المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الحمد للّه رب العالمين، وصلاةً وسلامًا على سيد الخلق وحبيب - رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب - جـ ١

[تاج الدين ابن السبكي - ابن الحاجب]

فهرس الكتاب

الحمد للّه رب العالمين، وصلاةً وسلامًا على سيد الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم.

‌مقدمة الناشر

أما بعدُ:

نحن في عصر الفضاء والذرة، ولا يقف العلم ولا الإنسان على طرف سنان، وإنما هو كالبرق الخلب والريح القلب، وكل يوم ينتقل من طور إلى طور ومن حسن إلى أحسن. ويساير هذا التقدم العلمي التقدم الطباعي أيضًا وقد أخذنا بأسبابه، وركبنا رحابه واجتهدنا في الأخذ بأحدث معداته وأدواته، لنشر التراث الإسلامي المجيد، ونفض الغبار عن مجده التليد. وها نحن اليوم ذا نتقدم لجماهير وعلماء وطلاب العلم في بقاع الأرض قاطبة بنشر هذه المفخرة من مفاخر التراث وهي "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" وهو كتابٌ عظيم النفع، جليل القدر، قد تلقفته الأيادي في القدم وقد جهد طلاب العلم بحثًا وتنقيبًا عنه، فهنيئًا لهم نشر الكتاب منزهًا عن التحريف والخراب، كامل التصحيح والتحقيق ورتب الصواب فنسأل الله أن يتقبل منا، وأن يعفو عنا، وأن يمدنا بعونه وفضله لنشر غيره.

"إنه نعم المولى ونعم النصير"

ص: 5

كتب ابن قاضي الجبل تقريظًا لهذا المصنف

(1)

: [الطويلُ]

لِيَهْنَكَ يَا تَاجَ المَعَالِي مُصَنَّفٌ

يُشَوِّفُ أَسْمَاعًا لَنَا وَيُشَنِّفُ

هُوَ الْبَحْرُ إِلَّا أَنَّهُ فَاقَ جَوْهَرًا

هُوَ الرَّوْضُ إِلَّا أَنَّهُ مِنْهُ أَلْطَفُ

فَمَا السَّيْفُ فِي أَحْكَامِهِ مِثْلَ حُكْمِهِ

بُحُوثُكَ فَخْرَ الدِّينِ فِيهِ تُزَيِّفُ

وَلا الْقُطْبُ فِي شَرْحٍ لَهُ مِثْلُ قُطْبِهِ

فَأَضْحَتْ فُهُومُ الْقَوْمِ فِيهِ تُوَظَّفُ

أُصُولٌ غَدَتْ أَصْلَ الأُصُول لِفَاهِمٍ

وَمَنْقُولُهَا حَقٌّ صَحِيحٌ مُعَرَّفُ

فَلَوْ أُغْرِقُوا فِي الْبَحْثِ طُولَ حَيَاتِهِمْ

فَذِهْنُكَ أَدْرَى بِالْعُلُومِ وَأَعْرَفُ

وَرِثْتَ لِشَيْخِ الْعِلْمِ أَوْحَدَ عَصْرِهِ

هنيئًا لَكَ الْعِلْمُ الَّذِي بِكَ يُعْرَفُ

وَلَوْ عَلِمُوا حَقَّ العُلُومِ لَبَادَرُوا

وَأَضْحَوْا تَلامِيذًا لَدَيْكَ وَأَنْصَفُوا

لَقَدْ فُقْتَ بِالتَّهْذِيبِ كُلَّ مُهَذَّبٍ

وَأَقْلامُ أَهْلِ الْعَصْرِ بِالْمَدْحِ تَرْعُفُ

وَسُدْتَ فَظَهْرُ السُّدَّةِ اليَوْمَ مُزْهِرٌ

وَأَسْكَرَنَا مِنْ لَقْطِكَ اليَوْمَ مُرْقِفُ

وَشَيَّدْتَ أَحْكَامًا وَفُقْتَ بَلاغَةً

كَمَا أَنْتَ بِالطُّلَّابِ أَدْرَى وَأَرْأَفُ

(1)

هذا النظم يوجد على اللوحة الأولى من المخطوط المرموز له بالرمز (أ).

ص: 6

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْشَأَ الكَائِنَاتِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ، وَأَبْدَعَ الخَلْقَ لِحِكَمٍ بَالِغَةٍ فَعَجَزَتِ العُقُولُ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهَا، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَرَفَعَ بِقُدْرَتِهِ مَنْزِلَةَ الإِنْسَانِ، وَميَّزَهُ بِالْعَقْل عَلَى سَائِرِ المَخْلُوقَاتِ، وَمَنَحَهُ التَّفْكِيرَ وَالتَّمْيِيزَ والتَّدْبِيرَ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - مَعَ هذِهِ النِّعَمِ العَظِيمَةِ لَمْ يَتْرُكِ البَشَرَ سُدًى وَلا هَمَلًا؛ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ عَلَى غَيْرِ هُدًى وَبَصِيرَةٍ، وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ يَسِيرُونَ فِي دُرُوب الحَيَاةِ خَبْطَ عَشْوَاءَ، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ الْكِرَامَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ؛ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَخَتَمَ كَوْكَبَةَ رُسُلِهِ بِخَيْرِ الأَنَامِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ، وَأَوْلاهُ شَرِيعَتَهُ الغَرَّاءَ الَّتِي لا يُعَادِلُهَا نِظَامٌ، وَلَهُ الشُّكْرُ - سُبْحَانَهُ - حَيْثُ جَعَلَنَا مِمَّنْ يَسِيرُ فِي رَكْبِ هذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ، وَوَفَّقَنَا لأِنْ نُحَصِّلَ وَنَتَشَرَّبَ مَجْمُوعَ الأُصُولِ والفُرُوعِ، فَسَلَكْنَا سَبِيلَ العُلَمَاءِ الثِّقَاتِ، وَأَعْرَضْنَا صَفْحًا عَنْ طَرْقِ أَبْوَابِ المُبْتَدِعِينَ اللِّئَامِ.

وَبَعْد، فَإِنَّ أَعْظَمَ مَا تُرِكَ لأِجْلِهِ لَذَائِذُ الطَّعَامِ، وَأُعْرِضَ مِنْ أَجْلِهِ عَن طِيبِ المَنَامِ، هُوَ الاِشْتِغَالُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ، وتَجشُّمُ الصِّعَابِ في التَّرَقِّي فِي دَرَجِ الفُهُومِ.

وَلَقَدْ كَانَ عِلْمُ الأُصُولِ مِن بَيْنِ تِلْكَ العُلُومِ أَسَاسًا لِلشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مِن أَجَلِّهَا قَدْرًا، وَأَعْظَمِهَا نَفْعًا وَفَائِدَةً؛ إِذْ هُوَ العِلْمُ الكَفِيلُ بالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وإِجْمَاعٍ وَقِياسٍ مِن حَيْثُ تُؤخَذُ مِنْهَا التَّكَالِيفُ وَتُسْتَنْبَطُ الأَحْكَامُ.

وَعِلْمُ أُصُولِ الفِقْهِ هُوَ العَاصِمُ لِلذِّهْنِ عَنِ الخَطَإِ عِنْدَ اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُو

ص: 7

المُعْتَمَدُ لأِصْحَاب الخِلافِ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِن مُنَاظَرَاتٍ وَمُسَاجَلاتٍ؛ كَيْ يُصَحِّحَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَذْهَبَه، وَيُثَبِّتَ بِنَاءَهُ عَلَى دَعَائِمَ صَحِيحَةٍ، وَأُصُولٍ قَوِيمَةٍ، وَهُوَ المُعْتَمَدُ أَيْضًا لأِصْحَابِ التَّخْرِيجِ الَّذِين عُنُوا بِتَفْرِيعِ الأَحْكَامِ الفِقْهِيَّةِ، وَتَخْرِيجِ الحَوَادِثِ وَالْوَقَائِعِ الوَقْتيَّةِ عَلَى أصُولٍ تَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَتُؤْخَذُ مِنْهَا.

وَبَعْد، فَهذِهِ مُقَدِّمَةٌ لِتَحْقِيقِ كِتَابِنَا "رَفْعِ الحَاجِبِ عَنْ مُخْتَصَرِ ابْنِ الحَاجِبِ" للإمام الهمام العلَّامة ابن السبكي رحمه الله تَشْتَمِلُ عَلَى المَبَاحِثِ التَّالِية:

- نَبْذة عن عَصْر ابن الحاجب.

- ابنُ الحاجب بَيْن يدَيْ أصحاب التَّرَاجِم.

- نشأة ابن الحاجِب.

- شُيُوخ ابْنِ الحاجِب.

- تلاميذ ابنِ الحاجِب.

- ثناءُ العلماءِ عليه.

- بَيْن ابْنِ الحاجِبِ والعِزّ بن عبْدِ السَّلام.

- مصنَّفَاتُهُ.

- وفاةُ ابْنِ الحاجب.

- إضاءَةٌ على القَرْن الثَّامِنِ الهجْريّ.

- الحالةُ السياسيَّة في عَصْر سلاطين المماليك.

- الحالة الاجتماعيَّة في عَصْر سلاطين المماليك.

- الحالةُ الاقتصاديَّةُ في عَصْر سلاطين المماليك.

- الحالة الثقافيَّة في عَصْر سلاطين المماليك.

- تاجُ الدِّين السُّبْكِيُّ بين يدَيْ أصحاب الطبقات.

• نسبه.

• مولده.

• نشأته.

• الكلام على آل السُّبْكِيِّ.

• شيوخه.

ص: 8

• تلاميذه.

• ثناء العلماء عليه.

• محنة التاج السبكي.

• آثاره ومصنفاته.

• وفاته.

- تعريف أصول الفقه.

- موضوع أصول الفقه.

- نشأة علْم أُصُول الفِقْه.

- اختلافُ العلماءِ حَوْل واضِعِ عِلْم الأُصُول:

• الإمام محمد الباقر.

• الإمام "أبو جنيفة".

• محمَّد بنُ الحَسَن.

• أبو يُوسُف.

• الرسالةُ والشَّافعيُّ.

• خُلاصَة رسالةِ الشَّافعيِّ.

- مناهجُ العلماءِ في الدراساتِ الأُصوليَّة.

أوَّلًا: الاتجاه النظريُّ.

ثانيًا: الاتِّجاه المذهبيُّ المتأثِّر بالفروع:

• الحنفية.

• المالكية.

• الحنابلة.

• الشافعية.

ثالثًا: الاتِّجاهُ الجامعُ بَيْنَ المذهَبَيْن.

رابعًا: حول قضية التجديد في أُصُول الفقه.

• النسبة بين أصول الفقه والعُلُوم الأخرى.

• اسْتِمْدَاده.

ص: 9

• فائِدَتُه.

• الكِتَابُ.

• السنَّة.

• إنْكارُ حُجِّيَّة السُّنَّة موجِبٌ للرِّدَّة.

• العلاقةُ بيَن الكتابِ والسُّنَّة.

• الإجماعُ.

• القياس.

• النَّسْخ.

ص: 10

‌ابْنُ الحَاجِبِ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابَ التَّرَاجِمِ

‌نَسَبُهُ:

هو: أَبُو عمرٍو عُثْمانُ بْنُ عمرَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ يُونُسَ الكُرْدِيُّ الدَّوِينِيُّ

(1)

الأصْلِ، الإسنائيُّ

(2)

المولدِ المالكيُّ، ويلقب بـ "جمالِ الدِّينِ".

قال أبو العبَّاس ابنُ خَلِّكان المتوفى سنة 681 هـ: "أبو عمرو

الدَّوَنِيُّ ثم المصريُّ الفقيهُ المالكيُّ .. "

(3)

.

وقال الحافظُ الذهبيُّ المتوفَّى سنة 748 هـ: "الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة المُقَرئُ الأُصوليُّ الفقيه النحويُّ جمال الأئمة والملَّة والدينِ أَبو عَمْرٍو

صاحبُ التصانيفِ .. "

(4)

.

وقال ابن فَرْحُون المالكِيُّ المتوفَّى سنة 799 هـ، نقلًا عن "الوفيات" لابن خَلِّكان:"عُثمانُ بْنُ عمرَ بْنِ أَبِي بكْرِ. بنِ يُونُسَ الرَّوِينِيُّ، ثمَّ المصريُّ الدمشقيُّ ثم الإسكندريُ يكنى أبا عمرٍو المعروف بـ "ابن الحاجب"، الملقَّب بـ "جمال الدِّين"، الإمامُ العلَّامة، الفقيهُ

(1)

نسبة إلى "دَوِين" - بفتح أوله وكسر ثانيه - وياء مثناة من تحت ساكنة، وآخره نون - بلدة في آخر "أذْرَبيجَان" من جهة "أران"، وبلاد "الكرك"، معجم البلدان 2/ 558.

(2)

"إسْنَا" بالكَسْر، ثم السُّكُون، ونون وألف مقصورةٌ: مدينة بأقصى الصعيد، ليس وراءها إلا أدفو وأسوان، ثم بلاد النوبة، وهي على شاطئ النبيل من الجانب الغربيِّ، وهي طَيِّبة كثيرةُ النخل والبساتين. مراصد الاطلاع 1/ 76، 77، وهي الآن تابعة لمحافظة قنا.

(3)

وفيات الأعيان 3/ 248.

(4)

سير أعلام النبلاء 23/ 264 - 265.

ص: 11

المالكيُّ

"

(1)

. ويظهر الفرْق واضحًا بَيْن ما نقله ابن فَرْحُون، وما هو في "الوفيات".

وقال ابن الجزريِّ المتوفَّى سنة 833 هـ: "عثمانُ بنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ يُونسُ أَبُو عَمْرِو بْن الحَاجِبِ الكرديُّ الأصلِ الدَّونِيُّ الإسنائيُّ المولدِ

"

(2)

.

وقال السُّيُوطيُّ المتوفَّى سنة 911 هـ: "ابن الحاجبِ العلَّامةُ جمالُ الدينِ أَبُو عمْرٍو عثمانُ بنُ أَبِي بَكْرٍ الكرديُّ الإسنائيُّ ثم المصريُّ المالكيُّ

"

(3)

.

وقال حاجي خليفة المتوفَّى سنة 1067 هـ: "عثمانُ بنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ يُونُسَ الكُرديُّ الإسنائيُّ ثمَّ المصريُّ جمالُ الدِّينِ أَبُو عَمْرٍو المالكيُّ النَّحويُّ المعروفُ بـ "ابنِ الحاجبِ" .. "

(4)

.

وقال ابن العماد الحنبليُّ المتوفَّى سنة 1089 هـ: "العلَّامة أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر الكردي الأسنائي - وأسْنَا - بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح النون وبعدها ألف بليدة صغيبرة - من أعمال القُوصيَّة بالصعيد الأعلى من مصر

"

(5)

.

وقال كَحَالَة: "عثمانُ بن عمرَ بْن أبي بَكْرِ بْنِ يُونُسَ الكرديّ، الدَّوينِيُّ الأصْلِ، الإسْنائيّ، المالكيّ، المعروف بـ "ابن الحاجِبِ" "أبُو عَمْرو، جَمالُ الدِّين"

"

(6)

.

وقال خَيْرُ الدِّينِ الزِّركلِيُّ: "عثمانُ بنُ عُمر بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ يُونس، أَبُو عمرو جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الحَاجِبِ .. "

(7)

.

‌مَوْلِدُهُ:

ولد ابن الحاجبِ في أواخر سنة 570 هـ أو 571 على الشَّكِّ منه. كذا ذكره الذهبيُّ وابن الجزريِّ.

(1)

الديباج المذهب 2/ 86، وقد تحرفت فيه كلمة "الدويني" إلى "الرويني".

(2)

غاية النهاية 1/ 508.

(3)

حسن المحاضرة 1/ 456

(4)

هدية العارفين 1/ 654.

(5)

شذرات الذهب 5/ 234، وضبطه لـ"أسنا" وتعريفه لها نقله بنصه عن ابن خلكان.

(6)

معجم المؤلفين 6/ 265.

(7)

الأَعلام 4/ 211، وقد اشتهر بـ"ابن الحاجب" لأن أباه كان حاجبًا للأمير عز الدين موسك الصلاحي، وقد تحرفت في "الفتح المبين""موسلو "إلى "يوسف"، وتحرفت كلمة "الصلاحي" في "غايه النهاية" إلى "السلاحي".

ص: 12

قال الذهبيُّ: ولد سنة سبعين وخَمْسِمائةٍ، أو سنة إحدى - وهو يشك - بـ "إسْنا" من بلادِ الصَّعيد .. "

(1)

.

وقال ابن الجزريِّ: "وُلدَ سنة سبعين أو إحدى وسبعين وخَمْسِمائة - الشكُّ منه - بـ "إسْنا" من صعيد مصر .. "

(2)

.

وقد تحرَّفْت سنةُ موْلِدهِ عنْد ابن فرْحُون، فقال:" .... وكان مولده بـ "إسْنا" بالصعيد الأعلى سنة تسعين وخمسمائة"

(3)

.

(1)

سير أعلام النبلاء 23/ 265.

(2)

غاية النهاية 1/ 508.

(3)

الديباج المذهب 2/ 89.

ص: 13

‌نبذة عن عَصْر ابْنِ الحَاجِبِ

(1)

مَا أَصْدَقَ قَوْلَةَ ابْنِ خَلْدُونَ فِي مقدِّمته "أن الإنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْع"، وهذا يَعْنِي أَنَّ الإنْسَان لا يَسْتَطِيع أَنْ يَعِيشَ مُنْعَزِلًا عَن المُجْتَمع، بَلْ لا بُدَّ لَهُ من تأثيرٍ وتأثُّرٍ، وأخذ وإعطاء، فهذه سُنَّةُ اللّه الَّتي فَطر النَّاس عَلَيْهَا.

ولا شكَّ أَنَّ كلَّ بيئةٍ لها تأثيرُهَا الخاصُّ عَلَى تكوين أفْرَادِهَا، فَهِي تصبغه بصبغتها، فيَسْتَوِي عُودُه على ما قَدْ رَشَفَه مِنْ مجتَمَعِه الَّذِي يُحِيط به، إِنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فَشَرٌّ.

وغايةُ الأَمْرِ أَنَّك، إِذَا أردت أن تستَجْلِي هذا الصَّرْحَ الشَّامِخَ - ابْنَ الحاجِب - فلا بُدَّ من إِلقاء بَصِيصٍ مِنَ الضَّوْء على العَصْر الَّذي عاشَ فيه:

قَامَتْ دولَةُ بَنِي أَيُّوبَ في مصْرَ بعْد ضعف الخلافةِ العبَّاسيَّة، وانْقِسام الطَّوائِف الطَّامعةِ في الخلافَةِ بأماكنَ تخصُّها، فالعالَمُ الإسلاميُّ يعاني من وَيْلات الانقسامِ والفُرْقَةِ، مِنْ سلاجقةٍ بالعراق، وفاطميِّين في الغَرْب، ثُمَّ مِصْر والشَّام، وبُوَيْهِيِّين بالعراقِ وفارِس قَبْل أنْ يَسْتَولي السَّلاجِقَةُ بَعْد ذلِكَ عَلَى الخِلافَة بـ "بَغْدَاد".

ولقَدْ دَخَلَ السَّلاجقةُ فِي حُرُوبٍ وويلانٍ ليوطِّدوا مُلكَهم، وكانَتْ علاقتهم بالعباسييِّن علاقةً طيِّبة لا يُعكَّر صفْوُها إلا إذا تدَخَّل أحدُهم في شؤون الخليفة العباسيِّ.

وقد استقلَّ عماد الدِّين زنكي عن السَّلاجقة، وأَنْشَأَ الدَّوْلَة الزنكيَّة، الَّتي دخَلَتْ فِي

(1)

صاحب المَتْنِ الَّذي قام بشَرْحه العلَّامةُ ابنُ السُّبكيِّ.

ص: 14

حُرُوب مع السَّلاجِقَة، وقدْ ساعد نجْمُ الدِّين أَيُّوبُ والدُ صلاح الدين - عماد الدين، فأحسن استقباله ووفادته، ولذلك توطدت العلاقة بين البيت الزنكي والأيوبي، وتسير الأُمُور حتَّى يسيطر السلاجقةُ بزعامة نُور الدِّين زنْكِي عَلَى مصْر بمساعدة صلاح الدِّين وأسدِ الدِّين شيركوه، حتَّى إذا تُوُفِّيَ نور الدِّين، يخلفه صلاح الدين، فَيَبْسُط سلطان الأيُّوبِيِّين على البلاد الممتدَّة من مصْرّ إلى الفُرات.

وتزْحَف الحملاتُ الصليبيَّةُ عَلَى العَالَمِ الإسْلاميِّ، فيتصدَّى لها السُّلطان صلاحُ الدِّين الأيُّوبيُّ حتَّى تَنكَسِرَ وتتحطم، فيحمد له التاريخُ ذلك.

وقال فيه أحد الشعراء قصيدة مطلعها: [الطويل]

أَرَى النَّصْرَ مَعْقُودًا بِرَايَتِكَ الصَّفْرَا

فَسِرْ وَافْتَحِ الدُّنْيَا فَأَنْتَ بِهَا أَحْرَى

وَبِتَوَلِّي صلاح الدِّين الأمْرَ في مصْر، كان بدايةُ ظهور الدَّوْلَة الأيُّوبيَّة عَلَى مَسْرح الأحداث، وامتلأَتْ أيَّام حُكْم صلاحِ الدِّين بالحُرُوب والفُتُوحِ، وأعظمها فتْحُ بيت المقدس، وبلادِ الشَّامِ، إلَّا أَنَّ الصليبيين يُعَاوِدُونَ هُجُومَهُم، فيعقد معهم هدْنةً، وفي خلالِ ذلك يُفَجَّع المُسْلِمُونَ بمَوْت صَلاحِ الدِّين في سنة 589 هـ.

ويتوالَى سلاطينُ الأيوبيِّين واحدًا بعد الآخَرِ إلى أنْ تضعف دوْلَتُهم، بعد تدخُّل المماليك في شؤون البلاد، حتَّى تسْقُط الدوْلَة بمقتل توران شاه ابن الملك الصَّالِح نَجْم الدِّين أيُّوب، وذلك سنة 648 هـ.

وقد ظهر في خلال تِلْك الفتْرة نهضةٌ علميةٌ، ظهرتْ من خلالِ علماء جهابِذَةٍ وُجدُوا في أقطارِ العالم الإسْلاميِّ آنذاك، فمنهم:

حجَّة الإسلامِ أبو حامد الغزاليُّ المتوفَّى سنة 505 هـ، وعبد اللّه البَطْلَيوسِيُّ الفقيهُ المحدِّث الأصوليُّ المالكيُّ المتوفَّى سنة 521 هـ، وأبو الحَسَن بنُ الزاغُونِيِّ، الفقيهُ الحنبليُّ المتوفَّى سنة 527 هـ، والقاضي أَبُو بَكْر بْنُ العربيِّ الفقيهُ المالكيُّ المشهورُ المتوفَّى سنة 543 هـ، والفيلسوفُ ابنُ رشدٍ الحفيدُ المتوفَّى سنة 595 هـ، ابن الجوزيِّ الحنبليُّ المتوفَّى سنة 597 هـ، وابن قُدامَة الحَنْبَلِيُّ المتوفَّى سنة 620 هـ، وسيفُ الدِّينِ الآمديُّ المتوفَّى سنة 631 هـ، والشيخُ أبو عمرِو بنُ الصَّلاحِ المتوفَّى سنة 643 هـ، وغير هؤلاء كثير جدًّا.

ص: 15

كما ظهرت مصنفاتُ هؤلاء الأئمَّة، وانتشرتْ في جميع الأَصْقَاعِ، فتقبَّلها النَّاسُ بالقَبُول التامِّ، واعترفوا لأهْلِها بعُلُوِّ المنزلة. ومن بين هؤلاء الذين شَهِدَ لهم القاصي والداني، بإمامَتهِ وفَضْلِه، وطُول بَاعِه في نَوَاحِي العِلْمِ المختَلِفَة، الشَّيخُ العلَّامةُ الإمام أَبو عَمْرِو بْنُ الحَاجِبِ. وإليك - أيُّها القارئُ الكريمُ - ترجمة هذا الإمام:

‌نَشْأَتُهُ:

نشأ ابن الحاجِب في بَيْتِ أبيهِ الَّذِي كان حاجِبًا للأَمير عزِّ الدين موسك الصلاحيِّ، ثم انتقل به والدُه إلى القاهِرة، حَيْثُ اشتغل بالقُرْآن الكريمِ فَحفِظَه، وأخذ بَعْض القراءاتِ عن الشاطبيِّ، وسمع منه "التيسير" و"الشاطبيَّة"، ثم قرأ بالسَّبْع على أبي الجود، وقرأ بطُرُقِ "المبهج" على الشِّهاب الغَزْنَوِيِّ، وتفقَّه على مَذْهَب الإمامِ مالك، وطلب الأُصُول فحصَّلها، وبرع فيها، وفي العربيَّة واشتهر بها، ودخل دمشق فسَمِعَ بها، ولزِمَ الاشتغال حتَّى ضرب به المثل. وما زال يَطْلُب العِلْم حتَّى سَادَ.

قال الذهبيُّ: "اشتغل أبو عمرٍو بالقاهِرة، وحفِظ القرْآن، وأخذَ بَعْض القِراءات عن الشاطبيِّ، وسمعَ مِنْه "التَّيْسِير"، وقرأ بطُرُق "المُبْهِج" على الشهابِ الغَزْنويِّ، وتلا بالسبع على أبي الجود، وسمع من أبي القاسمِ البوصيريِّ، وإسماعيل بْنِ ياسين، وبهاء الدِّين بْنِ عساكِرَ، وفاطمة بِنْتِ سعْدِ الْخَيْرِ، وطائِفة، وتفقَّه على أبي المنصور الأبياريِّ وغيره"

(1)

.

وَيَسْتَتْبِعُ هذَا الحديث عن شيوخ هذا الإمام؛

‌شيوخهُ:

‌1 - الشَّاطبيُّ:

وهو القاسمُ بْنُ فِيرُّةَ بْن أَبِي القَاسِم بْنِ خَلَف بْنِ أَحْمَدَ، الإمامُ العلَّامةُ الحُفَظَةُ الضَّرير، أبو محمَّد الرُّعَيْنِيُّ، الأندلسيُّ، الشاطبيُّ، المقرئ الشهيرُ صاحبُ القصيدةِ

(1)

انظر ترجمته في: ابن قاضي شُهْبة طبقات الشافعية 2/ 35، وابن خَلِّكان وفيات الأعيان 3/ 243، ونفح الطيب 1/ 339، ونكت الهميان 228، وطبقات الشافعية الكبرى 5/ 297، ومعجم الأدباء 16/ 293، وابن تغري بردي النجوم الزاهرة 6/ 136.

ص: 16

المَوْسُومةِ بِـ "حرْزِ الأَمَانِي"، وَلَم يُلْحَقْ فِيها ولا سُبِقَ إلى مثلها. ولد بـ "شاطبة" في سنة 538 هـ ودخل مصر سنة 572 هـ، ذكره النوويُّ في "طبقاته" في الأسماء الزائدة على ما ذكره ابنُ الصَّلاح، وقال: لم يكنْ في زمانه بـ "مصرَ" نظيرُه في تعدُّد فنونه وكثرة محْفوظه، وقال ابن خَلِّكان: كان عالمًا بكتاب اللّه قراءةً وتفسيرًا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبَرِّزًا، وكان يُقْرَأُ عَلَيْه "الصَّحيحان" و"الموطَّأ" فيصحِّحون النسخ من حفظه، ويُمْلِي النكت على المواضع المحتاج إلَيْها. وكان إمامًا في عِلْم النَّحْوِ واللُّغة، عارفًا بتعبير المناماتِ، حسَنَ المقَاصِد، مُخْلِصًا فيما يقول ويَفْعَل، ولا يَجْلِس للإقراء إلا على طهارة في هَيْئة حسَنَةٍ وتخشُّع واسْتكانة، وكان يقال: إنه يحفظ وِقْرَ بَعِيرٍ من العُلُومِ.

عالمًا بكتاب اللّه تعالى قراءةً وتفسيرًا، وبحديث الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وبالجملة، فمحاسنه كثيرةٌ رحمه الله، وله من المصنَّفاتِ: اللَّامِيَّة والشَّاطِبيَّة، تُوفي سنة 590 هـ

(1)

.

والرعينيُّ منسوبٌ إلى ذي رُعَيْنٍ إحدى قبائل اليمن.

وفِيرُّة - بفاء مكسورة وياء مثناة من تحت ساكنة وراء مضمومة مشددة - اسم أعجمي معناه بالعربية: حَدِيد.

‌2 - الشِّهَابُ الغَزْنَوِيُّ:

هو شهاب الدين أبو الفضل أحمدُ بن يوسُفَ بْنِ عليِّ بْنِ محمَّدٍ الغزنويُّ البغداديُّ، الفقيهُ الحنفيّ، وتنسب إليه المدرسة الغزنويَّة، حيث كان مدرِّسًا بها، وكان إمامًا فاضلًا، حسَنَ الطريقةِ متينًا، حدَّث بالقاهرة بكتاب "الجامع" لعبد الرزَّاق بْنِ هَمَّام، فرواه عنه جماعةٌ، وجمع كتابًا في الشيب والعمر.

وُلِدَ ببَغْداد سنة 522 هـ، وتُوفي بالقاهرة سنة 599 هـ.

‌3 - القاسِمُ بْنُ عَسَاكِر:

هو القاسمُ بنُ عَلِيِّ بْنِ الحسن بْن هِبَةِ الله، الحافِظُ المُسْنِد، بهاءُ الدِّين، أبو محمَّد بنُ الحافِظِ الكبيرِ ثقة الدِّين أبي القاسم بْنِ عَسَاكِر، وُلدَ في جُمَادَى الأولَى سنة

(1)

انظر ترجمته في: ابن خلِّكان وفيات الأعيان 4/ 71، والذهبي طبقات القراء 2/ 457، والسبكي طبقات الشافعية الكبرى 4/ 296، وابن الجزري: غاية النهاية 2/ 20.

ص: 17

527 هـ، وكان محدِّثًا حَسَن المعرفَة، شديد الوَرَع، ومع ذلك كان كثير المُزاحِ، صنَّف كتاب "المستقصى في فضائِلِ المَسْجِدِ الأقْصى"، وكتاب "الجهاد"، وتولَّى مشيخة دار الحديث النورية بعْد والده، فلم يتناولْ من معلومها شيئًا، بل كان يرْصُدُه للواردين من الطَّلَبة حتى قيل: لم يَشْرَبْ من مائِها ولا توضَّأ.

قال الذهبيُّ: كتب الكثير، وصنَّف وخرَّج وعُنِيَ بالكتابة والمطالعة فبالَغَ إلى الغاية

تُوفِّيَ سنة 600 هـ بدمشق"

(1)

.

‌4 - أبُو الحَسَنِ الأبْيَارِيُّ:

وهو عليُّ بنُ إسماعيل بْنِ عليِّ بن عطيَّة الأبياريُّ، شمسُ الدِّينِ، أبو الحَسَن، وأَبْيَار - بفتح الهمزة وسكون الباء - بلدة بالغربية من محافظات مصر، جمع "بِئْر". وهو أحد أئمَّة الإسْلام المحقِّقين الفقيهُ المالكيُّ الأصوليُّ المحدِّث، رحل النَّاس إليه، وكان ذا دعوةٍ مجابةٍ، بَرَعَ فِي عُلُومٍ شتَّى: الفقه، والأصُّول، والكَلام، وكان بعض الأئمَّة يفضِّله على الإمامِ فخر الدِّين في الأصُولِ، تفقَّه بأبي الطَّاهِرِ بْنِ عَوْفٍ، والقاضي عبد الرحمن بْن سلامة، ودرس بالإسكندرية، وانتفع به الناس.

وُلدَ سنة 557 هـ، وتُوُفِّي سنة 618 هـ

(2)

.

‌5 - أَبُو الجُودِ:

وهو الحسنُ بنُ عليِّ بْنِ عبْدِ الله أَبُو الجُودِ الأنطاكيُّ يُعْرفُ بـ "ابْنِ الزِّف" مكسورة، وبالفاء، شيخ لأبي عليٍّ الرُّهَاوِيِّ ذُكِرَ أَنَّه قرأَ عليْهِ عن قراءته على أبي بكرٍ محمَّدِ بْنِ هارون التَّمَّارِ صاحبِ رويس، وذكر الحافظُ أبو العلاءِ أنَّه قرأ أيضًا على أبي بكرٍ أحمدَ بْنِ كاملٍ عن التمار، وعلى الحُسَيْنِ بْنِ عليٍّ الملقَبِ بـ "كرداب" صاحِبِ الغرائب عن رويس

(3)

.

وقد تتلْمَذ ابنُ الحاجب على شيوخٍ كثيرينَ مثْل أبي الحُسَيْن بْن جيد، وأبي الحَسَنِ

(1)

انظر ترجمته في: ابن قاضي شهبة: طبقات الشافعية 2/ 34، وطبقات الشافعية للسبكي 5/ 148؛ والبداية والنهاية 13/ 38، وشذرات الذهب 4/ 347، والأعلام 6/ 12.

(2)

ينظر ترجمته في: حسن المحاضرة 1/ 454، والديباج المذهب 2/ 121، وشجرة النور الزكية 213 "والفتح المبين" 2/ 53.

(3)

ينظر ترجمته في: غاية النهاية 1/ 224.

ص: 18

الشَّاذليِّ، وأبِي عبْدِ اللَّهِ محمَّدِ بنِ أحمد بْنِ حامِدٍ الأرتاحيّ، وغيرِهِمْ ممَّا لا يتَّسع له المقام، بل سنذكرهم على آخرهم في تحقيقنا على المختصر.

‌تَلامِذَتُهُ:

‌1 - شِهَابُ الدِّينِ القرافِيُّ:

وهو أحمد بن إدريس بْنِ عَبْدِ الرحمنِ بنِ عبْدِ اللهِ بن بكِّين، الصنهاجيُّ البغشيميّ، البهنسيُّ المصريُّ المالكيُّ شهابُ الدِّين، وكنيته "أبو العباس"، أخذ عن الشيخ عزّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ الشَّافعي والفاكهانيِّ والبقوريِّ، وكان وحيدَ دَهْره ومزيدَ عَصْره، حافظًا منوهًا، بارعًا في الأصُول والتفْسِير والحديث والعُلُوم العقْليَّة، وعلم الكلام والنَّحْو. تخرَّج عليه جمْعٌ من الفضلاء، وله مصنَّفات عديدةٌ مشهورةٌ، منها:"نفائس الأصُول"، وقد حقَّقْناه بِحمد اللّه، وكتاب "التَّنْقِيح" وشرحه، و"الذَّخيرة"، وبها اشتُهر، و"الاسْتِغْناء في الاسْتِثْناء"، وغير ذلك.

تُوُفِّيَ بمصر القديمة سنة 684 هـ

(1)

.

‌2 - ابْنُ المُنير:

وهو أحمدُ بْنُ محمَّدِ بْنِ مَنْصورِ بْنِ أبِي القَاسِم بْنِ مخْتَارِ بْن أَبِي بَكْر بْنِ عليٍّ، أبُو العبَّاسِ ناصرُ الدِّين، المعروفُ بـ "ابن المنير" الجرويُّ الجزاميُّ الإسكندريُّ، الفقيهُ المالكيُّ الأصوليُّ المتكلِمُ النظارُ المفسِّر، المحدِّثُ الراوية، الأديبُ الشَّاعِرُ الخطيب، ولد سنة 620 هـ، وسمع من أبيه ومنْ أبي بكرٍ عبدِ الوهَّاب بنِ رواح بن أسْلم الطوسيِّ، وقرأ على ابن الحاجب الفقْه والأصول، ونقل ابن فرحونَ أن العزَّ بنَ عبْد السلام قال: الدِّيارُ المصريَّة تفتَخِر برجُلَيْن في طرفيها: "ابنُ دَقِيقِ العِيدِ بـ "قُوص"، وابْنُ المنير بـ "الإسْكَنْدَرِيَّة"، ولأبي عمرو بْنِ الحاجِبِ فيه:[الوافر]

لَقَدْ سَئِمَتْ حَيَاتِي اليَوْمَ لَوْلا

مَبَاحِثُ سَاكِنِ الإِسْكَنْدَرِيَّهْ

(1)

ينظر ترجمته في: مقدمة تحقيقنا لكتاب "نَفائِس الأُصُول" للقرافِيِّ، وانظر: حسن المحاضرة 1/ 316، والديباج 1/ 236، والشجرة الزكية 188 "والفتح المبين" 2/ 89.

ص: 19

كَأَحْمَدَ سِبْطِ أَحْمَدَ حِينَ يَأْتِي

بِكُل غَرِيبَةٍ كَالْعَبْقَرِيَّهْ

تُذَكِّرُنِي مَبَاحِثُهُ زَمَانًا

وإخْوَانًا لَقِيتُهُمُ سَرِيَّه

زَمَانًا كَانَ الأَبْيَارِيُّ فِيهِ

مُدَرِّسَنَا وتَغْبِطُنَا الْبَرِيَّهْ

مَضَوْا فَكَأَنَّهُمْ إِمَّا مَنَامٌ

وإمَّا صُحْبَةٌ أَضْحَتْ عَشِيَّه

له مصنَّفاتٌ عديدةٌ قيِّمة، منْها: تفسير القرآن سماه "البَحْرَ الكَبِيرَ في نخب التَّفْسِير"، ومنها: كتابُ "الانتصاف من الكَشَّاف" وغيرهما.

تُوُفِّيَ رحمه الله بالإسكندرية سنة 683 هـ

(1)

.

‌3 - المُنْذِرِيُّ صاحب "الترغيب والترهيب":

وهو عبدُ العَظِيم بنُ عَبْدِ القويِّ بْن عبدِ الله بْنِ سلامَة بْنِ سعدِ بْنِ سَعِيدٍ، الحافِظُ زكيُّ الدِّينِ أبُو محمَّدٍ، المنذريُّ، الشاميُّ الأصْل، ثم المصريُّ المولد والوفاة. ولد سنة 581 هـ، وقرأ القراءات، وبَرَع في العربيَّة والفقْه، وسمِعَ الحديث من جماعة بـ "مَكَّة" ودمشْق وحَرَّان والرُّها والإسْكَنْدرِية، وتخرَّج في الحديثِ بالحافظِ عليِّ بْن المفضَّلِ، وخَرَّج لنَفْسِه معجمًا مفيدًا في ثمانية عشَرَ جُزءًا حديثيَّة، روى عنه الدِّمْياطيُّ وابنُ دقيقِ العيدِ، والشَّريفُ عزُّ الدِّينِ وأبُو الحَسَنِ اليونينيُّ وخلقٌ، ودرس بالجامع الظافريِّ، ثم ولي مشيخة دار الحديث الكاملية، وانقَطَعَ بها عشرين سنة يصنِّف ويفيد، ويتخرَّج به العلماء في فُنُونٍ من العلْم، وبه تخرَّجِ الدمياطيُّ وابنُ دقيق العيد وطائفةٌ. وقال الشَّريفُ عزُّ الدين:"كان عديمَ النَّظير في مَعْرِفة عِلْمِ الحَدِيث عَلَى اخْتِلاف فُنُونه، عَالِمًا بِصَحِيحه وسَقيمه، ومَعْلُوله وطرق أسَانِيده، متبحِّرًا في مَعْرِفَةِ أحْكَامِه ومَعَانِيه ومُشْكِلِه، قيِّمًا بِمعْرِفَة غرِيبهِ وإعْرَابه واخْتِلافِ ألْفاظِه، ماهِرًا في مَعْرِفَةِ رواتِه وجرحِهم وتَعْدِيلِهِم ووَفياتِهم، وموالِيدِهِم وأخْبَارِهِم، إمامًا حُجَّةً، ثَبتًا، ورعًا، متحرِّيًا فيما يقولُه، متثبّتًا فيما يَرْوِيهِ".

وقال الذهبيُّ: كان صالحًا، زاهدًا، متنسِّكًا، ولم يكنْ في زمانه أحْفَظُ منه.

(1)

ينظر ترجمته في: "الديباج المذهب" 1/ 243، وحسن المحاضرة 1/ 316، 317، وشجرة النور الزكية 1/ 188، وفوات الوفيات 1/ 72.

ص: 20

ومن تصانيفه: "مختصر مسْلِم"، و"مُختصر سنن أبي دَاوُد"، وكتاب "الترغيب والترهيب" وغير ذالك. تُوفِّي سنة 656 هـ، ودُفِنَ بسَفح المُقطَم

(1)

.

‌4 - الدِّميَاطيُّ:

هو عبدُ المؤْمِن بْنُ خلَفِ بْنِ أبي الحَسَن بْنِ شرَفِ بْنِ الخَضِرِ بْنِ مُوسَى، الحافِظُ الكبير، شرفُ الدِّين أبو محمَّدٍ، وأبو أحْمَدَ الدِّمْياطِيُّ. وُلدَ بدمياط سنة 613 هـ، وتفقه بها، وقرأ بالسَّبع على الكمال الضَّرِير، وسَمِع الكثير ورحَل، ولازَمَ المنذريَّ سنين، وتخرَّج به، ودرَّسَ لطائفة المحدِّثين بالمنْصُوريَّة، وهو أول مَنْ دَرَّسَ بِهَا لَهُم، وبالظاهريَّة، ورحل إلَيْه الطُلَّاب، وحدَّث قديمًا، وسَمِع مِنْه أبو الفَتْح الأبْيورْدِيُّ، رَوَى عنه من تلاميذه الحفَّاظُ: المِزِّيُّ، والبرزاليُّ، والذهبيّ، وابنُ سيِّدِ النَّاسِ، والسُّبْكِيُّ وغيرُهُم.

قال المِزِّيُّ: ما رأيْتُ أحْفَظَ مِنْه. وقال البرزاليُّ: وكان آخِرَ مَنْ بَقِيَ من الحفَّاظ وأهْل الحديث أصحاب الرواية العالية، والدرايةِ الوافِرَةِ. وقال الذهبيُّ في معجمه: العلَّامة، الحافظ، الحجَّة، أحدُ الأئِمَّةِ الأَعلام، وبقيَّة نُقَّاد الحديث، اشتغل بـ "دِمْيَاط"، وأتقن الفِقْه، ثم طلب الحديث سنة 636 هـ، ورحل وسَمِعَ الكَثيِر، ومعْجمه نحو ألف ومائتين وخمسين شيخًا.

وله تصانيفُ في الحديثِ والعوالي، والفِقْهِ واللُّغة وغَيْرِ ذلك، ومحاسِنُه جمَّةٌ. وقد أثنى عَلَيْه غَيْرُ واحِدٍ، وله مصنَّفاتٌ نَفِيسَةٌ منها:"السِّيرة النبويَّة"، وكتابّ في "الصلاةِ الوُسْطى"، وكتابُ "الخيل"، وغير ذلك. تُوُفِّيَ فجأةً سنة 705 هـ بالقاهرة

(2)

.

ولابنِ الحاجبِ تلامذةٌ كثيرونَ، نكْتَفِي بِذِكْرِ مَنْ تقدَّم، ولنبسط ذلك عند تحقيقنا على المختصر.

(1)

ينظر ترجمته في: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 111، وطبقات الشافعية للسبكي 5/ 108، وطبقات الشافعية للإسنوي ص 332، والنجوم الزاهرة 7/ 63.

(2)

ينظر ترجمته في: ابن قاضي شهبة: طبقات الشافعية 2/ 220، وابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات 2/ 17، والسبكي: طبقات الشافعية الكبرى 6/ 133، وابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 8/ 218، والسيوطي: حسن المحاضرة 1/ 202، وابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 6/ 12.

ص: 21

‌ثنَاءُ العُلَمَاءِ عَلَيهِ:

قال ابنُ خَلِّكَانَ: "

وبرَعَ في عُلُومه وأتْقَنَها غاية

وجَاءَني مرارًا بسبب آراء وشهادات، وسألته عن مواضع في العربيَّة مُشكلةً، فأجاب أبلغ إجابة بسُكُونٍ كثير وتثبُّتٍ تامِّ

(1)

.

قال: ومِنْ جملةِ ما سألته عن مسألة اعتراضِ الشَّرْط علَى الشَّرْط في قولهم: "إنْ أَكَلْتِ إِنْ شرَبْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ" ثُمَّ تعيُّن تقديمِ الشُّرْبِ على الأكْلِ يُسَبِّبُ وقوعَ الطَّلاقِ حتَّى لَوْ أكلَتْ ثمَّ شربَتْ لا تُطلَّق؟.

وسألته عن بيتِ أبي الطيِّب المتنبي، وهو قوله:[البسيط]

"لَقَدْ تَصبَّرْتُ حَتى لاتَ مُصْطَبرِ

فَالآنَ أُقحَمُ حَتَّى لاتَ مُقْتَحَمِ"

مَا السَّبَبُ الموجِبُ لِخَفْضِ. "مُصْطَبَرٍ" و"مُقْتَحَمِ"، و"لاتَ" لَيْسَتْ من أدوات الجر؟ فأطال الكلام فيهما، وأحسن الجَوابَ عَنْهما، ولولا التطويلُ لذكرت ما قاله .. "

(2)

.

وقال الذهبيُّ: "وكان من أذكياء العَالَم، رأْسًا في العربيَّة وعِلْم النظر، درَّس بجامع دمشْق، وبالنورية المالكيَّة، وتخرَّج به الأصحاب، وسارَتْ بمصنَّفاته الركبان، وخالَفَ النُّحاة في مسائِلَ دقيقةٍ، وأوْرَدَ عَلَيْهم إشكالات مفْحِمةً .. "

(3)

.

وقال الأدفويُّ: "وكان صحيحَ الذِّهْن، قويَّ الفَهْم، حادَّ القريحة. قال الشيخ الإمامُ أبو الفتح محمَّدُ بْنُ عليّ القُشَيْرِيُّ عنه: هذا الرَّجُلُ تيسَّرَتْ له البلاغة، فتقيأ ظلَّها الظليل، وتفجَّرتْ ينابيعُ الحِكْمَةِ، فكان خاطِرُه ببَطْن المَسِيل، قرب المرمى، فخفف الحمل الثقيل، وقامَ بوظيفةِ الإيجاز، فنَادَاهُ لسانُ الإنْصَاف، ما على المُحْسِنِين مِنْ سبيل، وكان رحمه الله مِنَ المُحْسِنِينَ الصَّالِحِينَ المُتَّقِينَ"

(4)

.

وقال ابنُ فَرْحُونَ: "قال والدي - عليُّ بْنُ فَرْحُونَ رحمه الله: قال لي الإمامُ العالِمُ

(1)

وفيات الأعيان 3/ 249، 250.

(2)

السابق نفسه 3/ 250.

(3)

سير أعلام النبلاء 23/ 265.

(4)

الطالع السعيد 188، ونقل هذا الكلام ابن فرحون في ديباجه، وعزاه لابن مهدي في معجمه. ينظر الديباج المذهب 2/ 87.

ص: 22

الفَاضِلُ العَلَّامَةُ القاضي فخرُ الدِّينِ المصريُّ: كان شيخُنا كمالُ الدِّين الزملكانيُّ يقول: "لَيْسَ للشَّافعيةِ مثْل مُختَصَرِ ابْنِ الحاجِبِ للمالكيَّة" وكفى بهذه الشَّهَادة

(1)

.

وقال ابن الجَزَرِيِّ. "الإمامُ العلَّامة الفقيهُ المالكيّ، الأصوليُّ النَّحويُّ المقرئُ

قال أبو الفَتْح عمر بن الحاجِبِ الأمينيُّ هو فقيهٌ فاضلٌ مُفتٍ مناظرّ مُبَرِّزٌ في عدَّة عُلُومٍ متبحِّرٌ مع ثقةٍ ودينٍ وورعٍ وتواضعٍ واحتمال تكلُّفٍ

"

(2)

.

وقال السُّيُوطِي. "وكانَ رُكْنًا مِنْ أَرْكانِ الدِّينِ في العِلم والعَمَلِ

"

(3)

.

‌بَيْنَ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ:

تذْكُر المصادِرُ التاريخيَّةُ أنَّ ابن الحاجِبِ كانَ عَلَى علاقَةٍ شديدةٍ بسُلْطان العلماءِ العزِّ بْنِ عبدِ السَّلامِ، فكان يحِبه حبًّا شديدًا، ويتعلَّقُ به، ويدافِعُ عنه.

قال ابنُ العِمَادِ: "قال اليافعيُّ: وبَلَغَنِي أنَّه كان محبًّا للشَّيْخِ عزِّ الدِّين بْنِ عَبْدِ السَّلامِ وأن ابنَ عَبْد السلامِ حين حُبِسَ بِسَبَبِ إنْكاره عَلَى السُّلطان دَخَل مَعَهُ الحَبْسَ موافقةً ومراعاةً، ولَعلَّ انتقَالَه إلى مصر كان بسَبَبِ انتقال الشَّيخِ ابْنِ عَبْدِ السَّلام وفيهما أنَّهما اجتمعا في الإنكار

"

(4)

.

ولكن ابنَ الجَزَرِيِّ يرَى - من قبلُ - أن السُّلْطان أخرجهما معًا من الدِّيَار الشاميَّة، قال: "ودخَلَ دمشق، فسَمِعَ من القاسم بْنِ عساكِرَ وغيره، ولزم الاشتغال حتَّى ضُرِبَ به المَثَل، وتكرَّر دخولُه دمشْقَ، وآخر ما دخلها سنة سَبع عَشْرَة وستمائة، فَاشْتَغَل ودرَّسَ بالجامعِ الأمويِّ بزاوية المالكيَّة منْه، وهي شماليّ محرابِ الحنابلة الذي يلي صَحْنَ الجامع، فأكب الفضلاءُ عَلَيْه، وانْتَفعُوا بهِ كَثِيرًا، فَلمَّا وَقَعَ بَينَهُ وَبَينَ صَاحِب دِمشْقَ الصَّالِح بْنِ أَبِي الجيش مَا وَقَع مع الشَّيْخِ عَزِّ الدِّينِ أَبِي محمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ؛ حَيْثُ أنْكَرَا عَلَيْهِ سُوءَ سِيرَتِهِ أمَرَهُمَا بأن يخرجا مِنْ بَلَده، فخَرَجَا مِنْهَا سَنَة ثَمان وثلاثين وستمائة، فدخلا القاهِرَة، وجَلَسَ الشَّيْخ أبو عمرٍو بالفاضليَّة موْضع الشاطبيِّ وقصده الطلبة

"

(5)

.

(1)

الديباج المذهب 2/ 87، 88.

(2)

غاية النهاية 1/ 509.

(3)

حسن المحاضرة 1/ 456.

(4)

شذرات الذهب 5/ 234.

(5)

غاية النهاية 1/ 508 - 509.

وينظر أيضًا: ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 155، والمقريزي 1/ 304.

ص: 23

‌آثَارُهُ:

وقد تفنَّن ابن الحاجب في تصْنِيفاتهِ فَقَدْ أقَرَّ بفضْلِهِ وعُلُوِّ قَدْرهِ كَثِيرٌ من أهْلِ العِلْم، وامْتَدَحُوا مُصنَّفاته، وأعلوْا ذِكْرَهَا، وقَدْ نَالَتْ - لأَهميتها - عناية كثير من العُلَماءِ الَّذِين جاءُوا مِنْ بَعْدِهِ، فَتَنَاوَلُوهَا بالشُّروح والتَّعالِيقِ.

قالَ ابنُ خَلِّكَانَ: "وكلُّ تصانيفه في نهاية الحُسْنِ والإفَادَة .. "

(1)

.

ونَقَلَ ابْنُ فَرْحُونَ ثناءَ تقيِّ الدِّين بْنِ دقيقِ العيدِ على أحدِ مصنَّفاتِ ابْنِ الحَاجِب فقالَ: "

ومِمَّا ذَكَرَهُ في مَدْحِ الكِتابِ أنْ قَالَ: هذَا كِتابٌ أَتَى بِعَجَبِ العُجَاب، ودَعَا قَصِيَّ الإجادَةِ، فَكَانَ المُجَاب، وراضَ عَصِيَّ المرادِ، فَأزَالَ شماسَتَه وانْجابَ، وَأبْدَى مَا حَقَّه أنْ يُبَالَغَ في اسْتِحْسَانه

"

(2)

.

وقالَ ابْنُ الجَزَرِيِّ: "قُلْتُ: ومُؤَلَّفاتُهُ تنبِئُ عَنْ فَضْله كمخْتَصَرَي الأُصُولِ والفِقْهِ، ومُقَدِّمَتَي النَّحْوِ والتَّصْرِيفِ وَلا سِيَّما "أماليه" الَّتي يَظْهَرُ مِنْهَا ما آتاه اللهُ مِنْ عِظَمِ الذِّهْن، وحسن التَّصوُّرِ، إِلَّا أَنَّه أعضل فيما ذَكَره في مخْتَصَر الأصُولِ حِينَ تَعَرَّض لِلْقِراءَات، وأتى بِما لَم يَتَقَدَّم فِيهِ غيره

"

(3)

.

وبالجُمْلة فقد قال الحافظُ الذَّهبيُّ: "

وسارَتْ بمصنَّفاته الرُّكْبان

"

(4)

.

وَأَمَّا مصنَّفاته فنذكُرُها مرتَّبةً مِن حيْثُ المادَّة العلميَّة:

(أ) مُصنَّفاتُهُ في الأُصُول:

1 -

منتهى السُّولِ والأَمَلِ، فِي عِلْمَي الأُصُولِ والجَدَل.

2 -

مختصر المنتهى.

(ب) مُصنَّفاتُهُ في الفِقْهِ:

1 -

الجامع بين الأمهات.

2 -

مختصر ابن الحاجب الفرعي.

(ج) مُصنَّفاتُهُ في التَّارِيخ:

1 -

ذيل على تاريخ دِمَشْق لابْنِ عَسَاكِر.

(1)

وفيات الأعيان 3/ 250.

(2)

الديباج المذهب 2/ 87.

(3)

غاية النهاية 1/ 509.

(4)

سير أعلام النبلاء 23/ 265.

ص: 24

2 -

معجم الشيوخ.

(د) مُصَنَّفاتُهُ في النَّحْو:

1 -

إعراب بعض آيات القرآن العظيم.

2 -

الأمالي النحوية.

3 -

الإيضاح في شرح المفصَّل.

4 -

رسالة في العشر.

5 -

شرحُ الكافية.

6 -

شرحُ كتاب سيبوَيْه.

7 -

شرح المقدِّمة الجُزُوليَّةِ.

8 -

شرح الوافية، نظْم الكَافِيَة.

9 -

القصيدةُ الموشَّحة بالأسماء المؤنَثَّة السماعيَّة.

10 -

الكافية.

11 -

المسائلُ الدِّمَشْقيَّة.

12 -

المكتفي للمبتدي شرح الإيضاح لأبي عليٍّ الفارسي.

13 -

الواقية في نَظمَ الكافِيَة.

(هـ) مصنَّفاتُهُ في التَّصرْيف:

1 -

الشافية في التَّصْرِيف.

2 -

شرح الشَّافِيةِ.

(و) مصنَّفاتُهُ في العَرُوض:

1 -

المَقْصِدُ الجَلِيل، في عِلْم الخَلِيلِ.

(ز) مصنَّفاتُهُ في الأَدَبِ:

1 -

جمالُ العَرَبِ في عِلْمِ الأَدَبِ.

(ح) مصنَّفاتُهُ فِي العَقِيدَةِ:

1 -

عقيدةُ ابْنِ الحَاجِبِ.

ص: 25

‌وَفَاتُهُ:

قال ابن خَلِّكان: "

ثم انُتْقَلَ إلَى الإسْكَندريَّة لِلإقَامَةِ بِهَا، فَلَمْ تَطُلْ مُدَّته هناك، وتُوُفيَ بِهَا ضاحِي نَهَارِ الخميس السَّادس والعشرين من شوَّال سنة ست وأربعين وستمائة، ودُفِنَ خارج باب البَحْر

(1)

بتُرْبة الشَّيْخ الصَّالحِ ابْن أبي شامَةَ .. رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى"

(1)

.

(1)

وفيات الأعيان 3/ 250.

ص: 26

‌إِضَاءَةٌ عَلَى: "القَرْنِ الثَّامِنِ الهِجْرِيِّ" الذي عاش فيه الشارح (ابنُ السُّبْكِيِّ)

‌دِيبَاجَةٌ:

مِمَّا لا شكَّ فِيه عند جميع النَّاس أن الإنْسَانَ خَلَقَهُ الله سُبْحَانَهُ مَدَنيًّا بِطَبْعه، وحبَّب إِلَيْه الأُلْفَة والجماعَةَ، فَلا يُرى أحَدٌ يَنزَوِي عن جماعة النَّاس إلَّا لِعِلَّة شدِيدَة دَفَعَتْهُ إلَى إتيانِ غَيْر مَا جَبَلَ اللهُ عَلَيْه بَنِي آدَم.

بَلَ إنَّهُ - سُبْحَانَهُ - جَعَلَ النَّاسَ طبَقَاتٍ متعددةً، وكلُّها لا تَخْلُو عن صفة التأثير والتأثُّر، فهذه سمةُ الحياةِ:"طبيبٌ، ومريضٌ"، "حطَّاب ونجَّار"، "بَائِعٌ ومشترٍ"، إلخ

إن كلَّ حيٍّ في الوجود يتأثَّرُ بالجو الذي يستنشقُ مِنْه هواءه، وبالبيئة الَّتى يَنْمُو بين أحْضَانِهَا، فإن البيئة تؤثِّر في النَّفْسِ الإنسانيَّةِ تأثيرًا بالغًا، دونَهُ تأثيرُ أيِّ مؤثِّر آخَر.

وَعَلَيْه، فإنَّ العَصْر الَّذِي يَحْيَى فِيهِ عَالِمٌ من العلماء لا شَكَّ أن لَهُ تأثيرًا فعَّالًا عَلَيْه، إلَّا أن التأثير يختلفُ من شخْصٍ لآخَر.

"وهكَذَا، فَإنَّه لَم يخرجْ عن أحكام البيئاتِ الضالَّة - إلَّا الأنبياءُ والرُّسُل - عليهم الصَّلاة والسلام - وكذلك المصلِحُون والمجدِّدون، الذين ثارُوا على ما توارثه عصْرُهم من عاداتٍ وتقاليد لَيْسَتْ من الحقِّ في شيءٍ

(1)

.

ثمَّ إنَّ معرفة أخبارِ أهْلِ العِلْمِ، والاطلاع عَلَى أحْوالِ نَشْأتهمْ وظُروفِ بِيئتِهِمْ، اعتبره

(1)

د. محمد يوسف موسى في كتابه: "ابن تيمية" ص 7.

ص: 27

كثيرٌ من العلماءِ مِنَ الأُمُورِ المُستَحبَّة؛ لما فيه من المعاني المستخْرَجَة من الأحداثِ الَّتي تمرُّ بهم.

قال العلَّامة السخَاويُّ في "الإعْلان بالتَّوْبِيخ": "ويُنْتَفَع به - يَعْنِي التَّاريخ - فِي الاطِّلاع على أخبار العلماءِ والزهَّاد والفُضَلاء والخُلَفاء والمُلُوك والأُمَراء والنُّبَلاء، وسيرهم ومآثِرِهم في حَرْبهم وسِلْمهم، وما أبقى الدَّهْرُ من فضائلهم أو رذائِلِهم، بَعْد أن أبادهم الحَدَثانِ، وأبْلى جديدَهم المَلَوانِ"

(1)

.

وَللهِ دَرُّ القَائِلِ: [الطويل]

إِذَا عَلِمَ الإنْسَانُ أَخْبَارَ مَنْ مَضَى

تَوَهَّمْتَهُ قَدْ عَاشَ مِنْ أَوَّلِ الدَّهْرِ

وَتَحْسَبُهُ قَدْ عَاشَ آخِرَ عُمْرِهِ

إِذَا كَانَ قَدْ أَبْقَى الجَمِيلَ مِنَ الذِّكْرِ

فَقَدْ عَاشَ كُلَّ الدَّهْرِ مَنْ كَانَ عَالِمًا

حَلِيمًا كَرِيمًا فَاغْتَنِمْ أَطْوَلَ العُمْرِ

وحيث إنَّنا نتحدَّث عن الإمام تاج الدِّين السُّبْكيِّ، فَلَنْ نفهم تكْوينَه الفكريَّ، ونستجلي مدَاخِلَ شخصيته، ما لم نتعرَّض - بإطْنَابٍ - لدراسة أحوال عصْره الذي نَشَأ فيه.

ودراسَتُنا هذه تُوجِبُ عَلَيْنَا أن نُلْقِي الضَّوْء عَلَى:

1 -

الحالة السياسيَّة، وما حوته من أحباب جِسَامٍ.

2 -

الحالةُ الاجتماعيَّة، بمختلف مكوناتها.

3 -

الحالةُ الاقتصاديّة، من شتى مظاهرها.

4 -

الحالةُ الثقافيَّة، بكلِّ جَنَبَاتِهَا الفكريَّة والعلميَّة.

وقبْل الدُّخول في شيءٍ من وصْف الحالات الأَرْبَع، يحْسُن بنا أنْ نحدِّدَ العصر الذي عاش فيه "تاج الدين السبكيُّ"، والمعلومُ أن التاج قد عاشَ منْ سنة 727 - 771 هـ.

ويَعْنِي هذا أن شَيْخَنَا قَدْ وُلدَ وَنَشَأَ ثُمَّ مَاتَ فِي عَصْرِ السَّلاطين المَماليكِ، وإنْ شِئْنَا التحديدَ قلْنا: في عصر المماليكِ البَحْريَّة، والذين امتدَّت مدَّةُ حكمهم من سنةِ 648 - 784 هـ

(2)

.

(1)

ص 85.

(2)

ينظر: خطط المقريزي 3/ 98، الخطط التوفيقية 1/ 79، 109 - 110.

ص: 28

‌الحَالَةُ السِّيَاسِيَّةُ فِي عَصْرِ سَلاطِينِ المَمَالِيكِ:

تَحْكِي كُتُبُ التَّاريخِ أن سلطان المَماليك قَامَ عَلَى أنقاضِ دَوْلَة بَنِي أيُّوبَ فِي مصْرَ المحْرُوسَةِ، وذلك عقِبَ مقتَلِ السُّلطانِ توران شاه ابن أيوبَ بْنِ محمد بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ أيُّوبَ، المَلِكِ المعظَّمِ، سَيْفِ الدِّينِ، أَبِي الفَتْحِ بْنِ الصَّالحِ بْنِ الكَامِلْ بْنِ العَادِلِ.

وكان السلطانُ توران شاه قدْ تسلْطَن بـ "دِمَشْق" في يوم السَّبت، مستهلَّ شوال سنة سَبْع وأربعين وستمائة، وجلَس على تخْتِ المُلْكِ بَعْد قدومِهِ - بـ "الْمَنْصُورةِ" قريب ثغر دمياط - لتِسْعٍ بَقينَ مِنْ ذِي القِعْدَةِ من السنة المذكورة.

وماتَ قتيلًا في يَوْم الجُمُعة سادِسَ محرَّمٍ سنة ثمانٍ وأربعين وستمائة

(1)

. وبموته انْقَضَتِ الدولةُ الأيُّوبية الكُرْدِيَّةُ.

وأيًّا ما يكونُ سبَبُ قتْلهِ، فإنَّ المصادر التاريخيَّة تحْكِي أن أمراء المماليك أجْمَعوا على تولية شَجَرةِ الدُّرِّ أرملة نَجْمِ الدِّينِ أيُّوبَ والدِ توران شاه - مقاليد السَّلْطَنة.

ولَمْ تَطُلْ مدَّةُ "شجرة الدُّرِّ" في السلْطنة، فإنَّها خلَعَتْ نفْسَها - بعد ظهور كراهية النَّاس، لأنْ تتولَّاهم امرأةٌ -، فكانتْ مدَّتُها ثمانين يومًا.

ثمَّ اعتلى عرش السَّلْطنة بعدها أيبكُ التركمانيّ، الصالحيُّ التركيّ، المَلِكُ المعزُّ: عزُّ الدِّينِ أبُو العزَّ - صاحبُ المعزِّيَّة

(2)

بـ "مِصْرَ".

وكان أيبكُ أوَّل ذَكَرٍ تَسَلْطَنَ بـ "مِصْرَ" ممَّن مسَّه الرقّ، وهو مملوكُ الملِكِ الصَّالِحِ نَجْمِ الدِّينِ أيُّوبَ.

وقد نزلتْ له شجرةُ الدِّرِّ عن المُلْك، وتزوَّج بها، ومات قتيلًا بيَدِها مع جواريها في لَيْلَة الأربعاءِ، رابعَ عشَرَ ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وستمائة

(3)

، وكانت مدَّتُه سبْع

(1)

المقريزي 1/ 359، وابن خلكان: وفيات الأعيان 5/ 89، وفوات الوفيات 1/ 187، والصفدي: الوافي بالوفيات 10/ 446.

(2)

المدرسة المعزية: عمرها "عز الدين أيبك" - برحبة الحناء بمدينة مصر مما هدمه من قلعة الروضة.

ينظر: المقريزي: الخطط 2/ 184.

(3)

ابن شاهين الملطي: نزهة الأساطين ص 69.

ص: 29

سنين، وقيل: تنْقصُ ثلاثة وثلاثين يومًا

(1)

(2)

.

ثمَّ تولَّى بَعْده ابنُه عليٌّ، المَلِكُ المَنْصُور، أبو الفَتْح، تَسَلْطَن بَعْد موت أبيه بيَومٍ، ثمَّ خُلِعَ بَعْد سنتين وثمانيةِ شُهُور وثلاثة أيَّام

(3)

، وذلك سنة سبع وخمسين وستمائة.

ثم تولَّى أمْرَ السلْطَنَة الملِكُ المُظفَّر، سيْفُ الدِّينِ أبو الفتْحِ، قُطُز، وذلك في ذي القَعْدة من سنة سبع وخمْسِين وستمائة.

وهو الَّذي قام بنُصْرَة الإسْلام، لَمَّا جاءَ التَّتَارُ إلى مَمْلَكَة المُسْلِمِين، مع هولاكو مَلكهمْ بجَيْشٍ عظيمٍ، وكان له اليَدُ البيضاءُ في دَحْرِهم ورَد كيدِهِمْ.

وخيْرُ مَنْ صوَّر هذا البلاء العظيمَ العلَّامة ابن الأَثيرِ الجَزَرِيُّ في سِفْره الجليلِ المعروفِ بـ "الكامل" حيث قال:

"لَقَد بُلِيَ الإسْلامُ والمُسْلِمُون في هذه المدَّة بمصائبَ لَمْ يُبْتَلَ بِهَا أحدٌ من الأمم؛ مِنْها هؤلاء التَّتَرُ، فمنْهم من أقبلوا من الشَّرْق، ففَعَلوا الأفعال التي يستعظمها كلُّ مَنْ سَمِع بها، ومِنْها خروجُ الفرنج - لَعَنَهُم الله - مِن المغْرِبِ إلى الشَّام وقَصْدُهُم ديارَ مصْرَ، وامتلاكُهُم ثغْرَها - أي دمياط - وأشرفَتْ ديار مصر وغَيْرها على أن يَمْلِكُوها - لولا لُطْفُ اللَّهِ - ومِنْها أن السَّيْف بينهم مسلولٌ، والفتنة قائمةٌ".

لقد زحَفَ التَّتارُ على كل ما قابلهم من بِلاد الشَّرْق متَّجهِين نحو الغَرْب حَيْث الخلافةُ الإسلاميَّة، وكان ابتداؤهم بتَدمِير بلادِ الدَّوْلة الخُوارَزميَّة، على يد رأْسِهِمُ الأكْبَر جنكيز خان الَّذِي أحل بالبلاد الإسلامية كوارث فادحةً.

روى المؤرِّخ ابنُ الأثيرِ حادثةً دالَّةً على مبْلَغِ ما نزل بالنَّاس من الرعْب والانْهيارِ أمام

(1)

ابن دقماق: الجوهر الثمين 2/ 56، المقريزي: الخطط 2/ 238.

(2)

وأشير هنا إلى أبيك كان قد أشرك معه في الملك الأشرف موسى بن يوسف بن يوسف بن محمد بن أبي بكر بن أيوب قطعًا لألسنة الناس لكونه من البيت الأيوبي، لكن أيبك خلعه، وسجنه حتى مات بعد ذلك. ينظر في ذلك: المقريزي: الخطط 2/ 237، السيوطي: حسن المحاضرة 2/ 38، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7/ 55.

(3)

ينظر: ابن دقماق: الجوهو الثمين 2/ 58، المقريزي: السلوك 1/ 417، ابن إياس: بدائع الزهور 1/ 302.

ص: 30

الجُيُوش التَّتريَّة، وهي أن المغوليَّ يدخل القرية من القُرى وبها جمع كثير من الناس، فلا يزالُ يقتلُهم واحدًا بعْد واحدٍ، ولا يتجاسرُ أحدٌ أنْ يمدَّ يده إلى ذلك الفَارِسِ

(1)

، .. "وإنَّ إنسانًا مِنْهم أخَذَ رَجُلًا، ولمْ يكُنْ مع التتريِّ ما يقتله به، فقال له: ضعْ رأْسَكَ عَلَى الأَرْضِ ولا تَبْرَحْ، فوضَع رأْسَه على الأرْض، ومضى التتريُّ فأحْضَرَ سَيْفًا وقَتَله به"

(2)

.

لقد أضْمَرَ هولاكو الدَّمَارَ لِبِلاد الإسْلام، "فعزَمَ على السَّيْر نحو الشَّام، فزحَفَ شمالًا، وأعمل السَّيْف في سكانِ المَوْصلِ وحَرَّانَ والرُّهَا، ثمَّ أرْسَل هولاكو إلى ملوك الأيُّوبيِّين بالشامِ يتوعَّدهم ويهدِّدهم بالفناء التَّامِّ إذَا هُمْ لم يمهِّدوا لزحْفِهِ بالإسْرع إلى طاعتِهِ، وانتشر الذُّعْرُ بالبلاد الشاميَّة والمصريَّة كذلك. وجاء هولاكو، فاسْتَولى على حلب، ثم دمشق وغيرهما من البلاد الشاميَّة الواقعة بينهما، وبعث إلى السُّلْطان قُطُز سفارةً تحْمِل الوعيد والتَّهْدِيد، وتَطْلُب الطَّاعة المُطْلَقَة، وأجابَ قُطُز الخُوَارِزْمِيُ الأصْلِ، إجابةً غَيْرَ منتظرةٍ؛ إذْ قتَلَ السُّفَرَاءَ المغُولَ انتقامًا يائسًا لما أحْدثَه جنكيز خان بالدَّوْلَة الخُوَارِزْمِيَّةِ .. "

(3)

.

وتتوالَى الأحداث، فينادي السُّلطانُ قُطُز بالقتالِ، ويَرْفع راية الجِهَاد في سَبِيل اللّه، فيجيبه خلائق، ثمَّ أرْسَل طلائِعَه من القاهرة بقيادة الأمير بيبرس البندقداريِّ الذي يزْحَف - بِدَوْره - إلى قرْب غَزَّة، فيصدُّ طلائع المَغُول، ثم لَحق قُطُز بطلائعه السابِقَة، وتفاوَضَ مع الصليبيين الذين كانوا قد احْتَلُّوا أماكن منَ الشَّام، وذلِكَ لِيَسْمَحُوا له باختراق الأراضي

(1)

ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فما يحدث الآن في "البُوسنة والهَرْسَك" ما هو إلا أثَرٌ جِدُّ شبيهٍ بما كان منَ المَغُول والصليبيِّين، فقد تحالف أعداء الأمْسِ، على هدمِ الإسلامِ؛ فالتاريخُ يعيدُ نَفْسَه، وْ {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ، وقادة الغرب يصيحون: دمِّروا الإسلام، أبيدوا أهله، وقد تحقَّق قوله صلى الله عليه وسلم: "تَداعى عليكم الأُممُ كما تداعى الأكلَةُ على قصْعَتِها

الحديث" نعم: أصبحنا في ذيل الأمم، فدم المسلم أنجس من دم بُرْغوث، وعرضُهُ أهونُ من عِرْض الحيوان، فكم من مستغيثةٍ ولا معْتصِم:

وآلمني وآلَمَ كُلَّ حُرٍّ

سُؤالُ الدَّهْرِ أينَ المُسْلِمُونا

وقد أصبح جليًّا عند كل من له أدنى نظرٍ أن العالم يكيلُ بمكيالين، خاصَّة بعد ظهور ما يسمَّى بـ "النظام العالميِّ الجديد"؟! فهل يَعِي المُسْلِمُون الدرْسَ؟! أم نظل نصرُخُ: واإسلاماه!

(2)

الكامل: (10/ 399).

(3)

د. إبراهيم أحمد العدوي: تاريخ العالم الإسلامي ص 223، ط. جامعة القاهرة 1986.

ص: 31

السَاحِليَّة، حتَّى يَبْغَتَ المَغُول، وقد نَجَحَتْ مفاوضاته برغمْ ميْل بَعْض الصليبيين إلى محالَفَة المَغُول.

وقد وَصَل قُطُز إلى "بيسان"

(1)

في سُهُولة وسُرْعَة.

ثمَّ كانَتْ "عَيْنُ جالُوت"

(2)

، وذلِكَ في يَوْم الجُمُعة الخامس والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة

(3)

، وفيها أعز اللهُ الإسلام، ونَصَرَ المُسْلِمِين بعد أن دارَتْ رحَى الحَرْب، وكان قُطُز يصيح صَيْحَتَه الَّتي كتَبَها لَهُ التَاريخُ:"واإسْلاماه"، ويدْعُو ربَّه:"يأ الله! انصر عَبْدك قُطُز علَى التَّتَار"، فأنَالَهُ اللهُ النَّصْر، وقَطَعَ دابِرَ القَوْم الَّذِين ظلمُوا، والحمدُ للّه رب العالمِينَ.

وبذلك انْكَسَرَتْ فلول التَّتَار، واندحَرَتْ هجماتُهم بَعْدَ أن أذاقُوا البِلادَ الإسْلاميَّة الرُّعْبَ والخَوْفَ، فجاءتهم الزلْزَلَة، وهزَمَهم اللهُ بَعْد أن كَانُوا لا يُغْلَبُون.

وفي نشْوَةِ هذا النَّصْر العَظِيمِ قُتِلَ السُّلطانُ قُطُز، وأقام بيبرس نَفْسَه مكانه، قال ابن شاهين الملطيُّ

(4)

: " .. ومات قتيلًا بَعْد عَوْدِه، اغتيل قَبْل دخُوله القاهِرَة" وأما بيبرس البندقداريُّ، الملكُ الظَّاهرُ ركنُ الدِّين، أبو الفَتْح فـ "كان ملكًا شهمًا جليلًا

تَسَلْطَن في يَوْمِ قَتْلِ المظفر قُطُز سنة ثمان وخمسين وستمائة، ومات في يوم الخميس سابعَ عَشَر محرَّم سنة ست وسبعين وستمائة، فكانَتْ مدَّته ثمان عشرة سنةً تزيدُ يَسيرًا"

(5)

.

ولأنَّ الظَّاهر بيبرس كانَ أحَسَّ أن النَّاس حانِقُون عَلَيْه بِسَبَب ما أُشِيع من قَتْلِه المَلِك المظفَّر قُطُز، فقد أراد أن يُزِيلَ عَنْه هذهِ السُّبَّه، فعمد إلى الخلافة العباسية، فأعادَهَا إلى الوُجُود سنة 659 هـ، بَعْد أنْ أزاحَها المَغُول بإسْقَاطهم إيَّاها في بَغْداد سنة 656 هـ.

قال ابن إياس: "

ولو لم يكنْ من أفعاله الحَسَنة سِوَى ردِّ الخِلافة لبَنِي العبَّاس

(1)

مدينة بالأردن بالغور الشامي. ينظر: مراصد الاطلاع 1/ 241.

(2)

هي بلدة لطيفة بين نابلس وبيسان من أعمال فلسطين، إليها انتهى عسكر المغول، فلقيهم بها البندقداري فكسرهم، وكان ذلك انتهاء فتوحهم. ينظر: مراصد الاطلاع 2/ 977.

(3)

ابن دقماق: الجوهر الثمين 2/ 60 - 63، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7/ 78 - 80، ابن إياس: بدائع الزهور 1/ 306.

(4)

نزهة الأساطين ص 73.

(5)

المصدر السابق 76.

ص: 32

وإكْرامِهِ لَهُمْ - بَعْدما كادَتْ أن تنقَطِعَ عَنْهُمُ الخِلافَة، لَكَفَى"

(1)

.

وبالرغْم مِمَّا حلَّ بالتَّتارِ مِن هَزِيمةٍ عَلَى يَدِ قُطُز، إلَّا أنَّهُم كَانُوا عَنِيدِينَ، فَقَدْ لَمُّوا شتاتَهُمْ مرَّةً أخرى، وأعادوا غاراتهم على العالم الإسلاميِّ مراتٍ عديدةً، ولكنَّ سلاطينَ المماليكِ كانُوا لَهُم بالمِرْصَاد.

هذا، وقَدْ تعرَّض العالمُ الإسلاميُّ - إلى جانب الغَزْوِ التَّتريِّ - إلى خطَرٍ لا يقلُّ ضراوةً عن خطر المغول، وهو ما عُرِف بالحملات الصَّليبيَّة، والَّتي راحَ ضحيَّتها كثيرٌ جدًّا مِن الأَرْواح، حيثُ استمَرَّت قرنَيْن كامِلَيْن من الزَّمانِ من 490 - 690 هـ، وحَيْثُ إِنَّ الفَتْرة الَّتي عاشَها التَّاجُ السبكيُّ من 771 هـ - 827 هـ هي الَّتي تهمنا هنا، فسنقفز بَعْض الأحْداثِ كي لا يَتَسِعَ الأمْرُ عَلَيْنا، ونضيعَ بَين زوايا كُتُب التَّاريخ:

ومِنْ ثَمَّ فإنَّ فتْرَتنا هذه تحتلُّ من التَّاريخِ ما يقابِلُ جزءًا من الفترة الَّتي حَكَم فِيهَا السُّلْطانُ النَّاصر محمَّد بن قلاوُون: 684 - 741 هـ ثم يبنى لدينا ثلاثونَ عامًا أخرى نتحدَّث عن أحداثها السياسية أيضًا.

أما النَّاصرُ قلاوونُ فهو: محمَّدُ بْنُ قلاوون الملكُ الناصر، ناصِرُ الدِّينِ، أبُو المعالي بنُ المنصورِ، نَعَته ابن شاهين الملطيُّ بقوله:"صاحبُ العمائِرِ الهائِلَةِ، والآثارِ الطَّائِلَةِ، من ذلِك: القصْرُ الأبلقُ بالقلْعة، والجامعُ بها، والإيوانُ المعظَّم وغير ذلكَ من أبنيةٍ"

(2)

.

وهو السُّلطانُ التَّاسِعُ من ملوك التُّرْك المماليكِ بالدِّيار المصْرِيَّة. ولأن هذا العصر - الَّذي نتحدَّث عنه - كان يموجُ بالاضطراباتِ وكثرةِ الفِتَن، فقد رأينا صراعًا شديدًا على السُّلْطة بين أمراء المماليك.

ولا أدلَّ على ما نقولُ إلا ما حَدَثَ من سَلْطَنة النَّاصرِ محمَّدِ بْنِ قَلاوُونَ، فَقَدْ تَوَلَّى السَّلْطَنَة ثلاث مرَّاتٍ، كَانَتْ كالآتي:

‌الأولى: من سنة 693 - 694 هـ:

وقد كان الناصرُ وقتها صغيرَ السِّنِّ، فكان في التَّاسعة من عُمُره، وهذه سنٌّ لا يُسْتَطاعُ فِيها أن تتحَمَّل إدارةُ دولةٍ واسعة الأطراف؛ فَضْلًا عن أن يفضَّ النزاعاتِ والاضْطِراباتِ

(1)

بدائع الزهور: 1/ 1/ 341.

(2)

نزهة السلاطين ص 84، وينظر: ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 8/ 41، بدائع الزهور 1/ 1/ 378.

ص: 33

الثَّائِرة بَيْن مماليكه، لذلك فَقَد خُلِعَ بَعْد سنة من توليته، وأقيم مكانه السُّلْطانُ كتبغا المنصوري التركيّ، الملكُ العَادِلُ.

‌الثَّانيةُ: من سنة 698 - 708 هـ:

فقد خلع العادلُ كتبغا في سنة ستٍّ وتسعين وستمائة ثمَّ تولَّى مكانه المَنْصورُ لاجين، الَّذي نعته ابن شاهين الملطيُّ بِقَوْله: "

الملكُ المنصور، أبو الفَتْح، حسامُ الدِّين صاحبُ تجديدِ جامعِ ابنِ طولونَ، ومرتَب دثوره، فله هذه المنْقَبَة"

(1)

. ثمَّ ما لَبِثَ أن قتل لاجين، وذلِكَ سنة 698 هـ بعد أن نفي إلى "الكرك"

(2)

مدَّة أربع سنوات أو ما يقرب

(3)

.

ومن هنا كانَتْ عودَةُ النَّاصر قلاوونَ للمرَّة الثَّانية، وكانَ أهمُ ما يميز تِلْك الفَتْرة الَّتي تَسَلْطَن فيها النَّاصرُ للمرَّة الثَّانية ما وقَعَ بَيْنَهُ وبَيْن التَّتارِ مِنْ مناوشاتٍ انْتَهَتْ بِحَرْبٍ دَارَتْ في مكانٍ يُسمى بـ "سَلَمْيَةَ"

(4)

، وكانَتْ نهايتها مؤلمةً، فقد احتوى التَّتَار على عسْكَره، وكان ذلك سنة 699 هـ.

ولكنَّ النَّاصر لم يَسْتَسْلِم لِهَزِيمةِ جَيْشه أمام التَّتار، فلِذلك لَمَّا علِمَ بِزَحْف التَّتار مرَّة أخرى من جهة الشَّام وعلَى رأسهم غازانُ - أعدَّ عُدَّته وزحَف إلى الشام، فاجتمع الجيشانِ المصريُّ والشاميُّ لِقِتالِ التَّتار، ثم وقعَتِ الواقعة، بين الجيشَيْن الإسلاميِّ والتتريِّ في "مرج راهط"

(5)

، والَّتي انْتَهَت بِهَزِيمَة التَّتار بعد أن قَتَلَ المُسْلِمونُ نصْفَهم.

وبعد انْتِصار النَّاصر قلاوُونَ بَدَأ الجوُّ يَصْفُو له، إلَّا أن الأمر بدأ يتكدَّر بدخول سنة

(1)

نزهة الأساطين ص 91.

(2)

وهي قلعة حصينة جدًّا في طرف الشام من نواحي البلقاء في جبالها، بين أيْلة وبحر القُلْزُم وبيت المقدس، وهي على جبل عال. ينظر: مراصد الاطلاع 3/ 1159.

(3)

ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 8/ 115، وابن إياس: بدائع الزهور 1/ 1/ 401.

(4)

بفتحتين، وميم ساكنة، وياء مثناة من تحت خفيفة، قيل: هي قرب المؤتفكة، وأن أهل المؤتفكة لما نزل بهم العذاب سلم منهم مائة فأسرحوا إلى سَلَمية فسَكَنُوها، فسميت "سَلِمَ مِائةٌ"، ثم خفِّفت، فقيل: سَلَمْيَة، بلدة في ناحية البرِّيَّة، من أعمال حَماة، بينهما مسيرة يومين. ينظر: مراصد الاطلاع 2/ 731.

(5)

المَرْج - بالفتح ثم السكون - هي الأرض الواسعة فيها نبت كثير، ومرج راهط: ناحية من نواحي دمشق. ينظر: مراصد الاطلاع 3/ 1254.

ص: 34

707 هـ، فقد حَدثَتْ فتنةٌ عَظيمَةٌ

(1)

بين الناصر قلاوُون وبيبرس الجاشنكير والنَّائبِ سلار، وانتهت بخَلعْ قلاوون في سنة ثمان وسبعمائة، وتولَّى المظفَر بيبرس الجاشنكير الثَّاني، وذلِك بعد لُجُوء النَّاصرِ قلاوونَ إلى "الكرك" وتنارلهِ عن السَّلطَنَة.

‌الثَّالِثَةُ: من سنة 709 - 741 هـ:

ثارَ النَّاسُ على بيبرس الجاشنكير، مُطالِبينَ بالنَّاصر قلاوونَ، فكانَ لَهُم ما أرادُوا، وعادَ النَّاصرُ إلى سَلْطَنَتِه لِلْمَرَّة الثَّالِثة، ثمَّ قُبِضَ على بيبرس، فَحُمِل مُقيدًا إلى المَلِكِ النَّاصِرِ، فَسَجَنَهُ حَتَّى مات.

وقد اتَّسَمَتْ هذهِ الفَتْرَةُ الثَّالِثَةُ بِتَعلُّق النَّاس بِقَلاوُون، وتَمَسُّكِهِم به بسبب ما عانَوْه من كثرة الاضْطِرَاباتِ، على أن الملكَ النَّاصر أحْكَم قبضَتَه على زمامِ الأُمُور، وأزالَ الظُّلْم الواقِع، وبَلَغَتِ السلْطنةُ المملوكيَّة أوْجَ قوّتها في عَهْدِهِ، فكانَتْ دِرْع العالَمِ الإسْلاميِّ آنذاك.

ولم يَزلِ الملكُ النَّاصر قائِمًا على سرير مُلْكِه إلى أنْ وافته منيَّته، وذلِك سنة إحْدى وأربعين وسبعمائة، وكانَتْ مدَّته الأولى والثَّانية نَحْوًا من ثلاثٍ وأربعين سنة

(2)

.

وبِمَوْت النَّاصِر قلاوُونَ دخَلَتِ الدَّولةُ المملوكيَّة مرحلةً جديدةً على النقيض مما سبق، إذْ إن المدَّة السابقة - 648 - 741 هـ - هي الفترة الذهبية لدولة المماليك، وَأَمَّا فترة أولادِ النَّاصر قلاوُونَ وأحفاده وهي ما بين سنة 741 - 784 هـ فقد كانَتْ مضطرمة بالصراعِ على السُّلْطة، ولذلك فقد تولَّى بعد النَّاصرِ سبعةُ سلاطينَ مِنْ أبنائه، يتولَّى هذا ويُعْزَل هذا، وهكَذَا دَوَالَيْكَ.

ولقد رُزِيءَ العالمُ الإسلاميُّ - على كثرة اضطراباته وأحداثه الجسَام - بحدثٍ جللٍ، زاد من همومه وأشجانه، ألا وهو "الحملة الصليبيَّة الكبْرَى" على مدينة "الإسكندرية"، وذلك سنة 767 هـ - 1365 م، حيث قام بها ملكُ قُبْرس بُطْرُس الأوَّلُ لوزجنان بَعْد أن مهَّد لحملته تِلْك برحلة واسعةٍ يستنهِضُ فيها عزائم الأوروبيين، ويشحنهم ضد الإسلام

(1)

تنظر تفاصيل هذه الفتنة في: بدائع الزهور 1/ 1/ 420 - 421، والنجوم الزاهرة 8/ 176 وما بعدها، ود. سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكي في مصر والشام ص 117، وما بعدها.

(2)

نزهة الأساطين ص 87.

ص: 35

والمسلمين، وقد نَجَحَتْ دعوتُه في اسْتِقْطاب كثيرٍ من المُساعدات والإمْدادات البَشرية والحَرْبيَّة والمادِّيَّة، ثمَّ اجتمع كلُّ هذا الحَشْد في جزيرة "رُودِسَ"

(1)

تمهيدًا لاختيار أصْلَحَ نقْطَة يُمْكِنُهم من خلالها تَوْجِيهُ ضَرْبةٍ قاصمةٍ لبلادِ الإسْلام، ووقع اخْتيارُهُمْ على ثغر الإسكندرية، ولمَّا كانَت دَوْلَةُ المماليكِ تعانِي خَللًا واضِحًا، فقد لاءَمَتْ هذهِ الظُّروفُ هوى الصليبيِّين، فَتَمكَنوا من إنْزال قوَّاتهم على شاطئ الإسكندرية، فاحتلُّوها في يوم الجمعة العاشِر من أكتوبر من السَّنة ذاتها، وانسابَتْ قوَّاتُهم في شوارع المدينة يُحرِّقون المَساجدَ ويُخَرِّبُون الخاناتِ، ويُدمِّرُون المنازلَ، ويعتدُون على كل من صادفهم من النِّساءِ والأطْفالِ والشُيوخ، ويَنْهَبُون كل ما وصَلَت إليهِ أيْديهِمْ مِن بَضائِعَ وأمْوَالٍ

(2)

.

وهكذا قَضَى الصَّلِيبيُّون في الإسْكَنْدرية نَحْوًا مِن ثَلاثَةِ أيَّامٍ كانَتْ من أسْود الأيَّام في تاريخِ الثَّغْر، ولم يُغادِروها إلى سُفُنِهم إلَّا بَعْد أن أحَسُّوا بِقُرْب جيوشِ المَماليك الَّتي أسْرَعَتْ من القاهِرَة لإنْقَاذ الإسْكندرية، ويقالُ: إن السُّفُن الصَّليبيَّة حَمَلَت مَعَها عِنْدَ رَحِيلها خَمْسَة آلافِ أسِيرٍ "منهم المُسْلِم والمُسْلِمَةُ واليَهوديُّ واليهوديَّةُ والنصرانيُّ والنصرانيَّةُ

"

(3)

.

وبَعْد، فَمِن خِلالِ هذِه الجَوْلَة تَبيَّن لنا أن الحالة السِّياسِية لِهذهِ الفَتْرة كانَتْ غَيْر مُسْتَقِرَّة، ولَمْ يَكُن الأمْرُ في الشَّام - التبعية - أحْسَنَ حالًا مِمَّا كانَتْ تمرّ بِهِ مِصْر، فَكان لَهُ نَصِيبٌ مِن تِلْكَ الفَوْضى الَّتي عَمَّت بِلادَ الإسْلام.

ونَكْتَفِي بِهذا القَدْر مِنْ بَيان حالَةِ العَصْر السِّياسيَّة، والَّتِي صوَّرت الأحداث الَّتي أثَّرت في التَّاج السُّبْكيِّ، وتقلَّب فيها.

(1)

قال القاضي عياض: هو بضم أوله، وغيره يقول بفتحها، والدال مكسورة باتفاق، وكلهم قالوا بسين مهملة، وفي كتاب أبي داود من طريق الرَّمْليِّ: بالشين المعجمة، وهي جزيرة ببلاد الروم، تقابل الإسكندرية. ينظر: مراصد الاطلاع 2/ 640.

(2)

د. سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكي ص 138.

(3)

المصدر السابق نقلًا عن المقريزي: السلوك.

ص: 36

‌الحَالَةُ الاجْتِمَاعِيَّةُ فِي عَصْرِ سَلاطِينِ المَمَالِيكِ

مِمَّا لا شكَّ فِيهِ أن الحالةَ الاجتماعيَّة لأيِّ عَصْرٍ إنَّما هِيَ انطباعٌ وأثَرٌ للحالة السياسية لذاتِ العَصْر، من اضطِرابٍ واستقرارٍ.

وإذا أردْنا أن نصِفَ الوَضْع الاجتماعيَّ لعصْرٍ، فلن نجدَ خَيْرًا مِمَّنْ عاصَرَ أحْدَاث العَصْرِ نفْسِهِ، ومرَّتْ به اضطراباتُه وتقلُّباتُه، وهذا يَعْنِي أن وصف المقريزي

(1)

أدق من غيره، فهو أخبر بمجْتَمَعِه، وقديمًا قالوا: أهْلُ مكَّة أدْرَى بِشِعَابِهَا.

وعَلَيْه، فإنَّ المقريزيَّ قسَّم المجتمع - في ذلك العَصْرِ - إلى سَبعْ طبقاتٍ، إذ يقول في "إغاثة الأُمَّة في كشْفِ الغُمَّةِ": "اعْلَمْ - حَرَسَك الله بعَيْنه الَّتي لا تَنَام - أن النَّاسَ بإقليم مصْرَ في الجُمْلَة على سَبْعَة أقْسَام:

القسْمُ الأولُ: أهْلُ الدَّوْلَة.

والقسْمُ الثاني: أهْلُ اليَسَارِ منَ التُّجَّار، وأُولي النعْمة من ذوي الرفاهية.

والقسْمُ الثَّالثُ: الباعة، وهم متوسِّطو الحالِ من التُّجَّار، ويقالُ لهم: أصْحَابُ البَزِّ، ويُلْحَقُ بهم، أصحابُ المعايش وهُم السُّوقَة.

والقسْمُ الرَّابعُ: أهْلُ الفلح، وهم أهل الزِّراعات، والحرث وسُكَّان القرى، والرِّيف.

(1)

هو أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقى الدين المقريزيُّ: مؤرخ الديار المصرية، أصله من بعلبك، ونسبته إلى حارة المقارزة - من حارات بعلبك في أيامه - ولد ونشأ ومات بالقاهرة، ومولده سنة 766 هـ، ومن أشهر كتبه:"الخطط" و"السلوك" وغيرهما مات سنة 845 هـ. ينظر في ترجمته: الشوكاني: البدر الطالع 1/ 79، ومعجم المطبوعات 1778، والأعلام 1/ 177.

ص: 37

والقسْمُ الخامسُ: الفُقَرَاء، وهم جُلُّ الفُقَهَاء، وطُلَّاب العِلْم، والكثيرُ من أجْنَاد الحلْقَة ونحوهم.

والقسْمُ السَّادسُ: أرْبابُ الصَّنائع، والأُجراء، وأصْحاب المِهَنِ.

والقسْم السَّابعُ: ذَوُو الحاجَةِ والمَسْكَنة والسُّؤال، الَّذِين يتكفَّفُون النَّاس، ويعيشُون منهم"

(1)

.

وهذا يَعْنِي أن المجتمعَ فِي عَصْر المماليكِ كانَ مُجْتَمعًا طبقيًّا، تَخْتَلِفُ كلُّ طبقةٍ منها عن الأخرى في تركيبها ومميِّزاتها، ويمكن تقسيم هذه الطبقاتِ السَّبعْ إلى أربع طبقات فقَطْ، وهي:

‌الطبقةُ الأولى: أهلُ الحُكْم

من المماليك والأُمَراء، ومِنْهُم السَّلاطين.

الطبقةُ الثَّانيةُ: أهلُ العِلْم، وهُمْ مَنْ يُطلِقُ عليهمُ المقريزيُّ المُعَمَّمينَ".

الطبقةُ الثالثةُ: عامَّة طوائفِ الشَّعْب من: تُجَّار، وفلَّاحين، وأصْحابِ حِرَفٍ، وعَوَامّ.

الطبقةُ الرَّابعةُ: أهْلُ الذِّمَّة، ويضافُ إليهم الأقليَّاتُ الأجنبيَّة.

الطَّبقةُ الأولى: أهْلُ الحُكْم:

وهنا قد تثار مسألة هامَّة جدًّا، وهي كيف ساغ لمملوك أن يرتقي منبر الحكم، مع أنه شرط في الخليفة أن يكون حرًّا؟

ونقول: نعم قد اشترط الأئمَّة فيمن يقوم بأمر الخلافة الحرية؛ لأن الرق نقص ومهانة فالعبد مستحقر في أعين الناس لا يهاب ولا يخشى، فلا يمتثل أمره، ولا يطاع قولُه، مشغولٌ بخدمة سيده وقضاء حوائجه لا يفرغ لهذا الأمر.

ولكن:

نحن إذا تقصينا النصوص الشرعية، وإجماع الأمَّة علمنا أن الشَّريعة الإسلاميَّة اعتبرت الخلافةَ على شكلين متضادين:

أحدهما: أصلي ومطلوب.

والثاني: اضطراري.

(1)

"إغاثة الأمة" ص 72 - 75.

ص: 38

فالشكل الأصلي المطلوب هو انتخاب الأمة خليفتها بحيث تجتمع آحادها وأهل الحل والعقد والرأي والبصيرة منها، فيتباحثون ويتشاورون ثم ينتخبون الخليفة مراعين فيه شروط الخلافة الشرعية ومقاصدها الأساسية غير ناظرين إلى الوجاهة الذاتية والجنسية النسبية بل يرجحون كفاءته من أي بيت منهم كان؛ إذ الشريعة تعتبر في الانتخاب شورى الأمة لا جنسية الخليفة وعشيرته ونسبه، وقد تأسست الخلافة الراشدة على هذا الأساس الجمهوري، فانتخاب الخلفاء الأربعة كان انتخابًا شرعيًا وجمهوريًا، ولم ترع فيه الجنسية والقبيلة والعهد ألبتة، ولو روي فيه شيء من هذا لبقيت الخلافة في بيت الخليفة الأول، ولم تخرج منه إلى آخر الدهر، ولكن لم يكن شيء من ذلك.

وأما الشكل الثاني: وهو ما إذا تغلب متغلب بقوته وعصبيته، فهجم على كرسي الخلافة - وهذا عين ما حدث هنا -، ولم يترك مجالًا للانتخاب، فحينئذ ماذا يجب على الأمة إذا كان المتغلب غير أهل لها، مظالمًا وفاقدًا لشروطها؟

هل يجب عليها أن تخرج عليه وتقاتله؟ أم يجب عليها أن تطيعه وتنقاد له، وتؤدي إليه الزكاة، وتقيم وراءه الجمعة والجماعة؟

ولما كانت هذه المسألة من أهم المسائل الحيوية والأساس الاجتماعي لحياة الأمة لم تكن الشريعة لتغفل عن هذا الشكل من الخلافة، وتترك الأمة فيه بلا هداية ولا بصيرة، ولذا نجدها قد اهتمت بها أشد الاهتمام، وبينتها بيانًا وافيًا بعبارات واضحة، ونصوص صريحة.

فإذا استولى مسلم بقوته وشوكته وعصبيته على الخلافة، وتمكن فيها وقامت حكومته، وقوي أمره - وجب على الأمة أن تطيعه وتسمع له وتخضع لخلافته مثل لو كان أصابها بحق، ولا يجوز لأحد الخروج عليه، ومن يفعل ذلك يقاتله المسلمون، ويعينوا الخليفة عليه مهما كان الخارج ذا فضل وصلاح وكفاية؛ لأنه مفارق للجماعة، وخارج على السلطان".

وهذا الشكل الثاني لتولي الخلافة أو الحكم وهو - "الغلبة" - حدث لدولة المماليك، فقد قفزوا على كرسي الحكم، وذلك على أنقاض دولة بني أيوب بعد ضعفها، وخورها، ومع هذا فقد كان للمماليك مآثر يفخرون بها أمام التاريخ، يكفيهم ذبهم عن بلاد الإسلام، ودجرهم خطر المغول والصليبيين - بغض النظر عن كونهم - المماليك - عبيدًا أو أحرارًا.

نعود إلى الحديث عن وصف طبقات المجتمع المملوكي في ذلك العصر:

ص: 39

ونبدأ بطبقة "أهل الحكم":

كان الحكام أغرابًا عن البلاد وأهلها، فلم تربطهم بأبناء مصر والشام رابطة الأصل أو الدم أو الجنس، مما جعل المماليك لا يشعرون في كثير من الأحيان بروح العطف والتجاوب، لذلك فقد نظروا إلى الرعية على أنهم أقل درجة، وأجدر ألَّا يشاركوا في الحياة العسكرية، أو النيابة الحكومية.

ولما كان السلطان في الأصل مملوكًا، فقد نظر إلى بقية المماليك على أنهم إخوانه، فاهتم بهم، وحرص على تربيتهم تربية خاصة، تقوم على إعدادهم بدنيًا، وفكريًّا، فإذا اشترى السلطان عددًا منهم خصص لهم أماكن يعيشون فيها، ويتردد عليهم فقهاء يعلمونهم الدِّين الإسلامي وعلومه، فإذا شب المملوك عن الطوق، وبلغ سن البلوغ بدأ تعليمه فنون الحرب والفروسية، فإذا ما انتهت مرحلة التعليم خرج إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة الخدمة السلطانية، ثم هكذا رتبة بعد أخرى حتى يصبح أميرًا أو "سلطانًا مختصرًا" على قول القلقشندي

(1)

.

ولما كان المماليك ينظرون إلى غيرهم نظرة دونية، فلم يحدث أن تزوجوا من سكان مصر والشام، واختاروا زوجاتهم وجواريهم من بنات جنسهم اللَّائي جلبن عن طريق التجار، بل حذرت حكومة المماليك من انتقال مملوك من المماليك عن طريق البيع إلى "كاتب أو عامي" أي إلى أحد من غير طبقة المماليك، ومن خالف ذلك التحذير تعرض للأذى والعقوبة

(2)

.

ومع كل هذه العزلة، فقد رأينا بعض سلاطين المماليك يستعين ببعض المصريين، فجعل منهم أمراء مقدمين، بدلًا من المماليك، وكان ذلك في فترة حكم السلطان الناصر حسن بن محمد، واعتذر عن ذلك بقوله:"إن هؤلاء مأمونو العاقبة، وهم في طي علمي، وحيث وجهتهم إليه اتجهوا، ومتى أحببت عزلهم أمكنني ذلك بسهولة، وفيهم رفق بالرعية، ومعرفة بالأحكام"

(3)

.

(1)

د. سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكي ص 322، نقلًا عن القلقشندي: صبح الأعشى 4/ 60.

(2)

ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 9/ 92.

(3)

المصدر السابق 10/ 309 - 310.

ص: 40

ولكن سرعان ما ثار عليه بقية الأمراء المماليك فقتلوه، ولم يسمحوا لأحد بعد ذلك من المصريين بأن يتولى مناصب في الجيش.

وخلاصة الأمر أن المماليك قد وجدوا الرعاية والرفاهية من سلاطينهم، بإغداق الأموال والأرزاق، وتخصيص أشهى الأطعمة، وأفخر الملابس. إلا أن أمراء المماليك لم يقفوا موقف المتفرجين، فكانوا يدسون أنوفهم في أمر السلطنة، حتى تخلوا - في نهاية المطاف - عن كثير من صفاتهم الحربية، وانغمسوا في الفتن والمفاسد، وتمادوا في الاعتداء على الناس.

وبالجملة فقد عاش المماليك - على اختلاف طبقاتهم - عيش الرغد والنعيم، وفي قصور تجمع كل أسباب الترف، يزخرفون سقوفها بالذهب، ويهتمون بنظامها، وحسن إدارتها، على العكس من الطبقات اللاحقة التي عاش معظمها عيش الذل والهوان.

قال تاج الدِّين السبكيّ: "ومن قبائحهم ما يذهبونه من الذهب في الأطرزة العريضة والمناطق وغيرها من أنواع الزراكش التي حرمها اللّه عز وجل وزخرفة البيوت سقوفها وحيطانها بالذهب، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضيق سكة المسلمين، وأنت إذا اعتبرت ما يذهب من الذهب في هذه الأغراض الفاسدة تجده قناطير مقنطرة لا يحصيها إلا الله تعالى"

(1)

.

‌الطَّبقةُ الثَّانيةُ: أهْلُ العِلْمِ أوِ "المُعَمَّمُونَ":

كانَ لعلماءِ ذلكَ العَصْر هَيْبَةٌ عظيمةٌ، ومكانةٌ جليلةٌ، عند المماليك، ولِمَ لا، وهم أربابُ العِلْم وحُفَّاظُه، وبِهمْ عَرَفَ المماليكُ دينَ الإسْلام، وفي بَرَكتهم عَاشُوا

(2)

؛ ولذلكَ فقد احترم المماليكُ هذه الطَّبقة مِنَ النَّاس، ومِنْ جهةٍ أخرى، فقد رأينا للعلماء وقَفَاتٍ حاسمة تجاهَ سلاطين المماليكِ، حتَّى وجدنا السلطاد النَّاصرَ محمَّد بْنَ قلاوونَ يقول:"إنِّي لا أخافُ أحدًا إلا شَمْسَ الدِّينِ الحريريَّ قاضِي قضاة الحنفيَّة"

(3)

.

عَلَى أنَّ هذِه الطَّبقة - كَانَتْ محبوبةً لدَى عامَّة الشَّعْب، فَكَانُوا يَلْجَئُون إليهم لقَضَاء

(1)

ينظر: التاج السبكي: معيد النعم ومبيد النقم ص 49 - 50.

(2)

المقريزي: السلوك، نقلًا عن د. سعيد عاشور، العصر المماليكي ص 323.

(3)

رحلة ابن بطوطة 2/ 88.

ص: 41

حوائجهِمْ لدى الجهات الحاكِمة، بلْ كانَ النَّاس - لإجْلالِهِمْ لَهُم - يقدِّمُونَهم في زحام الأسْواق على أنْفُسِهم في البَيْع والشِّراء.

وقد كَانَتْ هذهِ الطَّبقةُ عَلَى طائِفَتَيْن:

طائِفَةٌ قَوِيَّةٌ لا تميلُ إلى السَّلاطين والحُكَّام، وتجاهِرُ بالحقِّ ولا تخشى في اللّه لومةَ لائِمٍ، وأخرى ترْكنُ إلى حياةِ الدَّعَةِ والمناصِبِ، والجَرْي وراءَ الثَّرَواتِ والأمْوال الطَّائلة. إلَّا أن هذا التبْجِيل والاحْتِرام لأهْل العِلْم أو "المُعَمَّمِينَ" لم يكن من كلِّ الطْبقات، بل وجدنا أمراءَ من المماليكِ يَحْقِدُون على العُلَماء، ويتعرَّضون لهم بالنَّقْد والتَّهكُّم، حتَّى بَلَغَ بِهمُ الحالُ إلى استصْدار مرْسُومٍ من السلاطين بالمُناداة في طُرُقات القاهِرَة ألا يركب مُتَعمِّمٌ فَرَسًا!!

ثمَّ مَا لَبِثَ الأمْرُ أنِ أنْجَلَى، واستَرَدَّ العُلماءُ مكانَتَهم، وَرَكِبُوا خُيُولهم

(1)

.

‌الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ: عامَّة طوائِفِ الشَّعْب (تُجَّار - فَلَّاحُون - أصْحابُ حِرَف - عوامُّ):

-‌

‌ التُّجَّارُ:

وقد كانت هذه الفئة على يسار ورغد من العيش بسبب الثروات الهائلة التي حصلوها، لذلك فقد كان السلاطين المماليك يتقربون إليهم ليمدوهم بالأموال اللازمة في وقت الشدة والحرج.

"على أن كثرة الثروة في أيدي التجار جعلتهم دائمًا مطمع سلاطين المماليك، فأكثروا من مصادرتهم بين حين وآخر، فضلًا عن إثقالهم بالرسوم الباهظة، لذلك لم يطمئن التجار في عصر المماليك على أموالهم وتجارتهم بل كانوا يدعون على أنفسهم أحيانًا: أن يغرقهم الله حتى يستريحوا مما هم فيه من الغرامات والخسارات وتحكم الظلمة فيهم"

(2)

.

-‌

‌ الفَلَّاحُونَ:

وكانت هذه الفئة مستضعفة في الأرض، تعيش عيشة الخسف والذلّ، ويثقل كاهلها المغارم والضرائب، من عرق جبينه، وتعبه المتواصل في زراعة الأرض وفلاحتها، وقد

(1)

ينظر: د. سعيد عاشور: المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص 28 وما بعدها.

(2)

المقريزي: السلوك 4/ 444 نقلًا عن د. سعيد عاشور، العصر المماليكي ص 324.

ص: 42

نعى التاج السبكي على السلطة في قسوتها مع الفلاحين، فقال:"ومن قبائح ديوان الجيش إلزامهم الفلاحين في الإقطاعات بالفلاحة، والفلاح حر لا يد لآدمي عليه، وهو أمير نفسه. وقد جرت عادة الشام بأن من نزح من دون ثلاث سنين يلزم ويعاد إلى القرية قهرًا، ويلزم بشد الفلاحة، والحال في غير الشام أشد منه فيها، وكل ذلك لا يحل اعتماده، والبلاد تعمر بدون ذلك، إنما تخرب بذلك؛ لأنهم يضيقون على الناس فيضيق الله عليهم".

ولم يقف الأمر عند ذلك، فقد تعرض الفلاحون لأذى العربان

(1)

وبطشهم، وفي كل مرة يغير العربان فيها على الفلاحين، تذهب محاصيلهم ومواشيهم وتضيع عليهم.

-‌

‌ أصْحَابُ الحِرَفِ:

عجَّ المجتمع في ذلك العصر - وخاصة المدن الكبرى - بجمهور عريض من أرباب الحرف والصناعات من الصناع والتجار والعمال والباعة، والسقائين والمكاريين، والمعدمين، أو أشباه المعدمين، وهؤلاء كانوا يعيشون حياة قاسية من العنت وشظف العيش.

-‌

‌ العَوَامُّ:

وهم سواد الناس الأعظم، وهذه الفئة ليست أحسن حالًا من سابقتها، فقد كانوا يعيشون على النقيض من عيشة المماليك ونعيمهم.

وقد لاحظ بعض الرحالة الأوروبيين الذين زاروا مصر في عصر المماليك أن القاهرة

(1)

وجدت في مصر في العصور الوسطى قبائل عديدة من العربان، وهؤلاء انتشروا في أجزاء مختلفة من البلاد، وبخاصة الشرقية والبحيرة والمنوفية والفيوم والمنيا وأسيوط، وكان هؤلاء العربان دائمًا أبدًا مصدر فتن ومتاعب للحكام والمحكومين سواء، فارتبط تاريخهم في عصر المماليك بالثوراث وحوادث النهب والسلب والاعتداء على الآمنين من أهالي القرى والمدن، حتى إن المراجع المعاصرة لا تشير إليهم دائمًا إلا تحت عنوان "فساد العربان" ينظر: د. سعيد عاشور: "العصر المماليكي ص 326".

وهناك "عربان الطاعة"، وهي طائفة من عربان الممالك الشامية، ولهم عادة بمكاتبة جليلة كآل مهنا، وآل فضل وآل مرة ونحوهم.

القلقشندي: صبح الأعشى 7/ 225، ومحمد قنديل البقلي: التعريف بمصطلحات صبح الأعشى ص 243.

ص: 43

وحدها بها عدد يتراوح بين خمسين ألف ومائة ألف بلا مأوى سوى الطرقات، وبلا ملابس سوى أسمال بالية، كذلك دهش البعض الآخر من كثرة الشحاذين بالقاهرة في ذلك العصر، وقال: إنهم أحاطوا به من كل جانب طالبين منه الإحسان.

ومع هذا القحط وشظف العيش إلا أن العوام كانوا يجدون بعض العطف من السلاطين المماليك وأمرائهم، ولكن لكثرة عددهم دفعهم الحال إلى احتراف السلب والنهب، وخاصة في أوقات الفتن والاضطرابات

(1)

.

‌الطَّبقةُ الرَّابِعَةُ: أهْلُ الذمَّة والأقليات الأجنبية:

أما أهل الذمة فهم أهل الكتاب ومن في حكمهم - من الأقليات الأجنبية - ممن يعيشون بين ظهراني المسلمين، حيث دخلوا في ذمتهم، وخضعوا لسلطان دولتهم، وقبلوا جريان أحكام الإسلام عليهم، واكتسبوا بذلك التبعية لدار الإسلام، أو ما يشبه الجنسية بلغة عصرنا.

وقد وجد في المجتمع المملوكي كثير من الجنسيات الأخرى مثل: الجركس، والمغول، والصين، والإسبان، والألمان، وغير ذلك من الجنسيات الأخرى.

وكان أهل الذمَّة يعيشون في طبقة خاصَّة مستقلة، وقد قدر عددهم في مدينة القاهرة وحدها - وقتذاك - بعشرين ألفًا، نصفهم من الأقباط، والآخر من اليهود

(2)

.

وكانوا على احتفاظ بجميع طقوسهم وطرق حياتهم، إلا أنهم ما كانوا يجدون متنفسًا في ظل دولة المماليك، مما كان يحنقهم، ويجعلهم يقومون بأعمال انتقامية. قال علي مبارك:"وفيها - سنة ثمان وتسعين وستمائة - أمر اليهود بلبس العمائم الصفر، والنصارى بلبس العمائم الزرق، والسامرية بلبس العمائم الحمر تمييزًا لهم عن المسلمين"

(3)

.

ومما دفع أهل الذمة - تحت السلطة المملوكية - إلى القيام بالثورات والفتن، ومناوءة حكم السلاطين - ما لاقاه الصليبيون في الشام من هزائم وطرد عن ديار المسلمين، فكان

(1)

ينظر فيما سبق: د. سعيد عاشور: المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص 38.

(2)

ينظر: د. سعيد عاشور: المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص 37 وما بعدها.

(3)

الخطط التوفيقية 1/ 91.

ص: 44

ذلك دافعًا للتعاطف مع أبناء دينهم والقيام بنصرتهم.

على أن المماليك لم يقبلوا هذا التحدي السافر من المسيحيين، فقرروا طردهم من كل الوظائف التي يعملون بها، وطهروا تلك الوظائف منهم، وصدر مرسوم بذلك عام 755 هـ. وسرعان ما تخمد هذه الفتن وتندحر، ويعود الأمر إلى ما كان عليه

(1)

.

وأما الأقليات الأجنبية فقد كانوا جاليات مستقلة حسب جنسياتهم، وكانوا يقيمون في فنادق تغلق مساء كل يوم ووقت صلاة الجمعة، كما ضيق المماليك عليهم في اللباس وركوب الخيل

(2)

.

‌المجتمع الشامي في عصر: سلطان المماليك:

ما كان المجتمع الشامي يختلف عن نظيره المصري في ذلك العصر، فقد كانوا مستضعفين يخضعون لنظام طبقي لا يرى أفضلية لغيره في قيادة مقاليد الأمور.

فقد كان المجتمع الشامي على طبقتين رئيسين هما: الطبقة الحاكمة، المسيطرة صاحبة النفوذ، وهم المماليك. والطبقة المحكومة، الخاضعة للسلطان، المغلوبة على أمرها، وهم أصحاب البلاد الأصليين من أهل الشام.

وأما أهل الشام الأصليون فقد انقسموا - بدورهم - إلى حضر يقطنون المدن الشامية، وبدو يرتحلون في عشائر تنتشر في بادية الشام، وكان على رأسهم "آل فضل" وهم من ربيعة، وقد امتدت منازلهم من حمص

(3)

إلى قلعة جعبر

(4)

إلى الرحبة، ويعني ذلك أنهم كانوا منتشرين على جانبي نهر الفرات بين العراق والشام

(5)

.

وقد حدث بينهم وبين المماليك خصومات بسبب مناصرة زعيمهم عيسى بن مهنا

(1)

د. علي إبراهيم حسن: دراسات في تاريخ المماليك البحرية ص 342.

(2)

يراجع في ذلك المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص 54.

(3)

حمص: بالكسر، ثم السكون، والصاد المهملة: بلد مشهور كبير، في طرفه القبلي قلعة حصينة على تل عال كبير بين دمشق وحلب. مراصد الاطلاع 1/ 425.

(4)

قلعة جَعْبَر: على الفرات بين بالس والرَّقة، قرب صفين، مراصد الاطلاع 1/ 335.

(5)

القلقشندي: صبح الأعشى 4/ 204.

ص: 45

للتتار أحيانًا، وأدى الأمر إلى أن طردهم السلطان الناصر محمد بن قلاوون، ثم عاد فعفا عنهم.

وقد كان هناك قبائل أكثر ولاءً لسلطان المماليك، منهم آل مرة في حوران، وآل علي في المرج والغوطة حول دمشق.

وقد حاول سلاطين المماليك استقطاب هذه العشائر البدوية، وضمها إلى النظام الإقطاعي، فأضفوا على زعمائهم ألقاب الإمارة، وأعطوهم إقطاعات في بلادهم، ثم ألزموهم بأمور يقومون بها منها: الولاء للدولة، وحراسة الطرق، والدروب الصحراوية وتقديم الرجال وقت الحرب

(1)

.

لقد كان الشام بوتقة كبيرة، ضمت عناصر كثيرة مختلفة، فقد وجد إضافة إلى الشراذم العديدة من: الأكراد والأرمن والتركمان - عصبيات أخرى عديدة، بعضها مذهبي، والآخر ديني، وكان لها دور مؤثر في الأحداث التي شهدتها بلاد الشام.

‌وأهم هذه العصبيات:

1 -

الكسروانيون وهم من أهل جبال كسروان: وكانوا من النصيرية والعلويين والمتأولّة

(2)

، وقد كان هؤلاء على عداء مع المماليك، ويحكى أن هؤلاء ناصروا الصليبيين بالشام أثناء حصار السلطان المنصور قلاوون لمدينة طرابلس سنة 1279 م. مما أغضب قلاوون، فزحف المماليك عليهم فأدبوهم وكسروا شوكتهم. وتوالت النزاعات تباعًا بين هؤلاء الكسروانيين وسلاطين المماليك، حتى أدى ذلك إلى هلاكهم، فقد روى المقريزي أن الناصر قلاوون أقطع "جبال كسروان بعد فتحها" لبعض أمراء المماليك، فذهبوا إليها، "فزرعها لهم الجبلية، ورفعت أيدي الرافضة عنها"

(3)

.

2 -

التنوخيون: وهم بطون كثيرة قد اعتنقت مذهب "الدرزية"، وقد تفرقوا في بهات متفرقة من لبنان، وهم كالكسروانيين تأرجح ولاؤهم بين المسلمين والصليبيين، ومن أشهر عشائرهم جماعة "البحتريين" الذين غضب عليهم بيبرس، فحبس بعض زعمائهم زمانًا ثم أطلقهم.

(1)

ينظر: د. سعيد عاشور: العصر المماليكي ص 215.

(2)

محمد كرد علي: خطط الشام 2/ 126.

(3)

المقريزي: السلوك 2/ 160.

ص: 46

وما زال بيبرس يتحسس أخبارهم حتى أرسل إليهم حملة قوية اجتاحت بلادهم، ثم ما زال معهم السلطان الناصر قلاوون يعاقبهم ويضطهدهم إلى أن عاد ولاؤهم إلى المماليك.

وقد كان هناك فريق آخر من التنوخيين، وهم الأرسلانيون، وكانوا بالقرب من بيروت، وكانوا على ولاء لدولة المماليك.

3 -

بنو معن: وكان ظهورهم في القرن الثاني عشر الميلادي، حين ندبهم أمراء السلاجقة لقتال الصليبيين على الساحل السوري، وقد أعطوا إقليم الشوف، وقد تحالفوا مع الشهابيين والتنوخيين.

4 -

الشهابيون الدروز: وكانوا يقيمون بوادي "التيم"، وشاركوا في قتال الصليبيين والتتار.

5 -

المتأولة: من غلاة الشيعة، وكانوا يقطنون شمال لبنان، وتنافسوا هم والشهابيون الدروز حول الزعامة على لبنان. أما موقفهم من المماليك، فقد تعرضوا لاضطهاد بسبب شذوذهم المذهبي.

6 -

النصيرية أو العلويون: وقد عاشوا في شبه عزلة في الشمال من جبل لبنان.

7 -

الإسماعيلية: وهم الباطنية أيضًا، وكان لهم قلاع عديدة، وقد قاموا بدور مشهور في تاريخ بلاد الشام، وقت عصر الحروب الصليبية، فلم يتورعوا عن اغتيال كثير من الشخصيات الإسلامية والصليبية على حد سواء. وموقفهم من المماليك ظاهر العداء، فلم يرض المماليك عن هذه الفرقة بسبب شذوذهم المذهبي من ناحية. لذلك فرض السلطان الظاهر بيبرس ضرائب باهظة على الهدايا التي اعتاد أن يبعث بها الصليبيون إلى شيخ الباطنية .. ثم بدأ بيبرس في استقطاع قلاع الإسماعيلية قلعة بعد أخرى حتى استولى عليها جميعًا، وعندئذ انتهى أمرهم ببلاد الشام، وأقطعهم السلطان بدلًا من قلاعهم الشامية بعض الجهات في مصر ليعيشوا فيها

(1)

.

كان هذا وصفًا للحالة الاجتماعية لعصر السلاطين المماليك، في مصر والشام، واتضح مما تقدم مدى الاضطرابات والمعاناة التي كان المجتمع يقاسيها، في حين رأينا ما كان يعيشه السلاطين في قصورهم وأبراجهم العاجية المذهَّبة.

(1)

انظر فيما سبق: د. سعيد عاشور: العصر المماليكي في مصر والشام ص 213 وما بعدها.

ص: 47

‌الْحَالَةُ الاقْتِصَادِيَّةُ فِي عَصْرِ سَلاطِينِ المَمَالِيكِ

مِمَّا سَبَقَ يَتَّضِحُ للعَيَانِ أنَّ الحالَة الاقْتِصادِيَّة فِي ذلك العَصْر لن تكون أسْعَد حالًا مِنْ سَابقَتَيْها، بَلْ إنَّ النشاط الاقتصاديَّ ليتأثر تأثرًا واضحًا بما يَحْدُثُ مِنِ اضطراباتٍ سياسيَّةٍ وتقلُّباتٍ داخليَّةٍ.

لقد كان عامَّة الشعبَيْن المصريِّ والشاميِّ يعيشُون فَقْرًا وشَظَفًا من العَيْش، ولقد تسبَّب في ذلكَ عدَّة عوامِلَ منها:

‌1 - طبقيَّة المُجْتَمَعِ:

فقد عَلِمْنا آنِفًا أنَّ المجتمع انْقَسَم إلى شرائحَ عدَّةٍ، فطبقَةُ السَّلاطين والأمراء المماليكِ تَنْعَمُ بالرفاهِيةِ، وبقيَّة الشعْبِ ينال الفُتَاتَ الَّتي لا تَكْفِيه، ولا تسد رمَقَه.

‌2 - انْتِشَارُ المَجَاعَاتِ والأَمْرَاضِ الفَتَّاكَة:

فقد انتشرتْ مجاعاتٌ وجَدْبٌ شديدانِ، وسَبَبُ ذلك انحباسُ الأمطار عَنْ أرض الشام، وذهابُ مياه نَهْر النيل، ثم ما كان يَحْدُثُ من سَلْبٍ ونَهْبٍ تسَّببَ عن كثرة أعدادِ المُعْدمِين وأشْبَاههم كما قدَّمنا.

وقد تَتَابَعَتْ نوباتُ القَحْطِ والمجاعاتِ في مصْرَ والشَّام، وأرض الجزيرة، روى المقريزيُّ في أحداث سنة 695 هـ أن مجماعةً شديدةً أكَلَ النَّاسُ بسببها المَيْتَة منَ المَوَاشِي والكِلاب، وكَثُرَ مَوْت النَّاس، وصاروا يَدْفِنُون المَوْتَى دُون غُسْلٍ ولا كَفَنٍ، قال: ولم يقتصر الأمْرُ على مصْرَ، بلْ شمِلَ الشَّام أيْضًا؛ إذ دخل الشتاء، ولم يقع المطَر، فأجدبتِ

ص: 48

الأرض، وجفَّ العُشْب، وارتفعت الأثمان، كما شملتْ هذه المجاعةُ بلادَ الحِجَازِ أيضًا

(1)

.

بل يحكي ابنُ كَثيرٍ عن مجاعة عام 718 هـ، أن النَّاسَ باعُوا أولادَهُمْ وأهْلِيهِمْ

(2)

. وفي سنة 749 هـ حصَل طاعونٌ عامٌّ وفناءٌ عظيمٌ عمَّ ديار مصْر وغَيْرها، وقيل: "إنه لم يَسْبقْ مثلُه، فخرَّب أكثر البلادِ ومصْر والقاهرة، وتعطَّل الزَّرْع بسَبَب مَوْت الفلَّاحِين، ولم يَكُن المَوْتُ قاصرًا عَلى الآدَميين، بل شمل الطَّاعُونُ أيضًا الجِمَال والخيْلَ والحَمِيرَ والوُحُوشَ والطُّيور، وحصَلَ الغلاءُ

"

(3)

.

‌3 - الزَّلازِلُ:

قال علي باشا مبارَك: "ومِنْ أهمِّ ما وقع بها زلْزَلَةٌ هائلةٌ، ابتدأتْ في شهر ذي الحجَّة سنة اثنتين وسبعمائة، وأقامَتْ تعاود النَّاسَ مدَّة عشرين يومًا، فهدمتْ بالإسكندرية المَنارَ، وكثيرًا من الأبْراجِ والأسْوَارِ، وفاضَ ماءُ البَحْرِ حَتَّى غرَّقَ البساتينَ، وهُدِمَتْ بالقاهرةِ عدَّةُ مدارسَ وجوامعَ ومساجِدَ، وتشقَّق الجبل المقطَّم، وسقطتِ الدُّورُ على النَّاسِ، ومات كثيرٌ من أهْلها تَحْت الرَّدْم، وخافَ النَّاس، وخَرَجُوا إلى الصَّحراء، واتَّصلَتْ هذه الزلزلةُ بأغْلَب بلادِ الشَّام"

(4)

.

وقد أعْقَبَ هذا الزلزالَ ريحٌ سوداءُ تلْفَح الوُجُوه، وظنَّ النَّاسُ أن السَّاعة قد اقتربَتْ، وأنْشَدَ بَعْضُهم:[السريع]

زُلْزِلَتِ الأَرْض، فَخَافَ الوَرَى

وابْتَهَلُوا إلَى العَزِيزِ الحَكِيمْ

فَلْيَذْكُرُوا مَعْ خَوْفِهِمْ قَوْلَهُ:

زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمْ

(5)

وبَعْد، فقد كانتِ الحالَةُ الاقتصاديَّة مزعزعةً مضطربةً، عانَى النَّاسُ من ويْلاتِ الفَقْر والجوعِ حتَّى قال المقريزيُّ:"وأدركتُ أنا والنَّاسُ من أهل ثغْر الإسكندرية، وهُمْ يجْعلُون في مقابلة الخضرة والبُقُول، ونحو ذلك كِسَر الخُبْزِ لِشراء ما يُرَاد مِنْه، ولم يَزَلْ ذلك إلى نحو السبعين وسبعمائة .. "

(6)

.

(1)

المقريزي: السلوك 1/ 2/ 306.

(2)

البداية والنهاية 14/ 76.

(3)

الخطط التوفيقية 1/ 102.

(4)

السابق 1/ 91.

(5)

ابن إياس: بدائع الزهور 1/ 1/ 417.

(6)

المقريزي: إغاثة الأمة ص 47، وما بعدها.

ص: 49

‌الْحَالَةُ الثَّقَافِيَّةُ فِي عَصْرِ سَلاطِين المَمَالِيكِ

"أُمُّ العَالَمِ، وإيوانُ الإسْلام، ويُنْبُوع العِلْم" كلمةٌ تاريخيَّة قالها العلَّامة المغربيُّ عبد الرحمن بنُ عليٍّ بن خَلْدُونَ في مقدمته الشهيرة

(1)

.

نعم لقد احتلَّتْ مصر مكانةً علميةً بارزةً جعلَتْها منارة الأُمَّة الإسلاميَّة، ومرْكَزَها الثقافيَّ، وذلك بَعْد ضياعِ بُحُور العِلْم، وقتلهم على يد المَغُول في وقعة بغداد الشهيرة سنة 656 هـ.

ويحكي ابن الأَثِير، ومنْ بَعْده السُّيُوطيُّ أن التَّتار قضَوْا علَى فقهاء الإسْلام، عند دعوتهم إلى حُضُور عَقْد زَواجِ ابْنةِ هُولاكو، قال: وصار كذلك تخْرُج طائفة بعد طائفة، فتُضْرَب أعناقُهم حتَّى قتل جميع مَنْ هناك من العلماء والأُمَرَاء والحُجَّاب والكِبَار"

(2)

.

وقد كان من الأسْبَاب الَّيي عَمِلَتْ عَلَى رفْع الحالَة الثقافيَّة في الدِّيارِ المصريَّة، ما عرف من رحلة العُلماء إلَيْها فارِّين من بطْش المغول وتخْرِيبهِم، فقد غدَتْ مصر:"محَلَّ سكَنِ العلماء ومَحَطَّ رِحَالِ الفُضَلاء".

وما كان لهذا النَّشاط الثقافي أن يزدَهِرَ في العَصْر المملوكيَّ، لولا ما وُجدَ منْ تشجيعٍ وترحيبٍ من بَعْض سلاطينِ المماليكِ للعِلْم والعُلَماء، فقد كان الظاهرُ بيبرس:"يميل إلى التاريخِ وأهْلِه مَيْلًا زَائِدًا، ويقول: سَمَاعُ التاريخِ أعْظَمُ من التَّجَارِب"

(3)

.

(1)

ص 545.

(2)

السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 377.

(3)

ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7/ 182.

ص: 50

وكان لاِنْتِشَارِ العِلْم في هذا العَصْر وإِقبالِ السَّلاطين ومَنْ دُونَهم عَلَيْه وعَلَى أهْله ملامحُ ومعالم، مِنْهَا:

‌المَدَارِسُ والمَكْتَباتُ:

إِنَّ أولَ ظُهُورٍ للمدارسِ كانَ في آخِرِ القَرْن الرَّابع الهجريِّ، حيث يتبرع بعض من أوتوا يسارًا وثروة ثم حُبًّا لِلْعِلْم وأهْلِه - ببناء مدْرَسةٍ تدرس فيها أحكامُ الدِّينِ وشرائِعُه، وعُلُوم اللُّغة وغيرها.

وقد حاز تاريخُ بني أيُّوب عَلَى نصيبٍ وافرٍ من إِنشاء المَدَارِس، واشْتُهِر عن صلاح الدِّين أنَّه أكْثَر من إِقامةِ المدارِسِ بِمصْر والشَّام، ووضع لها نظمًا ثابتةً مقرَّرة، وكان يحْضُر بَعْضَ الدُّروس، بل إِنَّه كان يتَّجه إِلى الاسْتِماع إِلى الحَدِيثِ ما اتَّسَع لَهُ الوَقْتُ فِي ذلكَ.

