذه القصيدة فى آخر ترجمة الحسين بن جعفر الآتى ذكره:

الدهر يعقب ما يضر وينفع

والصبر أحمد ما إليه المرجع

والمرء فيما منه كان مصيره

حينا، وليس عن المنية مدفع

فاحذر مفاجأة المنون؛ فإنه

لا يلتجى منها ولا يستشفع

أين الذين تجمعوا وتحصنوا

وتوثقوا وتجيشوا وتمنعوا

وتعظموا وتحشموا وتجبروا

وتكبروا وتمولوا وترفعوا؟

صاحت بهم نوب الزمان فأسرعوا

وحدى بهم حادى البلى فتقطعوا

ألا احتموا عنه بعضب باتر

أو صانعوه بالذى قد جمعوا؟

كانت منازلهم بهم مأنوسة

فتفرقت أوصالهم وتضعضعوا

واستوطنوا الأجداث بعد قصورهم

وسفت على الآثار ريح زعزع

ماذا أعدوا فى الجواب لمنكر

أن غرهم فيه، وماذا يصنع؟

وجدوا الذى عملوا: فوجه أبيض

بجميل طاعته، ووجه أسفع

أبتى كن متمسكا بنصيحتى

فالدهر ذو غر يجور ويخدع

واحذر مجاورة الحسود، فإنه

بخلاف ما فى نفسه يتذرع

وعليك بالخلق الجميل، فإنه

من كل شئ يقتنى لك أنفع

وتجنب الدنيا وكن متقنعا

فالحرّ يرضى بالقليل ويقنع

وخذ الكتاب بقوة، واعمل بما

أمر المهيمن؛ فهو حق يتبع

واسلك سبيل رسوله فى أمره

تنجو به؛ فهو الطريق المهيع

واعلم بأن الله {(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)

}

إليه مصيرنا والمرجع

ص: 234

حى قديم واحد متنزه

صمد، تذل له الرقاب وتخضع

متكلم عدل جواد منعم

بالقسط يعطى من يشاء ويمنع

ذو العرش لا يخفى عليه سريرة

منا، ويعلم ما نقول ويسمع

فى الحشر يظهر للعباد بلطفه

كل يذل له، وكل يخضع

بالعدل يحكم فى القيامة بيننا

ونبينا فينا إليه يشفع

خير البرية بعده صديقه

هو فى الخلافة سابق مستتبع

وكذلك الفاروق أكرم صاحب

من بعده، خبر جواد سلفع

ومجهز الجيش العظيم، ومن ثوى

مستسلما فى الدار وهو يبضع

وحبيبه ونسيبه وصفيه

وحسامه ذاك البطين الأنزع

لهم المناقب والمواهب والعلى

هم والصواحب والنجوم الطلع

وهم الذين بهم يفوز محبهم

يوم المعاد وكل ذخر ينفع

قال ابن القطيعى: أنشدنى إبراهيم بن محمد بن أحمد الشاهد الفقيه - هو ابن الصقال - أنشدنا الشريف أبو علي بن المتوكل على الله لنفسه.

يا ذا الذى أضحى يصول ببدعة

وتشيع وتمشعر وتمعزل

لا تنكرن تحنبلى وتسننى

فعليهما يوم المعاد معولى

إن كان ذنبى حب مذهب أحمد

فليشهد الثقلان أنى حنبلى

ومن شعره أيضا:

بشرقى بغداد لى حاجة

سأقضى وما خلتها تنقضى

ديون على ما طل ظالم

ووجد بمستكبر معرض

أحن إليه حنين المحب

ويهجرنى هجر المبغض

ومن شعره أيضا:

ألا بأبى من صدّعنى، وإنه

على صده شخص إلىّ حبيب

تجنبنى خوف الوشاة وفى الحشا

رسيس جوى ما ينقضى ووجيب

ص: 235

ولى كبد حرى عليه قريحة

وقلب معنىّ فى هواه يذوب

هموا نسبوا حبى إلى غير عفة

وظنوا بنا سوءا وذلك حوب

وو الله، ما حدثت نفسى بريبة

وحاشا لمثلى أن يقال مريب

قال ابن الجوزى: توفى فى جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وخمسمائة.

ودفن بمقبرة باب حرب.

وفى تاريخ ابن القطيعى: أنه توفى ليلة الاثنين لخمس عشرة ليلة مضت من جمادى الأولى من السنة المذكورة.

وذكر ابن النجار عن عمر القرشى: أنه توفى يوم الأحد ثانى عشر جمادى الأولى

‌121 - محمد بن أحمد

بن علىّ بن عبد الله الابرادى، البغدادى، الفقيه أبو الحسن بن أبى البركات. وقد سبق ذكر أبيه.

تفقه على ابن عقيل. وسمع منه، ومن أبيه أبى البركات، وأبى الحسن بن الفاعوس. وحدث باليسير.

سمع منه أبو الفضل بن شافع.

وتوفى يوم الجمعة خامس شعبان سنة أربع وخمسين وخمسمائة. ودفن عند باب المختارة.

أرخ وفاته: صدقة بن الحسين، وابن نقطة، وابن النجار. وقد اشتبه على بعض الناس وفاته بوفاة أبيه، كما سبق فى ترجمة أبيه.

‌122 - أحمد بن مهلهل

بن عبد الله بن أحمد البردانى.

قال ابن النجار: هو من قرية «برد» بسكون الراء - من بلد إسكاف المقرئ - الزاهد الضرير، أبو العباس، ويعرف بالأزجى. كان من أهل القرآن والزهد والعبادة.

روى عن أبى طالب اليوسفى وغيره، وحدث.

ص: 236

ذكره ابن القطيعى، وقال: سمعت أبا الحسن البراندسي الفقيه يقول: كان هذا الشيخ يصلى فى كل يوم أربعمائة ركعة.

وتوفى يوم الخميس غرة جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وخمسمائة.

ودفن بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

وقال ابن النجار: كان منقطعا فى مسجده لا يخالط أحدا، مشتغلا بالله عز وجل. وكان الإمام المقتفى يزوره، وكذلك وزيره ابن هبيرة. والناس كافة يتبركوا به. وكان قرأ طرفا صالحا من الفقه على أبى الخطاب الكلوذانى، ثم على أبى بكر الدينورى.

وسمع الحديث من أبى غالب الباقلانى، وأبى الغنائم النرسى، وأبى طالب اليوسفى، وغيرهم. وحدث باليسير.

روى عنه أبو الفضل بن شافع وأبو بكر الباقدارى.

‌123 - سعيد بن الحسين

بن شنيف بن محمد الديلمى الدارقزى، الأمين أبو عبد الله.

ولد سنة تسع وسبعين وأربعمائة.

وسمع من أبى عبد الله الحسين بن محمد السراج، والحسين بن طلحة النعال، وابن الطيورى، وغيرهم.

وتفقه فى المذهب. وكان إماما بجامع دار القز، وأمينا للقاضى بمحلته وما يليها.

وكان شيخا صالحا، ثقة، حدث.

وروى عنه جماعة، منهم: ابنه أبو عبد الله الحسين.

وتوفى ليلة السبت رابع عشر ذى الحجة سنة أربع وخمسين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

ص: 237

‌124 - أحمد بن أبى غالب

بن أحمد بن غالب بن عبد الله الحربى، الفقيه الفرضى المعدل، أبو بكر.

سمع الحديث من أحمد بن الحسين بن قريش، وابن الحصين، وأبى بكر الأنصارى، وأبى الحسين بن الفراء، وغيرهم. وتفقه فى المذهب.

قال ابن النجار: كان أحد الفقهاء على مذهب الإمام أبى عبد الله أحمد ابن حنبل، حافظا لكتاب الله تعالى، له معرفة بالفرائض، والحساب والنجوم، وأوقات الليل والنهار، وشهد عند قاضى القضاة أبى القاسم الزينبى، وتولى قضاء دجيل مدة، ثم عزل، حدث باليسير.

وسمع منه عبد المغيث الحربى، والقاضى أبو القاسم بن الفراء، وغيرهما.

وتوفى يوم الأحد يوم عيد الأضحى، سنة خمس وخمسين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد.

‌125 - محمد بن أحمد

بن على بن الحسين البرمكى

(1)

العباسى، الهاشمى المعدل الشريف الخطيب أبو المظفر.

توفى فى نصف ذى القعدة سنة خمس وخمسين وخمسمائة.

ودفن بالقرب من قبر معروف رحمه الله.

وكان مولده سنة سبعين وأربعمائة.

روى عن طراد، وأبى نصر الزينبى، والعاصمى، وغيرهم.

وحدث، وسمع منه جماعة. وكان جليل القدر. وكان من رجالات الهاشميين، ذا أدب وعلم. وله نظم، وخطب بجامع له.

‌126 - علوى الإسكاف

(2)

توفى فى يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وخمسين وخمسمائة.

وكان شيخا صالحا من أصحاب أبى الحسن ابن الزاغونى. وكان يقرأ كتاب

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «التريكى» .

(2)

فى خطية الإدارة الثقافية «علوان الإسكاف» .

ص: 238

الخرقى. وصلّى عليه بجامع القصر بكرة النهار. ودفن بمقبرة الوردية. ذكره صدقة ابن الحسين فى تاريخه.

‌127 - إبراهيم بن دينار

بن أحمد بن الحسين بن حامد بن إبراهيم النهروانى الرزاز، الفقيه الفرضى، الزاهد الحكيم الورع، أبو حكيم.

ولد سنة ثمانين وأربعمائة.

وسمع الحديث من أبى الحسن بن العلاف، وأبى عثمان بن ملة، وأبى القاسم ابن بيان، وأبى الخطاب الكلوذانى، وأبى على بن شهاب، وابن الحصين، وغيرهم

وتفقه على أبى سعد بن حمزة صاحب أبى الخطاب، وبرع فى المذهب والخلاف والفرائض، وأفتى وناظر.

وكانت له مدرسة بناها بباب الأزج، وكان يدرس ويقيم بها. وفى آخر عمره فوضت إليه المدرسة التى بناها ابن الشمحل بالمأمونية، ودرس بها أيضا. وقرأ عليه العلم خلق كثير، وانتفعوا به.

قال ابن الجوزى: قرأت عليه القرآن والمذهب والفرائض، وممن قرأ عليه:

السامرى صاحب المستوعب، ونقل عنه فى تصانيفه.

قال ابن الجوزى: وكان زاهدا عابدا، كثير الصوم، يضرب به المثل فى الحلم والتواضع.

وقال أيضا: كان من العلماء العاملين بالعلم، كثير الصيام والتعبد، شديد التواضع، مؤثرا للخمول. وكان المثل يضرب بحلمه وتواضعه، وما رأينا له نظيرا فى ذلك.

قال ابن القطيعى: سمعت ابن الجوزى يقول: كان الشيخ أبو حكيم تاليا للقرآن. يقوم الليل ويصوم النهار، ويعرف المذهب والمناظرة، وله الورع العظيم.

وكان يكتب بيده، فإذا خاط ثوبا فأعطى الأجرة مثلا قيراطا، أخذ منه حبة ونصفا ورد الباقى، وقال: خياطتى لا تساوى أكثر من هذا. ولا يقبل من أحد شيئا.

ص: 239

قلت: وقد صنف أبو حكيم تصانيف فى المذهب والفرائض. وصنف شرحا للهداية. كتب منه تسع مجلدات، ومات ولم يكمله.

وحدث، وسمع منه جماعة منهم: ابن الجوزى، وعمر بن على القرشى الدمشقى وله نظم.

وقال ابن القطيعى: أنشدنى أحمد التاجر، أنشدنى إبراهيم بن دينار الفقيه لنفسه:

يا دهر إن جارت صروفك واعتدت

ورميتنى فى ضيقة وهوان

إنّي أكون عليك يوما ساخطا

وقد استفدت معارف الإخوان

قال القطيعى: وقرأت فى كتاب أبى حكيم النهروانى بخطه:

وإنّي لأذكر غور الكلام

لئلا أجاب بما أكره

أصم عن الكلم المحفظات

وأحكم والحكم بى أشبه

إذا ما آثرت سفاهة السفيه

علىّ، فإنى أنا الأسفه

فكم من فتى يعجب الناظرين

له ألسن وله أوجه

ينام إذا حضر المكرمات

وعند الدناءة يستنبه

قال: وقرأت فى كتابه بخطه:

عجبا لى وقد مررت بآثارك

إنّي اهتديت نهج الطريق

أترانى أنسيت عهدك

فيها؟ صدقوا، ما لميت من صديق

قال ابن الجوزى: رأيت بخطه - يعنى: أبا حكيم - على ظهر جزء له: رأيت ليلة الجمعة عاشر رجب سنة خمس وأربعين - فيما يرى النائم - كأن شخصا فى وسط دارى قائما، قلت: من أنت؟ قال: أنا الخضر. قال: تأهب للذى لا بد منه من الموت الموكل بالعباد، ثم كأنه علم أنى أريد أن أقول له: هل ذلك عن قرب؟ فقال: قد بقى من عمرك اثنا عشر سنة تمام سنى أصحابك. وعمرى يومئذ خمس وستون سنة.

ص: 240

قال ابن الجوزى: فكنت دائما أترقب صحة هذا، ولا أفاوضه فى ذكره لئلا أنعى إليه نفسه، فمرض رحمة الله عليه اثنين وعشرين يوما.

وتوفى يوم الثلاثاء بعد الظهر ثالث عشر جمادى الآخرة من سنة ست وخمسين وخمسمائة، فكان مقتضى حساب منامه أن يبقى له سنة، فتأولت ذلك وقلت: لعله دخول سنة لا تمامها، أو لعله رأى فى آخر سنة، ومات فى أول الأخرى أو لعلها من السنين الشمسية. ودفن رحمه الله قريبا من بشر الحافى رضى الله عنه

وقد امتدحه الصرصرى فى قصيدته اللامية، التى مدح فيها الإمام أحمد وأصحابه، فقال:

وبالحلم والتقوى وصفة الرضى

أبو حكيم غدا للفقه أكبر مجمل

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم - بمصر - أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرانى، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن على الحافظ، أخبرنا أبو حكيم النهروانى ح قال الحرانى: وأخبرنا - عاليا - أبو الفرج بن عبد المنعم ابن عبد الوهاب التاجر قالا: أخبرنا أبو على محمد بن نبهان أبو الحسن بن الحسين ابن دوما، أخبرنا أحمد بن نصر الزارع. حدثنا صدقة بن موسى، وأحمد بن محمد الأنبارى، والقاسم بن أحمد، قالوا: حدثنا سويد بن سعيد الجدثانى، حدثنا على ابن مسهر عن أبى يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عشق وكتم وعف فمات، فهو شهيد»

‌128 - على بن عمر

بن أحمد بن عمار بن أحمد بن على بن عبدوس الحرانى، الفقيه الزاهد، العارف الواعظ، أبو الحسن.

ولد سنة عشر - أو إحدى عشرة - وخمسمائة، على ما نقله القطيعى عن أبى المحاسن الدمشقى عنه.

وسمع ببغداد بآخر سنة أربع وأربعين من الحافظ أبى الفضل بن ناصر،

ص: 241

وغيره. وتفقه وبرع فى الفقه والتفسير والوعظ، والغالب على كلامه التذكير وعلوم المعاملات. وله تفسير كبير. وهو مشحون بهذا الفن. وله كتاب «المذهب فى المذهب» ومجالس وعظية، فيها كلام حسن، على طريقة كلام ابن الجوزى.

قرأ عليه قرينه أبو الفتح نصر الله بن عبد العزيز، وخاله الشيخ فخر الدين ابن تيمية فى أول اشتغاله، وقال عنه: كان نسيج وحده فى علم التذكير، والاطلاع على فنون التفسير، وله فيه التصانيف البديعة، والمبسوطات الوسيعة.

وسمع منه الحديث أبو المحاسن عمر بن على القرشى الدمشقى بحران، سنة ثلاث وخمسين، وقال: هو إمام الجامع بحران، من أهل الخير والصلاح والدين.

قال: وأنشدنى لنفسه:

سألت حبيبى وقد زرته

ومثلى فى مثله يرغب

فقلت: حديثك مستظرف

ويعجب منه الذى يعجب

أراك مليح الجواب

فصيح الخطاب، فما تطلب

فهل فيك من خلة تزدرى

بها الصد والهجر به يقرب؟

فقال: أما قد سمعت المقال

مغنية الحى ما تطرب؟

ومما أورد الشيخ أبو الحسن فى مواعظه لنفسه:

يا حاملا ثقل الذنوب تجاهلا

حملت من أثقالها العظائما

لا بد من يوم عبوس هائل

يكون من أسرف فيه نادما

قم خفف الثقل بحسن توبة

حتى تكون فى المعاد سالما

وكن بأنوار اليقين مبصرا

إن كنت فى ليل المعاد هائما

فإن لله عبادا أبصروا

بأعين الفكر المعاد قائما

فشمروا أذيالهم وقصروا

آمالهم وحققوا العزائما

وصيروا أفراحهم فى قربه

وأقلبوا أعراسهم مآتما

واستفرغوا من العيون ماءها

وأسعدوا على البكا الحمائما

ص: 242

أولئك الناجون فى معادهم

يعطيهم الله نعيما دائما

ومما أورده أيضا لنفسه:

أقاموا فقاموا له ركعا

وكبروا فخروا لديه سجودا

وأجروا دموعهم خشية

فبلوا بتلك الدموع الخدودا

ولما أطالوا لديه السجود

رجوا منه وعدا وخافوا وعيدا

فأعطاهم منه ما يرتجون

وأمنهم بعد ذاك الصدودا

فمعظم أشغالهم ذكره

فطورا قياما وطورا قعودا

فورثهم ذكرهم ذكره

وزادهم فى الجنان الخلودا

ومن ذلك قوله:

قرة عين من صدق بعزمه عن الصدق

ثم اقتنى الدر الذى من ناله نال الشرفا

وإنما الدنيا متاع زائل لمن عرفا

من نال منها طرفا فليعطها منه طرفا

توفى رحمه الله وإيانا فى آخر نهار يوم عرفة - وقيل: ليلة عيد النحر - سنة تسع وخمسين وخمسمائة بحران.

ورثاه الإمام فخر الدين ابن تيمية وهو يومئذ شاب له دون العشرين بقصيدة وهى:

قد زادنى حزنى واستمكنت عللى

لما رحلت عن الإخوان يا أملى

يا عالما أوحش الدنيا بغيبته

لا صنع لى فى قضاء الله والأجل

يا أهل حران وا لهفى ووا أسفى

على فراق ابن عبدوس الفقيه على

وا حسرتاه على زين الزمان ومن

كانت عقيدته بالقول والعمل

يا قوم ما الصنع من بعد الفراق له

لا صنع للعبد فى شئ من الحيل

كان الفقيه علي عالما ورعا

وكان مسلكه فى أحسن السبل

كان الفقيه علي فوق منبره

مثل العروس ترى فى أحسن الحلل

ص: 243

كان الفقيه علي غير مبتدع

بل كان فى دينه كالفارس البطل

يقول: إن كلام الله ذو قدم

حرف وصوت على التحقيق كيف تلى

كان الفقيه علي دائما أبدا

يذكر مولاه ذا خوف وذا وجل

وروحه قبضت فى ليلة شرفت

يحظى بها كل محبوب وكل ولى

أبكى عيون الورى حزنا لفرقته

وأرسل الدمع يا روحى من المقل

بكت عليه عيون الناس كلهم

وأوحش الكل من سهل ومن جبل

بكت عليه الزوايا الخاليات كما

قد كان يؤنسها من غير ما ملل

بكت دفاتره حزنا له وأسى

لأنه كان عنها غير مشتغل

عليه طيب سلام غير منفصل

على ممر ليالى الدهر متصل

ذكر أبو الحسن بن عبدوس فى كتاب المذهب: أن فائدة الخلاف فى أن الغرض فى استقبال القبلة: هل هو استقبال العين أو الجهة؟ أنا إن قلنا: الغرض استقبال العين، فمتى رفع رأسه ووجهه إلى السماء حتى خرج وجهه عن مسامتة القبلة فسدت صلاته، وإن قلنا: الغرض استقبال الجهة لم تفسد. كذا قال. وفيه نظر؛ فإن فائدة هذا الخلاف إنما يظهر فى صورة يخرج فيها المصلى عن استقبال العين إلى استقبال الجهة. وهذا لم يخرج عن العين إلى الجهة، بل أخرج وجهه خاصة عن استقبالهما جميعا

وحكى ابن حمدان عن ابن عبدوس

(1)

.

‌129 - محمد بن محمد

بن محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، القاضى أبى يعلى الصغير. ويلقب عماد الدين ابن القاضى أبى خازم ابن القاضى الكبير أبى يعلى، شيخ المذهب فى وقته.

ولد يوم السبت لثمان عشرة من شعبان سنة أربع وتسعين وأربعمائة.

وسمع الحديث من أبيه وعمه القاضى أبى الحسين، وأبى البركات طلحة العاقولى

(1)

هكذا بجميع النسخ الخطية.

ص: 244

وأبى علىّ التككى، وأبى الحسن بن العلاف، وأبى العز بن كادش، وأبى الغنائم النرسى، وابن نبهان، وابن بيان، وغيرهم.

وظهر له إجازة لابن الجواليقى معه من الحريرى صاحب المقامات.

وتفقه على أبيه القاضى أبى خازم، وعلى عمه القاضى أبى الحسين. وبرع فى المذهب والخلاف والمناظرة. وأفتى ودرس وناظر فى شبيبته.

وكان ذا ذكاء مفرط، وذهن ثاقب، وفصاحة وحسن عبارة.

قال ابن القطيعى: قرأت عليه شيئا من المذهب، وحضرت درسه، ولم ير مثله فى حسن عبارته، وعذوبة محاورته، وحسن سمته، ولطافة طبع، ولين معاشرة، ولطف تفهيم. عطر بالرئاسة، خليق بالتصدر، جد واجتهد حتى صار انظر أهل زمانه، وأوحد أقرانه، ذو خاطر عاطر. وفطنة ناشئة، أعرف الناس باختلاف أقوال الفقهاء. ظهر علمه فى الآفاق، ورأى من تلاميذه من ناظر ودرس وأفتى فى حياته. وولى القضاء بباب الأزج سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. ثم ولى قضاء واسط سنة سبع وثلاثين، وبقى مدة بها حاكما، ثم عزله قاضى القضاة أبو الحسن ابن الدامغانى.

وذكر عنه: أنه لم يلتفت إلى عزله واستمر على الحكم، ثم خاف عاقبة ذلك فتشفع بصاحب البطيحة إلى الخليفة، ثم قدم بغداد بعد إحدى عشرة سنة، وقد ذهب بصره، فلازم بيته.

وكانت له حلقة بجامع القصر للمناظرة، وبنيت له فى بعض الأوقات موضعها دكة، ثم أزيلت، وذلك قبل ولايته للقضاء. ولما بنى أبو المعالى بن النبل مدرسة بالريان جعلها للحنابلة، وفوض أمرها إلى القاضى أبى يعلى هذا. وكان ذا فصاحة، لسن.

ومن بعض كتبه إلى بعض العلماء: فلو أن الكرم مقلة كان هو إنسانها، أو المجد لغة لكان هو لسانها، أو السؤدد دهرا لكان هو ربيع أزمانه، أو الشرف

ص: 245

عمرا كان صفوة ريعانه، أو الاجواد شهبا لكان هو الشمس التى إذا ظهرت خفيت الكواكب لظهورها، وإذا تأملها الراءون ردت أبصارهم عن شعاعها ونورها.

وللشيخ أبى الفرج بن الجوزى فى القاضى أبى يعلى هذا مدائح كثيرة.

فمن ذلك قوله يهنيه بقدوم رجب، أنشده عنه ابن القطيعى فى تاريخه:

تهن بشهر قد أتاك على يمن

يبشر بالإقبال والسعد والأمن

وعش سالما من كل منية حاسد

ومن شر ذى شر ومن كيدذى ضغن

ومر وانه وانعم واعل وانق وطب وجد

وعد وارق وازدد واسم بالفهم والذهن

تدبرت بالفكر السليم عواقب

الأمور ولم تقبل على مثمر الغبن

وسابقت أهل العلم حتى سبقتهم

فذو السبق منهم حين سعيك فى وهن

وكلهم فى الدين أضحوا كهيئة

وأصبحت فى الإسلام كالشرط والركن

وكم ليلة ناموا وبت مؤانسا

علوما أبت من لم يبت ساهر الجفن

إذا أنت جادلت الخصوم تجدلوا

لديك بلا ضرب يقد ولا طعن

وإن فهت بالتدريس نظمت لؤلؤا

وإن تسطر الفتوى فكالدر فى القطن

فبيتك معروف وعلمك ظاهر

وفضلك مشهور، فما حصل المثنى

عليك سوى تشريفه بمد يحكم

وإلا فعلم الناس فيكم بكم يغنى

وذكر ابن الجوزى فى كتابه التلقيح: أن أبا يعلى هذا هو الذى كان فقيه العصر فى الطبقة الرابعة عشر.

وصنف القاضى أبو يعلى تصانيف كثيرة، منها:«التعليقة» فى مسائل الخلاف كبيرة، و «المفردات» ، وكتاب «شرح المذهب» وهو مما صنفه فى شبيبته، وكتاب «النكت والإشارات فى المسائل المفردات» .

وقرأ عليه المذهب والخلاف جماعة كثيرة، منهم: أبو إسحاق الصقال وأبو العباس القطيعى، وأبو الحسن بن ورخز، وأبو البقاء العكبرى. وعلق عنه الخلاف بواسط يحيي بن الربيع الشافعى مدرس النظامية.

ص: 246

وحدث، وسمع منه جماعة، منهم: أبو العباس القطيعى، وأبو إسحاق الصقال وأبو المعالى بن شافع، وأبو بكر محمد بن المبارك بن الحضرى، وأحمد بن صرما، وغيرهم.

وتوفى ليلة السبت - سحرا - خامس جمادى الأولى سنة ستين وخمسمائة. كذا ذكره ابن الجوزى فى طبقاته، وفى جزء مفرد، وابن القطيعى، وابن نقطة.

وذكر ابن الجوزى أيضا فى تاريخه وفى كتاب فضائل مقبرة أحمد: أنه توفى فى خامس جمادى الآخرة. وصلّى عليه من الغد بجامع القصر، وأم الناس عليه ولده أبو منصور. ودفن بمقبرة باب حرب عند أبيه وجده. رحمهم الله تعالى.

وذكر ابن الجوزى فى موضع: أنه لم يشيعه عدد كثير، وقال فى تاريخه:

كان سأل فى مرضه أن يدفن فى دكة الإمام أحمد، فأرسل إلى الوزير يقول:

فى الدكة جدى لأمى، فأنكر الوزير ذلك وقال: كيف تنبش عظام الموتى؟.

قرأت على أبى المعالى محمد بن عبد الرّزاق بن أحمد الشيبانى ببغداد: أخبركم أبو الفرج عبد الرحمن ابن عبد اللطيف البزار - سماعا - أخبرنا أبو العباس أحمد بن صرما - قراءة عليه - أخبرنا القاضى الإمام أبو يعلى محمد بن محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلى - قراءة عليه - أخبرنا أبو الغنائم محمد بن على بن ميمون الحافظ بن على بن إبراهيم المقرئ ح وأخبرناه - عاليا - محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الأنصارى بدمشق، أخبرنا المسلم بن محمد بن علان أخبرنا، حنبل بن عبد الله، أخبرنا هبة الله ابن محمد بن الحصين أخبرنا أبو على التميمى قالا: أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا أبى، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا فضيل بن مرزوق، حدثنا أبو سلمة الجهنى عن القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إنّي عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتى بيدك، ماض فىّ حكمك، عدل فىّ قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته فى كتابك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم

ص: 247

ربيع قلبى، ونور صدرى، وجلاء حزنى، وذهاب همى: إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا. قال: فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ قال: فقال: بل ينبغى لمن يسمعها أن يتعلمها».

ذكر القاضى أبو يعلى الصغير فى تعليقته - ونقلته من خطه - فيما إذا طرح فى الماء طحلبا أو ورقا أو طينا تعمدا، فتغير به الماء: فهل يسلبه طهوريته؟ على وجهين.

قال: وإن تغير بعود أو كافور أو دهن: فقيه وجهان.

قال: ويتوجه على المذهب: أن يصح الوضوء والغسل من غير نية؛ لأن الأثرم نقل عن أحمد: أنه سأله عن رجل اغتسل يوم الجمعة من جنابة ينوى به غسل الجمعة؟ قال: أرجو أن يجزيه.

قال: وظاهر هذا يقتضى الجواز.

قال: وقد بنى القاضى هذه المسألة على أن التجديد هل يرفع الحدث أم لا؟

وقال: فأما إخراج البعير عن خمس من الإبل فلا يجوز عندنا فى أحد الوجهين، والثانى: يجوز. وإذا قلنا: يجزى: فهل البعير كله فرض، أو خمسه؟ فيه وجهان.

وفائدة الوجهين: أنه إذا كان الفرض قدر خمس البعير جاز هذا البعير الواحد عن خمسة وعشرين بعيرا، وهل الأصل الشاة أم البعير؟ فيه وجهان.

أحدهما: الأصل كلاهما، أيهما أدى كان أصلا.

والثانى: الإبل أصل، والشاة بدل. وقال: فيه وجوب الحج على التراخى فى أحد الروايتين. ثم نصر هذا القول ورجحه.

وقال أيضا: تثبت الاستطاعة ببذل الابن الطاعة، على قياس المذهب.

والمنصوص: أنها لا تثبت ببذل الابن ماله وبدنه. وأخذه من قاعدة أحمد فى تصرف الأب فى مال ابنه، وبسطه فيه.

ونصر فيه أيضا: أن الإحرام بالحج لا ينعقد فى غير أشهر الحج.

ص: 248

قال: ورواه هبة الله الطبرى فى سننه عن إمامنا أحمد، قال: والذى نقله جماعة الأصحاب واختاروه: أنه يصح فى جميع السنة.

ونصر فيه: صحة الاستئجار، وجواز أخذ الأجرة على سائر القرب غير المتعينة

ومما ذكره فى شرح المهذب - ونقلته من خطه -: يتوجه أن يجب الغسل بغيبوبة بعض الحشفة؛ لأن من أصلنا: أن وجود بعض الجملة يجرى مجرى وجود جميعها، كما فى مسائل الأيمان.

وذكر فيه: إذا أولج رجل فى قبل الخنثى المشكل: هل يجب عليه الغسل؟ يحتمل وجهين.

وذكر فيه: أنه يستحب للرجل إذا أجنب وأراد النوم أن يتوضأ، فإن كان الجنب امرأة ففى استحباب الوضوء لها روايتان. قال: فإن أراد الجنب الأكل أو الشرب استحب له أن يغسل فرجه ويتوضأ، فى الروايتين.

وفى الأخرى: يغسل يده وفمه.

قال: ويستحب للإنسان إذا فرغ من وضوئه أن يشرب الماء الذى فضل منه وذكر حديث علىّ فى ذلك.

وذكر فى جواز دخول المرأة حمامها فى بيتها لغير عذر شرعى: يحتمل وجهين قال: فإن أجزناه فإنها تدخل وحدها، ولا تدخل معها امرأة قريبة ولا بعيدة.

وحكى فى كفارة وطء الحائض: هل يجزئ صرفها إلى واحد من الفقراء؟ على وجهين.

أحدهما: يجزئ، وهو اختيار أبى حفص البرمكى.

والثانى: لا يجزئ.

وعلى هذا: فبكم يتقدر؟ لا نص فيها عن أصحابنا، ويحتمل وجهين.

أحدهما: يجب صرفها إلى عشرة من المساكين؛ لأنه أقل عدد يجزئ فى كفارة اليمين.

ص: 249

والثانى: يجزئ ثلاثة؛ لأنه أقل الجمع المطلق. وقال فيه: فأما من به جرح يجرى دمه فلا يرقأ: فعليه أن يغسله عند كل فريضة ويشده. وفى إيجاب الوضوء روايتان.

وحكى رواية عن أحمد: أن أقل النفاس ثلاثة أيام؛ لقوله فى رواية أبى داود وقد قيل له: إذا طهرت بعد يوم؟ فقال: «بعد يوم لا يكون ولكن بعد أيام»

وذكر فيمن اجتهد وصلّى، ثم بان أنه صلّى قبل دخول الوقت رواية: أنه لا يلزمه القضاء.

قال: وقد تأولها أصحابنا. وقال: إذا كان عليه سجود وسهو بعد السلام أخر الدعاء إلى تشهده؛ ليكون خاتمة صلاته.

وحكى فيما إذا كان عليه سجود بعد السلام، فسجد قبله: هل تجزيه ويعتد به؟ على وجهين.

وقال فيه: فإن صلّى فاسق خلف فاسق: فهل تصح أم لا؟ على احتمالين.

‌130 - محمد بن عبد الله

بن العباس بن عبد الحميد بن الحرانى الأزجى المعدل، أبو عبد الله. من أعيان عدول بغداد.

توفى فى جمادى الأولى سنة ستين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الفيل.

روى عن أبى محمد الثقفى التميمى والنعالى. وحدث.

سمع منه جماعة، منهم: ابن القطيعى، وقال: كان ثقة مأمونا، عالما لطيفا صاحب نادرة، حسن المعاشرة. جمع كتابا سماه «روضة الأدباء» وهو آخر من مات من شهود أبى الحسن الدامغانى. وكان ينتحل مذهب الإمام أحمد. انتهى.

وله شعر حسن. قال ابن الجوزى: زرته يوما، فأطلت الجلوس عنده، فقلت:

قد ثقلت، فقال:

لئن سميت إبراما وثقلا

زيارات رفعت بهن قدرى

فما أبرمت إلا حبل ودى

ولا أثقلت إلا ظهر شكرى

ص: 250

‌131 - يحيى بن محمد

بن هبيرة بن سعد بن الحسن بن أحمد بن الحسن بن الجهم بن عمر بن هبيرة بن علوان بن الحوفزان. وهو الحرث بن شريك بن عمرو بن قيس بن شرحبيل بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكاية الشيبانى الدورى، ثم البغدادى، الوزير العالم العادل، صدر الوزراء، عون الدين، أبو المظفر.

ولد فى ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وأربعمائة بالدور: قرية من أعمال الدجيل، ودخل بغداد شابا.

وقرأ القرآن بالروايات على جماعة. وسمع الحديث الكثير من جماعة، منهم:

القاضى أبو الحسين بن الفراء، وأبو الحسين بن الزاغونى، وعبد الوهاب الأنماطى وأبو غالب بن البناء وأبو عثمان بن ملة، وابن الحصين، وغيرهم.

وقرأ الفقه على أبى بكر الدينورى فيما ذكره ابن القطيعى. وقيل: إنه قرأ على أبى الحسين بن الفراء، وقرأ الأدب على أبى منصور بن الجواليقى. وصحب أبا عبد الله محمد بن يحيى الزبيدى الواعظ الزاهد من حداثته، وكمل عليه فنونا من العلوم الأدبية وغيرها، وأخذ عنه التأله والعبادة، وانتفع بصحبته، حتى إن الزبيدى كان يركب جملا ويعتم بفوطة، ويلويها تحت حنكه، وعليه جبة صوف، وهو مخضوب بالحناء، فيطوف بأسواق بغداد ويعظ الناس، وزمام جمله بيد أبى المظفر بن هبيرة. وهو أيضا معتم بفوطة من قطن، قد لواها تحت حنكه، وعليه قميص قطن خام، قصير الكم والذيل، وكلما وصل الزبيدى موضعا أشار أبو المظفر بمسبحته، ونادى برفيع صوته: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حى لا يموت، بيده الخير وهو على كل شئ قدير.

ذكر ذلك أبو بكر التيمى بن المرستانية، فى الكتاب الذى جمعه فى مناقب الوزير وفضائله.

ص: 251

وقال ابن الجوزى: كانت له معرفة حسنة بالنحو، واللغة، والعروض، وصنف فى تلك العلوم، وكان متشددا فى اتباع السنة، وسير السلف.

قلت: صنف الوزير أبو المظفر كتاب «الإفصاح عن معانى الصحاح» فى عدة مجلدات، وهو شرح صحيحى البخارى ومسلم، ولما بلغ فيه إلى حديث «من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين» شرح الحديث، وتكلم على معنى الفقه، وآل به الكلام إلى أن ذكر مسائل الفقه المتفق عليها، والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين.

وقد أفرده الناس من الكتاب، وجعلوه مجلدة مفردة، وسموه بكتاب «الإفصاح» وهو قطعة منه، وهذا الكتاب صنفه فى ولايته الوزارة، واعتنى به وجمع عليه أئمة المذاهب، وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، بحيث إنه أنفق على ذلك مائة ألف دينار، وثلاثة عشر ألف دينار، وحدث به، واجتمع الخلق العظيم لسماعه عليه. وكتب به نسخة لخزانة المستنجد. وبعث ملوك الأطراف ووزراؤها وعلماؤها، واستنسخوا لهم به نسخا، ونقلوها إليهم، حتى السلطان نور الدين الشهيد. واشتغل به الفقهاء فى ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم، يدرسون منه فى المدارس والمساجد، ويعيده المعيدون، ويحفظ منه الفقهاء.

وصنف فى النحو كتابا سماه «المقتصد» ، وعرضه على أئمة الأدب فى عصره، وأشار إلى ابن الخشاب بالكلام عليه، فشرحه فى أربع مجلدات، وبالغ فى الثناء عليه.

واختصر كتاب «إصلاح المنطق» لابن السكيت، وكان ابن الخشاب يستحسنه ويعظمه.

وصنف كتاب «العبادات الخمس» على مذهب الإمام أحمد، وحدث به بحضرة العلماء من أئمة المذاهب.

وله أرجوزة فى المقصور والممدود، وأرجوزة فى علم الخط.

ص: 252

وقد صنف ابن الجوزى كتاب «المقتبس من الفوائد العونية» وذكر فيه الفوائد التى سمعها من الوزير عون الدين، وأشار فيه إلى مقاماته فى العلوم.

وانتقى من زبد كلامه فى الإفصاح على الحديث كتابا سماه «محض المحض» .

وكان ابن هبيرة رحمه الله فى أول أمره فقيرا، فاحتاج إلى أن دخل فى الخدم السلطانية، فولى أعمالا، ثم جعله المقتفى لأمر الله مشرفا فى المخزن، ثم نقل إلى كتابة ديوان الزمام.

ثم ظهر للمقتفى كفاءته وشهامته، وأمانته ونصحه، وقيامه فى مهام الملك.

فاستدعاه المقتفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة إلى داره، وقلده الوزارة، وخلع عليه وخرج فى أبهة عظيمة. ومشى أرباب الدولة وأصحاب المناصب كلهم بين يديه، وهو راكب إلى الإيوان فى الديوان. وحضر القراء والشعراء، وكان يوما مشهودا.

وقرئ عهده، وكان تقليدا عظيما، بولغ فيه بمدحه والثناء عليه إلى الغاية. وخوطب فيه بالوزير العالم العادل، عون الدين، جلال الإسلام، صفى الإمام، شرف الأنام، معز الدولة، مجير الملة، عماد الأمة، مصطفى الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، صدر الشرق والغرب، سيد الوزراء، ظهير أمير المؤمنين.

وكان الوزير قبل وزارته يلقب جلال الدين، وقال يوما: لا تقولوا فى ألقابى سيد الوزراء؛ فإن الله تعالى سمى هارون وزيرا، وجاء عن النبى صلى الله عليه وسلم أن وزيريه من أهل السماء: جبريل وميكائيل، ومن أهل الأرض: أبو بكر وعمر، وجاء عنه أنه قال:«إن الله اختارنى، واختار لى أصحابا، فجعلهم وزراء وأنصارا» ولا يصلح أن يقال عنى: أنى سيد هؤلاء السادة.

قال صاحب سيرته: ركب الوزير إلى داره مجاورة الديوان، وبين يديه جميع من حضر من أرباب الدولة، وأصحاب المناصب والأمراء والحجاب، والصدور والأعيان، وقد أخذ قوس الخلافة باريها، واستقرت الوزارة فى كفؤها وكافيها. فقام فيها قيام من عدّله الزمان بثقافه، وزينه الكمال بأوصافه، ودبرها

ص: 253

بجوده ونهاه، وأورد الأمل فيها مناه، ومد الدين رواقه، وأمن بدره به محاقه.

فأقام سوق الخلافة على ساقها، وابتدع فى انتظام ممالكها واتساقها، وأوضح رسمها، وأثبت فى حين أوانه وسمها، وتتبع ما أفسدته العين منها بالإصلاح، واستدرك لها ما أخرجته لها يد الاجتياح، وداوى كل حال بدوائه، ورد غائر الماء إلى لجائه، وأقام الصلاة جماعة، وافترض العدل سمعا لله وطاعة، ورعى لأهل الفضل والمعارف، وأواهم من بره إلى ظل وارف، حتى صارت دولته مشرعا للكرم، ومستراحا لآمال الأمم، يرتضع فيه للمكارم أخلاف، وتداريها الأمانى سلاف، ونفقت فيها أقدار الأعلام، وتدفقت فيها نذر الكلام، ولاحت بها من العلماء شموس، وارتاحت فيها للطلبة بالعلوم نفوس، ولم تخل أيامه ومجالسه من مناظرة، ولا عمرت إلا بمذاكرة ومحاضرة، إلا أوقات عطلها من ذلك النظام، وأوقعها إما على صلاة وصيام، أو على تصنيف، وجمع وتأليف؛ بحيث صنف عدة كتب، منها: كتاب «الإفصاح عن شرح معانى الصحاح» وهذا الكتاب بمفرده يشتمل على تسعة عشر كتابا.

ولما ولى الوزير أبو المظفر رحمه الله الوزارة بالغ فى تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدثين والصالحين، واجتهد فى إكرامهم وإيصال النفع إليهم، وارتفع أهل السنة به غاية الارتفاع. ولقد قال مرة فى وزارته: والله لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه منها العلم وأهله.

وكان سبب هذا: أنه ذكر مرة فى مجلسه مفردة للإمام أحمد تفرد بها عن الثلاثة، فادعى أبو محمد الأشترى المالكى: أنها رواية عن مالك، ولم يوافقه على ذلك أحد، وأحضر الوزير كتب مفردات أحمد، وهى منها، والمالكى مقيم على دعواه. فقال له الوزير: بهيمة أنت؟ أما تسمع هؤلاء الأئمة يشهدون بانفراد أحمد بها، والكتب المصنفة، وأنت تنازع وتفرق المجلس؟ فلما كان المجلس الثانى، واجتمع الخلق للسماع أخذ ابن شافع فى القراءة، فمنعه وقال: قد كان

ص: 254

الفقيه أبو محمد جرئ فى مسألة أمس على ما لا يليق به عن العدول عن الأدب والانحراف عن نهج النظر، حتى قلت تلك الكلمة، وها أنا فليقل لى كما قلت له فلست بخير منكم، ولا أنا إلا كأحدكم، فضج المجلس بالبكاء، وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وأخذ الأشترى يعتذر، ويقول: أنا المذنب والأولى بالاعتذار من مولانا الوزير، ويقول: القصاص، القصاص، فقال يوسف الدمشقى مدرس النظامية: يا مولانا، إذا أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير: له حكمه، فقال الأشترى: نعمك علىّ كثيرة، فأى حكم بقى لى؟ فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتيات عليك، فقال: على بقية دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته وذمتى، فأحضر له مائة، فقال له الوزير: عفا الله عنك وعنى، وغفر لك ولى.

وذكر ابن الجوزى أنه قال: يعطى له مائة دينار لإبراء ذمته، ومائة دينار لإبراء ذمتى. وكان هذا الأشترى من علماء المالكية، طلبه الوزير من نور الدين محمود بن زنكى، فأرسل به إليه، فأكرمه غاية الإكرام.

قال ابن الجوزى: وكان ابن الوزير إذا استفاد شيئا قال: أفادنيه فلان حتى، إنه عرض له يوما حديث، وهو «من فاته حزب من الليل فصلاة قبل الزوال كان كأنه صلّى بالليل» فقال: ما أدرى معنى هذا؟ فقلت له: هذا ظاهر فى اللغة والفقه.

أما اللغة: فإن العرب تقول: كيف كنت الليلة، إلى وقت الزوال.

وأما الفقه: فإن أبا حنيفة يصحح الصوم بنية قبل الزوال، فقد جعل ذلك الوقت فى حكم الليل. فأعجبه هذا القول. وكان يقول بين الجمع الكثير: ما كنت أدرى معنى هذا الحديث حتى عرفنيه ابن الجوزى، فكنت أستحى من الجماعة.

قال: وجعل لى مجلسا فى داره، كل جمعة يطلقه ويطلق العوام فى الحضور وكان بعض الفقراء يقرأ القرآن فى داره كثيرا، فأعجبه، فقال لزوجته: أريد أن

ص: 255

أزوجه ابنتى، فغضبت الأم من ذلك. وكان يقرأ عنده الحديث كل يوم بعد العصر

وكان يكثر مجالسة العلماء والفقراء. وكانت أمواله مبذولة لهم، ولتدبير الدولة فكانت السنة تدور عليه وعليه ديون، وقال: ما وجبت على زكاة قط.

قلت: وفى ذلك يقول بعض الشعراء:

يقولون: يحيى لا زكاة لماله

وكيف يزكى المال من هو باذله؟

إذا دار حول لا يرى فى بيوته

من المال إلا ذكره وفضائله

وقال ابن الجوزى: وكان يتحدث بنعم الله تعالى عليه. ويذكر فى منصبه شدة فقره القديم، فيقول: نزلت يوما إلى دجلة، وليس معى رغيف أعبر به الحمام.

ثم ذكر طرفا من حلمه وصفحه وعفوه، فقال: لما جلس فى الديوان أول وزارته أحضر رجلا من غلمان الديوان، فقال: دخلت يوما إلى هذا الديوان، فقعدت فى مكان، فجاء هذا، فقال: قم فليس هذا موضعك، فأقامنى. فأكرمه وأعطاه.

ودخل عليه يوما تركى، فقال لحاجبه: أما قلت لك: اعط هذا عشرين دينارا، وكذا من الطعام، وقل له: لا يحضر ههنا؟ فقال: قد أعطيناه. قال: عد واعطه، وقل له: لا يحضر. ثم التفت إلى الجماعة، وقال: لا شك أنكم ترتابون بسبب هذا؟ فقالوا: نعم، فقال: هذا كان شحنة فى القرى، فقتل قتيل قريبا من قريتنا، فأخذ مشايخ القرى وأخذنى مع الجماعة، وأمشانى مع الفرس، وبالغ فى أذاى وأوثقنى، ثم أخذ من كل واحد شيئا وأطلقه، ثم قال لى: أى شئ معك؟ قلت: ما معى شيئا، فانتهرنى، وقال: اذهب. فأنا لا أريد اليوم أذاه، وأبغض رؤيته.

وقد ساق مصنف سيرة الوزير هذه الحكاية بأتم من هذا السياق.

وذكر: أن الوزير قال: ما نقمت عليه إلا أنى سألته فى الطريق أن يمهلنى حسبما أصلى الفرض فما أجابنى، وضربنى على رأسى وهو مكشوف عدة مقارع

ص: 256

فكنت أنقم عليه حين رأيته لأجل الصلاة، لا لكونه قبض عليّ؛ فإنه كان مأمورا.

وذكر: أنه استخدمه فى أصلح معايش الأمراء، واستحله من صياحه عليه وقوله: اخرجوه عنى.

قال ابن الجوزى: وكان بعض الأعاجم قد شاركه فى زراعة. فآل الأمر إلى أن ضرب الأعجمى الوزير وبالغ، فلما ولى الوزارة أتى به فأكرمه ووهب له وولاه

أنبئت عن أحمد بن عبد الدائم المقدسى قال: حكى لنا ابن الجوزى قال:

كنا نجلس إلى الوزير ابن هبيرة، فيملى علينا كتابه «الإفصاح» فبينا نحن كذلك إذ قدم رجل ومعه رجل ادعى عليه أنه قتل أخاه، فقال له عون الدين: أقتلته؟ قال: نعم. جرى بينى وبينه كلام فقتلته: فقال الخصم: سلمه إلينا حتى نقتله فقد أقر بالقتل، فقال عون الدين: أطلقوه ولا تقتلوه، قالوا: كيف ذلك، وقد قتل أخانا؟ قال: فتبيعونيه، فاشتراه منهم بستمائة دينار، وسلم الذهب إليهم وذهبوا، قال للقاتل: اقعد عندنا لا تبرح. قال: فجلس عندهم، وأعطاه الوزير خمسين دينارا. قال: فقلنا للوزير: لقد أحسنت إلى هذا وعملت معه أمرا عظيما، وبالغت فى الإحسان إليه، فقال الوزير: منكم أحد يعلم أن عينى اليمنى لا أبصر بها شيئا؟ فقلنا: معاذ الله، فقال: بلى والله. أتدرون ما سبب ذلك؟ قلنا: لا.

قال: هذا الذى خلصته من القتل جاء إلىّ وأنا فى الدور ومعى كتاب من الفقه أقرأ فيه، ومعه سلة فاكهة، فقال: احمل هذه السلة، قلت له: ما هذا شغلى فاطلب غيرى، فشاكلنى، ولكمنى فقلع عينى، ومضى ولم أره بعد ذلك إلى يومى هذا. فذكرت ما صنع بى، فأردت أن أقابل إساءته إلىّ بالإحسان مع القدرة.

قال ابن الجوزى: كان الوزير يجتهد فى اتباع الحق، ويحذر من الظلم، ولا يلبس الحرير. وكان مبالغا فى تحصيل التعظيم للدولة العباسية، قامعا للمخالفين بأنواع الحيل، حسم أمور السلاطين السلجوقية.

ص: 257

وذكر صاحب سيرته: أنه سمعه يذكر: أنه لما استطال السلطان مسعود وأصحابه وأفسدوا، عزم هو والخليفة على قتاله. قال: ثم إنّي فكرت فى ذلك، ورأيت أنه ليس بصواب مجاهرته؛ لقوة شوكته. فدخلت على المقتفى، فقلت:

إنّي رأيت أن لا وجه فى هذا الأمر إلا الالتجاء إلى الله تعالى، وصدق الاعتماد عليه، فبادر إلى تصديقى فى ذلك، وقال: ليس إلا هذا. ثم كتبت إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا على رعل وذكوان شهرا، وينبغى أن ندعو نحن شهرا. فأجابنى بالأمر بذلك.

قال الوزير: ثم لازمت الدعاء فى كل ليلة وقت السحر أجلس فأدعو الله سبحانه، فمات مسعود لتمام الشهر، لم يزد يوما ولم ينقص يوما، وأجاب الله الدعاء وأزال يد مسعود وأتباعه عن العراق، وأورثنا أرضهم وديارهم. وهذه القصة تذكر فى كرامات الخليفة والوزير. رحمهما الله تعالى.

وكاتب الوزير ابن هبيرة السلطان نور الدين محمود بن زنكى يستحثه على انتزاع مصر من يد العبيديين. فسير إليها أسد الدين شير كوه مرتين، وفى الثالثة خطب بها للمستنجد، وجاء الخبر بذلك إلى بغداد سنة تسع وخمسين، وعمل أبو الفضائل بن تركان حاجب الوزير ابن هبيرة قصيدة يهنئ بها الوزير بفتح مصر، ويذكر أن ذلك كان بسبب سعيه وبركة رأيه، وتكامل انتزاع مصر من بنى عبيد، وإقامة الخطبة لبنى العباس بها بعد سبع سنين فى خلافة المستضئ فعظمت حرمة الدولة العباسية فى وقته، وانتشرت إقامة الدعوة لها فى البلاد.

قال ابن الجوزى: وكان المقتفى معجبا به، يقول: ما وزر لبنى العباس مثله.

قال ابن الجوزى: حدثنى الوزير قال: لما رجعت من الحلة - وكان قد خرج لدفع بعض البغاة - دخلت على المقتفى، فقال لى: ادخل هذا البيت فغير ثيابك، فدخلت فإذا خادم وفراش ومعهم خلعة حرير، فقلت: أنا والله ما ألبس هذه. فخرج الخادم فأخبر المقتفى، فسمعت صوت المقتفى وهو يقول: قد والله قلت: إنه ما يلبس.

ص: 258

وذكر صاحب سيرته هذه الحكاية مبسوطة. قال: فعاد الخادم وعلى يده دست من ثياب الخليفة فأفاضه علىّ، وقال: قد أخبرت أمير المؤمنين بامتناعك، فقال: والله لقد حسبت هذا، وأنه لا يفعل. قال: فقلت حينئذ لنفسى: يا يحيى كيف رأيت طاعة الله تعالى؟ لو كنت قد لبستها كيف كنت تكون فى نفس أمير المؤمنين؟ وكيف كانت تكون منزلتك عنده؟.

قال صاحب سيرته: وكان لا يلبس ثوبا يزيد فيه الإبريسم على القطن، فإن شك فى ذلك سلّ من طاقاته ونظر: هل القطن أكثر أم الإبريسم؟ فإن استويا لم يلبسه.

قال: ولقد ذكر يوما فى بعض مجالسه، فقال: له بعض الفقهاء الحنابلة:

يا مولانا، إذا استويا جاز لبسه فى أحد الوجهين عن أصحابنا، فقال: إنّي لا آخذ إلا بالأحوط.

قال: وذكر يوما بين يديه: أنه كان للصاحب ابن عباد دست من ديباج فقال الوزير: قبح والله بالصاحب أن يكون له دست من ديباج؛ فإنه وإن كان زينة فهو معصية وهجنة.

قال ابن الجوزى: ونقله عنه ابن القطيعى سمعت ابن هبيرة الوزير يقول: جاءنى مكتوب مختوم من المستنجد فى حياة أبيه المقتفى، فقلت للرسول: ارجع إليه وقل له: إن كان فيه ما تكره أن يعلم به أمير المؤمنين فلا حاجة لك فى فتحه؛ فإنى أعرّفه ما فيه، وإن لم تكن تكره اطلاعه عليه فافتحه، ثم أعطه الرسول، فمضى ولم يعد، وحصل فى نفسه من ذلك شئ. فلما توفى المقتفى وولى المستنجد أمر بحضوره للمبايعة.

قال ابن الجوزى: فقال لى الوزير حين جاءه الرسول: إن وصلت إلى أمير المؤمنين نلت ما أريد، وإن قتلت قبل وصولى إليه فما لي حيلة. فما كان إلا ساعة دخوله عليه حتى عاد فرحا، فقلت له: ما الخبر؟ قال: وصلت إليه وبايعته، ثم

ص: 259

قلت: يكفى العبد فى صدقه ونصحه أنه حابى مولانا فى أبيه نصحا لأمير المؤمنين وأشرت إلى رد مكتوبه، فقال: صدقت، أنت الوزير، فقلت: إلى متى؟ فقال: إلى الموت، فقلت: أحتاج والله إلى اليد الشريفة، فأحلفته على ما ضمن لى.

قال صاحب سيرته: وأخبرنى الخادم مرجان بن عبد الله - أحد خواص خدم الخليفة - قال: سمعت الإمام المستنجد بالله أمير المؤمنين ينشد وزيره عون الدين أبا المظفر بن هبيرة، وقد مثل الوزير بين يدى سدته فى أثناء مفاوضة جرت بينهما فى كلام يرجع إلى تقرير قواعد الدين، والنظر فى مصالح الإسلام والمسلمين، فأعجب الخليفة به، فأنشده الخليفة - يمدحه - أربعة أبيات: الأخيرين منهما لنفسه، والأولين لابن حيوس، وهى:

صفت نعمتان خصّتاك وعمّتا

فذكرهما حتى القيامة يذكر

وجودك والدنيا إليك فقيرة

وجودك والمعروف فى الناس ينكر

فلو رام يا يحيى مكانك جعفر

ويحيى لكفى عنه يحيى وجعفر

ولم أرمن ينوى لك السوء يا أبا

المظفر إلا كنت أنت المظفر

وقال ابن الذهبى

(1)

فى تاريخه: كان عالما فاضلا، عابدا عاملا، ذا رأى صائب وسريرة صالحة، وظهرت منه كفاية تامة، وقيام بأعباء الملك، حتى شكره الخاص والعام. وكان مكرما لأهل العلم، ويقرأ عنده الحديث عليه، وعلى الشيوخ بحضوره، ويجرى من البحث والفوائد ما يكثر ذكره. وكان مقربا لأهل العلم والدين، كريما طيب الخلق.

قال ابن القطيعى: كان ابن هبيرة عفيفا فى ولايته، محمودا فى وزارته، كثير البر والمعروف، وقراءة القرآن، والصلاة والصيام، يحب أهل العلم، ويكثر مجالستهم ومذاكرتهم، جميل المذهب، شديد التظاهر بالسنة.

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «ابن الدبيثى»

ص: 260

قال: ومن كثرة ميله إلى العمل بالسنة، اجتاز فى سوق بغداد - وهو الوزير - فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير.

قال صاحب سيرته: ولقد بلغ به من شدة الورع بحيث أحضر له كتاب من وقف المدرسة النظامية، ليقرأ عنده. فقال: قد بلغنى أن الواقف شرط فى كتاب الوقف: أن لا يخرج شئ من كتب الوقف عن المدرسة، وأمر برده. فقيل له:

إن هذا شئ ما تحققناه. فقال: أليس قد قيل؟ ولم يمكّنهم من قراءته، وحثهم على إعادته.

قال: وحدثنى الفقيه أبو حامد أحمد بن محمد بن عيسى الحنبلى قال: حدثنى الوزير عون الدين قال: كان بينى وبين بعض مشايخ القرى معاملة مضيت من أجلها من الدور إلى قريته فلم أجده، فقعدت لانتظارهم حتى هجم الليل، فصعدت إلى سطحه للنوم، فسمعت قوما يسفهون بالهجر من الكلام، فسألت عنهم؟ فأخبرت أنهم يعصرون بالنهار الخمر، ويسفهون فى الليل. فقلت: والله لابت بها فقيل: ولم؟ فقلت: أخاف أن ينزل بهم عذاب وسخط فأكون معهم، فإن لم يكن خسفا حقيقيا كان خسفا معنويا، مما يدخل على القلب من القساوة والفتور عن ذكر الله تعالى بسماع هذا الكلام، ومضيت ذلك الوقت إلى الدور.

قال الوزير: فلما عدت أنا والمقتفى لأمر الله من حصار قلعة تكريت مررنا بتلك القرية، فسألنى المقتفى عنها؟ فقلت: هذه الناحية للوكلاء أجلهم الله تعالى.

فقال: لئن تكون لك، إذ هى فى جوارك أصلح من أن تكون لنا، فتقدم إلى عمالك بالتصرف فيها. فذكرت له حينئذ حالتى بها، وقلت له: فمن بركة ذلك الفعل رزقت القرب منك يا أمير المؤمنين، وتملك الناحية من غير طلب منى لها، فاستظرف ذلك منى، وكثر تعجبه منه.

قال: وكان الوزير شديد التواضع، رافضا للكبر، شديد الإيثار لمجالسة أرباب

ص: 261

الدين والفقراء، بحيث سمعته فى بعض الأيام يقول لبعض الفقراء وهو يخاطبه:

أنت أخى، والمسلمون كلهم إخوة.

قال: ولقد كنا يوما بالمجلس على العادة لسماع الحديث، إذ دخل حاجبه أبو الفضائل بن تركان. فسار الوزير بشئ لم يسمعه أحد. فقال له الوزير: أدخل الرجل، فأبطأ عليه. فقال الوزير: أين الرجل؟ فأبطأ. فقال: أين الرجل؟ فقال الحاجب: إن معه شملة صوف مكورة. وقد قلت له: اتركها مع أحد الغلمان خارجا عن الستر وادخل. قال: لا أدخل إلا وهى معى. فقال له الوزير: دعه يدخل وهى معه، فخرج وعاد. وإذا معه شيخ طوال من أهل السواد، وعليه فوطة قطن، وثوب خام، وفى رجليه جمجان، فسلم، وقال للوزير: يا سيدى، إن أم فلان - يعنى: أم ولده - لما علمت أنى متوجه إليه. قالت لى: بالله سلم على الشيخ يحيى عنى، وادفع إليه هذه الشملة؛ فقد خبزتها على اسمه، فتبسم الوزير إليه وأقبل عليه، وقال: الهدية لمن حضر، وأمر بحلها، فحلت الشملة بين يديه وإذا فيها خبز شعير مشطور بكامخ اكشوت. فأخذ الوزير منه رغيفين، وقال:

هذا نصيبى، وفرق الباقى على من حضر من صدور الدولة، والسادة الأجلة، وسأله عن حوائجه جميعها؟ وتقدم بقضائها على المكان، ثم التفت إلى الجماعة وقال: هذا شيخ قد تقدمت صحبتى له قديما، واختبرته فى زرع بيننا فوجدته أمينا، ولم يظهر منه تأفف بمقال الشيخ، ولا تكبر عليه، ولا أعرض عنه، بل أحسن لقاءه، وقضى حوائجه، وأجزل عطاءه.

ثم حكى: أنه كان بينه وبين هذا الشيخ زرع، وأنهم خشوا عليه من جيش عظيم نزل عندهم، فقرءوا على جوانبه القرآن، فسلم ولم يرع منه سنبلة واحدة.

قال: ودخل عليه يوما نقيب نقباء الطالبين الطاهر بن أحمد بن علي الحسينى فسلم عليه وخدمه، وسأله رفع رقعة له إلى الخليفة المستنجد، وأن يتكلم له عند عرضها ولا يهملها، فتبسم وقال: والله ما أهملت لأحد رقعة قط، ولا حاجة

ص: 262

حضرنى ذكرها، وذكر حكاية عن الوزير ابن العميد: أنه وعد رجلا النظر فى ظلامته ومطله وسوّفه وقال، سننظر فيها: فقال له بعض أصحابه، هذا كلام من لا يعرف دبيب الساعات فى انخرام السدول، فانتبه لها ابن العميد، والآن يتولى رفع ظلامات المتظلمين.

قال: ودخل عليه يوما أبو الفرج عبد الخالق بن يوسف المحدث، وقال فى كلامه: المملوك شيخ من حملة القرآن وأهل العلم ورواة الحديث، وله وعليه حقوق فى المال، فانظر له وعليه، مقاطعة شئ من الجانب الغربى، فليس بيده شئ.

فتقدم له الوزير بخمسين دينارا قبضها فى مجلسه، ثم قال له: هذا بعض مالك على بيت المال، فأدّ بعض ما عليك لبيت المال.

قال: وكنا يوما عنده والمجلس غاص بولاة الدين والدنيا، والأعيان الأمائل وابن شافع يقرأ عليه الحديث، إذ فجأنا من باب الستر وراء ظهر الوزير صراخ بشع وصياح يرتفع، فاضطرب له المجلس، وارتاع الحاضرون، والوزير ساكن ساكت، حتى أنهى ابن شافع قراءة الإسناد ومتنه. ثم أشار الوزير إلى الجماعة على رسلكم، ثم قام ودخل إلى الستر ولم يلبث أن خرج، فجلس وتقدم بالقراءة، فدعا له ابن شافع والحاضرون، وقالوا: قد أزعجنا ذلك الصياح، فإن رأى مولانا أن يعرفنا سببه، فقال الوزير: حتى ينتهى المجلس. وعاد ابن شافع إلى القراءة حتى غابت الشمس وقلوب الجماعة متعلقة بمعرفة الحال، فعاودوه، فقال:

كان لى ابن صغير مات حين سمعتم الصياح، ولولا تعين الأمر علي بالأمر بالمعروف فى الإنكار عليهم ذلك الصياح لما قمت عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب الحاضرون من صبره.

قال: وحضر يوما فى دار الخلافة بالمرخم من التاج، فجلس به وحضر أرباب الدولة بأسرهم للصلاة على جنازة الأمير إسماعيل بن المستظهر، فسقط من السقف أفعى عظيمة المقدار على كتف الوزير، فما بقى أحد من أرباب الدولة وحواشى

ص: 263

الخدمة إلا خرج أوقام عن موضعه، إلا الوزير فإنه التفت إلى الأفعى وهى تسرح على كمه حتى وقعت على الأرض، وبادرها المماليك فقتلوها، ولم يتحرك الوزير عن بقعته، ولا تغير فى هيئته ولا عبارته.

وللوزير رحمه الله تعالى من الكلام الحسن، والفوائد المستحسنة، والاستنباطات الدقيقة من كلام الله ورسوله ما هو كثير جدا.

وله من الحكم والمواعظ والكلام فى أصول السنة وذم من خالفها شئ كثير أيضا. ونذكر هنا بعض ذلك إن شاء الله تعالى.

قال ابن الجوزى فى المقتبس: سمعت الوزير يقول: الآيات اللواتى فى الأنعام (151:6 قل: {تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)} محكمات، وقد اتفقت عليها الشرائع، وإنما قال فى الآية الأولى:{(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) *} وفى الثانية: {(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) *} وفى الثالثة: {(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)؛ *} لأن كل آية يليق بها ذلك، فإنه قال فى الأولى:{(أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)} والعقل يشهد أن الخالق لا شريك له، ويدعو العقل إلى بر الوالدين، ونهى عن قتل الولد، وإتيان الفواحش؛ لأن الإنسان يغار من الفاحشة على ابنته وأخته، فكذلك هو، ينبغى أن يجتنبها، وكذلك قتل النفس، فلما لاقت هذه الأمور بالعقل، قال:{(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) *} ولما قال فى الآية الثانية: {(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) *} والمعنى: اذكر لو هلكت فصار ولدك يتيما، واذكر عند ورثتك، لو كنت الموروث له، واذكر كيف تحب العدل لك فى القول؟ فاعدل فى حق غيرك، وكما لا تؤثر أن يخان عهدك فلا تخن، فلاق بهذه الأشياء التذكر، فقال {(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) *} وقال فى الثالثة:

{(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ)،} فلاق بذلك اتقاء الزلل، فلذلك قال:

{(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)} .

قال: وسمعته يقول فى قوله تعالى: (80:38 {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)} قال:

ص: 264

ليس هذا بإجابة سؤاله، وإنما سأل الإنظار، فقيل له: كذا قدر، لا أنه جواب سؤالك، لكنه مما فهم.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (51:9 {قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا)} قال: إنما لم يقل: ما كتب علينا؛ لأنه أمر يتعلق بالمؤمن، ولا يصيب المؤمن شئ إلا وهو له، إن كان خيرا فهو له فى العاجل، وإن كان شرا فهو ثواب له فى الآجل.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (45:17 {حِجاباً مَسْتُوراً)} قال أهل التفسير:

يقولون: ساترا، والصواب: حمله على ظاهره، وأن يكون الحجاب مستورا عن العيون فلا يرى، وذلك أبلغ.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (39:18 {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ:}

{ما شاءَ اللهُ)} قال: ما قال: ما شاء الله كان ولا يكون، بل أطلق اللفظ؛ ليعم الماضى والمستقبل والراهن.

قال: وتدبرت قوله تعالى: {(لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ)} فرأيت لها ثلاثة أوجه.

أحدها: أن قائلها يتبرأ من حوله وقوته، ويسلم الأمر إلى مالكه.

والثانى: أنه يعلم أن لا قوة للمخلوقين إلا بالله، فلا يخاف منهم؛ إذ قواهم لا تكون إلا بالله، وذلك يوجب الخوف من الله وحده.

والثالث: أنه رد على الفلاسفة والطبائعيين الذين يدعون القوى فى الأشياء بطبيعتها، فإن هذه الكلمة بينت أن القوىّ لا يكون إلاّ بالله.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (97:18 {فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً)} قال: «التاء» من حروف الشدة، تقول فى الشئ القريب الأمر: ما استطعته، وفى الشديد: ما استطعته، فالمعنى: ما أطاقوا ظهوره لضعفهم، وما قدروا على نقبه لقوته وشدته.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (15:20 {إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها)}

ص: 265

قال: المعنى إنّي قد أظهرتها حين أعلمت بكونها، لكن قاربت أن أخفيها بتكذيب المشرك بها، وغفلة المؤمن عنها، فالمشرك لا يصدق كونها، والمؤمن يهمل الاستعداد لها.

قال: وقرأت عليه ما جمعه من خواطره، قال: قرأ عندى قارئ، قال:

(4:20 {هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي)} فأفكرت فى معنى اشتقاقها، فنظرت فإذا وضعها للتنبيه، والله لا يجوز أن يخاطب بهذا، ولم أر أحدا خاطب الله عز وجل بحرف التنبيه إلا الكفار، كما قال الله عز وجل (86:16 {قالُوا: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ)،} (38:7 {رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا)} وما رأيت أحدا من الأنبياء خاطب ربه بحرف التنبيه، والله أعلم.

فأما قوله: (88:43 {وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)} فإنه قد تقدم الخطاب بقوله: يا رب، فبقيت «ها» للتمكين، ولما خاطب الله عز وجل المنافقين، قال:(109:4 {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)} وكرم المؤمنين بإسقاط «ها» ، فقال:(119:3 {ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ)} وكان التنبيه للمؤمنين أخف.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (110:21 {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ)} المعنى:

أنه إذا اشتدت الأصوات وتغالبت فإنها حالة لا يسمع فيها الإنسان. والله عز وجل يسمع كلام كل شخص بعينه، ولا يشغله سمع عن سمع.

قال: وقوله: (112:21 {قالَ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)} قال: المراد منه: كن أنت أيها القائل على الحق؛ ليمكنك أن تقول: احكم بالحق، لأن المبطل لا يمكنه أن يقول: احكم بالحق.

وقال فى قوله تعالى: (53:24 {قُلْ: لا تُقْسِمُوا، طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)} قال:

وقع لى فيها ثلاثة أوجه:

أحدها: أن المعنى: لا تقسموا واخرجوا من غير قسم، فيكون المحرك لكم

ص: 266

إلى الخروج الأمر لا القسم؛ فإن من خرج لأجل قسمه ليس كمن خرج لأمر ربه

والثانى: أن المعنى نحن نعلم ما فى قلوبكم، وهل أنتم على عزم الموافقة للرسول فى الخروج؟ فالقسم ههنا إعلام منكم لنا بما فى قلوبكم. وهذا يدل منكم على أنكم ما علمتم أن الله يطلع على ما فى القلوب.

والثالث: أنكم ما أقسمتم إلا وأنتم تظنون أنا نتهمكم، ولولا أنكم فى محل تهمة ما ظننتم ذلك فيكم. وبهذا المعنى وقع المتنبى، فقال:

وفى يمينك ما أنت واعده

ما دل أنك فى الميعاد متهم

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (5:25 {أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ)} قال: العجب لجهلهم حين أرادوا أن يلقى إليه كنز أو تكون له جنة. ولو فهموا علموا أن كل الكنوز له وجميع الدنيا ملكه. أو ليس قد قهر أرباب الكنوز، وحكم فى جميع الملوك؟ وكان من تمام معجزته أن الأموال لم تفتح عليه فى زمنه؛ لئلا يقول قائل قد جرت العادة بأن إقامة الدول، وقهر الأعداء بكثرة الأموال، فتمت المعجزة بالغلبة والقهر من غير مال، ولا كثرة أعوان، ثم فتحت الدنيا على أصحابه، ففرقوا ما جمعه الملوك بالشره، فأخرجوه فيما خلق له، ولم يمسكوه إمساك الكافرين، ليعلموا الناس بإخراج ذلك المال: أن لنا دارا سوى هذه، ومقرا غير هذا.

وكان من تمام المعجزات للنبى صلى الله عليه وسلم: أنه لما جاءهم بالهدى فلم يقبل، سلّ السيف على الجاحد، ليعلمه أن الذى ابتعثنى قاهر بالسيف بعد القهر بالحجج.

ومما يقوى صدقه أن قيصر وكبار الملوك لم يوفقوا للايمان به؛ لئلا يقول قائل: إنما ظهر لأن فلانا الملك تعصب له فتقوى به، فبان أن أمره من السماء لا بنصرة أهل الأرض.

وقال فى قوله تعالى: (19:25 {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ)} قال: المعنى:

ص: 267

فقد كذبكم أصنامكم بقولكم؛ لأنكم ادعيتم أنها الآلهة وقد أقررتم أنها لا تنفع فإقراركم يكذب دعواكم.

وقال فى قوله تعالى: (20:25 {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ)} قال: فهو يدل على فضل هداية الخلق بالعلم، ويبين شرف العالم على الزاهد المنقطع؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم كالطبيب، والطبيب يكون عند المرضى، فلو انقطع عنهم هلكوا.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (19:27 {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ)} قال: هذا من تمام برّ الوالدين. كأن هذا الولد خاف أن يكون والداه قصرا فى شكر الرب عز وجل، فسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم به عليه وعليهما؛ ليقوم بما وجب عليهما من الشكر إن كانا قصرا.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (80:28 {وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ)} قال: إيثار ثواب الآجل على العاجل حالة العلماء، فمن كان هكذا فهو عالم. ومن آثر العاجل على الآجل فليس بعالم.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (71:28 {مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟)} وفى الآية التى تليها (72:28 {أَفَلا تُبْصِرُونَ)} قال: إنما ذكر السماع عند ذكر الليل والإبصار عند ذكر النهار؛ لأن الإنسان يدرك سمعه فى الليل أكثر من إدراكه بالنهار، ويرى بالنهار أكثر مما يرى بالليل.

قال المبرد: سلطان السمع فى الليل، وسلطان البصر فى النهار.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (3:35 {اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ؟)} قال: فطلبت الفكر فى المناسبة بين ذكر النعمة وبين قوله تعالى:

{(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ؟)} فرأيت أن كل نعمة ينالها العبد فالله خالقها، فقد أنعم بخلقه لتلك النعمة، وبسوقها إلى المنعم عليه.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (46:35 {إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ: أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ}

ص: 268

{مَثْنى وَفُرادى)} قال: المعنى: أن يكون قيامكم خالصا لله عز وجل، لا لغلبة خصومكم، فحينئذ تفوزون بالهدى.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (20:36 {وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى)} وفى الآية الأخرى (20:28 {وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى)} فرأيت الفائدة فى تقديم ذكر الرجل وتأخيره: أن ذكر الأوصاف قبل ذكر الموصوف أبلغ فى المدح من تقديم ذكره على وصفه؛ فإن الناس يقولون: الرئيس الأجل فلان، فنظرت فإذا الذى زيد فى مدحه، وهو صاحب يسن أمر بالمعروف، وأعان الرسل، وصبر على القتل، والآخر إنما حذر موسى من القتل، فسلم موسى بقبوله مشورته. فالأول هو الآمر بالمعروف، والناهى عن المنكر، والثانى هو ناصح الآمر بالمعروف. فاستحق الأول الزيادة. ثم تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بعد فى الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (26:36، 27 {يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي)} قال: المعنى: يا ليتهم يعلمون بأى شئ وقع غفرانه. والمعني: أنه غفر لى بشئ يسير فعلته، لا بأمر عظيم.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (34:44 - 36 {إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلاّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟)} قال: ربما توهم جاهل أنهم لم يجابوا عما سألوا، وليس كذلك؛ فإن الذى سألوا لا يصلح أن يكون دليلا على البعث؛ لأنهم لو أجيبوا إلى ما سألوا لم يكن ذلك حجة على من تقدم، ولا على من تأخر، ولم يزد على أن يكون لمن تقدم وعدا، ولمن تأخر خبرا، اللهم إلا أن يجئ لكل واحد أبوه، فتصير هذه الدار دار البعث. ثم لو جاز وقوع مثل هذه كان إحياء ملك يضرب به الأمثال أولى، كتبع، لا أنتم يا أهل مكة، فإنكم لا تعرفون فى بقاع الأرض.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (7:40 {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)}

ص: 269

قال: علمت الملائكة أن الله عز وجل يحب عباده المؤمنين، فتقربوا إليه بالشفاعة فيهم. وأحسن القرب أن يسأل المحب إكرام حبيبه، فإنك لو سألت شخصا أن يزيد فى إكرام ولده لارتفعت عنده، حيث تحثه على إكرام محبوبه.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (65:56 {لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً)،} (70:56 {لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً)} قال: تأملت دخول اللام وخروجها، فرأيت المعنى: أن اللام تقع للاستقبال، تقول: لأضربنك، أى فيما بعد، لا في الحال. والمعنى (56: 63 - 65 {أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ؟ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ؟ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً)} أى: فى مستقبل الزمان إذا تم فاستحصد، وذلك أشد العذاب، لأنها حالة انتهاء تعب الزراع، واجتماع الدين عليه، لرجاء القضاء بعد الحصاد، مع فراغ البيوت من الأقوات.

وأما فى الماء: فقال: {(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً)} أى: الآن؛ لأنا لو أخرنا ذلك لشرب العطشان، وادخر منه الإنسان.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (5:60 {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)} قال:

المعنى: لا تبتلينا بأمر يوجب افتتان الكفار بنا، فإنه إذا خذل المتقى ونصر العاصى فتن الكافر، وقال: لو كان مذهب هذا صحيحا ما غلب.

قال: وسمعته يقول فى قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان سلسلت الشياطين» قال: إن الشياطين للعاصى فى غير رمضان كالعكاز يقول: سوّل لى، وغرنى. فإذا سلسل الشيطان قلّ عذر العاصى.

وسمعته يقول فى حديث عائشة رضى الله عنها «كان أكثر صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شعبان» قال: ما أرى هذا إلا على وجه الرياضة؛ لأن الإنسان إذا هجم بنفسه على أمر لم يتعوده صعب عليه، فدرج نفسه بالصوم فى شعبان لأجل رمضان.

وسمعته يقول فى قوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك من شر ما لم أعمل» قال: له معنيان.

ص: 270

أحدهما: أن الإنسان يبلغه أن الرجل قد عمل الشر فيرضى به، أو يتمنى أن يعمل مثله، فهذا شر ما لم يعمل.

والثانى: أن الرجل قد لا يشرب الخمر، فيعجب بنفسه كيف لا يشرب، فيكون العجب بترك الذنب شر ما لم يعمل.

وذكر صاحب سيرة الوزير قال: سمعته يقول فى قوله تعالى: (17:20، 18 {وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟ قالَ: هِيَ عَصايَ)} قال: فى حمل العصا عظة؛ لأنها من شئ قد كان ناميا فقطع، فكلما رآها حاملها تذكر الموت.

قال: ومن هذا قيل لابن سيرين رحمه الله: رجل رأى فى المنام أنه يضرب بطبل؟ فقال: هذه موعظة؛ لأن الطبل من خشب قد كان ناميا فقطع، ومن أغشية كانت جلود حيوان قد ذبح. وهذا أثر الموعظة.

وسمعته يقول فى قوله تعالى: (10:2 {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} - الآية) قال: المريض يجد الطعوم على خلاف ما هى عليه، فيرى الحامض حلوا، والحلومرا. وكذلك هؤلاء يرون الحق باطلا، والباطل حقا.

قال: وسمعت الوزير يقول: وقد قرئ عنده «أن رجلا قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم قال ذلك؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، ولم أرد بذلك إلا الخير. فقال صلى الله عليه وسلم رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها» . فطفقت والجماعة عندى أفكر فى معنى تخصيص هذا العدد من الملائكة، فنظرت فإذا حروف هذه الكلمات بضع وثلاثون حرفا إذا فكك المشدد، ورأيت أنه من عظم ما قد ازدحمت الملائكة عليها، بلغوا إلى فك المشدد، فلم يحصل لكل ملك سوى حرف واحد، فصعد به يتقرب بحمله.

وسمعته يقول فى قوله صلى الله عليه وسلم: «وجدت على باب الجنة مكتوبا:

الصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر» فتدبرت هذا الحصر، فإذا الفائدة: أن

ص: 271

الحسنة بعشر أمثالها، فدرهم الصدقة لا يعود فيكتب به عشر مع ذهابه، فيكون الحاصل به على الحقيقة تسعة، والقرض يضاعف على الصدقة، فيصير ثمانية عشر؛ لأن تسعة وتسعة ثمانية عشر. والسبب فى مضاعفته: أن الصدقة قد تقع فى يد غير محتاج، والقرض لا يقع إلا فى يد محتاج.

وسمعته يقول فى قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا شربتم فاسئروا» قال: هذا فى الشرب خاصة. فأما الأكل فمن السنة: لعق القصعة والأصابع، وإنما خص الشرب بذلك؛ لأن التراب والأقذار ترسخ فى أسفل الإناء، فاستقصاء ذلك يوجب شرب ما يؤذى. قال: وكذلك السر فى الأمر بالتنفس فى الإناء ثلاثا؛ لأن التنفس يخرج كرب القلب، وكدر البدن. فكره الشارع أن يعود فى الماء فيؤذى الشارب

وسمعته يقول فى قوله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تدخل الجنة من أمتى وجوههم كالقمر ليلة البدر» قال: إنما لم يقل كالشمس؛ لأن نور الشمس يؤثر فى عيون الناظرين إليها، فلا يتمكنون من النظر، والجنة دار لذة وطيب عيش، فلو أشبهت وجوههم نور الشمس لم يتمكن أحد منهم أن ينظر الآخر.

ومن كلامه فى السنة: قال أبو الفرج بن الجوزى: سمعت الوزير يقول:

تأويل الصفات أقرب إلى الحظ من إثباتها على وجه التشبيه؛ فإن ذلك كفر.

وهذا غايته البدعة.

قال وسمعته ينشد لنفسه:

لا قول عند آية المتشابه

للراسخين غير (آمنا به)

قال: وسمعته يقول: ما أنزل الله آية إلا والعلماء قد فسروها، لكنه يكون للآية وجوه محتملات، فلا يعلم ما المراد من تلك الوجوه المحتملات إلا الله عز وجل.

قال: وسمعته يقول فى قوله تعالى: (25:74 {إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ)} قال:

العرب لا تعرف ذا ولا هذا إلا فى الإشارة إلى الحاضر. وإنما أشار هذا القائل إلى

ص: 272

هذا المسموع. فمن قال: إن المسموع عبارة عن القديم، فقد قال: هذا قول البشر.

قال مصنف سيرته: كثيرا ما سمعته يقول: ليس مذهب أحمد إلا الاتباع فقط. فما قاله السلف قاله، وما سكتوا عنه سكت عنه؛ فإنه كان يكثر أن يقال:

لفظى بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق، لأنه لم يقل. وكان يقول فى آيات الصفات:

تمرّ كما جاءت.

قال: وسمعته يقول: تفكرت فى أخبار الصفات، فرأيت الصحابة والتابعين سكتوا عن تفسيرها، مع قوة علمهم، فنظرت السبب فى سكوتهم، فإذا هو قوة الهيبة للموصوف، ولأن تفسيرها لا يتأتى إلا بضرب الأمثال لله، وقد قال عز وجل:(74:16 {فَلا تَضْرِبُوا لِلّهِ الْأَمْثالَ)} قال: وكان يقول:

لا يفسر على الحقيقة ولا على المجاز؛ لأن حملها على الحقيقة تشبيه، وعلى المجاز بدعة

قال: وسمعته يقول: والله ما نترك أمير المؤمنين على بن أبى طالب مع الرافضة؛ نحن أحق به منهم، لأنه منا ونحن منه، ولا نترك الشافعى مع الأشعرية؛ فإنا أحق به منهم.

قال: وسمعته يقول: من مكايد الشيطان: تنفيره عباد الله من تدبر القرآن؛ لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر، فيقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان:

أنا لا أتكلم فى القرآن تورعا.

ومنها: أن يخرج جوالب الفتن مخرج التشدد فى الدين.

ومنها: أن يقيم أوثانا فى المعنى تعبد من دون الله، مثل أن يبين الحقّ، فيقول: ليس هذا مذهبنا؛ تقليدا للمعظم عنده، قد قدمه على الحق.

قال: وسمعته يقول لبعض الناس: لا يحل والله أن تحسن الظن بمن يرفض، ولا بمن يخالف الشرع فى حال.

ومن كلامه فى فنون، قال ابن الجوزى: وسمعته يقول: يحصل العلم بثلاثة أشياء.

ص: 273

أحدها: العمل به، فإن من كلف نفسه التكلم بالعربية، دعاه ذلك إلى حفظ النحو. ومن سأل عن المشكلات ليعمل فيها بمقتضى الشرع تعلم.

والثانى: التعليم، فإنه إذا علم الناس كان أدعى إلى تعليمه.

والثالث: التصنيف، فإنه يخرجه إلى البحث، ولا يتمكن من التصنيف من لم يدرك غور ذلك العلم الذى صنف فيه.

قال: وسمعته يقول: الحكمة فى اختصاص المرأة بالحيض: أنها تحمل الولد، والولد مفتقر إلى الغذاء، فلو شاركها فى غذائها، لضعفت قواها، ولكن جعلت له فضلة من فضلاتها، إن حملت فهى قوته، وإن لم تحمل اندفعت، فإذا ولدت توفرت تلك الفضلة على اللبن.

قال: وسمعته يقول لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة؛ فإن ظهور معاصيهم عيب فى أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب.

وسمعته يقول: الأيام قد ذهبت، والأعمار قد نهبت، والنفوس باتباع الهوى قد التهبت، وما يطلب منها شئ من الخير إلا أبت، وبيوت التقوى من القلوب قد خربت.

وسمعته يقول: نظر العامل إلى عمله بعين الثقة به فى باب النجاة، أضر على العصاة من تفريطهم، وقال: لولا الظلم الجائر ما حصلت الشهادة للشهيد، ولولا أهل المعاصى، ما بانت بلوى الصابر فى الأمر بالمعروف، ولو كان المجرمون ضعفاء لقهروا، فلم يحصل ذلك المعنى.

وكان يقول فى قوله تعالى: (123:6 {وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها)} إنه على التقديم والتأخير، أى: جعلنا مجرميها أكابر. وقال: البحر محيط بالأرض، وخلجانه تتخلل الأرض. والريح تهب على الماء، وتمر على الأرض، فيعتدل النسيم بالرطوبة. ولو كان ماء البحر عذبا لأنتن؛ لكونه واقفا، فكانت الريح إذا هبت عليه أوقعت الوباء فى الخلق، ولكنه جعل مالحا، ليحصل منه نفع الرطوبة، ولا يقع به فساد.

ص: 274

قال: وسمعته يقول: احذروا مصارع العقول، عند التهاب الشهوات.

قال: وسمعته يقول: العجب ممن يخاصم الأقدار ولا يخاصم نفسه، فيقول:

قضى علىّ، وعاقبنى! ويحك، قل لنا كيف تحب أن يكون الأمر؟ أتختار أن تخلق أعمى لا تنظر إلى المستحسن؟ قال: لا. قلنا: أفتحب أن تخلق معدوم الحس؟ قال: لا. قلنا: أتختار أن ترد عن المعاصى قهرا؟ قال: لا. قلنا: أفتؤثر أن تطلق فيها من غير حجر؟ فلا تغضب إذا إن أطلق غيرك فى أخواتك وبناتك. فأما أن تغضب لذلك الفعل من غيرك فى حرمك، وتختار أن تفعله فى حرم غيرك فهذا فى غاية الجور. فإذا جعل لك الطريق إلى مرادك بكلمة هى عقد النكاح، أو عوضت عما منعت عنه من جنسه ووعدت الأجر على الصبر فهذا غاية العدل. فإن زللت فى معصية فقد جعل لك طريق النجاة بالتوبة.

قال: مصنف سيرة الوزير: سمعته يقول: قفلت فى صحبة أمير المؤمنين المقتفى من الكوفة بعد وداع الحاج، فشاهدنا فى الطريق بردا كبارا قد وقع أمامنا - وكان الجماعة يأكلون منه - فلم أستطبه على الريق فلما نزلنا الخيام وأمسينا وحضر العشاء وأكلنا الطعام ذكرت ذلك البرد وودت أن لو كان الآن منه شئ وأظن أنى دعوت الله عز وجل أن يأتينا منه شئ، فما كان إلا لحظة والسحاب هملى، وإذا البرد فيه كثير. وشرع الغلمان وجمعوا منه شيئا كثيرا، وجاءوا به، فأكلت منه حتى تركته، وحمدت الله عز وجل على إجابة الدعاء، وإعطائه لما خطر فى النفس.

قال: وسمعته يقول: كنت جالسا فى سطح أصلى على النبى صلى الله عليه وسلم، وعيناى مغمضتان، فرأيت كاتبا يكتب فى قرطاس أبيض بمداد أسود، ما أذكره، وكلما قلت: اللهم صل على محمد، كتب الكاتب: اللهم صلّى على محمد، فقلت لنفسى: افتح عينك وانظر بها، ففتحت عينى، فخطف عن يمينى حتى نظرت بياض ثوبه، وهو شديد البياض فيه صقالة.

ص: 275

قال: وسمعته يقول: مرضت مرة مرضا شديدا، انتهى بى الأمر فيه إلى مقام رفعت فيه إلى أرض ذات ظل ممدود، ورملة دمثة، وهو أطيب مستلذ، وبجانب تلك الرملة ماء على نحو دجلة لا أجراف له، وأنا أناجى فى سرى بما أراه من الله عز وجل، وفيه عتاب لى على نظرى إلى الخلق وعملى لهم، ونحو هذا. فشرعت فى الإنكار لذلك، فأعدم جميع من فى الأرض، بحيث لم يبق عندى أنه بقى فى الأرض غيرى، فاستوحشت حينئذ من الحياة، وودت الموت كل الوداد، حتى كنت أقول: لو كان الشرع يبيح قتل النفس كان شيئا طيبا، ثم عرضت علىّ أعمال الخير كلها، فلم تخف علىّ كما كانت تخفى علىّ، فوقر حينئذ فى نفسى أنك إنما كنت تريد الحياة معهم، وأعمال الخير لتبلغهم، ونحو هذا، فاعترفت حينئذ بما كنت قد ناكرت عليه، ثم نوجيت أيضا بما معناه: إنك قد تخاف من الأشياء، وإن دواء ذلك كله أن تدخل فى الخوف منه بالإيمان بأن كل مخلوق لا يقدر إلا على ما يقدره الله عز وجل عليه لوقته، أو نحو هذا.

قال: وسمعته يقول: اتباع السنة سبب لكل خير، فإنى صليت الفريضة يوما فى مسجدنا، ثم قلت: يستحب أن تصلى السنة فى غير موضع الفرض ومضيت إلى البيت فصليتها؟؟؟، ثم اشتاق قلبى إلى رؤية الله عز وجل، فقلت:

اللهم أرنى نفسك. فنمت تلك الليلة، فرأيته عز وجل. وأنشد هذه الأبيات، وقال: كان ابن سمعون كثيرا ما ينشدها:

ركبت بحار الحب جهلا بقدرها

وتلك بحار لا يفيق غريقها

وسرنا على ريح تدل عليكم

فبانت قليلا ثم غاب طريقها

إليكم بكم أرجو النجاة وما أرى

لنفسى منها سائقا فيسوقها

وذكر الوزير فى كتابه «الإفصاح» قال: الصحيح عندى: أن ليلة القدر تنتقل فى أفراد العشر، فإنه حدثنى من أثق به أنه رآها فى ليلة سبع وعشرين.

وحدثنى أمير المؤمنين المقتفى لأمر الله: أنه رآها. فأما أنا فكنت فى ليلة إحدى

ص: 276

وعشرين وكانت ليلة جمعة، فواصلت انتظارها بذكر الله عز وجل، ولم أنم تلك الليلة. فلما كان وقت السحر - وأنا قائم على قدمى - رأيت فى السماء بابا مفتوحا مربعا عن يمين القبلة، قدرت أنه على حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقى على حاله - وأنا انظر إليه - نحو قراءة مائة آية، ولم يزل، حتى التفت عن يسارى إلى المشرق لأنظر هل طلع الفجر؟ فرأيت أول الفجر. فالتفت إلى ذلك الباب فرأيته قد ذهب. وكان ذلك مما صدق عندى ما رأيت. فالظاهر من ذلك:

تنقلها فى ليالى الأفراد فى العشر. فإذا اتفقت ليالى الجمع فى الأفراد فأجدر وأخلق بكونها فيها.

وكتاب «الإفصاح» فيه فوائد جليلة غريبة.

وقال فيه: الخضر الذى لقيه موسى عليه السلام قيل: كان ملكا. وقيل:

كان بشرا. وهو الصحيح. ثم قيل: إنه عبد صالح ليس بنبى. وقيل: بل نبى.

وهو الصحيح.

والصحيح عندنا: أنه حى، وأنه يجوز أن يقف على باب أحد مستعطيا له، وغير ذلك؛ لما حدثنى محمد بن يحيى الزبيدى. وذكر عنه حكايات تتضمن رؤية الخضر، والاجتماع به.

وقال فى حديث عمران بن حصين، وقول النبى صلى الله عليه وسلم:«لقد علمت أن بعضكم خالجنيها» فيه دليل على أنه لا يقرأ المأموم وراء الإمام.

قال: وهذا محمول عندى على غير الفاتحة.

وقال: الحبس غير مشروع إلا فى مواضع.

أحدها: إذا سرق فقطعت يمينه، ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق: حبس ولم يقطع، فى إحدى الروايتين.

الثانى: أمسك رجل رجلا لآخر فقتله: حبس الممسك حتى يموت، فى إحدى الروايتين أيضا.

ص: 277

الثالث: ما يراه الإمام كفّا لفساد مفسد؛ لقوله تعالى (38:38 {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ)} وما يراه أبو حنيفة فى قطاع الطريق، فإنه يحبسهم حتى يتوبوا

فأما الحبس على الدين فمن الأمور المحدثة وأول من حبس فيه شريح القاضى وقضت السنة فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان: أنه لا يحبس على الدين، ولكن يتلازم الخصمان.

فأما الحبس الذى هو الآن فإنى لا أعرف أنه يجوز عند أحد من المسلمين.

وذلك أنه يجمع الجمع الكثير فى موضع يضيق عنهم، غير متمكنين من الوضوء والصلاة، ويتأذون بذلك بحره وبرده. فهذا كله محدث. ولقد حرصت مرارا على فكه، فحال دونه ما قد اعتاده الناس منه، وأنا فى إزالته حريص والله الموفق.

وقال فى حديث الزبير فى سراج الحرة: فيه جواز أن يكون السقى للأول، ثم الذى بعده. إلا أن هذا فى النخل خاصة، وما يجرى مجراه. وأما الزرع وما لا يصبر على العطش أكثر من جمعة ونحو ذلك: فإن الماء يتناصف فيه بالسوية، كما قال تعالى (29:54 {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ)} .

وقال فى سورة الضحى: لما توالى فيها قسمان، وجوابان مثبتان، وجوابان نافيان، فالقسمان:{(وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى)} والجوابان النافيان: {(ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)،} والجوابان المثبتان: {(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)} .

ثم قرر بنعم ثلاث، وأتبعهن بوصايا ثلاث: كل واحدة من الوصايا شكر النعمة التى قوبلت بها.

فإحداهن: {(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟)} وجوابها: {(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)} .

والثانية: {(وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى؟)} فقابلها بقوله: {(وَأَمَّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)} وهذا لأن السائل ضال يبغى الهدى.

والثالثة: {(وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى؟)} فقابلها بقوله: {(وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)}

ص: 278

وإنما قال: {(وَما قَلى)} ولم يقل: وما قلاك؛ لأن القلى بغض بعد حب، وذلك لا يجوز على الله تعالى. والمعنى: وما قلى أحدا قط، ثم قال:{(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى)} ولم يقل: خير على الإطلاق. وإنما المعنى خير لك ولمن آمن بك.

وقوله: (فآوى) ولم يقل: فآواك، لأنه أراد: آوى بك إلى يوم القيامة.

وقال: أما كون صوم يوم عرفة بسنتين ففيه وجهان:

أحدهما: لما كان يوم عرفة فى شهر حرام بين شهرين حرامين: كفر سنة قبله وسنة بعده.

والثانى: إنما كان لهذه الأمة، وقد وعدت فى العمل بأجرين. قال تعالى:

(28:57 {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)}.

أما عاشوراء: فقد كانت الأمم قبل هذه الأمة تصومه، ففضل ما خصت به هذه الأمة، وإنما كفر عاشوراء السنة الماضية؛ لأنه تبعها وجاء بعدها. والتكفير (بالصوم إنما يكون لما مضى لا لما يأتى.

فأما يوم عرفة: فإنه يكفر السنة التى قد مضى أكثرها، ويزيد لموضع فضله بتكفير ما يأتى.

وقال فى حديث تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ: لما كانت صلاة الفذ مفردة أشبهت العدد المفرد، فلما جمعت مع غيرها أشبهت ضرب العدد. وكانت خمسا فضربت فى خمس، فصارت خمسا وعشرين، وهى غاية ما يرتفع إليه ضرب الشئ فى نفسه.

فأما رواية «سبع وعشرين» فإن صلاة المنفرد وصلاة الإمام أدخلتا مع المضاعفة فى الحساب.

وقد ذكر الوزير فى كلامه على شرح حديث «من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين» وهو الذى أفرد من كتابه «الإفصاح» فوائد غريبة.

فذكر فى أول كلامه: أن اختصاص المساجد ببعض أرباب المذاهب بدعة

ص: 279

محدثة، فلا يقال: هذه مساجد أصحاب أحمد، فيمنع منها أصحاب الشافعى، ولا بالعكس؛ فإن هذا من البدع. وقد قال تعالى فى المسجد الحرام:(25:22 {سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ)} وهو أفضل المساجد.

وأما المدارس فلم يقل فيها ذلك، بل قال: لا ينبغى أن يضيق فى الاشتراط على المسلمين فيها، فإن المسلمين فيها إخوة، وهى مساجد تبنى لله تعالى، فينبغى أن يكون فى اشتراطها ما يقع لعباد الله، فإنى امتنعت من دخول مدرسة شرط فيها شروط لم أجدها عندى، ولعلى منعت بذلك أن أسأل عن مسألة أحتاج إليها، أو أفيد أو أستفيد.

وحكى فى مسائل الخلاف رواية عن أحمد: أنه لا يشترط فى المسح على العمامة ولا بحوائل الرأس خاصة لبسها على طهارة. وهذه غريبة جدا، لا أعلم أحدا من الأصحاب حكاها غيره.

واختار فيه: استحباب الجمع بين الاستفتاح؛ «وجهت وجهى» و «سبحانك اللهم وبحمدك» .

واختار: أنه يستحب أن يزاد فى التشهد الأول: اللهم صلّى على محمد.

واختار: استحباب التكبير ثلاثا فى أول تكبير العيدين، وأيام التشريق.

وذكر: أن الفصاد يفطر الصائم كالحجامة، وأنه مذهب أحمد.

وكان الوزير رحمه الله تعالى أديبا بارعا، فصيحا مفوها. وقد أورد له مصنف سيرته من رسائله إلى الخلفاء والملوك، والكتب الذى أنشأها بأفصح العبارات، وأجزل الألفاظ ما لا يتسع هذا المكان لذكره.

وله شعر كثير حسن فى الزهد وغيره.

فمما أنشده ابن الجوزى عنه:

يا أيها الناس إنّي ناصح لكم

فعوا كلامى؛ فإنى ذو تجاريب

لا تلهينكم الدنيا بزهرتها

فما تدوم على حسن ولا طيب

ص: 280

قال: وأنشدنا لنفسه:

يلذ بهذا العيش من ليس يعقل

ويزهد فيه الألمعى المحصل

وما عجب نفس أن ترى الرأى إنما

العجيبة نفس مقتضى الرأى تفعل

إلى الله أشكو همة دنيوية

ترى النص إلا أنها تتأول

ينهنها موت النبيه فترعوى

ويخدعها روح الحياة فتغفل

وفى كل جزء ينقضى من زمانها

من الجسم جزء مثله يتحلل

فنفس الفتى فى سهوها وهى تنقضى

وجسم الفتى فى شغله وهو يعمل

قال: وأنشدنا لنفسه:

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه

وأراه أسهل ما عليك يضيع

قال: وأنشدنا لنفسه:

الحمد لله هذا العين لا الأثر

فما الذى باتباع الحق ينتظر

وقت يفوت وأشغال معوّقة

وضعف عزم، ودار شأنها الغير

والناس ركضا إلى مهوى مصارعهم

وليس عندهم من ركضهم خبر

تسعى بهم خادعات من سلامتهم

فيبلغون إلى المهوى وما شعروا

والجهل أصل فساد الناس كلهم

والجهل أصل عليه يخلق البشر

وإنما العلم عن ذى الرشد يطرحه

كما عن الطفل يوما يطرح السرر

وأصعب الداء داء لا يحس به

كالدق يضعف حسا وهو يستعر

وإنما لم يحس المرء موقعها

لأن أجزاؤه قد عمها الضرر

وقال صاحب سيرته: سمعته يقول: لولا عموم فقراء الناس ما استغنوا؛ فإن الإنسان لما افتقر احتال، فسافر لجلب الثياب والمطاعم والأدوية والحطب، وغير ذلك، فانتفع بذلك المقيم فلو أن الناس استغنوا عن الكسب لافتقروا، لكنهم لما افتقروا تم الفناء.

ص: 281

قال: وأنشدنا لنفسه فى المعنى. وقد أنشدها ابن الجوزى عنه أيضا.

جسوم لا يلائمها البقاء

وأجزاء تخللها الثواء

وكون الشئ لا ينفك يفنى

فذلك أن غايته الفناء

نكب على التكاثر وهو فقر

وتعجبنا السلامة وهى داء

ونجزع للشدائد وهى نصح

وتغرينا وقد عز الرجاء

تنافى الناس فانتفوا اضطرارا

وقد يرجى من الداء الدّواء

وعم الفقر فاستغنوا، ولولا

عموم الفقر ما عم الغناء

قال: وأنشدنا لنفسه:

يلذ بذى الدنيا الغنيّ ويطرب

ويزهد فيها الألمعى المجرب

وما عرف الأيام والناس عاقل

ووفق إلا كان فى اليوم يرغب

إلى الله أشكو همة لعبت بها

أباطيل آمال تغر وتخلب

فوا عجبا من عاقل يعرف الدنا

فيصبح فيها بعد ذلك يرغب

قال: وأنشدنا لنفسه - مما قاله قديما -:

كل من جاء بدين غريب

غير دين الإسلام فهو كذوب

وإذا عالم تكلف فى القول

بلا سنة فذاك المريب

قال: وأنشدنا لنفسه:

ما لنا قط غير ما شرع الله

به يعبد الإله الكريم

فتمسك بالشرع واعلم بأن ال

حق فيه، وما سواه سموم

ومما يذكر من شعر الوزير رحمه الله:

تمسك بتقوى الله؛ فالمرء لا يبقى

وكل امرئ ما قدمت يده يلقى

ولا تظلمن الناس ما فى يديهم

ولا تذكرن إفكا ولا تحسدن خلقا

تعود فعال الخير جمعا فكلما

تعوده الإنسان صار له خلقا

وذكر ياقوت الحموى فى كتابه «معجم الأدباء» بإسناد له: أن الوزير عرضت

ص: 282

عليه جارية فائقة الحسن، وظهر له فى المجلس من أدبها وحسن كتابتها وذكائها وظرفها ما أعجبه، فأمر فاشتريت له بمائة وخمسين دينارا، وأمر أن يهيأ لها منزل وجارية، وأن يحمل لها من الفرش والآنية والثياب وجميع ما تحتاج إليه، ثم بعد ثلاثة أيام جاءه الذى باعها، وشكى إليه ألم فراقها، فضحك، وقال له: لعلك تريد ارتجاع الجارية؟ قال: إي والله يا مولانا، وهذا الثمن بحاله، لم أتصرف فيه وأبرزه، فقال له الوزير: ولا نحن تصرفنا فى المثمن، ثم قال لخادمه: ادفع إليه الجارية وما عليها، وجميع ما فى حجرتها، ودفع إليه الخرقة التى فيها الثمن، وقال:

استعينا به على شأنكما، فأكثرا من الدّعاء له، وأخذها وخرج.

وحكى عن الوزير: أنه كان إذا مدّ السماط فأكثر ما يحضره الفقراء والعميان، فلما كان ذات يوم وأكل الناس وخرجوا بقى رجل ضرير يبكى، ويقول: سرقوا مداسى ومالى غيره، والله ما أقدر على ثمن مداس، وما بى إلا أن أمشى حافيا وأصلى، فقام الوزير من مجلسه، ولبس مداسه وجاء إلى الضرير، فوقف عنده وخلع مداسه والضرير لا يعرفه، وقال له: البس هذا وأبصره على قدر رجلك، فلبسه، وقال: نعم، لا إله إلا الله كأنه مداسى.

ومضى الضرير، ورجع الوزير إلى مجلسه، وهو يقول: سلمت منه أن يقول: أنت سرقته.

وأخبار الوزير رحمه الله ومناقبه كثيرة جدا. وقد مدحه الشعراء فأكثروا.

وقيل: إنه رزق من الشعراء ما لم يرزقه أحد، ومن أكابرهم: الحيص بيص وابن بختيار الأبله، وابن التعاويذى، والعماد الكاتب، وأبو على بن أبى قيراط ومنصور النميرى، وخلق كثير. حتى قيل: إنه جمعت من مدائحه ما يزيد على مائتى ألف قصيدة فى مجلدات. فلما بيعت كتبه بعد موته اشتراها بعض الأعداء.

فغسلها.

ص: 283

ومن قول الحيص بيص فى مدحه رحمه الله تعالى:

يفل عزب الرزايا وهى باسلة

ويوسع الجار نصرا وهو مخذول

ويشهد الهول بساما وقد دمعت

شوس العيون فذم القوم إحفيل

ويتقى مثل ما ترجى فواضله

وجوده، فهو مرهوب ومأمول

عار من العار كاس من مناقبه

كأنه مرهف الخدين مسلول

سهل المكارم صعب فى حفيظته

فبأسه والندى مر ومعسول

قالى الدنايا وصبوان العلى كلف

فالعار والمجد مقطوع وموصول

الملك يحيى لذى قول ومعترك

إذا تشابه مقطوع ومفلول

يمضى الأسنة والأقوال ماضية

فالحبر والقرن مطرود ومفصول

جواد مجد له فى فخره شبه

وفيه من واضح العلياء تحجيل

يصيد وحش المعالى وهى نافرة

كأن مسعاه للعلياء أحبول

ومما أنشده أبو الفتح بن الأديب فى أول يوم جلس فيه الوزير وقرئ عهده

إذا قلت: ليث فهو أمضى عزيمة

وإن قلت: غيث فهو أندى وأجود

من القوم ما أبقوا سوى حسن ذكرهم

وما عمروه بالجميل وشيدوا

وصية موروث إلى خير وارث

إذا سيد منهم خلا قام سيد

سيحييهم يحيى وما غاب غائب

إليه أحاديث المكارم تسند

مناقب تحصى دونها عدد الحصى

بها يغبط الحر الكريم ويحسد

ليهن أمير المؤمنين اعتضاده

برأيك والآراء تهدى وترشد

هو المقتفى أمر الإله وإنه

ليصدر عن أمر الإله ويورد

تمنى وزيرا صالحا يكتفى به

وأفكاره فى مثله تتردد

دعا زكريا النبى كما دعا

إمام الهدى، والأمر بالأمر يعضد

فخص بيحيى بعد ما خص بعده

بيحيى أمير المؤمنين محمد

وهى طويلة.

ص: 284

ومن قصيدة لأبى على بن الفلاس الشاعر أولها:

الحب يهجر والطيوف تزور

وكأنما أصل الصبابة زور

ظلت الملوك وقصروا عن غاية

ما نالها كسرى ولا سابور

وعدلت حتى لم تدع من ظالم

يده على المستضعفين تجور

فالأرض مشرقة بعدلك والندى

وصباح عدلك ماله ديجور

قد روضت بالمكرمات كأنما

كل البلاد خوريق وسدير

ولنصر النميرى:

أعلقت من يحيى رجائى لمن

تحتكم الآمال فى وفره

وكان عون الدين أحرى الورى

بنصرة الحر على دهره

وزير صدق عم إحسانه

فأجمع الناس على شكره

أبهة الملك على وجهه

وخشية الرحمن فى سره

يربى على الغيث ندى كفه

ونائل المرء على قدره

قال ابن الجوزى: كان الوزير يتأسف على ما مضى من زمانه، ويندم على ما دخل فيه. ثم صار يسأل الله عز وجل الشهادة، ويتعرض بأسبابها.

وكان الوزير ليس به قلبة فى يوم السبت ثانى عشر جمادى الأولى سنة ستين وخمسمائة، ونام ليلة الأحد فى عافية، فلما كان وقت السحر قاء، فحضر طبيب كان يخدمه، فسقاه شيئا، فيقال: إنه سمه فمات، وسقى الطبيب بعده بنحو ستة أشهر سما، فكان يقول: سقيت كما سقيت، فمات.

قال: وكنت فى تلك الليلة رأيت فى النوم مع انشقاق الفجر والوزير كأنه فى داره، ودخل رجل بيده حربة فضربه بها، فخرج الدم كالفوار فضرب الحائط، ورأيت هناك خاتما من ذهب ملقى. فلما استيقظت أخبرت من معى بالحديث، فما استتممته حتى جاء الخبر بموت الوزير، ونفذ إلى من داره، فحضرت وأمرنى ولداه أن أغسله فغسلته، فرفعت يده ليدخل الماء فى مغابنه، فسقط الخاتم من يده

ص: 285

حيث رأيت ذلك الخاتم، فتعجبت من وجهه، ورأيت فى وقت غسله آثارا بوجهه وجسده، تدل على أنه مسموم، وحملت جنازته يوم الأحد إلى جامع القصر، وصلّى عليه، ثم حمل إلى مدرسته التى أنشأها بباب البصرة، فدفن بها. وغلقت يومئذ أسواق بغداد. وخرج جمع لم نره لمخلوق قط فى الأسواق، وعلى السطوح وشاطئ دجلة، وكثر البكاء عليه؛ لما كان يفعله من البر، ويظهره من العدل.

وذكر مصنف سيرته: أنه كان ثار به بلغم وهو فى قصره بالخالص، ثم خرج مع المستنجد للصيد، فسقى مسهلا لأجل البلغم، فاستأذن الخليفة فى الدخول إلى بغداد للتداوى، فأذن له، فدخل يوم الجمعة فى موكب عظيم. وصلّى الجمعة وحضر الناس عنده يوم السبت. فلما كان وقت صلاة الصبح يوم الأحد عاوده البلغم، فوقع مغشيا عليه، فصرخ الجوار، فأفاق فسكتهن. وقيل: له إن أستاذ الدار ابن رئيس الرؤساء، قد بعث جماعة ليستعلم ما هذا الصياح؟ فتبسم الوزير على ما هو عليه من تلك الحال، وأنشد متمثلا:

وكم شامت بى عند موتى جاهل

بظلم يسل السيف بعد وفاتى

ولو علم المسكين ماذا يناله

من الضرّ بعدى مات قبل مماتى

قلت: وكذا وقع، فإن البليدى الذى تولى الوزارة بعده لم يبق من الأذى لبيت رئيس الرؤساء ممكنا.

قال: ثم تناول مشروبا فاستفرغ به، ثم استدعى بماء فتوضأ للصلاة، وصلّى قاعدا، فسجد فأبطأ عن القعود من السجود، فحركوه فإذا هو ميت. رحمه الله

ورثاه جماعة من شعرائه - منهم: النميرى - بقصائد. منها قوله:

ألمم على جدث حوى تاج الملوك وقل: سلام

واعقر سويد الضمير، فليس يقنعنى السوام

وتوق أن يثنى حيا دمع عينيك أو ملام

إن التماسك والوقار بمن أصيب به حرام

ص: 286

فإذا ارتوت تلك الجنادل من دموعك والرغام

فأقم صدور اليعملات فبعد يحيى لا مقام

ذهب الذى كانت تقيدنى مواهبه الجسام

وإذا نظرت إليه لم يخطر على قلبى السآم

غاض الثدى الفياض عن راحتيه واشتد الأوام

وتفرقت تلك الجموع وقوضت تلك الخيام

ولقد عهدت أبا المظفر ذا علا لا يستضام

يثب القعود إذا بدا ويقبل الأرض القيام

ما للنفوس من الحمام إذا ألم بها اعتصام

عجبا لمن يغتر بالدنيا وليس لها دوام

عقبى مسرتها الأسى، وعقيب صحتها السقام

انظر إلى أبواب عون الدين يعلوها القتام

وكان عون الدين لم يك للزمان به ابتسام

لله ما عدمت به الدنيا وما حوت الرجام

لا غرو؟؟؟ أن أدمى الجفون لفقدك الدمع الجسام

إن المكارم بعد موتك ما لفرقتها التئام

ما مت وحدك يوم مت، وإنما مات الأنام

حياك رقراق النسيم وجاد مثواك الغمام

بأبى لك الإحسان إن أنسأك والشيم الكرام

وببعض حقك إن حزنى فيك ليس له انصرام

وأنشد بعض الشعراء يوم موته:

مات يحيى ولم نجد بعد يحيى

ملكا ماجدا به يستعان

وإذا مات من زمان كريم

مثل يحيى به يموت الزمان

ص: 287

قال مصنف سيرته: حدثني أبو حامد أحمد بن عيسى الفقيه الحنبلى ابن الشيخ الصالح أبو عبد الله بن زفر، قال: رأيت فى المنام - وأنا بأرض جزيرة ابن عمر - كأن جماعة من الملائكة يقولون لى: قد مات فى هذه الليلة ببغداد ولى من أولياء الله تعالى فاستيقظت منزعجا، فحدثت بالمنام الجماعة الذين كانوا معى، وأرخنا تلك الليلة فلما قدمت بغداد سألت: من مات فى تلك الليلة؟ فقيل لى: مات بها الوزير عون الدين بن هبيرة.

قال: وحدثنى الشيخ الصالح محمود بن النعالى المقرئ الزاهد، قال: كنت دائما إذا ذكرت الوزير عون الدين بن هبيرة أقول: اللهم هبه، واستوهب له.

قال: ومضى على ذلك زمان، فرأيت فى النوم كأننى قد دخلت إلى مدرسته لزيارة قبره، وإذا هو نائم على القبر، فقال: يا محمود، إن الله وهنى واستوهب لى.

وحدثنى الوزير أبو شجاع محمد بن الوزير أبى منصور محمد ابن الوزير أبى شجاع محمد، قال: كنت كثير الوقوع فى الوزير ابن هبيرة، فرأيته فى المنام فى بستان لم أر له فى الدنيا شبيها، ومعه ملك يجنى له من ثماره، ويترك فى فمه، فهممت بدخول البستان، فصاح الملك علىّ، وقال: هذا البستان قد وهبه الله تعالى لهذا بعد أن غفر له، فلا سبيل لأحد أن يدخله إلا بإذنه. فاستيقظت مرعوبا، وتبت إلى الله عز وجل من ذكره، إلا بالرحمة عليه، والاستغفار له.