وجاءَ بَعْد ذلكَ المماليك، فسارُوا على سنَّة الأيُّوبيِّين وحبَسُوا الأحباسَ عَلَيْها، وأظلُّوها برعايتهم

(1)

.

وقد كان لكلِّ عِلْمٍ أحيانًا مدرسةٌ، فمدرسةٌ للحديثِ وأخْرى للفِقْه، وهكذا.

ومِنْ أهم المدارس الَّتِي أُنْشِئَتْ في زَمَنِ المماليك:

‌1 - المدرسَةُ الظَّاهِرِيَّةُ:

وتُنْسَب إِلى مَنْ وَضَعَ أساسَها وبنَاها، وهو الظاهرُ بيبرس البندقداريُّ، وقد ابتدأ فيها سنة 660 هـ، وتم بناؤُها في سنة 662 هـ، وجعَل بيبرسُ لا يَسْتَعْمِل فيها أحدًا بغير أُجْرَة، ولا يَنْقُص من أجرته شيئًا، وضمَّ إِليها خزانةً تشتمل على أمهات الكتب في سائر العُلُوم، وبنى بجانبها مَكْتَبًا لتَعْلِيم أيْتَامِ المُسْلِمِين، وأجْرَى لهم الجراياتِ والكُسْوَةَ

(2)

.

وقد رتَّب فيها لتدريس الشَّافعيَّة: تقيَّ بن رزينٍ الحمويَّ، وهو قاضي القضاة محمد بن الحسين بن رزين، العامريُّ، الحمويُّ، ولد بحماة سنة 603 هـ، وكان عالمًا بارعًا في التَّفْسِير والفِقْهِ، مشاركًا في عُلُومِ كثيرةٍ، رحَل إِلى مصْر، فدرَسَ بالظاهرية،

(1)

أبو زهرة: "ابن تيمية" ص 158.

(2)

خطط المقريزي 3/ 340 - 342، الخطط التوفيقية 6/ 22، النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس 1/ 263.

ص: 51

وتولَّى القضاءَ، وكان عالم الشَّافعية آنذاك، تُوُفِّيَ بـ "مصر" سنة 680 هـ ودفن بالقرافة

(1)

.

كما رتب لتدريس مذْهَب الأحْنَاف: مجْدَ الدِّينِ عبْد الرحْمنِ بْنَ الكمالِ عمَرَ بْنِ العديمِ الجعليَّ، ولد بالشام سنة 613 هـ، وعلا كعْبُه في مذهب الأحناف، وكان عارفًا بالأدب، ولي قضاء الشام، وقد انتهت إِلَيْه رئاسةُ الحنفيَّة بـ "مصر" والشَّام. وتُوفِّيَ بظاهر دمشق سنة 677 هـ

(2)

وأقام لتدريس الحَدِيثِ: الحافِظَ شَرَفَ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيَّ: وهو الإِمامُ العلَّامة الحافظ المتقن، عَلَمُ الحديث في عَصْرِه: شرَفُ الدِّين أبُو محمَّد عبدُ المُؤْمِنِ بْنُ خلَفِ الشَّافعيّ، ولد سنة 613 هـ، طلب العِلْم، وتفقَّه، وبَرَع في الحديث، قال المِزِّيُّ: ما رأيت في الحديث أحْفَظَ منه، وكانَ بَارِعًا في الفِقْه. مات فجأة سنة 705 هـ

(3)

.

‌2 - المَدْرَسَةُ النَّاصِرِيَّة:

وقد أنشأها المَلكُ العادل، ولما عاد الملكُ النَّاصرُ محمَّد بنُ قلاوُونَ إِلى السَّلْطنة سنة 698 هـ أمر بإِتمامها، فعرفت به

(4)

.

‌3 - مدرسةُ السُّلْطانِ النَّاصرِ حَسَنِ بْنِ النَّاصرِ محمَّدِ بْنِ قلاوُونَ:

وقد شرع في بنائها سنة 758 هـ، وقد حكى عَنْها المقريزيُّ أنه: لا يُعْرَفُ ببلادِ الإِسْلامِ مَعْبَدٌ من معابدِ المُسْلِمِين يَحْكِي هذه المدرسة في كِبَرِ قَالبِها وحُسْنِ هنْدامِها، وضخامة شَكْلِها"

(5)

. وقد قامَتِ العمارةُ فيها ثلاثَ سِنِين لا تتوقَّف يومًا. وقد عُرِفَتْ بجامعِ النَّاصِرِ حَسَنٍ، ويقال: إِنَّه أكبر من إِيوانِ كسْرَى بخَمْسَة أذْرُع، وبها أربع مدَارِسَ للمذاهِب الأرْبَعَة

(6)

.

(1)

السيوطي: حسن المحاضرة 1/ 417 - 418، وابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 7/ 353.

(2)

حسن المحاضرة 1/ 466، النجوم الزاهرة 7/ 281 - 282.

(3)

حسن المحاضرة 1/ 357، النجوم الزاهرة 8/ 218 - 219.

(4)

علي باشا مبارك: الخطط التوفيقية 6/ 42.

(5)

المقريزي: الخطط 3/ 231، وما بعدها.

(6)

حسن المحاضرة 2/ 269، والنجوم الزاهرة 9/ 123، وبدائع الزهور 1/ 1/ 561.

ص: 52

وقد كانَ هناك مدارسُ أخْرى انتشرتْ في أنحاء البلادِ، حتَّى قال القلقشنديُّ:"ابتنى أكابرُ الأمراءِ وغيرهم من المدارِسِ ما ملأ الأخطاط وشحَنَها"

(1)

، منها المدرسةُ البرقوقيَّة، ومدرسةُ سرياقُوس، والمدرسةُ المحمُودية، وهذه الأخيرةُ قال عنها المقريزيُّ:"مِنْ أحْسَنِ مدارِس مصْرَ"

(2)

.

وأختم بالحديثِ عن المدْرَسَة الحجَازيَّة: وقد أنشأتْها الستُّ خوندتتر الحجازية بنْت المَلِك النَّاصرِ محمَّدِ بنِ قلاوُون، وزَوْجَة بكتمر الحجازيِّ، وإِلَيْه نُسِبَتْ. وكان إِنشاؤها سنة إِحدى وستِّين وسبعمائة

(3)

.

وقد ذكر المقريزيُّ: "أن صاحبتها جعلَتْ بها درسًا للشافعيَّة والمالكيَّة، ومنبرًا لخطبة الجمعة والعيدين، وإِمامًا للصَّلواتِ الخَمْس، وخزانة كتبٍ، وجعلَتْ بها مكتبًا فوق السبِيلِ فيه عدَّة من الأَيْتَام، ورَتَّبَتْ لهم مؤدِّبًا يعلِّمهم القرآن الكَرِيمَ .. "

(4)

. وقد أجرتْ عليهم أرزاقَهُم من كلِّ يوم، وكان لا يلي نَظَر هذه المدرسة إِلا الأُمَرَاء، ثم وليها الخُدَّام وغيرهم

ومع ذلك، فهِيَ من أبْهَج مدارس القاهِرة

(5)

. وقد رتَّبَتْ فيها شَيْخَ الإِسْلام البلقينيَّ مدرِّسًا بها للفقه الشافعيِّ: وهو سراج الدِّين أبو حفص عمرُ بنُ رسلانَ بْنِ نصرِ بْنِ صالح الكنانيُّ، العسْقلانيُّ الأصلِ، ثمَّ البُلْقِينيُّ المصريُّ الشافعيُّ: مجتهدٌ حافظٌ للحديثِ، ولدَ في بُلْقِينَة بمحافظة الغَرْبية سنة 724 هـ، وطلب العلم حتَّى بَلَغ فِيهِ الغايَة، ثمَّ ولِيَ قضاء الشَّام سنة 769 هـ، وقد صنَّف المصنَّفاتِ المُفِيدَة، في الفِقْه كـ"التَّدريب" في فِقْه الشَّافعيَّة، و"محاسِنِ الاصْطِلاح" في الحديث، وغير ذلك، تُوُفِّيَ سنة 805 هـ

(6)

.

وقد جَرَت العادةُ عِنْدَ الفَراغِ مِنْ إِنْشَاء مدرسةٍ من المدارس في عَصْر المماليك أن يُحْتَفَل بافْتِتَاحِها احتفالًا كبيرًا يحضرُه كبارُ رجالِ الدَّوْلة والفُقَهاءُ والأعيانُ والقُضاة، ويكونُ فيه ألوان الأطعمةِ والفَوَاكِه والحَلْوى.

قال المقريزيُّ في حديثه عن المدرسة الظاهِرِيَّة: "

وبَعْد تمامِها جلَسَ أهْلُ

(1)

صبح الأعشى 3/ 364.

(2)

الخطط: 2/ 395.

(3)

الخطط التوفيقية 6/ 12.

(4)

خطط المقريزي 3/ 347 وما بعدها.

(5)

السابق.

(6)

حسن المحاضرة 1/ 329، خطط المقريزي 3/ 347، والزركلي: الأعلام 5/ 46.

ص: 53

الدروسِ مِنْ كلِّ طائفة في إِيوان، ثمَّ مُدَّتِ الأسمطَة، فأكَلُوا، وأُنْشِدَتْ بَعْضُ قَصَائِدَ، ثمَّ أفيضت عليهم الخِلَع، وكان يومًا مشْهُودًا"

(1)

.

وقد جرتِ العادةُ على تَعْيين مُعِيدٍ أو أكثر لكلِّ مدرِّس يُدرِّس في تِلْك المَدَارِس؛ وذلك ليعيدِ للطلبة ما ألْقَاهُ عليهم المدرِّس ليفهموه ويُحْسِنُوه، كما يَشْرَح لهم ما يحتاج إِلى الشرح

(2)

.

وقد ينوب المُعيدُون عن المدرِّسين في التدريس إِذا خَلَتِ المدرسةُ من الآخرين، فقد حكَى السُّيوطيُّ - في حديثه عن المدرسة الصَّلاحِيَّة

(3)

-: "أنها خلتْ مِنْ مدرِّس ثلاثينَ سنةً، واكتُفِيَ فيها بالمُعِيدِينَ"

(4)

.

وأمَّا الطَّلبة فقد تمتَّعوا بحرية اختيارِ الموادِّ الَّتِي يدرسُونها بحيث لا يمنع فقيهٌ أو مستفيدٌ من الطلبة ما يختاره من أنواع العلوم الشرعيَّة

فإِذا أتمَّ الطالبُ دراستَه وتأهَّل للفُتيا والتَّدْرِيسِ أجاز له شيخُه ذلك، وكَتَب له إِجازةً يُذْكَر فيها اسْمُ الطالبِ وشَيْخهِ ومَذْهَبه، وتاريخ الإِجازة وغير ذلك، ولا شكَّ في أن قيمة هذه الإِجازة كانَت تتوقَّف على سُمْعَة الشَّيْخِ الَّذي صَدَرَتْ عنه ومكانَتِه العِلْمِيَّةِ

(5)

.

ومهما يَكُنْ، فقد كان إِنشاءُ المدارسِ سَبَبًا في كثْرة التأْليف، وكَثْرَة التَّحْصيل، واطِّلاع طالب العِلْمِ والشادِي فيه على عدَّةٍ من فُرُوع العِلْم، فقد صار طالبُ العِلْم يجدُ في المدْرَسَة علومَ العَقْل وعلوم النَّقْل، كَعُلُومِ الفِقْه والحَدِيثِ والتَّفْسِيرِ واللُّغَة، فينهل منها جميعًا، ويتثقَّف بها ثقافةَ عامَّةً، ثم يخصِّصه اتجاهُه ونزعتُه في أحَدِهِما فينظر فيه

(6)

.

وأما المكتبات، فَلَمْ تَكُن العنايةُ بها أقلَّ من العناية بالمدَارِس والجَوَامِع في عصر المماليك، فَكَانَتْ مُنْتَشِرَةً تَحوى أمهاتِ الكُتُب، مثل ما حدث من إِنشاء خزانة للكُتُب الجليلة القَدْر، وجعلوها في قَلْعة الجبل. وكذلك حرَصَ السُّلْطانُ المَنْصُور قلاوُون عَلَى أن يُزَوِّد مكتبةَ المَدْرَسَة المنصورية بالكثير من "كتب التَّفْسير والحَدِيث والفقْه واللُّغَة والطِّبِّ

(1)

خطط المقريزي 3/ 340.

(2)

د. سعيد عاشور: العصر المماليكي ص 344.

(3)

انظر أخبارها عند: النعيمي: الدارس في أخبار المدارس 1/ 250.

(4)

حسن المحاضرة 2/ 257.

(5)

العصر المماليكي ص 344.

(6)

أبو زهرة: ابن تيمية ص 157.

ص: 54

والأدَبيَّاتِ ودواوين الشعر، وكذلك المدرسة النَّاصِرِيَّة الَّتي أقامَهَا السُّلطانُ النَّاصِر مُحمَّد؛ إِذْ أنشأ بها خزانة كُتُب جليلةٍ"

(1)

.

ولَمْ تَكُن المدارِسُ العلميَّة، ومكتباتُها هِيَ المَظْهَر الوحيدَ لازْدِهَار الحَالَة الثَّقافِيَّة فِي عَصْرِ سَلاطِين المماليكِ، فقد وُجِدَ - إِلى جانب ذلك - المكاتبُ الَّتِي يُعلَّم فيها الناشئة وأيتامُ المسِلِمينَ كتابَ الله تعالى، مع الإِنفاقِ عَلَيْهِم ورعايَتِهِمْ.

ويُضَاف إِلى ما سَبق انتشارُ التصوُّف في عَصْر سلاطين المَمَاليك، ويعلِّل الباحثون هذه الظَّاهرة بِكَثْرة مَنْ وفَدَ عَلَى مصْر فِي ذلكَ العَصْر مِن مشَايخِ الصُّوفيَّةِ المَغارِبَةِ والأندلسيِّين، وقد قامَتْ حياةُ الصوفيَّة في الأصْل على أساسِ التقشُّف في المَلْبَس والمأْكَل، حتَّى بالغ بعضهم في ذلِك فَلَبِسُوا المُرَقَّع من الثِّياب، وصَبروا عَلى الجُوع والعَطَش بضْعَة أيَّام.

وقد استتبع انتشارُ التَّصوُّف وكثرةُ معتنقيه في عصْر المماليك انتشارَ خَلَواتٍ يقيمون بها، أُطْلِقَ عليها خانقاواتٌ وربطٌ وزوايا، وأجرى السلاطينُ عليهم الأرزاقَ الَّتي تسهِّل لهم الحياة، وقد ذكر المقريزيُّ:"أن النَّاصِر رَكِبَ كَعَادته للصَّيْد، وبينما هُوَ في الطريقِ، إِذ انتابَهُ ألمٌ شديدٌ كاد يقْضِي عليه، فنزَل عن فَرَسِه، ولكنَّ الألم تزايَدَ عَلَيْه، فنَذَر إِن عافاه الله أن يَبْنِي في هذا المَوْضِع مكانًا يتعبَّد فيه النَّاس. ولما عاد إِلى قَلْعَة الجَبَل، وقد شفَاه الله مِنْ مرضه سار بِنَفْسِه إِلى الموضع الَّذي انتابه فيه المَرَض، وصَحِبَهُ جماعةٌ من المهندسين، واختَطَّ هذه الخانقاه في سنة 823 هـ، وجعل فيها مائة صوفيٍّ، وبنى بجانبها مسجدًا تقام فيه الجمعة، وبنى بها حَمَّامًا ومَطْبَخًا"

(2)

.

إِلا أن حياة الصوفيَّة لم تلبثْ أن تغيَّرتْ أواخرَ عَصْر المماليك، فتغيَّر وضعهم من الصَّلاح إِلى الفَسَاد، وتخلَّوْا عن النُّظُم والآدابِ الَّتي عُرِفُوا بها بَيْن النَّاسِ ممَّا أثارَ استنكار المُعَاصِرِين

(3)

.

ونتاجًا لكُلِّ ما تقدَّم، فقد ازدهرتِ الحياةُ الثقافيَّة في عَصْر المماليكِ، ورأينا جمعًا

(1)

ينظر: العصر المماليكي ص 346،

(2)

أبو زهرة: ابن تيمية ص 207.

(3)

ينظر: د. سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكي ص 353.

ص: 55

غفيرًا من المجتَهدينَ والفقهاء وأصْحاب اليَد العُلْيا في عُلُوم الشَّرْع الحنيف. أمثال:

عزُّ الدِّين بْنُ عبْدِ السَّلام، ومحيي الدِّين النوويّ، وابنُ دقيق العيدِ، والشَّرفُ الدِّمْياطِيّ، وابنُ مالكٍ، وأبُو حيَّان، وابنُ عقيلٍ النحويون، وابنُ تيميَّة وابنُ القَيِّمِ، وابنُ الرِّفْعَةِ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ سَيِّد النَّاسِ، والذهبِيّ، والمِزِّيّ، والبرزاليُّ، وتقيُّ الدِّين السُّبْكِيُّ وولَدُه، وابن رجَب الحنبليّ، والقموليُّ، والكمالُ ابن قاضي شُهْبَة، وابنُ الزملكانيِّ، والصَّفَدِيُّ، وابن خَلِّكان، والتقيُّ ابنُ الصَّائغ، والتَّاجُ المراكشيّ، وابن الوَرْدِيِّ، وابنُ اللَّبَّان، ومغلطاني، وابنُ جماعة الكنانيّ، والإِسنويُّ، وابنُ نُبَاتَة، والسَّعْدُ التَفْتَازَانِيّ، والبَدْرُ الزركشيّ، والسِّرَاجَانِ: ابنُ الملقَّن والبُلْقِينيّ، والزَّيْنُ العراقيّ، وعن المؤرخين: المقريزيُّ، وابن تَغْرِي بَرْدِي، ومن الحفَّاظ: ابن حجر العَسْقلانيُّ والسَّخاويُّ، وذِكْرُ هؤلاءِ الأئمَّةِ يطول، وتحتاج تراجمهُم إِلى مجلَّدات، فَنُحيل على كُتُب التَّراجم، الَّتي عدَّدتْ مصنَّفاتِهِمْ وآثارَهُمْ في إِثراءَ الحياة الثقافيَّة في ذلك العَصْر.

ص: 56

‌تاج الدِّين السبكيّ بين يدي أصحاب الطبقات

‌نَسَبُهُ:

هو: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علي بن سيار بن سوار بن سليم السبكي.

هذا ما أثبته المصنّف في ترجمة أبيه من طبقاته

(1)

.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ: "عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي أبو نصر تاج الدين

"

(2)

.

وقال أبو المحاسن ابن تغري بردي المتوفى سنة 874 هـ: "قاضي القضاة: تاج الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري السلمي، السبكي الشَّافعي، قاضي قضاة دمشق

"

(3)

.

وقال الحافظ السيوطي المتوفى سنة 911 هـ: "قاضي القضاة تاج الدين أبو النصر عبد الوهاب .. "

(4)

.

وقال ابن هداية الله المتوفى سنة 1014 هـ: "هو قاضي القضاة تاج الدين أبو النصر

(1)

طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 139.

(2)

الدرر الكامنة 2/ 425.

(3)

النجوم الزاهرة 11/ 108.

(4)

حسن المحاضرة 1/ 328.

ص: 57

عبد الوهاب بن علي السبكي

"

(1)

.

وقال حاجي خليفة المتوفى سنة 1067 هـ: "عبد الوهاب بن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي تاج الدين أبو النصر المصري الأديب الشَّافعي

"

(2)

.

وقال ابن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089 هـ: "قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام السبكي الشَّافعي

"

(3)

.

وقال شمس الدين بن الغزي المتوفى سنة 1167 هـ. "عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي شيخ الإِسلام العلامة قاضي القضاة تاج الدِّين أبو نصر القاهري، ثم الدمشقي الشَّافعي

"

(4)

.

وقال الشوكاني المتوفى سنة 1250: "عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافى بن علي بن تمام السبكي تاج الدين

"

(5)

.

وقال كحالة في "معجمه": "عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري، الشَّافعي، السبكي "أبو نصر، تاج الدين"

"

(6)

.

وقال الزركلي: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافى السبكى، أبو نصر: قاضي القضاة

"

(7)

.

وفي "طبقات الأصوليين": عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام السبكي الشَّافعي، الملقب بـ "قاضي القضاة" تاج الدين، المكنى بـ "أبي نصر"

(8)

.

(1)

طبقات الشافعية ص 234.

(2)

كشف الظنون 5/ 639.

(3)

شذرات الذهب 6/ 221.

(4)

ديوان الإِسلام 3/ 45.

(5)

البدر الطالع 1/ 410.

(6)

معجم المؤلفين 6/ 225.

(7)

الأعلام 4/ 184.

(8)

عبد الله مصطفى المراغي: طبقات الأصوليين 2/ 191.

ص: 58

‌نسبة التاج السبكي:

نسب التاج السبكي في بعض مصادر ترجمته إِلى "الأنصار"، وكذا إِلى "سبك"، فأما النسبة الأولى، فقد تكلم هو عنها في ترجمته لجده عبد الكافي السبكي، فقال رحمه الله: "نقلت من خط الجد رحمه الله نسبتنا معاشر السبكية إِلى الأنصار رضي الله عنهم وقد رأيت الحافظ النسابة شرف الدين الدمياطي

(1)

رحمه الله يكتب بخطه للشيخ الإِمام الوالد رحمه الله: "الأنصاري الخزرجي

".

قال: "

وقد كانت الشعراء يمدحونه - يعني والده -، ولا يخلون قصائده من ذكر نسبته إِلى الأنصار، وهو لا ينكر ذلك عليهم، وكان رحمه الله أورع وأتقى من أن يسكت على ما يعرفه باطلًا. وقد قرأ عليه شاعر العصر ابن نباتة

(2)

- غالب قصائده الَّتي امتدحه بها، وفيها نسبه إِلى الأنصار والشيخ الإِمام يُقِرُّهُ"

(3)

.

إِلا أنه وضح أن أباه ما كان يوقع بعد اسمه بـ "الأنصاري"، وما ذلك إِلا شدة ورع منه، ووفور عقل، حيث الجزم بهذه النسبة يتطلب متابعتها عبر القرون، وهو ما لا يتوفر هنا لبُعد الشُّقة، واندراس القرون

قال رحمه الله: "

ولم يكتب الشيخ الإِمام رحمه الله بخطه لنفسه: "الأنصاري" قط وإِن كان شيخنا الدمياطي يكتبها له، وإِنما كان يترك الشيخ الإِمام كتابة ذلك لوفور عقله ومزيد ورعه، فلا يطرق نحوه طعن من المنكرين، ولا أن يكتبها مع احتمال عدم الصحة خشية أن يكون قد دعا نفسه إِلى قوم وليس منهم .. "

(4)

.

وأما نسبته إِلى "سبك" فقد قال السيوطي في "لب اللباب": "بالضم والسكون إِلى سُبْك قرية بـ "مصر"

"

(5)

.

(1)

هو الإِمام الحافظ الحجة، شيخ الإِسلام شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الشَّافعي، ولد سنة 613 هـ، وتفقه، وبرع في الحديث، وجمع فأوعى، قال عنه المزي: ما رأيت في الحديث أحفظ منه، وكان بارعًا في الفقه، توفي سنة 705 هـ.

(2)

هو محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن صالح بن علي بن نباتة المصري. ولد سنة 686 هـ، وهو أديب شاعر مشهور. له من التصانيف:"سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون" و"شعار اللبيب"، "والزهر المنثور"، وغير ذلك. توفي بالقاهرة سنة 768 هـ.

(3)

طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 91 - 93.

(4)

المصدر نفسه 10/ 93.

(5)

والمصدر نفسه 2/ 9، وانظر تاج العروس 7/ 140، والبيت السبكي ص 85، وما بعدها.

ص: 59

وذكر الأستاذ محمد الصادق حسين في كتابه "البيت السبكي" فصلًا في تحقيق هذه النسبة وتحديد سببها، ويتلخص منه أن هذه النسبة إِلى بلدة "سبك" وهي من أعمال محافظة المنوفية، وهناك بقعتان تسميان بهذا الاسم:

"سبك الضحاك": وهي الَّتي يطلق عليها الآن: "سبك التلات"؛ لأن سوقها الأسبوعية يوم الثلاثاء، أو لأن بها عائلة التلاتية.

و"سبك العويضات": وهي سبك العبيد، أو سبك "الأحد"، وتعرف عند العامة بـ "سبك الحد".

وقد ذهب - في الختام - إِلى أن السبكية "أهل البيت السبكي" هم من سبك العويضات لا من المعروفة بـ "سبك الضحاك"، واستدلّ على ما ذهب إِليه بأمور:

أولًا: بما ورد في "أعيان العصر" لصلاح الدين الصَّفَدي المتوفى سنة 764 هـ، فقد ذكر عند ترجمته الشيخ تقي الدين علي بن عبد الكافي - أنه من أهل سبك العبيد؛ لأن الصفدي - وهو خليل بن عز الدين بن أيبك - كان من تلاميذ الشيخ تقي الدين، وكان كذلك على صلة وثيقة بابن الشيخ، وهو تاج الدين، وبعيد الَّا يكون على علم ببلدة شيخه".

ثانيًا: بما أورده الفيروزآبادي - محمد بن يعقوب بن محمد أبو طاهر مجد الدين - المتوفى سنة 817 هـ، في كتابه "القاموس المحيط"، في مادة "سبك"

(1)

قال: سبك الضحاك قرية بـ "مصر". وسبك العبيد: قرية أخرى بها. منها شيخنا علي بن عبد الكافي".

وما قيل في كلام "الصفدي" يقال هنا مع الفيروزآبادي.

ثالثًا: بما أورده الزبيدي - 843 هـ ذكر في مادة "سبك": سبك الضحاك: من أعمال المنوفية ومعروفة بسبك الثلاثاء. ويذكر أنه دخلها، وبات فيها ليلتين.

وسبك العبيد: قرية أخرى من أعمال المنوفية أيضًا، وقد دخلها أكثر من مرة، وتعرف أيضًا بـ "سبك الأحد"، و"سبك العويضات"، وأن منها "السبكية" أولاد تقي الدين.

ثم جزم الأستاذ محمد الصادق حسين بأن: "السبكية المشهورون في دولة المماليك من سبك العويضات ما في ذلك شك"

(2)

.

(1)

ترتيب القاموس 2/ 515.

(2)

البيت السبكي ص 91.

ص: 60

‌مولده:

تكاد تجمع كتب التراجم على أن مولد التاج السبكي كان سنة 727 هـ، قال ذلك: ابن حجر، وابن تغري بردي

(1)

، وحاجي خليفة، وابن العماد الحنبلي، والشوكاني، وكحالة، والزركلي.

وأما الذهبي، فقد ترجم له في المعجم الصغير، وذكر أن مولده كان سنة 728 هـ وذهب الزبيدي

(2)

، والسيوطي

(3)

من بعده إِلى أنه ولد سنة 729 هـ.

‌نشأته:

وقبل أن نتحدث عن نشأة ذلك الجهبذ المجتهد يحسن بنا أن نقدم بالحديث عن البيت الذي نشأ فيه، والذي يعرف بـ "البيت السبكي":

عرف البيت السبكي بالورع والعلم، فقد كان من بيوتات الفضل والصلاح، يعرف ذلك كل من قرأ كتب التاريخ والتراجم، وإِن من يرجع إِلى أصول هذا البيت الشريف، يجد أن الجد الأكبر علي بن تمام كان قاضيًا، وقد ترك فرعين له، هما يحيى بن علي بن تمام المتوفى سنة 725 هـ، في السلطنة الثَّالثة للناصر محمد بن قلاوون. وأخوه زين الدين أبو محمد عبد الكافي - جد تاج الدين، وقد كانت ولادته في سنة 659 هـ على التقريب أي في سلطنة بيبرس البندقداري.

وقد ذكر القلقشندي

(4)

، وابن حجر

(5)

أن عمر بن عبد الله بن صالح - قد ولي قضاء المالكية بالديار المصرية سنة 663 هـ، وذلك بعد أن استقر الحال في الأيام الظاهرية، حيث إِن بيبرس البندقداري جعل القضاة أربعة بدل قاض واحد من الشَّافعية.

وقد عده الزبيدي في السبكية قال: "ومن عشيرتهم قاضي القضاة شرف الدين عو بن عبد الله بن صالح السبكي المالكي

"

(6)

.

(1)

وقد فهم ذلك من ذكر وفاته سنة 771 هـ، وقوله بعد ذلك: "

عن أربع وأربعين سنة".

(2)

تاج العروس: 7/ 141.

(3)

حسن المحاضرة 1/ 328.

(4)

صبح الأعشى 4/ 35.

(5)

رفع الإِصر عن قضاة مصر.

(6)

تاج العروس: 7/ 141.

ص: 61

ونحن نختصر البيت السبكي لتفرعه، ونكتفي بذكر أسرة السبكي فقط الَّتي انحدرت من الجد الأكبر علي بن تمام، ونتبع ذلك برسم توضيحي:

1 -

صدر الدين أبو زكريا يحيى قاضي المحلة، ثم اشتغل بالتدريس في القاهرة، وتوفي سنة 725 هـ.

2 -

تقي الدين أبو الفتح محمد، ولد عام 707 هـ، واشتغل بالتدريس في القاهرة ودمشق، وتوفي سنة 744 هـ.

3 -

بهاء الدين أبو البقاء محمد، ولد سنة 708 هـ، واشتغل بالتدريس، وكان قاضيًا وحاكمًا بـ "دمشق" والقاهرة، ووكيلًا للسلطان، وخطيب المسجد الأموي بدمشق، وتوفي عام 777 هـ.

4 -

وَلِيُّ الدين أبو نصر عبد الله، ولد عام 735 هـ، واشتغل بالتدريس، وكان قاضيًا وخطيبًا وقيمًا على الشؤون المالية بدمشق، وتوفي عام 785 هـ.

5 -

بدر الدين أبو عبد الله محمد، ولد عام 741 هـ، اشتغل بالتدريس، وولي الإِفتاء والقضاء بالقاهرة ودمشق، وكان خطيبًا بالمسجد الأموي

توفي سنة 802 أو 803 هـ.

6 -

شيخ الإِسلام تقي الدين أبو الحسن، ولد عام 683 هـ، تلقى العلم بالقاهرة خاصة، واشتغل بالتدريس، وولي الإِفتاء والقضاء بالقاهرة ودمشق، وخطيبًا بالمسجد الأموي، وتوفي عام 756 هـ، وله أكثر من مائة وخمسين مصنفًا.

7 -

بهاء الدين أبو حامد أحمد، ولد سنة 719 هـ، اشتغل بالتدريس، وولي الإِفتاء والقضاء في القاهرة ودمشق وتوفي "بـ "مكة" عام 773 هـ.

8 -

جمال الدين أبو الطيب الحسين، ولد عام 722 هـ، توفي 755 هـ، وقام بالتدريس في القاهرة ودمشق، واشتغل في دمشق أيضًا نائبًا للقاضي.

9 -

تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب، ولد عام 727 أو 28، أو 29، وقام بالتدريس، واشتغل أستاذًا وقاضيًا وحاكمًا في دمشق والقاهرة، ثم غدا خطيبًا للمسجد الأموي، وقد حبس ثمانين يومًا تقريبًا

وتوفي بالطاعون سنة 771 هـ.

10 -

محمد، وقد وجه إِليه أبوه رسالة "قصيدة" كلها عنف وتعنيف

ص: 62

‌آل السبكي

ضياء الدين أبو الحسن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن حماد بن يحيى بن عثمان بن علي بن سوار بن سليم الأنصاري الخزرجي.

|

ص: 63

هذه أسرة تاج الدين السبكي، كما عرضتها دائرة المعارف الإِسلامية، ويفهم من ذلك أن آل السبكي كانوا على فضل وشرف عظيم، فهم قضاة، وخطباء، ومدرسون للعلم. ثم نضيق دائرة الحديث قليلًا، فنلقي أشعة الضوء على أسرة الشيخ تقي الدين علي بن عبد الكافي، والد التاج، عليهما رحمة الله تعالى:

‌1 - علي بن عبد الكافي: الشيخ تقي الدين:

ولد في سلطنة المنصور سيف الدين قلاوون، في سنة 683 هـ، وقد عاصر سبعة عشر سلطانًا من سلاطين المماليك البحرية، وهو إِمام من أئمة الاجتهاد، نعته الذهبي بالقاضي العلامة الفقيه المحدث، الحافظ فخر العلماء، كان صادقًا ثبتًا خيرًا، دينًا متواضعًا، حسن السمت، من أوعية العلم، يدري الفقه ويقرره، وعلم الحديث ويحرره، والأصول ويقربها، والعربية ويحققها

وقد بقي في زمانه الملحوظ إِليه بالتحقيق والفضل".

وقال ابن حجر: "وقد باشر القضاء بهمة وصرامة وعفة وديانة"

(1)

.

ولي التدريس في عديد من المدارس منها: المنصورية بمصر، وجامع الحاكم، وجامع ابن طولون، كما ولي القضاء، قال ابن العماد الحنبلي:"في سنة 739 هـ قدم العلامة شيخ الإِسلام تقي الدين السبكي على قضاء الشَّافعية بالشام وفرح الناس به"

(2)

.

وقد أعان الشيخ تقي الدين على التبحر في العلم بيئة بيته وعناية أبيه، وهو أول معلم له، فقد "كان يخرج من البيت لصلاة الصبح، فيشتغل على المشايخ إِلى أن يعود قريب الظهر فيجد أهل البيت قد عملوا له فروجًا، فيأكل ويعود إِلى الاشتغال إِلى المغرب فيأكل شيئًا حلوًا لطيفًا، ثم يشتغل بالليل، وهكذا لا يعرف غير ذلك"

(3)

.

وبلغ من عناية والده به أنه زوجه بابنة عمه، وشرط ألَّا تسأله شيئًا من أمر الدنيا، قال ولده تاج الدين: "ثم زوجه والده بابنة عمه، وعمره خمس عشرة سنة، وألزمها ألَّا تحدثه في شيء من أمر نفسها، وكذلك ألزمها والدها، وهو عمه الشيخ صدر الدين، فاستمرت معه، ووالده ووالدها يقومان بأمرهما، وهو لا يراها إِلا وقت النوم، وصحبته مدة، ثم إِن والدها بلغه أنها طالبته بشيء من أمر الدنيا، فطلبه وحلف عليه بالطلاق ليطلقها، فطلقها،

(1)

الدرر الكامنة 3/ 64.

(2)

شذرات الذهب 6/ 120.

(3)

طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 144.

ص: 64

فانظر إِلى اعتناء والده وعمه بأمره، وكان ذلك خوفًا منهما أن يشتغل باله بشيء غير العلم"

(1)

.

وقد صنف المصنفات الكثيرة، قال السيوطي:"وصنف نحو مائه وخمسين كتابًا مطولًا ومختصرًا، والمختصر منها لا بد وأن يشتمل على ما لا يوجد في غيره، من تحقيق وتحرير لقاعدة، واستنباط وتدقيق"

(2)

. ونراه لم يهدأ في أوأخر أيامه، ولم ينزل عن قضاء الشام بحكم الشيخوخة، حتى ولى ابنه تاج الدين قضاء الشام بعده. وبعد أن اطمأن على تاج الدين في منصب قاضي القضاة بالشام رجع إِلى مصر ضعيفًا، وأقام ببيته على النيل في جزيرة الفيل، ولم يعش بعد ذلك إِلا قليلًا، وتوفي رحمه الله في سنة 756 هـ

(3)

.

‌2 - أحمد بن علي بن عبد الكافي: بهاء الدين أبو حامد:

ولد سنة 719 هـ، في السلطنة الثَّالثة للناصر محمد بن قلاوون، وقد عاصر اثنا عشر سلطانًا من سلاطين المماليك، وقد تلقى العلم عن أبيه وغيره من مشايخ مصر والشام، وشهد له بالعلم والفضل، قال الذهبي:"الإِمام العلامة المدرس له فضائل وعلم جيد، وفيه أدب وتقوى، وساد وهو ابن عشرين سنة، وأسرع إِليه الشيب، وكان أديبًا فاضلًا، متعبدًا، كثير الصدقة والحج والمجاورة، سريع الدمعة، وكانت له اليد الطولى في علوم اللسان العربي والمعاني والبيان"

(4)

.

وقد سعى له أبوه في تدريس الفقه والميعاد بجامع ابن طولون، وغيره، وذلك بعد أن تولى الشيخ تقي الدين قضاء الشام. وكان مولعًا بتولي الوظائف والمناصب، حتى كان يسعى إِليها بماله الذي كان كثيرًا، وتولى منصب "إِفتاء دار العدل" سنة 752 هـ، ومن مصنفاته:"عروس الأفراح شرح تلخيص المفتاح".

(1)

المصدر السابق 10/ 145.

(2)

بغية الوعاة 2/ 177.

(3)

ينظر ترجمته مفصلة في: طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 139، وسير أعلام النبلاء 23/ 148، طبقات الإِسنوي ترجمة رقم (666)، الدرر الكامنة 3/ 63، وبغية الوعاة ترجمة رقم 1733، شذرات الذهب 6/ 180.

(4)

الدرر الكامنة: 1/ 211.

ص: 65

ومن تلامذته: الدميري صاحب "حياة الحيوان". وقد توفي بمكة سنة 773 هـ. أي بعد أخيه التاج بسنتين

(1)

.

‌3 - الحسين بن علي بن عبد الكافي: جمال الدين أبو الطيب:

ولد سنة 722 هـ في السلطنة الثَّالثة للناصر محمد بن قلاوون، وعاصر عشرة من السلاطين المماليك، تلقى العلم عن أبيه ومشايخ عصره، وقد اعتنى عناية خاصة بدراسة العروض، وذهب إِلى الشام لما عين أبوه قاضي قضاتها، وأتم دراستة وطلبه على مشايخها، ثم عاد إِلى مصر، ودرّس بالكهارية، واشتغل معيدًا بدرس القلعة عند القاضي شهاب الدين بن عقيل، ثم عاد إِلى الشام ودرس بالشامية البرانية وغيرها.

وكان مثل بقية أفراد بيته يمتاز بالذكاء وقوة الحافظة، قال الصفدي: "كان ذهنه ثاقبًا وفهمه لإِدراك المعاني مراقبًا

وكان يعرف العروض جيدًا، وينظم الشعر بل الدر، ويأتي في معانيه بالزهر، عفيف اليد في أحكامه لم يقبل رشوة من أحد أبدًا، ولم يسمع بذلك في أيامه"

(2)

، توفي سنة 755 هـ.

‌4 - سارة بنت علي بن عبد الكافي:

ولدت سنة 734 هـ في السلطنة الثَّالثة للناصر محمد بن قلاوون، وعاصرت أربعة عشر سلطانًا من المماليك البحرية، واثنين من السلاطين البرجية.

وقد سمعت وهي صغيرة على أبيها، وعلى زينب بنت الكمال، والشهاب الجزري، وأجاز لها كثير من شيوخ الشام والقاهرة، وتزوجت بقريبها محمد بن عبد البر بن يحيى بن علي بن تمام، وهو بهاء الدين أبو البقاء من كبار أفراد البيت السبكي.

وعاشت في مصر والشام، وكانت وفاتها بالقاهرة بعد مرض طويل. ذكرها ابن حجر العسقلاني في معجمه، وقال: قرأت عليها. وقد روى عنها سواه من الشيوخ. وهي في عقود المقريزي

(3)

.

(1)

ينظر ترجمته: في الدرر الكامنة 1/ 210، وشذرات الذهب 6/ 226، والبدر الطالع 1/ 81.

(2)

البيت السبكي ص 64 نقلًا عن الطبقات 6/ 88.

(3)

السخاوي: الضوء اللامع 12/ 52.

ص: 66

‌5 - محمد بن علي بن عبد الكافي: أبو بكر:

وهو أكبر أولاد الشيخ علي، لكنه مات قبل أن يكون له شأن، لم ندر من أخباره شيئًا، سوى ما جاء في الطبقات الكبرى عرضًا في ترجمة علي بن عبد الكافى من أن محمدًا هذا كان أكبر أبناء أبيه، وأن أباه خاطبه بقصيدة فيها نصح وإرشاد إِلى ما يجب عليه من العناية بالدراسة العلمية والصوفية

(1)

.

‌6 - محمد بن أحمد بن علي بن عبد الكافي: تقي الدين أبو حاتم:

ولد سنة 745 هـ في سلطنة الملك الصالح عماد الدين إِسماعيل، وعاصر ثمانية من سلاطين المماليك البحرية، وكان كما نعته تاج الدين السبكي، حبيب الشيخ الإِمام - يعني جده تقي الدين - وريحانته وأنيسه. ولد بالقاهرة، وسمع الحديث من جده وغيره، وربيَ في حجر جده بـ "دمشق"، ولما أحس الشيخ الإِمام بالضعف سفره إِمامه إِلى القاهرة، ولكن قبل أن يسفره أراد الشيخ تقي الدين أن يراه في درس يلقيه بالمدرسة العادلية الكبرى، اجتمع فيه الإِمام فمن دونه، وابتهج به الشيخ.

واستمر أبو حاتم في القاهرة، وجد في الطلب، ودرس بالسيفية والكهارية وغيرهما، ولكنه أخذ في شبابه بداء الطاعون، وذلك سنة 764 هـ

(2)

.

‌7 - محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن عبد الكافي: تقي الدين أبو حاتم:

وكانت وفاته في سلطنة عبد العزيز بن برقوق، أو فرج بن برقوق من المماليك البرجية، وذلك سنة 808 هـ، ولا يعرف تاريخ ولادته ولا عمره على التَّحقيق، وقد ولي نيابة الحكم من سنة 790 هـ إِلى أن مات

(3)

.

‌8 - ستيتة بنت علي بن عبد الكافي:

ولا نعرف من أخبارها إِلا أنها ماتت هي وابنا أخيها أحمد، وابن أخيها عبد الوهاب في سنة واحدة، وكانت وفاتهم بالطاعون

(4)

.

(1)

البيت السبكي ص 66.

(2)

ترجمته في طبقات الشَّافعية الكبرى للتاج السبكي 9/ 124.

(3)

ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي 9/ 27.

(4)

ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 6/ 242.

ص: 67

‌9 - صالحة بنت أحمد بن علي بن عبد الكافي:

أجاز لها ابن أميلة وطبقته، وأجاز لها جماعة من أصحاب أبي الفضل بن عساكر

(1)

.

‌10 - صالحة بنت عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي:

أجاز لها العز بن جماعة، وكذا أجاز لها ابن أميلة، ولقيها الزين رضوان، فاستجازها، وقال: أظن أنني قرأت عليها شيئًا

(2)

.

‌11 - علي بن عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي.

‌12 - وعبد الله بن أحمد بن علي بن عبد الكافي.

‌13 - وعبد العزيز بن أحمد بن علي بن عبد الكافي:

وثلاثتهم ماتوا مع عمتهم ستيتة في سنة واحدة

(3)

.

‌14 - فاطمة بنت محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن عبد الكافي:

زوج علي نور الدين من فرع عبد الملك بن علي بن تمام الجد الأكبر

(4)

.

وبعد فهذا نسب التاج السبكي، وهذه أسرته، وليس لدينا عن نسبه من جهة الأم سوى إِشارة إِلى أن أمه كانت من بيت علم، وذلك أن جده من قبل أمه هو: الخضر بن الحسن بن علي الوزير قاضي القضاة برهان الدين السنجاري

(5)

.

إِذًا فأسرة التاج السبكي أسرة علم، وعليه فقد نبت برعم التاج، واشتد عوده في طلب العلم، فبدأ بالقرآن فحفظه، وتعلم العربية والخط والحديث والفقه والأصول والتفسير والعروض، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة أي في سنة 739 ولي أبوه قضاء قضاة الشام، فذهب معه إِلى دمشق، وهناك رشف من رحيق علماء الشام أمثال المزي والذهبي على ما سيأتي في تفصيل "شيوخه".

قال ابن حجر العسقلاني: "وأمعن في طلب الحديث وكتب الأجزاء والطباق مع

(1)

السخاوي: الضوء اللامع 12/ 70.

(2)

السابق نفسه.

(3)

شذرات الذهب 6/ 242.

(4)

ينظر فيما سبق: "البيت السبكي" ص 50 وما بعدها.

(5)

البيت السبكي ص 15 نقلًا عن الطبقات الكبرى.

ص: 68

ملازمة الاشتغال بالفقه والأصول والعربية حتى مهر وهو شاب"

(1)

.

وقال السيوطي: "ولازم الاشتغال بالفنون على أبيه وغيره حتى مهر وهو شاب"

(2)

.

وقال ابن العماد: "واشتغل على والده وغيره، وقرأ على الحافظ المزي، ولازم الذهبي، وتخرج به، وطلب بنفسه

"

(3)

.

ومن عناية والده به أنه كان يرسل به ليسمع الحديث من المحدثين وهو حدث صغير، ومثال ذلك ما ذكره عن نفسه في الطبقات قال: "

وأخبرناه صالح بن مختار بن صالح بن أبي الفوارس الأُشْنَوِيُّ قراءة عليه وأنا أسمع في الخامسة بقبة الشَّافعي رضي الله عنه

"

(4)

.

وقال في موضع آخر: "

وأخبرنا أحمد بن علي الجزري بقراءتي عليه مرة، وقراءة عليه وأنا أسمع أخرى، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إِسماعيل بن أحمد خطيب مَرْدا حضورًا في الخامسة

"

(5)

.

وفي موضع ثالث: "أخبرنا أبو الحسن علي بن الإِمام أبي الظَّاهر إِسماعيل بن إِبراهيم بن عبد الرحمن بن قريش المخزومي، قراءة عليه وأنا حاضر أسمع في الرابعة

"

(6)

.

وكما دفع الشيخ تقي الدين ابنه في طلب العلم في هذه السن المبكرة، إِلا أنه - إِضافة إِلى هذا - اختار له مشايخه، ودعاه لملازمتهم والأخذ منهم:

وفي ترجمة الحافظ المزي قال التاج: "وكنت أنا كثير الملازمة للذهبي، أمضي إِليه في كل يوم مرتين، بكرة والعصر، وأما المزي فما كنت أمضي إِليه غير مرتين في الأسبوع، وكان سبب ذلك أن الذهبي كان كثير الملاطفة لي والمحبة فيّ، بحيث يعرف من عرف حالي معه أنه لم يكن يحب أحدًا كمحبته في، وكنت أنا شابًا، فيقع ذلك مني موقعًا عظيمًا، وأما المزي فكان رجلًا عبوسًا مهيبًا.

(1)

الدرر الكامنة 2/ 425.

(2)

حسن المحاضرة 1/ 328.

(3)

شذرات الذهب 6/ 221.

(4)

طبقات الشَّافعية الكبرى 1/ 106.

(5)

طبقات الشَّافعية الكبرى 1/ 148.

(6)

المصدر نفسه 1/ 152.

ص: 69

وكان الوالد يحب لو كان أمري على العكس، أعني يحب أن ألازم المزي أكثر من ملازمة الذهبي، لعظمة المزي عنده، وكنت إِذا جئت غالبًا من عند شيخ، يقول: هات ما استفدت، ما قرأت، ما سمعت، فأحكي له مجلسي معه، فكنت إِذا جئت من عند الذهبي، يقول: جئت من عند شيخك، وإِذا جئت من عند الشيخ نجم الدين القحفازي، يقول: جئت من جامع تِنكز؛ لأن الشيخ نجم الدين كان يشغلنا فيه، وإِذا جئت من عند الشيخ شمس الدين بن النقيب، يقول: جئت من الشامية؛ لأني كنت أقرأ عليه فيها، وإِذا جئت من عند الشيخ أبي العباس الأندرشي يقول: جئت من الجامع، لأني كنت أقرأ عليه فيه، وهكذا، وأما إِذا جئت من عند المزي، فيقول: جئت من عند الشيخ، ويفصح بلفظ الشيخ، ويرفع بها صوته، وأنا جازم بأنه إِنما كان يفعل ذلك ليثبت في قلبي عظمته، ويحثني على ملازمته ....

(1)

.

ويستمر التاج السبكي في طلب العلم والتنقل بين أساطينه، حتى مهر وبرع، وعلا صيته، وقد أجازه شمس الدين بن النقيب بالإِفتاء والتدريس، ولما مات ابن النقيب كان عمره ثمان عشرة سنة، وأفتى ودرس، وصنف، وأشغل

(2)

.

‌شيوخه:

ممَّا علم بالضرورة من أصول التربية - أن التلميذ يستمد ثقافته من شيوخه، فالشيوخ بالنسبة إِليه - هم القدوة العملية، والصورة الحية لما يتعلمه، بهم يكون تأثره، وعلى أيديهم تتكون شخصيته، وتصنع معارفه، ومنهم يأخذ أخلاقه، وعليهم تتربى ملكاته، يقول ابن خلدون:"إِن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم، وما ينتحلون به من المذاهب والأخلاق تارة علمًا وتعليمًا وإِلقاءً، وتارة محاكاة وتلقينًا بالمباشرة، إِلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكامًا، وأقوى رسوخًا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها"

(3)

.

وقد تتلمذ شيخنا تاج الدين السبكي على مشايخ عصره، وجهابذة العلم في زمانه،

(1)

طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 398 - 399.

(2)

شذرات الذهب 6/ 221.

(3)

ابن خلدون: المقدمة ص 634.

ص: 70

ومن طالع كتابه "الطبقات الكبرى" يرى كثيرًا من مشايخه الذين ترجم لهم، وسمع منهم، قال التاج في ترجمة شيخه حافظ الدنيا أبي الحجاج المزي المتوفى سنة 742 هـ: وقد قدمنا في ترجمة الشيخ الإِمام الوالد أني سمعت شيخنا الذهبي يقول: ما رأيت أحفظ منه "المزي"، وأنه بلغني عنه أنه قال: ما رأيت أحفظ من أربعة: ابن دقيق العيد، والدمياطي، وابن تيمية، والمزي، وترتيبهم حسبما قدمناه.

وأنا لم أر من هؤلاء الأربعة غير المزي، ولكن أقول: "ما رأيت أحفظ من ثلاثة: المزي، والذهبي، والوالد، على التفصيل الذي قدمته في ترجمة الوالد. وعاصرت أربعة لا خامس لهم: هؤلاء الثلاثة، والبرزالي، فإِني لم أر البرزالي

"

(1)

.

قلت: وقوله: وأنا لم أر من هؤلاء

، وذلك أن الشيخ ابن دقيق العيد توفي سنة 702 هـ، والشيخ الدمياطي توفي سنة 705 هـ، وابن تيمية توفي سنة ميلاد السبكي على قول الذهبي، وهي سنة 728 هـ.

ويمكن ترتيب شيوخ التاج كما يلي:

‌1 - تقي الدين علي بن عبد الكافي:

وهو والد التاج السبكي، وأكثر من تأثر به، وأخذ عنه، وقد كان هذا الوالد - كما سبق التعريف به - إِمامًا من أئمة الفقه في دمشق والقاهرة، وعالمًا من كبار علماء عصره، ولقد وصفه العلماء بأنه شيخ العلم وحامل لواء العلماء، الإِمام المجتهد، العلم المفرد، وكان شيخه أبو محمد الدمياطي شيخه يقول:"هو إِمام المحدثين"، ولم يكن عنده أحد بمنزلته.

وأما الذهبي، فقد نعته بقوله: القاضي الإِمام العلامة الفقيه، المحدث، الحافظ، فخر العلماء

انتهى إِليه الحفظ ومعرفة الأثر بالديار المصرية.

ولما تولى السبكي قضاء دمشق والخطابة في الجامع الأمويِّ، قال الذهبي فيه:[الوافر]

لِيَهْنَ الْمِنْبَرُ الأُمَويُّ لَمَّا

عَلاهُ الْحَاكِمُ الْبَحْرُ التَّقِيُّ

(1)

طبقات الشَّافعية الكبرى 1/ 397.

ص: 71

شُيُوخُ الْعَصْرِ أَحْفَظهُمْ جَمِيعًا

وَأَخْطَبُهُمْ وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ

(1)

وثناء العلماء عليه أكثر من أن نحصيه هنا، وقد أفاض ابنه في وصفه، ونقل كلام تلامذته، وثناءهم عليه.

وأما التاج فقد ذكر في عدة مواضع أخذه عن والده، وتأثره به، فعقد فصلًا في "ذكر شيء من الرواية عنه"، وقال فيها: أخبرني أبي - تغمده الله برحمته - أخبرنا أقسيان بن محفوظ بقراءتي

"

(2)

.

وقال: "أخبرنا شيخ الإِسلام الوالد رحمه الله قراءة عليه، وأنا أسمع

"

(3)

.

وفي مواضع كثيرة يقول: سمعت الوالد

(4)

. وفي أخرى يقول: وكنت أقرأ عليه

(5)

. وأما تصانيفه فكثيرة سارت بها الركبان، وانتشرت في جميع الأصقاع والأركان.

‌2 - ابن سيد الناس:

وهو فتح "الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى ابن سيد الناس الإِمام الحافظ، الشَّافعي الأندلسي الإِشبيلي المصري، ولد سنة 671 بالقاهرة، وسمع الكثير من الجم الغفير،. وتفقه على مذهب الشَّافعي، وأخذ علم الحديث عن والده، وابن دقيق العيد، وتخرج عليه، وقرأ عليه أصول الفقه، وقرأ النحو على ابن النحاس، وولي دار الحديث بجامع الصالح، وخطب بجامع الخندق، وصنف كتبًا نفيسة منها السيرة الكبرى، سماها "عيون الأثر"، واختصرها، وشرح قطعة من كتاب الترمذي، وغير ذلك كثير. توفي بـ "مصر" سنة 634 هـ

(6)

.

‌3 - ابن الصَّابوني:

وهو أمين الدين أبو الفضل عبد المحسن بن أحمد بن محمد بن علي بن الصَّابوني، ولد في سنة 657 هـ، وسمع من ابن عزون والمعين الدمشقي والغلاق، وغيرهم بالقاهرة، ومن أبي اليسر وغيره بدمشق. توفي سنة 736 هـ

(7)

.

(1)

طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 169.

(2)

السابق 10/ 171، 172، 173.

(3)

السابق 10/ 171، 172، 173.

(4)

السابق 10/ 266، وما بعدها.

(5)

السابق 10/ 199.

(6)

ينظر ترجمته في: شذرات الذهب 6/ 108.

(7)

ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة 3/ 25.

ص: 72

‌4 - ابن جملة:

هو قاضي القضاة يوسف بن إِبراهيم بن جملة المحَجِّي جمال الدين، ولد سنة 686 هـ، وتفقه على الشيخ صدر الدين بن المرحِّل، ولازمه، وبه عرف، وأخذ عن ابن النقيب، وابن الوكيل وابن الزملكانيّ، وناب في الحكم بدمشق عن قاضي القضاة جلال الدين القزويني، ثم ولي قضاء القضاة بعد وفاة القاضي علم الدين الأخنائي، ودرس بالدولعية. توفي سنة 738 هـ

(1)

.

‌5 - صالح بن مختار:

وهو تقي الدين صالح بن مختار بن صالح بن أبي الفوارس العجمي الأصل، العزازي المصري. ولد سنة 642 هـ، وسمع من أحمد بن عبد الدائم، والفخري، وابن أبي عمر، وإِسحاق بن أسد العامري، وأجاز له محمد بن عبد الهادي، ومكي بن عبد الرزاق، حدث بـ "مكة"، وتوفي سنة 738 هـ

(2)

.

‌6 - زينب بنت الكمال:

مسندة الشام أم عبد الله زينب بنت الكمال أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسية، المرأة الصالحة، العذراء، روت عن محمد بن عبد الهادي، وخطيب مردا، وأبي الفهم البلداني، وسبط ابن الجوزي وجماعة. وتفردت وروت كتبًا كبارًا، وقرأ عليها الكثير من الطلبة، وتوفيت سنة 740 هـ

(3)

.

‌7 - أبو الحجاج المزي:

هو الإِمام العلم المفرد أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن علي، القضاعي الدمشقي، حافظ زمانه، وحامل راية السنة والجماعة، إِمام الحفاظ، واحد عصره بالإِجماع، ولد بظاهر حلب سنة 654 هـ، سمع من أحمد بن أبي الخير سلامة، والقاسم بن أبي بكر الإِربلي، وإِبراهيم بن إِسماعيل بن الدرجي، وغيرهم، ورحل إِلى مصر، فسمع بها من العز عبد العزيز الحرَّاني، وسمع منه ابن تيمية والبرزالي، والذهبي،

(1)

طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 392.

(2)

ابن حجر: الدرر الكامنة 2/ 203.

(3)

ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 6/ 126.

ص: 73

وابن سيد الناس، والتقي السبكي وولده، وخلق لا يحصون. صنف "تهذيب الكمال"، و"تحفة الأشراف". قال التاج السبكي: وقد قرأت عليه، وسمعت عليه الكثير. وقال عنه ابن السبكي: "كان شيخنا المزي أعجوبة زمانه

". توفي سنة 742 هـ

(1)

.

‌8 - ابن النقيب:

هو محمد بن أبي بكر بن إِبراهيم بن عبد الرحمن، شمس الدين بن النقيب، علم من أعلام الشَّافعية، مفسر، قاض، ولي الحكم بـ "حمص" وطرابلس، ثم بـ "حلب"، ولد سنة 661 هـ، وسمع من الفخر بن البخاري، وابن الصَّابوني، وزينب بنت مكي، ولازم الشيخ النووي، ومن تلامذته: جمال الدين بن جملة، وبرهان الدين البعلي، له "عمدة السالك وعدة الناسك" توفي سنة 745 هـ

(2)

.

‌9 - أبو حيان:

وهو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النقريُّ الأندلسي، شيخ النحاة، العلم المفرد، نعته التاج بقوله: سيبويه الزَّمان، والمبرد إِذا حمى الوطيس بتشاجر الأقران، ولد سنة 654 هـ، ونشأ بـ "غرناطة"، وقرأ بها القراءات والنحو واللغة، وجال في بلاد المغرب، ثم قدم مصر، وسمع بالمغرب ومصر، ومالقة، ولازم الدمياطي، وأخذ عن ابن خطيب المزة، وأبي الحسن بن علي بن صالح الحسيني، وسمع جمًا غفيرًا، وأخذ عنه كثيرون منهم التقي السبكي، قال التاج السبكي: وأخذ عنه غالب مشايخنا وأقراننا، منهم الشيخ الإِمام الوالد .. وصنف التصانيف السائرة منها:"البحر المحيط" في التفسير، و"ارتشاف الضرب"، وغير ذلك، وتوفي بمنزله بظاهر القاهرة سنة 745 هـ

(3)

، وينظر ترجمته مفصلة من تحقيقنا على كتابه "البحر المحيط".

‌10 - الذهبي:

هو الحافظ الكبير شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز،

(1)

طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 395 وما بعدها.

(2)

طبقات الشَّافعية الكبرى 9/ 307 وما بعدها، وابن حجر: الدرر الكامنة 3/ 398، والزركلي: في الأعلام 6/ 55.

(3)

تاج الدين السبكي: طبقات الشَّافعية الكبرى 9/ 276.

ص: 74

شيخ الإِسلام، وعلم الأعلام، ولد سنة 673 هـ، وطلب العلم والحديث، وله ثماني عشرة سنة، وأجاز له أبو زكريا بن الصيرفي، وابن أبي الخير، والقطب، وابن عصرون، والقاسم بن الإِربلي، وسمع بـ "دمشق"من عمر بن القواس وأحمد بن هبة الله بن عساكر، والغسولي، وبـ "بعلبك" من عبد الخالق بن علوان، وزينب بنت عمر بن كندي وغيرهما، وبـ "مصر" من الأبرقوهي وابن دقيق العيد، والدمياطي، وأبي العباس بن الظاهري. وفي شيوخه كثرة، فلا نطيل بذكرهم.

وسمع منه الجمع الكثير. قال تاج الدين السبكي: "وأما أستاذنا أبو عبد الله فبصر لا نظير له، وكنز هو الملجأ إِذا نزلت المعضلة، إِمام الوجود حفظًا، وذهب العصر معنى ولفظًا، وشيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال في كلّ سبيل، كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد، فنظرها ثم أخذ يخبر عنها إِخبار من حضرها

"، وله من المصنفات الكثير، منها: "تاريخ الإِسلام"، و"ميزان الاعتدال"، و"تذكرة الحفاظ"، "والعبر"، وغير ذلك. توفي سنة 748 هـ

(1)

، وينظر ترجمته مفصلة من تحقيقنا على كتابه القيم "ميزان الاعتدال".

‌11 - ابن جماعة:

قاضي القضاة، بدر الدين أبو عبد الله محمد بن إِبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني الحموي، ولد سنة 639 هـ بـ "حياة"، سمع بديار مصر من أصحاب البوصيري، ومن ابن القسطلاني، وأجازه ابن مسلمة وغيره، وقرأ بـ "دمشق" على أصحاب الخشوعي، قال التاج السبكي: شيخنا

وسمعنا الكثير عليه، ونعته بقوله: حاكم الإِقليمين مصرًا وشامًا، وناظم عقد الفخار الذي لا يسامى، متحلّ بالعفاف، متخل إِلا عن مقدار الكفاف، محدث فقيه، ذو عقل لا يقوم أساطين الحكماء بما جمع فيه. وذكر له من المصنفات كتاب "كشف المعاني"

(2)

، توفي سنة 767 هـ بـ "مكة"

(3)

.

‌تلاميذه:

وقد خلت الكتب أو تكاد تخلو من ذكر تلاميذ له، ولعلَّ السبب في ذلك أن التاج

(1)

السابق 9/ 105، والدرر الكامنة 3/ 426، وشذرات الذهب 6/ 153.

(2)

طبقات الشَّافعية الكبرى 9/ 142.

(3)

ابن كثير: البداية والنهاية 14/ 319.

ص: 75

السبكي كان في كنف والده، فطغت شهرة أبيه عليه، ثم لسبب آخر وهو نظام التعليم في ذلك العصر، والذي كان قائمًا على المدارس، والمساجد، وبيوت المشايخ، ولعلَّ الشيخ التاج لم يسعه وقته حيث كان قاضي القضاة بالشام، ليستقبل تلامذته في داره، ولعلَّ هناك سببًا آخر وهو موته صغيرًا، حيث توفي وله من العمر أربعة وأربعون عامًا، وأيّا ما يكن الأمر، فقد ذكر التاج ما يشير إِلى أن الصلاح الصفدي - خليل بن أيبك المتوفى سنة 764 هـ، وهو في الأصل تلميذ أبيه يعني الشيخ تقي الدين السبكي - يشير إِلى أخذه عنه، وسؤاله له، قال في الطبقات عند ترجمته للصلاح الصفدي: "وكانت بيني وبينه صداقة منذ كنت صغيرًا، فإِنه كان يتردد إِلى والدي، فصحبته ولم يزل مصاحبًا لي إِلى أن قضى نحبه، وكنت قد ساعدته آخر عمره

وكانت له همة عالية في التحصيل، فما صنف كتابًا إِلا وسألني فيه عما يحتاج إِليه من فقه وحديث وأصول ونحو، لا سيما "أعيان العصر" فأنا أشرت عليه بعمله، ثم استعان بي في أكثره، ولما أخرجت مختصري في الأصلين المسمى "جمع الجوامع" كتبه بخطه، وصار يحضر الحلقة، وهو يقرأ عليّ ويلذ له التقرير، وسمعه كله علي، وربما شارك في فهم بعضه رحمه الله تعالى! "

(1)

.

ويمكن عد الصلاح الصفدي من أقران التاج كذلك.

وقد ذكر الشوكاني في ترجمة "أبي المحاسن الحموي" أنه تفقه على التاج السبكي، فقال: يوسف بن الحسن بن محمد الحسن بن مسعود بن علي بن عبد الله الجمال أبو المحاسن الحموي الشَّافعي: المعروف بابن خطيب المنصورية، ولد سنة 737 هـ، واشتغل بـ "حماة" وغيرها، فأخذ في الأصلين عن البهاء الإِخميمي، والفقه عن التقي الحصني والتاج السبكي وغيرهما، والنحو واللغة والفرائض والحساب والبيان عن ابن هانئ اللخمي المالكي، واشتغل بالحديث، فسمع وحصل وكان عارفًا بعدة علوم، ودرس وأفتى وصنف.

ومن مصنفاته "الاهتمام في شرح أحاديث الأحكام"

توفي سنة 809 هـ

(2)

.

(1)

تاج الدين السبكي: طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 5 - 6.

(2)

الشوكاني: البدر الطالع 2/ 352.

ص: 76

‌محنة التاج السبكي:

إِن وظيفة القضاء في الإِسلام عظيمة الشأن جليلة الغاية، ويكفي لرفعة شأنها، وسمو قدرها أنها من وظائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبها يتحقق مقصد عظيم من مقاصد الشارع، وهو إِزالة الضرر عن الخلق بفض ما يحدث بينهم من النزاع، وإِرجاع الحقوق لأربابها، لذلك حث الدين عليه كثيرًا، ورغب فيه ببيان ما يترتَّب على القيام به بالعدل من المثوبة العظيمة، والدرجة الرفيعة عنده سبحانه وتعالى.

وقد قام به المسلمون خير قيام، وكان له عندهم مكانة سامية، وقد رفعوه، وزادوا من شأنه، فضربوا أحسن الأمثال في القضاء العادل، وأظهروا للناس من سعة النظر ورصانة العقل، ونزاهة النفس، وذكاء الفكر، وقد علوا فيه على الأمم، ويمكننا القول: إِنه لم يوجد في أمم الأرض من أقام العدل، ونصب ميزانه كما فعل المسلمون.

قال ابن حجر العسقلاني: "وحصل له بسبب القضاء محنة شديدة مرة بعد مرة، وهو مع ذلك في غاية الثبات، ولما عاد إِلى منصبه صفح عن كلّ من أساء إِليه"

(1)

.

وقد وجهت الخصومة إِلى تاج الدين السبكي، وعقد له مجلس حكم، حكم فيه ابن قاضي الجبل - وهو أبو العباس أحمد بن الحسن الحنبلي قال فيه ابن حجر: ولي القضاء سنة 767 هـ فلم يحمد في ولايته توفي سنة 771 هـ - وقضي بالحبس على تاج الدين ولكن ما سبب هذه المحنة؟!

والواقع أننا نجهل تفصيل الأسباب الَّتي أحفظت عليه أولي الأمر، والسبب في ذلك: أن المصنّف لم يترجم لنفسه، ولم نجد من يترجم له ترجمة مفصلة كما ترجم هو لأبيه، ويرى وستنفلد

(2)

أن السبب إِصرار تاج الدين على أحكام أصدرها لم تعجب أولي الأمر وطلبوا منه العدول عنها، ولكن لم نجد شيئًا من هذا القبيل مسطورًا، وغاية ما هناك ما ذكره ابن حجر في "الدرر" قال: وكان من أقوى الأسباب في عزله المرة الأخيرة أن السلطان لما رسم بأخذ زكوات التجار سنة 769 هـ وجد عند الأوصياء جملة مستكثرة صرفت بعلم القاضي بوصولات ليس فيها تعيين اسم القابض، فأريد من ناظر الأيتام أن يعترف أنها

(1)

الدرر الكامنة 2/ 425.

(2)

wilstenfeld مستشرق ألماني له مؤلفات عدة منها كتابه عن الإِمام الشَّافعي والشافعية.

ص: 77

وصلت للقاضي "تاج الدين" فامتنع. فآل الأمر إِلى عزل القاضي"

(1)

.

وقال في موضع آخر: "لما ولي أمير على نيابة السلطنة بالديار المصرية قرر الشيخ سراج الدين البلقيني في قضاء دمشق وعزل تاج الدين السبكي، وأخرج بهاء الدين

(2)

إِلى دمشق ليدعي عليه بما في جهته أيام مباشرة أبيه وأخيه، فعقد لهم مجلس، فحكم ابن خطيب الجبل باعتقال تاج الدين، فاعتقل بقلعة دمشق وهرب أخوه، فاختفى عند التاج الملكي قبل أن يسلم، وكان يومئذ بـ "دمشق " كاتبًا نصرانيًا"

(3)

.

وهذا سبب ذكره ابن حجر، ولا يعرف باقي أسباب المحنة، إِلا أن ما فهمه ذلك المستشرق ليس بصحيح، فقد عرف عن تاج الدين ترفعه وصلابته وشدته على أولي الأمر، ولا أدل على ذلك ممَّا أودعه كتابه "معيد النعم ومبيد النقم".

ويذكر الشعراني المتوفى سنة 973 في محنة التاج: أن ذلك لاتهامه بالزندقة، وما يتبعها. قال في "الأجوبة المرضية عن أئمة الفقهاء والصوفية":"إِن أهل زمانه رموه بالكفر واستحلال شرب الخمر والزنى، وأنه كان يلبس الغيار، ويشد الزنار بالليل، ويخلعهما بالنهار، وتحزبوا عليه، وأتوا به مقيدًا مغلولًا إِلى مصر، وجاء معه خلائق من الشام يشهدون عليه، ثُمَّ تداركه اللطف على يد الشيخ جمال الدين الإِسنوي"

(4)

.

على أن التاج قد وقعت له أكثر من محنة، فأولاها كان سنة 763 هـ، وفي هذه ولي أخوه البهاء السبكي قضاء القضاة مكانه، وولي هو وظائف أخيه في مصر، ومكث البهاء في هذا المنصب ثمانية أشهر

(5)

.

وليس ما قاسى القاضي تاج الدين في القضاء بمستغرب في دولة السادة الأتراك والشراكسة، فلقد ضج القضاة من تدخل رجال الدولة في عملهم تدخلًا يمنعهم من إِحقاق الحق، ومن هذا القبيل ما لاقاه ابن حجر العسقلاني، وبين ولايتهما سبعون سنة أو ما

(1)

الدرر الكامنة 2/ ص 426، وما بعدها.

(2)

هو أخو تاج الدين.

(3)

الدرر 4/ 51.

(4)

مقدمة كتاب "معيد النعم ومبيد النقم" نقلًا عن "جلاء العينين في محاكمة الأحمدية" ص 16، وقارن الأعلام 4/ 184.

(5)

ابن كثير: البداية والنهاية 14/ 295، 14/ 315.

ص: 78

يقرب، قال السخاوي: "تزايد ندمه - يعني ابن حجر - على القبول - قبول القضاء - لعدم فرق أرباب الدولة بين العلماء وغيرهم، ومبالغتهم في اللوم لرد إِشاراتهم وإِن لم تكن على وفق الحق، بل يعادون على ذلك واحتياجه لمداراة كبيرهم وصغيرهم بحيث لا يمكنه مع ذلك القيام بكلّ ما يرومونه على وجه العدل، وصرح بأنه جنى على نفسه بتقلد أمرهم

"

(1)

.

وقد ندم التاج نفسه على قضاء والده، وقال: ليته ما فعل

(2)

!! وما كان يتهم والده رحمه الله كيف وقد شهد له الأقاصي والأداني بالنزاهة، والعدل، وبراءة الساحة من ذر الظلم.

قال الصلاح الصفدي المتوفى سنة 764 هـ: "لم أر أحدًا من نواب الشام ولا من غيرهم تعرض له "يعني القضاء" فأفلح، بل يقع له إِما عزل وإِما موت. جربنا هذا، وشاع، وذاع حتى قلت له - يعني الشيخ تقي الدين - يومًا: يا سيدي دع أمر هذه القرية - يعني دمشق -، فإِنك قد أتلفت فيها عددًا، وملك الأمراء وغيرهم في ناحية وأنت وحدك في ناحية، وأخشى أن يترتَّب على ذلك شر كثير، فما كان جوابه إِلا أنشد:[الطويل]

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْني وَبَيْنَكَ عَامِرٌ

وَبَيْني وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ

(3)

على أن التاج السبكي بعد تعرضه لمحن العزل من القضاء - وهذا من ابتلاء الله لعبده - فقد نصره الله على خصومه، ورفع ذكره، وكيف لا ينصر، وهو "أبو نصر" وفي الحديث:"لأنصرنك ولو بعد حين"، وقد بارك له صاحبه الصفدي هذه النصرة، فرد على كتابه له سنة 763 هـ، وكان يومها بالقاهرة، والصفدي بالشام، فكتب الأخير: "فالحمد لله على النصرة

وما يغلق باب إِلا ويفتح دونه من الخيرات أبواب، وعلى كلّ حال أبو نصر أبو نصر وعبد الوهاب عبد الوهاب

".

‌آثاره:

لم يعش شيخنا تاج الدين السبكي رحمه الله إِلا نحو أربعة وأربعين عامًا، لكن

(1)

الضوء اللامع 2/ 38.

(2)

ونص كلام التاج: "يا لها غلطة أف لها وورطة ليته صمم وما فعلها".

(3)

ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة 3/ 64 - 65.

ص: 79

حياته على قصرها كانت ملأى بالإِنتاج العلمي الذي جعله من الأئمة باعتراف معاصريه ومن جاءوا بعده. فابن حجر العساقلاني المتوفى سنة 852 هـ يقول فيه: "في دمشق ظهرت مؤلفات السبكي وهي كثيرة، وقد انتشرت تصانيفه في حياته، ورزق فيها السعد"

(1)

.

ونقل الحافظ عن شهاب الدين بن حجي قوله: "وقد صنف تصانيف كثيرة جدًّا على صغر سنه قرئت عليه، وانتشرت في حياته وبعد موته"

(2)

.

وقال السيوطي المتوفى سنة 911 هـ: "وصنف كتبًا نفيسة، وانتشرت في حياته، وألف وهو في حدود العشرين"

(3)

.

وقال الشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ: "ورزق السعادة في تصانيفه، فانتشرت في حياته"

(4)

. على أن التاج قد خاض في علوم كثيرة، فكانت له فيها مصنفات، ولذلك نجد وصفه عند كثير منهم: بـ "المؤرخ الباحث، والفقيه الأصولي، والأديب" وغير ذلك.

بل إِن السيوطي ويورد نصًا عن التاج، ويقره عليه قال: "

كتب مرة ورقة إِلى نائب الشام يقول فيها: وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإِطلاق، لا يقدر أحد يرد عليّ هذه الكلمة".

وعقب السيوطي بقوله: وهو مقبول فيما قال عن نفسه

(5)

. وسنتكلم الآن عن العلوم الَّتي برّز فيها التاج ومصنفاته فيها:

‌1 - تاج الدين السبكي وعلم الحديث:

قد بدأنا الحديث بالكلام عن السبكي وعلم الحديث نظرًا لشرف هذا العلم، والذي يختص بالمصدر الثَّاني للتشريع الإِسلامي، وهو سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتاج الدين قد عنى بهذا العلم العظيم، يتضح ذلك من اهتمامه الشديد بالإِسناد، وتتبعه البالغ لمصادر الحديث، ثم إِلمامه بطبقات الحفاظ ومواضع الصحة والضعف في مروياته، ثم عنايته بعلم الجرح والتعديل حتى صنف فيه. وكل هذه المباحث قد أودعها ثنايا كتابه: "طبقات الشَّافعية

(1)

الدرر الكامنة 2/ 426.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

حسن المحاضرة 1/ 328.

(4)

البدر الطالع 1/ 410.

(5)

حسن المحاضرة 1/ 328.

ص: 80

الكبرى" وغير ذلك من كتبه ومن مصنفاته في الحديث وعلومه:

1 -

أحاديث رفع اليدين.

2 -

جزء في الطاعون.

3 -

قاعدة في الجرح والتعديل وقاعدة في المؤرخين، وهي مطبوعة.

وفيها كلام عن الجرح المقبول، وموقف التاج من كلام الأئمة بعضهم في بعض، وعدم أخذه بطعن الأقران، ونقل كلام ابن عبد البر في ذلك، وطعن فيه على شيخه الذهبي في بعض تراجمه، ثم تحدث عن الأمور الَّتي ينبغي أن تكون عند المؤرخ ليسلم من الغلط.

‌2 - التاج السبكي وعلم الكلام:

ولأن علم الكلام يتصل بالعقيدة الإِسلامية، فقد اهتم السبكي به اهتمامًا خاصًّا سيما وقد انتشر في عصره معارك كلامية بين الفرق الإِسلامية خاصة الأشاعرة - وهو أشعري - والحنابلة، اشتدت في بعض الأوقات حتى أودت بمنصبه فعزل، ثم عاد كما وضحنا آنفًا.

وتراجم السبكي في طبقاته توضح انتصاره للأشاعرة، وذبه عن أبي الحسن الأشعري، ومن مصنفاته في ذلك:

1 -

قواعد الدين وعمدة الموحدين.

2 -

السيف المشهور في شرح عقيدة أبي منصور.

‌3 - التاج وعلم الأصول:

وهذا العلم بلغ التاج فيه شأوًا عظيمًا، وعلا كعبه في حلّ مسائله، وإِيضاح مكنوناته، فصنف فيه وألف، فكانت مصنفاته مثار الحديث بين أهل العلم، والمعول عليها عند أهل الفن، ولا أدل على ذلك من أنه ذكر في مقدمة كتابه "جمع الجوامع" أن كتابه هذا محيط بالأصلين جمعه من زهاء مائة مصنف، ثم تلقف العلماء كتابه هذا بالشرح والتحشية والتعليق. ومن مصنفاته في هذا العلم:

1 -

جمع الجوامع، وهو مطبوع.

2 -

الإِبهاج في شرح المنهاج، وهو مطبوع.

3 -

منع الموانع عن جمع الجوامع.

ص: 81

4 -

رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، وهو ما نحن بصدد تحقيقه.

5 -

همع الهوامع في منع الموانع.

‌4 - التاج والقواعد الفقهية:

وقد اهتم التاج بهذا العلم أيما اهتمام، فصنف فيه، وخرج الفروع على الأصول من فقه الشَّافعية، "قال السيوطي في أشباهه: وأول من فتح هذا الباب شيخ الإِسلام ابن عبد السَّلام في قواعده الكبرى، فتبعه الزركشي في القواعد، وابن الوكيل في أشباهه، وقد قصد السبكي بكتابه تحرير كتاب ابن الوكيل بإِشارة والده له في ذلك كما ذكره في خطبته، وجمع أقسام الفقه وأنواعه، ولم تجمع في كتاب سواه

"

(1)

، ولينظر مقدمتنا على الأشباه له بتحقيقنا.

وقد أعجب ابن نجيم الحنفي بكتاب السبكي في الفروع، فصنف على وتيرته، قال في خطبته:"إِلا أني لم أر كتابًا يحكي كتاب الشيخ تاج الدين السبكي الشَّافعي مشتملًا على فنون في الفقه .. "

(2)

.

وهذا الكتاب الذي نتحدث عنه للسبكي هو:

1 -

الأشباه والنظائر، وهو مطبوع بتحقيقنا، وقد صنف غيره في الفروع أيضًا.

2 -

تخريج الفروع على الأصول.

‌5 - ابن السبكي والفقه:

أما علم الأحكام، ودقائق الحلال والحرام، فللتاج فيها اليد العليا، وكيف لا وهو ابن التقي السبكي شيخ الدنيا في عصره، لذا نرى مصنفات التاج وقد حوت آراءه الفقهية وأقواله الاجتهادية، وما ذاك إِلا أن السبكي الابن قد سار على نهج أبيه، وعد الفقه واسطة عقد العلوم الشرعية وامتدح أهله والمشتغلين بأحكامه

(3)

. وأما مصنفاته في الفقه فمنها:

1 -

أوضح المسالك في المناسك.

2 -

تبيين الأحكام في تحليل الحائض.

(1)

جلال الدين السيوطي الأشباه والنظائر في النحو 1/ 7.

(2)

زين الدين بن نجيم الحنفي: الأشباه والنظائر ص 15.

(3)

ينظر كلامه في: الأشباه والنظائر 1/ 3 طبعة دار الكتب العلمية بتحقيقنا.

ص: 82

3 -

الترشيح في اختيارات والده في الفقه.

4 -

التصحيح.

5 -

التوشيح على التنبيه.

6 -

ترشيح التوشيح.

7 -

توشيح التصحيح.

8 -

رفع المشاجرة في بيع العين المستأجرة.

‌6 - تاج الدين المؤرخ:

نظر شيخنا عبد الوهاب في بطون التاريخ، فعلم أن معرفة أخبار الماضين فيها العبر، وأن الإِلمام بها يورث الإِفادة من تجارب السابقين، فالسعيد من وعظ بغيره، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [سورة يوسف: الآية 111]. لذلك رأيناه يعنى به، ويسجل تجاربه، ونظره في تراجم الناس وأحوالهم

(1)

، وخير ما صنف في ذلك:

1 -

طبقات الشَّافعية الكبرى، وهو مطبوع.

2 -

طبقات الشَّافعية الوسطى.

3 -

طبقات الشَّافعية الصغرى.

4 -

مناقب الشيخ أبي بكر بن قوام.

‌7 - ابن السبكي والأدب:

ولع التاج بالأدب، وشغف به شعرًا ونثرًا، وما ذاك إِلا بسبب صحبته للصلاح خليل بن أيبك الصفدي، وقد حكى في ترجمته له من طبقات الشَّافعية الكبرى صحبته له وتأثره به، فقال: "كنت أصحبه منذ كنت دون سن البلوغ، وكان يكاتبني وأكاتبه، وبه رغبت في الأدب، فربما وقع لي شعر ركيك من نظم الصبيان فكتبه هو عني إِذ ذاك

"

(2)

.

ومن يستقرئ مصنفات السبكي، وخاصة الطبقات يجد رصانة في أسلوبه، وذوقًا أدبيًا عاليًا في انتقائه العبارة والكلمة وبيت الشعر، بل إِنه كان يقرض الشعر كما عرفنا من

(1)

ينظر كلامه في: طبقات الشَّافعية الكبرى 1/ 206 - 207.

(2)

10/ 6.

ص: 83

كلامه، ومن خلال قطعه الشعرية في طبقاته، وهو يقول عن كتاب:"الطبقات": "

وهذا كتاب حديث، وفقه، وتاريخ، وأدب، ومجموع فوائد تنسل إِليه الرغبات من كل حدب، نذكر فيه ترجمة الرجل مستوفاة، على طريقة المحدثين والأدباء، ونوردُ نكتًا تسحر عقول الألبّا"

(1)

. ولا نعرف للتاج مصنفًا مفردًا في الأدب أو فروعه، وإِن لم تخل مصنفاته من لمحة أدبية، وصنعة فنية، ولمسة جمالية، يظهر فيها جليًّا ابن السبكي الأديب.

‌8 - ابن السبكي وعلم النحو:

لا يكون الأصولي أصوليًّا، والفقيه فقيهًا، والمجتهد مجتهدًا حتى يلم بعلم النحو، ولا شك أن ابن السبكي درس النحو وبلغ فيه منزلة عليا، وإِلا لم يسكت الناس عن قوله:"وأنا اليوم مجتهد الدنيا على الإِطلاق لا يقدر أحد يرد على هذه الكلمة" وأقره الحافظ السيوطي كما سبق.

ومن يستقرئ كلامه في الطبقات، وخاصة عند الكلام على الزمخشزي، وكتابه "الكشاف"، وكذلك ترجمته لشيخه أبي حيان الأندلسي يرى تبحره في علم النحو وتوسعه فيه، كما يتضح إِلمامه به من خلال الاطلاع على كتابه "الأشباه والنظائر"، فقد عقد فيه فصلًا كبيرًا جدًّا قالت:"كلمات نحوية يترتَّب عليها مسائل فقهية"

(2)

وقد حاز خمسين صفحة من الجزء الثَّاني. ونحن لا نعرف له مصنفًا مفردًا في هذا العلم إِلا ما جاء منثورًا في كتبه كما أوضحنا.

‌9 - ابن السبكي مصلحًا اجتماعيًا:

عاش السبكي في عصر مليء بالاضطرابات وكثرة الفتن والمجاعات، ممَّا ترتب عليه وجود طبقات متعددة في المجتمع المماليكي - كما سبق توضيحه - وكان الظلم سائدًا على ما دون طبقة السلاطين ومماليكهم، ولكن التاج ما رضي ذلك وما خضع ولا استكان، بل ظل ينافح ويحارب حتى تعرض للمحنة الَّتي جعلها الله بعد ذلك منحة، وما علم أحد اهتم في عصره بالفلّاح وما يعانيه من ذل وخنوع إِلا هو، وقد أودع آراءه وأفكاره، ودعواءه الإِصلاحية في كتابه:"معيد النعم ومبيد النقم" وهو مطبوع مشهور.

(1)

طبقات الشَّافعية الكبرى 1/ 207.

(2)

تاج الدين السبكي: "الأشباه والنظائر" جـ 2/ 202 - 253 ط. دار الكتب العلمية بتحقيقنا.

ص: 84

وبعد فهناك مصنفات متفرقة للتاج السبكي نوردها سردًا، وهي:

1 -

رفع الحوبة في وضع التوبة.

2 -

جلب حلب. قال ابن العماد: "جواب عن أسئلة سأل عنها الأذرعي"

(1)

.

3 -

فتاوى والده.

4 -

ترجيح لصحيح الخلاف.

5 -

تشحيذ الأذهان على قدر الإِمكان على الرد على البيضاوي.

6 -

مصنف في علم الألغاز.

7 -

أجوبة ابن السبكي على أسئلة السيد أحمد الخراساني.

وإِليك - أيها القارئ الكريم - مصنفات تاج الدين السبكي مرتبة حسب حروف الهجاء:

1 -

الإِبهاج في شرح المنهاج.

2 -

أجوبة ابن السبكي على أسئلة السيد أحمد الخراساني.

3 -

أحاديث رفع اليدين.

4 -

الأشباه والنظائر في الفروع.

5 -

أوضح المسالك في المناسك.

6 -

تبيين الأحكام في تحليل الحائض.

7 -

تخريج الفروع على الأصول.

8 -

ترجيح لصحيح الخلاف.

9 -

ترشيح التوشيح.

10 -

الترشيح في اختيارات والده في الفقه.

11 -

تشحيذ الأذهان على قدر الإِمكان على الرد على البيضاوي.

12 -

التصحيح.

13 -

توشيح التصحيح.

14 -

التوشيح على التنبيه.

(1)

شذرات الذهب 6/ 222.

ص: 85

15 -

جزء في الطاعون.

16 -

جلب حلب.

17 -

جمع الجوامع.

18 -

رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، وهو الذي نحن بصدده.

19 -

رفع الحوبة في وضع التوبة.

20 -

رفع المشاجرة في بيع العين المستأجرة.

21 -

السيف المشهور في شرح عقيدة أبي منصور.

22 -

طبقات الشَّافعية الكبرى.

23 -

طبقات الشَّافعية الوسطى.

24 -

طبقات الشَّافعية الصغرى.

25 -

فتاوى والده.

26 -

قواعد الدين وعمدة الموحدين.

27 -

مصنف في علم الألغاز.

28 -

معيد النعم ومبيد النقم.

29 -

مناقب الشيخ أبي بكر بن قوام.

30 -

منع الموانع عن جمع الجوامع.

31 -

همع الهوامع في منع الموانع.

‌وفاته:

ولم يطل العمر بشيخنا تاج الدين السبكي، إِذ وافته المنية في ريعان شبابه، فقد مات عن أربعة وأربعين عامًا. قال ابن تغري بردي في سنة 771 هـ وتوفي قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب

السبكي الشَّافعي قاضي قضاة دمشق بها، في عصر يوم الثلاثاء سابع شهر ذي الحجة، ودفن بسفح قاسيون، تغمده الله برحمته عن أربع وأربعين سنة

(1)

.

وقال الجلال السيوطي: "

مات عشية يوم الثلاثاء سابع ذي الحجة سنة إِحدى وسبعين وسبعمائة"

(2)

.

(1)

النجوم الزاهرة 11/ 108.

(2)

حسن المحاضرة 1/ 328، 329.

ص: 86

هذا، وبعد الإِبراق والإِيماء بأطراف من سيرة الإِمامين الهمامين العلامة أبي عَمْرِو بنِ الحَاجِب وابن السبكي عليهما مُزُنُ الرحمة، كان من الفضل أن يمليه المقام علينا أن ننبذ بطرف ممَّا أسلفنا الكلام عنه من التعريف بأصول الفقه وما يتعلق بهذا التعريف فنذكر تعريف أصول الفقه وموضوعه ونشأته وواضعه والخلاف فيه ومناهج العلماء في الدراسات الأصولية والنسبة بين أصول الفقه والعلوم الأخرى. وغير ذلك ممَّا يتعلق ببحثنا.

ص: 87

تَعْرِيفُ‌

‌ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ

لا شكَّ أن الشُّروع في العِلْم يَتَوقَّف على تصوُّره بوَجْهٍ مَا؛ لأنَّ الطالب إِذَا لَمْ يتصوَّرِ العِلْم بِوَجْهٍ، استعصى طلبه، واستحالَتْ طرقه، ولكي يحيطَ الطالبُ بجميع مسائله وفروعه، لا بُدَّ أن يتصوَّره بتعريفه؛ باعتبارِهِ أمْرًا شاملًا له يُمَيِّزه ويَضْبِطُه عمَّا عداه.

ويُدْرِك الطالبُ أن ما يُورَدُ عَلَيْه من العِلْم المَطْلُوبِ لَه لا مِنْ غيره، فيَأْمَنُ من فوات شيء مما يعنيه، وضياع الوقت فيما لا يعنيه.

قَالَ الإِمَامُ في "البُرْهان"

(1)

: "حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ يُحَاوِلُ الخَوْضَ في فَنٍّ مِنْ فُنُونِ العُلُوم، أنْ يُحِيط بِالمَقْصُودِ مِنْه، وبِالمَوَادِّ الَّتِي مِنْهَا يَسْتَمِدُّ ذلِكَ الفَنُّ وبِحَقِيقَتِهِ وَفَنِّهِ وَحدِّهِ، إِنْ أَمْكَنَتْ عِبَارَةٌ سَدِيدَةٌ عَلَى صِنَاعَةِ الحَدِّ، وَإِنْ عَسُرَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَاوِلَ الدَّرَكَ بِمَسْلَكِ التَّقَاسِيمِ، والغَرَضُ مِنْ ذلِكَ أَنْ يَكُونَ الإِقْدَامُ عَلَى تَعَلُّمِهِ مَعَ حَظٍّ مِنَ العِلْمِ الجُمَلِيِّ بِالْعِلْمِ الَّذِي يُحَاوِلُ الخَوْضَ فِيهِ".

وَقَالَ الآمِديُّ في "الإِحْكَام"

(2)

: "حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ حَاوَلَ تَحْصِيلَ عِلْمٍ مِنَ العُلُومِ، أَنْ يَتَصَوَّرَ مَعْنَاهُ أوَّلًا بِالحَدِّ أوِ الرَّسمِ؛ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا يَطْلُبُه، وأَنْ يَعْرِفَ مَوْضُوعَهُ - وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَبْحَثُ فِي ذلِكَ العِلْم عَنْ أَحْوَالِهِ العَارِضَةِ لَهُ - تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَا هُوَ الغَايَةُ المَقْصُودَةُ مِنْ تَحْصِيلِهِ، حَتَّى لا يَكُونَ سَعْيُهُ عَبَثًا، وَمَا عَنْهُ البَحْثُ فِيهِ مِنَ الأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَسَائِلُهُ لِتَصَوُّرِ طَلَبِهَا، وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدادُهُ لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ عِنْدَ رَوْمِ تَحْقِيقهِ إِلَيْهِ، وَأَنْ

(1)

البرهان 1/ 83 فقرة (أ).

(2)

الإِحكام في أصول الأحكام 1/ 7.

ص: 88

يَتَصوَّرَ مَبَادِئَهُ الَّتي لا بُدَّ مِنْ سَبْقِ مَعْرِفَتِهَا فِيهِ؛ لإِمْكانِ البِنَاءِ عَلَيْهَا". وقَبْل الخَوْض فِي تَعْرِيفِ عِلْمِ أصُولِ الفِقْه نتكَلَّم عن ظُهُور اسْتِعْمال هذا اللَّفْظ.

ممَّا لا شكَّ فيه أن المعاجمَ العربيَّة كـ "الصِّحاحِ" و"المُحْكم" و"المُخصَّصِ" و"المُجْمَل" و"مقاييس اللُّغة" و"لسان العرب" و"القاموس" و"تاج العروس" - قد عرَّفت لفظتَي "أُصُولٍ"، و"فِقْهٍ" واسْتعملَتْها اللُّغةُ العربيَّة كثيرًا جدًّا، بَيْدَ أن لَفْظ "أصولِ الفِقْهِ" أي: هذا اللَّفْظُ المركَّب بدأ يظْهَر في غضُون القَرْن الثَّانِي الهجْريِّ تقريبًا.

ويدلُّنا على ذلك أن أبا يوسُفَ (182 هـ) وهو صَاحِبُ الإِمام أبي حنيفةَ رحمه الله قد اسْتَعْمَلَ هذا اللَّفْظ. ولكي يتَّضحَ لَنَا استعمالُ هذا اللَّفْظِ المركَّبِ ننْقُل نصَّه كما جاء في كتاب "الرَّدِّ على سِيَرِ الأَوْزَاعِيِّ".

قال أبو حنيفة رضي الله عنه: "يُضْرَبُ لِلْفَارِسِ بِسَهْمَيْنِ: سَهْمٍ لَه، وَسَهْمٍ لِفَرَسهِ، وَيُضْرَبُ لِلرَّاجِلِ بِسَهْمٍ".

وقال الأوزاعيُّ: "أسهمَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم للفَرَسِ بِسَهْمَيْنِ، ولصاحِبِهِ بسَهْمٍ، وأخذ المُسْلِمُون بعْدَه إِلَى اليَوْم لا يخْتَلِفُون فيه".

وقال أبو حنيفة: "الفرسُ والبِرْذَوْنُ سواءٌ".

وقال الأوزاعيُّ: "كان أئمَّة المُسلمين فيما سَلَف حتَّى هاجت الفتنة من بَعْدِ قتْلِ الوليد بْن يزيدَ لا يُسْهِمُونَ للبَرَاذِين".

قال أبُو يُوسُفَ: كان أبو حنيفة رضي الله عنه يكْرَه أن تُفضَّل بهيمةٌ على رجُلٍ مسْلِمٍ، ويُجعل سهْمُها في القَسْم أكْثَرَ مِن سَهْمِه، فأمَّا البراذِين، فما كنْتُ أحْسَبُ أحَدًا يجْهَل هذا، ولا يُميِّز بين الفَرَس والبِرْذَوْن، ومن كلام العرب المعروف الَّذِي لا تختلِفُ فيه العربُ أن تقول: هذهِ الخَيْل، ولعلَّها بَرَاذِينُ كُلُّها أو جلُّها، ويكون فيها المَقَارِيفُ أيضًا.

وممَّا نَعْرِف نَحْن فِي الحَرْب أن البرَاذِينَ أوْفقُ لكثيرٍ من الفُرْسان من الخيل في لِينِ عَطْفها، وتَوَدُّدِها، وجَوْدَتِها، ممَّا لم يُبْطِل الغاية.

وأما قول الأوزاعيِّ: "على هذا، كانَتْ أئمَّة المُسْلِمِين فيما سلَفَ"، فهذا كما وصَفَ

ص: 89

من أهْل "الحجاز"، أو رأى بَعْض مشايخ "الشَّامِ" ممن لا يُحْسِن الوضوء، ولا "أصول الفقه"

هذا نصُّ كلام أبي يُوسُف رحمه الله وهو لم يحدِّدْ بوضوحٍ مرادهُ بقوله: "أُصول الفِقْهِ".

وقد يُحتَمَلُ أنَّه أراد به عدَمَ معرفةِ قَوَاعدِ الاسْتِنْباطِ والاجتِهادِ والفتوى؛ ولا ينبغي الاعتمادُ على قولهم. وإِذا صحَّ قولهم، فإِن أبا يُوسُفَ رحمه الله قد ألْمَحَ إِلى مفهوم "أصولِ الفِقْهِ" كما هو معروفٌ لدى المتأخِّرين

(1)

.

ومن الواضح أن هذا الاحتمال لا يستند إِلى دليلٍ قَوِيٍّ بل هو مُجرَّدُ ظنٍّ.

وتبيَّن مِمَّا سُقْناه أنَّ اسْتِعْمالَ لَفْظ "أُصُول الفِقْهِ" قد ظَهَر فِعْلًا في القَرْن الثَّاني الهِجْريِّ، ولكن لم يَظْهَر اسْتِعْمال "أصول الفِقْه" كما هو معرَّف عند المتأخرين حتَّى بداية القَرْنِ الثَّالِثِ الهجريِّ وانتهائه.

ولكي نتبيَّن، كَيْفَ عرَّفه المتأخِّرُون، فلنرجع إِلى أقوالهم الَّتي تنوَّعت وتعدَّدت، فعرَّفه بعْضُهم بالمَعْنَى المركَّب أوَّلًا، أي: بمعنى أنه مركَّبٌ إِضافيٌّ يدل جزْؤُه على جزْءِ معناه، ولكي يُفْهَم معناه المَقْصُود منه لا بُدَّ من فَهْم كُلِّ جزء من جُزْأَيْه.

وعرَّفه بعضُهم بالمَعْنَى اللّقَبِيِّ ثانيًا، أيْ: بَعْدَ أنْ صَارَ عَلَمًا على ذلِكَ الفَنِّ المخصوصِ.

واكْتَفَى بعضُهُم على تعريفهِ بِالمَعْنَى اللَّقَبِيِّ؛ اقتصارًا بذلك على المَعْنى المقصود بالذات، وممَّن نحا هذا المَنْحى القاضي البَيْضَاوِيّ، وتاج الدِّين، وصَدْر الشَّرِيعة. ومنهم مَنْ عرَّفه بالمعنَيَيْنِ، وكان غَرَضُه في ذلِكَ التعرُّضَ لبيان معنى أجْزَائِهِ.

وممَّن نحا هذا المَنْحى سيْفُ الدِّينِ الآمِدِيُّ، وأبُو عَمْرو بْنُ الحَاجِبِ، والكمالُ بنُ الهمام كما في "تحْريره"، والغزاليُّ في "المُسْتَصْفَى" ولمعرفة حقيقة ذلك نتناوَلُ تعريف "علْم أصُول الفقه" لنخرج بتصوُّر عِلْم أصُول الفقه، كما هو معرَّفٌ لدى علماء الأُصُول.

(1)

ينظر: تدوين أصول الفقه ص 4.

ص: 90

‌تَعْرِيفُ عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ بِالْمَعْنى الإِضَافِيِّ:

وتعريف عِلْم "أُصُول الفِقه" بهذا الاعتبار يَحْتاج إِلى تعريف المُضاف، وهو "أُصُول"، وتعريفِ المُضافِ إِلَيْه، وهو "الفِقْهِ"، ثم يحتاج إِلى تعريف الإِضافة أيْضًا؛ لأنَّها بمنزلة الجُزْء إِلى الصَّدْر، إِلَّا أن بَعْض الأصوليِّين لم يتعرَّضوا إِلَيْها؛ للعلْم بأنَّ معنى إِضافة المشتقِّ، وما في مَعْناه اخْتصاصُ المُضَاف بِالمُضَاف إِلَيْه؛ باعْتبَارِ مَفْهُوم المُضَاف.

‌تَعْرِيفُ المُضَافِ "أُصُول":

"الأصول": جمع "أصْلٍ"، وهو ما يبتنى عليه غيرُه، سواءٌ أكان الابتناءُ حسِّيًّا؛ كابتناءِ السَّقْف على الجدار، أو عقْلِيًّا؛ كابتناء المدلول على دليله، والمعلولِ على علَّته

(1)

.

وقد أشار الإِمامُ جمالُ الدِّين الإِسْنَوِيُّ في "نِهَايَتِهِ" إِلى أن هذا هو المعنى المشهورُ عند العلماء

(2)

. وله معاني أُخَرُ مثْل:

1 -

المحتاج إِلَيْه.

2 -

مايَسْتَنِدُ تحقيقُ الشيْءِ إِلَيْه.

3 -

ما منه الشَّيءُ.

ومن معناها اللغويِّ نقلها العلماءُ إِلى المَعْنَى الاصطلاحيِّ.

‌تَعْرِيفُ الأَصْلِ اصْطِلاحًا:

يطلق "الأَصْلُ"، في اصْطِلاح العُلَماءِ بإِزاء أرْبَعَة معانٍ:

الأوَّل: الصورَةُ المَقِيسُ عَلَيْهَا، كقوْلنَا: الخَمْر أصْلُ النَّبِيذ، على معنى أن الخمر مَقِيسٌ عليها النبيذُ في الحُرْمَة.

وكقولنا: التأفِيفُ للوالدَيْن أصْلٌ لضربهما، بمعنى أن التأفيف أصلٌ يقاس عليه الضَّرْب في الحُرْمَة.

(1)

ينظر: تنقيح الفصول ص 15.

(2)

ينظر: نهاية السول 1/ 14.

ص: 91

الثَّاني: القاعدَةُ المُسْتمرَّة:

كقولنا: إِباحةُ أكْل لحْمِ المَيْتَةِ للمضطرِّ على خلاف الأصْل، أي: على خلاف القاعدة المستمرَّة.

وكذلك كأنْ تقُولَ: الأصْلُ في المبتدأ الرفْع، أي: قاعدته المستمرَّةُ أن يكون مَرْفُوعًا.

الثالث: الرُّجْحان: كقولنا: الأصْلُ في الكَلامِ الحقيقة، أي: الراجحُ عند السَّامِعِ الحقيقةُ لا المجازُ عنْد عدم القرينة الصَّارِفَة.

الرابع: الدليلُ: كقَوْلنا: أصْلُ هذه المسألَةِ منَ الكتابِ والسُّنَّة، أي: دليلها، أي: الأصل مثلًا في وجوب الصلاة قولُهُ تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [سورة البقرة: الآية 43] أي: الدليل على وجوبها، وهذه الأربعة ذكرها القرافِيُّ وقال: وفيها نظرٌ؛ لأنَّ الصورةَ المَقِيسَ عليها ليست معنًى زائدًا؛ لأنَّ أصْل القياس اختُلِفَ فيه، هل هو محلُّ الحُكْم ودليلُه أو حُكْمُه؟.

وأيَّما كان، فليس معنىً زائدًا؛ لأنه إِنْ كان أصْلُ القياس دليلَه، فهُو المعْنَى السَّابِق، وإِنْ كان محلَّه أو حُكْمَه، فهما يسميان أيْضًا دليلًا مجازًا، فلم يخرُجِ الأصْلُ عنْ معنى الدَّليل

(1)

والمعنى الرابعُ هو المرادُ عنْد الإِضافة.

‌تَعْرِيفُ المضاف إِلَيْه "الفقه":

تنوَّعت آراءُ أهْل اللُّغة والأصوليين في تَعْريف الفقْه لغةً:

قال ابن فارسٍ في "المُجْمَل": هو العِلْم، وبهذا قال أبو المعالي الجُوَيْنِيُّ في كتابه "التَّلْخِيصِ" وألكيا الهراسيّ، والماوَرْدِيّ، وأبو نَصْرِ بنُ القُشَيْرِيِّ، إِلا أنهم خصَّصوه بضَرْبٍ من العلوم.

وقال الجوهريُّ في "صِحَاحِهِ": هو الفَهْمُ.

وقال ابن سِيدَه في "المُحْكَم": الفقه: العلم بالشيء والفهم له.

(1)

ينظر: البحر المحيط 1/ 17.

ص: 92

وقال أيضًا: غلَب علَى عِلْمِ الدِّين؛ لسيادته وشرفه، كالنَّجْم على الثُّرَيَّا، والعَوْدِ على المنْدَلِ.

وقال ابن سراقَة: وقيل: حدُّه في اللُّغَةِ العبارةُ عنْ كلِّ معلومٍ تيقَّنه العالمُ به عن فكْرٍ.

وحَدَّهُ أبو الحُسَيْن في "المُعْتَمَدِ" وجَرى عليه الرازيُّ في "المَحْصُولِ" بفَهْم غرض المتكلِّم، فلا تسمَّى لغةُ فَهْمِ الطيْرِ فقْهًا، وهذا منتقضٌ بما ورد بأنه يوصَفُ بالفهْم، حيث لا كلام، وبأنه لو كان كذلك، لم يكنْ في نفي الفقْه عنْهم منقصةٌ ولا تعيير؛ لأنه غير متصوَّرٍ، وقد قال الله عز وجل:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء: الآية 44].

وقال العلَّامة ابنُ دَقِيقِ العِيدِ: وهذا تقييدٌ للمُطلَق بما لا يتقَيَّد به.

وقال أبو إِسحاق الشِّيرَازِيُّ في "شَرْحِ اللُّمَعِ": إِنه فهْم الأشياءَ الدَّقِيقَة، سواءٌ كانَتْ غرضَ المتكلِّم أم لا، ورجَّحه القرافِيُّ وقال: هذا أَوْلَى

والصَّحيحُ الذي صار عليه المحقِّقون من أهل العربية والأُصُول: أنه يطلق على الفَهْم مُطْلَقًا، سواءٌ كان المفهومُ دقيقًا أمْ غَيْرَه، وسواءٌ كان غَرَضًا لمتكلِّم أم غيره، والدَّليلُ على ذلك من الكتاب العزيز قولُ الله تعالى على لسان قوم شُعَيْبٍ:{قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [سورة هود: الآية 91].

فوجه الدلالةِ من الآية واضحٌ في أن أكْثَر ما يقول شعيبٌ عليه الصلاة والسلام كان واضحًا، فأطلق الفقه على الكلامِ الواضحِ والدَّقيقِ.

وقال تعالى أيْضًا في شأنِ الكفَّار: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [سورة النساء: الآية 78].

وقولُه أيضًا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء: الآية 44].

فهذه الآياتُ تفيدُ أن الفقْه هو الفهْم مطلقًا.

ص: 93

‌الفِقْهُ فِي نَظَرِ أهْلِ العِلْمِ:

اختلَفَ الأصوليُّون في تعريف الفقه؛ تبعًا لاختلافهم في مسائل الفقْه، هل هي من باب الظَّن، أو القَطْع، أو البعضُ منها قطعيٌّ، والبعضُ الآخَرُ ظنيٌّ؟ وعلى هذا، يمكن حَصْرُ المذاهبِ في ثلاثة:

الأوَّلُ: وهو قول المتقدِّمين: إِن الفِقْه من باب الظُّنُون؛ لأنه مستفادٌ من الأدلة السمعيَّة، وهِيَ لا تفيدُ إِلا ظنًّا؛ لتوقُّف إِفادتها اليَقِينَ على نَفْيِ الاشْتِرَاكِ والمجازِ، وكلُّ ما هو كذلك، فهو ظَنٌّ

(1)

.

المذهبُ الثَّاني: أن الفقْه منه ما هو قطعيٌّ، ومنه ما هو ظنيٌّ، فالقطعيُّ كالثابتِ بالنصِّ من الكتاب والسنَّة المتواترةِ والإِجْماع، والظنيُّ كالثابِتِ بطريق القياسِ وخَبرِ الآحاد.

المذهبُ الثَّالِثُ: وهو مذهبُ صاحبِ "المِنْهَاجِ" الإِمامِ البيْضاوِيِّ: أن الفقه من باب القطْعِيَّات؛ لأنه ثابت بدليل قطعيٍّ، لا شبهةَ فيه، والتصديقُ المتعلِّق بالأحكام القطْعيَّة لا يكُون إِلا قَطْعًا

(2)

.

وقد انبنى هذا الخلافُ على خلافِهِمْ في صحَّة تعريف "الفِقْه" بلفْظ "العِلْم" مرادًا منه الإِدراكُ الجازمُ المطابِقُ للواقعِ عن دليلٍ، وإِليك بعضَ تعريفاتِ "الفقْه" من الجهة الاصطلاحيَّة:

عرَّفه أبو الحُسين البَصْرِيُّ: بأنه في عُرْف الفقهاء: "جملة من العلومِ بأحكامٍ شرعيةٍ"، والمرادُ بـ "أحكامٍ شرعيةٍ" الأحكام الشَّرعيةُ العمليَّة

(3)

.

وعرَّفه الإِمام البيضاويُّ في "منهاجه" بناءً على أن الفقْه من باب "القَطْعِيَّات" بأنه العلمُ بالأحكامِ الشرعيَّةِ العمليَّةِ المكتسَبُ من أدلتها التفصيليَّة

(4)

.

وقال إِمام الحرمَيْن في "البُرْهَانِ": الفقْه، في اصطلاح علماء الشريعة:"العلم بأحكام التكليف".

(1)

ينظر: غاية الوصول 28، تيسير التحرير 1/ 12.

(2)

ينظر: نهاية السول 1/ 43 غاية الوصول 28.

(3)

المعتمد 1/ 2.

(4)

المنهاج ص 2، وينظر: البحر المحيط 1/ 21.

ص: 94

وقال القاضي الحُسَيْنُ المَرْوَزيُّ: الفِقْه افتتاحُ عِلْمِ الحوادثِ على الإِنْسان، أو افتتاحُ شعب أحكامِ الحوادثِ على الإِنْسَان

(1)

.

وقال الزَّركشِيُّ في "قواعده": الفِقْه معرفةُ الحوَادِثِ نَصًّا واستنباطًا

(2)

.

وقال السُّيوطِيُّ في "الأشْبَاهِ والنَّظَائِرِ" نَقْلًا عن الشَّيْخ قُطْب الدِّين السُّنْباطِيّ: الفِقْهُ معرفةُ النَّظَائِرِ

(3)

.

وقال حُجَّه الإِسْلامِ الغزاليُّ: الفِقْه عبارةٌ عن العِلْم والفهْم في أصْل الوضْع، ولكنْ صارَ بعُرْف العلماء عبارةً عن العِلْم بالأحْكَام الشَّرْعيَّة الثابتةِ لأفعال المكلَّفين

(4)

.

وعرَّفه أبو إِسحاقَ الشِّيرازيُّ في "اللُّمَع" بأنه معرفةُ الأحْكَام الشَّرْعيَّة الَّتي طريقتُها الاجتهاد، والشرعيَّةُ ضربان: ضَرْبٌ يَسُوغُ فيها الاجتهاد، وهي المسائل الَّتي اخْتَلَفَ فيها فقهاءُ الأمصارِ على قَولين أو أكثر، وهي لا تُعْلَمُ إِلا بالنَّظر والاستِدْلالِ، كفروعِ العباداتِ والمعاملاتِ والفُرُوجِ والمناكحاتِ وغير ذلك من الأحكام

(5)

.

وعرَّفه ابن الحاجب في "المُخْتَصَرِ" بأنه العِلْم بالأحكامِ الشَّرْعيَّةِ الفرعيَّة من أدلتها التفصيليَّة بِالاسْتِدْلالِ

(6)

.

وعرَّفه صَدْرُ الشَّريعة فقال: "هو العِلْم بِكُلِّ الأحْكَامِ الشرعيَّة العمليَّة الَّتي قد ظَهَر نزولُ الوَحْي بِهَا، والَّتي انعقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَيْهَا من أدِلَّتها مع ملكة الاِستِنباطِ الصَّحِيحِ منها"

(7)

.

وعرَّفه الإِمامُ الأَعْظَمُ أبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بأنه: "مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا"

(8)

. قيل: أخَذَه مِن قَوْلِ الله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [سورة البقرة: الآية 286].

وقد اعْتُرِضَ على هذا التَّعريفِ، فقالوا: إِنه غَيْرُ جَامِعٍ، فزادوا قَيْدًا في التَّعْريف وهو "عَمَلًا" لتخرُجَ الأمورُ الاعتقادية، سواءٌ أكان المقصودُ منه مَعْرِفَة صفاتِ الله - تعالى -

(1)

ينظر: البحر المحيط 1/ 22.

(2)

القواعد المسماة بالمنثور 1/ 69.

(3)

ينظر: الأشباه والنظائر ص 6، والمنثور 1/ 66.

(4)

ينظر: الإِحياء 1/ 38، والمستصفى 1/ 11.

(5)

ينظر: اللمع ص 3.

(6)

ينظر: مختصر المنتهى 1/ 18.

(7)

التوضيح على التنقيح 1/ 103.

(8)

التلويح على التوضيح 1/ 5.

ص: 95

ورُسُلِهِ، أم معرفة الاعتقاداتِ المتعلِّقة بِتِلْك الصِّفات، فإِنْ تعلَّقَ بالوجدانيَّات، فهو عِلْمُ التَّصوُّف، وإِن تعلَّق بالاعتقاديَّاتِ، فهو عِلْمُ الكَلام، وإِن كان عن أحْوَالِهِ الظَّاهِريَّة، فَهُو الفِقْهُ بِالْمَعْنَى المَشْهُور

(1)

.

فالإِضَافَةُ مَعْنَاهَا: اختصاصُ المُضَافِ بِالمُضَافِ إِلَيْه، باعتبار مَفْهُوم المُضَاف، فأصْلُ الفِقْهِ ما يخْتَصُّ بِالفِقْهِ مع كَوْنهِ مبنيًّا عليه، ومستندًا إِليه، والمَشْهُورُ أن الأصْلَ موضوعٌ في اللُّغة لما يَنْبَنِي عليه غَيْرُه، وأنه نُقِل إِلى معانيه المتعدِّدة.

فالمراد بـ "أصول الفقه" في هذا التركيب الدَّليل، فـ "أُصُولُ الفِقْه" أي: أدلَّته، فيقال: أصول الفِقْه: الكتاب، والسنَّة، والإِجماع، والقياس، أي: أدلَّتُه: الكتابُ

إِلخ.

‌التَّعْرِيفُ اللَّقَبِيُّ لأُصُولِ الفِقْهِ:

عَرَفْنا ممَّا تقدَّم في النقْل عن الإِمام أبي يُوسُفَ رحمه الله أن استعمال "أصول الفقه" قد كان على الأقَلِّ في القرن الثَّاني الهجريِّ، بَيْدَ أنَّه من الصَّعْب الكشْفُ عن أوَّل مَن عَرَّف "أصول الفقه" وذلك لأنَّ كتب الأُصُول الَّتي ذُكِرَ فيها تعريفُ عِلْم الأُصُول إِنَّما كانَتْ للأصوليِّين من القرْن الخامسِ الهجريِّ، مع أن القرْنَ الثالث الهجريَّ قد شهد كثيرًا من الأصوليِّين المُبَرِّزين مِثْلُ: النَّظَّامِ (221 هـ)، وأصْبَغَ المالكيِّ (225 هـ)، وداوُدَ الظَّاهريِّ (270 هـ)، والبُوَيْطِيِّ الشافعيِّ (231 هـ)، والمزنِيِّ الشَّافِعِيِّ (264 هـ).

كذلك وصل إِلَيْنا كثيرٌ من كتب الأصول المؤلَّفة في القَرْن الرَّابع الهجريِّ، مثل: أصول الشَّاشِيِّ لأبي إِسحاق الشاشيِّ الحنفيِّ (325 هـ)، وكتاب أصول الجَصَّاصِ للإِمام الجصَّاص الحنفيِّ (370 هـ)، وكتاب أصول الكَرْخِيِّ لأبي الحَسَن الكَرْخِيِّ الحَنَفِيِّ (340).

ولم نجدْ في هذه الكُتُب تعريفَه، ومع ذلك لا نَسْتَطيع القولَ بعَدَم وجوده على سَبِيلِ الإِطْلاق حتَّى في القَرْن الرَّابع الهِجْريّ؛ وذلك لأن احتمال وجوده قائمٌ؛ بدليل وجود كثير من الأصوليِّين المبرّزين الذين ألَّفوا في عِلْم الأصول.

وحَمَلَتْ إِلينا كتبُ الأُصُولِ المؤلَّفةُ في القَرْن الخامسِ الهجريِّ - تعريفه؛ باعتباره عِلْمًا أو لَقَبًا.

(1)

ينظر: حاشية الأزميري 1/ 44، إِرشاد الفحول ص 3.

ص: 96

بَيْدَ أن بَعْض كتبِ هذا العَصْر قد خلَتْ من تعريفه مثْل كتاب "الإِحكام في أصول الأحكام" لابنْ حزمٍ الأَندلسيِّ (456 هـ)، ومنها كتاب "أصولِ السرخسيِّ" للإِمام السرخسيِّ الحنفيِّ (490 هـ). وإِليك بَعْضَ تعريفاتِ الأصوليين:

1 -

قال أبو الحُسَين البصريُّ في "المُعْتَمَد": "يُفِيدُ في عُرْف الفُقَهاء النَّظَرَ في طُرُقِ الفِقْه؛ على طريق الإِجْمَالِ، وكيفيَّةِ الاستدْلال بها، وما يتبع كيفيَّة الاستدلال بها".

2 -

قال إِمام الحرمَيْنِ في "الوَرَقَاتِ": "إِنَّه طرقُ الفِقْه خلى سَبِيلِ الإِجْمال، وكيفيَّةِ الاسْتِدلالِ بها".

3 -

وعرَّفه الغزاليُّ في "المستصْفَى" بأنه: "عبارةٌ عن أدلَّةِ الأحكامِ، وعن معرفة وجُودِ دلالتها على الأحكام من حيثُ الجملةُ لا من حيثُ التفصيلُ".

4 -

وعرَّفه الرَّازيُّ بأنَّه: "مجموعُ طُرقِ الفِقْهِ على سَبِيلِ الإِجْمَال، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المُسْتَدِلِّ بها".

5 -

وعرَّفه الآمِدِيُّ بأنَّه: "أدلَّةُ الفِقْه، ووجهاتُ دلالتها على الأحكام الشرعيَّة، وكيفيَّهُ المستدِلِّ بها، من حيث الجملة، لا من حيثُ التفصيلُ".

6 -

وعرَّفه البَيْضَاوِيُّ بأنه: "معرفةُ دلائلِ الفِقْه إِجْمالًا، وكيفيَّةِ الاستفادةِ مِنْها وحَالِ المُسْتَفِيدِ".

7 -

وعرَّفه تاجُ الدِّين السُّبْكيُ: "بأنه دلائلُ الفِقْهِ الإِجماليَّةُ".

8 -

وعرَّفه من المالكيَّة ابن الحاجب بأنه: "العِلْم بالقَوَاعِدِ الَّتِي يتوصَّل بها إِلى استنباطِ الأحْكام الشرعيَّة الفرعيَّة عن أدلَّتها التفصيليَّة".

9 -

وعرفه الأرمويُّ في "التَّحْصيل"

(1)

بأنه: "جميعُ طُرُق الفِقْه، مِنْ حيث هي طرقٌ، وكَيْفِيَّةُ الاستدلالِ وحالُ المستدِلِّ بها".

10 -

وعرَّفه الزركشيُّ في "البحر المحيط"

(2)

بأنه: "مجموعُ طُرق الفِقْه؛ من حيثُ إِنَّها على سبيل الإِجْمَال، وكيفية الاستدلال، وحالة المستدِلِّ بها".

11 -

وعرفه الشيخ زكريا الأنصاريُّ في "لب الأصول" بأنه: "أدلَّةُ الفِقْهِ الإِجمالية،

(1)

ينظر: التحصيل 1/ 168.

(2)

ينظر: البحر 1/ 24.

ص: 97

وطرق استفادة جزئياتها

(1)

، وحال مستفيدها، وقيل: معرفتها".

12 -

وعرَّفه من الحنفيَّة صدْرُ الشريعةِ بأنَّه: "العِلْم بالقواعِدِ الَّتي يتوصَّل بها إِلَيْه على وجْه التَّحْقيق".

13 -

وعرفَه الأنصاريُّ في "فواتح الرَّحَمُوت"

(2)

بأنه: "علمٌ بقواعَد يُتَوصَّل بها إِلى استنباط المَسَائِلِ الفقهيَّة عنْ دلائلها".

14 -

وعرَّفه منلاخسْرو في "المرآة"

(3)

بأنه: "علم يُعْرف بهِ أحْوالُ الأدلَّة والأحْكام الشرعيَّتَيْن من حَيْثُ إِن لهما دخْلًا في إِثبات الثَّانية بالأُولى".

15 -

وعرَّفه من الحنابلة صفي الدِّين الحنبليُّ

(4)

بأنَّه: "معرفةُ دلائلِ الفقْه إِجمالًا، وكيفية الاستفادةِ منها، وحالِ المستفيد، وهو المجتهد".

‌مَوْضُوعُ أُصُولِ الفِقْهِ

من المعروف أن موضوع كلِّ علْم: هو ما يبْحَث فيه عن عوارضه الذاتيَّة

(5)

، كما نصَّ على ذلك أربابُ علماء الأُصُول؛ وذلك أن مسائله الكُلِّيَّة يدور البحثُ فيها عن أحواله الذاتيَّة، الَّتي تتعلَّق بشْيءٍ واحدٍ، أو بأشياء متعددةٍ، بشرط أن تكُونَ مناسبةً تناسُبًا يُعتدُّ به، بأن يجمعها أمرٌ مشتركٌ يَدُور البَحْثُ حَوْلَه

(6)

. واختلف العلماءُ في موضوعِ "عِلْم أُصُولِ الفِقْه" على مذاهب:

1 -

المَذْهَب الأوَّل: وإليه ذهب الآمِدِيُّ؛ حيث يرَى أن موضوعَهُ هو الأدلَّةُ الأربعة، من حيث الإِثبات، وزَعَم أن الأحكام إِنَّما يُحْتاجُ إِلى تصوُّرها؛ ليُتَمَكَّنَ من إِثْبَاتها ونفْيها.

وعبارةُ الآمديِّ في "الإِحْكَام"

(7)

: "ولمَّا كانَتْ مباحثُ الأصوليِّين في عِلْم الأُصُول لا

(1)

ينظر: التلويح (1/ 137).

(2)

ينظر: فواتح الرحموت 1/ 14.

(3)

ينظر: مرآة الأصول 1/ 23.

(4)

ينظر: قواعد الأصول ومعاقد الفصول ص 8.

(5)

المراد بالعَرَضِ الذاتيِّ: ما يكون منشَؤُه الذات، بأنَّه يلحق الشيء لذاته، والمراد بالبَحْثِ عن الأعراضِ الذاتيَّةِ حملُها على موضوع العلم.

(6)

ينظر: تيسير التحرير 1/ 18، وارشاد الفحول ص 5، والتلويح على التوضيح 1/ 137.

(7)

ينظر: الإِحكام 1/ 8، 9.

ص: 98

تَخْرُج عنْ أحوالِ الأدلَّة المُوَصِّلَة إِلى الأحْكام الشرعيَّة المَبْحوثِ عَنْها فيه، وأقْسَامِهَا، واختلافِ مَرَاتِبِها، وكيفيَّة استثمارِ الأحْكَام الشرعيَّة عَنْها على وجْهٍ كُلِّيٍّ، كانَتْ هي موضوعَ علمِ الأُصُول".

2 -

المذهبُ الثَّاني: وإِليه ذهَب الغزاليُّ؛ حيثُ يرى أن موضوعه هو الأحْكَام

(1)

فقطْ مِنْ حيثُ ثبوتُها بالأدلَّة، ويكونُ موضوع عِلْم الأصولِ حينئذٍ هو البَحْثَ عن العوارِضِ الذاتيَّة الثَّابتةِ للأحْكَام؛ لإِثباتها بالدليل.

3 -

المذهب الثَّالِث: ويُنْسَب إِلى صَدْر الشَّريعة الحنفيِّ؛ حيث يرى أن مَوْضُوع عِلْم أُصُول الفِقْه هو الأَدِلَّة والأحْكَام جميعًا؛ لأن جميعَ مباحِثِ أصُول الفِقْه راجعةٌ إِلى إِثْبَاتِ أعْرَاضٍ ذاتيَّة للأدلَّة والأحكام، من حَيْثُ إِثباتُ الأدلَّةِ للأحْكَام وثبوتُها بها

(2)

.

قال: "وإِذَا عُلِمَ أن جميعَ مسائِلِ الأصُولِ راجعةٌ إِلى قوْلنا: كلُّ حُكْم كذا يَدُلُّ على ثبوته دليلُ كَذَا، فهو ثابتٌ، أو كُلَّما وُجِدَ دليلُ كَذا دالًّا على حُكْمِ كَذا، يثْبُتُ ذلك الحُكْم، عُلِمَ أنَّه يُبْحَث في هذا العِلْمِ عن الأدلَّة الشرعيَّة والأحْكَام الكلِّيَّتَيْن مِنْ حَيْث إِنَّ الأُولَى مثبتةٌ للثانية، والثانية ثابتةٌ بالأُولى والمباحِثُ الَّتي ترجع إِلى أن الأُولى مُثْبِتَةٌ للثَّانِيَة، والثانية ثابِتَةٌ بالأُولى بعضُها ناشئةٌ عن الأدلَّة، وبعضُها ناشئةٌ عن الأحْكام، فموضوع هذا العلْمِ الأدلَّةُ الشَّرعيَّةُ والأحْكَامُ؛ إِذْ يُبْحَث فيه عن العَوَارِض الذاتيَّة للأدلَّة الشرعيَّة، وهي إِثباتها الحُكْمَ، وعن العوارض الذاتيَّة للأحْكَام، وهي ثبوتها بتلك الأدلَّة".

4 -

المذْهَب الرَّابع: وهو يُنْسَب إِلى ابْنِ قَاسِمِ العَبَّادِيِّ؛ حيث يرى أن موضوعَهُ: الأدلَّةُ والترجيحُ والاجْتهاد، يعني المرجِّحَاتِ وصفاتِ المُجْتَهد؛ وحُجَّته في ذلك:"أن عِلم أصول الفِقْه يُبْحَث فيه عن الأعْرَاض الذاتيَّة للتَّرْجِيح والاجتهاد أيْضًا، كالأدِلَّة، ولذلِك كانتْ مباحثُهُما في هذا العِلْم بالاتفاق".

وعلى هذا المَذْهَب ترجع مباحثُ الأحْكَام إِلى الأدلَّة.

(1)

والأحكامُ: هي الوجوب، والنَّدب، والحُرْمَة، والكرَاهَة، والإِباحة، والسَبَبيَّة، والشرطيَّة، والمانِعِيَّة، والصِّحَّة، والفَسَاد.

ينظر: مرآة الأصول شرح مرقاة الوصول 1/ 64، وتيسير التحرير 1/ 18.

(2)

ينظر: التلويح على التوضيح 1/ 21، وتيسير التحرير 1/ 18.

ص: 99

ورُدَّ هذا بأنَّ البحْثَ عن التَّرْجيح بحْثٌ عن أعراض الأَدِلَّة عند تعارُضِها؛ باعتبار ترْجيحِ بعْضِها علَى بعْضٍ عنْد وجُود مرجِّح، أو باعتبارِ تساقُطِها عند عَدَمِه، فتدلُّ على الحُكْم في الحالَةِ الأُولَى، ولا تدُلُّ علَيْه في الحالة الثَّانية.

وإِنَّما يكونُ البَحْث عن الاجتهاد، باعتبار أنَّ الأدلَّة إِنما تُسْتَنْبَط مِنْها أحكامُ المجتهِدِ دُون غيرها.

ويُعْتَبرُ ما ذَهَب إِليه ابنُ قاسِمٍ العباديُّ مخالفًا لما ذهب إِليه الأصولِيُّون في المرجِّحات، وصفاتِ المُجْتهدِ؛ حيث إِنَّ الأصوليِّين لم يبْحثوا عن الأصولِ المتعلِّقة بها. ويعتبر مخالفًا أيْضًا لما علَيْه رؤساءُ هذا الفنِّ من انحصار موْضُوعه في الأدلَّة والأحْكام، وما أوْضَحَه المتكلِّمون والمناطقة من أنه إِذا تعدَّد الموضُوع، فلا بُدَّ له من مفْهُوم كُلِّيٍّ يصْدُق على أفراده المتعدِّدة، ويُعَبِّر عنها، وذلك بَعِيدٌ ههنا.

ص: 100

‌نَشْأَةُ عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ

يلاحِظُ الدارسُ لتاريخِ نشْأَة أصول الفقه أنَّه نَشَأَ مع عِلْم الفِقْهِ، وإنْ كان الفِقْهُ قد دُوَّن قبْلَه، كما هو مَعْلُوم؛ لأنه - حَتْمًا - حيث يكون فِقْهٌ، فلا بد من وجُود مِنْهاج للاستنباط جَنْبًا إلى جَنْب. وحيثُ كانَ المِنْهَاج، فلا محالة مِنْ أُصُول الفِقْه. وإذا كان استنباطُ الفِقْه قد ابْتَدَأ بَعْد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أي: في عَصْر الصَّحابة، فإن الفقهاء من بَيْنِهِم كابْنِ مَسْعُود، وعليِّ بْنِ أَبِي طالبٍ، وابن الخطَّاب ما كَانُوا يقولون أقوالَهُم، ويعبِّرون عن آرائهم من غَيْر قَيْدٍ ولا ضَابِطٍ، فإذا سمع أحدٌ عليًّا - كرَّم الله وجْهَه - يقُول في عُقُوبة شَارِب الخَمْر:"إنَّه إذا شَرِبَ هَذَى وإذا هَذَى، افْتَرَى، وحدُّه حَدُّ المُفْتَرِين، فيجبُ حدُّ القذْف" فإن السامع يجد أن الإمامَ الجليلَ - كرَّم الله وجْهه - ينهج منهاح الحُكْم بالمآل، أو الحُكْمِ بسَدِّ الذرائع. كذلك قال عبد الله بنُ مَسْعُود في عِدَّة المُتوفَّى عنها زوجُها الحَامِلِ: إنَّ عِدَّتها بوضع الحَمْل، واستدلَّ على ما ذهب إلَيْه بقوْلهِ تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} {سورة الطلاق: الآية 4]، ويقول في ذلك:"أشْهَدُ أن سورة النِّسَاء الصغْرى نزلَتْ بعد سورةِ النِّساء الكُبْرى" يقصد أن سورة "الطَّلاق" نزلت بعد سورة "البَقَرة"، وهو يشير إلى قاعدةِ مِنْ قواعدِ عِلْم الأُصُول، وهي:"أن المتأخِّر ينْسَخ المتقدِّم أو يخصِّصُه" وهو يلتزم بهذا منهاجًا أصوليًّا. إذنْ نستطيع أن نقرِّر - بلا شك - أن الصَّحابة رضي الله عنهم في اجتهادِهِمْ كانُوا يلتزمُون مناهِجَ، وإنْ لم يصرِّحوا في كل الأحْوال بها

(1)

.