قال: وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الواحد المقرئ قال:

رأيت الوزير ابن هبيرة فى النوم، فسألته عن حاله؟ فأجابني بهذين البيتين:

قد سألنا عن حالنا فأجبنا

بعد ما حال حالنا وحجبنا

فوجدنا مضاعفا ما كسبنا

ووجدنا ممحصا ما اكتسبنا

وهذه الأبيات رواها ابن النجار عن ابن الدبيثى عن أبى شجاع محمد بن على المؤدب، قال: سمعت أبا القاسم السلاحى، قال رأيت الوزير فى النوم فذكرها.

قال صاحب سيرته: ولو استقصيت ما ذكر له من المنامات الصالحة لجاءت بمفردها كتابا ضخما.

ص: 288

أخبرنا أبو المعالى محمد بن عبد الرازق بن أحمد الشيبانى الزاهد - بقراءتى عليه ببغداد سنة تسع وأربعين وسبعمائة - أخبرنا الحافظ أبو عبد الله أحمد بن محمد الأنجب بن الكسار - سماعا - أخبرنا العلامة أستاذ دار الخلافة أبو محمد يوسف ابن الحافظ أبى الفرج بن الجوزى، أخبرنا أمير المؤمنين المستعصم بالله أبو محمد عبد الله بن المستنصر بالله أبى جعفر منصور بن الظاهر بن الناصر، أخبرنا أبو على الحسن بن المبارك الزبيدى ح وأخبرناه - عاليا - أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم المصرى بها، أخبرنا سفير الخلافة أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن على الحافظ قالا: أخبرنا الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد ابن هبيرة قال: قرأت على الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين أبى عبد الله محمد ابن المستظهر بالله بن المقتدى، قلت له: حدثكم أبو البركات أحمد بن عبد الله الشيبى، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الصيرفى، حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، حدثنا إسماعيل بن العباس الوراق، حدثنا حفص بن عمرو الربالى، أخبرنا المبارك بن سحيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا يزداد الناس إلا شحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» . وفى هذا الإسناد سلسلة عجيبة بالخلفاء والملوك.

‌132 - عبد الله بن سعد

بن الحسين بن الهاطر الوزان العطار، الأزجى، أبو المعمر.

كان اسمه خريفة، فغير وسار يكتب عبد الله.

قرأ القرآن بالروايات على أبى الخطاب بن الجراح، وغيره.

وسمع الحديث من أبى الفضل بن خيرون، وأبى الحسن بن أيوب، وأبى عبد الله بن طلحة بن البطر، وأبى القاسم الربعى، وغيرهم. وتفقه على أبى الخطاب الكلوذانى، وحدث.

روى عنه أبو حفص السهروردى فى مشيخته، وغيره.

ص: 289

قال الشريف أبو الحسن الزبيدى الحافظ: كان محبا للرواية صحيح السماع.

قال: وتوفى يوم الاثنين ثامن عشر رجب سنة ستين وخمسمائة، وصلّى عليه الشيخ عبد القادر من الغد بمدرسته. ودفن بباب حرب.

وكذا أرخه القطيعى فى تاريخه.

ووقع فى مشيخة السهروردى: أنه توفى يوم الأربعاء تاسع عشر رجب.

‌133 - إسماعيل بن أبى طاهر

بن الزبير الجيلى، الفقيه، أبو المحاسن.

حدث بيسير عن أبى الحسن علىّ بن سعد الخباز، وهو حى.

سمع منه بعض الطلبة فى جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة.

‌134 - عبد القادر بن أبى صالح

بن عبد الله بن جنكى دوست بن أبى عبد الله ابن عبد الله الجيلى، ثم البغدادى، الزاهد.

شيخ العصر، وقدوة العارفين، وسلطان المشايخ، وسيد أهل الطريقة فى وقته، محى الدين أبو محمد، صاحب المقامات والكرامات، والعلوم والمعارف، والأحوال المشهورة.

وبعض الناس يذكر نسبه إلى علي بن أبى طالب رضى الله عنه، فيزيد بعد أبى عبد الله: ابن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب.

ولد سنة تسعين وأربعمائة - أو سنة إحدى وتسعين

(1)

- بكيلان.

وفد بغداد شابا، فسمع بها الحديث من أبى غالب بن الباقلانى، وجعفر السراج وأبى بكر بن سوسن، وابن بيان، وأبى طالب بن يوسف، وابن خشيش وأبى الزينى، وتفقه على القاضى أبى سعد المخرامى وأبى الخطاب الكلوذانى.

وقيل: إنه قرأ أيضا على ابن عقيل، والقاضى أبى الحسين، وبرع فى المذهب والخلاف والأصول، وغير ذلك

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية أنه «ولد سنة سبعين وأربعمائة - أو سنة إحدى وسبعين»

ص: 290

وقرأ الأدب على زكريا التبريزى. وصحب الشيخ حماد الدباس الزاهد، ودرس بمدرسة شيخه المخرمى، وأقام بها إلى أن مات، ودفن بها.

قال ابن الجوزى: كانت هذه المدرسة لطيفة، ففوضت إلى عبد القادر، فتكلم على الناس بلسان الوعظ، وظهر له صيت بالزهد. وكان له سمت وصمت، وضاقت المدرسة بالناس.

وكان يجلس عند سور بغداد مستندا إلى الرباط، ويتوب عنده فى المجلس خلق كثير، فعمرت المدرسة ووسعت، وتعصبت فى ذلك العوام. وأقام فى مدرسته يدرس ويعظ إلى أن توفى.

وذكره ابن السمعانى فقال: إمام الحنابلة وشيخهم فى عصره، فقيه صالح، دين خير، كثير الذكر، دائم الفكر. سريع الدمعة. كتبت عنه. وكان يسكن بباب الأزج فى المدرسة التى بنوا له.

وسمعت أبا الحسين بن التبان الفقيه البغدادى يقول: إن مدرسة عبد القادر كانت للقاضى المخرمى، فلما فوضت إلى عبد القادر أراد أن يوسعها ويعمرها.

فكان الرجال والنساء يأتونه بشئ فشئ إلى أن عمرها، فاتفق أن امرأة مسكينة جاءت بزوجها، وكان زوجها من الفعلة الروزجارية، وقالت لعبد القادر: هذا زوجى، ولى عليه من المهر قدر عشرين دينارا، ووهبت له النصف بشرط أن يعمل فى مدرستك بالنصف الباقى، وقد تراضينا على هذا. فقبل الزوج ذلك وأحضرت المرأة الخط وسلمته إلى عبد القادر. فكان يستعمل الزوج فى المدرسة، وكان يعطيه يوما الأجرة، ويوما لا يعطيه؛ لعلمه بأن الرجل محتاج فقير، ولا يملك شيئا، إلى أن علم أن الزوج عمل بخمسة دنانير، فأخرج عبد القادر الخط، ودفعه إلى الزوج، وقال: أنت فى حل من الباقى.

قلت: ظهر الشيخ عبد القادر للناس، وجلس للوعظ بعد العشرين وخمسمائة وحصل له القبول التام من الناس، واعتقدوا ديانته وصلاحه، وانتفعوا به وبكلامه

ص: 291

ووعظه، وانتصر أهل السنة بظهوره، واشتهرت أحواله وأقواله وكراماته ومكاشفاته وهابه الملوك فمن دونهم.

قال الشيخ موفق الدين صاحب المغنى: لم أسمع عن أحد يحكى عنه من الكرامات أكثر مما يحكى عن الشيخ عبد القادر، ولا رأيت أحدا يعظم من أجل الدين أكثر منه.

وذكر الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام شيخ الشافعية: أنه لم تتواتر كرامات أحد من المشايخ إلا الشيخ عبد القادر، فإن كراماته نقلت بالتواتر.

قرأت بخط الإمام ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن الحنبلى الدمشقى قال:

حكى شيخنا أبو الحسن بن غريبة الفقيه: أن الوزير ابن هبيرة رحمه الله، قال له الخليفة - يريد: المقتفى لأمر الله - قد شكى من الشيخ عبد القادر، وقال: إنه يستخف بى، ويذكرنى. وله نخلة فى رباطه، يتكلم ويقول: يا نخيلة لا تتعدى أقطع رأسك، وإنما يشير إلي. تمضى إليه وتقول له فى خلوة: ما يحسن بك أن تتعرض بالإمام أصلا وأنت تعرف حرمة الخلافة.

قال الشيخ أبو الحسن فذهبت إليه، فوجدت عنده جماعة، فجلست أنتظر منه خلوة، فسمعته يتحدث، ويقول فى أثناء كلامه: نعم. اقطع رأسها، فعلمت أن الإشارة إليّ، فقمت وذهبت، فقال لي الوزير: بلغت، فأعدت عليه ما جرى، فبكى الوزير، وقال: لا شك فى صلاح الشيخ عبد القادر.

وقرأت بخط ابن الحنبلى أيضا: أن خاله أبا الحسن بن نجا الواعظ اجتمع بالشيخ عبد القادر، وكان يحكى عنه. قال: سبقت يوم العيد إلى المصلى إلى المكان الذى يصلى فيه الشيخ عبد القادر. قال: فجاء الشيخ عبد القادر، ومعه خلق كثير، والناس يقبلون يده، فصلى ركعتين قبل الصلاة. فقلت، فى نفسى:

ما هذه الصلاة؟ فمن السنة أن لا يتنفل قبلها. قال: فلما سلم التفت إلىّ وقال: لها سبب.

ص: 292

ونقلت من خط الإمام صفى الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادى.

قال: قرأت بخط الإمام أبى أحمد عبد الصمد بن أحمد بن أبى الجيش. قال:

حدثنى أحمد بن مطيع الباجسرائى. قال: كنت أجئ من مدرسة الوزير ابن هبيرة من باب البصرة إلى الشيخ عبد القادر، فجئت فى بعض الأيام، وهو كأنه ضجران، فانتهرنى. وقال: قم، فمضيت، فبينا أنا فى بعض الطريق أنفذ خلفى، فجئت. فقال: لما حردت عليك، ومشيت نمت، فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت معلم الخير لا تضجر. أنت معلم الخير لا تضجر. أنت معلم الخير لا تضجر - ثلاث مرات - قال: ثم أخذ علىّ، وأقرأنى.

وكان الشيخ عبد القادر، رحمه الله فى عصره معظما، يعظمه أكثر مشايخ الوقت من العلماء والزهاد. وله مناقب وكرامات كثيرة.

ولكن قد جمع المقرئ أبو الحسن الشطنوفى المصرى، فى أخبار الشيخ عبد القادر ومناقبه ثلاث مجلدات، وكتب فيها الطم والرم، وكفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع.

وقد رأيت بعض هذا الكتاب، ولا يطيب على قلبى أن أعتمد على شئ مما فيه، فأنقل منه إلا ما كان مشهورا معروفا من غير هذا الكتاب، وذلك لكثرة ما فيه من الرواية عن المجهولين، وفيه من الشطح، والطامات، والدعاوى، والكلام الباطل، ما لا يحصى، ولا يليق نسبة مثل ذلك إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله.

ثم وجدت الكمال جعفر الأدفوى قد ذكر: أن الشطنو فى نفسه كان متهما فيما يحكيه فى هذا الكتاب بعينه.

ومن أحسن ما فى هذا الكتاب: ما ذكره المصنف عن قاضى القضاة أبى عبد الله محمد بن الشيخ العماد إبراهيم بن عبد الواحد المقدسى، قال: سمعت شيخنا الشيخ موفق الدين بن قدامة يقول: دخلنا بغداد سنة إحدى وستين وخمسمائة

ص: 293

فإذا الشيخ عبد القادر ممن انتهت إليه الرئاسة بها علما وعملا ومالا واستفتاء.

وكان يكفى طالب العلم عن قصد غيره؛ من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم، والصبر على المشتغلين، وسعة الصدر. وكان ملء العين، وجمع الله فيه أوصافا جميلة، وأحوالا عزيزة، وما رأيت بعده مثله.

وذكر فيه أيضا بإسناده عن موسى بن الشيخ عبد القادر، وقال سمعت:

والدى يقول: خرجت فى بعض سياحاتى إلى البرية ومكثت أياما لا أجد ماء، فاشتد بى العطش فأظلتنى سحابة، ونزل علىّ منها شئ يشبه الندى. فترويت به. ثم رأيت نورا أضاء به الأفق، وبدت لى صورة، ونوديت منها: يا عبد القادر أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات - أو قال: ما حرمت على غيرك - فقلت:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثم خاطبنى، وقال: يا عبد القادر، نجوت منى بعلمك بحكم ربك وفقهك فى أحوال منازلاتك. ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق. فقلت: لربى الفضل والمنة. قال: فقيل له: كيف علمت أنه الشيطان.

قال: بقوله: وقد أحللت لك المحرمات. وهذه الحكاية مشهورة عن الشيخ عبد القادر، فليس الاعتماد فيها على نقل مصنف هذا الكتاب.

وذكر فى هذا الكتاب أيضا من طريق نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر عن أبيه، قال: جاءت فتيا من العجم إلى بغداد، بعد أن عرضت على علماء العراقيين، فلم يتضح لأحد فيها جواب شاف.

وصورتها: ما يقول السادة العلماء فى رجل حلف بالطلاق الثلاث: أنه لا بد أن يعبد الله عز وجل عبادة ينفرد بها دون جميع الناس فى وقت تلبسه بها.

فما يفعل من العبادات؟

قال: فأتى بها إلى والدى، فكتب عليها على الفور: يأتى مكة، ويخلى له المطاف، ويطوف أسبوعا وحده، وتنحل يمينه. قال: فما بات المستفتى ببغداد.

ص: 294

فأما الحكاية المعروفة عن الشيخ عبد القادر أنه قال: قدمى هذه على رقبة كل ولى لله، فقد ساقها هذا المصنف عنه من طرق متعددة.

وأحسن ما قيل فى هذا الكلام: ما ذكره الشيخ أبو حفص السهروردى فى عوارفه: أنه من شطحات الشيوخ التى لا يقتدى بهم فيها، ولا يقدح فى مقاماتهم ومنازلهم، فكل أحد يؤخذ عليه من كلامه ويترك، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

ومن ساق الشيوخ المتأخرين مساق الصدر الأول، وطالبهم بطرائقهم، وأراد منهم ما كان عليه الحسن البصرى وأصحابه مثلا من العلم العظيم، والعمل العظيم، والورع العظيم، والزهد العظيم، مع كمال الخوف والخشية، وإظهار الذل والحزن، والانكسار، والازدراء على النفس، وكتمان الأحوال والمعارف، والمحبة والشوق ونحو ذلك - فلا ريب أنه يزدرى المتأخرين، ويمقتهم، ويهضم حقوقهم. فالأولى تنزيل الناس منازلهم، وتوفيتهم حقوقهم، ومعرفة مقاديرهم، وإقامة معاذيرهم. وقد جعل الله لكل شئ قدرا.

ولما كان الشيخ أبو الفرج بن الجوزى عظيم الخبرة بأحوال السلف، والصدر الأول، قلّ من كان فى زمانه يساويه فى معرفة ذلك. وكان له أيضا حظ من ذوق أحوالهم، وقسط من مشاركتهم فى معارفهم. كان لا يعذر المشايخ المتأخرين فى طرائقهم المخالفة لطرائق المتقدمين، ويشتد إنكاره عليهم.

وقد قيل: إنه صنف كتابا، ينقم فيه على الشيخ عبد القادر أشياء كثيرة، ولكن قد قل فى هذا الزمان من له الخبرة التامة بأحوال الصدر الأول، والتمييز بين صحيح ما يذكر عنهم من سقيمه.

فأما من له مشاركة لهم فى أذواقهم، فهو نادر النادر. وإنما يلهج أهل هذا الزمان بأحوال المتأخرين، ولا يميزون بين ما يصح عنهم من ذلك من غيره، فصاروا يخبطون خبط عشواء فى ظلماء. والله المستعان.

ص: 295

وللشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى كلام حسن فى التوحيد، والصفات والقدر، وفى علوم المعرفة موافق للسنة.

وله كتاب «الغنية لطالبى طريق الحق» وهو معروف، وله كتاب «فتوح الغيب» وجمع أصحابه من مجالسه فى الوعظ كثيرا. وكان متمسكا فى مسائل الصفات، والقدر، ونحوهما بالسنة، بالغا فى الرد على من خالفها.

قال فى كتابه «الغنية» المشهور: وهو بجهة العلو، مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء (10:35 {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ)،} (5:32 {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ)} ولا يجوز وصفه بأنه فى كل مكان، بل يقال:

إنه فى السماء على العرش، كما قال (5:20 {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)} وذكر آيات وأحاديث، إلى أن قال: وينبغى إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش.

قال: وكونه على العرش مذكور فى كل كتاب أنزل على كل نبى أرسل، بلا كيف. وذكر كلاما طويلا، وذكر نحو هذا فى سائر الصفات.

وذكر الشيخ أبو زكريا يحيى بن يوسف الصرصرى، الشاعر المشهور، عن شيخه العارف على بن إدريس: أنه سأل الشيخ عبد القادر، فقال: يا سيدى، هل كان لله ولى على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ فقال: ما كان، ولا يكون.

وقد نظم ذلك الشيخ يحيى فى قصيدته. قال الشيخ تقى الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: حدثنى الشيخ عزّ الدين أحمد بن إبراهيم الفاروقى، أنه سمع الشيخ شهاب الدين عمر بن محمد السهروردى، صاحب العوارف، قال: كنت قد عزمت على أن أقرأ شيئا من علم الكلام، وأنا متردد: هل أقرأ الإرشاد لإمام الحرمين، أو نهاية الإقدام للشهرستانى، أو كتابا آخر ذكره؟ فذهبت مع خالى أبى النجيب، وكان يصلى بجنب الشيخ عبد القادر، قال: فالتفت الشيخ

ص: 296

عبد القادر، وقال لى: يا عمر، ما هو من زاد القبر، ما هو من زاد القبر، فرجعت عن ذلك.

قال الشيخ تقي الدين: ورأيت هذه الحكاية معلقة بخط الشيخ موفق الدين ابن قدامة المقدسى رحمه الله. انتهى.

وقال ابن النجار فى تاريخه: سمعت عمر بن محمد السهروردى، شيخ الصوفية يقول: كنت أتفقه فى شبابى بالمدرسة النظامية، فخطر لى أن أقرأ شيئا من علم الكلام، وعزمت على ذلك فى نفسى من غير أن أتكلم به، واتفق أنى صليت يوم الجمعة مع عمى أبى النجيب فى الجامع، فحضر عنده الشيخ عبد القادر مسلما، فسأله عمى الدعاء لي، وذكر له أنى مشتغل بالفقه، قال: وقمت وقبلت يده، فأخذ بيدى، وقال: تب مما عزمت على الاشتغال به، فإنك تفلح، ثم سكت وترك يدى، قال: ولم يتغير عزمى عن الاشتغال، حتى تشوشت علىّ جميع أحوالى، وتكدر وقتى علىّ، فعلمت أن ذلك لمخالفة الشيخ، قال: فتبت إلى الله من ذلك اليوم، ورجعت عنه، فصلحت حالى، وطاب قلبى.

ونقلت من خط السيف بن المجد الحافظ: سمعت الشيخ الزاهد على بن سلمان البغدادى، المعروف بالخباز برباطه بالجانب الغربى من بغداد، يحكى عن الشيخ عبد القادر الجيلى، وناهيك به، فإنه صاحب المكاشفات، والكرامات التى لم تنتقل لأحد من أهل عصره، أنه قال: لا يكون ولىّ لله تعالى إلا على اعتقاد أحمد رضى الله عنه.

قال الحافظ ابن النجار: كتب إلى عبد الله بن أبى الحسن الجبالى، ونقلته من خطه قال: كان شيخنا عبد القادر الجيلى يقول: الخلق حجابك عن نفسك، ونفسك حجابك عن ربك. ما دمت ترى الخلق لا ترى نفسك، وما دمت ترى نفسك لا ترى ربك. وقال: ما ثمّ إلا خلق وخالق، فإن اخترت الخالق فقل كما قال:(77:26 {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ)} ثم قال: من ذاقه فقد عرفه،

ص: 297

فاعترضه سائل، فقال: يا سيدى، من غلبت عليه مرارة الصفراء كيف يجد حلاوة الذوق؟ قال: يتعمد قيء الشهوات من قلبه، وقال: طالبتنى نفسى يوما بشهوة من السوق، فكنت أدافعها، وأخرج من درب إلى درب، وأطلب الصحارى.

فبينا أنا أمشى إذ رأيت ورقة فأخذتها، فإذا فيها مكتوب: ما للأقوياء والشهوات؟ إنما هى للضعفاء من عبادى، ليتقووا بها على طاعتى. فخرجت تلك الشهوة من قلبى

قال: وكنت أقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البقل، وورق الخس من جانب النهر والشط، وبلغت الضائقة فى غلاء نزل ببغداد إلى أن بقيت أياما لم آكل فيها طعاما، بل كنت أتتبع المنبوذات أطعمها، فخرجت يوما من شدة الجوع إلى الشط لعلى أجد ورق الخس أو البقل، أو غير ذلك فأتقوت به. فما ذهبت إلى موضع إلا وغيرى قد سبقنى إليه وإن وجدت أجد الفقراء يتزاحمون عليه فأتركه حبا، فرجعت أمشى وسط البلد أدرك منبوذا إلا وقد سبقت إليه، حتى وصلت إلى مسجد ياسين بسوق الريحانيين

(1)

ببغداد وقد أجهدنى الضعف، وعجزت عن التماسك، فدخلت إليه وقعدت فى جانب منه وقد كدت أصافح الموت، إذ دخل شاب أعجمى ومعه خبز صافى وشواء، وجلس يأكل، فكنت أكاد كلما رفع يده باللقمة أن أفتح فمى من شدة الجوع، حتى أنكرت ذلك على نفسى: فقلت ما هذا؟ وقلت: ما ههنا إلا الله، أو ما قضاه من الموت، إذ التفت إلى العجمى فرآنى، فقال: بسم الله يا أخى، فأبيت، فأقسم علىّ فبادرت نفسى فخالفتها، فأقسم أيضا، فأجبته، فأكلت متقاصرا، فأخذ يسألنى: ما شغلك؟ ومن أين أنت؟ وبمن تعرف؟ فقلت: أنا متفقه من جيلان. فقال: وأنا من جيلان فهل تعرف شابا جيلانيا يسمى عبد القادر، يعرف بسبط أبى عبد الله الصومعى الزاهد؟ فقلت: أنا هو، فاضطرب وتغير وجهه، وقال: والله لقد وصلت إلى بغداد، ومعى بقية نفقة لى، فسألت عنك فلم يرشدنى أحد ونفذت نفقتى، ولى ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتى، إلا مما كان لك معى، وقد حلت لى الميتة،

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «مسجد يانس بسوق الرياحين» .

ص: 298

وأخذت من وديعتك هذا الخبز والشواء، فكل طيبا، فإنما هو لك، وأنا ضيفك الآن، بعد أن كنت ضيفى، فقلت له: وما ذاك؟ فقال: أمك وجهت لك معى ثمانية دنانير، فاشتريت منها هذا للاضطرار، فأنا معتذر إليك، فسكته، وطيبت نفسه، ودفعت إليه باقى الطعام، وشيئا من الذهب برسم النفقة، فقبله وانصرف

قال: وكنت أعامل بقليا كل يوم برغيف وبقل، فبقى له علىّ، فضقت، وما أقدر على ما أوفيه، فقيل لى: امض إلى المكان الفلانى، فمضيت، فوجدت قطعة ذهب، فوفيت بها البقلى. فكنت أشتغل بالعلم، فيطرقنى الحال، فأخرج إلى الصحارى، ليلا أو نهارا، فأصرخ، وأهج على وجهى، فصرخت ليلة، فسمعنى العبارون، ففزعوا، وجاءوا فعرفونى، فقالوا: عبد القادر المجنون، أفزعتنا، وكان ربما أغشى عليّ، فيغسلونى، ويحسبون أنى مت من الحال التى تطرقنى، وربما أردت الخروج من بغداد، فيقال لى: ارجع: فإن للناس فيك منفعة،

وذكر عن ابن الخشاب، قال: كنت أشتغل بالعربية، وأسمع بمجلس عبد القادر، فلا أتفرغ له، فجئت يوما فسمعته، ثم قلت: ضاع اليوم منى، فقال على المنبر: ويلك، تفضل الاشتغال بالنحو على مجالس الذكر، وتختار ذلك؟ اصحبنا، نصيرك سيبويه، فقلت: إنه يعنينى بكلامه، أو كما قال.

قال ابن النجار: وسمعت أبا محمد الأخفش يقول: كنت أدخل على الشيخ عبد القادر فى وسط الشتاء وقوة برده، وعليه قميص واحد، وعلى رأسه طاقية، والعرق يخرج من جسده، وحوله من يروحه، بالمروحة كما يكون فى شدة الحر.

وأخبار الشيخ عبد القادر كثيرة. اقتصرنا منها على هذا.

قال ابن الجوزى: توفى الشيخ عبد القادر، ليلة السبت ثامن - وقال غيره:

تاسع - ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة بعد المغرب. ودفن من وقته بمدرسته. وبلغ تسعين سنة.

وسمعت أنه كان يقول عند موته: رفقا رفقا. ثم يقول: وعليكم السلام، وعليكم السلام. أجئ إليكم، أجئ إليكم.

ص: 299

وسمعت من يحكى أنه قال عند موته: أنا شيخ كبير، ما وعدنا بهذا. قال غيره:

صلّى عليه ولده عبد الوهاب. وقبره ظاهر يزار بمدرسته ببغداد. رحمه الله تعالى.

ورثاه نصر النميرى - غداة دفنه - بقصيدة أولها:

مشكل الأمر ذا الصباح الجديد

ماله ذاك السنا المعهود

ومرامى الأبصار من كل قطر

مظلمات على النواظر سود

مطلع الشمس فيه داج كأن قد

كورت، أو أتى عليها خمود

أترى حلت المنون بمحي الدين

حقا، فما لنوره خمود؟

ما أرى الأمر غير ذاك، ولن

يوجد صبر ومثله مفقود

ذو المقام العلى فى الزهد

لا ينكر قول المحب فيه الحسود

والفقيه الذى تعذر أن

يلقى له فى الورى جميعا نديد

تترامى إليه فى العلم بالله

وبالحكم فى الفتاوى الوفود

معرض الطرف والضمير عن

الدنيا تصدى لوصله وتحيد

مخلص فى جميع أعماله لله

ما إن عليه فيها مزيد

لم يزغ عن طريقة السلف

الصالح والمقتفى بهم مسعود

ورع كامل، وزهد صحيح

وتقى وافر، وعهد وكيد

وكلام يروق كالدر ناطقه

بأعناقها الحسان الغيد

أو كنور الربيع أبداه للإبصار

بالأبرقين روض مجود

تخشع القلب عنده، ويظل الدمع

يجرى، وتقشعر الجلود

واعتقاد مع غيره ليس يرضى

عملا من عبادة المعبود

يلتقى النجح ملتقيه، ويعطى

عنده غاية المراد المريد

حال من دونه الحمام، فللدين

خمول، وللعلى تبديد

ولعمرى لقد مضى، وهو عند الله

والناس كلهم محمود

طيب الذكر والأحاديث لم يدنس

بلؤم رداؤه والبرود

ص: 300

شكت المكرمات لما تشكى ومضى

إذ مضى التقى والجود

هذه نكبة تساوى قريب الناس فى

شرب كأسها والبعيد

بكت الأرض والسموات فيها أسفا

واعترى النسيم ركود

وقليل إن أضحت عندها الأرض

بما فوق منكبيها تميد

مات من كانت الأقاليم تسقى

الغيث أغوارها به والنجود

ولو أن النفوس تفدى لما مات

ومنا على الثرى موجود

سيد الأولياء فى الشرق والغرب

وبحر الفضائل المورود

وذكر باقى القصيدة. وله فيه مرثية أخرى.

قرأت على أبى العباس أحمد بن محمد بن سلمان الحنبلى ببغداد: أخبركم أبو الحسن على بن ثامر بن حصين، أخبرنا أبو طالب عبد اللطيف بن محمد القطيعى ح وقرأت على أبى الفضل محمد بن إسماعيل بن الحموى بدمشق: أخبركم أبو إسحاق إبراهيم بن على الواسطى، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الفقيه وأبو طالب بن القطيعى، قال: أخبرنا أبو محمد عبد القادر بن أبى صالح الجيلى، أخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن بن أحمد الباقلانى، أخبرنا أبو على الحسن بن أحمد بن شاذان، أخبرنا أحمد - يعنى ابن سلمان - النجاد، حدثنا الحسن - يعنى ابن مكرم - حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا يونس عن الزهرى عن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضى الله عنه، قال:«قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا أراد سفرا إلا يوم الخميس» .

‌135 - أحمد بن عمر

بن الحسين بن خلف القطيعى، الفقيه، الواعظ، أبو العباس.

ولد سنة اثنتى عشرة وخمسمائة تقريبا.

سمع الحديث بنفسه - بعد ما كبر - من عبد الخالق بن يوسف، والفضل بن

ص: 301

سهل الأسفرايني، وأبى منصور القزاز، وابن ناصر الحافظ، وغيرهم، وتفقه على القاضى أبى يعلى ابن القاضى أبى خازم، ولازمه حتى برع فى الفقه، وأفتى وناظر، ووعظ، ودرس بمدرسة ابن البل بالريان، ووعظ بها أيضا، وأشغل الطلبة، وأفاد.

قال أبو الفضل بن شافع: كان فقيها مفتيا، ذكريا فطريا، قد تأدب، وقرأ التفسير، ووعظ. وكان اعتقاده جيدا.

وقال ابن النجار: برع فى الفقه، وتكلم فى مسائل الخلاف. وكان حسن المناظرة، جريئا فى الجدال، ويعظ الناس على المنبر.

توفى يوم الأربعاء ثامن عشر رمضان سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ودفن بالحلية

(1)

شرقى بغداد، وهو والد أبى الحسن القطيعى، صاحب التاريخ، ولم يسمع من والده هذا إلا حديثا واحدا، وذكر أن له مصنفات كثيرة.

قلت: منها: كتاب «النحول، فى أسباب النزول» .

‌136 - هبة الله بن أبى عبد الله

بن كامل بن حبيش البغدادى، الصوفى، الفقيه أبو على.

سمع الحديث من القاضى أبى بكر بن عبد الباقى، وغيره. وتفقه على أبى يعلى بن القاضى، وتقدم فى رباط بدرزيحان على جماعة المتصوفة. وكان من أهل الدين

وتوفى فى المحرم سنة ثلاث وستين وخمسمائة. ودفن بمقبرة أحمد، قريبا من بشر الحافى.

وذكره ابن الجوزى، وابن القطيعى.

‌137 - سعد الله بن نصر

بن سعيد، المعروف بابن الدجاجى، وبابن الحيوانى، الفقيه الواعظ المقرئ الصوفى، الأديب أبو الحسن، ويلقب بمهذب الدين.

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «بالجلبة»

ص: 302

ولد فى أول رجب، سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.

وقرأ بالروايات على أبى الخطاب بن الجراح، وأبى منصور الخياط، وسمع منهما، ومن أبى الخطاب الكلوذانى، وأبى الحسن بن العلاف، وأبى القاسم بن بيان، وابن الطيورى، وأبى الغنائم النرسى، وغيرهم. وتفقه على أبى الخطاب حتى برع.

وقد روى عنه كتابه «الهداية» تصنيفه، وقصيدته فى السنة وغيرها.

وروى عن ابن عقيل كتاب «الانتصار لأهل السنة والحديث» .

قال ابن الخشاب: هو فقيه، واعظ حسن الطريقة، سمعت منه.

قال ابن الجوزى: تفقه، وناظر، ودرس، ووعظ. وكان لطيف الكلام، حلو الإيراد، ملازما لمطالعة العلم، إلى أن مات.

وقال ابن نقطة: شيخ فاضل صحيح السماع، حدثنا عنه جماعة من شيوخنا.

وكان ثقة.

وقال صدقة بن الحسين فى تاريخه: كان شيخا حسنا، تفقه على أبى الخطاب وكان من أصحاب أبى بكر الدينورى. وكان يعظ، ويقرئ القرآن، ويسمع الحديث.

قال ابن النجار: كان من أعيان الفقهاء الفضلاء، وشيوخ الوعاظ النبلاء، مليح الوعظ، حسن الإيراد، حلو العبارة، حسن النثر والنظم. وكان يخالط الصوفية، ويحضر معهم سماع الغناء. وكان من ظراف المشايخ.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين المقدسى؟ فقال: كان شيخا حسنا، من فقهاء أصحابنا ووعاظهم، صحب أبا الخطاب، وابن عقيل، وروى عنهما، سمعنا عليه.

قال ابن الجوزى: أنبأنا سعد الله بن نصر، قال: كنت خائفا من الخليفة لحادث نزل، فأغفيت، فرأيت فى المنام كأنى فى غرفة أكتب شيئا، فجاء رجل فوقف بإزائى، وقال: اكتب ما أملى عليك، وأنشد:

ص: 303

ادفع بصبرك حادث الأيام

وترج لطف الواحد العلام

لا تيأسن وإن تضايق كربها

ورماك ريب صروفها بسهام

وله تعالى بين ذلك فرجة

تخفى عن الأبصار والأوهام

كم من نجا من بين أطراف القنا

وفريسة سلمت من الضرغام

قال ابن الجوزى: وسئل فى مجلس وعظه - وأنا أسمع - عن أخبار الصفات؟ فنهى عن التعرض لها، وأمرنا بالتسليم، وأنشد:

أبى العاتب الغضبان يا نفس أن يرضى

وأنت التى صيرت طاعته فرضا

فلا تهجرى من لا تطيقين هجره

وإن هم بالهجران خديك والأرضا

قال ابن القطيعى: وأنشدنى أحمد بن أبى السرايا، قال: أنشدنى سعد الله ابن الدجاجى لنفسه:

ملكتم مهجتى بيعا ومقدرة

فأنتم اليوم أغلالى وأغلالى

علوت فخرا ولكنى ضنيت هوى

فأنتم اليوم أعلالى وأعلالى

وزاد غير ابن القطيعى فى روايته بيتا ثالثا:

أوصى لى البين أن أشقى بحبكم

فقطع البين أوصالى وأوصالى

ومن شعره أيضا رحمه الله:

لى لذة فى ذلتى وخضوعى

وأحب بين يديك سفك دموعى

وتضرعى فى رأى عينك راحة

لى من جوى قد كنّ بين ضلوعى

ما الذل للمحبوب فى حكم الهوى

عار، ولا جور الهوى ببديع

هبنى أسأت، فأين عفوك سيدى

عمن رجاك لقلبه الموجوع؟

جد بالرضى من عطف لطفك واغنه

بجمال وجهك عن سؤال شفيع

قال ابن القطيعى: كان ابن الدجاجى، قد ناظر ووعظ، وأفتى وصنف، له فضل ودين، وخاطر بغدادى. بلغنى أنه حضر بالديوان العزيز، وجماعة من الفقهاء، فاستدل شخص بحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم، فقال ابن البغدادى

ص: 304

الحنفى: هذا الحديث لا يصح عن النبى صلى الله عليه وسلم، فقال الخصم:

قد أخرجه البخارى ومسلم، فقال ابن البغدادى: قد طعن فيهما أبو حنيفة، فقال ابن الدجاجى: هل كان مع أبى حنيفة ملحمة؟.

وقد قرأ بالروايات، وحدث، وسمع منه خلق كثير.

وروى عنه ابنه أبو نصر محمد، وابن الأخضر، وابن سكينة، والشيخ موفق الدين، وابن عماد الحرانى، والأنجب الحمامى، وغيرهم.

توفى آخر نهار يوم الاثنين لاثنتى عشرة خلت من شعبان سنة أربع وستين وخمسمائة، ودفن من الغد إلى جانب رباط الزوزنى بمقبرة الرباط.

قال ابن الجوزى: دفن هناك إرضاء للصوفية؛ لأنه أقام عندهم مدة فى حياته فبقى على ذلك خمسة أيام، وما زال الحنابلة يلومون ولده على هذا، يقولون: مثل هذا الرجل الحنبلى أى شئ يصنع عند الصوفية؟ فنبشه بعد خمسة أيام بالليل.

قال: وكان أوصى أن يدفن عند والديه. ودفن عليهما بمقبرة الإمام أحمد رضى الله عنه.

‌138 - محمد بن المبارك

بن الحسين بن إسماعيل البغدادى، الفقيه القاضى أبو بكر بن أبى البركات، المعروف بابن الحضرى.

ذكره ابن الجوزى، وقال: صديقنا.

ولد سنة عشر وخمسمائة.

وقرأ القرآن، وسمع الحديث من أبى عبد الله يحيى بن البناء، وأبى بكر ابن عبد الباقى، وغيرهم. وتفقه على القاضى أبى يعلى، وناظر. وولى القضاء بقرية عبد الله من واسط.

وذكر القطيعى: أنه روى عن أبى بكر المزرفى، وأبى الحسن علي بن محمد الهروى، وأبى جعفر السمنانى، وأبى منصور بن خيرون، وغيرهم.

وسمع منه بعض الطلبة، وناظر، ودرس وأفتى.

ص: 305

قال: وجرى ذكره يوما عند الوزير أبى المظفر بن يونس - وعنده الفقهاء والعلماء على اختلاف مذاهبهم - فأثنى عليه خيرا. فاستكثر بعض الحاضرين ذلك الثناء، فقال الوزير: والله لقد كان أدين منى؛ فإنه كان يصلى بمسجده، ثم يقرأ عليه القرآن والفقه من بكرة إلى وقت الضحى، ثم يدخل إلى منزله فيتشاغل بالعلم إلى أن يعود إلى مسجده، دائما لا يقطع زمانه إلا بطاعة.

توفى رحمه الله تعالى فجأة فى شهر رجب سنة أربع وستين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الزرادين من باب الأزج.

وقد روى عنه ابن الجوزى مناما رآه لشيخه ابن ناصر. وقد ذكرناه فى ترجمته

‌139 - عثمان بن مرزوق

بن حميد بن سلام القرشى، الفقيه، العارف الزاهد، أبو عمرو. نزيل الديار المصرية.

صحب شرف الإسلام عبد الوهاب بن الجيلى بدمشق، وتفقه واستوطن مصر وأقام بها إلى أن مات، وأفتى بها ودرس وناظر، وتكلم على المعارف والحقائق.

وانتهت إليه تربية المريدين بمصر. وانتمى إليه خلق كثير من الصلحاء، وأثنى عليه المشايخ، وحصل له قبول تام من الخاص والعام، وانتفع بصحبته خلق كثير.

وكان يعظم الشيخ عبد القادر، ويقال: إنه اجتمع به هو وأبو مدين بعرفات ولبسا منه الخرقة، وسمعا منه جزءا من مروياته. وسمع الحديث ورواه.

حدث عنه أبو الثناء محمود بن عبد الله بن مطروح المقرئ الجيلى، وأبو الثناء أحمد بن ميسرة بن أحمد بن موسى بن غنام الغدرانى الحنبلى المصرى الكامخى.

وكانا صالحين. وكان الأول مقرئا، حسن التلفظ بالقرآن. وكان الثانى كثير الذكر والتسبيح. حدث عنه المنذرى. قرأ على الأول القرآن. وكان الشيخ أبو عمرو له كرامات، وأحوال ومقامات، وكلام حسن على لسان أهل الطريقة.

فمن ذلك قوله: الطريق إلى معرفة الله وصفاته: الفكر، والاعتبار بحكمه.

وآياته، ولا سبيل للألباب إلى معرفة كنه ذاته. ولو تناهت الحكم الإلهية فى

ص: 306

حد العقول، وانحصرت القدر الربانية فى درك العلوم. لكان ذلك تقصيرا فى الحكمة، ونقصا فى القدرة، لكن احتجبت أسرار الأزل عن العقول، كما احتجبت سبحات الجلال عن الأبصار. فقد رجع معنى الوصف فى الوصف، وعمى الفهم عن الدرك، ودار الملك فى الملك، وانتهى المخلوق إلى مثله، واشتد الطلب إلى شكله (108:20 {وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً)} .

فجميع المخلوقات من الذرة إلى العرش سبل متصلة إلى معرفته، وحجج بالغة على أزليته، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته، والعالم كله كتاب يقرأ حروف أشخاصه، المتبصرون على قدر بصائرهم.

ومن كلامه أيضا: من لم يجد فى قلبه زاجرا فهو خراب. ومن عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه. ومن لم يصبر على صحبة مولاه ابتلاه بصحبة العبيد.

ومن انقطعت آماله إلا من مولاه فهو عبد حقيقة. والدعوى من رعونة النفس، واستلذاذ البلاء تحقق بالرضا، وحلية العارف الخشية والهيبة. وإياكم ومحاكاة أصحاب الأحوال قبل إحكام الطريق، وتمكن الأقدام؛ فإنها تقطع بكم.

ودليل تخليطك صحبتك للمخلطين. ودليل وحشتك أنسك بالمستوحشين.

وكان يتمثل بهذه الأبيات:

يا غارس الحب بين القلب والكبد

هتكت بالصّد ستر الصبر والجلد

يا من تقوم مقام الموت فرقته

ومن يحل محل الروح فى الجسد

قد جاوز الحب فى أعلى مراتبه

فلو طلبت مزيدا منه لم أجد

إذا دعى الناس قلبى عنك مال به

حسن الرجاء، فلم يصدر ولم يرد

إن ترضني لم أرد ما دمت لى بدلا

وإن تغيرت لم أسكن إلى أحد

وحكى عن الشيخ أبى إسحاق إبراهيم بن مرسيل الضرير، الفقيه الشافعى الزاهد رحمه الله تعالى، قال: كان الشيخ أبو عمرو بن مرزوق، من أوتاد مصر.

كان شائع الذكر، ظاهر الكرامات. زاد النيل سنة زيادة عظيمة، كادت مصر

ص: 307

تغرق، وأقام على الأرض، حتى كاد وقت الزرع يفوت، فضج الناس بالشيخ أبى عمرو بن مرزوق بسبب ذلك، فأتى إلى شاطئ النيل، وتوضأ منه، فنقص فى الحال نحو ذراعين، ونزل عن الأرض حتى انكشفت، وزع الناس فى اليوم الثانى.

قال: وفى بعض السنين لم يطلع النيل البتة، وفات أكثر وقت زراعته.

وغلت الأسعار وظن الهلاك، وضجوا بالشيخ أبى عمرو بن مرزوق، فجاء إلى شاطئ النيل، وتوضأ فيه بإبريق كان مع خادمه، فزاد النيل فى ذلك اليوم.

وتعاقبت زيادته إلى أن انتهت إلى حده. وبلغ الله به المنافع، وبارك فى زرع الناس تلك السنة.

قرأت بخط الشيخ ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن الحنبلى قال: حكى لى الشيخ زين الدين علىّ بن نجا قال: زرت الشيخ عثمان بن مرزوق - بمصر - فقال: يجئ أسد الدين شيركوه إلى هذه البلاد ويروح، ولا يحصل له شئ، ثم يعود يجئ ويروح، ولا يأخذ البلد، ثم يجئ فيأخذ - ما أدرى قال فى الثالثة أو الرابعة؟ - فيملك مصر، فجرى الأمر كما ذكر.

فقلت له: يا سيدى، من أين لك هذا؟ فقال: والله يا ولدى، ما أعلم الغيب، وإنما لى عادة: أن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه فى بعض الجمع، فيخبرنى، قلت: لعله أراد فى المنام.

قال الناصح: وسمعت خادم الشيخ عثمان بن مرزوق، وكان يعرف بسيف السنة، وعليه آثار الصلاح، وقال له زين الدين بن نجا: أتعرف الأبيات التى أنشدت تلك الليلة بحضرة الشيخ عثمان بن مرزوق، فسمع وبكى؟ قال: نعم، قال: قلها، فقال:

فديت من واصلنى محتفيا فى وصله

كنا على وعد فما كدره بمطله

وعاد عندى كله مشتغلا بكله

ما خلت أن يصلح مثلى فى الهوى لمثله

ص: 308

وإنما جاد علىّ منعما بفضله

ولم أكن أهلا له لكنه من أهله

وذكر الناصح فى ترجمة ولد الشيخ أبى عمرو بن مرزوق سعد - وسنذكره فى موضعه إن شاء الله تعالى -: أن والده - يعنى الشيخ: أبا عمرو - كان يذكر عنه أنه كان يقول فى أفعال العباد: إنها غير مخلوقة.

وكذا حكى ابن القطيعى فى تاريخه، قال: حكى لى أبو محمد بن سعيد البزار التاجر، قال: كنت بمصر ووقع بها فتنة بين والد الشيخ سعد - يعنى عثمان ابن مرزوق - وبين الكيزانى، وتلك الفتنة كانت سبب قدوم سعد إلى بغداد، فقلت له: ما كانت؟ فقال: كان عثمان بن مرزوق يقول: أفعال العباد قديمة، وكان له بمصر قبول، وبمصر يومئذ رجل آخر له قبول، يعرف بابن الكيزانى، أبو عبد الله يقول: ليست قديمة، فثارت الفتن، فقالوا: طريق الحق أن تكتب إلى بغداد فى ذلك، فكتبوا إلى علماء بغداد، فأفتوهم على اختلاف مذاهبهم بحدثها، فقال سعد - يعنى: ابن الشيخ عثمان بن مرزق -: الآن قد شككت فى هذا الأمر، والمكتوب لا يقلد، ولا بد من المضي إلى بغداد، وأسمع مقالة العلماء، وأعود أخبر أبى بذلك، فدخل بغداد، وسمع مقالة العلماء، فمات أبوه بمصر وبلغه وفاته، فأقام ببغداد.

قلت: وذكر أبو المظفر سبط ابن الجوزى فى مرآة الزمان: أن أبا عبد الله ابن الكيزانى كان يقول: إن أفعال العباد قديمة، فحينئذ فقد اختلف فى نسبة هذا القول: هل هو إلى ابن الكيزانى، أو إلى ابن مرزوق، ولم يثبت لنا من وجه صحيح عن ابن مرزوق أنه كان يقول ذلك، ولعل ذلك ألزموه به؛ لقوله:

إن اللفظ بالقرآن غير مخلوق، وإن هذا القول يقوله طائفة من أصحابنا، وربما نسبوه إلى الإمام أحمد.

والصحيح الصريح عن أحمد: أنه كان يبدع قائل ذلك، ولعله لما التزم هذا القول الضعيف طرده فى سائر الأفعال. والله أعلم بحقيقة الحال.

ص: 309

ثم وجدت لأبى عمرو بن مرزوق مصنفات فى أصول الدين، ورأيته يقول:

إن الإيمان غير مخلوق، أقواله وأفعاله، وإن حركات العباد مخلوقة، لكن القديم يظهر فيها كظهور الكلام فى ألفاظ العباد.

وقال الشيخ تقى الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى: وثمّ جماعات منتسبون إلى الشيخ أبى عمرو بن مرزوق، ويقولون أشياء مخالفة لما كان الشيخ أبو عمرو عليه، وهذا الشيخ كان ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد، وكان من أصحاب الشيخ عبد الوهاب ابن الشيخ أبى الفرج، وهؤلاء ينتسبون إلى مذهب الشافعى، ويقولون أقوالا مخالفة لمذهب الشافعى وأحمد، بل ولسائر أئمة المسلمين، ولشيخهم الشيخ أبى عمرو. وهذا الشيخ أبو عمرو: شيخ من شيوخ أهل العلم والدين، وله أسوة أمثاله، وإذا قال قولا قد علم أن قول أحمد والشافعى بخلافه، وجب تقديم قول الشافعى وأحمد على قوله، مع دلالة الكتاب والسنة على قول الأئمة، فكيف إذا كان القول مخالفا لقوله، ولقول الأئمة، وللكتاب والسنة؟

وذلك مثل قولهم: لا نقطع، ولا نقول قطعا، ويقولون: نشهد أن محمدا رسول الله، ولا نقطع ونقول: السماء فوقنا، والأرض تحتنا، ولا نقطع بذلك، ويروون فى ذلك أثرا عن علىّ، أو حديثا مرفوعا، وهو من الكذب المفترى.

قال: وأصل شبههم: أن السلف كانوا يستثنون فى الإيمان، فيقول أحدهم:

أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، وعلى ذلك كان أهل الثغر - عسقلان، وما يقرب منها - فإنه كان قد سكنها محمد بن يوسف الفريابى، وكان يأمر بذلك، وكان شديدا على المرجئة، وعامة هؤلاء القوم جيران عسقلان، ثم صار كثير منهم يستثنى فى الأعمال الصالحة، فيقول: صليت إن شاء الله، وهو يخاف أن لا يكون أتى بالصلاة كما أمر، ولا تقبلت منه، فيستثنى خوفا من ذلك.

وصنف فى ذلك بعض أهل الثغر مصنفا، وشيخهم أبو عمرو بن مرزوق،

ص: 310

غايته أن يتبع هؤلاء، ولم يكن الرجل ولا أحد قبله من أهل العلم يمتنعون أن يقولوا: لما يعلم أنه موجود: هذا موجود قطعا، لكن لما مات أحدث بعض أتباعه الاستثناء فى كل شئ، حتى فى الإخبار عن الماضى والحاضر.

وقد نقل عن بعض الشيوخ: أنه كان يستثنى فى كل شئ، كأنه - والله أعلم - فى الخبر عن الأمور المستقبلة، لقوله تعالى (27:48 {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ)} وقول النبى صلى الله عليه وسلم: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» وصاروا يمتنعون عن التلفظ بالقطع، مع أنهم محقون بقلوبهم أن محمدا رسول الله، ولا يشكون فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن يكرهون لفظ القطع. وهذا جهل منهم. والواجب عليهم موافقة جماعة المسلمين.

فإن قول القائل: أقطع بذلك، مثل قوله: أشهد بذلك وأجزم وأعلم بذلك وأطال الشيخ الكلام فى ذلك.

توفى الشيخ أبو عمرو بن مرزوق بمصر سنة أربع وستين وخمسمائة. وقد جاوز السبعين. ودفن بالقرافة، شرقى قبر الشافعى رضى الله عنه، وقبره ظاهر يزار، رحمه الله.

‌140 - أحمد بن صالح

بن شافع بن صالح بن حاتم بن أبى عبد الله الجيلى، الحافظ أبو الفضل بن أبى المعالى بن أبى محمد، مفيد العراق. وقد تقدم ذكر أبيه وجده.

ولد فى ثامن عشر ذى القعدة، سنة عشرين وخمسمائة.

وقرأ القرآن بالروايات على أبى محمد سبط الخياط وغيره، وبكر به أبوه فى سماع الحديث، فأسمعه من أبى غالب بن البناء، وأبى الحسين بن الفراء، والقاضى أبى بكر الأنصارى، وأبى القاسم الحريرى، وأبى البدر الكرخى، وأبى الحسن ابن عبد السلام، ووالده صالح بن شافع، وخلق كثير.

وطلب هو بنفسه، ولازم أبا الفضل بن ناصر الحافظ، حتى قرأ عليه أكثر

ص: 311

ما كان عنده، واختص بصحبته وكان يقتفى أثره، ويسلك مسلكه، ثم أكثر الأخذ عن أصحاب ابن البطر، وطراد، وطبقتهما.

وبالغ فى الطلب حتى سمع من أصحاب ابن بيان، وابن نبهان، ثم من أصحاب ابن الحصين، وابن كادش، وطبقتهما، ولم يزل مشتغلا بالطلب والسماع، إلى أن مات. وكتب بخطه الكثير، وحصل الأصول الحسان، ولم يحدث إلا باليسير؛ لأنه مات قبل أوان الرواية.

قال ابن النجار: كان حافظا، متقنا، ضابطا محققا، حسن القراءة، صحيح النقل، ثبتا حجة، نبيلا ورعا، متدينا تقيا، متمسكا بالسنة على طريقة السلف. وصنف تاريخا على السنين، بدأ فيه بالسنة التى توفى فيها أبو بكر الخطيب، وهى سنة ثلاث وستين وأربعمائة، إلى بعد الستين وخمسمائة، يذكر السنة وحوادثها، ومن توفى فيها، ويشرح أحوالهم. ومات ولم يبيضه.

وقد نقلت عنه من هذا الكتاب كثيرا، يعنى ابن النجار بهذا الكتاب:

تاريخه المذيل على تاريخ بغداد.

قلت: وأنا فقد نقلت من تاريخ ابن شافع فى هذا الكتاب فوائد مما وقع لى منه، فإنه وقع لى منه عدة أجزاء من منتخبه لابن نقطة.

وقد ذكره ابن نقطة فى كتابه «الاستدراك» ونعته بالحافظ. وقال: كان موصوفا بحسن القراءة للحديث. وكان صالحا ثقة مأمونا. وقال فى موضع آخر منه: هو متقن.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين المقدسى؟ فقال: كان حافظا ثقة يقرأ الحديث قراءة حسنة مبينة صحيحة بصوت رفيع إمام فى السنة. وكان شاهدا معدلا. بلغنى أنه دعى إلى الشهادة للخليفة بما لا يجوز، فامتنع من الشهادة، وطرح الطيلسان، وقال: مالكم عندنا إلا هذا.

قال ابن النجار: أنشدنى عبد الوهاب بن على الأمين أنشدنى أبو الفضل ابن شافع:

ص: 312

فى زخرف القول تزيين لباطله

والقول قد يعتريه سوء تعبير

يقول: هذا مجاج النحل تمدحه

وإن تعب قلت: هذا قيء زنبور

مدحا وذما وما جاوزت وصفهما

حسن البيان يرى الظلماء كالنور

توفى يوم الأربعاء بعد الظهر ثالث شعبان سنة خمس وستين وخمسمائة.

وكان مرضه البرسام والسرسام ستة أيام، وأسكت منها ثلاثة أيام، وشدّ تابوته بالحبال، وصلّى عليه خلق كثير. ودفن على أبيه فى دكة قبر الإمام أحمد رضى الله عنه.

‌141 - علي بن بردوان

بن زيد بن الحسين

(1)

بن سعيد بن عصمة بن حمير الكندى البغدادى، النحوى الأديب، شمس الدين أبو الحسن، ابن عم الشيخ تاج الدين أبى اليمن زيد.

سمع ببغداد. وقرأ وكتب الطباق بخطه على يحيى بن البناء وغيره ويغلب على ظنى: أنى وقفت على قراءته للهداية على الشيخ عبد القادر.

وقرأ النحو واللغة على ابن الجواليقى. ثم قدم دمشق، وأدرك شرف الإسلام ابن الحنبلى وصحبه. وكان فاضلا أديبا، حسن الخط. كتب بخطه كثيرا من الأدب. ومن دواوين العرب، وحظى عند السلطان نور الدين.

قرأت بخط أبى الفرج بن الحنبلى: كان عارفا بالنحو واللغة. قيل: كان أعلم بها من ابن عمه أبى اليمن، ويقول الشعر، وهو حنبلى من أهل السنة. وكتب من الدقائق والكلام الوعظى الكثير، وطلب من شرف الإسلام أن يجلس بمدرسته للوعظ، فأذن له فى ذلك، فغلبه الحياء، فلم يتمكن من الإيراد، ثم نزل وترك الوعظ

قلت: توفى سنة خمس وستين وخمسمائة بدمشق.

ومن شعره.

هتك الدمع بصوت هتف

كلما أضمرت من سر خفىّ

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «على بن ثروان بن زيد بن الحسن»

ص: 313

يا أخلائى على الخيف، أما

تتقون الله فى حث المطىّ

وله أيضا:

درت عليك غوادى المزن يا دار

ولا عفت منك آيات وآثار

دعا من لعبت أيدى الغرام به

وساعدتها صبابات وتذكار

وقصد بعض الأكابر مرة فلم يصادفه، فكتب على باب داره حفرا بسكين:

حضر الكندى مغناكم فلم

يركم من بعد كد وتعب

لو رآكم لتجلى همه

وانثنى عنكم بحسن المنقلب

‌142 - محمد بن حامد

بن حمد بن عبد الواحد بن على بن أبى مسلم الأصبهانى، الواعظ الحنبلى، أبو سعيد. ويعرف بسرمس

سمع أبا مسعود محمد بن عبد الله السودرجانى، وأبا مطيع المصرى، والدرنى، ويحيى بن منده، وجماعة. وببغداد أبا القاسم بن السمرقندى.

وكتب بخطه، وحدث ببغداد وغيرها.

وكان من أعيان الوعاظ. وله القبول التام عند العوام.

توفى فى سلخ شعبان سنة ست وستين وخمسمائة. ودفن بمقبرة برديان فى جوار قبر الإمام أبى مسعود الرازى.

‌143 - النفيس بن مسعود

بن أبى سعد بن على، المعروف بأبى صعوه السلامى، الفقيه أبو محمد.

قرأ القرآن. وتفقه على أبى الفتح بن المنى، ووعظ.

واحتضر فى شبابه، فتوفى يوم الثلاثاء تاسع شوال سنة ست وستين وخمسمائة وصلّى عليه عند جامع السلطان بالجانب الشرقى. ودفن بمقبرة الإمام أحمد رضى الله عنه.

وذكره ابن الجوزى، وقال المنذرى: تفقه على ابن المنى، وتكلم فى مسائل الخلاف وسمع من غير واحد.

ص: 314

قال: و «صعوة» بفتح الصاد والعين المهملتين وبعدها تاء تأنيث - لقب لجده مسعود.

‌144 - فتيان بن مياح

بن حمد بن سليمان بن المبارك بن الحسين السلمى الحرانى الضرير، المقرئ الفقيه أبو الكرم.

قال ابن القطيعى فى تاريخه: ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة على ما بلغنى.

قلت: وهذا بعيد. ولعله سنة ثلاث عشرة.