ومما لا شَكَّ فيه أن الصحابة - رضوانُ الله عليهم - لم يُحْدِثُوا هذا الأمْرَ دون

(1)

ينظر: أصول الفقه للشيخ أبي زهرة ص 10 - 11.

ص: 101

مقدِّمات، إنَّما هو نتائجُ لتعليم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لهم هذهِ القواعِدَ. حيثُ تمَّ في عصْر الرسُول صلى الله عليه وسلم تأصيلُ مصادِرِ الشَّرِيعة الرَّئِيسيَّة المَشْهُورة في عَصْره.

ومن ناحية أُخْرَى، فقَدْ أوْضَح الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بالقرآن، أو بسُنَّته - بأعتبارهما المصْدَرَيْن الأساسيَّيْن لشريعة الله تعالى - كثيرًا من المبادئ العامَّة، والقواعد الرَّئيسيَّة التي يجبُ على المجتهد أنْ يَحْذُو حَذْوَها في اجْتهاده.

ومن أمثلة ذلك فهْمُ النُّصُوص باللِّسان العربيِّ، لأنَّ الله تعالى قد بيَّن في كتابه أنَّه أنزله باللِّسان العربيِّ، وأنَّ الصحابة رضي الله عنهم فَهِمُوا مِنْ صيغة الأمْر أنَّها تَكون للطَّلَب، كما فهموا من صيغة النَّهْي أنَّها تكون لعَدَمِ الفِعْل.

‌مثال صيغة الأمْر:

ما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ على أُبَيِّ بْن كَعْبٍ، وهو في الصَّلاة، فدعاه، فلَمْ

يُجِبْه، ثم اعتذَرَ إلَيْه؛ أنه كان في الصلاة، فقال له: ألَمْ تَسْمَعِ الله يَقُول: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} {سورة الأنفال: الآية 24} قال: بلى، يا رسول الله، لا أَعودُ

(1)

. حيث فهم أبيُّ بنُ كَعْبٍ رضي الله عنه أن صيغة الأمْر للوجوب، إلَّا أنه اسْتَثْنى حالَتَهُ من ذلك.

‌ومثال صيغة النَّهْي:

روتْ أُمُّ عطيَّةَ رضي الله عنها أنها قالَتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا"

(2)

.

وفي هذا يقولُ الحافظُ ابنُ حَجَر: عند تعليقه على هذا الحَدِيثِ: أي: ولم يُؤكِّد عَلَيْنا في المَنْع، كما أُكِّدَ عَلَيْنا في غَيْره من المَنْهِيَّات، فكأنَّها قالَتْ: كُرِه لنا اتِّبَاعُ الجنائِزِ مِنْ غَيْر تَحْرِيمٍ. والقصَّة هنا نَهْيٌ بَعْدَ إباحَةٍ، فكان ظاهرًا في التَّحْريم، فأرادت أن تُبيِّن لهم أنَّه لم يُصَرَّح لهم بالتحريم.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه 5/ 143 في كتاب "فضائل القرآن" باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب حديث 2875، وأحمد في المسند 2/ 312 - 313، والبغوي في شرح السُّنة 2/ 339.

(2)

أخرجه البخاري 3/ 173 في كتاب الجنائز باب اتباع النساء الجنائز حديث 1278.

ص: 102

وإنَّ المستَقْرئَ للشريعة الإسْلاميَّة قرآنًا وسُنَّة يجد أن تأسيسَ المَنَاهِج الأصوليَّة قد تمَّ في عَصْر الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ارتحل إلى جِوَارِ رَبِّه طبَّق الصَّحابة - رضي الله تعالى عَنْهُم - ما تَعَلَّمُوا مِنْه مِنْ قَوَاعِدَ أصوليَّةٍ، ثمَّ بَعْدَ ذلك تلاحقَتِ الأزمانُ حتَّى عَصْر الشَّافعيِّ، ولقد تنوَّعتِ الآراء، وتعدَّدتْ حول واضِعِ عِلْم أُصُول الفِفْه، ونحن نذكر خلافَهُم على سَبِيلِ الإجْمَال لا الحَصْر.

‌اخْتِلافُ الْعُلَمَاءِ حَوْلَ وَاضِعِ عِلْمِ الأُصُولِ:

يرَى الجُمْهُورُ من أهْل الفِقْه والأُصُول أن الإمام الشافعيَّ هو أولُ من دوَّنَ "أُصُولَ الفِقْه".

ونرجئُ الكلام حَوْل الإمام الشَّافعيِّ باعتباره واضِعًا لقواعِدِ الاسْتِنْبَاط التي هي مدارُ عِلْم أُصُول الفِقْه - بعد التعرُّض لاختلاف العلماء حَوْل واضِعِ عِلْم أُصُول الفِقْه.

‌أوَّلًا: الإمَامُ مُحَمَّدٌ البَاقِرُ:

هو: محمدُ بنُ عليٍّ زين العابِدِينَ بْن الحُسَيْن الطالبيُّ الهاشميُّ القرشيّ، أبو جَعْفَرٍ الباقرُ: خامس الأئمَّة الاثْنَيْ عَشَرَ عِنْد الإماميَّة. كان ناسكًا عابدًا، له في العِلْم وتفسير القُرْآن آراءٌ وأقوالٌ وُلدَ بالمدينة عام 57 هـ، وتُوُفِّيَ بـ "الحميمَةِ" عام 114 هـ، ودُفِنَ بـ "المدينة"

(1)

. وابنه جعفرُ بنُ محمَّد الملقَّبُ بـ "الصادق" سادسُ الأئمَّة الاثْنَيْ عَشَرَ عِنْد الإماميَّة، ولُقِّبَ بـ "الصَّادِق"؛ لأنَّه لَم يُعْرَف بالكذِبِ قطّ، ولد سنة 80 هـ، وتوفي سنة 148 هـ بـ "المدينة".

قال آيةُ الله السَّيِّدُ حسَنُ الصَّدْر: أعْلَمْ أن أوَّل مَنْ وضَع أُصُولَ الفِقْهِ وفتَح بَابَه، وأوْضَح مسائِلَهُ الإمامُ أبو جَعْفرٍ محمَّدٌ الباقر، ثم مِنْ بَعْده ابنُهُ الإمَامُ أبو عبْدِ اللَّهِ الصَّادق، وقد أمْلَيا على أصحابِهِما قواعِدَه، وجمَعُوا من ذلك مسائِلَ رتَّبَها المتأخِّرون على ترْتيب المصنِّفين برواياتٍ مسْنَدةٍ إلَيْهما، مُتَّصِلَةِ الإسنادِ، وكُتُبُ مسائلِ الفِقْهِ المرويّهِ عَنْهُما بأيدينا

(1)

ينظر: تهذيب التهذيب 9/ 350، وصفة الصفوة 2/ 60، وحلية الأولياء 3/ 180، والأعلام 6/ 271.

ص: 103

إلى هذَا الوقْت بحمد الله، مِنْها كتابُ أُصُول آل السَّيِّد الرَّسُول رُتِّب على ترْتيب مباحث أُصُول الفِقْه الدَّائرة بَيْن المتأخِّرين، جمعه السيِّد الشريفُ المُوسَوِيُّ هاشم بْنُ زينِ العَابِدِينَ الخونساريُّ الأصفهانيُّ رضي الله عنه في نحْو عشرين ألْفَ بيْتٍ كتابةً.

ومنها الأُصُولُ الأصليَّة للسَّيِّد عبد الله العلَّامة المحدِّث عبد الله بن محمَّد الرضا الحُسَيْنِيّ، وهذا الكتاب من أحسنِ ما رُوِيَ، فيه أصول تبلغ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ بَيْتٍ.

ومِنْها الفُصُول المُهمَّة في أُصُول الأئمَّة للشَّيْخ المحدِّث محمَّد بن الحسن بن علي العامِلِيّ.

‌ثَانِيًا: الإمَامُ أَبُو حَنِيفَة النُّعْمَانُ:

هُوَ: النُّعْمَانُ بنُ ثَابتٍ، التيميُّ بالولاء، الكوفيّ، أبو حنيفة، إمامُ الحنفيَّة، أحدُ دَعائِمِ الإسْلامِ الأربعةِ عِنْد أَهْل السُّنَّة، وُلدَ سنَةَ 80 هـ، وتُوُفَيَ بـ "بغداد" سَنَة 150 هـ.

وقد أثنى عليه الأستاذُ أبو الوفا الأفغانيّ، وقال فيه:"وأمَّا أوَّل من صنَّف في عِلْم الأُصُول - فيما نعْلَم - فهو إمام الأئمة، وسراجُ الأمَّةِ أبو حنيفة النعمانُ رضي الله عنه حَيْثُ بيَّن طرق الاستنباط في كتاب "الرأْي" له، وجاءَ بعْدَه صاحباه القاضي الإمامُ أبو يوسُفَ يعقوبُ بنُ إبراهيم الأنصاريّ، والإمامُ الربانيُّ محمَّدُ بنُ الحَسَنِ الشيبانيُّ - رحمهما الله - ثم الإمام محمَّدُ بنُ إدْرِيس الشَّافِعِيُّ رحمه الله صنف "رسالته".

‌ثَالِثًا: مُحَمَّدُ بْن الحَسَنِ:

هو: محمَدُ بنُ الحسنِ بْنِ فرْقَد، من موالي بَنِي شَيْبَانَ، أبو عبد الله، إمام بالفقْه والأصُول، وهو الذي نشَر عِلْم أبي حنيفة. وُلدَ بـ "وَاسِط" سنة 131 هـ وتُوُفِّيَ بـ "الرَّيِّ" سنة 189 هـ.

جاء في "فِهْرِسْت" ابن النَّدِيم: أن له من الكتب في الأصول كتاب "الصَّلاة"، وكتاب "الزَكَاة"، وكتابَ "المَنَاسِك"، وكتابَ "النِّكَاح"، وكتابَ "الطَّلاق" .... وكتابَ "اجْتِهاد الرَّأْي"، وكتابَ "الاسْتِحْسَان" وكتاب "أُصُول الفِقْه"

الخ.

وقال ابنُ خَلِّكَانَ: صنَّف محمَّدُ بنُ الحَسَنِ الشيبانيُّ الكُتُبَ الكثيرةَ النادِرَةَ مِثْل "الجامع الكَبير"، و"الجامع الصَّغير"

الخ.

وجاء في كتاب "هَدِيَّة العارفين": أن له كتاب "الأصْل في الفُرُوع".

ص: 104

وقال الأستاذ أحمد أمين: نَعَمْ، روى ابنُ النَّدِيم أن محمَّد بْنَ الحَسَنِ ألَّف كتابًا في أُصُول الفِقْه، ولكنْ لم يَصِلْ إلَيْنا هذا الكتاب، حتَّى نستطيع أنْ نقارِنَ بَيْنَهُ وبَيْن "رسالةِ الشَّافِعِي"، ونعْلَمَ ماذا استفاد الشافعيُّ من أصول محمَّدٍ، وماذا اخترع من نَفْسِه؟.

‌رابعًا: أَبُو يُوسُفَ:

هو: يعقوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ بْن حبيبٍ الأَنْصَارِيُّ الكُوفِيُّ البغداديّ، صاحبُ الإمام أبِي حنيفة وتِلْمِيذُه، وأول من نشر مذهبه، ولد بـ "الكوفة" سنة 113 هـ، وهو أوَّل من دُعِيَ قاضي القُضَاة، وأوَّلُ مَنْ وضَعَ الكُتُبَ في "أصُول الفقه" توفي سنة 182 هـ.

ومما لا شَكَّ فيه أن أبا يوسُفَ قد استعْمَل لَفْظ "أصُولِ الفِقْه" كما ألمحنا إلى ذلك سابقًا، وسواء أراد به المَعْنَى الإضافيَّ، أو اللَّقَبيَّ الَّذي اشْتهر به عِنْد المتأخِّرين، فإنَّه دلَّ على المنْهج الأصوليِّ. ومما يُذْكَر أنَّه جاء في بَعْض المصادِر مِثْل كتاب "مناقب الإمام الأعْظَم" نَقلًا عَن طَلْحةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ؛ أن أبا يُوسُفَ أوَّلُ من ألَّف الكُتُب في أصُول الفِقْه على مَذْهَب أبِي حَنِيفَة.

ورأى الشَّيْخُ مصطفى عبد الرَّازق أن القَوْل بأنَّ أبا يوسُفَ هو أوَّلُ من تكلَّم في أصول الفِقْه على مذْهَب أبِي حنيفَةَ، إذا صَحَّ، لا يُعَارِض القَوْلَ بأن الشافعيَّ هو الذي وضَع أصولَ الفِقْه علمًا ذا قواعِدَ ومبادئَ عامةٍ يَرْجعُ إليها كلُّ مستَنْبِطٍ لحكْمٍ شَرْعِيٍّ.

وهذه الآراء - الَّتي ألْمَحْنا إليها - وإن كانت تُعْطِينا فكْرة عامَّةً بأنَّ هناك حركات بدأَتْ تنْظُر في تَكْوِين هذا العِلْم إلَّا أن الإمام الشافعيَّ قد أرسَى قواعِدَ هذا الفَنِّ.

قال البيهقي: "ومَنْ وَقَفَ على الحكايات الَّتِي وَرَدَتْ عن علماء عَصْرِهِ وفقهاءِ زَمَنِهِ الَّذِين ماتَ بعْضُهم قبْلَه، وبعْضُهم بَعْدَه، عَرَف اعْتِرَافَهم له بالعِلْم والفِقْه، وأنَّه لم يُسْبَقْ إلى التَّصْنِيف في الأُصُول، وأنَّهم عَنْه أَخَذُوا هذا النَّوْعَ من العِلْم، وواضحٌ في كُتُبِ من صنَّف في أصول الفقه أنَّهم اقتبسوا عِلْمَها، وعلى تأْسِيسِهِ وضَعُوها.

وصَرَّح الرَّازيُّ: بدون تردُّد إلى أن النَّاسَ مُتَّفِقون على ذلك؛ حيث يقول: اتَّفقَ النَّاس على أن أوَّلَ من صنَّفَ في هذا العِلْم - أي: علم - أصولِ الفقهِ - الشافعيّ، وهُو الَّذي نَسَّقَ أبْوَابه، وميَّز بَعْض أقْسَامِه مِنْ بَعْضِ، وفسَّر مراتِبَها في القُوَّة والضَّعْف.

وقال الجُوينيُّ في "شَرْح الرِّسَالة": "لم يَسبِقِ الشافعيَّ أحدٌ في تصانِيفِ الأُصُول،

ص: 105

ومَعْرِفَتها، وقد حُكِيَ عن ابْنِ عبَّاس تخصيصُ العمومِ، وعنْ بَعْضِهم القولُ بالمَفْهُومِ، ولمنْ بعدِهِم لم يُقَلْ في الأصولِ شيء، ولَمْ يَكُنْ لهم فيه قدمٌ، فإنَّا رأيْنا كُتُب السَّلَف من التابعين، وتابِعِي التَّابِعينَ وغَيْرِهم، وما رأيْنَاهم صنَّفوا فيه".

وقال الشَّيْخ محمَّد أبو زهرة: "وقدِ اختُصَّ الشَّافعيُّ من بين المجتهدينَ الَّذِين سَبَقُوه وعاصَرُوه بأنَّه هو الَّذي حَدَّ أصولَ الاسْتِنْبَاط، وضبَطَها بقواعد عامَّةٍ كلِّيَّةٍ

فكان الشَّافعيُّ بهذا السَّبْق واضِعَ عِلْم أُصُول الفِقْه؛ لأنَّ الفُقَهَاء كانوا قَبْلَه يَجْتَهِدُون من غَيْر أن تكونَ حُدودٌ هناك مرسومةٌ لِلاسْتِنْبَاط.

وقال المستَشْرِق جولد زيهير: وأظْهَرُ مزايا محمَّدِ بنِ إدْرِيِسَ الشِّافعيِّ أنه وضَع نظام الاسْتِنباط الشَّرْعِيِّ من أصول الفقه، وحَدَّد مجالَ كلِّ أصْلٍ من هذه الأُصول، وقَدِ ابتَدَعَ فِي رِسَالَتِهِ نِظامًا لِلقياس العَقْليِّ الذي ينبغي الرُّجُوع إلَيْه في التَّشْرِيع مِنْ غَيْر إخْلالٍ بما للكتاب والسُّنَّة من الشَّأْن المقدَّم، ورتب الاستنباطَ من هذه الأصول ووضَع القَوَاعِدَ؛ لاستعمالها بَعْدما كان جُزَافًا.

ونَخْتَتِمُ ذلك بكلمةٍ للإمام الإسنويِّ حاكيًا الإجْماعَ عما سلف؛ إذ يقول: وكانَ إمَامُنَا الشَّافعيُّ رضي الله عنه هو المُبْتكِر لهذا العِلْمِ بلا نزاعٍ، وأوَّلَ من صنَّف فيه بالإجْماع، وتصْنيفُه المذكور فيه موجودٌ بحمد الله - تعالى - وهو الكتابُ الجليلُ المشْهُور المَسْمُوع عليه المتصلُ إسْنَادُه الصَّحيحُ إلى زَمانِنَا المَعْرُوفُ بـ "الرِّسَالَة"، الذي أرْسَلَ الإمامُ عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مهديٍّ من "خُرَاسَانَ" إلى الشافعيِّ بـ "مِصرَ" فصنَّفَه لَه، وتنافَسَ في تحْصيله علماءُ عَصْره.

‌الرِّسَالَةُ والشَافِعِيُّ:

قال العلَّامة أحْمَد شَاكِر: والشافعيُّ لم يُسَمِّ "الرسالةَ" بِهذا الاسْم، إنَّما يُسمِّيها "الكتاب" أو يقولُ:"كِتَابِي"، أو "كِتَابنا"

(1)

.

ويقول في كتابه "جِمَاعُ العِلْمِ" مُشِيرًا إلى "الرِّسَالة": "وفيما وصَفْنا - ههنا - وفي "الكِتَاب" قبل هذا"

(2)

. ويَظهر أنَّها سُمِّيَتِ "الرسالة" في عَصْره، بسبب إرْسَاله إيَّاها

(1)

ينظر: الرسالة فقرة: 96، 418، 420، 573، 625، 709، 953.

(2)

ينظر: الأم 7/ 253.

ص: 106

لعبد الرحمن بْنِ مهديٍّ، كما تقدَّم.

وكتابُ "الرِّسالة" أوَّلُ كتابٍ أُلِّف في "أُصولِ الفِقْه"، بل هو أوَّلُ كتابٍ أُلِّفَ في "أصولِ الحَدِيثِ" أيْضًا.

قال الفخرُ الرَّازيّ في "مناقِب الشَّافِعِي": "كانوا قبْلَ الإمامِ الشافعيِّ يتكلَّمون في مسَائِلِ أُصُول الفِقْهِ، ويستدلُون ويَعْتَرِضُون، ولكنْ ما كان لَهُمْ قانونٌ كُلِّيٌّ مرجوعٌ إلَيْه في مَعْرِفَة دَلائلِ الشَّريعةِ، وفي كيفيَّة مُعَارضَاتِهَا وتَرْجِيحَاتِها، فاسْتَنْبط الشَّافعيُّ عِلْمَ أُصُول الفِقْهِ، ووضَع للخلْق قانونًا كلِّيًّا يُوْجَعِ إلَيْه في معرفة مراتِبِ أدلَّة الشَّرْع، فثَبَتَ أن نسبة الشَّافِعِي إلى عِلْمِ الشَّرْعِ كنسبة أرِسْطَاطالِيسَ إلى عِلْم العَقْل".

وقال بدرُ الدِّينِ الزركشيُّ في كتاب "البَحْرِ المُحِيطِ" في الأصُول: الشَّافعيُّ أولُ من صنَّف في أُصُول الفِقْه، صنَّف فيه كتاب "الرِّسالة"، وكتاب "أَحْكَام القُرْآن"، وكتاب "اختلاف الحديث"، وكتاب "إبطال الاسْتِحْسَان"، وكتاب "جِمَاع العِلْم" وكتاب "القياس".

وأقولُ: إن أبوابَ الكِتَاب ومسائِلَه، التي عَرَضَ الشَّافعيُّ فيها للكلامِ على حديثِ الواحدِ والحُجَّة فيه، وإلى شُرُوط صحَّة الحديث، وعَدالة الرُّواة، وردِّ الخَبَرِ المُرْسَل والمُنْقَطِع - هذه المسائلُ عِنْدي أدقُّ وأغْلَى ما كتَبَ العُلَمَاءُ فِي أُصُول الحَدِيث، بلْ إنَّ المتفقِّه في علوم الحديث يفْهَم أنَّ ما كُتِبَ بعْده إنَّما هُو فُروعٌ مِنْه، وعالَةٌ عَلَيْه، وأنَّه جَمَعَ ذلك، وصنَّفه على غَيْرِ مِثَالٍ سَبَق، لله أبُوهُ

و"كتاب الرِّسالة" بل كتبُ الشافعيِّ أجمعُ كتبُ أدبٍ ولغةٍ وثقافةٍ، قبل أن تكون كتُبَ فِقْهٍ وأُصُولٍ، ذلك أن الشافعيَّ لم تَهْجُنْه عُجْمَةٌ، ولم تَدْخُل على لسانِه لُكْنَةٌ ولم تُحْفَظْ عليه لَحْنَةٌ أو سَقْطَةٌ.

قال عبد الملكِ بنُ هشامٍ النَّحْويُّ صاحبُ "السِّيرةِ": "طَالتْ مُجَالسَتُنا للشافعيِّ، فما سمِعْتُ منه لَحْنةً قط، ولا كلمةً غيْرُها أحْسَنَ مِنْهَا".

وقال أيْضًا: "جالَسْتُ الشافعيَّ زمانًا، فما سمعْتُه تكلَّم إلَّا إذا اعتبرها المعتَبِر، لا يجد كلمةً في العربيةِ أَحْسَن مِنها".

وقال أيْضًا: "الشافعيُّ كلامه لُغَةٌ يُحْتَجُّ بها".

ص: 107

وقال الزَّعفرانيُّ: "كان قوْمٌ من أهْلِ العربيَّة يختَلِفُون إلى مَجْلِس الشَّافعيِّ معنا، ويجْلِسُون ناحية، فقلْتُ لرجل من رؤَسَائِهم: إنَّكُمْ لا تتعاطَوْن العِلْم، فلِمَ تخْتَلِفُون مَعَنا؟ قالوا: نَسْمَع لُغَةَ الشَّافعيِّ".

وقال الأَصْمَعِي: "صحَّحْت أشْعَار"هُذَيْل" على فَتًى من "قُرَيْشٍ"، يقال له: محمَّدُ بنُ إدْرِيِسَ الشَّافِعِيُّ".

وقال ثَعْلَبٌ: "العجَبُ أن بَعْض النَّاسِ يَأْخُذُون اللُّغَة عن الشافعيِّ، وهو مِن بَيْت اللُّغَة! والشافعيُّ يجِبُ أنْ يُؤْخَذَ منه اللُّغة، لا أنْ يُؤْخَذَ عَلَيْه اللُّغَةُ" يعني: يجب أن يحتجوا بألفاظه نَفْسِها، لا بما نَقَلَه فَقَطْ، وكفَى بشهادة الجاحظ في "أدَبِه وبَيَانِهِ" حيث يقول:"نَظَرْتُ في كُتُبِ هؤلاءِ النَّبَغَةِ الَّذِين نَبَغُوا فِي العِلْم، فَلَمْ أرَ أحْسَنَ تأْليفًا من المُطَّلبِيِّ، كأنَّ لِسَانه يَنْظِمُ الدُّرَّ" فكُتُبه كلها مُثُلٌ رائعةٌ من الأَدَب العربيِّ النَّقيِّ، في الذروة العُلْيا من البَلاغة، يَكْتُب على سَجيتِهِ، ويُمْلي بِفِطْرَتِه، لا يتكلَّف ولا يَتَصَنَّع، أَفْصَحُ نثرٍ تَقْرَؤُه بَعْد القُرْآن والحَدِيث، لا يُسَامِيه قائلٌ، ولا يُدَانيه كاتبٌ. ونَحْنُ نَرَى أن هذا الكتاب "كتابَ الرِّسالة" ينبغي أن يَكُون من الكُتُب المَفْرُوءة في كُلِّيَّات الأَزْهَر، وكلِّيَّات الجَامِعَة، وأنْ تُخْتَار مِنْه فِقْراتٌ لطُلَّابِ الدراسةِ الثَّانويةِ في المعاهدِ والمَدَارِس، لِيُفِيدُوا من ذلك عِلْمًا بِصِحَّة النَّظَر وقوَّة الحُجَّة، وبَيَانًا لا يرَوْنَ مِثْلَه في كُتُب العُلَماء، وآثَارِ الأُدَبَاء، وقد بَيَّن العلَّامة ابن خَلْدُونَ في "مقدمته" أهميَّة "الرسالة" فقال: أوَّلُ مَنْ كَتَب فِيه: الشافعيُّ رضي الله عنه أَمْلَى فيه رسالَتَه المَشْهُورة، تكلَّم فيها عن الأَوَامِرِ والنَّواهِي، والبيَان، والخَبَر، والنَّسْخ وحُكْم العِلَّة المَنْصُوصَة من القياسِ، ثمَّ كَتَب فقهاءُ الحنفيَّة فيه، وحقَّقوا تلك القواعِدَ، وأوْسَعُوا القَوْلَ فيها، وكتَب المتكلِّمون أيْضًا، إلَّا أن كتابَة الفقهاء فيها أمَسُّ بالفقْهِ، وألْيْقُ بِالفُرُوع.

‌خُلَاصَةُ رِسَالَةِ الشَّافعيِّ:

أجْمَلَ ابنُ خَلْدُونَ ما حَوَتْهُ رسالةُ الشَّافعيِّ من المَعْلُوماتِ، وسنلخِّصُ هنا هذه الرسَالَة؛ ليَرَى القارئُ أوَّلَ نهْجٍ نهَجَه الأصوليُّون في تأليفهم: بدأ الشَّافعيُّ - في رِسَالَتِهِ رضي الله عنه فعرَّف البيانَ بأنَّه اسم جامعٌ لمعانٍ مجتمعةِ الأُصُولِ، متَشَعِّبة الفُرُوع، وهي بيانٌ لِمَنْ خُوطِبَ بِهَا مِمَّنْ نزل القرآنُ بِلِسَانِه، وهي مُتَقَارِبةُ الاسْتِوَاءِ عِنْده، وإن كان بَعْضُها أشدَّ تأكيدًا، وهي مختلفةٌ عِنْد من يَجْهَل لسانَ العَرَب، ومِنْ ذلك ما أَبَانَهُ الله لخلْقِه نَصًّا،

ص: 108

كجُمَل الفَرَائِض؛ من صلاةٍ، وزكاة، وحجٍّ، وصَوْمٍ، وتَحْرِيمِ الفَواحِشِ، وبَعْض المَطْعُومَات، ثُمَّ بيَّن عَلَى لِسَانِ نبيِّه عَدَدَ الصَّلَوَات، ونصَابَ الزَّكاة ووقتَيْهِما، ومِنْ ذلك: ما فَرَضَ الله - جلَّ ثناؤُه - على خلْقِه الاجْتهادَ في طَلَبِه، وابْتَلَى طَاعَتَهُم في الاجْتِهَادِ، ومثَّل لذلك بقول الله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [سورة البفرة: الآية 144] فدلَّهم - جل ثَنَاؤُه - إذا غَابُوا عن المَسْجِد الحرامِ - على صواب الاجْتهاد ممَّا فرض عَلَيْهم بالعُقُولِ، الَّتي رُكِّبت فيهم، المُميِّزة بين الأشياء وأضْدَادها، والعلاماتِ الَّتي نَصَبَهَا لهم، دُون عَيْن المَسْجِد الحَرَام.

‌جهة العِلْم بالحُكْم:

قال الشافعيُّ في "رسالَتِهِ": إنَّ جهة العِلْم بالحُكْم؛ إمَّا الكتاب، وإما السُّنَّة، وإمَّا الإجْمَاع، وإمَّا القياسُ.

ثم قال: إنَّ جميع كتابِ الله نَزَلَ بِلِسَان العَرَب، والأدلَّةُ على ذلِك بيِّنةٌ في كتاب الله، فإذا كانتِ الألسنةُ مختلفةً بما لا يفْهَمُه بعضُهم عنْ بعْضٍ، فلا بُدَّ أن يَكُون بعضُهم تبَعًا لبَعْضٍ، وأنْ يكُونَ الفَضْلُ في اللِّسان المُتَّبَع على التَّابِع، وأوْلى النَّاسِ بالفَضْل في اللسانِ مَنْ لسانُه لسانُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا يَجُوز - والله أعْلَم - أن يكون أهلُ لسانِهِ أتْبَاعًا لأهْل لسانٍ غَيْرِ لِسَانِهِ.

ثمَّ قال: فَعَلى كُلِّ مُسْلمٍ أنْ يتعلَّم من لسان العَرَب ما يَبْلُغه جُهْدُه، ثمَّ تكلَّم على أن في كتابِ الله عامًّا ظَاهِرًا، يرادُ به العامُّ الظَّاهِر، وعامًّا ظاهرًا يرادُ به العامُّ ويدخله الخاصّ، وظَاهِرًا يُعْرَف في سياقه أنَّه يرادُ به غَيْرُ ظاهره، ومِنْ هذا يتبيَّن ما لِعُلُومِ اللُّغَةِ في فَهْم أحْكَام الدِّين من صِلَةِ وثيقةِ، وعلاقةٍ أكيدةٍ ثم تكلَّم على السُّنَّةِ، وأنَّ الكتابَ أمَرَ بِاتِّباعها حيث قال:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة الأعراف: الآية 156]، وقال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [سورة النساء: الآية 59].

ثم ذكر الشَّافعيُّ أن الناسخَ والمَنْسُوخ يَقَعُ في كتاب الله، وسُنَّةِ رسُولهِ وبينهما، فينسخ الكتابُ السُّنة، دونَ العَكْس؛ لأنَّها تابعةٌ للكتاب بِمِثْل ما نَزَلَ به نَصًّا، ومفسِّرةٌ مَعْنَى ما أُنْزِلَ فيه جُمَلًا.

قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْر

ص: 109

هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [سورة يونس: الآية 15]، ثم تكلَّم على خبر الحُجَّة، ومثَّل له، ثم على الإجْمَاع وحُجِّيَّته ودليله، ثم بَسَط ما أسْلَف من الاجتهاد، وقَفَّى على ذلك بالكَلام على القياسِ والاسْتِحْسَان، وما قيل في الاسْتِحْسَان.

هذه خُلاصة ما في "رسالةِ الشَّافِعِيِّ" من قواعد، وقد أكْثَر فيها من التَّطْبِيق والاِستشهادِ بالآيَاتِ والأَحَادِيث، وهِيَ طريقةٌ أشْبَهُ بِعَهْد السَّلَف الذي عُنِيَ بالتَّطْبِيقِ، لا بِعَهْد الخَلَفِ الَّذِي عُنِيَ بِالقَوَاعد.

ص: 110

‌مَنَاهِجُ العُلَمَاءِ فِي الدِّرَاسَاتِ الأصُولِيَّةِ

تعدَّدتْ مناهجُ العُلَمَاء بَعْد الشافعيِّ واختلفتْ كتُبُهم الأصوليَّة تبعًا لاخْتِلافِ مناهِجِهمْ ومشاربهمْ في الدِّراسات الأُصوليَّة. ويمكن إجْمال هذه المَذَاهِبِ فِي ثَلاث شُعَبٍ مختلفةٍ لكلٍّ منها ضوابطُ وقواعدُ خاصَّةٌ بها:

أوَّلًا: الاتجاه النظريُّ المَحْضُ الَّذي لا يتأثَّر بِفُرُوعِ أيِّ مَذْهَبٍ فِقْهِيٍّ، وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ ومَنْ سَارَ عَلَيْه بَعْده، حيثُ إن الشَّافعيُّ رحمه الله قد لاحظ في منهاجه الذي وضَعَه عن عِلْم الأصول أن يَكُونَ عِلْمُ الأُصُول مِيزانًا ضابِطًا وقانُونًا كُلِّيًّا تَجِبُ مراعاته عِنْد استِنْباطِ الأَحْكَام.

ثانيًا: الاتجاهُ المتأثِّر بالفُرُوعِ الفقهيَّةِ، والَّذِي يَخْدمُ تِلك الفُرُوع، ويثْبِتُ سلامة الاجتهاد فيها.

ثالثًا: المَذْهَب الجامعُ بَيْن الاتِّجاهَيْن السابِقَيْن، وظهر هذا المذهَبُ في مرحلةٍ متأخِّرة.

والنَّاظِرُ لتاريخِ هذه المناهِجِ يُلاحظ أنَّها ظَهَرَت بَعْد تقرُّر المذاهِبِ الفقهيَّة.

وفي ذلك يقول العلَّامة أبو زهرة: "وقد سار الفقهاء بعد تقرُّر المذاهب الفقهية في دراسَةِ أُصُول الفقه في اتِّجاهَيْنِ مختلفَيْنِ:

أحدهما: اتِّجاهٌ نظريٌّ، وهو لا يتأَثَّر بفروعِ أيِّ مَذْهَبٍ

ثانيهما: اتِّجاهٌ متأثِّرٌ بالفروعِ وهو يتَّجه لخدْمَتِها، وإثبات سلامة الاجتهاد

ص: 111

فيها

(1)

.... وإلَيكَ الكلامَ عَلَيها بالتَّفْصيل:

‌أوَّلًا: الاتِّجاهُ النَّظَريُّ:

من المعلومِ أن الشافعيَّ رحمه الله هُوَ واضعُ أساس هذا الاتِّجاهِ النَّظريّ الَّذي لا يتأثَّر بفروع أيِّ مَذْهَب، حَيْث كانَتْ عنايتُه متَّجِهةً إلى تَحْقيقِ القَواعدِ من غَيْر اعتبارٍ مذهبيٍّ، بل كانَ أكبَرُ همِّه هو كيفيَّة إنتاجِ القواعدِ، سواءٌ خدَمَ ذلك مذهَبَه أمْ لا.

ويُعْتَبَر هذا الاتِّجاهُ النظريُّ هو أقْدمَ الاتَجاهاتِ الأُصُوليَّة لدراسة عِلْم الأُصُول.

ويُطْلَق على هذا الاتجاه: "أصُول الشَّافِعِيَّة" على أساس أن الإمام الشافعيَّ أوَّلُ من سلكه، ويُطْلَق عَلَيْه أيضًا:"طريقةُ المتكلِّمين"؛ لأن كثيرًا من علماء الكلامِ لهُمْ بحوث في الأصول؛ على هذا الاتجاه النظريِّ ولهذا الاتجاه النظريِّ خصائصُ تميَّزه وتوضَح ملامحَه؛ حيثُ لا يَعْتَمِد البحْثُ فيه على تعصُّبٍ مذهبيٍّ، وذلك لأنَّ القواعد الأصوليَّة لا تَخْضع فيه للفُرُوع المذهبيَّة، بل كانَتِ القواعدُ تُدْرس باعتبارِها حاكمةً على الفروع، وباعتبارِهَا دعامة الفِقه، وطريق الاستنباط.

ثمَّة مَيْزةٌ أُخْرى تَكْمُن في أنَّ الخلافاتِ الَّتيْ وقَعَتْ بَيْن الأصوليِّين على هذا الاتِّجاه كانَتْ تَسْتَنِدُ إلى دليلٍ مباشرٍ لا إلى فَرْعٍ من الفروعِ المذهبيَّة. والملاحظُ أن لهذا الاتجاهِ أنْصارًا مَتعدَّدين ومنْتَشِرِين في البلاد الإسلاميَّة، ويمكنُ أن نُجْمِلَهُم فيما يلي:

‌1 - الشَّافعِيَّةُ:

وللشَّافعيِّ أصحابٌ كثيرونَ قَبِلُوا اتِّجاهَه النظر كما في دراسَةِ القَواعِد الأصوليَّة.

ومن الملاحظِ أن أصحابَهُ البغدادِيِّين كَانُوا أَكْثَرَ اسْتِقلالًا مِنْ غيرهم لدرجةِ أن بَعْضَهم قَدْ وَصَلَ لِدَرَجَة الاجْتِهَادِ وتأْسِيسِ المَذَاهِب الفِقْهِيَّة. حيث نَجِدُ في "بغدادَ" الإمامَ أبا ثَوْرٍ الكلبيَّ البغداديَّ، والإمام أحمد بْن حَنْبل أحَدَ دَعَائِمِ الإسْلامِ الأرْبَعَة. ونجد في "مِصْرَ" الإمام أبا يَعْقُوبَ البُوَيْطِيَّ المِصْرِيِّ، والإمامَ أبا إبراهيم المُزَنِيَّ. وفي القَرْنِ الخامِسِ الهِجْريِّ ظَهَرَتْ كوكبةٌ من الشافِعِيِّين المُبَرِّزين الَذيق ألَّفوا كثيرًا من كُتُب الأصول على طَرِيقَةِ الشَّافعي، ومن أمثال هؤلاء العلماء الأجلَّاءِ القاضي عَبْد الجبَّار المعتزليُّ (415 هـ) صاحبُ "العمد" الذي شرَحَه أبو الحُسَيْن البَصْرِيُّ المعتزيُّ في كتابه "المُعْتَمَد". وأيضًا

(1)

ينظر: أصول الفقه 17 - 18.

ص: 112

الإمامُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ الشَّافعيُّ (476 هـ) صاحب "اللُّمَع" و"التَّبْصِرة" وظهر أيضًا إمامُ الحرمَيْنِ (478 هـ) صاحبُ "البُرْهَان".

قال ابن خلدون في "مقدمته"

(1)

: "وكان مِنْ أحْسَن ما كتب فيه المتكلِّمون كتابُ "البُرْهَان" لإمامِ الحَرَمَيْنِ، و"المستَصْفَى" للغزاليِّ، وهما من الأشعريَّه، وكتابُ "العمد" لعَبْد الجَبَّار، وشَرْحُه "المُعْتَمَد" لأبي الحُسَيْن البَصْرِيِّ وهو من المعتزلة".

كذلك كان القَرْنُ السَّادِسُ الهجريُّ حافِلًا بعلماء الأُصُول الشافعيَّة أصحابِ الاتِّجاه النظريِّ، وحافلًا بإنجازاتهم الأصولية.

ومن أبْرزِ هؤلاءِ العلماء الإمامُ الغزاليُّ حجَّةُ الإسْلام (505 هـ) وله كُتُبٌ كثيرةٌ في الأُصُول مثل: "المستَصْفَى"، و"المَنْخُولِ"، و"المَكْنُونِ"، و"شِفَاءِ العَلِيلِ"

الخ.

يقول العلَّامة الخُضَريُّ

(2)

عن كتاب "المستَصْفى": وعبارةُ المستَصْفَى راقيةٌ مِنْ حَيْثُ أُسْلُوبُهَا العربيُّ، ولم يَكُنِ الغزاليُّ ممن يَشِحُّ على القرْطَاس؛ فتَرَاه كما قال يُطْلِق فيه العِنَانَ حتَّى يبلغ الغايةَ ممَّا يُرِيد، ولم يَكُنْ قد جَاءَ في زَمَنِهِم دَوْرُ التَّلخيصِ والاخْتِصَار؛ لأنَّ همَّهم الوحيدَ كانَ تأْدِيةَ المَعْنَى إلى فِكْر السَّامِع، طالَ الكلام أو قَصُر".

ثمَّ جاء الإمامُ فخْرُ الدِّينِ الرَّازيُّ (544 - 606 هـ) صاحبُ "المَحْصُول".

قال الإسنويُّ: "و"المَحْصُول" استمدادُهُ من كِتابَيْن لا يَكَاد يَخْرُج عَنْهُما غَالِبًا: أحَدُهما: "المستَصْفَى" لحجَّة الإسْلام الغَزالِيِّ، والثَّاني: "المُعْتَمَد" لأبي الحُسَيْن البَصْرِيِّ"

(3)

.

ثم الآمِدِي سيف الدِّين (551 - 631 هـ) صاحبُ "الإحْكَام فِي أُصُولِ الأَحْكَام".

قال العلَّامة ابن خَلْدُونَ: "ثمَّ لَخَصَ هذه الكتبَ الأرْبَعَة "البُرْهَانَ"، و"المُسْتَصْفَى"، و"العُمَدَ"، و"المُعْتَمَدَ" - فَحْلان من المتكلِّمين المتأخِّرين، وهما الإمامُ فخْرُ الدِّينِ بنُ الخَطِيبِ في كتاب "المَحْصُول"، وسَيْفُ الدِّين الآمِدِيّ في كتاب "الإحْكَام"، واختلفت طرائِقُهما في الفنِّ بين التَّحْقِيق والحِجَاج، فابْنُ الخطيبِ أَمْيَلُ إِلَى الاستكثار من الأدلَّة والاحتجاجِ، والآمِدِيُّ مولَعٌ بتحقيق المَذاهِب وتَفْرِيع المَسَائل، وأما كتابُ "المَحْصُول"

(1)

ينظر: المقدمة 508.

(2)

ينظر: أصول الفقه له ص 7.

(3)

ينظر: نهاية السول 1/ 8.

ص: 113

فاختصَرَهُ تلميذُ الإمامِ سراجُ الدِّينِ الأرمويُّ في كتابِ "التَّحْصِيلِ"، وتاجُ الدِّين الأُرْمَويُّ في كتاب "التَّحْصِيل""

(1)

.

أما كتابُ "الإحْكَامِ" للآمِدِيِّ فَقَد قام باخْتصاره العلَّامة أبو عَمْرٍو عثمانُ بنُ الحَاجِبِ (646 هـ) وجَعَل ذلك في كتاب سَمَّاه: "مُنْتَهَى السُّولِ والأَمَلِ، فِي عِلْمَي الأُصُولِ والجَدَلِ"، ثمَّ قام بعد ذلك باختصارِ المختصر في كتابِ آخَرَ سماه:"مُخْتَصَرَ المُنْتَهَى" ثم جاء خاتمة المحققين العلَّامة البيضاويُّ فألف كتابًا أخَذَه من "الحاصل" لتاج الدِّين الأرمويِّ وسمَّاه: "مِنْهَاجَ الوُصُولِ إلى عِلْم الأُصُول".

‌2 - المالكيَّة:

ومِن أنْصَارِ الاتِّجاهِ النَّظريِّ من المالكيَّة ابنُ الحاجِبِ المالكيُّ (646 هـ) صاحبُ "منتهى السُّولِ والأَمَلِ في عِلْمَي الأُصُولِ والحدَلِ"، وهو الكتاب الذي اختصره من كتاب "الإحْكَامِ في أُصُول الأَحْكَامِ للآمديِّ"، كما اختصر هذا المختصر - كما ذَكَرْنا - في كتاب سَمَّاه "مختصر المنتهى".

‌خَوْضُ المُتَكَلِّمِينَ فِي الاتِّجَاهِ النَّظَرِيِّ:

لقد وجد المتكلِّمون فِي هذا الاتِّجاه النظريِّ ما يتَّفقُ مع دراساتهم العَقْلِيَّة، وآرائِهِمُ الكلامِيَّة، ونظرهم إلى الحَقَائِق مجرَّدةً، لذا راحُوا يَبْحَثُون فيه كما يَبْحَثُون فِي عِلْم الكَلام. ولكثرة بُحُوثِ المتكلِّمين في الأصول على هذا الاتِّجاه النظريِّ - سُمَي هذا الاتجاه أيْضًا بـ "طَرِيقَة المتكلِّمين".

وخلاصةُ طريقة المتكلِّمين هي البُعْدُ - ما أمْكَنَ - عن مسائلِ الفُرُوعِ، والاستدلالُ العقليُّ؛ لأن أصْل منهجهم هو البَحْثُ والنَّظَر، ولقد تركت هذه الطريقةُ آثارها واضحةً على القواعد الأصوليَّة.

وهناك سؤَالٌ يطرح نَفْسَه عَلَيْنا وهُوَ مَتى دخَل المتكلِّمون في دراسة المَنَاهِج الأصوليَّة؟

ويجيبُ الشَّيحُ مصطفى عبد الرَّازِق إلى أن المتكلِّمين وضَعوا أيْدِيَهُم على عِلْمِ أُصُولِ الفِقْه مُنْذُ القَرْن الرَّابِع الهجريّ

(2)

. وفي المسألة آراء أُخْرى، ترى أنَّهم خاضُوا في المسائل الأصولية منذ القَرْنِ الثاني الهجريِّ، وليس هذا مَوْضِعَ البَسْط.

(1)

ينظر: مقدمة ابن خلدون 508.

(2)

ينظر: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص 249.

ص: 114

‌ثانيًا: الاتِّجَاهُ المَذهَبِيُّ المتأَثِّرُ بِالفُرُوعِ:

وأصحابُ هذا الاتِّجَاهِ قَامُوا باستنباطِ القواعدِ الأُصُوليَّة مِنَ الفُرُوع الفقهيَّة؛ لخدمةِ هذه الفُرُوع وإثباتِ سلامَةِ الاجْتِهَادِ فِيها، كما قَرَّرْنا آنفًا.

يقولُ العلَّامة الخُضَريُّ: "هذا الاتِّجَاهُ يُراعى فيه تطبيقُ الفُرُوع المذهبيَّةِ على القَواعِد، حتَّى إنَّهم كانُوا يقرِّرون قواعِدَهم على مُقْتَضَى ما نُقِلَ من الفُرُوع عَنْ أئمَّتهم، وإذا كانَتِ القاعدةُ يترتَّب عليها مخالفةُ فَرْعٍ فقهيٍّ، شَكَّلُوها بالشَّكْل الَّذي يتَّفِق مَعه، فكأنَّهم إنَّما دوَّنوا الأُصُول الَّتي ظَنَّوا أن أئمَّةَ المَذْهَب اتَّبَعُوها في تَفْريع المَسَائل وإبْداء الحُكْم فِيها، وَقَدْ يُؤَدِّي بِهِمْ ذلكَ فِي بَعْضِ الأحْيَان إلى تَقْرِيرِ قَوَاعِدَ غَريبةِ الشَّكْل؛ لذلك نرى طريقَتَهُمْ مملوءَةً بالفُرُوع الكثيرة؛ لأنَّها في الحقيقة هي الأصولُ لتلك القَوَاعِد"

(1)

.

والمتتبع لتاريخِ ظُهورِ هذا الاتِّجاه المذهبيِّ المتأثِّرِ بالفُروع يُدْرِك بوضوحٍ السَّبَبَ الَّذِي دَفَع أصحابَهُ إلى ذلك الاستنباطِ.

لقد كانَتْ للأئمَّةِ المُجْتهِدِينَ قَبْل الشَّافعي رحمه الله مناهجُ يلاحظونها في الاسْتِنْباط، لكنَّهم لم يوَضِّحُوا هذه المَنَاهِجَ، ولم يُدَوِّنُوها.

فمثلًا: لم تكنْ للحنفيَّةِ أصولٌ فقهيَّةٌ مفصَّلةٌ ومدوَّنةٌ، كذلك كان الإمامُ مالكٌ رضي الله عنه حيْثُ لم يُرْوَ عَنْه تفصيلٌ لمناهجه. وحتَّى الإمامُ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنه لم يُرْوَ عَنْه تفاصيلُ مناهِجِه، كما أنَّه رضي الله عنه لم يُحَاوِلْ تدوينَها.

وبعد أنْ شَرَع الإمامُ الشَّافعيُّ رضي الله عنه في دراسةِ المَنَاهج الأصوليَّة وتدوِينها، وصارَ ذكْرُه مَعْرُوفًا في البِلادِ الإسْلاميَّة شرْقًا وغَرْبًا، أدْرَكَ كثيرٌ من العُلَماء أهميَّة مَعْرِفةِ أصُولِ إمامِهِمْ للدّفاع عن فُرُوعهم، كما أدْرَكُوا مَدى حاجَتِهِمْ إلى هذه الأُصُول؛ ليمكنَهُمْ أنْ يُخرِّجوا على المَذْهَب أحكامَ الفُرُوعِ الَّتِي لم يُعْرَفْ لأئمَّة المَذْهَب أحكامٌ فيها، حتَّى لا يَخْرُجوا عن مقَايِيسِ المَذْهَب. ولهذا المذهبِ خصائصُ ومميِّزاتٌ تميِّزه يُمْكِن أنْ نلخِّصها فيما يلي:

1 -

لَيْسَتْ بحوثُه مجرَّدة، بل هي دراساتٌ مطبقةٌ في فروعٍ، وبحوثٌ كلِّيَّةٌ وقضايا عامَّةٌ، تُطَبَّقُ على فروع.

(1)

ينظر: أصول الفقه ص 7.

ص: 115

2 -

يُعْتَبَر هذا الاتِّجاهُ تفكيرًا فِقْهِيًّا، وقواعد مستقلَّةً يمكن الموازَنَةُ بينها وبَيْنَ غَيْرها مِنَ القَوَاعِد.

3 -

تُعْتَبَر دراسة فقهيَّةً كلِّيَّةً مقارنة، والموازَنَةُ فيها لا تكونُ بين الفُرُوع، بل بين أصولها.

4 -

تعتبر دراسةُ هذا الاتِّجاهِ ضَبْطًا لجزئيَّات المَذْهَب، وبهذا الضَّبْط يمكن مَعْرِفَةُ طُرُقِ التَّخْريجِ فيه، وتفريعِ فُرُوعِه، واسْتِخْراجِ أحْكَامٍ لمسائلَ قَدْ تَعْرِضُ لَمْ تقَعْ فِي عَصْر الأئمَّة. وجدير بالذِّكْر أن لهذا الاتِّجاهِ أعْوانًا وأنْصارًا مِنَ الأصوليِّين والعلماء من المَذَاهِبِ الفقهيَّة المختلِفَةِ بَعْد الإمام الشافعيِّ رضي الله عنه منهم:

‌1 - الْحَنَفِيَّةُ:

يرى بَعْضُ العلماءِ أن الحنفيَّة أوَّلُ من ارتادُوا هذا الاتِّجَاه، وسَلَكُوا هذه الطريقة.

وفي هذا يقول الشَّيْخ أبو زهرة: "إنَّ أقْدَمَ كتابٍ على هذا من كُتُبِ الحنفيَّةِ كتابُ "أُصُول الجصَّاص" المُتوفَّى سَنَة 270 هـ، ثم "أصول الكَرْخِيِّ" المُتوفَّى سنة 340 هـ"

(1)

.

وهناك محاولات قديمة بدأَتْ في التأليف في عِلْم الأُصُول تَحْتَ هذا الاتِّجاه مثل كتاب "إثْباتِ القِياسِ"، و"خَبَرِ الوَاحِدِ"، و"اجْتِهاد الرأْي" لعيسَى بنِ أبَانَ (220 هـ).

وكتاب "أصولِ الشَّاشِيِّ" لأبي يعقوبَ الشاشيِّ (325 هـ) وكتاب "مَأْخَذ الشَّرَائِع في الأُصُول" لأبي مَنْصُورِ الماتُرِيدِيِّ (333 هـ) و"رسالة الكَرْخِيِّ" لأبي الحَسَن الكَرْخِيِّ (340 هـ)، ذكر فيها الأصول، وعَلَيْها مدار كتب أصحاب أبي حنيفة.

و"أصول الجَصَّاصِ" لأبي بَكْرٍ الجَصَّاصِ (370 هـ)، وجعَلَه مُقَدِّمة لكتَّابه "أحْكَام القُرْآنِ".

قال الشيخُ الخُضَرِيُّ: "أما طريقةُ الحنَفِيَّة فَقَدْ ألف فيها كَثيرُونَ من فَطَاحِلِهمْ قديمًا وحديثًا، فكَتَبَ فيها من المتقدِّمين أبو بَكْرٍ أحمد بنُ عليٍّ المعروفُ بالجَصَّاص"

(2)

.

وفي غضون القرن الخامسِ الهجريِّ تواترت المؤلَّفات في عِلْم الأُصُول مثل كتاب "الأَسْرار"، و"تقويم الأَدِلَّة"، و"الأَمَد الأَقْصَى" لأبي زَيْد الدبوسيِّ (430 هـ)

الخ.

(1)

ينظر: أصول الفقه ص 17.

(2)

ينظر: أصول الفقه ص 9.

ص: 116

قال العلَّامة ابنُ خَلْدُونَ في "مقدِّمته"

(1)

: "وأما طريقةُ الحنفيَّة فكَتَبُوا فيها كثيرًا، وكانَ من أحْسَنِ كتابةٍ فيها للمتقدِّمين تأليفُ أبي زَيْد الدبوسيِّ

".

والمُلاحَظ من نصِّ "المقدِّمة" أن ابن خلدون لم يذكر اسم كتاب أبِي زَيْدٍ في الأصول، بينما عيَّنه العلَّامة أبو زهرة في كتابه "أُصُول الفِقْه" بأنه "تأسيسُ النَّظَر"، وقال:"فيها إشاراتٌ موجَزَةٌ إلى الأُصُول التي اتَّفق فيها أئمَّة المَذْهَب الحنفي مع غيرهم، أو اختلفوا فيها"

(2)

.

وجاء بعد هؤُلاء الإمامُ فَخْر الإسْلام البَزْدَوِيُّ (482 هـ) صاحب "أُصُول البَزْدَوِيِّ".

قال العلَّامة ابنُ خَلْدُونَ

(3)

: "وأحْسَنُ كتابةِ المتأَخِّرين فيها تأليفُ سَيْف الإسْلام البَزْدَوِيِّ من أئمَّتهم، وهو مستَوْعِبٌ".

ثم الإمامُ محمَّد بن أحْمَدَ السَّرْخَسِيُّ صاحب "بُلُوغ السُّول في الأُصُول"، والمشتهر

عند أهْل العِلْم أن اسم الكتاب هو "أُصُول السَّرْخَسِيّ".

‌2 - المَالِكِيَّةُ:

قُلْنا فيما سبق: إنَّ الإمام مالِكًا لم يُرْوَ عَنه تفصيلٌ لمناهجه في مصَادِرِ الأحْكَام، وطريقة فَهْم القُرْآن والسُّنَّة.

ثم جاء أتْبَاع الإمامِ مَالِكٍ، فَاسْتَخْرَجُوا المَنَاهِجَ الَّيي انْتَهَجها الإمامُ مالكٌ في اجتهاده، لتكُونَ مقاييس لهم.

ولقد سَلَك أنصارُ الإمام مالِكِ في اسْتِنْبَاطهم مناهجَ الإمَام مالِكٍ رضي الله عنه مِثْل ما سَلَك عَلَيْه الحنفيَّة، فدَرَسُوا فُرُوعَه، واسْتَخْرجوا منها ما يَصِحُّ أن يَكُونَ أصُولًا، قام عليها الاستنباطُ في ذلِكَ المَذْهب. وها نَحْنُ نذكُرُ بَعْضَ الأصوليِّين مِنَ المالكتة مُنْذُ القَرْن الثَّالث الهجريِّ، مِثْلُ: أصْبَغ (225 هـ) صاحِبِ كتاب "الأُصُول"، وأيضًا إسْمَاعيل بن إسحاقَ القاضي (282 هـ). ونجد في القَرْن الرابعِ الهجْرِيِّ الإمام أبا الفَرَجِ المالكيَّ (331 هـ) صاحب كتاب "اللُّمَع".

والإمام القُشَيْرِيّ (344 هـ) صاحب "القياس"، وكتاب "أصول الفقه"، كذلك كان

(1)

ينظر: المقدمة 508 - 509.

(2)

ينظر: أصول الفقه ص 22.

(3)

ينظر: المقدمة ص 509.

ص: 117

الإمامُ أبو بَكْرِ الأبهريُّ (375 هـ) صاحب كتاب "الأصُولِ"، وكتاب "إجماع أهْلِ المَدِينَةِ".

وألَّف ابنُ مُجَاهِدٍ الطائيُّ (400 هـ) أيضًا في الأصول على المَذْهب المالكى، بَعْد ذلكَ نَجدُ الإمامَ أبا بكرِ الباقِلانيَّ (403 هـ) صاحب "التَّمْهِيد" في أصُول الدِّين، و"المُقْنع" في أصول الفقه. ونجد أيضًا عبْد الوهَّاب البغداديَّ (422 هـ) صاحب "الإفَادَةِ"، و"التَّلْخِيص"، و"أوَائِل الأَدِلَّة".

وفي القَرْنِ السَّابعِ الهِجْريِّ نجد الإمام القرافيَّ المالكيَّ (684 هـ) صاحب كتاب "نفائِس الأصُولِ"، و"تنقِيح الفُصُول في عِلْم الأُصُول" وفيه سَلَك طريقة الحنفيَّة في كيفيَّة اسْتِخْراج القواعِدِ الأصوليَّة من الفروع المذهبيَّة، حيثُ يبيِّن أصولَ المذهبِ المالكي مطبَّقة على فُرُوعِ هذا المَذْهَب.

‌3 - الحنابلة:

قُلْنا فيما سبق: إن الإمام أحْمَدَ بْنَ حنْبَل لم يَكُنْ حَرِيصًا على تَدْوِين آرَائِه وفتَاوِيه، وتَدْوِين مَناهِجِه الأُصوليَّة.

وجاء بَعْده تلاميذُه وأنْصَارُه، فَقَامُوا بِجَمْع ما قالَه الإمام، واتبعُوا مَسْلَك الحنفيَّة مِن اسْتِخْراج المناهِجِ مِنَ الفُرُوع.

ويُعْتَبَرُ أقْدَمُ كتابٍ في أصُولِ الفِقْهِ في المَذْهَبْ الحنبلي هو كِتَاب أبِي عَبْدِ اللَّهِ الوَرَّاقِ الحنبلي (403 هـ)، ذكره المراغيُّ رحمه الله في طَبقاتِ الأصُوليين.

ثم جاء بَعْده أبو يَعْلى (458 هـ) صاحب كتاب "العُدَّة في أصول الفِقْهِ"، و"مُخْتَصَر العُدَّة"، و"الكفاية" في أصول الفقه

الخ.

كذلك الإمام أبو الخَطَّاب (510 هـ) صاحبُ "التمهيد"، ثم ابْنُ عَقِيل البغداديُّ (513 هـ).

وكان بعد ذلك الإمامُ ابنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ (620 هـ) صاحب "رَوْضَةِ النَّاظِرِ وجنَّةِ المُنَاظِرِ".

وآلُ ابْنِ تَيْمِيَّة ألَّفُوا مُسوَّدةً في عِلْم الأُصُول، وفي القرن الثَّامِن الهجريِّ نجد نجْم الدِّين الطوفيَّ الصَّرْصَرِيَّ (716 هـ) صاحب "مختصر روْضَة المُوَفَّق في الأُصُول"، و"المَصْلَحة" ثم ابن قَيِّم الجَوْزيَّة (751 هـ) صاحبَ "إعْلام المُوَقِّعين"

وغيرهم.

ص: 118

‌4 - الشَّافِعِيَّةُ:

ألْمَحْنَا فِيمَا سَبقَ إلى أن الشَّافعيَّة اتَّبَعُوا في تَقْرِير قَواعِدِهم الأصوليَّةِ الاتِّجاه النظريَّ، كما أنَّهم سَلَكُوا أيْضًا هذا الاتِّجاه المَذْهَبيَّ المتأثِّر بالفُرُوع في بَعْض مؤَلَّفاتهم. ولقد حَمَل هذا اللواءَ الإمامُ العلَّامة جمالُ الدِّين الإسْنويُّ (772 هـ) في كتابه القَيِّم "التَّمْهِيد في تَخْرِيج الفُرُوع على الأُصُول".

‌ثَالِثًا: الاتِّجَاهُ الْجَامِعُ بَيْنَ المَذْهَبَينِ:

وهو الاتِّجاهُ الَّذِي يَجْمَع بَيْنَ المَذْهَبِ النَّظَريِّ، والمَذْهَب المُتأثِّر بالفُرُوع، وعُرِفَ هذا الاتِّجاه بـ "اتِّجاه المتأخِّرين"، أو "مَسْلَك المتأخِّرين".

قال العلَّامة ابنُ خَلْدُونَ

(1)

: "وجاء ابْنُ السَّاعَاتيِّ من فقهاءِ الحنفيَّة، فجمع بَيْن كتابِ "الإحْكَام" وكتاب البَزْدَوِيِّ في الطريقَتَيْنِ وسَمَّى كتابَهُ بـ "البَدَائِعِ"، فجاءَ مِنْ أحْسَنِ الأوضاع وأبْدَعِها، وأئمَّةُ العلماء لهذا العَهْد يتداولُونَه فراءةً وبَحْثًا، وأُولِعَ كثير من عُلَماءِ العَجَمِ بشَرْحِه".

يقول ابن السَّاعَاتيِّ في مقدِّمة كتابه: "لَخَّصْتهُ مِنْ كِتَابِ "الإحكام"، ورَصَّعْتُهُ بِالْجَوَاهِرِ النَّقِيَّةِ مِنْ "أُصُول فَخْر الإِسْلامِ"، فَإِنَّهُمَا البَحْرَانِ المُحِيطَانِ بِجَمِيعِ الأُصُول الجامِعَانِ لِقَوَّاعِدِ المَعْقُولِ وَالمَنْقُولِ، هذا حَاوٍ لِلْقَواعِدِ الْكُلِّيَّةِ الأُصُوليَّةِ، وذاكَ مَشْمُولٌ بِالشَّواهِدِ الجُزْئيَّةِ الفَرْعِيَّةِ".

ومن أنصارِ هذا الاتِّجاه الإمامُ صَدْرُ الشَّرِيعةِ (747 هـ) صاحبُ "التّنقِيحِ"، وله شَرْحٌ عليه يُسمَّى "التَّوْضِيحَ"، حَيْثُ لخَّص فيه "أصول البَزْدَوِيِّ" على طريقة الحنفيَّةِ، و"المَحْصُولَ" للرَّازيِّ على طريقة الشافعيَّة والمتكلِّمين، و"المُخْتَصَر" لابْنِ الحَاجِبِ على طريقة الشَّافِعية والمتكلِّمين أيضًا.

ثم جاء التَّفْتَازَانِيُّ (771 هـ) فَكَتَبَ على "التَّنْقِيحِ" قال في مقدِّمة كتابه: "وَسَيَحْمَدُ الغَائِصُ فِي بِحَارِ التَّحْقِيقِ، الفَائِضُ عَلَيْهِ أنْوَارُ التَّوْفِيقِ، مَا أَوْدَعْتُ هذا الكِتَابَ الَّذِي لا يَسْتكْشِفُ القِنَاعَ عَنْ حَقَائِقِهِ إلَّا المَاهِرُ مِنْ عُلَمَاءِ الفَرِيقَيْنِ - أيْ: الحَنَفِيَّةِ والشَّافِعِيَّةِ - وَلا يَسْتَأْهِلُ للاطِّلاعِ عَلَى دَقَائِقهِ إلَّا البَارعُ فِي أُصُولِ المَذْهَبَينِ، مَعَ بِضَاعَةٍ فِي صِنَاعَةِ التَّوْجِيهِ

(1)

ينظر: المقدمة 509.

ص: 119

والتَّعْدِيلِ، وإحَاطَةِ بِقَوَانِينِ الاكْتِسَابِ وَالتَّحْصِيل، واللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَليُّ الإعَانَةِ والتَّأْيِيد، وَالمَلِيُّ بإِفَاضَةِ الإصابةِ والتَّسْدِيدِ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الوَكِيلُ"

(1)

.

وكتب ابن السبكيِّ (771 هـ) مصنَّفًا في عِلْم الأُصُول أسماهُ: "جَمْعَ الجَوَامِعِ" وقال: إنَّه أخَذَه من زُهَاءِ مِائةٍ مصنَّف.

وسيأتي الكلامُ عَلَيْه بِشيْءٍ من البَسْط في الحديث على آثار المصنِّف رحمه الله.

ثم جاءَ الكَمَال بن الهُمَام (861 هـ) صاحبُ "التَّحْرِير"، قال في طليعة كتابه:"فإنِّي لَما أَنْ صَرَفْتُ طَائِفَةً مِنَ العُمُرِ لِلنَّظَرِ فِي طَرِيقَي الحَنَفِيَّةِ والشافِعِيَّة في الأُصُولِ خَطَر لي أَنْ أكتُبَ كِتابًا مُفْصِحًا عَنِ الاصْطِلاحَيْنِ بِحَيْثُ يَطِيرُ مَنْ أَتْقَنَهُ إلَيْهِمَا بِجَنَاحَيْنِ؛ إذْ كَانَ مَنْ عَلِمْتُهُ أَفاضَ فِي هذَا المَقْصِدِ لَمْ يُوَضحْهُمَا حَقَّ الإيضَاحِ، وَلَمْ يُنَادِ مُرْتَادَهُمَا بَيَانَهُ إلَيْهِمَا بـ "حَيَّ عَلَى الفَلاح"، فَشَرَعْتُ فِي هذا الغَرَضِ ضَامًّا إلَيْهِ مَا يَنْقَدِحُ لِي مِنْ بَحْثٍ وَتَحْرِيرٍ، فَظَهَرَ لِي بَعْدَ قَلِيلٍ أنَّهُ سِفْرٌ كَبِيرٌ، وعَرَفْتُ مِنْ أَهْلِ العَصْرِ انْصِرَافَ هِمَمِهِمْ فِي غَيْرِ الفِقْهِ إِلَى المُخْتَصَرَاتِ، وَإِعْرَاضَهُمْ عَنِ الكُتُبِ المُطَوَّلاتِ، فَعَدَلْتُ إلَى مُخْتَصَرٍ

".

ثمَّ جاء بعد ذلك العلَّامة محبُّ الدِّين عَبْدُ الشَّكُورِ الهِنْدِيُّ (1119 هـ) صاحبُ "مُسَلَّم الثُّبوت"، وهو في نَظَرِنا من أدقِّ ما كَتَب المتأخِّرون، حَيْثُ نصَّ في مقدِّمته أنَّه حَاوٍ طريقَتَي الحَنَفيَّة والشَّافِعِيَّة. ولله الحمدُ والمِنَّةُ.

‌رَابِعًا: حَوْلَ قَضِيَّةِ التَّجْدِيدِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ:

مِنَ المَبَاحِثِ المهمَّةِ الَّتي تَطْرَح نَفْسَها بِشَكْلٍ حثيثٍ وفَعَّالٍ على ساحة أصولِ الفِقْه - قضية تجديد هذا الفنِّ الراسخ من فنون الشَّريعة الإسْلامية. ولقد خاضَ العلماءُ في هذه القضيَّة كثيرًا، وتَبايَنَتِ اتِّجاهاتهم ورُؤَاهم، وراح كلُّ فريقٍ يدْلِي بدَلْوِه، ويعبِّر عن رأْيِه وفكْرَتِه حَوْلَ قضيَّة تجديد أصول الفِقْهِ.

ونَحْنُ في هذا المَبْحَث سَنَتعرَّض لهذه القَضِيَّة، ونُمِيطُ اللِّثَام عَن كثيرٍ من الاتِّجاهاتِ سواءٌ أكانَتْ على صوابٍ أم خطإٍ، أو سلكَتْ طريق الهُدَى أو الضَّلالِ، ولعل ذلك يكونُ بذْرةً ونواة لأبحاثٍ ودراساتٍ أعْمَقَ وأشْمَلَ؛ لكي نصلَ جميعًا إلَى ما يخدم تراثَنَا

(1)

ينظر: التلويح على التوضيح 1/ 3.

ص: 120

الإسلاميَّ بصفةٍ عامَّة، وأصولِ الفِقْهِ بصفةٍ خاصَّةٍ.

إن المتَتبِّع لهذه القضيَّة قديمًا وحديثًا يُدْرِك - بلا عَنَاء - أن لهذه القضية أصولًا تَضْرِب بجذورها إلى أوائل هذا القرن الحالي، وكان حَامِلُ لواء هذه الدَّعْوَةِ مدرسة القَضاء الشرعيِّ ودارِ العُلُوم.

كما أن متتبِّع هذه القضية يُدْرِك أنَّها اتَّخذت صورًا متعدِّدة، فالبَعْض دعا إلى التَّجْدِيد من ناحيةِ الشَّكْل، والبعضُ دعا إلى تجديد المضمون وذلك بإضافةِ أشياء جديدةٍ بتغيير الهَيْكَل

إلى آخر هذه القضايا والأبحاث الَّتي تَدْعو إلى تَعْميق البَحْث، وتَوْسِيع المَجَالِ والاسْتِخدام.

لَقَدْ ظَهَرت الدَّعْوَةُ إلى تَجْديد العُلُوم بصفة عامَّةٍ منذ زَمَن بعيدٍ على يَدِ رِفَاعة الطَّهطاويِّ الذي دعا إلى التجْدِيد والاجتهاد، ونبذ التَّقْلِيد والاتِّباع، وكان ذلك واضِحًا بصُورةٍ ملحوظةٍ في مقالاته وكتبه، وبخاصَّةً كتابُه:"القولُ السَّدِيد في التَّجْدِيدِ والتَّقْلِيد" وقدِ ارتبطتْ لفظة "التَّجْدِيد" بكثيرٍ من الملابسات والشُّكوك، لا سيما وقد ارتبطَتْ هذه الدَّعوة بمحاولات بعْضِ المستغربين العَرَب طَمْسِ هُوِيَّتنا الإسلاميَّة، وتغْيِير معالِمِ حضارَتِنا العربية. ولا نعدو الحقيقة، إذا قُلْنا: إنَّ هذا اللَّوْن من التَّجديد مرفوضٌ أو كما يقول د. يوسف القرضاويّ: "إنه تبْدِيدٌ لا تَجْدِيد"

(1)

.

وسنَعْرِض الآن لِبَعْضِ الاتِّجاهاتِ والرُّؤَى الَّتي أبْرَرتْ دعاواها في قضيَّة "تجديد الأصول" وذلك بشَىْء مِنَ الإيجاز.

أولًا: اتِّجاهٌ يَدْعُو إلى التَّجْديد من ناحِيَةِ الشَّكْل أيْ تجديد الأسْلُوب بطريقةٍ فيها شَيْءٌ من البساطة مع تَجْدِيد طريقةِ العَرْض، ليلْقَى أُصُولُ الفِقه قَبُولًا حَسَنًا لَدَى مُتَلَقِّيه.

وعلى رأْسِ هذا الاتِّجاه الشَّيخُ محمَّد الخضريُّ حيثُ ألْمَح في آخر كتابِهِ "تاريخ التَّشْرِيعِ الإسْلاميِّ" إلى أن التَّدريسَ بطريق المتون والحواشي لا يُجْدِي شيئًا، ويجعل الفَرْق بين التلْمِيذ والمُدرِّس هو كثرة الفُرُوع أو قِلَّتَها" يقول: "أما عِنْدَنا فإنَّ المبتدئَ والمنتهى

(2)

لا فرق بينهما إلا كثرةُ المسائِلِ وقلَّتُها"

(3)

.

(1)

انظر: كتاب بينات الحل الإسلامي د. يوسف القرضاوي.

(2)

أي: في المسائل الفقهية.

(3)

ينظر: تاريخ التشريع الإسلامي ص 254.

ص: 121

ولقد تكلَّم الدكتور محمَّد عبد اللَّطيف فرفور حَوْل هذا الاتِّجاه بِقَوْله: "إنَّ التَّجْدِيدَ في الكِتابَةِ المُعاصِرَةِ في هذا الفَنِّ، ألا وهُو أُصُول الفِقْه، ينبغي أن يكونَ في التَّحْقِيق العلميِّ للمَسَائِلِ وعرْضِ القضايا الأصوليَّة عَرْضًا موضوعيًّا مُبَسَّطًا قريبَ المأْخَذ

"

(1)

.

ثانيًا: اتِّجاهٌ خاضَ في مسألةِ التَّجْدِيد من زاوية حجيَّة السُّنَّة، والتَّشْكِيك فيها، وعلى رَأْسِه الشَّيخُ عبد الجليل عيسى وبخاصَّة في كتابه "اجْتِهاد الرَّسُول"، ود. عبد المنعم النّمر في كتابه "السُّنَّة والتَّشْرِيع".

ثالثًا: اتِّجاه خَاضَ في هذه المسأَلة عن طريق التَّشْكِيك في ثبوت السُّنَّة نَفْسِها، وممَّن خاض في هذه المسأَلة محمود أبو ريَّة في كتابه "أَضْواء على السُّنَّة المُحَمَّدية".

رابعًا: اتِّجاة دعا إلى التَّجْدِيد، ولكنْ من زاويةٍ أُخْرى، هي تجديد هَيْكَلِ أصُولِ الفِقْه، أو صياغَةِ هَيْكَلِه من جديد.

وممَّن حَمَل لِواءَ هذا اللَّوْن من التجديد د. حسن التُّرابي، وجمال الدين عطيَّة وغيرهما.

وفلسفةُ هذا الاتِّجاه تتلخَّص في أن "عِلْمَ الأصولِ التقليديَّ" الذي نلتمس فيه الهداية لَمْ يَعُدْ مناسبًا للوفاء بحاجَتِنا المُعَاصِرة حقَّ الوفاء؛ لأنَّه مطبوعٌ بأثَر الظُّروفِ التَّاريخيَّةِ الَّتِي نَشَأَ فيها، بل بطبيعة القضايا الفِقْهِيَّة الَّتِي كان يتوجَّه إليها البَحْثُ الفقهيُّ

"

(2)

.

ويَنْطَلِقُ هذا الاتِّجاه أيْضًا محاولًا إيجاد تقْسِيماتٍ جديدةٍ وتفريعات لم تُطْرَقْ من ذي قَبْلُ؛ ليتيح ذلك للفقيه التوسُّع التَّفْريع في القضيَّةِ أو المَسْأَلَةِ الَّيي يَبْحَثُها ممَّا يَخْدُم أخيرًا صَرْحَ الفِقْهِ الإسْلاميِّ. كذلك، فإنَّ هذا الاتِّجاه يُحاوِلُ الرَّبْطَ الوثيقَ بَيْن علم أصولِ الفِقْه والعلوم الأخْرى؛ حيث يَدْعُو إلى الاسْتِفَادَةِ مِنْ مناهج العُلُوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّةِ والدراساتِ اللُّغَوية الجديدة كعِلْم الدَّلالة (السِّمَانْتِيك) - أي: استخدام كُلِّ هذه المَنَاهِج كأدواتٍ لِتَوْسِيعِ دَائِرَةِ أصُول الفِقْه.

خامسًا: وهناك اتجاة آخَرُ خاضَ في مسْأَلة التَّجْدِيد، ولكِنْ بمفْهُومٍ مغايرِ ومختلفٍ، ويُمْكِنُ أن نُطْلِق عَلَيْه اسْمَ اتِّجاه التَّبْدِيل والتَّغْيِير، أو اتِّجاهِ التَّبْدِيدِ لا التَّجْدِيد؛ لأنَّ ذلك

(1)

الوجيز د. محمد عبد اللطيف ص 8.

(2)

ينظر: تجديد أصول الفقه الإسلامي د. حسن الترابي ص 13.

ص: 122

الاتِّجاه يَدْعُو إلى التحرُّر من النُّصُوصِ والانْسِلاخِ مِنَ المَدْلُولاتِ الَّتي تَعَارَفَ عَلَيْهَا النَّاسُ على أساسِ اللُّغة، وذلك في سَبِيل الوُصُول لإخْراج النُّصُوص الإسَلاميَّه عَنْ كلِّ مَعْنىً مألوفٍ، ورَذَ كلِّ مَعْنىً لغويٍّ شائعٍ لا يعرفه أصولُ الفِقْه، ويُمثِّل هذا الاتِّجاه سعيدٌ العشماويُّ، وحُسَيْن أحمد أمين، وحَسَن حَنَفِيّ.

وهذا الاتجاه مرفوضٌ - بلا شكّ - لمخالفته ما تعارَفَ عليه المُسْلِمُون في دِينهم، ولتَفْرِيقه بَيْن السُّنَّة والشَّرِيعة، ومحاوَلَة الانْسِلاخ من التُّراث الإسلامي. وبعد هذا العَرْض المُوجَز والسَّريع لِبَعْض الاتِّجاهاتِ البَارزة الَّتي دعَتْ لتجديد أصول الفِقْه، وعَرْضِ أفكار كلِّ اتجاهٍ وفَلْسَفَتِه وبَعْض قادته الَّذين انْدَرَجُوا تَحْتَه - نتعرَّض إلى التَّجْديد الحقيقي الَّذي يَنْشُدُه الإسلام ويَدْعُو إلَيْه، بل يرَى الإسْلام أن مثل هذا التَّجديد البَنَّاء واجبٌ ومطلوبٌ؛ لكي يظل صَرْح التُّراثِ الإسلاميِّ شامخًا أبد الدَّهْر، إنَّ الإسلام في كثير من نصوصِهِ يَحْرِص على التَّجْدِيد بَلْ يَدْعُو إليه، رُوِيَ عن أبي هُرَيْرة عن صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إن الله يَبْعَثُ لِهذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دينَهَا"

(1)

. ويَدْعُو إلى تَجْدِيدِ الإيمانِ، رُوِيَ عن عَبْد الله بْنِ عَمْرٍو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الإيمانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أحَدِكُمْ، كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الخَلِق، فَاسْألوا الله أَنْ يُجَدِّدَ الإِيمانَ في قُلُوبِكُمْ"

(2)

فما دام الشارعُ الحَكِيمُ قد حَضَّ عَلَى تَجْدِيد الإيمَانِ، وتَجْدِيد الدِّين نَفْسِه، فلا حَرَج عَلَيْنا من تَجْدِيد أُصُول الفِقْه. بِمَا يَرْتَفِع وشَأْنَ هذا العِلْم العَرِيق. ومن ناحيةٍ أخرى فإن علومَ الفِقْه، وعِلْمَ الكَلام، وعِلْمَ التَّصوُّف قابلةٌ للتَّجْدِيد، ومحتاجةٌ إلَيْه، فَلِمَ لا يَدْخُل عِلْمُ أصولِ الفِقْه في إطارِ هذِه الدَّائرة، ويكونُ قابلًا للتَّجديد والتَّطْوِير؟.

ويدْعو د. يوسفُ القرضاويُّ إلى التَجْديد في عِلْم أُصُول الفِقْه، ويَلْفِتُ نَظَرنا إلَى أن أهمَّ جوانبِ التَّجْديدِ المَنْشُودِ في الفِقْه هو إحياءُ "الاجْتِهَادِ"

(3)

بَعْدما شَاعَ في وَقْتٍ ما أن باب الاجتهاد أُغلِق، وهذا الاجتهادُ الذي يَدْعُو إليه د. يوسُفُ القَرَضَاوِيُّ هو اجْتِهادٌ قويٌّ

(1)

أخرجه أبو داود (2/ 512) كتاب الملاحم: باب ما يذكر في قرن المائة حديث (4291) والحاكم (4/ 522) من حديث أبي هريرة. قال المناوي في "فيض القدير"(2/ 282) قال الزين العراقي: وسنده صحيح.

(2)

أخرجه الحاكم (1/ 4) من حديث عبد الله بن عمرو وقال: هذا حديث لم يخرج في الصحيحين ورواته ثقات وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 57) وقال: رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن.

(3)

ينظر: الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد د. يوسف القرضاوي.

ص: 123

يعتمد على أصُول الإسْلام، ولا يُغْفِلُ حاجاتِ العَصْر، ومتطلّبات الحياةِ المتجدِّدة مِنْ حَوْلِنا.

يقول د. يوسُف القرضاويُّ: "

يتَّضِح أن للاجتهادِ في أصول الفِقْه مجالًا رَحْبًا، هو مجالُ التَّمْحِيص والتَّحْرير والتَّرْجِيح فِيما تَنَازَعَ فيه الأصوليُّون مِنْ قضايا جمَّةٍ

"

(1)

.

خُلاصَةُ القَوْل في هذِه القضيَّة أن الطريقَ الَّذي نَرْتَضِيه لتجْديد أصُولِ الفِقْه يَكْمُن في نَقْل كُتُب الأقْدَمِين وصيَاغَتها بأُسْلُوبٍ مبسَّط يُسهِّلها على المتعلِّمين، واستخدامِ أسلوبِ التَّحْقِيق الدَّقِيق والتَّنقِيح لِتَحْرِيرِ مذاهِبِ العُلَمَاء فِي المَسَائِل الأصوليَّة، وبيانِ الرَّاجِح والمَرْجُوح فيها، مثلما فعل د. أنيس عُبَادة، ود. محمد أبو النُّور زُهَيْر، وعبْدُ الوهابِ فايد، وأحْمَدُ سلامة، وأحمدُ دَرْوِيش، وعبدُ الوهَّاب خلاف، وزكيُّ الدين شعبان، والدكتور الخضراويّ، والدكتور الحسينيُّ يوسف الشيخ، وغيرهم في كتبهم.

كذلك نرى أن مِنْ جوانِبِ التَّجْدِيد إحياء باب الاجتهاد بضوابطه الشرعيَّة

(2)

.

ومحاولة الاستفادةِ من العُلُوم الإنسانيَّة الأخرى كعِلْم الاجتماع، وعِلْم اللُّغة.

(1)

ينظر: فتاوى معاصرة الجزء الثاني ص 146.

(2)

اعلم أن الاجتهاد يدور على معرفة الأدلة السمعية ووجوه دلالتها، وطرق الترجيح عند تعارضها؛ ومعرفة الأدلة السمعية تتحقَّق بمعرفة الكتاب والسُّنة والأحكام المشتركة بينهما كالعلم بالناسخ والمنسوخ، والأحكام الخاصة بالكتاب؛ كالعلم بوجوه القراءات، والأحكام الخاصة بالسنة كالعلم بأصول الحديث، وأحوال الرواة، ومعرفة وجوه الدلالات، فتتحقق بالفرق بين المنطوق والمفهوم، والمجمل والمبين والنص والظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز، والمحكم والمتشابه، والصريح والكناية، وعلم البيان، فمن شروط الاجتهاد العلم باللغة والنحو والمعاني والبيان

إلخ .. كما هو مدوّن في كتب الأصول.

ص: 124

‌أصُول الفِقْهِ وَالعُلُومِ الأخْرَى

النسبة بين الأصول والعُلُوم الأُخْرى التباين، أما النِّسبة بين الأصول والفقه، فمما لا شكَّ فيه أن النِّسْبَة بينهما وثيقةٌ جدًّا، والصِّلَة بينهما تكادُ تكون متطابقةً، أو كما قيل: عِلْمُ أُصُولِ الفِقْهِ بمجرَّده كالمَيْلَق الذي يُخْتَبَر به جَيِّد الذَّهَب من رَدِيئهِ، والفِقْهُ كالذَّهَب.

وعلى هذا؛ فالفقيهُ الَّذي لا أُصُولَ عِنْده كَمَنْ يَكْسِب المال، ولا يَدْرِي مِنْ أين اكْتَسَبه؟ ولا يَدْرِي كَيْف يَدَّخِره، أو يُنْفِقُه؟.

كما أنَّ الأصوليَّ الَّذي لا حَظَّ له من الفِقْه، كَمَنْ يَمْتَلِك مَيْلَقًا ولا ذَهَبَ عِنْدَه، فهو لا يَجِدُ ما يَخْتَبِرُه على مَيْلَقِه.

خلاصةُ القَوْل: إنَّ الأصولَ والفِقْه صَدِيقَانِ مُقْتَرِنان دائمًا لا يُفَارِق أحدُهُما صاحِبَه طَرْفَةَ عَيْنٍ بَلْ إن اقترانهما أمْرٌ ضروريٌّ لاستنباط الأحْكَام والقَوَاعِد على وَجْهها الصَّحيح.

فإذن العلاقة بَيْن الأصولِ والفروعِ واضحةٌ جليَّةٌ لا تخفى على ذِي نَظَير ثاقبٍ متمرسٍ على أحكام الشَّريعةِ الإسلاميةِ، فما مِنْ قَاعِدَةٍ من قواعدِ الشَّرِيعةِ الإسْلاميَّة إلَّا وينْدَرجُ تَحْتَها أحكامٌ وفُروعٌ كثيرةٌ.

ومن خلال هذا الإطَارِ سَلَكَ الشَّافعيُّ طريقَهُ في تأْليف "الرِّسَالة"، وغيرها من كتبه من عِلْم الأُصُول - لوضع المناهج التي سلكها لاستنباط الفُروع من خلال القَوَاعد.

قال الشَّافعيُّ: "ولَيْسَ لأَحَدٍ أنْ يَخْرُج مِنْ معنى كتَابِ اللهِ عز وجل ثم سُنَّة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا مِنْ وَاحدِ مِنْهُما في أصْلٍ ولا فَرْعٍ، وإنَّما فرَّقْنا بين العَالِمِينَ والجَاهِلِينَ

ص: 125

بأنَّ العالِمِينَ عَلِمُوا الأصول، فكان عَلَيْهم أنْ يُتْبِعُوها الفُرُوع، فإذا زيَّلُوا بَيْن الفُرُوع والأُصُول، فأَخْرَجُوا الفُرُوع مِنْ معاني الأصُول، كانوا كمن قال بلا عِلْمٍ، أو أقل عذرًا مِنْه؛ لأنَّهم تركوا ما يلزمهُم بعد عِلْمٍ به، والله يَغْفِرُ لنَا وَلَكُمْ معًا"

(1)

، ولعلَّ المتتبع للدِّراساتِ والمناهجِ الأُصُوليَّة وتاريخها مُنْذُ ظهورِهَا حتَّى المراحِلِ الَّتِي مرَّتْ بها - يُدْرِك بلا مِرْيَةٍ أن أصُولَ الفِقْه أصبح فَنًّا مستقلًّا قائمًا بذاته، له مبادئه وقواعِدُه الخاصَّةُ به.

فإن كان الشافعيُّ رحمه الله قد وضَع اللَّبنة الأولَى لهذا العِلْم، فإنَّ مَنْ جاءُوا بعْده أكْمَلُوا هذا الصَّرْح الشَّامِخَ بما أضَافُوه إليه وحتَّى أصْبَح على أيْدِيهِم فنًّا مسْتَقِلًّا ذَا عُنْوانٍ خاصٍّ وملامِحَ خاصَّةٍ، ويتَّضِح هذا جَلِيًّا عِنْد الكلامِ على طرق التَّأَلِيف في هذا الفنِّ.

‌اسْتِمْدَادُهُ:

قال الآمِديُّ: "أمَّا ما مِنْه استمدادُهُ فعِلْمُ الكَلامِ، والعَرَبِية، والأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّة.

‌أولًا: عِلْم الكَلام:

وهوَ علْمٌ يُقْتَدَر معَه على إثباتِ العقائِدِ الدِّينيَّة؛ بإيراد الحُجَجِ عَلَيْها، ودَفْع الشُّبَه عنها.

والمرادُ بالعِلْم؛ إما التَّصدِيقُ مطلقًا، سواءٌ كان مطابِقًا للواقِع أمْ لا، ليتناول إدراكَ المُخْطئ في العَقَائِد ودَلائِلِها، لأنَّه مِنْ عِلْم الكلام على ما صرَّح به عَضُدُ الدِّينِ الإيجي في "المَوَاقِف" وإمَّا مَلَكَةُ الاسْتِحْضَار، أي: التَّهَيُّؤُ التَّامُّ الناشئُ عن استحضار المَسَائل المُدَلَّلة، ونبَّه بصيغة "الاقْتِدَار" على القدرة التامَّة، وبـ "المعيَّة" على المصاحَبَة الدَّائمة، فَيَنْطَبِق التَّعْريف على العِلْم بجميع القَوَاعِد معَ ما يتوقَّف علَيْه إثباتُها من الأدلَّة وردِّ الشُّبَه؛ لأن هذه القُدْرَة على هذا الإثْبات إنَّما تصاحِب دائمًا، هذا انعِلْم دون عِلْم المَنْطِقِ وعِلْمِ الجَدَلِ والنَّحْوِ، واتِّصَالُ عِلْمِ الأصولِ به اتصال اسْتِمْدَادٍ؛ لأن غير الكتاب من الأدلَّة الشرعيَّة مستنِدٌ إليه في الحُجِّيَّة، وحُجِّيَّتُهُ مَوْقُوفةٌ على معرفة الباري، ليَعْلَمَ وجوه امْتِثَالِ ما كُلِّف به بِخِطَابِ مفترض الطَّاعَة، وهي معرفةُ حدوثِ العالَمِ عِنْدنا؛ لأنَّ حُجِّيَّة الكتاب موقوفةٌ على صدْق الرَّسُول المبلِّغ، وهو على دلالةِ المعجزةِ المَقْصُودِ بها إظهارُ صِدْقِ من ادَّعى أنَّه رسولٌ والموقوفة على شيئيْنِ.

(1)

ينظر: الأم 6/ 188.

ص: 126

أحدهما: امتناع تأثيرِ غَيْر قُدْرةِ الله - تعالى - لتتعذَّر المعارَضَة، وهو موقوفٌ على بَيَانِ أن جميعَ الأَفْعَال مَخْلوقةٌ للهِ عز وجل.

‌ثانيهما: اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ:

والعلومُ العربيَّةُ مشتملةٌ على النَّحْوِ والصَّرْفِ والأَدَبِ، فالنَّحْوُ: عِلمٌ بأُصُولٍ تُعْرَفُ بها أحوالُ الكلماتِ العربيَّة إعرابًا وبناءً، وفائدتُهُ: صوْنُ اللِّسَانِ عن الخطإ في الكَلام والاِسْتِعانةُ به على فهْم كلامِ الله وِرَسُولِهِ.

والصَّرْفُ: هو العِلْمُ بِأحْكَامِ بنْيَةِ الكلمةِ بِمَا لِحُرُوفها من أصالةٍ وزيادةٍ وصحَّةٍ وإعْلالٍ وغَيْرِ ذلك، ويُطْلَق أيضًا على تَحوِيل الكلمةِ إلى أبْنِيَةٍ مختلِفَةِ الضروب من المَعَاني، كالتَّصْغير، والتَّكثِير، واسْمِ الفَاعِل، واسْمِ المَفْعُول، ويُطْلَق أيضًا على تغْيِيرِ الكَلِمَةِ لِغَيْرِ معنىً طَرَأَ عَلَيْها، ولكنْ لغَرَضٍ آخرَ، ويَنْحَصِرُ في الزِّيادة، والحَذْف، والإبْدال، والنَّقْل، والإدْغام. وعِلْمُ الأَدَب: هو عِلْمُ نَظْمِ الكَلام، ومَعْرِفة مراتبه على مقتضى الحَالِ، واتِّصَالُ عِلْمِ الأصول بِعِلْمِ العربية اتِّصالُ استمدادٍ، ففهم الكتاب والسُّنَّة وهما عربيَّان متوقَفان على مَعْرِفة اللُّغة العَربيَّة، فمعرفةُ الدَّلالات اللَّفظيَّة من الكتابِ والسُّنَّةِ متوقَفَةٌ على مَعْرِفة مَوْضُوعها لغةً؛ من جهة الحقيقة، والمجاز، والعُمُوم والخُصُوص، والإضْمَار والحَذْف، والاِشْتِرَاك، والإِطْلاق، والتفْسِير، والمَنْطُوق، والمَفْهُوم، وغير ذلك من المَبَاحِث الأُصُوليَّة الَّتِي لا يَسْتَطِيع أَنْ يقِفَ على حقيقتها إلَّا مَنْ تَمَرَّسَ في عِلْم اللُّغَة نَحْوًا وَصَرْفًا.

قال الزركشيُّ في "البَحْر المحيط"

(1)

بعد حكاية العُلُوم الثَّلاثَة: عِلْمُ النَّحْو والصَّرْف والأَدَب -: وإنَّمَا يكونُ هذا مادَّةً لِبَعْضِ أنواعٍ الأُصُول، وهو الخطابُ دُونَ مَسَائِل الأَخْبَار، والإجْماع، والنَّسْخ، والقِياسِ، وهِيَ معْظم الأُصُول، ثم إن المادَّة فيه ليْسَتْ على نظير المادَّة من الكَلام، فإنَّ العِلْم بها مادَّةٌ لِفَهْم الأدلَّة، فعُلماءُ الأُصُول أخَذُوا القاعدة اللُّغويَّة من علماء اللُّغة، وبَرْهَنُوا على صحَّتها، وعَدُّوها مِنْ جُمْلَة مباحث عِلْم الأُصُول، وأضافُوا عَلَيْها مباحثَ أوْسَع دائرةً من المباحث اللُّغويةِ التي عِنْد أهْل اللُّغَة، فمِنْ أمْثلَةِ ذلك الصِّيَغُ والدَّلالات، فمثلًا "كُل"، و"مَنْ" و"أيٌّ" والجَمْع، إذا كان مُضافًا أو مُحَلًّى بـ "ألْ" والجَمْعُ إذا لَمْ يَكُنْ مضافًا، ولم يَدْخُل عَلَيْه "ألْ" والنكرةُ في سياق النَّفْي، والشَّرْطِ والإثْبَاتِ - كلُّ

(1)

ينظر: 1/ 29.

ص: 127

ذلك يُفِيد العُمُومَ، وهو مستفادٌ من مباحث اللُّغَة، ودلالةُ صيغة "افْعَلْ" تفيد الوُجُوب، "ولا تَفْعَلْ" على النهي، وغير ذلك من المباحث الَّتي تَعَرَّض لها الأصوليُّون، ولها أساس في عِلْم اللُّغَة.

ثالثًا: الأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ: أي: تصوُّرُها، لأنَّ إثْباتها ونَفْيها للأحكام المقْصُودين فيها نحو: الأمرُ موجِبٌ، والنهْيُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ، وللأفعال في الفروع نحو: الْوِترُ

(1)

واجبٌ، والنَّفْلُ ليس بواجِبٍ، وكذا إثْبات شيءٍ لها، أو نَفْيُه عنها نحو: وجوب الشيء يقتضي حُرْمَة ضِدِّه، أوْ لا يَقْتَضِها لا يمكن بدون تصوُّرها.

‌شُبْهةٌ وَرَدٌّ:

فإنْ قيل: هلْ أُصُول الفِقْه إلَّا نُبَذٌ جُمِعَتْ مِن عُلُومٍ متفرَّقة؛ نبذة من النحو، كالكَلامِ على معاني الحُرُوف الَّتِي يَحْتَاج الفَقِيهُ إلَيْها، والكلامِ في الاستثناء، وعَوْدِ الضَّمير للبَعْض، وعَطْفِ الخَاصِّ على العامِّ ونحوه.

ونبذة من علم الكلام، كالكَلامِ على الحُسْن والقُبْح، وقدم الحُكْم، وإثبات النَّسْخ، وعلى الأفْعَالِ ونَحْوه، ونبذة من اللُّغة، كالكَلام في مَوْضُوع الأَمْرِ والنهْي، وصيغ العُمُوم، والمُجْمَل والمُبيَّن، والمُطْلَق والمُقَيَّد، ونبذة من عِلْمِ الحَدِيث؛ كالكلام في الأخبار، فالعارفُ بهذه العُلُوم لا يَحْتاج إلى أصُول الفِقْه في شَيءٍ منْ ذلك، وغَيْرُ العَارِف بها لا يُغْنِيه أصول الفِقْه في الإِحاطَةِ بها، فلم يَبْقَ من أصول الفِقْه إلا الكَلامُ في الإجْمَاع، والقِيَاسِ، والتعارُضِ، والاجْتِهَادِ، وبَعْضُ الكلام في الإجْماع مِنْ أصولِ الدِّين، وبعْضُ الكلام في القياس والتعارُضِ مما يَسْتَقِل به الفَقِيه، ففائدةُ أُصُول الفقه بالذات حينئذٍ قليلةٌ.

فالجواب منْعُ ذلك، فإن الأصوليِّين دقَّقُوا النَّظَر في فهْم أشْيَاءَ منْ كلام العَربِ لَمْ يَصِلْ إليها النُّحاة ولا اللغويُّون، فإنَّ كلام العَرَبِ متَّسِعٌ، والنَّظر فيه متشعِّب، فكُتب اللُّغَة تَضْبط الألفاظَ، ومعانِيها الظَّاهِرَة، دون المعاني الدَّقِيقَةِ الَّتِي تحتاج إلى نَظَرِ الأصوليِّ باستقراء زائدٍ على استقراء اللغوي.

مثاله: دَلالةُ صِيغَةِ "افْعَلْ" على الوجوب، و"لا تَفْعَلْ" على التحريم، وقد سبَقَ ذلك واضحًا في مبْحَث الاسْتِمْداد الثَّاني، وهو عِلْمُ العربية، ولو فتَّشْت في كتب اللُّغَة، والنَّحْو

(1)

وهذا على مذهب الحنفية القائلين بوجوب الوتر.

ص: 128

لا تجدُ الدَّقَائِق الَّتِي تعرَّض لها الأصوليُّون قَبْل الحُكْم أو بعْدَه، والمُطلِع على كُتُب الأُصُول يجدُ العجَبَ العُجَابَ فهي زاخرةٌ بالأمثلةِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى.

‌فَائِدَةُ عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ وغَايَتُهُ:

لم توضع العُلُومُ عَبَثًا، بَلْ لكل علْمٍ غايةٌ، وغايةُ أُصُولِ الفِقْه، كما ذكر علماء الأصول في طَيِّ حجتهم كالآتي:

قال الآمِدِيُّ: وأمَّا غاية علْم الأصُولِ، فالوصول إلى معِرفة الأحكام الشرعيَّة التي هي مَنَاطُ السعادة الدنيوية والأُخْرَويَّة.

قال العلَّامة الشيخ محمد حَسَنين مخْلُوف: كان الغرضُ الأصليُّ من معرفة علْم الأُصُولِ هُوَ تَحْصِيلَ ملكة استنباطِ الأَحْكَام الفقهيَّة من أدلتها التفصيلية على وجه مُعْتَدٍّ به شَرْعًا.

وقال العلَّامة الخضريُّ في "أصول الفِقْه": غايَتُه الوصُول إلى اسْتِنْباط الأحْكَام من الأدلَّة.

وقال الشيخ زكي الدِّين شَعْبان: إنَّ الغاية من هذا العلم الوصولُ إلى أخْذ الأحْكام الشرعيَّة العمليَّة من أدلَّتها التفصيليَّة. فإذا تحقَّق عند مَنْ يدْرُسُ هذا العِلْم أهليَّةُ الاجتهاد؛ بأن تجمَّعَت له وسائِلُهُ وتوافَرَتْ فيه شروطُهُ من العِلْم بالقُرْآن وعُلُومِهِ، والسُّنَّة النبويَّة المطهَّرة رِوَاية ودِرَايةً، ووجُوه القياس، ومعرفة المقاصد العامَّة للشَّريعة، استطاع بواسطته استِنْبَاط الأحكام من النُّصوص الشرعيَّة، وأمكنه مَعْرِفَة الحُكْم الشرعيِّ فيما لا نصَّ فيه بالقياس على ما نص عَلَيْه، أو بإعْطَاء الحادثة الحُكْم المناسِبَ لها، والَّذِي تقتضيه المَصْلَحَةَ الشرعيَّة.

فمن هنا يُعْلَمُ أن عِلْمَ أصُولِ الفِقْه خادمٌ للاجْتِهاد؛ إذ هو العِلْمُ الكفيلُ بالنظر في الأدلَّة من حَيْثُ تؤخَذُ مِنْها الأحكامُ الشرعيَّة، وبه تُعْرَف كيفيَّة اسْتِثْمار الأحْكَام من أدلَّتها.

فأما إذا لم يَكُنْ عِنْد مَنْ يَدْرُس هذا العِلْمَ أهليَّة الاجتهاد، فإنَّه يستطيع الحصول على عِدَّة فوائد: منها: فهْمُ الأحْكَام الَّتي استَنْبَطَها المجتهدُون حقَّ فهْمِهَا، فعِلْمُ الأُصُول عُمْدَةٌ

ص: 129

لأصحابِ التخريج

(1)

الذين عُنُوا بتفريعِ الأحكام، وتخريج الوَقَائِعِ والحَوَادِثِ على أصُولِ إمامِهِمْ.

ومنها في مَجَالِ المقارنَةِ بين المذاهب الفقهيَّة في الواقعة الواحدة. ترجيحُ أقْوى الآراء دليلًا وأوضَحِها نظرًا؛ لأنَّ المقارنة بيْن المذاهب المختلفة، إنما تكون بالوقوف على الأدلَّة التي استَنَدُوا إلَيْها في تَقْرِير الأحكام الشرعئة المختلفة، ثم الموازنة بَيْن تِلْك الأدلَّة، وترجيح الأقْوى مِنْها، ولا يُتوصَّل إلى ذلِك إلا بمعرفة القواعد الأصوليَّة.

ولقد صوَّر لنا العلَّامة الإسنَوِيُّ في "تمهيده" فضْلَه، فقال: فإن أصول الفقه عِلْمٌ عَظُم نَفْعُه وقدْرُه، وعلا شَرَفُه وفَخْرُه؛ إذْ هو مَثَارُ الأحكام الشرعيَّة، ومنار الفتاوى الفرعيَّة التي بها صلاحُ المكلَّفين مَعاشًا ومَعادًا، ثم إنَّه العُمْدة في الاجتهاد، وأهم ما يتوقف عَلَيْه من الموادِّ، كما نصَّ عليه الأئمَّةُ الفُضَلاء

(2)

.

وقال الغزاليُّ في "المُسْتَصْفَى": خَيْرُ العِلْم ما ازْدَوَجَ فيه العَقْلُ والسَّمْع، واصطَحَبَ فيه الرأْي والشَّرْع علمُ الفِقْهِ، وأصولُ الفِقْهِ من هذا القَبيل، فانَّه يأخُذُ مِنْ صفْوِ العقْلِ والشَّرْعِ سَوَاءَ السَّبِيل، فلا هُوَ تصرُّفٌ بمَحْضِ العُقُولِ، بحيث لا يتلقَاه الشَّرعُ بالقَبُول، ولا هو مبنيٌّ على التقليد الذي لا يشهَد له العَقْلُ بالتأييد والتَّسْديد، ولأجْل شَرَف عِلْم أُصُول الفِقْه، ورِفْعَتهِ، وفَّر الله دواعي الخَلْقِ على طَلبته، وكان العلماءُ به أرْفَعَ مكانًا وأجَلَّهم شَأنًا، وأكثَرَهُم أَتْباعًا وأعوانًا.

وقال إمام الحرَمَيْن في "المَدَارِك"

(3)

: والوجْهُ لكلِّ مُتَصَدٍّ للإقْلال بأعْباء الشريعة أن يجعل الإحاطَة بالأُصُول شَوْقَهُ الآكدَ، ويَنُصَّ مسائل الفقه عليها نصَّ مَنْ يحاول بإيرادها تهْذيبَ الأصولِ، ولا ينْزِفُ جمام الذِّهن في وضع الوقائع مع العِلْم بأنَّها لا تنحَصِر مع الذُّهول عن الأُصُول.

هذا، وبعد الانكفاف عن ذكر فوائد أصول الفقه وغايته والاستشهاد بقول العلماء لذلك ودحض الشبهة المفتراة عليه نلج من ذلك إلى الحديث عن مباحث دقيقةٍ هي أسس

(1)

كالمزني والربيع، وابن القاص من الشافعية، وابن الحكم من المالكية، وأبي يوسف، ومحمد بن الحنفية.

(2)

التمهيد ص 43.

(3)

ينظر: البحر المحيط 1/ 12.

ص: 130

أصول الفقه ولا يتأتى البناء إلا بنشر الأساس فعلى الأساس قواعد البنيان.

وهذه المباحث هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس فعلى قطبها يدور رحى أصول الفقه لذا انمازت عن باقي المباحث بذكرها وتفصيل القول فيها بما لا غنية عنه لمن يلج بحر أصول الفقه العجاج.

وقد أفردنا النسخ بذكرٍ لأهميته وكثرة الشَغْبِ حوله ففصلنا القول فيه واصطفينا من أقوال العلماء وزبدهم ما استبان لنا صوابه فهاكه يسرًا لينًا سهلًا.

‌الكِتَابُ

وبه يستفتح لأنه المصدر الأول للتشريع إذْ لا خلاف عليه ألبتة بين أهل المذاهب جميعًا. وقد سطرنا نبذًا عن ماهيته ومعناه اصطلاحًا وحجيته ولم نطل الكلام في هذا المبحث لأنه لم يختلف عليه أحد من أهل الملة ولأنه مشهورٌ منشورٌ بين الناس. فاكتفينا بالتلميح عن التصريح وبالبعض عن الكل ورُبَّ إشارة أبلغ من عبارة.

‌مَاهِيَّتُهُ:

وهو في اللُّغَةِ

(1)

اسمٌ للمكتوب إلَّا أنَّهُ غلَبَ في عُرْفِ الشَّرْع على كتاب الله - المكتوبِ في المصَاحِفِ، والقرآنُ مصدرٌ مرادفٌ للقراءة، ومنه قولُه تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [سورة القيامة: الآية 17 - 18] ثم نُقِلَ من هذا المعنى المصدريِّ، وجُعِلَ اسمًا للكلامِ المُعْجِز المنزَّل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم من باب إطلاق المَصْدَر على مَفْعُوله

(2)

.

‌واصْطِلاحًا

(3)

:

يُطْلَق القرآنُ عِنْد علماء الأُصُولِ والفُقَهَاء والعربيَّة على اللَّفْظ المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم

(1)

لسان العرب 5/ 3816، ترتيب القاموس 4/ 110.

(2)

لسان العرب 5/ 3563، ترتيب القاموس 3/ 578، ابن ملك على المنار 7، مناهل العرفان في علوم القرآن 1/ 7.

(3)

مناهل العرفان 1/ 8 - 9، ابن ملك على المنار ص 8.

ص: 131

المتعبَّد بتلاوته، المُتَحدَّى بأقْصَرِ سُورةٍ مِنْه، المبدوء بسورةِ الفاتِحَةِ، المَخْتُوم بِسُورة النَّاسِ، الَّذِي صَح سَنَدُه، وثَبَتَ تواتُره، ووافَق العربيَّة. وذهب المحقِّقُون من أهْل العِلْمِ إلى أنَّ القرآنَ عَلَمُ شَحصٍ مدْلُولُه وعَلَمِيَّتُه باعتبار وضْعِه لِلَّفْظِ المخْصُوصِ الَّذِي يَخْتَلِفُ باخْتلافِ المتلفظين، وعلى هذا فما ذَكَره أهْل العِلْم مِنْ تَعْرِيف القُرْآن لَيْسَ تَعْرِيفًا حقيقيًّا؛ لأنَّ التعْرِيف الحقيقيَّ لا يكونُ إلا للأمُور الكلَيَّة، وإنَّما أرادُوا بِتَعْرِيفه تمَيُّزه عمَّا عَدَاه مِمَّا لا يُسمَّى باسْمِه كالتوراةِ والإنْجِيلِ، والأحادِيثِ القُدُسِيَّة، وقد أجمعَ المُسْلِمُونَ قَاطِبَةً على أنَّه المَقْرُوءُ في جميعِ الأقطارِ، المسموعُ بآذَانِنا، المحفوظُ في صُدُور الحافِظِينَ له، وأنَّه كلامُ الله - تعالى - وأنَّه لا يَأْتيه الباطلُ مِنْ بَيْن يَدَيْه، ولا مِنْ خَلْفه، تنزيلٌ من حَكِيمٍ حَمِيدٍ.

‌حُجِّيَّتُهُ:

لا خلافَ بَيْن عُلَماء المُسْلِمِين قاطبةً أن القرآن الكَرِيم هو المَصْدَر الأوَّل للتَّشْريع الإسلاميِّ، وهو كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ وعُمْدَتُها، فمريدُ الوُصُولِ إلى حقيقةِ الدِّين وأصولِ الشريعةِ يَجِبُ عَلَيْه أن يجعل القرآنَ بمَنْزلة القُطْب الذي تدُور عَلَيْه جميعُ الأَدِلَّة.

والبُرْهانُ عَلَى أن القُرْآن حجَّة على النَّاس، وأنَّ أحكامه قانونٌ واجبٌ اتِّباعه أنه من عِنْد الله، وأنَّه نُقِل إلَيْهِم عن المَوْلَى عز وجل بطريقٍ قطعيِّ الثبوت، لا ريْبَ فيه، وآيةُ دلك إعْجَازُه النَّاسَ على أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وقد استكملَ جميعَ عناصِرِ الإعْجَاز، فقد توافر فيه التحدِّي به، ووُجِدَ المقتضي لمَنْ تُحُدُّوا له أنْ يُعَارِضُوه، وانتفَى المَانِعُ لهم، ومع ذلك لم يَسْتَطِيعُوا.

أما التحَدِّي فإن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لمَّا قال للنَّاس: إنِّي رسولُ الله إلَيْكُم، وبُرْهَانِي على أنِّي رسولُ الله هذا القُرْآنُ الذي أتْلُوه عَلَيْكُم، أُوحِيَ إليَّ من عند الله، أنْكَرُوا عَلَيْه دَعْوَاه، وبَطَشُوا به، فَقَال لَهُمْ: إنْ كُنْتُم فِي شَكٍّ، وتبادَرَ إلى عُقُولكم أنَّه مِنْ صُنْعِ البشرِ فَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا وما استطاعوا، ثمَّ تَحَدَّاهُم أنْ يأتوا بعَشْر سُوَر من مثله، فما قدَرُوا قال تعالى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [سورة هود: الآية 13 - 14] فما قَدَرُوا وتحدَّاهم أنْ يَأْتُوا بسُورَةٍ مِنْه، وطَلَب المُعَارَضَة، فقال لَهُمْ:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [سورة يونس: الآية 38] ثمَّ دعاهُم إلى الاستعانة بغَيْرهم، فما قدَرُوا، فقال جلَّ ذِكْرُه: {قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ

ص: 132

كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [سورة الإسراء: الآية 88].

وأما وُجُودُ المقتضي للمبارَزَة والمُعَارَضَة عِنْد من تَحَدَّاهم، فهذا أظْهَرُ منْ أن نقيمَ لهُ دليلًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاءَهُم بدينٍ يُبْطِلُ دِينَهم، وما وجدوا عليه آباءَهم، وسفَّه عقولَهم، وسَخِرَ من أوثانهم، واحتجَّ عليْهم بأن القُرْآنَ مِنْ عِنْد الله عز وجل فما كان أحْوَجَهم، وأشدَّ حِرْصَهُم على أنْ يأتوا بمثله أو بَعْضِه؛ ليُبْطِلُوا أنَّه من عند الله.

وأمَّا انْتِفَاءُ ما يَمْنَعُهم من المعارَضَة، فلأنَّ القرآن بلسانٍ عربي، وألفاظه من أحرف العرب الهجائيَّة، وعبارته على أسلُوب العَرَب، وهمْ أهْلُ البيان والفَصَاحة، وفيهم ملوكُ الفَصَاحة وقادَةُ البَلاغة، ومَيْدانُ سِبَاقِهِم مملوءٌ بالشُّعَرَاء والخُطَبَاء، وهذا من الناحية اللفظية.

أما المَعْنَوِيَّة، فقد نَطَقَت أشْعَارهُمْ وخُطَبُهم وحِكَمُهم ومناظَرَاتُهم بأنَّهم ناضِجُو العُقول ذَوُو بَصِيرةٍ بالأُمُور وخِبْرَةٍ بالتَّجَارب، وقد دعاهم القُرْآن بالاسْتِعانةِ بِما شَاءُوا كما بيَّنا آنِفًا.

وأمَّا مِنَ النَّاحيَة الزَّمَنِيَّة، فالقُرْآن لَمْ يَنْزِلْ جملةً واحدةً حتَّى لا يَحْتَجُّوا بأنَّ زمنَهُم لا يتَّسعُ للمعارَضَة، بل نزل مُنَجَّمًا في ثلاثٍ وعِشْرِينَ سنةً تقريبًا، وبذلك ثبت إعْجازُه على أبْلَغِ وَجْهٍ، وإذا ثَبَتَ عَجْزُ العَرَب، فغَيْرهم بالعَجْز أولى وأحْرى، وبهذا ثبتت حُجِّيَّتُه، فوجَبَ العَمَلُ به

(1)

.

‌السُّنَّةُ

وقد ثنَّيْنا بالسُّنَّةِ، إذْ هي صِنْوُ كتاب الله، وشَقِيقَتُهُ ومنزلتها بَعْدَهُ.

وسوف نتكلم عن مَاهيَّتِهَا، وحجِيَّتها ووجوب اتِّباعها والتحذير من مخالفتها. وعن إنْكَار حجيَّة السُّنَّة، والحكمِ بردَّةِ من أنكرها ثم نتكلم عن العلاقة بين الكِتَاب والسُّنَّةِ، مستشهدين لكلٍّ، ومبينين القَوْلَ بِما يَرْفعُ اللَّبْسَ ويكشفه.

(1)

ينظر: الإحكام للآمدي 1/ 147، شرح العضد 2/ 19، المستصفى 1/ 101، جمع الجوامع بشرح المحلى 1/ 294، تيسير التحرير 3/ 8، كشف الأسرار 1/ 22، إرشاد الفحول ص (29)، البحر المحيط 1/ 441، الإبهاج 1/ 189، نهاية السول 2/ 3، أصول السرخس 1/ 379، المغني للخبازي ص (185)، فواتح الرحموت 2/ 7، مختصر ابن اللحام ص (70)، روضة الناظر ص (34).

ص: 133

‌مَاهِيَّتُها:

في اللُّغَة

(1)

: السِّيرَةُ والطَرِيقَة، حَسَنةً كانَتْ أو قبيحةً.

أنشد خالدُ بنُ زُهَيْرِ فَقَالَ: [الطويل]

فَلا تَجْزَ عَنْ عَنْ سِيرَةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا

فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا

وسَنَنْتُهَا سَنًّا وَاسْتَنَنْتُها: سِرْتها، وسَنَنْتُ لَكُمْ سُّنَّةً فَاتَّبِعُوها.

وقال ابن فَارِسِ في "معْجَمِه"

(2)

: السِّين والنُّون أصْل واحدٌ مطَّرِدٌ، وهو جريانُ الشَّيْء واطِّرادُه في سُهُولٍ.

والأصلُ: قولُهم: سَنَنْتُ المَاءَ على وَجْهِي أَسنُّة سَنًّا إذا أَرْسَلْتَه إرْسالًا.

قال ابن الأَعْرَابِيِّ: السَّنُّ مَصْدَرُ سَنَّ الحَدِيدَ سَنًّا، وسَنَّ لِلقَوْم سُنَّةً وسننًا، وسَن عليه الدِّرْعَ يَسنُّها سَنًّا، إذا صَبَّهَا، وسنَّ الإبِلَ يَسنُّهَا سَنًّا إذَا أحْسَنَ رعيَّتها، وسُنَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم تَحْمِلُ هذه المعانِيَ لما فيها من جَرَيانِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة، واطِّرَادِهَا.

‌اصْطِلاحًا:

تختَلِفُ السُّنَّة عِند أهْلِ العِلْمِ حَسَب اخْتِلافِ الأغْراضِ الَّتي اتَّجَهُوا إلَيْها في أبْحَاثِهِمْ، فَمَثلًا عُلَمَاءُ الأُصُول: عُنُوا بالبحث عن الأدلَّة الشرعيَّة، وعُلَماءُ الحديثِ: عُنُوا بِنَقْلِ ما نُسِبَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلماءُ الفِقْه: عُنُوا بالبَحْثِ عن الأحكامِ الشرعيَّة من فَرْضٍ ومَنْدُوبٍ وحَرَامٍ ومَكْرُوهٍ.

فالسُّنَّة عند علماء الأصول

(3)

: تُطْلَق على ما أثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من قَوْلٍ أو فِعْل أو تَقْرِيرٍ.

والسُّنَّة عِند الفُقَهَاءِ

(4)

: تُطلَقُ السُّنَّةُ عِنْد أكْثَرِ عُلَماء الشَّافِعيَّة وجمهورِ الأصوليِّين

(1)

الصحاح 5/ 139، لسان العرب 3/ 2124، ترتيب القاموس، 2/ 656، المصباح المنير 1/ 396 - 397.

(2)

معجم مقياس اللغة 7/ 60، لسان العرب 3/ 2123.

(3)

نهاية الوصول 3/ 3، البدخشي 2/ 2، البناني على جمع الجوامع 2/ 99 تيسير التحرير 3/ 19، الإحكام في أصول الأحكام 1/ 156.

(4)

البيجرمي على المنهج 1/ 246 حجية السنة 51.

ص: 134

بالنِّسْبَة إلَى مَعْناها الفقهيِّ على ما يرادف المَنْدُوبَ والمُسْتَحَبَّ والتَطَوُّع والنافِلَة والمرغَّب فيه.

قالوا: هي الفِعْلُ الَّذِي طلَبَه الشَّارع طلبًا غيْرَ جازِمٍ، أو ما يُثَابُ الإنْسَانُ على فِعْلِها، ولا يعاقَبُ على تَرْكها.

وعِنْد علماءِ الحَدِيث

(1)

: تُطْلَقُ على أقوالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأفعالِهِ وتَقْريرَاتِهِ وصفاتِهِ الخَلْقيَّة والخُلُقيَّة وسِيَرِه ومَغَازِيه وأخبارِهِ قَبْل البَعْثة - فالسُّنَّة بهذا المعنَّى تُرادِفُ الحديثَ الشريفَ.

‌حُجَّيَّتُهَا وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهَا وَالتَّحْذِيرُ مِنْ مُخَالَفَتِهَا:

لقد أَوْحَى الله سبحانه وتعالى لنبيِّه القُرْآن ومِثْلَهُ معه، فَأوْحَى له السُّنَّة النبويَّة، وهي أصلٌ من أصُولِ الدِّين، وركْنٌ في بنائه القويم، فيجبُ اتِّباعها، ويحْرُم مخالَفَتُها، وعلى ذلك أجمعَ المُسْلِمُون، وتضافرَتِ الآيَاتُ على وَجْهٍ لا يدَعُ مجالًا للشكِّ، فمن أنكر ذلك، فقد نَابَذَ الأدلَّة القطعيَّة، واتَّبَع غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمنين، وهِيَ بذلك تُعْتَبر المَصْدَرَ الثَّانِي للتَّشْرِيع.

فمن الآياتِ في ذلك قولُهُ تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ} [سورة الحشر: الآية 7].

وقولُه تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [سورة النساء: الآية 80].

وقولُه تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب: الآية 21].

وقولُه تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران: الآية 31].

وقولُه تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة الاء: الآية 65].

وقولُه تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور: الآية 63].

وقولُه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينً} [سورة الأحزاب: الآية 33].

(1)

الحديث والمحدثون لأبي زهو 8 وما بعدها.

ص: 135

‌إِنْكَارُ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ مُوجِبٌّ لِلرِّدَّةِ:

وقد لبِستْ طائفةٌ من النَّاسِ ثيابَ الدِّينِ زُورًا وبُهْتانًا بعْدَما راحُوا يشكِّكون في ثبوتِ السُّنَّة؛ ليكونَ ذلك عذْرًا لهم على رَدها، وقد كَذَبُوا، ورَحِم الله أعْيُنَ رجالٍ سَهِروا على حِفْظِ هذا الدِّين.

قال الحافظُ ابنُ عَبْدِ البَرِّ

(1)

: أصولُ العِلْمِ الكتابُ والسُّنَّة، والسنَّةُ تنقسم إلى قسمَيْن:

أحَدُهُما: إجماعٌ تنقُلُه الكافَّةُ عن الكافَّة، فهذا من الحُجَجِ القاطعةِ للأعْذَار، إذا لم يوجَدْ هناك خلافٌ، ومنْ ردَّ إجماعَهُم، فقَدْ رَدَّ نصًّا مِنْ نُصوص اللهِ يجبُ استتابَتُه عليه، وإراقَةُ دمِه، إذَا لَمْ يتبْ؛ لخروجِه عمَّا أجْمَع عَلَيْه المُسْلِمُون، وسُلوكِه غَيْرَ سَبِيلِ جميعه.

والضرْبُ الثَّاني من السُّنَّة: خَبَرُ الآحادِ والثِّقاتِ الأثباتِ المُتَّصِل الإسْنادِ، فهذا يوجِبُ العمل عِنْد جماعة علماءِ الأمَّةِ الَّذين هم الحُجَّة والقُدْوة، ومِنْهُم مَنْ يقول: إنه يوجِبُ العِلْمَ والعَمَل.

وقال ابن حَزْمٍ

(2)

بعدما ساقَ قول اللهِ تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء: الآية 51] قال: والبرهانُ على أن المراد بهذا الردِّ إنَّما هو إلى القرآنِ والخَبَرِ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأن الأمة مُجْمِعَةٌ على أن هذا الخطابَ متوجِّهٌ إلينا، وإلى كل من يخلقه، وتَرْكَبُ روحُه في جَسَده، وساقَ أيْضًا قولَ الله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى: الآية 10] فَوَجَدْنا الله - تعالى - يردُّنا إلى كلامِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم على ما قرَّرناه آنِفًا، فلم يَسَعْ مسلمًا يقِرُّ بالتوحيد أنْ يرجع عند التَّنازُعِ إلى غَيْرِ القرآن، والخبَرِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يأْبَى عما وَجَد فيهما، فإن فعل ذلك بعد قيام الحُجَّة عليه، فهو فاسقٌ، وأما مَنْ فعله مستحلًّا للخروج عن أمرهما وموجبًا لطاعة أحد دونهما، فهو كافر لا شكَّ عِنْدنا في ذلك.

قال: وقد ذكر محمَّدُ بنُ نصرٍ المَرْوَزِيُّ أن إسحاقَ بنَ راهَوَيْه كان يقول: من بلَغَه عَنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خَبَرٌ يمِرُّ بِصِحَّته، ثمَّ ردَّه بِغَيْر تَقِيَّةٍ، فَهُو كافر.

وقال: ولم نَحْتَجّ في هذا بإسْحَاق، وإنَّما أوردناه؛ لئلَّا يظن جاهلٌ أثنا متفرِّدون بهذا

(1)

جامع بيان العلم وفضله 2/ 41 - 42 حجية السنة 252 - 253.

(2)

الإحكام في أصول الأحكام 1/ 93.

ص: 136

القوْل، وإنَّما احتجَجْنَا في تكْفِيرنا من استَحَلَّ خلافَ ما صحَّ عنده عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِقَول الله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: الآية 65] هذه الآيةُ كافيةٌ لمَنْ عقل وحَذِر وآمَنَ بالله واليَوْمِ الآخِرِ، وأيقَنَ أن هذا العَهْدَ عَهْدُ ربِّه إليه ووصيَّته عز وجل الواردةُ عليه، فليفتشِ الإنسانُ نفْسَه، فإن وجدَ في نفْسِه ممَّا قضَاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في كلِّ خبير يُصَحَّحه مما قد بلَغَه، أو وجد نَفْسَه غَيْرَ مسلِّمةٍ لما جاءَه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد نفْسَه مَائِلَةً إلى قَوْلِ فلانٍ وفلانِ، أو إلى قياسِهِ واستِحْسَانه، أو وجَد نَفْسَه تحْكُم فيما نازَعَتْ فيه أحَدًا دونَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ صَاحِبٍ فَمَنْ دونه، فليعلَمْ أن الله قد أقْسَم، وقولُه الحقُّ أنه ليس مؤمنًا، وصدَقَ الله - تعالى - وإذا لم يكن مؤمنًا، فهو كافرٌ، ولا سبيل إلى قسْمٍ ثالثٍ، ثم ساق قولَ الله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [سورة النساء: الآية 61] فليتَّقِ الله الَّذِي إلَيْه المعادُ آمْرُؤٌ على نَفْسِه، ولتوجل نفْسُه عِنْد قِرَاءَةِ هذه الآيَة، وليشتدَّ إشفاقه مِن أن يكُونَ مخْتارًا للدُّخُول تَحْت هذه الصِّفَة المذكُورة المَذْمُومة الموبِقَة الموجبة للنَّارِ، وقال: لَوْ أن امرأً قال: لا نأْخُذ إلَّا ما وَجَدْنا في القُرْآن، لكَانَ كافِرًا بإجْمَاع الأُمَّةِ، ولكانَ لا يَلْزَمُه إلا ركعة ما بين دُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ، وأخرى عِنْد الفَجْر، لأن ذلك هو أقل ما يقَعُ عَلَيْه اسم صلاة، ولا حَدَّ للأكْثَرِ في ذلك.

وقائل هذا مشْرِكٌ حلالُ الدَّمِ والمَالِ، وقال: لو أن امرأً لا يأخُذُ إلَّا بما اجتمعتْ عليه الأمةُ فَقَطْ، ويترك كل ما اختلفوا فيه ممَّا قد جاءَتْ به النُّصُوص، لكانَ فاسقًا بإجماعِ الأُمَة

(1)

.

(1)

ينظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 155، التمهيد للأسنوي ص 437، ونهاية السول للأسنوي 3/ 3، زوائد الأصول للأسنوي ص 319، منهاج العقول للبدخشي 2/ 269، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 91، المستصفى للغزالي 1/ 129، حاشية البناني 2/ 94، الإبهاج لابن السبكي 2/ 263، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 168، حاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 128، أحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 287، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 93، التحرير لابن الهمام ص 303، تيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 19، كشف الأسرار للنسفي 2/ 3، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 22، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 2، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 176، شرح=

ص: 137

‌العَلاقَةُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

ومن المعلُومِ بالضَّرُورةِ أن كلَّ ما جاء عن الله - تعالى - لا يُمْكِنُ أن يوصَفَ أن فيه اختلافًا، والمَعْلُوم أن كلًّا من القرآن والسُّنَّة من عِنْد الله - تعالى - كما قَدَّمْنا.

ولهذا يقول ابن القَيِّم

(1)

: والذي يشْهَدُ الله ورسولُهُ به أنَّه لم تَأْتَ سُنَّة صحيحة واحدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقِض كتابَ الله - تعالى - وتخالِفُه ألبتَّة كَيْف، ورَسُولُ الله هو المبيِّنُ لكتابِ الله، وعلَيْه أُنْزِل، وبه هداه الله، فهو مأمور باتِّباعه، وهو أعْلَم الخَلْقِ بتأْويله ومرادِه، فلا يوجَدُ تَخَالُفٌ، وإنْ حَصَلَ مخالفةٌ في ظاهر اللَّفْظِ، فيكونُ ذلك لِلْخفاءِ على المجتهِدِ، فعلى ضوء ذلك، إذا تتَبَّعْنا السُّنَّة مِنْ حَيْثُ دَلالتها على الأحْكَامِ الَّتِي اشتمل عليها القُرآنُ إجْمالًا وتفْصيلًا وجَدْنَاها تأْتي على أنْحاءٍ منها

(2)

:

‌أَوَّلًا:

أن تكُونَ موافقةً للقُرْآن. فتكونَ واردةً حينئذٍ مورد التأكيد، فيكون الحُكْم مستَمَدًّا من مصدَرَيْن: القرآن مثبتًا له، والسُّنَّة مؤيدةً.

ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم

(3)

: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُن عَوَانٌ عِنْدَكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُن بِكَلِمَة اللَّهِ" فإنَّه يوافِقُ قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء: الآية 19].

وقولُهُ صلى الله عليه وسلم

(4)

: "إن اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" فإنَّه موافق لقولِهِ تعالى:

= المنار لابن ملك ص 77، الوجيز للكراماستي ص 51، الموافقات للشاطبي 4/ 3، ميزان الأصول للسمرقندي 1/ 126، نشر البنود للشنقيطي 2/ 3، إرشاد الفحول للشوكاني ص 33، تقريب الوصول لابن جزى / 116، الكوكب المنير للفتوحي ص 210، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 223.

(1)

الطرق الحكمية 72 - 73.

(2)

قال الشافعي في الرسالة 91، فلا أعلم من أهل العلم مخالفًا في أن سنن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وجوه وسيأتي كلام الشافعي رحمه الله. ولقد بوب الخطبب البغدادي في الكفاية 12، فقال: باب تخصيص السنن لعموم محكم القرآن وذكر الحاجة في المجمل إلى التفسير والبيان.

(3)

هو في مسلم من رواية جابر رضي الله عنه.

(4)

متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري أخرجه البخاري 8/ 205 في التفسير باب "وكذلك أخذ ربك" 4686، ومسلم 4/ 1997، في البر والصلة، باب "تحريم الظلم" 61/ 2583.

ص: 138

{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [سورة هود: الآية 102].

‌ثانيًا:

أن تكُونَ بيانًا

(1)

للكِتَاب. ومن أمثلة ذلك النّوع:

أوَّلًا: بيانُ المُجْمَلِ

(2)

كالأحاديثِ الَّتي جاء فيها أحْكَامُ الصَّلاةِ. فقال صلى الله عليه وسلم: "صلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"

(3)

.

وورد في الكِتاب وجوبُ الحَجِّ منْ غَيْر بَيَانٍ لمناسِكِه، فبثنت السُّنَّةُ ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:"لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"

(4)

.

وورد في الكتابِ وُجُوبُ الزكاةِ مِنْ غَيْر بَيَانٍ لما تَجِبُ فيه، ولا لِمِقْدَارِ الواجِبِ فبيَّنَت السُّنَّةُ كل ذلك.