قال: وقدم بغداد، وسمع الحديث من أبى البركات عبد الوهاب الأنماطى، وصالح بن شافع، وأبى زيد الحموى، وغيرهم. وتفقه بمذهب الإمام أحمد، وعاد إلى بلده فأفتى ودرس به إلى أن مات. سمع منه أبو المحاسن القاضى القرشى

قلت: كان بارعا فى علم القراءات. وله مصنف فى علم التجويد.

وقال: الشيخ فخر الدين ابن تيمية فى أول تفسيره، وقد ذكر شيوخه فى العلم فأول ما قال: كنت برهة مع شيخنا الإمام الورع أبى الكرم فتيان بن مياح وكان طويل الباع فى علم اللغة والإعراب، مبسوطا فى الإغراق فيهما، والإعراب يشق الغبار فى علم القراءات، ومعاناة المعانى فهما، واللغات، وأحكام فهم الأحكام والوقوف على موارد الحلال والحرام. وعده أبو الفتح بن عبدوس من شيوخه وشيوخ حران وفقهائها وعلمائها

قال ابن القطيعى: حدث فتيان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. ودخلت حران سنة ست وستين وخمسمائة، فسألت عنه؟ فقالوا: توفى عن قريب رحمه الله

قلت: وفيه أيضا نظر؛ فإن الشيخ فخر الدين ابن تيمية ذكر أنه لازم أبا الحسن بن عبدوس بعد موت فتيان هذا. وهذا يشعر بتقديم وفاته على وفاة ابن

ص: 315

عبدوس، ويمكن أنه أراد أن ملازمته لابن عبدوس كانت بعد ملازمته لفتيان، لا بعد موته. والله أعلم.

‌145 - عبد الله بن أحمد

بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن الخشاب البغدادى، اللغوى النحوى، المحدث، الإمام أبو محمد بن أبى الكرم

ولد سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ظنا.

وقرأ القرآن بالروايات. وسمع الحديث من أبى القاسم الربعى، وأبى الغنائم النرسى، ويحيى بن منده. وطلب بنفسه، وقرأ الكثير على ابن الحصين، وأبى العز ابن كادش، وأبى غالب بن البناء، وأبى القاسم الحريرى، وأبى بكر بن عبد الباقى وأبى القاسم بن السمرقندى، والمزرفى، وأبى الحسن بن الزاغونى، وأبى الحسين ابن الفراء، وخلق من الطبقة، ولم يزل يقرأ حتى قرأ على أقرانه.

وقد عده ابن نقطة فى أول استدراكه من الحفاظ الذين يعتمد على ضبطهم، وقرنه مع السلفى وأبى العلاء، وابن عساكر. وأخذ اللغة والعربية عن أبى بكر ابن حوامرد القطان وأبى الحسن الفصيحى، وأبى الحسن المحوّلى، وأبى منصور الجواليقى، وأبى السعادات بن الشجرى.

وقرأ الحساب والهندسة على أبى بكر محمد بن عبد الباقى، والفرائض على أبى بكر المزرفى. وشارك فى أنواع العلوم، وبرع فى كثير منها.

قال ابن الجوزى: انتهى إليه معرفة النحو واللغة.

وقال الشيخ فخر الدين ابن تيمية: أكثر التردد إلى مجلس شيخنا العلامة حجة الإسلام أبى محمد بن الخشاب لتحصيل فنى النحو واللغة، وما بلغ أحد من أبناء عصره فيهما ما بلغه.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين المقدسى؟ فقال: كان إماما فى عصره فى علم العربية، والنحو واللغة. وكان علماء أهل عصره يستفتونه فيهما، ويسألونه عن مشكلاتها. وحضرت كثيرا من مجالسه للقراءة عليه، ولكن لم أتمكن من الإكثار

ص: 316

عليه؛ لكثرة الزحام عليه. وكان حسن الكلام فى السنة وشرحها.

وقال ابن النجار: كان أعلم أهل زمانه بالنحو، حتى يقال: إنه كان فى درجة أبى على الفارسى.

قال: وكانت له معرفة بالحديث واللغة، والمنطق والفلسفة والحساب والهندسة وما من علم من العلوم إلا كانت له فيه يد حسنة.

وقال ياقوت الحموى: رأيت قوما من نحاة بغداد يفضلونه على أبى على الفارسى قال: وسمع الحديث الكثير، وتفقه فيه، وعرف صحيحه من سقيمه، وبحث عن أحكامه، وتبحر فى علومه.

وذكره ابن السمعانى فى كتابه، فقال: له معرفة تامة بالحديث، ويقرأ الحديث قراءة سريعة، حسنة صحيحة مفهومة، ويديم القراءة من غير فتور سمع الكثير بنفسه وجمع الأصول الحسان من أى وجه اتفق له، وكان يضنّ بها.

قال: وسمعت أبا شجاع البسطامى يقول: قرأ على ابن الخشاب غريب الحديث المقتفى قراءة ما سمعت قبلها بمثلها فى الصحة والسرعة، وحضر جماعة من الفضلاء لسماعها. وكانوا يريدون أن يأخذوا عليه فلتة لسان، فما قدروا على ذلك.

قال ابن السمعانى: وكتبت عنه جزءا من حديث أبى الحسن بن مخلد كان يرويه عن الربعى حدثنا بلفظه. وهذا كله وابن السمعانى إنما رآه وله نحو الأربعين سنة.

قال ابن القطيعى فى تاريخه: سمعت ابن الأخضر الحافظ يقول: سمعت أبا محمد ابن الخشاب يقول: إنّي متقن فى ثمانية علوم، ما يسألنى أحد عن علم منها، ولا أجد لها أهلا.

وذكر غيره وعن ابن الأخضر، قال: دخلت عليه يوما وهو مريض وعلى صدره كتاب ينظر فيه، قلت: ما هذا؟ قال: ذكر ابن جنى مسألة فى النحو، واجتهد أن يستشهد عليها ببيت من الشعر فلم يحضره، وإنّي لأعرف على هذه المسألة سبعين بيتا من الشعر، كل بيت من قصيدة تصلح أن يستشهد به عليها.

ص: 317

ووصفه جماعة: بأنه كان عالما بالتفسير والحديث، والفرائض والحساب والقراءات.

قال ابن القطيعى: كان الغالب على علومه علم النحو وضروبه وأنواعه، وما يتعلق به. وانتهى إليه معرفة علوم جمة، أنهاها وشرح الكثير من علومه.

وكان ضنينا بها مع لطف مخالطة، وعدم تكبر، وإطراح تكلف، مع تشدد فى السنة، وتظاهر بها فى محافل علومه، ومجالس تلاميذه وأصحابه، ينتحل مذهب الإمام أحمد، وينتصر له على غيره من المذاهب، ويصرح ببراهينه وحججه على ذلك.

وذكر ياقوت الحموى قال: كان الحافظ بن ناصر ابن عمه أمّ ابن الخشاب قال ابن الخشاب: قالت لى أمى: يا بنى، ما أراك تصلى صلاة الرغائب على عادة الناس، فقلت: يا أمى، أنا أوثر من الصلوات ما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذه الصلاة لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، فقالت: لا أسمع ذلك منك، فاسأل لى ابن عمتى: فاتفق أنى لقيته، فقلت: الوالدة تسلم عليك، وتسألك عن صلاة الرغائب: هل وردت عن النبى صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه؟ فقال لى: فهل لا أخبرتها بحقيقة ذلك؟ فقلت: قد أبت إلا أن أخبرها عنك، فقال: سلم عليها، وقل لها: أنا أسنّ منها، فإنها أحدثت فى زمنى وعصرى. وقد مضت برهة ولا أرى أحدا يصليها. وإنما وردت من الشام، وتداولها الناس حتى أجروها مجرى ما ورد من الصلوات المأثورة.

ولابن الخشاب تصانيف، منها كتاب «المرتجل فى شرح الجمل» للزجاجى وقد ترك فيه أبوابا من وسط الكتاب لم يشرحها، وكتاب «الرد على ابن نادستاد

(1)

فى شرح الجمل»، وكتاب «الرد على أبى زكريا التبريزى فى تهذيب إصلاح المنطق لابن السكيت» ، وكتاب «أغلاط الحريرى فى مقاماته» ،

(1)

فى خطية الإدارة الثقافية «ابن شاد»

ص: 318

وشرح اللمع لابن جنى إلى باب النداء فى ثلاث مجلدات، وشرح مقدمة الوزير ابن هبيرة فى النحو فى أربع مجلدات. ويقال: إنه وصله عليها بألف دينار. وله جواب المسائل الاسكندرانية فى الاشتقاق.

ويقال: إنه كان ضيق العطن فى تصانيفه لا يتمها، وأن كلامه كان أجود من قلمه.

وكان ابن الخشاب يكتب خطا حسنا، ويضبط ضبطا متقنا. فكتب كذلك كثيرا من الأدب والحديث وسائر الفنون، وحصل من الكتب والأصول وغيرها ما لا يدخل تحت الحصر، ومن خطوط الفضلاء وأجزاء الحديث شيئا كثيرا.

وذكر ابن النجار: أنه لم يمت أحد من أهل العلم وأصحاب الحديث إلا وكان يشترى كتبه كلها، فحصلت أصول المشايخ عنده.

وذكر عنه: أنه اشترى يوما كتبا بخمسمائة دينار ولم يكن عنده شئ، فاستمهلهم ثلاثة أيام، ثم مضى ونادى على داره، فبلغت خمسمائة دينار، فنقد صاحبها وباعه بخمسمائة دينار، ووفى ثمن الكتب، وبقيت له الدار. ولما مرض أشهد عليه بوقف كتبه فتفرقت وبيع أكثرها ولم يبق إلا عشرها، فتركت فى رباط المأمونية وقفا.

وقرأ عليه الخلق الكثير الحديث والأدب، وانتفعوا به وتخرج به جماعة.

وسمع منه كبار الأئمة. وروى عنه خلق من الحفاظ وغيرهم.

وكان الحافظ أبو محمد بن الأخضر يقول فى روايته عنه: حدثنا حجة الإسلام أبو محمد بن الخشاب. وكذلك يقول الشيخ موفق الدين المقدسى فى تصانيفه حين يروى عن ابن الخشاب. وكان ثقة فى الحديث والنقل، صدوقا حجة نبيلا.

وذكر ابن الجوزى: أنه كان يذكر عنه نوع تفريط فى الدين، وأنه كان قليل الفقه، بحيث إنه سئل عن رفع اليدين فى الصلاة ما هو؟ فقال: هو ركن، فضحك منه. وكان - سامحه الله - قليل المبالاة بحفظ قاموس العلم والمشيخة بحيث إنه كان يلعب بالشطرنج على قارعة الطريق مع العوام، ويمازح السفهاء، ويقف

ص: 319

فى الشوارع على حلق المشعبذين وأصحاب اللهو، واللعابين بالقرود والدّباب من غير مبالاة. وإذا عوتب على ذلك يقول: إنه يندر منهم نوادر لا يكون أحسن ولا ألطف منها، ومع ذلك فكان لا يخلو كمه من كتب العلم.

وكان رؤساء زمانه ووزراء وقته يودون مجالسته، ويتمنون محاضرته فلا يفعل.

قال مسعود بن البادر: كنت يوما بين يدى المستضئ، فقال لى: كل من نعرفه قد ذكرنا بنفسه، ووصل إليه برنا، إلا ابن الخشاب، فأخبره فاعتذرت عنه بعذر اقتضاه الحال، ثم خرجت فعرفت ابن الخشاب ذلك، فكتب إليه هذين البيتين:

ورد الورى سلسال جودك فارتووا

فوقفت دون الورد وقفة حائم

ظمآن أطلب خفة من زحمة

والورد لا يزاد غير تزاحم

قال ابن البادر: فأخذتها منه فعرضتها على المستضئ، فأرسل إليه بمائتى دينار وقال: لو زادنا زدناه. وكان متبذلا فى لباسه ومطعمه ومشربه، ولم يكن له زوجة ولا جارية.

ويقال: إنه كان بخيلا مقترا على نفسه. وكان يعتم العمة، فتبقى معتمة أشهرا حتى تتسخ أطرافها من عرقه، فتسود وتتقطع من الوسخ، وترمى عليها العصافير ذرقها. وكان إذا رفعها عن رأسه ثم أراد لبسها تركها على رأسه كيف اتفق، فتجئ عذبتها تارة من تلقاء وجهه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله، فلا يغيرها. فإذا قيل له فى ذلك يقول: ما استوت العمة على رأس عاقل قط.

وكان رحمه الله ظريفا مزاحا، ذا نوادر.

فمن نوادره: أن بعض أصحابه سأله يوما، فقال: القفا يمد أو يقصر؟ فقال:

يمد ثم يقصر.

ومنها: أنه لما صنف الكمال الأنبارى كتاب «الميزان» فى النحو عرض عليه، فقال: احملوا هذا الميزان إلى المحتسب ففيه عين.

ص: 320

ومنها: أنه كان يوما فى داره فى وقت القيلولة والحر الشديد وقد نام، إذ طرق عليه الباب طرقا مزعجا، فانتبه فخرج مبادرا، وإذا رجلان من العامة، قال:

ما خطبكما؟ فقالا: نحن شاعران، وقد قال كل واحد منا قصيدة وزعم أنها أجود من قصيدة صاحبه. وقد رضينا بحكمك، فقال: ليبدأ أحدكما.

قال: فأنشد أحدهما قصيدته وهو مصغ إليه، حتى فرغ منها، وهم الآخر بالإنشاد، فقال له ابن الخشاب: على رسلك، فشعرك أجود. فقال: كيف خبرت شعرى ولم تسمعه؟ فقال: لأنه لا يكون شئ أبخس من شعر هذا.

ومنها: أن بعض المعلمين كان يقرأ عليه شيئا من الأدب، فجاء فيه قول العجاج:

أطربا وأنت قنّسرى

وإنما يأتى الصبىّ الصبىّ

فقرأ المعلم: وإنما يأتى الصبىّ الصبىّ، فقال ابن الخشاب: هذا عندك فى الكتاب وفقك الله. فأما عندنا فلا، فاستحى المعلم.

ومنها: ما حكاه ابن الأخضر قال: كنت يوما عنده - وعنده جماعة من الحنابلة - فسأله مكى القراد: عندك كتاب الخيال؟ فقال: يا أبله، ما تراهم حولى؟

ومنها: أنه كان ببغداد رجل يقال له: العتابى نحوى، وكان يدعى من علم النحو فوق ما عنده، فاجتمع ابن الخشاب مرة بابن القصار اللغوى عند قدومه من مصر، فقال ابن الخشاب: ما رأيت من عجائب مصر؟ قال: رأيت أشياء ذكرها. ثم قال: ورأيت فيها حمارا عتابيا، فقال ابن الخشاب: ماذا عجب؛ فإن عندنا ببغداد عتابى حمار.

ولابن الخشاب شعر كثير حسن، فمنه ما ألغزه فى الكتاب:

وذى أوجه لكنه غير بائح

بسر، وذو الوجهين للسر مظهر

تناجيك بالأسرار أسرار وجهه

فتسمعها، ما دمت بالعين تنظر

وله لغز فى الشمعة:

صفراء لا من سقم مسها

كيف وكانت أمها الشافية؟

ص: 321

عارية باطنها مكتس

فاعجب لها عارية كاسية

ومنه - وأنشده ابن القطيعى - فى المديح:

تلقاه إما عالما أو متعلما

يومى حجاج أو عجاج الهبا

فمجادل يهدى غويا مشغبا

ومجدل يردى كميا محربا

وينسب إليه قصيدة طويلة فى الألغاز والعويص فى جميع أنواع العلوم.

قيل: إنه كتبها إلى بعض فضلاء عصره ممتحنا له ومعجزا، وأظنه ابن الدهان.

ومما ينسب إليه قصيدة نونية، منها:

واذكر إذا قمت يوم العرض منتفضا

من التراب بلا قطن ولا كفن

وجئ بالنار قد مد الصراط على

حافاتها تتلظى فعل مغتبن

وتنشر الصحف فيها كل محتقب

من المخازى وما قدمت من حسن

قد كنت تنسى وتلك الصحف محصية

ما كنت تأتى، ولم تظلم ولم تخن

هناك إن كنت قدمت مدخرا

تسقى من الحوض ماء غير ذى أسن

عند الجزاء تعض الكف من ندم

على تخطيك فى سر وفى علن

لا تركنن إلى الدنيا؛ ففى جدث

يكون دفنك بين الطين واللبن

واستن بالسلف الماضى وكن رجلا

مبرأ من دواعى الغى والفتن

ودع مذاهب قوم أحدثت إثما

فيها خلاف على الآثار والسنن

قال ابن الجوزى: مرض ابن الخشاب نحوا من عشرين يوما، فدخلت عليه قبل موته بيومين، وقد يئس من نفسه، فقال لى: عند الله أحتسب نفسى.

وتوفى يوم الجمعة ثالث رمضان سنة سبع وستين وخمسمائة. وصلي عليه على باب جامع السلطان يوم السبت. ودفن بمقبرة الإمام أحمد قريبا من بشر الحافى رضى الله عنهما.

وحدثنى عبد الله الجبائى العبد الصالح قال: رأيته فى النوم بعد موته بأيام، ووجهه يضئ، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لى قلت: وأدخلك الجنة؟

ص: 322

قال: وأدخلنى الجنة، إلا أنه أعرض عنى، فقلت له أعرض عنك؟ فقال: نعم وعن جماعة من العلماء تركوا العمل. سامحه الله وغفر له.

‌146 - مكى بن محمد

بن هبيرة البغدادى، الأديب أبو جعفر.

كان فاضلا عارفا بالأدب. نظم «مختصر الخرقى» وقرئ عليه مرات.

توفى بنواحى الموصل سنة سبع وستين وخمسمائة. ذكره الحافظ الذهبى.

قلت: وأظنه أخا الوزير أبى المظفر. وكان يلقب فخر الدولة. وكان خرج من بغداد بعد موت الوزير وكان للوزير ولدان.

أحدهما: عزّ الدين محمد. وكان فاضلا كبير الشأن، ناب عن والده فى الوزارة. قبض عليه، وقتل بعد موت والده سنة إحدى وستين.

والآخر: شرف الدين ظفر، ناب عن والده فى الوزارة أيضا. وكان أديبا بارعا له نظم حسن جدا. قبض عليه، وقتل فى صفر سنة اثنتين وستين.

ومن نظمه:

أخلف الغيث مواعيد الخزامى

فقف الأنضاء تستقى الغماما

وأبحنى ساعة من عمرى

نملأ الدار شكاة وسلاما

وخذ اليمنة من أعلى الحمى

تلق بالفور حميما وحماما

أصف الأشواق فى تلك الربى

وأعاطى الترب سقيا والتثاما

‌147 - أحمد بن محمد

بن شنيف بن محمد البغدادى الدارقزى، المقرئ أبو الفضل.

قرأ القرآن بالروايات على أبى طاهر بن سوار، وثابت بن بندار، وأبى منصور الخياط، وغيرهم.

وسمع الحديث منهم، ومن أبى غالب القزاز، وعلي بن نبهان، ويحيى بن منده الحافظ. وتفقه فى المذهب وحصل منه طرفا صالحا. وأقرأ بالروايات جماعة.

ص: 323

وحدث وطال عمره، وأضر فى آخر وقته، وتفرد بعلو الإسناد فى القراءات.

قال القطيعى: كان من أهل الدين والصلاح.

وقال ابن النجار: كان شيخا فاضلا متدينا، صدوقا أمينا.

توفى يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم سنة ثمان وستين وخمسمائة، وله ست وتسعون سنة. ودفن بمقبرة باب حرب رحمه الله.

‌148 - الحسن بن أحمد

بن الحسن بن أحمد بن محمد بن سهل بن سلمة ابن عثكل بن حنبل بن إسحاق الهمدانى، المقرئ المحدث، الحافظ الأديب اللغوى الزاهد أبو العلاء، المعروف بالعطار شيخ همدان.

ولد بكرة يوم السبت رابع عشر ذى الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.

وقرأ القرآن بالروايات على أبى علي الحداد وغيره بأصبهان، وعلى أبى العز القلانسى بواسط، وببغداد على البارع الدباس، وأبى بكر المزرفى وغيرهم.

وسمع الحديث من عبد الرحمن الدونى سنة خمس وتسعين، وهو أول سماعه ثم سمع بأصبهان من أبى علىّ الحداد، وأكثر عنه ولازمه مدة. وسمع بخراسان من أبى عبد الله الفراوى وغيره.

وارتحل إلى بغداد، فسمع من أبى القاسم بن بيان، وأبى علىّ بن نبهان، وأبى علىّ بن المهدى، وأبى طالب اليوسفى، وابن الحصين، وخلق كثير.

ودخل بغداد مرة أخرى فأسمع ابنه، ثم مرة أخرى بعد الثلاثين وخمسمائة، فأكثر بها، ثم دخلها بعد الأربعين، وحدث بها، وأقرأ بها القرآن.

قرأ عليه ابن سكينة وغيره، ثم عاد إلى همدان، وعمل دارا للكتب وخزانة وقف جميع كتبه فيها. وكان قد حصّل الأصول الكثيرة، والكتب الكبار الحسان بالخطوط المعتبرة، وانقطع إلى إقراء القرآن، ورواية الحديث إلى آخر عمره وحدث بأكثر مسموعاته.

ص: 324

وسمع منه الكبار والأئمة الحفاظ ورووا عنه، منهم: ابن عساكر، ومحمد بن محمود الحمامى الواعظ، وأبو المواهب بن صصرى، وعبد القادر الرهاوى، ويوسف بن أحمد الشيرازى. وسمع منه خلق كثير.

وآخر من روى عنه ابن المقيرورى عنه إجازة.

قال ابن السمعانى فى حقه: حافظ متقن، ومقرئ فاضل، حسن السيرة، مرضى الطريقة، عزيز النفس، سخي بما يملك، مكرم للغرباء، يعرف القراءات والحديث والأدب معرفة حسنة، سمعت منه.

وذكره ابن الجوزى فى طبقات الأصحاب التى فى آخر المناقب، وفى التاريخ، وقال فيه: كان حافظا متقنا، مرضى الطريقة سخيا. وانتهت إليه القراءات والتحديث.

وذكر فى آخر كتابه «التلقيح» : أن أبا العلاء كان هو محدث عصره ومقرئه.

وقال الحافظ عبد القادر الرهاوى: شيخنا الحافظ أبو العلاء أشهر من أن يعرف بل تعذر وجود مثله فى أعصار كثيرة، على ما بلغنا من سيرة العلماء والمشايخ. أربى على أهل زمانه فى كثرة السماع، مع تحصيل أصول ما سمع وجودة النسخ، وإتقان ما كتب بخطه. فإنه ما كان يكتب شيئا إلا متقنا معربا.

وبرع على حفاظ عصره فى حفظ ما يتعلق بالحديث من الأنساب والتواريخ والأسماء والكنى، والقصص والسير، ولقد كنا يوما فى مجلسه، وقد جاءته فتوى فى أمر من أمر عثمان رضى الله عنه، فأخذ الفتوى وكتب فيها من حفظه - ونحن جلوس - درجا طويلا يذكر فيه عثمان رضى الله عنه ونسبه ومولده ووفاته وأولاده، وما قيل فيه من شعر، وغير ذلك مما يتعلق به.

وله التصانيف الكثيرة فى أنواع من علوم الحديث والزهديات والرقائق وغير ذلك.

ص: 325

ومن جملة ما صنف «زاد المسافر» نحو من خمسين مجلدة. وكان إماما فى القرآن وعلومه، وحصل من القراءات المسندة ما أنه صنف العشرة والمفردات.

وصنف الوقف والابتداء والتجويد والمئات والعدد، ومعرفة القراء. وهو نحو من عشرين مجلدا، واستحسنت تصانيفه. وكتب ونقلت إلى خوارزم وإلى الشام.

وبرع عنده جماعة كثيرة فى القراءات. وكان إذا جرى ذكر القراء يقول:

فلان مات عام كذا، وفلان مات فى سنة كذا، وفلان يعلو إسناده على فلان بكذا.

وكان إماما فى النحو واللغة. سمعت أن من جملة ما حفظ فى اللغة كتاب «الجمهرة» وخرج له تلامذة فى العربية أئمة يقرءون بهمدان. وبعض أصحابه رأيته.

وكان من محفوظاته كتاب «الغريبين للهروى» إلى أن قال: وكان عفيفا من حب المال، مهينا له، باع جميع ما ورثه. وكان من أبناء التجار فأنفقه فى طلب العلم حتى سافر إلى بغداد وأصبهان مرات ماشيا يحمل كتبه على ظهره.

سمعته يقول: كنت أبيت ببغداد فى المساجد، وآكل خبز الدخن.

وسمعت أبا الفضل بن نبهان الأديب يقول: رأيت الحافظ أبا العلاء فى مسجد من مساجد بغداد يكتب وهو قائم على رجليه؛ لأن السراج كانت عالية، ثم نشر الله تعالى ذكره فى الآفاق، وعظم شأنه فى قلوب الملوك وأرباب المناصب الدنيوية والعلمية والعوام، حتى إنه كان يمر بهمدان، فلا يبقى أحد رآه إلا قام، ودعا له حتى الصبيان واليهود. وربما كان يمضى إلى بلده مشكان فيصلى بها الجمعة، فيتلقاه أهلها خارج البلد: المسلمون على حدة، واليهود على حدة ويدعون له إلى أن يدخل البلد.

وكان يفتح عليه من الدنيا جمل فلم يدخرها، بل ينفقها على تلامذته. وكان عليه رسوم لأقوام. وما كان يبرح عليه ألف دينار همدانية أو أكثر من الدين مع كثرة ما كان يفتح عليه. وكان يطلب لأصحابه من الناس، ويعز أصحابه ومن يلوذ به ولا يحضر دعوة حتى يحضر جماعة أصحابه، وكان لا يأكل من أموال الظلمة،

ص: 326

ولا قبل منهم مدرسة قط ولا رباطا، وإنما كان يقرئ فى داره ونحن فى مسجده سكان، وكان يقرئ نصف نهاره الحديث، ونصفه القرآن والعلم.

وكان لا يخشى السلاطين، ولا تأخذه فى الله لومة لائم، ولا يمكن أحد أن يعمل فى مجلسه منكرا ولا سماعا.

وكان ينزل كل إنسان منزلته، حتى تآلفت القلوب على محبته، وحسن الذكر له فى الآفاق البعيدة، حتى أهل خوارزم، الذين هم معتزلة مع شدته فى الحنبلة.

وكان حسن الصلاة، لم أر أحدا من مشايخنا أحسن صلاة منه. وكان مشددا فى أمر الطهارة، لا يدع أحدا يمس مداسه.

قلت: هذه زلة من عالم.

قال: وكانت ثيابه قصارا، وأكمامه قصارا، وعمامته نحو من سبعة أذرع، وكانت السنة شعاره ودثاره، اعتقادا وفعلا، بحيث إنه كان إذا دخل مجلسه رجل، فقدم رجله اليسرى، كلفه أن يرجع فيقدم اليمنى، ولا يمس الأجزاء إلا على وضوء، ولا يدع شيئا قط إلا مستقبل القبلة تعظيما لها، إلى أن قال: سمعت من أثق به يحكى. قال: رأى السلفى طبقة بخط الحافظ، فقال: هذا خط أهل الإتقان، وسمعته يحكى عنه أنه ذكر له، فقال: قدمه دينه. قال: وسمعت من أثق به يحكى عن أبى الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسى، أنه قال للحافظ أبى العلاء، لما دخل نيسابور: ما دخل نيسابور مثلك.

وسمعت الحافظ أبا القاسم على بن الحسن بن هبة الله يقول - وذكر رجلا من أصحابه سافر فى طلب الحديث -: إن رجع ولم يلق الحافظ أبا العلاء ضاعت سفرته.

وقد روى عنه الحافظ أبو القاسم. وقال القاسم بن عساكر الحافظ: سمعت التاج المسعودى يقول: سمعت أبا العلاء الهمدانى يقول لرجل استأذنه فى الرحلة:

ص: 327

إن عرفت أحدا أعرف منى، فحينئذ آذن لك أن تسافر إليه، إلا أن تسافر إلى ابن عساكر، فإنه حافظ كما يجب.

وقرأت بخط الشيخ ناصح الدين بن الحنبلى: أما حرمة الحافظ أبى العلاء، ومكانته فى العامة والخاصة فمشهورة، وكراماته كذلك.

ومن نوادر الحافظ رحمه الله: أنه كان يمشى فى اليوم الواحد ثلاثين فرسخا.

حدثنى الإمام طلحة بن مظفر العلثى قال: بيعت كتب ابن الجواليقى فى بغداد، فحضرها الحافظ أبو العلاء الهمدانى، فنادوا على قطعة منها: ستين دينارا، فاشتراها الحافظ أبو العلاء بستين دينارا، والإنظار من يوم الخميس إلى يوم الخميس.

فخرج الحافظ، واستقبل طريق همدان، فوصل فنادى على دار له، فبلغت ستين دينارا. فقال: بيعوا. قالوا: تبلغ أكثر من ذلك. قال: بيعوا. فباعوا الدار بستين دينارا فقبضها، ثم رجع إلى بغداد. فدخلها يوم الخميس، فوفى ثمن الكتب. ولم يشعر أحد بحاله إلا بعد مدة.

توفى رحمه الله ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الأولى سنة تسع وستين وخمسمائة.

ذكره الحافظ بن النجار عن الحافظ أبى جعفر بن الحمامى الواعظ.

وذكر مكى وابن الجوزى: أنه توفى ليلة الخميس لتسع عشرة بقيت من جمادى الأولى.

قال ابن الجوزى: وبلغنى: أنه رئى فى المنام فى مدينة جميع جدرانها من الكتب، وحوله كتب لا تحد، وهو مشتغل بمطالعتها. فقيل له: ما هذه الكتب؟ قال: سألت الله تعالى أن يشغلنى بما كنت أشتغل به فى الدنيا، فأعطانى.

ورأى له شخص آخر: أن يدين خرجا من محراب مسجده، فقال: ما هذه اليدان؟ فقال: هذه يدا آدم بسطهما ليعانق أبا العلاء الحافظ. قال: وإذا بأبى العلاء قد أقبل. قال: فسلمت عليه، فردّ على السلام. وقال: يا فلان: أرأيت

ص: 328

ابنى أحمد حين قام على قبرى يلقننى. أما سمعتهم يقولون حتى صحت على الملكين فما قدرا أن يقولا لى شيئا، ورجعا رضى الله عنه.

‌149 - دهبل بن على

بن منصور بن إبراهيم بن عبد الله، المعروف بابن كاره البغدادى، الحريمى، الخباز أبو الحسن.

ولد سنة خمس وتسعين وأربعمائة.

وسمع من الحسين بن على بن البسرى، وأبى غالب القزاز، وأبى على ابن المهدى، وابن بيان، وابن نبهان وغيرهم.

وذكره ابن السمعانى فى كتابه.

وقال الشيخ موفق الدين المقدسى: كان فقيها من فقهاء أصحابنا، وكان يحضر فى حلقة الفقهاء فى جامع المنصور يوم الجمعة. وكان شيخا صالحا، أتى بكتاب «الجراح» ليحيى بن آدم.

وقال أبو المحاسن القرشى: كان فقيها حسنا، فاضلا زاهدا، صادقا ثقة، وذكر غيره: أنه أضر بآخره.

وقال ابن نقطة: هو ثقة صالح.

قال ابن القطيعى: كان فقيها حنبليا ثقة. حدث، وسمع منه جماعة.

وقال المنذرى: تفقه على مذهب الإمام أحمد، وسمع من غير واحد، وحدث.

قلت: روى عنه ابن الأخضر، وجماعة.

توفى فى يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من محرم سنة تسع وستين وخمسمائة، ودفن بمقبرة باب حرب.

و «دهبل» بفتح الدال المهملة والباء الموحدة بينهما هاء ساكنة.

‌150 - عبد الصمد بن بديل

بن الخليل الجيلى المقرئ، أبو محمد.

ذكره ابن القطيعى، فقال: قدم بغداد، ونزل باب الأزج، وقرئ عليه القرآن بالروايات الكثيرة، ورواها عن أبى العلاء الحسن بن أحمد الهمدانى.

ص: 329

قلت: وقد سمع من أبى العلاء الحديث.

قال: وكان عالما ثقة ثبتا، فقيها مفتيا. وكان اشتغاله بالفقه على والدى رحمه الله. وناظر ودرس وأفتى، وكتب إلى - وأنا مسافر - كتابا ذكر فيه ما أحببت ذكره لبركته: الله الله، كن مقبلا، مديما على شئونك، مشتغلا بما أنت بصدده، ولا تكن مضيعا، أنفاسا معدودة، وأعمارا محسوبة، واجعل ما لا يعنيك دبر أذنك، واغمض عينيك عما ليس من حظها، واطلب من ريحانة ما حل لك، ودع ما حرم عليك. وبذلك تغلب شيطانك. وتحوز مطالبك والسلام.

توفى رحمه الله سنة تسع وستين وخمسمائة ودفن بمقبرة الإمام أحمد بالقرب من قبر بشر الحافى.

قال «وبديل» بفتح الباء.

وذكره ابن النجار، فقال: صحب القاضى أبا يعلى بن أبى خازم، وتفقه عليه. وكان خصيصا به قرأ عليه جماعة القرآن. وكان مقرئا مجودا، وفقيها فاضلا، صالحا متدينا. وأنه توفى يوم السبت سلخ ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. كذا نقله عن تميم بن البندنيجى.

‌151 - عبد الرحمن بن النفيس

بن الأسعد الغياثى، الفقيه المقرئ أبو بكر، ويعرف بالأعز البغدادى.

كان فى ابتداء أمره يغنى، وله صوت حسن، ثم تاب وحسنت توبته.

وقرأ القرآن فى زمن يسير، وتعلم الخط فى أيام قلائل، وحفظ كتاب الخرقى وأتقنه. وقرأ مسائل الخلاف على جماعة من الفقهاء. وكان ذكيا جدا، يحفظ فى يوم واحد ما لا يحفظه غيره فى شهر.

وسمع من عبد الوهاب الأنماطى، وسعد الخير الأنصارى، وعسكر بن أسامة النصيبى. وتكلم فى مسائل الخلاف، وسافر إلى الشام، وسكن دمشق مدة،

ص: 330

وأمّ بالحنابلة فى جامعها، ثم توجه إلى ديار مصر، فاستوطنها إلى حين وفاته، وحدث. وكان فقيها فاضلا، قارئا مجودا، مليح التلاوة، طيب النغمة.

قال أبو بكر محمد بن على بن زيد بن اللتى عنه: كان قويا فى دين الله متمسكا بالآثار، لا يرى منكرا، ولا يسمع به إلا غيّره، لا يحابى فى قول الحق أحدا.

قال: وصحبته وسمعت عليه، معتقدا فى السنة، وقرأت عليه أبوابا من الخرقى.

قال: وخرج من بغداد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.

وقيل: إنه توفى بمصر بعد سنة ستين وخمسمائة. رحمه الله تعالى.

روى عنه أبو الجود حاتم بن سنان بن إبراهيم الحبلى أناشيد.

‌152 - يحيى بن نجاح

بن مسعود بن عبد الله اليوسفى، المؤدب الأديب الشاعر أبو البركات.

سمع من أبى العز بن كادش وغيره.

قال ابن الجوزى: سمع الحديث الكثير، ثم قرأ النحو واللغة. وكان غزير الفضل، يقول الشعر الحسن.

وقال ابن القطيعى: كان من أهل الأدب والعلم، وفيه فضل، وله خط حسن، وشعر رقيق.

سمع منه جماعة من الطلبة. وكان حنبلى المذهب، حسن الاعتقاد.

قال: وأنشدنا أبو البقاء الفقيه قال: أنشدنا أبو البركات يحيى بن نجاح اليوسفى لنفسه:

أقلا منك ذا الجفا أم دلال

كل يوم يروعنى منك حال

أعذول يغريك أم غره المعشوق

أم هكذا يتيه الجمال؟

نظرة كنت يوم ذاك، فإنى

صرت فى القلب عثرة لا تقال

أنا عرضت مهجتى يوم سلع

للهوى، فالغرام داء عضال

ص: 331

عبثا تقتل النفوس ولا

تحسب، إلا أن الدماء حلال

من عجيب أن لا يطيش لها سهم

ولم تدر قط كيف النضال؟

لى قلب قد استراح من العذل

وسمع تكده العذال

وهى قصيدة طويلة.

توفى رحمه الله يوم السبت لإحدى عشرة خلت من شوال، سنة تسع وستين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد. كذا ذكره القطيعى.

وقال ابن الجوزى: توفى فى أواخر شوال.

و «اليوسفى» نسبة إلى ولاء بيت ابن يوسف. وكان جده مسعود مولى الشيخ الأجل، أبى منصور محمد بن عبد الملك بن يوسف، رحمه الله تعالى.

‌153 - حامد بن محمود

بن حامد بن محمد بن أبى عمرو الحرانى، الخطيب الفقيه الزاهد، أبو الفضل، المعروف بابن أبى الحجر، ويلقب تقى الدين، شيخ حران وخطيبها، ومفتيها ومدرسها.

ولد سنة ثلاث عشرة وخمسمائة بحران، فيما قرأته بخط الإمام أبى العباس ابن تيمية، وذكر أنه نقله من خط أحمد بن سلامة بن النجار الحرانى الزاهد.

ورحل إلى بغداد، وسمع بها من عبد الوهاب الأنماطى الحافظ، ويحيى ابن حبيش الفارقى، وعمر بن عبد الله بن على الحربى وغيرهم، وتفقه بها، وبرع وناظر، ولقى بها الشيخ عبد القادر، ولازمه، فرآه الشيخ يوما يمشى على سجادته، على بساط للشيخ، فقال له الشيخ عبد القادر: كأنى بك، وقد دست على بساط السلطان. كذا ذكره أبو عبد الله بن حمدان الفقيه.

وقال ناصح الدين بن الحنبلى رضى الله عنه: حدثنى ولده إلياس - يعنى:

ولد أبى الفضل حامد - قال: خرج والدى مع الشيخ عبد القادر فى زيارة، وكان معه جماعة، وانفرد والدى عنه، ورفع ثوبه على قصبة، فقال الشيخ عبد القادر:

ص: 332

من هذا؟ فقالوا: الفقيه حامد الحرانى، فقال: هذا يكون له تعلق بالملوك، وكان كما قال.

وذكره ابن الجوزى فى تاريخه، فقال: صديقنا. قدم بغداد. وتفقه وناظر، وعاد إلى حران، وأفتى، ودرس. وكان ورعا، به وسوسة فى الطهارة.

وذكر ابن القطيعى فى تاريخه نحوا من ذلك، وقال: كان تاليا للقرآن، كتبت عنه. وكان ثقة.

وقال الشيخ فخر الدين ابن تيمية فى أول تفسيره، وبعد رجوعى إلى حران:

كنت كثير المباحثة لشيخنا الإمام البارع أبى الفضل حامد بن محمود بن أبى الحجر رحمه الله فى مشكل الآيات، وحل ما فيها من الإشكالات.

وكان رحمه الله إذا شرع فى التفسير والتذكير شبيها بالجواد المفرط، والجواد القطقط، يوسع المسامع هدير شقاشقه، ويزعزع المسامع زجر رواشقه، هذا مع ما كان قد منحه الله من الرشاقة، وعسولة المنطق واللباقة.

وقال الشيخ ناصح الدين بن الحنبلى: كان شيخ حران فى وقته. بنى نور الدين محمود المدرسة فى حران لأجله، ودفعها إليه، ودرس بها، وتولى عمارة جامع حران، فما قصر فيه، قيل: إنه راح إلى الروم، وتولى نشر الخشب بنفسه.

وكان نور الدين محمود، يقبل عليه، وله فيه حسن ظن. وكان عنده وسواس فى الطهارة.

ورحل إلى بغداد، ونزل بمدرسة الشيخ عبد القادر، وسمع درسه، وكان من أصحابه. وجاء إلى دمشق فى حوائج إلى نور الدين، ونزل عندنا فى المدرسة، وأضافه والدى.

وقال ابن حمدان: كان شيخ حران، وخطيبها ومدرسها، ولأجله بنيت المدرسة النورية بحران. وله ديوان خطب. وقيل: إن أكثرها كان يرتجلها إذا صعد إلى المنبر، فلما ولاه السلطان نور الدين الشهيد، قال: بشرط أن تترك المظالم والضمانات، وتورث ذوى الأرحام، فأجابه إلى ذلك.

ص: 333

وكان ولده الفقيه إلياس إذا غاب عن المدرسة يوما، لا يعطيه خبزه، ويقول: هو كالمستأجر.

قال: ولم يأخذ على نظره فى الجامع، وأوقافه شيئا، حتى إن غلامه اشترى تجارة كما اشتراه العوام من تجارة خشب الجامع، فلم يأكل ما خبز فى بيته. وسيرته فى الورع والزهد مشهورة بحران بين أهلها.

قلت: أخذ عنه العلم جماعة من أهل حران، منهم: الخطيب فخر الدين ابن تيمية، وأبو الفتح نصر الله بن عبدوس، وغيرهما.

وسمع منه الحديث بحران جماعة من الطلبة والرحالين، منهم: أبو المحاسن عمر بن علي القرشى الدمشقى، سنة ثلاث وخمسين، وأبو الحسن بن القطيعى، سنة ست وستين.

وروى عنه فى تاريخه، وقال: توفى لسبع خلون من شوال سنة سبعين وخمسمائة بحران. وكذا ذكر ابن الجوزى: أنه توفى بحران سنة سبعين.

وقرأت بخط الشيخ تقى الدين رحمه الله تعالى، قال: نقلت من خط الزاهد أحمد بن سلامة بن النجار: توفى الفقيه حامد بن محمود بن أبى الحجر - وكان من أهل العلم والبراعة والفصاحة - سنة تسع وستين وخمسمائة، ثم قال الشيخ تقى الدين: عندى فى هذا نظر؛ لأن الشيخ الفخر ذكر أنه كان يذاكره بعد رجوعه إلى حران، وذكر الشيخ فخر الدين ابن تيمية فى كتابه «ترغيب المقاصد» أن شيخه حامد بن أبى الحجر اختار: أن الفاسق تثبت له ولاية النكاح.

‌154 - المبارك بن الحسن

بن طراد الباماوردى الفرضى، أبو النجم بن أبى السعادات، المعروف بابن المقابلة.

ولد سنة خمس وخمسمائة تقريبا.

وسمع من طلحة العاقولى سنة عشر، وهو أقدم سماع وجد له، ومن القاضى أبى الحسين بن الفراء، وأبى منصور القزاز، والقاضى أبى بكر، وابن الحصين،

ص: 334

وأبى الفضل عبد الملك بن يوسف، وأبى غالب الماوردى وغيرهم.

قال ابن الجوزى: كان عارفا بعلم الفرائض، والمواقيت.

وذكره ابن القطيعى، وقال: كتبت عنه. وكان ثقة.

قال: وكان أعلم أهل زمانه بالفرائض، والحساب، والدور، حسن العلم بالجبر والمقابلة، وغامض الوصايا والمناسخات، حنبلى المذهب، أمّارا بالمعروف، شديدا على أهل البدع، عارفا بمواقيت الشمس والقمر.

وتوفى ليلة السبت لعشر بقين من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ودفن بمقبرة الطبرى، بقرية الزاويان، ظاهر بغداد. رحمه الله تعالى.

‌155 - محمد بن عبد الباقى

بن هبة الله بن حسين بن شريف المجمعى، الموصلى أبو المحاسن.

ذكره ابن القطيعى، فقال: أحد فقهاء الحنابلة المواصلة. ورد بغداد، وتفقه على القاضى أبى يعلى محمد بن محمد بن محمد بن الفراء، وسمع بها الحديث والأدب، وكان تاليا لكتاب الله، وجمع كتابا اشتمل على طبقات الفقهاء من أصحاب أحمد

قلت: وله مصنف فى شرح غريب ألفاظ الخرقى.

قال: وكان بالموصل عمر الملا، مقدما فى بلده، فاتهمه بشئ من ماله. وكان خصيصا به، وضربه إلى أن أشفى، ثم أخرجه إلى بيته وبقى أياما يسيرة.

وتوفى فى رجب - أو شعبان - سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بالموصل رحمه الله.

وعمر هذا، كان يظهر الزهد والديانة، وأظنه كان يميل إلى المبتدعة. وقد تبين بهذه الحكاية أيضا: ظلمه وتعديه.

‌156 - على بن عساكر

بن المرحب بن العوام، البطائحى، المقرئ النحوى أبو الحسن الضرير.

ص: 335

ولد سنة تسع وثمانين وأربعمائة - أو سنة تسعين - على الشك منه.

وقرأ بالروايات على أبو العز القلانسى، وأبى عبد الله الدباس البارع، وسبط الخياط، وأبى بكر المزرفى، وأبى سعد الطيورى، وأبى طالب بن يوسف، وأبى الحسين بن الفراء.

وقرأ الأدب على أبى البركات عمر بن إبراهيم الزيدى بالكوفة.

وسمع الحديث من ابن الحصين، وأبى الحسين بن الزاغوانى، وأبى بكر بن عبد الباقى، وأبى منصور القزاز، والمزرفى، وأبى القاسم السمرقندى، وغيرهم.

وكان من أئمة القراء وصنف فى القراءات عدة مفردات، وكان بارعا فى العربية، ثقة جليلا صالحا.

قال ابن النجار: كان إماما كبيرا فى معرفة القراءات، ووجوهها وعللها وطرقها وضبطها وتجويدها، وحسن الأداء والإتقان والصدق والثقة. وكانت له معرفة تامة بالنحو. وكان متدينا، جميل السيرة، مرضى الطريقة. انتهى

وقال الشيخ موفق الدين المقدسى عنه: كان مقرئ بغداد فى وقته، وكان عالما بالعربية، إماما فى السنة.

قرأ عليه القرآن جماعة من الكبار، منهم: عبد العزيز بن دلف، وأبو الحسن ابن الجمرى.

وحدث عنه جماعة، منهم: الحافظ ابن الأخضر، وعبد الغنى المقدسى، وعبد القادر الرهاوى، وأحمد بن البندنيجى، والشيخ موفق الدين، والشهاب بن راجح، وغيرهم.

وروى عنه بالإجازة: الخليفة الناصر العباسى، وقرأ عليه القرآن أيضا:

الوزير ابن هبيرة، وأكرمه ونوه باسمه. وكان الوزير قد قرأ بالروايات على رجل يقال له: مسعود بن الحسين الحنبلى، وادعى أنه قرأ على ابن سوار، وأسند الوزير القراءات عنه عن ابن سوار فى كتاب «الإفصاح» فحضر البطائحى دار الوزير

ص: 336

وابن شافع يقرأ عليه. فلما انتهى إلى قوله: وأما رواية عاصم فإنك قرأت بها على مسعود بن الحسين. قال: قرأت بها على ابن سوار. وكان البطائحى قاعدا فى غمار الناس؛ لأنه لم يكن حينئذ معروفا، ولا له ما يتجمل به. فقام وقال: هذا كذب.

ورفع صوته، ثم خرج. وبلغ الوزير الخبر، فطلبه وطلب مسعودا وحاققوه.

فتبين كذبه، وأنه لم يدخل بغداد إلا بعد موت ابن سوار بكثير، وأحضر البطائحى نسخة من المستنير بخط ابن سوار، فقوبل بخطها الخط الذى مع مسعود، ويدعى أنه خط ابن سوار، فبان الفرق بينهما.

وقال البطائحى: هو خط مزور بخط أبى رويح الكاتب. وكان خطه شبيها بخط ابن سوار. فأهان الوزير مسعودا، ومنعه من الصلاة بالناس، وقال له: لولا أنك شيخ لنكلت بك. ثم قرأ الوزير على البطائحى، وأسند عنه القراءات، وعلاّ قدره.

وذكر مضمون هذه الحكاية ابن النجار عن أحمد بن البندنيجى، وكان شاهدا للقصة. وصار للبطائحى بعد ذلك اتصالا بالدولة، ويدخل بواطن دار الخلافة. وكان ضريرا يحفى شاربه. ووقف كتبه بمدرسة الحنابلة بباب الأزج.

وتوفى ليلة الثلاثاء ثامن عشر شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وصلّى عليه من الغد إسماعيل بن الجواليقى بجامع القصر، ودفن بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى

‌157 - مسلم بن ثابت

بن القاسم، بن أحمد بن النحاس البزاز، البغدادى المأمونى، الفقيه أبو عبد الله بن أبى البركات. ويعرف بابن جوالق بضم الجيم

ولد سنة أربع وتسعين وأربعمائة.

وسمع من أبى على بن نبهان، وتفقه على أبى الخطاب الكلوذانى وناظر وتطلس

ذكره ابن القطيعى، وقال: سمع منه جماعة من الطلبة، وكتبت عنه. وكان صحيح السماع.

قلت: روى عنه ابن الأخضر.

توفى يوم الأحد عشرين ذى الحجة سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، ودفن بمقبرة باب حرب.

ص: 337

‌158 - أحمد بن محمد

بن المبارك بن أحمد بن بكروس بن سيف الدينورى ثم البغدادى، أبو العباس بن أبى بكر بن أبى العز. ويعرف أيضا بابن الحمامى.

الفقيه الزاهد العابد.

قرأ بالروايات على جماعة. سمع من ابن كادش وأبى بكر المزرفى. وتفقه على أبى بكر الدينورى. وكان رفيق ناصح الإسلام أبى الفتح بن المنّى فى سماع الدرس على الدينورى. وله مدرسة بدرب القيار ببغداد بناها. وكان يدرس بها.

تفقه عليه جماعة منهم: الشيخ فخر الدين ابن تيمية، وحدث. روى عنه

الشيخ موفق الدين.

وقرأت بخط ناصح الدين بن الحنبلى: كان فقيها زاهدا، عابدا مفتيا.

وسمعته يتكلم فى حلقة شيخنا ابن المنى، وعليه من نور العبادة وهدى الصالحين ما يشهد له.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين؟ فقال: كان فقيها، صاحب مسجد ومدرسة يتكلم فيها فى مسائل الخلاف ويدرس. وكان يتزهد. وكان متزوجا بابنة ابن الجوزى، وما علمنا منه إلا الخير.

توفى يوم الثلاثاء خامس صفر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وكان يومه مشهودا.

ورأى رجل النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام بعد موت أحمد بن بكروس وهو يقول: مات عابد الناس. وشاع هذا المنام فى الناس. قرأته بخط ابن الحنبلى وكان أبوه أبو بكر محمد رجلا صالحا كثير الحج.

سمع الحديث فى كبره على جماعة.

ولأبى العباس ولد اسمه محمد، يكنى أبا بكر. سمع من أبيه وعمه على زمن ابن البطى، ويحيى بن بندار، وطبقتهم. وكان فقيها صالحا.

وتوفى شابا سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

ص: 338

‌159 - صدقة بن الحسين

بن الحسن بن بختيار بن الحداد البغدادى، الفقيه الأديب، الشاعر المتكلم، الكاتب المؤرخ أبو الفرج.

ولد سنة سبع وسبعين وأربعمائة.

وقرأ بالروايات. وسمع الحديث من أبى السعادات المتوكلى، وأبى الوفاء بن عقيل الإمام، وأبى الحسن الزاغونى، وأبى على المبارك، وغيرهم. وتفقه على ابن عقيل، ثم من بعده على ابن الزاغونى، وبرع فى الفقه، فروعه وأصوله.

وقرأ علم الجدل والكلام، والمنطق والفلسفة، والحساب، ومتعلقاته من الفرائض وغيرها. وكتب خطا حسنا صحيحا، وقال الشعر المليح، وأفتى وناظر، وانقطع بمسجده بالبدرية شرقى بغداد؛ يؤم الناس فيه، وينسخ ويفتى، ويتردد إليه الطلبة يقرءون عليه فنون العلم، وبقى على ذلك نحوا من سبعين سنة، حتى توفى.

وممن قرأ عليه من أصحابنا: الوزير أبو المظفر بن يونس.

وحدث وسمع منه جماعة، وروى عنه أبو المعالى بن شافع، والفقيه يعيش ابن مالك بن ريحان. وله مسائل مفردة من أصول الدين، وجزء سماه «ضوء السارى، إلى معرفة البارى» .

قال ابن النجار: وله مصنفات حسنة فى أصول الدين. وقد جمع تاريخا على السنين، بدأ فيه من وقت وفاة شيخه ابن الزاغونى، سنة سبع وعشرين وخمسمائة، مذيلا به على تاريخ شيخه، ولم يزل يكتب فيه إلى قريب من وقت وفاته، يذكر فيه الحوادث، والوفيات. وقد نسخ بخطه كثيرا للناس من سائر الفنون. وكان قوته من أجرة نسخه، ولم يطلب من أحد شيئا، ولا سكن مدرسة، ولم يزل قليل الحظ، منكسر الأغراض، متنغص العيش، مقترا عليه أكثر عمره.

ص: 339

وكان الوزير ابن رئيس الرؤساء، سأل عن مسألة فى الحكمة؟ فقيل له:

إن صدقة الناسخ، له يد قوية فى ذلك، فأنفذها إليه. فكتب فيها جوابا حسنا شافيا، استحسنه الوزير، وسأل عن حاله؟ فأخبر بفقره، فأجرى له ما يقوته، وعلمت الجهة «بنفشا» بحاله - يعنى جهة الخليفة - فصارت تفتقده فى بعض الأوقات، بما يكون بين يديها من الأطعمة الفاخرة والحلوى، فيعجز عن أكله، فيعطيه لمن يبيعه له، فكان ربما شكى حاله لمن يأنس به، فيشنع عليه من له فيه غرض، ويقول: هو يعترض على الأقدار، وينسبه إلى أشياء، الله أعلم بحقيقتها.

قال: وحكى لى بعض أصحابنا، قال: دخل بعض الناس على صدقة، وإلى جانبه مركن، وعليه خرقة مبلولة، قد اجتمع عليها الذباب، فقال له: ما هذا المركن؟ قال: فيه حلوى السكر يابسة، قد نقعتها فى الماء لتلين، وأقدر على أكلها لذهاب أسنانى، وأعجبك أنه لما كانت لى أسنان صحاح قوية لم يقدرنى القدر على التمر، فلما كبرت، وذهبت أسنانى، رزقت هذه الحلوى اليابسة، لأزداد بنظرى إليها، وعجزى عن أكلها حسرة، فكان الناس ينسبونه بهذا الكلام، وبما كان يعلم من العلوم القديمة إلى أشياء، لعله برئ منها.

قلت: يشير بذلك ابن النجار إلى الشيخ أبى الفرج بن الجوزى، فإنه حط عليه فى تاريخه حطا بليغا، وذكر له أشعارا رديئة، تتضمن الحيرة والشك، وكلمات تتضمن الاعتراض على الأقدار، وقال: هذا من جنس اعتراضات ابن الرواندى، ونسبه أيضا إلى تعاطى فواحش، وإلى المسألة من غير حاجة، وأنه خلف ثلاثمائة دينار.

وقال: لما كثر عثورى على هذا منه، وعجز تأويلى له، هجرته سنين، ولم أصل عليه حين مات، والشيخ أبو الفرج رحمه الله ثقة فيما ينقل، وإذا ثبت أو اشتهر عن أحد مثل هذه الأمور، فهاجره وذامه معيب فيما يفعل.

وقال ابن القطيعى: كان بينه وبين ابن الجوزى مباينة شديدة، وكل واحد يقول فى صاحبه مقالة، الله أعلم بها.

ص: 340

قال: وسمعت الوزير بن يونس - ومجلسه حفل بالعلماء - يثنى على صدقة، وينكر على ابن الجوزى قدحه فيه، بقوله: صليت إلى جانب صدقة، فما سمعته يقرأ. وقال: الواجب أن يسمع نفسه، لا من إلى جانبه، وأين حضور قلب ابن الجوزى من سماع قراءة غيره؟ ثم من جعل همته إلى تتبع شخص، إلى هذا الحد فى الصلاة، دل بفعله على عداوته، والله يغفر لهما.

قلت: هذا من أسهل ما أنكره ابن الجوزى عليه، ثم إنه قال: كنت أتأمله إذا قام إلى الصلاة، فأكون فى أوقات إلى جانبه، فلا أرى شفتيه تتحرك أصلا، لم يقل: لم أسمعه يقرأ.

وأما الفتيا التى عرفه الوزير بسببها، فقد ذكرها ياقوت الحموى فى كتابه قال: جرى بين الوزير أبى الفرج ابن رئيس الرؤساء وزير المستضئ مسألة فى العلم: هل هو واحد، أم أكثر. وكان عنده جماعة من أهل العلم، كابن الجوزى وغيره، فسألهم عن ذلك؟ فكل كتب بخطه: إن العلم واحد، فلما فرغوا، قال: ترى ههنا من هو قيم بهذا العلم غير هؤلاء؟ فقال له بعض الحاضرين: ههنا رجل يعرف بصدقة الناسخ، يعرف هذا الفن معرفة لا مزيد عليها، فنفذ بالفتوى، وفيها خطوط الفقهاء، وقال: انظر فى هذه، وقل ما عندك، فلما وقف عليها فكر طويلا، متعجبا من اتفاقهم على ما لا أصل له، ثم أخذ القلم، وكتب: العلم علمان: علم غريزى، وعلم مكتسب.

فأما الغريزى: فهو الذى يدرك على الفور، من غير فكرة، كقولنا:

واحد وواحد، فهذا يعلم ضرورة أنه اثنان.

وعلم مكتسب: وهو ما يدرك بالطلب، والفكرة والبحث، أو كلاما هذا معناه، وأنفذ الخط إلى الوزير. فلما وقف عليه، أعجب به، وقال: أين يكون هذا الرجل؟ فعرف حاله وفقره، فاستدعاه إليه، وتلقاه بالبشر، وخلع عليه خلعة حسنة، وأعطاه أربعين دينارا، ففرح فرحا عظيما، وقال: يا مولاى، قد

ص: 341

حضر لى بيتان. قال: أنشدهما، فقال:

ومن العجائب والعجائب جمة

شكر بطئ عن ندى متسرع

ولقد دعوت ندى سواك فلم يجب

فلأشكرن ندى أجاب وما دعى

فاستحسن ذلك، وما زال يبره إلى أن مات، سامحه الله.

توفى صدقة يوم السبت ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وصلّى عليه من الغد برحبة الجامع، ودفن بباب حرب.

وقيل: إنه توفى يوم الأحد، رابع عشر.

وذكر ابن الجوزى عمن حدثه: أنه رئى له منامات غير صالحة، وأنه عريان، وأنه أخبر عن نفسه أنه مسجون مضيق عليه، وأنه لم يغفر له، فالله تعالى يسامحه ويتجاوز عنه.

وذكر ابن النجار عن على الفاخرانى الضرير، قال: رأيت صدقة الناسخ فى المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لى بعد شدة، فسألته عن علم الأصول؟ فقال: لا تشتغل به، فما كان شئ أضر علىّ منه، وما نفعنى إلا خمس قصيبات - أو قال: تميرات - تصدقت بها على أرملة.

قلت: هذا المنام حق، وما كانت مصيبة إلا من علم الكلام. ولقد صدق القائل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. وبسبب شبه المتكلمين والمتفلسفة، كان يقع له أحيانا حيرة وشك، يذكرها فى أشعاره، ويقع له من الكلام والاعتراض ما يقع.

وقد رأيت له مسألة فى القرآن، قرر فيها: أن ما فى المصحف ليس بكلام الله، حقيقة، وإنما هو عبارة عنه، ودلالة عليه، وإنما يسمى كلام الله مجازا.

قال: ولا خلاف بيننا، وبين المخالفين فى ذلك، إلا أن عندنا: أن مدلوله هو كلام الله الذى هو الحروف والأصوات، وعندهم مدلول الكلام، الذى هو المعنى القديم بالذات.

ص: 342

‌160 - أحمد بن أبى غالب

بن أبى عيسى بن شيخون الأبرودى الحبابينى أبو العباس، الفقيه الضرير، كذا نسبه ابن النجار.

وقال ابن الجوزى: أحمد بن عيسى بن أبى غالب، من قرية بدجيل، يقال لها: الحبابين.

دخل بغداد فى صباه، وحفظ القرآن، وقرأه بالروايات على أبى محمد سبط الخياط، وسمع منه الحديث، ومن سعد الخير الأنصارى، ومن جماعة دونهما.

وقرأ الفقه على أبى العباس، أحمد بن بكروس، وحصل منه طرفا صالحا، ولما مات ابن بكروس، خلفه فى مسجده ومدرسته. وكان صالحا. متدينا. ومات شابا، لم يرو شيئا. ذكر ذلك ابن النجار.

وقال ابن الجوزى: قرأ القرآن وسمع الحديث، وتفقه وناظر، وكان فيه دين.

قال ابن النجار: قرأت فى كتاب أبى بكر عبيد الله بن على المارستانى بخطه قال: دخلت على أحمد الحبابينى عائدا، فأنشدنى متمثلا:

سيبكى علىّ باكى العين بعد موته

ويبكى علىّ باكى البكاء إلى الحشر

فنفسى أعدّى فضل زاد من التقى

فإنك فى الدنيا ورجلاك فى القبر

توفى يوم الجمعة عاشر رجب سنة أربع وسبعين وخمسمائة، وصلّى عليه يومئذ بجامع القصر. ودفن بمقبرة الإمام أحمد عن نيف وأربعين سنة رحمه الله تعالى.

‌161 - المظفر بن محمد

بن محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء أبو منصور ابن القاضى أبى يعلى ابن القاضى أبى خازم ابن القاضى الكبير أبى يعلى.

ولد سنة ست وثلاثين وخمسمائة.

وسمع الحديث، واشتغل بالفقه أصولا وفروعا. وبرع وناظر وتأدب، وقال الشعر الجيد.

ومن شعره:

لست أنسى من سليمى قولها

يوم جد البين منى وبكت

ص: 343

قطع الله يد الدهر لقد

قرطست إذ بالنوى شملى رمت

فجرى دمعى لما سمعت

ووعت أذناى منها ما وعت

يا لها من قولة عن ناظرى

نومة طول حياتى قد نفت

ومن شعره أيضا:

يا ربة الطرف الكحيل الذى

يرمى منى الأكباد بالنبل

وربة الخد الأسيل الذى

يفعل فعل الصارم المجلى

هويتكم والقلب ذو صحة

واليوم قد أصبح ذا خبل

كان خليّا فارغا فانثنى

بكم عن العالم فى شغل

عوفيتم من سقم حل بى

ولا رأتكم مقلتى مثلى

لا تقتلوا عبدا أسيرا غدا

وهو لكم أطوع من نعل

والله لو جئت ومن دونكم

نار ثوت تعمل فى الجزل

وقلتم: طأها، ووطئى لها

يرضيكم أقحمتها رجلى

توفى رحمه الله فى عنفوان شبابه، يوم الجمعة لخمس عشرة خلت من شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب.

‌162 - محمد بن أبى غالب

بن أحمد بن مرزوق بن أحمد الباقدارى، البغدادى الضرير المحدث، الحافظ أبو بكر.

ولد بباقدار، قرية من قرى بغداد. وقدم بغداد فى صباه، فتلا على جماعة.

وسمع الحديث من أبى محمد سبط الخياط، وأبى بكر بن الزاغونى، وابن الطلاية وأبى الوقت، وابن ناصر الحافظ، وطبقتهم. وأكثر السماع عليهم، وعلى من بعدهم

وحدث، وسمع منه أبو الحسن على بن عمر الزيدى الحافظ، وغيره.

وذكره ابن الدبيثى الحافظ، فقال: انتهى إليه معرفة رجال الحديث وحفظه. وعليه كان المعتمد فيه.

ص: 344

وقال أبو الفتوح نصر بن الحصرى الحافظ: كان آخر من بقى من حفاظ الحديث الأئمة.

قال الدبيثى: سمعت غير واحد من شيوخنا يذكرون أبا بكر الباقدارى، ويصفونه بالحفظ ومعرفة الرجال والمتون، مع كونه ضريرا مقصورا، إلا أنه كان حفظة، حسن الفهم. بلغنى: أن ابن ناصر كان يراجعه فى أشياء، ويصير إلى قوله

وقال الحافظ عبد العظيم المنذرى: كان أحد حفاظ بغداد، المشهورين بمعرفة الرجال، والمتقدم مع ضرره، حدث وخرج.

قال الحافظ أبو بكر الباقدارى: روى أبو بكر بن أبى داود عدة أحاديث، يقول فيها: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا سعد حدثنا الأعمش، بأسانيد متصلة إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فكنت لا أدرى من إسحاق بن إبراهيم، ولا سعد؟ فأمعنت النظر، وأجدت التفتيش، فلم أجده إلا فيما قرئ على المبارك ابن أبى نصر البزاز - وأنا أسمع - قيل له: حدثكم عبد الله بن أحمد حدثنا أحمد ابن على الحافظ، قال: حدثنا ذكر إسحاق بن إبراهيم الشيرازى: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن الحسين المحاملى - إملاء - حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف.

حدثنا أحمد بن إبراهيم البردعى، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الشيرازى، حدثنا جدى سعد بن الصلت، حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:«جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر من غير خوف ولا مطر. فقيل لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كى لا يحرج أمته» . وجمع أبو بكر فى هذا جزءا.

قلت: إسحاق هذا يعرف بشاذان، وهو إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله النهشلى الفارسى، وهو ابن بنت سعد بن الصلت قاضى فارس. روى عن جده أبى أمه سعد بن الصلت، وأبى داود الطيالسى، والأسود بن عامر.

قال ابن أبي حاتم: كتب إلى أبى، وإلىّ، وهو صدوق.

ص: 345

توفى أبو بكر الباقدارى لخمس بقين من ذى الحجة سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وهو فى سن الكهولة. ودفن بالشونيزية، بتربة مقبرة أبى القاسم الجنيد، وهو والد عجيبة مسندة العراق.

‌163 - المبارك بن على

بن الحسين بن عبد الله بن محمد الطباخ البغدادي، نزيل مكة المكرمة، وإمام الحنابلة بالحرم، المحدث الحافظ أبو محمد.

سمع الكثير ببغداد من أبى سعد بن الطيورى، وأبى العز بن كادش، وابن الحصين، وأبى بكر المزرفى، وابن غالب بن البناء، والقاضى أبى الحسين بن الفراء، وأبى منصور القزاز، وأبى القاسم بن السمرقندى، وأبى الحسين بن الزاغونى، وبهرام بن بهرام بن فارس البيّع، وأبى بكر اللفتوانى الأصبهانى، وغيرهم

وعنى بالطلب. وسمع الكثير. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه. وكان صالحا دينا ثقة، وهو كان حافظ الحديث بمكة فى زمانه، والمشار إليه بالعلم بها.

وحدث، وسمع منه خلق من القدماء، منهم: ابن السمعانى، وسمع منه جماعة من أصحابنا، منهم: أبو القاسم عبيد الله بن الفراء، وأبو العباس أحمد بن محمد ابن الفراء، وأبو الفتح بن عبدوس الحرانى، والوزير بن يونس، وأبو عبد الله الأرتاحى، وغيرهم.

وتوفى فى ثامن شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة بمكة. وكان يوم جنازته مشهودا رحمه الله.

‌164 - إسماعيل بن موهوب

بن أحمد بن محمد بن الخضر بن الحسن بن محمد بن الجواليقى. الأديب ابن الأديب، أبو محمد بن أبى منصور.

ولد فى شعبان سنة اثنى عشرة وخمسمائة.

وسمع من أبى القاسم بن الحصين، وأبى بكر الأنصارى، وأبى الحسين بن الفراء، وأبى العز بن كادش، وأبى غالب بن البناء، وأبى القاسم بن السمرقندى وغيرهم.

ص: 346

وقرأ القرآن والأدب على أبيه، وكان عالما باللغة والعربية والأدب. وله سمت حسن. وقام مقام أبيه فى دار الخلافة.

قال ابن القطيعى: سمعت ابن الجوزى يقول: ما رأينا ولدا أشبه أباه مثله حتى فى مشيه وأفعاله.

وتوفى يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وصلّى عليه من الغد بجامع القصر. ودفن بمقبرة الإمام أحمد رضى الله عنه.

وقال المنذرى: هو أحد الفضلاء النساك، سمع من غير واحد، وحدث.

وقال الدبيثى: شيخ فاضل، له معرفة بالأدب، وقور، حسن الطريقة واختص بخدمة الخلفاء فى أيام المستضئ.

سمع منه عمر القرشى، والمبارك بن أبى شتكين، وخلق كثير.

وقال ابن النجار: كان من أعيان العلماء بالأدب، صحيح النقل، كثير المحفوظ، حجة ثقة نبيلا، مليح الخط. قرأ الأدب على أبيه حتى برع فيه. وكانت له حلقة بجامع القصر الشريف، يقرئ فيها الأدب كل جمعة. وكان يكتب أولاد الخلفاء، ويقرئهم الأدب، وكان على منهاج أبيه فى حسن السمت، والديانة والنزاهة والعفة، وقلة الكلام، والرواية.

روى لنا عنه ابن الأخضر، وأثنى عليه ثناء كثيرا.

‌165 - أحمد بن أبى الوفاء،

عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الصمد ابن محمد بن الصائغ البغدادى، الفقيه الإمام أبو الفتح، نزيل حران.

ولد ببغداد سنة تسعين وأربعمائة. قاله ابن القطيعى عنه.

وقال أبو المحاسن القرشى عنه: سنة سبعين.

ولزم أبا الخطاب الكلوذانى، وخدمه وتفقه عليه. وسمع منه، ومن أبى القاسم ابن بيان، وسافر إلى حلب وسكنها. ثم استوطن حران إلى حين وفاته. وكان هو المفتى والمدرس بها.

ص: 347

وقرأ عليه الفقه جماعة، منهم: الشيخ فخر الدين ابن تيمية. وحدث بحلب وبحران.

سمع منه جماعة من أصحابنا ومن غيرهم، منهم: أبو الفتح بن عبدوس، والشيخ العماد المقدسى، والبهاء عبد الرحمن المقدسى، ومحمود بن الصقال، وأبو الحسن بن الصقال، وأبو الحسن بن القطيعى. وروى عنه فى تاريخه.

قال: وأنشدنى أبو الخطاب الكلوذانى لنفسه:

أنا شيخ وللمشايخ بالآداب

علم يخفى على الشبان

فإذا ما ذكرتنى فتأدب

فهو قرض يرد بالميزان

وروى عنه ابن صصرى فى معجمه، وابن الأستاذ، وغيرهما.

توفى رحمه الله بحران سنة ست وسبعين وخمسمائة، فيما ذكره ابن القطيعى.

وذكر الذهبى فى تاريخه: أنه مات سنة خمس وسبعين.

‌166 - على بن محمد

بن المبارك بن أحمد بن بكروس، البغدادى، الفقيه، أبو الحسن، أخو أبى العباس أحمد السابق ذكره.

ولد يوم الاثنين ثالث رجب سنة أربع وخمسمائة.

وسمع الحديث من ابن الحصين، والمزرفى، وأبى القاسم بن السمرقندى، وأبى غالب الماوردى، وأبى الحسن على بن محمد الهروى، وزاهر بن طاهر الشحامى، وغيرهم.

وتفقه فى المذهب، وبرع، وأفتى وناظر، ودرس بمدرسة أخيه آخرا، وصنف فى المذهب، وله كتاب «رءوس المسائل» ، وكتاب «الأعلام» .

وحدث، وسمع منه جماعة، منهم: أبو الحسن بن القطيعى. وروى عنه فى تاريخه.

ولزم بيته فى آخر عمره لمرض حصل له، إلى أن توفى يوم الاثنين ثالث ذى الحجة، سنة ست وسبعين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الإمام أحمد، رضى الله عنه

ص: 348

‌167 - على بن أبى المعالى المبارك

-

وقيل: أحمد بن أبى الفضل بن أبى القاسم بن الأحدب الوراق الدارقزى، ثم المحولى، الفقيه أبو الحسن، المعروف بابن غريبة.

وقال ابن النجار: رأيت نسبه بخط ابن مشق على بن محمد بن أحمد بن أبى القاسم، أبو الحسن بن أبى المعالى بن أبى الفضل.

ولد فى منتصف رمضان سنة ست وخمسمائة.

وسمع الكثير من أبى القاسم بن الحصين، سمع منه المسند بكماله، ومن القاضى أبى بكر الأنصارى، والقاضى أبى الحسين بن الفراء، وأبى غالب بن الفراء، وأبى القاسم بن السمرقندى.

وسمع بمرو من الخطيب أبى الفتح الكشميهنى، وغيرهم.

وتفقه فى المذهب على أبى القاسم بن قثامى، وأبى الفضل بن سيف، وقرأ الفرائض على القاضى أبى بكر. وكان ثقة، صحيح السماع، ذا عقل وتجربة، ولاه الوزير ابن هبيرة المظالم، يرفعها إليه. وانقطع فى آخر عمره بالمحوّل، إلى أن مات، وأفلج قبل موته بشهر، وحدث، وسمع منه جماعة.

قال ابن النجار: كان فقيها، فاضلا، حسن الكلام فى مسائل الخلاف.

وكان يكتب خطا رديئا.

وسمع منه من أصحابنا: أبو الفرح عبد الرحمن بن الحنبلى، وابن القطيعى، وابن الغزال، وروى عنه ابن الجوزى حكايات عدة.

وتوفى يوم الأحد حادى عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بالمحول، وحمل على أعناق الرجال، فدفن بمقبرة الإمام أحمد، رضى الله عنه بباب حرب.

ص: 349

‌168 - دلف بن عبد الله

بن محمد بن عبد الله بن عمر بن البتان الأزجى، الفقيه أبو الخير.

سمع من ابن ناصر، وسعد الخير الأنصارى، وعبد الصبور الهروى، وأبى حفص الحربى وغيرهم. وصحب الشيخ عبد القادر، وتفقه عليه، ثم خرج من بغداد، ودخل خراسان، وأقام بنيسابور، فقرأ على محمد بن يحيى الفقيه، وسمع بها من أبى البركات عبد الله بن محمد الفزارى.

ودخل خوارزم، ومضى إلى سمرقند، وسمع بها من أبى المعالى محمد بن نصر المدينى، وأبى القاسم محمود بن على النسفى، وحدث هناك.

وروى عنه أبو سعد بن السمعاني فى ذيله حكايات، وروى عنه أبو المظفر ابن السمعانى فى مشيخته، وأبو بكر الفرغانى خطيب سمرقند، وذكر أنه سمع منه فى صفر سنة سبع وسبعين وخمسمائة.

‌169 - كرم بن بختيار

بن على البغدادى، الرصافى الزاهد أبو الخير.

وقيل: أبو على.

ولد فى حدود سنة أربع وتسعين وأربعمائة.

وسمع من أبى القاسم بن الحصين. وحدث، وسمع منه جماعة، منهم:

ابن القطيعى.

وقال الناصح بن الحنبلى: سمعت منه جزءا بقراءة الشيخ طلحة العلثى، قال: وزرته يوما، وهو مضطجع على جنبه، والفقيه ابن فضلان - يعنى: شيخ الشافعية - عنده يزوره، فأخذ بيد الشيخ كرم يقبلها تبركا. وكان زاهدا، منقطعا بالرصافة.

وقال القطيعى: كان زاهدا، ورعا، سريع الدمعة، كثير العبادة. وفى بعض الأوقات تصدر منه كلمات على خاطر الحاضر عنده.

ص: 350

وقال الدبيثى: كان أحد الشيوخ الموصوفين بالصلاح.

وتوفى يوم الأربعاء سادس ذى الحجة سنة تسع وسبعين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الإمام أحمد، فى دكة بشر الحافى. وكان حنبليا.

‌170 - إسماعيل بن نباته

الفقيه، الملقب وجيه الدين.

قال ناصح الدين بن الحنبلى: سمع درس عمى الإمام بهاء الدين عبد الملك ابن شرف الإسلام لما قدم من خراسان، وعلق عنه من تعليق أبى الفضل الكرمانى، ثم سمع درس والدى، وحفظ «الهداية» لأبى الخطاب، حفظا متقنا، وحفظ أصول الفقه للبستى، وحفظ كثيرا من مسائل التعليق. وكان يدرس القرآن كثيرا، ويقوم به من نصف الليل. وكان يصلى الفجر على نهر بردى بحضرة القلعة، ويصلى العصر على عين بعلبك، وبالعكس، وربما قرأ فى طريقه القرآن - أو كتاب «الهداية» - الشك منى.

قال: ولما قدمت من بغداد سنة ست وسبعين، وتكلمت فى المسألة فرح بى.

ومات قبل الثمانين وخمسمائة، ودفن بالجبل، جوار دير الحورانى. رحمه الله.

‌171 - عبد الله بن على

بن محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء، القاضى أبو القاسم ابن القاضى أبى الفرج ابن القاضى أبى خازم، ابن القاضى أبى يعلى.

ولد ليلة الاثنين رابع عشر ذى الحجة سنة سبع وعشرين وخمسمائة.

وأسمعه أبوه الكثير فى صباه من أبى منصور القزاز، وأبى منصور بن خيرون، وعبد الخالق بن البدن، وأبى سعد الزوزنى، وأبى البدر الكرخى، وأبى الحسن بن عبد السلام، وأبى الفضل الأرموى، وأبى محمد سبط الخياط.

وسمع هو بنفسه من ابن ناصر الحافظ، وأبى بكر بن الزاغونى، وسعيد ابن البناء، وخلق من أصحاب القاضى، وابن البطر، وطراد، وطبقتهم.

ص: 351

وبالغ فى السماع والإكثار، حتى سمع من جماعة من المتأخرين.

وكتب بخطه، وحصل الكتب، والأصول الحسان الكبيرة، وتفقه، وكتب فى الفتاوى مع أئمة عصره، وشهد عند أبى الحسن بن الدامغانى من سنة خمس وخمسين. وكانت داره مجمعا لأهل العلم، يحضرها المشايخ، ويقرأ عليهم وتحضر الناس منزله للسماع، وينفق عليهم بسخاء نفس، وسعة صدر.

وحدث باليسير.

سمع منه ابن عمه أبو العباس أحمد، وأبو الحسن الزيدى، وابن الأخضر.

وروى عنه. وكان يصفه كثيرا بالسخاء وسعة النفس، والبذل والعطاء. وحسن الخلق، ولطف المعاشرة.

وروى عنه ابن القطيعى فى تاريخه. وأجاز للخليفة الناصر، وخرجوا له عنه فى كتاب «روح العارفين» .

وقرأت بخط الشيخ ناصح الدين بن الحنبلى، قال: سمعت عليه كتاب «صحيح الترمذى» بسماعه من الكروخى، بقراءة الشيخ طلحة العلثى، وأجزاء أخر. وكان جميلا جليلا، محترما وفاضلا، ومن أعيان العدول ببغداد.

ومن تصانيفه «الروض النضر فى حياة أبى العباس الخضر» وكانت عنده كتب جليلة أصيلة على مذهب الإمام أحمد. وخط الإمام أحمد كان أيضا عنده.

حكاه الشيخ طلحة فى غالب ظنى. وكان فى سنة ثلاث وسبعين قد علاه الشيب الكثير. وكنت لا أشبع من النظر إلى جمال وجهه، وحسن أطرافه، وسكينة عليه. ولزمه دين كثير. وحمل منه الهم الغزير.

وقال ابن القطيعى: جمع بين حسن الرأى والسمت، وعارف بأحكام الشريعة، من الشهادة والقضاء، مهيب المجلس، لم يزل منزله محلا لقراءة الحديث وتدريس الفقه بحضرة الشيوخ، وجماعة أصحاب الحديث، معروف بالكرم والإفضال.

وله الأصول الحسنة والفوائد الجمة.

ص: 352

وسمع الحديث عاليا ونازلا، وجمع وصنف أنواعا من العلوم. وحمله بذل يده، وكرم طبعه على أنه استدان مالا يمكنه الوفاء، فغلبه الأمر حتى باع معظم كتبه، وخرج عن يده أكثر أملاكه، واختفى فى بيته لما فدعه من الديون.

وبلغ به الحال إلى أن اغتيل فى شهادة على امرأة بتعريف بعض الحاضرين، وأنكرت المرأة المشهود عليها ذلك الإشهاد. وكان ذلك سببا لعزله عن الشهادة، فهو عدل فى روايته، ضعيف فى شهادته.

وتوفى رحمه الله يوم الجمعة يوم عيد الأضحى سنة ثمانين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد عند آبائه. وأبوه القاضى أبو الفرج على ابن القاضى أبى خازم.

حدث بإجازته من العاصمى، وأبى الفضل بن خيرون، وابن الطيورى، وغيرهم

وسمع منه ابنه هذا، وأبو العباس القطيعى الفقيه، والحسين بن مهجل وغيرهم،

وتوفى فى ليلة الأحد ثانى عشر رمضان سنة ست وأربعين وخمسمائة.

ووهم ابن السمعانى فى نسبته، فقال: هو على بن عبيد الله بن محمد بن الحسين وذكره فى موضع آخر على الصواب، وقال: سمع الحسين بن طلحة، فمن دونه.

كتبت عنه أحاديث. وعمه القاضى أبو محمد عبد الرحيم ابن القاضى أبى خازم.

سمع من القاضى أبيه، وعمه أبى الحسين، وأبى الحصين، وأبى العز بن كادش، وأسعد بن صاعد النيسابورى، وغيرهم، وحدث.

كتب عنه ابن القطيعى، وقال: سألته عن مولده؟ فقال: سنة تسع وخمسمائة

وتوفى ليلة الجمعة عشرين ذى الحجة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. ودفن عند آبائه، وله عدة أولاد سمعوا الحديث أيضا.

‌172 - عبد الرحمن بن جامع

بن غنيمة بن البناء البغدادى، الأزجى الميدانى، الفقيه الزاهد أبو الغنائم. ويسمى أيضا غنيمة.

ولد سنه خمسمائة تقريبا.

وسمع الحديث من ابن أبى طالب اليوسفى، وابن الحصين، سمع عليه المسند كله، والقاضى أبى بكر بن عبد الباقى، وأبى السعادات المتوكلى، والحسين بن

ص: 353

عبد الملك الخلال وغيرهم. وتفقه على أبى بكر الدينورى. وقرأ الخلاف على أسعد الميهنى وغيره. وبرع وأفتى وناظر ودرس بمسجده. وكان عارفا بالمذهب صالحا تقيا

قال ابن الدبيثى: كان شيخا صالحا، فقيها مناظرا على مذهب الإمام أحمد

وقال ابن النجار: كان فقيها فاضلا، ورعا زاهدا، مليح المناظرة، حسن المعرفة بالمذهب والخلاف.

وقال الشيخ موفق الدين عنه: كان فقيها من أصحابنا، وتولى مدرسة ابن بكروس بعد موته. ومضينا إليه مع الشيخ أبى الفتح - يعنى ابن المنى - على عادة فقهاء بغداد، وتكلمت يومئذ فى مسألة قتل المسلم بالذمى. وكان يسكن بالميدان من باب الأزج: ولذلك قيل فى نسبه، الميدانى:

سمع منه عمر بن على القرشى، وابن الدبيثى، وابن القطيعى.

وحدث عنه الشيخ موفق الدين، والبهاء عبد الرحمن المقدسيان، والموفق بن صديق، وعمر بن شخانه الحرانيان، وابن الأخضر، وأحمد بن البندنيجى، وابن الغزال الواعظ. وأجاز للخليفة الناصر.

وتوفى ليلة الاثنين ثامن شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

‌173 - على بن عكبر

بن عبد الله، أبو الحسين الضرير المقرئ الأزجى الفقيه

قرأ القرآن، وسمع الحديث الكثير من ابن ناصر، وابن البطى، وغيرهما.

وتفقه على أبى حكيم النهروانى. وقرأ عليه القرآن جماعة، وكان يحفظ طرفا من المذهب. وكان من أهل الدين والصلاح. ذكره ابن النجار عن أبى العباس بن الفراء، وأنه قال: توفى ليلة الأربعاء عاشر شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.

ودفن بباب حرب إلى جانب شيخه أبى حكيم. رحمهما الله تعالى.

‌174 - عبد المغيث بن زهير

بن علوى الحربى، المحدث الزاهد، أبو العز ابن أبى حرب.

ولد سنة خمسمائة تقريبا.

ص: 354

وسمع من أبى القاسم بن الحصين، وأبى العز بن كادش، وأبى غالب وأبى عبد الله بن أبى على بن البناء، وأبى الحسين بن الفراء، والمزرفى، والقاضى أبى بكر الأنصارى، وهبة الله الجريرى، وأبى القاسم السمرقندى، وأبى منصور القزاز، وعبد الوهاب الأنماطى، وزاهر الشحامى، وخلق كثير، وعنى بهذا الشأن

وقرأ بنفسه على المشايخ، وكتب بخطه، وحصل الأصول، ولم يزل يسمع حتى سمع من أقرانه. وتفقه على القاضى أبى الحسين بن الفراء

وكان صالحا متدينا، صدوقا أمينا، حسن الطريقة، جميل السيرة، حميد الأخلاق مجتهدا فى اتباع السنة والآثار، منظورا إليه بعين الديانة والأمانة. وجمع وصنف وحدث، ولم يزل يفيد الناس إلى حين وفاته، وبورك له حتى حدث بجميع مروياته وسمع منه الكبار.

قال الدبيثي: عنى بطلب الحديث وسماعه، وجمعه من مظانه. فسمع الكثير وقرأ عليه الشيوخ. وكتب وحصل الأصول، وخرج وصنف. وكان ثقة صالحا.

صاحب طريقة حميدة. وحدث بالكثير وأفاد الطلبة. سمعنا منه، وكتبنا عنه.

ونعم الشيخ كان.

وروى عنه ابن السمعانى فى كتابه شعرا، وقال عنه: رفيقنا.

وروى عنه الشيخ موفق الدين، والحافظ عبد الغنى، والبهاء عبد الرحمن المقدسيون.

وقدم دمشق، وحدث بها سنة ثمان وثلاثين.

قرأت بخط ناصح الدين بن الحنبلى: سمعت من عبد المغيث طبقات أصحاب الإمام أحمد لأبى الحسين ابن القاضى بسماعه منه، بقراءة طلحة العلثى ببغداد.

وكان - يعنى عبد المغيث - حافظا زاهدا ورعا. كنت إذا رأيته خيّل إلىّ أنه أحمد ابن حنبل، غير أنه كان قصيرا.

وقال الحافظ المنذرى عنه: اجتهد فى طلب الحديث، وجمعه، وصنف وأفاد،

ص: 355

وحدث بالكثير. حدثنا عنه الفقيه أبو عبد الله حمد بن صديق بحران.

وقال ابن القطيعى: كان أحد المحدثين مع صلابته فى الدين، واشتهاره بالسنة، وقراءة القرآن. وجرت بينه وبين صاحب المنتظم - يعنى: أبا الفرج بن الجوزى - نفرة كان سببها الطعن على يزيد بن معاوية. وكان عبد المغيث يمنع من سبه. وصنف فى ذلك كتابا، وأسمعه. وصنف الآخر كتابا سماه «الرد على المتعصب العنيد، المانع من ذم يزيد» وقرأته عليه. ومات عبد المغيث وهما متهاجران.

قلت: هذه المسألة وقع بين عبد المغيث وابن الجوزى بسببها فتنة، ويقال: إن عبد المغيث تتبع أبا الحسن بن البناء، فقيل: إنه صنف فى منع ذم يزيد ولعنه، وابن الجوزى صنف فى جواز ذلك. وحكى فيه: أن القاضى أبا الحسن صنف كتابا فيمن يستحق اللعن، وذكر منهم يزيد، وذكر كلام أحمد فى ذلك.

وكلام أحمد إنما فيه لعن الظالمين جملة، ليس فيه تصريح بجواز لعن يزيد معينا.

وقد ذكر القاضى فى المعتمد: نصوص الإمام أحمد فى هذه المسألة، وأشار إلى أن فيها خلافا عنه.

وقرأت بخط يحيى بن الصيرفى الفقيه الحرانى، قال: حكى لى: أنه كان يوما فى زيارة قبر الإمام أحمد - يعنى الشيخ عبد المغيث - وأن الخليفة الناصر، وافاه فى ذلك اليوم عند قبر الإمام أحمد، فقال له: أنت عبد المغيث الذى صنف مناقب يزيد؟ فقال: معاذ الله أن أقول: إن له مناقب، ولكن من مذهبى: أن الذى هو خليفة المسلمين إذا طرأ عليه فسق لا يوجب خلعه. فقال: أحسنت يا حنبلى، واستحسن منه هذا الكلام، وأعجبه غاية الإعجاب.

قال ابن الصيرفى: ولقد حكى لى شيخنا محب الدين أبو البقاء: أن الشيخ جمال الدين بن الجوزى كان يقول: إنّي لأرجو من الله سبحانه أن أجتمع أنا وعبد المغيث فى الجنة. قال: وهذا يدل على أنه كان يعلم أن الشيخ عبد المغيث من عباد الله الصالحين، فرحمة الله عليهما.

ص: 356

قلت: ووقع أيضا تنازع بين عبد المغيث، وابن الجوزى فى صلاة النبى صلى الله عليه وسلم خلف أبى بكر الصديق رضى الله عنه. فصنف عبد المغيث تصنيفين فى إثبات ذلك، تبعا لأبى على البردانى.

ورد عليه ابن الجوزى فى كتاب سماه «آفة أصحاب الحديث، والرد على عبد المغيث» . وكان عبد المغيث قد حفر لنفسه قبرا خلف هدف الإمام أحمد الذى هو مدفون فيه.

فقال ابن الجوزى: لا يجوز ذلك؛ لأنها بقعة مسبلة، فلا يجوز تحجيرها، ولأن تلك البقعة لا تخلو من دفين، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم:«كسر عظم الميت ككسره حيا» .

فقال عبد المغيث: حفرت فلم أجد عظما.

فقال ابن الجوزى: تلك بليت، وبقى رضاضها المحترم، ولا يجوز نبشها.

قال: ولأنك إذا وضعت فى هذا القبر تكون رجلاك عند رأس أحمد؛ إذ ليس بينهما إلا الهدف، وهذا سوء أدب. أما علمت أن المروذى قال: ادفنونى بين يديه، كما كنت أجلس بين يديه؟.

قال: فلم يلتفت إلى ما قلت، ومر مع هواه.

قلت: إذا بلى الميت، فلم يبق له عظم ولا أثر، فظاهر المذهب: جواز نبش قبره والدفن فيه، خلاف ما قاله ابن الجوزى.

وصنف عبد المغيث: «الانتصار لمسند الإمام أحمد» أظنه ذكر فيه: أن أحاديث المسند كلها صحيحة. وقد صنف فى ذلك قبله أبو موسى. وبذلك أفتى أبو العلاء الهمدانى، وخالفهم الشيخ أبو الفرج بن الجوزى.

وللشيخ عبد المغيث مصنف فى حياة الخضر فى خمسة أجزاء. وله كتاب «الدليل الواضح فى النهى عن ارتكاب الهوى الفاضح» يشتمل على تحريم الغناء وآلات اللهو. وذكر فيه: تحريم الدّفّ بكل حال، فى العرس وغيره.

ص: 357

وأجاب عن حديث «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف» بأن معناه:

أعلنوه إعلانا يبلغ ما يبلغ صوت الدف لو ضرب به؛ لتمحو سنة الجاهلية من نكاح البغايا المستتر به.

وأجاب عن حديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان فى بيت عائشة، بأنهما لم يكونا مكلفتين لصغرهما.

قال: وقد أقر النبى صلى الله عليه وسلم أبا بكر على تسميته «مزمار الشيطان» وربما أشار إلى أنه منسوخ. وهذا مذهب ضعيف.

وللشيخ عبد المغيث قصيدة فى السنة رواها عنه ابن الدبيثى، يقول فيها:

أفق أخا اللب من سكر الحياة فقد

آن الرحيل وداعى الموت قد حضرا

هل أنت إلا كآحاد الذين مضوا

بحسرة الفوت لما استيقن الخبرا

وأنت تحرص فيما أنت تاركه

إن كنت تعقل يوما حقق النظرا

أيام عمرك كنز لا شبيه له

وأنت تشرى الحصباء والمدرا

توفى رحمه الله ليلة الأحد ثالث عشر محرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وصلّى عليه الخلق الكثير من الغد بالحربية. ودفن بدكة قبر الإمام أحمد مع الشيوخ الكبار. رحمهم الله تعالى.

وذكر ابن النجار فى ترجمة داود بن أحمد الضرير الظاهرى: أنه سمعه يقول:

سمعت يعقوب بن يوسف الحربى يقول: رأيت عبد المغيث بن زهير الحربى فى المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال:

العلم يحيى أناسا فى قبورهم

والجهل يلحق أحياء بأموات

‌175 - نصر بن فتيان

بن مطر النهروانى، ثم البغدادى، أبو الفتح الفقيه الزاهد، المعروف بابن المنّى، ناصح الإسلام، وأحد الأعلام، وفقيه العراق على الإطلاق.

ص: 358

قال ابن القطيعى: ورأيت فى أكثر مسموعاته: يكتب له أبو الفتح عبد الله بن هبة الله، المعروف بفتيان بن مطر.

قال: وسألته عن مولده؟ فقال: سنة إحدى وخمسمائة. وهذا أصح مما قاله المنذرى: أنه ولد - ظنا - قبل سنة خمسمائة.

وسمع الحديث من أبى بكر بن الدنف سنة إحدى عشرة، ومن القاضى أبى بكر بن عبد الباقى، وعبد الوهاب الأنماطى، وأبى الحسن بن الزاغوانى، وأبى منصور القزاز، وأبى القاسم بن الحصين، وأبى نصر اليونارتى، وأبى غالب ابن البناء، وأبى عبد الله البارع، والحسين بن عبد الملك الخلال، والأرموى، وابن ناصر، وأبى الوقت، وغيرهم.

وتفقه على أبى بكر الدينورى، ولازمه حتى برع فى الفقه، وتقدم على أصحابه، وأعاد له الدرس. وصرف همته طول عمره إلى الفقه، أصولا وفروعا، مذهبا وخلافا، واشتغالا وإشغالا، ومناظرة. وتصدر للتدريس والاشتغال والإفادة، وطال عمره، وبعد صيته، وقصده الطلبة من البلاد، وشدت إليه الرحال فى طلب الفقه، وتخرج به أئمة كثيرون.

قرأت بخط الإمام ناصح الدين بن الحنبلى وقد ذكر شيخه بن المنى، فقال:

رحلت إليه فوجدت مسجده بالفقهاء والقراء معمورا، وكل فقيه عنده من فضله وإفضاله مغمورا، فأنخت راحلتى بربعه، وحططت زاملة بغيتى على شرعه، فوجدت الفضل الغزير، والدين القويم المنير، والفخر المستطيل المستطير، والعالم الخبير، فتلقانى بصدر بالأنوار قد شرح، ومنطق بالأذكار قد ذكر ومدح، وبباب إلى كل باب من الخيرات قد شرع وفتح. فتح الله عليه. حفظ القرآن العظيم وهو فى حداثة من سنه. ولاحت عليه أعلام المشيخة، فرجح منه على كل فن بفضل الله ومنّه.

قال لى المهذب بن قيداس: كنا نسمى شيخك شيخ صبى - يعنى فى صباه -

ص: 359

لعقله ووقاره، وتركه اللعب. ثم قال: لم ينقل عنه: أنه لعب ولا لها، ولا طرق باب طرب، ولا مشى إلى لذة ومشتهى.

حدثنى شيخنا الإمام ناصح الإسلام بن المنّى قال: حصل لى من ميراث والدى عشرون دينارا، فاشتريت بها شيئا وبعته فأربحت، فخفت أن تحلو لى التجارة فأشتغل بها، فنويت الحج فحججت، وتجردت للعلم، فسمعت درس الشيخ أبى بكر الدينورى صاحب الشيخ أبى الخطاب الكلوذانى، قال: فتفقه به، ومال الفقهاء من أصحاب شيخه إلى الاشتغال عليه. ودرس بعد موت شيخه

قال لى: تقدمت فى زمن أقوام ما كنت أصلح أن أقدم مداسهم. وقال لى رحمه الله: ما أذكر أحدا قرأ علىّ القرآن إلا حفظه، ولا سمع درسى الفقه إلا انتفع. ثم قال: هذا حظى من الدنيا.

قال ابن الحنبلى: أفتى ودرس نحوا من سبعين سنة، ما تزوّج ولا تسرى، ولا ركب بغلة ولا فرسا، ولا ملك مملوكا، ولا لبس الثياب الفاخر إلا لباس التقوى. وكان أكثر طعامه يشرب له فى قدح ماء الباقلاّ. وكان إذا فتح عليه بشئ فرقه بين أصحابه. وكان لا يتكلم فى الأصول. ويكره من يتكلم فيه، سليم الاعتقاد، صحيح الانتقاد فى الأدلة الفروعية. وكنا نزور معه فى بعض السنين قبر الإمام أحمد.

وسمعت الشيخ الإمام جمال الدين بن الجوزى وقد رآه يقول له: أنت شيخنا.

وأضرّ بعد الأربعين سنة، وثقل سمعه. وكان تعليقه الخلاف على ذهنه، وفقهاء الحنابلة اليوم فى سائر البلاد يرجعون إليه، وإلى أصحابه.

قلت: وإلى يومنا هذا الأمر على ذلك. فإن أهل زماننا إنما يرجعون فى الفقه من جهة الشيوخ والكتب إلى الشيخين: موفق الدين المقدسى، ومجد الدين ابن تيمية الحرانى.

فأما الشيخ موفق الدين: فهو تلميذ ابن المنى. وعنه أخذ الفقه.

ص: 360

وأما ابن تيمية: فهو تلميذ تلميذه أبى بكر محمد بن الحلاوى. وقد جمع بعض فضلاء أصحابه له سيرة طويلة. وهو أبو محمد عبد الرحمن بن عيسى البزورى الواعظ. وقفت على بعضها مما ذكره فيها.

قال: وكان رحمه الله كثير الذكر والتلاوة للقرآن لا سيما فى الليل، مكرما للصالحين، محبّا لهم، ليس فيه تيه الفقهاء، ولا عجب العلماء. إن مرض أحد من تلامذته ومعارفه عاده، أو كانت لهم جنازة شيعها ماشيا غير راكب، على كبر السن، وضعف البنية. زاهدا فى الدنيا، يقنع منها بالبلغة، وإذا جاءه فتوح أو جائزة من بيت المال وزعها بين أصحابه، وإن ناله منها شئ أعاده عليهم فى غضون الأيام.

قال: ولقد حدثنى من أثق به من أصحابنا: أنه جاءته صلة من بعض الصدور نحو أربعين دينارا، ففرقها فى يومه بين أهله وأصحابه، وما أخذ منها شيئا. فلما كان آخر النهار قال لى: يا فلان، لو كنا عزلنا من ذاك الذهب قيراطين للحمام؟ وكان قوته كل يوم قرصين، وربما لم يغنهما.

وقال لى بعض أصحابه: إنه يستفضل منهما بعض الأيام ما يدفعه إلى السقا.

وكان معظم إدامه: أن يشترى له برنيف ماء الباقلاّ. وما رأيته جعل عليه دهنا قط، راضيا بذلك مع قدرته.

وكان يخدم نفسه بنفسه، لا يثقل على أحد من أصحابه، ولا يكلفهم شيئا.

اللهم إلا أن يعتمد على يد أحدهم فى الطريق. ولقد كنا عنده يوما جماعة من أصحابه، فأوذن بالصلاة، فنهض بنفسه فاستقى الماء للتطهير، وما ترك أحدا منا ينوبه فى ذلك، ولقد قدمت له نعله يوما، فشق عليه، وجعل يقول: إيش هذا؟ إيش هذا؟ مثلك لا نسامحه فى هذا.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين المقدسى؟ فقال: شيخنا أبو الفتح كان رجلا صالحا، حسن النية والتعليم. وكانت له بركة فى التعليم. قلّ من قرأ عليه

ص: 361

إلا انتفع، وخرج من أصحابه فقهاء كثيرون، منهم من ساد. وكان يقنع بالقليل، وربما يكتفى ببعض قرصة، ولم يتزوج. وقرأت عليه القرآن. وكان يحبنا ويجبر قلوبنا، ويظهر منه البشر إذا سمع كلامنا فى المسائل. ولما انقطع الحافظ عبد الغنى عن الدرس لاشتغاله بالحديث، جاء إلينا، وظن أن الحافظ انقطع لضيق صدره.

وذكر ابن الجوزى فى المنتظم: أن المستضئ فى أول خلافته جعل للشيخ أبى الفتح حلقة بالجامع، ثم بعد مدة أمر ببناء دكة له فى جامع القصر، وجلس فيها للمناظرة سنة أربع وسبعين. وله تعليقة فى الخلاف كبيرة معروفة.

وقرأ عليه الفقه خلق كثير. قد ذكر أعيانهم ابن البزورى فى سيرته على حروف المعجم.

فمن أكابرهم وأعلامهم من الشاميين: الشيخ موفق الدين المقدسى، ورحل إليه إلى بغداد، والحافظ عبد الغنى، وأخوه الشيخ العماد، والبهاء عبد الرحمن، والشهاب بن راجح، وناصح الدين بن الحنبلى.

ومن أكابر البغداديين: أبو بكر بن الحلاوى، والفخر إسماعيل، وقاضى القضاة أبو صالح نصر بن عبد الرزاق، وأبو محمد عبد المنعم بن أبى نصر الباجسرائى، وابن أخيه أبو عبد الله محمد بن مقبل بن المنىّ.

ومن الحرانيين: الشيخ فخر الدين ابن تيمية، والموفق بن صديق، ونجم الدين ابن الصيقل.

وممن قرأ عليه: السيف الآمدى الأصولى، ثم تحول شافعيا. وحدث، وسمع منه جماعة.

وروى عنه الشيخ موفق الدين، وبهاء الدين عبد الرحمن المقدسيان، وابن القطيعى فى تاريخه.

قال جامع سيرته: دخلت عليه يوم الأحد خامس ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين، فقال لى: رأيت فى المنام منذ أيام كأن حلقة كبيرة فى وسط الرحبة، وفيها أولاد المحتشمين. وكان فى وسطها رجل يقول:

ص: 362

واعلموا أن النوى قد كدرت

صفو الليالى، فاحذروا أن تندموا

قال: فالتفت إلى بعض أصحاب الشيخ، وقلت له: هذا المنام كأنه ينعى إلى الشيخ نفسه، فعاش الشيخ بعد ذلك تمام ثلاثة - أو أربعة - أشهر كما هو ظاهر.

قال: وابتدأ به المرض بعد نصف شعبان. وكان مرضه الإسهال. وذلك من تمام السعادة؛ لأن مرض البطن شهادة. ولما ازداد مرضه أقبل الناس إلى عيادته من الأكابر والعلماء، والتلامذة والأصحاب.

فحدثنى صاحبه أبو محمد إسماعيل بن على الفقيه، وهو الذى تولى تمريضه قال: قال لى الشيخ يوم الخميس ثانى رمضان: أى فخر، آخر تعبك معى يوم الأحد؟ قال: وهكذا كان. فإنه توفى يوم السبت رابع شهر رمضان، ودفناه يوم الأحد - يعنى خامس رمضان - سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.

قال: ونودى فى الناس بموته، فانثال من الخلائق والأمم عدد يفوت الإحصاء. فازدحم الناس، وخيف من الفتن، فنفذ الولاة الأجناد والأتراك بالسلاح، وفتح له جامع القصر، وازدحم الناس ازدحاما هائلا، وحمله أصحابه وغلمانه.

وحكى لى بعضهم: أنهم فى حال حمل سريره لم يبق فى رجل أحد منهم مداس إلا وشد؛ لفرط الزحام. فلما فرغوا من دفنه أعيدت إليهم لم يفقدوا منها شيئا. وقدم الشيخ الصالح سعد بن عثمان بن مرزوق المصرى إماما فى الصلاة عليه، بعد ما اجتهد المماليك والأتراك والأجناد فى إيصاله إلى عند نعشه. وكان الناس قد ازدحموا على الشيخ سعد أيضا يتبركون به، حتى خيف عليه الهلاك. وكانت جنازته قد قدمت إلى عند المنبر والشباك.

وحدثنى أبو عبد الله محمد بن طنطاش البزار قال: لما وصل الشيخ سعد إلى جنازة الشيخ أمسك عن التكبير، وأطال الوقوف حتى سكن الناس وسكتوا، وهدأت الأصوات، بحيث لم يسمع سوى التكبير، ثم كبر فأعجب الناس ما فعل

ص: 363

فلما صلّى عليه عاد الزحام والخصام والاحتشاد فى أبواب الجامع، على وجه ما شوهد مثله إلا ما شاء الله.

وذكروا: أنه كان أوصى أن يدفن فى دار بعض أهله جنب مسجده، فحمل إلى الموضع، ودفن فيه، وفتح موضع فى المسجد إلى قبره لزيارة الناس.

وقال ابن القطيعى: حضر جنازته قاضى القضاة أبو الحسن بن الدامغانى، ودفن بداره الملاصقة لمسجده، ثم قطع موضع قبره من الدار، وأدخل إلى مسجده بالمأمونية رأس درب السيدة. رحمه الله تعالى.

وذكر جامع سيرته، قال: حدثنى الحافظ أبو بكر محمد بن عثمان الحازمى، وكتبه لى بخطه، قال: رأيت الشيخ الإمام الفقيه أبا الفتح بن المنى فى المنام بعد موته، وكأنه فى موضع كبير واسع، وهو فرحان مسرور، وعليه ثياب بيض شديدة البياض، وعلى رأسه طرحة، فجعلت أسلم عليه وأكلمه. وكان بيننا ثمّ ستر كبير.

وكلام هذا معناه لم أحفظه.

قال صاحب سيرته: ورأيته أنا فى المنام، فسلمت عليه، فالتفت إلىّ كالمعتب وكأنه يقول لى: استبشر بقدومى. وما زالوا من صلاة المغرب يضربون بالصّوالى.

ولو رأيت الجمع الذى كان. وكلاما آخر لم أفهمه. رضى الله عنه.

قال: ورثاه رفيقنا النجم عبد المنعم بن على بن الصقال الحرانى، أحد أصحابه، وأملاه علىّ من لفظه:

إلام يشجيك ذكر الربع والطلل

ويستخف بهاك الفنج فى المقل

فإن دعاك دَدِدٌ لبيت دعوته

مدلها غير منقاد إلى العذل

ذر الهوى فعطاياه معاطبه

وجوده بالمنى شر من البخل

ولا تصخ لقريض بعدها أبدا

وإن توحد فى مدح وفى غزل

ما لم ترث قوافيه التى جمعت

صفاته الغربين: العلم والعمل

ومن غدا ناصر الإسلام يحرسه

بهمة لم يقصر عن سما زحل

ص: 364

وطال ما خدم الرحمن معتكفا

على العبادة لا ينصاغ للكسل

إن روق الليل جافى الحبر مضجعه

يتلو بدمع غزير واكف هطل

أو أتحف الجو أنوار الضيا ابن

ذكا غدا لتدريس علم واسع جلل

وإن بدا مشكل فى الشرع متعلق

أتى به ظاهرا حقا على عجل

واها لما حاز من علم وكم قدمت

إلى خصائصه مهما من رجل

فيشهد الفضل مبذولا لطالبه

ويدرك الفضل فى أحلى من العسل

فما انثنى عمره المحروس عن زلل

واعتناقه الخير عن قول وعن عمل

حتى أفاد صحابا كلهم بطل

يوم الجدال عريق الأصل فى الجدل

إن تأته تلق ليثا فى عرينته

ذا همة غير نزاع إلى الفشل

يريك قس أياد من فصاحته

ويحسن القول فى الأحكام والعلل

يفرقون جموع الخصم فى دعة

تفريق شمل جموع الكفر سيف علي

أخبرنا أحمد بن عبد الكريم البعلى، حدثنا عبد الخالق بن علوان، حدثنا أبو محمد بن قدامة قال: قرأت على شيخنا أبى الفتح نصر بن فتيان، أخبركم الإمام أبو الحسن بن الزاغونى، أخبرنا أبو القاسم بن البسرى، أنبأنا الإمام أبو عبد الله ابن بطة، حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا موسى بن عبد الرحمن ابن العلاء، حدثنا عطاء بن مسلم عن سفيان الثورى عن أبى إسحاق عن أبى مريم، قال:«رأيت على علىّ بن أبى طالب بردا خلقا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لى إليك حاجة. قال: وما هى؟ قلت: تطرح هذا البرد وتلبس غيره، فقعد وطرح البرد على وجهه، وجعل يبكى، فقلت: لو علمت أن قولى يبلغ هذا منك ما قلته. فقال: إن هذا البرد كسانيه خليلى. قلت: ومن خليلك؟ قال: عمر بن الخطاب رضى الله عنه. إن عمر ناصح الله تعالى فنصحه»

اجتمع فى هذا الإسناد خمسة من أئمة الحنابلة: أبو بكر بن أبى داود، وابن بطة، وابن الزاغونى، وابن المنى، والشيخ موفق الدين. رضى الله عنهم أجمعين.

ص: 365

‌176 - على بن محمد

بن على بن الزيتونى، الفقيه أبو الحسن البغدادى.

المعروف بالبراندسى. و «براندس» قرية من قرى بغداد.

قال ابن القطيعى: سألته عن مولده؟ فقال: ما أعلم، ولكننى ختمت القرآن سنة ثمان وخمسمائة.

قال: وسمع من ابن الحصين. وذكر عبد المغيث: أنه سمع جميع مسند الإمام أحمد منه، وسمع من القاضى أبى الحسين بن الفراء وغيرهما. وتفقه وناظر، وأفتى ودرس.

قلت: ولما بنى الوزير ابن هبيرة مدرسته بباب البصرة ولاّه تدريسها، فكان يدرس بها. وحدث، وسمع منه غير واحد.

قال ابن القطيعى: كتبت عنه. وكان قليل الرواية، ثقة صالحا.

قال: وسمعته يقول: استيقظت من منامى وأنا أنشد هذين البيتين، ولا أعلم قد قيلا قبلى، أو أنشدتهما لنفسى، إلا أنى لم أسمعهما من أحد، وهما هذان:

ليت السباع لنا كانت مجاورة

وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا

إن السباع لتهدى فى مواطنها

والناس ليس بهاد شرهم أبدا

قال ابن القطيعى: وهذان البيتان فى العزلة للخطابى، بإسناده عن الربيع عن الشافعى أنه أنشدهما. ولفظه «ليت الكلاب» .

وأنشدهما أبو بكر بن المرزبان عن أبى بكر العنبرى «إن السباع، وإننا لا نرى» وزادهما ثالثا:

فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها

تلقى السعود إذا ما كنت منفردا

قلت: وهذه فى العزلة لابن أبى الدنيا.

قال ابن القطيعى. وفى سنة اثنين وسبعين، عملت دعوة للصوفية والعلماء على اختلاف مذاهبهم، فمنهم من أكل وانصرف، ومنهم من حضر السماع،

ص: 366

وكان البراندسي ممن عجز عن الخروج مع من أكل وانصرف، فأقام وأغلق الباب دونه، وحضر السماع، فحيث علم أهل باب البصرة تخلفه دون جميع أصحابه كابن الجوزى، وابن عبد القادر، قالوا فيه الشعر. وهجره جماعة من عوامهم.

فأنشدنى الشيخ أبو عبد الله الخيارى لنفسه فيه.

أيها الشيخ، من ينافق خلوة

يظهر الله ذلك الفعل جلوة

كنت تفتى أن السماع حرام

كيف حل السماع يوم الدعوة؟

عشت ما عشت بين زهد ونسك

وتسميت فى الشريعة قدوة

ثم خلعت العذار فى اللهو والرقص

وبين البلى وبينك خطوة

كنت حقا لو رقص الطفل حوقلت

وأنكرت بارتعاد وسطوة

كيف جاز الجلوس بين حداة

لم يفت فى سماعهم غير قهوة؟

لا تبهرج فليس عندك عذر

يلزم القوم ما أتوا بك عنوة

إنما أنت حين خبرت أن الرقص

من بعده صحاح وكسوة

ودجاج وبط حثك البخل

فلا تعتذر بقولك شقوة

ودع الآن شغلك بالفقه

وخذ فى لباس دلق وركوة

قال: وسمعت ابن الجوزى يقول: دخل البراندسي الدعوة وأكل. وأراد الانصراف معنا، فأغلق الباب دونه، وما علم حقيقة ما يجرى، وحصل هناك، لا أنه اختار هذا.

وتوفى يوم الثلاثاء لست عشرة خلت من ربيع الأول، سنة ست وثمانين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب. رحمه الله تعالى.

وقد ذكره المنذرى الحافظ فى وفياته، فيمن توفى سنة ست وثمانين، فقال:

وفى السادس عشر من شهر ربيع الأول توفى الفقيه الإمام أبو الحسن على ابن محمد بن على المقرئ الضرير، ودفن عند قبلة جامع المنصور. ومولده سنة ثمانين وأربعمائة، تفقه على مذهب الإمام أحمد، وسمع من ابن الحصين،

ص: 367

وإسماعيل بن السمرقندى، وأبى غالب بن البناء، وغيرهم وحدث، وأقرأ، فخالف ما ذكره ابن القطيعى فى مدفنه، فالله تعالى أعلم بالصحيح من ذلك.

وأما قوله: إن مولده سنة ثمانين وأربعمائة فغلط محض؛ فإنه على قوله يكون قد جاوز المائة بست سنين، فأين آثار ذلك من تفرده عن أقرانه بالسماع من الشيوخ. ثم قد سبق أن القطيعى سأله عن مولده؟ فذكر ما يدل على أنه قبل الخمسمائة بنحو سنتين. وهذا هو الصحيح. ووصفه بأنه ضرير، ولم يصفه القطيعى بذلك.

‌177 - نجم بن عبد الوهاب

بن عبد الواحد بن محمد بن على الشيرازى الأصل، الدمشقى الأنصارى، الشيخ نجم الدين أبو العلاء بن شرف الإسلام ابن الشيخ أبى الفرج، شيخ الحنابلة بالشام فى وقته.

قرأت بخط ولده ناصح الدين عبد الرحمن: أنه ولد سنة ثمان وتسعين وأربعمائة. وأفتى ودرس وهو ابن نيف وعشرين سنة، إلى أن مات، وعاش هنيا مرفها، لم يل ولاية من جهة سلطان، وما زال محترما معظما، ممتعا قويا.

قال لى قبل أن يموت بسنة: رأيت الحق عز وجل فى منامى، فقال لى: يا نجم أما علمتك وكنت جاهلا؟ قلت: بلى يا رب، قال: أما أغنيتك وكنت فقيرا؟ قلت: بلى يا رب، قال: أما أمت سواك وأحييتك؟ وجعل يعدد النعم، ثم قال:

قد أعطيتك ما أعطيت موسى بن عمران.