ثانيًا: تقييد المُطْلَق

(5)

، ومثالُ ذلِكَ الأحاديثُ الَّتي بَيَّنَتِ المُرَادَ من اليَدِ في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [سورة المائدة: الآية 38] فبيَّنت السُّنَّة أنَّها اليُمْنى، وأن القَطْع من الكُوع وقوله تعالى أيْضًا:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [سورة النساء: الآية 11] وردت الوصية مُطْلقًا، فقيدَتْها السُّنَّة بِعَدَمِ الزِّيادَةِ على الثُّلُث.

‌ثالثًا:

تَخْصِيصُ

(6)

العَامِّ

(7)

. كالحديثِ الَّذي بيَّنَ أن المرادَ مِنَ الظُّلْم في قوله تعالى:

(1)

والسنة خير مبين فقد كان عمر رضي الله عنه يقول سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. وسأل رجل عمران بن حصين رضي الله عنه فقال الرجل: حدثونا عن كتاب الله ولا تحدثونا عن غيره فقال: إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله عز وجل صلاة العصر أربعًا لا يجهر فيها وعد الصلوات ومقادير الزكاة ونحوها ثم قال: أتجد هذا مفسرًا في كتاب الله، كتاب الله قد أحكم ذلك والسنة تفسره. الكفاية في علم الرواية 15، وقال علي رضي الله عنه لابن عباس حينما بعثه إلى الخوارج: لا تخاضمهم بالقرآن فإنه حمال ذو وجوه ولكن حاججهم بالسنة.

(2)

ما له دلالة غير واضحة.

(3)

أخرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث.

(4)

أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه.

(5)

ما دل على الماهية من غير قيد.

(6)

قصر العام على بعض أفراده.

(7)

لفظ يستغرق جميع ما يصلح له بوضع واحد.

ص: 139

{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [سورة الأنعام: الآية 82] هو الشِّرْك، فهم بعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْهُ العُمُومَ حَتَّى قالوا: أَيُّنا لم يَظْلِمْ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ بِذاكَ، إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ"

(1)

.

ومن ذلك أيْضًا أن الله عز وجل أَمَرَ أَنْ يَرِثَ الأَوْلادُ الآباء أو الأمهاتِ، عَلَى نحو ما بيَّن بقوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن} [سورة النساء: الآية 11] فكان هذا الحكمُ عامًّا في كُل أصْلٍ مورِّثٍ، وكل ولدٍ وارثٍ، فقصرت السُّنَّة الأصْل على غير الأنبياء.

وقَصَرَتِ الوَلَدَ الوَارِثَ على غير القَاتِل بِقَوْله صلى الله عليه وسلم: "القَاتِلُ لا يَرِثُ"

(2)

وكذلك اختلافُ الدِّينِ فهو مانع من مَوَانِعِ الإرْثِ كما بيَّنَتِ السُّنَّة.

وقال تعالَى في المَرْأَةِ يُطلِّقها زوْجُها ثلاثًا: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [سورة البقرة: الآية 23] وَاحْتَمَل ذلك أن يكون المُرادُ به عَقْد النكاح وحده، واحتمل أن يكون المرادُ الإصَابَة معًا، فبيَّنَت السُّنَّة أن المُرادَ به الإصَابة بعد العَقْد.

‌رَابِعًا:

توضيح المُشْكَلِ كَالْحَدِيثِ الَّذِي بَيْن المُرادَ من الخَيْطَيْنِ في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [سورة البقرة: الآية 187] فَهِمَ منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم العِقَالَ الأبيض والعِقَال الأسود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هُمَا بَياضُ النَّهَار".

وأغلب ما في السُّنَّةِ من هذا النوع، ولهذه الغَلَبَةِ وصفت بأنها مُبيِّنةٌ للكتاب.

‌خَامِسًا:

أن تكون دالَّةً على حُكْمٍ سكت عنه القرآن، ومن أمثلة ذلك النوع:

قوله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهُورُ مَاؤُهُ الحِلّ ميتته".

وقوله صلى الله عليه وسلم في الجَنِينِ الخارج من بَطْنِ أمه المُذَكَّاةِ: "ذَكَاةُ الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ".

والأحاديث الواردة في تَحْرِيمِ ربا الفَضْلِ.

(1)

أخرجه البخاري 1/ 109، في الإيمان، باب ظلم دون ظلم 32.

(2)

أخرجه الترمذي وغيره من رواية أبي هريرة.

ص: 140

والأحاديث الواردة في تحريم كل ذي ناب من السِّبَاع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحُمُرِ الأهلية.

والأحاديث التي دَلَّت على تَحْرِيم الرِّضَاعِ.

وتحريم الجَمْعِ بين المَرْأَة وعَمّتها أو خَالَتِهَا.

والأحاديثُ الواردَةُ في تَشْرِيع الشُّفْعَةِ والرَّهن في الحضر، وبيان ميراث الجَدَّةِ، والحكم بِشَاهِدٍ ويَمِينٍ.

ووجوب الرَّجْم للزَّاني المُحْصَنِ.

ووجوب الكَفَّارة على من انتهك حرمة شهر رمضان، وغير ذلك كثير.

اعلم أن النَّوْع الأَوَّل والثاني من هذا التَّقسيم مُتَّفَقٌ عليهما بين المسلمين، وأن النوع الثالث مختلف فيما بينهم كما صَرَّح بذلك الشافعيُّ في "رسالته" فقال: "فلم أَعْلَمْ من أهل العِلْمِ مخالفًا في أن سُنَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه فاجتمعوا على وجهين:

أحَدُهُما: ما أنْزَلَ اللَّهُ فيه نَصنَ كتاب فبيَّنَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مثل ما نَصَّ الكتاب.

والآخر ما أنزل الله فيه جُمْلة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.

والوَجْهُ الثالِث: ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه نص كتاب كما قَدَّمْنَا، فمنهم من قال: جعِل الله له بما افترض من طَاعَته، وسبق من علمه، وتوفيقه لمرضاه أن يسن فيما ليس فيه نصّ كتاب.

ومنهم من قال: لم يسن سُنَّة قطُ إلا ولها أصل في الكتاب كما كانت سُنته تبين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة. وكذلك ما سَنَّ من البُيُوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله قال:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء: الآية 29]. وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275].

ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأثبتت بفرض الله.

ومنهم من قال: ألقى الله في روعه كل ما سَنّ، وسنته الحِكْمَةُ الذي أَلْقَي في روعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنة.

ص: 141

وقال العلَّامة الشَّيْخُ عَبْدُ الغَنِي عَبْدُ الخَالق

(1)

: إن حكاية الشافعي لهذه الأقوال في النوع الثالث يرى أن القول الأول والثالث والرابع على اتفاق في أن السُّنة تستقل بالتشريع، ومختلفة في أن النبي صلى الله عليه وسلم يشرع المستقل من عند نفسه مع توفيقه تعالى له بالصَّواب، أو ينزل عليه الوحي به، أو يلهمه الله إياه، وهذه الخلافية لا تعنينا، وأن القول الثَّاني هو المخالف، وقال: والحق في هذه المسألة أنها حجة، وتعبدنا الله بالأخذ بها، والعمل بمقتضاها، ودلَّل على ذلك بأدلَة نورد بعضها لِلْبَيَان حتَّى تسدّ أفواه المتنطِّعين الَّذين لا خلاق لهم في الدنيا والآخرة:

أولًا: عموم عِصْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم الثابتة بالمُعْجِزَة عن الخَطَأ في التبليغ لكل ما جاء به عن الله - تعالى - ومن ذلك ما وردت به السُّنة، وسكت عنه الكتاب، فهو إذن حقٌّ مطابق لما عند الله - تعالى - وكل ما كان كذلك فالعَمَل به واجب.

ثانيهما: عموم آيات الكتاب الدَّالة على حُجِّية السُّنة، وقد تقدمت، فهي تدلُّ على حجيَّتها، سواء أكانت مؤكدة، أم مبينة، أم مستقلة، وقد كثرت هذه الآيات كثرة تفيد القطع بعمومها للأنواع الثلاثة، وبعدم احتمالها للتَّخْصيص بإخراج نوع عن الآخر، بل إن قول الله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: الآية 65] فهذه الآية تفيد حجية خصوص المستقلة.

قال الشافعيُّ رضي الله عنه في تَوْجِيهِهَا: نزلت هذه الآية في رجل خاصم الزبير في أرض، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بها للزبير

(2)

.

وقال الشَّافعي: وهذا القضاء سُنَّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حكم منصوص في القرآن.

ثالثًا: عُمُومُ الأحاديثِ المثبتة لِحُجِّيةٍ السُّنة، مؤكدة كانت أو مُبَيِّنة أو مستقلَّة؛

(1)

حجية السنة.

(2)

أخرجه البخاري 5/ 42، في المساقاة، باب سكر الأنهار 2359، وفي 8/ 103 في تفسير سورة النساء، باب "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" حديث 4585، ومسلم 9/ 1824 - 1830 في الفضائل، "باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم"(129/ 2357) والشافعي في الرسالة ص 88.

ص: 142

كقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بِسُنَّتي"

(1)

وهذه الأحاديث كثيرة لا تُحْصَى تفيد القطع بهذا العموم، وقد ورد ما هو خاصّ بالسُّنة المستقلَّة، أو يكون على أقل تقدير دخولها فيه متبادرًا في النظر، وأولى من دُخُول غيرها، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ مُتَّكئًا على أرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِن أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْه فَيَقُولُ: لا أَدْرِي مَا وَجَدْنا في كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ"

(2)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنِّي أُوتيتُ القُرآنَ ومثله مَعَه، ألا يُوشِكُ رجل شَبْعَانُ على أَرِيكَتِهِ يَقولُ: عليكم بهذا القُرْآنِ فما وَجَدْتُمْ فيه من حَلالٍ فأحلُّوهُ وما وجدتُمْ فيه من حَرَامٍ فَحرِّمُوه، وإنَّما حَرَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، كما حَرَّمَ الله، ألا يحل لكم الحِمَار الأَهْلي، ولا كلّ ذي نَابٍ من السِّباع، ولا لُقَطَةُ مُعَاهد، إلا أن يَسْتَغْنِيَ عنها صاحِبُهَا، ومن نزَل بِقَوم فَعَلَيْهِم أَنْ يَقْرُوه، فإن لم يقروه فله أنْ يعقبهم بمثل قِرَاهُ"

(3)

.

ولا يخفى أن تحريم الحُمُرِ الأهليَّةِ المذكورة في الحديث لَيْسَ في القرآن، فهو خاصّ بما نحن فيه، ولا يخفى أن الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم:"ومثله مَعَهُ" ما كان مستقلًا عنه، وإن سلمنا شموله لغيره أيضًا، فلا ضير علينا؛ حيث إنه أثبت أن الجميع من عند الله، والحديث الأول يفيدنا أن كل ما لا يوجد في كتاب الله مما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه فتركه مذموم مَنْهِيٌّ عنه، وذلك يستلزم الحُجِّية، والمتبادر من عدم الوجود ألا يكون مذكورًا في الكتاب لا إجمالًا، ولا تفصيلًا.

(1)

أخرجه أبو داود من حديث العرباض بن سارية في 4/ 201، في كتاب السنة باب في لزوم السنة (4607)، والترمذي 5/ 44 في العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وقال حسن صحيح وابن ماجه 1/ 16 في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين 43، والحاكم وقال صحيح ليست له علة 1/ 96 في كتاب العلم.

(2)

أخرجه أبو داود من حديث أبي رافع رضي الله عنه 4/ 200 في كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4605)، والترمذي 5/ 37، في كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم 2663 وقال: حسن صحيح وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين 1/ 108 - 109 في كتاب العلم.

(3)

أبو داود من حديث المقداد بن معد يكرب 4/ 200 في كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4604)، والترمذي 5/ 38، في العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم (2664) وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجه 1/ 6 في المقدمة باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم 12، والدارمي 1/ 114 في المقدمة باب السنة قاضية على كتاب الله.

ص: 143

ولقد بوَّب الخطيب البَغدادِيّ في "كفايته"

(1)

بابًا فقال: باب ما جاء في التَّسْوية بين حكم كتاب الله - تعالى - وحكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب العَمَلِ، ولزوم التكليف، وَذَكَرَ الحديثين.

وقال الشافعي

(2)

رحمه الله: وما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه نصّ حكم، فبحكم الله سَنَّة، وكذلك أخبرنا الله في قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [سورة الشورى: الآية 52] وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نصّ كتاب، وكل ما سن فقد ألزمنا الله باتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنُودِ عن اتباعها معصيته التي لم يعذر بها خَلْقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرجًا.

وبهذا يتضح لنا حُجِّية السُّنة بأقسامها الثلاثة، فطاحت شبهة المعاندين.

‌الإجْمَاعُ

ثمَّ ثلَّثْنا بالكَلامِ عن الإجْمَاعِ، وتعريفه اللُّغوي، والاصطلاحي، وسوف نتكلم عن مبحثين.

المبحث الأول: فيما تتوقف عليه الحجِّيَّة للإجماع.

والمبحثُ الثاني: في إثْباتِ أن الإجماع حجة.

ومسالك هذا من: الكتاب، والسُّنَّةِ، والمعقول.

يُطْلَقُ الإجماع في اللُّغَة على معنَيَيْنِ: أحَدُهُمَا: الْعَزْم، يقال: أجْمَعْتُ المسير والأمر، وأجْمَعْتُ عليه، أيْ: عزمْت، فهو يتعدَّى بنَفْسِه وبالحرف، وقد جاء بهذا المعنى في الكتابِ والسنَّة، قال تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [سورة يونس: الآية 71] أي: اعْزِمُوا، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يُجْمِع الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلا صِيَامَ لَه، أيْ: لم يَعْزِمْ عَلَيْهِ فَيَنْويَهُ.

ثانيهما: الاتِّفاق، ومِنْه يُقالُ: أجْمَع القَوْمُ على كذا، إذا اتَّفقوا، قال في القاموس:"الإجْمَاع الاتِّفاق، والعَزْم على الأَمْر".

قال الغَزَالِيُّ وَالإِمَام الرَّازِيُّ وَالآمِدِيُّ وَالْعَضُدُ وغيرهم: الإجماعُ لغةً: يقال بالاِشْتراك اللَّفظيِّ على معنَيَيْن، أحدُهُما: الجَزْمُ على الشَّيْء والتَّصْمِيم عَليْه، قال اللَّهُ تعالى:

(1)

الكفاية في علم الرواية ص 8.

(2)

الرسالة 88 - 89.

ص: 144

{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ، وَقَالَ:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [سورة طه: الآية 64]، وقال:{وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [سورة يوسف: الآية 15]، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ" وعلى هذا يصحُّ إطْلاقُ اسْمِ الإجْماع على عَزْم الواحِدِ.

والثَّانِي الاتِّفاق: يقال: أجْمَع القَوْمُ على كذا، أيْ: صاروا ذَوِي جَمْعٍ كما يقال: أَلْبَنَ وأَتْمَرَ، إذا صَار ذا لَبَنٍ وتَمْرٍ، وعلى هذا فاتِّفاق كلِّ طائفةٍ على أمْرٍ من الأمور دِينيًّا كان أو دنيويًا، يسمَّى إجماعًا حتَّى اتفاق اليَهودِ والنَّصَارى، وقال صاحبُ "المُسَلَّم" في "المُسَلَّم" وحاشيتِهِ، وهو لغةً: العَزْمُ والاتِّفَاق، وكلاهما من الجَمْع، أي: منقولٌ ومأخوذٌ مِنْه؛ لأن العَزْمَ باجتماعِ الخَوَاطِرِ، والاتفاق باجتماع الأعْزامِ، وفيه ردٌّ على شارحِ المُخْتَصَرِ، حيث قال: الإجماعُ لغةً يطلَقُ على معنيين، أحَدُهُما: العَزْم، {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} أي: اعْزِمُوا، ومِنْه:"لا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ".

وثانِيهِما: الاتِّفاق، وحقيقة: أجْمَعَ، صارَ ذَا جَمْعٍ، كأَلْبَنَ وأتْمَرَ. وكلامُه يُفِيدُ أنَّ الإجْماعَ مشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ مَوْضُوعٌ لصيْرُورةِ المَرْءِ ذا جَمْع الشَّاملة لصَيْرُورَتِهِ ذا جَمْع لخواطره، وصيرورته ذا جمع لعزمه أو رأْيه مع أعْزَام القَوْم أو آرائِهم، وقال القاضي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: العَزْمُ يَرْجِع إلى الاتِّفاق؛ لأنَّ من اتَّفَق على شَيْءٍ، فقد عَزَمَ عَلَيْه، وعلى هذا يكونُ العَزْم لازِمًا للاتِّفاق، فالإجْمَاع عِنْده حقيقةٌ من الاتِّفاق مجاز في العَزْم.

وقال ابنُ أمير حاج صاحبُ "التقرير": لِقَائِل أَنْ تقُول: المعنَى الأصليُّ له العَزْم، وأما الاتِّفاقُ فلازمٌ اتفاقيٌّ ضروريٌّ للعَزْمِ من أكْثَرَ منْ واحدٍ؛ لأن اتِّحادَ متعلِّقِ عَزْمِ الجماعةِ يوجِبُ اتِّفاقَهم عَلَيْه، لا أن العزم يَرْجِع إلى الاتفاق؛ لأن من اتفق على شَيْءٍ، فقد عزَم عَلَيْه، كما ذكره القاضي، فإنَّه ليس بمطَّرِدٍ، ولا أنه مشتركٌ لفظيٌّ بينهما كما ذَكَره الغزاليُّ أو لا ملجئ إليه مع أنه خلاف الأصل وقال ابْنُ برهان وابْنُ السمعاني: العزم: أَشْبَهُ باللُّغَةِ، والاتِّفاق: أشبه بالشَّرْع، ويجاب عنه بأن الاتِّفاق، وإن كان أشبه بالشَّرْع فذاك لا ينافي كونَه معنىً لغويًّا، وكون اللَّفْظ مشتركًا بينه وبين العزم قال أبو عليٍّ الفارسي: يقال: أجمع القوم إذَا صَارُوا ذَوِي جَمْعٍ، كما يقال: أَلْبَنَ، وأتمر إذا صَار ذا لبن، وتمر، والَّذي يظهر لي في تحرير المعنى اللُّغوي أَن بين العزم، والاتفاق عمومًا وخصوصًا وجهيًا يجتمعان في اتفاق الجماعة في إرادة شيءٍ وينفردُ العزمُ في إرادة الواحِد، وينفرد الاتِّفاق في اتفاق الجماعة في قول أو فعل بدون إرادة وعزم.

ص: 145

ولا رَيْبَ في أن المعنى الثاني بالاصطلاحي أنسب، فإنَّ الاتفاق مطلق يشمل اتفاق جمع ما، ولو كفارًا على أمر ما ولو معصية، والاصطلاحي اتِّفاق فقيد.

وقال ابن أمير حاج: كون المعنى الثاني أنْسَب مبنيٌّ على أنه إذا لم يبق من المجتهدين إلا واحد لا يكون قوله حجَّةً كما هو أحد القولين أي: وأما على رأي من يقولُ إنَّه حجَّة يكون المعنى الأول أَنْسَبَ، فمن قال: إنه حجَّةً لا يقول إنه إجَماع؛ لأنه لا يصْدُق عَلَيْه تعريفُ الإجْماع، فلا يكونُ المَعْنى الأوَّل أنْسَبَ، ويكون المعنى الثاني هو الأنْسَبُ.

‌الإجْمَاعُ اصْطِلاحًا:

عرَّفه الرازيُّ في "المَحْصُول" بأنه: "عبارةٌ عن اتِّفاقِ أهْل الحَلِّ والعَقْدِ من أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم على أمْرٍ من الأمورِ".

وعرَّفه الآمِدِيُّ بقوله: "عبارة عن اتِّفاقِ جمْلَةِ أَهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ من أمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في عَصْرٍ مِنَ الأَعْصَارِ على واقعةٍ مِنَ الوقائعِ".

وعرَّفه النَّظَّامُ من المعتزلة بقولهِ: "هُو كلُّ قولٍ قامَتْ حُجَّتُهُ حتَّى قول الواحِد".

وعرَّفه سراجُ الدِّين الأرمويُّ في "التحصيل" بقوله: "هو اتِّفاقُ المُسْلِمِين المُجْتَهِدِينَ في أحْكَام الشَّرْع على أمْرٍ ما مِن اعتقادٍ، أو قولٍ، أو فعل".

ويمكن أن يُعَرَّف بأنَّه اتِّفاقُ المجتهدين مِنْ هذه الأمَّة بَعْد وفاة محمَّد صلى الله عليه وسلم في عَصْرٍ على أمْرٍ شرعيٍّ.

فقولُنا: "اتِّفاق" جنْسٌ في التعريف يَعُمُّ كلَّ اتفاقٍ، وخرج عنه أمْرَانِ: اختلافُ المجتهدين، وقولُ المجتهدِ الواحِدِ، إذا انفرد في عَصْرٍ، فإنه لا يكونُ إجْماعًا؛ لأنَّ الاتفاق أقلُّ ما يتحقَّق بين اثنين، والمرادُ به الاشتراكُ في الاعتقادِ أو القَوْلِ أو الفِعْلِ أو ما في معناها كالسُّكُوت عِنْد مَنْ يرى أن ذلك كافٍ في الإجماع، ولمَّا كانَتِ العبرةُ في الإجماع بالاعتقاد كما يؤخَذُ من كلامِهِمْ في مواضع، فالمرادُ به الاشتراكُ في الاعتقاد فقَطْ، أو في الاعتقادِ مع القَوْلِ، أو في الاعتقادِ معَ الفِعْل، وهذا معْنَى قَوْلِ مَنْ قال: أو مانعة خلو تجوز الجمع، ومعنى الاشْتِرَاك في الاعتقاد أن يعتقدوا جميعًا الحكم المُجْمَعَ عليه، وفي القول أن يتكلموا بما يَدُلُّ عليه، وفي الفعل أن يأتوا بمتعلَّقه، إذا كان من باب الفعل، وفي السُّكوت أن يقولَ بَعْضُهُم حكمًا في مسألة اجتهاديَّةِ، ويسكت الباقون بعد العلم به، ومضى مدة التأمّل عَادَةً

ص: 146

سُكوتًا مجردًا عن إمارَةِ سخط وتقِيَّةٍ، وكل من الاتفاق القولي، والعمليب يسمَّى عزيمة، والسكوتي يسمَّى رخصة.

وقولنا: "المجتهدين فيه" للاستغراق، فيقضي أنه لا بُدَّ مِنَ الكُلِّ فخرج به أمران اتفاق العوام إذ لا عِبْرَةَ به على التَّحقيق، واتِّفاق بعض المجتهدين مع مخالفة الآخرين.

وقولنا: "من هذه الأمة" خرج به اتفاق مجتهدي الشَّرائِعِ السَّالِفَةِ.

وقولنا: "بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم" مُتَعَلِّقٌ بـ "اتفاق"، لا بالمجتهدين؛ لأن المجتهدين قبل وفاته اتفاقهم حجة بعد وفاته، وخرج به اتفاق المجتهدين في حياته؛ لأن قولهم دونه لا يصح، وإن كان معهم فالحجَّة في قوله، وقولنا في عصر أيْ: في زمان قل أو كثر، وهو نكرة فالمراد الاتفاق في أيِّ عصر كان، وقيل: لولاه لم يدخل إلا اتفاق كل المؤمنين إلى يوم القيامة، ولكن الحقَّ أن الأمة تطلق على الموجودين في عصر كما تُطْلَقُ على كل المؤمنين من لَدُنِ الْبَعْثَةِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، والمتبادر هو الإطلاق الأول، فيصح الاستغناء عنه ولذا قال التفتازاني في "التَّلويح": ولا يخفى أن من تركهُ أي قَيْد "في عصر" إنَّما تركه لوضوحه لكن التصريح به أَنْسب بالتعريفات أيْ: لاحتمال لفظ الأمَّةِ المعنى الثاني: وهو كل المؤمنين، وقولنا: على أمر شرعيٍّ قيَّدْنَاهُ بالشَّرْعي؛ لأن الكلام في الإجماع الذي هو أحد الأدلة الشرعيَّة، وهذا لا ينافي أنه قد يجمع على أمر لغوي، أو عقلي، أو دنيويٍّ.

‌المَبْحَثُ الأَوَّلُ فِيمَا تتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الحجِّيَّةُ:

إن إثْبَاتَ حُجِّيَّةِ الإجْمَاعِ يرتكز على دعائمَ ثلاثٍ، إمكانه في نفسه، وإمكان العلم به، وإمكان نقله إلى من يحتج به، ولَقَدْ أراد منكرو حجيته أن يأتوا البنيان من قواعده فأنكروها، وقالوا: على وجه الإجْمَالِ يمتنع ثبوت الإجماع، ولو ثبت يمتنعُ العلم به، ولو علم يمتنع نقله إلى المجتهد فقد أسندوا كَلامَهُم إلى ثَلاثِ جهات فلا بد لهذا من ثلاثة مقامات:

‌المَقَامُ الأَوَّلُ في بيانِ إمْكَان الإجْمَاعِ:

ذهب جمهور العلماء إلى أنَّه ممكن وادَّعى بَعْضُ النَّظَّامِيَّةِ والرَّوافض استحالته، وتحرير محل النزاع أنه لا خلاف لأحدٍ في إمكان الإجماع عقلًا؛ لأن العقل لا يمنع من تصور اتِّفاق المجتهدينَ في عصر على حُكْمٍ من الأحكام؛ ولأن أدلَّتهم إنَّما تنتج استحالته

ص: 147

في حكم العَادَةِ، ولا في جوازه في ضَرُورِيَّاتِ الأحكام، وإنَّما النزاع في إمكانه عادة في الأحكام التي لا تكون معلومة بالضَّرورة، ونسب ابن الحاجب هذا القول إلى النَّظَّام ووافقه الكَمَالُ بن الهمام، وذكر العلامة السُّبْكيُّ أن هذا قول بعض أصحابه، وأمَّا رأي النَّظَّام نَفْسِهِ مع بعض أصحابه، فهو: أنَّه يتصور، ولكن لا حجية فيه هكذا نقله القاضي وأبو إسحاق الشيرازيُّ وابنُ السمعانيِّ وهي طريقة الإمام الرازي وأتباعه في النقل عنه.

‌شُبَهُ المُخَالِفِينَ في إمْكَانِ الإجْمَاعِ:

في هذا الصَّدد لم يلجأ معظم المصنِّفين إلى أدلَّةِ لإثبات دعوى الجمهور، وهي إمْكان الإجماع، بل اكتفوا بإيراد شبه الخصوم ثم هدمها، وفي ذلك إشْعَار بأن دعواهم بلغت من البداهة إلى حدٍّ لا تحتاج فيه إلى دليلٍ، أو تنبيهٍ، ورُبَّ سكوت أفْصَحُ من كلام.

قالوا: أولًا: لو أمكن اتِّفاقهم لأمكن نقل الحكم إليهم جميعًا؛ لأن اتفاقهم فرع تساويهم في نقل الحكم إليهم فلا يتَّحققُ إلَّا بعد تحققه، ونقل الحكم إليهم جميعًا باطل، لأن انتشارهم في الأقطار يمنع منه عادة فبطل المقدم، وثبت نقيضه، وهو عدم إمْكَانِهِ.

والجوابُ: قولكم: "انتشارهم في الأقْطَارِ يَمْنَعُ من نقل الحكم إليهم" مَمْنُوعٌ فإنَّهُ لا منع في المتواتر كالكتاب فهو لشهرته لا يخفى على أحد، ولا في أوائل الإسلام، لأن المجتهدين كانوا قليلين فيتيسَّر نقل الحكم إليهم، ولا بُعْدَ في جِدِّهم في الطَّلب والبحث، فإن المطلوب لا يخفى على الطَّالب الجاد، وجدهم في طلب العلم لا ينكره أحد، فمنهم من رَحَل من أصْفَهَانَ ببلاد الفرس إلى معرَّة النُّعمان بالشَّام على بعد ما بين البلدين، ولم يكن من غرض سوى تحقيق بعض مسائل العلم، وأمْثَال هذا من طُلَّابِ العلم من المسلمين كثير تقرأ تاريخ حياتهم فتجدهم تحملوا المشاقَّ، واقتحموا العقبات، وساحوا في أرْجَاء الدُّنيا العربية من "الفرس"، و"العراق"، و"الشام"، و"مصر"، و"الأندلس" ليدرسوا على مشاهير العلماء، وليطفئوا نيران ظَمَئِهم إلى العلوم بالري من مناهله، وبالجملة لم نجد أمة بذلت في هذا المِضمار مثل ما بذلت هذه الأمة.

قالوا ثانيًا: لو أمكن اتفاقهم، فإمَّا أن يكون عن قاطع، أو ظنيّ إذْ لا بد للإجماع من مستند، وليس وراءهما مُسْتَنَدٌ يُستند إليه، والتالي بشقيه باطل أمَّا القَاطِعُ فلأن العادة تحيل عدم الاطّلاع عليه لِتَّوَفُّرِ الذَواعي على نقله، ولو اطلع عليه لنقل، لكنه لم ينقل فلم يطلع

ص: 148

عليه، فليس الإجْمَاعُ عن قطعيٍّ، والظنيُّ تحيل العادة الاتفاق عليه لاختلاف القرائح، وتباين الأنْظارِ.

والجواب بالمنع فيهما، أمَّا القاطع فلأنه لا يجب نقله عادة إذْ قد يستغنى عن نقله بحصول الإجْماع الذي هو أقوى مِنْهُ لعدم احتماله النسخ، بخلاف القاطع، وأمَّا الظنيُّ فلأنه قد يكون جليًّا فتقبله القرائح فتتفق عليه، واختلاف القرائح والأَنْظَارِ إنَّمَا يمنع الاتِّفاق في الظنِّ الخفيِّ دون الجليِّ.

‌الْمَقَامُ الثَّانِي فِي بَيَانِ إِمْكَانِ الْعِلْم بإلْإجْمَاعِ:

زَعَمَ منكرو الإجْمَاعِ أنَّهُ على تقدير إمكانه، فالعلم به مُحَالٌ.

وقالوا في بيانه: الطريق إلى العلم بإجماعهم إمَّا اللإخبار بأن يخبر أهل الإجماع عن اتفاقهم، وإمَّا الحسُّ بأن نشاهد منهم فعلًا، أو تركًا يدلُّ على ذلك، وكون الطريق إليه واحدًا منهما باطل، فإنَّ سماعَ الأخبار يدلك من كل واحد من أهْلِ الإجماع، أو مشاهدة فعل أو ترك منه يدل عَلَيْهِ يتوقف على معرفة أعْيَانِهِم واحدًا واحدًا، ومعرفة معتقدهم في هذه المسأَلَةِ، ومعرفة اجتماعهم عليه في وقت واحد والوفوف على هذه الثَّلاثة متعذر أمَّا الأوَّل: فلانتشارهم شرقًا وغربًا مع جواز خَفَاءِ واحد منهم بأنْ يكون أسيرًا، أو محبوسًا في مطمورة، أو منقطعًا في جبل، أو خَامِلًا لا يعرف أنَّهُ من المجتهدين، وأمَّا الثاني: فلاحتمال أن بعضهم يكذب، فيفتي على خِلافِ اعتقاده خوفًا من سُلْطَان جائرٍ، أو مجتهد ذي منصب أفتى بخِلافه.

وأمَّا الثالث: فلاحتمال رجوع أحَدهم قبلَ فتوى الآخر، وتقرير هذه الشُّبْهَةِ هكذا: العلمُ باتِّفاقِ المجتهدين يتوقَّف على معرفة أعيانهم، واعتقادهم، واجتماعِهِم في وقت واحد، وكل ما كان كَذلِكَ، فهو محال عادةً، فالعلم باتفاقهم محال عادة، الصُّغرى ضرورية، والكبرى ودَلِيلُها ما تقدَّمَ.

‌المقام الثالث في إمكان نقله إلى من يحتج به:

هذه هي النقطة الثالثة التي أنكرها بعض النظامية والروافض توصلًا إلى إنكار حجية الإجماع، قالوا: لو أمكن نقل الإجماع، فإما أن يُنقل بطريق الآحاد أو التواتر، والتالي بشقيه باطل.

ص: 149

أمَّا الآحاد: فلأنها لا تفيد، إذ لا يجب العمل به في الإجماع، وأما التواتر: فلأنه يجب فيه استواء الطرفَيْن والواسطة ومن البعيد جدًّا أن يشاهد أهل التواتر جميع المجتهدين شرقًا وغربًا، ويسمعوا منهم، وينقلوا عنهم إلى مثلهم، وهكذا طبقة بعد طبقة إلى أن يصل إلينا.

وقد أجاب عن شبهة المقامين كثير من المؤلفين بأنه تشكيكٌ في مصادمة الضرورة؛ لأنَّا قاطعون بإجماع كل عصر على تقديم القاطع على المظنون، وقد تواتر إلينا أيضًا إجماع الصحابة على ذلك بحيث لا شبهة فيه، وما ذلك إلا بثبوته عنهم وبنقله إلينا، وقد أورد الشوكاني عليه، وهو ممن يرى عدم إمكان نقله: أنه مصادرةٌ على المطلوب؛ إذ قد أثبتم إمكان نقل الإجماع بنقل الإجماع، وهو إثبات للشيء بنفسه، وهو إيراد ساقطٌ؛ فإنا قد أثبتنا مُدَّعانا بتحقق صورة خاصَّة مفروضة التسليم والثبوت من الطرفين، وهذه الصورة لا يتوقف ثبوتها والقول بها على القول بإمكان نقل الإجماع، وأورد ثانيًا أن تقديم القاطع أمر ضروريٌّ يعرف اتفاقهم عليه من أن مثله لا ينكره أحد؛ إذ من المعلوم أن كل متشرع لا يقدم الحجة الضعيفة على الحجة القوية، وأما من طريق النقل تواترًا فلا، فثبت أن العلم بالإجماع ونقله غير ممكنَيْنِ.

وجوابه كما يؤخذ من شارح "المسلم" أنه في القرون الثلاثة لا سيما القرن الأول كان المجتهدون معلومينَ بأسمائهم، وأعيانهم، وأمكنتهم، ومعرفة أقوالهم ومذاهبهم ميسورة للطالب الجادِّ، وكلهم في ذلك العصر مجدون؛ فإنهم يعلمون أن اتفاق كل المجتهدين حجة قطعيَّة من الأحاديث الواردة في ذلك؛ فهم يجدون في طلبه كما يجدون في طلب الكتاب والسنة، وقد علِمنا علمًا ضروريًا بطريق التجربة والتكرار، أي: تجربة الناس لهم وتكرار استفتائهم واحدًا بعد واحد - عدم رجوعهم عما هم عليه قبل قول الآخر، وقامت القرائن الجلية والخفية على أنهم لم يكذبوا لا عمدًا ولا سهوًا؛ كيف وهم الذين لم نسمع بمثلهم في عدالتهم، ودقتهم، ونزاهتهم، وتقديمُ القاطع على المظنون من هذا القبيل، فإنَّه علم بالمشاهدة أن المجتهدين من الصحابة والتابعين كانوا يقدَّمون القاطع على المظنون، وعلم أن ذلك كان مذهبًا لهم، وأن واحدًا منهم لم يرجع قبل تقديم الآخر، فثبت أن إجماعهم قد وقع من غير ارتيابٍ، فقد ثبت جليًّا أن العلم بالإجماع بطريق النقل أمْرٌ ممكن.

ص: 150

‌المَبْحَثُ الثَّانِي فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ:

الإجماع حجَّة قطعًا عند الجميع من أَهْلِ القبلة، ويفيد العلمَ الجازمَ، ولا عبرة بمن خالف في حجيَّته كالنَّظَّامِ والشِّيعة، وبعض الخوارج؛ لأنهم قليلون من أهل البدع والأهواء قد حَدَثوا بعد الاتفاق، يشككون في الضَّرُوريات الدِّينيَّة، كالسُّوفسطائيَّةِ في الضَّروريات العقليَّة، وقد احتجَّ أهل الحقِّ بمسالك من الكتاب والسُّنَّةِ والمعقول.

‌المَسْلَكُ الأَوَّلُ الْكِتَابُ:

استدلَّ الشافعيُّ رضي الله عنه على حجيَّةِ الإجماع في "رسالته" بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سورة النساء: 115] ذكر العلامة السُّبْكِيُّ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَنْبَطَ الاسْتِدْلَالَ بِهذِهِ الآيَةِ بَعْدَ أَنْ تَلَا الْقُرْآنَ ثَلاثَ مرَّاتٍ، وأَنَّهُ لَمْ يسبق إليه، وقد احتجُّوا بآياتٍ أخرى، ولكن هذه الآيَة أشهرها وأقواها دلالة.

ووجه الدِّلالَةِ فيها كما يؤخذ من شرح العضد على المختصر: أن الله سبحانه وتعالى جمع بين مُشَاقَّةِ الرسول، واتِّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد؛ فيلزم أن يكون اتّباع غير سبيل المؤمنين حرامًا إذْ لا يضم مباح إلى حرام في الوعيد كالزِّنا وأكل الخبز مثلًا، وإذا حرم اتباع غير سبيلهم وجب اتِّباع سبيلهم، إذْ لا مخرج عنهما وَالإِجْمَاعُ سَبِيلُهُم فيجب اتباعه.

قَالَ السَّعْدُ: قوله: "إذ لا مَخْرَجَ عنهما" إشارة إلى أن حُرْمَةَ اتِّبَاعِ غير سبيلهم، وإنْ كانت أعمَّ من وجوب اتباع سبيلهم بحسب المفهوم - لكن لا مخرج بحسب الوجود من اتِّبَاع غير سبيلهم واتباع سبيلهم؛ لأن ترك اتِّباع سبيلهم اتباع لسبيل غيرهم إذْ معنى السبيل ههنا ما يختاره الإنْسانُ لنفسه من قول أو فِعْلٍ، وقد اعتُرِضَ على هذا الدَّليل بوجوهٍ كثيرةٍ، وانفصلوا عنها، أصْعبها ما نذكره، وهو أن هذه الآية ظاهرة لعدم قطعيَّة لفظ "سبيل المؤمنين" في خصوص المُدَّعَى، وهو ما أجمع عليه واحتماله وجوهًا من التَّخْصِيص، لجواز أن يراد سبيلهم في متابعةِ الرسول أو في مناصرته، أوْ في الاقتداء به، أوْ فيما به صاروا مؤمنين، وهو الإيمان، وإذا قام الاحتمال كان غايتها الظُّهُور، والتَّمَسُّك بالظَّاهر إنَّما يثبت بالإجماع، ولولاه لوجب العملُ بالدلائل المانعةِ من اتِّباع الظنِّ نحو قوله تعالى:

ص: 151

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء: 36] فيكون إثباتًا للإجماع بما لا تثبت حجيته إلَّا به فَيَصِيرُ دورًا، وأجَابَ شَارِحُ التَّحْرِير على طَرِيقَةِ أكْثَر الحَنَفِيَّةِ بما حاصله أنَّا لا نُسَلِّمُ أن الآية ليست قطعِيَّةً، بل هي قطعية، واحتمال التَّخْصِيصِ غَيْرُ قَادِح فَإِنَّ حكم العامِّ ثبوت الحكم فيما يتناوله قطعًا فيتم التَّمَسُّكُ بها من غير احتياج إلى الإجْمَاعِ فلا دَوْرَ، ونَاقَشَهُ شَارِحُ "المُسَلَّمِ" بأن معنى كون العام قَطْعِيًّا فيما يتناوله أنه لا يحتمل خلافه احتمالًا ناشئًا عن دليل، وإنْ كَانَ فيه مطلق احتمال فهو قَطعِيٌّ بالمعنى الأعم، والإجْماعُ قطعيٌّ بمعنى أنه يقطع الاحتمال مطلقًا فهو قطعي بالمعنى الأخص، فالعامُّ وإنْ قُلْنا بقطعيَّتِهِ لا يَصْلُحُ أصْلًا، ومثبتًا للإجماعِ إذِ المستند إلى الشيء لا يكون أعلى حالًا منه، وأُجِيبُ ثانيًا: سلَّمْنَا أن الآية ليست قطعيَّة بل غايَتُها الظُّهور، لَكِنَّا لا نسلم أنَّ التَّمسك بالظَّاهر، إنَّما يثبُتُ بالإجْمَاعِ، بل لأن الْعُدُولَ إلى خلافه بلا دليل يحتمله غير معقول.

‌المَسْلَكُ الثَّاني السُّنَّةُ:

‌احتجُّوا منها بأحاديث كثيرةٍ:

منها: ما أخرجه أبو داود عن أبي مالك الأشعريِّ رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ الله أجَارَكُم مِنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ ألَّا يَدْعُوَ عَلَيْكُم نَبِيُّكُمْ فَتَهْلِكُوا وألَّا يَظْهَرَ أهْلُ الْبَاطِلِ عَلَى أهْلِ الْحَقِّ وألّا تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالةٍ".

ومنها ما رواه أحْمَدُ والطَّبَرَانِيُّ عن ابن هَانِئٍ الخَوْلَانِيِّ عمَّن أخبره عن أبي بُصْرةَ الغفاريِّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَأَلْتُ رَبِّي أرْبَعًا فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سألتُ رَبِّي ألَّا تجتمع أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، فَأَعْطَانِيها

" الحديث.

قال في "التُّقْرِيرِ": قال شيخنا الحافظُ رجاله رِجَالُ الصَّحِيح إلا التابعي المبهم، وله شاهد مرسل أيضًا أخرجه الطبريُّ في تفسير سورة الأنعام.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي، أوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ ويدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إلى النَّارِ" رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال: غريب من هذا الوجه.

ومنها ما رواه ابن مَاجَه بلفظ "إنَّ أُمَّتِي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلافَ فعليكم بالسَّوادِ الأَعْظَمِ".

ص: 152

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ" أخْرَجَهُ الحاكم في "مستدركه" من حديث أبي ذَرٍّ، إلى غير ذلك من الأحاديث الَّتي لا تُحْصَى ووجه الاستدلال بها أنها وإن رُويت آحادًا لكن الْقَدْرَ المشترك بينها - وهو عِصْمَةُ هذه الأُمَّة عن الخطأ، والضَّلَالة - قد تواتر وحصل العلم به لما صَرَّحُوا به من أن كثْرَة الآحاد المتفقة في معنى، ولو التزامًا توجب العلم بالقدر المُشْتَركِ بينها، وهذا العلم ضروريٌّ لا يحتاج إلى دليل، بل يعلم تحققه عند الرجوع إلى الوجدان، وهو المسمَّى في الاصطلاح بالتواتر المعنوي كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ وجود حَاتِمٍ، وقد اعترض على هذا الدَّليل من وجهين: الأَوَّلُ أنا لا نُسَلِّمُ أن هذه الأحاديث بلغت مبلغ التواتر المعنوي، فإنَّهُ ليس بمستبعد في العرف إقدام عشرين على الكذب في واقعةٍ معيَّنةٍ بعبارات مختلِفَةٍ، والجواب أن ما ذكر تشكيك في الضَّرُورِيِّ فإنَّ كلَّ واحد من هذه الأخبار بانفراده، وإنْ جاز تَطَرُّقُ الكذب إليه إلا أن كلَّ عاقل يجدُ من نفسه بعد الاطِّلَاع على جملة هذه الأخبارِ أن قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها تعظيمُ هذه الأُمَّةِ، وعصمتها عن الخَطَأ كما علم بالضَّرورة سخاءُ حاتمٍ، وشجاعةُ عليٍّ، وإقدام عشرين، أو أكثر من العدول الأَخْيَارِ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكذِبِ في واقعة من الوقائع مما لا يَكَادُ يُتَوَهَّمُ خصوصًا وقد تلقَّتِ الأُمَّةُ هذه الأخبار بالقَبُولِ، واحتجت بها في عصر الصحابة والتابعين على أنَّهُ لو تَمَّ ما قلتم لاقْتَضَى إنْكَار التَّوَاتُرِ المَعْنَوِيِّ رَأْسًا إذْ مثله يرد على كلِّ ما ادَّعَى تواتر معناه.

الوجه الثَّاني على تقدير تَسْلِيمِ تواتر هذه الأخبار، فتواتر المَعْنَى المُرَادِ، وهو الْقَدْرُ المشترك - غير مسلم؛ لأنه إمَّا أنْ يَكُونَ هو أن الإجماع حُجَّةٌ أو معنى آخر، فعلى الأوَّلِ يلزمكم ادِّعاءُ أن حجيَّةَ الإجماع متواترة، وأنَّ مثلها كمثل غزوة بدر، وذلك باطل وإلَّا لما وقع فيها خلاف وعلى الثَّاني فإنْ أردتم به تعظيم الأُمَّةِ مُطْلَقًا فلا يفيد الغرض، وإن أردتم به التَّعْظِيمَ المنافي لإقْدَامِهِم على الخطأ في شَيْءٍ ما، يعني عِصْمَةَ الأُمَّةِ رجع إلى الأوَّلِ وقد أبطلناه، وجوابه إمَّا باختيار الشِّقِّ الأوَّلِ، ونقول إنه مُتَواتِر قطعًا لا ريب فيه، وقولكم لو تواتر لكان كَغَزْوَةِ بدر، قلنا: هو كَغَزْوَة بدر. كيف وقد تواتر من لَدُنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن تخطئةُ المُخَالِفِ للإجماع؟ وهل هذا إلا تواتر لحجيَّته؟ والتواتر لا يوجب أنْ يَكُونَ الكُلُّ عالمين به؛ ألا ترى أن أكثر العوامِّ لا يَعْلَمُونَ غزوةَ بدر أصلًا؟ بل المتواتِرُ إنَّمَا يكون متواترًا عند من وصل إليه أخبار الجماعة، وذلك بمُطَالَعَةِ الوقائع، والمُخَالِفُونَ لم يطالعوا،

ص: 153

وإمَّا باختيار الشَّقِّ الثَّاني، وهو أن المُرَاد بِالْقَدْرِ المشتركِ عِصْمَةُ الأُمَّةِ، وقولكم:"يرجع إلى المعنى الأول" غير صحيح، بل هو معنى آخر يلزمه المعنى الأول.

‌المَسْلَكُ الثَّالِثُ: المَعْقُولُ:

ولنا فيه دليلان:

الدليل الأوَّل: أنَّهُم اتَّفقُوا في كل عصرٍ على القطع بِتَخْطِئَةِ المُخَالِفِ للإجماع من حيث هو إجماع، وعدُّوا تَفْرِيقَ عَصَا الجماعة من المسلمين أمرًا عظيمًا، وإثمًا كبيرًا، والعادةُ تحيل اجتماع هذا المبلغ من الأخْيَارِ المحقِّقِينَ من الصَّحَابة، والتَّابعين على قطع في حكم شرعيٍّ، لا سيَّما القطعُ بكون المخالفةِ أمرًا عظيمًا، إلَّا عن نصٍّ قاطع على خطأ المخالف، بحيث لا يكون للارتياب فيه احتمال، فإنَّهُ قد علم بالتَّجْرِبَةِ، والتَّكْرَارِ من أحوالهم، وفتاويهم علمًا ضروريًّا أنَّهم ما كانوا يقطعون بشيءٍ إلَّا ما كان كالشَّمسِ على نصف النَّهَارِ، ولا أدَلّ على تحفُّظهم ودقَّتِهِم من امتناعهم عن جمع القرآن؛ لأنه لم يجمع في عَصْرِ الرَّسُولِ، ولم يأمرهم به، ومن برضاهم بالزَّجِّ في السُّجُونِ، واستعذابهم الجلد، والعذاب دُونَ أن يفوهوا بما يُوهِمُ خلاف الشَّريعة، فبعيد على هؤلاء أن يَقُولوا، بل يقطعوا بحكمٍ، إلا عن نصٍّ قاطعٍ، وإذَا قطعنا بتخطئة المُخَالِفِ للإجماع قطعنا بحقِّيَّتِهِ وتصويبه، ونظم الدَّليل هكذا: لو لم يكن الإجماعُ حجَّةً قطعيَّة لما أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع، لكن التَّالي باطل، فإنَّ إجماعهم على ذلك أمْرٌ متوارث فيما بينهم، فالشَّكُّ فيه كالشَّكِّ في الضَّروريَّات، وإذا بطل التالي، بطل المقدَّم، وثبت نقيضه، وهو كون الإجماع حجَّة، وهو المطلوب، ودليل اللُّزومِ حكم العادَةِ المتقدِّم، وقد اعْتُرِضَ على هذا الدليل من وجوه:

الوجه الأول: أن فيه مصادرة على المطلُوبِ؛ لأنَّكم إمَّا أنْ تستندوا في إثبات الحجيَّة إلى إجْماعِهِمْ على القطع بتخطئة المخالف فقد أثْبَتُّمُ الإجماع بالإجماع، أو إلى نصٍّ قاطع في ذلك دَلَّ عليه إجماعهم عادة، فقد أثْبَتُّمُ الإجْمَاعَ بنصٍّ دَلَّ عليه إجماعهم، ولا يخفى ما في ذلك من المصادرة على المطلوب، وخلاصة الجواب عنه، أنَّا نستدلُّ على حجيَّةِ الإجْمَاعِ بوجود نصٍّ قاطع دَلَّنا عليه وجود صورة من الإجماع، وثبوت هذه الصُّورة من الإجماع، لا يتوقف على كون الإجماع حجَّة، فالمتوقِّف غير المتوقَّفِ عَلَيْهِ.

الوجه الثَّاني: قولكم: "العادةُ قاضيَةٌ بأن مثل هذا الاتِّقَاق لا يكون إلَّا عن نصٍّ قاطع"

ص: 154

معارض بأنَّه لو كان عن نصٍّ قاطع لتواتر لتوفُّرِ الدَّواعي على نقله، والتالي باطل، إذ لو تواتر لنقل، ولم وينقل.

والجواب عنه أنَّا نمنع الملازمةَ؛ لأن تواتر الملزوم، وهو الإجْمَاعُ على القطع بالتخطئة أغنى عن تواتر اللازم، وهو النَّصُّ القاطع الدالُّ على ذلك.

الوجه الثَّالث: قولكم: "العادة قاضيةٌ بأن مثل هذا الاتِّفاق لا يكون إلا عن نصٍّ قاطع" منقوض أيْضًا بإجْمَاع الفَلَاسِفَةِ على قِدَمِ العالم، واليهود على أن لا نبيَّ بعد مُوسى، والنَّصَارى على أن عِيسى قد قتل، فإنَّ الدَّلِيلَ يجري في هذه الصُّور مع تخلُّفِ حكمه عنها؛ لأنَّ العادة لا تحكم باستنادها إلى قاطِعٍ، والجواب أنَّا لا نسلِّمُ جريانهُ فيها، فإنَّا قد ذكرنا في الدليل أن العادة تحيل اجتماع هذا المبلغ من الأخيار الصالحين المعلوم فضلهم بمشاهدة أحوالهم الشَّريفة، وسماع الأخبار المشرفة عنهم، وهذا غير موجود في إجماع من ذكر، وأيضًا إجماع الفَلَاسِفَة ناشئ عن نظر عَقْلِيّ يزاحمهُ الوهم، واشتباه الصَّحيح بالفَاسِدِ فيه كثير، ومثله لا تَقْضِي العَادةُ باستِنَادِهِ إلى القاطع بخلاف الإجماع في الشَّرعيَّات، فإنَّ الفرق بين قطعِيِّها وظنيِّها بَيِّن لا يشتبه على أهل المعرفة، والتمييز فضلًا عن المحققين المجتهدين، وأمَّا إجماع اليهود والنَّصارى فليس عن تحقيق، بل هو ناشئ عن اتِّباعِهِم لآحاد الأوائل {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [سورة البقرة: الآية 79] فلا توجب العادة استناده إلى القاطع، وأمَّا الصَّحابَةُ والتَّابِعُونَ، فَإنَّهُم مُحَقِّقُونَ غير تابعين لأحدٍ.

الدَّلِيلُ الثَّانِي: من أدِلَّةِ المعقول أنَّهُم أجمعوا على أن الإجْمَاع يقدَّمُ على القاطع من الكتاب والسُّنَّةِ؛ وذلك بناءً على أن النُّصوصَ الْقَطْعِيَّة تحتمل النَّسْخَ في الجملة بخلاف الإجماع فإنَّهُ لا يحتمله ألْبَتَّةَ.

وأجمعوا أيضًا على أن غير القاطع لا يقدَّمُ على القاطع، بل القاطع هو المُقَدَّم، فلو لم يكن الإجماع حجَّةً قطعيَّة لما أجمعوا على تقديمه على القاطع، لكن التالي باطلٌ، فبطل المُقَدَّم، وثبت نقيضه، وهو أنَّهُ حجة قَطْعِيَّةٌ، وهو المطلوب، وقد اعترض عليه، وعلى الدليل السابق بأنَّ مقتضاها أن الإجْمَاعَ، إنَّما يكون حجَّة قطعيَّة إذا بلغ المجمعون عدد التَّواتر فإن ما لم يبلغ فيه المجمعون عدد التَّواتر لا يقطع بتخطئة مخالفه، ولا يقدَّم على القاطع إجماعًا.

ص: 155

والجواب أنَّا لا نسلم أن مقتضاهما ما ذُكِرَ إذ كل منهما ناهض في إجْمَاعِ المسلمين من غير تقييد ولا شرط، وتخطئة المخالف، وتقديمه على القاطع مطلقًا لم يتعرَّض فيهما لاشتراط عدد التَّواتر.

‌تَأْوِيل قَوْلِ الْإمَامِ أَحْمَدَ "مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ":

عثر الخصومُ على عبارةٍ للإمام أحمدَ بْنِ حنبلٍ رضي الله عنه تؤيِّد في ظاهرها دعواهم فتشبَّثوا بها، وظنُّوا أنَّهم حصلوا على شيء وما حصلوا على شيء، وهذه العبارة هي قوله:"مَنِ ادَّعى الإجماعَ فهو كَاذِبٌ"، ولإبْطَالِ تمسُّكهم بها نقول: إنَّ الإمام أحمد أطلقَ القَوْلَ بصحَّةِ الإجْمَاعِ في مواضعَ كثيرةٍ، منها ما رَوَى البَيْهَقِيُّ عنه أنه قال: أجمع النَّاس على أن هذه الآية في الصَّلَاة يعني: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [سورة الأعراف: الآية 204] فَلَوْ لَمْ يَرَ ثبوت الإجْماع، وثبوت العِلم به ما أطْلَقَ القول بِصِحَّتِهِ فمن المُحَتَّمِ أن تُؤَوَّل عبارته تأويلًا يَتَّفِقُ وقوله هذا، وقد ذكروا له عدَّة تأويلات:

منها: ما قاله شارحُ المُخْتَصَر، وتبعه صاحب "التَّحْرِيرِ" و"المُسَلَّمِ". أنَّهُ محمول على استبعاد انفراد ناقله به، فَمَعْنَاهُ من ادَّعى الإجماع حيث لم يطَّلِعْ عليه سواه، فهو كاذب، إذْ لو كان صادقًا لاطَّلَعَ عليه غيره.

ومنها: ما نقله صاحب التقرير عن أصحاب الإمام أحمد أنَّهُ قاله على جهة الوَرَعِ لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه فمعناه من ادَّعى الإجْماع جازمَا به، مع احتمال وُجُودِ خلاف لم يبلغه فهو كاذب، ويَشْهَدُ لهذا لفظه في رواية ابنه عبد الله وهو "من ادَّعى الإجماع فقد كذب، لعَلَّ النَّاسَ قد اختلفوا"، ولكن نَقُولُ: لا نعلم النَّاس اختلفوا إذا لم يبلغه.

ومنها: ما نقله في التَّقْرِيرِ أيضًا عن ابن رجب أنه قاله إنْكارًا على فقهاء المُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يدَّعُون إجْمَاعَ النَّاسِ على ما يقولون، وكانوا من أقلِّ النَّاسِ معرفةً بأقوال الصَّحابَةِ والتَّابِعِين، وأحمد لا يكاد يوجد في كلامه احْتِجاجٌ بإجْمَاع بعد التَّابِعِين، أو بعد القرون الثَّلاثَةِ فمعناه من ادَّعى الإجماع من هؤلاء المعتزلة على رَأْيِهِ الَّذي انفرد به، فهو كاذب.

ومنها: أنَّه محمول على حدوثه الآن، فمعناه: من ادَّعى حدوث الإجْماعِ الآن، فهو

ص: 156

كاذب لعدم إمكانه أو إمكان الاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وبهذا بطل تأييد دعواهم بها ولم يبق لهم مُتَمَسَّك. والله أعلم

(1)

.

‌القِيَاسُ

وَرَبَّعْنَا الْقوْلَ بالقياس؛ لأَنَّ مكانته بعد الكتاب والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ.

وسوف نتكلم عن مكانته من مصادر الشَّرِيعَةِ الإسلاميَّةِ ومدى الحاجة إليه، ونتكلم عنه لُغَةً، واصطلاحًا، وحكاية الأصوليِّين لمعنى القياس لغة، ونتكلم عن حجيَّة القياس، وكيف هو أصل من أصول التَّشْريع، والحجج الدَّالة على أصليَّته وحجيته، ودفع حجج المنكرين بعد مناقشتها وَدَحْضِها.

وسوف نذكر مبحثًا عن وقوع القياس وعدمه، وأدلَّة الوقوع سَمْعًا وعقلًا.

وقد فصَّلْنا فيه القول؛ لكثرة الخلاف فيه وردِّ البعض له.

فنقول:

(1)

ينظر: ما يتعلق بالإجماع ومسائله في كشف القناع عن حجية الإجماع لشيخنا محمد أبو ريا ص 1 وما بعدها، والإجماع لشيخنا أحمد عبد الغني ص 3 وما بعدها، البرهان لإمام الحرمين 1/ 670، البحر المحيط للزركشي 4/ 435، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 179، سلاسل الذهب للزركشي ص 337، التمهيد للأسنوي ص 451، نهاية السول له 3/ 237، زوائد الأصول له ص 362، منهاج العقول للبدخشي 2/ 377، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 209، التحصيل من المحصول للأرموي 2/ 37، المنخول للغزالي ص 303، المستصفى له 1/ 173، حاشية البناني 2/ 176، الإبهاج لابن السبكي 2/ 349، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 287، حاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 209، المعتمد لأبي الحسين 2/ 3، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 435، التحرير لابن الهمام ص 399، تيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 224، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 80، ميزان الأصول للسمرقندي 2/ 709، كشف الأسرار للنسفي 2/ 180، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 34، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 41، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 209، شرح المنار لابن ملك ص 99، الوجيز للكراماستي ص 61، تقريب الوصول لابن جُزيّ ص 129، إرشاد الفحول للشوكاني ص 71، شرح مختصر المنار للكوراني ص 99، نشر البنود للشنقيطي 2/ 74، شرح الكوكب المنير للفتوحي ص 225.

ص: 157

‌مَكَانَةُ القِيَاسِ مِنْ مَصَادِرِ الشَّرِيعَةِ الإسْلَامِيَّة، وَمَدَى الحَاجَةِ إِلَيْهِ:

استهلالًا: نقول الحمدُ لله الذي أيْقظ العُقُول من رقُودِها، ونبَّه الأفكارَ منْ خُمُودها، فراحَتْ تتلمَّس مناص النقْص في حياتنا العلميَّة، وترْسُمُ طُرُق الإصْلاح لسعادة الدُّنيا والآخِرَة، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى رُسُلِه وأنبيائِه ومَنْ سَار عَلى دربهم من عبادهِ وأوليائه.

وبعد، فإن كتاب الله تعالَى هو المصْدَرُ الأوَّل من مصادِر الشَّريعة الإسْلَاميَّة تِبْيانًا لكل شيْءٍ عَلى سبيل الإجْمَال تارَةً، والتَّفْصيلِ تارةً أخْرَى. وتُعتبر السُّنَّة النبويَّةُ المطهرةُ هي المصْدَرَ الثَّانِيَ من مصادِر الشَّريعة الإسْلاميَّة، وذلك بِدَعْوة القرآنِ الكرِيمِ إلَى وجوب اتِّباع السُّنَّة النبويَّة:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر: الآية 6] كما قال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [سورة المائدة: الآية 92].

ويُعْتَبر الإجماعُ هو المصدَر الثالثُ من مصادر الشَّريعة الإسلاميَّة، كما دلَّت على ذلك نصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ عَلى أن الأمَّة الإسلاميَّة لا تجتمع على ضلالةٍ، وعلَيْه فإجْمَاع الأمَّة على حكْمٍ ما منَ الأحكام الإسلاميَّة دليلٌ على أنَّه حقٌّ مطابِقٌ للواقع.

فالإجْماعُ إذن هو المصدرُ الثَّالِثُ باعتبار دلالةِ المصْدَريْن الأَوَّلَيْن عليه، أي: الكتابِ والسُّنَّةِ - لا باعتبار مَرْتَبَتِه في الدَّلالة، فإنَّه عند القَطْع بثبوته ودلالته يُقدَّم عليهما، فيكونان عنْد معارضته إيَّاهما مؤَوَّلَيْن، أو منْسُوخَيْن، أو مخصَّصَيْن، أو مقيَّدَيْن، لكنَّ النَّسْخ والتَّخْصِيص والتَّقْييد إنَّما هو بالمُسْتَنَد الذي استند الإجْماع علَيْه، وإنْ لم يَصِلْ إلَيْنا، لا بنَفْس الإجْماع؛ لأنه لا دَخْل لآراء الرِّجَال في تحديد أحكام الله تعالَى.

وأمَّا عنْد ظنِّ ثبوتِ الإجْماع؛ بأنْ نُقِلَ إلَيْنا آحَادًا، أو ظن دلالته بأنْ كان إجْماعًا سكوتِيًّا مثلًا، فإنْ أَثْبَتَ حُكْمًا مسكوتًا عنْه، كان مَقْبولًا، وإنْ عارضَ كتابًا أو سُنَّة، فلا بدَّ من الجمع أو الترجيح علَى القواعدِ المعروفَة عنْد الأصوليِّين.

ومما يملأ النَّفْس إعجابًا بالشَّريعة الإسلاميَّة المطهَّرة، وإكْبارًا لشأْنِها أنَّها ضمَّت إلى أصولها الثَّلاثة السابِقَة - أعْني: القرآنَ والسُّنَّة والإجْمَاع - أصلًا رابعًا؛ ألا وهو القياسُ، وبذلك ضَمِنتِ الشريعةُ الإسلاميَّةُ الغرَّاءُ لنفسها البقاءَ أَبَدَ الدُّهور والأعْصَار، كما ضَمِنَت لِنَفسْها الاتِّسَاع؛ لتشمل مصالِحِ النَّاس، سواءٌ كانوا في صحْرَاءَ قاحلةٍ، أم كانوا في الحضارة الزَّاهِرَة.

ص: 158

فإذا نزلَتْ بالنَّاس حادثةٌ جديدةٌ لا عهْدَ لهُمْ بها، أو عَنَّتْ لهم مسْأَلةٌ لم تكن منْ ذي قَبْل، أُضِيفَ للقانونِ ما يَسُدُّ الحاجةَ ويُكَمِّل النقْص. ولكنَّ الأحكام الإلهيَّة لا مجال للرأْي فيها، فلا يُزَاد أو ينقص فيها بالهَوَى، كما أن نصوصَ التَّشْريع التي بيْن أيدينا - محصورةٌ ومحدودةٌ؛ فلا سبيل إلى أن تَتَّسِع هذه الشريعةُ الغَرَّاء لمصالِحِ النَّاس، وما يَنْزِل بهم من شُؤُون وأحداثٍ، إلَّا بأنْ نَتَّخِذَ من تلْكَ النُّصُوصِ الكثيرةِ أصولًا نَرُدُّ إليها فروعَهَا ونَقِيسُ عَلَيْها أشباهَهَا.

إِذَن القياسُ هو المصْدَر الرَّابعُ مِنْ مصادر الشَّريعة الإسلاميَّة، باعتبار دَلَالَة المصادِرِ الثَّلاثة - القرآنِ، والسُّنَّة، والإجْمَاع - علَيْه، كما أن منزلة القياسِ منْ هذه المصَادِر الثَّلاثة منزلةُ المُؤَكِّد، أو النَّاسِخِ، أو الشَّارحِ، أو المُكَمِّل ما لم يكن مردُودًا بَاطِلًا.

والقياسُ مصْدَرٌ مهمٌّ لا بدَّ منه، ولا غِنَىً للمجتهد عَنْه؛ لأنَّه الهادي إلى عِلَلِ الأحْكام، والكاشِفُ عَنْ أسْرَار التَّكَاليف.

غير أنه يُلَاحَظ قبْل العَمَل بمقتضَى القياسِ أنَّه لا بدَّ من البَحْث عَن النصُوصِ، وَموَاقِع الإجْماع، حتَّى لا يعمل المجتهدُ بمقتضى قياسٍ بَاطلٍ أو مردُودٍ من حيْثُ لا يَشْعُر؛ لمعارضته لِمَا لَمْ يعلَمْه من القواطِعِ، أو الظَّواهر التي هي أرْجَحُ منه.

ويُعتبر القياسُ منْ أشقِّ مصادر الشريعة الإسلاميَّة على المجتهد وأشدِّها حاجةً إلَى ذكاءِ عقْلِه، وصفَاءَ رُوحِهِ؛ لأنَّ المصادر الثلاثَةَ الأُخْرَى مبْنَاها النَّقْل، أما القياسُ فمبناهُ معرفةِ عِلَلِ الأحْكام، ووجود هذه العِلَلِ في الفُرُوع، وهذان الأمران يحتاجان إلى فِكْرٍ وتأمُّلٍ واعتمادٍ على العَقْلِ والذَّكاء.

ولقد حاول قوْمٌ اطِّراحَ النَّظَر في القياسِ، فأخَذُوا يتلقَّفون الشُّبَه ويتصيَّدون المآخِذَ ليغتالوا من الشريعة الإسلاميَّة أَصْلًا أصيلًا من أصُولها، وركْنًا ركينًا من أرْكَانها.

وهمْ بِهذَا يحولُون بَيْن الشَّريعة الإسلاميَّة وبَيْن مهمتها في الحياة، وهي أنْ تبْقَى أبَدَ الدهورِ قانونًا للنَّاس، وأن يجد النَّاسُ فيها على اختلافِ زمانِهِمْ ومكانِهِمْ كلَّ ما يطْمَحُون إليه في الدُّنيا والآخِرَة.

لا سيَّما، والنصوص كما قلنا - محدودةٌ محصورةٌ، والوقُوفُ عنْد ظواهرها تقْصيرٌ وتفريطٌ، ولا يمتنع التَّقْصِيرُ والتَّفْريطُ في شيءٍ ما يمتنعان في اسْتِنْبَاط الشرائع، وتعرُّف الأحكامِ.

ص: 159

‌القيَاسُ أصْلٌ منْ أُصُولِ الفِقْه:

الحقُّ الذي لا مِرْيَةَ فيه أن القياس أصْلٌ أصيلٌ من أصول الفِقْه، بل لا نَعْدُو الصَّوابَ إذا قلْنا: إنَّ القياسَ منْ أدق مباحِثِ أصُول الفِقْه وأعْمَقِها أَثَرًا.

وقد اختلفَ العُلَمَاءُ في كَوْن القياس أصْلًا من أصُول الفِقْه أو ليْسَ بأصْلٍ، ولكلِّ فريقٍ أدلَّتُه وبراهينُهُ:

حيث ذَهَبَ الأكثرَون من جُمْهور الأصوليِّين والفُقَهاء إلى أن القياس أصْلٌ من أصول الفِقْه، ودليلٌ من أدلَّتِه كالكِتَاب والسُّنَّة والإجْمَاع.

بينما يرَى إمامُ الحرمَيْن أن القياس لَيْس بأصْلٍ من أُصول الفِقْه، وحجَّتُه علَى ذلك أن الأدلَّة إنَّما تُطْلَق على المقْطُوع به، والقياسُ لا يُفيدُ إلَّا الظنَّ، وهذا مَمْنوعٌ.

وكلام إمام الحرمين ممنوعٌ؛ لأن القياس قد يكون قطعيًّا.

وقد وجَّه العلَّامةُ الشِّربينيُّ ما قاله إمامُ الحرمَيْن بقوله: الظَّاهِرُ أن أصُولَ الفقْهِ عنْد إمامِ الحرمَيْنِ لا تُطلَقُ إلَّا على ما يُثْبِتُ الفِقْهَ بالاستقلال؛ بألَّا يحتاج في الدَّلالَةِ على الحُكْم لأَحدِ هذه الثَّلاثة ضرورةَ تَوَقُّفِهِ علَى العلَّة المَنْصُوصة بأحدها، أَوِ المستَنْبَطَة مما نصَّ عليه به، فثبت أن كونه حُجَّةً، لا ينافي أنَّه لَيْس منْ أصُول الفقْه.

وقد يقول قائلٌ: إنَّ الإجماع يفتقر أَيْضًا إلَى السَّنَد، فيَنْبَغي أَلَّا يكونَ مِن الأصُول عَلى هذا.

وقد كفَانَا مؤنَة الردِّ صاحبُ "التَّلْوِيح"، حيْثُ أجابَ بأنَّ الإجماع إنما يحتاج إلى السَّنَد في تحقُّقه لا في نفْس الدَّلالة علَى الحُكْم، فإن المستدلَّ به لا يحتاج إلى ملَاحَظَة السَّنَد والالتفاتِ إلَيْه بخلاف القياسِ، فإنَّ الاستدلال به لا يُمْكِن بدون اعتبار أحَدِ الأُصُول الثلاثةِ - القُرْآن، السُّنَّة، الإجْمَاع - وحينئذٍ، فحيْثُ احتاج القياسُ في الدَّلالة علَى الحُكْم إلى الغَير لا يصحُّ إطلاق الأصْل عليه؛ لما أن الأصْلَ ما يُبْنى عليه غيْرُه، وهو المحتاجُ إلَيْه، والقياس مبنيٌّ على غيره، ومحتاجٌ إلَى ذلك الغير.

وإليْكَ كلمةً قصيرةً عنْ هذا الأصْلِ الأصِيلِ فنقُول - وبالله التوفيق -:

ص: 160

‌الْقِيَاسُ لُغَةً:

"في القاموس المحيط" للفيروز آبادي في مادة "ق ي س": "قَاسَهُ بغيره وعلَيْه يَقيسُهُ قَيْسًا وقياسًا، واقْتَاسَهُ: قدَّره على مثاله، فانْقَاسَ، والمِقدارُ مِقْيَاسٌ .. ، وقايَسْتُه: جارَيْتُه في القياس، وبين الأمرين: قدَّرْت، وهو يقتاس بأبيه؛ واويٌّ يائيٌّ".

وفي مادَّة "ق و س" والقوس الذِّراع؛ لأنه يُقَاسُ به المَذْرُوع، وقاس يقُوسُ قَوْسًا كـ "يَقيسُ قَيْسًا" .. ؛ ويقتاس: أي يقيس، وفلان بأبيه: يَسْلُك سبيلَه ويقْتَدِي به.

وفي "لسان العرب" لابن مَنْظُورٍ: "قاس الشَّيْء يَقِيسُه قَيْسًا وقياسًا، واقتاسه، وقَيَّسَه: إذا قدَّره على مثاله".

قال الشَّاعِرُ: [السريع].

فَهُنَّ بِالأَيْدِي مُقَيِّسَاتُهْ

مُقَدِّرَاتٌ وَمُخَيِّطَاتُهْ

والمقياس: المقدار، وقاس الشيء يقُوسُه قَوْسًا: لغةٌ في قاسَهُ يَقِيسُه، ويقال: قِسْتُه، وقُسْتُهُ أَقُوسُه قَوْسًا، وقياسًا، ولا يقال: أَقَسْتُهُ بالألف، والمقياسُ: ما قِيسَ به، والقَيْسُ والقَاسُ: القَدْر.

‌تَحْرِيرُ فِعْلِ الْقِيَاسِ وَتَعْدِيَتِهِ:

القياسُ: مصدرُ "قَايَسَ" من المفاعلة لا مصْدَرُ "قاسَ" من الثلاثيِّ؛ لأن المساواة من الطرفَيْن، ومصْدرُ الثاني: قَيْسٌ، يقال: قاسَ يقِيسُ قَيْسًا؛ فعلى هذا، يكون لكلٍّ من المصدَرَيْن المذكورَيْن فعْلٌ يخُصُّه، فالأولُ فعْلُه رباعيٌّ، وهو "قَايَسَ"، والثَّاني ثلاثيٌّ، وهو "قَاسَ"، وفي "القاموس المحيط" للفيروز آباديِّ "ولسان العرب" لابن منظور ما يدُلُّ على أن المصدَرَيْن المذكورَيْن أصَلٌ لفعْلٍ واحدٍ؛ وعلى هذا، يقال لغةً: قاس الشيء بغيره وعليه، يقيسه قَيْسًا وقياسًا، واقتاسَهُ: قدَّره على مثاله، وإلَى ذلك ذهب الإسْنَويُّ؛ حيث قال: القياسُ والقَيْسُ مصدرانِ لـ "قَاسَ"، وأكثر الأصوليِّينَ يقولون: إنَّ القياس بحَسَب أصْلِ اللغة؛ يتعدَّى بـ "الباء"، وأن المستعمَلَ في عُرْف الشرع يتعدَّى بـ "على" لتضمُّنه معنى البناء والحَمْل.

والخُلَاصَةُ: أنه يمكن الْقَول بأنه لا حاجة إلى ذلك؛ لأن ما ذكر في كتب اللغة المذكورة يَدُلُّ على أن القياس يتعدَّى بـ "على" كما يتعدَّى بـ "الباء"؛ وعلَيْه فلا معنى

ص: 161

للتضمين، إلَّا أن يقال: إنَّ المستعمَلَ من القياس في عُرْف الشرع لا يَكَاد يُذْكَر إلَّا مُتعدِّيًا بـ "على".

‌حِكَايَةُ الأُصُوليِّينَ لِمَعْنَى الْقِيَاسِ لُغَةً:

تنوَّعت آراءُ الأصولِيِّينَ في حكاية مَعْنَى القياس لغَةً فَرَأْيٌ يَرَى أنه هو: التقديرُ والمساواةُ والمجموعُ منْهما؛ وعلَيْه، فيكون لفْظُ "القياس" على هذَا مشتركًا لفْظيًّا بيْن هذه المعاني الثلاثة، أي وُضِعَ لكلٍّ منها بوضْع؛ لأن تعريف المشترك اللَّفْظيِّ هو: ما اتَّحَدَ لفْظُه وتعدَّد معناه ووَضْعُه، كما هو مبيَّنٌ في باب الاشتراك، مثال المَعْنى الأوَّل من الثلاثة: قِسْتُ الثَّوْب بالذِّرَاع.

ومثال المعْنَى الثَّاني: فلانٌ لا يُقاس بفلانٍ، أي: لا يساويه. ومثال المعنى الثالث: قِسْتُ النَّعْلَ بالنَّعْلِ، أي: قدَّرته به، فساواه، وهذا ما ذهَب إلَيْه الإمامُ القاضي المحقِّق عَضُد الدِّين؛ أخذًا من إيراده الأمثلة الثلاثَةَ.

ورأْيٌ يَرى أنه حقيقةٌ في التَّقْدير، مجازٌ لغويٌّ في المساواة، وذلك باعتبارِ أن التقدير يَسْتدعي شيئَيْن، يضاف أحدهما إلى الآخَر بالمساواةِ، فيكون تقدير الشيْء مستلزمًا للمساواة واستعمالُ لفْظِ الملزوم في لازِمِه شائعٌ، وهذا ما ذهب إليه سيْفُ الدِّين الآمديُّ في "الإحْكَامِ"، وعلاقةُ المجازِ، على هذا، اللازميةُ والمَلْزُوميَّةُ.

ورأْيٌ يرَى أنه حقيقةٌ عرفيَّةٌ؛ وعليه جرى محبُّ الدِّينِ بْنُ عبد الشَّكورِ الهنديُّ صاحبُ "مُسَلَّم الثُّبُوت".

وعلى هذا القول، والقول بالمجاز؛ فالمناسبةُ بين المعنى اللُّغوي، وهو التَّقدير، والمعنى الاصطلاحيُّ: إنَّما هي باعْتبار هذا اللازمِ، وهو المساواة، فإن المعنَى الاصطلاحي؛ إما مساواة خاصَّةٌ، فيكون من أفراد هذا اللازم أو يتضمَّنُها ويُبْنَى عليها. ويَرَى فريقٌ آخَرُ أنه: هو مشتركٌ معنويٌّ؛ وهو ما اتَّحد لفظه ومعناه، كما هو مذكورٌ في "باب الاشتراك" من كتب الأصول؛ لأن معنى "القياس" على هذا الرأْي: هو التقديرُ فقَطْ، وهو كُلِّيٌّ تحته فردان؛ بحيث يُطْلَق لفظ "القياس" عليهما؛ باعتبار شمول معناه - الَّذِي هو التقديرُ - لهما وصِدْقِهِ عليهما:

الأوَّل: استعلام القَدْر، أي: طلَبُ معرفة مِقْدار الشَّيْء، مثل: قِسْتُ الثَّوْبَ بالذِّراع.

ص: 162

والثَّاني: التَّسْوية في مقْدارٍ مثل: قِسْتُ النَّعْل بالنَّعْل، سواءٌ كانَتِ التسويةُ حسِّيَّةً؛ كالمثالَيْن السابقَيْن، أم معنويةً؛ كما يقال: فلانٌ لا يُقَاسُ بفلان، أي: لا يساويه ومنْه قول الشاعر: [البسيط]

خِفْ يَا كَرِيمُ عَلَى عِرْضٍ تُدَنِّسُهُ

مَقَالُ كُلِّ سَفِيهٍ لَا يُقَاسُ بِكَا

ووجه نقل القياس على هذا القولِ إلى المعْنى الاصطلاحي ظاهر؛ كما أن نقْلَه إلى المعنى الاصطلاحي؛ على القول بالاشتراك اللفظيِّ: إنما هو من معنى المساواة، كما هو واضح. ويرَى فريقٌ آخَرُ أن معناه الاعتبار، كما نصَّ على ذلك الزركَشِيُّ في "البحر المحيط" بعد أن حكى أن المشْهُور في معنى القياس لغةً: هو تقدير شيْءٍ على مثال شيْءٍ آخرَ، وتسويتُه به، وفي هذا يقول: وقيل: القياسُ مصدرُ قِسْتُ الشيْء، إذا اعتبرتَه، ومنه قَيْسُ الرأْي، وامْرُؤُ القَيْسِ؛ لاعتبار الأمور برأْيه، وقُسْتُه، بضم القاف، أَقُوسُه قَوْسًا، ذكر هذه اللُّغةَ الجوهريُّ في "صِحَاحِهِ"، فهذه الصيغة من ذوات الياء والواو.

وفي "البرهان": القياس في اللغة: التمثيلُ والتَّشْبيه.

وقال الماوَرْدِيُّ في "الحاوي" والرُّويانيُّ في كتاب "القَضَاء": "القياسُ في اللُّغة، مأخوذٌ من المماثلة؛ يقال: هذا قياسُ هذا، أي: مثله".

ويرى ابن السَّمْعَانِيِّ في "القواطع" أن القياسَ مأخوذٌ من الإصابة؛ يقال: قسْتُ الشيْءَ، إذا أصبته؛ لأن القياس يصاب به الحُكْم.

قال الشيخُ محمَّد أحمد سلامة في رسالته في القياس: "وخُلاصةُ ما يُؤْخَذ من كتب الأصول من بيان معْنَى القياس لغةً سبعةُ معانٍ:

الأوَّلُ: أن معناه التقدير، والمساواةُ من لوازمه.

الثاني: أن معناه التقديرُ والمساواةُ والمجموعُ منْهما؛ على سبيل الاشتراك اللفظي بين الثلاثة.

الثالث: أن معناه التقدير فقط، وهو كُلِّيٌ تحْتَه فرْدَان؛ استعلامُ الْقَدر والتسوية، فهو مشترك اشتراكًا مَعْنَوِيًا.

الرابعُ: أن مَعْناه الاعتبارُ.

الخامس: أن معناه التمثيلُ والتَّشْبيه.

ص: 163

السادس: أنَّه المُمَاثَلَة.

السابع: أنَّه الإصَابَة.

ولا يخفَى وجه نقْلِ القياسِ إلى المَعْنى الاصطلاحي؛ على المعنى الرابع والخامس والسادس، أما على المعنى السابِعِ فوجه نقْله أن القياس يصاب به الحُكْم كما أشرنا إلى ذلك، والمعنى المشهور من كلِّ ذلك هي الثلاثةُ الأُوَل، لذلك اقتصَرَ عليها الكمالُ بْن الهمام ورجح المعْنَى الثالثَ منها، وهو كوْنُه مشتركًا معْنَوِيًا بيْن معنَيَيْن؛ استعلامِ القَدْر، والتسويةِ في مقدار، ونَسَبَ ذلك إلى الأكْثَر بقوله: ولم يزد الأكثر كـ "فخر الإسلام"، و"شمْسِ الأئمة السرخسِيِّ"، وحافظ الدين النَّسَفِيِّ وغيرِهم على أن معنى القياسِ لغَةً:"التَّقديرُ واستعلامُ القدْرِ، والتَّسْويةُ في مقدار، فَرَدَّ مفهوم التقدير مَعَ نَفْيِه كوْنَ القياسِ مُشْتَرَكًا لفظيًا فيهما، أو في المَجْمُوع، ونَفْيِه كوْنَه حقيقةً في التقدير، مجازًا في المساواة".

وقَوَّاه شارحه؛ بأن القياس باعتبار صدْقِ معناه الذي هو التقْدِيرُ عَلى معنَيَيْه؛ أعْنِي استعلام القدر والتسوية، من قبيل التواطُؤِ، والتَّواطُؤُ مقدَّم على كلٍّ من: الاشتراكِ اللَّفْظيِّ؛ كما هو الرأْيُ الأَوَّل، والمَجَاز، كما هو الرأْي الثاني، إذا أمكن، وقد أمكن وهو الراجح؛ لأن التواطُؤ ليس فيه تعدُّدُ وضْعٍ ولا احتياجٌ إلى قرينة؛ لأنَّه حقيقةٌ في كل أفراده بخلافِ المشتَرَكِ اللَّفْظِيِّ، فإنَّ فيه تعدُّدَ الوضْع والمعنْى والاحتياج إلى قرينة تُعَيِّن المراد من أفراده، وبخلاف المجاز، فإنَّه يحتاج ضرورةً إلى قرينةٍ لفَهمْ المعْنَى المراد مِن اللَّفْظ.

وَما لا يحتاج إلى شيْءٍ في فهْم معناه أولَى ممَّا يحتاج.

‌الْقِيَاسُ في اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ:

تنوَّعت آراء الأصولِيِّينَ القائِلِينَ بالقياس في مسمَّى اسْمِ "القياس"، فذهب بعضُ الأصولِيِّين إلى أنَّه "فعْلُ المجتهدِ".

وذهب آخرون إلى أنه "حجَّةٌ إلهيَّةٌ"، وضعها الشارعُ لمعرفة حُكْمِه؛ فهو أمر موجودٌ في ذاته وليس فعْلًا لأحد؛ ولذلك يُقال: القياسُ مُظْهِرٌ لا مُثْبِتٌ، وبَرْهَن كلُّ صاحبِ رأْيٍ على ما ذَهَب إليه.

‌حُجَجُ الرَّأْي الأَوَّلِ:

استدلُّوا على أنه "فعْلٌ من أفعال المجتهد" بجميع التفريعات والاستعمالات؛ حيث

ص: 164

تنبئ عن أنه فعْل المجتهد؛ وذلك لأنَّ مَنْ تتبَّع استعمالاتِ الصحابةِ والتابِعِينَ - رضوان الله عَليْهِم - قطَع بلا شَكٍّ بأنهم لا يطلقون القياسَ إلا على "فعْل المجتهد".

من ذلك قول سيِّدنا عُمَرَ بْنِ الخطَّاب لأبي موسى الأشْعريِّ "اعْرِفِ الأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ، وَقِس الأُمُورَ بِرَأْيِكَ" والذي يفهم من هذا القول: إن القياس "فعْل المجتهد" واستدلُّوا أيْضًا بأن "فعْل المجتهد" هو الذي يترتَّب عليه اشتغالُ ذمَّةِ المكلَّفِ بالفعْل أو التَّرْك، وجاء منه قولُه تعالَى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: الآية 2] والاعتبارُ المقصودُ في الآية هو الإلحاقُ الحاصلُ بعد النظر في الأدلَّة؛ وذلك لأن الاعتبار في الآية أَمْرٌ، ولا أمْرَ إلَّا بِفعْلٍ.

‌حُجَجُ الرَّأْي الآخَرِ:

استدلَّ القائلون بهذا الرأي أن القياس دليلٌ من الأدِلَّة الشرعيَّة من الكتاب والسُّنة، وضَعَه الشارعُ الحكيم؛ ليدرك منه المجتهدُ حكْمَ الله عن طريق النَّظَر فيه؛ فعلَى هذا، يكون "القياسُ" دليلًا ثابتًا في ذاته، سواء نَظَر فيه المجتهدُ أمْ لا، وتكون دلالَتُه علَى الحُكْمِ ثابتةً - وإن لم يَنْظُر فيه المجتهد، فإن قالَ قائلٌ: لا مانع مِنْ أن يعتبر الشارعُ "فعْلَ المجتهدِ" الذي شأنه أن يصدر عنه دليلًا؛ كما اعْتَبَرَ "الإجْماعَ" الذي هو "فعل المجتهدين" دليلًا. والجوابُ عنه: أن الفعْل في ذاته لَيْسَ دليلًا ولو سلَّمنا أنه هو الدَّليل، فأين الأمارةُ التي اسْتَنَدَ إلَيْها المجتهدُ حتى قاس.

فقولكم كالإجماع: قياسٌ مع الفارق؛ لأن المجتهدينَ في إجماعِهِمْ على أمْرٍ لا بُدَّ من استنادهم إلى دَلِيلٍ، وإن كان غيْرَ مصرَّحٍ به، وعلَى هذا، فأيْنَ الدليل الذي استند إلَيْه المجتهدُ حتى ألْحقَه؟ كما أن القياس دليلٌ من الأدلة، وهي أمورٌ من شأنها أن العِلْم بها يؤدِّي إلى العلم بشيْءٍ آخر، وليس فعل المجتهد كذلك.

وأَمَّا الإجماعُ فمستَنَدُه الدليل، لكنْ لما لم يُصرَّحْ به جُعِل هو الدَّليلَ.

وبعد عَرضْ الرأْيَيْن السابِقَيْن وأدلَّة كل فريق في ما ذهب إليه، نَخْلُص إلى أن الرأْي المقبولَ هُوَ الثاني؛ لما تقدَّم من الحُجَج التي سقْنَاها، ولأن النظر في الأدلة التي نصبها الشارعُ مطلوبٌ لمعرفة الأحكام، والذي يتعلَّق به النظَرُ إنما هو الأمْرُ المشتَرَك، أي: المساواة، ولأن القائلين بأنَّ القياس فعْلُ المجتهد نراهم يعلِّلون فعْلَه بالأمر المشترك بيْن الأصْل والفَرْع.

ص: 165

وفي الحقيقة؛ إن هذا الأمر المشتَرَكِ هو مستَنَدُ فعْلِ المجتهد، وهم يُقرِّون بذلك، ولولا هذا الأَمْر المشْتَرَك، لَمَا أمكْنَ الإلحاق.

فإن قال قائل: فما وجْه إطلاق كثير من الأصوليِّين "اسمَ القياس" على فعْل المجتهد؟

والجوابُ على هذا أن فعْل المجتهد لَمَّا كان سبيلًا إلى معْرفة الدَّلِيلِ أيضًا، وهو الذي تكونُ به ذمَّة المكلَّف مشغولَة بالحكم، اعتبر الفعْل كأنَّه الدليلُ.

فإن قال قائل: فعَلى ما ذكر؛ يكون إطلاق اسم القياس، على فعْل المجتهد غيْرَ حقيقيٍّ.

والجوابُ أنه هو كذلك في الأصْل، لكن صار حقيقةً عن هذا الفريق.

‌أوَّلًا: تَعْرِيفُ الْقِيَاسِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ التَّسْوِيَةُ في الْحُكْمِ.

أصحاب الرأي الذاهب إلى أن القياس هو التسويةُ في الحكم. عرَّفوه بعباراتٍ مختلفةٍ نَقْتصر منْها على أربعة، وهذا نصها:

1 -

قال البَيْضَاويُّ في "المنهاج" القياسُ: إثْبَاتُ مِثْل حُكْمٍ مَعْلُومٍ في مَعْلُومٍ آخَرَ؛ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عِنْدَ المُثْبِت.

قال السُّبْكِيُّ في "الإبهاج": هذا التعريفُ أيَّده الإمام في "المعالم"، ويُؤْخذ من ذلك أنَّه لم يذكُرْه في "المَحْصُول"، وإِلا فنِسْبَته إلى "المَحْصُول" الذي هو أصل "المنهاج" أقْرَبُ.

وقال العلامة جمال الدين الإسنويُّ: "هذا التعريفُ هو المختارُ عنْد الإمام وأتْبَاعِه، وفي الحقيقةِ: إن هذا التعريفَ مذكورٌ في "المحْصُول" وإن أصلَهُ لأبي الحُسَين البَصْريِّ، وأنَّ الإمام غيَّرَ بَعْض قيوده بما هو أحْسَن منْها.

ونصُّ عبارة "المَحْصُول" هو أنه تحصيلُ حُكْمِ الأَصْلِ في الفَرْعِ لاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الحُكْمِ عِنْدَ المُجْتَهِدِ، وهُوَ قَرِيبٌ، وأظهر منْهُ أن يقال: إثباتُ مثْلِ حُكْمِ معْلُومٍ لمعلومٍ آخرَ؛ لاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الحُكْمِ عِنْدَ المُثبِتِ، وهذا التعريفُ هو عيْنُ ما ذكره في "المنهاج" غيْر أنه أبْدَلَ "اشتباهَهُما" بـ "اشْتِرَاكِهِمَا" ومعناهما واحدٌ.

2 -

وقال ابن السُّبْكِيِّ في "جَمْع الجَوَامع": القياسُ حَمْلُ معْلُوم على معلومٍ لمساواته

ص: 166

في علَّة حكْمِه عنْد الحَامِل.

وأصل هذا التعريفِ للقاضِي أبي بَكْرٍ البَاقِلَّانيِّ وعبارته؛ على ما في "المحْصُول" و"الإحْكَام" و"البَحْر المُحيط" للزركشيِّ و"البُرْهَانِ" لإمام الحرمَيْن هي: "القياسُ حمْلُ معْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ في إثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أو نَفْيِهِ عَنْهما؛ بأَمْرٍ جَامِعٍ بيْنَهما منْ حُكْمٍ أو صفةٍ أو نَفيهِما عَنْه، هذا، وقد ذَكَرَ أمير بادشاه في "تَيْسِيرِ التَّحرير" أن هذا التعْريف ليْسَ هو لفْظَ القَاضِي بل معْناه؛ إذْ لفْظُه في تعريف "القياس": "حَمْلُ أَحدِ المَعْلُومَيْنِ علَى الآخَرِ في إيجَابِ بعْض الأَحْكَامِ لهُمَا أو إسْقَاطِه عنهما بأمْرٍ جامعٍ بينهما فيه أيِّ أمْرٍ كانَ منْ إثباتِ صفةٍ وحكْمٍ لهما أو نفْي ذلك عنهما"، ونلاحظ على كلا النقلَيْن أنه لا تنافِيَ بين التعريفَيْن المذكورَيْن، فالكلام على أحدهما يُعْتبر كلامًا على الآخَر.

3 -

وقال صَدْرُ الشَّرِيعَةِ في "التوضيح": القياسُ تعديةُ الحُكْمِ منَ الأَصْل إلى الفَرْع لِعِلَّةٍ متَّحدةٍ لا تدرك بمجرَّد فهمْ اللُّغَة.

4 -

وقال أبو منْصُورٍ الماتُرِيديُّ: القياسُ إبانةُ مثْلِ حُكْمِ أحَدِ المذكورين بمثْلِ علَّتِه في الآخر.

وقد أعْرَضنا عن شرْح هذه التعاريف؛ مخافةَ التطْويل والمَلَلِ.

‌ثَانِيًا: تَعْرِيفُ الْقِيَاسِ، بِنَاءً عَلَى أنَّهُ المُسَاوَاةُ في العِلَّةِ:

الرأْي الذَّاهِبُ إلَى أن القياسَ هو المساواةُ في العلَّة عرَّفوه بعباراتٍ مختلفةٍ نقتصر منْها بأربعةٍ، وهذا نصها:

1 -

قال الآمِدِيُّ في "الإحكام": المُخْتار في حَدِّ القياس: أن يقال: إنَّه عبارةٌ عن الاستواء بيْن الفَرْع والأصْل في العلَّة المستنبطة من حُكْم الأَصْل.

2 -

وقال الكمال في "التحرير": وفي الاصطلاح: مساواةُ محلٍّ لآخَرَ في علَّة حكْمٍ له شرعيٍّ لا تُدْرَك من نصِّه بمجرَّد فَهْم اللُّغَة.

3 -

وقال ابن الحَاجِب في "المختصر": "وفي الاصْطِلَاحِ: مساواةُ فَرْعٍ لأَصْلٍ في علَّةِ حُكْمِهِ".

وتحقيقُ ذلك أن القياسَ منْ أدلَّة الأَحْكَامِ، فلا بُدَّ من حُكْمٍ مطلوبٍ به ولَهُ محلُّ ضرورة، والمقصودُ إثباتُه فيه لثبوته في محلٍّ آخَرَ يُقَاس هذا به، فكان الأوَّلُ فرْعًا، والثَّاني

ص: 167

أصْلًا؛ لحاجة الأوَّل إلَيْه، وابتنائه عليْه، ولا يُمْكِن ذلك في كُلِّ شيئَيْن، بلْ إذا كان بَيْنَهما أمْرٌ مشْتَرَكٌ ولا كل مشترك، بل مُشْتَرَك يوجِبُ الاشْتراك في الحُكْم بأنْ يستلزمه، ويُسمَّى علَّةَ الحُكْم، فلا بُدَّ أن يعلم علَّة الحكم في الأصل، ويعلم ثبوت مثْلِها في الفرع، إذْ ثبوت عيْنها في الفَرْع ممَّا لا يُتصوَّر؛ لأنَّ المعْنَى الشخصيِّ لا يقُوم بعَيْنِه بمحليْن، وبذلك يحصل ظنُّ مِثْل الحُكمِ في الفَرْع.

4 -

وقال محبُّ اللهِ البهاريُّ في "مُسَلَّمِ الثُّبُوت": واصطلاحًا مساواةُ المَسْكُوتِ للمَنْصُوصِ في علَّة الحُكْم.

‌حُجِّيَّةُ الْقِيَاسِ:

ممَّا لا شكَّ فيه أن القياسَ حُجَّة في الأُمُور الدُّنْيوية؛ كالأغْذية؛ بأنْ يقاس الخُبْزُ المخلُوطُ من البُرِّ والذُّرة على الخُبْز من البُرِّ في التغذية؛ بجامع أن كلًّا منهما يَقُومُ به بَدَنُ الإنسَان، وكذلك الأدْوِيةُ؛ حيْثُ يقاسُ أحدُ شيئَيْنِ على آخر فيما عُلِمَ له من إفادَتِهِ دفْعَ المرضِ المخصوصِ؛ لمساواته له في المعنى الذي بسَبَبِه أفاد ذلك الدفْعَ، ووجْه كون القياس في نحو الأدوية والأغذية قياسًا في الأمور الدنيوية؛ أنه ليس المطلوبُ به حكْمًا شرعيًا، بل ثبوتُ نَفْع هذا التقويم بَدَنَ الإنسان، أو لدفع المرض مثلًا، وذلك أمرٌ دنيويٌّ. واتَّفق العلماء على "القياس الجلي" كقياس تحريم ضَرْب الوالدَيْن على تحْريمِ التأفيف عنْد من يسمِّي ذلك قياسًا.

وهو من الدالِّ بدلالة النصِّ عنْد الحنفية، ومِنْ مفهوم الموافقة عند الشافعية.

وتنوعت آراؤهم في الشرعيَّة؛ حيْثُ ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء والمُتَكلِّمين وغيْرهم من العلماء المقتَفِينَ آثارَ السَّلَف إلى أن القياسَ حجَّةٌ في الأمور الشرعيَّة، وأنه أصْلٌ من أصول الشريعة به يُسْتدل على الأحْكَام، وذهبوا إلى أنه يجوز التعبُّد بالقياس في الشرعيات عَقْلًا، وإلى هذا ذهَبَ أبو حنيفة والشافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ - رحمهم الله تعالى - وهو المختار، وحديثُنا هنا في موضعين:

الموضع الأوَّل: في الجواز العقْليِّ وعدَمِهِ.

والموضعُ الثاني: في الوقُوع وعَدَمِه.

قال جمهورُ العلماءَ، ومنْهم الأئمة الأربعةُ: التعبُّدُ بالقياس جائزٌ عقْلًا.

ص: 168

ويرَى القفَّال، وأبو الحُسَين البَصْرِيُّ: أنه يجب التعبد به.

ويرى الشيعةُ والنَّظَّام وبعْضُ المعتزلة: منْعَ التعبُّد به.

‌حُجَجُ الجُمْهُورِ:

احتج الجمهورُ بالقَطْع بالجواز:

قال صاحب "التلْوِيح": إن الشارعَ لو قال: إذا وجدت مساواة فَرْع لأصْلٍ في علَّة حُكْمِهِ، فأَثْبِتْ فيه مثْلَ حكْمِهِ، وأَعْمِلْ به مَا لَمْ يلزمْ منْه مَحَالٌ لَا لنَفْسِه ولا لغيره.

وقال محبُّ الدين بن عبد الشَّكُور الهنْديُّ في "مُسَلَّم الثُّبُوت" وشرْحهِ ما نصه: لنا: لو كَانَ مُمْتَنِعًا، لَلَزِمَ منْ وقوعه محالٌ، ولا يلزم مِنْ إلزامه محالٌ أصْلًا ضرورةً، كيْف، والاعتبارُ بالأمثال من قضيَّة العقْل، وهو يَحْكم أن المتماثلاتِ حكمُها واحدٌ، وإنكارُ هذا مكابرةٌ.

مما سبق، يتَّضح لنا أن القياسَ يجوزُ التعبُّد به؛ لأنَّه لا يلزم من وقوعه محالٌ أصْلًا؛ ولأنَّ الاعتبار بالأمثال من قضيَّة العَقْل، فهو يسوِّي بين المتماثلات في الحُكْم؛ وذلك لأنَّ المجتهد إذا رأى الشارع قد أثبت حكْمًا في صورة من الصور، ورأى هناك معنى يصْلُح أن يكون داعيًا لإثبات ذلك الحُكْم، ولم يظْهَرْ له ما يُبْطِلُه بعد البَحْث التامِّ، فإنه يغلب على ظنِّه أن الحُكْم ثبت لأجْله، وإذا وُجِدَ هذا المعنى في صورةٍ أخرى، ولم يظْهَرْ له أيْضًا ما يعارضه، فإنه يغلِبُ على ظنه ثبوتُ الحكْمِ به في حقِّنا، ومن المؤكَّد أن مخالفة حُكْم الله عز وجل يوجبُ العقابَ، فالعقلُ يرجِّح فِعْلَ ما ظُنَّ به جلبُ المصلحة ودفْعُ المفَسْدَة على تَرْكِه، ولا مَعْنَى للجواز العقْلِيِّ سوى ذلك، كما أن التعبُّد بالقياس فيه مصلَحةٌ لا تحْصُل بغيره، وهي ثوابُ المجتهد على اجتهاده، وإعمالُ عَقْلِه في استخراج علَّة الحُكْم المنصوص عَلَيه؛ لتعديته إلى محلٍّ آخر، وما كان سبيلًا إلى مصلحة المكلَّف فالعقل لا يُحيلُه، بل يُجوِّزه.

‌حُجَجُ المُوجِبيِنَ لِلْقِيَاسِ:

الموجبون للقياسِ نصُّوا على أن الأحكام لا نهاية لَها، فإنها تتجدَّد بتجدُّد الحوادِثِ، والنصوصُ لا تَفِي بها، فيقضي العَقْلُ بوجوبِ التعبُّد بالقياس؛ لئلا تخلو الوقائعُ من

ص: 169

الأحكام، والجوابُ بعد تسليم أن يكون لكلِّ واقعةٍ تشريعٌ: هو أن الذي لا يتناهى الجزئياتُ لا الأجناس، ويجوزُ التنصيصُ على الأجْناس كلِّها بعموماتٍ تتناولُ جُزْئيَّاتها، حتى تَفِي بالأحكام كلِّها؛ مثل قولنا: كلّ مُسْكِرٍ حرامٌ، وكلُّ مطعومٍ رَبَوِيٌّ، وكلُّ ذِي نابٍ حرامٌ، إلى غير ذلك. ذكر هذا ابنُ الحاجِبِ في "مختصره".

إذن القائلون بالوجوب اشتبه عليهمْ عدَمُ تناهي الجزئيات بتناهي الأجْنَاسِ، وصرَّحوا بأن الأحكام لا نهاية لها، والنصوصُ لا تَفِي بها؛ لذا كان التعبُّد بالقياس واجبًا عقلًا لتَشْمَل الأحكامُ جميعَ الوَقَائِع.

وتحقيقُ المَسْألةِ أن الذي لا يتناهى الجزئياتُ لا الأجناس، فجزئياتُ الشريعةِ كَثيرةٌ لا تُحْصَى؛ لأنها تتجدَّد بتجدُّد الحوادث فيتعذَّر النصُّ على كل جزئيَّة من جزئيات الشَّريعة.

أما الأجناس، فيجوز النصُّ عليها بعموماتٍ تكونُ متناولةً لجزئياتها؛ كقولنا: كلُّ مسكرٍ حرامٌ، وقولنا أيْضًا: وكلُّ ذي نابٍ حرامٌ إلى غير ذلك.

لكنْ يترتَّب على تعميمِ الأحكام لكلِّ الوقائع: أنَّه لا يتأتَّى اختلافُ المجتهدين مع أن اختلافهم رحْمَةٌ، فتفوتُ هذه الرحمةُ الكثيرة، هذا إذا رأيْنا انحصار اختلافهم في القياسِ، وهو لا ينحصر فيه، بل يجوز اختلافُهم في غيْرِه من الظاهر والخفيِّ والمتشابه، فتختلف الآراء في فَهْمِ مدلولاتها، وأخْذِ الحكم الشرعيِّ مِنْها، فلا يترتَّبُ على تعميم الأحْكَام للوقائع عدمُ اختلافِ المجتهدين، وأيْضًا فإنَّ الأحكام الإلهيَّة عِنْد شرْعِها رُوعِيَت فيها مصالحُ العبادِ؛ تفضُّلًا مِنْه ورحمةً، وهي متفاوتة بحَسَب الزَّمان والمكان، فلا يُمْكِن ضبْطُها إلَّا بالتفويض إلى الرأْي، وإلَّا خلَتِ الوقائع والأحداثُ عن الأحكام؛ لعدم كفاية العُمُومات.

فلما كانَتْ مصالحُ العباد متفاوتةً بحَسَب الزَّمان والمكان، كان للرأْي فيها مدْخلٌ؛ لأن العموماتِ لا تنطبقُ على كل الحوادثِ مَعَ مراعاةِ تَفَاوُتها.

‌حُجَجُ المُنْكِرِينَ لِلْقِيَاسِ ومُنَاقَشَتها:

احتجَّ المنكرون للقياسِ؛ فقالوا:

أوَّلًا: القياسُ طريقٌ لا يؤْمَنُ فيه الخطأ، والعقْلُ يَمْنَعُ من طريقٍ غير مأمونٍ؛ وعليه فالقياسُ ممنوعٌ عقلًا.

ص: 170

والجوابُ: أنَّا لا نسلِّم أن مَنْع العقلِ مِمَّا لا يُؤْمَن فيه من الخطأ إحالةٌ له وإيجابٌ لنفْيِه، بل مَعْناه أنَّه مرجِّح للترك على العَمَل به، والمُدَعَى هو الإحالة، فهو نصْبُ دليلٍ لا في محلِّ النزاع، ثم إنَّ مثْلَه لا يَمْتنعُ التعبُّد به شَرْعًا.

ولو سلِّم أن مَنْعَ ما لا يُؤْمَن فيه الخطأُ إحالةٌ له في الجُمْلَة، فلا نسلِّم أن مَنْعه ثابتٌ في جميع الصُّوَر، وإنَّما هو مختصٌّ بما لا يَغْلب فيه جانبُ الصواب، وأمَّا إذا ظُنَّ الصواب، وكان الخطأُ مرجوحًا؛ فلا يمتنع العمل به، لأن المظانَّ الأكثرية لا تُتْرَك بالاحتمالات الأقليَّة، ولو تُرِكَتِ المظانُّ الأكثريةُ بالاحتمالاتِ الأقليَّةِ، لتعطَّلَتِ الأسباب الدنيويةُ والأخرويَّة؛ إذ ما مِنْ سبب من الأسباب إلَّا ويَجْري فيه ذلك، ويجوز تخلُّف أثره والتضرُّر به، فالتَّاجر لا يُسَافر، وهو جازمٌ أنَّه يرْبَح، والمتعلِّم لا يَتْعَبُ في تعلُّمه، وهو يقْطَع بأنَّه يَعْلم ويثمر علمه، إلى غير ذلك من الأمثلة، بل العَقْلُ يوجِبُ العَمَل عِنْد ظنِّ الصواب، أما إذا أمْكَنَ الخَطَأ؛ تَحْصِيلًا لِمصالح لا تحْصُل إلا به، على ما لا يخفى في تتبُّع موارد الشَّرْع، ومَنْ طلب الجَزْم في التكاليف، عطَّلَ أكثرها.

ثانيًا: لا يُجَوِّزُ العَقْلُ وُرودَ الشَّرْع بالعَمَل بالظَّنِّ، لما قَدْ عُلِم مِنْه أن الشَّرْع ورَدَ بمخالفة الظنِّ، وكَيْف يتأتَّى الجمعْ بَيْن إيجاب الموافقة وإيجابِ المُخَالَفة.

ويتضح ذلك أوَّلًا: بالحُكْم بالشَّاهدِ الواحدِ، وإنْ أفاد الظنَّ القويَّ، لكونه صديقًا أو للقرائن.

وثانيًا: شهادةُ العَبِيدِ، وإن كَثروا، وعُلِمَ أنَّهم دَيِّنُون عُدُولٌ في الغاية منَ التَّقْوى، حتى يقوى الظنُّ بشهادتهم.

وثالثًا: رضيعة في عَشْر أجنبيات، فإنَّ كلَّ واحدةٍ على التعْيين يُظَنُّ كونُها غَيْرَ الرضيعة لتحقُّقه على تسْعِ تقاديرَ، ولا يُتحقَّق خلافُه إلَّا على تقْديرٍ واحدٍ، ومعَ ذلِك فأُمِرْنا بمخالفة الظنِّ، فَحُرمَ التزوُّجُ بها.

والجوابُ: أنَّا لا نسلِّم أنَّه عُلِمَ ورودُ الشَّرْع بمخالفة الظنِّ، بل المعلومُ خلافُه، وهو ورودُهُ بمتابعة الظنّ، كما في خَبَر الواحِدِ، وفي ظاهر الكتاب والسُّنَّة، وأخبار النِّسَاء في الحَيْض والطُّهْر في غِشْيانهنَّ، وما ذكرتموه، إنَّما مُنِعَ فيه عن اتباع الظنِّ لمانعٍ خاصٍّ،

ص: 171

وهو ورود التعبُّد من الشارع بامتناع العَمَل به، فكان ذلك من الشَّارع لا لعَدَمِ الجَوَازِ العقْليِّ.

وثالثًا، وهو يُنْسَب إلى النَّظَام: حيث قال: قد ثبَتَ مِنْ قِبلِ الشارِعِ الفرْقُ بين المتماثِلات والجَمْعُ بين المخْتَلِفَات، وإذا ثبَتَ ذلِكَ اسْتَحالَ التعبُّد بالقياس.

أما الفرْقُ بين المتماثلات، فمِنْه أن الشارع قدْ فرضَ الغُسْل من المَنِيِّ، كما أبطل الصوْمَ بإنزاله عَمْدًا، وحَرَّم مَسَّ المُصْحَف والمُكْث في المسْجِد والطوافَ دُون البَوْل مع كونهما نجسَيْن خارجَيْن منْ سبيلٍ واحدٍ، أيضًا قطع السارق القَلِيلَ دون غاصِبِ الكثيرِ مع أن جناية الأوَّل أصْغَرُ من جناية الثاني، وحرَّم النظر إلى العَجُوز الشَّوْهاء، وأباحَهُ في حقِّ الأَمَة الحَسْناء. وأما الجَمْع بين المختلفات، فمِنْه التَّسْوِية بَيْن قَتْل الصَّيْد عمدًا وقتله خطأً في الفداء في الإحْرَام مع كوْن العَمْد جنايةً كاملةً دون الخَطَأ، ومِنْه التَّسْويَةُ بَيْن الزنا والرِّدَّة في القَتْل مع كوْنِ الثاني أكْبَرَ كبيرةً من الأوَّل، ومِنْه التَّسْوية بَيْن القاتل خطأً والواطِئ في الصَّوْم، والمظاهِرِ عن امرأتِهِ في إيجاب الكفَّارة عليهم، وإذا ثَبَت كلُّ ذلك، اسْتَحال التعبُّد بالقياس؛ لأن القياس يقْضِي بثبوتِ الجَمْع بَيْن المتماثلاتِ والفَرْقِ بَيْن المُخْتَلِفَات.

والجوابُ عن ذلِكَ: أن المتماثلاتِ لَيْسَت متماثلةً مِنْ كل وجهٍ؛ لجوازِ اختلافِهَا في المَنَاط، وإنَّما يجب اشتراكُها في الحُكْم إذا كان ما به الاشْتراكُ يَصْلُح علَّةً للحُكْم، ليصلُح جامعًا، ولا يكونُ له معارضٌ في الأصلِ، هو المقتضى للحُكْم دون هذا، وليس هناك معارضٌ في الفَرْعِ أقوى يقتضي خلافَ ذلك الحُكْمِ، ولا شيء من ذلك موجودٌ فيما ذكر من الصُّوَر المتقدِّمة؛ لجواز عدم صلاحية ما توهَّمه المعترضُ جامعًا، أو وجود المعارِضِ في الأصْل أو في الفَرْع.

وأما قضيَّة الجَمْع بين المختلفاتِ، فلجواز اشتراكِها في مَعْنىً جامعٍ يصلح أن يكونَ علَّةً للحكم؛ فإن المختلفات لا يمتنع اشتراكُها في صفاتٍ ثبوتيَّةٍ وأحكامٍ، وأيْضًا يجوز اختصاصُ كلٍّ بعلةٍ تقتضي حُكْمَ المخالف الآخَرِ، فإنَّ العِلَلَ المختلِفَة لا يمتنع أن تُوجِبَ في المحال المختلفة حُكْمًا واحدًا.

ورابعًا: القياسُ يُفْضِي إلى الاختلاف، وكلُّ ما يفضي إلى الاختلافِ مردودٌ، أما المقدِّمة الأُولى، فلاختلاف الأنظار والقرائِحِ، كما هو الواقعُ المشاهَدُ.

ص: 172

وأمَّا الثانية؛ فلقوله عز وجل: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [سورة النساء: الآية 82] وذلك في مَعْرض المَدْحِ بَعْد الاختلافِ المُوجِب للردِّ، دلَّ هذا على أن ما هو مِنْ عِنْد الله لا يُوجَدُ فيه اختلافٌ، فما يوجد فيه اختلافٌ لا يكونُ مِنْ عِنْد الله، فحُكْم القياس للاختلافِ الكثيرِ الحَاصِل فيه لا يكونُ مِنْ عِنْد الله، وكلُّ حُكْمٍ لا يكونُ من عِنْد الله، فهو مردودٌ إجْماعًا.

والجوابُ: أن الاختلافَ المنفيَّ في الآية هُوَ التناقُضُ أو الاضطرابُ المُخِلُّ، والإعجازُ الذي لأجْله وقَع التحدِّي والإلزام بكَوْنه من عِنْد الله لا الاختلافُ في الأحْكَام الشرعيَّة، فإنَّه ثابت وواقعٌ لا يمكن إنْكَاره على أنَّ القياسَ كاشِفٌ ومُظْهِرٌ عمَّا هو من عِنْد الله لكنْ ظَنًّا.

وخامِسًا: القياسُ يُفْضِي إلى التناقُضِ الباطِلِ، فيكون باطلًا، وتوضيح ذلك أنَّه يجوز أنْ تَتَعارَض علَّتان تقْتَضِي كلٌّ منهما نقيضَ حُكْم الأُخْرى، وحينئذٍ يجبُ اعتبارهما، وإثباتُ حكمهما؛ لأنَّه المَفْرُوض، فيَلْزَم التناقض.

والجوابُ: أن هذا الفَرْض إمَّا في قائِسٍ واحدٍ أو في متعدِّدٍ، فإن كان القائِسُ واحدًا، رجَّح بطريقٍ من طُرُقِ الترجيح، فإن لم يَقْدِرْ على التَّرْجِيح، فإما أن يتوقَّفَ فلا يَعْمَل بهما، كأنه لا دليلَ؛ لتعذُّر ثبوتِ الحُكْم الذي شَرْطُه عدَمُ وجود المُعَارِض المقاوم، وبهذا صرَّح كثيرٌ منَ العُلَمَاء.

وإمَّا أنْ يخيَّر، فيعمل بأيِّهما شاء، وإلَيْه ذهب الشافعيُّ وأحمدُ رضي الله عنهما أمَّا إذا تعدَّد القائِسُون، فلا تناقض؛ إذْ يَعْمَل كلٌّ بقياسه.

‌وُقُوعُ القِيَاسِ وعَدَمُهُ:

قد تقدَّم فيما سَبَق الخلافُ في جواز التعبُّد بالقياسِ وعَدَمِه، وأوضَحْنا حجَّة كلِّ فريقٍ، وذَهَبْنا إلى أنَّ القَوْل الصحيح هو القولُ بالجَوَاز.

والآنَ نعرِضُ آراء العلماءَ في وقُوع التعبُّد بالقياسِ وعَدَمِه، والمَذْهَب الراجِح مِنْهُما، وعلَيْه فنَقُول: إنَّ القائلين بجواز القياسِ، كلَّهم قالُوا بوقوعه إلَّا دَاوُدَ الظَّاهريَّ والقاسانيَّ والنهروانيَّ، فإنهم وإنْ جوَّزوا التعبُّد به عَقْلًا، لكنَّهم منَعُوه سَمْعًا.

ص: 173

ويُرْوى عن داودَ الظاهريِّ إنْكارُ القياسِ في العبادات فقَطْ دونَ غَيْرِها من المُعَامَلَاتِ، ويُرْوى عن القاسانيِّ والنهروانيِّ أنهما قالا بوقوعِ القِياسِ، إذا كانتِ العلَّة منصُوصةً، ولو إيماءً، وأنكرا فيما عدا ذلك، ولَئِنْ ثبَتَ هذا عَنْهُم، يكون أخصَّ من الرواية الأُولى عنهم.

والذين ذهَبُوا إلى وُقُوع التعبُّد بالقياسِ اخْتَلَفُوا في دليل ثُبُوته، فالأكْثَر مِنْهم على أنَّه واقعٌ بدليلِ السَّمْع، وفريقٌ من الحنفية والشافعيةِ قالُوا بوقوعه بالعَقْل مع دليل السَّمْع، ثم اختلف القائلُون بوقوعه بدليل السَّمْعِ في أنَّ دليله قطعيٌّ أو ظنيٌّ؛ حيث يرى الأكْثَرُ مِنْهم أنَّه قطعيٌّ خلافًا لأبي الحُسَيْن البصريِّ، فإنه عنده ظنيٌّ، ولا ينافي هذا ما ثَبَت عَنْه فيما تقدَّم من القول بوجُوبِ التعبُّد بالقياس؛ إذ لا مانع مِنْ أن الشيءَ يجبُ أولًا، ثم يقع، فيجوز أن يكون وجوبُه قطعيًّا، ووقُوعُه مظْنُونًا.

ولِقَائِلٍ أن يقول: إنَّ معنى وجوبِ التعبُّد عنده أنَّه يجب على الشارع أو مِنْه نَظَرًا إلى الحِكْمَة الأزليَّة الثَّابتة لَهُ وما يجب على الشَّارعِ أو مِنْه يقع قطعًا، فقطعيَّةَ الوجوب ملزومُ قطعيَّة الوُقُوع، ومنافي اللَّازِم منافٍ للمَلْزُوم فلزِمَ التنافي، والجوابُ عن الإيرادِ المتقدِّم أن القَطْعِ بالوقوع عِنْده بالعَقْل، وأمَّا السَّمْعُ الدالُّ علَيْه فظنيٌّ؛ بمعنى أنه لم يَقُلْ بظنِّيَّة الوقوع، بل بظَنِّيَّة الدليلِ السَّمْعِيِّ الدالِّ علَيْه فقط.

‌أَدلَّةُ وُقُوعِ القِيَاسِ سَمْعًا وعَقْلًا وَحُجِّيَّتُهُ:

احتجَّ القائلون بوقوعِ القياسِ وحُجِّيَّته بالكتابِ والسُّنَّة والإجْماع والدليل العقليِّ: أما أدلَّة الكِتَابِ: فلقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: الآية 2] وجْهُ الدَّلالةِ فيه: أن الاعتبار مَعْنَاه ردُّ الشيءِ إلى نظيره بأنْ يُحْكَم عَلَيْه بحُكْمه، وهذا يَشْمل القياسَ العقليَّ والشرعيَّ والاتِّعاظ، والآيَةُ إنَّما سيقت للاتِّعاظِ فتَكُون دلالتها على القياسِ بطريق الإشَارَة، وعلى الاتِّعاظ بالعِبَارة؛ لأنَّ الاتِّعاظَ يكون ثابتًا بطريق المَنْطُوق مع أن سياق الكلام له، والقياسُ الشرعيُّ يكون أيْضًا ثابتًا بطريق المنطوقِ مِنْ غَيْر أنْ يكونَ سياقُ الكَلَامِ له.

وقد يقولُ قائلٌ: إنَّ الاعتبار ظاهرٌ في الاتِّعاظ لأمْرَيْن:

الأمرُ الأوَّلُ: النَّظَر إلى خُصُوص السَّبَب الَّذِي ترتَّب عَلَيْه هذا الحُكْم، فإنَّ السَّبَب في

ص: 174

الأَمْرِ بِالاعْتِبَار هُوَ الاتِّعاظ بما فَعَل الله ببني النَّضِير بسَبَب ما فَعَلُوا من العدوان.

والأمرُ الثَّاني: عدمُ مناسَبَة صدْرِ الآية للقياسِ الشرعيِّ؛ لأنَّه يصِيرُ المعْنى حينئذٍ {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الحشر: الآية 2] فقِيسُوا الذرة على البر مثلًا، وهذا مَعْنىً بعيدٌ ينبُو عَنْه ظاهرُ الآية، فيُصَان كلامُ البَارِي تعالى عنْ مِثْلِ هذا.

والجوابُ: أن العِبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ لا بخصوص السَّبَب، وبهذا الجوابِ انْتَفى كَوْنُ الاعتبارِ ظَاهِرًا في الاتِّعاظ وانتفى أيضًا بعد ترْتيب القياسِ الشَّرْعيِّ علَيْه، وهو قياس الذرة على البرّ مثلًا، إذِ المُرَتَّب على هذا السَّبَب المذكورِ الاعتبارُ الأعَمُّ من قياسِ الذرة على البر مثلًا، أي فاعتبروا الشيء بنظيره في مناطه في المثلات وغيرها، وهذه القاعِدَةُ تكون مُسلَّمةً، إذا لم يكن الاعتبارُ مَعْناه الاتِّعاظ.

وقد يُقَال: إنَّ الاعْتِبَارَ هوَ الاتِّعاظ لوَضْعِه لهُ أو لغلبته فيه، وهو الظاهر، ويكون القياسُ في هذه الحالة - أي في حالة ما إذا قلْنا: إنَّ الاعتبار معناه الاتعاظ - يكون ثابتًا بطريق دلالة النصِّ التي تُسمَّى فَحْوى الخِطَابِ.

فقدْ قالَ الله تعالى في سورة الحَشْر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: الآية 2] حَيْثُ ذكر الله هلاكَ قومٍ؛ بناءً على سببٍ هو اغترارُهُمْ بالقوَّة والشَّوْكَة، ثم أمر بالاعتبار؛ ليُكَفَّ عن مثل ذلك السبب لئلَّا يترتَّب عليه مثْلُ ذلك الجَزَاء، كأنَّ الله تعالى يقول: اجْتَنِبُوا عَنْ مِثْل هذا السَّبَب؛ لأنَّكم إنْ أتَيْتُمْ بمثله، يترتَّب على فعلكم مِثْلُ ذلك الجزاء، فدُخُول فاءِ التعليل على قوله تعالى:{فَاعْتَبِرُوا} جعَلَ القضيَّة المَذْكُورة علَّةً لوجُوبِ الاتِّعاظ؛ بناءً على أن العلم بوجوبِ السَّببِ يوجِبُ الحُكْم بوجود المسبب، وهو مَعْنَى القياسِ الشرعيِّ، وقد فُهِمَ هذا المعنى من لفْظ الفَاءِ التي للتعْلِيل، فيكون مفهومًا بطريق اللُّغة، فيكون دلالة نَصٍّ، ودلالةُ النَّصِّ مقبولةٌ اتفاقًا، فلا يلزم الدَّوْر، وهو إثبات القياسِ بالقياسِ.

جماعُ القوْلِ: إنه إذا أُرِيدَ بالاعتبارِ ردُّ الشيءِ إلى نظيره، تكون الآيةُ دالَّةً على القياسِ بطريقِ الإشَارَةِ كما تقدَّم بيانه، وإذا أُرِيدَ به الاتِّعاظ يكونُ القياسُ ثابتًا بدلالة النصِّ التي تُسمَّى فَحْوى الخطاب.

ص: 175

والقولُ بأن الأمْر بالاعتبار يَحْتَمِلُ أنْ يكون للنَّدْب، فلا يثبت به وجوبُ العَمَل بالقياس، ويَحْتَمِلُ أن يكون للحاضِرِينَ فقط، فلا يثبت لغيرهم، ويَحْتَمِلُ أن يكون للمَرَّة، فلا يثْبُت به التَّكْرار، وأنْ يكونَ ثَابِتًا في بَعْض الأحْوال والأَزْمِنَة، فلا يكون حجَّةً على الإطْلَاق.

كلُّ هذه احتمالاتٌ مردودةٌ، فإنَّ "اعتبروا" معناه: افْعَلُوا الاعتبار على سَبِيل الوُجُوب، إذِ الأصْلُ في صيغة الأَمْر أنْ تكون للوجوبِ، وهو عامٌّ يشْمَل الحاضِرِينَ وغَيْرَهم. وكونه للمرَّة - على خلافِ أوامِرِ الشَّريعة الغرَّاء، فهي عامَّةٌ في كل زمانٍ ومكانٍ غَيْرُ خاصَّة بِقَوْمٍ دون آخرين فلا عبرة بهذه الاحتمالاتِ؛ لأنَّ التمسُّك بها يؤدِّي إلى إهْدَار كثيرٍ من النصوصِ الشَّرعيَّة، ولا يجوز إهدارُ نَصٍّ بحالٍ من الأحوال. فدلَّت الآيةُ على حجِّيَّة القياس، ثم اختلف القائِلُون بذلك في أن إفادتها قطعيَّةٌ أو ظنِّيَّةٌ، حَيْث صرَّح بعض العلماءِ إلى أنَّها ظنِّيَّة، فهي لا تُفيدُ إلَّا الظنَّ، وأورد عَلَيْه بأنَّه كَيْف يصحُّ القول بظنيتها مع أنَّها من الأُصُول الَّتي ينبغي أن لا يكتفى فيها بالظَّنِّ.

وَرَدَّ البيضاويُّ على ذلك في "المِنْهَاج" بما يفيد الاعْتراف بأنَّها ظنيِّة، حيْثُ قال:"قلْنا: المَقْصُود العَمَل، فيَكْفِي الظَّنُّ" وتوضيحُ ذلك أن هذه المسألة، وإنْ كانَتْ منَ الأُصُول إلَّا أن المقصُود مِنْها العَمَل، إذِ المقصُود من حجِّيَّة القياس العملُ بمقتضاه، فهي وسيلةٌ إلى الأحكام العمليَّة، فاكْتُفِي فيها بالظنِّ، كما اكْتُفِي به في المَقْصُود مِنْها، ولَيْسَت منَ الأصول المقصود بها التعبُّد في ذاتها، مثْل عقائد التوحيد، فإنَّ المقصود اعتقادُها اعتقادًا جازِمًا عنْ دليلٍ، فلا تثبت إلا عنْ الدليل القطعيِّ.

وصرَّح الجمهورُ أنَّها قطعيَّةٌ، فهي لا تحتمل احتمالًا يؤيِّده الدليل، والاحتمالاتُ القائمةُ لا يؤيِّدها بُرْهَانٌ، فلا تنافي القطعيَّة.

والظاهِرُ أن الاحتمالاتِ قويَّةٌ، فالحقُّ أنَّها تفيد الظنَّ على أن مَنْ ذهَب إلى قطعيَّة المسْأَلَة، وهِيَ كونُ القياس حجَّةً لا يقولُ: إنَّ كل دليلٍ عَلَيْها قطعيٌّ، بل يقول: إنَّ مجموع الأدلَّة يفيدُ القَطْع بها، وذلكَ كافٍ.

وخلاصةُ القَوْل: أن هنا أمرين:

الأوَّلُ: دلالةُ الأدلَّة السمعيَّة على حجِّيَّة القياسِ، هَلْ هي قطعيَّة أو ظنيَّةٌ؟

ص: 176

والثَّاني: كونُ القياسِ حجَّة، هل هو قطعيٌّ أو ظني؟.

فالجمهور ذهب إلى أن الأدلة السمعية قطعيَّةٌ، وكذا المسألة، وذهب أبو الحسين البصري إلى أن المسألة قطعيةٌ، والأدلة السمعيَّة ظنيةٌ، والقطْع بالوقوع عِنْده بالأدلَّة العقْليَّة، ولذا ضم إلى الأدلَّة السمْعيَّة الأدلَّةَ العَقْليَّة لإثباث القَطْع.

‌أَدِلَّةُ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ:

أمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن معاذِ بْنِ جبلٍ رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا بعثَهُ إلى اليَمَن قال: كَيْف تَقْضِي إذَا عُرِضَ لكَ قَضَاءٌ؟ قال: أَقْضِي بكِتَابِ الله، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ في كِتَاب الله؟ قال: فَبِسُّنَّةِ رَسُولِ الله، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ في سُنَّةِ رسُولِ الله؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي ولا آلُو، قال: فَضَرَبَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على صَدْرِهِ وقال: الْحَمْدُ لله الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رسولِ اللهِ لما يُرضي الله وَرَسُولَهُ"

(1)

فَهذا يدل بوضوح على أن الاجْتِهَادَ بالرأي جائزٌ عند عدم وجودِ نصٍّ من الكتابِ والسنَّةِ، ولأنَّهُ لو لم يكن القِيَاسُ حجَّةً، لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وَلَمَا حَمِدَ الله.

وبعضهم أورد عليه أن الاجتهادَ بالرأيِّ غَيْرُ منحصرٍ في القياس كتأويلِ الظَّاهِرِ، أوِ الخَفِيِّ، أوِ المُشْكَلِ وغيره.

والجوابُ على هذا أن الكلام فيما لم يُوجَدْ فيه نصٌّ من الكتابِ، أو السُّنَّة، أمَّا الظَّاهِرُ والخفيُّ والمُشْكَلُ فَمِنَ الْكِتَابِ.

أمَّا إذَا سَلَّمْنَا أن الاجتهادَ بالرأْيِّ غير منحصر في القياسِ، بل يشمله وغيره، فَهُوَ إذَنْ فردٌ منه وداخل فيه، فالاجتهادُ بعمومه مُتَنَاوِلٌ لَهُ.

قد يَقُولُ قائل: إنَّ الحديثَ خَبَرُ آحَادٍ، فلا يفيدُ إلَّا الظَّنَّ ومثله لا يكفي في إثبات الأُصُولِ.

(1)

أخرجه أحمد في المسند 5/ 230، وأخرجه الدارمي في السنن 1/ 60، "المقدمة" باب "الفتيا وما فيه من الشدة"، وأخرجه أبو داود في السنن 4/ 18، "كتاب الأقضية" 18، باب اجتهاد الرأي 11، الحديث 3592 واللفظ له، وأخرجه الترمذي في السنن 3/ 616، "كتاب الأحكام" 13، "باب ما جاء في القاضي" 3، الحديث 1327.

ص: 177

قال مُحِبُّ الدِّينِ الهنديُّ في "مُسَلَّمِ الثُّبُوت": إنَّه خبرٌ مشهورٌ يفيد الطمأنينة، وهو فوق ظَنِّ الآحَادِ؛ لأنَّه يقين بالمعنى الأَعَمِّ المذكور وَبِمِثْلِهِ يصحُّ إثباتُ الأصلِ.