ولما مرض مرض الموت، رآنى وقد بكيت، فقال: إيش بك؟ فقلت:

خير، فقال: لا تحزن علىّ؛ أنا ما توليت قضاء، ولا شحنكية، ولا حبست، ولا ضربت، ولا دخلت بين الناس، ولا ظلمت أحدا، فإن كان لى ذنوب، فبينى وبين الله عز وجل. ولى ستون سنة أفتى الناس، والله ما حابيت فى دين الله تعالى.

ص: 368

وكان يقول قبل موته بسنين: سنتى سنة ست وثمانين، إلى أن دخلت سنة ست وثلاثين، فقال: هذه سنتى، فقلنا: كيف تقول هذا؟ قال: هى سنة أبى وجدى لأن أباه مات سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وجده مات سنة ست وثمانين وأربعمائة، وكان الأمر كما قال.

قال: وكان الشيخ الموفق وأخوه أبو عمر، إذا أشكل عليهما شئ سألا والدى. قال: وخرج له أبو الحسين سلامة بن إبراهيم الحداد شيخه، وسمعناها عليه بقراءته.

وذكر الحافظ المنذرى فى وفياته: أن له إجازة من أبى الحسن بن الزاغونى وغيره.

قال: وتوفى ثانى عشرى ربيع الآخر، سنة ست وثمانين وخمسمائة، ودفن بسفح قاسيون.

وقال غيره: شيعه خلائق. وقد سبق ذكر أخيه بهاء الدين عبد الملك. وكان له أيضا عدة إخوة.

منهم: الشيخ سديد الدين عبد الكافى بن شرف الإسلام.

قال ناصح الدين: كان فقيها متطهرا، ووعظ فى شبابه، وكان يذكر الدرس فى الحلقة، مستندا إلى خزانة أبيه، وكان صيتا، وربما خطب فى الإملاكات المعتبرة.

وكان شجاعا شديدا، مات بعد الثمانين والخمسمائة، وقبره تحت مغارة الدم.

ومنهم: الشيخ شمس الدين عبد الحق بن شرف الإسلام.

قال الناصح: كان فقيها عاقلا، عفيفا، حسن العشرة، كثير الصدقة، رحيم القلب. سافر فى طلب العلم، وقرأ كتاب «الهداية» على الشيخ أحمد الحرانى الحنبلى، ودخل بلاد العجم، ورأى أئمة خراسان، وعاد إلى دمشق، وصحب أخاه، والذى يسمع درسه، ويعيد له، وهو بين يديه كالحاجب.

ومات ودفن بسفح قاسيون.

ص: 369

ومنهم: الشيخ شرف الدين محمد بن شرف الإسلام.

كان فقيها، فرضيا، يعرف الغزوات، ويعبر المنامات، ويتجر، ولا يداخل الملك وتوفى ودفن بالباب الصغير.

ومنهم: الشيخ عزّ الدين عبد الهادى بن شرف الإسلام.

كان فقيها واعظا، شجاعا، حسن الصوت بالقرآن، شديدا فى السنة، شديد القوى، يحكى له حكايات عجيبة، فى شدة قوته.

منها: أنه بارز فارسا من الإفرنج، فضربه بدبوس فقطع ظهره وظهر الفرس فوقعا جميعا، وكان فى صحبة أسد الدين شيركوه إلى مصر، وشاهده جماعة رفع الحجر الذى على بئر جامع دمشق، فمشى به خطوات ثم رده إلى مكانه، وله أخبار فى هذا الباب غريبة، وبنى مدرسة بمصر، ومات قبل تمامها، وتوفى بمصر.

ومما وقفت عليه من فتاوى نجم الدين بن عبد الوهاب بن الحنبلى: أن من أراد أن يحلف بالطلاق، فقال لامرأته: على الطلاق ثلاث بتات، وأراد أن يقول:

إن لم أتحول من الدار، ثم تفكر فى ضرر التحويل، فسكت على قوله بتات، إعراضا عن اليمين بالكلية، لا أراده لوقوع الطلاق: أنه إذا لم يقصد بذلك الإيقاع، بل قصد التعليق، ثم سكت عقيب ذكر الطلاق، لا قاصدا له، بل أراد إبطال اليمين، فإنه يدين فى ذلك فيما بينه وبين الله، ولا يلزمه الطلاق فى الباطن.

وبمثل هذا صرح صاحب المحرر فيه، وهو قول مالك والليث بن سعد. وحكى عن الشافعى أيضا، ولا أعلم فى ذلك نصا لأحمد، ولا لأحد من متقدمى أصحابنا.

وقياس نصوص أحمد وأصوله: أنه لا يدين فى ذلك، بحيث أنه يمتنع وقوع الطلاق به. ولو وجد شرطه الذى أراد تعليقه عليه، فإن المنصوص عن أحمد، فى مواضع متعددة من كلامه: أن الحلف بالطلاق ليس بيمين، وليس حكمه حكم سائر

ص: 370

الأيمان، وإنما هو طلاق معلق بشرط، ولو قصد بتعليقه الحض والمنع، وحينئذ فينبغى أن يكون حكم هذا حكم من طلق، وقال: نوبت تعليق الطلاق بشرط.

والمذهب فى ذلك عند القاضى ومن اتبعه من أصحابنا: أنه يدين فى ذلك، ولا يقع به الطلاق فى الباطن إلا بوجود الشرط. وهل يقبل منه فى الحكم؟ خرجوه على روايتين.

ونص أحمد فى رواية مهنا: على أنه لا يدين، كقول أبى حنيفة وأصحابه، وتأوله القاضى على أنه أراد أنه لا يقبل منه فى الحكم. وهو تأويل بعيد.

فعلى ظاهر رواية مهنا: يقع الطلاق فى الحال، وإن أراد الحلف به، ثم تركه.

وعلى المذهب عند القاضى وأصحابه: ينبغى أن لا يقع الطلاق حتى يوجد الشرط الذى أراد أن يحلف عليه، كما لو أراد تعليق الطلاق بشرط يأتى لا محالة، ثم بدا له أن يترك تعليقه، فإن هذا التعليق يمين على أشهر الوجهين للأصحاب، بل أومأ إليه أحمد. وقد حكى عنه صريحا. فيكون تعليق الطلاق عنده كله يسمى يمينا، وحكمه حكم الطلاق، لا حكم الأيمان، فيلزم من قال بالشرط: أنه إذا أراد اليمين بالطلاق، فتلفظ بالطلاق، ثم قطع بقية كلامه: أنه لا تطلق امرأته بذلك، ولو وجد الشرط أن يقول ههنا فى التعليق بما يأتى: لا محالة كذلك. وهو فى غاية البعد.

وقد استوفينا الكلام على هذا فى كتابنا المسمى «بالكشف والبيان عن مقاصد النذور والأيمان» وبالله التوفيق.

‌178 - عبد الله بن عمر

بن أبى بكر المقدسى، الفقيه الإمام أبو القاسم سيف الدين.

ولد سنة سبع وخمسين وخمسمائة بقاسيون.

ورحل إلى بغداد، وسمع بها من جماعة. وتفقه وبرع فى معرفة المذهب

ص: 371

والخلاف والمناظرة. وقرأ النحو على أبى البقاء، وحفظ الإيضاح لأبى على، وقرأ العروض. وله فيه تصنيف.

قال الحافظ الضياء: اشتغل بالفقه والخلاف والفرائض والنحو، وصار إماما عالما، ذكيا فطنا، فصيحا مليح الإيراد، حتى إنّي سمعت بعض الناس يقول عن بعض الفقهاء أنه قال: ما اعترض السيف على مستدل إلا ثلم دليله. وكان يتكلم فى المسألة غير مستعجل بكلام فصيح، من غير توقف ولا تتعتع.

وكان رحمه الله حسن الخلق والخلق، أنكر منكرا ببغداد، فضربه الذى أنكر عليه، وكسر ثنيته. ثم إنه مكّن من ذلك الرجل، فلم يقتص منه.

قال: وسافرت معه إلى بيت المقدس، فرأيت منه من ورعه وحسن خلقه ما تعجبت منه.

قال: وشهدنا غزاة مع صلاح الدين، فجاء ثلاثة فقهاء، فدخلوا خيمة أصحابنا فشرعوا فى المناظرة، وكان الشيخ موفق الدين والبهاء حاضرين، فارتفع كلام أولئك الفقهاء، ولم يكن السيف حاضرا، ثم حضر فشرع فى المناظرة، فما كان بأسرع من أن انقطعوا من كلامه.

وسمعت البهاء عبد الرحمن يقول: كان أبو القاسم عبد الله بن عمر فيه من الذكاء والفطنة ما يدهش أهل بغداد. وكان يحفظ درس الشيخ إذا ألقى عليه مرة أو مرتين. وكنت أنا أتعب حتى أحفظه. وكان مبرزا فى علم الخلاف.

وكان ورعا، يتعلم من العماد، ويسلك طريقه.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين؟ فقال: سافر إلى بغداد صغيرا، وسمع بها كثيرا، وتفقه بها وصار فقيها حسنا. حسن الكلام فى المناظرة، فصيح اللسان، حسن الخط. وقرأ فى العربية. وشرع هو والمحب أبو البقاء فى تصنيف كتاب فيها ثم قدم الشام، وخرج إلى الغزاة معنا، ثم سافر إلى حران، وتوفى بها شابا رحمه الله تعالى فى حياة أبيه.

توفى بحران فى شوال سنة ست وثمانين وخمسمائة.

ص: 372

ورثاه سليمان بن النجيب بقوله:

على مثل عبد الله يفترض الحزن

وتسفح آماق ولم يغتمض جفن

عليه بكى الدين الحنيفى واكتفا

كما قد بكاه الفقه والذهن والحسن

وهى طويلة.

ورثاه جبريل المصيصى المصرى بقوله:

صبرى لفقدك عبد الله مفقود

ووجد قلبى عليك الدهر موجود

عدمت صبرى لما قيل إنك فى

قبر بحران سيف الدين مفقود

نبكى عليك بشجو بالدماء كما

تبكى التعاليق حقا والمسانيد

وللمشايخ تعديل عليك كما

للطير فى الدوح تغريد وتعديد

وذكر باقيها. وهى ستة وعشرون بيتا.

‌179 - يحيى بن مقبل

بن أحمد بن بركة بن عبيد الملك بن عبد السلام بن الحسين بن محمد بن على بن عبد الواحد بن ثابت بن عمرو بن عامر بن داود بن إبراهيم بن محمد السجاد بن طلحة بن عبد الله التيمى القرشى البغدادى الحريمى، أبو طاهر بن أبى القاسم بن أبى نصر، المعروف بابن الصدر. وهو لقب عبد الواحد المذكور فى نسبه. ويعرف أيضا بابن الأبيض.

ولد فى شعبان سنة سبع عشرة وخمسمائة.

وسمع من ابن الحصين، وأبى بكر الأنصارى، وأبى منصور القزاز، وغيرهم.

وتفقه فى المذهب، وناظر فى حلق الفقهاء، وحدث.

قال ابن القطيعى: كتبت عنه. وكان ثقة.

قال: وتوفى يوم الاثنين فى شهر شوال سنة سبع وثمانين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب.

وقال المنذرى: توفى فى العشر الأخير من ذى القعدة.

ص: 373

قال ابن الجوزى فى كتاب «الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد» حدثنى أبو طاهر بن الصدر الفقيه: أن هذا الشيخ - يعنى عبد المغيث الحربى - زوج رجلا، فقال له: زوجتك بحق وكالتى بنت أخى فلان.

قال الفقيه: فلقيت المتزوج؟ فقلت له: ما انعقد لك عقد، ولا يحل لك قربان المرأة؛ لأن أبا هذه المرأة له أربع بنات. وهذا العاقد ما سمى المزوجة.

فعجب الناس من عدم فهمه للفقه.

‌180 - نصر بن منصور

بن الحسن بن جوشن بن منصور بن حميد بن ثال ابن وزر بن عطاف بن بشر بن جندل بن عبيد الراعى بن الحصين بن معاوية ابن جندل بن قطن بن ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة ابن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر بن نزار النميرى، الأديب الشاعر، أبو المرهف، وأبو الفتح أيضا

كذا نقلت نسبه من خط القطيعى. وقال: أملاه علىّ وقال لى: ولدت يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسمائة بالرافقة بقرب رقة الشام.

كان النميرى من أولاد أمراء العرب. نشأ بالشام، وخالط أهل الأدب، وقال الشعر الفائق وهو مراهق. وأصابه جدرى وله أربع عشرة سنة، فضعف بصره، حتى كان لا يرى إلا ما قرب منه. ثم قدم بغداد لمعالجة بصره، فآيسه الأطباء منه، فعمى. وأقام ببغداد، وسكن بباب الأزج، فحفظ القرآن العظيم.

وسمع الحديث من ابن الحصين، والقاضى أبى بكر، وعبد الوهاب الأنماطى وأبى الحسن بن الزاغونى، وأبى منصور القزاز، ويحيى بن حبيس الفارقى، وابن ناصر وغيرهم. وبالكوفة: من أبى الحسن بن غيره، وتفقه فى مذهب الإمام أحمد.

وقرأ العربية والأدب على أبى منصور بن الجواليقى، وصحب العلماء والصالحين.

كالشيخ عبد القادر، وغيره، ومدح الخلفاء والوزراء.

وله ديوان شعر حدث به. وكان فصيح القول حسن المعان، ذا دين وصلاح وتصلب فى السنة.

ص: 374

قال ابن القطيعى: منع الوزير ابن هبيرة الشعراء من إنشاد الشعر بمجلسه، فكتب إليه النميرى قصيدة سمعتها من لفظ النميرى. فكتب الوزير على رأسها بخطه:

لو كان الشعراء كلهم مثله فى دينه وقوله لم يمنعوا، وإنما يقولون ما لا يحل الإقرار عليه، وهو فالصديق وما يذكر يوقف عليه، ورسومه تزاد ولا تنقص، والسلام.

وقد حدث النميرى بحديثه وشعره، وسمع منه القطيعى، وغيره

وروى عنه عثمان بن مقبل الياسرى، وبهاء الدين عبد الرحمن المقدسى، وابن الدبيثى، ويوسف بن خليل وغيرهم.

وتوفى يوم الثلاثاء عشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد عند الشهداء رحمه الله.

ومن شعره، وقد سئل عن مذهبه واعتقاده؟ فأنشد:

أحب عليا والبتول وولدها

ولا أجحد الشيخين حق التقدم

وأبرأ ممن نال عثمان بالأذى

كما أبرأ من ولاء ابن ملجم

ويعجبنى أهل الحديث لصدقهم

فلست إلى قوم سواهم بمنتمى

وقد روى البيت الثالث على وجه آخر.

ومن شعره وقرأته بخط السيف بن المجد الحافظ:

سبرت شرائع العلماء طرا

فلم أر كاعتقاد الحنبلي

فكن من أهله سرا وجهرا

تكن أبدا على النهج السوى

هم أهل الحديث وما عرفنا

سوى القرآن والنص الجلى

ومما أنشده عنه ابن القطيعى، وقال: أنشدنى لنفسه:

وكفى مؤذنا باقتراب الأجل

شباب تولى وشيب نزل

وموت اللذات، وهل بعده

بقاء يؤمله من عقل؟

إذا ارتحلت قرناء الفتى

على حكم ريب المنون ارتحل

هو الموت لا تحتمى للنفوس

من خطبه بالرقى والحيل

إذا صال كان سواء عليه

من عز من كل حى وذل

ص: 375

فيا ويح نفسى أما ترعوى

وقد ذهب العمر إلا الأقل

ومن شعره أيضا:

أذاعت بأسرارى الأدمع

غداة استقلوا وما ودعوا

جزعت لما أعتز من بينهم

وما كنت من مؤلم أجزع

تولوا فما قرّ لى بعدهم

فؤاد، ولا جف لى مدمع

وأقسم لاحلت عن عهدهم

وفوا لى بالعهد أو ضيعوا

أأحبابنا هل لعصر مضى

لنا ولكم باللوى مرجع؟

كان على كبدى بعدكم

من الشوق نار غضا تسفع

ولى مقلة منذ فارقتكم

إذا هجع الناس لا تهجع

يؤرقنى كل برق أراه

من نحو أوطانكم يلمع

وكم لى من عاذل فيكم

يطيل الملام فلا أسمع

وقال: ومن شعره فى الغزل:

ولما رأى وردا بخديه يجتنى

ويقطف أحيانا بغير اختياره

أقام عليه حارسا من جفونه

وسلّ عليه مرهفا من عذاره

ومن شعره أيضا:

يزهدنى فى جميع الأنام

قلة إنصاف من يصحب

وهل عرف الناس ذو نهبة

فأمسى له فيهم مرغب

هم الناس ما لم تجربهم

وطلس الذباب إذا جربوا

وليتك تسلم عند البعاد

منهم، فكيف إذا يقربوا؟

‌181 - أحمد بن الحسين

بن أحمد بن محمد البغدادى، المقرئ أبو العباس، المعروف بالعراقى، نزيل دمشق.

قرأ القرآن على أبى محمد سبط الخياط، وسمع الحديث من محمد بن عبد الله بن سهلون، وأبى الفتح الكروخى، وسعد الخير الأندلسى، ومهر فى علم القراءات.

ولقى المهذب بن منير الشاعر بحلب، وروى عنه.

ص: 376

وقدم دمشق سنة أربعين، فسكنها إلى أن مات وتصدر للإقراء تحت النسر بالجامع، فختم عليه جماعة، وأمّ بمسجد الخشابين، وأقام به سنين.

قال الشيخ موفق الدين: كان إماما فى السنة، داعيا إليها، إماما فى القراءة.

وكان دينا، يقول شعرا حسنا، وشرح عبادات الخرقى بالشعر.

وقال ابن النجار: كان شيخنا فاضلا متقنا، طيب المحاضرة.

قلت: وكان متشددا فى السنة.

ويقال: إنه منع الحافظ عبد الغنى من الاجتماع بابن عساكر الحافظ والسماع منه، وندم الحافظ على ذلك. وكان يقول: كان عندنا فى الحربية قوم من المتشددين يسمون: السبعة، لا يسلمون على من سلم إلى شيعة على مبتدع. ورأيت له جزءا فى الرد على من يعير الحنابلة بالفقر وقلة المناصب.

وروى عنه الشيخ موفق الدين، والبهاء عبد الرحمن، وابن خليل.

وتوفى فى شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بدمشق، وقد جاوز السبعين.

وقال الضياء: مات فى جمادى الأولى سنة ست وسبعين. وهو وهم؛ فإن ناصح الدين بن الحنبلى: ذكر أنه زار معه القدس سنة سبع وثمانين - أو سنة ثمان - الشك منه. وذكر: أنه قرأ عليه، وسمع منه.

قال: وقال لى: قدمت من بغداد لأجل زيارة القدس، ولم يتفق لى زيارته إلى هذه المدة.

‌182 - عبد الله بن أحمد

بن عبد الله بن سلامة السبتى البغدادى الوراق المحدث المقرئ، الزاهد أبو جعفر بن أبى المعالى بن السمين. نزيل الموصل.

ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة.

وسمع الكثير من هبة الله الحريرى، وأبى بكر بن عبد الباقى، وأبى منصور القزاز، وعلى بن هبة الله بن عبد السلام، وأبى الفضل الأرموى، وأبى الفتح الكرخى، وأبى الحسين بن الزاغونى، وأخيه أبى بكر، وابن الطلاية، وغيرهم.

ص: 377

وكتب بخطه الكثير لنفسه وللناس. وخرج التخاريج. وحدث بالكثير ببغداد والموصل. وكان صالحا ثقة، دينا صدوقا من أهل التقشف والصلاح والنسك يأكل من كسب يده

توفى فى العشر الأخير من شهر رمضان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بالموصل.

ودفن بتل توبة رحمه الله تعالى.

‌183 - على بن مكي

بن جراح بن على بن ورخز البغدادى، الفقيه الزاهد أبو الحسن.

تفقه على أبى الفتح بن المنىّ، وأبى يعلى بن أبى خازم، وبرع فى الفقه، وأفتى وناظر. وكان زاهدا عابدا.

توفى يوم حادى عشرين صفر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ودفن بمقبرة باب حرب.

‌184 - على بن أبى العز

بن أبى عبد الله الباجسرائى، الفقيه الزاهد أبو الحسن.

كان يسكن بمدرسة الشيخ عبد القادر، وسمع الكثير من أبى الوقت، وابن البطى، وغيرهما. وحدث باليسير.

سمع منه جماعة من الفقهاء. وكان صالحا ورعا، متدينا ذا عبادة وزهد.

جمع كتابا فى تفسير القرآن الكريم فى أربع مجلدات.

توفى ليلة الخميس حادى عشر ذى القعدة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. وصلّى عليه بالمصلى بباب الحلبة. ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى.

‌185 - طغدى بن ختلغ

بن عبد الله الأميرى المسترشدى - نسبة إلى ولاء بعض الأمراء من ولد المسترشد - البغدادى المقرئ الفرضى، أبو محمد المحدث ويسمى عبد المحسن أيضا. نزيل دمشق.

ص: 378

ولد سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.

وقرأ القرآن بالروايات العشرة على أبى الحسن البطائحى. وكان ربيبه، فأحسن تربيته، وأسمعه من الأرموى، وابن ناصر الحافظ، وأبى بكر بن الزاغونى، وأبى العباس أحمد بن محمد بن المكى، وسعيد بن البناء، وأبى الوقت، وأبى القاسم هبة الله بن الحاسب، وغيرهم.

وصحب أبا الفضل بن ناصر الحافظ، وأخذ عنه علم الحديث، وأصول السنة.

وقرأ الفرائض على أبى النجم بن القابلة، وبرع فيها حتى صار فيها إماما متوحدا، ثم انتقل إلى دمشق وسكنها إلى حين وفاته.

وحدث ببغداد وحران ودمشق. وقرأ عليه الشيخ أبو عمر صحيح البخارى.

روى عنه ابن خليل الحافظ.

قرأت بخط ناصح الدين بن الحنبلى فى حقه: المحدث الحافظ الفرضى الزاهد.

كان قيما بمعرفة البخارى، برجاله وألفاظ غريبه، وشرح معانيه. قرأته عليه، وسمع بقراءتى جماعة كثيرة. وكان قيما بأصول السنة، ومقالة أصحاب الإمام أحمد وكان متعبدا معتزلا للناس. حضر معى فتح البيت المقدس. وقرأ عليه جماعة من أولاد الدمشقيين الحساب والفرائض. وكان لا يفارقنى إلى أن حججت سنة تسع وثمانين، ورجعت من الحج فوجدته قد مات رحمه الله. ودفن فى تربة عمى عبد الحق بالجبل.

قلت: وذكر المنذرى: أنه توفى فى المحرم سنة تسع وثمانين. وكذا ذكره الدبيثى أنه بلغهم وفاته.

وذكر القطيعى: أنه بلغهم ببغداد حين موته فى ربيع الأول سنة تسع وثمانين فيكون قول ابن الحنبلى: حججت سنة تسع فيه تسامح. ومراده: أنه رجع من الحج إلى دمشق سنة تسع، فوجده قد مات. لكنه ذكر فى أول كتابه: أن أول سنة حجّ سنة تسع وثمانين.

ص: 379

‌186 - بدل بن أبى طاهر

بن شيرد شهر بن حاكاه بن عبد الله بن محمد الجيلى، الفقيه المقرئ أبو محمد. نزيل بغداد.

قرأ القرآن بالروايات على أبى العلاء الهمدانى.

وسمع من أبى الفتح محمد بن الحسن الصيدلانى، وغيره. وسمع من محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخطيب الكشميهنى المروزى.

وتفقه ببغداد على ابن بكروس، وأقرأ الناس، وحدث.

قرأ عليه بالروايات الكثيرة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن الدورى، وغيره. وسمع منه القاضى أبو العباس بن الفراء، وغيره.

وتوفى يوم الخميس رابع عشر ذى الحجة سنة تسع وثمانين وخمسمائة.

رحمه الله تعالى.

‌187 - محمد بن أحمد بن علي

بن محمد بن عبد الله بن عبد الملك الأصبهانى الجورتانى بن الحمامى، العابد الأديب، مصلح الدين أبو عبد الله. من أهل أصبهان و «جورتان» من قراها.

ولد سنة خمسمائة فى رجب. وقيل: سنة إحدى وخمسمائة.

وسمع من أبى على الحداد، وأبى نهشل عبد الصمد العنبرى، وسعيد ابن أبى الرجاء.

قال ابن النجار: وكان فقيها فاضلا، كامل المعرفة بالأدب وأكثر أدباء أصبهان من تلامذته. وكان متدينا، حسن الطريقة صدوقا.

سمعت أبا عبد الله الخليلى بأصبهان يقول: كان جدى لأمى محمد بن أحمد الحنبلى المعروف بالمصلح قبل عقد الثمانين من عمره يختم القرآن فى يومين. فلما جاوز الثمانين كان يختم كل يوم القرآن. وكانت قراءته بالليل قراءة تذكر وتفكر.

قال أبو عبد الله: وسمعت محمد بن محمد الخبازى المدينى جارنا - وكان من

ص: 380

أهل الخير والصلاح، تلاّء للقرآن، ملازما للمسجد فى أكثر أوقاته، لم تكن تفوته صلاة الجماعة إلا نادرا يقول -: لما بلغ مصلح الدين عقد الثمانين قال: أسأل الله أن يمهلنى إلى التسعين، وأن يوفقنى كل يوم لختمة، فاستجيبت دعوته، فكان يختم كل يوم ختمة.

قال أبو عبد الله: وسمعت الحسين بن محمد بن أحمد الحمامى الحنبلى يقول:

قام عمى - يعنى: محمد بن أحمد المصلح - ليلة لورده قبل الوقت الذى كان يقوم فيه لورده فى سائر لياليه. قال: فسمعت صوتا من السماء - وأنا بين النائم واليقظان - أيها المصلح، ما أسرع ما قمت الليلة.

حدث المصلح بأصبهان وبغداد حين قدمها حاجا. وسمع منه أبو المحاسن القرشى، ومات قبله لخمس عشرة سنة، والشريف الزيدى على بن أحمد.

وروى عنه من أهل بغداد أحمد البندنيجى، ويوسف بن سعيد المقرئ وغيرهما

قال ابن النجار: سمعت أبا البركات بن الرويدشتى بأصبهان يقول: توفى محمد بن أحمد بن الحنبلى - يعرف بالحمامى - أستاذ الأئمة فى يوم الأربعاء ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة تسعين وخمسمائة.

قال: وذكر لنا سبطه: أنه دفن بداره، ثم نقل إنّي باب درية رحمه الله تعالى.

وقال المنذرى: ليلة الحادى عشر. وكذا ذكره ابن نقطة، وقال: ليلة الثلاثاء حادى عشر.

قال المنذرى: وتوفى قبله بيسير ولده أبو بكر أحمد. وكان سمع سعيد ابن أبى رجاء وغيره.

قلت: وكان يلقب أمين الدين.

‌188 - محمد بن عبد الله

بن الحسين بن على بن أبى طلحة نصر بن أحمد ابن محمد بن جعفر البرمكى الهروى الإشكيذبانى، المحدث أبو عبد الله، ويقال: أبو الفتح. نزيل مكة، وإمام حطيم الحنابلة بها.

ص: 381

ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.

وسمع بهمدان من أبى الوقت، وأبى الفضل أحمد بن سعد بن حمّان، وأبى المحاسن هبة الله بن أحمد بن محمد بن السماك. وببغداد من أبى المعالى بن النحاس، وأبى المعمر بن الهاطر، وابن البطى، وخلق كثير وبمصر من أبى الطاهر إسماعيل بن قاسم الزيات. وبالإسكندرية من الحافظ السلفى. وحدث بمكة، ومصر والإسكندرية، وأقام بمكة فى آخر عمره، وأمّ بها فى موضع الحنابلة سنين.

وحدث عنه أبو البناء حامد بن أحمد الأرتاحي.

قال ناصح الدين بن الحنبلى: كان رجلا صالحا، سمعت منه بقراءته جزءا بمكة. وكان فى عزمى أننى أدخل اليمن، وقد هيأت هدية لصاحبها من طرف دمشق، فاستشرته، فقال: أنت أعلم. ثم قال: قرأنا ههنا جزءا من أيام، فجاء فيه عن بعض السلف علامة قبول الحج: أن الإنسان ينصرف عن مكة غير طالب للدنيا، فزهدت فى اليمن، ورجعت عن ذلك العزم. قال: وذلك سنة تسع وثمانين.

قال المنذرى: سمع منه والدى سنة تسعين. فإما أنه توفى فى هذه السنة، أو بعدها بيسير.

قال و «الإشكيذبانى» بكسر الهمزة وسكون الشين المعجمة وكسر الكاف وسكون الياء آخر الحروف وفتح الذال المعجمة وبعدها باء موحدة مفتوحة وبعد الألف نون.

وذكره الفارسى فى تاريخه، وقال: كان رجلا صالحا: توفى سنة إحدى وتسعين بمكة.

وذكر المنذرى ممن توفى سنة تسعين: الشيخ الأجل إمام الحرم مكى بن نابت - بالنون - بن زهرة الحنبلى الفزارى بمصر ليلة السابع من شهر ربيع الآخر، ولم يزد على ذلك.

ص: 382

‌189 - إسماعيل بن أبى سعد

بن على بن إبراهيم بن محمد بن شاه شاه البناء الأصبهانى، المحدث أبو الحسن، يعرف بطاهريته.

سمع الكثير، وحصل الأصول. حدث ببغداد، قدمها حاجا عن فاطمة الجوزدانية، وفاطمة بنت محمد بن أحمد البغدادى

سمع منه أبو الفتوح بن الحصرى، وأحمد بن طارق، وعبد الرحمن بن الغزال وكان شيخا صالحا صدوقا

توفى فى صفر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. رحمه الله تعالى

‌190 - عبد المؤمن بن عبد الغالب

بن محمد بن طاهر بن خليفة بن محمد بن حمدان الشيبانى البغدادى الوراق، الفقيه أبو محمد

ولد فى ربيع الآخر سنة سبع عشرة وخمسمائة، ذكره القطيعى عنه.

وسمع ببغداد من القاضى أبى بكر بن عبد الباقى، وأبى القاسم بن السمرقندى وابن الطلاية، وأبى الحسن، وأبى بكر بن الزاغونى، والأرموى.

وسمع بهمدان من أبى الخير الباغبان، وغيره، وحدث.

وسمع منه ابن القطيعى، وقال: كان له صلاح ودين وافر.

وروى عنه ابن الدبيثى، وابن خليل الحافظ، فقال: أنبأنا الإمام أبو محمد عبد المؤمن الفقيه الحنبلى، وأجاز لمحمد بن يعقوب بن أبى الدبية.

قال ابن القطيعى: توفى فى ذى الحجة سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.

قال: وكتب إلىّ ابن شريك: أنه توفى ليلة العيد، سنة إحدى وتسعين.

قلت: وكذا ذكر المنذرى: أنه توفى يوم عرفة، سنة إحدى وتسعين.

وذكر ابن النجار عن ابن الدبيثى: أنه توفى يوم الاثنين ثامن ذى الحجة، سنة إحدى وتسعين، وعن غيره: أنه دفن بباب حرب.

ص: 383

‌191 - على بن هلال

بن خميس الواسطى الفاخرانى الضرير، الفقيه أبو الحسن، ويلقب بمعين الدين.

ذكره المنذرى، فقال: تفقه على مذهب الإمام أحمد، وسمع من أبى الحسين عبد الحق بن عبد الخالق، وأبى الفتح صدقة بن الحسين الناسخ، وخديجة بنت أحمد النهروانى، وغيرهم، وحدث.

وهو منسوب إلى «الفاخرانية» : قرية من سواد واسط.

توفى فى حادى عشر ذى الحجة، سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى.

‌192 - حامد بن محمد

بن حامد الصفّار الأصبهانى، الفقيه المحدث، الإمام محب الدين أبو عبد الله.

سمع أباه أبا جعفر محمد، وأبا طاهر محمد بن أبى نصر الهروى بهاجر، وأبا الخير الباغبان، ومسعود الثقفى والرستمى، وعبد الجليل كوتاه، وجماعة بأصبهان وبهمدان أبا زرعة المقدسى، وأبا العلاء العطار.

وقدم بغداد حاجا سنة ثمان وثمانين، وسمع بها من جماعة. وقرأ على ابن الجوزى مناقب الإمام أحمد له، وحدث باليسير.

كتب عنه أبو عبد الله محمد بن النفيس الرزاز.

ذكره ابن النجار، وقال: كان فقيها، حنبليا فاضلا، وله معرفة بالحديث والأدب.

وذكر أبو الفرج بن الحنبلى: أنه لقيه بأصبهان، وقال: كان فقيها على مذهب الإمام أحمد، عارفا بالمذهب والخلاف، محدثا، ووصفه بالمروءة التامة.

‌193 - سعد بن عثمان

بن مرزوق بن حميد بن سلام القرشى، المصرى

ص: 384

المولد البغدادى الدار، الفقيه الزاهد أبو الحسين ابن الشيخ أبى عمرو المتقدم ذكره.

خرج من مصر قديما، واستوطن بغداد. وقد سبق فى ترجمة أبيه سبب قدومه إلى بغداد، وتفقه بها فى المذهب على أبى الفتح بن المنى، ولازم درسه.

وسمع من أبى محمد بن الخشاب وغيره، وحصل له القبول التام من الخاص والعام، وكان ورعا زاهدا عابدا.

قرأت بخط ناصح الدين بن الحنبلى فى حقه: كان مشتغلا بحفظ كتاب الوجهين والروايتين، تصنيف القاضى أبى يعلى. وكان من الزهد، والصلاح، والتطهير، والتورع فى المأكول على صفة تعجز كثيرا من المجتهدين فى العبادة.

وكان يمشى مطرق الرأس، يلتقط الأوراق المكتوبة، حتى اجتمع عنده من ذلك شئ كثير، فيحمله بحمال إلى الشاطئ فيتولى غسله، ويرسله مع الماء.

وكان لا يستقضى أحدا حاجة إلا أعطاه أجره، ولو أشعل له سراجا.

وذاكرته فى خلوة فى القول بخلق أفعال العباد، فأقربه، ولم يكن على ما ذكره من مذهب والده فى ذلك، فسررت بذلك.

ورأى رجل فى بغداد النبىّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: لولا الشيخ سعد نزل بكم بلاء، أو كما قال.

ثم سعى الشيخ سعد إلى الجمعة وما عنده خبر بهذا المنام، فانعكف الناس به يتبركون به وازدحموا، فرموه مرات، وكأن مناديا ينادى فى قلوب الناس، وهو يقول: أعوذ بالله من الفتنة، إيش بى؟ إيش بالناس؟ حتى ضرب الناس عنه وخلص منهم.

وقال القادسى: هو أحد الزهاد الأبدال الأوتاد، ومن تشد إليه الرحال، ومن كان لله عليه إقبال الصائم فى النهار، القائم فى الظلام.

قدم بغداد. وسكن برباط الشيخ عبد القادر، وما كان يقبل من أحد شيئا، ولا يغشى باب أحد من السلاطين. كان ينفذ له فى كل عام شئ من ملك له بمصر يكفيه طول سنته.

ص: 385

حكى لى والدى، قال: كنت أتردد إليه كثيرا، فأتيته يوما، فهجس فى نفسى أن لى مدة أتردد إليه، وما حلف علىّ قط، ولا قدم لى شيئا، فما استتممت كلامى حتى قال لى: أى أحمد، والله ما أرضى لك طعامى، لأنه طعام شقى، قال: وأخذنى من الوجد شئ عظيم، ثم دخل ليخرج لى من الزاد. فقلت:

لو أخرج إلى رغيف فضله، لأنتغض به لأقوام، فقال عجلا من داخل البيت: أى:

شيخ أحمد، بل رغيفان. قال: فزاد تحيرى ودهشتى. وكان الشيخ سعد كثير البكاء والخشوع.

قال ابن النجار: كان عبدا صالحا، مشهورا بالعبادة والمجاهدة والورع، والتقشف، والقناعة، والتعفف، وكان خشن العيش، مخشوشنا، كثير الانقطاع عن الناس. وكان على غاية من الوسوسة، والمبالغة فى الطهارة.

قال ابن النجار: حدثنى سعيد بن يوسف بن سعيد المقرئ، قال: سمعت سعد المصرى الزاهد يقول: تجشأت مرة، فصعد إلى حلقى شئ من الجشأ، فغسلت حلقى ثلاث مرات، وابتلعته، ثم غسلت فمى ثلاث مرات أخر وأبصقه.

قلت: سامحه الله تعالى، هذه زلة فاحشة.

قال المنذرى: كان يحمل إليه ما يقتات به من مصر من جهة كانت له بها.

وقيل: إن شيخه ابن المنّى لما احتضر أوصى أن يصلى عليه الشيخ سعد، وقد تقدم أنه صلّى عليه يومئذ، وأن الناس ازدحموا عليه للتبرك به، حتى كاد يهلك.

قال المنذرى: توفى فى سادس شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ساجدا فى صلاته، ودفن من الغد.

وذكر القطيعى: أنه توفى يوم الثلاثاء، وأنه دفن بمقبرة باب الدير بالقرب من معروف الكرخى، رحمة الله عليه.

وذكر القادسى: أنه توفى يوم الثلاثاء سابع ربيع الآخر، سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ساجدا، وصلّى عليه بمدرسة عبد القادر، ثم مرارا عدة بظاهر

ص: 386

الحلبة، ثم حمل إلى باب حرب ليدفن به. وكان قد حفر له به قبر، فأقبل خدام أم الخليفة، واستخلصوه من العامة، وردوه إلى مقابر معروف، إلى التل المقابل لباب تربة أم الخليفة. وكان يوم موته مشهودا، وتابوته بالحبال مشدودا، رحمه الله.

وذكر ابن النجار: أنه كان قد قرأ فى الصلاة التى توفى فيها (88:56، 89 {فَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)}.

‌194 - إلياس بن حامد

بن محمود بن حامد بن محمد بن أبى الحجر الحرانى، الفقيه المحدث تقى الدين أبو الفضل ابن الإمام أبى الفضل. وقد سبق ذكر أبيه.

سمع إلياس ببغداد من أبى هاشم عيسى بن أحمد الروشابى، وشهدة، وغيرهما.

قال ناصح الدين بن الحنبلى: وكان رفيقى فى درس شيخنا ابن المنّى.

وسكن الموصل إلى أن توفى. وولى مشيخة دار الحديث بها. وكان حسن الطريقة، وحدث. سمع منه بدل التبريزى.

توفى فى سلخ شوال سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة بالموصل. كذا ذكره غير واحد.

قال المنذرى: وقيل: بل سنة ثلاث وتسعين.

‌195 - مكى بن أبى القاسم

عبد الله بن معالى بن عبد الباقى بن العراد البغدادى المأمونى، الفقيه المحدث أبو إسحاق. ويقال: أبو الحرم أيضا.

ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة.

وسمع من ابن ناصر، والأرموى، والكروخى، وابن البطى، وهبة الله الشبلى، وسعد بن البناء، وأبى بكر بن الزاغونى، وأبى الوقت، وخلق كثير.

واعتنى بهذا الشأن. قرأ على الشيوخ، وكتب بخطه. ولم يزل يقرأ ويسمع إلى آخر عمره. وهو ثقة.

ص: 387

وكان له مسجد كبير بالمأمونية يؤم فيه، ويقرأ الحديث على المشايخ. وكان يقرأ أيضا بجامع القصر. وهو ثقة صحيح السماع. وقد نسبه القطيعى إلى التساهل والتسامح.

وذكر عن عبد الرزاق: أنه وجد بخطه طبقة أنكرها. ووثقه ابن نقطة، وقال: إنما تكلم فيه شيخنا ابن الحضرى، لأنه قال: كان يكتب سماع أقوام كانوا يتحدثون إلى جانب حلقته. فأما سماعه فصحيح.

وقال الفارسى: كان صالحا خيرا ديّنا. وقد تكلم فيه أصحاب الحديث.

وقد روى عنه ابن خليل، وقال: أنبأنا أبو الحرم مكى بن أبى القاسم الفقيه الحنبلى

وقرأت بخط أبى الحسن على بن أحمد الزيدى الحافظ الزاهد. وقد سمع منه جزءا الشيخ الإمام العالم الحافظ أبو إسحاق مكى.

وروى عنه البلدانى. وأجاز لابن أبى الدينة.

وتوفى ليلة الجمعة سادس محرم سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. ودفن من الغد بباب حرب مجاورا قبر بشر. رحمه الله تعالى.

‌196 - عبد الوهاب بن عبد القادر

بن أبى صالح الجيلى، ثم البغدادى الأزجى، الفقيه الواعظ، سيف الدين أبو عبد الله ابن القدوة الزاهد أبى محمد.

وقد سبق ذكر والده.

وأما هو: فولد فى ثانى شعبان سنة اثنين وعشرين وخمسمائة.

وذكر أبو شامة: أنه سمع من ابن الحصين، وابن السمرقندى وسنّه يحتمل السماع من ابن السمرقندى، والحضور من ابن الحصين. لكن لم أر أحدا من أهل بلده ذكروا ذلك، وهم أعلم بحاله. ولو كان ذلك صحيحا لقدموا هذين على بقية شيوخه. ولكن ذكر ابن القادسى: أنه سمع من ابن الحصين، وابن الزاغونى، وأبى غالب بن البناء، وغيرهم.

وأسمعه والده فى صباه من أبى غالب بن البناء، وأبى منصور القزاز،

ص: 388

وأبى الفضل الأرموى، وأبى الحسن بن صرما، وسعيد بن البناء، وأبى الوقت وغيرهم

وقرأ الفقه على والده حتى برع فيه، ودرس نيابة عن والده بمدرسته وهو حى، وقد نيف على العشرين من عمره. ثم استقل بالتدريس بها بعده، ثم نزعت منه لابن الجوزى؛ لأجل عبد السلام بن عبد الوهاب، ثم ردت إليه بعد قبض ابن يونس.

قال ابن القادسى: كان فقيها مجودا، زاهدا واعظا، وله قبول حسن. وتولى المظالم للناصر سنة ثلاث وثمانين. وكان كيسا ظريفا من ظرفاء أهل بغداد متماجنا.

ولم يكن فى أولاد أبيه أفقه منه. كان فقيها فاضلا، حسن الكلام فى مسائل الخلاف. له لسان فصيح فى الوعظ، وإيراد مليح مع عذوبة ألفاظ، وحدة خاطر، وكان ظريفا لطيفا، مليح النادرة، ذا مزح ودعابة وكياسة. وكانت له مروءة وسخاوة. وجعله الخليفة الناصر على المظالم. وكان يوصل إليه حوائج الناس.

ذكر ذلك ابن النجار.

وذكر غيره: أنه يرسل به من الديوان إلى الشام، وأن الخليفة الناصر بنى رباط الخلاطية له. وكان له القبول التام عند العامة أيضا.

قال ناصح الدين بن الحنبلى: قال الشيخ طلحة - يعنى العلثى -: قلمه سديد فى الفتوى.

قال أبو شامة: قيل له يوما فى مجلس وعظه: ما تقول فى أهل البيت؟ قال: قد أعمونى. وكان أعمش. أجاب عن بيت نفسه. وقيل له يوما: بأي شئ تعرف المحقّ من المبطل؟ قال: بليمونة. أراد: من تخضب يزول خضابه بليمونة.

وقال ابن البزورى: وعظ يوما، فقال له شخص: ما سمعنا بمثل هذا. فقال:

لا شك يكون هذيان. وكان له نوادر كثيرة.

وحدث، وسمع منه جماعة، منهم: ابن القطيعى.

وروى عنه ابن الدبيثى، وعبد الرحمن بن الغزال الواعظ، وابن خليل،

ص: 389

وأجاز لمحمد بن يعقوب بن أبى الدينة. وتوفى ليلة الأربعاء خامس عشرين شوال سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وصلّى عليه من الغد بمدرسة والده. وحضر خلق كثير. ودفن بمقبرة الجلبة عند عبد الدائم الواعظ الذى تنسب المقبرة إليه.

رحمه الله تعالى.

‌197 - طلحة بن مظفر

بن غانم بن محمد العلثى، الفقيه الخطيب المحدث الفرضى النضار، المفسر الزاهد، الورع العارف، تقى الدين أبو محمد.

نقلت هذه الترجمة له من خط الشيخ ناصح الدين بن الحنبلى. قال: نشأ فى العلث، وهى قرية من قرى بغداد. وحفظ الكتاب العزيز. وقرأ على على البطائحى، والبرهان بن الحصرى، وغيرهما.

وقرأ الفقه على ناصح الإسلام أبي الفتح بن المنّى، فصار معيدا علىّ وعلى غيرى. يعنى: أنه كان يعيد لهم دروس الشيخ.

قال: وانتفعنا به كثيرا. وسمع الحديث الكثير. وقرأ صحيح مسلم فى ثلاث مجالس. وكان يقرأ كتاب «الجمهرة» على ابن القصار، فمن سرعة قراءته وفصاحتها قال ابن القصار: هذا طلحة يحفظ هذا الكتاب. قالوا: لا. وكان يقرأ الحديث فيبكى. ويتلو القرآن فى الصلاة ويبكى. وكان متواضعا لطيفا، أديبا فى مناظرته، لا يسفه على أحد، فقيرا مجردا، ويرحم الفقراء، ولا يخالط الأغنياء.

حدثنى الشيخ: أن ناصح الإسلام بن المنّى، زار رجلا من أرباب الدنيا.

قال: وكنت معه يعتمد على يدى، فرأيت فى زاوية الدار صحن حلواء، فاشتهته نفسى، وخرجنا ولم يقدمه لنا. فنمت تلك الليلة، فرأيت فى منامى حلواء حضرت إلىّ، فأكلت منها حتى شبعت، فأصبحت ونفسى لا تطلب الحلواء.

قال: وكان يقرأ عليه القرآن والفقه والحديث فى جامع العلث.

وقال الحافظ المنذرى: تفقه ببغداد على أبى الفتح بن المنى، وأبي الفرج بن

ص: 390

الجوزى. وسمع بها من أبى الفتح محمد بن عبد الباقى، ويحيى بن ثابت بن بندار، وأحمد بن المبارك المرقعاتي، وعبد الحق بن عبد الخالق، وشهدة، وتجنى الوهبانية وجماعة كثيرة.

وقرأ بلفظه على الشيوخ. وكان حسن القراءة. وانقطع فى آخر عمره إلى العبادة، وتعليم العلم.

قلت: وسمع على أحمد بن المقرب الكرخى أيضا. وعنى بالحديث، ولازم أبا الفرج بن الجوزى. وقرأ عليه كثيرا من تصانيفه، فكان أديبا شاعرا فصيحا، واشتهر اسمه، ورزق القبول من الخلق، وكثر أتباعه، وانتفع به الناس.

وروى عنه يوسف بن يوسف بن خليل، وغيره.

وروى عنه ابن الجوزى فى تاريخه حكاية، وقال: حدثنى طلحة بن مظفر الفقيه: أنه ولد عندهم بالعلث مولود لستة أشهر، فخرج له أربعة أضراس.

قال المنذرى: توفى فى ثالث عشر ذى الحجة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بزاويته بالعلث. ودفن هناك رحمه الله.

«والعلث» : ناحية قريبة من الحضيرة من نواحى دجيل. وهى بفتح العين المهملة وسكون اللام وبعدها ثاء مثلثة.

وخلف الشيخ ثلاثة أولاد، وهم أبو الفرج عبد الرحمن. وكان قدوة صالحا عالما. ومكارم، ومظفر. وكلهم سمعوا الحديث وحدثوا.

‌198 - محمود بن أحمد

بن ناصر البغدادى الحرمى، الحذاء أبو البركات.

ويقال: أبو الثناء.

سمع من ابن الطلاية، وعبد الخالق بن يوسف، وغيرهما. وتفقه فى المذهب.

وأقرأ الفقه، وحدث.

توفى فى ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ببغداد. رحمه الله.

ص: 391

‌199 - عبد الله بن يونس

بن أحمد بن عبيد الله بن هبة الله البغدادى الأزجى، الفقيه الفرضى الأصولى المتكلم الوزير، وزير الخليفة الناصر جلال الدين أبو المظفر بن أبى منصور بن أبى المعالى.

كان والده وكيلا لأم الخليفة الناصر. وكان ذا صدقات وإفضال على العلماء

سمع من ابن الحصين، وأبى منصور القزاز، وحدث. وحج فى آخر عمره، فتمتع عملا بالمذهب. وعاد ولزم بيته. ونابه ولده هذا.

وتوفى فى محرم سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وشيعه الأعيان. ودفن بالمدائن إلى جانب قبر حذيفة بن اليمان رضى الله عنه.

وأما ولده هذا أبو المظفر: فإنه اشتغل بالعلم، ورحل فى طلبه إلى همدان، وقرأ بها ببعض الروايات على الحافظ أبى العلاء.

وسمع الحديث من المتأخرين، مثل أبى الوقت، وأبى بكر بن الزاغونى ونصر العكبرى، وابن البطى، وغيرهم.

وتفقه فى المذهب على أبى حكيم النهروانى، ثم على صدقة بن الحسين.

وقرأ عليهما القرآن، وعلى صدقة الأصول والكلام. واختلف إلى جماعة من العلماء فى طلب فنون جمة من العلوم، وبرع فى علم الفرائض والحساب والأصلين والهندسة. وصنف كتابا فى أوهام أبى الخطاب الكلوذانى فى الفرائض والوصايا، وكتابا فى أصول الدين والمقالات. وحدث به فى ولايته الأخيرة. وسمعه منه الفضلاء. ولم يتم سماعه.

وسمع منه الحديث عبد العزيز بن دلف، وأبو الحسن بن القطيعى، وبالغ فى مدحه والثناء عليه.

وقال جمع: فيه خصال، الخصلة منهن تكون فى الرجل، فيكون من الكاملين؛ إذ كان الله رزقه حفظ القرآن، والعلم بالحلال والحرام، والفرائض والكتاب والحساب، والعلم بالنحو، والسنّة والأخبار، وأعطاه من شرف

ص: 392

الأخلاق، وكرم الأعراق، والمجد المؤثل، والرأى المحصل، والفضل والنجابة، والفهم والإصابة، والقريحة الصافية، والمعرفة بكل فضل وفضيلة، والسمو إلى كل درجة رفيعة نبيلة من محمود الخصال، والفضل والكمال ما يطول شرحه.

ثم ذكر تنقله فى الولايات حتى ولاه الخليفة الوزارة فى شوال سنة ثلاث وثمانين وجلس الخليفة له وخواص الدولة لخلعته. ثم ركب إلى الديوان وبين يديه جميع أرباب الدولة: قاضى القضاة أبو الحسن بن الدامغانى، والنقيبان، وجميع الأمراء

وذكر غيره: أنه كان يوما وعثا ذا وجل، وهم مشاة بين يديه. وكان قاضى القضاة قد توقف فى قبول شهادة ابن يونس، فلم يقبلها إلا بكره. حتى صار من شهوده. فكان يمشى فى ذلك اليوم ويعثر، ويقول: لعن الله طول العمر.

ومات القاضى رحمه الله فى آخر تلك السنة.

وفى سنة أربع وثمانين أرسل الخليفة الناصر الوزير ابن يونس مع عسكر عظيم لمحاربة السلطان طغرل بن أرسلان، فلقيهم طغرل بقرب همدان، فتفرق عسكر الوزير، وثبت وبيده سيف مشهور ومصحف، فلم يقدموا عليه، حتى أخذ بعض خواص السلطان بعنان دابته وقادها إلى خيمته، ثم أنزله وأجلسه، فجاء إليه السلطان فى خواصه ووزيره، فلزم معهم قانون الوزارة، ولم يقم لهم فعجبوا من فعله. وكلمهم بكلام خشن، وقال لهم: أمير المؤمنين لما بلغه عبثكم فى البلاد، وخروجكم عن الأوامر الشرعية أمر بمجاهدتكم، فاحترموه وأكرموه، وبقى عندهم مدة. وكان فى تلك المدة يسرد الصيام، ويديم التهجد والتلاوة، ويحافظ على الجماعات فى الفرائض. ثم نقلوه معهم إلى بعض بلاد أذربيجان فتلطف فى التخلص منهم، حتى خلص. وسار إلى الموصل. وكان الخليفة قد استوزر فى هذه المدة غيره. وكان هذا الوزير الجديد قد بعث إلى أقطار البلاد فى إهلاك ابن يونس. فلما وصل إلى الموصل، خرج أميرها وسأله المقام ليقبض عليه، فانفلت منه، ونزل فى سفينة وبعض حواشيه، وانحدروا ليلا إلى تكريت،

ص: 393

ففعل به من فى قلعتها كما فعل صاحب الموصل، فتفلت منهم أيضا، ووصل إلى بغداد، فانتقل إلى بعض سفنها، وتنكر، ووصل إلى بيته بباب الأزج. ثم شاع خبره، فطلبه الخليفة إلى داره. ولم يزل فى هذه المدة يدرس القرآن، ويدارس الفقه ويتحفظ ما كان نسيه من أنواع العلوم. ثم ولاه الخليفة سنة خمس وثمانين أمر المخزن والديوان، ثم جعله أستاذ الدار سنة سبع وثمانين.

وفى ولايته هذه عقد المجلس لقاضى القضاة العباسى، وأحضر القضاة والعلماء، أفتوا وأثبتوا فسقه لقضية كان قد حكم فيها، وعزله، وبقى على ولايته إلى رجب سنة تسعين، فعزل وقبض عليه. وذلك فى ولاية ابن القصاب الوزارة.

وكان ابن القصاب رافضيا خبيثا. وكان الناصر يميل إلى الشيعة، فسعى فى القبض على ابن يونس، ونفى الشيخ أبا الفرج إلى واسط، وبقى ابن يونس معتقلا إلى سنة ثلاث وتسعين، فأخرج فى سابع عشر صفر ميتا. ودفن بالسرداب رحمه الله وسامحه.

وقد ذكر ابن النجار: أنه لم يكن فى ولايته محمودا. وقد علمت أن الناس لا يجتمعون على حمد شخص ولا ذمه.

وأما أبو شامة فبالغ فى ذمه والحط عليه بأمور لم يقم عليها حجة. وإنما قال:

ويقال: إنه فعل كذا. ومثل هذا القدح لا يكفى فى مستنده. ويقال كذا.

وكذلك ابن القادسى فى تاريخه يذمه كثيرا. وقد ذكر: أنه إذا آباه فصار ذا غرض معه.

وأما ابن الدبيثى فقال: كان فيه فضل، وحسن سمت ووقار. وذكر: أنه لما عزل فى المرة الأخيرة أقام بمنزله.

وذكر ابن القادسى: أنه لما قبض عليه استفتى عليه أنه كان تسبب إلى كسر عسكر الخليفة، وقتلهم ونهبهم، وأظهر موت الخليفة وهو حى. فكتب ابن فضلان كلاما مضمونه: إباحة دم من فعل هذا. وكتب ابن الجوزى: أنه يلزمه غرامة

ص: 394

ما خان فيه، وتقام عليه السياسة الرادعة. وذكر: أنه بعد القبض عليه فى داره نقل إلى محبس ضنك وعر بالتاج. وقيل: إنه ضيق عليه وقيد.

قال: وكان فقيها أصوليا جدليا، عالما بالحساب والفرائض، والهندسة والجبر والمقابلة. وصنف كتابا فى الأصول. وكان يقرأ عليه كل أسبوع، ويحضره جماعة من العلماء، إلا أنه شان أفعاله بسوء أعماله بأغراضه الفاسدة، والحسد الذى كان معه، والطرائق التى كانت غير مرضية، فأبغضه الناس وسبّوه. وكان فيه سودنة وجنون.

قال: وتوفى فى يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة ثلاث وتسعين. ودفن بالسرداب بدار الخلافة.

‌200 - الحسن بن مسلم

بن الحسن. ويقال أبى الحسن بن أبى الجود الفارسى، ثم الحورى، الزاهد أبو علي، زاهد وقته.

أصله من «حوراء» : قرية من قرى دجيل من سواد بغداد، ثم انتقل منها إلى قرية يقال لها: الفارسية من نهر عيسى. وكان يكتب فى الإجازة: الفارسى، ثم الحورى.

ولد سنة أربع وخمسمائة.

وقرأ القرآن وتفقه فى المذهب. وسمع الحديث من أبى البدر الكرخى وغيره. وصحب الشيخ عبد القادر، ثم اشتغل بالعبادة والانقطاع إلى الله عز وجل

وكان كثير البكاء، دائم العبادة على منهاج السلف، ذا كرامات. ويقال:

إنه كان يختم كل يوم وليلة ختمة.

ذكره ابن الدبيثى، فقال: كان رجلا صالحا كثير العبادة، منقطعا إلى الاشتغال بالخير. قد قرأ القرآن، وتفقه. وسمع الحديث، ولم يزل على طريقة حميدة. روى عن الكرخى، ونعم الرجل كان.

وقرأت بخط أبى الفرج بن الحنبلى الدمشقى قال: سمعت الشيخ طلحة - يعنى العلثى - يقول للشيخ: حسن هذا عشرون سنة مارئى نائما أو مضطجعا.

ص: 395

قال: وكان مشهورا، تزوره العامة والخاصة، وزرناه فى قريته الفارسية، وبتنا عنده، وتحدث معنا، وفرح بنا. وقال - وقد خضنا فى أخبار الصفات -:

قال بعض مشايخنا: أخبار الصفات صناديق مقفلة، مفاتيحها بيد الرحمن.