وقد ورد في السنَّةِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ أن الصحابة - رضوان اللّهِ عليهم - قدِ اجتهدُوا في كثيرٍ من الأحْكَامِ في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم ذلك، فَمِنْ ذلك أنه أمرهم أنْ يُصَلُّوا العصر في بَنِي قُرَيْظَةَ فاجتهد بعضهم، وصلاها في الطريق وقالوا: لَمْ يُرِدْ مِنَّا التَّأْخِيرَ، وإنَّمَا أراد سرعَةَ النُّهوضِ، فنظروا إلى المعنى، وهؤلاء سلفُ أصحاب المَعَاني والقِيَاسِ، واجتهد البعض الثاني، وأخَّرُوها إلى بَنِي قُرَيْظَةَ فصلوها ليلًا فَنَظَرُوا إلى اللَّفْظِ، وهؤلاء سلفُ أهل الظَّاهِرِ، أيْضًا اجتهد الصحابيان اللَّذَانِ خرجا في سفرٍ فحَضَرَتِ الصَّلاةُ وليس معهما ماءٌ فصَلَّيَا، ثم وَجَدَا الماء في الوقت فأعاد أحدهما، ولم يُعِدِ الآخرُ فصوَّبَهُمَا النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لِلَّذِي لم يُعِدْ:"أصبتَ السنَّة، وأجزأَتْكَ صلاتُكَ" وقال للآخر: "لكَ الأجرُ مرَّتين".

ولما قاس مُجَزِّز المدْلِجِيُّ وقَافَ، وحكم بِقِيَافَتِهِ على أن أقدام زيدٍ وأُسَامَة ابنه بعضها من بعض، سُرَّ بذلك رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَرِقَتْ أسَارِيرُ وَجْهِهِ من صِحَّةِ هذا القياس، وموافقته للحق، وكان زيدٌ أبيضَ وابنُه أسامة أسْودَ فألحق مُجَزِّزٌ المدْلِجِيُّ الفَرع بأصله ولم يَعْتَبِرْ وَصْفَي السَّوَادِ، والبياضِ: اللَّذَيْنِ لا تأثير لهما في الحُكْمِ.

‌أَدِلَّةُ الْإِجْمَاعِ:

لقد كان أصحابُ رسولِ االله صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُونَ في النوازِلِ، كما كانوا يَقِيسُون بعضَ الأَحْكَامِ على بَعْضٍ فيما لم يجدوا فيه نصًّا من الكتابِ والسُّنَّةِ، وكانوا يعتبرُونَ النظيرَ بِنَظيرِهِ، وقد تواتَرَ ذلك عنهم، وإِنْ كانت تفاصيلُ أعمالهم آحادًا، فإِنَّ الْقَدْرَ المُشْتَرَكَ متواترٌ، والعادةُ قاضِيَةٌ في مثله بوجود القاطع بِحجِيَّتِهِ والعلم به، فَهذا استدلالٌ في الحقيقةِ بالقاطِع الَّذي كان عِنْدَهُمْ وعملهمِ شائعًا ذَائِعًا دليلٌ عليه، وقد شَاعَ بينهم الاحْتِجَاجُ به، والمباحَثَةُ والتَّرْجِيحُ فيه عند المعارَضَةِ بلا نكير من واحد منهم، والعادَةُ تَقْضِي بأن السكوت في مثله من الأصول العامة المُلْزِمَةِ لِلْعَمَلِ بِهَا، وهذا استدلال بنفس إجماعهم على الحُجِيَّةِ، فإنَّهُم عملوا بِهِ، واسْتَدلُّوا به من غير نَكِيرٍ.

فمن ذلك: عُدُولُ الصَّحابةِ - رضي الله تعالى عنهم - إلى رَأْيِ أبي بكرٍ الصدِّيق

ص: 178

رضي الله تعالى عنه في قِتَالِ بني حَنِيفَةَ على أخذ الزكاة منهم، حيث كان الصَّحابة رضي الله عنهم مختلفين، فمنهم من يرى المُسَالَمَة لقُرْبِ موت النبي صلى الله عليه وسلم، وانْكِسَارٍ في المسلمين حصل بسببه، ومنهم من يرى القِتَالَ عليها قياسًا على الصَّلَاةِ؛ لئلَّا يُحَسَّ منهم بالضعف والانْكِسَارِ فَيُطْمَع فيهم، وكان مِمَّنْ يرى القتال: أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فرجَعُوا إليه وسَلَّمُوا قياسَه، وَرُوِيَ عنه أنه قال:"والله لأُقَاتلنَّ مَنْ فَرَّق بينَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ" رواهُ الشَّيخان.

ويعتبر هذا إجماعًا منهم على حُجيَّةِ القياسِ كما وَرَّثَ الصدِّيقُ رضي الله عنه أُمّ الأُمِّ دون أُمِّ الأَبِ فقيل له: تركتَ الَّتي لو كانت هي الميتة لَوَرثَ ابْنُ ابنِهَا الْكُلَّ، فشركَها في السُّدسِ على السَّواء، ووَرَّثَ عمرُ رضي الله عنه المطلقة ثلاثًا في مرض زوجها مرض الموت قِيَاسًا على الفارِّ، كما رَجَع رضي الله عنه في مَسْألَةِ قتلِ الجَمَاعَةِ بالواحِدِ إلى رأي علي - كرَّم الله وجهَهُ - حين قال له: أَرَأَيْتَ لو اشترك نفرٌ في السَّرِقَةِ أكنت تَقْطَعهُمْ فقال: نعم، فقال: هكذا هنا ففيه قياس قتل الجماعة بالواحد على قطع الجماعة الذين اشتركوا في السَّرِقَةِ.

وقال عثمان رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: إِنِ اتَّبَعْتَ رأيك فَسَدِيدٌ، وإن تتبع رأي من قبلك فنِعْمَ الرَّأْي، فقد جوز العمل بالرأي، وقاس علي - كرَّم اللَّهُ وجههُ - الشَّارِبَ على القاذِفِ في الحدِّ وأجمعُوا عليه.

قال الزُّهْرِيُّ: أخبرني حميدُ بنُ عبد الرحمن بنِ عوفٍ عن وبرة الصَّلْتِيِّ قال: بعثني خالدُ بنُ الوليدِ إلى عمَرَ فأتيته، وعنده علي وطلحة، والزُّبير، وعبد الرحمن بن عوف متَّكِئُونَ في المسجِدِ فقلت له: إن خالِدَ بنَ الوليدِ يقرأ عليكَ السَّلامَ ويقول لك: إن النَّاسَ قد انْبَسَطُوا في الخَمْرِ وتَحَاقَرُوا العقوبَةَ فما ترى؟ فقال عُمَرُ: هم هؤلاء عندك قال: فقال علي: أَرَاهُ إذا سَكِرَ هذى وإذا هَذى افْتَرَى وعلى المفتري ثَمَانُونَ فاجْتَمَعُوا على ذلك فقال عُمَرُ: بلِّغ صاحبَكَ ما قالوا، فضرب خالدٌ ثمانين وضرب عمر ثمانين، ومن ذلك قول عَلِيٍّ - كرَّم الله وجهَهُ -: اجتمع رأيي ورأيُ عمرَ رضي الله عنه في أُمَّهاتِ الأولاد ألَّا يبَعْنَ ثمَّ رأيت بيعهن، فقال له قاضيه عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: يا أميرَ المُؤْمِنِينَ رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وَحْدَكَ، فقد جوز العمل بالرأي، ومن ذلك أنَّهُمُ اختلفُوا في توريثِ الجَدِّ مع الإخوَةِ بالرَّأْي، حيث روى الإمام أبُو حنيفَة في مسنده عن أمير المؤمنين

ص: 179

عَلِيٍّ - كرَّم اللَّهُ وجهه - قال لعمر رضي الله عنه حين شَاورَ في الجَدِّ مع الإخوة أنه قال: أرأيت يا أميرَ المؤمنين لو أن شجَرَةً نَبَتَتْ فَانْشَعَبَ منها غصن، فانشعب من الغصن غصنان أيهما أقرب من أحد الغصنين أصاحبه الذي خرج منه أم الشجرة؟.

وقال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لو أن جَدْولًا انبعث منه ساقية، ثم انبعث من السَّاقِيَة ساقيتان أَيُّهُما أَقْرَبُ إحدى الساقيتين إلى صاحِبَتِهَا أَمِ الجَدْوَل، ومقصودهما بذلك توريث الأَخِ مع الجَدِّ قِياسًا على توريث العصباتِ الأخيرين بجامع القُرْبِ في القَرَابةِ والشَّجَرَة والجَدْوَل تمثيل لِقُرْبِ القَرَابَةِ.

وذهب عُمَرُ رضي الله عنه إلى أَنَّ الجَدَّ أولى بالمِيرَاثِ من الإخْوَةِ، ويقول: واللهِ لو أنِّي قضيته الْيَوْمَ لبعضهم لقضيت به لِلْجَدِّ كله، وَلكِنْ لَعَلِّي لا أُخَيِّب منهم أحدًا، ولَعَلَّهُمْ أن يكونوا كُلُّهُم ذوي حق، فَرَجَعَ إلى هذا الْقِيَاسِ وَوَرَّثَهُم مع الجَدِّ، فيكون توريثهم مع الجَدِّ قياسًا.

يتضح مما تقدم أن الصحابَةَ - رضي الله تعالى عنهم - قَاسُوا الوقائِعَ والأحداث بنظائرها وشَبَّهُوهَا بِأَمْثَالِهَا وَرَدُّوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وبذلك فَتَحُوا للعلماءِ باب الاجتهاد، ونَهَجُوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله.

وهل يَشُكُّ عاقلٌ في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قال: "لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ". إنَّما كان ذلك؛ لأن الغضب يُشَوِّشُ عليه فكره، ويمنعه من كمال الفَهْمِ والإدْرَاكِ ويحولُ بينه وبين استيفاءِ النَّظَرِ والتَّحقيق، وَيُعْمِي عَلَيْهِ طريقَ العلمِ وَالْقَصْدِ، فَإِذَا وجد هذا المعنى في فرد آخر يكون داخلًا في النَّهْى بِالقِيَاسِ وذلك كالهم المزعج، والخوف المقلق والجوع والظمأ الشديدين، وشغل القلب المانع من الفهم، فمن قَصَرَ النَّهْيَ على الغضب دون غيره من كل ما يوجد فيه المعنى الذي لأجله النهي، فقد قَلَّ فَهْمُهُ وَفِقْهُه، وفاته أن التَّعْوِيلَ في الأحكام على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها، وإنَّما هي مقصودة للمعاني، والتوصل بها إلى مَرَادِ المُتكَلِّمِ، فالحديث دَلَّ على الغضب، وليس هو المقصود بالذات وحده حتى لا يلحق به غيره، بل كل ما وجد فيه العلة التي نهي عن الغضب لأجلها كان ملحقًا بِهِ.

ص: 180

‌الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ:

وخُلَاصَتُهُ: أَنَّ المُجْتَهِدَ إِذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ كَوْنُ الحكم في الأصل مُعَلَّلًا بالعلة الفلانية، ثم وجدَ تِلْكَ العِلَّةَ بغينها في الفرع يحصل له بالضَّرُورَةِ ظَنُّ ثبوتِ ذلِكَ الحكم في الفَرْعِ وحُصُولُ الظَنِّ بالشيءِ مُسْتَلْزِمٌ لحُصُولِ الْوَهْمِ بِنَقِيضِهِ، وحِينَئذٍ فَلَا يمكنُهُ أَنْ يَعْمَلَ بالظَنِّ والوَهْمِ لاِسْتِلْزَامِهِ اجتماع النقِيضَيْن، ولا أن يَتْرُكَ العملَ بِهِمَا لاسْتِلْزَامِهِ ارتفاعِ النقيضَيْنِ، ولا أن يَعْمَلَ بالوهْمِ دونَ الظنِّ، لأنَّ العملَ بالمرجوحِ مع وُجُودِ الراجِحِ ممتنعٌ عَقْلًا وشَرْعًا، فتعيَّنَ العملُ بالظَنِّ، ولا معنى لوجُوبِ العَمَلِ بالظَنِّ إلا إثْبَاتُ القياسِ على سبيلِ المِثَالِ: إذا غلبَ على ظنِّ المُجْتَهِدِ أَنَّ حُكْمَ الخَمْرِ معلَّلٌ بالإسْكَارِ، ثم وجد تلك العِلَّة بِعَينِهَا فِي النَّبِيذِ، فإنَّهُ يحصل له بالضرورة ظن ثبوت ذلك الحكم في النبيذ، وحُصُولُ الظَنِّ بثبوت الحكْم في النبيذِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ الوَهْم بِنقيضِهِ، وحنيئِذٍ لا يُمْكِنُهُ أنْ يعملَ بِهِمَا، ولا أن يتْركَ العملَ بهما، ولا أن يعمل بالمرجوح دون الراجح لما تَقَدَّم، فتعيَّنَ العمل بالظنِّ وهو القياس، فَثَبَتَ أن القِيَاسَ حُجَّةٌ من الحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ لاستفادَةِ الأَحْكَامِ.

‌شبه وردٌّ:

اسْتَدَلَّ المَانِعُونَ للقياس بأدلَّةٍ نَقْلِيَّةِ وعقليَّةٍ وتمَسَّكُوِا بِظَاهِرِهَا، فنحن نعرِضُهَا مع الرَدِّ على كل دليل من أدِلَّتِهِمْ، فمن ذلك قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام: الآية 38]، وقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: الآية 89] أي بيانًا لكل ما شرع لكم مما يَنْفَعُكُم في أمرِ دِينِكُم ودنياكم فكلُّ شيءٍ مشروع في الكتاب، وما ليس مشروعًا فيه، فيبقى على النفي الأَصْلِيِّ، وحينئذٍ يكون إثباتُ القِيَاسِ بما ليس في كِتَابِ اللهِ، فيكونُ مُنَافيًا للشرع، فلا يصحُّ العملُ بِهِ.

والجواب على ذلك أن المُرَادَ بِالكِتَابِ اللَّوْح المحْفُوظ، وهو مُشْتَمِلٌ على كل شَيْءٍ، والقياسُ شيء من تلك الأشْيَاءِ التي ذكرت فيه.

أَوْ يُرَادُ من الكِتَابِ اللَّفظ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ، وَأَن مَا ثَبَتَ بالقياسِ مضاف إلى الكتاب لأن القِيَاسَ مُنَزَّلٌ في كتاب الله نصًا، أو دِلالَةً ذلك أنه نظير الاعتبار المأمور به في قوله تعالى:{فَاعْتَبِرُوا} ، فالعمل بالقياس عمل بالكتاب في الحقيقَةِ، أو لأن الكتاب دَلَّ على وُجُوب قَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا

ص: 181

نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر: الآية 7] وقول الرسول دلَّ على حُجِيَّةِ الْقِيَاسِ، فكان كتاب الله دالًّا على حجيَّةِ القِيَاسِ، فالقرآنُ نَزَلَ تِبْيانًا لكل شَيْءٍ لكن إجمالًا لا تفصيلًا؛ لانْعِدَامِ تفصيل الكُلِّ فيه قطعًا فيفصل بالاجتهاد.

وعليه فالمُرَادُ بما تقدم أن الكتاب بيانٌ لكل شيءٍ، وذلك إمَّا بدلائل ألفاظه من غير واسطة، وإمَّا بواسطة الاستنباط منه، أو دلالته على السُّنَّةِ والإجْمَاعِ الدالين على اعتبار القياس، فالعَمَلُ بالقياسِ عمل بما بَيَّنَهُ الكتاب لا أنه خَارِجٌ عنه، ومنها قوله تعالى:{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء: الآية 59]. فهو صريحٌ في أن الرَّد لا يكون إلا للكتابِ والسُّنَّةِ لا إلى الرأي، وحينئذٍ يكون القياس باطلًا؛ لأنه تشريعٌ بالرأي فلم يتحقق الردُّ إلى الكتابِ والسُّنَّةِ.

والجواب على ذلك أنَّا لا نرده إلى مجرَّدِ الرأي كما زعم المعترض، وإنَّما نرده إلى العِلَلِ المستنبطة من نصوص الكتابِ والسُّنَّةِ والقياس عبارة عن تفهم مَعَانِي النُّصوصِ بتجريدِ مناطِ الحكم وحذف الحَشْوِ الذي لا أثر له في الحكم، فحينئذٍ يَكُونُ الرَدُّ إلى القِيَاسِ ردًّا إلى الكتاب، أو السُّنَّةِ.

وممَّا استدلَّ به المُنْكِرُونَ للقياسِ من طريقِ العَقْلِ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ، منها لا نُسَلِّمُ أن أحدًا من الصَّحَابَةِ استعمل القياسَ لإثبات حكم من الأحكام، وما نَقَلْتُم أخبار آحاد لا تفيد القطع، فيجوزُ عدمُ صِحَّةِ ذلك النقل، ومنها أن ما نقلتم عنهم من الأَخْبَارِ الدَّالَّةِ على استعمالهم القياس لا تَدُلُّ دلالة واضحة على كون فتواهم بالقياس، بل يجوز أن يكون عندهم نصوص جلية، أو خفية لم يذكروها، ولئن سَلَّمْنا فتواهم بالقياس، فإنَّ الأَقْيِسَة التي استعملوها جزئية لا تدل على صحة الاستدلال بجميع الأقيسة.

وجوابنا عن ذلك أن المنقولات وإن كانت كل واحد منها أخبار آحاد إلَّا أن الْقَدْرَ المُشْتَرَكَ بينهما وهو الفتوى بالقياس وكون عادتهم ذلك متواترًا يحدث العلم به بكثرة مطالعة أقضيتهم وتواريخهم، وعلم أيضًا من تكرَّر عملهم بالأقيسة أنه لم يكن بخصوص نَوْعٍ أو فرد، وعلم أيضًا بقرائن قاطعة للناقلين أنَّهُ لم يكن عندهم نصٌّ، والعادَةُ تقضي بأنه لو كان عندهم نصٌّ استدلوا به في فَتَاوِيهِم لكانوا أظهروه، وحصل لَنا علم به مقدم ظهور نَصٍّ في فتاويهم دَلِيلٌ على أنهم كانوا يستعملون القياس لإثبات الأحكام.

وعليه يَثْبُتُ أن القياسَ حجةٌ شرعية لإثبات الأحكام. ومن أدِّلَتِهِم أيْضًا أن العمل

ص: 182

بالقياس، وإن ثبت عن بعض الصَّحابة، لكن لا يلزمُ منه الإجْماع، وإنَّما يلزم لو تحقق أن سكوتهم كان عَنْ رضًا لِمَ لا يجوز أنْ يَكُونَ سكوتهم عن خَوْفٍ.

وفي هذا يقول النَّظَامُ: إنه لم يعمل به إلا عددٌ قليل من الصَّحابة ولما كان مثل أمير المؤمنين عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه وعثمان وعلي رضي الله عنهما سلاطين خاف الآخرون من مخالفتهم، لأنَّ العادَةَ جَرَتْ بمعاداة من خالف الأمِيرَ أو السُّلْطَانَ واتَّخَذَ قَوْلَهُ مذهبًا لنفسه.

وجوابُنَا على ذلك أن تَكَرُّرَ السُّكُوتِ في وقائع كثيرة لا تحصى لا يكون عادةً إلا عن رِضَاء، لا سِيَّمَا فيما هو أصْلٌ من أصولِ الدِّينِ، فهذا السُّكُوتُ سِرًّا وعلانيَّة من كُلِّ أحَدٍ في كل واقعة والتزامهم أحكام الخلفاء الراشدين يفيد علمًا ضروريًّا بالرِّضَاءِ والوِفَاقِ، وتوهم نسبة الخوف إلى من يخالِفُهُم كَذِب وبُهْتَان، فإنَّ مِنْ أخلاقهم الكريمَةِ المُتَوَاتِرَةِ عنهم أنَّهُم كَانُوا لا يخافون في أمر ديني من أحد خُصُوصًا إذا بَقِيَ معمولًا به مُدَّةً طويلة، ونسبة المعاداة إلى الخلفاء الرَّاشِدِينَ لمن خالفهم واتَّخذ قولًا مذهبًا حَمَاقَة عظيمة، وكيف يُعْقَلُ أن الصَّحابة - رضوان الله عليهم - خُصُوصًا الخُلَفاء الرَّاشِدِينَ أنَّهُم يُعَادُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيما اتَّخَذُوه مَذْهَبًا فَإِنَّهُم كانُوا يُنِيبُونَ لِلْحَقِّ وَيَرْجعُونَ إلى الصَّوَابِ، ومن تتبع الآثار والتواريخ أدرك بلا شك أن كثيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم كانوا يخالفون قَوْلَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إذا ظَهَرَ لَهم شَيءٌ خلاف ما يقولون، فلا يُبَالُونَ بقول الحق، ولا يخافون في الله لَوْمَةَ لائم، وإذا لم يكن خوف في المخالفة في وقائع متعددة، فأيُّ خوف لهم في واقعة واحدة. ونختم هذا بقول المُزَنيِّ:"إنَّ الفقهاءَ من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يَوْمِنَا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في الأحكام، قال: وأجْمَعُوا على أن نظيرَ الحقِّ حق، ونظير الباطل بَاطِلٌ، فلا يجوز لأحد إنْكَارُ القياس؛ لأنه التشبيهُ بالأُمُورِ والتمثيلُ عليها".

‌النَّسْخُ

لا يخفى على كل مُتَأَمِّلٍ أن القوانين الَّتي وضعها البَشَرُ لا تفي بحاجيات الإنسان المُلِحَّةِ والكامِنَةِ فِي نَفْسِهِ، ومن تَفَحَّصَ هذه القوانين، أدْرَكَ - جيدًا - عَدَمَ صلاحيتها لطهارَةِ السَّرائِرِ، والتخلُّقِ بالأخلاقِ الحميدة، والمُثُل الطَّاهِرَةِ؛ كحُبِّ الخَيْرِ، ومساعدةِ

ص: 183

الضعيفِ، والتواضع

إلى غير ذلك من المكارم التي تُؤَدِّي إلى سعادة البَشَر في الدُّنْيَا والآخِرَة، ولا مناصَ للبَشَريَّة الباحِثَةِ عن سِرِّ سعادتها من اتِّبَاعِ طريقٍ آخر مؤدٍّ إلى ما تصبو إليه، وتطمح إلى ارْتِشَافِهِ.

والقوانينُ الإلهيَّةُ هي غايةُ السعادَةِ ومنتهى الكمَالِ، فاللهُ - تعالى - لم يترك هذا الإنسانَ في هذه الدُّنيا هملًا يَسِيرُ على غير هُدًى، بل أوضح له طرق الخيرِ وطرق الشرّ، بإرسال الرسل والكتب المُقَدَّسَةِ.

ومن بين هذه الكتب المقدسة القرآنُ الكريم، ومن سنن رسله سُنَّةُ سيدنا محمَّد - عليه أفضل الصَّلاة والتَّسليم -.

ولقد جاء التَّشريعُ الإسلاميُّ خاتِمًا لكلّ الرسالات، والأحكام الإلهية؛ لذا زَوَّدَهُ اللهُ بما يضمن بقاءَه، ويحقق خلوده إلى يوم القيامَةِ. والتشريع الإسلامي قائمٌ على خصائصَ ومميزاتٍ تُحَقِّقُ بناءَهُ الشَّامِخَ، وتقيم صَرْحَهُ أبدَ الأزمَانِ والعُصُورِ.

ومن الأُسُس الجليَّة الَّتي ابتنى عليها بناءُ الأحْكامِ الإسلامِيَّةِ في تشريعِ الأوامر والنواهي - مبدأ التدرُّج؛ حتى تتهيأَ النُّفُوسُ للإذعَانِ للأحكامِ الشرعِيَّة؛ فَتَتَقَبَّلَها عن طِيبِ خَاطِرٍ بدون مشقة، أَوْ ضَرَرٍ واقعِ بها. ومشروعية التَّدَرُّجِ في الأَحْكَامِ الإسلامِيَّة اقْتَضَتْها الظُّرُوفُ والملابساتُ الَّتي تزامَنَتْ وَالدَّعْوةَ الإسلامِيَّةَ، فكان مَبْدَأُ التَّدَرُّج علاجًا لمثل هذه الحالات، ثم تَنْتَهِي هذه الأحكامُ بالنَّسْخِ لزوالِ مُقْتَضَيَاتِهَا، حتَّى إذا تمَّت أحكام اللهِ نزولًا بقيت محكمةً إلى يوم الدين.

وبعد أَنْ أَتَمَّ اللهُ شَرْعَهُ؛ بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [سورة المائدة: الآية 3]، دلَّ ذلك على تمام الشريعة وكمالها، فلا يكون هناك تبديل ولا تغيير.

وإليك كلمةً موجزةً عن النسخ، فنقول وبالله التوفيق:

‌النَّسْخُ لُغَةً:

النَّسْخُ يطلق في اللُّغة كما في الصِّحَاحِ، والقَامُوسِ، واللِّسَانِ بمعنى: الإزالة.

ص: 184

يقال: "نسختِ الشمسُ الظلَّ"، أي: أزالته، و"نسخت الريحُ الآثارَ"، أي: أزالتها، وَمِنْهُ: تَنَاسُخُ القُرُونِ والأَزْمِنَةِ، والإزالَةُ هِيَ الإعْدَامُ.

وقد يُطْلَقُ النَّسْخُ بمعنى نَقْلِ الشَّيءِ وتحويله من حالةٍ إلى أخرى، مع بقائه في نفسه.

يقال: "نَسَخْتُ الْكِتَابَ"، أيْ: نقلت ما فيه إلى آخر. ومنه قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة الجاثية: الآية 29]، أي: ننقله في صُحُفِ المَلَائِكَةِ.

ويقال: "وَنَسَخْتُ النَّحْلَ"، أي: نقلتها من خليَّةٍ إلى أخرى، ومنه: المُنَاسَخَاتُ في علم المَوَارِيثِ؛ لانتقالِ المَالِ من وارثٍ إلى وارثٍ، ولكن هُنا تنوعت الآراءُ في أيِّ المعنيين يكونُ لفظُ النَّسْخ حقيقةً، وفي أيِّهِما يكون مجازًا؟. وفيه مذاهبُ حكاها العلامةُ أبو عمرِو بْنُ الحاجِبِ من غير ترجيحٍ، لكن ذهب القاضي أبُو بكرٍ البَاقِلَّانِيُّ ومن تابعه إلى أنه حقيقةٌ فيهما، فاسم النَّسْخِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هذين المعنيين.

وذهب القَفَّالُ الشَّاشِيُّ إلى أنَّه حَقِيقَةٌ في النَّقْلِ والتَّحْوِيلِ. وذهب الإمَامُ الجُوَيْنِيُّ إلى أنه حقيقة في الإزَالَةِ، مجاز في النقل، وَيُعَلِّلُ ذلك بقوله:"لأن النقل أخصُّ من الزَّوالِ"؛ فإن النَّقْلَ إعدام صفة وإحداث أخرى، وأمَّا الزَّوالُ فمطلق الإعدامِ، وكونُ اللَّفظِ حقيقةً في العامِ، مجازًا في الخاصِّ - أَوْلَى من العكسِ؛ لتكثير الفَائِدَةِ.

وقيل في الرَّدِّ على ما ذهب إليه الإمَامُ من التَّعْلِيلِ: لا نسلِّم أن النقلَ أخصُّ من الزَّوَالِ؛ لأن الإزالة على ما قيل هي الإعْدَام، والإعدامُ يستلزمُ زوال صفة الوجود وتجدد أخرى، وهي صِفَةُ العَدَمِ، وهما صفتان مُتَقَابِلَتَانِ، متى انْتَفَتْ إحداهما تحقَّقت الأخرى، وإذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيح، كان القولُ بالاشتراك أشْبَهَ، ولعَلَّ هذا هو دَلِيلُ من قال بالاشتراكِ، اللهمَّ إلَّا أن يقال: مُرادُ الإمامِ تَبَدُّلُ الصِّفَةِ الوجودِيَّةِ بِصِفَةٍ وجودية أخرى؛ فَيَكُونُ النَّقْلُ أخَصَّ، والله أعلم.

‌النَّسْخُ فِي نَظَرِ عُلَمَاءِ الأُصُولِ:

لقد عَرَّفَ عُلَمَاءُ الأصولِ النَّسخَ بتعارِيفَ كثيرةٍ، منها ما هُوَ فاسدٌ، ومنها ما هو صَحِيحٌ.

ص: 185

ونقتصر على تعريفاتٍ ثلاثةٍ، وهي لإمام الحرمين، والغَزَالِيِّ، ولابن الحاجب مع بيان المُخْتَارِ منها:

عَرَّفَهُ إمام الحرمين الجُوَيْنِيُّ بأنه: اللَّفْظُ الدَّالُّ على انْتِفَاءِ شرطِ دوامِ الحكم الأوَّل.

قال القَاضِي عَضُدُ الدِّينِ: ومعناه أن الحُكْمَ كان دَائِمًا في علم الله دوامًا مشروطًا بِشَرْطٍ لا يَعْلَمُهُ إلا هو، وَأَجَلُ الدوام أنْ يَظْهَرَ انتفاء ذلك الشرط لِلْمُكَلَّفِ؛ فَيَنْقَطِعَ الحكم، ويبطلَ دوامُه، وما ذلِكَ إلَّا بتوفيقه تعالى إيَّاه، فإذا قَالَ قولًا دالًّا عليه، فَذلِكَ هو النَّسْخُ.

وأَوْرَدَ على هذا التَّعْرِيفِ جملةً من الاعْتِرَاضَاتِ نذكر أهمها:

منها: أنه فَسَّرَ النَّسْخَ باللَّفْظِ، وهو دَلِيلُ النَّسْخِ، لا هو؛ يقال:"نُسِخَ الحكمُ بالآيَةِ والخَبَرِ".

ومنها: أنه غير مُطَّردٍ؛ لدخول ما ليس بِنَسْخ فيه، وهو قَوْلُ الْعَدْلِ:"نُسِخَ حكم كذا"؛ فإنه لَفْظٌ دالٌّ على ظهورِ انتفاءِ شرط الدوام، وليْسَ بِنَسْخٍ ضَرْورَةً.

ويمكن الجوابُ على هذه الإيرادات:

فَيُجَابُ على الاعْتِرَاضِ الأوَّل: بأنه في التَّعْرِيفِ فسَّر النسخ باللَّفْظِ؛ بأن إطْلَاقَ النَّسْخِ على اللَّفْظِ الدالِّ عليه حقيقةٌ اصطلاحيةٌ؛ فكما أن الحكمَ ليس إلا قولَ الله: "افعل كذا"، فكذا النسخُ ليس إلَّا قول الله:"لا تفعل كذا".

وأمَّا عن قولهم: "إنَّهُ غير مطَّرِدٍ"، فإن قول العَدْل يدل على ذلك القول، أي: قول الله "لا تفعلْ" هو دليل النسخ الدال بالذات لا هو، أي: النَّسْخُ بالذَّات.

وعرَّفه حجة الإسلام الغَزَالِيُّ بـ "الخِطَابِ الدَّالِّ على ارتفاع الحكم الثابتِ بالخطابِ المتقدِّم، على وَجْهٍ لولاه، لكان ثابتًا به مع تراخيه عنه".

وقال في بيانه: "وإنَّما آثَرْنَا لَفْظَ "الخطابِ" على لَفْظِ "النص"؛ ليكون شَاملًا للَّفظ والفَحْوى والمفهوم وكل دليل؛ إذ يجوز النسخ بجميع ذلك".

وإنَّما قيدنا الحد بالخطاب المتقدِّم؛ لأن ابتداء إيجابِ العباداتِ في الشَّرع مزيلٌ لحكُمْ العَقْلِ من براءَةِ الذمَّة، ولا يسمَّى نسخًا؛ لأنه لم يُزِلْ حكمَ خطاب.

ص: 186

وإنَّما قيدنا بارتفاع الحكم، ولم نفيد بارتفاع الأمر والنهي؛ ليعلم جميع أنواع الحكم من النَّدْبِ، والكراهة، والإباحة؛ فجميع ذلك قد ينسخ.

وإنَّما قلنا: "لولاه لكان الحكم ثَابتًا به"؛ لأن حقيقة النَّسْخِ الرفع، فلو لم يكن هذا ثَابِتًا، لم يكن هذا رافعًا؛ لأنه إذا ورد أمر بعبادة مؤقتة، وأمر بعبادة أخرى بَعْد تَصَرُّمِ ذلك الوقتِ، لا يكون الثاني نَاسخًا، فإذا قال:{أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [سورة البقرة: الآية 187]، ثم قال:"في الليل لا تصوموا"، لا يكون ذلك نَسْخًا، وإنَّما قُلْنا مع تراخيه؛ لأنه لو اتَّصَلَ به لكان، بيانًا وإتْمامًا لمعنى الكلام، وتقديرًا له بِمُدَّةٍ أو شَرْطٍ، إنَّما يكون رافعًا إذا ورد بعد أن وَرَدَ الحُكْمُ واسْتَقَرَّ؛ بحيث يدوم لولا النَّاسِخُ.

وتعريفه معتَرَضٌ عليه بأربعة اعتراضات، يُجَابُ عنها بما يُجَابُ على تعريف الإمام، وبرابع يخصه، وهو أن قوله:"عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لكان ثابتًا به مع تراخيه عنه" زيادةٌ لا يحتاج إليها، أما "لولاه لكان ثابتًا به"؛ فلأن الرفع لا يكون إلَّا إذا كان كذلك.

وأمَّا "مع تراخيه عنه"؛ فلأنه لَوْلَاهُ لم يتقررِ الحُكْمُ الأوَّل؛ فَكَانَ دَفْعًا لا رَفْعًا؛ كالتَّخْصِيصِ.

ويجابُ عنه: بأن قوله: "لَوْلَاهُ لكان ثابتًا به": احترازٌ عن قول العَدْلِ: "إن حكم كذا قد نُسِخَ"؛ فإنه وإن كان خطابًا دَالًّا على ارتفاع الحكم، لكنه ليس هو بِحَيْثُ لولاه لكان الحكم ثابتًا في نفس الأَمْرِ، وإنِ اعْتَقَدَ المُكَلَّفُ ثبوته، مع أن دلالة الرفع على ما ذكرَ التزامٌ، ولا يَقْدَحُ في التَّعْرِيفِ التَّصريحُ بما علم التزامًا على أنه، لو أُرِيدَ بالدَّالِّ الدَّالُّ بالذات، اندفعت الثلاثةُ.

وبأن قَوْلَهُ "مع تراخيه عنه"؛ احتراز عن الغَايَةِ ونحوها؛ من المُخَصِّصَاتِ المُتَّصِلَةِ.

وعَرَّفَهُ ابْنُ الحَاجِبِ بأنه: "رفع الحكم الشرعي بِدَلِيلٍ شَرْعِيّ متأخِّرٍ".

فقوله: "رفع الحكم الشَّرْعي"؛ لِيُخرجَ المباح بحكم الأصل؛ فإن رفعه بدليل شرعيٍّ ليس بنسخ.

وقوله: "بدليلٍ شَرْعي"؛ ليخرج رفعه بالمَوْتِ، والنَّوْم، والغفلة، والجنون.

وقوله: "متأخِّر"؛ لِيُخْرجَ نحو "صَلِّ" عِنْدَ كلِّ زوالٍ إلى آخر الشَّهْرِ، ويُعْتَبَرُ تعريف ابْنِ الحَاجِبِ مِنْ أَدَقِّ التَّعَارِيفِ؛ لأنه لا يرد عليه شيء من الاعتراضات السَّالف ذكرُها.

ص: 187

‌النَّسْخُ فِي نَظَرِ الْفُقَهَاءِ:

النَّسْخُ هو: "النَّصُّ الدَّالُّ على انتهاء أمَدِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، مع التأخيرِ عن مورده".

ومعنى ذلك: أن الحكم له غَايَةٌ ينتهي بانْتِهائِها، لكن لما لم تكن تلك الغاية مُبَيَّنَةً بالنصِّ الدَّالِّ على الحكمِ الأوَّل - جاء النصُّ الثَّاني مُتَأَخِّرًا عن ورود الحكم الأول، وَبَيَّنَ تلك الغايةَ.

‌الْفَرْقُ بَيْنَ الاِصْطِلَاحَيْنِ:

إنَّ من تَأَمَّلَ في كلام الفقهاء يجد أن التَّعْرِيفَ عندهم مبنيٌّ على أن الحكم الأول مُؤَقَّتٌ بوقت ظهر فيه الحكم الثاني في علمه تعالى؛ فَلَيْسَ هناك رَفْعٌ، بل إنَّما هو بَيَانُ الأَمَدِ الَّذِي وُقِّتَ به؛ وهذا بخلاف التَّعْرِيفِ عند الأصوليِّين؛ فإنَّهُ مبنيٌّ على أن الحكم الأول غير مُؤَقَّتٍ، بل مُطْلَقٌ ارتفع بالنَّسْخِ؛ فهل بين التعريفين خلاف؟ مذهبان:

الأَوَّلُ: قال ابْنُ الحَاجِبِ: "والخِلَافُ لَفْظِيٌّ"؛ لأن مرادنا بالرفع زوالُ التَّعَلُّق المَظْنُونِ استمرارُه قبل ورود الناسخ، وهو المراد بانْتِهَاء أمد الحكم، وليس الفرارَ إلَيْهِ؛ لأن قِدَمَ الحكم يأبى الرَّفْعَ دون الانتهاء؛ لأن الانتهاء ليس إلَّا عدمَ وجود شيء بعد الأمد؛ وهو الرَّفْع، ويأبى عنه القدم؛ فإذن ليس النسخ إلَّا انتهاء الحكم إلى أمدٍ معين؛ وهُوَ ارتفاع التعلق المَظْنُونِ بقاؤه، فمثله مثل التخصيص، غير أن الأَوَّلَ يكون في الأزمان، والثاني يكون في الأفراد.

قال صَاحِبُ "مُسَلَّم الثُّبُوتِ": "الحقُّ أن الخلاف معنويٌّ"؛ وتحقيقه: أن الخطابَ المطْلق النازل في علمه تعالى، هل كان مقيدًا بالدوام؛ فكان النَّسْخُ رفعًا لهذا الحكم المُقَيَّدِ بالدَّوام، ولا يلزم التكاذب؛ لأن الإنْشَاءَ لا يحتمل الكَذِبَ، وإنَّمَا يرفع الثاني الأوَّلَ، أو كان الخطاب في علمه تعالى مخصَّصًا ببعض الأزمنة؛ وهو الزمان الذي ورد فيه النَّسْخ، لكن لم يَنْزِلِ التَّقْيِيدُ عند نزول المَنْسُوخ، فكان النَّسْخُ بَيانًا لهذا الآن المقيَّد به الحكمُ عند اللهِ تعالى، فالمعرِّف بالرفع ذَهَب إلى الأول، وبيان الأَمَد إلى الثَّاني، والأَوَّلُ: كالقتل عند المعتزلة، والثاني: كالْقَتْلِ عند أهل السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ:

في أن المقتول:

ص: 188

على الأول: قد ارتفعت حَيَاتُهُ بِالْقَتْلِ؛ فلولاه لبقي حَيًّا.

وعلى الثاني: القتل عَلامَةُ مَجِيء الأجَلِ، ولولاهُ لمات؛ لمجيء أجلِهِ.

والحقُّ كما قرره ابنُ الحاجِبِ: أن الخِلافَ لفظي؛ كما هو مبين في مواضع من كتب الأصوليين.

‌مَوْضوُعُ النَّسْخِ:

تنوعت آراءُ الأُصُولِيِّينَ في مَوْضُوعِ النَّسْخِ، فالمذهبُ الذي عليه أئمَّةُ العلماءِ، هو: أن النَّسْخَ إنَّما يكون في المُتَعَبَّدَات؛ لأن لله عز وجل أن يتعبَّد خَلْقَهُ بما شَاءَ إلى أيِّ وقت شاء، ثم يتعبَّدهم بغير ذلك، فيكون النَّسْخُ في الأوامرِ والنَّواهي، وما كان في مَعْنَاهُمَا.

مثل قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [سورة النور: الآية 3]. وقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} [سورة يوسف: الآية 47].

فالأُولى: مِثَالٌ لِلْخَبَرِ الذي بِمَعْنَى النَّهْيِ؛ لأن المعنى: لا تنكحوا زانيةً، ولا مشركةً.

والثانيةُ: مثالٌ للخبر الذي بمعنى الأمر؛ لأنَّ المَعْنى: "ازْرَعُوا"، وهذا المَذْهَبُ عُزِيَ إلى الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ.

والثاني: أن النَّسْخِ كما يكون في الأوامرِ والنَّواهي، يكون في الأَخْبَارِ، وينسب لِعَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، والسُّدِّيِّ، حيث قالا:"قد يَدْخُلُ النَّسْخُ على الأمر والنهي، وعلى جَمِيعِ الأخْبَارِ"، ولم يفصِّلا، وتابعهما على هذا القول جماعة.

قال أَبُو جَعْفَرٍ: "وهذا القَوْلُ عظيم جدًّا يَئُول إلى الكُفْرِ؛ لأن قائلًا لو قال: "قام فلانٌ"، ثمَّ قال: "لَمْ يَقُمْ"، ثم قال: "نسخته"، لكان كاذبًا".

والثَّالث: منهم من ذَهَبَ إلى أنَّ أمر النَّاسِخِ وَالمَنْسُوخِ مَوْكُولٌ إلى الإمامِ، فَلَهُ أن ينسخ ما شَاءَ، وهذا الْقَوْلُ أعظمُ؛ لأن النسخ لم يكن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا بِالْوَحْيِ من الله تعالى: إمَّا بقرآن مثله؛ على قَوْلِ قَوْمٍ، وإمَّا بِوَحْيٍ من غير القرآن، فلما ارْتَفَعَ هذا بموت النبي صلى الله عليه وسلم، ارتفع النَّسْخُ.

ص: 189

والرابع: منهم ذَهَبَ إلى أنَّ النَّسْخَ يكون في الأوامر والنَّوَاهي، وأمَّا الأخبار فَيُفَصَّلُ فيها بين ما فيه حكم؛ فيجوزُ النَّسْخُ فيه، وبين ما لا حكم فيه؛ فلا يَجُوز، والله أعلم.

والخَامِسُ: مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلى أن النَّسْخَ يَكُونُ في الأوَامِرِ والنَّواهِي خَاصَّةً.

وهذا المَذْهَبُ حَكَاهُ هِبَةُ اللهِ بْنُ سَلَامَة عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ.

ص: 190

‌شراح المختصر

لقد نال كتاب "المختصر" للعلامة ابن الحاجب من عناية العلماء أيما عناية وحق له ذلك فقد ألَّفَهُ العلامة الأصولي أبو عمرو بن الحاجب المالكي قال صاحب "كشف الظنون"

(1)

عن المختصر: "هو مختصر غريب في صنعه بديع في فنه، لغاية إيجازه يضاهي الألغاز، وبحسن إيراده يحاكي الإعجاز".

من أجل ذلك اعتنى به العلماء ما بين شارح له شرحًا مطولًا وآخر مختصرًا، كذلك عكف عليه أهل العلم تخريجًا لأحاديثه فكان من ذلك:

‌1 - سلطان العلماء ابن عبد السلام:

"نسبه - شيوخه - مكانته"

عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن مهذب السلمي الدمشقي الشافعي، الملقب بعز الدين المعروف بـ "سلطان العلماء" شيخ الإسلام والمسلمين، إمام عصره بلا مدافع وفريد زمانه بلا منازع.

ولد سنة 577 هـ بـ "دمشق" ونشأ بها وتفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر وقرأ الأصول على الشيخ سيف الدين الآمدي وغيره. وسمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر وشيخ الشيوخ عبد اللطيف بن إسماعيل البغدادي وعمر بن محمد طبرزد وحنبل الرصافي والقاضي عبد الصمد الحرستاني وغيرهم كما تلقى

(1)

ينظر: كشف الظنون 2/ 1853.

ص: 191

على أبي البركات بن إبراهيم الخشوعي. كان ابن عبد السلام عَلمًا من الأعلام شجاعًا في الحق آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر فقيهًا أصوليًا محدثًا خطيبًا واعظًا أديبًا شاعرًا رقيق الحاشية حاضر النادرة مهيبًا محترمًا وقورًا تخشى السلاطين والأمراء صولته وسلطانه. كان خطيب الجامع الأموي وحدث أن السلطان الصالح إسماعيل أعطى الفرنج مدينة صيدا، فغضب ابن عبد السلام وأنكر عليه ذلك فوق المنبر، وترك الدعاء له في الخطبة وخشى السلطان العاقبة فاعتقله ثم طلب منه مغادرة الشام، فذهب إلى مصر فتلقاه الملك الصالح أيوب بالترحيب والإجلال، وأكرمه وولاه لخطبة في الجامع العتيق "جامع عمرو بن العاص" وولاه رياسة القضاء في القطر المصري ما عدا القاهرة، فسار بما عرف عنه من نزاهة وعدالة وجرأة في الحق لا يخشى فيه لومة لائم. فقد حدث أن فخر الدين عنان أستاذ دار السلطان ابتنى دارًا فوق مسجد واتخذها طبلخانه فلما علم ابن عبد السلام بذلك حكم بهدمها ونفذ الهدم وأسقط الباني من وظيفته وعزل نفسه عن القضاء، ولم يستطع السلطان إلا أن ينزل عند رأيه ولم يضعف هذا العمل من منزلته، ولكنه لم يعده إلى القضاء بل بنى له مدرسة الصالحية بشارع بين القصرين ليدرس فيها فعكف على التدريس فيها للشافعية وقصده الطلبة من كل البلاد وتخرج به الأئمة.

"تلامذته"

روى عنه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد، وهو الذي لقب ابن عبد السلام بسلطان العلماء، كما روى عنه الإمام علاء الدين أبو الحسن الباجي والشيخ تاج الدين بن الفركاح والحافظ أبو محمد الدمياطي والعلامة أحمد أبو العباس الدشناوي والعلامة أبو محمد هبة الله القفطي وغيرهم، ومما يدل على علو مقام ابن عبد السلام أن الحافظ عبد العظيم المنذري امتنع عن الفتيا لما استقر المقام لابن عبد السلام في مصر وقال: كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين فيه.

"مصنفاته - وفاته"

أما مصنفاته فكثيرة نفيسة مفيدة منها "الفوائد" و"الغاية" في اختصار النهاية فقه و"القواعد الكبرى" و"القواعد الصغرى" و"الفرق بين الإيمان والإسلام" و"مقاصد الرعاية" و"مختصر صحيح مسلم". و"الإمام في أدلة الأحكام" في أصول الفقه. و"بيان أحوال الناس يوم القيامة" و"بداية السول في تفضيل الرسول"، و"الفتاوى المصرية".

ص: 192

توفي رحمه الله في العاشر من جمادى الأولى سنة 660 بالقاهرة ودفن بالقرافة الكبرى في سفح جبل المقطم، وقد شهد السلطان الظاهر جنازته

(1)

.

‌2 - القاضي البيضاوي:

"نسبه - مكانته - شدته في الحق"

عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي، ويلقب بـ "ناصر الدِّين" ويكنى بـ "أبي الخير"، ويعرف بـ "القاضي".

ولد بالمدينة البيضاء بفارس قرب شيراز وإليها نسب.

كان رحمه الله إمامًا مبرزًا نظارًا خيّرًا صالحًا متعبدًا فقيهًا أصوليًا متكلمًا مفسرًا محدثًا أديبًا نحويًا مفتيًا قاضيًا عادلًا، رحل إلى شيراز وتولى قضاءها مدة ثم صرف عن القضاء لشدته في الحق، فرحل إلى تبريز وأقام بها مدة نشر خلالها العلوم والمعارف وتتلمذ له الكثيرون.

"مؤلفاته - وفاته"

أَلَّف مصنفات عدة تدل على قدم راسخة في التأليف وبراعة فائقة في التصنيف منها: "منهاج الوصول إلى علم الأصول" وقد شرحه أيضًا وهو كتاب تناوله العلماء بالشرح والتعليق وانتفع به الطلاب والعلماء. ومنها كتاب في "شرح مختصر ابن الحاجب" في الأصول أيضًا وكتاب "شرح المطالع" في المنطق و"الإيضاح في أصول الدِّين"، و"طوالع الأنوار" في أصول الدِّين أيضًا و "الغاية القصوى في دراية الفتوى" و"شرح الكافية لابن الحاجب" في النحو و"مختصر الكشاف" في التفسير و"شرح المصابيح" في الحديث و"أنوار التنزيل وأسرار التأويل" المعروف بتفسير البيضاوي و"لب الألباب في علم الإعراب" و"نظام التواريخ" ورسالة في موضوعات العلوم وتعاريفها و"شرح التنبيه" في الفقه في أربعة

(1)

ينظر: ترجمته في تاريخ علماء بغداد ص (104)، وفوات الوفيات 1/ 287 طبقات الشافعية (5/ 80)، البداية والنهاية 13/ 235، النجوم الزاهرة 7/ 208، مرآة الجنان 4/ 153، شذرات الذهب 5/ 301، ذيل مرآة الزمان 1/ 505 و 2/ 175، مفتاح السعادة 2/ 212، ابن قاضي شهبة 2/ 109، ذيل الروضتين (216)، ابن هداية الله (222)، طبقات الأصوليين 1/ 75.

ص: 193

مجلدات، و"شرح المنتخب في الأصول".

توفي رحمه الله بـ "تبريز" سنة 685 على الأرجح

(1)

.

‌3 - ابن دقيق العيد:

"نسبه - نشأته - شيوخه"

محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي المصري القوصي المنشأ، المالكي ثم الشافعي، المعروف بـ "ابن دقيق العيد".

ولد في شعبان سنة 625 بـ "ينبع". وكان والده قد قصد الأقطار الحجازية للحج. وقد طاف به حول الكعبة داعيًا له. وكان والده عالمًا فاضلًا تقيًا شيخًا للسادة المالكية في وقته. فاستجاب الله دعاءه. وقد نشأ ابن دقيق العيد نشأة صالحة مباركة. فما كاد يبلغ الحلم حتى تفقه على والده ثم سمع كثيرًا من شيوخ الحجاز ودمشق والشام ومصر وغيرها. وأحاط بمذهب المالكية. ثم انتقل إلى مذهب الشافعية فأحاط به كذلك.

ومن شيوخه: أحمد بن عبد الدايم، والزين خالد، وأبو الحسن بن المعير "بالياء" وابن رواج الرشيد العطار والزكي المنذري وابن عبد السلام.

"فضائله - وتقواه - ونبوغه"

اشتهر اسمه في حياة مشايخه. وشاع ذكره، واشتهر بالتقوى، حتى لقب بتقي الدين.

قال قطب الدين الحلي: كان ابن دقيق العيد ممن عرف بالعلم والزهد عارفًا بالمذهبين، إمامًا في الأصلين، حافظًا في الحديث وعلومه، يضرب به المثل في ذلك. وكان آية في الإتقان والتحري، شديد الخوف، دائم الذكر، لا ينام من الليل إلا قليلًا يقطعه مطالعة وذكرًا وتهجدًا. وكانت أوقاته كلها معمورة. وكان شفوقًا على المشتغلين بالعلم، كثير البر بهم.

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات الشافعية لابن السبكي (5/ 59)، والبداية والنهاية 13/ 309، مرآة الجنان 4/ 220، والزمان 8/ 748، نفح الطيب 2/ 737، شذرات الذهب 5/ 214، ابن قاضي شهبة 1/ 172، مفتاح السعادة 1/ 436، بغية الوعاة (286)، معجم المؤلفين 6/ 95، طبقات الأصوليين 1/ 11.

ص: 194

وقال البرزالي: إنه مجمع على غزارة علمه، وجودة ذهنه، وتفننه في العلوم واشتغاله بنفسه، وقلة مخالطته مع الدين المتين، والعقل الرصين.

وقال ابن الزملكاني: إنه إمام الأئمة في وقته، وعلامة العلماء في عصره بل ولم يكن من قبله منذ سنين مثله علمًا ودينًا وزهدًا وورعًا، وكان متبحرًا في التفسير والحديث محققًا في المذهبين متقنًا للأصلين والنحو واللغة. وإليه النهاية في التحقيق والتدقيق والغوص على المعاني. أقر له الموافق والمخالف، وعظَّمه الملوك، وكان السلطان لاجين ينزل له عن سريره ويقبل يده.

وقد تخرج عليه كثير من العلماء والأئمة. فقد تولى التدريس بـ "مصر" والشام: وكان درسه حافلًا بالأكابر. درس بالمسجد الشافعي وبالكاملية والفاضلية. وكان الطلبة يرحلون إليه، تولى القضاء بالديار المصرية.

"مصنفاته"

صنف تصانيف كثيرة. منها: "الإمام" و"الإلمام في أحاديث الأحكام"، وشرع في شرحه ولم يكمله. أتى فيهما بالعجائب الدالة على سعة اطلاعه في العلوم خصوصًا علوم الاستنباط. وله مقدمة للمطرزي في أصول الفقه. وشرح بعض مختصر ابن الحاجب في الفقه المالكي وفي الأصول، وشرح كتاب العمدة في الأحكام. وله ديوان خطب، وله أربعون حديثًا.

"وفاته"

توفي رحمه الله في صفر سنة 702 هـ بـ "القاهرة" ودفن بالقرافة الصغرى

(1)

.

‌4 - عبد العزيز الطوسي:

"نسبه"

عبد العزيز بن محمد بن علي الطوسي. الملقب بـ "ضياء الدين" المكنى بأبي محمد

(1)

ينظر: طبقات السبكي 6/ 2، الإسنوي 336، البداية والنهاية 14/ 27، تاريخ ابن الوردي 2/ 252، فوات الوفيات 2/ 244، الوافي بالوفيات 4/ 193، مرآة الجنان 4/ 236، الدرر الكامنة 4/ 91، البدر الطالع 2/ 229، النجوم الزاهرة 8/ 206، ابن قاضي شهبة 1/ 229، تذكرة الحافظ 4/ 1481، الطالع السعيد 333، شذرات الذهب 6/ 5، مفتاح السعادة 2/ 219، معجم المؤلفين 11/ 70، طبقات الأصوليين 2/ 106.

ص: 195

الفقيه الشافعي الأصولي. كان إمامًا بارعًا في العلوم الدينية والنظرية. تولى بـ "دمشق" التدريس بالنجيبية، وكان معيدًا بالناصرية وبرع عليه كثير من الطلاب الممتازين، وقد كان مهيبًا من الحكام والأمراء والأعيان.

"مؤلفاته"

ومن مصنفاته: "مصباح الحاوي، ومفتاح الفتاوى" شرح به الحاوي الصغير للقزويني وله شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول.

"وفاته"

توفي رحمه الله بـ "دمشق" سنة 706 هـ ودفن بمقابر الصوفية

(1)

.

‌5 - القطب الشيرازي:

"نسبه - شيوخه - مكانته"

محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي الشيرازي، الملقب بقطب الدين الفقيه الشافعي، العلامة الأصولي، النحوي، البلاغي، المحدث الفيلسوف الحكيم المفسر، المنطقي الصوفي.

ولد بـ "شيراز" سنة 634 هـ وكان أبوه طبيبًا فأخذ عنه الطب، كما قرأ على عمه وعلى الزكي الركشاوي، والشمس الكتبي، ثم سافر إلى النصير الطوسي وأخذ عنه. وبرع في العلوم والفنون. وكان كلما دخل بلدًا أو قطرًا أكرمه أهله ووضعوه في المكان اللائق به، دخل بلاد الروم فأكرمه أميرها وولاه قضاء سيواس وملطية ودخل الشام فأكرمه وليها وولاه التدريس ودخل دمشق فدرس فيها الكشاف والقانون لابن سينا. ودخل مصر فأجلَّه أهلها. ثم سكن تبريز وقرأ بها العلوم العقلية.

"غناه وكرمه وفضائله وأخلاقه"

تتلمذ له الكثيرون. فكان يصلهم برفده. ويغدق عليهم من تراثه؛ إذ كان دخله في

(1)

ينظر: طبقات الشافعية لابن السبكي 6/ 125، وابن قاضي شهبة 1/ 217، البداية لابن كثير 14/ 43، مرآة الجنان 4/ 166، النجوم الزاهرة 8/ 225، شذرات ابن العماد 6/ 14، الدارس 1/ 471، طبقات الأصوليين 2/ 108.

ص: 196

العام ثلاثين ألف درهم، وكان لا يدخر منها شيئًا. وقد قصده مرة صفي الدين المطرب فوصله بألفي درهم، وكان كثير المخالطة للملوك متحرزًا من الدنايا، ظريفًا مزاحًا في غير إسفاف ولا مجون، لا يحمل همًا ولا يُرَى منبرمًا من الحادثات. لم يغير زي الصوفية في عصره.

وكان يجيد لعب الشطرنج ويديمه حتى في أوقات اعتكافه، وكان يضرب بالرباب، متواضعًا للفقراء، وكان ظريفًا في تدريسه، يقبل عليه التلاميذ بشغف؛ لأنه كان يرفه عنهم ببعض نكاته الأديبة، وكان كثير الشفاعات للناس حسن الاعتقاد، غير متشكك ولا مجادل، لا يحب الإطراء. وكان يقول: أتمنى أن لو كنت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن لي سمع ولا بصر رجاء أن يلحظني بنظره. وكان يلقّب عند الفضلاء بالشارح العلامة، وكان من أذكياء العالم في عصره، إذا صنف كانت مسودته مبيضة، وكان يصوم عند التصنيف رياضة للنفس وصفاء لها، وكان شديد الحرص على الصلاة في الجماعة.

"مؤلفاته"

ومن مصنفاته: "شرح مختصر ابن الحاجب" في الأصول، و"شرح مفتاح السكاكي" في البلاغة، و"شرح الكليات" لابن سينا في الحكمة و"شرح الإشراق" للسهروردي. وصنف كتابًا في الحكمة سماه:"غرة التاج". له "نهاية الإدراك وفتح المنان في تفسير القرآن" أربعون مجلدًا.

"وفاته"

توفي رحمه الله سنة 710 هـ في تبريز ودفن بها

(1)

.

‌6 - ركن الدين الأستراباذي:

"نسبه - شيوخه - كرمه"

الحسن بن محمد بن شرف شاه العلوي الحسيني الأستراباذي، الملقب بـ "ركن

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات ابن السبكي 6/ 248، والإسنوي 283، وابن قاضي شهبة 1/ 237، مرآة الجنان 4/ 248، وبغية الوعاة (390)، والدرر الكامنة 4/ 339، البدر الطالع 2/ 299، تاريخ ابن الوردي 6/ 259، النجوم الزاهرة 9/ 213، مفتاح السعادة 1/ 165، هدية العارفين 2/ 406، معجم المؤلفين 12/ 60، طبقات الأصوليين 2/ 113.

ص: 197

الدين" المكنى أبو محمد الفقيه الشافعي، الأصولي، النحوي، المنطقي، المتكلم.

والأستراباذي: نسبة إلى أستراباذ - بفتح الهمز وسكون السين وفتح التاء المثناة من فوق والراء ثم ألف وباء موحدة بعد ألف ثم ذال معجمة - بلدة كبيرة من أعمال طبرستان بين سارية وجرجان.

نشأ بالموصل، وتلقى عن كبار العلماء ومنهم النصير الطوسي. وقد بلغت شهرته الآفاق، وكان مبجلًا عند ولاة الأمور، خصوصًا التتار وكان وجيهًا مهيبًا في تواضع وحلم. تخرج به جماعة من الفضلاء. وكان كريم اليد ينفق مرتبه في وجوه الخير وكان مرتبه كبيرًا.

"مؤلفاته"

أما مؤلفاته فعظيمة النفع، منها:"شرح مختصر ابن الحاجب" في الأصول، وله على "مقدمة ابن الحاجب في النحو" ثلاثة شروح: مطول ومختصر ومتوسط، والأخير هو الذي انتفع به الناس كثيرًا، ومن مؤلفاته. شرحه على الحاوي، وشرحه على المطالع، وشرحه على شمسية المنطق، وشرحه على شمسية أصول الدين.

"وفاته"

توفي رحمه الله سنة 715 هـ بـ "بالموصل" ودفن بها

(1)

.

‌7 - ابن المطهر الشيعي:

"نسبه - مؤلفاته - وفاته"

حسن بن يوسف بن المطهر الحلي العراقي الشيعي، المكنى بـ "أبى منصور" الملقب بـ "جمال الدين". وكان شيخ الروافض في تلك النواحي. نسب إلى الحلة بضم الحاء وهي بلدة بـ "العراق".

وكانت له مصنفات كثيرة تقرب من التسعين. منها "نظم البراهين" في أصول الدين، و"إرشاد الأذهان إلى أحكام الإمام"، و"منتهى المطلب في تحقيق المذهب"، و"تلخيص

(1)

ينظر: طبقات السبكي 6/ 86، ابن قاضي شهبة 1/ 214، الدرر الكامنة 2/ 16، تاريخ ابن الوردي 2/ 263، النجوم الزاهرة 9/ 231، شذرات الذهب 6/ 8، هدية العارفين 1/ 283، طبقات الأصوليين 2/ 118.

ص: 198

المرام في معرفة الأحكام"، و"تحرير الأحكام الشرعية" على مذهب الإمامية، و"استقصاء الاعتبار" في الحديث، و"مصباح الأنوار" حديث، و"نهج الإيمان" في تفسير القرآن، و"مبادي الوصول إلى علم الأصول"، و"نهاية المرام في علم الكلام"، و"تذكرة الفقهاء" و"القواعد والمقاصد" في المنطق والطبيعيات والإلهيات، و"المقامات" في الحكمة ناقش فيه من سبقه من الحكماء و"إيضاح التلبيس من كلام الرئيس" ابن سينا، و"المطالب العلية" في علم العربية، و"منهاج الهداية" في علم الكلام، و"كشف المقال في أحوال الرجال"، و"إيضاح الاشتباه في أسامي الرجال" ونسبهم، و"غاية الوصول، وإيضاح السبل في شرح مختصر منتهى السول والأمل"، وهو شرح على مختصر ابن الحاجب، و"منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة". وقد رد على هذا الكتاب الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية.

وتوفي ابن المطهر سنة 736 هـ

(1)

.

‌8 - إبراهيم الجعبري:

"نسبه - شيوخه"

إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل الجعبري الخليلي المكنى بـ "أبى العباس" الملقب في "بغداد" بـ "تقي الدين" وفي غيرها بـ "برهان الدِّين" المعروف بابن السراج السَّلفي نسبة إلى طريقة السلف ولد بقلعة جعبر على نهر الفرات سنة 640 هـ وتلقى العلم بـ "بغداد" ورحل إلى دمشق وأقام ببلد الخليل وتولى مشيخة العلماء فيها، سمع من الفخر بن البخاري وأجاز له الحافظ يوسف بن خليل وتلقى محمد بن سالم التيجي وإبراهيم بن خليل وتلا بالسبع على أبي الحسن الوجوهي وبالعشر على المنتجب التكريتي، وتبحر في علوم كثيرة فكان إمامًا فقيهًا، شافعيًا، أصوليًا، محدثًا، نحويًا، مؤرخًا، قارئًا، مقرئًا.

"تلاميذه - مصنفاته"

أخذ عنه كثير من العلماء ورحل إلى الناس روى عنه السبكي والذهبي وجماعة كثيرة من الأفاضل. وصنف التصانيف الكثيرة المفيدة منها: "شرح الشاطبية" و"شرح الرائية".

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات الأصوليين 2/ 132، الأعلام 2/ 227، الدرر الكامنة 2/ 71، روضات الجنان 2/ 5، والنجوم الزاهرة 9/ 267، وابن الوردي 2/ 279، وأعيان الشيعة 24/ 277 - 334.

ص: 199

و"شرح التعجيز في الفروع"، و"شرح مقدمة ابن الحاجب في النحو" واختصر مختصره في الأصول، وتبلغ تصانيفه نحو المائة. وله مؤلف في الحديث.

"وفاته"

توفي رحمه الله ببلد الخليل بـ "فلسطين" في شهر رمضان سنة 732 هـ

(1)

.

‌9 - بدر الدين التستري:

"نسبه - منزلته العلمية"

محمد بن أسعد التستري الملقب بـ "بدر الدِّين" الفقيه الشافعي الأصولي المنطقي أصله من تستر مدينة بقرب شيراز، وإليها نُسب، رحل في سبيل العلم والتعليم من بلده إلى قزوين وإلى الديار المصرية وإلى العراق وعنه أخذ الإسنوي وقد كان إمامًا مطلعًا على دقائق العلوم وأسرارها وضع تعاليق تتضمن نكتًا غريبة وقد كان مترفًا يصيف بهمذان للطافة جوّها ويشتي بـ "بغداد" لحرراتها وكان يطلق لرأيه الحرية فنسب إليه الخروج عن رأي الجماعة.

"مصنفاته"

له تصانيف منها "حل عقد التحصيل" في الأصول وشرح على ابن الحاجب وشرح على "منهاج البيضاوي" في الأصول أيضًا وشرح على "المطالع والطوالع في المنطق" و"شرح" على كتاب ابن سينا".

"وفاته"

توفي رحمه الله في سنة 732 هـ بـ "همذان"

(2)

.

(1)

ينظر: طبقات السبكي 6/ 82، ابن قاضي شهبة 2/ 243، البداية لابن كثير 14/ 165، النجوم الزاهرة 9/ 296، غاية النهاية 1/ 21، تاريخ ابن الوردي 2/ 299، بغية الوعاة (184)، الدرر الكامنة 1/ 50، مرآة الجنان 4/ 285، شذرات الذهب 6/ 97، معجم المؤلفين 1/ 69، طبقات الأصوليين 2/ 143.

(2)

ينظر: طبقات الإسنوي (114)، ابن قاضي شهبة 1/ 284، الدرر الكامنة 3/ 383، شذرات الذهب 6/ 2. وتستر من أعظم مدن خوزستان وهي بالضم ثم السكون وفتح التاء الأخرى ينظر: معجم البلدان 2/ 29، طبقات الأصوليين 2/ 142.

ص: 200

‌10 - عبد الله بن علي الكناني الغرناطي:

"نسبه - شيوخه - مكانته"

عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن سَلْمُون الكناني الغرناطي الفقيه المالكي ولد سنة 669 وقرأ على أبي الحسن بن فضيلة وأبي الحسن البلوطي، كما أخذ عن أبي الربيع بن سالم، وأبي طالب المقيلي وابن المرحل وغيرهم، قال الحضرمي: أخذت عنه كثيرًا قراءة وسماعًا وقد كان إمامًا فاضلًا له إحاطة بكثير من العلوم والفنون.

"مؤلفاته"

من مصنقاته "الشافي فيما وقع من الخلاف بين التبصرة والكافي".

"وفاته"

توفي رحمه الله شهيدًا سنة 741 هـ

(1)

.

قال المراغي في "طبقات الأوليين": وأكبر الظن أن كتاب الشافي المذكور آنفًا كتاب من كتب الأصول فقد وجدنا في كشف الظنون أن التبصرة اسم لكتاب في أصول الفقه للشيرازي المتوفى سنة 476 هـ وأن كتابه شرح لمختصر ابن الحاجب في الأصول. قلت: بل هو في فروع المالكية وأن له شرحًا على "المختصر".

‌11 - شمس الدِّين السفاقسي:

"نسبه - شيوخه - تلاميذه"

محمد بن محمد بن إبراهيم السفاقسي الفقيه المالكي المفسر الأصولي النحوي الملقب بـ "شمس الدِّين" أخذ عن كثير من علماء المشرق والمغرب منهم الناصر المشذالي وابن برطلة وأبو حيان، وقد برع في فنون كثيرة وخاصة التفسير، والنحو، والأصول، وعنه أخذ جماعة منهم ابن مرزوق.

"مصنفاته وفاته"

صنف شمس الدين مصنفات قيمة منها إعراب القرآن العظيم المشهور اشترك في

(1)

شجرة النور الزكية (214)، نيل الإبتهاج 1/ 188، كشف الظنون 1/ 130، طبقات الأصوليين 2/ 153، الأعلام 4/ 106.

ص: 201

وضعه أخيه برهان الدين السفاقسي وقد جرداه من "البحر المحيط" لأبي حيان ومن إعرابي أبي البقاء، والسمين فجاء كتابًا وافيًا شافيًا ولشمس الدين أيضًا شرح مختصر ابن الحاجب الأصلي في الأصول "وشرح المقصد الجليل في علم الخليل" نظمه لابن الحاجب في العروض.

توفي رحمه الله في رمضان سنة 744 هـ بمدينة حلب

(1)

.

‌12 - الخَلْخَالي:

"نسبه"

محمد بن مظفر الخطيبي الخلخالي، شمس الدين: عالم بالأدب.

من كتبه "شرح المصابيح" وهو شرح لمصابيح السنة للبغوي، سماه "المفاتيح في حمل المصابيح" و"شرح المختصر" و"شرح المفتاح"، "شرح تلخيص المفتاح".

توفي سنة 745 هـ

(2)

.

‌13 - شمس الدين الأصفهاني:

"نسبه - شيوخه - مكانته"

محمود بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن علي الأصفهاني الملقب بـ "شمس" الدين المكنى بأبي الثناء الفقيه الشافعي الأصولي النحوي الأديب المنطقي الكاتب البارع.

ولد بـ "أصفهان" سنة 674 هـ ونشأ بها واشتغل فيها بالعلم، ومهر وتقدم في كثير من الفنون وقرأ على والده عبد الرحمن، وعلى جمال الدين بن أبي الرجاء وغيرهما، وحج في

(1)

ينظر: الدرر الكامنة 4/ 158، شجرة النور الزكية (209)، طبقات الأصوليين 2/ 157.

(2)

ينظر: الدرر الكامنة 4/ 260، بغية الوعاة (106)، ابن قاضي شهبة 3/ 66، الأعلام 7/ 105، الإسنوي (181) شذرات الذهب 6/ 144، هدية العارفين 2/ 153. معجم المؤلفين 12/ 308، والخلخالي كما في "الدرر" نسبة إلى قرية بنواحي "السلطانية"، والسلطانية: مدينة بالعجم. وفي "التاج " 5/ 160.

ص: 202

سنة 724 هـ، واستفاد من علماء الحرمين، وزار بيت المقدس، ثم توجه إلى دمشق وهناك ظهرت فضائله والتقى بتقي الدين بن تيمية، فلما سمعه ابن تيمية بالغ في تعظيمه حتى قال مرة لتلاميذه: اسكتوا حتى نسمع كلام هذا الفاضل الذي ما دخل البلاد مثله، وكان يلازم الجامع الأموي للتدريس والتلاوة، ودرس بالمدرسة الرواحية وفي سنة 732 هـ أوفد إليه الأمير قوصون الشيخ مجد الدين الإقرائي ليستقدمه إلى مصر فقدم وبنى له قوصون خانقاه. بالقرافة وعينه شيخًا لها واشتهر أمره في مصر ووصفه الإسنوي فقال: كان الأصفهاني بارعًا في العقليات صحيح الاعتقاد محبًا لأهل الصلاح تاركًا التكلف والادعاء.

"مؤلفاته - وفاته"

له مصنفات كثيرة منها "تشييد القواعد في شرح تجريد العقائد" و"مطالع الأنظار شرح طوالع الأنوار" توحيد، و"شرح كافية ابن الحاجب" نحو و"شرح قصيدة الساوي" في العروضر، و"ناظر العين" في المنطق وقد شرحه أيضًا وشرح "بديع النظام" لابن الساعاتي في الأصول وشرح "منهاج البيضاوي" في الأصول أيضًا وله كتاب في التفسير كبير لم يتم، وشرح على المختصر.

توفي رحمه الله بـ "القاهرة" سنة 749 هـ ودفن بها

(1)

.

‌14 - زين الدين العجمي:

"نسبه - مؤلفاته - وفاته "

زين الدين القاضي العجمي الحنفي كان من أئمة الحنفية المبرّزين في الفقه والأصول، تولى القضاء فكان عادلًا ناصرًا للحق لذلك كان يجله أبو سعيد ملك التتار، وقد اشتغل زين الدِّين بالفتيا والتدريس والتصنيف.

ومن مصنفاته "شرح مختصر ابن الحاجب" في الأصول.

توفي رحمه الله سنة 753 هـ

(2)

.

(1)

ينظر: طبقات ابن السبكي 6/ 247، الدرر الكامنة 4/ 327، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 3/ 71، البدر الطالع 2/ 298، بغية الوعاة للسيوطي ص 388، شذرات الذهب 6/ 165، مفتاح السعادة 2/ 49، هدية العارفين 2/ 409، معجم المؤلفين 12/ 173، طبقات الأصوليين 2/ 164.

(2)

ينظر: ترجمته في الفوائد البهية (77)، طبقات الأصوليين 2/ 170.

ص: 203

‌15 - زين الدين الموصلي:

"نسبه - شيوخه - رحلاته "

علي بن الحسين بن القاسم بن منصور بن علي الموصلي الملقب بـ "زين الدِّين" المكنى بأبي الحسن الفقيه الشافعي الأصولي النحوي المقرئ الأديب الشاعر ولد بـ "الموصل" سنة 681 هـ وقرأ القراءات على الواسطي الضرير وأخذ "الشاطبية" عن الشيخ شمس الدِّين بن الوراق، والفقه والأصول عن السيد ركن الدين الأستراباذي، والنحو عن الشمس المعيد، والشمس بن فضل الله الحجْري - بسكون الجيم - التبريزي، ومهذب الدين النحوي، وسمع بعض "جامع الأصول" على التاج ابن بلدجي النحوى، وأجاز له وحج بيت الله الحرام وانتفع من علماء الحجاز، وقدم "دمشق" وأخذ عن فضلائها وسمع من المزي، وزينب بنت الكمال، والساوي، ودخل بغداد وتلقى عن علمائها.

"أخلاقه - مصنفاته - وفاته"

كان لطيف العبارة، طلق اللسان، سهل المأخذ، يتلقى العامة كلامه بالقبول، لما فيه من تواضع ومروءة ومساعدة للفقراء، وقد عكف على التصنيف فشرح "مختصر ابن الحاجب" في الأصول و"البديع لابن الساعاتي" في الأصول أيضًا و"نظم كتاب الحاوي الصغير و"شرح التسهيل" لابن مالك و"شرح المفتاح" للسكاكي.

توفي رحمه الله بـ "الموصل" سنة 755 هـ

(1)

.

‌16 - عضد الدِّين الإيجي:

"نسبه - شيوخه"

عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي الملقب بـ "عضد الدِّين" العلامة الشافعي، الأصولي، المنطقي، المتكلم، الأديب.

ولد بـ "إيج" بكسر الهمزة وسكون الياء ثم جيم. بلدة من أعمال شيراز بـ "فارس".

(1)

ينظر: طبقات ابن السبكي 6/ 145، الدرر الكامنة (3/ 43)، ابن قاضي شهبة 3/ 34، النجوم الزاهرة 10/ 297، البدر الطالع 1/ 442، بغية الوعاة ص (335)، شذرات الذهب 6/ 178، هدية العارفين 1/ 720، معجم المؤلفين 7/ 77، طبقات الأصوليين 2/ 172.

ص: 204

نشأ بها وتعلم على علمائها ثم رحل إلى المدينة السلطانية وأكثر الإقامة بها.

أخذ عن الشيخ تاج الدِّين الهنكي وغيره، ولما ذاعت شهرته أقبلت عليه الدُّنيا فكان كثير المال كبير النفوذ، وكان كثير الإنعام على طلبته جريئًا في الحق قوي الحجة.

"تلاميذه - مؤلفاته"

أخذ عنه جملة من الشيوخ منهم شمس الدِّين الكرماني والتفتازاني والضياء القرمي.

وقامت بينه وبين أمير كرمان مناقشة أدت إلى غضب الأمير عليه فأمر بحبسه في قلعة "دِرَيْمبان" - بكسر ففتح فسكون ثم كسر - ومن أشهر تصانيفه "رسالة في علم الوضع" و"الفوائد الغياثية في المعاني والبيان" و"شرح مختصر ابن الحاجب" في الأصول و"المواقف في أصول الدِّين و"مختصر المواقف" و"أشرف التاريخ".

"وفاته"

توفي رحمه الله سنة 756 هـ وهو محبوس في محنة كرمان

(1)

.

‌17 - محب الدين القونوي:

"نسبه - شيوخه - مكانته"

محمود بن علي بن إسماعيل بن يوسف التبريزي القونوي الملقب بـ "محب الدِّين" المكنى بأبي الثناء الفقيه الشافعي الأصولي النحوى ولد بـ "مصر" سنة 719 هـ وتوفي والده وهو صغير فاشتغل بالعلم وأخذ من مشايخ عصره ومنهم الأصبهاني، وأبو حيان، والجلال القزويني وجدَّ واجتهد حتى صار إمامًا فاضلًا وعالمًا بارعًا اعترف له معاصروه بالتفوق والذكاء.

قال الإسنوي: كان محب الدِّين عالمًا بالفقه وأصوله، فاضلًا في العربية متعبدًا صحيح الذهن قليل الاختلاط بالناس، انتفع به كثيرون وقد أسندت إليه الفتيا والتدريس، وكان يعقد درسه بالشريفية وغيرها وتولى مشيخة الخانقاه الدوادارية.

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات السبكي 6/ 108، الإسنوي (341)، ابن قاضي شهبة 3/ 27، الدرر الكامنة 2/ 322، بغية الوعاة 296، شذرات الذهب 6/ 174، مفتاح السعادة 1/ 169، معجم المؤلفين 5/ 119، البدر الطالع 1/ 326، طبقات الأصوليين 2/ 173.

ص: 205

" مصنفاته - وفاته "

شرع في التصنيف ولكن منيته عاجلته، واشتهر من مصنفاته شرحه على مختصر ابن الحاجب في الأصول، وتصحيحه للحاوي الصغير.

توفي رحمه الله سنة 758 هـ في ربيع الآخر

(1)

‌18 - أبو العباس البجائي:

"نسبه - شيوخه - تلاميذه "

أحمد بن إدريس البجائي المكنى بـ "أبي العباس" الإمام العلامة الفقيه المالكي الأصولي المفسر، والبجائي نسبة إلى بجاية - بكسر الباء الموحدة - مدينة بـ "المغرب".

أخذ العلم من منبعه المعين على شيوخ المغرب وذاع أمره وعرف بالصلاح والتقوى وأقبل الناس عليه، واشتغل بالتعليم والتصنيف، وعنه أخذ أبو زيد بن عبد الرحمن الوغليسي، ويحيى الرهوني، وابن خلدون، كما نقل عنه ابن عرفة، والقلشاني وابن زاغو، وغيرهم.

"مصنفاته - وفاته "

من مؤلفاته شرحه على ابن الحاجب في الأصول.

توفي رحمه الله سنة 760 هـ

(2)

.

‌19 - ابن عسكر البغدادي:

"نسبه - شيوخه - مكانته"

محمد بن عبد الرحمن بن عسكر البغدادي الملقب بشمس الدين، المكني بأبي عبد الله الفقيه المالكي الأصولي النظار المتكلم المنطقي النحوي، ولد سنة 701 هـ وأخذ عن

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات السبكي 6/ 247، الإسنوي (391)، ابن قاضي شهبة 3/ 72، النجوم الزاهرة 10/ 327، الدرر الكامنة 4/ 328، شذرات الذهب 6/ 186، معجم المؤلفين 2/ 181، طبقات الأصوليين 2/ 178.

(2)

ينظر: شجرة النور الزكية (223)، معجم البلدان 2/ 62، طبقات الأصوليين 2/ 181.

ص: 206

والده ونشأ مجدًا مجتهدًا زاهدًا عابدًا عالمًا فاضلًا كاملًا متفننًا في العلوم جامعًا بين المعقول والمنقول، حاملًا لواء مذهب مالك في المعسكر العراقي الحنفي مدافعًا عن أصوله وفروعه، ولي قضاء بغداد كما ولي الحسبة بها، وكانت له هيبة عظيمة، وهمة فائقة عرف بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وحسن العبارة والإفادة فأكب الناس على درسه حينما ولي التدريس بالمدرسة المستنصرية.

"مصنفاته - وفاته"

له مصنفات مفيدة منها "شرح الإرشاد" لوالده في مذهب مالك، و"شرح مختصر ابن الحاجب" في الفقه، و"شرح مختصر ابن الحاجب" أيضًا في "الأصول"، وله تفسير كبير و"تعليقه" في علم الخلاف، وله أجوبة على اعتراضات ابن الحاجب.

توفي رحمه الله سنة 767 هـ

(1)

‌20 - الإمام ابن السبكي:

هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 771 هـ، وهو ما نحن بصدده، وقد أفردنا له ترجمة مستقلة.

‌21 - أبو حامد بهاء الدين السبكي:

"نسبه - شيوخه"

أحمد بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي المكنى بـ "أبي حامد" الملقب بـ "بهاء الدِّين".

ولد سنة 719 هـ وأخذ العلم عن أبيه شيخ الإسلام تقي الدِّين أبي الحسن كما أخذ عن الأصبهاني، وابن القماح، وأبي حيان، وقرأ على التقي الصائغ، واشتغل بالعلوم، ومهر فيها وبرع وهو شاب، وكانت له اليد الطولى في اللسان العربي والمعاني والبيان والفقه والأصول والأدب.

"قضاؤه - تدريسه - إفتاؤه - مكانته"

سمع من الحفاظ الأئمة، وتولى التدريس بالمنصورية، والجامع الطولوني مكان أبيه

(1)

ينظر: الديباج (333)، شجرة النور الزكية 333، طبقات الأصوليين 2/ 187.

ص: 207

حين تولى قضاء "الشام" وتولى تدريس مذهب الشافعي بالمشهد الشافعي وبجامع الحاكم والشيخونية، أول ما بنيت كما تولى الفضاء بـ "الشام" عوضًا عن أخيه. ثم عهد إليه بقضاء مدينة العسكر، والإفتاء بدار العدل والخطابة بالجامع الطولوني، وكان شديدًا في وعظه فغضب من شدته بعض الأمراء فأمر أن يستنيب عنه من يخطب بحضوره فكان لا يخطب إلا إذا غاب ذلك الأمير، وكان غالب المصريرن يحترمونه ويجلونه، لعلمه وجوده وكثرة عطائه، وكانت له خبرة في السعي لدى ولاة الأمور حتى يبلغ أغراضه، وقد كان في العلم بحرًا زاخرًا معروفًا بالوفاء الجم كثير القراءة والعبادة معروفًا بالتقوى والأدب منذ بلغ العشرين وكان كثير الحج والمجاورة لبيت الله.

"مؤلفاته - وفاته"

له من التصانيف "عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح" وشرح مطوق على مختصر ابن الحاجب في الأصول.

توفي رحمه الله بـ "مكة" سنة 773 هـ ودفن بها

(1)

.

‌22 - يحيى الرهوني:

"نسبه - شيوخه - فضائله"

يحيى بن موسى الرهوني الفقيه المالكي الأصولي الأديب المنطقي المتكلم أخذ الفقه عن أبي العباس أحمد بن إدريس البجائي والأصول عن أبي عبد الله الأيلي. كان رحمه الله وقورًا مهيبًا متواضعًا جوادًا مع بسطة في الرزق يؤثر الآخرة على الدنيا جمع بين العلم والفضل، وكان بليغًا حافظًا يقظًا متفننًا مجيدًا لفنون كثيرة ذا دين متين وعقل رصين ثاقب الذهن بارع الاستنباط صدرًا في العلماء حاز الرياسة والحظوة عند الخاصة والعامة، قدم القاهرة واستوطنها وتولى التدريس بالمدرسة المنصورية والخانقاه الشيخونية وحج بيت الله مرتين.

"مؤلفاته - وفاته"

له على مختصر ابن الحاجب الأصولي شرح حسن مفيد انفرد فيه بتحقيق مبانيه

(1)

ينظر: ترجمته في الدرر الكامنة 1/ 210، إنباء الغمر 1/ 21، حسن المحاضرة 1/ 246، البدر الطالع 1/ 81، شذرات الذهب 6/ 226، معجم المؤلفين 2/ 12، 13/ 364، بغية الوعاة (148)، المنهل الصافي 1/ 385، ابن قاضي شهبة 3/ 78، البيت السبكي (60)، طبقات الأصوليين 2/ 196.

ص: 208

ومعانيه وله تقييد على كتاب التهذيب في الفقه تكلم فيه على المذاهب الأربعة ورجح مذهب مالك.

توفي رحمه الله سنة 774 هـ على الأرجح

(1)

.

‌23 - شمس الدين الغماري:

"نسبه - شيوخه - تلاميذه"

محمد الغماري المالكي الملقب بـ "شمس الدين" الفقيه الأصولي أخذ عن شيخه المنوفي وأخذ عنه الشيخ الإسحاقي، وقد كان عالمًا جليلًا مخلصًا في تدريسه وتصنيفه أقبل عليه الطلبة من كل الجهات للانتفاع بعلمه كما اعتنى العلماء بمؤلفاته: حفظًا ودراسة وشرحًا.

"مصنفاته"

من أشهر مؤلفات: شرح مختصر ابن الحاجب الفرعي المسمى بالتوضيح وله مختصر في المذهب أيضًا مشهور بمختصر الغماري، وله شرح على مختصر ابن الحاجب في الأصول يدل على فضله وسعة اطلاعه وله تأليف في المناسك، وشرح على المدونة لم يكمل، ومصنف في مناقب شيخه المنوفي.

"وفاته"

توفي رحمه الله سنة 776 هـ على الأرجح

(2)

.

‌24 - الشيخ خليل:

خليل بن إسحاق بن موسى، ضياء الدين الجندي: فقيه مالكي من أهل مصر كان يلبس زي الجند.

تعلم في القاهرة وولى الإفتاء على مذهب مالك. توفي سنة 776 هـ.

من تصانيفه "المختصر" في الفقه يعرف بـ "مختصر خليل" وقد شرحه كثيرون وترجم إلى

(1)

ينظر: ترجمته في الديباج المذهب 2/ 362، طبقات الأصوليين 2/ 197.

(2)

ينظر: شجرة النور الزكية (223)، طبقات الأصوليين 2/ 200.

ص: 209

الفرنسية "التوضيح" شرح به مختصر ابن الحاجب و"المناسك"، "مخدرات الفهوم في ما يتعلق بالتراجم والعلوم"

(1)

.

‌25 - الحسيني الواسطي:

"نسبه - رحلاته"

محمد بن الحسن بن عبد الله السيد الشريف الحسيني الواسطي الفقيه الشافعي الأصولي المتكلم المحدث ولد سنة 717 هـ، واشتغل في بلاده بالعلم ثم نزح إلى القاهرة فأخذ الحديث وبرع في الفقه والأصول، وصار عالمًا فاضلًا، واشتغل بالتدريس حينًا وتخرج عليه الكثيرون. ثم نزح إلى الشام فنزل بالشامية الجوانية، وعكف على العلم ودرس بـ "الصارمية" أيضًا وأعاد بالشامية البرانية، وكان حسن الحظ بليغ العبارة سلس الأسلوب ينسخ مصنفاته بخطه الحسن.

"مؤلفاته"

من تصانيفه "مختصر الحلية" في الحديث لأبي نُعيم في مجلدات وقد سماه "مجمع الأحباب" وله تفسير كبير، عنى فيه بالكشف عن حقائق القرآن ومراميه وبلاغته وفصاحة مبانيه، وله شرح على مختصر ابن الحاجب في الأصول جمعه من شرح الأصفهاني، وشرح تاج الدين السبكي في أسلوب، سهَّل به مأخذ الأصول وقربه إلى الأذهان والعقول وله كتاب في الرد على الإسنوي.

"وفاته"

توفي رحمه الله بـ "دمشق" سنة 776 هـ ودفن عند مسجد القدم

(2)

.

‌26 - شمس الدين الكرماني:

"نسبه - شيوخه - أخلاقه "

محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني البغدادي الملقب بـ "بشمس الدين" الفقيه

(1)

ينظر: ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 86، حسن المحاضرة 1/ 262، الديباج المذهب (115)، آداب اللغة 3/ 2411.

(2)

ينظر: ترجمته في طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 119، والدرر الكامنة 3/ 420، الأعلام 6/ 319، هدية العارفين 2/ 168، معجم المؤلفين 9/ 198، شذرات الذهب 6/ 244، والدارس 1/ 328، وإنباء الغمر 1/ 128، وبروكلمان 2/ 30، طبقات الأصوليين 2/ 203.

ص: 210

الشافعي المحدث المفسر الأصولي المتكلم الأديب النحوي.

ولد سنة 717 هـ وقرأ على والده بهاء الدين وأخذ عن العضد وغيره، ورحل إلى دمشق ومصر والحجاز وبغداد لأخذ العلم ثم نشره، وقد تبحر في علوم كثيرة حتى فاق أقرانه وتفوق على أهل زمانه.

كان رحمه الله حسن الخلق والخلق منصرفًا عن الدنيا وأبنائها متواضعًا برًا بأهل العلم وحدث له حادث في الرابعة والثلاثين: إذ قد تردى من مكان مرتفع فكان لا يمشي بعد إلا على عصا ومع ذلك فقد كان نشيطًا في تنقلاته ورحلاته حج غير مرة، وسمع بالحرمين من علمائهما، قال ناصر الدين العراقي: إنه التقى به في الحجاز وكان شريف النفس مقبلًا على شأنه.

"مؤلفاته - وفاته"

وله مصنفات كثيرة منها شرحه على البخاري وهو مشهور و"شرح المواقف" و"شرح مختصر ابن الحاجب" في الأصول المسمى بـ "السبعة السيارة" و"شرح الفوائد الغياثية" في المعاني والبيان و"شرح الجواهر ونموذج الكشاف" وحاشية على تفسير البيضاوي وصل فيها إلى سورة يوسف.

توفي رحمه الله وهو قافل من الحج بـ "محلة تون" بروض "مهنا" في المحرم سنة 786 هـ ونقل إلى بغداد فدفن بها بمقبرة أعدها لنفسه بجوار أبي إسحاق الشيرازي

(1)

.

‌27 - البابرتي:

"نسبه - شيوخه - مكانته "

محمد بن محمد بن محمود البابرتي الملقب بـ "أكمل الدِّين" الفقيه الحنفي الأصولي الأديب النحوي المتكلم المفسر.

ولد سنة 714 هـ بـ "بارتا" وإليها نسب وهي ناحية من نواحي بغداد، ثم رحل إلى حلب

(1)

ينظر: ترجمته في الأعلام 8/ 28، وبغية الوعاة 120، والنجوم الزاهرة 11/ 303، والدرر الكامنة 4/ 310، وإنباء الغمر 2/ 182، طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 180، مفتاح السعادة 1/ 170، 2/ 18، هدية العارفين 2/ 172، معجم المؤلفين 12/ 129، طبقات الأصوليين 2/ 210، شذرات الذهب 6/ 294.

ص: 211

في سبيل العلم، وأخذ الفقه عن قوام الدِّين محمد بن محمد الكاكي، والنحو عن أبي حيان النحوي، وسمع الحديث من ابن عبد الهادي والدلاصي، وقد اشتهر أمره وذاع صيته حتى إنه لما قدم إلى مصر عرض عليه القضاء فأبى مرارًا، وقد ولاه الأمير شيخون مشيخة الشيخونية وكان يجله وقد عظمت منزلته بعد ذلك عند الظاهر برقوق، وقد كان البابرتي عالمًا فاضلًا وافر العقل متبحرًا في فنون كثيرة.

"مصنفاته"

من مصنفاته: "العناية" شرح الهداية وشرح تلخيص الجامع الكبير للخلاطي "خ" والعقيدة في التوحيد "خ" وشرح وصية الإمام أبي حنيفة في التوحيد "خ" وشرح تلخيص المعاني في البلاغة، وشرح ألفية ابن معطي في النحو، وحاشية على الكشاف في التفسير، وشرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح على أصول البزدوي في الأصول أيضًا.

"وفاته"

توفي رحمه الله بـ "القاهرة" سنة 786 هـ ودفن بها

(1)

.

‌28 - سعد الدين التفتازاني:

"نسبه - شيوخه - تلاميذه "

مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني الملقب بـ "سَعْدِ الدِّين"، العلامة الشافعي، الأصولي المفسر المتكلم المحدث البلاغي الأديب. ولد بـ "تفتازان" من بلاد خراسان وإليها نسب، أخذ عن القطب والعضد، ونشأ فحلًا في العلوم متبحرًا فيها فكان من محاسن الزمان علمًا من الأعلام اشتهرت تصانيفه في الآفاق فقد كان الشريف الجرجاني في بدء أمره يغترف من بحار تحريره وبلتقط الدرر من تصانيفه وقد رحل إلى "سرخس" وأقام بها حتى أبعده تيمورلنك إلى "سمرقند" فأقبل عليه الطلاب والعلماء يستفيدون من علمه وكان رغم لكنة في لسانه فريد عصره ونسيج وحده.

"مصنفاته"

له مصنفات في علوم شتى منها "التلويح في كشف حقائق التنقيح" في الأصول،

(1)

ينظر: ترجمته في الأعلام 7/ 42، الدرر الكامنة 4/ 250، بدائع الزهور 1/ 261، الفوائد البهية 195، والنجوم الزاهرة 11/ 302، طبقات الأصوليين 2/ 209.

ص: 212

و"تهذيب المنطق والكلام" و"شرح التصريف العزي" في الصرف و"شرح الأربعين النووية" في الحديث، و"شرح على الرسالة الشمسية" في المنطق، و"شرح على العقائد النسفية" في التوحيد و"شرح مقاصد الطالبين" في علم أصول الدين توحيد، و "ضابطة إنتاج الأشكال" في المنطق، و"المطول" في البلاغة و"مختصر المطول"، و"النعم السوابغ في شرح الكلم النوابغ" للزمخشري، و"إرشاد الهادي في النحو" و"حاشية على شرح العضد" على مختصر ابن الحاجب في الأصول.

"وفاته"

توفي رحمه الله بـ "سمرقند" سنة 791 هـ ودفن بها

(1)

،

‌29 - الصرخدي:

"نسبه - شيوخه - رحلاته - مكانته "

محمد بن سلمان بن عبد الله الصرخدي الملقب بـ "شمس الدِّين" المكنى بأبي عبد الله الفقيه الشافعي الأصولي المتكلم الأشعري.

ولد بعد سنة 730 هـ نشأ بـ "صرخد" ورحل إلى "دمشق" في سبيل العلم وأخذ الفقه فيها عن شمس الدين ابن قاضي شهبة والعماد الحباني وعلاء الدين حاجي، وأخذ النحو عن العتابي والأصول عن أكابر رجاله، وتبحر في العلوم، وأحاط بالفنون حتى صار أجمع أهل "دمشق" للمعارف، وأفتى ودرس بالتقوية والكلاسة، وتصدر بالجامع الأموي، وكان ينصر مذهب الأشعري كثيرًا ويرد على اعتراضات الحنابلة عليه ويتصدى لدحضها وكان قلمه أقوى من لسانه في الحجة وإقامة البرهان، وكان حظه من الدنيا قليلًا ومع ذلك فقد كان عفيفًا زاهدًا رغم فقره وكثرة من يعول.

"مصنفاته"

له تصانيف جليلة منها: "شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول" في ثلاثة أجزاء، و"مختصر إعراب السفاقسي"، و"مختصر قواعد العلائي" و"مختصر تمهيد الإسنوي" في الأصول مع زيادات وانتقادات وقد احترق معظم مصنفاته قبل تبييضها.

(1)

ينظر: ترجمته في الأعلام 7/ 219، بغية الوعاة 391، والدرر الكامنة 4/ 350، مفتاح السعادة 1/ 165، آداب اللغة 3/ 235، دائرة المعارف الإسلامية 5/ 339، طبقات الأصوليين 2/ 214.

ص: 213

" وفاته"

توفي رحمه الله بـ "دمشق" سنة 792 هـ بمقبرة باب الصغير بالقرب من تربة معاوية

(1)

.

‌30 - ابن عطاء الله الزبيري:

"نسبه - شيوخه - تلاميذه "

أحمد بن محمد بن عطاء اللّه الزبيري الإسكندري المالكي المشهور بـ "ابن التنسي" المكنى بأبي العباس ينتهي نسبه إلى الزبير بن العوام ولذلك نسب إليه، ولد سنة 745 هـ.

والتنسي: نسبة إلى تنس بفتح التاء والنون مدينة حصينة بالمغرب الأقصى قرب "وهران".

وقد نشأ في بيت علم ورياسة، فقد كان أبوه جمال الدين محمد من كبار الأفاضل واقتدى به ابنه أحمد الذي أخذ العلم عن أعلام العلماء وبرع في ذلك حتى أصبح فقيهًا عارفًا بأصول الأحكام وفروعها، وتولى القضاء بـ "مصر" مدة كبيرة ثم أسند إليه منصب قاضي القضاة، وعنه أخذ البدر الدماميني وأبو مهدي الوانوغي.

"مصنفاته - وفاته"

مؤلفاته تدل على سعة الاطلاع ودقة التفكير فله شرح على التسهيل في النحو وتعليق على مختصر ابن الحاجب في الفقه، وشرح على الكافية في النحو، وشرح على مختصر ابن الحاجب في الأصول

(2)

.

‌31 - ابن الملقن:

"نسبه - نشأته - شيوخه - تلاميذه "

عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد اللّه الملقب بـ "سراج الدين" المكنى بابن

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 164، والدرر الكامنة 3/ 449، معجم المؤلفين 10/ 52، شذرات الذهب 6/ 325، وإنباء الغمر 3/ 48، وهدية العارفين 2/ 174، طبقات الأصوليين 2/ 215.

(2)

شجرة النور الزكية 224، طبقات الأصوليين 3/ 5.

ص: 214

الملقن الأنصاري الشافعي، كان فقيهًا أصوليًّا محدثًا مؤرخًا للرحال، أصله من وادي آش بالأندلس، رحل أبوه نور الدين من الأندلس إلى بلاد الترك وأقرأ أهلها القرآن الكريم، ونال منهم مالًا كثيرًا قدم به إلى القاهرة واستوطنها وولد له بها وتوفي والده وله من العمر سنة واحدة فأوصى والده به إلى الشيخ شرف الدين عيسى المغربي الملقن لكتاب الله بالجامع الطولوني، وكان صالحًا فتزوج بوالدة سراج الدين ورباه فعرف سراج الدين بابن الملقن، وتفقه بالتقي السبكي، والجمال الإسنائي، والكمال النشائي، والعز بن جماعة، وتعلم العربية من أبي حيان والجمال بن هشام والشمس محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ وأخذ القراءات عن البرهان الرشيدي، وقال البرهان الحلبي: إنه اشتغل في كل فن حتى قرأ في كل مذهب كتابًا وأخذ عنه جمع كثير منهم حافظ دمشق ابن ناصر الدين.

"مصنفاته - وفاته"

أربت تآليفه على الثلاثمائة منها "إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال"، و"التذكرة" في علوم الحديث، و"الأعلام بفوائد عمدة الأحكام"، و"إيضاح الارتياب في معرفة ما يشتبه ويتصحف من الأسماء والأنساب" و"التوضيح بشرح الجامع الصحيح"، وشرح كبير للبخاري و"خلاصة البدر المنير في تخريج أحاديث شرح الوجيز" للرافعي، و"خلاصة الفتاوى في تسهيل أسرار الحاوي"، و"عجالة المحتاج على المنهاج"، في فقه الشافعي و"غاية السول في خصائص الرسول" و"طبقات المحدثين " و"طبقات القراء" و"طبقات الشافعية" وله في الأصول "شرح منهاج البيضاوي " و"شرح ابن الحاجب" وقد اشتهر اسمه وطار صيته، وكانت كتابته أكثر من استحضاره، وقد كثر كلام علماء الشام ومصر في حقه حتى قال ابن حجي:"كان لا يستحضر شيئًا ولا يحقق علمًا وغالب تصانيفه كالسرقة من كتب الناس" وقال ابن حجر في حقه: إنه كان موسعًا عليه في الدنيا مديد القامة حسن الصورة يحب المزاح والمداعبة مع ملازمته الاشتغال والكتابة حسن المحاضرة جميل الأخلاق كثير الإنصاف شديد القيام مع أصحابه، وربما اشتهر بابن النحوي، وربما كتب بخطه ذلك وقد كان يغضب حين ندائه بابن الملقن، ولا يكتب هذا اللقب بخطه ولذلك اشتهر به ببلاد اليمن وتغيرت حاله في أخريات أيامه فحجبه ولده نور الدين إلى أن مات في سادس ربيع الأول سنة 804 هـ بالقاهرة ودفن بحوش الصوفية خارج باب النصر

(1)

.

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات ابن قاضي شهبة 4/ 43، الضوء اللامع 6/ 100، الأعلام 5/ 218، وإنباء =

ص: 215

‌32 - تاج الدِّين الدميري:

"نسبه - شيوخه - تلاميذه"

بهرام بن عبد اللّه الدميري الملقب بتاج الدِّين الفقيه المالكي الأصولي النحوي أخذ عن الشيخ خليل والشرف الأهوني، وتبحر في العلوم حتى صار يشار إليه بالبنان، وكان علامة حافظًا محققًا مطلقًا حمل لواء مذهب مالك في مصر وتولى القضاء، وكان محمود السيرة طيب السريرة كما تولى التدريس بالشيخونية وممن أخذ عنه الأقفهسي وعبد الرحمن البكري والشمس البساطي، وكان تدريسه سهل العبارة حسن التعبير والإشارة صحيح النقل حجة ثبتًا.

"مصنفاته - وفاته"

اشتغل بالتصنيف فأظهر قدرة فائقة وعلمًا غزيرًا، ومن مصنفاته ثلاثة شروح على مختصر شيخه خليل كبير ومتوسط وصغير واشتهر المتوسط والصغير، وله "شرح ألفية ابن مالك" وله "شرح الإرشاد" في ستة مجلدات "فقه" وله "الدرة الثمينة" وهي نحو ثلاثة آلاف بيت وشرحها بخطه وله "شرح مختصر ابن الحاجب" الأصلي.

توفي رحمه الله سنة 805 هـ

(1)

.

‌33 - ابن قنفذ:

"نسبه - شيوخه - فضائله "

أحمد بن حسين القسطيني المكنى بـ "أبي العباس" المعروف بـ "ابن الخطيب" وبـ "ابن قنفذ" قاضي قسطينة وإليها نسب، أخذ عن أبي القاسم الشريف السبتي والشريف التلمساني والعيدوسي والوانفيلي، وابن البنا، وابن مرزوق، وابن عرفة، فنشأ فقيهًا محدثًا أديبًا مؤرخًا عرف

= الغمر 5/ 41، ولحظ الألحاظ لابن فهد ص 197، وذيل تذكرة الحافظ للسيوطي ص 369، والبدر الطالع 1/ 508، وشذرات الذهب 7/ 44، وحسن المحاضرة 1/ 249، وهدية العارفين 1/ 791، وبروكلمان 2/ 92، ومعجم المؤلفين 7/ 297، طبقات الأصوليين 3/ 7.

(1)

ينظر: ترجمته في الأعلام 2/ 76، والضوء اللامع 3/ 19، وشذرات الذهب 7/ 49، نيل الابتهاج (101)، حسن المحاضرة 1/ 263، كشف الظنون (1628)، شجرة النور الزكية (239)، رفع الإصر 1/ 155 - 157، والزيتونة 4/ 303، 313، طبقات الأصوليين 3/ 12.

ص: 216

بالصلاح والفضل والتحقيق والتدقيق وهـ حل إلى بلاد المغرب وإفريقية فحصل علومًا جمَّة واستفاد منه الناس.

"تلاميذه - مؤلفاته - وفاته"

تتلمذ له ابن مرزوق الحفيد، وله تآليف مفيدة منها "شرح الرسالة" في مجلدات في الفقه، و"شرح الفية ابن مالك" في النحو "وشرح جمل الخوانجي" و"شرح مختصر ابن الحاجب" في الأصول و"أنوار السعادة في أصول العبادة" و"تيسير المطالب في تعديل الكواكب" و"وسيلة الإسلام بالنبي عليه السلام" وله تاريخ ذيله أبو العباس بن أبي العالية.

توفي رحمه الله سنة 810 هـ

(1)

.

‌34 - السيد الشريف الجرجاني:

"نسبه - شيوخه - منزلته العلمية"

علي بن محمد بن علي المعروف بالسيد الشريف الجرجاني، المكنى بأبي الحسن الحنفي عالم العربية في عصره ولد بـ "جرجان" سنة 740 هـ، وصرف همه في صباه لتحصيل العلوم العربية تلقى على قطب الدين الشيرازي والمولى مبارك شاه وجمال الدين الأقسرائي وشمس الدين محمد الفناري وأكمل الدين البابرتي متنقلًا بين جرجان وهراة وقرمان ومصر ثم توطن شيراز وكان متفردًا في علوم العربية والمنطق عارفًا بالعلوم الشرعية. جرى بينه وبين سعد الدين التفتازاني مباحثات ومحاورات انتصر فيها السيد الجرجاني، وكان الحكم بينهما نعمان الدين الخوارزمي فذاعت شهرته وطار صيته.

"مصنفاته - وفاته "

له مؤلفات كثيرة منها رسالة في النحو بالفارسية مشورة بـ "نحو مير"، وأخرى في الصرف بالفارسية تعرف بـ "صرف مير" ورسالتان في المنطق بالفارسية صغرى وكبرى وشرح مختصر الأبهري الشهير بـ "أسياغوجي" وحاشية. على شرح الشمسية للقطب الرازي وحاشية على شرح المطالع، وتعريفات السيد الجرجاني رتبها على حروف الهجاء وهي مصطلحات

(1)

ينظر: ترجمته في الأعلام 1/ 117، آداب اللغة 3/ 209، الخزانة التيمورية 3/ 248، طبقات الأصوليين 3/ 18.

ص: 217

الفقهاء والفرضيين والمحدثين والمتكلمين والنحاة والصرفيين والمفسرين وغيرهم، وحاشية على شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب، وحاشية على أول تفسير الكشاف، والرسالة الشريفة في آداب البحث ورسالة في أصول الحديث وحاشية على شرح الأيجي لمختصر ابن الحاجب في الأصول "والتوضيح" شرح به التنقيح و"حاشية على التلويح" في الأصول.

توفي رحمه الله بـ "شيراز" سنة 816 هـ

(1)

.

‌35 - ابن جماعة:

"نسبه - شيوخه - تبحره في العلوم"

محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمد بن برهان الدين إبراهيم بن سعد اللّه ابن جماعة الفقيه الشافعي الأصولي المتكلم الجدلي النظار النحوي اللغوي البياني الخلافي الأصولي، الجامع لأشتات العلوم، ولد بـ "ينبع "سنة 759 هـ وانتقل إلى القاهرة فسكنها، اششغل بالعلم على كبر وحفظ القرآن في شهر واحد، وسمع من القلانسي، وأخذ عن السراج الهندي والضياء القرمي والمحب ناظر الجيش والركن القرمي والعلاء السيرامي وجار اللّه، والخطابي، وابن خلدون، والتاج السبكي، وأخيه البهاء، والسراج البلقيني، والعلاء بن الطبيب كما سمع الحديث على جده وعلى الشيخ البياني وغيرهما، وأجاز له أهل عصر من علماء مصر والشام، وقد تبحر في العلوم والفنون، وقد حكى أنه قال أعرف ثلاثين علمًا لا يعرف أهل عصري أسماءها، وقد اشتهر في علوم الفقه والتفسير والحديث وأصول الفقه وأصول الدين والجدل والخلاف والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديم والمنطق والهيئة والحكمة، والتشريح، والطب، والفروسية، والرمح والنشاب والدبوس والنقاف والرمل وصناعة النفط والكيمياء وفنون أخرى، وقد أخذ عنه جماعة منهم الكمال بن الهمام وابن قزيل والشمس القاياتي والمحب بن الافسرائي وابن حجر، وكان رحمه الله يخالط جميع الطبقات، ويحب الدعابة والمفاكهة، ويستحسن النادرة، ولكنه كان لا يسمح لأحد أن يغتاب غيره في مجلسه ولو مزاحًا.

"مؤلفاته - وفاته"

له مؤلفات عدة منها "شرح جمع الجوامع" مع نكت عليه، وثلاث نكت على

(1)

ينظر: ترجمته في الأعلام 7/ 5، مفتاح السعادة 1/ 167، الفوائد البهجة 125، الضوء اللامع 5/ 328، آداب اللغة 3/ 235، طبقات الأصوليين 3/ 20.

ص: 218

مختصر ابن الحاجب، وحاشية على شرح البيضاوي وكلها في الأصول، وحاشية على ألفية ابن مالك، وحاشية على شرح الشافعية للجاربردي، وحاشية على شرح التوضيح لابن هشام، وحاشية على المغني، وثلاثة شروح على القواعد الصغرى، وثلاثة شروح على القواعد الكبرى في النحو، و"مختصر التلخيص"، وحاشية على شرحه للسبكي وثلاث حواش على المطول، وحاشية على المختصر، و"نكت على المهمات"، ونكت على الروضة، و"شرح التبريزي"، وثلاث شروح على منظومة ابن فرج في الحديث وشرح "المنهل الروي في علوم الحديث"، ونكت في اللغة، والأنوار في الطب، والجامع في الطب، ونكت على فصول بقراط، و"فلق الصبح في أحكام الرمح"، "وأوفق الأسباب في الرمي بالنشاب"، و"الأمنية في علم الفروسية".

توفي رحمه الله في جمادي الآخرة سنة 819 هـ

(1)

.

‌36 - الرملي:

"نسبه"

أحمد بن حسين بن حسن بن علي بن أرسلان، أبو العباس، شهاب الدين الرملي فقيه شافعي.

ولد سنة 773 هـ - 1371 م بـ "الرملة" بـ "فلسطين" وانتقل في كبره إلى القدس.

وكان زاهدًا متهجدًا.

"مصنفاته - وفاته"

ومن تصانيفه: "الزبد" منظومة في الفقه، ويقال لها "صفوة الزبد"، "شرح سنن أبي داود"، منظومة في "علم القراءات"، "شرح البخاري" وصل فيه إلى باب الحج، "طبقات الشافعية" وهي تراجم، "تصحيح الحاوي" فقه، "إعراب الألفية" نحو.

توفي سنة 844 هـ

(2)

.

(1)

ينظر: ترجمته في معجم المؤلفين 9/ 111، وحسن المحاضرة 1/ 317، طبقات ابن قاضي شهبة 4/ 49، وإنباء الغمر 7/ 240، والضوء اللامع 7/ 171، وبغية الوعاة ص 25، والبدر الطالع 2/ 147، وشذرات الذهب 7/ 139، الأعلام 6/ 282، طبقات الأصوليين 3/ 22.

(2)

ينظر: ترجمته في الأعلام 1/ 117، الأنس الجليل 2/ 515، والبدر الطالع 1/ 49، شذرات الذهب 7/ 248.

ص: 219

‌37 - ابن زاغو التلمساني:

"نشأته - شيوخه - تلاميذه "

أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن زاغو التلمساني المكنى بأبي العباس الفقيه المالكي المفسر النحوي الفرائضي الأصولي المتصوف المحدث. ولد سنة 782 هـ وأخذ عن سعيد العقياني، والشريف التلمساني وغيرهما وجد واجتهد حتى أصبح حجة محققًا عمدة ثبتًا، واشتهر بالصلاح والتقوى حتى كان يدعي بالولي الصالح والشيخ الكامل والمربي الفاضل، وعنه أخذ جماعة منهم يحيى المازوني والحافظ التنسي وابن زكري وأبو الحسن القلصاوي الذي تكلم في رحلته عن شيخه ابن زاغو وأثنى عليه كثيرًا ولقد كان رجلًا مباركًا منتفعًا بدروسه وتصانيفه.

"مصنفاته - وفاته"

من مولفاته "مقدمة في التفسير"، و"تفسير الفاتحة"، و"منتهى التوضيح في الفرائض"، وشرح لتلخيص والده عبد الرحمن التلمساني، وشرح لحكم ابن عطاء الله السكندري وشرح لمختصر ابن الحاجب الفرعي، وشرح التلمسانية في الفرائض، وشرح لبعض مختصر خليل في الفقه، وشرح لبعض مختصر ابن الحاجب في الأصول.

توفي رحمه الله سنة 845 هـ

(1)

.

‌38 - بدر الدِّين المالكي:

"نسبه - شيوخه - مصنفاته - وفاته"

محمد بن محمد بن محمد بن يحيى بن محمد الملقب بـ "بدر الدين" بن المخلطة المكنى بأبي عبد اللّه، كان فقيهًا بليغًا أصوليًا، تفقه على أبيه وأبي القاسم النويري والبدر التنسي والزين طاهر، ولازم الشمسي في الأصلين والتفسير والمعاني والبيان، وأخذ عن الشمس الشرواني وابن الهمام وسمع عفى ابن حجر، وأذن له في الإفتاء والتدريس وكان يعجب بتحقيقه الشمني وابن الهمام، وحج وجاور وناب في القضاء عن الولي السنباطي ودرس في عدة مدارس، وشرع في شرح مختصر ابن الحاجب فكتب مواضع متعددة،

(1)

ينظر: ترجمته في الأعلام 1/ 227، طبقات الأصوليين 3/ 33، الشجرة الزكية (254).

ص: 220

وكان إمامًا علامة ذكيًا متقنًا جم الفضائل وافر الفضل ذا سياسة ودربة، وتولى قضاء الإسكندرية.

توفي رحمه الله سنة 870 هـ

(1)

.

‌39 - كمال الدين إمام الكاملية:

"نسبه - شيوخه - مصنفاته - وفاته"

محمد بن محمد بن عبد الرحمن الفقيه الشافعي الأصولي الملقب بـ "كمال الدين" المعروف بإمام الكاملية أخذ عن القاياتي وابن الهمام وبرع في العلوم والفنون والتصنيف، ومن عيون مصنفاته شرحان على "منهاج الوصول إلى علم الأصول" أحدهما مطول والآخر مختصر، وقد انتفع بهما الناس ومنها شرح على مختصر ابن الحاجب، وشرح على الورقات في الأصول.

توفي رحمه الله سنة 874 هـ

(2)

‌4 - التريكي التونسي:

"نسبه - شيوخه - مصنفاته - وفاته"

محمد بن أحمد بن إبراهيم التريكي التونسي المكنى بأبي عبد اللّه الفقيه المالكي الأصولي المنطقي الأديب.

التريكي نسبة إلى تريك - بفتح التاء وكسر الراء موضع بـ "اليمن" نشأت به أسرته قبل رحيلها إلى المغرب.

أخذ عن البرزالي وأبي القاسم القسطنطيني وأبي حفص القلشاني وابن عقاب والحافظ ابن حجر وامتدحه الكمال بن الهمام بقوله: إنه معجون فقه.

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات الأصوليين 3/ 41، نيل الابتهاج (320)، الشجرة الزكية 256.

(2)

ينظر: ترجمته في الأعلام 7/ 48، البدر الطالع 2/ 244، ونظم العقيان 163، والضوء اللامع 9/ 93، طبقات الأصوليين 3/ 53.

ص: 221

ومن مؤلفاته "إكمال الأمل على الجمل" شرح به جمل الخوانجي كما شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، والشمسية في المنطق، وقد حج ثم نزل مصر وأقام بها مدة واشتهر صيته فيها.

توفي رحمه الله سنة 894 هـ

(1)

.

‌41 - أبو العباس الربعي:

"نسبه - شيوخه - تلاميذه"

أحمد بن عمر بن هلال الإسكندراني الدمشقي الربعي الملقب بـ "شهاب الدين" المكنى بأبي العباس الفقيه المالكي الأصولي النظار الإمام العالم العامل تفقه على فخر الدِّين بن المخلطة، وأخذ عنه الحديث، وأجازه بسنده عن طريق ابن الحاجب إلى الإمام مالك كما أخذ عن سراج الدِّين المراكشي وزين الدين بن رستم الإسكندري، وتلقى علم الأصول على شمس الدين الأصفهاني والعربية عن أبي حيان.

وقد كان حسن الخط والعبارة ماهرًا في الأصول والفروع، استوطن الإسكندرية ثم رحل إلى دمشق وهناك أخذ عنه محمد بن بُرهان الدِّين بن فرحون وأخوه حسن.

"مصنفاته"

له تآليف: منها: "شرح ابن الحاجب" في الفقه في ثمانية أجزاء و"شرح على مختصره" في الأصول و"شرح على الإشكالات الأربعة" التي في مختصره الأصلي، و"تفسير آية الكرسي" ضمنه فوائد جليلة و"شرح كافية ابن الحاجب".

"وفاته"

توفي رحمه الله سنة 795 هـ

(2)

.

‌42 - خطيب زاده:

"نسبه - شيوخه - مكانته - تلاميذه"

محمد محيي الدين بن تاج الدين إبراهيم بن الخطيب المشهور بـ "خطيب زاده" الفقيه

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات الأصوليين 3/ 57، الشجرة الزكية (260)، نيل الابتهاج (323).

(2)

ينظر: ترجمته في الأعلام 1/ 187، والديباج (82)، وشذرات الذهب 6/ 337، والدرر الكامنة 1/ 232، وكشف الظنون (1921)، طبقات الأصوليين 3/ 218.

ص: 222

الحنفي الأصولي قرأ على أبيه تاج الدين وعلى علاء الدين الطوسي وخضر بك، كان رحمه الله قوي الحجة فصيحًا طلق اللسان جريئًا في الحق مهيبًا معنيًا بدراسة العلوم والتعليم.

وتتلمذ له أحمد بن سليمان بن كمال باشا، ومحيي الدين جلبي الفناري، وعبد الواسع بن خضر، وقد ارتحل في سبيل نشر العلم إلى بلاد فارس والروم، ولما جلس السلطان سليم خان على عرش السلطنة ولاه مدرسة محمود باشا بـ "القسطنطينة" وجعله قاضيًا بعسكر (روم إيلي) ولما تولى السلطان سليمان خان عيّنه قاضيًا للقسطنطينية ولما تقدمت به السن وحيل إلى التقاعد منحه مائة درهم كل يوم ثم ارتحل إلى "كوتاهية" وكان في جميع أدوار حياته معنيًا بالتأليف.

"مؤلفاته - وفاته"

من مؤلفاته "حواش على أوائل شرح الوقاية لصدر الشريعة"، "وحواش على أوائل حاشية السيد على شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول"، ورسالة في بحث الرؤية في التوحيد، وحاشية على أوائل شرح المواقف، ورسالة في فضائل الجهاد.

توفي رحمه الله سنة 901 هـ بـ "كوتاهية" ودفن بها

(1)

.

‌43 - صدر الدين الشيرازي:

"نسبه - شيوخه - تلاميذه"

هو محمد الشيرازي بن غياث الدين منصور الملقب بـ "مير" صدر الدين الفقيه الحنفي الأصولي المنطقي أخذ عن قوام الدين الكلباري وغيره، ونشأ منشأ الفضل والكمال فقد كان والده غياث الدين من سادات مملكة الفرس ومرجع الأشراف والأعيان وقد عنى مير صدر الدين بالتدريس والتصنيف فبنى مدرسة بـ "شيراز" تتلمذ عليه فيها الكثيرون ومنهم ولده غياث الدين منصور الذي سمي باسم جده، وكان مشهورًا في أطراف المملكة العثمانية معروفًا بالتحقيق والتدقيق ماهرًا في علوم الحكمة والرياضة، ومن تلامذته أيضًا عبد الرحمن بن علي المعروف بـ "مؤيد زاده".

"مؤلفاته - وفاته"

كما عنى رحمه الله بالتدريس عنى بالتصنيف ومن مصنفاته النافعة حواش على شرح

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات الأصوليين 3/ 61، الفوائد البهية (204).

ص: 223

التجريد، وحواش على شرح المطالع، وحواش على شرح الشمسية، وتقرير على حاشية الجرجاني على شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وكلها تدل على ذكائه وفطنته وعظيم تبحره في العلوم العقلية والنقلية.

توفي رحمه الله سنة 903 هـ

(1)

.

‌44 - الدواني:

"نسبه - شيوخه - تلاميذه"

محمد بن أسعد الدواني الصديقي الشافعي الملقب بـ "جلال الدين" المنسوب إلى دوان - بفتح الدال وتشديد الواو مفتوحة قرية من قرى كازرون بإقليم من أقاليم فارس - أخذ عن المحبوبي وحسن بن البقال، وأخذ عنه أهل تلك النواحي، وارتحلوا إليه من الروم وخراسان وما وراء النهر وكان عالمًا عاملًا محققًا ولي القضاء بـ "فارس".

"مصنفاته - وفاته"

ألف في كثير من العلوم العقلية والنقلية فمن ذلك أنموذج العلوم، و"تحريف العلم" - و"شرح العقائد العضدية"، وشرح على متن تهذيب المنطق، وله الزوراء في الحكمة، ورسالة في إثبات الواجب، وحاشية على تحرير القواعد المنطقية لقطب الدين الرازي، وحاشية على شرح القوشجي لتجريد الكلام، وحواش على شرح المختصر للعضد في الأصول.

توفي رحمه الله سنة 918 هـ

(2)

.

‌45 - القرافي:

"نسبه - شيوخه - تلاميذه "

محمد بن يحيى بن عمر بن يونس الملقب بـ "بدر الدين" القرافي المالكي المصري القاضي رئيس العلماء في عصره وشيخ المالكية صدر من صدور العلم ذو همة عالية وطلاقة

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات الأصوليين 3/ 62.

(2)

ينظر: ترجمته في طبقات الأصوليين 3/ 64، الفوائد البهية 89، شذرات الذهب 8/ 160، الأعلام 6/ 32، البدر الطالع 2/ 130، النور السافر 133، كشف الظنون 184، آداب اللغة 3/ 103.

ص: 224

لسان وبشاشة وجه مع خلق مرضي. أخذ عن الشيخ الفقيه عبد الرحمن بن علي الأجهوري والزين الجيزي والجمال يوسف ابن القاضي زكريا والنجم الغيطي وأخذ عنه جماعة منهم النور الأجهوري وغيره، ولما بلغ من العلم الذروة ولي قضاء المالكية.

"مؤلفاته - وفاته"

الَّف كتبًا كثيرة مفيدة منها شرح على المختصر، و"القول المأنوس بتحرير ما في القاموس" و"القول المأنوس لشرح مغلق القاموس"، ورسالة في بعض أحكام الوقف، ورسائل في الفقه، و"ذيل الديباج" لابن فرحون، وشرح الموطأ، وله تعليق في الأصول على ابن الحاجب، وكان أديبًا له شعر حسن أثنى عليه جماعة منهم الشهاب الخفاجي.

توفي سنة 1008 هـ.

هذا، وغير ذلك مما يضيق عنه المقام، وكذلك خرج أحاديثه العلامة ابن كثير في "تحفة الطالب"، والزركشي في "المعتبر" وابن عبد الهادي، والحافظ ابن حجر

(1)

.

(1)

ينظر: ترجمته في طبقات الأصوليين 3/ 87، الأعلام 7/ 141، الشجرة الزكية (288)، البدر الطالع 2/ 309، خلاصة الأثر 4/ 258.

ص: 225

‌وصف النسخ

اعتمدنا في كتاب "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" للإمام ابن السبكي على ست نسخ:

الأولى: المحفوظة بمكتبة الأزهر العامرة تحت رقم (1851) إمبابي (48260) أصول فقه تقع في مجلدين الأول (475) ورقة، والثاني (423) ورقة، ومسطرتها (19) سطرًا مكتوبة بخط نسخ واضح بخط الشيخ مصطفى الحكيم ابن الحاج أحمد الحكيم سنة 1304 هـ وهي نسخة كاملة، رمزنا لها بالرمز (أ).

الثانية: المحفوظة بمكتبة الأزهر تحت رقم (455) 12829 أصول فقه تقع في مجلد واحد (601) ورقة مسطرتها (21) سطرًا كتبها سليمان الفيومي بالأزهر الشريف سنة 1325 هـ. وهي نسخة كاملة، رمزنا لها بالرمز (ب).

الثالثة: المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (219) أصول فقه عمومية (27344) تقع في مجلدين الأول (320) ورقة والثاني (319) ورقة ومسطرتها (25) سطرًا وهي نسخة كاملة ورمزنا لها بالرمز (ت).

الرابعة: المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (219) أصول فقه (27344) عمومية، وهي نفس النسخة السابقة لذلك لم نعتبرها في إثبات فروقها.

الخامسة: المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (492) أصول فقه تقع في مجلدين الأول (334) ورقة والثاني (292) ورقة مسطرتها (21) سطرًا مكتوبة بخط نسخ

ص: 226

واضح جميل، وبها نقص أشرنا إليه في تعليقنا. ورمزنا لها بالرمز (ج).

السادسة: المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (791) أصول فقه تقع في مجلد واحد (255) ورقة مسطرتها (21) سطرًا، وهي غير كاملة وأشرنا إلى مواضع النقص في تعليقنا ورمزنا لها بالرمز (ح).

‌عملنا في الكتاب

الحمد لله الذي وفقنا وأعاننا وبلطفه وعونه أمدنا على إخراج هذا الكتاب من طيات النسيان، وزيغ التحريف والنقصان، فأقمنا حروفه وضبطنا نصه، وأبنَّا مشكله، وأتيناه موطأً مذللًا داني الثمرات لطلبة العلم وذويه، فتقبل الله منا بفضله ونفع به ذوي العلم وأهله وكان عملنا فيه على الوجه التالي:

أولًا: قمنا بضبط النص على النسخ السالفة الذكر، وكنا ندور مع صواب النص حيث دار فما كان صوابًا أثبتناه في النص وأثبتنا مخالفه في هامش الكتاب.

ثانيًا: تخريج الآيات القرآنية.

ثالثًا: تخريج الأحاديث.

رابعًا: ترجمة للأعلام الواردة في الكتاب.

خامسًا: توثيق النصوص والمسائل الأصولية في الكتاب.

سادسًا: التعليق على بعض المسائل الأصولية.

سابعًا: التعليق على بعض المسائل الفقهية.

ثامنًا: التعليق على غريب النص.

تاسعًا: توثيق الأشعار الواردة في الكتاب.

عاشرًا: كتبنا مقدمة عن أصول الفقه وترجمة لصاحب الكتاب وأصله.

هذا، وقد قمنا بضبط أصل الكتاب ضبطًا حرفيًا ووضعناه في أعلى الكتاب مفصولًا بينه وبين الشرح بفاصل وقمنا بوضحع المتن أثناء الشرح بين علامتي تنصيص هكذا:"" وقد قابلنا هذا المتن على نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (104) أصول تيمور، وتركنا ما كان فروقًا بين الأصل الموضوع في الكتاب والأصل الموجود في أثناء الشرح لسهولة الرجوع إلى ذلك، وباللّه التوفيق والحمد لله رب العالمين.

ص: 227

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحمَدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا، وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللّه عَلَيْهِ تَوَكَلْتُ.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي لَمَّا رَأَيْتُ قُصُورَ الْهِمَمِ عَنِ الإِكْثَارِ، وَمَيْلَهَا إِلَى الإيجَازِ وَالاخْتِصَارِ، صَنَّفْتُ مُخْتَصَرًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ اخْتَصَرْتُهُ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ، وَسَبِيل مَنِيعٍ، لا يَصُدُّ اللَّبِيبَ عَنْ تَعَلُّمِهِ صَادٌّ، وَلا يَرُدُّ الأَرِيبَ عَنْ تَفَهُّمِهِ رَادٌّ، وَاللَّهَ تَعَالَى أَسْأَلُ أَنْ يَنْفعَ بِهِ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

بسم الله الرحمن الرحيم

وَبهِ نَسْتَعِينُ

(1)

الشرح: قالَ الشَّيْخُ الإمَامُ العلَّامة قاضِي القُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الوَهَّابِ السُّبْكِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

الحمدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَعَ فِي الْعُلْيَا

(2)

طَرِيقًا مُخْتَصَرًا، وَأَطْلَعَ مِنْ سَمَاء الكِتَاب والسُّنَّةِ شَمْسًا وقَمَرًا، وجَمَعَ للأُمَّةِ بإجماعِهَا وآرَائِهَا دَلِيلًا مُسْتَحْسَنًا، وبرهانًا

(3)

مستصحبًا وسبيلًا مُعْتَبَرًا.

(1)

في ب: وبه ثقتي وعليه اعتمادي.

(2)

في ب: العلياء.

(3)

في ت، ج: مستصحبًا وبرهانًا مستحسنًا.

ص: 229

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نَحْمَدُهُ عَلَى كَمَالِهِ حَمْدًا تَفُوهُ الألْسُن وتعْمَلُ لهُ شُكْرًا، تمامًا على الَّذِي أحْسَن، وَنَسْأله الإعانة على اجْتِنَابِ ما حَرَّم أو كَرَّه، وارتكابِ ما أوْجَبَ

(1)

أو سَنّ.

ونشهد

(2)

أن لا إله إلَّا الله وَحْده لا شريكَ لَه، وأنَّ محمَّدًا عَبْده المصطفى، وخَيْرُ نَبيٍّ أرسلَهُ وخَصَّه بعمومِ الفَضْل، فأمر

(3)

ونَهَى، وأوْضَحَ مَا شَرَعَه، وبَيَّن ما أجْمَلَه، صلَّى الله عَلَيْه وعَلَى آلِهِ وأصْحَابِهِ المَاحِينَ بِنُورِ الهُدَى ظُلَم الشِّرْك، والقامِعِينَ مَنْ أظهر شقاقَه، ومَنْ أسرَّ نفاقَه، وأصرَّ على الإِفْك، والدافِعِين بِصِدْقِ اليَقِينِ ظَنَّ الجاهلية، ووَهْمَ ذي العَمَايَةِ، ورَيْبَ ذي الشَّكّ.

وَرَضِيَ الله عن مُطَّلِبِيِّنا، الَّذى اسْتَخْرَجَ أُصُولَ الفِقْه [علْمًا]

(4)

مجموعًا، وفَنًّا على الرُّءُوسِ محمولًا، وعلى العيون موضُوعًا، ومُحْكَمًا دفَع به المُتَشَابِهَات

(5)

، وشَيَّد بنيان

(6)

الأدلَّةِ مظنونًا ومقْطُوعًا.