وذكره أبو شامة، فقال: كان من الأبدال، لازما لطريق السلف. أقام أربعين سنة لم يكلم أحدا. كذا قال. وهو بعيد جدا من حاله. وذكر من بعض كراماته من تسخير السباع له. وليس تحته كبير أمر.

قال: وسمع قاضى المارستان، وابن الحصين، وابن الطيورى، وغيرهم.

كذا قال. ولم يذكر هذا ابن نقطة، ولا الدبيثى، ولا القطيعى، ولا المنذرى.

فما أدرى من أين له هذا؟ نعم كان فى زمنه رجل يقال له: الحسن بن عبد الرحمن ابن الحسن الفارسى الصوفى، من صوفية رباط الزوزنى، روى عن القاضى أبى بكر وغيره، فلعله اشتبه عليه وهذا توفى بعد الحسن بن مسلم بسنتين، سنة ست وتسعين

ثم رأيت ابن القادسى ذكر: أن الحسن هذا سمع من قاضى المارستان.

قال: وكان أحد الزهاد الأوتاد، والأبدال العباد، الموصوفين بالتقى والسداد، يصوم النهار ويقوم الليل، بقى أربعين سنة لم يكلم فيها أحدا، كثير الاجتهاد فى العبادة، كثير البكاء، غزير الدمعة، رقيق القلب، له الفراسة الصائبة.

حدثنى والدى قال: كنت عنده وعنده شخص وهما يتحادثان فى الزراعة، فقلت فى نفسى: هذا زاهد، وهو يتكلم فى حديث الدنيا؟! فالتفت إليّ عاجلا، وقال: أى أحمد، ما نصل إلى الآخرة إلا بالدنيا. وهذه الحكاية تردّ قوله:

إنه كان لا يتكلم أربعين سنة.

وحدث الحسن بن مسلم، وسمع منه جماعة، وروى عنه ابن خليل وغيره.

وتوفى فى يوم الأحد حادى عشر المحرم سنة أربع وتسعين وخمسمائة بالقادسية. ودفن من الغد برباط له بها.

وقيل: توفى يوم عاشوراء. وقيل: يوم ثانى عشر المحرم. والأول الأصح.

ص: 396

وهو الذى ذكره ابن نقطة والدبيثى والقادسى والمنذرى.

‌201 - سلامة بن إبراهيم

بن سلامة الحداد القبانى الدمشقى، المحدث أبو الخير. ويلقب تقى الدين.

سمع من أبى المكارم عبد الواحد بن هلال، وابن الموازينى، وغيرهما من مشايخ دمشق. وعنى بالحديث، وكتب بخطه، وقرأ وخرج التخاريج للشيوخ، وأمّ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق. وكان ثقة صالحا فاضلا. وابن نقطة الحافظ يعتمد على خطه، وينقل عنه فى استدراكه.

قرأت بخط أبى الفرج بن الحنبلى عنه: كان حسن السمت، يحفّ شاربه، ويقصر ثوبه، ويأكل من كسب يده، يعمل القبابين، ويعتمد عليه فى تصحيحها إلى أن مات.

قال: قال لى القاضى ابن الزكى: تعجبنى طريقة أبى الخير - يعني: سلامة

روى عنه ابن خليل فى معجمه، فقال: أخبرنا الإمام أبو الخير قراءة عليه من لفظه.

وتوفى فى سابع عشرين ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وخمسمائة. ودفن بسفح قاسيون. رحمه الله تعالى.

‌202 - محمد بن عبد الملك

بن إسماعيل بن عبد الملك بن إسماعيل بن علي الأصبهانى، الواعظ أبو عبد الله.

ولد سنة إحدى - أو اثنتين - وثلاثين وخمسمائة.

وسمع من إسماعيل بن علي الحمامى، والحسن الرستمى، وعبد الجليل بن محمد الحافظ، وأبو الخير الباغبان، ومسعود الثقفى.

وسمع ببغداد من أحمد بن محمد العباسى، وهبة الله بن الشبكى. وكان له قبول كثير عند أهل بلده. وقدم بغداد غير مرة، وأملى بجامع القصر عشر مجالس، كتبت عنه.

ص: 397

سمع منه ابن القطيعى، وابن النجار، وقال: كان شيخا فاضلا، متدينا صدوقا.

قال: وأخبرنى ولده عبد المعز الواعظ بأصبهان: أن أباه توفى ليلة الرابع والعشرين من ذى الحجة سنة خمس وتسعين وخمسمائة بأصبهان. رحمه الله.

‌203 - عبد العزيز بن ثابت

بن طاهر البغدادى المأمونى الشمعى الخياط، المقرئ، الفقيه الزاهد أبو منصور. ويلقب تاج الدين.

قرأ القرآن، وسمع الحديث الكثير من أبى المكارم البادرائى، وأبى الحسن ابن يوسف، وابن الخشاب، وشهدة، وأكثر عن المتأخرين بعدهم.

وقرأ الفقه على الشيخ أبى الفتح بن المنّى. وكتب بخطه الكثير من الحديث وغيره. وكان يقرئ الناس القرآن، ويؤم بمسجده بالشمعية: محلة ببغداد.

قرأ عليه خلق كثير، وحدث باليسير من رواياته؛ لأنه مات فى أول سن الكهولة.

قال ابن النجار: كان صالحا ورعا، متدينا كثير العبادة، آثار الصلاح لائحة على وجهه.

وقال أبو الفرج بن الحنبلى: كان رفيقنا فى سماع درس ابن المنّى، وبلغ من الزهد والعبادة إلى حد يقال به تمسك بغداد. وكان لطيفا فى صحبته؛ خرجنا نزور قبر الإمام أحمد. ثم عدلنا إلى الشط، فنزل الفقهاء يسبحون فى الشط، فقالوا للشيخ أبى منصور: انزل معنا، فنزع ثوبه، ونزل يسبح معهم، ولعبوا فى الماء، فعمل مثلهم، فقال له بعض الفقهاء: أين الشيخ محمود النعال يبصرك؟ فقال: يا مسكين، الحقّ تعالى يبصرنا. فطاب بعض الجماعة بقوله.

قال ابن النجار: توفى يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شعبان سنة ست وتسعين وخمسمائة. ودفن بباب حرب. رحمه الله.

ص: 398

‌204 - تميم بن أحمد

بن أحمد بن كرم بن غالب بن قتيل البنديجى، ثم البغدادى الأزجى، المفيد أبو القاسم بن أبى بكر بن أبى السعادات.

ولد سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة تقريبا. قاله ابن القطيعى.

وقال المنذرى: سنة أربع أو خمس.

وقال ابن النجار: قرأت بخطه قال: ولدت فى رجب سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

وسمع الكثير من أبى بكر بن الزاغونى، وأبى الوقت، وأبى حكيم النهروانى والشيخ عبد القادر، والوزير ابن هبيرة، والقاضى أبى يعلى بن أبى خازم بن الفراء وأبى محمد بن المادح، والمبارك بن خضير، وأحمد بن المقرب، وابن البطى، والكروخى وخلق كثير من هذه الطبقة، وممن بعدهم.

وكتب بخطه كثيرا لنفسه وللناس، وأفاد أهل البلد، ومواليدهم، والغرباء كثيرا.

وكان يعتنى بحفظ أسماء الشيوخ، ومعرفة مروياتهم، ومواليدهم ووفياتهم.

وحدث باليسير؛ لأنه مات قبل الشيخوخة.

سمع منه ابن النجار، وتكلم فيه هو وشيخه ابن الأخضر، وأجاز للحافظ المنذرى.

توفى يوم السبت ثالث جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله.

‌205 - عبد الرحمن بن على

بن محمد بن على بن عبيد الله بن عبد الله ابن حمادى بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم ابن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه القرشى التيمى البكرى البغدادى، الحافظ المفسر، الفقيه الواعظ، الأديب جمال الدين أبو الفرج، المعروف بابن الجوزى، شيخ وقته، وإمام عصره.

ص: 399

واختلف فى هذه النسبة، فقيل: إن جده جعفر نسب إلى فرضه من فرض البصرة، يقال لها: جوزة.

وفرضة النهر: ثلمته التى يستقى منها، وفرضة البحر: محط السفن. ذكر هذا غير واحد.

قال المنذرى: هو نسبة إلى موضع يقال له: فرضة الجوز.

وذكر الشيخ عبد الصمد بن أبى الجيش: أنه منسوب إلى محلة بالبصرة تسمى محلة الجوز.

وقيل: بل كانت بداره فى واسط جوزة، لم يكن بواسط جوزة سواها.

واختلف أيضا فى مولده، فقيل: سنة ثمان وخمسمائة.

وقال القادسى: ذكره الشيخ عن أخيه أبى محمد: أنه أخبره بذلك.

وقيل: سنة تسع. وقيل: سنة عشر.

ووجد بخطه: لا أحقق مولدى، غير أنه مات والدى فى سنة أربع عشرة، وقالت الوالدة: كان لك من العمر نحو ثلاث سنين. فعلى هذا: يكون مولده سنة إحدى عشرة، أو اثنى عشرة.

وقال ابن القطيعى: سألته عن مولده؟ فقال: ما أحق الوقت، إلا أننى أعلم أنى احتملت فى سنة وفاة شيخنا ابن الزاغونى: وكان توفى سنة سبع وعشرين.

قلت: وهذا يؤذن أن مولده بعد العشرة.

ووجد بخطه تصنيف له فى الوعظ، ذكر: أنه صنف سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وقال: ولى من العمر سبع عشرة سنة.

قال ابن القطيعى: وحكى لى أنه كان يسمى المبارك إلى سنة عشرين وخمسمائة

وقال: سمانى وأخواى شيخنا بن ناصر: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرازق.

وإنما كنا نعرف بالكنى.

وكان مولده ببغداد بدرب حبيب. فلما توفى والده - وهو صغير - كفلته

ص: 400

أمه وعمته. وكان أهله تجارا فى النحاس، فلهذا يوجد فى بعض سماعاته القديمة:

ابن الجوزى الصفار. ولما ترعرع حملته عمته إلى مسجد أبى الفضل بن ناصر، فاعتنى به وأسمعه الحديث. وقد قيل: إن أول سماعاته سنة ست عشرة وخمسمائة.

وحفظ القرآن وقرأه على جماعة من أئمة القراء. وقد قرأ بالروايات فى كبره بواسط على ابن الباقلانى. وسمع بنفسه الكثير، وقرأ وعنى بالطلب.

قال فى أول مشيخته: حملنى شيخنا ابن ناصر إلى الأشياخ فى الصغر، وأسمعنى العوالى، وأثبت سماعاتى كلها بخطه، وأخذ لى إجازات منهم. فلما فهمت الطلب كنت ألازم من الشيوخ أعلمهم، وأوثر من أرباب النقل أفهمهم، فكانت همتى تجويد العدد لا تكثير العدد. ولما رأيت من أصحابى من يؤثر الاطلاع على كبار مشايخى ذكرت عن كل واحد منهم حديثا. ثم ذكر فى هذه المشيخة له سبعة وثمانين شيخا.

وقد سمع من جماعة غيرهم، لكنه اقتصر على أكابر الشيوخ ومواليهم، فمنهم ابن الحصين، والقاضى أبو بكر الأنصارى، وأبو بكر المزرفى، وأبو القاسم الحريرى، وعلى بن عبد الواحد الدينورى، وأبو السعادات المتوكلى، وأبو غالب ابن البناء، وأخوه يحيى، وأبو عبد الله البارع، وأبو الحسن على بن أحمد الموحد، وأبو غالب الماوردى، وأبو الحسن بن الزاغونى، وأبو منصور بن خيرون، وأبو القاسم السمرقندى، وعبد الوهاب الأنماطى، وعبد الملك الكروخى، وأبو القاسم عبد الله بن محمد الأصبهانى خطيبها، وأبو سعد الزوزنى، وأبو سعد البغدادى، ويحيى بن الطراح، وإسماعيل بن أبى صالح المؤذن، وأبو القاسم على ابن معلى العلوى الهروى الواعظ، وأبو منصور القزاز، وعبد الجبار بن إبراهيم بن عبد الوهاب بن مندة. وتفرد بالرواية عن طائفة منهم، كالمتوكل والدينورى.

وسمع الكتب الكبار، كالمسند، وجامع الترمذى، وتاريخ الخطيب.

وله فيه فوات جزء واحد.

ص: 401

وسمع صحيح البخارى على أبى الوقت، وصحيح مسلم بنزول، وما لا يحصى من الأجزاء، وتصنيف ابن أبى الدنيا وغيرها. ووعظ وهو صغير جدا.

قال: حملنى ابن ناصر إلى أبى القاسم العلوى الهروى فى سنة عشرين، فلقننى كلمات من الوعظ، وجلس لوداع أهل بغداد مستندا إلى الرباط الذى عند السور فى الحلبة، ورقانى يومئذ المنبر، فقلت الكلمات، وحرز الجمع بخمسين ألفا.

ثم صحب أبا الحسن بن الزاغونى، ولازمه، وعلق عنه الفقه والوعظ.

وذكر القادسى: أنه تفقه على أبى حكيم، وأبى يعلى بن الفراء.

وكذا ذكر ابن النجار: أنه بعد وفاة ابن الزاغونى قرأ الفقه والخلاف والجدل والأصول على أبى بكر الدينورى، والقاضى أبى يعلى الصغير، وأبى حكيم النهروانى. وصار مفيد المدرسة

وقرأ الأدب على أبى منصور الجواليقى. ولما توفى ابن الزاغونى فى سنة سبع وعشرين طلب حلقته، فلم يعطها لصغره؛ فإنه كان فى ذلك العام قد احتلم كما تقدم فحضر بين يدى الوزير، وأورد فصلا فى المواعظ، فأذن له فى الجلوس فى جامع المنصور.

قال: فتكلمت فيه، فحضر مجلسى أول يوم جماعة من أصحابنا الكبار من الفقهاء، منهم عبد الواحد بن سيف، وأبو على بن القاضى، وأبو بكر بن عيسى وابن قثامى، وغيرهم. ثم تكلمت فى مسجد معروف، وفى باب البصرة، وبنهر المعلى، فاتصلت المجالس، وقوى الزحام، وقوى اشتغالى بفنون العلوم. وسمعت على أبى بكر الدينورى الفقه، وعلى أبى منصور بن الجواليقى اللغة. وتتبعت مشايخ الحديث، وانقطعت مجالس أبى على الراذانى - يعنى الذى أخذ حلقة شيخه ابن الزاغونى - واتصلت مجالسى؛ لكثرة اشتغالى بالعلم.

واشتهر أمر الشيخ أبو الفرج من ذلك الوقت، وأخذ فى التصنيف والجمع.

وقد كان بدأ بالتصنيف من قبل ذلك.

ص: 402

وذكر: أنه سرد الصوم مدة، واتبع الزهاد، ثم رأى أن العلم أفضل من كل نافلة فانجمع عليه، ونظر فى جميع الفنون، وألف فيها. وكانت أكثر علومه يستفيدها من الكتب، ولم يحكم ممارسة أهلها فيها، وعظم شأن الشيخ فى ولاية الوزير ابن هبيرة. وكان يتكلم عنده فى داره كل جمعة. ولما ولى المستنجد الخلافة خلع عليه خلعة مع الشيخ عبد القادر، وغيره من الأكابر، وأذن له فى الجلوس بجامع القصر

قال: فتكلمت. وكان يحرز؟؟؟ جمع مجلسى على الدوام بعشرة آلاف، وخمسة عشر ألفا.

قال: وظهر أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون فى المذاهب، فأعاننى الله سبحانه وتعالى عليهم. وكانت كلمتنا هى العليا. وكان الشيخ رحمه الله يظهر فى مجالسه مدح السنة، والإمام أحمد وأصحابه، ويذم من يخالفهم، ويصرح بمذاهبهم فى مسائل الأصول، لا سيما فى مسألة القرآن. وكلامه فى كتبه الوعظية فى ذلك كثير جدا.

وقال يوما على المنبر: أهل البدع يقولون: ما فى السماء أحد، ولا فى المصحف قرآن، ولا فى القبر نبيّ، ثلاث عورات لكم.

وقدم مرة إلى بغداد واعظ يقال له: البروى، فتعصب فى كلامه على الحنابلة كثيرا، فلم تطل مدته حتى هلك. وكان فى تلك الأيام قد غدا ساع أسود للشيعة، وخرجوا للقائه، فانبط ووقع ميتا، فضاقت صدورهم لذلك، فجلس الشيخ عقيب ذلك، وقال فى أثناء كلامه: كم أبرق مبتدع بأصحاب أحمد وأرعد فحظى يوما له وهو بالعيش الأرغد، وأما أنت يا أبعد، فإن أردت أن تموت، وإن أردت أن تحرد. مات البروى وانبط الأسود.

ومن كلامه فى بعض المجالس: من مبلغ أحمد بن حنبل، إن زرع كيف أقول ما لم يقل سنبل؟.

وقيل له مرة: قلّل من ذكر أهل البدع مخافة الفتن، فأنشد:

ص: 403

أتوب إليك يا رحمن مما

جنيت، فقد تعاظمت الذنوب

وأما من هوى ليلى؟؟؟ وتركى

زيارتها، فإنى لا أتوب

وقال له قائل: ما فيك عيب إلا أنك حنبلى، فأنشد:

وعيرنى الواشون أنى أحبها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

ثم قال: أهذا عيبى، ولا عيب فى وجه نقط صحنه بالخال؟ وأنشد.

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وكتب إليه رجل فى رقعة: والله، ما أستطيع أراك، فقال أعمش وشمس، كيف يراها؟ ثم قال: إذا خلوت فى البيت غرست الدّرّ فى أرض القراطيس، وإذا جلست للناس دفعت بدرياق العلم سموم الهوى؛ أحميكم عن طعام البدع، وتأبون إلا التخليط، والطبيب مبغوض.

وكان الشيخ أبو الفرج معيدا عند الشيخ أبى حكيم النهرواني. وكان قد قرأ عليه الفقه أيضا والفرائض بالمدرسة التى بناها ابن السمحل بالمأمونية.

وكان لأبي حكيم مدرسة بباب الأزج. فلما احتضر أسندها إلى أبى الفرج، فأخذها جميعا بعده.

وفى خلافة المستضئ قوى اتصال الشيخ أبى الفرج، وصنف له الكتاب الذى سماه «المصباح المضئ فى دولة المستضئ» وصنف كتابا آخر لما خطب للمستضئ بمصر، وانقطع أثر العبيديين عنها، سماه:«النصر على مصر» وعرضه عليه، وحضر عنده، ثم أذن له فى سنة ثمان وستين أن يجلس للوعظ فى باب بدر بحضرة الخليفة، وأعطاه مالا.

قال الشيخ: فأخذ الناس أماكن من وقت الضحى للمجلس بعد العصر وكانت هناك دكاك فأكريت، حتى إن الرجل كان يكترى موضعا لنفسه بقراطين وثلاثة.

قال: وكنت أتكلم أسبوعا، وأبو الخير القزوينى أسبوعا، وجمعى عظيم وعنده عدد يسير. ثم شاع أن أمير المؤمنين لا يحضر إلا مجلسى، وذلك فى الأشهر الثلاثة.

ص: 404

قال: ثم تقدم إلىّ بالجلوس بباب بدر يوم عرفة، فحضر الناس من وقت الضحى. وكان الحرّ شديدا، والناس صيام.

قال: ومن أعجب ما جرى أن حمالا حمل على رأسه داربونة من وقت الظهر إلى وقت العصر ظلل بها من الشمس عشرة أنفس، فأعطوه خمس قراريط، واشتريت مراوح كثيرة بضعف ثمنها، وصاح رجل يومئذ: قد سرق منى الآن مائة دينار فى هذه الزحمة، فوقع له أمير المؤمنين بمائة دينار.

قال: وفى هذه السنة عقدت المجلس بجامع المنصور يوم عاشوراء، وحضر من الجمع ما حرز بمائة ألف، وجرى فى سنة تسع مثل ذلك أيضا.

قال: وسألنى أهل الحربية أن أعقد عندهم مجلسا للوعظ ليلة. فوعدتهم ليلة الجمعة سادس ربيع الأول - يعنى سنة تسع - وانقلبت بغداد، وعبر أهلها عبورا زاد على نصف شعبان زيادة كبيرة، فعبرت إلى باب البصرة فدخلتها بعد المغرب، فتلقانى أهلها بالشموع الكثيرة، وصحبنى منها خلق عظيم فلما خرجت من باب البصرة رأيت أهل الحربية قد أقبلوا بشموع لا يمكن إحصاؤها، فأضيفت إلى شموع أهل باب البصرة، فحزرت بألف شمعة. وما رأيت البرية إلا مملوءة بالأضواء. وخرج أهل المحال والنساء والصبيان ينظرون وكان الزحام فى البرية كالزحام بسوق الثلاثاء، فدخلت الحربية وقد امتلأ الشارع وأكريت الرواشين من وقت الضحى. ولو قيل: إن الذين خرجوا يطلبون المجلس وسعوا فى الصحراء بين باب البصرة والحربية مع المجتمعين فى المجلس كانوا ثلاثمائة ألف، ما أبعد القائل.

قال: وفى هذا الشهر ختن الوزير ابن رئيس الرؤساء أولاده، وعمل الدعوة العظيمة وأنفذ إلى أشياء كثيرة، وقال: هذا نصيبك؛ لأنى علمت أنك لا تحضر مكانا يغنى فيه. ثم إن الشيخ أبا الفرج بنى مدرسة بدرب دينار، ودرس بها سنة سبعين. وذكر أول يوم تدريسه بها أربعة عشر درسا من فنون العلم.

قال: وفى هذه السنة انتهى تفسيري فى القرآن فى المجلس على المنبر، إلى

ص: 405

أن تم، فسجدت على المنبر سجدة الشكر، وقلت: ما عرفت أن واعظا فسر القرآن كله فى مجلس الوعظ منذ نزل القرآن، ثم ابتدأت فى ختمة أفسرها على الترتيب والله قادر على الإنعام والإتمام، والزيادة من فضله.

قال: وتقدم إلىّ بالجلوس تحت المنظرة فى رجب، فتكلمت يوم الخميس خامس رجب بعد العصر، وحضر السلطان، وأخذ الناس أماكنهم من بعد صلاة الفجر، وأكريت دكاكين، فكان موضع كل رجل بقيراط، حتى إنه اكترى دكانا لثمانية عشر رجلا بثمانية عشر قيراطا، ثم جاء رجل فأعطاهم ستة قراريط حتى جلس معهم. وكان الناس يقفون يوم مجلسى من باب بدر إلى باب النوبى كأنه العيد، ينظر بعضهم بعضا، وينظرون قطع المجلس.

قال: وفى شعبان سلمت إلى المدرسة التى للجهة «بنفشا» وكانت قد سلمتها إلى أبى جعفر بن الصباغ، فبقى المفتاح معه أياما، ثم استعادت منه المفتاح، وسلمته إلى من غير طلب كان منى، وكتبت فى كتاب الوقف: إنها وقف على أصحاب أحمد، وأسندتها إلىّ، ثم كتبت على حائطها: اسم الإمام أحمد، وأنها مفوضة إلى ناصر السنة ابن الجوزى. وتقدم إلىّ بذكر الدرس فيها. وحضر قاضى القضاة وحاجب الباب، وفقهاء بغداد وخلعت علىّ خلعة، وخرج الدعاة بين يديّ والخدم، ووقف أهل بغداد من باب النوبى إلى باب المدرسة كما يكون فى العيد وأكثر.

وكان على باب المدرسة ألوف، وألقيت يومئذ دروسا كثيرة من الأصول والفروع وكان يوما مشهودا لم ير مثله، ودخل على قلوب أهل المذاهب غم عظيم. وتقدم ببناء دكة لنا فى جامع القصر. فانزعج لهذا جماعة من الأكابر، وقالوا: ما جرت عادة الحنابلة بدكة، فبنيت، فجلست فيها يوم الجمعة ثالث رمضان.

وذكر بعض أصحاب أبى حنيفة فى الإفطار بالأكل - يعنى ناسيا - واعترضت عليه يومئذ، وازدحمت العوام حتى امتلأ صحن الجامع، ولم يمكن الأكثرين حصول النظر إلينا، وحفظ الناس بالرجالة، خوفا من فتنة، وما زال

ص: 406

الزحام على حلقتنا كل جمعة. ثم ذكر مجالسه سنة إحدى وسبعين بباب بدر، وحضور الخليفة عنده غير مرة، وازدحام الناس من نصف الليل. وكان يعظ هو وأبو الخير القزوينى.

قال: وبعث إلىّ بعض الأمراء من أقارب أمير المؤمنين: والله، ما أحضر أنا ولا أمير المؤمنين غير مجلسك، وإنما تلمحنا مجلس غيرك يوما وبعض يوم آخر.

قال: حدثنى بعض خدم الخليفة: أن الخليفة حضر يوما المجلس متحاملا؛ لمرض حصل له، ولولا شدة محبتك لما حضر، لما كان اعتراه من الألم.

وحدثنى صاحب المخزن، قال: كتب إلىّ أمير المؤمنين فى كلام كنت ذكرته: هل وقع ما ذكره فلان بالفرض؟ فكتب أمير المؤمنين: ما على ما ذكره فلان مزيد.

قال: وكان الرفض فى هذه الأيام قد كثر، فكتب صاحب المخزن إلى الخليفة: إن لم تقوّيد ابن الجوزى لم يطق دفع البدع. فكتب الخليفة بتقوية يدى، فأخبرت الناس ذلك على المنبر، وقلت: إن أمير المؤمنين، قد بلغه كثرة الرفض، وقد خرج توقيعه بتقوية يدى فى إزالة البدع، فمن سمعتموه من العوام ينتقص الصحابة فأخبرونى حتى أنقض داره، وأخلده الحبس، فإن كان من الوعاظ حذرته إلى المثال، فانكفّ الناس.

قال: وتكلمت يوم عرفة بباب بدر، فكان مجلسا عظيما، تاب فيه خلق كثير، وقطعت شعور كثيرة، وكان السلطان حاضرا، ثم فى يوم عاشوراء سنة اثنين وسبعين، تكلمت بباب بدر، وامتلأ المكان من السحر، وطلع الفجر وليس لأحد طريق، فرجع الناس وامتلأت الطرق بالناس قياما، يتأسفون على فوت الحضور، وقام من يتكلم فى المجلس، فبعث أمير المؤمنين فكتبت ظلامته.

قال: وفى جمادى الآخرة، عبرت إلى جامع المنصور، فوعظت فيه بعد

ص: 407

العصر، واجتمع الناس، فحرز الجمع مائة ألف، ورجعنا إلى نهر معلّى والناس ممتدون من باب البصرة كالشراك إلى الجسر. وكان يوما مشهودا. ثم ذكر مجالسه فى هذه السنة، قريبا مما تقدم بباب بدر.

قال: وكان يوم المجلس تغلق أبواب المكان بعد الظهر لشدة الزحام، فإذا جئت بعد العصر فتح لى، وزاحم معى من يمكنه أن يزاحم.

قال: وفى رمضان، تقدم إلىّ بالجلوس فى دار ظهير الدين صاحب المخزن، وحضر أمير المؤمنين، وأذن للعوام فى الدخول، وتكلمت فأعجبهم، حتى قال ظهير الدين: قد قال أمير المؤمنين: ما كان هذا الرجل آدمى؛ لما يقدر عليه من الكلام، وذكر مجالسه سنة ثلاث وسنة أربع بنحو ما تقدم.

قال: وتكلمت يوم عاشوراء، سنة أربع تحت منظرة باب بدر، وأمير المؤمنين حاضر، فقلت: لو أنى مثلت بين يدى السدة الشريفة، لقلت:

يا أمير المؤمنين: كن لله سبحانه مع حاجتك إليه، كما كان لك مع غناه عنك، إنه لم يجعل أحدا فوقك، فلا ترضى أن يكون أحد أشكر له منك. فتصدق أمير المؤمنين يومئذ بصدقات، وأطلق محبوسين.

قال: وتقدم أمير المؤمنين فى هذه السنة بعمل لوح ينصب على قبر الإمام أحمد، ونقضت السترة جميعها، وبنيت بآجر مقطوع جديد، وبنى لها جانبان، وبنى اللوح الجديد، وفى رأسه مكتوب: هذا ما أمر بعمله سيدنا ومولانا أمير المؤمنين الإمام المستضئ بالله. وفى وسطه مكتوب: هذا قبر تاج السنة، وحيد الأمة، العالى الهمة، العالم العابد، الفقيه الزاهد. زاد القطيعى: الورع المجاهد، العامل بكتاب الله، وسنة رسول الله.

قال: واستعظم كثير من الناس أمره بكتابة الإمام أحمد على لوحة، فإن عادة الخلفاء لا يقال لغير الخليفة: إمام الإمام أبى عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانى رحمه الله. وكتب تاريخ وفاته، وآية الكرسى.

ص: 408

قال: وتكلمت فى جامع المنصور هذه الأيام. فبات ليلته فى الجامع خلق كثير. وختمت الختمات. واجتمع الناس بكثرة. فحرز الجمع بمائة ألف. وتاب خلق كثير. وقطعت شعورهم، ثم نزلت فمضيت إلى قبر أحمد. فتبعنى خلق كثير حرزوا بخمسة آلاف.

قال: وبنى للشيخ أبى الفتح بن المنى دكة فى موضع جلوسه فى الجامع.

فتأثر أهل المذاهب من ذلك، وجعل الناس يقولون لى: هذا بسببك، فإنه ما ارتفع هذا المذهب عند السلطان حتى مال إلى الحنابلة إلا بسماع كلامك، فشكرت الله تعالى على ذلك. ولقد قال لى صاحب المخزن: ما يخرج إلىّ شئ من عند السلطان فيه ذكرك، إلا ويثنى عليك، وقال له يوما بختاج الخادم: أنت تتعصب لفلان؟ فقال له: والله ما يتعصب له سيدك إلا بقدر ما تتعصب له خمسين مرة، وما يعجبه كلام غيره.

وكان الوزير ابن رئيس الرؤساء يقول: ما دخلت قط على الخليفة إلا أجرى ذكر فلان، يعنينى.

قال الشيخ: وصار لى اليوم خمس مدارس، ومائة وخمسين مصنفا فى كل فن وقد تاب على يدى أكثر من مائة ألف، وقطعت أكثر من عشرة آلاف طائلة، ولم ير واعظ مثل جمعى، فقد حضر مجلسى الخليفة والوزير، وصاحب المخزن، وكبار العلماء، والحمد لله على نعمه.

وذكر فى هذه السنة: أنه تكلم يوما بحضرة الخليفة، وحكى له موعظة شيبان للرشيد، قال: وقلت له فى كلامى: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وأنا أقدم خوفى عليك على خوفى منك.

قال ابن القطيعى: سمعت من أثق به. قال: لما سمع أمير المؤمنين المستضئ ابن الجوزى ينشد تحت داره:

ستنقلك المنايا عن ديارك

ويبدلك الردى دارا بدارك

ص: 409

وتترك ما عنيت به زمانا

وتنقل من غناك إلى افتقارك

فدود القبر فى عينيك يرعى

وترعى عين غيرك فى ديارك!

فجعل المستضئ يمشى فى قصره ويقول: أى والله: وترعى عين غيرك فى ديارك! ويكررها ويبكى حتى الليل.

وحاصل الأمر: أن مجالسه الوعظية لم يكن لها نظير، ولم يسمع بمثلها.

وكانت عظيمة النفع، يتذكر بها الغافلون، ويتعلم منها الجاهلون، ويتوب فيها المذنبون، ويسلم فيها المشركون. وقد ذكر فى تاريخه: أنه تكلم مرة، فتاب فى المجلس على يده نحو مائتى رجل، وقطعت شعور مائة وعشرين منهم.

وقال فى آخر كتاب القصاص، والمذكرين له: ما زلت أعظ الناس وأحرضهم على التوبة والتقوى، فقد تاب على يدى إلى أن جمعت هذا الكتاب أكثر من مائة ألف رجل: وقد قطعت من شعور الصبيان اللاهين أكثر من عشرة آلاف طائلة. وأسلم على يدى أكثر من مائة ألف.

قال: ولا يكاد يذكر لى حديث إلا ويمكننى أن أقول: صحيح، أو حسن أو محال. ولقد أقدر على أن أرتجل المجلس كله من غير ذكر محفوظ، وربما قرئت عندى فى المجلس خمسة عشرة آية، فآتى على كل آية بخطبة تناسبها فى الحال.

وقال سبطه أبو المظفر: أقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف، وربما حضر عنده مائة ألف، وأوقع الله فى القلوب القبول والهيبة. وكان زاهدا فى الدنيا، متقللا منها، وسمعته يقول على المنبر فى آخر عمره: كتبت بإصبعىّ هاتين ألفى مجلدة، وتاب على يدى مائة ألف، وأسلم على يدى عشرون ألف يهودى ونصرانى.

قال: وكان يختم القرآن فى كل سبعة أيام، ولا يخرج من بيته إلا إلى الجامع للجمعة وللمجلس. وما مازح أحدا قط، ولا لعب مع صبى، ولا أكل من جهة لا يتيقّن حلّها. وما زال على ذلك الأسلوب حتى توفاه الله تعالى.

ص: 410

وقال ابن القطيعى: انتفع الناس بكلامه، فكان يتوب فى المجلس الواحد مائة وأكثر فى بعض الأيام. وكان يجلس بجامع المنصور يوما أو يومين فى السنة.

فتغلق المحال، ويحرز الجمع بمائة ألف.

قرأت بخط الإمام ناصح الدين بن الحنبلى الواعظ فى حق الشيخ أبى الفرج:

اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع فى غيره. وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والإحسان باجتماع ظراف بغداد، ونظاف الناس، وحسن الكلمات المسجعة والمعانى المودعة فى الألفاظ الرائجة، وقراءة القرآن بالأصوات المرجعة، والنغمات المطربة، وصيحات الواجدين، ودمعات الخاشعين، وإنابة النادمين، وذل التائبين، والإحسان بما يفاض على المستمعين، من رحمة أرحم الراحمين.

ووعظ وهو ابن عشر سنين إلى أن مات، ولم يشغله عن الاشتغال بالعلم شاغل، ولا لعب ولا لها، ولا سافر إلا إلى مكة. ولقد كان فيه جمال لأهل بغداد خاصة، وللمسلمين عامة، ولمذهب أحمد منه ما لصخرة بيت المقدس من المقدس. حضرت مجالسه الوعظية بباب بدر عند الخليفة المستضئ، ومجالسه بدرب دينار فى مدرسته ومجالسه بباب الأزج على شاطئ دجلة، وسمعت عليه مناقب الإمام أحمد، وبعثت إليه من دمشق، فنقل سماعى بخطه وسيره إلىّ، وحضرت معه فى دعوتين. فكان طيب النفس على الطعام. وكانت مجالسه أكثر فائدة من مجالسته.

وذكره الحافظ ابن الدبيثى فى ذيله على تاريخ ابن السمعانى، فقال: شيخنا الإمام جمال الدين بن الجوزى صاحب التصانيف فى فنون العلم: من التفاسير، والفقه، والحديث، والوعظ، والرقائق، والتواريخ، وغير ذلك. وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه. والوقوف على صحيحه من سقيمه. وله فيه المصنفات من المسانيد والأبواب والرجال. ومعرفة ما يحتج به فى أبواب الأحكام والفقه، وما لا يحتج به من الأحاديث الواهية الموضوعة. والانقطاع والاتصال. وله فى الوعظ العبارة الرائقة. والإشارات الفائقة. والمعانى الدقيقة. والاستعارة الرشيقة.

ص: 411

وكان من أحسن الناس كلاما. وأتمهم نظاما، وأعذبهم لسانا، وأجودهم بيانا. وبورك له فى عمره وعمله. فروى الكثير، وسمع الناس منه أكثر من أربعين سنة، وحدث بمصنفاته مرارا.

قال: وأنشدنى بواسط لنفسه:

يا ساكن الدنيا تأهب

وانتظر يوم الفراق

وأعدّ زادا للرحيل

فسوف يحدى بالرفاق

وابك الذنوب بأدمع

تنهل من سحب المآقى

يا من أضاع زمانه

أرضيت ما يفنى بباق

قال: وأنشدنى:

إذا رضيت بميسور من القوت

أصبحت فى الناس حرا غير ممقوت

ياقوت نفسى إذا مادر خلقك لى

فلست آسى على درّ وياقوت

وقال الموفق عبد اللطيف: كان ابن الجوزى لطيف الصورة، حلو الشمائل رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة. يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون. لا يضيع من زمانه شيئا، يكتب فى اليوم أربعة كراريس، ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدا إلى ستين.

وله فى كل علم مشاركة، لكنه كان فى التفسير من الأعيان، وفى الحديث من الحفاظ، وفى التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كاف. وأما السجع الوعظى فله فيه ملكة قوية، إن ارتجل أجاد، وإن روى أبدع.

وله فى الطب كتاب «اللقط» مجلدان. وكان يراعى حفظ صحته، وتلطيف مزاجه وما يفيد عقله قوة، وذهنه حدّة. جلّ غذائه الفراريج والمزاوير. ويعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجونات. ولباسه أفضل لباس: الأبيض الناعم المطيب.

ونشأ يتيما على العفاف والصلاح. وله ذهن وقّاد، وجواب حاضر، ومجون لطيفة، ومداعبات حلوة، لا ينفك من جارية حسناء.

ص: 412

وذكر غير واحد: أن الشيخ أبا الفرج تشرب حب البلاد، فسقطت لحيته، فكانت قصيرة جدا. وكان يخضبها بالسواد إلى أن مات. وصنف فى جواز الخضاب بالسواد مجلدا.

وذكره ابن البزورى فى تاريخه، وأطنب فى وصفه، وقال: أصبح فى مذهبه إماما يشار إليه، ويعقد الخنصر فى وقته عليه. ودرس بعدة مدارس، وبنى لنفسه مدرسة بدرب دينار، ووقف عليها كتبه. وبرع فى العلوم، وتفرد بالمنثور والمنظوم وفاق على أدباء عصره، وعلا على فضلاء دهره. وله التصانيف العديدة. سئل عن عددها؟ فقال: زيادة على ثلاثمائة وأربعين مصنفا. منها ما هو عشرون مجلدا ومنها ما هو كراس واحد. ولم يترك فنا من الفنون إلا وله فيه مصنفا. كان أوحد زمانه، وما أظن الزمان يسمح بمثله.

قال: وكان إذا وعظ اختلس القلوب، وتشققت النفوس دون الجيوب.

وذكره العماد الكاتب فى الخريدة، وابن خلكان والحموى، وابن النجار، وأبو شامة وغيرهم، وأثنوا عليه مع أن اشتهاره بالعلوم والفضائل يغنى عن الإطناب فى ذكره، والإسهاب فى أمره. فلقد بلغ ذكره مبلغ الليل، وسارت بتصانيفه الركبان إلى أقطار الأرض، وانتفع الناس بها انتفاعا بيّنا.

قال ابن النجار - بعد ذكره نبذة من أسماء مصنفاته -: من تأمل ما جمعه بان له حفظه وإتقانه، ومقداره فى العلم. وكان رحمه الله مع هذه الفضائل والعلوم الواسعة ذا أوراد وتأله، وله نصيب من الأذواق الصحيحة، وحظ من شرب حلاوة المناجاة. وقد أشار هو إلى ذلك. ولا ريب أن كلامه فى الوعظ والمعارف ليس بكلام ناقل أجنبى مجرد عن الذوق، بل كلام مشارك فيه.

وقد ذكر ابن القادسى فى تاريخه: أن الشيخ كان يقوم الليل ويصوم النهار.

وله معاملات. ويزور الصالحين إذا جن الليل، ولا يكاد يفتر إذا جن الليل،

ص: 413

ولا يكاد يفتر عن ذكر الله. وله في كل يوم وليلة ختمة يختم فيها القرآن

(1)

.

كذا قال. وهذا بعيد جدا. مع اشتغاله بالتصانيف.

قال: ورأى رب العزة فى منامه ثلاث مرات. ومع هذا فللناس فيه رحمه الله كلام من وجوه.

منها: كثرة أغلاطه فى تصانيفه. وعذره فى هذا واضح، وهو أنه كان مكثرا من التصانيف، فيصنف الكتاب ولا يعتبره، بل يشتغل بغيره. وربما كتب فى الوقت الواحد فى تصانيف عديدة. ولولا ذلك لم يجتمع له هذه المصنفات الكثيرة.

ومع هذا فكان تصنيفه فى فنون من العلوم بمنزلة الاختصار من كتب فى تلك العلوم، فينقل من التصانيف من غير أن يكون متقنا لذلك العلم من جهة الشيوخ والبحث، ولهذا نقل عنه أنه قال: أنا مرتّب، ولست بمصنف.

ومنها: ما يوجد فى كلامه من الثناء، والترفع والتعاظم، وكثرة الدعاوى.

ولا ريب أنه كان عنده من ذلك طرف، والله يسامحه.

ومنها - وهو الذى من أجله نقم جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم من المقادسة والعلثيين - من ميله إلى التأويل فى بعض كلامه، واشتد نكرهم عليه فى ذلك. ولا ريب أن كلامه فى ذلك مضطرب مختلف، وهو وإن كان مطلعا على الأحاديث والآثار فى هدا الباب، فلم يكن خبيرا بحل شبهة المتكلمين، وبيان فسادها. وكان معظما لأبى الوفاء بن عقيل، يتابعه فى أكثر ما يجد فى كلامه، وإن كان قد ورد عليه فى بعض المسائل. وكان ابن عقيل بارعا فى الكلام، ولم يكن تام الخبرة بالحديث والآثار. فلهذا يضطرب فى هذا الباب، وتتلون فيه آراؤه. وأبو الفرج تابع له فى هذا التلون.

قال الشيخ موفق الدين المقدسى: كان ابن الجوزى إمام أهل عصره فى الوعظ، وصنف فى فنون العلم تصانيف حسنة. وكان صاحب قبول. وكان

(1)

وتقدم قريبا: أن سبطه أبا المظفر قال: وكان يختم القرآن فى كل أسبوع. وهذا يبطل ما ذكره ابن القادسى فى تاريخه.

ص: 414

يدرس الفقه ويصنف فيه. وكان حافظا للحديث. وصنف فيه، إلا أننا لم نرض تصانيفه فى السنة، ولا طريقته فيها. انتهى.

وكان رحمه الله تعالى إذا رأى تصنيفا وأعجبه صنف مثله فى الحال، وإن لم يكن قد تقدم له فى ذلك الفن عمل؛ لقوة فهمه، وحدّة ذهنه، فربما صنف لأجل ذلك الشئ ونقيضه بحسب ما يتفق له من الوقوف على تصانيف من تقدمه. وقد كان شيخه ابن ناصر يثنى عليه كثيرا. ولما صنف أبو الفرج كتابه المسمى ب «التلقيح» وله إذ ذاك نحو الثلاثين من عمره، عرضه على ابن ناصر، فكتب عليه: قرأ عليّ هذا الكتاب جامعه الشيخ الإمام العالم الزاهد أبو الفرج، فوجدته قد أجاد تصنيفه، وأحسن تأليفه، وجمعه ولم يسبق إلى مثل هذا الجمع؛ فقد طالع كتبا كثيرة، وأخذ أحسن ما فيها من الياقوت واللؤلؤ، فنظمه عقدا زان به التصانيف، التى تجمعت من التواريخ، ومعرفة الصحابة وأسمائهم وكناهم وأعمارهم، وأبان عن فهم وعلم غزير مع اختصار يحض على الحفظ والعمل بالعلم، فنفعه الله بعلمه، ونفع به، وبلغه غاية العمر؛ لينفع المسلمين، وينصر السنة وأهلها، ويدحض البدع وحزبها.

قال الشيخ أبو الفرج: ولقد كنت أردّ أشياء على شيخنا أبى الفضل بن ناصر، فيقبلها منى.

وحدثنى أبو محمد عبد العزيز بن الأخضر عن شيخنا أنه كان يقول عنى:

إذا قرأ عليّ فلان استفدت بقراءته، وأذكرنى ما قد نسيته.

وأما تصانيفه فكثيرة جدا. وقد تقدم عنه أنه ذكر أنها مائة وأربعون، أو مائة وخمسون وزيادة على ثلاثمائة وأربعين. وقد قيل: أكثر من ذلك.

قال الإمام أبو العباس ابن تيمية فى أجوبته المصرية: كان الشيخ أبو الفرج مفتيا كثير التصنيف والتأليف. وله مصنفات فى أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف. ورأيت بعد ذلك له ما لم أره.

ص: 415

قال: وله من التصانيف فى الحديث وفنونه ما لم يصنف مثله. قد انتفع الناس به. وهو كان من أجود فنونه: وله فى الوعظ وفنونه ما لم يصنف مثله.

ومن أحسن تصانيفه: ما يجمعه من أخبار الأولين، مثل «المناقب» التى صنفها، فإنه ثقة، كثير الاطلاع على مصنفات الناس، حسن الترتيب والتبويب قادر على الجمع والكتابة. وكان من أحسن المصنفين فى هذه الأبواب تمييزا؛ فإن كثيرا من المصنفين فيه لا يميز الصدق فيه من الكذب.

وكان الشيخ أبو الفرج فيه من التمييز ما ليس فى غيره. وأبو نعيم له تمييز وخبرة، لكن يذكر فى الحلية أحاديث كثيرة موضوعة. فهذه المجموعات التى يجمعها الناس فى أخبار المتقدمين من أخبار الزهاد ومناقبهم، وأيام السلف وأحوالهم، مصنفات أبى الفرج أسلم فيها من مصنفات هؤلاء، ومصنفات أبى بكر البيهقى أكثر تحريرا لحق ذلك من باطله من مصنفات أبى الفرج؛ فإن هذين كان لهما معرفة بالفقه والحديث، والبيهقى أعلم بالحديث، وأبو الفرج أكثر علوما وفنونا.

قال ابن القطيعى فى تاريخه: ناولنى ابن الجوزى كتابا بخطه فيه فهرست التصانيف لى، وأظن ابن القطيعى زاد فيها أشياء أخر.

قال أبو الفرج: أول ما صنفت وألفت - ولى من العمر نحو ثلاث عشرة سنة -: «ثبت التصانيف المتعلقة بالقرآن وعلومه» ، كتاب «المغنى» فى التفسير، أحد وثمانون جزءا، كتاب «زاد المسير فى علم التفسير» أربع مجلدات، كتاب «تيسير البيان فى تفسير القرآن» مجلد، كتاب «تذكرة الأريب فى تفسير الغريب» مجلد، و «غريب الغريب» جزء، كتاب «نزهة العيون النواظر فى الوجوه والنظائر» مجلد. واختصرت من هذا الكتاب كتابا يسمى بالوجوه النواضر فى الوجوه والنظائر» مجلد، كتاب «الإشارة إلى القراءة المختارة» أربعة

ص: 416

أجزاء، كتاب «تذكرة المنتبه فى عيون المشتبه» جزء، كتاب «فنون الأفنان فى عيون علوم القرآن» مجلد، كتاب «ورد الأغصان فى فنون الأفنان» جزء، كتاب «عمدة الراسخ فى معرفة المنسوخ والناسخ» خمسة أجزاء «المصفا بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ» جزء، «ثبت التصانيف فى أصول الدين» ، كتاب «منتقد المعتقد» جزء، كتاب «منهاج الوصول إلى علم الأصول خمسة أجزاء، كتاب «بيان غفلة القائل بقدم أفعال العباد» جزء، «غوامض الإلهيات» جزء، «مسلك العقل» جزء، «منهاج أهل الإصابة» ، «السرّ المصون» مجلد، «دفع شبه التشبيه» أربعة أجزاء «الرد على المتعصب العنيد» ، «ثبت التصانيف فى علم الحديث والزهديات» ، كتاب «جامع المسانيد بألخص الأسانيد» ، كتاب «الحدائق» أربعة وثلاثون جزءا، كتاب «نفى النقل» خمسة أجزاء، كتاب «المجتبى» مجلد، كتاب «النزهة» جزآن، كتاب «عيون الحكايات» مجلد، كتاب «ملتقط الحكايات» ثلاثة عشر جزءا، كتاب «إرشاد المريدين فى حكايات السلف الصالحين» مجلد، كتاب «روضة الناقل» جزء، كتاب «غرر الأثر» ثلاثون جزءا كتاب «التحقيق فى أحاديث التعليق» مجلدان، كتاب «المديح» سبعة أجزاء، كتاب «الموضوعات من الأحاديث المرفوعات» مجلدان، كتاب «العلل المتناهية فى الأحاديث الواهية» مجلدان، كتاب «الكشف لمشكل الصحيحين» أربع مجلدات، كتاب «الضعفاء والمتروكين» مجلد، كتاب «إعلام العالم بعد رسوخه بحقائق ناسخ الحديث ومنسوخه» مجلد، كتاب «أخبار أهل الرسوخ فى الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ من الحديث» جزء، كتاب «السهم المصيب» جزآن «أخائر الذخائر» ثلاثة أجزاء «الفوائد عن الشيوخ» ستون جزءا، «مناقب أصحاب الحديث» مجلد، «موت الخضر» مجلد «مختصرة» جزء، «المشيخة» جزء، «المسلسلات» جزء، «المحتسب فى النسب» مجلد، «تحفة الطلاب» ثلاثة

ص: 417

أجزاء، «تنوير مدلهم الشرف» جزء، «الألقاب» جزء. إلى هنا.

زاده ابن القطيعى: كتاب «فضائل عمر بن الخطاب» مجلد «فضائل عمر ابن عبد العزيز» مجلد، «فضائل سعيد بن المسيب» مجلد، «فضائل الحسن البصرى» مجلد، «مناقب الفضيل بن عياض» أربعة أجزاء، «مناقب بشر الحافى» سبعة أجزاء، «مناقب إبراهيم بن أدهم» ستة أجزاء، «مناقب سفيان الثورى» مجلد، «مناقب أحمد بن حنبل» مجلد، «مناقب معروف الكرخى» جزآن. «مناقب رابعة العدوية» جزء، «مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن» مجلد، «صفوة الصفوة» خمس مجلدات، «منهاج القاصدين» أربع مجلدات «المختار من أخبار الأخيار» مجلد، «القاطع لمحال الحجاج بمحال الحجاج» جزء، «عجالة المنتظر، لشرح حال الخضر» جزء. كتاب «النساء وما يتعلق بآدابهن» مجلد، كتاب «علم الحديث المنقول فى أن أبا بكر أمّ الرسول» جزء، كتاب «الجوهر» ، كتاب «المغلق» ، «ثبت ما يتعلق بالتواريخ» «تلقيح فهوم أهل الأثر، فى عيون التواريخ والسير» مجلد، كتاب «المنتظم، فى تاريخ الملوك والأمم» عشر مجلدات، كتاب «شذور العقود، فى تاريخ المعهود» مجلد، كتاب «طرائف الظرائف، فى تاريخ السوالف» جزء، «مناقب بغداد» مجلد، «ثبت المصنفات فى الفقه» ، «الإنصاف فى مسائل الخلاف» كتاب «جنة النظر، وجنة النظر» وهى التعليقة الوسطى، كتاب «معتصر المختصر فى مسائل النظر» وهى دون تلك، كتاب «عمد الدلائل، فى مشتهر المسائل» وهى التعليقة الصغرى، كتاب «المذهب فى المذهب» ، «مسبوك الذهب» مجلد، كتاب «النبذة» جزء، كتاب «العبادات الخمس» جزء، كتاب «أسباب الهداية لأرباب البداية» مجلد، كتاب «كشف الظلمة عن الضياء، فى رد دعوى» ، كتاب «رد اللوم والضيم، فى صوم يوم الغيم» جزء، «ثبت المصنفات فى علوم الوعظ» ، كتاب «اليواقيت فى الخطب» مجلد، «المنتخب فى النوب»

ص: 418

مجلد، «منتخب المنتخب» مجلد، «مصنفاته فى الوعظ» أكثر من مائة مجلدة قاله ابن القادسى، «منتخب المنتخب» مجلد، «نسيم الرياض» مجلد، «اللؤلؤ» مجلد، «كنز المذكر» مجلد، كتاب «الأزج» مجلد، كتاب «اللطائف» مجلد، كتاب «كنوز الرموز» مجلد، كتاب «المقتبس» مجلد، «زين القصص» مجلد، «موافق المرافق» مجلد، «شاهد ومشهود» مجلد، «واسطات العقود من شاهد ومشهود» مجلد، «اللهب» جزآن، «المدهش» مجلدان، «صبا نجد» جزء، «محادثة العقل» جزء، «لقط الجمان» جزء، «معانى المعانى» جزء، «فتوح الفتوح» مجلد، «التعازى الملوكية» جزء، «العقد المقيم» جزء كتاب «إيقاظ الوسنان من الرقدات بأحوال الحيوان والنبات» جزآن، «نكث المجالس البدرية» جزآن، «نزهة الأديب» جزآن، «منتهى المنتهى» مجلد «تبصرة المبتدئ» عشرون جزءا، كتاب «الياقوتة» جزآن، كتاب «تحفة الوعاظ» مجلد، «ثبت تصانيف فى فنون ذم الهوى» مجلدان، «صيد الخاطر» خمسة وستون جزءا، كتاب «أحكام الإشعار، بأحكام الإشعار» عشرون جزءا، كتاب «القصاص، والمذكرين» كتاب، «تقويم اللسان» مجلد كتاب «الأذكياء» مجلد، «الحمقى» مجلد، «تلبيس إبليس» مجلدان، «لقط المنافع فى الطب» مجلدان، «الشيب والخضاب» مجلد، «أعمار الأعيان» جزء، «الثبات عند الممات» جزآن، «تنوير الغبش، فى فضل السود والحبش» مجلد، «الحث على حفظ العلم، وذكر كبار الحفاظ» جزء، «إشراف الموالى» جزآن كتاب «إعلام الأحياء، بأغلاط الأحياء» ، كتاب «تحريم المحل المكروه» جزء، كتاب «المصباح المضئ لدعوة الإمام المستضئ» مجلد. كتاب «عطف العلماء على الأمراء، والأمراء على العلماء» جزء، كتاب «النصر على مصر» جزء، «المجد العضدى» مجلد، «الفجر النورى» مجلد، «مناقب الستر الرفيع» جزء، «ما قلته من الأشعار» جزء، «المقامات» مجلد، «من رسائلى» جزء، «الطب الروحانى» جزء.

ص: 419

فهذا ما نقله ابن القطيعى من خطه، وقرأه عليه، وزاد فيه. ومع هذا، فلأبى الفرج تصانيف كثيرة غير ما ذكر فى هذا الفهرست، كأنه صنفها بعد ذلك

فمنها: كتاب «بيان الخطأ والصواب عن أحاديث الشهاب» ستة عشر جزءا، كتاب «الباز الأشهب المنقض على من خالف المذهب» وهو تعليقه فى الفقه كبير، كتاب «الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم» مجلدان، كتاب «النور فى فضائل الأيام والشهور» مجلد، «تقريب الطريق الأبعد، فى فضائل مقبرة أحمد» ، كتاب «مناقب الإمام الشافعى» ، كتاب «العزلة» كتاب «الرياضة» كتاب «منهاج الإصابة فى محبة الصحابة» ، «فنون الألباب» ، «الظرفاء والمتحابين» ، «تقويم اللسان» «مناقب أبى بكر» مجلد «مناقب عليّ» مجلد، «فضائل العرب» مجلد، «درة الإكليل فى التاريخ» أربع مجلدات.

ذكره سبطه، «الأمثال» مجلد، «المنفعة فى المذاهب الأربعة» مجلدان، «المختار من الأشعار» عشر مجلدات، «رءوس القوارير» مجلدان، «المرتجل فى الوعظ» مجلد كبير، «نسيم الرياض» مجلد، «ذخيرة الواعظ» أجزاء، «الزجر المخوف» ، «الأنس والمحبة» «المطرب الملهب» «الزند الورى فى الوعظ الناصرى» جزآن، «الفاخر فى أيام الإمام الناصر» مجلد، «المجد الصلاحى» مجلد، «لغة الفقه» جزآن. وقيل: إن له غيره، عقد الخناصر فى «ذم الخليفة الناصر» وكتاب فى ذم عبد القادر، «غريب الحديث» مجلد، «ملح الأحاديث» جزآن «الفصول الوعظية على حروف المعجم» ، «سلوة الأحزان» عشر مجلدات «المعشوق فى الوعظ» ، «المجالس اليوسفية فى الوعظ» كتبها لابنه يوسف، «الوعظ المقبرى» جزء، «قيام الليل» ثلاثة أجزاء، «المحادثة» جزء، «المناجاة» جزء، «زاهر الجواهر فى الوعظ» أربعة أجزاء، «كنز المذكر» «النحاة الخواتيم» جزآن، «المرتقى لمن اتقى» وتصانيف أخر غير هذه.

وسمعت أن له حواشى على صحاح الجوهرى، وما أخذ عليها. واختصر

ص: 420

فنون ابن عقيل فى بضعة عشر مجلدا.

قال الحافظ الذهبى: ما علمت أن أحدا من العلماء، صنف ما صنف هذا الرجل.

ومن لفظ كلامه الحسن فى المجالس، قال: قال يوما وقد طرب أهل مجلسه:

فهمتم؟ فهمتم؟ وقام إليه سائل، فقال: كيف أصادق من ذا وقته؟ فقال:

ماذا وقته.

وقال يوما: شهوات الدنيا أنموذج، والأنموذج يعرض ولا يقبض.

وقال مرة: من وقف على صراط الاستقامة، وبيده ميزان المراقبة، ومحك الورع يستعرض أعمال النفس، ويرد البهرج إلى كير التوبة، سلم من رد الناقد يوم التنقيض.