أمَّا بَعْدُ: فَإنَّ لنا تعليقًا على مختصر الإِمام أبي عَمْرِو بْنِ الْحَاجِبِ مَبْسُوطًا ومَجْمُوعًا، يصبِحُ قدْرُ الأقْرانِ - وإن تعالى عَنْه - محطوطًا، وكتابًا لم يغادِرْ لِمُتَعنِّتٍ مُطَّلَبًا، وعجبًا عجابًا، وردَّ مناهِلَ الأُصُولِ وصدَر بهذا النَّبَا

(7)

، وفِهْرِسْتًا جمع فَأَوعَى، وفاق كُتُب هذا الفَنِّ [جنْسًا ونوْعًا، جَمَعْنا فِيهِ أكثر ما حَوَتْه كُتُب هذا الفَنّ]

(8)

، وأودَعْنَاه مباحِثَ كنَّا نستعملُ الفِكْر فيها إذا ما اللَّيْلُ جنّ، وذكرنا آراءَنا، وناضلْنا عَلَيْهَا، وأوضحنا اخْتياراتِنا، والعَيْنُ تأمُر السُّهْد في كَرَاهَا وتَنْهَى، وشمَّرْنا فيه عَنْ ساقِ الاِجتهاد بشهادة النُّجُوم، وجَمَعْنا أقسام الكَوَاكب لِكَلِمَةٍ منها معالمُ للهُدى، ومصابيحُ تجلو الدجَى، والأُخْرَيَاتُ رُجُومٌ.

بَيْدَ أنَّا لم نستوعِبْ فيه ما في "المُخْتَصَر"، وإن كنَّا لم ندَع [إلا]

(9)

واضحًا لا يفتقر إلى النَّظَر.

فبدَأْنا في شرْح غايةٍ في الاختِصَار، آيَةٍ في جَمْع الشوارِدِ والإكْثَار، يأتي على تقْرير ما في الكِتَاب كلِّه، مع مباحثَ مِنْ قِبَلِنَا، ونقول: لا يُجْمَع مثْلها إلَّا لمثْلِه، فلقد نظرْنَا عَلَيْه مع توَخِّينا

(1)

في ب، ج: أوجبه.

(2)

في ب: وأشهد.

(3)

سقط في ت.

(4)

في ب، ج: بتبيان.

(5)

في ت: وأمر.

(6)

في أ، ج: المشابهات.

(7)

في ح: البناء.

(8)

سقط في أ.

(9)

سقط في ت.

ص: 230

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الاِختصار

(1)

فيه كتبًا شتَّى:

مِنْها: الرِّسالة؛ للإمام الشافعيّ رضي الله عنه وشَرْحُها؛ لأبي بكْرٍ الصَّيْرفيّ

(2)

، والأستاذِ أَبِي الوليدِ النَّيْسَابُورِيّ

(3)

، وأبِي بَكْرٍ القفَّالِ الشَّاشيِّ الكبير

(4)

، وأبي محمَّدٍ الجُوَيْنِيّ

(5)

، و"التَّقْرِيبُ والإِرْشَاد، في ترتيب طرُق الاجتهادِ"؛ للقاضي أبِي بكرٍ

(6)

، وهو [من]

(7)

أجلِّ كتب الأصول،

(1)

في ح: للاختصار.

(2)

أبو بكر محمد بن عبد اللّه الصيرفي، الفقيه الأصولي، تفقه على ابن سريج، قال القفال الشاشي: كان أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: وله مصنفات في أصول الفقه وغيرها، مات سنة 330. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 116، وتاريخ بغداد 5/ 449، وطبقات الشيرازي 91.

(3)

أبو الوليد حسان بن محمد بن أحمد بن هارون بن حسان بن عبد اللّه القرشي النيسابوري، أحد أئمة الشافعية، درس على أبي علي الثقفي، ثم على أبي العباس بن سريج، قال الحاكم: كان إمام أهل الحديث بـ "خراسان"، وله كتاب على صحيح مسلم، وكتاب على مذهب الشافعي، وذكر أنه شرح الرسالة، مات سنة 349. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 126، والأعلام 2/ 190، وشذرات الذهب 2/ 380.

(4)

أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل، الشاشي، القفال الكبير، أحد أعلام الشافعية وأئمة المسلمين، ولد سنة 291، سمع من أبي بكر بن خزيمة ومحمد بن جرير وأبي القاسم البغوي وغيرهم، قال الحليمي: كان شيخنا القفال أعلم من لقيته من علماء عصره، وقال الشيرازي: وهو أول من صنف في الجدل الحسن من الفقهاء، ومن تصانيفه: دلائل النبوة وأدب القضاء وغيرها. مات سنة 365.

ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 148، وطبقات الشيرازي 91، وطبقات السبكي 2/ 176، والأعلام 7/ 159، ووفيات الأعيان 3/ 338، والنجوم الزاهرة 4/ 111، وشذرات الذهب 3/ 51.

(5)

عبد اللّه بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، الشيخ أبو محمد الجويني، وكان يلتهب بـ"ركن الإسلام"، قرأ الأدب على والده، والفقه على أبي أيوب الأبيوردي، ولازم القفال، ثم صار إمامًا في التفسير والفقه والأدب، مجتهدًا في العبادة، قال أبو عثمان الصابوني: لو كان الشيخ أبو محمد في بني إسرائيل لنقلت إلينا أوصافه وافتخروا به. صنف التفسير وغيره مات سنة 438.

ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 209، ووفيات الأعيان 2/ 250.

(6)

محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر، قاضٍ من كبار علماء الكلام، ولد بالبصرة 338 هـ انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة، كان جيد الاستنباط، سريع الجواب. من مصنفاته: إعجاز القرآن، الإنصاف، الملل والنحل، دقائق الكلام، مناقب الأئمة توفي 403 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 1/ 481، والديباج المذهب 267، وتاريخ بغداد 5/ 379، والأعلام 6/ 176.

(7)

سقط في ب، ح.

ص: 231

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومخْتَصَرُهُ المسمَّى بـ "التَّلْخِيص"؛ لإمامِ الحَرَمَيْن

(1)

، و"تعليقة" الشَّيخ أبي حامِدٍ الإسْفَرايينِيّ

(2)

، وتعليقَةُ الأُسْتَاذ أبي إسْحَاق الإسْفَرايينِيّ

(3)

، و"آدَابُ

(4)

الجَدَلِ"؛ لأبِي الحُسَيْن الجَلَّال

(5)

، و"مِعْيَارُ الجَدَل"؛ للأستاذ أبي مَنْصُورٍ عبْدِ القاهِرِ بْنِ طاهرٍ البَغْدَادِيّ

(6)

،

(1)

عبد الملك بن عبد اللّه بن يوسف بن عبد اللّه بن يوسف بن محمد، العلامة إمام الحرمين، أبو المعالي بن أبي محمد الجويني، ولد سنة 419، وتفقه على والده، وقعد للتدريس بعده، وحصل أصول الدين وأصول الفقه على أبي القاسم الإسفراييني الإسكاف، وصار إمامًا، حضر درسه الأكابر، وتفقه به جماعة من الأئمة. قال السمعاني: كان إمام الأئمة على الإطلاق، ومن تصانيفه النهاية والغياثي والإرشاد، وغيرها. مات سنة 478. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 255، وطبقات السبكي 3/ 249، ووفيات الأعيان 2/ 341، والأنساب 3/ 430، وشذرات الذهب 3/ 358، والنجوم الزاهرة 5/ 121، ومعجم البلدان 2/ 193.

(2)

أحمد بن محمد بن أحمد، الشيخ أبو حامد بن أبي طاهر الإسفراييني، شيخ الشافعية بالعراق، ولد سنة 344، اشتغل بالعلم، وتفقه على ابن المرزبان والداركي، وروى الحديث عن الدارقطني وأبي بكر الإسماعيلي وأبي أحمد بن عدي وجماعة، وكان يقال له: الشافعي الثاني، وشرح المختصر، وله كتاب في أصول الفقه. مات سنة 406. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 172، والأعلام 1/ 203، وتاريخ بغداد 4/ 368.

(3)

أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الإسفراييني، المتكلم الأصولي، الفقيه، شيخ أهل خراسان، يقال: إنه بلغ رتبة الاجتهاد وله المصفات الكثيرة منها: جامع الحلى في أصول الدين والرد على الملحدين، قال الحاكم: الفقيه، الأصولي، اليتكلم، المتقدم في هذه العلوم، انصرف من العراق وقد أقر له العلماء بالقدم. مات سنة 418. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 170، ووفيات الأعيان 1/ 8، وتذكرة الحفاظ 3/ 1084، والأعلام 1/ 59، وشذرات الذهب 3/ 209، والنجوم الزاهرة 4/ 267.

(4)

في ب: وأدب.

(5)

في ب، ت: الجلابي.

(6)

عبد القاهر بن طاهر بن محمد، الأستاذ أبو منصور، التميمي، البغدادي، تفقه على الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وغيره إلى أن برع وأقعده الأستاذ للإملاء، فأملى سنتين واختلف إليه الأئمة، وذكر أن إمام الحرمين أخذ عنه الفرائض، قال أبو عثمان الصابوني: كان الأستاذ أبو منصور من أئمة الأصول، وصدور الإسلام بإجماع أهل الفضل. له: تفسير القرآن، وفضائح المعتزلة، وغيرهما، مات سنة 429. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 211.

ص: 232

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

و"شَرْحُ الكِفَايَة"؛ للقاضي أبي الطيِّبِ الطَّبَرِيّ

(1)

، و"العمد"؛ للقاضي عبد الجَبَّار

(2)

، و"المُعْتَمَد"؛ لأبي الحُسَيْن

(3)

البَصْرِيّ، و"التَّقْرِيبُ"؛ لسليم الرَّازِيِّ

(4)

، وكتابُ الأستاذ أبِي بكْرِ بن فُورَك

(5)

، و"البُرْهَانُ"؛ لإمام الحَرَمَيْن، وشرْحُه؛ للإمَام أبي عبْدِ اللَّهِ المازِريِّ المَالِكِيّ

(6)

، والكلامُ علَى مُشْكِلِهِ؛ للمَازِرِيِّ أيضًا، وشرحُهُ أيضًا؛ لأبي الحَسَن

(1)

طاهر بن عبد اللّه بن طاهر بن عمر، القاضي العلامة، أبو الطيب الطبري، أحد أئمة الشافعية، ولد سنة 348، سمع من أبي أحمد الغطريفي، والدارقطني، وابن عرفة، وأخذ الفقه على أبي علي الزجاجي وأبي القاسم بن كج، وقرأ على أبي سعد الإسماعيلي، والماسرجسي والبافي وغيرهم، قال الشيرازي: ولم أر ممن رأيت أكمل اجتهادًا وأشد تحقيقًا وأجود نظرًا منه، شرح مختصر المزني، وصنف في الخلاف والمذهب والأصول والجدل. مات سنة 450. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 226، والأعلام 3/ 321، وطبقات السبكي 1/ 176، ووفيات الأعيان 2/ 195، وشذرات الذهب 3/ 325، ومرآة الجنان 3/ 70، والبداية والنهاية 12/ 79.

(2)

عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل، القاضي أبو الحسن الهمداني، قاضي الري وأعمالها، وكان شافعي المذهب، وهو مع ذلك شيخ الاعتزال، وله المصنفات الكثيرة في طريقتهم وفي أصول الفقه، قال ابن كثير: ومن أجل مصنفاته وأعظمها كتاب "دلائل النبوة" في مجلدين، أبان فيه عن علم وبصيرة جيدة. مات سنة 415. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 183، وتاريح بغداد 11/ 113، وشذرات الذهب 3/ 202، ولسان الميزان 3/ 386، والأعلام 4/ 47.

(3)

في ت: الحسن، وهو تحريف.

(4)

سليم بن أيوب بن سليم، أبو الفتح الرازي، الأديب، المفسر، تفقه وهو كبير؛ لأنه كان اشتغل في صدر عمره باللغة والنحو والتفسير، والمعاني، ثم لازم الشيخ أبا حامد الإسفراييني، وعلق عنه التعليق، ولما توفي أبو حامد، جلس مكانه ثم سافر إلى الشام، وأقام بها مرابطًا ينشر العلم، تخرج به جماعة منهم نصر المقدسي، وكان ورعًا زاهدًا، له تصانيف مها: رؤوس المسائل، وتفسير سماه: ضياء القلوب وغيرهما. مات غريقًا سنة 447. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 225، والأعلام 3/ 176، وإنباه الرواة 2/ 69.

(5)

محمد بن الحسين بن فُورَك، أبو بكر الأصفهاني، المتكلم، الأصولي، الأديب، النحوي، الواعظ، أخذ طريقة أبي الحسن الأشعري عن أبي الحسين الباهلي وغيره، أحيا الله تعالى به أنواعًا من العلوم، وبلغت مصنفاته الشيء الكثير، وجرت له مناظرات عظيمة. مات سنة 406. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 190، وطبقات السبكي 3/ 52، وتبيين كذب المفتري ص 232، والأعلام 6/ 313، ومرآة الجنان 3/ 17، والنجوم الزاهرة 4/ 240.

(6)

محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بـ "الإمام"، درس أصول الفقه =

ص: 233

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأبْيَارِيِّ المالِكِيِّ

(1)

.

ولقد عجِبْتُ لهذا "البُرْهَان"؛ فإنَّه من مفتَخَراتِ الشافِعِيِّين، ولم يَشْرَحْه منْهم أحدٌ، وإنَّما أنْتَدَبَ له هذان المالكيَّان، وتَبِعَهُمَا شخْصٌ ثالثٌ من المالكيَّة أيضًا يُقَال له الشَّريفُ أبُو يَحْيَى زكريا بن يَحْيَى الحُسَيْنِيّ المَغْرِبِيّ، فجمع بَيْن كلامَيْهِما وزاد.

و "اللُّمَعُ"، وشرحه؛ للشيخ أبِي إسْحَاقَ الشِّيرازِيّ

(2)

، و"المُلَخَّص"، و"المَعْرِفَة"؛ له أيضًا في الجدل، و"القَوَاطِعُ"؛ للإمام الجليلِ أَبِي المُظَفَّرِ مَنْصُور بْنِ محمَّدِ بْنِ السَّمْعَانِي

(3)

، وهو أنْفَعُ

= والدين، وتقدم في ذلك، وسمع الحديث وطالع معانيه، واطلع على علوم كثيرة، فكان أحد رجال الكمال في العلم في وقته، واليه كانت الفتيا في الفتهه وغيره، ألف في الفقه والأصول، وشرح كتاب مسلم، وشرح "البرهان" للجويني وسماه "إيضاح المحصول من برهان الأصول" وتوفي سنة 536.

ينظر: الديباج 2/ 250 - 252، وشجرة النور 1/ 127 - 128، وهدية العارفين 2/ 88.

(1)

علي بن إسماعيل بن علي بن حسين بن عطية الملقب بـ "شمس الدين "وشهرته بأبي الحسن الأبياري. قال الحافظ ابن نقطة: سألته عن مولده فقال: في سنة 557. قال الحافظ المظفر: كان الأبياري من العلماء الأعلام، وأئمة الإسلام، بارعًا في علوم شتى: الفقه وأصوله وعلم الكلام. ومن تآليفه: كتاب "شرح البرهان" لأبي المعالي الجويني وكتاب "سفينة النجاة" على طريقة الإحياء، وتوفي سنة 616. ينظر: الديباج 2/ 121 - 123، وشجرة النور 1/ 166، وحسن المحاضرة 1/ 454 - 455.

(2)

إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد اللّه، أبو إسحاق الشيرازي، ولد سنة 393، أخذ الفقه على أبي عبد اللّه البيضاوي، وابن رامين، وقرأ على الجزري، وقرأ الأصول على أبي حاتم القزويني، وشيوخ كثيرين، كان عالمًا عاملًا ورعًا اشتهر وارتفع ذكره قال أبو بكر الشاشي: الشيخ أبو إسحاق حجة الله تعالى على أئمة العصر. وقال عن نفسه. لم أدخل بلدًا ولا قرية إلا وجدت قاضيها أو خطيبها أو مفتيها من تلاميذي. له تصانيف منها: "التنبيه " واللمع وغيرهما. مات سنة 476. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 238، وطبقات السبكي 3/ 88، ووفيات الأعيان 1/ 9، والأعلام 1/ 44، ومرآة الجنان 3/ 110، وكتاب العبر 3/ 283، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 172.

(3)

منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر، الإمام أبو المظفر السمعاني التميمي، المروزي، الحنفي، ثم الشافعي، ولد سنة 426، تفقه على والده حتى برع في مذهب أبي حنيفة، ثم صار إلى مذهب الشافعي، واستحكم أمره في مذهب الشافعي، واجتمع بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وناظر ابن الصباغ في مسألة، قال السمعاني: صنف في التفسير والفقه والحديث، والأصول. وله كتاب القواطع في أصول الفقه. مات سنة 489. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 273، وطبقات السبكي 4/ 21.

ص: 234

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كتابٍ للشافعيَّةِ في الأُصُولِ وأجَلُّه، "والمُسْتَصْفَى"، و"المَنْخُولُ"؛ للإمام حُجَّةِ الإسْلام

(1)

، و"شفاءُ الغَلِيلِ في بيان مَسَالِكِ التَّعْلِيل"، له أيضًا، و"عُدَّةُ

(2)

العَالِمَ"؛ للشَّيْخِ أبِي نَصْرِ بْنِ الصَبَّاغ

(3)

، وتَغْلِيقَةُ أَلْكِيَا أبي الحَسَنِ الْهَرَّاسِ

(4)

، و"المُلَخَّصُ"؛ للقاضي عبْدِ الوهاب، و"أُصُولُ الفِقْه"؛ للأُستاذ أبي نصْرٍ

(5)

ولدِ الأستاذِ أبي القاسِم القشَيْريِّ

(6)

، و"الْوَجِيزُ"؛ لأبِي الفَتْح بْن

(1)

محمد بن محمد بن محمد، حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي، ولد سنة 450، أخذ عن إمام الحرمين ولازمه، حتى صار أنظر أهل زمانه وجلس للإقراء في حياة إمامه وصنف "الإحياء" المشهور، و"البسيط"، وهو كالمختصر للنهاية، وله "الوجيز"، و"المستصفى" وغيرها. توفي سنة 505. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 293، ووفيات الأعيان 3/ 353، والأعلام 7/ 247، واللباب 2/ 170، وشذرات الذهب 4/ 10، والنجوم الزاهرة 5/ 203، والعبر 4/ 10.

(2)

في ح: وعبرة.

(3)

عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن جعفر، أبو نصر بن الصباغ البغدادي، فقيه العراق، ولد سنة 400، أخذ عن القاضي أبي الطيب الطبري، ورجح في المذهب على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان نجرًا دينًا، فقيهًا، أصوليًا، محققًا، قال ابن عقيل: كملت له شرائط الاجتهاد المطلق، وقال ابن خلكان: له كتاب الشامل، وهو من أصح كتب أصحابنا مات سنة 477. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 251، وطبقات السبكي 3/ 230، والبداية والنهاية 12/ 226، والنجوم الزاهرة 5/ 119، وشذرات الذهب 3/ 355، ومفتاح السعادة 2/ 185، ووفيات الأعيان 2/ 385.

(4)

علي بن محمد بن علي، شمس الإسلام، عماد الدين، أبو الحسن، الطبري، المعروف بالكيا الهراسي، تتلمذ على إمام الحرمين، حتى برع في الفقه والأصول والخلاف، وكان إمامًا نظارًا، قوي البحث، دقيق القكر، ذكيًا، فصيحًا، جهوري الصوت، حسن الوجه جدًّا، قال السبكي: وله "شفاء المسترشدين"، و"نقض مفردات أحمد". توفي سنة 504. ينظر: طبقات ابن قاضى شهبة 1/ 288، والأعلام 5/ 149، ووفيات الأعيان 2/ 448.

(5)

عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري، أبو نصر بن أبي القاسم النيسابوري، تخرج بوالده ثم لزم إمام الحرمين، فأتقن عليه الأصول والفروع والخلاف، وغير ذلك من العلوم، ولزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره من الأئمة مجلس وعظه، وجرى له مع الحنابلة في زمن إقامته ببغداد أمور كثيرة وفتن وتعصب، وقتل من الفريقين جماعة. توفي سنة 514. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 285، وطبقات السبكي 4/ 249، والبداية والنهاية 12/ 187.

(6)

عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد، أبو القاسم القشيري، النيسابوري، أخذ عن أبي علي الدقاق، وأبي عبد الرحمن السلمي، ودرس الفقه على أبي بكر الطوسي، وقرأ الكلام =

ص: 235

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بَرْهَان

(1)

، وكتابُ الإمام محمَّدِ بْنِ يَحْيَى

(2)

، و"العَقِيدةُ"؛ لتلميذه شَرف شاه بْنِ مَلْكداد، و"شَرْحُ اللُّمَع"؛ لأبي عَمْرِو عُثْمَان بْنِ عِيسَى الكُرْدِيّ

(3)

صاحِب "الاِسْتِقْصَاء"، و"مشْكِلاتُ اللُّمَع"؛ لمسعُودِ بْن عَلِيٍّ اليَمَانِيّ، و"المَحْصُولُ"؛ للإمام

(4)

، وغيْرُه من كتُبِ أَتْباعِهِ؛ كشَرْحِهِ؛

= على ابن فورك، وأبي إسحاق الإسفراييني، قال ابن السمعاني: لم ير أبو القاسم مثل نفسه في كماله وبراعته. صنف التفسير الكبير، والرسالة. ولد سنة 376، ومات سنة 465. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 254، وطبقات السبكي 3/ 243، وتاريخ بغداد 11/ 83، والأعلام 4/ 180.

(1)

أحمد بن علي بن محمد بن برهان، أبو الفتح، ولد سنة 479، وتفقه على الغزالي والشاشي، والكيا هراسي، وبرع في المذهب وفي الأصول، فكان هو الغالب عليه، وله في التصانيف المشهورة: البسيط، والوسيط، والوجيز وغيرها. قال المبارك بن كامل: كان خارف الذكاء، لا يكاد يسمع شيئًا إلا حفظه. توفي سنة 518. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 279، ووفيات الأعيان 1/ 82، وطبقات السبكي 4/ 42، وشذرات الذهب 4/ 61، والأعلام 1/ 167، ومرآة الجنان 3/ 235، والبداية والنهاية 12/ 194.

(2)

محمد بن يحيى بن سراقة، أبو الحسن العامري، الفقيه، الفرضي، المحدث، صاحب التصانيف في الفقه والفرائض وأسماء الضعفاء والمتروكين، له مصنف حسن في الشهادات، وأخذ كتاب الضعفاء عن أبي الفتح الأزدي ثم نقحه وراجع فيه الدارقطني، وله كتاب التلقين، وكتاب الحيل وغيرهما. مات في حدود سنة 410. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 196، وطبقات السبكي 3/ 86، والأعلام 8/ 5، وطبقات الشافعية لابن هداية ص 43.

(3)

عثمان بن عيسى بن درباس الماراني، ضياء الدين، أبو عمرو، من أعلم الشافعيين بالفقه في عصره، نسبته إلى بني ماران، بالمروج. ولد سنة 516 هـ، ونشأ بـ "إربل"، وانتقل إلى دمشق ثم إلى مصر، فولي القضاء بالغربية، وفوض إليه السلطان صلاح الدين القضاء بالديار المصرية سنة 566 هـ. ثم عكف على التدريس إلى أن توفي في القاهرة سنة 602 هـ. من كتبه:"الاستقصاء لمذاهب الفقهاء"، و"شرح اللمع" في أصول الفقه. ينظر: الأعلام 4/ 212، وطبقات ابن قاضي شهبة 2/ 60، ووفيات الأعيان 1/ 311.

(4)

محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي، سلطان المتكلمين في زمانه، فخر الدين، أبو عبد اللّه الرازي، ولد سنة 544، واشتغل أولًا علي والده ضياء الدين عمر، ثم على الكمال السمناني وعلى المجد الجيلي وغيرهما، وأتقن علومًا كثيرة، وبرز فيها وتقدم وساد، وصنف في فنون كثيرة، وروي عنه ندمه على الدخول في علم الكلام، وله التفسير الكبير "مفاتيح الغيب" وهو مطبوع، وكذلك كتاب "المحصول" وغيرهما. مات سنة 606. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 65، ولسان الميزان 4/ 426، والأعلام 7/ 203.

ص: 236

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

للقرافِيِّ

(1)

، وشَرْحِهِ؛ للأصْفَهَانِيِّ

(2)

، والمؤاخَذَاتُ

(3)

عَلَيْه؛ للنقشَوَانِيّ، و"التَّنْقِيحُ"؛ لِلتَّبْرِيزِي

(4)

، و"شَرْحُ الْمَعَالِم"[الذي]

(5)

له؛ لابْنِ التّلْمِسَانِيّ

(6)

، و"النِّهَايَةُ"، و"الفَائِقُ"

(7)

؛

(1)

أحمد بن إدريس القرافي، وهو شهاب الدين، أبو العباس أحمد بن أبي العلاء: إدريس بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن يلين الصنهاجي، كان إمامًا بارعًا في الفقه والأصول والعلوم العقلية، وكان أحسن من ألقى الدروس، وسارت مصنفاته مسير الشمس، ورزق فيها الحظَّ السامي عن اللمس ومنها: كتاب الذخيرة، والقواعد، والتنقيح

وغيرها كثير. توفي سنة 684. ينظر: الديباج 1/ 236 - 239، وشجرة النور 1/ 188، والمنهل الصافي 1/ 215.

(2)

محمد بن محمود بن محمد بن عباد العجلي، شمس الدين، أبو عبد اللّه الأصفهاني، شارح المحصول ولد سنة 616، رحل وتفقه على سراج الدين الهرقلي، والأرموي وغيرهما، وكان مهيبًا، وقورًا في الدرس، أخذ عنه العلم جماعة، وقيل: إن ابن دقيق العيد كان يحضر درسه بـ "قوص".

قال الذهبي: صاحب التصانيف، له القواعد في العلوم الأربعة، وله يد طولى في العربية والشعر، وتخرج به المصريون. وقال الفزاري:"لم يكن بالقاهرة في زمانه مثله في علم الأصول"، شرح "المحصول"، وله كتاب "القواعد". مات سنة 688. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 199، وطبقات السبكي 5/ 41، وفوات الوفيات 2/ 265.

(3)

في ت: والواحدات، وهو تحريف.

(4)

مظفر بن أبي محمد بن إسماعيل بن على الراراني، أمين الدين أبو الخير التبريزي، ولد سنة 558، وتفقه بـ "بغداد" على ابن فضلان، وتخرج به جماعة. قال السبكي: كان من أجل مشايخ العلم بـ "مصر"، فقيهًا، أصوليًا، عابدًا، زاهدًا ا. هـ، ومن تصانيفه: مختصر في الفقه اختصر فيه الوجيز، وصنف كتابًا آخر سماه:"سمط الفوائد"، واختصر "المحصول" وسماه:"التنقيح". توفي سنة 621. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 91، وطبقات السبكي 5/ 156، هدية العارفين 2/ 463.

(5)

سقط في ب.

(6)

عبد الله بن محمد بن علي، شرف الدين، أبو محمد الفهري المصري، المعروف بـ"ابن التلمساني"، كان إمامًا عالمًا بالفقه والأصلين، ذكيًا، فصيحًا، تصدر للإقراء بـ "مصر"، وانتفع به الناس، وصنف التصانيف المفيدة، منها: شرحان على المعالمين للإمام، وشرح على التنبيه متوسط مسمى بـ "المغني"، ذكره الإسنوي، وقال:"لا أعلم تاريخ وفاته"، وصنف في الخلاف كتابًا سماه:"إرشاد السالك إلى أبين المسالك! ". توفي سنة 658. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 107، وطبقات الإسنوي ص 112، وطبقات الشافعية للسبكي 5/ 60، ومعجم المؤلفين 6/ 133.

(7)

في ت: والعلائق.

ص: 237

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كلاهما للشَّيْخِ صفيِّ الدِّينِ الهِنْدِيِّ

(1)

، وغيرُ ذلك، و"الإحْكَامُ"؛ للإمَام سَيْفِ الدِّين الآمِدِيّ

(2)

، و"المنْتَهَى"؛ له، وغيْرُ ذلك مِنْ كُتُبِ أصحابنا، وكُتُب المخالِفِين مِنَ الحنَفِيَّة وغَيْرهم، وطائفة من شروح هذا "المُخْتَصَر"، مع [ما]

(3)

التَقَطْنَاهُ

(4)

له مِنْ كُتُب الخلافيَّات؛ كـ"المنهاجِ"؛ للقاضي أبي الطَّيِّب، و"النُّكَتِ"؛ للشَّيْخ أبي إسْحَاق، و"الأَسَالِيبِ"؛ لإمام الحَرَمَيْنِ، و"التَّحْصِينِ"؛ للغزالِيِّ، و"شفَاء المُسْتَرْشِدِينَ"؛ لِـ"إلْكِيَّا" الهَرَّاسِي، وتَعْلِيقَةِ الإمام محمَّد بن يحيى، والإمامِ أسعد المِيهني، والقاضي الرَّشِيد، والطَّاوُوسي، والإمَامِ فَخْرِ الدِّينِ، وسَيْفِ الدِّينِ الآمِدِيِّ، وغَيْرِهِم، ومِن الخلافيَّات للحنفيَّة كتابُ "الأسْرارِ"؛ للقاضي أبي زَيْدٍ، وتَعْلِيقةُ ابن مارة، وغيرُهما، وغير ذلك كلّه مما لو عَدَدْنَاه لَضَيَّعْنا الأَنْفَاس، وضيَّعْنا

(5)

القِرْطَاس.

ومع ما حَشَوْنَاه فيه من فروع الفقه، وفنُون الفوائد، وما سمَح به الخاطِرُ من المباحِث؛ [ممَّا تضمَّنَتْه تعليقَتُنا وغيْرُها، ومع تبيُّن مذْهب الشافعيِّ، على الخصوصِ، في الأُصُول، وآراءِ أصْحَابه، والكَلامِ مع مخالِفِيه، ومع تَخْرِيج الفُرُوع على الأُصُول، ومعَ الكَلام على أحَادِيثِه

(1)

محمد بن عبد الرحيم بن محمد، صفي الدين أبو عبد اللّه الهندي، الأرموي ولد سنة 644 ورحل كثيرًا، وانتصب للإفتاء والإقراء في الأصول والمعقول والتصنيف، وانتفع بتلاميذه وتصانيفه، وأخذ عنه ابن المرحل، وابن الفخر المصري، وخلق. قال السبكي:"كان من أعلم الناس بمذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأدراهم بأسراره متضلعًا بالأصلين". ومن تصانيفه في علم الكلام: "الزبدة" و"الفائق"، وفي الأصول:"النهاية" وغيرها. مات سنة 715. بنظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 227، والأعلام 7/ 72.

(2)

علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي، سيف الدين الآمدي، شيخ المتكلمين في زمانه، ومصنف الإحكام، ولد سنة 550 أو بعدها بيسير، ورحل إلى بغداد، وقرأ بها القراءات، وصحب أبا القاسم بن فضلان، وتفنن في علم النظر والكلام والحكمة، وصنف في ذلك كتبًا، ويحكى عن ابن عبد السلام أنه قال:"ما تعلمنا قواعد البحث إلا منه"، وأنه قال:"ما سمعت أحدًا يلقي الدرس أحسن منه، كأنه يخطب". له: الإحكام في أصول الأحكام، وغيره، قال الذهبي: وله نحو من عشرين مصنفًا مات سنة 631. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 79، ووفيات الأعيان 2/ 455، وميزان الاعتدال 1/ 439، والأعلام 5/ 153، وطبقات الشافعية للسبكي 5/ 129، والنجوم الزاهرة 6/ 285.

(3)

سقط في ح.

(4)

في ج: استنبطناه.

(5)

في ب، ح: وضيقنا.

ص: 238

مَا يَنْحَصرُ فِيهِ المُخْتَصَر، أَوْ فَنُّ الأُصُولِ

وَيَنْحَصِرُ فِي الْمَبَادِئِ وَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالاِجْتِهَادِ وَالتَّرْجِيحِ.

ممَّا]

(1)

تقتضيه صِنَاعةُ الحَدِيث، والاِعْتِنَاءِ بالتَّمْثيِل، لِمَا تتشوَّف النَّفْس إلى سماع مِثَاله، ممَّا استخرجْنَاه من كُتُب الحَدِيث، والفِقْه، والخِلافيات، وغَيْرِها إلى غَيْر ذلك ممَّا سَتَرَاه، إن شاء اللَّهُ تعالى - وبِهِ التَّوفِيق.

وَسَمَّيْتُهُ "رَفْعَ الْحَاجِبِ، عَنْ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ".

الشرح: "وينحصرُ" المختصر، أو الأصول "في: المبادئ، والأدلّة السّمعية، والاجتهاد، والترجيح"

(2)

.

والمَبَادئ: ما لا يكون مقصودًا بالذات، بل يتوقف عليه [المقصود]

(3)

، والحصر هنا استقرائي.

وقيل فيه: ما تضمّنه الكتاب؛ إما [مقصود]

(4)

بالذات، أو لا:

والثاني: المبادئ.

والأول: إما أن يبحث فيه عن نفس استنباط الأحكام، وهو الاجتهاد، أو عمَّا تستنبط هي منه؛ إما باعتبار ما يعارضها، وهو الترجيح أو لا؛ وهو الأدلّة السّمعية.

(1)

سقط في ت.

(2)

ينحصر المختصر أو العلم في أمور أربعة:

الأول: المبادئ، وهي ما لا يكون مقصودًا بالذات، بل يتوقف عليه ذلك، وعدّه جزءًا في العلم تغليبًا لا يبعد.

الثاني: الأدلة السمعية؛ لأن المقصود استنباط الأحكام، وإنما يكون منها؛ لأن العقل لا مدخل له في الأحكام عندنا.

الثالث: الترجيح؛ إذ الأدلة الظنية قد تتعارض، فلا يمكن الاستنباط إلا بالترجيح.

الرابع: الاجتهاد، وهو الاستنباط الحق، فلا بُدَّ من معرفة أحكامه وشرائطه. ينظر شرح مقدمة المنطق، ص 1 ج.

(3)

في ت: المقصى.

(4)

في ت: مقصودًا.

ص: 239

فَالْمَبَادِئُ: حَدُّه، وَفَائِدَتُه، وَاسْتِمْدَادُهُ".

وإنما حصرنا

(1)

الثَّاني فيما ذكرناه؛ لأنَّ الغرض

(2)

إنَّما هو استنباط الأحكام.

الشرح: فالمبادئ ثلاثة

(3)

:

"حدُّهُ": أولها؛ لأن كلّ طالب كثرةٍ يضبطها جهةٌ واحدةٌ، من حقه عرفانُها بتلك الجهة؛ إذ

(1)

في حاشية ج: قوله: "وإنما حصرنا الثاني أي: بقوله: والأول إما أن يبحث

إلخ فمراده بالثاني ما ذكره بقوله" والأول

إلخ.

(2)

في حاشية ج: قوله: "لأن الغرض

" إلخ فلما كان الغرض هو الاستنباط فالبحث إما عن نفسه أو عما يستنبط منه إما باعتبار معارضه أو باعتبار ذاته.

(3)

عد أهل العلم مبادئ كل علم عشرة، ذكر المصنف بعضها والبعض الآخر قد فصلناه في تقدمتنا على هذا الكتاب فليراجع، وقد نظمها بعضهم فقال:

مَنْ رَامَ عِلْمًا فَلْيُقْدِّمْ أَوَّلا

عِلْمًا بِحَدِّهِ وَمَوْضُوعٍ تَلا

وَوَاضِعٍ وَنِسْبَةٍ وَمُسْتَمِدّ

مِنْهُ وَفَضْلِهِ، وَحكْمٍ يُعْتَمَدْ

وَاسْمٍ وَمَا أَفَادَ وَالْمَسَائِلْ

فَتِلْكَ عَشْرٌ لِلْمُنَى وَسَائِلْ

وَبَعْضُهُمْ مِنْهَا عَلَى البَعْضِ اقْتَصَرْ

وَمَنْ يَكُنْ يَدْرِي جَمِيعَهَا انْتَصَرْ

"أما الحد، فلإحاطته بجميع مسائل العلم إجمالًا فقط، وضبطها على كثرتها، فبتصوره يأمن الطالب فوات ما يرجيه من تلك المسائل وضياع الوقت فيما لا يعنيه بطلب ما هو أجنبي عنها.

وأما الموضوع؛ فلأنه به يقع امتياز العلم المطلوب من غيره؛ لأن العلوم جنس واحد، وإنما تنوعت وتميزت بتغاير الموضوعات حتى إنه لو لم يكن لعلم موضوع مغاير لموضوع علم آخر بالذات كموضوعي النحو والطب، وهما اللفظ العربي بعد التركيب وبدن الإنسان أو بالاعتبار كموضوعي المعاني والبيان، وهما اللفظ العربي المركب، لكن الأول يبحث عنه من حيث المطابقة للحال، والثاني يبحث عنه من حيث تفاوته في وضوح الدلالة لم يصح كونهما علمين وتعريفهما بتعريفين مختلفين، وموضوع كل علم ما يبحث في ذلك العلم عن أعراضه الذاتية، وعنوا بالذاتية ما يلحق الشيء لذاته كإدراك الأمور الغريبة للإنسان أو لأمر يساويه لتعجب للإنسان بواسطة إدراك الأمور الغريبة الذي هو مساوٍ للإنسان، أي: خاص به أو لجزئه الأعم كالتحرك للإنسان؛ لأنه حيوان مثلًا، وموضوع الفقه أفعال المكلفين؛ لأنه يبحث فيه عن أعراضها الذاتية من وجوب، وحرمة، وغيرهما، وموضوع الحساب الأعداد؛ لأنه يبحث فيه عن أعراضه الذاتية من جمع، وطرح، وضرب، وغيرها، وموضوع الفرائض التركات؛ لأنه يبحث فيه عن أعراضها الذاتية من قسمة وغيرها.

وأما الواضع؛ فلأن معرفته مما له دَخْلٌ في دواعي الإقْبَال، وأما الشبة؛ فلأن بمعرفتها يطلع على أن العلم المطلوب يستمد من علم آخر فيكون الآخر أعلى ويستمد منه آخر فيكون الآخر أسفل، وكل =

ص: 240

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لو لم يطلبها قبل ضبطه، لم يأمن فوات ما يَرْجِيهِ، وضياع الوقت فيما لا يعنيه؛ [وبتلك]

(1)

الجهة يؤخذ تعريفه بالحد أو الرسم

(2)

.

"وفائِدَتُهُ": ثانيها؛ ليخرج عن العَبَثِ.

= علم كانت مسائله المطلوبة فيه بالبرهان مبادئ علم آخر تؤخذ فيه مسلمة، فيتوقف الثاني على الأول، سمي الأول أعلى وكليًّا للثاني والثاني أسفل وجزئيًّا للأول، كعلم الحساب مع علم الفرائض وكالمنطق مع الكلام، فلو توقف علم على ثانٍ، وثان على ثالث، كان المتوسط أعلى وكليًا باعتبار ما تحته، وأسفل وجزئيًّا باعتبار ما فوقه.

وأما الاستمداد؛ فلأنه يُعَرِّفُ مراتب العلوم فيطلع على ما حقه أن يُقدَّمَ في الطلب، وما حقه أن يؤخر، وهو الحامل على معرفة النسبة.

وأما الفضيلة؛ فلأن معرفتها من دواعي الإقبال، ونشاط الطالب فيسهل عليه الطلب، وفضيلة كل علم بحسب شرف معلومه وفائدته.

وأما حكم الشارع فلأن الطالب مع جهله ربما يقع في ممنوع أو مكروه، فإذا أعلمه أحجم، أو يعرض عن واجب أو مندوب، فإذا علمه أقْدَمَ.

وأما الاسم؛ فلأن ما لا يُعْرَفُ اسمه، قالوا: لا يحسن طلبه.

وأما المسائل، فهي القضايا التي يطلب في ذلك العلم نسبة محمولاتها إلى موضوعاتها بالبرهان، وهي نفس العلم، فلا يصح عدها من المبادئ، وإنما الذي من المبادئ ضبطها بوجه إجمالي، لتقوي البصيرة في طلبها. ينظر النشر الطيب 1/ 234 وما بعدها.

(1)

سقط في أ، ب، ت.

(2)

التعريف إما أن يكون بالذاتيات فقط، وهو الحدّ، وإما أن يكون بالذاتيات والعرضيات، أو بالعرضيات فقط، وهو الرسم:

1 -

فالحد التام: هو ما كان بالجنس والفصل القريبين، مثل تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق.

ويستحسن ترتيب الجنس والفصل، بأن يكون الجنس أولًا والفصل ثانيًا، بل لقد أوجب بعض العلماء ذلك.

2 -

الحد الناقص. هو ما كان بالفصل القريب وحده، أو به مع الجنس البعيد، مثل تعريف:"الإنسان" بأنه ناطق أو تعريفه بأنه جسم ناطق أو كائن ناطق.

3 -

والرسم التام: هو ما كان بالجنس القريب والخاصة مثل تعريف الإنسان بأنه: حيوان ضاحك.

4 -

والرسم الناقص: هو ما كان بالخاصة فقط، أو بها مع الجنس البعيد مثل تعريف الإنسان بأنه: كاتب أو جسم كاتب. ينظر حاشية الملوي على السلم ص 81، والمرشد السليم في المنطق الحديث والقديم 77، 78.

ص: 241

أَمَّا حَدُّهُ لَقَبًا: فَالْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ .............

"واسْتِمْدَادُهُ": ثالثها؛ إمَّا إجمالًا؛ ببيان أنه من أي علم يُسْتَمَدُّ؛ ليُرجع إليه عند الاحتياج، أو تفصيلًا بإفادة شيء ممَّا لا بُدّ من تصوّره وتسليمه، أو تحقيقه؛ لبناء الغرض عليه.

الشرح: "أمَّا حَدّه لَقَبًا

(1)

"

(2)

، واللقب: عَلَم يتضمن مدحًا أو ذمًّا.

وأصول الفقه: عَلَم لهذا العِلْم يشعر بابتناء فروع الدّين عليه؛ وهو صفة مدح.

"فالعلم بالقواعد

(3)

الَّتي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشَّرعية الفرعيَّة عن أدلّتها التفصيلية".

(1)

في حاشية ج: قوله: أما حده لقبًا .. إلخ، أي: حال كونه لقبًا علمًا على هذا الفن، فعرف اللقب بالعلم، وعرف الإضافي بالأدلة جمعًا بين القولين. ذكره الزركشي.

وفي حاشية أ: قوله: لقبًا إما حال أي: حال كون هذا الاسم لقبًا لهذا العلم، وإما تمييز أي من جهة كونه لقبًا، أو بعضه، وهم صاحب البديع قال: وأما تعريفه علمًا فبدل حد بتعريف ولقبًا تعلمًا ا. هـ.

(2)

أقول: اللقب علم يشعِرُ بمدحٍ أو ذمٍّ كما ذكر المصنف هنا، وأصول الفقه علم لهذا العلم مشعر بابتناء الفقه في الدين عليه، وهو صفة مدح، ثم إنه منقول من مركب إضافي، فله بكل اعتبار حدّ، وهذا يكشف عن حقيقة هذا الحدّ أن الأحكامَ قد تؤخذ لا من الشرع كالتماثل والاختلاف، وقد ئؤخذ منه، فتلك إما اعتقادية لا تتعلق بكيفية عمل، وتسمى أصليةً، أو عملية تتعلق بها، وتسمَّى فرعية، وهذه لا تكاد تتناهى، فامتنع حفظها كلها لوقت الحاجة للكل، فنيطت بأدلة كلية في عموماتٍ وعللٍ تفصيلية، أي كل مسألة مسألة بدليل دليل؛ ليُستنبط منها عند الحاجة، وإذ ليس في وسع الكل أيضًا أن ينتهض له لتوقفه على أدوات يستغرق تحصيلُها العمرَ، وكان يفضي إلى تعطّل غيره من المقاصد الدينية والدنيوية، فخُصَّ قوم بالانتهاض له وهم المجتهدون، والباقون يقلدونهم فيه، فدوَّنوا ذلك، وسمّوا العلم الحاصل لهم منها فقهًا، وإنهم احتاجوا في الاستنباط إلى مقدمات كلية، كُلُّ مقدمة منها يبتنى عليها كثير من الأحكام، وربما التبست، ووقع فيها الخلاف، فشعّبوا فيها شعبا، وتحزَّبُوا أحزابًا، ورَتَّبوا فيها مسائل تحريرًا واحتجاجًا وجوابًا، فلم يروا إهمالها نصحًا لمن بعدهم، وإعانة لهم على دَرْك الحق منها بسهولة فدوَّنوها، وسموا العلم بها أصول الفقه، فكأنَّ حَدَّهُ ما ذكرناه، وفوائد القيود قد ظهرت. ينظر شرح مقدمة ابن الحاجب (3) خ.

(3)

القواعد: جمع قاعدة، وتطلق في اللغة على الأساس، فقواعد البيت: أساسه. وقال الزمخشري في كشافه: القواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوقه، وهي صفة عالية، ومعناها الثابتة.

وفي اصطلاح الفقهاء: عرفها السبكي بأنها: الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة يفهم أحكامها منها. وعرفها أيضًا في جمع الجوامع بأنها: قضية كلية يعرف منها أحكام جزئياتها نحو: الأمر للوجوب حقيقة، والعلم ثابت لله تعالى. وعرفها ابن خطيب الدهشة بأنها: حكم كلي ينطبق =

ص: 242

الْأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيةِ، وَأَمَّا حَدُّهُ مُضَافًا: فَالأُصُولُ: الْأَدِلَّةُ.

والمراد بالعلم هنا: الاعتقاد الجازم المطابق الثَّابت لموجِب قَطْعي

(1)

. والقواعد: هي الأمور الكلّية المنطبقة على الجزئيات؛ لتعرف أحكامها منها، واحترز بها عن العلم بالأمور الجزئية، وعن العلم ببعض القواعد؛ فإنها ليست نفس الأصول.

وقوله: يتوصل بها إلى استنباط الأحكام - احترازٌ عن القواعد التي يستنبط

(2)

منها الصنائع، والعلم بالماهيات

(3)

والصفات.

والشرعيَّة - احترازٌ عن الاصطلاحية العقلية، والفرعية - احترازٌ عن الأصولية.

وقوله: "عن أدلتها" لا يحترز به

(4)

عن شيء، لأن المراد من الأحكامِ - الفقهية، وهي لا تكون إلا كذلك.

وعلى التعريف اعتراضاتٌ أضْرَبْتُ عنها؛ لإمكان دفعها.

"وأما حده مضافًا"

(5)

، أي: من حيث هو مضاف، فيتوقف على معرفة مفرداته

(6)

؛ ضرورةَ توقّف معرفة المركب على معرفة أجزائه

(7)

.

= على جميع جزئياته؛ لتعرف أحكامها منه. وقيل: هو مجموعة الأحكام المتشابهة التي يجمعها قياس واحد يلم شتاتها، ويضبط مفرداتها؛ لإدخال الجزئيات تحت قانونها. وقيل أيضًا: هي الحكم الكلي المنطبق على الجزئيات المندرجة تحت مفهومها من الفروع الكثيرة المختلفة. وقيل: القاعدة: حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته. ينظر تقدمتنا على الاعتناء في الفروق والاستثناء بتحقيقنا.

(1)

في ت: قطع.

(2)

في أ، ج: تستنبط.

(3)

جمع ماهية والماهية: تطلق غالبًا على الأمر المُتَعَقَّل مع فطع النظر عن الوجود الخارجي. والأمر المُتَعَقَّل من حيث إنه مقول في جواب "ما هو" يسمى: ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى: حقيقة، ومن حيث إنه محل الحوادث: جوهرًا.

ينظر: التعريفات للجرجاني ص 205.

(4)

في حاشية ج: قوله: لا يحترز به عن شيء

الخ قد يقال: ذكره لأجل قوله: التفصيلية المخرج للعلم بوجوب الشيء لوجود المقتضى أو بعدم وجوده لوجود الثاني؛ فإنه ليس من الفقه كما في التلويح، وفيه أن هذا خارج بالاستنباط.

(5)

في ت: حد الأصول الإضافي.

(6)

في ب: مفرديه.

(7)

أصول الفقه مفرداته: الأصول والفقه من حيث دلالتها على معنييها، فالأصول الأدلة، وذلك لأن "الأصل" في اللغة ما يبتنى عليه الشيء، ويقال في الاصطلاح: للراجح، ويقال: الأصل الحقيقة، =

ص: 243

وَالْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التفْصِيلِيَّةِ بِالاسْتِدْلالِ.

وأصول الفقه: مركّب من مضاف، ومضاف إليه، وهما - الأصول، والفقه:

"فالأصول": جمع أصل، وهو ما يحتاج إليه الشيء

(1)

، أو ما يبتنى

(2)

عليه الشيء

(3)

.

وفسّرها المصنف

(4)

بأنها: "الأدلة"، أي: السمعية.

[تعريف] الفقه

"والفقه: العلم بالأحكام الشَّرعية الفرعيَّة عن أدلّتها التفصيلية بالاستدلال": وخرج بقيد

= وللمستصحب يقال: تعارض الأصل والطارئ، وللقاعدة الكلية يقال لها: أصل، وهو أن الأصل مقدّم على الطارئ.

وللدليل يقال: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة، وإذا أضيف إلى العلم فالمراد دليله.

والفقه: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المكتسبة عن أدلتها التقصيلية بالاستدلال، وبهذا القيد الأخير احترزنا عما عُرِفَ بالأدلَّة ضرورة كعلم جبريل والرَّسول، ومن لم يجعله عن الأدلة، ورأى ذلك مشعرًا بالاستدلال، فإمَّا للتصريح بما علم التزامًا، وإمَّا لدفع الوهم، وإما للبيان دون الاحتراز، وباقي القيود عُرِفَتْ مما تقدَّم.

واعلم أن له جزءًا آخر كالصورة، وهو الإضافة، واضافة اسم المعنى تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه باعتبار ما دلَّ عليه لفظ المضاف، تقول: مكتوب زيد، والمراد اختصاصه به لمكتوبيّته له بخلاف اسم العين؛ فإنها تفيد الاختصاص مطلقًا، فإذن أصول الفقه أدلة العلم من حيث هي أدلّته، ونُقِلَ إلى ما ذكرنا عرفًا، ولو حُمِلَ الأصول على معناه اللُّغوي حتى يكون معناه ما يستند الفقه إليه يشمل للأقسام، فلم يحتج إلى النقل. ينظر شرح مقدمة ابن الحاجب (5) خ.

(1)

قاله الإمام في المحصول والمنتخب، وتبعه الأرموي. ينظر نهاية السول 1/ 7.

(2)

في ب، ت: ينبني.

(3)

قاله أبو الحسين البصري في شرح "العمد".

والأصل اصطلاحًا له أربعة معانٍ:

أحدها: الدليل، كقولهم: أصل هذه المسألة الكتاب والسنة، أي: دليلها، ومنه أيضًا أصول الفقه، أي: أدلته.

الثاني: الرجحان، كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، أي: الراجح عند السامع هو الحقيقة لا المجاز.

الثالث: القاعدة المستمرة، كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل.

الرابع: الصورة المقيس عليها على اختلاف مذكور في القياس في تفسير الأصل.

(4)

في أ: المص وهي اختصار لكلمة المصنف.

ص: 244

وَأُورِدَ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْبَعْضَ، لَمْ يَطَّرِدْ؛ لِدُخُولِ الْمُقَلِّدِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعَ، لَمْ يَنْعَكِسْ؛ لِثُبُوتِ "لا أَدْرِي".

"التفصيلية": ما عرف بالأدلة الإجمالية

(1)

.

وبقوله: "عن أدلّتها" المعروفُ؛ لا عن دليل، كالمعلوم ضرورة، أو يقال: المعلوم بالضرورة معلوم بدليل، ولكن غير تفصيلي.

وبقية القيود معروفة ممَّا تقدَّم.

الشرح: "وأُورد" على التَّعريف: " [إنْ كان المراد" بالأحكام: "البعض"، أي: لم يكن

(2)

المراد الجميع؛ إذ عدم إرادة الجميع أعمّ من إرادة البعض - "لم يطّرد"]

(3)

؛ ضرورة تحققه بدون تحقّق المحدود؛ "لدخول المقلّد" في الحدّ، وخروجه من المحدود؛ فإنَّه عالم ببعض الأحكام الَّتي يتلقّاها من [المفتي]

(4)

؛ فيصدق على علمه حد الفاقه، ولا يكون علمه فقهًا؛ لأن المقلّد لا يسمى فقيهًا، "وإن كان" - المراد بالأحكام - "الجميع، لم ينعكس"؛ ضرورة تحقق المحدود بدون الحَدّ؛ لأن المجتهدين لا يعلمون جميع الأحكام؛ "لثبوت "لا أدري"؛ بالنسبة إليهم، وصدقِهم في إخبارهم بذلك.

سُئلَ مالكٌ

(5)

عن أربعين مسالةً، فقال في ست وثلاثين: لا أدري.

فالحد [إذن]

(6)

: إما غير مطرد، أو غير منعكس

(7)

.

(1)

الدلائل الإجمالية أي غير المعينة كمطلق الأمر والنهي وفعل النبي والإجماع والقياس

الخ. ينظر المحلى على جمع الجوامع بهامش الآيات البينات 1/ 53.

(2)

في حاشية ج: قوله: أي لم يكن

إلخ لعله لمقابلته لقوله: وإن كان المراد الجميع وإلَّا فالأمر دائر بين إرادة البعض وارادة الكل، وأمَّا عدم إرادة شيء فلا يصح. تأمل.

(3)

بدل ما بين المعكوفين في ت: وإن كان الجميع المراد بالأحكام الجميع لم ينعكس لم يطرد.

(4)

في ت: المعنى، وهو تحريف.

(5)

مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي أبو عبد اللّه المدني، أحد أعلام الإسلام، وإمام دار الهجرة. عن نافع والمَقبُرِي ونُعَيم بن عبد اللّه وابن المنكدر ومحمد بن يحيى بن حبَّان وإسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة وأيوب وزيد بن أسلم وخلق. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر. وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة. ودفن بالبقيع. ينظر: الخلاصة 3/ 3، وسير أعلام النبلاء 8/ 48، وطبقات خليفة 275، والمعارف لابن قتيبة 498 - 499، والديباج المذهب 1/ 55 - 139، وتهذيب التهذيب 10/ 5.

(6)

سقط في ت.

(7)

أورد على حَدِّ الفقه أنه المراد بالأحكام إن كان هو البعض لم يطّرد؛ لدخرل المقلد إذا عرف بعض =

ص: 245

وَأُجِيبَ بِالْبَعْضِ، وَيَطَّرِدُ؛ لأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَدِلَّةِ الْأَمَارَات، وَبِالْجَمِيعِ، وَيَنْعَكِسُ؛ لأَنَّ الْمُرَادَ تَهَيُّؤهُ لِلْعِلْمِ بِالجَمِيعِ.

"وأجيب بالبعض، ويطرد؛ لأن المراد بالأدلّة: الأمارات"؛ وهي الَّتي تفيد الظنّ - يُحتاج في الاستدلال بها إلى معرفة التَّعارُض، وليس ذلك ولا بعضُه في المقلّد.

"وبالجميع، وينعكس؛ لأن المراد - تهيؤه"، أي: تهيؤ المجتهد "للعلم بالجميع"، لا نفسُ العلم بالجميع، والعلم "بهذا المعنى" لا ينافي ثبوت "لا أدري" ولا يخفى أن المراد بالتهيؤ: الاستعداد القريب، لا كاستعداد العامِّي.

وأشهرُ ما اعترض

(1)

به على الحَدّ: أن "الفقه" من باب الظُّنون، فكيف قيل فيه: العلم؟.

وهو مشكِلٌ، أورده شيخ الجماعة، ومقدَّم الأشاعرة "القاضي أبو بكر"، والتزم لأجله جماعةٌ العنايةَ بالحَدّ، فقالوا: المراد بالعلم: الإدراك

(2)

.

وقيل: الصواب أن ويقال العلم أو الظَّنّ.

= الأحكام كذلك؛ لأنّا لا نريد به العامي، بل من لم يبلغ درجة الاجتهاد، وقد يكون عالمًا يمكنه ذلك مع أنه ليس بفقيه إجماعًا، وإن كان هو الكل لم ينعكس؛ لخروج بعض الفقهاء عنه؛ لثبوت "لا أدري" عمّن هو فقيه بالإجماع.

نُقِلَ أن مالكًا سُئلَ عن أربعين مسألة، فقال في ستة وثلاثين منها:"لا أدري" كما حكى المصنف عليه رحمة الله. والجواب: أنَّا نختار أن المراد البعض.

قولكم: "لا يطرد لدخول المقلد فيه" ممنوع؛ إذ المراد بالأدلة الأمارات، ولا يعلم شيئًا من الأحكام كذلك إلَّا مجتهد يجزم بوجوب العمل بموجب ظنّه.

وأمَّا المقلد فإنما يظنه ظنًّا، ولا يفضي به إلى علم، لعدم وجوب العمل بالظنّ عليه إجماعًا، أو نختار أن المراد الكل.

قولكم: لا ينعكس؛ لثبوت "لا أدري".

قلنا: ممّ؟ ولا يضر ثبوت "لا أدري" إذ المراد بالعلم بالجميع المتهيؤ له، وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه بأن يرجع إليه، فيحكم، وعدم العلم في الحالة الراهنة لا ينافيه؛ لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة، أو لعدم التمكن من الاجتهاد في الحال لاستدعائه زمانًا. ينظر شرح مقدمة ابن الحاجب (6) خ.

(1)

في ج: ما يعترض، وفي ح: مفترض.

(2)

قلت: المراد الإدراك الجازم المطابق الثابت لموجب قطعي. ينظر: الصبان على شرح السلم (42).

ص: 246

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والجواب

(1)

عن السؤال: ما ذكره "الإمام" في "المحصول"؛ من أن المجتهد، إذا غلب على ظنّه مُشَاركة صورة لصورة، في مَنَاطِ الحكم، قطع بوجوب العمل؛ فالحكم معلوم، والظنّ وقع في طريقه.

وسنوضِّح ذلك بترتيب خاصّ؛ فإن

(2)

أصحاب الإمام لم يقنعوا

(3)

منه بهذا الجواب، وزعموا السؤال باقيًا، فنقول: إذا ظننا شتاء، لظننا أيام الشتاء نزول المطر، إذا رأينا الغيم المُطْبق الرّطب قد أرخى أهْذَابه، فنزول المطر غالبٌ على عدم نزوله، وهذا ظن، ثم نحن واجدون من أنفسنا؛ أنا عالمون بظننا، وهذا علم وجداني بالظن، والمطرُ يجوز أن ينزل، أو لا ينزل حَالَ ظَنّنا، وأما نحن، فلا يجوز أن نظنّ حال ظننا.

وكذا إذا قال لزوجته: متى ظننت أني طلقتك طلقة، فأنت طالق ثلاثًا؛ فظنت

(4)

أنه طلقها [طلقة؛ طُلِّقَتْ]

(5)

ثلاثًا قطعًا.

فهذا

(6)

حكم معلوم قطعًا، والظَّنّ وقع في طريقه.

وكذلك

(7)

المجتهد؛ إذا ظَنّ حكمًا من الأحكام العملية، وجب عليه العمل بمقتضى ظنه قطعًا؛ عُلم ذلك بالضرورة

(8)

من استقراء [الشَّرع]

(9)

، والظنّ واقع في طريقه كما ذكرنا في المرأة.

(1)

في حاشية ج: قوله: والجواب

إلخ هذا الجواب يحتاج لزيادة ذكرها السيد رحمه الله في "حواشي العضد" ومع هذا ففيه شيء؛ لأن الكلام في العلم بالأحكام عن الأدلة أي أدلة تلك الأحكام، والعلم عنها لا يكون إلَّا ظنًا؛ إذ طريقه الاجتهاد، وأما علم أن ما أدى إليه اجتهاده حكم الله في حقه وحق مقلديه، فليس من أدلة تلك الأحكام بل من الإجماع، فلا محيص عن إرادة الظن القوي من العلم. فليتأمل. إلَّا أن يقال: الحاصل عن أدلتها مع واسطة أخرى.

قال الزركشي: قال في البرهان: فإن قيل: معظم المسائل الشرعية ظنون، قلنا: ليست الظنون فقهًا، وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون، ولذلك قال المحققون: أخبار الآحاد والأقيسة لا توجب العمل، وإنما يجب العمل بما يجب.

(2)

في ت: وإن.

(3)

في ج: يقتنعوا.

(4)

في ت: وظنت.

(5)

سقط في ت.

(6)

في ت: وهذا.

(7)

في ت: وكذا.

(8)

في حاشية ج: قوله: "علم ذلك بالضرورة" معناها أن يبلغ الحكم كوجوب الصلاة بعدما ثبت بدليل شرعي إلى حد الاشتهار بحيث نستغني عن الاستدلال به عليه، ويضر بثبوته في الدين غير المتدين أيضًا، لكن هذا لا يفيد القطع كالضرورة العقلية.

(9)

سقط في ت.

ص: 247

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وعند هذا نقول: إذا ظنّ الشَّافعي حِلّ

(1)

لعب الشِّطْرَنج

(2)

، فإن حله في حقّه معلوم قطعًا؛

(1)

في أ، ت، ح: شغل.

(2)

هو بكسر أوله وفي لغة بالسين، وفيه أربع لغات: كسر الشين وفتحها والإعجام والإهمال والأشهر الإعجام مع الكسر، ويجمع على شطارج وأصله في اللغة الأعجمية:"شسن رنك" ومعناه ستة ألوان؛ لأن شسن ستة، ورنك الوان، وهي أعني الستة: الشاة - والغرزان - والفيل - والفرس - والرخ - والبيدق - ثم أول من وضعه كما ذكره ابن خلكان وصاحب الغرر. "صصَّة بن داهر الهندي" وضعه لـ"بلهيت" ويقال له شِهْرَامْ بكسر الشين المعجمة. وقصد الواضع للشطرنج مضاهاة لأزدشير أول ملوك الفرس الأخيرة واضع النرد، لتمثيل الدنيا وأهلها، وافتخرت الفرس بذلك. ثم لما فارق حكماء ذلك العصر بينهما قضوا بترجيح الشطرنج على النرد - حيث إن الشطرنج وضع على أساس قاعدة أن لا قضاء ولا قدر مؤثرين بذاتهما، وأن الإنسان قادر بسعيه واجتهاده أن يبلغ المراتب العلية والخطط السنية، فكان في ذلك إبطال القاعدة الأساسية التي بني عليها وضع النرد، كما أن الإنسان لو أهمل السعي والاجتهاد هوى به إلى الحضيض وأخرجه من روض العيش الأريض. ومما يدل على ذلك أن البيدق ينال بحركته وسعيه منزلة "الغرزان" في الرياسة. ثم جعلها الواضع مصورة تماثيل على صورة الناطق والصامت، وجعلها درجات ومراتب، فجعل "الشاة" الرئيس والمدبر، والفرس والفيل مركوبين له "والغرزان" وزيره "والبيادق" رعاياه، فالواحد من الرعية لو أعطى الاجتهاد حقه في تهذيب نفسه كان ذلك عونًا على أن ينال رتبة "الغرزان" أي وزيرًا، وكذلك "الغرزان" إذا علت همته وتمكنت قدرته، طمحت نفسه إلى نيل رتبة "الشاة" أي الملك ونازعه الملك، ولو أدى إلى مقاتلته، وهكذا الحكم في كل قطعة من القطع التي تليها. وقيل: إن الواضع للشطرنج بعض الحكماء؛ ليبينوا للناس ما خفي عنهم من مكايد الحروب وكيفية ظفر الغالب وخذلان المغلوب، وبينوا فيها التدبير والحزم والاحتياط والمكيدة والاحتراس، والتعبية والنجدة، والقوة والجلد والشجاعة والبأس، فمن عدم شيئًا من ذلك علم موضع تقصيره ومن أين أتى بسوء تدبيره؛ لأن خطأها لا يستقال، والعجز فيها متلف المهج والأموال؛ لأنه معلوم بالبداهة أن في ترك الحزم ذهاب الملك، وضعف الرأي جالب للعطب والهلاك، والتقصير سبب الهزيمة. والتلف وعدم المعرفة بالتعبية داع إلى الانكشاف أمام العدوّ.

قال النووي: مذهبنا أنه مكروه، وليس بحرام، وهو مروي عن جماعة من التابعين. وقال مالك وأحمد: هو حرام، قال مالك: هو شرٌّ من النرد وألهى. وروى ابن كثير في "إرشاده" أن أول ظهور الشطرنج في زمن الصحابة، وضعه رجل هندي يقال له:"صصة"، قال: وروى البيهقي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه: "أن عليًّا قال في الشطرنج: هو من الميسر".

قال ابن كثير: وهو منقطع جيد، وروي عن ابن عباس وابن عمر وأبي موسى الأشعري، وأبي سعيد وعائشة أنهم كرهوا ذلك. وروي عن ابن عمر أنه شر من النرد كما قال مالك. =

ص: 248

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لأنَّه مظنونُ الحِلِّ عنده - وذلك وجداني؛ وكلّ ما ظن حله، فهو حلال في حقّه قطعًا، والظن لم يكن في هذا الدَّليل مقدمة من المقدمتين، وإنَّما وقع في طريق الدَّليل؛ حيث كان معلومًا بالوجدان؛ كما وقع في حَقّ المرأة.

والذين رَدُّوا الجواب، ظنُّوا الظَّن أحد المقدمتين، وهو غلط؛ فإن الظَّن لم يكن مقدمة، بل كان متعلَّقَ الوجدان، وظنوا أن مستند المقدمة الثانية الإجماعُ؛ فأوردوا على الإمام أن الإجماع عنده ظني.

والإمام لم يذكر أن مستنده الإجماع، وإنما مستنده الاستقراء؛ قاله الشَّيخ صدر الدِّين بن المرحل

(1)

؛ وذكر أن شيخ الإسلام سيد المتأخرين "تقي الدِّين بن دقيق العيد"

(2)

كان ممن يظنّ

= وقد روي في تحريمه أحاديث، أخرجه الديلمي من حديث واثلة مرفوعًا:"إن للّه في كل يوم ثلاثمائة نظرة، ولا ينظر فيها إلى صاحب الشاه" وفي لفظ: "يرحم بها عباده ليس لأهل الشاه فيها نصيب" يعني الشطرنج. وأخرج من حديث ابن عباس يرفعه: "ألا إن أصحاب الشاه في النار، الذين يقولون: قتلت واللّه شاهك"، وأخرج الديلمي أيضًا عن أنس يرفعه:"ملعون من لعب بالشطرنج" وأخرج ابن حزم وعبدان: "ملعون من لعب بالشطرنج، والناظر إليهم كالآكل لحم الخنزير" من حديث جميع بن مسلم. وأخرج الديلمي عن علي مرفوعًا: "يأتي على الناس زمان يلعبون بها، ولا يلعب بها إلا كل جبار، والجبار في النار" وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرَّم الله وجهه أنه قال: "النرد والشطرنج من الميسر".

قالأ بن كثير: والأحاديث المروية فيه لا يصح منها شيء، ويؤيد هذا ما تقدم من أن ظهوره كان في أيام الصحابة، وأحسن ما روي فيه ما تقدم عن علي كرم الله وجهه، وإذا كان بحيث لا يخلو أحد اللاعبين من غنم أو غرم فهو من القمار، وعليه يحمل ما قاله علي:"إنه من الميسر" والمجوِّزون له قالوا: إن فيه فائدة، وهي معرفة تدبير الحروب ومعرفة المكايد؛ فأشبه السبق والرمي. قالوا:"وإذا كان على عِوَضٍ فهو كَمالِ الرِّهانِ". ينظر نيل الأوطار 8/ 99 - 100.

(1)

محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد بن عطية بن أحمد، أبو عبد الله بن الخطيب زين الدين أبي حفص العثماني، المعروف بـ "ابن المرحل" وبـ"ابن الوكيل"، ولد سنة 665، وسمع الحديث من جماعة، وحفظ كتبًا كثيرة، وتفقه على والده وعلى شرف الدين المقدسي وتاج الدين الفزاري وغيرهم، وشرع في شرح الأحكام لعبد الحق، فكتب منه ثلاث مجلدات دالات على تبحره في الحديث والفقه والأصول، ولما بلغت وفاته ابن تيمية قال: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين. مات 716. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 233، وطبقات السبكي 6/ 23، والبداية والنهاية 14/ 80.

(2)

محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري، تقي الدِّين بن دقيق العيد، ولد سنة =

ص: 249

وَأَمَّا فَائِدَتُه، فَالْعِلْمُ بِأَحْكَامٍ اللَّهِ تَعَالَى

بطلان الجواب، ويقول

(1)

: متعلَّق الظّن مظنون قطعًا؛ كما أن متعلَّق العلم معلوم قطعًا؛ فيستحيل أن يكون معلومًا مظنونًا

(2)

.

قال: وجوابه: أن نتيجة الأدلة الأصولية هو الظَّن، ففي ذلك الوقت - وهو الوقت الأول -[هو]

(3)

مظنون، ثم إذا صار مظنونًا، وجب العمل به، [ووجوب العمل به]

(4)

معلوم في الوقت الثاني، وهما غيران: الأول منهما مظنون، والثاني معلوم.

قال: ورأيت "ابن بَرْهان" ذكر في "أصوله" مسألةً [عقدها]

(5)

بيننا، وبين الحنفيَّة، فقال: الحكم عندنا قطعي؛ خلافًا لأبي حنيفة؛ فإنه عنده ظني.

قلت: وجواب الإمام الرَّازي مسبوق إليه؛ فإنَّ إمام الحرمين ذكره؛ حيث قال: جواب

(6)

السؤال: ليست الظنون فقهًا

(7)

، إنَّما الفقه

(8)

: العلم بوجود

(9)

العمل عند قيام الظنون

(10)

؛ فأخذه الإمام الرَّازي، وبسطه.

الشرح: "وأمَّا فائدته"

(11)

، أي: فائدة الأصول، "فالعلم بأحكام الله تعالى"

(12)

، "وأمّا

= 625، تفقه على والده، ثم على ابن عبد السلام، وسمع الحديث من جماعة، قال ابن عبد السلام: ديار مصر تفتخر برجلين في طرفيها: ابن منير بـ "الإسكندرية"، وابن دقيق العيد بـ"قوص". قال السبكي:"ولم ندرك أحدًا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة -، وأنه أستاذ زمانه علمًا ودينًا .. ". صنف الإلمام في الحديث، وله:"شرح العمدة" أملاه إملاء، وله الاقتراح في اختصار علوم ابن الصلاح، وهو مطبوع. مات سنة 702. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 229، وطبقات الإسنوي ص 336، وطبقات السبكي 6/ 2.

(1)

في ت: ونقول.

(2)

في ت: مظنونًا معلومًا.

(3)

سقط في ت.

(4)

سقط في ب.

(5)

في أ: عدها.

(6)

في ب: في جواب.

(7)

في أ، ج: فيها.

(8)

في حاشية ج: قوله: "إنما الفقه

" إلخ فيه أن الكلام ليس في وجوب العمل؛ لأن هذا حكم من الأحكام الفقهية، ولا ننكر أن يكون بعض الأحكام معلومًا، إنما الكلام في نفس أحكام المسائل بناء على أن المصيب واحد، والمسألة مبسوطة في بحر الزركشي الأصولي فراجعه، وقد تقدم الجواب.

(9)

في ب، ج: بوجوب.

(10)

ينظر البرهان 1/ 85 (4، 5).

(11)

في هامش ت: فائدة الأصول.

(12)

أقول: فائدة أصول الفقه معرفة أحكام الله تعالى، وهي سبب الفوز بالسعادة الدينية والدنيوية.

ص: 250

وَأَمَّا اسْتِمْدَادُه، فَمِنَ الْكَلَامِ؛ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَالْأَحْكامِ:

أَمَّا الْكَلَام، فَلِتَوَقُّفِ الْأَدِلّةِ الْكُلِّيَّةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْبَارِي - تَعَالَى - وَصِدْقِ الْمُبَلِّغِ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَى دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ.

وَأَمَّا الْعَرَبِيَّة، فَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَرَبِيَّة.

وَأَمَّا الْأَحْكَام، فَالْمُرَادُ تَصَوُّرُهَا؛ لِيُمْكِنَ إِثْبَاتها وَنَفْيُهَا، وَإلَّا جَاءَ الدَّوْرُ.

استمدادُهُ

(1)

، فمن الكلام، والعربية، والأحكام: أَمَّا الكلام؛ فلتوقف الأدلة الكلية على معرفة الباري تعالى، وصدق المبلغ"، وهو - أي صدقه -: "يتوقف على دلالة المعجزة"

(2)

، وكلّ ذلك من علم الكلام.

"وأما العربية؛ فلأن الأدلّة من الكتاب والسُّنة عربية"؛ ضرورة أنهما عربيان

(3)

.

"وأما الأحكام، فالمراد تصورها

(4)

؛ ليمكن

(5)

إثباتها ونفيها"، ولا نريد العلم بإثباتها أو نفيها؛ "وإلَّا جاء الدور"؛ لأن ذلك فائدة العلم، فيتأخر حصوله عنه، فلو توقف عليه العلم، كان دورًا.

(1)

في هامش ت: استمداد الأصول.

(2)

هذا العلم يستمد من الكلام ومن العربية ومن الأحكام.

أما الكلام: فلتوقف الأدلة الكلية؛ أي الإجمالية، ككون الكتاب والسنة والإجماع حجة على معرفة الباري؛ ليمكن استناد خطاب التكليف إليه، ويعلم لزومه حينئذٍ، ويتوقف على أدلَّةِ حدوث العالم، وأيضًا إنه يتوقف على صدق المبلّغ، وهو يتوقف على دلالة المعجزة عليه، ودلالتها تتوقف على امتناع تأثير غير القدرة القديمة فيها، وتتوقف على قاعدة خلق الأعمال، وعلى إثبات العلم والإرادة والقدرة، ولا تقليد في ذلك لاختلاف العقائد، فلا يحصل به علم.

(3)

وأمَّا العربية؛ فلأن الكتاب والسنة عربيّان، والاستدلال بهما يتوقف على معرفة اللّغة من حقيقة ومجاز، وعموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، ومنطوق ومفهوم، وغير ذلك.

(4)

وذلك لأن المقصود إثباتها ونفيها في الأصول إذا قلنا: الأمر للوجوب، وفي الفقه إذا قلنا: الوتر واجب مثلًا، ولا يمكن بدون تصورها، ولا يريد بالأحكام العلم بإثباتها أو نفيها؛ لأن ذلك فائدة العلم، فيتأخر حصوله عنه، فلو توقّف عليه العلم كان دورًا. ينظر: شرح مقدمة ابن الحاجب (6) خ.

(5)

في أ، ج: لتمكن.

ص: 251

الدَّلِيلُ لُغَةً: الْمُرْشِد، وَالْمُرْشِدُ: النَّاصِب، وَالذَّاكِرُ؛ وَمَا بِهِ الإِرْشَادُ.

وَفِي الاصْطِلَاحِ: مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ؛ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ، وَقِيلَ:

الشرح: "الدَّليلُ لغةً

(1)

: المرشد".

"والمرشد": يطلق على "النَّاصب" للعلامة، "والذاكر" لها، "وما به الإرشاد"؛ أي: والدَّليل لغةً يقال أيضًا لما به الإرشاد.

ولو قال: الدليل: المرشد، وما به الإرشاد

(2)

، والمرشد: الناصب والذاكر، كان أوضح.

"وفي الاصطلاح": الدليل: "ما يمكن التوصّل بصحيح النَّظر

(3)

فيه؛ إلى مطلوب خبري".

(1)

في هامش ت:‌

‌ تعريف الدليل.

(2)

الدليل لغة يقال للمرشد، وهو الناصب والذاكر، ولما به الإرشاد، وبهذا صرح به في "الإحكام"، ولا يبعد أن يجعل للمرشد، وهو للمعاني الثلاثة، فإنه ما به الإرشاد، يقال له المرشد مجازًا.

فيقال: الدليل على الصانع هو الصانع أو العالم، واصطلاحًا.

أما عند الأصوليين فما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبريّ وذكر الإمكان؛ لأن الدليل لا يخرج عن كونه دليلًا لعدم النظر فيه، وقيّد النظر بالصحيح؛ لأن الفاسد لا يتوصل به إليه، وإن كان قد يفضي إليه اتفاقًا، وهذا يتناول الأمارة. أي الظني منه، وربما قيل: إلى العلم بمطلوب خبري فلا يتناولها، وأمّا عد المنطقين فقولان فصاعدًا، وهذا يتناول الأمارة؛ لأنه يجمع القياس البرهاني والظني والشعري والسفسطي، وربما قيل: يدل "كونه يستلزم لذاته قولًا آخر" فيخرج الأمارة؛ إذ يختص بالبرهاني منه، فإن غيره لا يستلزم لذاته شيئًا؛ فإنه لا علاقة بين الظن وبين شيء لانتفائه مع بقاء سببه، وفيه بحث مذكور في الكلام. واعلم أن الحاصل من الدليل عندنا على إثبات الصانع هو العالم، وعندهم أن العالم حادث، وكل حادث فله صانع. ينظر شرح مقدمة ابن الحاجب (7) خ.

(3)

وأريد من النظر فيه ما يتناول النظر فيه نفسه، وفي صفاته وأحواله، فيشمل المقدمات التي هي بحيث إذا رتبت أدت إلى المطلوب الخبري، والمفرد الذي من شأنه إذا نظر في أحواله أوصل إليه كالعالم، وحيث أريد بالإمكان المعنى العام الجامع للفعل والوجوب، اندرج في الحدّ المقدمات المرتبة وحدها، وأما إذا أخذت مع الترتيب فيستحيل النظر فيها، وقيد النظر بالصحيح، وهو المشتمل على شرائطه مادةً وصورةً؛ لأن الفاسد لا يمكن أن يتوصل به إلى المطلوب خبري؛ إذ ليس هو في نفسه سببًا للتوصل ولا آلة له، وإن كان قد يفضي إليه فذلك إفضاء اتفاقي ليس من حيث إنه وسيلة له. ينظر حاشية التفتازاني على العضد 1/ 41.

ص: 252

إِلَى الْعِلْمِ بِهِ؛ فَتَخْرُجُ الْأَمَارَةُ.

وَقِيلَ: قَوْلَانِ فَصَاعِدًا يَكُونُ عَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ.

وإنَّما قال: "يمكن"؛ لأن الدليل لا يخرج عن كونه دليلًا؛ بعدم النظر فيه، وقيَّد النظرَ بالصحيح؛ لأن الفاسد لا يتوصّل به إليه.

ودخل في التَّعريف: الأمارة؛ لأن المطلوب الخبري أعم من أن يكون علميًّا أو ظنيًّا، وعلى هذا عامَّة الفقهاء؛ فيطلقون الدليل على ما أدى إلى علم أو ظن؛ وهو ما ذكره "الشيخ أبو إسحاق الشيرازي"، و"أبو الوليد الباجي

(1)

"

(2)

، وآخرون

(3)

.

"وقيل": ما يمكن أن يتوصّل بصحيح النظر فيه؛ "إلى العلم به" - وهو قول المتكلمين

(4)

، وبعض الفقهاء -؛ "فتخرج

(5)

الأمارة".

"وقيل": إنه "قولان"؛ أي: قضيتان "فصاعدًا يكون عنه قول آخر":

وقولنا: "يكون عنه" - أعمُّ من أن يكون لازمًا أو غيره؛ ليتناول الأمارة، وخرج عنه قضيتان، لم يحصل منهما شيء آخر.

وعُرِف من قوله: "فصاعدًا"؛ أن النتيجة قد تكون

(6)

عن مقدمتين، وقد تكون

(7)

عن أكثر وهو كذلك -؛ ومنه الحديث الثابت في "الصحيحين": "سَتكُونُ فِتَنٌ؛ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ من

(1)

سليمان القاضي أبو الوليد: خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي، أصلهم من "بطليوس" ثم انتقلوا إلى "باجة"، أخذ بـ"الأندلس" عن أبي الأصبغ وغيره. قال القاضي عياض: وحاز الرئاسة بالأندلس، فسمع منه خلق كثير، وتفقه عليه خلق. وقال القاضي أبو علي بن سكرة في أبي الوليد: ما رأيت مثله، ولا رأيت على سمته وهيبته وتوقير مجلسه، وقال: هو أحد أئمة السلمين. وله تأليف حسنة منها: المنتقى في شرح الموطأ. وغيره ولد سنة 403 هـ، وتوفي سنة 474 هـ. ينظر: الديباج 1/ 377 - 385، والشجرة 1/ 120 - 121، المدارك 4/ 802 - 808.

(2)

في أ، ب، ح: الناجي وهو خطأ.

(3)

ينظر: قواطع الأدلة لإمام الحرمين ص 8، والبحر المحيط 1/ 35، والمواقف للإيجي 2/ 49، وكشاف اصطلاحات الفنون 2/ 292، وتيسير التحرير 1/ 33، والمحصول 1/ 1/ 106، والتعريفات للجرجاني 104، وإحكام الفصول للباجي ص (171 - 5).

(4)

في ت: للمتكلمين.

(5)

في أ، ت: فيخرج.

(6)

في أ، ج، ح: يكون.

(7)

في أ، ج: يكون.

ص: 253

وَقِيلَ: يَسْتَلْزِمُ لِنَفْسِهِ؛ فَتَخْرُجُ الْأَمَارَة، وَلَا بُدَّ مِنْ مُسْتَلْزِمٍ لِلْمَطْلُوبِ، حَاصِلٍ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ؛ فَمِنْ ثَمَّ وَجَبَتْ مُقَدِّمَتَانِ.

القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، والمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ من السَّاعِي

"

(1)

.

فهذه ثلاث مقالات تنتج

(2)

: "القاعد فيها خير من السَّاعي".

"وقيل" بدل "يكون عنه": "يستلزم لنفسه" قولًا آخر، "فتخرج الأمارة"؛ فإنها لا تستلزم لنفسها قولًا آخر؛ إذ ليس بينها وبين ما تفيده

(3)

ربطٌ عقليٌّ، يقتضي لزوم القول الآخَر عنهما.

ثم سواء أكان الاستلزام بيِّنًا أم غيره، فيتناول الأشكال الأربعة، والقياس الاستثنائي.

ويخرج عنه بقولنا: "لنفسه" - قياس المساواة، مثل:"أ" مساوٍ لـ"ب"، و"ب" مساوٍ لـ"ج"؛ فإنَّه يلزمه:"أ" مساوٍ لـ"ج"، ولكن لا لنفسه؛ بل بواسطة مقدمة أجنبية؛ أي: مقدمة غير لازمة لإحدى مقدمتي القياس، وهو قولنا: كل ما هو مساوٍ لـ"ب" مساوٍ لـ"ج"؛ وكذا أخرج عنه القول المؤلَّف من قولين، المستلزمُ لمقول آخر؛ بواسطة عكس نقيض إحدى مقدمتيه؛ كقولنا: جزء الجوهر يوجب ارتفاعُه ارتفأعَ الجوهر، وما ليس بجوهر لا يوجب ارتفاعُه ارتفاعَ الجوهر؛ فإنَّه يستلزم قولنا: جزء الجوهر جوهر، ولكن لا لنفسه؛ بل بواسطة عكس نقيض المقدمة الثانية؛ وهو قولنا: وما يوجب ارتفاعه ارتفاع الجوهر، وهو

(4)

جوهر.

"ولا بد" في الدَّليل "من مستلزِم للمطلوب"

(5)

؛ وإلَّا لم ينتقلِ الذهن منه إلى

(6)

، حاصلٍ

(1)

متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري في الصحيح 6/ 612، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، الحديث 3601، وفي 13/ 29 - 30، كتاب الفتن، باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، الحديث 7081 و 7082، ومسلم في الصحيح 4/ 2212، كتاب الفتن، باب نزول الفتن كمواقع القطر، الحديث 10/ 2886، قوله:"من تشرف لها؛ أي تطلع لها بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها وقوله: "تستشرفه" أي تهلكه بأن يشرف منها على الهلاك، الحافظ ابن حجر، فتح الباري 3/ 31.

(2)

في أ، ج، ح: ينتج.

(3)

في أ، ح: يفيده.

(4)

في أ، ج، ح: فهو.

(5)

في أ، ت، ح: المطلوب.

(6)

لا بُدَّ في الدليل من مستلزم للمطلوب، وإلَّا لم ينتقل الذهن منه إليه، ولا بُدَّ في ثبوته للمحكوم عليه؛ ليكون الحاصل خبريًّا لا تصوريًّا، فلذلك وجبت فيه المقدمتان؛ لينبئ إحداهما عن اللزوم، وأخراهما عن ثبوت الملزوم.

فإن قلت: الله مختصّ فيما أرى ببعض الدلائل، وإلَّا فما تقريره في نحو: لا شيء في الملح =

ص: 254

وَالنَّظَرُ: الْفِكْرُ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ عِلْمٌ، أَوْ ظَنٌّ.

للمحكوم عليه؛ أي: المطلوبُ الخبريُّ لا بُدَّ أن يكون في الدليل ما يوجب العلمَ؛ أو الظنَّ به، وذلك الأمر يسمى الوسط، وَالوسطُ لا بد أن يكون "حاصلًا للمحكوم عليه"؛ فتحصل الصغرى، والمحكوم به حاصلًا أو مسكوتًا عنه، أو الوسط مسكوتًا عَنْـ[ـهُ في] المحكوم به، فتحصل الكبرى؛ "فمن ثَمَّ وجبت المقدّمتان".

الشرح: "والنَّظر

(1)

: الفكر

(2)

الذي يطلب به علم، أو ظن":

وخرج بقولنا: "الذي يطلب به علم، أو ظن" - الفكر لا لذلك؛ كأكثر حديث النفس؛ فلا يسمى نظرًا.

وهذا قريب من قول القاضي في "التقريب": فكرةُ القَلْب وتأمّله المطلوبَ به عِلْم هذه الأمورِ، يعني: عن الحق والباطل، أو غلبةُ الظن ببعضها.

وعبارة "مختصر التقريب"؛ لإمام الحرمين: الفكر الذي يطلب به معرفة الحق والباطل؛ في انتفاء العلوم، وغلبةِ الظنون

(3)

.

وقيل عبارات أُخَر، لا نطيل بذكرها

(4)

.

= بـ"قوت"، وكل ربوي مقتات، وفي نحو: لو كان الملح ربويًا لكان مقتاتًا، وليس فليس؟

قلنا: مهما جعلنا المطلوب والوسط هما النفي والإثبات يزول هذا الوهم. وتقريره في المثالين أن نفي الاقتيات حاصل له، وششلزم نفي الربوية، وفي الثاني كذلك، وستراه يُرجع الجميعَ إلى أمر واحد، وهو الشكل الأول؛ فيتحقق بذلك أن نظره إلى ما ذكرت. ينظر شرح المقدمة (7) خ.

(1)

النظر لغة: الانتظار وتقليب الحدقة نحو: المرئي والرحمة والتأمل، ويتميز بالمعدي من حروف الجر. البحر المحيط 1/ 42.

(2)

الفكر: هو انتقال النفس في المعاني انتقالًا بالقصد، وذلك قد يكون لطلب علم أو ظنٍّ، فيسمى نظرًا، وقد لا يكون كذلك كأكثر حديث النفس، فلا يسمى نظرًا، وبهذا صرح إمام الحرمين في "الشامل"، وقول الآمدي: مراده أن النظر هو الفكر، ثم يفسره بأنه الذي يطلب علم أو ظنّ بعيد. أفاده في شرح المقدمة (7) خ.

(3)

ينظر: التعريفات للجرجاني (241)، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 5، والعدة لأبي يعلى 1/ 183، ونشر البنود 1/ 159.

(4)

قال الرُّوياني في "البحر": والفرق بين الجدال والنظر وجهان: أحدهما: أن النظر: طلب الثواب، والجدال: نصرة القول. والثاني: النظر: الفكر بالقلب والعقل، والجدال: الاحتجاج باللسان.

ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه 1/ 43.

ص: 255

‌حَدُّ العِلْمِ

(1)

وَالْعِلْم، قِيلَ: لَا يُحَدُّ؛ فَقَالَ الإِمَامُ: لِعُسْرِهِ؛ وَقِيلَ: لأَنَّهُ ............

الشرح: "والعلم، قيل: لا يُحد"، ثم اختلف القائلون بأنه لا يُحَدّ

(2)

:

(1)

العلم من قبيل المشترك اللفظي - والذين عنوا بالبحث فيه من العلماء وتصدوا له ماهية وتقسيمًا - طائفتان:

الأولى: طائفة الحكماء وأعني بهم الفلاسفة القدماء وكل من نحا نحوهم من فلاسفة المسلمين: كالفارابي، وابن سينا، وهم الذين تناولوا الأشاء بحثًا على قدر الطاقة البشرية، وجعلوا من ضمن ما وصلوا إليه من بحثهم قانونًا كليًا أسموه بـ"المنطق" يستعملونه للوصول إلى حقيقة من الحقائق، فهو عمدتهم وإليه مرجعهم، يرجعون إليه، ويقيسون به ما يشاءون أن يحصلوه ويثبتوه، فليس لهم من مرجع غيره ولا معول يعولون عليه سواه.

والثانية: طائفة المتكلمين - وهم العلماء الإسلاميون الذين اتخذوا القرآن الكريم وما ورد فيه من العقائد نصب أعينهم - وتصدوا لها تمحيصًا وإثباتًا على طريق البحث المنطقي.

فالطائفة الأولى: طائفة الحكماء: ترى أن العلم هو الصورة الذهنية، سواء أكانت هذه الصورة صورة شيء من غير حكم عليه بنفي أو إثبات - ويسمون هذا القسم تصورًا ساذجًا، أم كانت هذه الصورة لحكم، سواء أكان راجحًا أم مرجوحًا، طابق الواقع أم لم يطابق، ويسمون هذا القسم تصديقًا.

فالعلم عندهم: يشمل التصور والتصديق والظن والشك حتَّى الوهم والجهل المركب؛ لأنها كلها يصدق عليها أنها صورة شيء حاصلة في الذهن بعد أن لم تكن حاصلة.

وأما عند المتكلمين، فغيره عند الحكماء؛ إذ هو مختص عندهم بالتصديق اليقيني دون سائر الأقسام المذكورة.

(2)

جَرى الخلافُ بين العلماء في العِلْمِ المُطْلَقِ من حيث تصوره بالكنه، فذهب بعضهم إلى أنه ضروري فلا يُحد، بمعنى أنه لا يكتسب بالحد؛ لأن تصوره بالكنه بديهي؛ فلا يتوقف على نظر. وذهب آخرون إلى أنه نظري؛ وهؤلاء قد افترقوا فرقتين: فرقة منهم ترى أنه يعسر تحديده بعبارة جامعة للجنس والفصل - والفرقة الأخرى ترى أنه لا يعسر تحديده، بل ذكروا له جملة تعاريف، فظهر من هذا الذي ذكرناه أن في تصور ماهية العلم المطلق بالكنه. ثلاثة مذاهب:

الأول: للإمام الرازي قال: إن تصور ماهية العلم بالكنه ضروري لا يحتاج إلى نظر، بل يحصل بمجرد الالتفات إليه أو سماع لفظه، كصور أي شيء من البديهيات.

الثاني: إن تصور العلم بالكنه نظري، ولكن يعسر تحديده - أي بيان ماهيته بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل، والقائل بذلك إمام الحرمين والغزالي. =

ص: 256

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الثالث: إنه نظري ولا يعسر تحديده. وقد تكلف له بعض العلماء دليلًا، فقال: أما أنه نظري؛ فلأنه معلوم لا بالضرورة، وكل ما كان كذلك فهو نظري يتج العلم النظري. أما أنه معلوم فهو بديهي. وأما أن معلوميته لا بالضرورة؛ فلما تقدم من بطلان أدلة كونه ضروريًا - وأما الكبرى القائلة - وكل ما كان كذلك - فهي بديهية - لأن كل معلوم فهو إما ضروري أو نظري؛ وحيث كان العلم معلومًا لا بالضرورة، فيجب أن يكون نظريًا.

ولكن هذا الدليل فيه نظر؛ لأنَّهُ لا يلزم من الطعن في أدلة الضرورة أن يثبت كونه نظريًا، بل لا يلزم من بطلان دليلٌ أي دعوى، إثبات نقيضها؛ لجواز ثبوت الدعوى في نفسها، أو ثبوتها بدليل آخر غير مطعون فيه؛ فلم يتم دليلٌ دعوى كون العلم نظريًا.

ولكن بناء على هذا المذهب قد ورد عن القرم تعاريف أنهاها بعضهم إلى العشرين ولكن أكثرها منتقد نورد بعضها:

الأول: وهو لبعض المعتزلة: "العلم اعتقاد الشيء على ما هو به".

الثاني: وهو للقاضي أبي بكر الباقلاني قال: "العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به".

الثالث: وهو للشيخ أبي الحسن الأشعري قال. "العلم هو ما يوجب لمن قام به كونه عالمًا" أي هو أمر أو صفة، توجب وتقتضي لمن قامت به كونه عالما؛ أي اتصافه بالعالمية، أو أن يطلق عليه اسم العالم إطلاقًا صحيحًا.

الرابع لابن فُورك قال: "العلم ما يصح ممن قام به إتقان الفعل؛ أي صفة يمكن للموصوف بها أن يُحْكَم ما يصدر عنه من الأفعال ويبعده عن وجوه الخلل. وإنما كان ذلك؛ لأن الفاعل لا يمكنه إحكام فعله، إلا إذا وقف على ما فيه من المصالح والمفاسد، وأحاط بذلك تفصيلًا، فالصفة التي بها الإحاطة، والتي بسببها يمكن للفاعل أن يتحرى المصلحة في فعله ويجانب المفسدة "هي العلم، عند ابن فورك" ومعلوم أن التقليد والظن فضلًا عن الجهل والشك والوهم - لا يتأتى معه إحكام الفعل وإيجاده على الوجه الأكمل".

الخامس: وهو للإمام الرازي - وقد عريه بعد كونه نظريًا قال: "العلم اعتقاد جازم مطابق لموجب"، ومحصل المعنى: أن العلم هو الإدراك الجازم المطابق للواقع الذي استند الجزم به ومطابقته للموجب المقتضي لذلك الاعتقاد بصفته هذه، وذلك المقتضي هو الضرورة أو الدليل.

السادس: للحكماء قالوا: "العلم هو الصورة الحاصلة للشيء في الذهن - كليًا كان أو جزئيًا" وسواء أكان حصول هذه الصورة في العقل، أو في آلاتها، كصور الجزئيات بل الذي ينطبع فيه إنما هو صور الكليات، وأما الجزئيات فإنها تنطبع في الآلة، والآلة هي المشاعر الخمس الباطنة والخمس الظاهرة، فالكل يقال له علم عندهم.

السابع: وقالوا: إنه المختار؛ لسلامته مما ورد على غيره من الاعتراضات، وبراءته من الخلل، وتناوله للتصور والتصديق اليقيني، وهو: العلم صفة توجب لمحلها تمييزًا بين المعاني لا يحتمل =

ص: 257

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فقال الإمام" أبو المعالى الجويني

(1)

إمام الحرمين، سلطان الأشاعرة، وغضنفر الجماعة: إنما لا يحد "لعسره"

(2)

.

ومراده؛ بأنه لا يحد؛ أن الرأي ذلك؛ لأن التشاغُل

(3)

بحده يَعْسُر، ولكن يُتوصَّل إلى معرفته بطريق

(4)

القسمة والمثال

(5)

؛ كذا ذكره في "البرهان"؛ إذ قال: الرأي السديد .......

= النقيض. واعلم أن أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم هو "صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به" والله أعلم.

(1)

ينظر: البرهان 1/ 115 والمستصفى 1/ 25، والمنخول ص 40، وفتح الرحمن ص 41، والبحر المحيط 1/ 53.

(2)

قد يستدل بهذا المذهب بأن الفرق بين الذاتي والعرضي والتمييز بينهما متعسر في أكثر المدركات الحسية؛ حتَّى قيل: إنه إذا عرفت ماهية بكنهها، ووجه اعتراض على ذلك الحد بأن ما ورد فيه ليس ذاتيا للمعرف، أو أن العام فيه ليس بجنس، أو الخاصة ليست بفصل، فهو اعتراض مصمم دون دفعه خرط القتاد؛ لأن العرض العام يشترك مع الجنس في شمول الماهية المعرفة وغيرها، وأن الخاصة تشترك مع الفصل في اختصاصها بالمعرف. فالحكم بأن العام جنس، لا عرض عام، وأن الخاص فصل لا خاصة - أشبه بأن يكون حكمًا خلوا عن دليلٌ. وهذا الإشكال لا يخص بل هو جارٍ في غيره من الحقائق الثابتة في نفسها، ولكنه في العلم الزم؛ لأن حقيقته خفية بالنسبة لغيره من الحقائق المدريسة بالحس. وإذا كان الاطلاع على الذاتيات التي هي كنه الشيء في المحسوسات عسيرًا، فليكن تصور كنه العلم والاطلاع على حقيقته وذاته، عسيرًا من باب أولى.

(3)

في أ، ب، ح: الشاغل.

(4)

في ح: بطريقة.

(5)

فعلى الأول كأن يقال: الاعتقاد إما جازم أو غير جازم. والجازم إما مطابق أو غير مطابق والمطابق إما ثابت أو غير ثابت، فها قد خرج عن هذه القسمة:

"اعتقاد جازم مطابق ثابت"؛ أي لا يقبل الزوال في الحال أو المآل، وذلك هو المعنى بالعلم عندهما.

فالاعتقاد بمثابة الجنس في التعريف يشمل سائر الاعتقادات، ويخرج عنه ما ليس باعتقاد من الصفات النفسية وغيرها. وجازم يخرج الظن. ومطابق يحرج الجهل المركب، وهو إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه، وثابت يخرج تقليد المصيب الجازم، فإنه معرض للزوال بالتشكيك، هذا هو مراد أصحاب هذا المذهب بقولهم: وطريق معرفته القسمة.

وأما المثال: فهو إما أن يشبه العلم بإدراك الباصرة، المقتضى لتصور المدرك على ما هو عليه. كأن يقال: العلم إدراك البصيرة، المشابه لإدراك البصر، وإما بإدراكٍ جزئي من جزئيات العلم، كأن يقال: العلم كاعتقادنا أن الكل أعظم من الجزء، والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان. هذا كل ما =

ص: 258

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عندنا

(1)

: أن يتوصل

(2)

إلى درك حقيقة العلم بمباحثها

(3)

وذكرها"، ثم قال: "فليحرك الناظر فكره في ذلك، فإن استبان له، فقد أحاط بحقيقة العلم، فإن ساعدت عبارة صحيحة في الحَدّ، حدّ بها، وإن لم تساعد

(4)

، اكتفى بدرك الحقيقة. انتهى.

وليس مراده؛ أنه لا سبيل إلى حده؛ كما عرفت؛ ولأنه لو أراد ذلك، لم يعتل

(5)

بالعُسْرِ؛ إذ العسر إليه سبيل، لكن بمشقَّةٍ، فاعرف ذلك.

ثم مراده بالحد الذي يتعسّر فيه: الحدُّ الحقيقي؛ دون الرَّسْميّ؛ فإن التعريف بالقسمة

(6)

والمثال لا يُعَاند الرسوم.

= أورده أصحاب هذا المذهب في إثبات مذهبهم.

وقد اعترض عليهم، بأن التقسيم والتعريف إن أفادا تمييزًا لماهية العلم عما عداها، كانا تعريفًا لها وحدًا، فلا يصح القول لعسر تحديده، وإن لم يحصل بهما تمييز للماهية لم يكونا طريقًا لمعرفتها. فلا معنى لقولهم: وطريق معرفته القسمة أو المثال. هذا ما ورد عليهم، وهو اعتراض غير وجيه، وإيراد في غير محله؛ ذلك أن المتعسر هو تحديده بالكنه، وهو لا ينافي أن يتيسر تعريفه بوجه، كالوجه الحاصل من التقسيم أو التمثيل. وليس ملازم إذا انكشف بجهة أن ينكشف بكهنه، وما ذكر يقتضي أن يكون تصور العلم بالكنه على وجه القطع متعسرًا، كغيره من سائر الحقائق الثابتة، وأما تصوره على أي وجه لمرجح يترجح به، فليس بمتعسر.

بقي اعتراض آخر، وهو أن التقسيم أو المثال لم يوصّلا إلا لعلم هو اليقين، ولم يتناولا التصور، فقولهم: وطريق معرفته القسمة أو المثال - غير جامع. وهذا الاعتراض أيضًا غير موجه؛ لكونه مدفوعًا بأن التعريف مسوق على مذهب المتكلمين، وهم لا يدخلون التصور في العلم، ولكن الاعتراض الذي كان حقه أن يوجه: هو عدم شموله لعلم الله تعالى، لأنَّهُ لا يقال له اعتقاد؛ إذ هو من خواص الأجسام، وكذلك لا يقال: علمه تعالى شبيه بإدراك البصر.

(1)

ينظر: البرهان 1/ 119 (41)، والحدود للباجي ص (24)، والعدة 1/ 76، والمعتمد 1/ 10، والمسودة (575)، المستصفى 1/ 25، والتعريفات للجرجاني (155)، ونشر البنود 1/ 61، وإرشاد الفحول ص (4)، والبحر المحيط 1/ 53، وكشف الأسرار 1/ 7، التمهيد لأبي الخطاب 1/ 36، والمنخول (38)، وميزان الأصول 1/ 103 - 107، والصبان على شرح السلم (42)، وفتح الرحمن ص (41).

(2)

في أ، ح: نتوصل.

(3)

في أ، ب، ج، ح: بمباحثه.

(4)

في أ، ت، ح: يساعد.

(5)

في ت: نقل.

(6)

في ح: القسيمة.

ص: 259

ضَرُورِيٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ:

فإن قلت: فغاية قوله إذن: يعسر تعريفه؛ لتعسُّر الاطِّلاع على الذاتي، والخارجي فيه، وذلك غير مختصٍّ بالعلم، بل يشمل كل الأشياء؛ إذ التمييز بين الذاتي والخارجي في غاية العُسْرِ.

قلت: هذا [لو]

(1)

لم [يقل: إنه]

(2)

مختص بالعلم، وأي شيء

(3)

يلزم من ذلك.

فإن قلت: فلم

(4)

خصّ ذلك في العلم؟

قلت: لأن الحدَّ الحقيقي فيه أعسرُ وأشقُّ منه في غيره؛ على ما لا يخفى، وقد تابعه الغَزَّالِيُّ، وأفْصَحَ بأن المراد بالحد المُتَعَسِّرِ: الحقيقيّ، وأن ذلك لا يختص بالعلم؛ إذ قال: وربما يعسر

(5)

تَحْلِيلُهُ على الوجه الحقيقي بعبارة مُحَرَّرَةٍ جامعة لِلْجِنْسِ وَالفَصْلِ الذاتي؛ فإنا بيَّنا أن ذلك عَسِرٌ في أكثر الأشياء. [انتهى]

(6)

.

وكلام الآمدي صريح

(7)

، في أن الإمام والغزالي قالا: لا سبيل إلى تحديده، وأراد بالتحديد: ما هو أعم من الحَدّ الحقيقي والرسمي

(8)

، وليس بجيد.

"وقيل": إنما لا يحد؛ "لأنَّهُ ضروري"، فكان

(9)

غنيًّا عن التعريف.

والإمام في "المحصول" ذهب إلى أنه ضروريٌّ، لكن لم يقل: إنه لا يحد، بل عرفه بأنه حكم الذهن بأمر على أمر حكمًا جازمًا مطابقًا لموجب

(10)

(1)

سقط في ج، ح.

(2)

سقط في ب.

(3)

في ب، ت: وأيش.

(4)

في ت. ولم.

(5)

في أ، ب، ج، ح: تعسر.

(6)

سقط في ب.

(7)

ينظر: الإحكام 1/ 12 - 13.

(8)

في أ، ب: والرسم.

(9)

في ت: وكان.

(10)

واستدل على دعواه هذه بدليلين:

الأول: من البديهي أن كل واحد يعرف أنه موجود، وهذا العلم حاصل لكل واحد من غير اكتساب، فيكون ضروريًا، وهذا العلم تصديق خاص، والعلم المطلق الذي نحن بصدده جزء من ذلك العلم الخاص، وغير خفي أن تصور الجزء سابق على تصور الكل، ولما كان تصور العلم الخاص ضروريًا، فليكن السابق عليه وهو العلم المطلق ضروريًا بوجه أولى. ويتلخص كل هذا في أن العلم بنسبة الوجود لكل أحد ضروري، والعلم المطلق جزء منه، فيكون ضروريًا.

ونظم الدليل منطقيًا هكذا: "العلم المطلق سابق على هذا العلم الضروري، والسابق على الضروري أولى أن يكون ضروريًا" فالنتيجة. العلم المطلق ضروري، وهو المطلوب، هذا هو الدليل، وهو =

ص: 260

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= كما ترى قياس من الشكل الأول مستوفى شروط الإنتاج، مركب من مقدمتين صغرى وكبرى: أما الكبرى فظاهرة، وأما الصغرى فينبه عليها بأن العلم المطلق جزء من العلم الضروري؛ لأن المطلق والعام دائمًا يكونان جزءين للمقيد والخاص، وهو مصداق قولهم: كل كليّ جزء لجزئيه، وكل جزئي كل لكليه. والجزء سابق على الكل، أما جزئيته، فلأنه مطلق وذاك مقيد، والمطلق كما ذكرنا جزء المقيد، وأما ضرورية المقيد فحصوله من غير كسب ونظر - إلى هنا قد تم الدليل، بظهور مقدمتيه، وبتسليمهما ينتج أن: تصور العلم المطلق بالكنه ضروري" وهو المدعي. هذا ما يذهب إليه الإمام الرازي في إثبات مذهبه بيد أنه قد نوقش ذلك الدليل ودفع بأنه لا ينتج المدعي؛ لأنَّهُ إنما أفاد أن الضروري حصول علم جزئي متعلق بوجود ذلك الواحد العالم بوجوده، والحصول غير التصور، وليس بلازم إذا من الحصول ضروريًا أن يتصور مجرد تصور، فضلًا عن أن يكون تصوره بالكنه بديهيًا، فإنه لا يلزم من حصول صفة لشخص وقيامها بها أن يكون متصورًا لهذه الصفة بوجه تمتاز به عما عداها. يرشدك إلى ذلك أن الكريم قامت به ملكة الكرم، ولا يلزم أن يتصورها، والرجل قد يكون شجاعًا، ولا يدري ما كنه الشجاعة، ولا مقوماتها، ويتصف الإنسان بالحلم والشح والأنانية وهو لا يكاد يقف على حقيقة منها، والكافر يتصف بالكفر "وهو جحد ما جاء به الأنبياء" وهو لا يتصور حقيقة الكفر - لا بحد ولا برسم - ويتصور الإيمان ولا يتصف به، لوجود ما ينافيه في نفسه من الجحود. فقد ظهر أن الحصول غير التصور، بل تبين الانفكاك من الجانبين؛ فلا تلازم بينهما. وهو الفرق بين الحصول والتصور، يكون ردًا على من زعم أن الحصول في النفس هو عين التصور؛ لأنَّهُ لو كان عينه ما تخلف عنه ضرورة استحالته تخلف الشيء عن نفسه، ولكنه قد تخلف عنه كما ظهر من التمثيل المتقدم، فليس هو هو، ولا مستلزمًا له، هذه هي المناقشة التي وردت على هذا الدليل، وهي وجيهة وحرية بالقبول. وعليها فالتقريب "وهو سوق الدليل على الوجه الذي ينتج المطلوب" لم يتم؛ فلم يصلح أن يكون ما ساقه الإمام الرازي على دعواه بداهة العلم. وقد أجيب على هذا الطعن بتحوير في الدليل، فقيل: مراد المستدل "أن كل واحد يعلم بأنه عالم بأنه موجود بالضرورة" أي يعلم علمًا بوجوده حتَّى البله والصبيان، وهم لا يقدرون على الاكتساب، يعلمون هذا العلم، وهذا التصديق الضروري مشتمل على العلم إذ هو أحد طرفيه، فيلزم أن يكون تصور العلم ضروريًا، ونظم الدليل هكذا: "العلم أحد طرفي هذا التصديق البديهي" في قولنا: كل واحد يعلم بأنه عالم بأنه موجود بالضرورة، وكل ما كان كذلك ضروري، فالعلم المطلق ضروري، وهو المتنازع فيه، وإنما لجأ إلى التحوير؛ لأجل أن يدعي أن الحصول إذا كان غير التصور وغير مستلزم له، فإنه أيضًا يعلم علمه، ولا معنى لعلم العلم، إلا تصوره، ولما كان العلم أحد أركان هذا التصديق وهو ضروري، فليكن ضروريًا، وهو المطلوب.

وهذا التحوير في أصل الدليل مدفوع بأحد وجهين:

الأول: أنه لا يلزم من بداهة التصديق، بداهة شيء من أطرافه؛ فإن التصديق البديهي هو ما لا =

ص: 261

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يتوقف بعد تصور الطرفين على نظر، وذلك أعم من أن يكون تصور الأطراف بديهيًا أو كسبيًا، ولكن ربما يقول قائل: إن هذا الدفع لا يتوجه على قول الإمام؛ لأن مذهبه تركب التصديق لا بساطته، كما هو مذهب الحكماء، ولا يدفع مذهب بمذهب، فعنده لا يكون التصديق بديهيًا، إلا إذا كانت أطرافه كلها بديهية؛ لأنَّهُ مركب منها.

فنقول لهذا القائل: إذا سلمنا أن التصديق مركب وأنه لا يتم إلا إذا تُصوِّرت الأطراف، ولكنه لا يلزم من بداهة تصور الأطراف تصورها بالكنه بل اللازم تصورها بوجه ما، فإن الحكم بالشيء على الشيء، فرع تصورهما ولو بوجه، وهو خلاف المدعي، يؤيد ذلك: أننا نحكم على جسم معين شوهد من بعد، بأنه شاغل لحيز معين مع الجهل بحققة ذلك الجسم المحكوم عليه، بل مع الجهل بحقيقة الشغل والحيز المحكوم به، وأيضًا فإنا نقول: الواجب إما نفس - أو - لا، مع أننا لا نعلم كنه الواجب ولكن نتصوره بصفاته ككونه خالقًا للعالم، ومع أننا نجهل حقيقة النفس، ولا نكاد نتصورها إلا بخاصتها ككونها مدبرة للبدن، فكل ما ينتجه الدليل بعد فرض أن بداهة التصديق تستلزم بداهة أطرافه هو "أن تصور العلم بوجهٍ ما ضروري" وهو غير محل النزاع، فإذا حصل هذا التصديق الضروري لكل واحد حتَّى لمن لا يتأتى النظر كالبله والصبيان، فإنهم إذا كانوا يصدقون بأنهم موجودون ويعلمون هذا التصديق، فهم ولا شكَّ لا يعقلون معنى التصديق بالوجود، ولا يعقلون معنى العلم المطلق في ضمنه فضلًا عن أنْ يكونوا متصورين له بالكنه، وإذا كان محققو العلماء وأساطين الحكماء قد اختلفوا وتشعبت آراؤهم في مفهوم العلم كما يعلم من التعاريف المختلفة التي ذكرت له، وأيضًا إذا كان الفرق بين الذاتي والعرضي متعسرًا في أكثر المدركات الحسية، أقول: إذا كان كل ذلك حاصلًا، فكيف يدعي أن تصور العلم بالكنه بديهي وحصوله حتَّى لمن لا يتأتى منه النظر كالبله والصبيان؟

ولو أن الإمام الرازي قال: إن تصور العلم بوجه ما بديهي أو أن تصوره بخاصة - بحيث لو تصور العلم بها لامتاز في النفس عن جميع الإدراكات التي ليست بعلم كالشك والظن والوهم وغيرها من الصفات. نعم! لو قال ذلك لكان قولًا وجيهًا ورأيًا مقبولًا؛ فإن كل واحد يمكنه أن يتصور العلم بأنه انكشاف الأشياء، أو صفة بها الانكشاف، أو نوع من الإدراك والإحساس الباطني، أو غير ذلك .. هذا معنى ما وجهوه إلى الإمام الرازي في دعواه، ويمكن أن يجاب عنه: بأن مراده بضرورة تصور العلم بالكنه "أن معنى العلم أمر مرتكز في النفوس، فلكل واحد يجد من نفسه فرقًا بين علمه بالشيء أو ظنه له، أو شكه فيه، أو عدم علمه به، وإن لم يمكن التعبير بجنس العلم وفصله بل وإن لم يعرف معنى الجنس والفصل، أو معنى الذاتي والعرضي، كما يمكنه أن يتصور معنى الشجر والماء، ويفرق بين الأثير وبين الهواء، وإن لم يمكن التعبير عن كل ذلك بما يفيد تصور الماهية وكنهها، وهذا ولا شكَّ معقول مقبول، ولا يبعد أن مراد الإمام بضرورية العلم، ذلك" ولا يقولن قائل: لو كان العلم كما تقول: "معنى مرتكزًا في النفس متصورًا بالضرورة" للزم تعريفه؟ لأننا نقول: لا يلزم =

ص: 262

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكذلك "الشيخ الإمام الوالد" رحمه الله ذهب إلى أنه ضروريٌّ، وأنه يحد؛ قال: لا لتعريفه، بل للتنبيه عليه، وذكر ما يضبطه.

= من ضروريته إمكان تصويره بالكنه؛ فإن أكثر البديهيات لا يمكن تحديدها كالأثير، والسماء، والراديو، والكهرباء، وقد قالوا: كلما اتضحت الأشياء كلما تفسرت تعريفًا، ومن الخفي توضيح غير الخفي، والإمام الرازي نفسه يقول نقلًا عن كتاب المقاصد: تعريفات العلم لا تخلو عن خلل؛ لأن ماهيته قد بلغت في الظهور إلى حيث لا يمكن تعريفه بشيء أجلى منه.

قال العلامة السعد: "وإلى هذا ذهب كثير من المحققين حتى قال بعضهم: إن ما وقع فيه من الاختلاف إنما هو لشدة وضوحه لا لخفائه"، انتهى نقلًا عن المقاصد صفحة 29، وابن الخشاب يقول: فما ذهبت في تفسير مذهب الإمام الرازي بضرورة العلم ها هو قد ذكره الإمام بنفسه وصرح به، ونصره صاحب المقاصد بقوله: وإلى هذا ذهب كثير من المحققين .. الخ.

الدليل الثاني لهذا المذهب: "لو كان العلم نظريًا، لكان كاسبه إما نفسه أو غيره" لكن التالي باطل بشقيه، وكذا المقدم فلا يكون نظريًا فهو ضروري

وهذا دليلٌ شرطي: بيان الملازمة فيه، الترديد بين الشيء والمساوي لنقيضه، وهما لا يرتفعان، وبيان بطلان التالي: أن الشيء لو عرف بنفسه لكان معلومًا قبل أن يعلم، وذلك باطل؛ إذ كونه مطلوبًا أن يكون مجهولًا، وإلا لزم تحصيل الحاصل. ومقتضى كونه معرِّفًا، أن يكون معلومًا؛ لاستحالة الكسب بالمجهول، فمعلوم ومجهول: ضدان. واجتماعهما في محل واحد محال، وهما يستلزمان التناقض، وهو كونه معلومًا، لا معلومًا ولا مجهولًا، وذلك باطل، فبطل كون المعرف للشيء نفسه، وهو الشق الأول من التالي، وأما بطلان الشق الثاني؛ أي كونه يعرف بغيره؛ فلأن غير العلم إنما يعلم بالعلم، فلو علم العلم بغيره لزم الدور، وهو باطل؛ لتوقف الشيء على ما يتوقف عليه من جهة واحدة، فلزم أن يكون سابقًا على نفسه من حيث المعرفة، وهذا باطل بداهة "وهذا هو الدليل الثاني للإمام الرازي على دعواه: بداهة العلم بالكنه" وهو كما يُرى في ظاهره ينتج أن العلم ضروري ببطلان شقي التالي. هذا ما ينتجه بحسب الظاهر فقط، ولكن بعد فحص المقدمات: يمنع الدليل برُمَّته بمنع الاستثنائية في الشق الثاني، وذلك ما يعرف عند النظار بـ"النقض التفصيلي" أعني أننا سلمنا أن العلم لا يتعرف بنفسه، ولكن لا نسلم أنه لا يتعرف بغيره، وما أقيم على ذلك من الدليل لم يتم؛ لأن تصور العلم موقوف على تصور الغير، وتصور الغير موقوف على حصول العلم بذلك الغير لا على تصور العلم، فالحصول غير التصور، فلم يتوقف تصور العلم على تصور العلم، فلا دور باطل، فصح تعريف العلم بغيره؛ لأنَّهُ لا دور فيه، ولا محذور عليه، فلم ينفع ذلك الدليل في إثبات الدعوى. ولعل منشأ ذلك من الإمام عدم الفرق عنده بين الحصول والتصور، ولكن شتان بينهما.

ينظر: كلام شيخنا الشيخ عبد القوي محرم في العلم المطلق.

ص: 263

أَحَدُهُمَا: أَنَّ غَيْرَ الْعِلْمِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَلَوْ عُلِمَ الْعِلْمُ بِغَيْرِهِ، كَانَ دَوْرًا؛ وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَوَقُّفَ تَصَوُّرِ غَيْرِ الْعِلْمِ عَلى حُصُولِ الْعِلْمِ - بِغَيْرِهِ، لَا عَلَى تَصَوُّرِهِ؛ فَلَا دَوْرَ.

الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ وُجُودَهُ ضَرُورَةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ أَمْرٍ -

واختار في حده؛ أن يقال: إنه معرفةُ المعلوم.

قال: [من زَادَ على هذا قولَه: "على ما هو به"، فهو تأكيدٌ لأن ما ليس كذلك ليس معرفة.

[قال:]

(1)

ولا يَرِدُ عليه أن المعلوم مُشْتَقٌّ من العلْم، فيلزم الدور؛ كما ورد مثله في قول القاضي: الأمر هو المقتضي طاعة المأمور؛ والفرق بينهما: أن الكلام في الأمر - في أصول الفقه، وهو يعتمد الألفاظ، والكلام في العلم - في أصول الدِّينِ، وهو يعتمد المعاني

(2)

، فجعل المعلوم اسمًا لما يشمل

(3)

الموجود والمعدوم؛ من غير نظر إلى الاشتقاق.

وحجَّة من ادعاه ضروريًّا "من وجهين:

أحدهما: أن غير العلم لا يعلم إِلَّا بالعلم، فلو علم العلم بغيره، كان دورًا".

والجواب: أن

(4)

توقُّف تصور غير العلم

(5)

بغيره؛ أعني علمًا جزئيًا متعلقًا بذلك الغير، لا على تصوُّر حقيقة العلم، والذي يراد حصوله بالغير؛ إنما هو تصور حقيقة العلم، لا حُصُولُ جزئي منه، فلا دور؛ للاختلاف.

وإليه أشار بقوله: "وأجيب بأن توقّف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره، لا على تصوره، فلا دور".

وعبارة "الشيخ الهندي" في الجواب: توقف غير العلم على العلم

(6)

؛ من حيث إنه إدراك [له]

(7)

، لا من حيث إنه صفة مميزة له، [وتوقف العلم على غيره؛ من حيث إنه صفة مميزة له]

(8)

عما سواه، وإذا تغايرت الجهتان، فلا دور.

"الثاني"؛ وعليه عَوَّلَ الإمام في "المحصول": "أنّ كل أحد يَعْلَمُ وجودَه ضرورة"، وهو علم خاص، فإذا كان الخاص ضروريًّا، فالعام الذي هو جزؤه أولى.

"وأجيب" بأن الضروري: حصول العلم له، وهو غير تصور العلم المتنازَع فيه، وقرر "بأنه

(1)

سقط في ت.

(2)

في أ، ح: المكان.

(3)

في أ، ج: يشتمل.

(4)

في ت: أنه.

(5)

في ج: تصور غير العلم على حصول العلم.

(6)

في ت: غيره.

(7)

سقط في ح.

(8)

سقط في ب.

ص: 264

تَصَوُّرُهُ أَوْ تَقَدُّمُ تَصَوُّرِهِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا، لَكَانَ بَسِيطًا؛ إِذْ هُوَ مَعْنَاه، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَعْنًى عِلْمًا.

"وَأَصَحُّ الْحُدُودِ: صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا، لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، ............

لا يلزم

(1)

من حصول أمرٍ تصوُّرُه"؛ حتَّى يتبع تصوُّرُه حُصُولَه، "ولا تقدُّمُ تصورِه"؛ حتَّى يكون تصوّره شرطًا لحصوله، وإذا كان كذلك جاز الانْفِكَاك مطلقًا؛ فتغايرا، فلا يلزم من كون أحدهما ضروريًّا كونُ الآخَر كذلك.

"ثم نقول" في الدلالة على أنه غير ضَرُورِيّ

(2)

: "لو كان ضروريًّا لكان بسيطًا

(3)

؛ إذ هو معناه"؛ أي: معنى

(4)

الضروري كونه بسيطًا؛ لأن الضروري: ما لا يتوقف تصوره على تصور غيره؛ فيكون بسيطًا، [وإلا لكان تصوره موقوفًا على تصور جزئه الذي هو غيره]

(5)

؛ "ويلزم من" كونه بسيطًا: "أن يكون كلّ معنى علمًا"؛ لأن العلم يصدق عليه المعنى: كل معنى علمًا؛ لكان المعنى أعم من العلم؛ فيلزم تركيب العلم من المعنى المشترك وأمرٍ اختص به، وقد فرض كونه بسيطًا؛ هذا خُلْفٌ.

وليس كل معنى علمًا، وهذا واضح؛ فإنَّ المعنى قد يكون ظنًا، وجهلا، وتقليدًا، [وغيرها]

(6)

.

الشرح: "وأَصحُّ الحدود" للعلم

(7)

أن يقال: "صفةٌ توجب"

(8)

لمحلها "تمييزًا، لا يحتمل

(1)

في أ، ب: يعلم.

(2)

في هامش ت: إبطال أن العلم ضروري.

(3)

واستدلّ على أن العلم ليس ضروريًا بأنه لو كان ضروريًا لكان بسيطًا، ويلزم منه أن يكون كل معنى علمًا، واللازم منتفٍ.

أما الأولى: فلأنه لا معنى للضروري إلا البسيط عقلًا.

وأمَّا الثانية: فلأن حصول المعنى ذاتي للعلم؛ إذ لو رُفِعَ عن الذهن لارتفع ماهيته عنه، والمفروض أنه لا ذاتي غيره لبساطته، فيكون ذلك تمام حقيقته، فيلزم في تحقيقه تحققه، فيكون كلُّ معنى علمًا.

وأما بطلان اللازم؛ فلأن حصول المعنى قد يكون ظنًا وجهلًا وتقليدًا وغيرها.

ينظر: شرح المقدمة (7) خ.

(4)

في ج: يعني.

(5)

سقط في ب.

(6)

في ت: وغيرهما.

(7)

في هامش ت: حد العلم.

(8)

الصفة من قبيل المشترك اللفظي تطلق على معنيين: الأول: المشتق الذي يحمل على غيره: =

ص: 265

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النقيض"، والمراد بـ"الأصح": الصحيح؛ وإلا فيلزم أن يكون هناك أصح وصحيح؛ فيلزم أن يكون للشيء الواحد حَدَّان، فالصفة - وهي ما لا يقوم بنفسه: جِنْسٌ يشمل العلم وغيره، وقولنا: توجب

(1)

لمحلّها تمييزًا: فصل [يحترز]

(2)

به عن الحياة، والقدرة، والإرادة، وغيرها؛ من الصفات المشروطة [بالحياة وغير المشروطة] بها، و"لا يحتمل النقيض": احترازًا عن الظن، وهذا يشمل

(3)

التصور؛ إذ لا نقيض له، والتصديق النفسي

(4)

؛ إذ له نقيض، ولا يحتمله.

قال الوالد رحمه الله: وهذا القول جامع مانع، لكن العلم أجلى منه

(5)

، "فيدخل"؛ أي في

= ككاتب، وقارئ، والصفة بهذا المعنى تقابل الاسم الجامد. والثاني: إطلاقها على المعنى القائم بالغير، كصفة الكرم القائمة بالكريم، والشجاعة القائمة بالشجاع، والمراد منهما في التعريف المعنى الأخير، وهو المعنى القائم بالمحل. والقرينة على إرادة هذا دون الأول، ظهور أن العلم ليس لفظ العالم الذي يحمل على غيره، فليس في التعريف أخذ المشترك بدون قرينة ظاهرة في المراد، توجب وتقتضي وتستلزم تلك الصفة اقتضاء عاديًا، بناء على أن ما ذهب إليه الأشعري، من أن لا تلازم عقلًا بين الدليل والمدلول، ولا بين التعريف والمعرف، بل العلم بالنتيجة، وبالماهية المعرفة بمحض خلق الله تعالى وقدرته، جرت عادته بإيجاده عقب العلم بالمقدمات وتصور التعريف، ويجوز تخلفه عقلًا، بأن يحصل العلم بالمقدمات والعلم بالتعريف، ولا يحصل العلم بالنتيجة، ولا العلم بالماهية، أو اقتضاء عقليًا، على ما ذهب إليه إمام الحرمين حيث قال: إن العلم بالنتيجة عقب العلم بالمقدمات، وكذلك تصور الماهية عقب تصور التعريف أمر واجب عقلًا يستحيل أن يتخلّف، إذا لم يكن ثمة مانع منه: كنوم، أو غفلة، وهو مع هذا حاصل بقدرة الله تعالى واختياره؛ لأنَّهُ إن شاء جل شأنه خلق النظر؛ فيوجد العالم بالمنظور فيه، وإن شاء لم يخلق النظر؛ فلا يوجد العلم. هذا إذا كان العلم حادثًا، وأما إذا كان التعريف للعلم المطلق الشامل للحادث والقديم، فالإيجاب أعم من العادي والعقلي؛ أي لا بشرط شيء عند الأشعري، عقليًا بالنسبة للعلم القديم، وعاديًا بالنسبة للعلم الحادث، أو عقليًا مطلقًا على رأي إمام الحرمين، لمحلها أي موصوفها ومعروضها الذي قامت به وعرضت له - تمييزًا - أي إيضاحًا وكشفًا بين المعاني - جمع معنى - وهو ما قابل المحسوس بالحس الظاهر، والمراد بها المعقولات، "لا يحتمل النقيض" الاحتمال: هو ترديد الذهن في الحكم وعدم جزمه، والمراد به التجويز العقلي. والنقيض: ما يتمانع مع الشيء لذاته.

(1)

في أ، ج: يوجب.

(2)

في ت: محترز.

(3)

في أ، ح: شمل، وفي ج: يشتمل.

(4)

في ج: اليقيني.

(5)

ويرد على هذا التعريف وجوه:

أولًا: تأويل التمييز بما به التمييز، مجاز من غير قرينة ظاهرة في المراد، والحدود يجب أن تصان عنه بالاتفاق.

ص: 266

فيَدْخُلُ إِدْرَاكُ الحَوَاسِّ؛ ......................................

الحد "إدراك الحواس

(1)

"

(2)

؛ وهي خمس ظاهرة: السمع، والبصر، والشم، والذوق،

= ثانيًا: يلزم على هذا ألا يكون العلم بالإنسان مثلًا نفس صورته العقلية، ولا يكون العلم بأن زيدًا كاتب، هو إيجاب الكتابة، بل يكون العلم في القسمين صفة توجب ذلك، وهو غير المتعارف المصطلح عليه في تفسير العلم وتقسيمه إلى تصور وتصديق. ومن أجل هذا حمل بعضهم الصفة في التعريف على الصورة أو الإيجاب والسلب كما صنع شارح المقاصد.

ثالثًا: يلزم على هذا التعريف عدم انقسام العلم إلى تصور وتصديق، وذلك لأن الصفة ليست صورة ولا سلبًا ولا إيجابًا.

رابعًا: القول بالصورة فرع الوجود الذهني، فإن الصورة هي الأمر الحاصل ذهنًا، المطابق للموجود خارجًا.

والمتكلمون سيما أصحاب هذا التعريف لا يعترفون بالوجود الذهني، ولا يقولون به.

خامسًا: الإيجاب والسلب ليسا بنقيضين لارتفاعهما عند الشك، والنقيضان لا يرتفعان فلا معنى إذن لقوله: إن الصفة توجب في التصديق إيجابًا مثلًا، لا يحتمل متعلقه وهو الموضوع والمحمول نقيضه، وهو السلب. وكان ذلك يصح لو كان الإيجاب والسلب نقيضين، وليس كذلك؛ لارتفاعهما في الشك.

هذه هي الاعتراضات التي وجهت للتعريف المختار.