وقال يوما: بقايا الشهوات، فى سوق الهوى متبهرجات، يمسكن ثياب الطبع، فإن خرج الزاهد من بيت عزلته خاطر بذنوبه.

وسأله رجل يوما: أيما أفضل، أسبّح، أم أستغفر؟ فقال: الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور.

وقال فى حديث «أعمار أمتى ما بين الستين إلى السبعين» : إنما طالت أعمار الأوائل لطول البادية، فلما شارف الركب بلد الإقامة. قيل: حثّوا المطي.

ومن كلامه الحسن: من قنع طاب عيشه. ومن طمع طال طيشه.

وقال لصاحب له: أنت فى أوسع العذر من المتأخر عنى لثقتى بك، وفى أضيقه من شوقى إليك.

وسأله سائل فأجاب، فقال السائل: ما فهمت، فأنشد:

علىّ نصب المعانى فى مناصبها

فإن كبت دونها الأفهام لم ألم

وسئل: كيف ضرب عمر بالدرّة الأرض؟ فقال: الخائن خائف، والبريء جرئ

وذكر الوفاء، فقال: ما أعرف الوفى. وما فىّ.

وتاب على يده يوما بعض الخدم، فقال: لما عدم آلة الشهوة صلح لصحبة

ص: 421

الملوك. فخرج الخادم على وجهه، فقال: من يعطيه قصة يوصلها؟ وقال: الدنيا دار الإله، والمتصرف فى الدار بغير أمر صاحبها لصّ.

وقيل له: إن فلانا وصى عند موته. فقال: يا مفرطين ما تطينون سطوحكم إلا فى كانون.

وسأله سائل: أيجوز أن أفسح لنفسي فى مباح الملاهى؟ فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها. فلا تشغلها بالملاهى ملاهى.

قال يوما فى قول فرعون: (51:43 {وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي):}

ويحه. افتخر بنهر ما أجراه، ما أجراه.

وقرئ بين يديه (16:32 {تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ)} فقال:

لا تحلوا، رزمة رفيعة، فما عندنا مشترى.

وسئل يوما: ما تقول فى الغناء؟ فقال: أقسم بالله لهو لهو. وقال: ما عزّ يوسف إلا بترك ما ذل به ما عز.

وقال: ما نفشت غنم العيون النواظر فى زروع الوجوه النواضر إلا وأغير على السرح.

وقال: المتعرض للنبلة أبله.

وقرئ بين يديه يوما (26:55 {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ)} فقال: والله هذا توقيع بخراب البيوت.

وقال يوما فى مناجاته: إلهى لا تعذب لسانا يخبر عنك، ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدما تمشى إلى خدمتك، ولا يدا تكتب حديث رسولك.

فبعزتك لا تدخلنى النار؛ فقد علم أهلها أنى كنت أذبّ عن دينك.

ومنه: ارحم عبرة ترقرق على ما فاتها منك. وكبدا تحترق على بعدها عنك.

إلهى، علمى بفضلك يطمعنى فيك، ويقينى بسطوتك يؤيسنى منك، وكلما رفعت

ص: 422

ستر الشوق إليك، أمسكه الحياء منك. إلهي، لك أذل، وبك أذل، وعليك أدل، وأنشد:

أحيا بذكرك ساعة وأموت

لولا التعلل بالمنى لفنيت

وللشيخ أبى الفرج أشعار حسنة كثيرة. قال أبو شامة: قيل: إنها عشر مجلدات، فمما أنشده عنه القطيعى:

ولما رأيت ديار الصفا

أقوت من إخوان أهل الصفاء

سعيت إلى سد باب الوداد

وأحزن قلبى وفاة الوفاء

فلما اصطحبنا وعاشرتكم

علمت أن رأيى ورائى

قال: وأنشدنا لنفسه:

يا صاحبي، هذى رياح أرضهم

قد اخبرت شمائل الشمائل

نسيمهم سحيرى الريح

ما تشبهه روائح الأصائل؟

ما للصبا مولعة بذى الصبا

أو صبا فوق الغرام القاتل؟

ما للهوى العذرى فى ديارنا

أين العذيب من قصور بابل

لا تطلبوا ثاراتنا يا قومنا

ديارنا فى أذرع الرواحل

لله در العيش فى ظلالهم

ولى وكم أسار فى المفاصل

واطربى إذا رأيت أرضهم

هذا وفيها رميت مقاتلى

يا درة الشيخ سقيت أدمعى

ولا ابتليت بالهوى مسائلى

ميلك عن زهو وميلى عن أسى

ما طرب المخمور مثل الثاكل

قال: وأنشدنا لنفسه:

سلام على الدار التى لا نزورها

على أن هذا القلب فيها أسيرها

إذا ما ذكرنا طيب أيامنا بها

توقد فى نفس الذكور سعيرها

رحلنا وفى سر الفؤاد ضمائر

إذا هب نجدى الصبا يستثيرها

سحت بعدكم تلك العيون دموعها

فهل من عيون بعدها تستعيرها؟

أتنسى رياض الروض بعد فراقها

وقد أخذ الميثاق منك غديرها

ص: 423

يجعده مر الشمال وتارة

يغازله كر الصبا ومرورها

ألا هل إلى شم الخزامى وعرعر

وشيخ بوادى الأثل أرض تسيرها

ألا أيها الركب العراقى بلغوا

رسالة محزون حواه سطورها

إذا كتبت أنفاسه بعض وجدها

على صفحة الذكرى محاه زفيرها

ترفق رفيقى، هل بدت نار أرضهم

أم الوجد يذكى ناره ويثيرها؟

أعد ذكرهم فهو الشفا وربما

شفى النفس أمر ثم عاد يضيرها

ألا أين أيام الوصال التى خلت

وحيث خلت حلت وجا مريرها

سقى الله أياما مضت ولياليا

تضوع رياها وفاح عبيرها

قال: وأنشدنا لنفسه:

إذا جزت بالفور عرج يمينا

فقد أخذ الشوق منا يمينا

وسلم على بانة الواديين

فإن سمعت أو شكت أن تبينا

ومل نحو غصن بأرض النقى

وما يشبه الأيك تلك الغصونا

وصح فى مغانيهم: أين هم؟

وهيهات أموا طريقا شطونا

وروّ ثرى أرضهم بالدموع

وخل الضلوع على ما طوينا

أراك يشوقك وادى الأراك

أللدار تبكى أم الظاعينا؟

سقى الله مرتعنا بالحمى

وإن كان أورث داء دفينا

وعاذله فوق داء المحب

رويدا رويدا بنا قد بلينا

لمن تعذلين أما تعذرين

فلو قد تبعت دفعت الأنينا

إذا غلب الحب ضاع العتاب

تعبت وأتعبت لو تعلمينا

و؟؟؟ ينسب إليه من الشعر:

تملكوا واحتكموا

وصار قلبى لهم

تصرفوا فى ملكهم

فلا يقال: ظلموا

إن واصلوا محبهم

أو قطعوا فهم هم

أصبر لما شاوا

وإن ساء الذى قد حكموا

ص: 424

يا أرض سلع خبرى

وحدثينى عنهم

يا ليت شعرى إذ حدوا

أأنجدوا أم اتهموا

تشتاقهم أرض منى

وتشكيهم زمزم

أخبرنا أبو الفتح الميدومى - بمصر - أخبرنا أبو الفرج الحرانى - سماعا - قال: قرئ على الإمام أبى الفرج ابن الجوزى - وأنا أسمع - لنفسه.

يا نادبا أطلال كل نادى

وباكيا فى إثر كل حادى

مستلب القلب بحب غادة

غدت فإن البين بالفؤادى

مهلا فما اللذات إلا خدع

كأنها طيف خيال غادى

أين المحب الحبيب بعدا

وانذرا من بعد بالبعاد

فكل جمع فإلى تفرق

وكل باق فإلى نفاد

مواعظ بليغة فيا لها

مواعظ وارية الزناد

قرأ على الشيح أبى الفرج العلم جماعة، منهم طلحة العلثى ومنهم أبو عبد الله ابن تيمية خطيب حران. وذكر فى أول تفسيره أنه قرأ عليه كتابه «زاد المسير» فى التفسير قراءة بحث ومراجعة.

وسمع الحديث وغيره من تصانيفه منه خلق لا يحصون كثرة من الأئمة والحفاظ والفقهاء وغيرهم.

وروى عنه خلق، منهم ولده الصاحب محى الدين، وسبطه أبو المظفر الواعظ والشيخ موفق الدين، والحافظ عبد الغنى وابن الدبيثى، وابن القطيعى، وابن النجار، وابن خليل، وابن عبد الدائم، والنجيب عبد اللطيف الحرانى. وهو خاتمة أصحابه بالسماع.

وروى عنه آخرون بالإجازة. آخرهم الفخر على بن البخارى. وقد نالته محنة فى آخر عمره رحمه الله. وحديثها يطول.

وملخصها: أن الوزير ابن يونس الحنبلى الذى قدمنا ترجمته كان فى ولايته

ص: 425

قد عقد مجلسا للركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلى، وأحرقت كتبه. وكان فيها من الزندقة وعبادة النجوم ورأى الأوائل شئ كثير، وذلك بمحضر من ابن الجوزى وغيره من العلماء، وانتزع الوزير منه مدرسة جده، وسلمها إلى ابن الجوزى.

فلما ولى الوزارة ابن القصاب - وكان رافضيا خبيثا - سعى فى القبض على ابن يونس، وتتبع أصحابه، فقال له الركن: أين أنت عن ابن الجوزى فإنه ناصبى، ومن أولاد أبى بكر، فهو من أكبر أصحاب ابن يونس، وأعطاه مدرسة جدى، وأحرقت كتبى بمشورته؟ فكتب ابن القصاب إلى الخليفة الناصر وكان الناصر له ميل إلى الشيعة ولم يكن له ميل إلى الشيخ أبى الفرج، بل قد قيل:

إنه كان يقصد أذاه، وقيل: إن الشيخ ربما كان يعرض فى مجالسه بذم الناصر، فأمر بتسليمه إلى الركن عبد السلام، فجاء إلى دار الشيخ وشتمه، وأغلظ عليه وختم على كتبه وداره، وشتت عياله.

فلما كان فى أول الليل حمل فى سفينة وليس معه إلا عدوه الركن، وعلى الشيخ غلالة بلا سراويل، وعلى رأسه تخفيفة، فأحدر إلى واسط. وكان ناظرها شيعيا. فقال له الركن: مكنى من عدوى لأرميه فى المطمورة، فزبره، فقال يا زنديق، ارميه بقولك، هات خط الخليفة، والله لو كان من أهل مذهبى لبذلت روحى. ومالى فى خدمته، فعاد الركن إلى بغداد.

قال ابن القادسى: لما حضروا واسط جمع الناس، وادعى ابن عبد القادر على الشيخ: أنه تصرف فى وقف المدرسة، واقتطع من مالها كذا وكذا، وكذب فيما ادعاه، وأنكر الشيخ، وصدق وبر، وأفرد للشيخ دار بدرب الديوان، وأفرد له من يخدمه، وبقى الشيخ محبوسا بواسط فى دار بدرب الديوان، وعلى بابها بواب. وكان بعض الناس يدخلون عليه، ويستمعون منه، ويملى عليهم.

وكان يرسل أشعارا كثيرة إلى بغداد. وأقام بها خمس سنين يخدم نفسه بنفسه، ويغسل ثوبه ويطبخ، ويستقى الماء من البئر، ولا يتمكن من خروج إلى حمام

ص: 426

ولا غيره وقد قارب الثمانين. ويقال: إنه بقى خمسة أيام فى السفينة حتى وصل إلى واسط لم يأكل فيها طعاما.

وذكر عنه أنه قال: قرأت بواسط مدة مقامى بها كل يوم ختمة، ما قرأت فيها سورة يوسف من حزنى على ولدى يوسف.

والذى ذكره أبو الفرج بن الحنبلى عن طلحة العلثى: أن الشيخ كان يقرأ فى تلك المدة ما بين المغرب والعشاء ثلاثة أجزاء أو أربعة من القرآن. وبقى على ذلك من سنة تسعين إلى سنة خمس وتسعين، فأفرج عنه، وقدم إلى بغداد وخرج خلق كثير يوم دخوله لتلقيه، وفرح به أهل بغداد فرحا زائدا، ونودى له بالجلوس يوم السبت، فصلى الناس الجمعة، وعبروا يأخذون مكانات موضع المجلس عند تربة أم الخليفة. فوقع تلك الليلة مطر كثير ملأ الطرقات، فأحضر فى الليل فراشون وروز جارية، فنظفوا موضع الجلوس وفرشوا فيه دقاق الجص والبوارى، ومضى الناس وقت المطر إلى قبر معروف تحت الساباط، حتى سكن المطر، ثم جلس الشيخ بكرة السبت وعبر الخلق، وحضر أرباب المدارس والصوفية ومشايخ الربط، وامتلأت البرية حتى ما كان يصل صوت الشيخ إلى آخرهم.

وكان السبب فى الإفراج عن الشيخ: أن ولده محيى الدين يوسف ترعرع وأنجب، وقرأ الوعظ ووعظ، وتوصل وساعدته أم الخليفة، وكانت تتعصب للشيخ أبى الفرج فشفعت فيه عند ابنها الناصر، حتى أمر بإعادة الشيخ، فعاد إلى بغداد، وخلع عليه، وجلس عند تربة أم الخليفة للوعظ، وأنشد:

شقينا بالنوى زمنا فلما

تلاقينا كأنا ما شقينا

سخطنا عند ما جنت الليالى

فما زالت بنا حتى رضينا

سعدنا بالوصال وكم شقينا

بكاسات الصدود وكم فنينا

فمن لم يحيى بعد الموت يوما

فإنا بعد ما متنا حيينا

ولم يزل الشيخ على عادته الأولى فى الوعظ، ونشر العلم وكتابته إلى أن مات.

ص: 427

قال سبطه أبو المظفر: جلس جدي يوم السبت سابع شهر رمضان - يعنى سنة سبع وتسعين وخمسمائة - تحت تربة أم الخليفة المجاورة لمعروف الكرخى. وكنت حاضرا، فأنشد أبياتا قطع عليها المجلس، وهي هذه:

الله أسأل أن يطول مدتى

وأنال بالإنعام ما فى نيتى

لى همة فى العلم ما من مثلها

وهى التى جنت النحول هى التى

حلفت من الفلق العظيم إلى المنى

دعيت إلى نيل الكمال فلبّت

كم كان لى من مجلس لو شبهت

حالاته لتشبهت بالجنة

اشتاقه لما مضت أيامه

عللا وتعذر ناقة إن حنت

يا هل لليلات بجمع عودة

أم هل إلى وادى منى من نظرة؟

قد كان أحلى من تصاريف الصبى

ومن الحمام مغنيا فى الأيكة

فيه البديهات التى ما نالها

خلق بغير مخمر ومبيت

برجاحة وفصاحة وملاحة

تقضى لها عدنان بالعربية

وبلاغة وبراعة ويراعة

ظن النباتى أنها لم تنبت

وإشارة تبكى الجنيد وصحبه

فى رقة ما نالها ذو الرمة

قال أبو شامة: هذه الأبيات أظنها كان نظمها فى أيام محنته، إذ كان محبوسا بواسط؛ فمعانيها دالة على ذلك. والله أعلم.

ثم قال أبو المظفر: ثم نزل عن المنبر، فمرض خمسة أيام، وتوفى ليلة الجمعة بين العشائين فى داره يقتطفنا.

قال: وحكت لى والدتى أنها سمعته يقول قبل موته: إيش أعمل بطواويس؟ يرددها. قد جئت لى هذه الطواويس. وحضر غسله شيخنا ضياء الدين بن سكينة وضياء الدين بن الجبير وقت السحر. واجتمع أهل بغداد، وغلقت الأسواق، وجاء أهل المحال، وشددنا التابوت بالحبال، وسلمناه إليهم، فذهبوا به إلى تحت التربة مكان جلوسه، فصلى عليه ابنه أبو القاسم علىّ اتفاقا؛ لأن الأعيان لم يقدروا على

ص: 428

الوصول إليه، ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور، فصلوا عليه، وضاق بالناس. وكان يوما مشهودا، لم يصل إلى حفرته عند قبر الإمام أحمد بن حنبل إلى وقت صلاة الجمعة. وكان فى تموز، وأفطر خلق كثير ممن صحبه، رموا أنفسهم فى خندق الطاهرية فى الماء، وما وصل إلى حفرته من الكفن إلا القليل، ونزل فى الحفرة والمؤذن يقول: الله أكبر، وحزن الناس عليه حزنا شديدا، وبكوا عليه بكاء كثيرا، وباتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات بالقناديل والشموع والجماعات.

قال: ورآه تلك الليلة المحدث أحمد بن سلمان الحربى على منبر من ياقوت مرصّع بالجوهر، والملائكة جلوس بين يديه، والحق تعالى حاضر يسمع كلامه.

قلت: وأنبأنى أبو الربيع على بن عبد الصمد بن أحمد بن أبى الجيش عن أبيه قال: قال عفيف الدين معتوق القليوبى: رأيت فيما يرى النائم قائلا يقول:

لعمرك قد أوذى وعطل منبر

وأعيى على المستفهمين جواب

قال: فانتبهت من نومى، فقلت: ترى أى شئ قد جرى؟ فجاءنا الخبر وقت العصر بموت الشيخ ابن الجوزى، فقلت:

ولم يبق من يرجى لإيضاح مشكل

وأصبح ربع العلم وهو خراب

ثم قال أبو المظفر: أصبحنا عملنا عزاه، وتكلمت فيه، وحضر خلق عظيم، وأنشد القادرى العلوى:

الدهر عن طمع يغرّ ويخدع

وزخارف الدنيا الدنية تطمع

وأعنة الآمال يطلقها الرجى

طمعا وأسياف المنية تقطع

والموت آت، والحياة مريرة

والناس بعضهم لبعض يتبع

واعلم بأنك عن قليل صائر

خبرا فكن خبرا بخير يسمع

لعلا أبى الفرج الذى بعد التقى

والعلم يوم حواه هذا المجمع

خبر، عليه الشرع أصبح والها

ذا مقلة حرا عليه تدمع

من للفتاوى المشكلات وحلّها

من ذا لخرق الشرع يوما يرفع؟

ص: 429

من للمنابر أن يقوم خطيبها

ولرد مسألة يقول فيسمع؟

من للجدال إذا الشفاه تقلصت

وتأخر القوم الهزبر المصقع؟

من للدياحى قائما ديجورها

يتلو الكتاب بمقلة لا تهجع

أجمال دين محمد، مات التقى

والعلم بعدك، واستحم المجمع

يا قبره جادتك كل غمامة

هطالة ركانة لا تقلع

قيل الصلاة مع الصلاة فته به

وانظر به يا رمل ماذا يصنع

يا أحمد، أخذ أحمد الثانى الذى

ما زال عنك مدافعا لا يرجع

أقسمت لو كشف الغطا لرأيتم

وفد الملائك حوله تتسرع

ومحمد يبكى عليه وآله

خير البرية والبطين الأنزع

وذكر تمام القصيدة.

قال: ومن العجائب: أنا كنا جلوسا عند قبره بعد انفضاض العزاء، وإذا بخالى محيى الدين يوسف قد صعد من الشط، وخلفه تابوت، فعجبنا وقلنا:

ترى من مات فى الدار؟ وإذا بها خاتون أم ولد جدى، والدة محيى الدين، وعهدى بها فى ليلة الجمعة التى مات فيها جدى فى عافية، قائمة ليس بها مرض، فكان بين موتها وموته يوم وليلة، وعدّ الناس ذلك من كراماته؛ لأنه كان مغرى بها فى حال حياته، وأوصى جدى أن يكتب على قبره:

يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه

جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم يديه

أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه

فرحمه الله تعالى وغفر له، ورحم سائر علماء المسلمين.

قال أبو المظفر: وكان له من الأولاد الذكور ثلاثة، أو لهم:

أبو بكر عبد العزيز. وهو أكبر أولاده، تفقه على مذهب أحمد. وسمع أبا الوقت، وابن ناصر، والأرموى، وجماعة من مشايخ والده.

ص: 430

وسافر إلى الموصل، ووعظ، وحصل له القبول التام، فيقال: إن بنى الشهرزورى حسدوه، فدسّوا إليه من سقاه السم، فمات بالموصل سنة أربع وخمسين فى حياة والده.

والثانى: أبو القاسم علىّ. كتب الكثير. وسمع من ابن البطى وغيره.

وكانت طريقته غير مرضية، وهجره أبوه سنين.

توفى سنة ثلاثين وستمائة. وله ثمانون سنة.

وأبو محمد يوسف. أستاذ دار المستعصم. وسنذكره إن شاء الله فى موضعه من هذا الكتاب.

ومما يذكر من مناقب الشيخ أبى الفرج: ما ذكره هو فى تاريخه فى ترجمة مرجان الخادم. وكان قد قرأ القرآن وشيئا من الفقه، وتزهد. وله مكانة عند الخليفة، إلا أنه كان يتعصب على الحنابلة فوق الحد، حتى إن الوزير ابن هبيرة عمل بمكة حطيما يصلى فيه إمام الحنابلة، فمضى مرجان وقلعه من غير إذن الخليفة

قال أبو الفرج: وناصبنى دون الكل، وبلغنى: أنه كان يقول: مقصودى قلع المذهب. فلما مات الوزير ابن هبيرة سعى إلى الخليفة، فقال: عنده كتب من كتب الوزير، فقال الخليفة: هذا محال؛ فإن فلانا كان عند أحد عشر دينارا لأبى حكيم، وكان حشريا، فما فعل فيها شيئا، حتى طالعنا. قال: فنصرنى الله عليه ودفع شره.

قال: وحدثنى سعد الله البصرى - وكان رجلا صالحا. وكان مرجان حينئذ فى عافية - قال: رأيت مرجان فى المنام ومعه اثنان، كل واحد قد أخذ بيد، فقلت إلى أين؟ قالا: إلى النار، قلت: لماذا؟ قالا: كان يبغض ابن الجوزى.

قال: ولما قويت عصبته لجأت إلى الله تعالى ليكفينى شره، فما مضت إلا أيام حتى أخذه السلال، فمات فى ذى القعدة سنة ستين بعد ابن هبيرة بأشهر.

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومى - بفسطاط مصر - أخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرانى، أخبرنا أبو الفرج بن الجوزى الحافظ، أخبرنا

ص: 431

القاضى أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد الله الأصبهانى سنة عشرين وخمسمائة، أخبرنا عبد الرزاق عن موسى بن شمة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المقرئ، أخبرنا أبو يعلى الموصلى، وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز قالا: حدثنا على بن الجعد، أخبرنا شعبة وهشيم وحماد بن سلمة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث» .

أخرجه البخارى عن آدم عن شعبة، ومسلم عن يحيى عن هشيم، كلاهما عن عبد العزيز. وبه قال ابن الجوزى.

وأنبأنا أبو الحسن على بن عبد الواحد الدينورى، أخبرنا أبو الحسن على بن عمر القزوينى، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدثنا أبو القاسم البغوى حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة، حدثنى أبو حمزة، سمعت ابن عباس يقول:«إن وفد عبد القيس، لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرهم بالإيمان بالله، قال: أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم» .

أخرجه البخارى عن علي بن الجعد، ومسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة عن غندر، كلاهما عن شعبة.

‌ذكر شئ من فتاويه وفوائده:

ذكر: أنه استفتى فى زمن المستضئ فى إقامة الجمعة بجامع ابن المطلب ببغداد، قال: فلم أر جوازه؛ لأن الجمعة إنما جعلت لتكون علما للإسلام بكثرة الجموع، وإظهار ما يكبت المشركين، فإذا كان فى كل محل جمعة، صارت كصلاة الظهر.

ص: 432

قال: وأجاز ذلك بعض من ينسب إلى الفقه، وعلل بأن كل محلة صارت منقطعة عن غيرها للخراب الذى استولى على الأرض، فأشبهت القرى، قال:

ولا أرتضى هذا التعليل.

قلت: وهذا يقتضى اتفاقهم على أنه مع اتصال العمارة لا يجوز ذلك، لكن هذا مع عدم الحاجة.

وذكر أنه استفتى فى رجل من الفقهاء، قال: إن عائشة قاتلت عليا رضى الله عنهما. فصارت من البغاة. وكان قد خرج توقيع المستضئ بتعزيره.

قال: فقلت - بعد ما قال الفقهاء عليه - هذا رجل ليس له علم بالنقل، وقد سمع أنه قد جرى قتال، ولعمرى أنه قد جرى قتال، ولكن ما قصدته عائشة ولا علي، إنما أثار الحرب سفهاء الفريقين، ولولا علمنا بالسير؛ لقلنا مثل ما قال وتقرير مثل هذا أن يقر بالخطأ بين الجماعة، فيصفح عنه.

قال: فكتب إلى الخليفة بذلك، فوقّع: إذا كان قد أقر بالخطأ، فيشترط عليه أن لا يعاود، ثم أطلق.

وذكر فى كتابه «تلبيس إبليس» إنكار الذكر بالليل على المآذن، ونحوها، فإنه قال: قد رأيت من يقوم بليل كثير على المنارة، فيعظ ويذكر، ويقرأ سورة من القرآن بصوت مرتفع، فيمنع الناس من نومهم، ويخلط على المتهجدين قراءتهم، وكل ذلك من المنكرات.

‌206 - هبة الله بن عبد الله

بن هبة الله بن محمد السامرى، ثم البغدادى الحريمى، ثم الأزجى، الفقيه الواعظ أبو غالب بن أبى الفتح.

سمع من أبى البدر الكرخى، سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. ومن سعد الخير الأنصارى، ويوسف بن عمر الحربى. وتفقه فى المذهب، وأفتى، وتكلم فى المسائل، ووعظ. وكان مقيما بمدرسة أبى حكيم، ولازم أبا الفرج بن الجوزى.

ص: 433

قال القادسى: كان فقيها مجودا، واعظا، خيرا، ديّنا، وحدث. وسمع منه ابن القطيعى، وروى عنه ابن خليل فى معجمه.

وتوفى ليلة الخميس ثانى عشر محرم، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد، قريبا من بشر الحافى، رضى الله عنهم أجمعين.

‌207 - حماد بن هبة الله

بن حماد بن الفضل الفضيلى الحرانى التاجر السفار المحدث المؤرخ أبو الثناء.

ولد فى ربيع الأول سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحران.

وسمع ببغداد من أبى القاسم بن السمرقندى، وأبى بكر بن الزاغونى، وسعيد ابن البناء، وجماعة.

وبهراة من مسعود بن محمد بن غانم، وعبد السلام بن أحمد بكيرة. وبمصر من ابن رفاعة السعدى، وبالإسكندرية من الحافظ السلفى، وغيرهم.

وجمع تاريخا لحران، وحدث به فيما ذكره ابن الدبيثى.

وقيل: إنه لم يكمله، وجمع جزءا فيمن اسمه حماد، وله شعر جيد، وحدث ببغداد ومصر والإسكندرية وحران.

روى عنه الشيخ موفق الدين، وعبد القادر الرهاوى، والعلم السخاوى المقرئ، والحافظ الضياء، وابن عبد الدائم، والنجيب الحرانى، وغيرهم.

وتوفى يوم الأربعاء، ثانى عشرين ذى الحجة، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة بحران، ودفن بها. رحمه الله.

أخبرنا أبو الفتح الميدومى - بمصر - أخبرنا أبو الفرج الحرانى، أخبرنا حماد ابن هبة الله بحران، أخبرنا إسماعيل بن أحمد بن عمر الحافظ، أخبرنا محمد ابن هبة الله الطبرى، أخبرنا هلال الحفار، أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، حدثنى محمد بن محمد بن سليمان صاحب البصرى، حدثنى أبو عمران السلمى، قال: أنشدنى أبو نواس:

ص: 434

ألا ربّ وجه فى التراب عتيق

ألا رب رامى فى التراب رفيق

أرى كل حى هالكا وابن هالك

وذو حسب فى الهالكين عريق

فقل لمقيم الدار: إنك ظاعن

إلى سفر نائى المحل سحيق

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو فى ثياب صديق

‌208 - محمد بن عثمان

بن عبد الله بن عمر بن عبد الباقى بن العكبرى البغدادى الطفرى، الفقيه المحدث، الواعظ أبو عبد الله.

ذكره ابن النجار، وقال: جارنا بالطفرية.

حفظ القرآن فى صباه، وقرأه بالروايات على أبى بكر بن الباقلانى الواسطى، وعلى عبد الله بن بكران الداهرى. وتفقه على مذهب أحمد بن حنبل، وقرأ العربية على أبى البركات الأنبارى، وأبى محمد بن الخشاب، وصحب شيخنا أبا الفرج ابن الجوزى، وقرأ عليه شيئا من مصنفاته فى الوعظ وغيره.

وسمع الحديث من أبى العباس أحمد بن محمد المرقعاتى، وعبد الحق بن عبد الخالق بن يوسف، وشهدة الكاتبة، ومن خلق كثير دونهم، وكتب بخطه كثيرا من الكتب والأجزاء، وكان يعقد مجلس الوعظ بجامع ابن بهليقا فى كل جمعة، فبقى على ذلك مدة طويلة، ثم انقطع فى بيته، لا يخرج منه إلا إلى الجمعة والجماعة، وكان يكثر الجلوس فى المقابر، سمعت منه. وكان يسمع بقراءتى على مشايخنا، وكان صدوقا متدينا عفيفا، قليل المخالطة للناس، محبا للخلوة والانزواء، فقيها فاضلا، كثير المحفوظ للأحاديث، وحكايات السلف ويعرف طرفا صالحا من الحديث، وقد جمع معجما لشيوخه الذين سمع منهم فى فى خمسة أجزاء، ثم روى عنه حديثا عن شهدة، ثم قال: ذكر أن مولده فى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.

وتوفى ليلة الاثنين ثامن عشر جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وخمسمائة.

وصلينا عليه من الغد، ودفن بالجديدة من باب أبرز، رحمه الله تعالى.

ص: 435

قرئ على أبى الفتح الميدومى - بمصر، وأنا أسمع - أخبركم أبو الفرج الحرانى، قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن عثمان بن عبد الله العكبرى الواعظ، من لفظه وحفظه، قال: أنشدنى شيخى ابن الباقلانى المقرئ الواسطى:

كتبى لأهل العلم مبذولة

أيديهم مثل يدى فيها

متى أرادوها بلا منة

عارية فليستعيروها

حاشاى أن أكتمها عنهمو

بخلا كما غيرى يخفيها

أعارنا أشياخنا كتبهم

وسنة الأشياخ نحييها

وقد روى هذه الأبيات ابن السمعانى عن ابن الباقلانى، قال: أنشدنى خميس الجوزى لنفسه.

‌209 - على بن إبراهيم

بن نجا بن غنائم الأنصارى الدمشقى، الفقيه الواعظ المفسر زين الدين أبو الحسن بن رضي الدين أبى طاهر، المعروف بابن نجية.

نزيل مصر، سبط الشيخ أبى الفرج الشيرازى الحنبلى.

ولد بدمشق سنة ثمان وخمسمائة، فيما ذكره ابن نقطة والمنذرى وغيرهما.

وقال ناصح الدين بن الحنبلى: إنه ولد سنة عشر.

وسمع بدمشق من أبى الحسن على بن أحمد بن قيس. وسمع درس خاله شرف الإسلام عبد الوهاب. وتفقه به، وسمع التفسير منه، وأحب الوعظ وغلب عليه، فاشتغل به.

قال ناصح الدين: قال لى: حفظنى خالى مجلس وعظ، وعمرى يومئذ عشر سنين ثم نصب لى كرسيا فى داره، وأحضر لى جماعته، وقال: تكلم، فتكلمت، فبكى.

قال: وكان ذلك المجلس يذكر بعضه وهو ابن تسعين، وكان بطيء النسيان.

وكان أسماء الفصول الذى يحفظ مجلدة. وكان لا يخطب فى مجلسه، وإنما يدعو عقيب القراء، ثم يقرأ مقرئ آيات من القرآن فيفسرها، ويوسع فى ذكره، ثم يذكر فصولا وعنده من كلام العرب والعجم، فيلقن من الفصول ما يختار.

ص: 436

وبعثه نور الدين محمود بن زنكى رسولا إلى بغداد سنة أربع وستين وخمسمائة وخلع عليه هناك أهبة سوداء، فكانت عنده يلبسها فى الأعياد. وسمع هناك الحديث من سعد الخير بن محمد الأنصارى كثيرا. وصاهره على ابنته فاطمة، ونقلها معه إلى مصر، وانتقلت كتب سعد الخير إليه. ومن عبد الصبور بن عبد السلام الهروى وعبد الخالق بن يوسف وغيرهم. واجتمع هناك بالشيخ عبد القادر وغيره من الأكابر، ووعظ بجامع المنصور.

قال ناصح الدين: سمعته يقول: أول مجلس جلسته فى بغداد فى جامع المنصور، فنزلت سحرا إلى الجامع متنكرا، حتى أرى هيئة المجلس وأسمع ما يقال، وإذا رجل أعمى قد جلس على درج المنبر، فذكر من الفصول من كلام التميمى وابن عقيل وغيرهما جميع ما قد حررته للمجلس، وتعبت عليه. قال: فأصابنى همّ، وما بقى لى زمن أحفظ غير ذلك، فاستخرت الله تعالى، ثم جلست وتكلمت، وذكرت حكاية طاب بها المجلس.

قال: وسمعته يقول: أول ما دخلت بغداد جاءنى الشيخ أبو الفضل بن شافع وتعصب لى، فدخل علىّ الشيخ أبو الفرج بن الجوزى مهنئا بالسلامة، وتحدثنا، فقال لى: تحفظ شيئا من شعر ابن الكيزانى؟ فأنشدته له:

رأتنى خاضبا شيبى

فسمتنى أبا العيب

فظهر الغيظ فى وجهه، ثم قام فذهب. فقال ابن شافع: إيش عملت؟ هذا أول من جاءك من الحنابلة لقيته بما يكره، فقلت: كيف؟ قال: هو يخضب، فقلت: والله ما علمت، ولا حضرنى من شعر ابن الكيزانى إلا هذا. ثم عاد ابن نجية وانتقل إلى مصر من قبل دولة صلاح الدين، وأقام بها إلى أن مات. وكان يعظ بها بجامع القرافة مدة طويلة. وله فيها وجاهة عظيمة عند الملوك.

وقال ناصح الدين: كان ذا رأى صائب. وكان صلاح الدين - يعنى ابن يوسف بن أيوب - يسميه عمرو بن العاص، ويعمل برأيه.

ص: 437

وقال أبو شامة: كان صلاح الدين يكاتبه، ويحضر مجلسه هو وأولاده:

العزيز، وغيره. وكان له جاه عظيم، وحرمة زائدة.

وقال ناصح الدين: كان أهل السنة بمصر لا يخرجون عما يراه لهم زين الدين - يعنى ابن نجية - وكثير من أرباب الدولة. وقال له الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين: إذا رأيت مصلحة فى شئ فاكتب إلىّ بها، فأنا ما أعمل إلا برأيك.

وقضيته مع عمارة اليمنى ومن وافقه على السعى من إعادة دولة العبيديين معروفة. وهم: عبد الصمد الكاتب، وهبة الله بن كامل القاضى، وابن عبد القوى داعى الدعاة، وعمارة الشاعر، وغيرهم من الجند والأعيان. وكانوا قد عينوا خليفة ووزيرا، وتقاسموا الدور، واتفقوا على استدعاء الفرنج إلى مصر، ليشتغل بهم صلاح الدين، ويخلو لهم الوقت ليتم أمرهم ومكرهم، فأدخلوا فى الشورى معهم زين الدين ابن نجية، فأظهر لهم أنه معهم، ثم جاء إلى صلاح الدين فأخبره، وطلب منه ما لابن كامل من الحواصل والعقار، فبذله له، وأمره بمخالطتهم، وتعريف شأنهم، فصار يعلمه بكل متجدد.

ويقال: إن القاضى الفاضل استراب من بعض أولئك الجماعة، فأحضر ابن نجا الواعظ، وأخبره الحال. فطلب منه كشف الأمر، فأخبره بأمرهم، فبعثه إلى صلاح الدين، فأوضح له الأمر. فطلب صلاح الدين الجماعة وقررهم، فأقروا، فصلبهم بين القصرين.

ولما كان السلطان صلاح الدين فى الشام سنة ثمانين كتب إليه الشيخ زين الدين كتابا يشوقه إلى مصر، ويصف محاسنها. فكتب إليه السلطان كتابا بإنشاء العماد الكاتب، يتضمن تفضيل الشام على مصر. وفى آخره:

ونحن لا نجفوا الوطن كما جفوته. وحب الوطن من الإيمان.

ولما فتح صلاح الدين القدس كان معه، وتكلم أول جمعة أقيمت فيه على كرسى الوعظ. وكان يوما مشهودا.

ص: 438

وذكر أبو شامة: أن الشهاب الطوسى لما دخل مصر كان يجرى بينه وبين زين الدين العجائب من السباب ونحوه، فإن الطوسى كان أشعريا، وهذا حنبلى. وكلاهما واعظ.

قال: وجلس ابن نجية يوما فى القرافة بالجامع، فوقع عليه وعلى جماعة ممن عنده السقف، فعمل الطوسى خطبة، وذكر فيها قوله تعالى (26:16 {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ)} . وجاء يوما كلب يشق الصفوف، فقال ابن نجية: هذا من هناك، وأشار إلى مكان الطوسى.

وذكر ناصح الدين بن الحنبلى: أن ابن نجا نشأ له ولد حسن الصورة.

فلما بلغ أخذ فى سبيل اللهو، فدعا عليه، فمات. فحضر الناس والدولة لأجله، فلما وضعوا سريره فى المصلى نصبوا للشيخ كرسيا إلى جانبه، فصعد عليه، وحمد الله تعالى، وقال: اللهم إن هذا ولدى بلغ من العمر تسع عشرة سنة، لم يجر عليه فيها قلم إلا بعد خمس عشرة سنة، بقى له ثلاث سنين، نصفها نوم، بقى عليه سنة ونصف، قد أساء فيها إلىّ وإليك. فأما جنايته علىّ فقد وهبتها له. بقى الذى لك فهبه لى. فصاح الناس بالبكاء. ونزل فصلى عليه.

قال: وكان زين الدين كريما. وله سماط يؤكل عنده، وتوسعة فى النفقة.

وقال ابن المظفر سبط ابن الجوزى: كان ابن نجية قد اقتنى أموالا عظيمة، وتنعم تنعما زائدا، بحيث أنه كان فى داره عشرون جارية للفراش، كل جارية تساوى ألف دينار. وأما الأطعمة فكان يعمل فى داره ما لا يعمل فى دور الملوك.

وتعطيه الملوك والخلفاء أموالا عظيمة كثيرة. قال: ومع هذا مات فقيرا، كفنه بعض أصحابه.

والذى ذكره ناصح الدين بن الحنبلى: أن ابن نجا ضاق صدره فى آخر عمره من دين عليه، وأن الملك العزيز عثمان لما عرف ذلك أعطاه ما يزيد على أربعة آلاف دينار مصرية.

ص: 439

قال: وقال لى: ما احتجت فى عمرى إلا مرتين.

قال ناصح الدين: قال لى: والدى زين الدين سعد بدعاء والدته، كانت صالحة حافظة، تعرف التفسير.

قال زين الدين: كنا نسمع من خالى التفسير، ثم أجئ إليها، فتقول:

إيش فسر أخى اليوم؟ فأقول: سورة كذا وكذا، فتقول: ذكر قول فلان، وذكر الشئ الفلانى؟ فأقول: لا، فتقول: ترك هذا، وسمعت والدى يقول: كانت تحفظ كتاب «الجواهر» وهو ثلاثون مجلدة، تأليف والدها الشيخ أبى الفرج، وأقعدت أربعين سنة فى محرابها.

حدث الشيخ أبو الحسن بن نجا ببغداد، ودمشق، ومصر، والإسكندرية وغيرها، وسمع منه خلق كثير، وحكى عنه الحافظ السلفى فى معجم شيوخ بغداد.

وروى عنه الحافظ عبد الغنى، وابن خليل، والضياء المقدسى، وأبو سليمان ابن الحافظ عبد الغنى، وعبد الغنى بن سليمان، وخطيب مردا، وجماعة، وأجاز للمنذرى، وأحمد بن أبى الخير سلامة، ومحمد بن أبى الدبية.

وتوفى فى شهر رمضان - قال المنذرى: فى سابعه، وقال ابن نقطة: فى ثامنه - سنة تسع وتسعين وخمسمائة بالشارع، ظاهر القاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم.

وقال ناصح الدين بن الحنبلى: مات بعد الستمائة. وهو وهم؛ فإنه كان يكتب هذه التواريخ من حفظه. وقد بعد عهده بها.

قال: ودفن بتربة سارية، بجوار عزّ الدين ابن خاله، عن وصية منه. وكان يوم دفنه مشهودا لكثرة الخلق. وذكر: أنه سمع منه كثيرا.

‌210 - إبراهيم بن محمد

بن أحمد بن الصقال الطيبى، ثم البغدادى الأزجى الفقيه الإمام أبو إسحاق، مفتى العراق، ويلقب موفق الدين.

ولد فى خامس عشر شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة، كذا ذكره القطيعى عنه.

ص: 440

وقال المنذرى: فى نصف شوال.

وسمع من ابن الطلاية، وابن ناصر، وأبى بكر بن الزاغونى، وأبى الوقت وأحمد بن عبد الله بن مرزوق، وأبى على بن شاتيل، وأبى المعمر الأنصارى، وسعيد بن البناء، وعبد الخالق بن يوسف، وأحمد بن محمد العباسى النقيب، وغيرهم

وسمع من أبى عبد الله الحسنى بن إبراهيم بن الحسين بن جعفر الجوزقانى الهمدانى. قدم عليهم بغداد سنة ثلاث وأربعين خمسمائة، وكتابا جمعه وسماه «الترغيب» .

وقرأ الفقه على القاضى أبى يعلى بن أبى خازم، وأبى حكيم النهروانى، ويقال: إنه قرأ على أبى الفتح بن المنّى أيضا، وبرع فى الفقه مذهبا وخلافا وجدالا، وأتقن علم الفرائض، والحساب، وشدا طرفا من العربية، وكتب خطا حسنا، ودرس، وأفتى وناظر. وكان من أكابر العدول، وشهود الحضرة، وأعيان المفتيين المعتمد على فتاويهم وأقوالهم فى المجالس والمحافل، متين الديانة حسن المعاشرة، طيب المفاكهة.

قال القادسى: كان خيرا صالحا، حسن الطريقة، جميل السيرة، بعيد المثال، وإياه عني الصرصرى بقوله فى قصيدته اللامية المعروفة، فى مدح الإمام أحمد وأصحابه:

ومن يتبع المنى أوحد وقته

أبا الفتح والصقال فى الفقه ينبل

حدث، وسمع منه ابن القطيعى، وروى عنه ابن الدبيثى، والحافظ الضياء، وابن النجار.

توفى آخر يوم الاثنين، ثانى ذى الحجة، سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وصلّى عليه من الغد عند المنظرة بباب الأزج، وحمل على الرءوس، ودفن بباب حرب، وشيعه خلق عظيم. رحمه الله.

وقيل: كانت وفاته فى مستهل ذى الحجة.

ص: 441

و «الطيبى» منسوب إلى بلدة قديمة بين واسط، والأهواز تسمى الطيب.

‌211 - محمد بن إبراهيم

بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسى، الزاهد أبو بكر، ويلقب جمال الدين، ابن أخو البهاء عبد الرحمن، الآتى ذكره إن شاء الله تعالى.

ولد سنة ثلاث وستين وخمسمائة.

وسمع الحديث بدمشق: ودخل مع أخيه بغداد، وأقام بها مدة، واشتغل وحصل فنونا من العلم، ثم عاد.

وكان فقيها زاهدا، ورعا، كثير الخشية والخوف من الله تعالى، حتى كان يعرف بالزاهد، وكان يبالغ فى الطهارة، وأمّ بدمشق بمسجد دار البطيخ، وهو مسجد السلالين.

حدث مدة، وحج فى آخر عمره، ثم توجه إلى القدس، فأدركه أجله بنابلس سنة سبع وتسعين وخمسمائة. رحمه الله تعالى.

‌212 - عبيد الله بن على

بن نصر بن حمرة بن على بن عبيد الله البغدادى التيمى المعروف بابن المارستانية، الأديب، الفقيه المحدث، المؤرخ أبو بكر.

ويلقب فخر الدين.

كان يذكر أنه من ولد أبى بكر الصديق رضى الله عنه، ويذكر شيئا متصلا إليه. وقد قرأت بخطه فى نسبه: المحمدى، ولا أدرى إلى ما هذه النسبة؟

ذكر أنه ولد فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.

وسمع الحديث من أبى المظفر بن الشبلى، وابن البطى، ويحيى بن ثابت ابن بندار، وعبد الحق بن عبد الخالق، وشهدة، وأبى الفتح بن شاتيل.

وقرأ كثير على المشايخ المتأخرين بعدهم، وكتب بخطه، وحصل الأصول

ص: 442

وعنى بهذا الفن، وطلب العلم فى صباه، فتفقه فى المذهب.

وقرأ الأدب. وكان أديبا، فاضلا فصيحا، مليح العبارة، بليغا، حسن التصنيف، ذكر ذلك ابن النجار وغيره.

وقال أبو المظفر سبط بن الجوزى: أحد الفضلاء المعروفين بجمع الحديث والطب، والنجوم، وعلوم الأوائل، وأيام الناس. وصنف كتابا سماه «ديوان الإسلام، فى تاريخ دار السلام» قسمه ثلاثمائة وستين كتابا، إلا أنه لم يشتهر، وصنف سيرة الوزير ابن هبيرة.

وقال ابن النجار: كان قد قرأ كثيرا من علم الطب، والمنطق والفلسفة.

وكانت بينه وبين عبيد الله بن يونس صداقة ومصاحبة، فلما أفضت إليه الوزارة اختص به، وقوى جاهه، وبنى دارا بدرب الشاكرية، وسماها: دار العلم، وجعل فيها خزانة كتب، ووقفها على طلاب العلم. وكانت له حلقة بجامع القصر، يقرأ فيها الحديث يوم الجمعة، ويحضر عنده الناس، فيسمعون منه، ورتب ناظرا على أوقاف المارستان العضدى، فلم تحمد سيرته، فقبض عليه وسجن فى المارستان مدة مع المجانين مسلسلا، وبيعت دار العلم بما فيها من الكتب مع سائر أمواله وقبضت، وبقى معتقلا مدة، ثم أطلق، فصار يطب الناس، ويدور على المرضى فى منازلهم، وصادف قبولا فى ذلك، فأثرى، وعاد إلى حالة حسنة، وحصل كتبا كثيرة، ثم إنه انتدب للتوجه فى رسالة من الديوان، فخلع عليه خلعة سوداء:

قميص وعمامة، وطرحة، وأعطى سيفا وأركب مركوبا جميلا، وتوجه إلى تفليس فى صفر سنة تسع وتسعين إلى الأمير أبى بكر بن إيلد كزين البهلوان، زعيم تلك البلاد، فأدركه أجله هناك.

قلت: القبض عليه إنما كان بعد عزل ابن يونس والقبض عليه، وتتبع أصحابه، وفى تلك الفتنة كانت محنة ابن الجوزى أيضا كما تقدم. وبالغ ابن النجار فى الحط عليه بسبب ادعائه النسب إلى أبى بكر الصديق، وبسبب أنه روى عن

ص: 443

مشايخ لم يدركهم، كأبى الفضل الأرموى.

قال: واختلق طباقا على الكتب بخطوط مجهولة، تشهد بكذبه وبزوره، وجمع مجموعات فى فنون من التواريخ وأخبار الناس، من نظر فيها ظهر له من كذبه وقبحه وتهوره ما كان مخفيا عنه، وبان له تركيبه الأسانيد على الحكايات والأشعار والأخبار، إلى أن قال: وقد حدث بكثير مما اختلقه، وعن جماعة لم يلقهم

سمع منه الغرباء، ومن لا يعرف طريقة الحديث. ورأيته كثيرا، ولم أكتب عنه شيئا.

قال: وقد نقلت فى هذا الكتاب من خطه وقوله وروايته أشياء، العهدة عليه فى صحتها؛ فإنى لا أطمئن إلى صحتها، ولا أشهد بحقيقة بطلانها. ثم قال: قرأت على أبى عبد الله الحنبلى بأصبهان عن معمر بن عبد الواحد بن الفاخر القرشى، ونقلته من خطه. قال: أنشدنى أبو بكر عبيد الله بن على بن علي بن نصر بن حمزة التيمى لنفسه:

أفردتنى بالهموم

ذات دل ونعيم

أودعت قلبى سقاما

والحشا نار الجحيم

ليس لى شغل سواها

من خليل وحميم

هى داء للمعافى

ودواء للسقيم

شغلت قلبى بأمر

مقعد فيها مقيم

قلت: العجب أنه تبرأ وتنزه عن الرواية عنه نفسه، ثم روى عن اثنين عنه.

ولقد بالغ فى الحط عليه، وزاد فى ذلك اعترافه بأنه نقل عنه فى هذا الكتاب أشياء، ولعله لا يبين فى بعضها أو كثير منها أنها من جهته. وقد وقفت على كتابه الذى جمعه فى سيرة ابن هبيرة، فلم أجد فيه ما ينكر، بل غالب ما نقل فيه من الحكايات عن الوزير من كلامه قد نقله ابن الجوزى وغيره.

ص: 444

وكذلك بالغ ابن الدبيثى فى تاريخه فى الحط عليه، وقال: إنه ادعى الحفظ وسعة الرواية عمّن لم يلقه ولم يوجد بعد. وتابعه على ذلك المنذرى. وهذا غير صحيح؛ فإن أقدم من ادعى السماع منه الأرموى. وهو كان موجودا فى حياته، وسماعه منه ممكن. نعم ينبغى أن يقال: لم يصح سماعه منه، أو لم يعرف، ونحو ذلك.

ومن مبالغته فى الحط قال أبو شامة: هذا غلوّ من قائله. وهو كما قال.

ولا ريب أنه مطعون فيه من جهتين:

من جهة ادعائه النسب إلى أبى بكر؛ فإن هذا أنكره الناس كلهم عليه، واشتهر إنكاره، حتى قال بعضهم:

دع الأنساب لا تعرض لتيم

فأين الهجن من ولد الصميم

لقد أصبحت من تيم دعيّا

كدعوى حيص بيص إلى تميم

ومن جهة ادعائه سماع ما لم يسمع؛ فإن هذا صحيح عنه.

قال ابن نقطة: سألت أبا الفتوح الحصرى عنه بمكة؟ فقال: سامحه الله.

كان صديقى. وكان يكرمنى. وكان غير ثقة.

حدثنى علي بن أحمد الشريف الزيدى أنه استعار منه مغازى الأرموى فردها إليه وقد طبق عليها السماع على كل جزء، ولم يسمعها.

قال ابن نقطة: وكان شيخنا ابن الأخضر الحافظ ينهى أن يقرأ أحد على شيخ بطبقة تكون بخطه، أو بخط أبى بكر بن سوار. وذكر حكايتين عن أبى الحسين عبد الحق بن عبد الخالق أنه كذبه، وقال: إنه سمع لنفسه منه أجزاء لم يقرأها عليه.

وأما ما نسبوه إليه من تركيب الأسانيد، وتصرفه بالكذب فى تصانيفه، حتى إن ابن الدبيثى قال: لو تم كتابه «ديوان الإسلام» لظهرت فضائحه. فهذا أمر لم يثبت عنه.

وقد ذكر ابن نقطة: أنه رأى بعض تاريخه، ولم يذكر فيه طعنا. والله أعلم.

ص: 445

وقال ابن القادسى عنه: كان خطيبا، بليغا شاعرا، حافظا محدثا، فصيحا.

سافر، وسمع الحديث من أمم لا تحصى واستشهدهم. وصنف عدة مصنفات فى التواريخ وغيرها. وله «تاريخ مدينة السلام» على وضع كتاب الخطيب. وهو كتاب نفيس، وقد ذكر فيه أقواما، ذكر أنهم لا يعرفون. وقد عظمهم هو ووصفهم.

وقد طعن أصحاب الحديث عليه وجرحوه، منهم شيخنا ابن الجوزى، وعبد العزيز بن الأخضر.

وحدث ببغداد. وروى عن أبى الوقت، وقرأ على أبى محمد بن الخشاب.

قال أبو المظفر السبط: كان ابن المارستانية هو الذى قرأ كتب عبد السلام ابن عبد الوهاب بن عبد القادر يوم أحرقت. كان يقرأ الكتاب، ويقول:

يا عامة، هذا عبد السلام يقول: من بخّر زحل بكذا وكذا. وقال: يا إلهى يا علة العلل، نال ما أراد، فيلعنه الناس ويضجون بذلك. فلما خلع على ابن المارستانية، وأرسل إلى تفليس، خرج من دار الوزير وبين يديه الحجاب، وأرباب الدولة فوقف له عبد السلام وتقدم إليه، وقال له سرّا فيما بينهما: الساعة من بخّر زحل أنا أو أنت؟ فقال: أنا.

وتوفى ابن المارستانية فى رجوعه من تفليس بموضع يعرف بخرج بند ليلة الأحد غرة ذى الحجة سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ودفن هناك. سامحه الله.

وقال القادسى: توفى بحرختيد فى سلخ ذى القعدة. وقيل: توفى فى صفر.

وهو وهم.

و «حمرة» فى نسبه بضم الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الراء المهملة. كذلك قيده ابن النجار، وابن نقطة، والمنذرى وغيرهم.

ورأيت بخطه «حمزة» وفوق الزاى نقطة. ولا يلتفت إلى ذلك.

وقيل له: ابن المارستانية، لأن أبويه كانا قيّمى المارستان التنستى ببغداد.

ص: 446

‌213 - نصر الله بن عبد العزيز

بن صالح بن محمد عبد عثمان بن عبدوس الحرانى، الفقيه الزاهد، شمس الدين أبو الفتح. أحد شيوخ حران وفقهائها.

أخذ العلم بها عن جماعة، كأبى الحسن بن عبدوس، وأبى الفضل حامد بن أبى الحجر، وأبى الكرم فتيان بن ميّاح.

ورحل إلى بغداد، وسمع درس أبى الفتح بن المنّى. وسمع بها الحديث من أبى الفتح بن البطى، وأبى الفضل بن شافع، وفوارس بن موهوب بن الشباكية، والمبرّد بن الطباخ، وغيرهم. ثم عاد إلى حران

قال أبو الفرج بن الحنبلى: لقيته بدمشق وحران. وكان فقيها صالحا، ينقل المذهب جيدا. وكان ينكر المنكر. ضربه مظفر بن زين الدين على الإنكار، ثم ندم واستغفر منه، وأحسن القاضى الفاضل ظنه به.

وكان أبيض قصيرا جدا. وشعر لحيته أحمر. وحكى لى. أنه يأخذ اللحمة من المقلى، فيضعها فى فيه، ولا يتضرر بذلك.

وقال أبو عبد الله بن حمدان: كان رجلا صالحا، فقيها فاضلا. وهو شيخ شيخنا ناصح الدين عبد القادر بن أبى الفهم.

أنكر مرة على مظفر الدين صاحب أربل لما كانت له حران، وأراق له خمرا، فأحضره، وقال: أتعرفنى؟ قال: نعم، بالظلم والفسق، أو معنى ذلك. فهم بضربه، فأشير عليه: أن لا يفعل؛ لأجل العامة وميلهم إليه.

وله كتاب «تعليم العوم ما السنة فى السلام؟» وسبب تصنيفه له: أنه لما قدم أبو المعالى بن المنجى قاضيا على حران أمر المؤذنين بالجهر بالتسليمتين فى الصلاة وكانوا إنما يجهرون بالأولى خاصة. فرد عليه أبو الفتح فى هذا الكتاب، وبيّن أن المذهب إنما هو الجهر بالأولى خاصة. وذكر نصوص أحمد وأصحابه فى ذلك، والأحاديث والآثار الدالة عليه، وبالغ فى الإنكار عليه، وحدث به غير مرة بحران، وسمعه منه ابن أبى الفهم وغيره.

ص: 447

وسمع منه الحديث أحمد بن سلامة النجار، وغيره.

قال ابن الحنبلى: مات ابن عبدوس قبل الستمائة بآمد. رحمه الله.

آخر الجزء الأول

ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثانى، وأوله: ترجمة الشيخ الإمام العالم الحافظ تقى الدين أبو محمد، حافظ الوقت عبد الغنى بن عبد الواحد المقدسى. رحمه الله.

ووجد بالأصل المخطوط:

وكان الفراغ من كتابته ضحى يوم الأحد الثانى عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين بعد الثلاثمائة وألف، على يد أحقر الكتّاب، راجى غفران الذنوب والمساوى: محمد عبده بن المرحوم محمد الحفراوى. كان الله له، ورحم سلفه آمين.

تم بحمد الله طبع الجزء الأول من كتاب الذيل على طبقات الحنابلة، للإمام شيخ الإسلام أبى الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادى.

تغمده الله برحمته.

وذلك بمطبعة السنة المحمدية، فى غرة ربيع الأول سنة 1372 هـ الموافق 19 من شهر نوفمبر سنة 1952 م.

وصلّى الله وسلم وبارك على عبد الله المصطفى، ورسوله المجتبى، محمد، وعلى آله أجمعين.

ص: 448