(1)

الحواس: جمع حاسة، وهي القوة الحساسة: خمس، وكانت خمسًا لا أكثر؛ لأن العقل حاكم بوجود الخمس بالضرورة، أما الحواس الباطنية التي هي خمس أخرى فلم يحكم العقل بوجودها بالضرورة؛ بدليل الاختلاف في وجودها، فالفلاسفة أثبتوها بأدلة تتنافى مع القواعد الإسلامية، وغيرهم نفوها، أما أدلة الفلاسفة فمبنيَّة على أن النفس لا تدرك الجزئيات المادية بالذات، وعلى أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد أي لا يكون الواحد مبدأ لأثرين، وحاصل المبنى الأول أنهم قالوا: إن النفس لِكونها مجردة لا ترتسم فيها صور الجزئيات، وإلا لم تكن مجردة بل ترتسم في آلاتها التي هي الحواس، فإدراك الجزئيات عندهم هو ارتسام صورها في الحواس، وعلى ذلك لا بد من حس باطني لترتسم فيه تلك الصور، والحق أن النفس ترتسم فيها صور الجزئيات وإن كان الإدراك بواسطة الحس، وحيث إن الجزئيات ترتسم في النفس فلا تحتاج إلى حس باطني، أما المبنى الثاني فقد قالوا فبه: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وعلى هذا لا بد من الحس الباطني، فيكون إدراك المعاني الجزئية ناشئًا عن مصادر مختلفة غير النفس، وتلك المصادر هي الحواس الباطنية، والحق أن الواحد يصدر عند أشياء كثيرة، فالنفس الناطقة يصدر عنها إدراك المادة وإدراك المعاني، واللّه أعلم. ينظر: مذكرات الشيخ صالح موسى شرف.

(2)

في هامش ت: الكلام في أن إدراك الحواس علم أو لا.

ص: 267

كَالْأَشْعَرِيِّ، وَإِلَّا زِيدَ فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ.

وَاعْتُرِضَ بِالْعُلُومِ الْعَادِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا تَسْتَلْزِمُ جَوَازَ النَّقِيضِ عَقْلًا؛ ..............

واللمس، وخمس باطنة مرتبة في تجويفات الدماغ؛ وهي: الحس المشترك، والمصوِّرة، والمتخيِّلة، والوهمية، والحافظة؛ "كالأشعري"

(1)

؛ أي: كما هو مذهب شيخنا، وقدوتنا إمام أهل السُّنَّةِ والجماعة أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه في جعله

(2)

هذه الإدراكات من قبيل العلم؛ وهذا أحد قوليه في المسألة.

قال الشيخ الإمام: وآخر قوليه أنها ليست من قبيل العلوم، وهو الذي ارتضاه القاضي، وإمام الحرمين.

وهنا ثلاثة أمور:

أحدها: إدراك الحس المحسوس.

والثاني: العلم بالمحسوس.

والثالث: العلم بعلوم أخر، ولا إشكال في أن الثالث علم.

وأنه، وهل الثاني مخالفٌ للأول، أو هما شيء واحد؟ هذا محلُّ الخلاف.

فإن قلنا: إنهما شيء واحد - وهو مذهب الشيخ أولًا - دخلت في الحد، "وإلَّا" أي: وإن لم نَقُلْ بمذهب الشيخ "زيد" في الحد، "في الأمور المعنوية"، ويريد بالمعنوية: ما عدا الحسّية، ليخرج إدراك الحواسّ؛ لأن تمييزها في الأمور العينيَّة الخارجية.

الشرح: "واعترض" على الحَدّ "بالعلوم العادية"

(3)

؛ كعلمنا بأن الجَبَلَ حَجَرٌ، "فإنَّها تستلزم جواز النقيض عقلًا"؛ أي: فإنه علم؛ وهو يحتمل النقيض؛ لجواز انقلاب الجَبَلِ ذَهَبًا بقدرة القادر المختار.

(1)

أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد اللّه الأشعري البصري، إمام المتكلمين، ناصر سنة سيد المرسلين، ولد سنة 261 هـ، أخذ الكلام أولًا عن أبي علي الجبائي، شيخ المعتزلة، ثم فارقه، ورجع عن الاعتزال، ورد عليهم، وقد جمع الحافظ ابن عساكر كتابا في الانتصار له، وهو متداول مطبوع بعنوان:"تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري" مات سنة 324. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 113، وتاريخ بغداد 11/ 346.

(2)

في ب، ت: في جعله من العلم.

(3)

في حاشية ج: قوله: بالعلوم العادية؛ أي: العلوم التي سببها جريان عادة الله تعالى بخلق متعلقاتها وإبقائها على حالة وكيفية مخصوصة، مع إمكان كونها على خلاف ذلك. =

ص: 268

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فإن قيل: كيف يكون جريان العادة مفيدًا للعلم، مع احتمال جواز خرق العادة؟

قلنا: المنافي للعلم وقوع خلاف العادة لا مجرد الجواز، وهذا كما أن الحس ونظر العقل يفيد العلم مع جواز الغلط فيهما، والسر أن كثيرًا من الأمور الجائزة في أنفسها يعلم انتفاؤها في الخارج بالبداهة. ينظر: عبد الحكيم على المواقف.

وقال السعد: معنى "عدم احتماله النقيض" أن العقل لا يجوز بوجه من الوجوه كون الواقع في نفس الأمر نقيض ذلك الحكم وإن كان من الأمور الممكنة، كما إذا شاهد حركة زيد، وبياض جسم، فإنه لا يجوز ألبتة في ذلك الوقت كون زيد ساكنًا والجسم أسود، بل يقطع بأن الواقع هو هذه النسبة لا غير، والعلوم العادية من هذا القبيل.

قلت: قد اعترضوا على التعريف، بعدم شموله للعلوم العادية وهي المستندة للعادة، وكان سببها جريان عادة الله تعالى بخلق متعلقاتها، وإبقائها على حالة وكيفية مخصوصة، مع إمكان أن تكون على خلاف ذلك وقتًا ما. فعدم بقائها على ذلك الحال الذي تصورت به، وحدوث حالٍ لها مناقض لذلك الحال، ممكن في نفسه لا يمتنع عقلًا، فهي محتملة للنقيض، فهي خارجة عن هذا التعريف مع كونها مع أفراد العلم، وإنما كانت محتملة للنقيض فهي خارجة عن هذا التعريف مع كونها من أفراد العلم، وإنما كانت محتملة للنقيض؛ لأنها جائزة لا واجبة لذاتها؛ ولأن الجواهر المفردة متساوية في قبول الصفات المتقابلة، كالذهبية والحجرية والطينية، والبقاء والزوال وشمول قدرة المختار، توجب ذلك الاحتمال، فإذا علمنا أن الجبل الذي رأيناه بـ"مكة" مثلًا حجرًا ولم ينقلب الآن ذهبًا محتمل للنقيض، وهو جزئيٌّ من جزئيات المعرّف وخارج عن التعريف؛ لأن متعلقه محتمل لنقيض ما به التمييز وهو الصورة الذهنية، بأن يكون ذلك الجبل الآن ذهبًا لا حجرًا، فكون التعريف غير جامع، وإنما كان محتملًا للنقيض؛ لأن كون الجبل حجرًا لا ذهبًا، أمر ممكن في نفسه تتعلق به قدرة الله تعالى، الصالحة للتعلق بجميع الممكنات، فهي صالحة للتعلق بكل من الذهبية والحجرية، فلا مانع إذن من أن يكون المولى قد قلبه وحوله إلى ذهب، فيكون الجبل ذهبًا؛ أي لا حجرًا بعد أن كان حجرًا.

ولا حجر - فنقيض - حجر في قولنا: الجبل حجر، الجبل ليس بحجر، فالصفة التي أوجبت الحكم بالحجرية للجبل، احتمل متعلقها نقيض، فلم يكن التعريف جامعًا، وذلك بناء على أن الأجسام كلّها متماثلة - في الخقيقة - وأنها بأسرها مركبة من الجواهر الفردة، وأن اختلافها إنما هو بالعوارض، لا بالذات، فما يتركب منه الحجر هو بعينه ما يتركب الذهب، وإذن فالجواهر الموصوفة بالصفات الحجرية محتملة لأن تتصف بالصفات الذهبية.

وهناك مذهب آخر في الأجسام وحقيقتها يغاير المذهب الأول، وهو أن الأجسام مختلفة بالحقيقة، ولذلك كان للإنسان حقيقة غير حقيقة الفرس مثلًا، وبناء على هذا ما يتركب منه الجبل وهي الأجزاء الفردة الحجرية، غير ما يتركب منه الذهب. وإذن فـ: الجبل حجر، لا يناقضه: الجبل ليس بحجر؛ =

ص: 269

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ضرورة أن الجبل لا يكون إلا حجرًا، فهو علم على الأحجار المجتمعة، فكأنه قيل: الحجر المجتمع ليس بحجر، وهو لا يفيد معنى بل هو باطل؛ لأنه سلب الشيء عن نفسه. وإذن فالعلم بأن الجبل حجر ومثله من العلوم العادية لا يحتمل النقيض، فلا يتوجه الاعتراض على التعريف. وقد أجاب أصحاب هذا الاعتراض بناء على هذا المذهب، بأن الاعتراض لا زال واردًا، غاية ما في الأمر أن الموضوع لا يؤخذ مخصوصًا بعنوان الجبل، بل يؤخذ بعنوان أعم صالح لبصدق على الجبل وغيره، كالشاغل للمكان الفلاني، من غير ملاحظة خصوصية الجبلية، فلا يكون الحكم واردًا على خصوصية الجبل حتَّى يصح الحكم عليه بجواز كونه لا جبلًا، بناء على هذا المذهب، فيقال في تقرير الاعتراض كعلمنا بأن الشاغل للمكان الفلاني - حجر؛ فإن هذا محتمل للنقيض، بأن يعدم الله سبحانه وتعالى الحجر ويجعل مكانه ذهبًا، فيصدق أن يقال: الشاغل لصحراء مكة ذهب، أي ليس بحجر، وقد كان بحسب العلم الأول حجرًا. وبهذا تحتمل مثل هذه العلوم النقيض، ويتوجهها الاعتراض على التعريف.

والجواب: أن احتمال الشيء للنقيض يرد على وجهين، ويستعمل لمعنيين:

الأول: تجويز العقل أن يكون نقيضه واقعًا بدلًا منه في الحال، كما في الظن والشك، أو في المال، كما في الجهل المركب، والتقليد، ومنشأ ذلك الاحتمال ضعف التمييز، إما لعدم الجزم وخلوصه من الشوائب، أو لعدم استناده إلى موجب عن ضرورة أو دليل صحيح.

الثاني: أن الشيء لو فرض نقيضه واقعًا بدله، لم يلزم من وقوع ذلك النقيض محال لذاته؛ لأن ذلك النقيض ممكن؛ كما أن الأصل ممكن، ولا شكَّ أن طرفي الممكن كل منهما جائز، والجائز لا يستلزم وقوعه محالًا، بل تحققه وعدم تحققه سواء، وإلا لكان واجبًا أو مستحيلًا؛ فلا يكون ممكنًا. والفرض أنه ممكن؛ فالمعنى الثاني للاحتمال هو الإمكان الذاتي. هذان المعنيان هما اللذان يستعمل فيهما الاحتمال، والمراد منهما في التعربف المعنى الأول، وهو تجويز العقل حصول نقيضه واقعًا بدلًا منه، وذلك الاحتمال منفيّ في العلم، بل هو: صفة توجب لموصوفها حصول صورة، أو نسبة بهما يكون موصوفًا، مميزًا بين المعاني، بعضها عن بعض، تمييزًا لا يجوز صاحبه في الحال أو المآل أن يكون الواقع سوى هذه الصورة أو النسبة؛ لأن الصورة لا تحتمل غير ما هي له؛ ولأن إدراك النسبة كان جازمًا متندًا إلى موجب صحيح، فما أدركه واقعًا فهو واقع، وما أدركه غير واقع، هو غير واقع، ولا شكَّ أن العلوم العادية لا يحتمل متعلقها نقيض تمييزها بهذا المعنى، فإذا أدرك العالم بصفة العلم أن الجبل الفلاني أو أن الشاغل لمكان كذا - حجر - لا يحتمل متعلق ذلك الإدراك أن يكون غير حجر، ولذلك تراه يحدث وهو متيقن لصحة قوله ومطمئن لحكمه، وما ذاك إلّا لعدم الاحتمال عنده، وملخص القول: إن المراد بعدم احتمال النقيض جزم العقل بأن النقيض غير واقع، أو أن ما أدركه هو الواقع وليس شيئًا سواه.

ص: 270

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجَبَلَ إِذَا عُلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ حَجَرٌ، اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ ذَهَبًا ضَرُورَةً؛ وَهُوَ الْمُرَاد، وَمَعْنَى التَّجْوِيزِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ لِنَفْسِهِ، لَا أَنَّهُ مُحْتَمَلٌ.

"وأجيب؛ بأن الجبل إذا علم بالعادة أنه حَجَرٌ، استحال حينئذٍ"؛ أي: حِينَ إِذْ

(1)

تعلّق العلم به "أن يكون ذَهَبًا" في الخارج، وفي العقل

(2)

"ضرورة"؛ لاستحالة اجتماع النقيضين

(3)

وهما: كونه حجرًا أو غير حَجَرٍ، "وهو المراد"؛ من عدم احتمال النقيض.

"ومعنى التجويز العقلي: أنه لو قدر" مقدِّر نقيضَ متعلَّق العلم، "لم يلزم منه"؛ أي: من تقديره "محال لنفسه" لا يمكن لذاته، "لا أنه محتمل"

(4)

؛ أي: ليس معنى التجويز: أن نقيض متعلَّق العلم يحتمل وقوعه بوجه؛ فحينئذٍ جاز كون النّقيض مركبًا في نفسه، ولا يحتمل وقوعه لغيره؛ فلا

(5)

يلزم من التجويز العقلي الاحتمال؛ فتدخل

(6)

العلوم العادية تحت الحدِّ.

ولقائل أن يقول: إذا تعلق العلم بكونه حجرًا، فالمستحيل إنما هو تعلّق العلم - والحالة هذه - بأنه ذهب، لا كونه ذهبًا في نفس الأمر، فرُبّ معلومٍ بالعادة، وقد خُرقت العادة فيه

(7)

، ولم يعلم العالم به بخرقها، وهو عالم بالعادة، مع وقوع خلافها في نفس الأمر، وهذا كما أن القمر، لما انشق للنبي صلى الله عليه وسلم، كان الحاصل عند من لم يَرَهُ في ذلك الوقت، ولم يبلغه انْشِقَاقُهُ - أنه غير منشقٍّ، بل هو على المعتاد، فكان

(8)

العلم العادي

(9)

حاصلًا

(10)

بأنه غير منشقٍّ في ذلك

(1)

في ت: حين.

(2)

في حاشية ج: قوله: وفي العقل لو نظر لهذا لم يكن للإيراد بقوله: ولقائل

إلخ وجه. تأمل.

(3)

في حاشية ج: قوله: "لاستحالة اجتماع النقيضين" أي: في العلم العادي؛ إذ لا يمكن علمه عادة حجرًا، مع علمه عادة ذهبًا.

(4)

في حاشية ج: قوله: "أنه محتمل" أي: مع وجود نقيضه، وهو علم أنه حجر.

(5)

في ت: ولا.

(6)

في ت: فيدخل.

(7)

في حاشية ج: قوله: معلوم بالعادة وقد

إلخ، ليس الكلام فيه بل في الباقي عليه كما في المقابل.

(8)

في ب، ت: وكان.

(9)

في حاشية ج: قوله: فكان العلم العادي

إلخ، قد يقال: العلم العادي الحاصل هو العلم بأنه غير منشق مطلقًا، لا بأنه غير منشق معجزة؛ إذ لا دخل للعادة في هذا، فالكلام في العلم العادي ما دامت العادة، وهي ما دامت لم يكن منشقًا. فليتأمل.

وأجاب الغزي على المواقف بأن المراد عدم احتمال النقيض ما دام ذلك الشيء وهو واقع في العلوم العادية؛ لبقاء موجب التميز، أما إذا تبدل المتعلق، فتبدل التميز هو العلم وبقاؤه جهل، فاحتمال =

(10)

في ح: حاصل.

ص: 271

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الوقت، وهو منشقٌّ في نفس الأمر؛ على خلاف الأمر العادي، وإذا كانت الاستحالة إنّما هي عند من حصل له العلم العادي، فالعلم لا يكفي في حصوله كونه يستحيل خلافه عند الذاكر

(1)

، بل لا بُدّ وأن يستحيل عند الذاكر

(2)

وفي نفس الأمر معًا؛ فلا يحتمل النقيض بوجه على [ما]

(3)

بينه

(4)

في تقسيمه الذكر الحكمي، وأيضًا فمن حصل له

(5)

علم عادي - وهو

(6)

مع ذلك يعتقد جواز كون الواقع في نفس الأمر على خلاف علمه؛ لاحتمال وقوع خرق العادة.

فإن قلت: المصنِّف إنما تكلم فيما إذا وجد العلم، والعلم لا يكون إِلَّا مطابقًا، والمطابق يستحيل

(7)

أن يكون الواقعُ بخلافه، وإذا كان الواقع خلاف الحاصل، كان الحاصل جهلًا لا علمًا.

قلت: لو كان كذلك، لم يكن معنى

(8)

لتخصيص الكلام بالعلوم العادية، فإنه متى حصل الذكر النفسي الذي لا يحتمل متعلَّقه النقيض بوجه، لم يحتمل أن يكون الواقع بخلافه، لا فَرْقَ في ذلك بين العلوم العاديّة، [والوجدانية]

(9)

، والحسّية، وغيرها، فإنه قد وجد الجازم والمطابق كله بالفرض.

"فائدة"

(10)

إذا عرفت أن العلم ما كان عن موجِب، وما كان مطابقًا؛ بخلاف الظن، فلو قال الآخَر:

= ذلك التبدل غير قادح في عدم الاحتمال المراد، كما في الضروريات، فإن العلم بكون الكل أعظم من الجزء علم بديهي، لكن ما دام الكل كلًا، والجزء جزءًا، فاحتمال تبدله بتبدل الكلية والجزئية غير قادح فكذا ما نحن فيه. ينظر: شرح المقدمة (8) خ.

(1)

في ب، ت: الذكر.

(2)

في ت: الذكر.

(3)

سقط في ح.

(4)

في ب، ت: بينة.

(5)

في حاشية ج: قوله: وأيضًا فمن حصل له

إِلخ، كيف يكون عالما مع تجويزه كون الواقع على خلاف علمه، وإنما هو يعتقد أن الجبل حجر ما دام حجرًا كما هو في العادة. فتأمل!

(6)

في أ، ج: فهو.

(7)

في ت: مستحيل.

(8)

في حاشية ج: قوله: لم يكن معنى

إلخ، قد يقال: وجه التخصيص وجود التجويز العقلي بالمعنى الذي ذكره فيها دون غيرها.

(9)

سقط في ح.

(10)

الفائدة: هي ما يترتب على الفعل، وأيضًا الزيادة تحصل للإنسان، وكذا ما استفاده من علم أو مال. ينظر: تعريفات الشيخ زكريا الأنصاري.

ص: 272

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أنت تعلم أن هذا العبد حُرّ، حكم بِعِتْقِهِ.

ولو قال: تظن، لم يُحكَمْ؛ لأنَّهُ لو لم يكن حرًّا، لم يكن المقول له عالمًا بحريته، وقد اعترف السيد بعلمه؛ وصورة الظن بخلافه؛ نقله الرافعي عن خط الرُّوياني

(1)

عن بعض الأئمة.

[قال]

(2)

: ولو قال: ترى أنه حُرّ، احتمل ألَّا يقع، واحتمل أن تحمل

(3)

الرؤية على العلم، ويقع.

واعلم أنك إذا قلت: زيد قائم، أو ليس بقائم، فقد ذكرت حكمًا

(4)

وسببًا

(5)

؛ إذ لا بُدَّ

(1)

عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد بن أحمد، أبو المحاسن، الروياني، الطبري صاحب البحر وغيره، قال ابن خلكان: وأخذ الفقه عن ناصر العمري، وعلق عنه، وبرع في المذهب حتَّى كان يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من حفظي، ولهذا كان يقال له: شافعي زمانه. ولد سنة 415 هـ، ومن تصانيفه:"البحر" وهو بحر كاسمه، و"الكافي" وغيرهما، قتله الباطنية سنة 502 هـ.

ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 287، ووفيات الأعيان 2/ 369، والأعلام 4/ 324، والنجوم الزاهرة 5/ 197، وشذرات الذهب 4/ 4، ومفتاح السعادة 2/ 210 ومعجم البلدان 3/ 104.

(2)

سقط في ت.

(3)

في ت: يحمل.

(4)

في حاشية ج: قوله: فقد ذكرت حكمًا قال السعد: هو هذا اللفظ، وإنما سُمِّيَ به لدلالته عليه، أو فقد ذكرت بهذا اللفظ حكمًا، وعلى هذا فتسميته اللفظ بالذكر الحكمي ظاهرة؛ لكونه ذكر منسوبًا إلى الحكم من حيث دلالته عليه.

(5)

نزيد ذلك إيضاحًا: إذا قلت: زيد قائم، أو لبس بقائم، فقد ذكرت حكمًا، وهو الذكر الحكمي، وهو ينبئ عن أمر في نفسك في إثبات أو نفي، وهو ما عنه الذكر الحكمي، وربما يسمى الذكر النفسي، وله نقيض، فللإثبات النفي، وللنّفي الإثبات، ولذلك متعلق وهو طرفاه، فنقول عنه: الذكر الحكمي، سواء صَدَرَ عنه الذكر الحكمي أو لا، إمَّا أن يحتمل متعلقه النقيض، أي نقيض ما عنه الذكر الحكمي بوجه من الوجوه أو لا.

والثاني: العلم، والأول إما أن يكون بحيث لو قدر الذاكر النقيض لكان محتملًا عنده أو لا.

والثاني: هو الاعتقاد وهو إن كان مطابقًا للواقع، فاعتقاد صحيح، وإلَّا فاعتقاد فاسد، والأول إما أن يحتمل النقيض، وهو راجح أو لا، بل مرجوح أو مساوٍ، فالراجح الظن، والمرجوح الوهم، والمساوي الشك.

وإنما جعل المورد ما عنه الذكر الحكمي دون الاعتقاد، أو الحكم؛ ليتناول الشك والوهم مما لا اعتقاد، ولا حكم للذهن فيه، وأشار بقوله:"لو قدره" إلى أن الظن اعتقاد بسيط، وقد لا يخطر نقيضه بالبال، ولكن ينبغي أن يكون بحيث لو خطر نقيضه بالبال لجوّز، ولا يكون تميزه في القوة =

ص: 273

وَأعْلَمْ أَن مَا عَنْهُ الذِّكْرُ الْحُكْمِيُّ إِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ مُتَعَلَّقُهُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ أَوْ لَا:

من سبب لما وقع في الذهن من قيام زيد، وهي. نسبة تقييدية تنشأ

(1)

عنها النسبة الحكمية، وهذه النسبة التقييدية في الذِّهْنِ هي التي عنها الذكر الحُكْمي، وهو

(2)

مورد التقسيم؛ ولذلك

(3)

متعفَق هو طرفاه، وهو قيام زيد في الخَارجِ، ولا نعني

(4)

وجوده، بل حقيقته في نفسه القابلة للوجود والعدم، وهي التي تقسم إلى احتمال النقيض، وعدم احتماله.

إذا عرفت هذا، وهو الذكر الحكمي، وربما سمي الذكر النَّفسي، وله نقيض، فللإثبات النفي، وللنفي الإثبات، فنقول:

الشرح: "اعلم أن ما عنه الذِّكر الحُكمي"

(5)

، سواء أصدر

(6)

عنه الذكر الحكمي

(7)

أم لا؛ "إما أن يحتمل متعلقه النقيض"، "أي: نقيضَ ما عنه الذكر الحُكمي "بوجه" من الوجوه، "أو لا، والثاني العلم.

= بحدّ لو قدّر نقيضه لمنعه، فإن قلت: الاعتقاد لا يحتمل النقيض عند الذاكر ولا في الواقع؛ إذ الواقع أحدهما قطعًا، ولم يعتبر الجواز العقلي كما في العاديات، فما معنى احتماله للنقيض؟

قلت: ذلك احتمال المتعلق في نفس الأمر بالنسبة إلى الحاكم أن يحكم فيه بالنقيض، وذلك بأن يكون الواقع فيه نقيضه أو هو، ولا يكون ثمَّ موجب من حسٍّ أو ضرورة أو عادة توجب الحكم، فإن الاعتقاد عن تقليد أو شبهة لا يمتنع ألا يحصل فيه الجزم الذي اتفق لا بموجب، بل يحصل اعتقاد نقيضه، ثم ذكر أنه قد علم بهذا التقسيم حدودها؛ أي حدود كلِّ واحد من الظنِّ والعلم.

وقسيمتهما بأن يقال: العلم ما عنه الذكر الحكمي الذي لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه، والظن ما عنه الذكر الحكمي الذي يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر لو قدّره إذا كان راجحًا وعليه فقس.

ينظر: شرح المقدمة (8) خ.

(1)

في أ، ج، ح: ينشأ.

(2)

في ت: وهي.

(3)

في ت: وكذلك.

(4)

في ت: معنى.

(5)

لما فرع عن حد العلم أراد أن يعرف الظن فذكر تقسيمًا يعرف منه الظن، وغيره؛ ليكون أتم فائدة.

(6)

في ت: صدر.

(7)

والذكر الحكمي هو الكلام الخبري الدال على معنى الخبر أعم من أن يكون كلامًا تخيليًا أو لفظيًا، وما عنه الذكر الحكمي هو مفهوم الكلام الخبري.

ص: 274

الثَّانِي: الْعِلْم، وَالْأَوَّلُ: إِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ النَّقِيضَ عِنْدَ الذَّاكِرِ، لَوْ قَدَّرَهُ أَوْ لَا، وَالثَّانِي: الاعْتِقَاد، فَإِنْ طَابَقَ، فَصَحِيحٌ، وَإِلَّا فَفَاسِدٌ، وَالأَوَّلُ: إِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ النَّقِيضَ، وَهُوَ رَاجِحٌ أَوْ لَا، فَالرَّاجِحُ: الظَّنُّ، وَالْمَرْجُوحُ: الْوَهْم، وَالْمُسَاوِي: الشَّكّ، وَقَدْ عُلِمَ بِذلِكَ حُدُودُهَا.

والأول: إما أن يحتمل النقيض عند الذّاكر

(1)

لو قدره"؛ أي: يكون بحيث لو قدر الذَّاكر النقيض، لكان محتملًا عنده، "أوْ لا.

والثاني: الاعتقاد، فإن طابق الواقع، فصحيحٌ، وإلَّا ففاسدٌ.

والأول: إما أن يحتمل النقيض، وهو راجح، أوْ لا"، بل مرجوحٌ، أو مُسَاوٍ.

"فالرَّاجح: الظَّن، والمرجوح: الوهم، والمُسَاوي: الشَّك".

وإنما جعل مورد التقسيم. ما عنه الذكر الحكمي، دون الاعتقادِ أو الحكمِ؛ لتناول الوَهْم والشك؛ مما لا اعتقاد ولا حكم للذهن فيه.

"وقد علم بذلك حدودها"، بأن يقال: العلم: ما عنه الذكر الحُكْمي الذي لا يحتمل متعلَّقه النقيض بوجه، والظن: الذي يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر، لو قدره، إذا كان راجحًا، وهكذا إلى آخر التقسيم.

وهذا اصطلاح الأصوليين، وربما أطلق الفقهاء على الظَّن الغالب علمًا، ولذلك لما ذكروا الخلاف في أنّ القاضي، هل يقضي بعلمه؟ مثلوا له؛ بما إذا ادّعَى عليه مالًا، وقد رآه القاضي أقرضه ذلك، أو سمع المدَّعَى عليه أقر بذلك.

قال الرافعي: ومعلوم أن رؤية الإقراض

(2)

،

(1)

في ت: الذكر.

(2)

القراض كالمضاربة معنىً، فهما لفظان مترادفان، إِلَّا أن القراض: لغة أهل الحجاز. والمضاربة: لغةُ أهل العراق. واختلف العلماء في مبدأ اشتقاقه. فقال صاحب "العَيْنِ": هو من أقْرَضَ، فنقول: أقرضتُ الرجل، إذا أعطيته ليعطيك، فالمقارضُ يعطى الربح كما يعطى المقترض مثل المأخوذ. وقال غيره: هو من المقارضة، وهي المساواة، ومنه: تقارض الشاعران، إذ تساويا في الإنشاد؛ لأنهما يستويان في الانتفاع بالربح. وقيل: من القَرْضِ الذي هو القطع؛ لأن المالك قطع للعامل من ماله قطعة يعمل فيها، والعامل قطع للمالك قطعة من الربح الحاصل بسعيه. فإطلاق لفظ القراض على إعطاء شخص غيره جزءًا من ماله ليتجر فيه على أن يكون له بعض الربح إطلاق لغوي، والدليل على ذلك ما قاله بعض الصحابة لعمر بن الخطاب في قصة عبد الله وعبيد الله:"لو جعلته قراضًا" =

ص: 275

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وسماع الإقرار

(1)

لا يفيد اليقين؛ بثبوت المحكوم به وقت القضاء.

قال: فيدلّ على أن المراد بالعلم ليس اليقينَ، بل الظَّنَّ المؤكَّدَ.

وربما أطلقوا الشّك في موضع لم يستو الطَّرفان فيه.

وقولهم في القاعدة المشهورة: اليقين لا يُرفع بالشّك؛ إذا تأملت فروعها، عرفت: أن المراد به استصحاب اليقين، وهو في الحقيقة ظَنّ لا يرفع بالشك، واستثناءُ ما استثنوه

(2)

من

= ووجه الدلالة أن الصحابة هم أهل اللسان العربي، وأرباب البيان الضَّادي، فإذا كان يحتج بقول امرئ القيس، والنابغة، فالحجة بقول الصحابة أولى.

ينظر: لسان العرب: 5/ 3588، والمصباح المنير 2/ 497، والصحاح 1/ 168، وتحرير التنبيه (328).

واصطلاحًا:

عرفه الحنفية بأنه: هو المضاربة عندهم، عقد شركة في الربح بمال من جانب وعمل من جانب.

وعرفه الشافعية بأنه: أن يدفع إليه مالًا؛ ليتجر فيه والربح مشرك.

وعرفه المالكية بأنه: توكيل على تجرٍ في نقدٍ مضروبٍ مُسلمٍ بجزء من ربحه.

وعرفه الحنابلة بأنه: دفع مال معلوم أو ما في معناه لمن يتجر فيه بجزء معلوم من ربحه.

ينظر: حاشية الدسوقي 3/ 517، وشرح فتح القدير 8/ 445، ومغني المحتاج 2/ 309 - 310، ومطالب أولي النهي 3/ 513 - 514، ومجمع الأنهر 2/ 321، وكشاف القناع 3/ 507، والفواكه الدواني 2/ 174 - 175.

(1)

الإقرار لغة: مشتق من القرار؛ وهو إثبات ما كان متزلزلًا؛ وهو من قر الشيء إذا ثبت. وقيل: الإقرار خلاف الجحود.

ينظر: الصحاح 2/ 78 ولسان العرب 5/ 3582، وأنيس الفقهاء ص (243).

واصطلاحًا:

عرفه الشافعية بأنه: إخبار بحق على المقر.

وعرفه المالكية بأنه: خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط بلفظه أو لفظ نائبه.

وعرفه الحنفية بأنه: إخبار بحق لآخر لا إثبات له عليه.

وعرفه الحنابلة بأنه: إظهار مكلف مختار ما عليه بلفظ أو كتابة أو إشارة أخرس أو على موكله أو موليه أو مورثه بما يمكن صدقه.

ينظر: حاشية الباجوري 2/ 2، والخرشي 6/ 86 - 87، والدرر 2/ 357، ومنتهى الإرادات 2/ 684.

(2)

في ب: استثنوا.

ص: 276

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هذه القاعدة، ليس في الحقيقة قضاءً بالمرجوح، مع وجدان الرَّاجح؛ فإن ذلك على خلاف المعقولِ والمشروعِ، بل عملٌ بأرجح الظَّنين.

قال أبو العَبَّاس بن القاصِّ

(1)

: لا يُرفع اليقين بالشَّكِّ إلا في إحدى عشرة

(2)

مسألة

(3)

- وزاد

(1)

أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري ابن القاص، أخذ الفقه عن ابن سريج، وتفقه على أهل طبرستان، قال الشيرازي: كان من أئمة أصحابنا، وقال ابن باطيش: كان إمام طبرستان في وقته، ومن لا تقع العين على مثله في علمه وزهده، له التلخيص وأدب القضاء، مات سنة 335 هـ. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 106، وطبقات السبكي 2/ 103، والبداية والنهاية 11/ 219، ووفيات الأعيان 1/ 51، وشذرات الذهب 2/ 339، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 252، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص 91.

(2)

في أ، ب، ت، ح: عشر، وهو خطأ.

(3)

في حاشية ج: مسائل: إحداها: إذا شكَّ ماسح الخف هل انقضت المدة أم لا؟

الثانية: شك هل مسح في السفر أم في الحضر، يحكم في المسألتين بانقضاء المدة.

الثالثة: إذا أحرم المسافر بنية القصر خلف من لا يدري أمسافر هو أو مقيم لم يجز القصر.

الرابعة: بال حيوان في ماء كثير، ووجده متغيرًا، ولم يدر أتغير بالبول أم بغيره، فهو نجس.

الخامسة: المستحاضة المتحيرة يلزمها الغسل عند كل صلاة تشكّ في انقطاع الدم قبلها.

السادسة: من أصابته نجاسة في بدنه أو ثوبه، وجَهِلَ موضعها يلزمه غسله كله.

السابعة: شكَّ مسافر أوصل بلده أم لا، لا يجوز له الترخص.

الثامنة: المستحاضة وسلس البول إذا توضأ ثم شكَّ هل انقطع حدثه أم لا فصلى بطهارته لم تصح صلاته.

التاسعة: تيمم ثم رأى شيئًا لا يدري أسراب هو أم ماء فيبطل تيممه وإن بان سرابًا.

العاشرة: رمى صيدًا ثم غاب فوجده ميتًا، وشك هل أصابته رمية أخرى من حجر غيره لم يحل أكله، وكذا لو أرسل عليه كلبًا. انتهى.

قال القفال في شرحه: قد خالفه أصحابنا في هذه المسائل كلها، فالمسألة الأولى والثانية في مسح الخف.

قال أصحابنا: لم يترك فيهما اليقين بشك، بل لأن الأصل غسل الرجل، وشرط المسح بقاء المدة، وشككنا فيه، فعملنا بأصل الغسل، هذا قول القفال. وفيه نظر، والظاهر قول أبي العباس.

قال القفال: وأما المسألة الثالثة فحكمها صحيح لكنه ليس ترك يقين بشك؛ لأن القصر رخصة بشرط، فإذا لم يتحقق، رجع إلى الأصل، وهو الإتمام. =

ص: 277

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عليه الأصحاب صورًا أهملها من جنس ما ذكره.

ثم قال محققوهم: إنه لم يُعمل بالشَّك في شيء منها؛ كما حَقّقنا

(1)

ذلك في كتابنا "الأشباه والنظائر".

واعلم أن الإمام حجَّة الإسلام أبا حَامِدٍ الغَزَّاليَّ

(2)

- سقى الله عهده - افتتح كتاب

= قال: وأما الرابعة: فحكمها صحيح؛ لكن ليس هو ترك يقين بشك؛ لأن الظاهر تغيره بالبول. وهذا فيه نظر، والظاهر قول أبي العباس أنه ترك الأصل لظاهر.

قال: وأما الخامسة: فحكمها صحيح، لكن ليس ترك أصل بشك؛ بل لأن الأصل وجوب الصلاة عليها، فإذا شكت في انقطاع الدم فصلت بلا غسل لم تتيقن البراءة من الصلاة وفيه نظر. والظاهر قول أبي العباس.

وأما السادسة: فليس ترك بقين بشك؛ لأن الأصل أنه ممنوع من الصلاة إلا بطهارة عن هذه النجاسة، فما لم يغسل الجميع هو شاك في زوال منعه من الصلاة.

قال: وأما السابعة؛ ففيها وجهان:

أحدهما: له القصر؛ لأنَّهُ شاك في زوال سبب الرخصة، والأصل عدمه.

والثاني: لا يجوز كما قال أبو العباس، ولكن ليس ذلك ترك يقين بشك، وفيه نظر، والظاهر قول أبي العباس.

وأما الثامنة فحكمها صحيح، ولكن ليس ترك يقين بشك بل الأصل الإتمام، ولا يقصر حتَّى يتيقن سبب الرخصة، وفيه نظر، والظاهر قول أبي العباس.

وأما التاسعة فحكمها صحيح، لكن ليس ترك بقين بشك؛ لأن المستحاضة لا يحل لها الصلاة مع الحدث إلا للضرورة، فإذا شكت في انقطاع الدم فقد شكت في السبب المجوّز للصلاة مع الحدث، فرجعت إلى أصل وجوب الصلاة بطهارة كاملة، والظاهر قول أبي العباس.

وأما العاشرة: فحكمها صحيح، لكن ليس ترك يقين بشك، وإنما بطل التيمم برؤية السراب؛ لأنَّهُ توجه الطلب، وإذا توجه بطل التيمم، والظاهر قول أبي العباس.

قال: وأما الحادية عشرة: ففي حلّ الصيد قولان:

فإن قلنا: لا يحل، فليس ترك يقين بشك؛ لأن الأصل التحريم، فقد شككنا في الإباحة، هذا كلام القفال اهـ. والصواب في أكثرها مع أبي العباس كما ذكرناه، وهو ظاهر لمن تأمله. شرح المهذب للإمام النووي رحمه الله، فلينظر الأشباه والنظائر للمؤلف رحمه الله وإيانا، وقد قمنا بتحقيقه وإخراجه مع دار الكتب العلمية بـ"بيروت". وينظر كلامنا على التلخيص لابن القاص.

(1)

في ت: خصصنا.

(2)

ينظر: المستصفى 1/ 10.

ص: 278

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"المستصفَى" بقواعد منطقية، وقال: "هذه مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها، فلا ثقة

(1)

له بمعلومه

(2)

أصلًا.

واختلف أهل العلم والدِّين بعدهم، فذكر الشيخ أبو عمرو بن الصَّلاح؛ أنه سمع الشيخ العماد بن يونس

(3)

يحكي عن الإمام يوسف الدمشقي؛ أنه كان يُنكِرُ هذا القول

(4)

ويقول: فأبو بكر

(5)

، وعمر

(6)

، وفلان، وفلان؛ يعني: أن أولئك السَّادة عظمت حظوظهم من العلم واليقين،

(1)

في ت: فقه.

(2)

في ب: بعلومه.

(3)

محمد بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك، العلامى عماد الدين أبو حامد بن يونس الإربلي الموصلي، ولد سنة 535 هـ، وتفقه على والده، ثم دخل بغداد، وتفقه بالنظامية على السديد السلماسى، ويوسف بن بندار الدمشقي، وسمع الحديث من جماعة، كان إمام وقته في المذهب والأصول والخلاف، قال ابن خلكان: وجمع بين "المهذب" و "الوسيط" وسماه "المحيط"، وشرح الوجيز في جزءين، وله الفتاوى جزء، توفي سنة 608 هـ.

ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 67، ووفيات الأعيان 3/ 385، والأعلام 8/ 34.

(4)

وقال الأخضري في "السلم"[الرجز]:

وَالخُلْفُ فِي جَوَازِ الاشْتِغَالِ

بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالِ

فَابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَاوِي حَرَّمَا

وَقَالَ قَوْمٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَا

وَالْقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ

جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ

مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ

لِتَهْتَدِي بِهِ إِلَى الصَّوَابِ

(5)

عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم التيمي أبو بكر بن أبي قحافة الصديق، أول الرجال إسلامًا، ورفيق سيد المرسلين في هجرته، شهد المشاهد، وكان من أفضل الصحابة، وروى مائة واثنين وأربعين حديثًا، وكان أبيض أشقر لطيفًا مُسْترقّ الوركين قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، "سُدُّوا كل خوخة إلا خوخة أبي بكر" وقال عمر: أبو بكر خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي سنة ثلاث عشرة، عن ثلاث وستين سنة ودفن في الحجرة النبوية وترجمته في تاريخ الشام في مجلد ونصف. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 709، وتهذيب "التهذيب" 5/ 315 (537)، وتقريب "التهذيب" 1/ 432 (466)، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 78، والكاشف 2/ 108، والجرح والتعديل 5/ 111، وأسد الغابة 3/ 309، والتجريد 1/ 323، والإصابة 4/ 169، والاستيعاب 3 - 4/ 963، وديوان الإسلام: ت 66.

(6)

عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزَّى العدوي أبو حفص المدني، أحد فقهاء الصحابة، ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأول من سمي "أمير المؤمنين"، شهد بدرًا، =

ص: 279

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولم يحيطوا بهذه المقدمة وأشباهها، ثم أفتى ابن الصَّلاح بتحريم الاشتغال بالمَنْطِقِ، وقال: هو مدخل الفلسفة

(1)

، ومدخل الشَّرِّ، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلُّمه مما أباحه الشَّارع، ولا استباحه أحدٌ من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالحين، وسائر من يُقتَدَى بهم من أعلام الأمة وسادتها، وأركانِ الله وقادتها، قد برأ الله الجميع من معرفة ذلك وأدْناسه، وطهَّرهم من أوضاره.

وأما استعمالات الاصطلاحات المشنعة المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية، فمن

= والمشاهد إلا تبوك. وولي أمر الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وفتح في أيامه عدة أمصار، أسلم بعد أربعين رجلًا، عن ابن عمر مرفوعًا:"إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"، ولما دفن قال ابن مسعود: ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم. استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين، ودفن في أول سنة أربع وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه صهيب، ودفن في الحجرة النبوية، ومناقبه جمة.

ينظر ترجمته في: تهذيب "التهذيب" 7/ 438 (724)، وتقريب "التهذيب" 2/ 54، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 268، والكاشف 309، وأسد الغابة 4/ 145، والرياض المستطابة 147، والاستيعاب 3/ 1144، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 38، 55، وطبقات ابن سعد 9/ 141، وطبقات الحفاظ 628.

(1)

الفلسفة باليونانية: محبة الحكمة، والفيلسوف هو: فيلا وسوفا، وفيلا: هو المحب، وسوفا: الحكمة؛ أي هو محب الحكمة.

والحكمة قولية وفعلية.

أما الحكمة القولية، وهي العقلية أيضًا؛ فهي كل ما يعقله العاقل بالحد، وما يجري مجراه مثل الرسم، والبرهان، وما يجري مجراه مثل الاستقراء، فيعبر عنه بهما.

وأما الحكمة الفعلية فكل ما يفعله الحكيم لغاية كمالية.

ومن الفلاسفة: حكماء الهند من البراهمة لا يقولون بالنبوات أصلًا، ومنهم: حكماء العرب، وهم شرذمة قليلون؛ لأن أكثر حكمهم فلتات الطبع، وخطرات الفكر، وربما قالوا بالنبوات.

ومنهم: حكماء الروم، وهم منتسبون إلى القدماء الذين هم أساطين الحكمة، وإلى المتأخرين وهم المشاءون، وأصحاب الرواق، وأصحاب أرسطوطاليس وإلى فلاسفة الإسلام الذين هم حكماء العجم، وإلا فلم ينقل عن العجم قبل الإسلام مقالة في الفلسفة؛ إذ حكمهم كلها كانت متلقاة من النبوات، إما من الملة القديمة، وإما من سائر الملل. غير أن الصابئة كانوا يخلطون الحكمة بالصبوة. وينظر تفصيل ذلك في: الملل والنحل 3/ 116، 118.

ص: 280

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنكرات، وليس بالأحكام الشرعية - والحمد لله - افتقارٌ إلى المنطق أصلًا، وما يزعمه المَنْطقيُّ لِلْمَنْطِقِ في أمر الحد والبرهان - فقاقيع قد أغنى الله عنها كلّ صحيح الذّهن؛ لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة، وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها، حيث لا منطق. انتهى، وتابعه غير واحد ممن بعده.

ورأيت في المسائل التي سألها يوسفُ بن محمد بن مقلد الدمشقي، الشيخَ الإمام أبا منصور العطاردي، المعروف بـ"حضرة": هل يجوز الاشتغال بالمنطق، أم هو دِهليز الكفر؟.

أجاب: المنطقُ لا يتعلَّق به كفر ولا إيمان، ثم قال: إن الأولى ألّا يشتغل به؛ لأنَّهُ لا يأمن الخائض فيه؛ أن يجره إلى ما لا ينبغي، انتهى.

ونحن نقول: قول يوسف الدمشقي: "أبو بكر، وعمر، وفلان، وفلان"، المتقدم - كلام لا حاصل له؛ فإن أبا بكر، وعمر أحاطا بهذه المقدمة إحاطةً لم يصل

(1)

الغزالي وأمثاله إلى عُشْرِ

(2)

معشارها، ومن زعم أنهما لم يحيطا بها

(3)

، فهو المسيء

(4)

عليهما، والذي نقطع

(5)

به أنها كانت ساكنة في طِبَاعِ أولئك السَّادات، وسَجِيَّةً لهم، كما كان النَّحو الذي نَدْأَبُ نحن اليوم في تحصيله.

وما ذكره الشيخ أبو عمرو بن الصَّلاح ليس بالخالي عن الإفراط والمبالغة؛ فإن أحدًا لم يدع افتقار الشَّريعة إلى المَنْطِقِ، بل قصارى المَنْطِقِ، عصمةُ الأذهان [التي]

(6)

لا يوثق بها؛ عن الغَلَطِ، وهو حاصل عند كلّ ذي ذهن بمقدار ما أوتي من الفَهْمِ.

وأما ترتيبه على الوَجْهِ الَّذي يذكره المنطقيُّ، فهو

(7)

أمر استحدث؛ ليرجع إليه ذو الذِّهن، إذا استبهمت

(8)

الأمور، وهل المنطق للأذهان إلا كالنحو للسان، وإنما احتيج للنحو، وصار علمًا برأسه عند اختلاط الألسنة، وكذلك المنطق، يدعي الغزاليُّ؛ أن الحاجة اشتدت إليه عند كَلَالِ الأذهان، وَاعْتِوَارِ الشُّبُهَاتِ.

وقوله: "لقد تمَّت الشريعة حيث لا مَنْطِقَ"؛ إن أراد حَيْثُ لا منطق مودعٌ في الكتب على

(1)

في ت: يحصل.

(2)

في أ: معشر.

(3)

في أ، ب، ج، ح: به.

(4)

في ت: وهو المسمى، وهو تحريف.

(5)

في ت: يقطع.

(6)

سقط في ت.

(7)

في ت: وهو.

(8)

في ح: اشتبهت.

ص: 281

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هذه الأساليب، فصحيح، ولا يوجب تحريم هذا، ولا الغض

(1)

منه

(2)

، وإن أراد حيث لا مَنْطِقَ حاصلٌ لهم، وإن لم يعبر عنه بهذا الوجه، فممنوع؛ كما ذكرناه.

فإن قلت: ماذا يعنون

(3)

به في المنطق؟

قلت: نحن نذهب إلى ما أفتى به شيخ المسلمين، وإمام الأئمة، الذي خضعت له الرِّقَاب؛ وهو أبى - تغمده الله برحمته - حيث قال، وقد سُئِلَ عن ذلك: ينبغي أن يقدم على الاشتغال به - الاشتغالُ بالقرآن، والسُّنة، والفقه؛ حتَّى يَرْسَخَ في الذِّهْنِ تعظيمُ الشَّريعة وعلمائها

(4)

، فإذا تمَّ ذلك، وعلم المرء من نفسه صحَّة الذهن؛ حتَّى

(5)

لا تروج عليه الشبهة

(6)

، ولقي شيخًا ناصحًا حسن العقيدة - جاز له - والحالة هذه - الاشتغالُ بالمنطق، وانتفع به، وأعانه على العلوم الإسلامية، قال: وهو من أحسن العلوم وأنفعها في كل بحث، [قال: وفصل القول فيه؛ إنَّه كالسَّيف يجاهد به شخص]

(7)

في سبيل الله، ويقطع [به]

(8)

آخرُ الطريقَ.

(1)

في أ، ح: العض.

(2)

في ب، ت: عنه.

(3)

في ب يفتون، وفي ت: تفتون.

(4)

في أ، ح: علماؤها، وهو خطأ.

(5)

في أ، ت: حيث.

(6)

الشُّبْهَة: هو ما يشبه الشيء الثابت وليس بثابت في نفس الأمر. قال السيد: هو ما لم يتيقن كونه حرامًا أو حلالًا.

وشبهة العقد: هو ما وجد فيه العقد صورة لا حقيقة كما إذا تزوج امرأة بلا شهود أو مجوسية أو خمسًا في عقد أو تزوج بمحارمه أو جمع بين الأختين.

وشبهة الفعل: أي الشبهة في الفعل هو الوطء تشتبه عليه حرمته لا في محله وهي الموطوءة، وتسمى شبهة الاشتباه كوطء أمة أبوبه ومعتدَّة الثلاث وأمة امرأته وأمة سيده، ووطء المرتهن الأمة المرهونة، ومعتدة الطلاق على مال.

وشبهة المِلك: أي المحل، وتسمى شبهة حكمة، كوطء أمة ولده ومعتدة الكنايات ووطء الباخ الأمة المبيعة، ووطء أحد الشريكين، ووطء أجنببة ظنًا أنها امرأته.

وشبهة العمد: في القتل بأن يعتمد المضروب بما ليس بسلاح ولا بما أجري مجرى السلاح عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وعندهما إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة عظيمة فهو عمد، وشبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل غالبًا، كالسوط والعصا الصغير والحجر الصغير.

(7)

سقط في ح.

(8)

سقط في ح.

ص: 282

وَالْعِلْمُ ضَرْبَانِ: عِلْمٌ بِمُفْرَدِ، ويُسَمَّى تَصَوُّرًا وَمَعْرِفَةً، وَعِلْمٌ بِنِسْبَةٍ، وَيُسَمَّى تَصْدِيقًا وَعِلْمًا، وَكِلَاهُمَا ضَرُورِيٌّ وَمَطْلُوبٌ.

وقد اقتدى المصنّف بالغَزَّاليِّ في ذكر القواعد المهمَّة من المَنْطِقِ، فقال: "والعلم ضربان:

(1)

علم بمفرد"

(2)

؛ مثل علمك بمعنى الإنسان، والكاتب، "ويسمى تصورًا ومعرفة، وعلم بنسبة"، لا بمعنى [حصول]

(3)

صورتها في العَقْلِ؛ فإنه من قبيل الأول؛ بل بمعنى إيقاعها أو انتزاعها؛ مثل: حكمك بأن الإنسان كاتب، أو ليس بكاتب، "ويسمى تصديقًا وعلمًا"

(4)

.

وإنما يسميه علمًا بعضهم؛ وعلى هذا، فلا يكون الأول عنده علمًا، "وكلاهما"؛ أي: كل واحد من التصوّر والتصديق

(5)

"ضروري" يحصل بلا طَلَبٍ

(6)

، "ومطلوبٌ" لا يحصل إلا

(1)

وقوله: "ضربان" إشارة إلى أنهما نوعان متمايزان: نوع قد يتعلق بالفرد كما يتعلق بالنسبة، ونوع لا يتعلق إِلَّا بالنسبة؛ فلا يرد تصور النسبة عليه.

(2)

في هامش ت: تقسيم العلم إلى تصور وتصديق، وهو مبدأ الشروع في المبادئ المنطقية.

(3)

سقط في ت.

(4)

إذا تصورنا نسبة أمرٍ إلى أمرٍ إثباتًا أو نفيًا، وشككنا فيه فقد علمنا ذينك الأمرين، والنسبةُ ضرب مَا من العلم؛ لأنّا لا نشك فيما لا نعلمه أصلًا، ثم إذا زال الشك وحكمنا به، فقد علمنا النسبة ضربًا آخر من العلم، وهذا الضرب متميّز عن الأول بحقيقته، وبلازمه المشهور، وهو احتمال الصدق والكذاب، فقد تقرّر أن العلم ضربان:

ضرب يتعلق بالمفرد، ويسميه بعض مهم تصورًا، وبعضهم معرفةً.

وضرب لا يتعلق إلا بالنسبة أي: بحصولها، ويسميه بعضهم تصديقًا، وبعضهم علمًا، فيخصّ هذا الضرب بالعلم بالاشتراك أو بالغلبة!. ينظر: شرح المقدمة (9) خ.

(5)

في هامش ت: تقسيم كل منهما إلى ضروري وغيره وتعريفهما.

(6)

كل واحد في التصور والتصديق ينقسم إلى ضروري يحصل بلا طلب، ومطلوب لا يحصل إِلَّا بالطلب، ووجود الأقسام الأربعة وجداني، والمنكرُ مباهت، فيعرض عنه، أو جاهل بمعناه؛ فيفهم. فالتصوّر الضروري ما لا يتقدمه تصوّر تقدُّمًا طبيعيًا؛ أي: لا يتوقف تحققه عليه، وهو الذي متعلقه مفرد كالوجود والشيء، فلا يطلب بحدّ، إذ لا حدّ له، فإنه يميز أجزاء المفرد، ولا أجزاء له، والمطلوب بخلافه وهو ما كان متعلقه مركبًا، فيطلب مفرداته لتعرف متميزة، وذلك حَدّه، فقد تبيّن أن كل مركب يُكْتَبُ بالحدّ، ولا شيء من البسيط كذلك، وبيانه: أن البسيط هو معنى الضروري، والتصديق البديهي ما لا يتقدمه تصديق يتوقف عليه، وهو دليله، وطلبه النظر، ولا بأس أن يتقدّمه تصور يتوقف عليه ضروريًا كان أو نظريًا، والمطلوب بخلافه أي: يتقدمه تصديق يتوقف عليه، وهو =

ص: 283

فَالتَّصَوُّرُ الضَّرُورِيُّ: مَا لَا يَتَقَدَّمُهُ تَصَوُّرٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ؛ لانْتِفَاءِ التَّرْكِيبِ في مُتَعَلَّقِهِ؛ كالْوُّجُودِ وَالشَّيْءِ، وَالْمَطْلُوبُ بِخِلَافِهِ، أَيْ: تُطْلَبُ مُفْرَدَاتُهُ؛ فَيُحَدُّ.

وَالتَّصْدِيقُ الضَّرُورِيُّ: مَا لَا يَتَقَدَّمُهُ تَصْدِيقٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَالْمَطْلُوبُ بخِلَافِهِ، أَيْ: يُطْلَبُ بِالدَّلِيلِ.

بالطلب، فصارت الأقسام أربعة: تصور ضروري، ومطلوب، وتصديق ضروري، ومطلوب، ووجود الأربعة وجداني.

الشرح: "فالتصور الضّروري: ما لا يتقدمه

(1)

- تصوّر يتوقف عليه"

(2)

؛ أي: لا يتقدمه تصوّر تقدمًا طبيعيًّا، وهو ما لا يتوقف تحققه عليه، وعدمُ توقف التصوّر على تصور يسبقه، إنما هو "لانتفاء التَّرْكيب في متعلَّقه"؛ فإنه مفرد؛ فلا يطلب له حَدّ؛ إذ لا حَدَّ له؛ لأن الحدَّ يميز أجزاء المفرد، وهذا مفرد؛ فلا أجزاء له، والمفرد الذي لا يحد، "كالوجود، والشيء".

والتصور "المطلوت بخلافه"، وهو ما كان متعلَّقه مركَّبًا، "أي: يَطْلُبُ

(3)

مفرداته"؛ ليعرف متميزه

(4)

بالحَدّ:

"والتَّصديق الضَّروري: ما لا يتقدّمه تصديقٌ يتوقف عليه"، وهو دليله، وطلبه النظر، ولا بأس أن يتقدّمه تصديق يتوقّف عليه، وهو دليله، "فيطلب بالدَّليل".

واعلم أنه لا يلزم من توقُّف التصوُّر على تصور مفرداته - أن يطلب، بل قد يكون

(5)

حاصلًا من غير سَبْقِ طلبٍ وَنَظَرِ.

= دليله، فيطلب بالدليل. واعلم أنه لا يلزم في توقف التصوّر على تصوّر مفرداته أن يطلب، بل قد يكون حاصله من غير سبق طلب ونظر. ينظر شرح المقدمة (10) خ.

(1)

في أ، ح: يقدمه.

(2)

لما ذكر أن تصور المطلوب بالحد أراد أن يشير إلى معناه وأقسامه وأحكامه وشرائطه، وهو ثلاثة أقسام كما ذكر المصنف رحمه الله. ينظر: تعريف الحد في شرح الغرة في المنطق (143)، وشرح تنقيح الفصول ص (11)، والمستصفى 11 - 15، والفصول ص (170)(4)، والبحر المحيط 1/ 91 وما بعدها.

(3)

في أ، ح: تطلب.

(4)

في ت: مميزة.

(5)

في أ، ج: تكون.

ص: 284

وَأُورِدَ عَلَى التَّصَوُّرِ: إِنْ كَانَ حَاصِلًا، فَلَا طَلَبَ، وإلَّا فَلَا شُعُورَ بِهِ، فَلَا طَلَبَ؛ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَشْعُرُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَالْمَطلُوبُ تَخْصِيصُ بَعْضِهَا بِالتَّعْيِينِ، وَأُورِدَ ذلِكَ

الشرح: "وأورد على التصور"؛ أنه لا مطلوب منه؛ لأنَّهُ "إن كان حاصلًا، فلا طلب"؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل، "وإلَّا فلا شعور به، فلا طلب"؛ لأن الطلب إنما يتوجه نحو المشعور

(1)

به

(2)

.

لا يقال: إنه حاصل من وَجْهٍ دون وجه؛ لأنا نقول: يعود الكلام فيما يُطلب من جهته، فالحاصل في طلبه تحصيل الحاصل وغيره - لا شعور به.

بل الجواب ما أشار إليه

(3)

بقوله: "وأجيب بأنه"

(4)

يَشْعُرُ بها"؛ أي: بمفرداته

(5)

التي ذكر أنها تطلب

(6)

لتعرف

(7)

متميزة، "وبغيرها"

(8)

مفضلة، "والمَطْلُوب تخصيص بعضها بالتعيين"؛

(1)

في ح: الشعور.

(2)

ورد على التصور أنه لا مطلوب منه؛ لأنَّهُ إمَّا حاصل، فلا يطلب؛ لكونه تحصيلًا للحاصل، وإمَّا غير حاصل فلا شعور به؛ فلا يطلب.

لا يقال: إنه حاصل من وجه دون وجه؛ لأنَّهُ يعود الكلام فيما يطلب من وجهيه، بل الجواب أنه يشعر بها؛ أي: بمفرداته التي ذكر أنها تطلب لعرف متميزة، وبغيرها مفضلة، ويطلب تخصيص بعضها بالتعيين كمن يرى أشخاصًا كثيرة فيهم زيد ولا يعرفه بعينه، فيسأل عنه من يعرفه فيضع يده على أحدهم فيقول: زيد هو هذا، أو يعرّفه بعلامة علمها لزيد دون من عداه، والتحقيق أنه ليس كل متصوّر متصوّرًا تفصيلًا؛ أي: تصورًا حاضرًا، بل منه ما هو كالمخزون المعرض عنه يُلتفت إليه بالقصد فيستحضر، فإذا استحضر جملة منه ورتّب حصل مجموع لم يكن، كمن بنى بناء ثمَّ - ربما انتقل الذهن منه إلى غيره مما كان مغفولًا عنه أو متوجهًا إليه يتعقله بوجه آخر كما ينتقل في الحرّ إلى الحارّ ومن الصوت إلى المصوّت، وقد أورد على التصديق مثله، فقيل: لا مطلوب منه؛ لأنَّهُ إمَّا حاصل أو غير مشعور به كما تقدَّمٍ.

والجواب: أنه يتصور النسبة نفيًا أو إثباتًا، والمطلوب تعيين أحدهما، وذلك أن العلم بالنسبة من جهة تصوّره غير العلم بحصولها، وإلَّا لزم من تصوّرها العلم بحصولها، فإذا تصورنا النفي والإثبات فشككنا فيهما أو حكمنا بتنافيهما لزم إجتماع النفي والإثبات، وهما نقيضان. ينظر: شرح المقدمة (11) خ.

(3)

في ت: له.

(4)

في ح: بأن.

(5)

في ت: مفرداته.

(6)

في ت: يطلب.

(7)

في ب، ج: لتعرف.

(8)

في ت: ولغيرها.

ص: 285

عَلَى التَّصْدِيقِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ تُتَصَوَّرُ النِّسْبَةُ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، ثمَّ يُطْلَبُ تَعْيِينُ أَحَدِهِما، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِ النِّسْبَةِ حُصُولُهَا، وَإِلَّا لَزِمَ النَّقِيضَانِ.

وَ‌

‌مَادَّةُ الْمُرَكَّبِ:

مُفْرَدَاتُه، وَصُورَتُهُ: هَيْئَتُهُ الْخَاصَّةُ.

كمن يرى أشخاصًا كثيرة فيهم زيد، ولا يعرفه بعينه، فيسأل

(1)

عنه من يعرفه، فيضع يده على أحدهم قائلًا: زيد هو هذا، أو يعرِّفه بعلامة علّمها [الزيد]

(2)

دون غيره مِمَّن عَدَاهُ.

"وأورد ذلك على التصديق"[أيضًا]

(3)

؛ فقيل: لا مطلوب منه؛ لأنَّهُ إما حاصل، أو غير مشعور به؛ كما تقدم.

الشرح: "وأجيب: بأنه يُتصوّر النِّسْبة

(4)

بنفي أو إثبات، ثم يُطلب تعيين أحدهما"، وذلك أن العلم بالنِّسبة من جهة تصورها

(5)

غير العلم بحصولها، وإلَّا لزم من تصورها العلمُ بحصولها، فإذا تصوّرنا النَّفي والإثبات، لزم اجتماعهما، فيجتمع النقضيان، وإلى هذا أشار بقوله:"ولا يلزم من تصوّر النسبة حصولها، وإلا لزم النَّقيضان".

الشرح: واعلم: أن أجزاء

(6)

المركب

(7)

، إما أن يكون معه بالقُوَّة، وهو المادَّة؛ كالخشب للسَّرير، أو بالفعل، وهو الصُّورة؛ كهيئة السَّرير، "ومادة المركب:[مفرداته" التي يحصل هو من التئامها؛ كالخشب]

(8)

، "وصورته: هيئته الخاصَّة" الحاصلة من الْتِئَامِهَا

(9)

.

ثم إن ذلك قد يكون زائدًا على مجموع المفردات؛ كالمزاج الحاصل لأجزاء المَعْجُونِ

(1)

سقط في ت.

(2)

في ت: بدون.

(3)

سقط في ت.

(4)

في ت: بالنسبة.

(5)

في أ: تصورهما.

(6)

في ب، ت: جزء.

(7)

في هامش ت: مادة المركب.

(8)

سقط في.

(9)

لكل مركب مادة، وهو كالخشب للسرير، وصورة هي كالهيئة السّريرية له، فمادته مفرداته التي يحصل هو في التئامها، وصورته الهيئة الحاصلة في التئامها، ثم إن ذلك قد يكون زائدًا على مجموع المفردات، كالمزاج الحاصل لأجزاء المعجون الذي به يظهر آثاره، وقد لا يكون كهيئة العشرة لآحادها، فإن العشرة وإن كان غير كُلِّ واحد فليس إِلَّا مجموع الآحاد، ولم يحصل لها بعد الالئتام كيفية زائدة، اللهمَّ إِلَّا بحسب التعقل إن كان. ينظر: شرح المقدمة (12) خ.

ص: 286

‌تَقْسِيمُ الحَدِّ

(1)

وَالْحَدُّ حَقِيقِيٌّ، وَرَسْمِيٌّ، وَلَفْظِيٌّ:

فَالْحَقِيقِيُّ: مَا أَنْبَأَ عَنْ ذَاتيَّاتِهِ الْكُلِّيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ.

الذي به تظهر آثاره؛ ويشبِّهه

(2)

الفقيه باجتماع

(3)

الجماعة على قَتْلِ الواحد، إذا كان كلّ منهم لو انفرد لم يزهق، وقد لا يكون؛ كَهَيْئَةِ العشرة لآحادها؛ فإن العشرة - وإن كانت غير كلّ واحد - فليست إلا مجموعَ الآحاد، ولم يحصل لها بعد الالتئام كيفية زائدةٌ؛ اللَّهم إِلَّا أن يكون بحسب التعقُّل، وأشبه منهم بالعشرة الثابتة في ذمَّة [زيد]

(4)

، إذا ضمنها عمرو؛ فإنها واحدة، وإن ثبتت في ذمّتين، وليست عشرتين؛ خلافًا لمن زعم ذلك من الفقهاء.

الشرح: "والحَدّ" وهو ما يميز الشيء عن غيره: "حقيقي، ورسمي، ولفظي:

فالحقيقي: ما أنبأ عن ذاتِيَّاتِهِ"؛ أي: ذاتِيَّات المحدود"[الكلية]

(5)

المركّبة"؛ وقد خرج بقولنا: ذاتياته - العرضياتُ، وبـ"الكُلِّيَّة" - المشخّصات، وبـ"المُركَّبةِ" - الذاتِيَّات التي [لم]

(6)

يعتبر تركيبها؛ على وَجْهٍ يحصل لها صورة وجدانية مطابقة للمحدود؛ فإنَّها لا تسمى حدًّا حقيقيًّا.

ومثَّل أكثرهم الحقيقي؛ بقولنا في تعريف الإنسان: الحيوان [النَّاطق]

(7)

، والمراد بالنَّاطق بالقوة، وهو صحيح.

ورأيت الأستاذ أبا منصور في "معيار الجدل" عَزَاهُ إلى الفلاسفة؛ ورده فقال: إن أرادوا بالنطق: الكلام الصحيح المسموع، لزمهم ألّا يكون الأخرس إنسانًا، وأن يكون الببغاء إنسانًا؛ إذا تعلّمت النطق، وإن أرادوا التمييز، لزمهم أن يكون كلّ حيوان مميِّز إنسانًا.

قلت: وقد عرفتَ مرادهم؛ فاندفع إيراده.

ثم قال: وقال أهل الحق: إن الإنسان هو الجسد المخصوص بهذه الصورة المخصوصة، قال: فإذا سئلوا عن هذا القول؛ عن جبريل عليه السلام حين جاء في صورة دِحْيَةَ الكَلْبِيّ - أجابوا: أن الظاهر منه كان على صورة ظاهر الإنسان، ولم يكن باطنه جسدًا

(8)

كباطن الإنسان؛ فلم يكن إنسانًا.

(1)

في هامش ت: حد الحد وتقسيمه.

(2)

في ت: وتشبيهه.

(3)

في ب، ت: بإجماع.

(4)

سقط في ت.

(5)

سقط في ت.

(6)

سقط في ح.

(7)

سقط في ت.

(8)

في ت: حينئذ.

ص: 287

وَالرَّسْمِيُّ: مَا أَنْبَأَ عَنِ الشَّيْءِ بِلَازِمٍ لَهُ؛ مِثْلُ: الْخَمْرُ: مَائِعٌ، يَقْذِفُ بِالزَّبَدِ.

وَاللَّفْظِيُّ: مَا أَنْبَأَ عَنْهُ بِلَفْظٍ أَظْهَرَ مُرَادِفٍ؛ مِثْلُ: الْعُقَارُ: الْخَمْرُ.

وَشَرْطُ الْجَمِيعِ الاطِّرَادُ وَالانْعِكَاس، أَيْ: إِذَا وُجِدَ، وُجِدَ، وَإِذَا انْتَفَى انْتَفَى.

"والرسمي: ما أنبأ عن الشيء بلازم له"

(1)

؛ أي: مختصٍّ به دون غيره؛ "مثل: الخَمْر مائع، يقذف بالزَّبَدِ"؛ فإن ذلك لازم عارض بعد تمام حقيقته.

"واللَّفظي: ما أنبأ بلفظ أظهر مرادف؛ مثل: العُقَار خَمْرٌ.

وشرط الجميع: الاطّراد والانعكاس، إي: إذا وجد" الحَدّ، "وجد" المحدود؛ وذلك هو الاطِّرَاد؛ فلا يدخل فيه شيء ليس من أفراد المحدود؛ فيكون

(2)

مانعًا، "وإذا انتفى" الحَدّ، "انتفى" المحدود؛ وذلك هو الانْعِكَاسُ؛ أي: كلما

(3)

وجد المحدود، وجد الحَدّ؛ ويلزمه كلّما

(1)

الحدُّ عند الأصوليين ما يميّز الشيء عن غيره، وينقسم إلى: حقيقي، ورسمي، ولفظي كما ذكر المصنّف رحمه الله، فالحقيقي ما أنبأ عن ذاتياته الكلية المركبة؛ أي عن ذاتيات المحدود دون عرضياته، وإلَّا فهو رسم الكلية دون المشخصات؛ فإن الأشخاص لا تحدّ، المركبة التي ركب بعضها مع بعض؛ لأنها فرادى لا تفيد الحقيقة لفقد الصورة.

والرسمي ما أنبأ عن الشيء بلازمه، كما يقال: الخمر مائع يقذف الزبد، فإن ذلك لازم له عارض بعد تمام حقيقته.

واللفظي: ما أنبأ عنه بلفظ أظهر، مرادف مثل العقار: الخمر، وشرط الجميع الاطراد والانعكاس، فالاطراد هو أنه كلّما وجد الحدُّ وُجِدَ المحدود، فلا يدخل فيه شيء ليس من أفراد المحدود؛ فيكون مانعًا.

والانعكاس: هو أنه كلما وجد المحدود وُجِدَ الحدّ، ويلزمه: كلّما انتفي الحدُّ انتفى المحدود، فلا يخرج منه شيء من أفراد المحدود؛ فيكون جامعًا. ينظر: شرح المقدمة (12) خ.

(2)

في حاشية ج: قوله: "فيكون مانعًا؛ أي: فالمنع لازم للأطراد كالجمع لازم للانعكاس.

(3)

في حاشية ج: قوله: أي كلما وجد

إلخ يغني أن ما سماه المصنّف انعكاسًا، وهو: كلما انتفى الحد انتفى المحدود عكس نقيض لعكس الاطراد الذي هو قولنا: كلما وجد المحدود وجد الحد، ولازم له، فأقام اللازم مقام ملزومه، وسماه باسمه.

قال السيد الشريف: شرط الحدّ مطلقًا المساواة ليميز المحدود عن غيره، وهي المآل في اشتراط الاطراد والانعكاس المستلزمين للمنع والجمع، وظاهر الاطراد باستلزام الحدّ للمحدود كليًا، كأن الانعكاس عبارة عن استلزام المحدود للحد كذلك. يعني أن المساواة التي يئول اشتراط الاطراد والانعكاس إليها كما تقتضي أن نفسر الاطراد باستلزام الحدّ للمحدود كليًا كذلك تقتضي أن يفسره =

ص: 288

وَالذَّاتِيُّ: مَا لَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ الذَّاتِ قَبْلَ فَهْمِهِ؛ كَاللَّوْنِيَّةِ لِلسَّوَادِ، وَالْجِسْمِيَّةِ لِلإنْسَانِ؛

انتفى الحَدَّ، انتفى المحدود؛ فلا يخرج عنه شيء من أفراد المحدود؛ فيكون جامعًا؛ فإذن شرط الحد: أن يكون مطردًا منعكسًا، وإن شئت قُلْ: جامعًا مانعًا.

وكان بعض مشايخ "خراسان" يقول: الحد: ما منع الوالج من الخروج، والخارج من الولوج.

قال القاضي أبو الطيب: وهذا أبرد من الثُّلُوج.

الشرح: "والذَّاتي: ما لا يتصوَّر"؛ أي: يمتنع "فهم الذات قبل فهمه"، فلو قدَّر عدمه في العَقْلِ، لارتفعت الذات؛ "كاللَّوْنِيَّةِ للسَّوَاد" في ذاتي العرض، "والجسميةِ للإنسان"

(1)

في ذاتي

= الانعكاس باستلزام المحدود للحد كليًا، فإن مرجع مساواتهما إنما هو هاتان الكليتان؛ فإن الكلية الثانية عكس الكلية الأولى عرفًا حيث يقال: كل إنسان ناطق، وبالعكس، وكل إنسان حيوان، ولا عكس، واصطلاحًا وهو: تحويل مفردي القضية على وجه يصدق على تقدير صدق الأصل؛ فإن الصدق هنا لازم لوجود المساواة، وما قاله المناطقة من أن عكس الموجبة الكلية موجبة جزئية فذلك لاعتبارهم كون صدق العكس لازمًا لهيئة القضية بلا اعتبار أمر آخر معها من مساواة أو غيرها. قال صاحب "التوضيح": الطرد هو أنه كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود، والعكس هو أنه كل ما صدق عليه المحدود صدق عليه الحدّ.

قال في "التلويح": فالطرد صدق المحدود على ما صدق عليه الحد كليًا أي: كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود، وهو معنى قولهم: كلما وجد الحد وجد المحدود، وأما العكس فأخذه بعضهم من عكس الطرد بحسب متفاهم العرف، وهو جعل المحمول موضوعًا مع رعاية الكمية بينهما كما يقال: كل إنسان ضاحك وبالعكس، وكل حيوان إنسان ولا عكس، فصار حاصل الطرد حكمًا كليًا بالمحدود على الحد، والعكس حكمًا كليًا بالحد على المحدود. وبعضهم أخذه من أن عكس الإثبات نفي، ففسره بأنه كلما انتفى الحد انتفى المحدود، أي كل ما لم يصدق عليه الحد لم يصدق عليه الحدود، فصار العكس حكمًا كليًا مما ليس بمحدود على ما ليس بحد، والحاصل واحد وهو أن يكون الحد جامعًا ومانعًا.

فالمطردُ هو الذي كل ما صدق على شيء صدق عليه المحدود والمنعكس هو الذي كل ما صدق المحدود على شيء صدق هو عليه، فالوصف للحد فيهما وصف نسبي بالقياس إلى المحدود، وبه يعلم اندفاع ما أطال به الناصر في حاشية جمع الجوامع، فليتأمل.

(1)

إذ لو أخرجت عن الذهن لبطل فهمها، فرفعهما رفعٌ لتحققهما بخلاف المتضائفين، ومن أجل أنه لا =

ص: 289

وَمِنْ ثَمَّة لَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ حَدَّانِ ذَاتِيَّانِ.

وَقَدْ يُعْرَفُ؛ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّل، وَبِالتَّرْتيبِ الْعَقْلِيِّ.

وَتَمَامُ الْمَاهِيَّةِ: هُوَ الْمَقُولُ فِي جَوَابِ: مَا هُوَ، وَجُزْؤهَا ............

الجوهر، "ومن ثَمَّ"؛ أي: من أجل أن فهم الذات لا يتصوّر قبل فهم الذاتي، "لم يكن لشيء" واحد "حَدَّان ذاتيان"؛ وذلك لأن الحد الحقيقي

(1)

بتعقُّل جميع الذاتيات؛ وذلك لا يتصور فيه التعدد، اللهم إلَّا من جهة العبارة؛ بأن يذكر بعض الذاتيات بالمطابقة تارةً، وبالتضمن أخرى.

الشرح: "وقد يعرف" الذاتي؛ "بأنه غير معلَّل"؛ أي: أنه الذي لا يثبت للذات بعلة.

فالسواد

(2)

للأسود ليس بعلَّة، وكذا اللونيَّة؛ لتقدمها عليه؛ بخلاف الزوجية للأربعة؛ فإن الزوجية معللة بها.

"وبالترتيب العَقْلِيّ"؛ أي: وقد يعرف الذاتي أيضًا بالترتيب

(3)

العَقْلي؛ أي هو الذي يتقدم على الذات في التعقُّل.

الشرح: "وتمام الماهية: هو المَقُول

(4)

في جواب: مَا هُو؟ "؛ فإن السؤال بـ "ما هو؟ " إنما يكون عَنْ تمام الماهية؛ كـ "الحيوان الناطق"؛ في جواب السؤال بـ "ما هو؟ "

(5)

عن الإنسان

(6)

.

= يعقل الذات قبل فهم الذاتي، كان الحدُّ الحقيقي بتعقل جميع الذاتيات، وذلك لا يتصور فيه التعدد، فلم يكن للشيء حَدٌّ في ذاتياته إلا في جهة العبادة بأن يذكر بعض الذاتيات بالمطابقة تارة، وبالتضمن أخرى، وأما غيره فيتعدد؛ لجواز تعدد اللوازم والأسماء المشهورة.

وقد يعرف الذاتي بأنه غير معلل؛ أي: لا يثبت للذات بعلة، فإن السوادية للسواد ليس بعلة أصلًا، وكذا اللونية لتقدمها عليه، بخلاف الزوجية للأربعة؛ فإن الزوجية للأربعة معللة بالأربعة، ويعرف بالترتيب العقلي؛ أي: هو الذي يتقدم على الذات في التعقل، وهذا يختص بجزء الحقيقة، وهما راجعان إلى الأول.

(1)

في حاشية ج: قوله: "الحقيقي" أي: التام بتعقل جميع الذاتيات؛ لأنَّهُ موصل إلى كنه الذات، ولا يحصل إلا بجميعها، ولا يتصور في الجميع تعدد.

(2)

في حاشية ج: قوله: فالسواد

إلخ أي: لأن السواد سواد في حدّ ذاته، وليس ثبوته لنفسه معللًا به، وإِلَّا لتقدم عليه بالذات ولا بجعل جاعل، وإلا لم يكن السواد سوادًا إذا قطع النظر عنه، وكلاهما محال، وكذا حال الذاتي بمعنى الجزء؛ فإن ثبوت اللونية للسواد لا يعلل بالسواد.

(3)

في أ، ب، ج: بالترتب.

(4)

في أ، ح: القول.

(5)

في ت: إنما.

(6)

أقول: السؤال بـ "ما هو؟ " إنما يكون عن تمام الماهية، فتمام الماهية هو المقول في جواب ما هو، =

ص: 290

الْمُشْتَرَكُ: الْجِنْسُ، وَالْمُمَيِّزُ: الْفَصْلُ، وَالْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا: النَّوْعُ.

وَالْجِنْسُ: مَا اشْتَمَلَ عَلَى مُخْتَلِفٍ بِالْحَقِيقَةِ، وَكُلٌّ مِنَ المُخْتَلِفِ: النَّوعُ، وَيُطْلَقُ النَّوْعُ عَلَى ذِي آحَادٍ مُتَّفِقَةِ الْحَقِيقَةِ، فَالْجِنْسُ الْوَسَط، نوْعٌ بِالأَوَّلِ لَا الثانِي، وَالْبَسَائِطُ بِالْعَكْسِ.

"وجزؤها

(1)

، أي: تمام

(2)

جزئها "المشتركِ: الجنسُ"، كالحيوان للإنسان؛ فإنه تمام المشترك بين الإنسان وغيره من الحيوانات.

وتمام الجزء "المميز" لها: الفَصْل؛ كالناطق للإنسان.

"والمجموع" المركب "منهما"؛ أي: من الجنس والفصل - هو "النوع" الإضافي.

"والجنس: ما اشتمل" أي: المقول في جواب ما هو؟ المشتمل "على مختلف بالحقيقة"؛ فخرج بـ "المقول في جواب: ما هو؟ " - الفَصْل، والخاصَّة، والعَرَضُ العامُّ؛ لأنَّهُ ليس شيء منها مقولًا في جواب: ما هو؟ و"بالحقيقة" - النوعُ؛ لأنَّهُ مقول في جواب

(3)

ما هو؟ مشتمل على مختلف بالعَدَدِ، لا بالحقيقة.

"وكلٌّ من المختلف" الذي يقال عليه وعلى غيره: الجنسُ؛ في جواب: ما هو؟ - "النوع"[الإضافي. "ويطلق النوع]

(4)

على ذي آحادٍ متفقة الحقيقة" - باعتبار كونها آحادًا له، ويسمى [نوعًا]

(5)

حقيقيًّا "فالجنس الوسط"؛ كالجِسْمِ النَّامي

(6)

"نوع بالأول"؛ أي: بالمعنى الأول؛ [لأن فوقه جنسًا يقال عليه وعلى غيره في جواب: ما هو؟ "لا" بالمعنى "الثاني"؛ ضرورةَ كونه

= وذلك كالإنسان لـ "زيد" فإنه تمام ماهية المقول له.

وأمَّا مشخصاته فلا تدخل في التعقل، فإنما يتناولها إشارة حسية أو وهمية، وأما جزؤها فتمام المشترك الجنس؛ كالحيوان للإنسان، إذ لا ذاتي مشتركًا بينه وبين الفرس مثلًا إِلَّا هو، والجزء المميز هو الفصل كالناطق له، والمجموع المريب منها هو النوع الإضافي، فإذًا تمام ما اشتمل في الذاتي على أمور مختلفة بالحقيقة ولا بُدَّ أن يكون تمام حقيقتها المشتركة جنس لتلك المختلفة، وكل واحد في تلك المختلفة نوع له، إذ لا يختلف حقيقة المشتركات في ذاتي إِلَّا بذاتي مميز، فيكون حقيقته مجموع الجنس والفصل. هذا وقد يطلق النوع على ذي آحاد متفقة الحقيقة؛ أي باعتبار كونها آحادًا له، ويسمّى نوعًا حقيقيًا.

(1)

في هامش ت: تقسيمه إلى جنس وفصل.

(2)

في ب، ت: وتمام.

(3)

في ب: جوابه.

(4)

سقط في ح.

(5)

سقط في ت.

(6)

في أ، ج: والناس.

ص: 291

وَالْعَرَضِيُّ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ لَازِمٌ، وَعَارِضٌ؛ فَاللَّازِمُ: مَا لَا يُتَصَوَّرُ ................

مقولًا في جواب: ما]

(1)

هو؟ على مختلفين بالحقيقة، وهي الأنواع المندرجة تحته.

"والبَسَائط"، أعني: الماهيات

(2)

التي لا جُزْءَ لها؛ كالوحدة، والنقطة، "بالعكس" يكون نوعًا؛ بالمعنى الثَّاني؛ ضرورةَ كونها مقولةً في جواب: ما هو؟ على المتفقة بالحقيقة التي هي أفرادها، دون المعنى الأول؛ ضرورة عدم اندراجها تحت جنس، وإلا لم تكن بسائط.

الشرح: "والعرضي بخلافه"؛ أي: بخلاف الذاتي؛ فهو مايتصور فهم الذات قبل فهمه،

(3)

المُعلّل

(4)

، أو ما لا يتقدمه عقلًا

(5)

.

"وهو "قسمان: " [لازم، وعارض]

(6)

؛ فاللَّازم؛ ما لا يتصوّر مفارقته"؛ أي: لا يمكن،

(1)

سقط في ت.

(2)

قوله: "أعني الماهيات"

إلخ أراد بهذه العناية دفع ما قيل: إنه ليس كل بسيط نوعًا حقيقيًا؛ لأن من البسيط ما هو جنس عالٍ كالجوهر، وحاصل ما أشار إليه أن المراد الأنواع البسيطة التي لا جزء لها في العقل لا الحقائق البسيطة، وأجيب أيضًا بأن ذلك إذا حمل على الاستغراق، وأما إذا حُمِلَ على مطلق الجنس فلا، ويؤيده ترديده في الأحكام بين البعض والكل، وقوله في "المنتهى": وبعض البسائط بالعكس.

(3)

في ت: و.

(4)

قوله: أو المعلل

إلخ أي: الذي يعلل ثبوته للذات بنفس الذات، كالزوجية للأربعة، أو بغيرها، كالضحك للإنسان.

(5)

أقول: العرضي بخلاف الذاتي في التعريفات الثلاثة، فهو ما يتصور فهم الذات قبل فهمه أو المعلل، أو ما لا يتقدم عقلًا، وينقسم إلى: لازم وعارض، فاللازم ما لا يتصور مفارقته؛ أي لا يمكن، وهو قسمان: لازم للماهية بعد فهمها، بخلاف الذاتي فإنه لازم لها قبل فهمها، سواء فرض وجودها أو لا، كالفردية للثلاثة، ولازم للوجود خاصة دون الماهية، كالحدوث للجسم كله وكونه ذا ظل في الشمس لبعضه، وذلك لا يلزم ماهية الجسم، والعارض بخلاف اللازم، فهو ما يتصور مفارقته؛ أي يمكن، ومع الإمكان قد لا يزول كسواد الغراب، والزنجي، وقد يزول كصفرة الذهب.

تنبيهٌ: اللازم للماهية بعد فهمها قد لا يكون بواسطة بل بيّنًا، وقد يكون بوسط، فلا يتبادر الأول إلى ذهنك في كلام المصنّف، فتخطئه فتخطأ.

(6)

في أ، خ: لازم عارض.

ص: 292

مُفَارَقَتُهُ؛ وَهُوَ لَازِمٌ لِلْمَاهِيَّةِ بَعْدَ فَهْمِهَا؛ كَالْفَرْدِيَّةِ لِلثَّلَاثَةِ، وَالزَّوْجِيَّةِ لِلْأَرْبَعَةِ، وَلَازِمٌ لِلْوُجُودِ خَاصَّةً؛ كَالْحُدُوثِ لِلْجِسْمِ، وَالظِّلِّ لَه، وَالْعَارِضُ بِخِلَافِهِ، وَقَدْ لَا يَزُولُ؛ كَسَوَادِ الْغُرَابِ، وَالزِّنْجِيِّ، وَقَدْ يَزُولُ؛ كَصُفْرَةِ الذَّهَبِ.

وَ‌

‌صُورَةُ الْحَدِّ:

الْجِنْسُ الْأَقْرَب، ثُمَّ الْفَصْلُ، وَخَلَلُ ذلِكَ نَقْصٌ.

= " وهو" ضربان: "لازم للماهية

(1)

بعد فهمها"

(2)

؛ بخلاف الذَّاتي؛ فإنه لازم، لا بعد فهمها، سواء أفرض وجودها

(3)

أم لا؟ "كالفردية للثلاثة، والزوجية للأربعة، ولازمٌ للوجود خاصة"

(4)

، دون الماهية؛ "كالحدوث للجسم" كله، "والظل له"؛ أي: كونِه

(5)

ذا [ظلّ]

(6)

في الشَّمس لبعضه؛ وذلك لا يلزم

(7)

ماهية الجسم.

"والعارض بخلافه"؛ أي: بخلاف اللَّازم، وهو ما يمكن مفارقته، "وقد لا يزول؛ كَسَوادِ الغُرَاب، والزِّنْجِيّ، وقد يزول؛ كَصُفْرَةِ الذَّهب".

الشرح: "وصورة الحَدِّ" الحقيقيِّ: "الجنسُ لأقرب، ثم الفصل، وخَلَلُ ذلك"؛ أي: الصورةِ - "نقص" في الحد؛ كإسقاط الجنس الأقرب، والاقتصار على الأبعد؛ لدلالة الفَصْل

(1)

من قوله: قسمان إلى للماهية سقط في ت.

(2)

في حاشية ج: قوله: "بعد فهمها؛ أي: حاصل فهمه بعد فهمها، والمراد أن لزومه لا يكون إلا بعد فهمها، وإلا فالذاتي كما أنه لازم لها قبل فهمها لازم لها بعد فهمها، فقوله: لازم لا بعد فهمها معناه: لا بعد فهمها فقط.

(3)

في حاشية ج: قوله: "سواء فرض

إلخ" فإن الفردية لازمة للثلاثة في الذهن، فلو تعقلت مجردة عنها لم يكن الحاصل فيه ماهيتها، وأما لازم الوجود فهو الذي يلزم الماهية في الوجود خاصة.

(4)

في حاشية ج: قوله: "خاصة" قيد به ليقابل لازم الماهية؛ فإن لازمها لازم للوجود ألبتة.

قوله: وكونه ذا ظل في الشمس لبعضه أشار إلى أن التمثيل بالمثالين تنبيه على أن لازم الوجود قد يلزم كل فرد من الأفراد الموجودة للماهية، وقد يلزم بعضها، وقيد بكونه في الشمس ليصلح مثالًا للعرضى اللازم، واعترض بأنه ما من عرضي إلا وهو لازم في بعض الأحوال، وعلى بعض الشروط، فينحصر في اللازم"، قلنا: ليس المراد أن كونه ذا ظل لازم بشرط كونه في الشمس، بل إن كونه ذا ظل في الشمس لازم له دائمًا لا يفارقه بخلاف كونه ذا ظل على الإطلاق؛ فإنه عرض يفارقه. سعد.

(5)

في: كون.

(6)

سقط في.

(7)

في ت: يلزمه.

ص: 293

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالالتزام عليه؛ نحو: الإنسان جسم ناطق، [أو إسقاطِ الجنس رأسًا؛ كـ "الإنسانُ ناطقٌ]

(1)

؛ وكتقديم الفصل؛ نحو: العِشْقُ: فَرْطُ المحبة؛ لإخلال ذلك بالصورة

(2)

.

(1)

سقط في ت.

(2)

قد علمت أن لكل مركب مادة وصورة، وأن مادة الحدّ الذاتي والعرضي بأقسامهما.

وأمَّا صورته فأن تأتي بالجنس الأقرب، ثم بالفصل الأقرب، وخلل الصورة نقص في الحدّ كإسقاط الجنس الأقرب، والاقتصار على الأبعد لدلالة الفصل بالالتزام عليه نحو: الإنسان جسم ناطق، أو إسقاط الجنس مطلقًا لذلك نحو. الإنسان ناطق، وكتقديم الفصل نحو: العشق المفرط في المحبة لإخلاله بالصورة، وخلل المادة منه ما هو خطأ، ومنه ما هو نقص، فالخطأ له أمثلة منها: جعل الموجود والواحد جنسًا للإنسان مثلًا وهما ليسا ذاتيين له، إذ يفهم حقيقته دونهما، ومنها: جعل العرضي الخاص بنوعٍ ما، فَصْلًا له بحيث لا ينعكس كالضاحك بالفعل بالنسبة إلى الإنسان، ومنها: ترك بعض الفصول، بحيث لا يطرد بألا يأتي بالفصل المساوي له إن اتحد ولا بواحد من فصوله المساوية إن تعددت، ومنها: تعريف الشيء بنفسه، وأكثر ما يكون ذلك إذا ذكر الشيء بلفظ مرادف مثل: الحركة وعرض نقلة، فإن النقلة ترادف الحركة، ومثل: الإنسان حيوان بشر، فإن البشر يرادف الإنسان، ومنها: جعل النوع جنسًا، مثل: الشر ظلم الناس، والظلم نوع من الشر، فإن الشرور كثيرة، ومنها: جعل الجزء المقداري جنسًا مثل: العشرة خمسة وخمسة، فإن الخمسة جزء العشرة لا تحمل عليها لا وحدها، ولا بانضمام خمسة أخرى إليها، بل المحمول مجموع الخمستين. هذا في الحدِّ مطلقًا.

والحدُّ الرسمي يختص من بين الحدود بأن يكون باللازم الظاهر له؛ أي من بين اللوازم باللازم الظاهر، فلا يجوز أن يرسم الشيء بخفى مثله، فإن الخفي لا يعرّف الخفي، ولا بما هو أخفى منه بالطريق الأولى، ولا بما يتوقف تعقله؛ على تعقله للزوم الدور، فإن الأول مثل: الزوج عدد يزيد على الفرد بواحد، والفرد عدد يريد على الزوج بواحد، والزوج والفرد سيّان في الجلاء والخفاء، ومنه: ذكر أحد المتضائفين في حد الآخَر كما يقال: الأبُ من له ابن، والابن من له أب.

والثاني مثل: النار جسم كالنفس، فإن النفس ومشابهة النار لها أخفى من حقيقة النار.

والثالث مثل: الشمس كوكب نهاري، فإن عقلية النهار تتوقف على عقلية الشمس؛ لأن النهار وقت طلوع الشمس، فهذه الثلاثة هي الخلل في الرسم خاصة، وأمَّا النقص في المادة فله أمثلة منها استعمال الألفاظ الغريبة الوحشية؛ لعدم ظهورها في المعنى.

ومنها: استعمال الألفاظ المشتركة؛ أي بلا قرينة؛ لترددها بين المعنى وغيره، فلا يتعيّن المعنى.

ومنها: استعمال الألفاظ المجازية؛ أي بلا قرينة؛ لظهورها في غير المعنى؛ فيقع الجهل. ينظر: شرح المقدمة.

ص: 294

وَخَلَلُ الْمَادَّةِ خَطَأٌ وَنَقْصٌ؛ فَالْخَطَأُ كَجَعْلِ الْمَوْجُودِ وَالْوَاحِدِ جِنْسًا؛ وَكَجَعْلِ الْعَرَضِيِّ الْخَاصِّ بِنَوْعٍ فَصْلًا؛ فَلَا يَنْعَكِسُ؛ وَكَتَرْكِ بَعْضِ الفُصوُلِ؛ فَلَا يَطَّرِدُ؛ وَكَتَعْرِيفِهِ بِنَفْسِهِ؛ مِثْلُ: الْحَرَكَةُ: عَرَضٌ نُقْلَةٌ، وَالإِنْسَانُ: حَيَوَانٌ بَشَرٌ؛ وَكَجَعْلِ النَّوع وَالْجُزْءِ جِنْسًا؛ مِثْلُ: الشَّرُّ ظُلْمُ النَّاسِ، وَالْعَشَرَةُ خَمْسَةٌ وَخَمْسَةٌ، وَيَخْتَصُّ الرَّسْمِيُّ بِاللَّازِمِ الظَّاهِرِ، لَا بِخَفِيٍّ مِثْلِهِ، وَلَا أَخْفَى، وَلَا بِمَا تَتَوَقَّفُ عَقْلِيَّتُهُ عَلَيْهِ؛ مِثْلُ: الزَّوْجُ عَدَدٌ يَزِيدُ عَلى الْفَرْدِ بِوَاحِدٍ، وَبِالْعَكْسِ؛ فَإنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ؛ وَمِثْلُ: النَّارُ جِسْمٌ؛ كَالنَّفْسِ؛ فَإِنَّ

الشرح: "وخلل المادة" قسمان: "خطأ"؛ وهو ما كان من جهة المعنى، "ونقص"؛ وهو من جهة اللَّفظ؛ "فالخطأ كَجَعْلِ الوجود

(1)

والواحد جنسًا" للإنسان مثلًا، وليسا ذاتيين له؛ إذ تفهم حفيقته دونهما؛ "وكجعل العرضي الخاص بنوع ما فصلًا له؛ فلا ينعكس"؛ كالضَّاحك بالفعل؛ للإنسان؛ ومثل: "ترك بعض الفصول؛ فلا يطرد"، والحَدّ لا بد فيه من الاطِّرَاد، والانعكاس؛ كما عرفت، "وكتعريفه بنفسه" وأكثرُ ما يكون تعريف الشيء بنفسه، إذا ذكر بلفظ مرادف؛ "مثل: الحركة عرض نقلة، والإنسان حيوان بشر"؛ فإن النقلة ترادف الحركة، والبشر يرادف الإنسان.

والفرق بين المِثَالَيْنِ أن المحدود في الأول عرض، وفي الثَّاني جوهر؛ "وكَجَعْلِ النَّوع والجزء جنسًا"؛ فالنوع" [مثل] الشَّر

(2)

ظلم الناس" والظلم نوع من الشَّر؛ إذ الشر وغيره ينحصر فيه؛ والجزء مثل: "العشرة خمسة وخمسة"؛ فإن الخمسة جزء العشرة، وهي غير محمولةٍ على العشرة، لا وحدها، ولا بانضمام

(3)

خمسة أخرى إليها، بل المحمول مجموع الخمستين، وهذا كلّه في الحد مطلقًا.

"ويختص" الحد "الرسمي" من بين الحدود "بِاللَّازِمِ الظَّاهر"؛ فإذن "لا" يجوز أن يرسم الشيء "بخفي مثله، ولا أخفى" منه؛ بطريق أولى، "ولا بما تتوقَّف

(4)

عقليته عليه"؛ أي: يتوقف تعقله على تعقله؛ للزوم الدور؛ فتعريف الشيء بما يساويه، "مثل: الزوج عدد يزيد على الفرد بواحد، وبالعكس"

(5)

؛ كـ "الفردُ" عددٌ يزيد على الزَّوج بواحد "فإنَّهما"؛ أي: الزوج والفرد

(1)

في أ: الموجود، وفي ت: موجود.

(2)

في ت: مثله الشر.

(3)

في حاشية ج: قوله: "ولا بانضمام" لأن الخمسة المقيدة بانضمام خمسة إليها خمسة.

(4)

في أ، ت، ج، ح، يتوقف.

(5)

في حاشية ج: قوله: "وبالعكس كالفرد

" الخ معنى المثال الأول على أن الواحد عدد والثاني=

ص: 295

النَّفْسَ أَخْفَى؛ وَمِثْلُ: الشَّمْسُ كَوْكَبٌ نَهَارِيٌّ، فَإِنَّ النَّهَارَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّمْسِ - وَالنَّقْصُ كَاسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجَازِيَّةِ.

وَلَا يَحْصُلُ الْحَدُّ بِبُرْهَانٍ؛ لأَنَّهُ وَسَطٌ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ عَلَى ......................

"متساويان"؛ في الجلاء والخَفَاء، فكيف يعرَّف أحدهما بالآخر؛ "و" تعريفه بالأخفى، "مثل: النَّار جسم؛ كالنفْس

(1)

؛ فإن النفس أخفى" من النَّارِ؛ عند العَقْلِ؛ فكيف تُعَرَّفُ

(2)

النار بها؟؛ "و" تعريفه بما يتوقّف تعقله عليه "مثل: الشمس كوكب نَهَارِيٌّ؛ فإنَّ" تعقل "النهار يتوقف على" عقلية "الشَّمس"؛ لأن النهار وقت طلوع الشَّمس؛ فهذه الثلاثة هي الجليَّة

(3)

في الرَّسم خاصَّة.

"والنَّقص" في المادة: "كاستعمال الألفاظ الغريبة

(4)

والمشتركة" بلا قرينة، " [والمجازية" بلا

(5)

قرينة]

(6)

أيضًا.

الشرح: "ولا يحصل الحَدّ ببرهان"

(7)

؛ أي: لا يمكن إقامة البرهان على ثبوت الحَدّ للمحدود؛ "لأنَّهُ؛ أي: البرهان"وسط يستلزم حكمًا على المحكوم عليه"؛ أي: البرهان عبارة عن

= على أنه ليس بعدد، ولو حملنا العكس على أن الفرد عدد ينقص عن الزوج بواحد لم يحتج إلى ذلك. ينظر: شرح المقدمة.

(1)

في حاشية ج: قوله: "كالنفس؛ أي: في اللطافة وعدم الرؤية والحركة دائمًا؛ فإن النار متحركة بالحركة الدورية تبعًا للفلك، والنفس متحركة بالحركة التخيلية، وقيل: في إحداث الخفة؛ فإن النار تحدث الخفة في مجاورها والنفس في الجسم. ينظر: شرح المقدمة.

(2)

في ت، ح: يعرف.

(3)

في ت: الخللية، وفي ج: الخلل.

(4)

في أ، ح: العربية.

(5)

بلا: سقط في أ، ح.

(6)

سقط في ت.

(7)

الحدُّ لا يكتسب بالبرهان لوجهين:

الأول: أن البرهان عبارة عن وسط يستلزم حصول أمرٍ في المحكوم عليه، فلو قُدِّر في الحدِّ وسط لكان مستلزمًا لعين المحكوم عليه؛ لأن الحدَّ ليس أمرًا غير حقيقة المحدود تفصيلًا، وفيه تحصيل الحاصل.

وثانيهما: أنه لا بُدَّ في الدليل من تعقل المنفرد؛ لم جوب تعقل ما يستدل عليه من جهة ما يستدل عليه قبل إقامة الدليل، فلو حصل تعقل حقيقته بالدليل لتأخر عنه، فيلزم الدور، فإن قيل: فيجيء مثله في التصديق، قلنا: لاغ؛ فإن الحظر ليس تعقل لنسبة بل إثباتها أو نفيها، والموقوف عليه تعقلها لا هما بخلاف الحد؛ فإن المطلوب تعقله لا ثبوته، ومن جهة أن الحدَّ لا يحصل بالبرهان لم يمنع؛ إذ مرجع المنع طلب البرهان عليه، ولا يمكن، لكنه يعترض عليه إمَّا بالمعارضة وإمَّا ببيان خللٍ فيه=

ص: 296

الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَلَوْ قُدِّرَ فِي الْحَدِّ، لَكَانَ مُسْتَلْزِمًا عَيْنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ؛ وَلأنَّ الدَّلِيلَ يَسْتَلْزِمُ تَعَقُلَ مَا يُسْتَدَكُ عَلَيْهِ، فَلَوْ دَلَّ عَلَيْهِ، لَزِمَ الدَّوْرُ.

فَإنْ قِيلَ: فَمِثْلُهُ فِي التَّصْدِيقِ؛ قُلْنَا: دَلِيل التَّصْدِيقِ عَلَى حُصُولِ ثُبُوتِ النِّسْبَةِ أَوْ نَفْيِهَا، لَا عَلَى تَعَقُّلِهَا؛ .....................................................

وسط يستلزم حصول أمر في المحكوم عليه؛ فإنا إذا قلنا

(1)

: العالَمُ حادثٌ؛ لأنَّهُ متغيّر، فالتغير

(2)

وسط استلزم

(3)

حكما

(4)

على العالَم، مغايرًا له، وهو المراد بالبرهان، "فلو قدِّر في الحد" وسط، "لكان مستلزِمًا عين المحكوم عليه"؛ أي: مستلزمًا لثبوت عين

(5)

المحدود لنفسه؛ فإن الحَدّ هو المحدود.

ولقائل أن يقول: هذا إنما يتمّ لو قيل بترادف الحدّ والمحدود، وسيصحِّح المصنِّف خلافه.

قال: "ولأنَّ الدَّليل يستلزم تعقل ما يُستدلّ

(6)

عليه" قبل إقامة الدَّليل عليه، "فلو دَلَّ عليه" الحَدّ، "لزم الدور"؛ لأنه بدلالته عليه يكون متأخرًا، وهو متقدّم، ضرورةَ تقدمِ تعقله.

الشرح: "فإن قيل: فمثله" جار "في التصديق"؛ فيقال: لا يستدل على التصديق كما لا يستدل على الحد؛ لأن الدليل على التصديق يتوقف على تعقّل التصديق، فلو استفيد التَّصديق من الدليل؛ لزم الدور.

"قلنا": لا نسلّم مجيء الدَّوْر؛ فإن "دليلٌ التصديق على حصول ثبوت النسبة، أو نفيها"، أعني: الحُكم الإيجابي والسلبي

(7)

، "لا على تعقلّها"؛ أي: تعقُّلِ النِّسبة الإيجابية، أو السلبية؛

= مما تقدَّم من عدم طرد أو عكس أو غير ذلك، فإذا قال: العلم تميز لا يحتمل النقيض. يقال له: ألم تقل: إنه صفة توجب التميز، أو التميز لا يصلح جنسًا له.

واعلم أنه لا تعارض إِلَّا لحدّ يعرَّف هو به، إذ لا تعارض بين التصورات، فإن أحدهما لا يمنع الآخَر، هذا كله إذا قصد إفادة الماهية فقط.

أما إذا قيل: الإنسان حيوان ناطق، وأريد به أن ذلك مفهوم شرعًا أو لغة يخرج عن كونه حَدًّا وصار حكمًا يمنع ويطلب عليه الدليل، ودليله النقل عن أهله شرعًا أو لغة.

(1)

في ح: فإذا قلنا.

(2)

في ب: فالتغيير.

(3)

بياض في ب.

(4)

في ب، ت: حكمنا.

(5)

في ت: غير.

(6)

في ب: استدل.

(7)

في ب، ح: الشكي.

ص: 297

وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُمْنَعِ الْحَدُّ، وَلكِنْ يُعَارَضُ ...................................

فيكون المتوقِّف على الدليل الحكمَ من نفي أو إثبات، لا تعقُّلَهُ؛ فلا يلزم الدَّوْر.

"ومن ثَمَّ"؛ أي: من جهة امتناع

(1)

قيام البُرْهَان على الحَدّ، "لم يُمنع الحد".

وذهب بعض المتأخرين إلى تسويغ منعه؛ تمسُّكًا بأن الحد دعوى؛ فجاز أن تصادم

(2)

بالمنع؛ كغيرها من الدَّعاوَى.

وليس بشيء؛ فإن مرجع المنع طلب البُرْهَان، وقد بيَّنا أنه لا يمكن، "ولكن يعارض".

قال إسماعيل البغدادي في "جُنة المُناظِر": مثل أن تقول: الغَصْب

(3)

إثبات اليد على مال

(1)

في ح: اتساع.

(2)

في ب، ت: يصادم.

(3)

الغصب في اللغة: "أخذ الشيء ظلمًا" سؤاء كان الشئ مالكٌ أو غير مال.

وفي الشريعة:

عرفه فقهاء الحنفية بأنه: "أخذ مال متقوم محترم علانية بغير إذن المالك على وجه يزيل يده".

وعرفه فقهاء المالكية بأنه: "أخذ مال قهرًا تعديًا بلا حرابة".

وعرفه فقهاء الشافعية والحنابلة بأنه: "الاستيلاء على مال غيره بغير حق" ونستطيع أن نستخلص من مجموع هذه التعريفات أن الغصب الذي تترتب عليه أحكامه الخاصّة به في الشريعة لا يتحقق إلا إذا توفرت فيه الأركان الآتية:

الأول: أن يكون المأخوذ مالًا متقومًا محترمًا.

الثاني: انتفاء الإذن من المالك.

الثالث: أن يكون الأخذ على سبيل الجهر.

الرابع: زوال يد المالك عن المال. ينظر: المصباح المنير 2/ 61 والصحاح 1/ 19 والمطلع 27 والمغرب 340.

واصطلاحًا:

عرفه أبو حنيفة وأبو يوسف بأنه: إزالة يد المالك عن ماله المتقوم على سبيل المجاهرة والمغالبة بفعل في المال. وقال محمد: الفعل في المال ليس بشرط لكونه غصبًا.

وعرفه الشافعية بأنه: أخذ مال الغير على وجه التعدي.

وعرفه المالكية بأنه: أخذ مال غير منفعة، ظلمًا قهرًا لا بخوف قتال.

وعرفه الحنابلة بأنه: الاستيلاء على مال الغير بغير حق. ينظر: بدائع الصنائع 9/ 4403، وتبيين الحقائق للزيلعي 5/ 222، ومغني المحتاج 2/ 275، ومواهب الجليل 5/ 27 وحاشية الدسوقي 3/ 42 والمغني 5/ 238، وشرح منتهى الإرادات 2/ 399.

ص: 298

وَيُبْطَلُ بِخَلَلِهِ.

أَمَّا إِذَا قِيلَ: الإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَقُصِدَ مَدْلُولُهُ لُغَةً، أَوْ شَرْعًا، فَدَلِيلُهُ النَّقْلُ؛ بِخِلَافِ تَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ.

‌مَبْحَثُ التَّصْدِيقَاتِ

(1)

وَيُسَمَّى كُلُّ تَصْدِيقٍ قَضِيَّةً، وَتُسَمَّى فِي الْبُرْهَانِ مُقَدِّمَاتٍ، .........................

الغير؛ فيعارَضُ بأَنَّه إثبات اليد على مال الغَيْرِ، مع إزالة اليد المحِقَّة.

ومنع بعضهم معارضة الحد؛ إذ المعارضة تشعر بصحَّة المعارِض؛ فيلزم ثبوت حَدّين متباينين لمحدود واحد؛ وهو مُحَالٌ.

"ويبطل بخلله"؛ أي: ويجوز إبطال الحد أيضًا بِوِجْدَانِ الخلل فيه؛ مِنْ عدم الاطِّراد، أو الانعكاس، أو غيرِ ذلك، فإذا قال: العلم تمييز لا يحتمل النقيض، قُلْ: صفة توجب التمييز؛ إذ التمييز لا يصلح جنسًا، ويبين ذلك بوجهه؛ هذا كله، إذا قصد إفادة الماهية فقط.

الشرح: "أما إذا قيل: الإنسان حيوان ناطق، وقصد مدلوله" المحكوم به "لغةً، أو شرعًا"؛ لا تعريفه - "فدليله النقل" عن أهله؛ لأنَّهُ خرج عن كونه حدًّا، وصار حكمًا يُمنع، ويُطلب عليه الدليل؛ "بخلاف تعريف الماهية".

الشرح: "ويسمى كلّ تصديق"

(2)

، أعني: المركَّب المحتمِلَ للتّصديق والتكذيب؛

(1)

في هامش ت: القضية وتقسيمها باعتبار المحكوم عليه، وهو شروع في التصديق.

(2)

هذا أوان الفراغ من التصورات والشروع في التصديقات، وكل تصديق يسمى قضية، ويسمى القضايا في البرهاني؛ أي إذا جعلت جزء قياس مقدمات له، ولا بُدَّ فيها من حكم بنسبة، فيستدعي محكومًا عليه ومحكومًا به، فالمحكوم عليه فيها إِمَّا جزئي معيّن أو لا.

والثاني: إمَّا أن يكون مبينًا جزئية؛ أي كون الحكم على بعض أفراده، أو كلية أي كون الحكم على جميع أفراده، أو لا يكون مبيّنًا جزئية ولا كلية صارت أربعة أقسام:

الأول: ما موضوعها جزئي معيّن نحو: زيد إنسان، ويُسمَّى شخصية.

الثاني: ما ليس موضوعها جزئيًا معينًا، وبيّن جزئيته، نحو: بعض الإنسان عالم، ويسمى جزئية محصورة.

والثالث: ما ليس موضوعها جزئيًا معيَّنًا؛ وبيَّن كليّته، نحو: كل جوهر متحيّز، ويسمى كلية محصورة. =

ص: 299

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"قضية"، وقولًا

(1)

جازمًا، وخبرًا؛ "وتسمى"

(2)

القضايا

(3)

التي هي [أجزاء]

(4)

البرهان "في

= والرابع: ما ليس موضوعها جزئيًا معيَّنًا، ولم يبيّن لا جزئية ولا كلية، نحو: الإنسان في خسر، وتسمى مهملة، والمتحقق فيها الجزية؛ لأنها متحققة سواء كانت كلية أو جزية، إذ الجزئية لا يعتبر فيها عدم الكلية، بل ألا يتعرض لها فلذلك أهملت، ولا يذكر فيها البعض؛ للاستغناء عنه.

(1)

في أ: قول.

(2)

في ب: ويسمى.

(3)

القضية في اللغة - كالقضاء -: الحكم، وفي الاصطلاح: قول يحتمل الصدق والكذب لذاته، وإنما سمي القول المحتمل للصدق الخ قضية لاشتماله على الحكم بمعنى وقوع النسبة أو لا وقوعها أو إيقاع النسبة أو لا؛ لأن الوقوع هو الحصول في الخارج، فإن الحكم بمعنى وقوع النسبة أو لا وقوعها جزء من القضية: فالقول - وهو اللفظ المركب في القضية الملفوظة، أو المفهوم العقلي المركب في القضية المعقولة - جنس يشمل الأقوال التامة والناقصة، وقولنا:"يحتمل الصدق والكذب لذاته" بمنزلة الفصل في التمييز، وليس فصلًا حقيقيًا؛ لأنَّهُ يشترط فيه أن يكون مفردًا محمولًا، خرج به المركبات الناقصة تقييدية كانت كغلام زيد، والحيوان الناطق، أو مزجية كـ "بعلبك"، أو لا، ولا كمجموع المتعاطفين نحو: زيد وعمرو، وخرج به أيضًا المركبات الإنشائية من الأمر، والنهي، والنداء، والاستفهام، والعرض، والتخصيص، والترجي، والتمني - فإن كلًا من المركبات بنوعيها لا يحتمل صدقًا ولا كذبًا لذاته، وإن احتمل لمدلوله الالتزامي، "مثلًا: غلام زيد" يلزمه خبر محتمل للصدق والكذب هو "زيد له غلام"، ونحو: "اسقني" يدل التزامًا على خبر محتمل للصدق والكذب، وهو "الماء مطلوب" أو "أنا طالب للماء" فلا يسمى شيء مما ذكر من المركبات بنوعيها قضية، وشمل التعريف جميع أفراد المعرف ولو كان مقطوعًا بصدقه أو بكذبه، فالأول كأخبار الله تعالى، وأخبار رسله، والمعلوم صدقه بداهة كالواحد نصف الاثنين، وجميع الأخبار المطابقة للواقع. والثاني كأخبار مسيلمة الكذاب في دعواه النبوة، والمعلوم كذبه بالبداهة نحو الواحد ربع الاثنين، وجميع الأخبار التي لم تطابق الواقع؛ فإن جميع ما ذكر بالنظر لذاته ومدلوله المطابقي محتمل للصدق والكذب، وعدم احتماله لأحدهما إنما هو لأمر خارج عن ذاته كالمخبر أو العقل أو الواقع؛ لأن معنى احتمال الخبر للصدق والكذب هو أن يجوزهما العقل بالنظر إلى مفهومه ومدلوله المطابقي، وقطع النظر عما عداه، ولا يجزم بشيء منها. ومنشأ ذلك اشتماله على النية التامة التي هي حكاية عن أمر واقع؛ فإن شأن الحكاية أن توصف بالمطابقة وعدمها. بخلاف النسب التقييدية والإنشائية فإنها ليست نسبًا تامة حكاية عن أمر واقع فلا يجري فيها الصدق والكذب

بقيت الخبرية المشكوكة، فبعضهم أخرجها من التعريف بحجة أن القضية محتملة للصدق والكذب باعتبار مما فيها من الحكم، والخبرية المشكوكة لا حكم فيها، فليست محتملة للصدق والكذب فليست بقضية، وعلى ذلك فإطلاق الخبر عليها إما باعتبار الصورة، أو باعتبار اشتمالها على أكثر=

(4)

سقط في ح.

ص: 300

وَالمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِيهَا: إِمَّا جُزْئيٌّ مُعَيَّنٌ أَوْ لَا؛ وَالثَّانِي: إِمَّا مُبَيَّنٌ جُزْئِيَّتُه، أَوْ كُلِّيَّتُهُ أَوْ لَا؛ صَارَتْ أَرْبَعَةً: شَخْصِيَّةٌ، ........................

البرهان"، أي: القياسي

(1)

: "مقدمات"، فالمقدمة: قضية جعلت جزء قياس.

"والمحكوم عليه فيها" كذا بخطّ المصنّف، وفي نسخ الشَّارحين:"والجزء الأولُ منها"، أي: من القضية الحملية - "إمَّا جزء معين"؛ كذا بخطه؛ وفي النسخ "جزئي"، أي: شخصي، ويحترز به عن الكُلّي، والجزئي الإضافي، أو لا.

والثَّاني: إما مبيَّن

(2)

جزئيته"، أي: كون الحكم فيه على بعض أفراده، "أو كليته"، أي: كون الحكم على كل أفراده، "أو لا"، أي: لا يكون مبيَّنًا

(3)

فيه جزئيته، ولا كليته؛ "صارت" الأقسام "أربعة.

شخصيا"؛ وهي ما

(4)

موضوعها جزئي معيَّن؛ مثل: هذا البيع

(5)

صحيح.

= أجزاء القضية، والصحيح أن الخبرية المشكوكة محتملة للصدق والكذب، فتكون داخلة في التعريف ومن أفراد القضايا. وقوله:"إن المشكوكة لا حكم فيها" إن أراد بالحكم المنفي الحكم بمعنى وقوع النسبة أو لا وقوعها الذي هو جزء القضية، فممنوع، وإن أراد به الحكم بمعنى الإيقاع والانتزاع أي إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة الذي هو عبارة عن التصديق أو جزء منه، فمسلم، ولا يضر خلوها عنه؛ لأنه ليس منشأ لاحتمال الصدق والكذب، بل المنشأ هو الحكم بمعنى الوقوع واللاوقوع، ولا شك في تحققه في المشكوكة بالنظر إلى الواقع ونفس الأمر، وإن لم يكن متحققا بالنظر إلى نفس الشاك، ثم إن هذه القضية المعرفة بأنها قول يحتمل الصدق والكذب لذاته تنقسم تقسيمًا أوليًا إلى قسمين: حملية وشرطية: أما الحملية فهي ما حكم فيها بثبوت شيء لشيء أو انتفائه عنه، نحو:"زيد قائم" و "عمرو جالس" و "عمرو أبوه قائم" و "زيد عالم" يناقضه "زيد ليس بعالم". وأما الشرطية فهي ما حكم فيها بصدق قضية أو لا صدقها على تقدير صدق قضية أخرى، أو بالتنافي بين قضيتين في الصدق والكذب معًا، أو في أحدهما فقط، أو بنفيه. وسميت شرطية لاقترانها بحرف الشرط بالفعل أو بالقوة؛ لتدخل المنفصلة نحو: إما أن يكون العدد زوجًا أو فردًا، فإنه في قوة: إن كان العدد زوجًا لم يكن فردًا، وإن كان فردًا لم يكن زوجًا .. وإنما كان تقسيم القضية إلى حملية وشرطية تقسيمًا أوليًا؛ لأنه باعتبار ذاتي من ذاتياتها وجزء من أجزائها بل من أقوى أجزائها وهو الحكم، بخلاف تقسيمها إلى موجبة وسالبة؛ فإنه باعتبار صفة الحكم، وبخلاف تقسيمها إلى كلية وجزئية؛ فإنه باعتبار صفات الموضوع.

(1)

في ب: القياس.

(2)

في ت، ج: تبين.

(3)

في ب: متعينا.

(4)

في أ: إما.

(5)

البيع: مقابلة شيء بشيء على وجه المعاوضة، فيدخل فيه ما لا يصح تملكه كاختصاص وما إذا لم =

ص: 301

وَجُزْئِيَّةٌ محْصُورَةٌ، وَكُلِّيَّةٌ، ........

"وجزئية محصورة" وهي ما ليس موضوعها جزئيًّا معيَّنًا ولا مبيَّنًا

(1)

جزئيته؛ نحو: بعض الإنسان عالم.

"وكلية" محصورة؛ وهي ما ليس موضوعها جزئيًّا معينًا، وقد ثبت

(2)

كليتها؛ نحو: كلُّ جوهر متحيز.

= تكن صيغة. وخرج بوجه المعاوضة رد السلام في مقابلة ابتدائه، فيطلق على مطلق المعاوضة قال

الشاعر:

مَا بَعْثُكُمْ مُهْجَتِي إِلَّا بِوَصْلِكُمُ

وَلا أُسْلِمُها إِلَّا يَدًا بِيَدٍ

فَإِنْ وَفيْتُمْ بِمَا قُلْتُمْ وَفَيْتُ أَنَا

وَإنْ غَدَرْتُمْ فَإِنَّ الرَّهْنَ تَحْتَ يَدِيْ

ولفظ "البيع" في الأصل مصدر فلذا أفرد، وإن كان تحته أنواع، ثم صار اسمًا لما فيه مقابلة، ثم هو مصدر باع، قال صاحب المختار:""بَاعَ" الشيءَ يَبِيعه "بَيْعًا" وَ"مَبِيعًا" شَرَاه، وهو شاذ، وقياسه مَبَاعًا و"بَاعَه"، اشتراه، فهو من الأضداد، وفي الحديث: "لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَبِعْ عَلَى بَيْع أَخِيهِ" أي: لا يشتر على شراء أخيه؛ لأن النهي وقع على المشتري لا على البائع، والشيء "مَبِيْعٌ" و"مَبْيُوعٌ" مثل مَخِيط ومَخْيوطٌ. ويقال للبائع والمشتري: "بَيّعان" بتشديد الياء و"أباع" الشيء عرضه للبيع و"الابتياع" الاشتراء، ويقال: "بِيعَ" الشيء على ما لم يسم فاعله بكسر الباء، ومنهم من يقلب الياء واوًا فيقول: "بُوعَ" الشيء".

وشرعًا: تارة يلحظ فيه أحد شقي العقد الذي يسمى من يأتي به بائعًا، فيعرف بأنه تمليك بعوض على وجه مخصوص. وتارة يلحظ فيه أحد شقي العقد الذي يسمى من يأتي به مشتريًا، فيعرف بأنه تملك بعوضن على وجه مخصوص. وتارة يلحظ فيه المركب من الشقين، فيعرف بأنه عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد لا على وجه القربة، فقولنا:"عقد" جنس، وشأنه الإدخال، لكن إذا كان بينه وبين فصله عموم وجه فيخرج بكل منهما ما دخل في عموم الآخر؛ ولذلك قالوا: خرج بالعقد المعاطاة، وبالمعاوضة نحو الهدية، وبالمالية نحو النكاح، وبإفادة ملك العين الإجارة، وبغير وجه القربة القرض، والتقييد بالتأبيد؛ لتخرج الإجارة أيضًا، وإخراج الشيء الواحد بقيدين غير معيب، وهذا أولى من التعريف بأنه: مقابلة مال بمال على وجه مخصوص؛ لأنه من التعريف بالأعم المحال على مجهول، ولو عرف أيضًا بأنه عقد معاوضة محضة تقتضي ملك عين أو منفعة على الدوام لا على وجه القربة لكان وافيًا بالمقصود، فخرج بالمعاوضة الهبة، وبالمحضة النكاح، وبملك العين الإجارة، وبغير وجه القربة القرض، والمراد بالمنفعة المؤبدة بيع حق الممر للماء مثلًا؛ لأنه لا يصل الماء إلى محله إلا بواسطة ملك غيره. ينظر: كشاف القناع 3/ 146، وفتح القدير 6/ 246، والاختيار 3، ونهاية المحتاج 3/ 372، ومغني المحتاج 2/ 2، ومواهب الجليل 4/ 222، وشرح الخرشي 5/ 4، والمغني 3/ 560.

(1)

في ت: مثبتًا.

(2)

في ج: بين.

ص: 302

وَمُهْمَلَةٌ؛ كُلٌّ مِنْهَا مُوجَبةٌ، وَسَالِبةٌ، وَالْمُتَحَقِّقُ فِي الْمُهْمَلَةِ - الْجُزْئِيَّةُ فَأُهْمِلَتْ.

"ومهملة"؛ وهي ما ليس موضوعها جزئيًّا معيَّنًا، ولم يبيَّن فيه كلّيته ولا جزئيته؛ نحو]

(1)

: الإنسان في خسر.

ثم "كل منها"

(2)

، أي: من القضايا الأربعة "موجبة"، أي

(3)

: حُكِمَ فيها بثبوت أحد الطرفين للآخر، "وسالبة"، أي: حكم برفع هذا الثبوت؛ فتصير

(4)

ثماني قضايا.

"والمتحقِّق في المهملةِ - الجزئيَّةُ"؛ [لأنها متحقِّقة، سواء كانت

(5)

جزئية، أم كلّية؛ إذ الجزئية لا يُعْتبر

(6)

فيها عدم الكلّية؛ من عدم التعرّض لها؛ "فأهملت" لذلك]

(7)

.

ولم يَذكر البعضَ فيها؛ لأن ذكره يقع مُستغنىً عنه؛ وينبغي أن يفهم أن من محاسن المصنّف: قوله: لمتحقِّق

(8)

في المهملةِ - الجزئيةُ؛ فإنه أشار به إلى أنا لا ندعي أن المهملة جزئية؛ بل [إن]

(9)

القدر

(10)

المتحقِّق

(11)

منها ذلك؛ كما قررناه، ولم يقل أحد من القوم: إنها جزئية

(12)

، ولو أرادوا ذلك، لخالفوا ما قرره غيرهم؛ من أنها مشتملة على صيغة العموم؛ كقولك: الإنسان حيوان، بل يريدون أنّ صلاحيتها للجزئية، والكلية؛ على حدّ واحد، وقد صرَّح بذلك ابن سينا

(13)

في "الإشارات"، وقرره الإمام فخر الدِّين، وغيره.

(1)

سقط في ت.

(2)

في أ: فيهما.

(3)

في أ، ب، ج: أن.

(4)

في ت: فيصير.

(5)

في أ: أكانت.

(6)

في أ، ب، ت، ح: يعبر.

(7)

سقط في ت.

(8)

في أ، ح: المحقق.

(9)

سقط في ت.

(10)

في ح: القدرة.

(11)

في أ، ح، ج: المحقق.

(12)

في ت: جزئيته.

(13)

الحسين بن عبد الله بن سينا، أبو علي، شرف الملك، الفيلسوف الرئيس، صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات، ولد بـ"بخارى" في 370 هـ طاف البلاد، وناظر العلماء، واتسعت شهرته. من كتبه الإشارات، والطير، والإنصاف، ولسان العرب، وغيرها توفي 428 هـ.

ينظر: وفيات الأعيان 1/ 152، وابن العبري 325، وآداب اللغة 2/ 336، ولسان الميزان 2/ 291، والذريعة 2/ 48، 96، والأعلام 2/ 241.

ص: 303

وَمُقدِّمَاتُ الْبُرْهَانِ قَطْعِيَّةٌ؛ لِتُنْتِجَ قَطْعِيًّا؛ لِأَنَّ لازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ، وَتَنْتَهِي إِلَى ضَرُورِيَّةٍ؛ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ.

الشرح: "ومقدمات البرهان قطعية"

(1)

؛ وحينئذٍ "تنتج قطعيًّا

(2)

؛ لأن لازم الحق حق"، والنتيجة لازم

(3)

المقدمات؛ حقّ؛ ولا بد أن "تنتهي "المقدمات" إلى ضرورية؛ وإلا لزم التسلسل"، أو الدور؛ لأنه حينئذ تكون تلك المقدّمات مكتسبةً من مقدّمات أخر، وهكذا؛ فيتسلسل

(4)

.

ولما كان الدور أيضًا تسلسلًا؛ إلا أنه في الأمور المُتَنَاهية - استغنى المصنِّف بذكر التسلسل

(5)

عن ذكره.

(1)

ومقدمات البرهان قطعية، وحينئذٍ ينتج قطعيًّا؛ لأن النتبجة لازمة لمقدمات حقة، ولازمُ الحق حق قطعًا، ولا بُدَّ أن ينتهي إلى المقدمات الضرورية دفعًا للدور والنّسي المانعين عن الاكتساب.

وأمَّا الأمارات أي ما هي ظنّيةٌ فيستلزم النتيجة استلزامًا ظنيًا أو اعتقاديًا، ولا يستلزم ذلك وجوبًا، ولا دائمًا بل في وقت ما، وذلك إذا لم يمنع مانع، وإنما لم يجب إذ ليس بين الظنّ والاعتقاد وبين أمر ربط عقلي، بحيث يمتنع تخلفه عنه لزوالهما مع بقاء موجبهما كما يكون عند قيام المعارض، وظهور خلاف الظنِّ بحس أو دليل.

(2)

في حاشية ج قوله: "لتنتج قطعيًا"، أي: أن قطعية المقدمات تستلزم قطعية النتيجة؛ لأنه إذا كان الملزوم حقًّا كان اللازم حقًّا وقد شرح الشارح كذلك وليس المراد أن حقية المقدمات لازم لحقية النتيجة، فإنه باطل؛ لأن الكاذب قد يستلزم الصادق كقولنا: لو كان الإنسان فرسًا كان حيوانًا.

(3)

في ب: لازمة، وفي ت: لازمة لمقدمات.

(4)

في أ، ب، ج: فتسلسل، وفي ح: تسلسل.

(5)

التسلسل هو أن يستند الممكن في وجوده إلى علة، مؤثرة وتستند تلك العلة المؤثرة إلى علة أخرى مؤثرة فيها، وهلم جرا إلى غير النهاية. وقد ذكر علماء الكلام عدة أدلة على بطلان النسلسل بعضها لم يسلم من القدح؛ وبعضها سلم من القدح لهذا نقتصر على الأخير.

أولها: برهان التطبيق، وحاصله أن نفرض من معلول ما بطريق التصاعد إلى ما لا نهاية له جملة ومما قبله بمتناه إلى ما لا نهاية له جملة، فيحصل جملتان غير متناهيتين، إحداهما زائدة على الأخرى بقدر متناه، مثلًا نفرض جملة من الآن إلى ما لا نهاية له في الأزل، وهذه تسمى "الآنية" ثم نفرض من هذه السلسلة نفسها جملة أخرى تبتدئ من الطوفان إلى ما لا نهاية له في الأزل وهذه تسمى "الطوفانية" وبعد هذا الفرض نقابل أول فرد من السلسلة الطوفانية بأول فرد من السلسلة الآنية، ونستمر في باقي الأفراد، وهكذا إلى الأزل، فعند ذلك لا يخلو الحال عن واحد من أمرين: إما أن يتساويا، وإما أن يتفاوتا، فإن تساويا لزم مساواة الزائد للناقص وهو محال، فما أدى إليه - وهو =

ص: 304

وَأَمَّا الْأَمَارَات، فَظَنِّيَّةٌ، أَو اعْتِقَادِيَّةٌ؛ إِنْ لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ؛ إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الظَّنِّ وَالاعْتِقَادِ، وَبَيْنَ أَمْرٍ - رَبْطٌ عَقْلِيٌّ؛ لِزَوَالِهِمَا مَعَ قِيَامِ مُوجِبِهِمَا.

الشرح: "وأما الأمارات، فظنية"، أي: نتائجها

(1)

ظنية، "أو اعتقادية"، لا مطلقًا، بل "إن لم يمنع مانع" عن حصول الظّن، أو الاعتقاد؛ "إذ ليس بين الظَّن، والاعتقاد، وبين أمرٍ - ربطٌ

= التسلسل - محال وإن تفاوتا وانتهت الناقصة كان التفاوت بينهما بقدر متناه؛ لأنه من الآن إلى الطوفان والمتفاوت بالمتناهي يستلزم التناهي فلا يتسلسل، وذلك لأن الناقصة لما انقطعت كانت متناهية والزائدة لم تزد عليها إلا بذلك المقدار المبتدأ من المعلول الأخير إلى الطوفان وهو متناه فيلزم التناهي لا محالة، وإلى هنا انتهى ذلك الدليل، وملخصه أنه عند تطبيق إحدى السلسلتين على الأخرى إن فرض التساوي كان محالا، فما أدى إليه - وهو التسلسل - محال وإن فرض التفاوت كانت إحداهما زائدة بقدر متناه والزائد على المتناهي بقدر متناه بالضرورة، ثم هذا الفرض صفة وحالة من حالات السلسلة، فلو كانت جائزة كانت كل صفاتها جائزة، وهذه الحالة أخص صفاتها فلذا ذكرت؛ لأنها في الحقيقة منتزعة منها فلا تسلسل أضلًا؛ لأن كلًا من السلسلتين قد انتهى. وقد أوردوا على هذا الدليل نقضين: الأول على فرض المساواة والثاني على فرض التفاوت وحاصل الأول لا نسلم إمكان المساواة حتى نفرض؛ لأن المتبادر من لفظ المساواة تماثل كل من السلسلتين في الكم؛ بمعنى أن عدد أفراد إحدى السلسلتين يكون مساويًا لعدد أفراد الأخرى وهذا لا يتأتى هنا؟ لأن الموضوع أن السلسلة غير متناهية والحكم بالتماثل في الكم فرع انحصار الأفراد، فلا يصح فرض التساوي. ويجاب عن ذلك بأن التماثل لا يتوقف على الانحصار؛ لأن معناه كون كل من السلسلتين اشتملت على ما اشتملت عليه الأخرى، وهذا المعنى تحقق مع عدم التناهي، وحاصل الثاني: سلمنا أن هناك تفاوتًا بين السلسلتين لكن لا نسلم التناهي؛ بدليل أنا إذا فرضنا جملتين من الأعداد إحداهما تكونت من تضعيف الواحد مرات غير متناهية - والثانية تكونت من تضعيف الاثنين مرات غير متناهية، ثم نطبق إحداهما على الأخرى فنجعل الواحد من الأولى بإزاء الاثنين من الثانية؛ فتكون إحداهما أزيد من الأخرى، ولا يلزم من ذلك التناهي، وكما يقال هذا في الأعداد يقال في مقدورات الله تعالى ومعلوماته؛ فإن المعلومات أكثر عددًا من المقدورات؛ لأن القدرة خاصة بالممكنات، والعلم يشمل الواجبات والجائزات والمستحيلات ومع هذا التفاوت فلا تناهي؛ لأن مقدورات الله ومعلوماته لا تتناهى. ويجاب عن ذلك بأن النقض بالأعداد لا يرد؛ لأن التطبيق المستدل به على بطلان التسلسل إنما اعتبر بين الأمور الموجودة كالأعراض، وأما الأعداد فهي من قبيل الأمور الوهمية المحضة؛ فلا يصح النقض بها. وأما النقض بمعلومات الله ومقدوراته فلا يرد أيضًا؛ لأن معنى عدم تناهي المقدورات عدم وقوفها عند حد، فما من مقدور إلا ويتصور وراءه مقدور آخر، وأما الموجود من المقدورات فهو متناه قطعًا، وكذلك المعلومات الوجودية متناهية، وأما العددية فهي بمعزل عن الدليل.

(1)

في أ، ح: بنتائجها، وفي ج: فنتائجها.

ص: 305

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ: أَنَّ الصُّغْرَى خُصُوصٌ، والْكُبْرَى ...........

عقلي"، أي: علاقة طبيعية تقتضي استلزام الأمارات لنتائجها؛ بحيث يمنع

(1)

تخلّفه عنهما

(2)

؛ "لزوالهما مع قيام موجِبهما"؛ كما قد يكون عند قيام المعارِض، وظهورِ خلاف الظَّنِّ بطريق من الطرق.

الشرح: "ووجه الدلالة

(3)

في المقدّمتين"؛ وهو

(4)

ما لأجله لزمتهما النتيجة؛ "أن الصُّغرى" - باعتبار موضوعها - "خصوص، والكبرى" - باعتبار موضوعها - "عموم

(5)

"

(6)

؛ وذلك لأن الحكم في الكبرى، على جميع ما صَدَقَ عليه الأوسط، فيتناول الأصغر وغيره، وفي الصغرى مخصوصٌ بالأصغر فقط.

(1)

في ج: تمنع.

(2)

في ب: عنها.

(3)

في حاشية ج: وقوله: "وجه الدلالة

إلخ" قال السعد: إذا جعلنا العالم دليلًا على وجود الصانع، فكونه بحيث يلزم من العلم به العلم بوجود الصانع دلالته، وثبوت الصانع مدلوله، والحدوث الذي لأجله يستلزم العالم وجود الصانع هو وجه دلالته، فذكر هنا ما لأجله يستلزم البرهان النتيجة، وهو ظاهر، لكنه مختص بالشكل الأول؛ لأنه مرجع الإشكال، فوجه الدلالة فيه هو وجه الدلالة في الكل.

(4)

في ج: وهو.

(5)

قلت: واندراج الخصوص في العموم واجب، فيندرج الصغرى في موضوع الكبرى، فيثبت له ما ثبت له، وهو محمول الكبرى نفيًا وإثباتًا، فيلتقي موضوع الصغرى ومحمول الكبرى وهو النتيجة، وذلك نحو: العالم مؤلف، وكل مؤلف حادث، فإن العالم أخصُّ في المؤلف، فلذلك تقول:"العالم مؤلّف" حكم خاصّ بالعالم، و"كل مؤلف حادث" حكم عامّ للعالم ولغيره، فيلتقي العالم والحادث، واعلم أنهما إذا تساويا فالحكم كذلك، لكن طبيعة المحمول بما هو محمول أعمّ، فلذلك لم يتعرّض له.

(6)

في حاشية ج: قوله: والكبرى

إلخ. اعلم أنه قد يكون موضوع الصغرى مساويًا لموضوع الكبرى كما في قولنا: الحيوان ماش وكل ماشٍ منتقل من مكان إلى مكان، أو كل ماشٍ حيوان وكل حيوان منتقل من مكان إلى مكان، فيحمل كلامه على أن مفهومه المحمول أعم من الموضوع في صورة المساواة أيضًا؛ لأن المراد به عام الأفراد، فالحيوان أعم من كل فرد من أفراد الماشي، وبالعكس.

وقال السيد: إذا تساوى موضوع الصغرى والكبرى، فالحكم كما ذكر من التقاء موضوع الصغرى ومحمول الكبرى، لكن موضوع الكبرى هو محمول الصغرى، وطبيعة المحمول بما هو محمول أعم من الموضوع كما صرح به في المواقف، فبذلك الاعتبار يكون موضوع الكبرى أعم من موضوع الصغرى؛ فيندرج المساوي في العموم.

ص: 306

عُمُومٌ؛ فَيَجِبُ الانْدِرَاجُ؛ فَيَلْتَقِي مَوْضُوعُ الصُّغْرَى وَمَحْمُولُ الْكُبْرَى.

وإذا كانت الصغرى خصوصًا، والكبرى عمومًا، "فيجب الاندراج"؛ إذ الخصوص مندرجٌ في العموم؛ "فيلتقي

(1)

موضوع الصُّغرى، ومحمول الكبرى"، نفيًا وإثباتًا؛ وهو النتيجة؛ نحو: الوضوء

(2)

عبادة، وكل عبادة بِنِيَّةٍ

(3)

؛ فإنّ الوضوء أخصّ من العبادة

(4)

؛ فلذلك نقول:

(1)

في حاشية ج: قوله: "فيلتقي

" إلخ عبارة العضد: فيلتقي موضوع الصغرى ومحمول الكبرى وهو النتيجة. قال السعد: وانتساب محمول الكبرى، إلى موضوع الصغرى هو معنى التقائهما الذي هو النتيجة.

(2)

والوُضوء بضم الواو: الفعل، وبفتحها: الماء المتوضأ به، هذا هو المشهور؛ وحكي الفتح في الفعل، والضم في الماء، وهو في اللغة: عبارة عن النظافة والحسن، وفي الشرع: عبارة عن الأفعال المعروفة. ينظر: لسان العرب 6/ 4854، 4855، وتهذيب اللغة 12/ 99، وترتيب القاموس المحيط 4/ 622.

واصطلاحًا:

عرفه الحنفية بأنه: الغسل والمسح في أعضاء مخصوصة.

وعرفه الشافعية بأنه: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة مفتتحًا بنيَّةٍ.

وعرفه المالكية بأنه: إزالة النجس، أو هو رفع مانع الصلاة.

وعرفه الحنابلة بأنه: استعمال الماء الطهور في الأعضاء المخصوصة على صفة مفتتحة بالنيَّة.

ينظر: الاختيار 1/ 7، ومغني المحتاج 1/ 47، والخرشي 1/ 20، والمبدع 1/ 113.

(3)

لغةً: القصدُ والعزم، وشرعًا: القصدُ إلى الفعل، وفي عين العلم "هي الإرادة الباعثة للأعمال من المعرفة" وفي التلويح "هو قصد الطاعة والتقرب إلى الله في إيجاد الفعل" قال ابن رجب:"النية تقع بمعنيين: أحدهما: تمييز العبادات بعضًا عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر والثاني: تمييز المقصود بالعمل هل هو اللهِ وحده". وفي نور الإيضاح: "حقيقتها عقد القلب على العمل". والفرقُ بين الإرادة والنية أن المعتبر في الإرادة هو إصدار المراد، ولا يعتبر فيها غرض المريد؛ فإنها تستعمل بدون ذكر الغرض أيضًا بخلاف النية؛ فإنها يعتبر فيها غرض، ولا يكاد يتركب معها ذكر الغرض؛ ويقال: نويت لكذا، ولهذا لا يقال:"نوى الله" ويقال: "أراد الله سبحانه" وفي "الأشباه": "إن للنية شروطًا الأول: الإسلامُ؛ لذا لم تصح من كافر، والثاني: التمييزُ؛ فلا تصح عبادة صبي غير مميّز، والثالث: العلمُ بالمنوي، والرابع: ألا يأتي بالمنافي بين النية والمنوي".

(4)

والعبادة وهي في اللغة: الطاعةُ من الخضوع، وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، قال المهائمي: العبادة تذلّل لغيرٍ عن اختيار لغاية تعظيمه، فخرج التسخير والسحر والقيام والانحناء لنوع تعظيم.

ص: 307

وَقَدْ تُحْذَفُ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ؛ لِلْعِلْمِ بِهَا.

"الوضوء عبادة": حكم مؤلَّف خاصٌّ بالوضوء، و"كل عبادة بِنِيَّةٍ": حكم عام للوضوء وغيره؛ فينتفى

(1)

الوضوء وغيره.

الشرح: "وقد تحذف

(2)

إحدى المقدمتين؛ للعلم بها"

(3)

؛ فالكبرى مثل: الوضوءُ لا يصح بدون النِّيَّة؛ لأنه عبادة؛ والصغرى مثل: الوضوء يحتاجُ إلى النِّيَّة؛ لأن كلّ عبادة تحتاج

(4)

إليها؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام وقد أذَّن زِيَادُ بْنُ الحَارِثِ الصُّدَائي

(5)

للفجر، وأراد

(1)

في ت: فيلتقي.

(2)

في ب، ت: يحذف.

(3)

وقد تحذف إحدى المقدمتين للبرهان للعلم بها، فالكبرى مثل: هذا يُحدُّ لأنه زانٍ، والصغرى مثل: هذا يحدُّ؛ لأن كل زان يُحَدّ، ومنه قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} .

ولا بُدَّ في انتهاء المقدمات القطعية إلى الضروريات، وهي أنواع:

الأول: المشاهدات الباطنة، وتسمّى الوجدانيات، وهي ما لا تفتقر إلى عقل، كجوع الإنسان وعطشه، ولذّته وألمه؛ فإن البهائم تدرك.

الثاني: الأوليات، وهي ما يحصل بمجرد العقل، ولا يشترط فيه إلَّا تصوّر الطرفين، والالتفات إلى النسبة، كعلم الإنسان بأنه موجود، وأن النقيضبن يصدق أحدهما، فلا يصدقان معًا ولا يكذبان.

الثالث: المحسوسات، وهي ما يحصل بالحس الظاهر، أعني المشاعر الخمس، كالعلم بأن النار حارة والشمس مضيئة.

الرابع: التجريبات، وهو ما يحصل بالعادة، أعني بتكرر الترتيب من غير علاقة عقلية، وقد يخص كعلم الطبّ بإسهال المسهلات، وقد تعم كعلم العامة بأن الخير مسكر.

الخامس: المتواترات، وهي ما يحصل بنفس الأخبار تواترًا، كالعلم بوجود مكة وبغداد لمن لا يراهما.

وأمَّا المقدمات الظنية فأنواع:

الحدسيات، كما شاهدنا نور القمر يزداد وينقص بقربه وبعده من الشمس، فنظن بأنه مستفادٌ منها، والمشهورات، كحسن الصدق والعدل، وقبح الكذب والظلم، وكالتجريبات الناقصة والمحسوسات الناقصة، والوهميات ما يتخيل بمجرد الفطرة بدون نظر العقل أنه من الأوليات مثل: كل موجود متحيًز، والمسلمات ما يسلمه الناظر من غيره.

(4)

في ت: يحتاج.

(5)

زياد بن الحارث الصُّدَائي. صحابي له حديث، وعنه زياد بن ربيعة فقط. ينظر: تهذيب التهذيب 3/ 359، والإصابة 2/ 582، والاستيعاب 2/ 530، وأسماء الصحابة الرواة ت 339، 956، وأسد الغابة 2/ 269، وتقريب التهذبب 1/ 266، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 194، والثقات 3/ 141.

ص: 308

وَالضَّرُورِيَّاتُ:

مِنْهَا: الْمُشَاهَدَاتُ الْبَاطِنَةُ؛ وَهِيَ مَا لَا يفْتَقِرُ إِلَى عَقْلٍ؛ كَالْجُوعِ وَالأَلَمِ.

وَمِنْهَا: الْأَوَّليَّاتُ؛ وَهِيَ: مَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقلِ؛ كَعِلْمِكَ بِوُجُودِكَ؛ وَأَنَّ النَّقِيضَيْنِ يَصْدُقُ أَحَدُهُمَا.

وَمِنْهَا: الْمَحْسُوسَاتُ؛ وَهِيَ: مَا تَحْصُلُ بِالْحِسِّ.

وَمِنْهَا: التَّجْرِبِيَّاتُ؛ وَهِيَ: مَا تَحْصُلُ بِالْعَادَةِ؛ كَإِسْهَالِ الْمُسْهِلِ، وَلإِسْكَارِ.

بلالٌ

(1)

أن يقيم: "يُقِيمُ أَخُو صُدَاء؛ فَإِنَّ أَذَّنَ، فَهُوَ يُقِيمُ.

الشرح: "والضروريات"

(2)

كثيرة، فنذكر الأشهر منها؛ لأنا قد قلنا: إن المقدمات تنتهي إليها، [فنقول]

(3)

: "منها: المُشَاهدات الباطنة"؛ وتسمى الوِجْدَانِيَّات؛ "وهي: ما لا تفتقر

(4)

إلى عَقْلٍ؛ كالجوع والألم"؛ تدركه

(5)

البهائم.

"ومنها: الأوَّلِيَّات؛ وهي: ما يحصل

(6)

بمجرد العَقْلِ"، ولا يشترط إلَّا حضور الطرفين، والالتفات إلى النسبة؛ "كعلمك بوجودك؛ وأن النقيضين يصدق أحدهما"؛ فلا يصدقان معًا، ولا يكذبان.

"ومنها: المَحْسُوسَاتُ؛ وهي: ما يحصل بالحِسِّ" الظاهر، أي: المَشَاعر الخمس؛ كالعلم بأن الشمس مضيئة، والنَّار حارة.

"ومنها: التَّجْرِيبِيَّات

(7)

؛ وهي: ما يَحْصُلُ بالعادة"، أعني تكرر الرتب

(8)

من غير علاقة

(1)

بلال بن رباح المؤذن مولى أبي بكر، له كنى، شهد بدرًا والمشاهد كلها، وسكن دمشق. له أربعة وأربعون حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديث. قال أنس: بلال سابق الحبشة. قال عمر: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، وكان بلال ممن عذب في الله تعالى. مات سنة عشرين، عن بضع وستين سنة. ينظر: الخلاصة 1/ 140، وتاريخ خليفة 99، 149، والعبر 1/ 24، وتهذيب التهذيب 1/ 502، وشذرات الذهب 1/ 31، وسير أعلام النبلاء 1/ 347.

(2)

في هامش ت: أقسام الضروريات.

(3)

سقط في ت.

(4)

في ت: يفتقر.

(5)

في أ، ج: يدركه، وفي ح: لم يدركه.

(6)

في أ، ج، ح: عصل.

(7)

في ب: التجريبات، وفي ت: الجزئيات.

(8)

في ت: الترتيب، وفي ج: الترتب.

ص: 309

وَمِنها الْمُتَوَاتِرَاتُ؛ وَهِيَ: مَا تَحْصُلُ بِالْإِخْبَارِ تَوَاتُرًا؛ كَـ "بَغْدَادَ" و"مَكَّةَ".

"وَصُورَةُ الْبُرْهَانِ اقْتِرَانِيٌّ وَاسْتِثْنَائِيٌّ:

فَالاقْتِرَانِيُّ: مَا لَا يُذْكَرُ اللَّازِمُ وَلا نَقِيضُهُ؛ فِيهِ بِالْفِعْلِ.

وَ"الاسْتِثْنَائِيُّ" نَقِيضُهُ.

[عقلية]

(1)

؛ وهو: إما خاص أو عام؛ "كإسهال المسهل"؛ يختص بعلمه الطبيب، "والإسْكَار" يعم الناس.

"ومنها: المُتَوَاتراتُ؛ وهي: ما يحصل بالإخبار تواترًا؛ كَـ "بَغْدَادَ" و"مكة""؛ لمن لم يرهما.

الشرح: "وصورة البرهان

(2)

"

(3)

؛ وهو: القول المؤلَّف من قضايا متى سلِّمت؛ لزم عنه لذاته - قول آخر - ضربان: أحدهما: "اقتراني"، "و "الثاني:"استثنائي":

"فالاقتراني: ما لا يذكر اللَّازم" عنه، "ولا نقيضه؛ [فيه بالفعل]

(4)

، والاستثنائي نقيضه؛ فالأول" قسمان:

أحدهما: ما كان بشرط وتقسيم، ويسمى الاقترانيات الشرطية؛ وأهمله صاحب الكتاب؛ لقلة جدواه.

(1)

سقط في ت.

(2)

في حاشية ج: قوله: وصورة البرهان، أي: ما تقدم مادة البرهان وصورته

إلخ.

(3)

وأمَّا صورته فضربان: اقتراني واستثنائي؛ لأنه إمَّا ألَّا يكون اللازم منه ولا نقيضه مذكورًا فيه بالفعل، أو يكون الأول الاقتراني، والثاني الاستثنائي، وسنذكر مثالهما، فالاقتراني بغير شرط، ولا تقسيم، أي يقتصر على هذا القسيم، ويسمى الاقترانيات الحمليات، ولا يتعرض للقسم الآخر، وهو ما فيه تقسيم أو شرط، وتسمى الاقترانيات الشرطية؛ لقلة جدواها وكثرة شعبها وبُعْد أكثرها عن الطبع، ثم المفردات في مقدمتيه يسميها المنطقيون موضوعًا ومحمولًا، والمتكلمون في ذاتًا وصفة، والفقهاء محكومًا عليه وبه، والنحويون مسندًا إليه ومسندًا، وأجزاء المقدمات يسمّى حدودًا، ولا بُدَّ من حَدٍّ متكرر باعتبار نسبته إلى طرفي المطلوب، ويسمى الأوسط، وأمَّا الآخران وهما طرفا المطلوب فيسمى موضوعه الأصغر ومحموله الأكبر، والمقدمة التي فيها الأصغر الصغرى، والتي فيها الأكبر الكبرى. مثاله: كل وضوء عبادة، وكلُّ عبادة قربة، ينتج: كل وضوء قربة، فالعبادة الأوسط، والوضوء الأصغر، و"كلُّ وضوء عبادة" الصغرى "والقربة" الأكبر و"كلُّ عبادة قربة" لما الكبرى.

(4)

سقط في أ، ب، ت، ح.

ص: 310

وَالْأَوَلُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَلَا تَقْسِيمٍ، وَيُسَمَّى "الْمُبْتَدَأُ" فِيهِ مَوْضُوعًا، وَ"الْخَبَرُ" مَحْمُولًا، وَهِيَ الْحُدُود، وَالْوَسَطُ الْحَدُّ الْمُتكَرِّر، وَمَوْضوعُهُ الْأَصْغَر، وَمَحْمُولُهُ الْأَكْبَر، وَذَاتُ الْأَصْغَرِ الضُغْرَى، وَذَاتُ الْأَكْبَرِ الكُبْرَى.

وَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ قَدْ يَقُومُ عَلَى إِبْطَالِ النَّقِيضِ، وَالْمَطْلُوبُ نَقِيضُه، وَقَدْ يَقُومُ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْمَطْلُوبُ عَكْسُهُ - احْتِيجَ إِلَى تَعْرِيفِهِمَا؛ فَالنَّقِيضَانِ كُلُّ. . . . . . . . . . . . .

والثاني: ما كان "بغير شرط ولا تقسيم"؛ وهو الاقتراني الحملي، "ويسمى المبتدأُ فيه"، وهو المحكوم عليه "موضوعًا، والخبر"، أي: المحكوم به - "محمولًا".

وتسميتهما

(1)

بالموضوع والمحمول؛ اصطلاحٌ للمنطقيين، وبالمبتدأ

(2)

والخبر؛ للنُّحَاة، وبالمحكوم عليه وبه؛ للفُقَهَاء، وبالذات والصفة؛ للمتكلِّمِين، وبالمُسْنَدِ والمُسْنَدِ إليه؛ للبَيَانِيِّينَ.

"وهي" أي: أجزاء

(3)

المقدمات تسمى

(4)

"الحدود، فالوسط: الحد المتكرِّر

(5)

، موضوعه الأصغر، ومحموله الأكبر، وذات الأصغر"، أي: المقدمة التي فيها الأصغر: "الصغرى، وذات الأكبر الكبرى".

مثاله: العالَم متغيِّر، وكل متغير حادثٌ؛ ينتج: العالَم حادث؛ فالمتغير الأوسط، والعالَم الأصغر، و"العالَم حادث"

(6)

الصغرى، و"حادث" الأكبر، و"كل متغير حادث" الكبرى.

الشرح: "ولما كان الدَّليل قد يقوم على إبطال النَّقيض، والمطلوبُ نقيضه"، ولكنَّ الدليل لم يتأت قيامه على صدق المطلوب ابتداءً، ويلزم من إبطال نقيضه صدقه، "وقد يقوم على الشَّيء، والمطلوبُ

(7)

عكسه"؛ فيلزم صدقه - "احتيج إلى تعريفهما"، أي: تعريف النقيض،

(1)

في أ، ح: ويسميها.

(2)

في أ، ب، ج، ح: المبتدأ.

(3)

في أ، ح: آخر.

(4)

في أ، ح: يسمى.

(5)

في حاشية ج: قوله: "فالوسط الحد المتكرر ولا بد منه؛ لأن النسبة بين محمول وموضوع إذا كانت مجهولة لا بد في تعريفها من أمر ينتسب إلى كل منهما فيتكرر كذلك ا. هـ سيد.

(6)

في ج: متغير.

(7)

في حاشية ج: قوله: "وقد يقوم على الشيء والمطلوب عكسه" أي: يقوم على تحقق أمر هو ملزوم لصدق المطلوب لكونه عكسًا له، فيلزم صدقه قطعًا كما في رد الإشكال إلى الأول بحيث يحتاج إلى عكس النتيجة.

ص: 311

قضِيَّتَيْنِ، إِذَا صَدَقَتْ إِحْدَاهُمَا، كَذَبَتِ الْأُخْرَى، وَبِالْعَكْسِ؛ فَإِنْ كَانَتْ شَخصِيَّةً، فَشَرْطُهَا أَلَّا يَكُونَ بَينَهُمَا اختِلافٌ فِي الْمَعْنَى إِلَّا النَّفْىَ وَالإِثْبَاتَ؛ فَيَتَّحِدُ الجُزْآنِ بالذَّاتِ وَالإضَافَةِ،

والعكس؛ "فالنقيضان

(1)

: كل قضيتين، إذا صدقت إحداهما، كذبت الأخرى، وبالعكس"؛ إذا كذبت، صدقت

(2)

؛ "فإن كانت" القضية "شخصية، فشرطها ألا يكون بينهما"، أي: بينها، وبين نقيضها: " [اختلاف]

(3)

في المعنى"؛ تغاير، "إلَّا النفي والإثبات"، أي: تبديل كل من النفي

(1)

أقول: النقيضان كلُّ قضيتين يلزم من صدق أيتهما فرضت كذب الأخرى، ويلزم العكس، وهو أن يلزم من كذب أيّتهما فرضت صدق الأخرى، ولا حاجة إلى تقييد اللزوم بكونه بالذات دفعًا لورود: هذا إنسان هذا ليس بناطق؛ لأن كذب كلٍّ منهما لا يلزم من صدق الآخر، بل من صدقه واستلزامه نقيض الآخر جميعًا، والضابط في التناقض أن الفضية إذا كانت شخصية، فيجب ألّا يكون بينها وبين نقيضها تغاير إلا بتبديل كلٍّ من النفي والإثبات بالآخر، فيلزم أن يتحد الموضوع والمحمول إلَّا باللفظ فقط، بل بالذات وبالاعتبار، ويلزم من ذلك ست وحدات لولاها لم يتحد كذلك؛ لاختلاف الاعتبار الأول اتحاد الإضافة مثل:"زيد أب""زيد ليس بأب" ولو أردت في أحدهما لـ "بكر" وفي الآخر لـ "عمرو" لم يتنافيا.

الثاني: الاتحاد في الجزء والكل مثل: الزنجي أسود، الزنجي ليس بأسود.

ولو أردت في أحدهما جزءه وفي الآخر كله لم يتنافيا.

الثالث: في القوة والفعل مثل: الخمر في الدن مسكر، الخمر في الدن ليس بمسكر.

الرابع: الزمان: الشمس حارة، الشمس ليست بحارة.

الخامس: المكان: زيد جالس، زيد ليس بجالس.

السادس: الشرط: الكاتب متحرك الأصابع، الكاتب ليس بمتحرك الأصابع، هذا إذا كانت القضية شخصية، وإن لم تكن شخصية لزم مع ما ذكرنا اختلاف الموضوع بالكلية والجزئية، وإلَّا لكانتا كليتين أو جزئيتين، والكليتان يجوز كذبهما معًا مْثل: كل إنسان كاتب، كلُّ إنسان ليس بكاتب، وإنما كذبتا؛ لأن الحكم بعرضي خاص بنوع من الموضوع على الموضوع كله فلثبوته لنوع منه لا يصدق سلبه عن كله، ولاختصاصه به ولانتفائه عن نوع آخر منه لا يصدق إثباته لكله؛ والجزئيتان يجوز صدقهما معًا، مثل: بعض الإنسان كاتب، بعض الإنسان ليس بكاتب، وإنما صدقتا لأن الحكم في الجزئي على غير معيّن في جزئيات الموضوع، وأنه يوجد في ضمن كل جزئي، فيصدق الإيجاب في ضمن جزئي، والسلبُ في ضمن آخر، ولو كان القصد إلى بعض معيّن بأن تقول: بعض الإنسان كاتب، وذلك البعض ليس بكاتب، أو تنوي ذلك لم يمكن صدقهما، وإذا ثبت ذلك تعيّن أن نقيض الكلية المثبتة، الجزئية السالبة، ونقيض الجزئية المثبتة، السالبة الكلية، وهو أوضح. ينظر: شرح المقدمة. ا. هـ.

(2)

في ت: إذا صدقت كذبت ......

(3)

سقط في أ، ت، ج، ح.

ص: 312

وَالْجُزْءِ أَوِ الْكلِّ، وَالْقُوَّةِ أَوِ الْفِعْلِ،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والإثبات بالآخر، "فيتحد الجزآن": الموضوع والمحمول، لا باللفظ فقط، بل "بالذَّات والإضافة"؛ مثل: زيد أب

(1)

، زيد ليس بأب، ولو زدت في أحدهما: لِبَكْرٍ، وفي الآخر: لِعَمْرِو، لم يتنافيا، "والجزءِ والكل"؛ مثل: الزنجي أسود، الزنجي ليس بأسود، ولو زدت

(2)

في أحدهما "جُزْؤُهُ"، وفي الآخر:"كلُّه"، لم يتنافيا، "والقوةِ والفعل"؛ مثل: الخَمْر

(3)

في الدَّنِّ

(1)

في ت: زيدان.

(2)

في أ، ت، ح، ج: أردت.

(3)

الخمر: لفظ الخمر في الأصل مصدر: خمَرَ الشيء يخمرُه، إذا عطاه وستره، سمي الخِمار خمارًا؛ لأنه يغطي رأس المرأة، والخمَر: ما واراك من شجر وغيره من وهدة وأكمة، والخامر: هو الذي يكتم شهادته، ويقال: خَمَرْت رأس الإناء، غطيته، ويقال للضبع:"خامري أمّ عامر". أي: استتري، ومنه يقال:"هُوَ يمشي لك الخمر". أي: مستخفيًا، كما قال العجَّاج:[الرجز]

فِي لامِع الْعُقْبَانِ لَا تَأتِي الْخَمَرْ

يُوَجِّهُ الأَرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ

ومعنى قوله: "لا يأتي الخمر": لا يأتي مستخفيًا، ولا مسارقة، ولكن ظاهرًا برايات وجيوش، والعقبان: جمع عُقاب: وهي الرايات.

ويقال لما خَامَر العقل من داء وسَكَر، فخلطه وغمره: خمرٌ، ومنه قول كُثيِّر عزة:[الطَّويل]

هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرِ

ويطلق على الشراب المخصوص لوجوه: قال أبو بكر بن الأنباري: سميت الخمر خمرًا؛ لأنها تخامر العقل. أي: تخالطه، ومنه قولهم: خامره الداء. أي: خالطه، وأنشد لكثير عزة:"هنيئًا مريئًا غير داءٍ مخامر" أي: مخالط، وقيل: لأنها تخمر العقل، أي: تستره. ومنه الحديث: "خَمِّرُوا آنِيَتكُمْ"، ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر رأسها، وهذا أخصّ من الأول؛ لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية.

وقيل: سميت خمرًا لأنها تعطَّى حتى تغلي، ومنه حديث المختار بن فلفل، قلت لأنس: الخَمْرُ مِنَ العِنب أوْ من غيرها؟ قال: "ما خمَرْتَ مِنْ ذلك فَهُوَ الخَمْرُ" أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح.

وقيل: لأنها تخمر حتى تدرك، كما يقال: خمرت العجين، فتخمر، أي: تركته حتى أدرك، ومنه: خمرت الرأي، أي: تركته حتى ظهر وتحرر

وعلى هذه الأقوال كلها تكون الخمر في الأصل مصدرًا، وأريد بها اسم الفاعل، كما في الأولين، أو اسم المفعول، كما في الآخرين، ولا مانع من صحة هذه الأقوال كلها؛ لأن في الخمر هذه الصفات العديدة، وهي المخالطة والتغطية، والترك إلى الإدراك.

ولذا قال ابن عبد البر: الأوجه كلها موجودة في الخمر؛ لأنها خمرت وتركت حتى أدركت وسكنت، فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه.

واللُّغة الفصحى تذكير لفظ الخمر وتأنيث معناه، يقال: الخمر حَرَّمها الله. وأثبت أبو حاتم =

ص: 313

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= السجستاني، وابن قتيبة وغيرهما جواز التذكير معنى، فيقال: الخمر حرّمه الله. وقال الأصمعي: الخمر أنثى، وأنكر التذكير، ويجوز دخول الهاء عليها، فيقال لها: الخمرة. أثبته فيها جماعة من أئمة اللغة، منهم الجوهري.

وقال ابن مالك في "المثلث": الخمرة هي الخمر. ويقال للقطعة منها: خمرة، كما يقال: كنّا في لحمة ونبيذة وعسلة، أي: في قطعة من كل شيء منها. ويجمع الخمر على الخمور مثل: تمر وتمور.

للخمر أسماء كثيرة ذكر منها صاحب التلويح ما يناهز أسماؤها التسعين اسمًا، وذكر ابن المعتز مائة وعشرين اسمًا، وذكر ابن دحية مائة وتسعين اسمًا، ومن أشهرها: العقار، الشموس، الخندريس، الحميّا، الصّهباء، المدام، الشيول، وغير ذلك.

أجمع أهل اللغة على أن إطلاق اسم الخمر على الشيء المسكر من عصير العنب حقيقي، واختلفوا في إطلاقه على الأنبذة المسكرة، فذهب أكثر علماء اللغة إلى أن إطلاق اسم الخمر على كل شراب مسكر حقيقي، سواء أكان متخذًا من ثمرات النخيل والأعناب، أم من غيرهما، وسواء أكان نيئًا أم مطبوخًا.

وممَّن صرح بذلك من أئمة اللغة: الجوهري وأبو حنيفة الدينوري وأبو نصر القشيري، والمجد صاحب "القاموس". ونص عبارة القاموس: "الخمرُ: ما أسكَرَ من عصير العِنَبِ، أو عامٌّ كالخمرَةِ، وقد يذكر، والعموم أصحّ؛ لأنها حرمت، وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلا البسر والتمر.

والفعل كـ"نصر وضرب"، وفي "تاج العروس" عند قول صاحب "القاموس":"والعموم أصحّ" على ما هو عند الجمهور؛ لأن الخمر حرمت، وما بالمدينة المشرفة التي نزل التحريم فيها خمر عنب، بل وما كان شرابهم إلّا من البسر والتمر والبلح والرطب، كما في الأحاديث الصَّحيحة التي أخرجها البخاري وغيره، كحديث ابن عمر:"حُرِّمت الخمر وما بالمدينة منها شيءُ"، وحديث أنس:"وما شرابهم يومئذٍ إلَّا الفضيخُ: البسرُ والتَّمرُ" أي: ونزل تحريم الخمر التي كانت موجودة من هذه الأشياء لا في خمر العنب خاصة.

وقال أبو البقاء في "الكلّيات": كل شراب مُغَطٍّ للعقل، سواء كان عصيرًا أو نقيعًا، مطبوخًا كان أو نيئًا، فهو خمر له. وفي "نيل الأرب في مثلثات العرب":[الرجز]

كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ فَالْخَمْرَهْ

هَيْئَةُ الاخْتِمَارِ تُدْعَى خَمْرَهْ

ومما يفيد العموم من كلام العرب، قول عبيد بن الأبرص في مثل له:[المتقارب]

هِيَ الخَمْرُ بِالْهَزْلِ تُكْنَى الطِّلاءَ

كَمَا الذِّئْبُ يُكْنَى أَبَا جَعْدَةِ

والطلاء: اسم لنوع من عصير العنب اختص بالمطبوخ. وقال الحَكمي: [الوافر]

لَنا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ

وَلكِنْ مِنْ نِتَاجِ الْبَاسِقَاتِ =

ص: 314

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا

وَفَاتَ ثِمَارُهَا أيْدِي الْجُنَاةِ

ومما يفيد العموم أيضًا الاشتقاق، فإن أهل اللغة قالوا: إن أصل معنى لفظ الخمر: الستر والتغطية.

سمّي الخمار خمارًا لأنه يغطي رأس المرأة، والخامر هو الذي يكتم شهادته، والخمَر: ما واراك من شجر وغيره، قال ابن الأنباري: سميت الخمر خمرًا لأنها تخامر العقل إلى آخر ما تقدم عنه.

وإذا اشتق من اللفظ بأي معنى من معانيه، فهو موجود في النبيذ، لوجوده في الخمر، فوجب أن يشترك معه في الاسم، ولذلك قالوا لمن بقيت فيه نشوة السكر: مخمور، اشتقاقًا من اسم الخمر، سواء أكان سكره من نبيذ أم من خمر من غير فرق، ولو افترقا في الاسم لافترقا في الصفة، فقيل له في نشوة النبيذ: منبوذ، كما قيل له في نشوة الخمر: مخمور، فهذه الاشتقاقات وحدها من أقوى الأدلة على العموم، وكأنها سميت خمرًا تسمية باسم المصدر؛ للمبالغة، كما سميت سكرًا تسمية باسم المصدر، كالرشْد والرشَد مبالغة؛ لأنها تسكر العقل، أي: تحجز نوره من الوصول إلى الأعضاء. "والسكَر مصدر سكر من الشَّراب من باب طَربَ، وسكر النهر سدّه من باب نصر".

لا يقال: هذا من إثبات اللغة بالقياس، وهو غير جائز؛ لأنا نقول: ليس هذا من إثبات اللغة بالقياس، وإنما هو من تعيين المسمَّى بواسطة الاشتقاق، ولهذا نظير، فقد قال الحنفية: إن مسمى النكاح هو الوطء، وأثبتوه بالاشتقاق.

وذهب فريق آخر من أصل اللغة إلى أن إطلاق اسم الخمر على الشيء المسكر من عصير العنب حقيقي، وإطلاقه على ما سواه من سائر الأنبذة المسكرة مجازي.

قال في "لسان العرب": "الخمر ما أسكر من عصير العنب؛ لأنها حامرت العقل، والتخمير التغطية، يقال: خمر وجهه، وخمر إناءك، والمخامرة: المخالطة. وقال الدينوري: قد تكون الخمر من الحبوب، فجعل الخمر من الحبوب. قال ابن سيده: وأظنّه تسمّحًا؛ لأن حقيقة الخمر إنما هي العنب دون سائر الأشياء، وفي المغرب: الخمر: هي النيء من ماء العنب، إذا غلي، واشتد وقذف بالزبد".

ومما يفيد الخصوص من كلام العرب قول أبي الأسود الدؤلي: [الطويل]

دَعِ الْخَمْرَ تَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنى

رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِيًا بِمَكَانِهَا

فَإِنْ لَمْ تَكُنْهُ أَوْ يَكُنْهَا فَإِنَّهُ

أَخُوها غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا

أخبر أبو الأسود: أن النبيذ أخٌ للخمر، وأخو الشيء غيره، وهو من فصحاء العرب المحتجّ بقوله في اللغة. ها هي ذي النقول عن أهل اللغة، ويظهر منها: أن الأرجح في مسمّى الخمر العموم لغة، كما صرّح بذلك صاحب القاموس بقوله:"والعُمومُ أصحّ"، وقد غلط ابن سيده في اقتصاره على قول صاحب "العين":"الخمر: عصير العنب إذا أسكر"، ولعل سبب ذلك أن خمر العنب كانت كثيرة في زمن تدوين اللغة، فظن بعضهم أن الإطلاق ينصرف إليها فقط حقيقة؛ لكثرتها وشهرتها وجودتها.

وقد يستأنس لهذا بنقل الصحيحين والمسانيد والسنن بيان معنى الخمر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم من أهل اللسان. =

ص: 315

وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالشَّرْطِ؛ وإلَّا لَزِمَ اخْتِلَافُ الْمَوْضُوعِ؛ لِأَنَّهُ إنِ اتَّحَدَا، جَازَ أَنْ يَكْذِبَا فِي الْكُلِّيَّةِ؛ مِثْلُ: كُلُّ إِنْسَانٍ كَاتِبٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِعَرَضِيٍّ خَاصٌّ بِنوْعٍ، وَأَنْ يَصْدُقَا فِي الْجُزْئيَّةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ.

فنَقِيضُ الْكُلِّيَّةِ الْمُثْبَتَةِ جُزْئِيَّةٌ سَالِبَةٌ، وَنَقِيضُ الْجُزْئِيَّةِ الْمُثْبَتَةِ كُلِّيَّةٌ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مسكر

(1)

، ليس بمسكر.

"والزمان" مثل: الشمس حارّة، والشمس ليست بحارة.

"[والمكان] " زيد جالس، زيد ليس بجالس]

(2)

.

"والشرط" الكاتب متحرك الأصابع؛ الكاتب ليس متحرك الأصابع. هذا إذا كانت القضية شخصية.

"وإلا"، أي: وإن لم تكن شخصية، "لزم"، [مع ما ذكرنا]

(3)

- "اختلاف الموضوع" بالكلية

(4)

، والجزئية؛ مع الاختلاف بالنفي والإثبات.

والمراد أنه لو كانت إحداهما كلّية، وجب كون الأخرى جزئية؛ ليتحقّق التَّنَاقُضُ بينهما؛ "لأنه [إن]

(5)

اتَّحد" الموضوع فيهما

(6)

بالكَمِّ، "جاز أن يكذبا في الكلية؛ مثل: كلُّ إنسانٍ كاتبٌ" بالفعل، ولا شيء من الإنسان بكاتب بالفعل؛ وإنما كذبتا؛ "لأن الحُكْمَ" بـ"الكاتب بالفعل" على الإنسان - حكمٌ "بعرضيٍّ خاصٌّ بنوع" غير شامل لجميع أفراده؛ فلا يصدق ثبوته لكل أفراد الإنسان، ولا سلبُه

(7)

عن كلها؛ فتكذب

(8)

الكليتان حينئذٍ

(9)

، "و "جاز" أن يصدقا في الجزئية"؛ كما في المثال المذكور؛ "لأنه"، أي: الموضوع في الجزئية - "غير متعيَّن" فجاز أن يكون البَعْضُ المحكوم عليه بالإثبات - غير البعض المحكوم عليه بالنَّفْي؛ فيصدقا.

الشرح: وإذا عرفت هذا "فنقيض الكُلّية المثبتة جزئيةٌ سالبة

(10)

، ونقيض الجزئية المثبتة

= والخمر عند الفقهاء: تبع اختلاف أهل اللغة في حقيقة الخمر اختلاف الفقهاء فيها: فذهب جمهور الفقهاء إلى ما ذهب إليه الأكثر من أهل اللغة من القول بالعموم، وذهب الحنفية إلى ما ذهب إليه الفريق الآخر من أهل اللغة من القول بالخصوص.

(1)

في ب، ج: مسكر الخمر.

(2)

سقط في ح.

(3)

شقط في أ، ح.

(4)

في ج: في الكم بالكلية.

(5)

سقط في أ، ت، ج، ح.

(6)

في أ، ج، ح: فيها.

(7)

في ب، ت: يسلبه.

(8)

في أ، ج، ح: فيكذب.

(9)

في ح: الكليات.

(10)

في ت: سلبية.

ص: 316

سَالِبةٌ، وَعَكْسُ كُلِّ قَضِيَّةٍ تَحْوِيلُ مُفْرَدَيْهَا عَلَى وَجْهٍ يَصْدُقُ؛ فَعَكْسُ الْكُلِّيَّةِ الْمُوجَبَةِ جُزْئيَّةٌ مُوجَبَةٌ، وَعَكْسُ الْكُلِّيَّةِ السَّالِبةِ مِثْلُهَا،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كلية سالبة"؛ وهو واضح.

"وعكس كل قضية تحويل مفرديها"

(1)

؛ بأن يجعل الموضوع محمولًا

(2)

، والمحمول موضوعًا، والتالي

(3)

مقدَّمًا، والمقدَّم تاليًا؛ "على وجه يصدق"، أي: على تقدير صدق الأصل، لا في نفس الأمر؛ إذ قد يكذب هو وأصله؛ مثل: كل إنسان حجر، عكسه: بعض الحجر إنسان، وهما كاذبان، لكن لو صدق الأصل، لصدق.

وعلى هذا "فعكس الكلية الموجبة"

(4)

، سواء كانت

(5)

حمليَّة، أو شرطية متصلة - "جزئية موجبة"؛ لأن الموضوع والمحمول قد التقيا في ذاتٍ صدقا عليها، فيصدق الموضوع على بعض ما صدق عليه المحمول؛ لكنَّ المحمول والتالي

(6)

قد يكونان أعم من الموضوع والمقدَّم؛ فيثبتان حيث لا ثبوت للموضوع والمقدَّم

(7)

، فلا يلزم الكُلّية، وهذا مثال: كل

(8)

إنسان حيوان

(9)

، وكلما كان الشيء إنسانًا، فهو حيوان؛ فلا يكون عكسهما كليًّا، بل يكون جزئيًّا؛ لأنه إذا صدق: كل إنسان حيوان، وجب أن يصدق: بعض الحيوان إنسان، وألَّا يصدق: لا شيْءَ من

(1)

في ت: مفرداتها.

(2)

في ح: محمول.

(3)

في ت، ح: والثاني.

(4)

عكس كل قضية تحويل مفرداتها بأن يجعل الموضوع محمولًا والمحمول موضوعًا على وجه يصدق، أي على تقدير صدق الأصل لا في نفس الأمر؛ إذ قد يكذبه هو، وأصله نحو: كلُّ إنسان فرس، عكسه. بعض الفرس إنسان، وهما كاذبان، لكن لو صدق الأصل صدق، فهذا حَدُّه، وقد يقال للقضية التي حصلت بعد التبديل: عكس أيضًا، كالخلق والنسج، وعلى هذا فعكس الموجبة الكلية جزئية موجبة؛ لأن الموضوع والمحمول التقيا في ذات صدقا عليها، فبعض ما صدق عليه المحمول صدق عليه الموضوع، لكن ربما يكون المحمول أعم فيثبت حيث لا يثبت الموضوع، فلا يلزم الكلية، فعكس الكلية السالبة كلية سالبة؛ لأن الطرفين لا يلتقيان في شيء من الأفراد، وعكس الموجبة الجزئية موجبة جزئية للالتقاء، والجزئية السالبة لا عكس لها؛ لجواز أن يكون الموضوع أعم، وقد سلب الأخص عن بعضه، فإذا عكس سالبة كان سلب الأعم عن الأخص فلا يصدق. ينظر: شرح المقدمة (15).

(5)

في أ، ت، ح: أكانت.

(6)

في ت: الثاني.

(7)

في ت: والمعدوم.

(8)

في ت: لكل.

(9)

في ت: حيوانًا.

ص: 317

وَعَكْسُ الْجُزْئِيَّةِ الْمُوجَبةِ مِثْلُهَا، وَلَا عَكْسَ لِلْجُزْئِيَّةِ السَّالِبةِ.

‌عَكْسُ النَّقِيضِ

(1)

وَإِذَا عُكِسَتِ الْكُلِّيَّةُ المُوجَبَةُ بِنَقِيضِ مُفْرَدَيْهَا،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الحيوان بإنسان؛ لأنه نقيضه؛ فتجعله كبرى للأصل، وهو: كل إنسان حيوان؛ [فيصير هكذا: كل إنسان حيوان]

(2)

، ولا شيء من الحيوان بإنسان؛ ينتج: لا شيء من الإنسان بإنسان؛ فيلزم سلب الشيء عن نفسه؛ وهو مُحَالٌ؛ وكذا تقول

(3)

في الكلى المتصل.

"وعكس الكلية السالبة مثلها"، لأن الطرفين لا يلتقيان في شيء من الأفراد، فإذا صدق: لا شيء من الحَجَر بِفَرَسٍ، صدق: لا شيء من الفرس بِحَجَرٍ؛ وإلا لصدق نقيضه؛ وهو: بعض الحجر فرس، فتجعله

(4)

صغرى للأصل؛ هكذا: بعض الحجر فرس، ولا شيء من الفرس بحجر؛ ينتج: بعض الحجر ليس بِحَجَرٍ؛ فيلزم سلب الشيء عن نفسه؛ وكذا تقول في السَّلب الكُلّي المتصل.

"وعكس الجزئية الموجبة مثلها"؛ كما عرفت، "ولا عكس للجزئية السَّالبة"، سواء كانت حملية أم متصلة؛ لجواز سلب الخاصّ عن بعض أفراد العامِّ، وامتناعِ العَكْس؛ مثل: بعض الحيوان ليس بإنسان مع امتناع عكسه، وهذا تمام القول في العكس المستوِي.

الشرح: ولهم نوع آخر من العَكْسِ؛ يسمى "عكْسَ النقيضِ"؛ وهو: تبديلُ كلّ من الطرفين بنقيض

(5)

الآخر على وجه يصدق؛ وإليه أشار بقوله: "وإذا عكست الكلية الموجبة (بنقيض مفرديها) "

(6)

صدقت"؛ مثل: كل إنسان حيوان، (يعكس بالنقيض)

(7)

: كل ما ليس

(1)

أقول: هاهنا نوع آخر من العكس يسمى عكس النقيض، وهو تبديل كل من الطرفين بنقيض الآخر على وجه يصدق، والكلية الموجبة تنعكس بهذا العكس، وذلك أن محمولها لازم لموضوعها، وعدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم، وهذا بخلاف الجزئية؛ إذ لا استلزام ثمة، ومن أجل أن الكليتين الموجبتين متلازمتان انعكس السالبة كلية أو جزئية بهذا العكس.

أمَّا الجزئية فلأن الجزئيتين السالبتين نقيضا الموجبخين الكليتين، والتلازم بين الشيئين يستلزم التلازم بين نقيضيهما، وأمَّا الكلية فلأنها مستلزمة للجزئية المستلزمة لعكسها، وهو بعينها عكس الكلية.

ينظر: شرح المقدمة.

(2)

سقط في ت.

(3)

في أ، ب، ح: نقول.

(4)

في ت: فيجعله.

(5)

في ت: ببعض.

(6)

في ت: ببعض مفرداتها.

(7)

في ت، ح: بعكس النقيض.

ص: 318

صَدَقَتْ، وَمِنْ ثَمَّةَ انْعَكَسَتِ السَّالِبَةُ سَالِبَةً جُزْئِيَّةً.

‌الأَشْكَالُ

وَلِلْمُقَدِّمَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْوَسَطِ أَرْبَعَةُ أَشْكَالٍ، فَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ ............

بحيوان ليس بإنسان؛ فيصدق؛ لأنه إذا صدق: كل إنسان حيوان، صدق: كل ما ليس بحيوان ليس بإنسان؛ وإلا لصدق نقيضه؛ وهو: ليس كلّ ما ليس [بحيوان ليس]

(1)

بإنسان؛ ويلزمه: بعض ما ليس بحيوان إنسان؛ فتجعله صغرى؛ فتقول: بعض ما ليس بحيوان إنسان، وكل إنسان حيوان؛ ينتج: بعض ما ليس بحيوان حيوان؛ وهو مُحَال؛ "ومن ثَمَّ"

(2)

، أي: ومن أجل أن الموجبة الكلية تنعكس عكس النقيض إلى الموجبة الكلية، "انعكست السَّالبة" كلية أو جزئية، بعكس النَّقيض "سالبة جزئية"؛ أما الجزئية؛ فلأن الجزئيتين السَّالبتين نقيضا

(3)

الكُلّيتين الموجبتين

(4)

؛ والتلازمُ بين الشَّيئين يستلزم التَّلازم بين نقيضيهما

(5)

؛ وأمَّا الكلّية؛ فلأنها مستلزِمةٌ للجزئية المستلزِمة لِعَكسِهَا، وهي بعينها عكس الكُلّية.

الشرح: "وللمقدمتين

(6)

باعتبار" وضع "الوسط"

(7)

؛ وهو التعيين

(8)

مثلًا بين الحَدّين الآخرين، وهما: العالَم، والحادث مثلًا في قولنا: العالَم متغير، وكل متغير حادث - "أربعة

(1)

سقط في أ، ب، ت، خ.

(2)

في حاشية ج: قوله: ومن ثم

إلخ أي: من أجل أن الكليتين الموجبتين متلازمتان انعكست السالبة بهذا العكس، أما الجزئية فلأن الجزئيتين السالبتين نقيضا الكليتين الموجبتين، والتلازم بين الشيئين يستلزم التلازم بين نقيضيهما، وأما الكلية فلأنها مستلزمة للجزئية المستلزمة لعكسها، وهو بعينه عكس الكلية. قاله العضد.

(3)

في ت: نقيض.

(4)

في ح: الموجوبتين.

(5)

في ب، ت: نقيضهما.

(6)

في ب: وللمقدمات.

(7)

وضع الأوسط عند الحدين الآخرين يسمّى شكلًا، والأشكال أربعة؛ لأن الأوسط إن كان محمولًا في الصغرى موضوعًا في الكبرى، فالأول وإن كان محمولًا فيهما فالثاني وإن كان موضوعًا فيهما فالثالث وإن كان عكس الأول، أي موضوعًا في الصغرى ومحمولًا في الكبرى فالرابع، ثم إذا ركبت كل شكل باعتبار مقدمتيه في الإيجاب والسلب، والكلية والجزئية جاءت مقدراته العقلية ستة عشر؛ لأن الصغرى إحدى الأربع، والكبرى إحدى الأربع، ويضربُ الأربع في الأربع فيحصل ستة عشر، لكن منها ما لا يكون بالحقيقة قياسًا؛ لأنه غير منتج، فيسقط بحسب الشروط، ويكون محققاته ما يبقى بعد ذلك.

(8)

في ب: التغير.

ص: 319

لِمَوْضُوعِ النَّتِيجَةِ، مَوْضُوعٌ لِمَحْمُولِهَا، وَالثَّانِي: مَحْمُولٌ لَهُمَا، وَالثَّالِثُ: مَوْضُوعٌ لَهُمَا، وَالرَّابِعُ: عَكْسُ الْأَوَّلِ.

فَإِذَا رُكِّبَ كُلُّ شَكْلٍ؛ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئيَّةِ وَالْمُوجَبةِ وَالسَّالِبَةِ، كَانَتْ مُقَدَّرَاتُهُ سِتَّةَ عَشَرَ ضَرْبًا.

الشَّكْلُ الْأَوَّلُ أَبْيَنُهَا؛ وَلذلِكَ يَتَوَقَّفُ غَيْرُهُ عَلَى رُجُوعِهِ إِلَيْهِ،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أشكال

(1)

؛ فالأوَّل

(2)

: محمول لموضوع النتيجة، موضوع لمحمولها.

والثاني: محمول لهما.

والثالث: موضوع لهما.

والرابع: عكس الأول.

فإذا ركب كل شكل

(3)

؛ باعتبار" مقدمتيه في "الكُلّية والجزئية، والموجبة والسالبة، كانت مُقدَّراته العقليّة ستة عشر ضَرْبًا"؛ لأنَّ الصُّغْرى إحدى الأربع، والكبرى إحداها، وتُضْرَب

(4)

الأربعُ في الأربع؛ فتكون ستة عشر؛ لكن منها ما لا يكون بالحقيقة قياسًا؛ فيكون غير منتجٍ

(5)

؛ كما ستعرف، إن شاء الله تعالى.

الشرح: "الشكل الأول: أبْيَنُها

(6)

؛ ولذلك يتوقف غيره" من الأشكال في النِّتاجِ

(7)

"على

(1)

في حاشية ج: قوله: "أربعة أشكال" الهيئة الحاصلة من نسبة الأوسط إلى الأصغر والأكبر تسمى شكلًا. سعد الدين.

(2)

في ج: فالأول.

(3)

في ت: شيء.

(4)

في أ، ج، ح: ويضرب.

(5)

في ب: صحيح.

(6)

في أ، ب، ح: أثبتها. وأقول: الشكل الأول هو أبين الأشكال، ولذلك كان غيره موقوفًا على الرجوع إليه، فيكون إنتاجه إنما يعلم برجوعه إليه، لما علمت أن حقيقة البرهان وسط مستلزم للمطلوب حاصل للمحكوم عليه، وأن جهة الدلالة أن موضوع الصغرى بعض موضوع الكبرى، فالحكم عليه حكم عليه، وكلاهما صورة الشكل الأول، والعقل لا يحكم بالإنتاج إلا بملاحظة ذلك، سواء أصرح به أو لا، وليس من شرط ما يلاحظه العقل التمكن من تفسيره وتلخيص العبارة فيه، فلأجل ذلك تراه يحكم بأن ما تحقق فيه الرجوع إلى الشكل الأول تحقق فيه ذلك وهو سبب للإنتاج والفقه فيه فأنتج، وما لم يرجع إليه فهو بخلافه ولا تظنّنه محتَّجًا بعدم الدليل الخاص على عدم المدلول، فتحكم بغلطه وهو بريء من ذلك، وكيف يذهبُ على مثله أن انتفاء الدليل الخاص، بل انتفاء الدليل مطلقًا لا يوجب انتفاء المدلول، وقد كرّر ذلك في مواضع من كتابه وبيَّن ضروبًا بغير هذا الوجه من الخلف=

(7)

في ج: الإنتاج.

ص: 320

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رجوعه إليه"؛ لما تقدَّم من أن حقيقة البرهان وسطٌ مستلزِمٌ

(1)

المطلوبَ، حاصل للمحكوم عليه، وأن جهة الدلالة؛ أن موضوع الصغرى بعض موضوع الكبرى، فالحكم عليه حكم عليه؛ وهو صورة الشكل الأول، والعقل لا يحكم بالنتاج إلا بملاحظة ذلك؛ سواءٌ صرح

(2)

به أم لا، وليس من شرط

(3)

ما يلاحظه

(4)

العقل التمكُّنُ من تفسيره، والبَوْحُ به بصريح

(5)

العبارة، فما تحقَّقَ

= وغيره، بل قصده. إلى ما ذكرناه، ولا يستبعد أن يفطن ذكيٌّ بحكمة هي مناط الأمر، فيؤيدها باستقراء الجزئيات؛ فيتعاضد اللَّمية والأنية.

واعلم أن هذا الشكل يختص بأنه ينتج المطالب الأربعة، وبأنه ينتج الموجبة الكلية، وباقي الأشكال لا ينتج الموجبة الكلية، فلا ينتج الأربعة، بل إما جزئية أو سالبة، وكل ذلك استعمله عند التفصيل، ثم إن شرط إنتاجه أمران:

أحدهما: أن تكون الصغرى موجبة أوفى حكمها؛ ليتوافق الأوسط فيحصل أمر مكرر جامع، وذلك أن الحكم في الكبرى على ما هو أوسط إيجابًا، فلو كان المعلوم ثبوته للأصغر هو الأوسط سلبًا تعدد الأوسط فلم يتلاقيا، والمرادُ بـ"حكم الإيجاب" ما يستلزم إيجابًا نحو: لا شيء في "ج ب" وكل ما هو ليس "ب أ" فإنَّ: لا شيء من "ج ب" سالبة، لكنه في حكم: كل "ن" هو ليس "ب" سالبة المحمول.

وثانيهما: أن يكون الكبرى كلية ليعلم اندراج الأصغر فيه، إذ لو كانت جزئية جاز كون الأوسط أعم من الأصغر، وكون المحكوم عليه في الكبرى بعضًا منه غير الأصغر، فلا يندرج، فلا ينتج، وبحسب هذا الشرط يسقط السالبتان صغرى مع الكليتين والجزئيتين كبرى والموجبتان صغرى مع الجزئيتين كبرى، ويبقى صغرى موجبة، إمَّا كلية أو جزئية مع كبرى كلية إما موجبة أو سالبة، الأول: من موجبة كلية وكلية موجبة ينتج موجبة كلية: كل وضوء عبادة، وكلّ عبادة بنيَّة، ينتج: كل وضوء بنيَّة.

الثاني: كلية موجبة وكلية سالبة ينتج كلية سالبة، كل وضوء عبادة، وكل عبادة لا تصح بدون النيّة، ينتج: كل وضوء لا يصح بدون النيّة.

الثالث: جزئية موجبة وكلية موجبة ينتج موجبة جزئية، بعض الوضوء عبادة، وكل عبادة بنيَّة ينتج: بعض الوضوء بنيَّة.

الرابع: جزئية موجبة وكلية سالبة بنتج جزئية سالبة، بعض الوضوء عبادة، وكلُّ عبادة لا تصح بدون النيَّة، فبعض الوضوء لا يصح بدون النيَّة، فقد ظهر لك أنها تنتج المطالب الأربعة، وأنها بَيِّنة بذواتها لا يحتاج إنتاجها للمطلوب إلى دليل.

(1)

في ت: يستلزم.

(2)

في أ، ج: أصرح.

(3)

في ح: شرطه.

(4)

في ت: يلاحظ.

(5)

في أ، ب، ح: تصريح، وفي ت: تصرح.

ص: 321

وَيُنْتِجُ المَطَالِبَ الأَرْبَعَةَ، وَشَرْطُ نِتَاجِهِ إِيجَابُ الصُّغْرَى، أَوْ حُكْمُهُ؛ لِيتَوَافَقَ الْوَسَط، وَكُلِّيَّةُ الْكُبْرَى؛ لِيَنْدَرجَ؛ فَيُنْتِج، فَتَبْقَى أَرْبَعَةٌ: مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ، أَوْ جُزْئِيَّةٌ، وَكُلِّيَّةٌ مُوجَبَةٌ، أَوْ سَالِبَةٌ.

فيه الرجوعُ إلى الشكل الأول ينتج دون غيره.

"وينتج المطالبَ الأربعة" من الموجبتين: الكلية والجزئية، والسالبتين: الكلية والجزئية، وهي المحصوراتُ الأربعة، وغيْرُ الشَّكل الأول لا ينتجها

(1)

جميعًا، فإذا

(2)

الأول أشرف، "وشرطُ نتاجه"؛ كذا بخط المصنِّف، بدون ألف - وهو الصواب - وفي بعضِ النسخ: إنتاجه، بالألف، وهو لحن؛ بحسب كمية المقدمتين، وكيفيتهما - أمران:

أحدهما: "إيجاب الصغرى، أو حُكْمُهُ" أن يكون في حكم الإيجاب؛ بأن تكون

(3)

سالبة مركبة، وهي التي يجتمع فيها النَّفْي والإثبات؛ كقولنا: لا شيء من الإنسان بضاحكٍ بالفعل لا دائمًا؛ ومعنى قولنا: "لا دائمًا" هو: "كل إنسان ضاحك بالفعل؛ فإنَّ السَّالبة المذكورة في معنى الموجبة؛ لأن [أحد جزءيها]

(4)

موجَبٌ، وتوارد النفي والإثبات فيها على موضوعٍ واحدٍ، فيكون في قوة قولنا: كل إنسان ضاحك بالفعل لا دائمًا.

وإنما اشترط إيجاب الصغرى، أو كونَهَا في حكم الإيجاب؛ "ليتوافق الوسط" مع الأصغر بمعنى أن الأصغر يندرج تحت الأوسط؛ فيتعدَّى الحكم إلى الأصغر؛ فيحصل أمر مكرَّر جامع؛ وذلك أن الحكم في الكبرى على ما هو أوسط إيجابًا، فلو كان المعلوم ثبوتُه في الأصغرِ هو الأوسط سلْبًا، تعدَّد الأوسط؛ فلم يتلاقيا.

"وَ" الثاني: " [كلية]

(5)

الكبرى؛ ليندرج" الأوسط فيه؛ "فينتجُ"؛ إذ لو كانت جزئيةً

(6)

، جاز كون الأوسط أعم من الأصغر، وكون المحكوم عليه في الكبرى بعضًا منه - غيرُ الأصغر؛ فلا يندرج؛ فلا ينتج.

"تبقى"

(7)

الأضربُ المُتْتِجَةُ من الشَّكل الأول "أربعة: موجبة كلية، أو جزئية، وكلية؛ موجبة" كانت "أو سالبة"، أي: صغراه في الأضرب الأربعة موجبة، سواءٌ كانت

(8)

كلية أم

(1)

في حاشية ج: قوله: "لا ينتجها جميعًا بل ينتج ما عدا الموجبة الكلية".

(2)

في ب: فإن، وفي ت: ومن.

(3)

في ت: يكون.

(4)

في ت: أحدهما.

(5)

سقط في ت.

(6)

في ت: جزئيته.

(7)

في أ، ج، ح: يبقى.

(8)

في أ: أكانت.

ص: 322

الْأَولُ: كُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ، وكُلُّ عِبَادَةٍ بِنِيَّةٍ.

الثَّانِي: كُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ، وكُلُّ عِبَادَةٍ لَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ.

الثَّالِثُ: بَعْضُ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ، وكُلُّ عِبَادَةٍ بِنِيَّةٍ.

الرَّابِعُ: بَعْضُ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ، وكُلُّ عِبَادَةٍ لَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ.

الشَّكْلُ الثَّانِي: شَرْطُهُ؛ اختِلَافُ مُقَدِّمَتَيْهِ فِي الإْيجَابِ وَالسَّلْبِ، وَكُلِّيَّةِ كُبْرَاهُ؛ تَبْقَى أَرْبَعَةً وَلَا يُنْتِجُ إِلَّا سَالِبَةً.

جزئية، وكبراه كلية، سواء كانت

(1)

موجبةً أم سالبةً، وسقط ثمانية أضرب

(2)

.

"الأول": من موجبتين كلّيتين؛ ينتج موجبة كلية: "كل وضوء عبادة، وكل عبادة بِنِيَّةٍ"، فكل وضوء بِنِيَّةٍ.

"الثَّاني": من كلّيتين: الصغرى موجبة، والكبرى سالبة؛ ينتج كلية سالبة:"كل وضوء عبادة، وكل عبادة لا تصح بدون النِّيَّة"؛ فلا

(3)

وضوء يصح بدون النِّيَّةِ.

"الثالث": من موجبتين، والصغرى جزئية؛ ينتج موجبة جزئية:"بعض الوضوء عبادة، وكل عبادة بِنِيَّةٍ"؛ [فبعض الوضوء بِنِيَّةٍ]

(4)

.

"الرَّابع": [من موجبة جزئية صغرى، وسالبة كلية كبرى؛ ينتج سالبة جزئية]

(5)

: " [بعض الوضوء عبادة]

(6)

، وكل عبادة لا تصحّ بدون النِّيَّةِ"؛ فبعض الوضوء لا يصحّ بدون النِّيَّةِ.

الشرح: "الشَّكل الثَّاني:

(7)

شرطه؛ اختلاف مقدمتيه في الإيجاب والسَّلب، وكليةِ كبراه؛ تبقى" أضربه المنتجة

(8)

"أربعةً، ولا تُنْتِج

(9)

إلَّا سالبةً

(10)

.

(1)

في أ، ت، ج: أكانت.

(2)

قوله: "وسقط ثمانية أضرب" لعلهما سقطا؛ فإنه سقط بالشرط الأول ثمانية والثاني أربعة، وبيانه: أن إيجاب الصغرى يسقط ثمانية، وهي الحاصلة من ضرب السالبتين في المحصور - وأن الأربع، وكلية الكبرى تسقط أربعة أخرى، وهي الكبرى الموجبة الجزئية والسالبة الجزئية مع الموجبتين.

(3)

في أ، ت، ح: ولا.

(4)

سقط في أ، ج، ح.

(5)

سقط في أ، ج، ح.

(6)

سقط في أ، ح.

(7)

ينظر: حاشية شرح السلم للصبان ص (127)، والمطلع على ايساغوجي ص (56)، وتحرير القواعد المنطقية لقطب الدين الرازي (141).

(8)

أ، ب، ح: النتيجة.

(9)

في ب، ج: ينتج.

(10)

أقول: الشكل التالي شرط إنتاجه اختلاف مقدمتيه بالإيجاب والسلب وكلية كبراه، وفي خواصه أنه =

ص: 323

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= لا ينتج إلا سالبة، أمَّا الشرط الأول - أعني اختلاف مقدمتيه في الكيف - فلمّا علمت أنه لا ينتج إلَّا بردّه إلى الأول، وأن مخالفته للأول إنما هو في الكبرى وجب في ردّه إليه أن يعكس إحدى المقدمتين ويجعل كبرى، فإن كانتا موجبتين فباطل، أي: لا يمكن فيه ذلك؛ لأنه عكس ما يعكس منها جزئية لا يصلح كبرى للأول، وإن كانت سالبتين أمكن فيه ذلك، لكن لا ينتج؛ إذ يصير الصغرى سالبة في الأول، فلم يتلاقيا كما مَرَّ.

وأمَّا الشرط الثاني: هو كلية الكبرى، فلأنها إن كانت هي التي تنعكس فواضح؛ لأن الجزئية عكسها جزئية، فلا تصلح كبرى للأول، وإن كانت غير التي تنعكس بأن عكست الصغرى وجعلها كبرى، والكبرى صغرى، فلا بُدَّ من عكس النتيجة؛ إذ الحاصل منه سلب موضوع النتيجة عن محمولها، والمطلوب عكس ذلك، لكنها لا تنعكس؛ لأن القياس حينئذٍ في جزئية موجبة وكلية سالبة؛ فينتج سالبة جزئية، وأنها لا تنعكس.

وأمَّا كونها لا ينتج إلَّا سالبة فلأن كبراه عكس سالبة كلية أبدًا، إذ غيرها لا تنعكس، وتنعكس جزئية لا تصلح كبرى للأوّل، وقد علمت أن نتيجة مثله في الأول سالبة، فإن قلت: كيف توجد ذلك في قولك: بعض ج ليس ب، وكل "أب"؟ قلت: كل "أب" يستلزم لا شيء في "أ" ليس "ب" وينعكس إلى لا شيء من ليس ب أ، وينتج المطلوب، وضروب هذا الشكل باعتبار هذا الشرط أربعة؛ إذ قد يسقط الموجبة الكلية مع الموجبتين، والجزئية السالبة والكلية السالبة مع السالبتين، والجزئية الموجبة والموجبة الجزئية مع الموجبتين، والجزئية السالبة والسالبة الجزئية مع السالبتين والموجبة الجزئية.

تبقى الموجبتان مع السالبة الكلية، والسالبتان مع الموجبة الكلية.

الأول: كليتان والكبرى سالبة ينتج سالبة كلية: كل غائب مجهول الصفة، وكل ما يصح بيعه ليس بمجهول الصفة، فكل غائب لا يصح بيعه. وبيانه بعكس الكبرى؛ فإن قولنا: كل ما يصح بيعه ليس بمجهول الصفة تنعكس إلى: كلُّ مجهول الصفة لا يصح بيعه، فيصير: كل غائب مجهول الصفة، وكل مجهول الصفة لا يصح بيعه ينتج المطلوب في الأول.

الثاني: كليتان والكبرى موجبة نتج كلية سالبة كالأول: كلُّ غائب ليس بمعلوم الصفة، وكل ما يصح بيعه معلوم الصفة ينتج كالأول: كل غائب لا يصح بيعه. بيانه بعكس الصغرى وجعلها كبرى ثم عكس النتيجة، فإن قولنا: كل غائب ليس معلوم الصفة عكسه: كل معلوم الصفة ليس بغائب، فيصير هكذا: كل ما يصح بيعه معلوم الصفة، وكل معلوم الصفة ليس بغائب نتج: كل ما يصح بيعه ليس بغائب، وينعكس إلى: كل غائب ليس يصح بيعه، وهو المطلوب.

الثالث: جزئية موجبة صغرى، وكلية سالبة كبرى ينتج جزئية سالبة، بعض الغائب مجهول، وكل ما يصح بيعه ليس بمجهول ينتج: بعض الغائب لا يصح بيعه، وبيانه بعكس الكبرى كالأول سواء.

الرابع: جزئية سالبة صغرى وكلية موجبة كبرى ينتج سالبة جزئية، بعض الغائب ليس بمعلوم، وكل =

ص: 324

أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِوُجُوبِ عَكْسِ إِحْدَاهُمَا، وَجَعْلِهَا الْكُبْرَى، فَمُوجَبَتَانِ بَاطِلٌ، وَسَالِبَتَانِ لا تَتَلاقَيَانِ، وَأَمَّا كُلِّيَّةُ الْكُبْرَى، فَلِأَنَّهَا إِنْ كَانَتِ الَّتِي تَنعَكِس، فَوَاضِحٌ، وَإِنْ عُكِسَتِ

أمَّا الأول"؛ وهو وجوب اختلاف مقدمتيه؛ "فلوجوب عكس إحداهما"

(1)

؛ إذ هو قد خالف الأول في الكبرى؛ ولا بد من رده إليه؛ كما تقدَّم؛ فيجب عكس إحداهما.

إما بعكس الكبرى فقط، وجَعْلِها كبرى للشكل الأول، وإما بعكس الصغرى، وجعلها كبرى، والكبرى صغرى؛ فعلى التقديرين يجب عكس إحدى مقدمتيه، "وجَعْلِها" أي: المقدمةِ المعكوسةِ إليها "الكبرى"، فالمركَّب من موجبتين باطلٌ؛ لأنه إذا عكست إحدى مقدمتيه، يكون

(2)

جزئيًّا؛ لأن الموجبة لا تنعكس

(3)

بالعكس المستوِي إلا جزئيةً

(4)

، فلو جعلت كبرى في الشكل الأول، يلزم أن تكون الكبرى في الأولى

(5)

جزئية، وسالبتان لا يتلاقيان أصلًا؛ إذ يلزم أن تكون

(6)

الصُّغرى في الأول سالبة، وهو يوجب عدم التَّلاقي بين الأوسط والأصغر؛ فلا تحصل النَّتيجة، وإلى هذا أشار بقوله: "فموجبتان باطل، وسالبتان لا تتلاقيان.

وأما" اشتراط "كلية الكبرى؛ فلأنها إنْ كانت هي التي تنعكس، فواضح"؛ لأن الجزئية، عكسها جزئية؛ فلا تصلح كبرى للأول، "وإن" كانت غيرها، فهو

(7)

حينئذٍ بعكس الصغرى؛ لأن الرَّدَّ إلى الأول: إما بعكس الكبرى، وهو ما عرفْتَ، أو الصغرى، فإذا "عُكِسَت الصغرى"،

= ما يصح بيعه معلوم، فبعض الغائب لا يصح بيعه، بيانه بعكس الكبرى، وهو قولنا: كل ما يصح بيعه معلوم بعكس النقيض إلى قولنا: كل ما ليس بمعلوم لا يصح بيعه، وهو مع الصغرى نتج المطلوب.

واعلم أن بين الإنتاج في هذا الضرب بالخلف، وهو أن نأخذ نقيض المطلوب، وهو قولنا: كل غائب يصح بيعه، وتجعده لكونها موجبة صغرى وكبرى القياس لكونها كلية كبرى، هكذا: كل غائب يصح بيعه، وكل ما يصح بيعه معلوم، فاللازم كل غائب معلوم، وهذا يناقض الصغرى، وهي قولنا: بعض الغائب ليس بمعلوم، فلا يجتمعان صدقًا، لكن الصغرى صادقة؛ لأن المفروض ذلك؛ فتعيّن كذب هذا، وهو مستلزم لكذب مجموع المقدمتين المنتجين لهذا، ولصدق الكبرى يكون الكاذبة هي الأخرى، أعني نقيض المطلوب، وإذا كذب نقيض المطلوب كان المطلوب صادقًا، وهو المدعي، وهكذا في الضروب الثلاثة الأخرى.

(1)

في أ، ب، ت: إحديهما.

(2)

في أ، ج، ح: تكون.

(3)

في ت: ينعكس.

(4)

في ت: جزئيته.

(5)

في ج: الأول.

(6)

في ج: تكون.

(7)

في ب، ت: وهو.

ص: 325

الصُّغْرَى، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ سَالِبَةً؛ لِتَتَلاقَيَا، وَيَجِبُ عَكْسُ النَّتِيجَةِ؛ وَلَا تَنعَكِسُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ جُزْئِيَّةً سَالِبَةً.

الْأَوَّلُ: كُلِّيَّتَانِ، وَالْكُبْرَى سَالِبَةٌ: الْغَائِبُ مَجْهُولُ الصِّفَةِ، وَمَا يَصِحُّ بَيْعُه، لَيْسَ بِمَجْهُولٍ؛ وَيُتَبَيَّنُ بِعَكْسِ الْكُبْرَى.

الثَّانِي: كُلِّيَّتَانِ، وَالْكُبْرَى مُوجَبَةٌ: الْغَائِبُ لَيْسَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ، وَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ مَعْلُومٌ؛ وَلازِمُهُ كَالْأَوَّلِ؛ وَيُتَبَيَّنُ؛ بِعَكْسِ الصُّغْرَى، وَجَعْلِهَا الْكُبْرَى، وَعَكْسِ النَّتِيَجَةِ.

وجعلت كبرى، والكبرى صغرى، "فلا بدَّ أن تكون

(1)

الصغرى سالبة" كلية؛ فإنها إن لم تكن كذلك، لزم القياس عن جزئيتين؛ إذ التقدير؛ أن الكبرى جزئية، والصغرى، إذا لم تكن سالبةً كليةً، تصير بالعكس جزئيةً، ولا قياس على جزئيتين

(2)

؛ لعدم وجوب التلاقي بين الأوسط والأصغر حينئذٍ؛ فوضح اشتراط كونها سالبة كلية؛ "ليتلاقيا، ويجب عكس النتيجة"، إذا كانت الصغرى سالبة كلية، وعكستها

(3)

، وجعلْتَ الكبرى صغرى، والصغرى كبرى؛ لأنّ المطلوب نتيجة الشَّكل الثَّاني، "ولا تنعكس

(4)

؛ لأنها تكون جزئية سالبةً".

الشرح: الضرب "الأول: كليتان [، و] الكبرى سالبة"؛ كقولنا في بيع الغائب: "الغائب مجهول الصفة، وما يصح بيعه ليس بمجهول"؛ ينتج: الغائب لا يصح بيعه؛ "ويتبين" نِتَاجُ هذا الضرب؛ "بعكس الكُبْرَى"؛ ليرجع إلى الشكل الأول، فيعكَسُ قولنا: كل ما يصح بيعه [ليس]

(5)

بمجهول الصِّفَةِ، إلى قولنا: كلّ مجهول الصفة لا يصح بَيْعُه، ويصير

(6)

هكذا

(7)

: كلّ غائب مجهول، وكل مجهول الصِّفَةِ لا يصح بيعه؛ يتتج المطلوب.

"الثَّاني: كليتان [، و] الكبرى موجبة: الغائب ليس مَعْلُومَ الصفة، وما يصح بيعه معلوم"(الصفةِ)

(8)

"؛ يتتج: الغائب لا يصح بيعه؛ "ولازمه كالأول"، أي: تكون نتيجة هذا الضَّرب سالبةً كلية؛ كما في الضرب قبله؛ "ويتبين"

(9)

نِتَاجُ هذا الضرب؛ "بعكسِ الصُّغرى، وجعلِهَا" كبرى، و"الكبرى" صغرى، "وعكْسِ النتيجة"، أي: ثم عكس النتيجة، فيجعل مثلًا. قولك: "ما يصح

(1)

في ت: يكون.

(2)

في ت: جزئية.

(3)

في ب: عكسها.

(4)

في ت: ينعكس.

(5)

سقط في ح.

(6)

في أ، ب، ح: ويعتبر.

(7)

في ح: هذا.

(8)

سقط في أ، ت، ح.

(9)

في ح: ويبني.

ص: 326

الثَّالِثُ: جُزْئِيَّةٌ مُوجَبَةٌ، وَكُلِّيَّةٌ سَالِبَةٌ: بَعْضُ الْغَائِبِ مَجْهُولٌ، وَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ لَيْسَ بِمَجْهُولٍ؛ فَلَازِمُهُ بَعْضُ الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ؛ وَيُتَبَيَّنُ بِعَكْسِ الْكُبْرَى.

الرَّابِعُ: جُزْئِيَّةٌ سَالِبَةٌ وَكُلِّيَّةٌ مُوجَبَةٌ: بَعْضُ الْغَائِبِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، وَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ مَعْلُومٌ وَيُتَبَيَّنُ بِعَكْسِ الْكُبْرَى؛ بِنَقِيضِ مُفْرَدَيْهَا.

وَيُتَبَيَّنُ أَيْضًا فِيهِ، وَفِي جَمِيع ضُرُوبِهِ؛ بِالْخُلْفِ؛ فَتَأْخُذُ نَقِيضَ النَّتِيجَةِ، وَهُوَ: كُلُّ غَائِبٍ يَصِحُّ بَيْعُه، وَتَجْعَلُهُ الصُّغْرَى؛ فَيُنْتِجُ نَقِيضَ الصُّغْرَى الصَّادِقَةِ، وَلَا خَلَلَ إِلَّا مِنْ نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ؛ فَالْمَطْلُوبُ صَدَقَ.

بيعه معلومٌ"، هو الصغرى، ويعكس قولك: الغائب ليس مَعْلُومَ الصفة فتقول: كل معلوم الصفة، ليس بغائب، وتجعلها الكبرى؛ فتصير

(1)

هكذا: كل ما يصح بيعه معلومُ الصِّفة، وكلّ معلوم الصّفة ليس بغائب؛ ينتج: كل ما يصح بيعه ليس بغائب؛ وينعكس: كلّ غائب لا يصحّ

(2)

بيعه، وهو المقصود، وهذا من جملة ما يقوم الدَّليل فيه على شيء، والمطلوبُ عكسه.

"الثالث: جزئية موجبة، وكلية سالبة"؛ ينتج سالبة جزئية: "بعض الغائب مجهول، وما يصح بيعه ليس بمجهول؛ فلازمه: بعض الغائب لا يصح بيعه؛ ويتبين" نتاجه؛ "بعكس الكُبْرَى"؛ كالأول سواء.

"الرابع: جزئية سالبة؛ صغرى، "وكلية موجبة" كبرى؛ ينتج جزئية سالبة: "بعض الغائب ليس بمعلوم، وما يصحّ بيعه معلوم؛ فبعض الغائب لا يصح بيعه؛ "ويتبين" نتاجه؛ "بعكس الكُبْرَى"، وهو قولنا: كلّ ما يصح بيعه معلوم؛ "بنقيض مفرديها"، أي: بعكس النقيض، إلى قولنا: كل ما ليس بمعلوم لا يصحّ بيعه؛ وهو مع الصغرى ينتي المطلوب.

الشرح: "ويتبين" نتاجه "أيضًا فيه"، أي: في هذا الضرب، "وفي جميع ضروبه" التي عرفْتَها؛ "بالخُلْف؛ فتأخذُ نقيضَ النتيجة؛ وهو "قولنا:"كل غائبٍ يصح بيعه، وتجعله"؛ لكونها موجبةً "الصُّغرى"؛ وتجعل كبرى القياس؛ لكونها كلية - كبرى، فيصير

(3)

هكذا: كل غائب يصح بيعه، وكلّ ما يصح بيعه معلوم؛ واللازم: كلّ غائب معلوم؛ وهذا يناقض الصغرى، وهي قولنا: بعض الغائب ليس بمعلوم، وإليه أشار بقوله:"فينتج نقيض الصُّغرى الصَّادقة"؛ فلا يجتمعان، والغرض أن الصُّغرى صادقة؛ فيتعين كذب هذا، "ولا خلل إلَّا من نقيض المطلوب"؛ لأن الكبرى مفروضة الصِّدْق كما قلناه، "فالمطلوب صدق".

(1)

في ب، ت: فيصير.

(2)

في أ، ب، ح: يصح.

(3)

في أ، ج، ح: فتصير.

ص: 327

الشَّكْلُ الثَّالِثُ: شَرْطُهُ؛ إِيجَابُ الصُّغْرَى، أَوْ فِي حُكْمِهِ، وَكُلِّيَّةُ إِحْدَاهُمَا؛ تَبْقَى سِتَّةً، وَلَا يُنْتِجُ إِلَّا جُزْئِيَّةً؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَكْسِ إِحْدَاهُمَا، .........

وقد اعترض بعضُهم؛ بأنه، لِمَ قلت: إن المحال إنما لزم من صدق الصغرى التي هي نقيض المطلوب؟ بل من اجتماع الصغرى مع الكبرى؛ فإنه المُحَال، ولا يلزم منه إحالة الصغرى في نفسها؛ كما أن اجتماع كتابة زيد، مع عدم كتابته في الواقع مُحَالٌ، وإحالة هذا الاجتماع لا تقتضي إحالة الكتابة، ولا عدمها في نفسه، وهذا المنع يتوجَّهُ على سائر البراهين الخلقية

(1)

.

الشرح: "الشكل الثالث

(2)

: شرطه؛ إيجاب الصغرى، أو في حكمه"؛ كما ذكرنا في الأول، "وكليةُ إحداهما"، أي

(3)

: تكون إحدى مقدمتيه كلية؛ "تبقى" أضربه "ستة، ولا ينتج إلا جزئية

(4)

؛ أما" الشرط "الأول"، وهو كون الصغرى موجبة، أو في حكم الإيجاب؛ "فلأنه لا بد"

(1)

في ح: الخليقية.

(2)

ينظر: حاشية شرح السلم للصبان ص (129)، والمطلع ص (56)، وتحرير القواعد (143).

(3)

في ج: أي أن.

(4)

شرط إنتاج الشكل الثالث، أن تكون صغراه موجبة أو في حكمها كما ذكرنا في الأول، وأن يكون إحدى مقدمتيه كلية، وفي خواصّه أن نتيجته لا تكون إلا جزئية، أما الشرط الأول وهو إيجاب الصغرى؛ فلأنه إنما يرتد إلى الأول بعكس إحداهما وجعلها صغرى لموافقته له في الكبرى، والتي تعكس إمَّا الصغرى أو الكبرى، فإن كانت الصغرى، فإذا عكستها كانت الصغرى سالبة في الأول، فلم يتلاق الطرفان، وإن كانت الكبرى فهي إمَّا موجبة أو سالبة، فإن كانت سالبة، فإذا جعلتها صغرى للأول لم يتلاق الطرفان مطلقًا، فلا يلزم حمل الأصغر على الأكبر، ولا حمل الأكبر على الأصغر، وإن كانت موجبة تعكسها جزئية لتجعلها صغرى والصغرى كبرى وهي سالبة، فينعقد قياس في الأول في صور جزئية موجبة، وكبرى كلية سالبة، فينتج جزئية سالبة، ويتلاقيان على أن الأصغر محمول على بعض الأكبر، ثم لا بُدَّ من عكس النتيجة، وإلا لكان غير المطلوب كما علمت، لكن الجزئية السالبة لا تنعكس كما علمت.

وأما الشرط الثاني وهو كلية إحدى مقدمتيه؛ فلأنه لا بُدَّ في ردّه إلى الأول وكبراه كلية، فالجزئية لا تصلح لذلك لا بنفسها ولا بعد عكسها؛ لأن عكس الجزئي جزئي.

وأما أنه لا ينتج إلا جزئية؛ فلأن الصغرى لكونها عكس إحدى المقدمتين مع وجوب إيجابها في الأول تكون عكسية موجبة، أو ما في حكمها فتكون الصغرى جزئية، فالجزئية لا تنتج إلا جزئية، فضروب هذا الشكل بحسب الشرط المذكور ستة؛ إذ يسقط السالبتان صغرى مع الأربع، والموجبة الجزئية مع الجزئيتين، وتبقى الموجبة الكلية مع الأربع، والجزئية مع الكليتين، الأول كلية موجبة وكلية موجبة "كل بُرٍّ مقتات، وكلُّ بُرٍّ ربوي، فبعض المقتات ربوي، بيانه بعكس الصغرى ليصير: =

ص: 328

وَجَعْلِهَا الصُّغْرَى، فَإِنْ قَدَّرْتَ الصُّعْرَى سَالِبَةً، وَعَكَسْتَهَا، لَمْ تَتَلاقَيَا، وَإِنْ كَانَ الْعَكْسُ فِي الْكُبْرَى، وَهِيَ سَالِبَةٌ، لَمْ تَتَلاقَيَا مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَتْ مُوجَبَةً، فَلا بُدَّ مِنْ عَكْسِ النَّتِيجَةِ؛ فَلا

في رَدّه إلى الأول؛ "من عكس إحداهما، وجعلِها الصُّغرى"؛ لموافقته له في الكبرى، "فإن قدَّرْتَ الصُّغرى سالبة، وعكستها، لم تتلاقيا.

وإن كان العكس في الكبرى، وهي": إما "سالبة" أو موجبة، فإن كانت سالبةً "لم تَتَلاقَيَا مطلقًا"، أي: إذا جعلتها صغرى الأول؛ فلا يلزم حملُ الأصغر على الأكبر، ولا الأكبرِ على الأصغرِ، "وإن كانت موجبةً"، فعكسها جزئية؛ بجعلها صغرى، والصغرى كبرى، وهي سالبة؛

= بعض المقتات بُرٌّ وكل بُرٍّ ربوي.

الثاني: جزئية موجبة وكلية موجبة ينتج موجبة جزئية، بعض البر مقتات، وكلُّ بُرٍّ ربوي نتج كالأول، فبعض المقتات ربوي، ويتبين كالأول بعكس الصغرى.

الثالثة: كلية موجبة وجزئية موجبة ينتج موجبة جزئية، كل بُرٍّ مقتات، وبعض البر ربوي ينتج كالأول، أي: كلازم الأول، أو كما ينتج الضرب الأول وهو: بعض المقتات ربوي، وبيانه لا يمكن بعكس الصغرى؛ لأنه لا يصير في جزئيتين، بل بعكس الكبرى وجعله صغرى يصبر: بعض الربوي بُرٌّ، وكُلُّ بُرٍّ مقتات، ينتج: بعض الربوي مقتات، وتنعكس: بعض المقتات ربوي، وهو المطلوب.

الرابع: كلية موجبة وكلية سالبة ينتج سالبة جزئية: كلُّ بُرٍّ مقتات، وكل بُرٍّ لا يصح بيعه بجنسه متفاضلًا، فبعض المقتات لا يصح بيعه بجنسه متفاضلًا، وبيانه بعكس الصغرى كالأول.

الخامس: جزئية موجبة وكلية سالبة ينتج جزئية سالبة، بعض البر مقتات، وكل بُرٍّ لا يصح بيعه بجنسه متفاضلًا، ينتج: بعض المقتات لا يصح بيعه بجنسه متفاضلًا، وبيانه أيضًا بعكس الصغرى.

السادس: كلية موجبة وجزئية سالبة نتج جزئية سالبة، كلُّ بُرٍّ مقتات وبعض البر لا يصح بيعه بجنسه متفاضلًا ينتج: بعض المقتات لا يصح بيعه بجنسه متفاضلًا، وبيانه بأن يقتضي على الكبرى بأنها في حكم موجبة، وهو قولنا: بعض البر هو لا يباع على أن السلب جزء المحمول، وقد أثبت السلب للموضوع، ويسمى مثله موجبة سالبة المحمول، وهو لازمة للسالبة، وحينئذٍ تنعكس إلى قولنا: بعض ما لا يباع بجنسه متفاضلًا بُرٌّ، ويجعله صغرى لقولنا: كلُّ بُرٍّ مقتات ينتج ما تنعكس إلى المطلوب، وبهذا الضرب قد تبين بالخلف أيضًا، وهو أن يأخذ نقيض النتيجة كما أخذت في الشكل الثاني إلَّا أنك كنت هناك تجعله صغرى لكبرى القياس، وهنا تجعله كبرى لصغرى القباس، وذلك لأنَّ عكس الصغرى دائمًا موجبة، ونقيض النتيجة دائما كلية، فنقول: لو لم يصدق: بعض المقتات لا يباع لصدق. نقيضه، وهو كل مقتات يباع، فإذا جعلنا كبرى لقولنا: كلُّ بُرٍّ مقتات أنتج: كلُ برٍّ يباع، وكأن الكبرى: بعض البر لا يباع، هذا خلف، وتقريره ما تقدم، وكذلك الضروب الخمسة الباقية، وطريقه ما علمته، ولا يخفى تفصيله. ينظر: شرح المقدمة.

ص: 329

تَنْعَكِس، وَأَمَّا كُلِّيَّةُ إِحْدَاهُمَا، فَلْتكُنْ هِيَ الْكُبْرَى آخِرًا بِنَفْسِهَا أَوْ بِعَكْسِهَا؛ وَأَمَّا نِتَاجُهُ جُزْئِيَّةً فَلِأَنَّ الصُّغْرَى عَكْسُ مُوجَبَةٍ أَبَدًا، أَوْ فِي حُكْمِهَا.

الْأَوَّلُ: كِلْتَاهُمَا كُلِّيَّةٌ مُوجَبَةٌ: كُلُّ بُرٍّ مُقْتَاتٌ، وَكُلُّ بُرٍّ رِبَوِيٌّ؛ فَيُنْتِجُ: بَعْضُ المُقْتَاتِ رِبَوِيٌّ؛ وَيُتبيَّنُ بِعَكْسِ الصُّغْرَى.

فيصير منعقدًا من صغرى موجبة جزئية، وكبرى سالبة كلية؛ يتتج: جزئية سالبة، ويتلاقيان على أنَّ الأصغر محمولٌ على بعض الأكبر، ثم لا بُدَّ من عكس النتيجة، وإلَّا لكان غَيْرَ المطلوب؛ كما علمت، لكن الجزئية السَّالبة لا تعكس، وإلى هذا أشار بقوله:"فلا بد من عكس النتيجة؛ ولا تنعكس"

(1)

.

"وأما" الثَّاني، وهو اشتراط "كلية إحداهما

(2)

، فلتكُنْ هي الكبرى آخِرًا"، أي: بعد الرد إلى الشكل الأول؛ تصير تلك المقدّمة الكليةُ كبرى "(بنفسها"؛ من غير عكسها، "أو "لتكُنْ المقدمة الكليَّة كبرى)

(3)

في الشَّكل الأولّ؛ "بعكسها"، أي: بعكس كبرى هذا الشكل، وجعلِها صغرى؛ وصغرَى هذا الشَّكل كبرى في الشَّكل الأولّ؛ وهذا إذا كانت تلك المقدّمة الكلية صغرى.

والحاصل: أن إحدى مقدّمتي هذا الشَّكل يجبُ كونها كليةً؛ فتصير كبرى في الشَّكل الأول، بعد ارتداد هذا الشَّكل إليه.

"وأما نتاجه جزئيةً؛ فلأن الصُّغرى عَكْسُ موجبةٍ أبدًا، أو في حكمها"، أي: ما يجعل من إحدى مقدمتي هذا الشَّكل صغرى في الشكل الأول، يكون أبدًا عكْسَ موجَبَةِ هذا الشكل، أو عَكْسَ ما هو في حكمِ الموجبة؛ لوجوب كون الصغرى موجبةً في الشكل الأول، أو في حكمها، وعكس الموجبة أو ما في حكمها تكون جزئية، وإذا كانت إحدى المقدمتين جزئيةً بعد الارتداد إلى الشكل الأول؛ فلا ينتج

(4)

إلا جزئية

(5)

.

الشرح: الضرب "الأول" من أضرب هذا الشكل: مقدمتان: "كلتاهما

(6)

كلية موجبة"؛ ينتج جزئية موجبة: "كل بُرٍّ مُقْتَاتٌ، وكل بُرّ رِبَوِيٌّ؟ فينتج: بعض المقتات ربوي؛ ويتبين بعكس الصغرى" - نتاجه؛ ليَرْجِعَ إلى الشكل الأول؛ [ويتبيَّن نتاجُهُ]

(7)

أيضًا بعكس الكبرى، وجعلها

(1)

في ت: ينعكس.

(2)

في ت: أحدهما.

(3)

سقط في ج.

(4)

في ب: تنتج.

(5)

في ت: جزئيته.

(6)

في ج، ح: كلاهما.

(7)

في ج: ويتبين نتاجه.

ص: 330

الثَّانِي: جُزْئِيَّةٌ مُوجَبةٌ، وَكُلِّيَّةٌ مُوجَبَةٌ: بَعْضُ الْبُرِّ مُقْتَاتٌ، وَكُلُّ بُرٍّ رِبَوِيٌّ؛ فَيُنْتِجُ مِثْلَهُ؛ وَيُتَبَيَّنُ كَالْأَوَّلِ.

الثَّالِثُ: كُلِّيَّةٌ مُوجَبَةٌ، وَجُزْئِيَّةٌ مُوجَبَةٌ: كُلُّ بُرٍّ مُقْتَاتٌ، وَبَعْضُ الْبُرِّ رِبَوِيٌّ؛ فَيُنْتِجُ مِثْلَهُ؛ وَيُتَبَيَّنُ؛ بِعَكْسِ الْكُبْرَى، وَجَعْلِهَا الصُغْرَى، وَعَكْسِ النَّتِيجَةِ.

الرَّابِعُ: كُلِّيَّةٌ مُوجَبَةٌ، وَكُلِّيَّةٌ سَالِبَةٌ: كُل بُرٍّ مُقْتَاتٌ، وَكُلُّ بُرٍّ لَا يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا؛ فَيُنْتِجُ: بَعْضُ الْمُقْتَاتِ لَا يُبَاعُ؛ وَيُتَبَيَّنُ بِعَكْسِ الصُّغْرَى.

الْخَامِسُ: جُزْئِيَّةٌ مُوجَبَةٌ، وَكُلِّيَّةٌ سَالِبَةٌ: بَعْضُ الْبُرِّ مُقْتَاتٌ، وَكُلُّ بُرٍّ لَا يُبَاعُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فَيُنْتِجُ؛ وَيُتَبَيَّنُ مِثْلُهُ.

السَّادِسُ: كُلِّيَّةٌ مُوجَبَةٌ، وَجُزْئِيَّةٌ سَالِبَةٌ: كُلُّ بُرٍّ مُقْتَاتٌ، وَبَعْضُ الْبُرِّ لَا يُبَاعُ بِجِنْسِهِ؛

صغرى، والصغرى كبرى، ثم عكسِ النتيجة.

"الثاني: جزئية

(1)

موجبة، وكلية موجبة"؛ يتتج موجبة جزئية:"بعض البُرّ مُقْتَات، وكل بُرّ ربويٌ؛ فينتج مثْلَهُ": بعض المُقْتَات رِبَوِيّ؛ "ويتبين" نتاجه بعكس الصغرى "كالأول".

"الثالث: كلية موجبة، وجزئية موجبة: كل بُرّ مُقْتَات، وبعض البُرّ ربوي؛ فينتج مثلَهُ": بعض المقتات ربوي؛ "ويتبين" نتاجه؛ "بعكس الكبرى، وجعلِها الصغرى، وعكس النتيجة"، ولا يمكن بيانه بعكس الصغرى؛ وإلا يلزم القياس عن جزئيتين

(2)

.

الرابع: كلية موجبة، وكلية سالبة: كل بُرّ مقتاتٌ، وكل بُرّ لا يباع بجنسه مُتَفَاضِلًا؛ فينتج:(بعضُ المُقْتَات لا يُبَاعُ" بجنسه متفاضِلًا؛ "ويتبين)

(3)

"نتاجه (مثلَهُ)

(4)

، أي:"بعكس الصُّغرى" [فقط؛ وهو ظاهر.

"الخامس: جزئية موجبة، وكلية سالبة"؛ يتتج: جزئية سالبة؛ فينتج: "بعض البُرّ مقتات، وكل مقتات لا يباع بجنسه متفاضِلًا؛ فينتج": بعضُ المُقْتَات لا يَصِحّ بيعه بجنسه متفاضلًا؛ "ويتبين" نتاجه "مثلَهُ"، أي: بعكس الصغرى]

(5)

؛ مثل الضَّرْبِ الرَّابع.

"السَّادس: كلية موجبة، وجزئية سالبة"؛ يتتج جزئية سالبة: "كل بُرّ مقتات، وبعض البُرّ لا

(1)

في ت: جزئيته.

(2)

في ب، ت: جزئين.

(3)

سقط في ح.

(4)

سقط في أ، ب، ج، ح.

(5)

سقط في ب، ت.

ص: 331

فَيُنْتِجُ مِثْلَهُ؛ وَيُتَبَيَّنُ؛ بِعَكْسِ الْكُبْرَى عَلَى حُكْمِ الْمُوجَبَةِ، وَجَعْلِهَا الصُّغْرَى، وَعَكْسِ النَّتِيجَةِ.

وَيُتَبَيَّنُ مَعَ جَمِيعِهِ؛ بِالْخُلْفِ أَيْضًا، فتَأْخُذُ نَقِيضَ النَّتِيجَةِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّكَ تَجْعَلُهُ الْكُبْرَى.

الشَّكْل الرَّابِع، وَلَيْسَ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا لِلأَوَّلِ؛ لأَنَّ هذَا: نَتِيجَتُهُ .........

يباع بِجِنْسِه؛ فينتج مثلَهُ": بعض المُقْتَات لا يُبَاع؛ "ويتبين" نتاجه؛ "بعكس الكُبْرى على حكم الموجبة، وجعلها الصغرى، وعكس النتيجة"، أي: بأن يُقضَى

(1)

على الكبرى؛ بأنها في حكم موجبةٍ، وهي قولنا: بعض البُرّ لا يُبَاع؛ على أن السَّلْب جزء المَحْمُول، وقد أثبت السَّلبُ للموضوع، ويسمى

(2)

مثله موجبةً سالبة المحمول، وهي لازمة للسَّالبة؛ وحينئذٍ تنعكس

(3)

إلى قولنا: بعض ما لا يُبَاع بجنسه متفاضلًا - بُرٌّ، ونجعله

(4)

صغرى لقولنا: وكل بُرّ مقتات؛ لينتج ما ينعكس إلى المَطْلُوب.

الشرح: "ويتبين" نتاجه أيضًا "مع جميعه"، أي: جميع ضروب هذا الشَّكل - "بالخلف أيضًا، فتأخذ

(5)

نقيضَ

(6)

النتيجة؛ كما تقدَّم؛ إلا أنك تجعله الكُبْرَى" لكليته، وتجعل

(7)

صغراه؛ لإيجابها - صغرى؛ لينتج من الشكل الأول نقيضَ الكبرى، ولا خلل إلَّا من نقيض المطلوب؛ لما ذكر في الشَّكل الثاني؛ فالمطلوب حقّ، وهو معنى قوله:(كما تقدم)، فلو لم يصدق مثلًا قولنا: بعض المقتات لا يُبَاع، لصدق نقيضه، وهو: كل مُقْتَات يُبَاع؛ فيجعل

(8)

كبرى لصغرى هذا الضَّرب، وهكذا؛ كل بُرّ مقتاتٌ، وكلّ مقتات يُبَاع متفاضلًا؛ ينتج: كل بُرّ يُبَاع متفاضلًا، وقد كان في الكُبْرَى: بعض البُرّ لا يُبَاع مُتَفاضلًا؛ وذلك خُلْفٌ.

الشرح: "الشكل الرَّابع"

(9)

، وقد يُظَنُّ أنه الشّكل الأول، وإنما حصل فيه تقديم وتأخير

(10)

؛ "وليس" كذلك؛ لأنه لو لم يكن شكلًا برأسه، بل كان هو الشكلَ الأولَ، إلَّا أن

(1)

في أ: نقضي، وفي ب، ج: تقضي، وفي ح: نقض.

(2)

في أ، ج، ح: تسمى.

(3)

في أ، ج، ح: ينعكس.

(4)

في ت: ويجعله.

(5)

في ب، ت: فيأخذ.

(6)

في ت: بعض.

(7)

في ح: نجعل، وفي ت: يجعل.

(8)

في ت، ح: فنجعل.

(9)

ينظر: حاشية شرح السلم ص (129)، والمطلع ص (56)، وتحرير القواعد ص (145).

(10)

أقول: الشكل الرابع، وقد يظن أنه هو الشكل الأول بعينه: قُدّم فيه الكبرى وأخر فيه الصغرى =

ص: 332

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= لموافقته له في الصورة، وليس كذلك؛ لأن الأشكال تتعيّن بتعيّن باعتبار موضوع النتيجة ومحمولها كما علمت، ولا يتعين ذلك إلَّا بتعيّن النتيجة، فإذًا إنما يكون شكلًا أو لا لو كان بنتيجته ونتيجته، وليس كذلك، بل نتيجته عكس نتيجة الأول؛ لأن المطلوب في قولك: كلُّ "ج ب" وكل "أ ج"، "أ ب"، بعض "أ ب"، لو جلعته في الشكل الأول لأنتج كل "أ ب"، والجزئية السالبة ساقطة في هذا الشكل لا تصلح لا صغرى له ولا كبرى؛ لأنه إنما يرتد إلى الأول بإحدى الطريقين، إمَّا عكس المقدمتين؛ مع بقاء الترتيب، وإمَّا بقاؤهما مع عكس الترتيب، ويعبّر عنه بقلب المقدمتين، ولا يتأتى شيء منهما إذا كانت فيه سالبة جزئية، أمَّا عكس المقدمتين فلأن هذه لا تنعكس، وأمَّا عكس الترتيب؛ فلأن السالبة الجزئية حينئذٍ إن كانت كبرى صارت صغرى الأول سالبة تجزئية، فلا يلتقي الطرفان، وإن كانت صغرى صارت كبرى الأول جزئية؛ فلا يعلم الاندراج، وإذا سقط بهذه فالصغرى إحدى الثلاثة الأخرى، فلنتكلم على التقديرات الثلاث.

الأول: أن تكون موجبة كلية، وحينئذٍ تجيء في الكبرى الثالثة؛ لأنها إن كانت سالبة عكستها أو عكست الصغرى ليرجع إلى الثاني، وإن عكست المقدمتين، وإن كانت موجبة كلية، فإن شئت عكست الكبرى، وإن شئت قلبت المقدمتين، أي عكست الترتيب، وإن كانت موجبة جزئية قلبت المقدمتين.

الثاني: أن يكون كلية سالبة، وحيتئذٍ يجب أن تكون الكبرى كلية موجبة، وإلا لكانت إمَّا جزئية موجبة، أو كلية سالبة، فإن كانت جزئية موجبة لم يمكن الطريقان، أما قلب المقدمتين؛ فلأن النتيجة لا بُدَّ من عكسها وهي جزئية سالبة لا تنعكس، وأمَّا عكسها؛ فلأنه يصير الكبرى جزئية في الأول، وإن كانت كلية سالبة صار القياس في سالبتين، فلا ينتجان أيّ تصرّف تصرّفت فيه، وإلى أي شكل رددته؛ لما علمت أنه لا قياس في سالبتين في شيء في الثلث.

الثالث: أن يكون جزئية موجبة، فيجب أن تكون الكبرى كلية سالبة، وإلَّا لكانت موجبة؛ لسقوط السالبة الجزئية، فإن كانت كلية لم يمكن الطريقان، أمَّا الأول فهو عكس المقدمتين؛ فلأن عكس الكلية الموجبة جزئية، ولا يصلح كبرى للأول. وأمَّا الثاني: هو قلب المقدمتين فلأنك إذا قلبت جعلت الجزئية الموجبة كبرى للأول فلم تنتج، وإن كانت جزئية فأبعد؛ إذ الجزئيتان وعكسهما جزئيتان فلا ينتجان بنفسهما ولا بعكسهما بوجه؛ ولأن إنتاج الجزئية يستلزم إنتاج الكلية؛ لأن لازم الأعم لازم الأخص، وقد علمت أن الكلية لا ينتج فقد علمت أن ضروب هذا الشكل خمسة.

الأول: كلية موجبة وموجبة كلية ينتج جزئية موجبة، كل عبادة مفتقرة إلى النية، وكل وضوء عبادة، ولازمه: بعض المفتقر وضوء، بيانه بالقلب في الصغرى والكبرى، ثم عكس النتيجة بأن تقول: كل وضوء عبادة، وكل عبادة مفتقرة، فبعض المفتقر وضوء، وهو المطلوب.

الثاني: مثله؛ لأن الثانية - أي الكبرى - جزئية فنقول: مكان: وكل وضوء عبادة: بعض الوضوء عبادة، والنتيجة والبيان كما هو في الأول. =

ص: 333

عَكْسُه، وَالجُزْئِيَّةُ السَالِبَةُ سَاقِطَةٌ؛ لأَنَّهَا لا تَنْعَكِس، وَإنْ بَقِيَتَا وَقُلِبَتَا، فَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةَ، لَمْ يَتَلاقَيَا، وَإنْ كَانَتِ الْأُولَى، لَمْ تَصْلُحْ لِلْكُبْرَى، وَإذَا كَانَتِ الصُّغْرَى مُوجَبَةً كُلِّيَّةً، فَالْكُبْرَى

بعض مقدّماته قدِّم على بعض - لم يصح؛ لأن مادة الشكل الأولِ؛ إنْ كانت كافيةً في استلزام النتيجة، وجب أن يُنْتِجَ الرَّابعُ نتيجةَ الأول؛ وليس كذلك، وإلى هذا أشار بقوله: ولَيْسَ هو "تقديمًا، وتأخيرًا للأول؛ لأن هذا "الشَّكل": نتيجة عكسه"، أي: عكسِ الشَّكل الأول، فإن

(1)

لم تكن مادته كافية في استلزام النتيجة - وجب ألَّا يُنْتِجَ

(2)

شيئًا أصلًا؛ لكنه ينتج؛ هذا خُلْف، "والجزئية السَّالبة ساقطة" في هذا الشكل، لا تستعمل فيه؛ إذ يمتنع رده إلى الشكل الأول حينئذٍ؛ لأن رده إليه: إما بعكس المقدمتين، وإما بقلبهما، وكل واحد منهما ممتنع

(3)

.

أما امتناع العكس، فظاهر؛ "لأنها" - أي: السَّالبة الجزئية - "لا تنعكس"، وأمَّا القَلْب، وهو المراد بقوله:"وإنْ بقيتا، وقلبتا، وإن كانت" السَّالبةُ الجزئيةُ هي "الثانية"، أي: الكبرى، فإذا جعلتها

(4)

صغرى، "لم يتلاقيا" - أي: الأوسط والأصغر -؛ فلا ينتج، "وإن كانت" السَّالبة الجزئية، هي "الأولى" - أي: الصغرى - فالنتيجة جزئية سالبة، ولا عكس لها - كذا بخطّ المصنّف - وفي بعض النسخ: "لم تصلح

(5)

للكبرى؛ لوجوب كون الكُبْرَى في الشكل الأول كليةً.

ويسقط بحسب هذا الشَّرْط - سبعةُ أضرب، وهي الحاصلة من ضرب السَالبة الجزئية [الصغرى، في الكُبْرَيات

(6)

الأربع، ومن ضرب السَالبة الجزئية]

(7)

الكبرى، في الصُّغْرَيات

= الثالث: كلية سالبة وكلية موجبة ينتج كلية سالبة، كل عبادة لا تستغني عن النيَّة، وكل وضوء عبادة ينتج كل مستغنى ليس بوضوء، وبيانه بالقلب في المقدمتين ثم عكس النتيجة، وهو ظاهر.

الرابع كلية موجبة وكلية سالبة ينتج سالبة جزئية، كل مباحٍ مستغنٍ، وكل وضوء ليس بمباح ينتج: بعض المستغنى ليس بوضوء، وبيانه بعكس المقدمتين حتى يصير جزئية موجبة وكلية سالبة؛ فينتج في الأول سالبة جزئية.

الخامس: جزئية موجبة وكلية سالبة ينتج جزئية سالبة: بعض المباح مستعنٍ، وكل وضوء ليس بمباح، فبعض المستغنى ليس بوضوء، وبهذا مثل الرابع في اللازم، والبيان بعكس المقدمتين.

ينظر: شرح المقدمة.

(1)

في أ، ح: وإن.

(2)

في ب: تنتج.

(3)

في أ، ج، ح: يمتنع.

(4)

في ت: جعلها.

(5)

في أ، ت، ج، ح: يصلح.

(6)

في أ، ح: الكبرى.

(7)

سقط في ت.

ص: 334

عَلَى الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَتْ سَالِبَةً كُلِّيَّةً، فَالْكُبْرَى مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ جُزْئِيَّةً، وَبَقِيَتْ، وَجَبَ جَعْلُهَا الصُّغْرَى، وَعَكْسُ النَّتِيجَةِ، وَإِنْ عُكِسَتْ، وَبَقِيَتْ، لَمْ تَصْلُحْ لِلْكُبْرَى، وَإِنْ كَانَتْ سَالِبَةً كُلِّيَّةً، لَمْ تَتَلَاقَيَا بِوَجْهٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً، فَالْكُبْرَى سَالِبَةٌ كُلِّيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُوجَبَةً كُلِّيَّةً، وَفَعَلْتَ الْأَوَّلَ، لَمْ تَصْلُحِ الصُّغْرَى لِلْكُبْرَى، وَإِنْ فَعَلْتَ الثَّانِي، صَارَتِ الْكُبْرَى جُزْئِيَّةً، وَإِنْ كَانَتْ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً فَأَبْعَدُ؛ فَيَنْتُجُ مِنْهُ خَمْسَةٌ.

الثلاث، أعني: ما عدا السَّالبةَ الجزئيةَ السَّاقطةَ من هذا الشكل.

"وإذا كانت الصُّغرى موجبةً كليةً، فالكبرى" تقع "على الثلاث" موجبةً كليةً وجزئية، وسالبةً كلية، فهذه الضروب الثلاثة تُنْتِج

(1)

، "وإن كانت" الصغرى "سالبة كلية، فالكبرى" يجب أن تكون "موجبة كلية؛ لأنها" - أي الكبرى - "إن كانت جزئية، وبقيتْ" بحالها، أي: لم تُعْكَس، "وجب جعلها الصغرى"، وعكس النتيجة، ولا تنعكس؛ لأنها سالبة جزئية، "وإن عُكِسَت" الكبرى، "وبقيتْ، لم تصلح للكبرى"، أي: لكبرى الشكل الأول؛ لأنها جزئية، " (وإن كانت" الكبرى "سالبةً كلية"، والتقدير أن الصغرى سالبةٌ كليةٌ أيضًا، "لم يتلاقيا بوجْهٍ"؛ إذ لا قياس على سالبتين أصلًا؛ فسقط بهذا

(2)

الشَّرطِ ضربان؛ وهما الحاصلان من ضرب الصغرى السَّالبة الكلية، في الكبرى السالبة الكلية، والموجبةُ الجزئية، وضربُها في الكبرى السالبة الجزئية، قد سقطت من الشَّرْط الأول)

(3)

، "وإن كانت" الصُّغرى "موجبة جزئية، فالكبرى سالبةٌ كلية؛ لأنها" - أي الكبرى - لو لم تكن سالبةً كلية، لكانت: إما موجبةً كليةً، أو موجبةً جزئية؛ إذ السَّالبة الكلية ساقطةٌ من الشَّرط

(4)

الأول؛ وعلى التقديرين، يمتنع الرد إلى الشَّكل الأول؛ أمَّا على التقدير الأول؛ فلأن الكبرى، "إن كانت موجبة كلية، وفعلْتَ الأول" - أي: القَلْبَ -؛ بأن بقيت الكبرى بحالها من غير عكسها - "لم تصلح" للكبرى - إذ تجعل "الصغرى" كبرى، والكبرى صغرى؛ فلا يصلح "للكبرى" في الأول؛ لأنها جزئية.

واعلم: أن في نسخة المصنّف (بدل الكبرى الصغرى)

(5)

؛ ولعلَّه وَهْمٌ أُصْلِح. "وإن فعلت الثاني" - أي: عكس المقدمتين -، "صارت الكبرى جزئية"؛ لأن الموجبة الكلية تنعكس جزئية، والكبرى الجزئية غير صالحة في الشكل الأول.

"وإن كانت" الكبرى جزئيةً "موجبةً"، والتقدير أنّ الصغرى أيضًا موجبة "جزئية، فأبعدُ"؛ إذ

(1)

في أ، ج، ح: ينتج.

(2)

في أ، ت، ج،: من هذا.

(3)

سقط في ح.

(4)

في ب: بالشرط.

(5)

في ب: بدل الصغرى الكبرى.

ص: 335

الْأَوَّلُ: كُلُّ عِبَادَةٍ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى النِّيَّةِ، وَكُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ؛ فَيُنْتِجُ: بَعْضُ الْمُفْتَقِرِ وُضُوءٌ؛

وَيُتَبَيَّنُ؛ بِالْقَلْبِ فِيهِمَا، وَعَكْسِ النَّتِيجَةِ.

الثَّانِي: مِثْلُه، وَالثَّانِيَةُ جُزْئِيَّةٌ.

الثَّالِثُ: كُلُّ عِبَادَةٍ لَا تَسْتَغْنِي، وَكُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ؛ فَيُنْتِجُ: كُلُّ مُسْتَغْنٍ لَيْسَ بِوُضُوءٍ؛ وَيُتَبَيَّنُ؛ بِالْقَلْبِ، وَعَكْسِ النَّتِيجَةِ.

الرَّابِعُ: كُلُّ مُبَاحٍ مُسْتَغْنٍ، وَكُلُّ وُضُوءٍ لَيْسَ بِمُبَاحٍ؛ فَيُنْتِجُ: بَعْضُ الْمُسْتَغْني لَيْسَ

لا قياس عن جزئيتين

(1)

أصلًا؛ بخلاف الموجبة الكلية الكبرى، مع الموجبة الجزئية الصغرى؛ فإنه وإن كان لا يُنْتِج في هذا الشكل، لكنه ينتج في غيره.

وسقط بهذا

(2)

الشرط ضربان أيضًا؛ وهما الحاصلان من ضرب الموجبة الجزئية الصُّغرى

(3)

(في)

(4)

الكبرى؛ موجبةً كليةً وجزئيةً؛ فإذن سقط من الشروط الثلاثة - أحَدَ عَشَرَ ضَرْبًا من الستةَ عَشَرَ؛ "فَيَنْتُجُ منه خمسةٌ".

الشرح: "الأول": (كليتان موجبتان)

(5)

؛ تنتج

(6)

جزئية موجبة: "كل عبادة مفتقِرةٌ إلى النِّيَّةِ، وكل وضوء عبادة؛ فينتج: بعض المفتقر" إلى النية "وضوء؛ ويتبين" نتاجه "بالقَلْبِ فيهما". في الصغرى والكبرى - "وعكسِ النتيجة" بعد القلب؛ بأن تقول

(7)

: كل وضوء عبادة، وكل عبادة مفتقرة إلى النِّيَّةِ؛ فكل

(8)

وضوء مفتقر؛ فبعض المفتقر وضوء، وهو المطلوب.

"الثاني: مثله، والثانيةُ": - أي الكبرى -: "جزئية"؛ فتقول: موضع كلّ عبادة مفتقرةٌ، بعضُ العبادة مفتقرةٌ؛ والنتيجة، والبيان؛ كما في الأول.

"الثالث": سالبة، وكلية موجبة؛ ينتج كلية سالبة:"كل عبادة لا تَسْتَغْنِي" عن النِّيَّةِ، "وكل وضوء عبادة؛ فينتج: كل مُسْتَغْنٍ ليس بوضوء؛ ويتبين بالقَلْبِ" في المقدمتين، "وعكسِ النتيجة" بعد القَلْب؛ وهو ظاهر.

"الرابع": كلية موجبة، وكلية سالبة؛ ينتج سالبة جزئية: "كل مباح مُسْتَغْنٍ، وكل وضوء

(1)

في ب: جزئين.

(2)

في أ، ج، ح، ت: من هذا.

(3)

في أ، ب، ح: صغرى.

(4)

سقط في ج.

(5)

في ت: كليان موجبان.

(6)

في أ، ت، ج، ح: ينتج.

(7)

في أ، ج: نقول.

(8)

في ب، ت، وكل.

ص: 336

بِوُضُوءٍ؛ وَيُتَبَيَّنُ بِعَكْسِهِمَا.

الْخَامِسُ: بَعْضُ الْمُبَاحِ مُسْتَغْنٍ، وَكُلُّ وُضُوءٍ لَيْسَ بِمُبَاحٍ؛ وَهُوَ مِثْلُهُ.

ليس بِمُبَاحٍ؛ فينتج: بعضُ المستغني ليس بوضوء؛ ويتبين" نتاجه "بعكسهما"، أي: عكسِ المقدمتين؛ حتى تصير

(1)

: جزئية موجبة، وكلية سالبة (في الأول)

(2)

؛ ينتج جزئية سالبة.

"الخامس": جزئية موجبة، وكلية سالبة

(3)

؛ ينتج جزئية سالبة: "بعض المُبَاح مستغنٍ، وكل وضوء ليس بمباح"، فبعض المستغني ليس بوضوء؛ "وهو مثله"، أي: مثل الرابع في اللازمِ عنه، والبيانُ بعكس المقدّمتين.

وقد تمَّ القَوْلُ في القِياسِ الاقْتِرَانِيّ.

(1)

سقط في ج.

(2)

في ج: سالبة جزئية، كل مباح مستغن في الأول.

(3)

القياس الاستثنائي ضربان:

الضرب الأول: ما يكون بالشرط، ويسمّى الاستثنائي المتصل، وتسمّى المقدمة المشتملة على الشرط شرطية، ويسمى الشرط مقدمًا والجزاء تاليًا، والمقدمة الأخرى استثنائية، وشرطه بعد كون النسبة بين المقدم والتالي كلية دائمة أن يكون في الاستثنائية الاستثناء إمَّا بعين المقدم فلازمه عين التالي، وإمَّا نقيض التالي فلازمه نقيض المقدم؛ إذ لو انتفى أحدهما لجاز وجود الملزوم مع عدم اللازم، وأنه يبطل كونه لازمًا، مثاله: إن كان هذا إنسانًا فهو حيوان، لكنه إنسان فهو حيوان، لكنه ليس بحيوان ليس بإنسان، ولا يلزم من استثناء نقيض المقدم نقيض التالي، ولا من استثناء عين التالي عين المقدم؛ لجواز أن يكون اللازم أعم كما في المثال المذكور، وكأنه قصد بذكر المثال التشبيه على هذا، نعم لو قُدّر التساوي لزم ذلك المقدّم للتالي، ولكن بخصوص المادة لا نفس صورة الدليل، وهو بالحقيقة بملاحظة لزوم المقدم التالي، وهو متصل آخر، ثم أكثر استعمال الأول، أي ما يستثنى فيه عين المقدّم أن يذكر الشرطية بلفظة "إن" فإنها وضعت لتعليق الوجود بالوجود وأكثر.

الثاني: وهو ما استثني فيه نقيض التالي أن يذكر الشرطية بلفظة "لو" فإنها لتعليق العدم بالعدم، وهذا الثاني وهو المذكور بـ"لو" يسمى قياس الخلف، وهو إثبات المطلوب بإبطال نقيضه كما قلنا: لو ثبت نقيض النتيجة لثبت منضمًا إلى مقدمة في القياس، فيلزم المحمول واللازم محمول؛ فلا يثبت.

الضرب الثاني: ما يكون هو بغير شرط، ويسمى استثنائيًا منفصلًا، ويلزم تعدد اللازم مع التنافي، أي يلزمه التنافي بين أمرين، وحينئذٍ يلزم من وجود هذا عدم ذلك، ومن وجود ذلك عدم هذا؛ إذ لولا ذلك، والفرض أنه لا لزوم صريحًا لكان أحدهما لا يستلزم الآخر ولا عدمه، فلا لزوم أصلًا فلا استدلال؛ لأنه إنما يكون بالملزوم على اللَّازم كما تقرر، ثم التنافي إن كان إثباتًا ونفيًا كان هناك =

ص: 337

‌الْقِيَاسُ الاسْتِثْنَائِيُّ

(1)

وَالاسْتِثْنَائِيُّ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ بِالشَّرْطِ؛ وَيُسَمَّى الْمُتَّصِلَ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمًا، وَالْجَزَاءُ تَالِيًا، وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِثْنَائِيَّةً؛ وَشَرْطُ نِتَاجِهِ أَنْ يَكُونَ الاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ الْمُقَدَّمِ؛ فَلَازِمُهُ عَيْنُ التَّالِي، أَوْ بِنَقِيضِ التَّالِي؛ فَلَازِمُهُ نَقِيضُ الْمُقَدَّمِ، وَهذَا حُكْمُ كُلِّ

الشرح: "والاستثنائي

(2)

ضربان:

ضرب" يكون "بالشَّرْط

(3)

؛ ويسمى" الاستثنائيَّ "المُتَّصلَ"، وتسمى

(4)

المقدمة [المشتملة]

(5)

على الشرط شرطيةً، "والشرطُ مقدَّمًا، والجزاءُ تاليًا، والمقدِّمةُ الثانيةُ استثنائيةً؛ وشرط نتاجه: أن يكون الاستثناء": إما "بِعَيْنِ المقدَّم؛ فلازمه عَيْن التالي"؛ لأن تحقُّق الملزومِ يوجب تحقُّقَ اللازمِ - "أو بنقيض التالي؛ فلازمه نقيض المقدَّم"؛ لأن انتفاء اللازم يوجب انتفاء

= تنافيان وفي كل تنافٍ لازمان، ذلك أربع نتائج يلزم باعتبار التنافي إثباتًا أن يكون وجود كل واحد منهما مستلزمًا لعدم الآخر؛ فيلزم في استثناء كل واحد نقيض الآخر، وباعتبار التنافي نفيًا أن يكون عدم كُلِّ واحد منهما مستلزمًا لوجود الآخر، فيلزم من استثناء نقيض كل واحد عين الآخر؛ فيجيء اللوازم الأربعة.

مثاله: العدد إمَّا زوج وإما فرد، لكنه زوج، فليس بفردٍ، ولكنه فرد، فليس بزوج، لكنه ليس بزوج، فهو فرد، لكنه ليس بفرد فهو زوج، وإن كان التنافي إثباتًا لا نفيًا لزم الأولان، أي من استثناء عين كل نقيض الآخر دون الآخرين، أي لا يلزم من استثناء نقيض كل عين الآخر، وهذا ظاهر مثاله: الجسم إمَّا جماد أو حيوان، لكنه جماد فليس بحيوان، لكنه حيوان فليس بجماد.

ولو قلت: لكنه ليس بجماد فهو حيوان، أو ليس بحيوان فهو جماد لم يكن لازمًا؛ لجواز انتفائهما كما في الشجر، وإن كان التنافي نفيًا لا إثباتًا لزِمَ الآخران: أي من استثناء نقيض كلّ عن الآخر دون الأوليين، أي: لا يلزم من استثناء عين كل نقيض الآخر وهو ظاهر، مثاله: الجسم الخنثى إمَّا لا رجل أو لا امرأة؛ إذ لا ينتفيان وإلَّا لكان رجلًا وامرأة لكن يجتمعان كالشجر، لكنه ليس بلا رجل فهو لا امرأة، أو ليس بلا امرأة فهو لا رجل.

ولو قلت: لكنه لا امرأة فليس لا رجل، أو لا رجل فليس لا امرأة لم يصدق؛ لاجتماعهما في الحجر. ينظر: شرح المقدمة.

(1)

في أ، ج، ح: يصير.

(2)

ينظر: تحرير القواعد ص (140)، وحاشية شرح السلم ص (125)، والمطلع ص (55)، الخبيص على التهذيب ص (155)، شرح الغرة (196 - 197).

(3)

في أ، ت، ح: بالشروط.

(4)

في ت: ويسمى.

(5)

سقط في ت.

ص: 338

لَازِمٍ مَعَ مَلْزُومِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا؛ مِثْلُ: إِنْ كَانَ هذَا إِنْسَانًا، فَهُوَ حَيَوَانٌ، وَأَكْثَرُ الْأَوَّلِ بِـ (إِنْ)، وَالثَّانِي بِـ (لَوْ) وَيُسَمَّى مَا بِـ (لَوْ) قِيَاسَ الْخُلْفِ؛ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْمَطْلُوبِ بِإِبْطَالِ نَقِيضِهِ.

الملزوم، "وهذا حكم كُلّ لازم، مع ملزومه"؛ فإنه يلزم من عين المَلزُومِ - عينُ اللازم، ومن نقيض اللَّازم - نقيضُ الملزوم؛ "وإلا لم يكن لازمًا"؛ لأن اللزوم هو امتناع تحقق الملزوم إلا عند تحقق اللازم؛ "مثل: إن كان هذا إنسانًا، فهو حيوان".

إن قلت: لكنه إنسان، أنْتَجَ: فهو حيوان، أو: ليس بحيوان، أنتج: ليس بإنسان، ولا يلزم من استثناء نقيضِ المقدَّم - نقيضُ التَّالي، ولا من استثناء عينِ التَّالي - عينُ المقدم؛ لجواز أن يكون اللازم أعم؛ كما في المثال المذكور.

ولعلَّ المصنّف قصد بذكر المِثَالِ التنبيهَ على هذا، نعم لو قُدِّر التَّسَاوي، لزم ذلك؛ وذلك لخصوص المَادَّة، لا لنفس صورة الدَّليل.

ويُشترطُ كونُ المتَّصلة موجبةً لزومية، والاستثناء كليًّا، إن كانت المتصلة جزئيةً، ويُشترط كونُ حالِ الاستثناء حالَ المُتَّصلة، إن كانت شخصيةً، وقد أهمل المصنّف ذلك، "وأكثر" استعمال "الأول"؛ وهو المتَّصل الذي يكون الاستثناء فيه بعين المقدّم - يكون "بـ (إن) "؛ فإنها لفظة موضوعة لتعليق الوجود بالوجود.

"و "أكثر "الثَّاني"؛ وهو ما يستثنى فيه نقيض

(1)

التَّالي "بـ (لو) "؛ فإنها حرف امتناع لامتناع؛ "ويسمى ما"، [أي]: الواقع "بـ (لو) - قياسَ الخُلْف؛ وهو إثبات المطلوب بإبطال نقيضه".

قال القاضي عَضُدُ الدِّين

(2)

الشَّارحُ: كما [لو]

(3)

قلنا: لو ثبت نقيض النتيجة، لثبت منضمًّا إلى مقدِّمة من القياس؛ فيلزم المحال، واللازم منتف؛ فلا يثبت

(4)

.

(1)

في أ، ت، ح: بعض.

(2)

عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، قاضي قضاة الشرق، العلامة عضد الدين الإيجي الشيرازي شارح مختصر ابن الحاجب، قال الإسنوي في طبقاته: كان إمامًا في علوم متعددة، محققًا مدققًا، ذا تصانيف مشهورة، منها: شرح المختصر لابن الحاجب، والمواقف، والجواهر، وغيرها في علم الكلام، وفي المعاني والبيان: الفوائد الغياثية، مولده بـ"إيج" بعد سنة ثمانٍ وسبعمائة. توفي سنة ثلاث وخمسين. من تلاميذه: شمس الدين الكرماني والسعد التفتازاني والعفيفي، وغيرهم. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 27، والأعلام 4/ 66، والإسنوي ص 341، والدرر الكامنة 2/ 322.

(3)

سقط في الأصول، والمثبت من "العضد".

(4)

ينظر: حاشية العضد 1/ 109.

ص: 339

وَضَرْبٌ بِغَيْرِ الشَّرْطِ؛ وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِلَ؛ وَيَلْزَمُهُ تَعَدُّدُ اللَّازِمِ مَعَ التَّنَافِي، فَإِنْ تَنَافَيَا إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، لَزِمَ مِنْ إثْبَاتِ كلٍّ - نَقِيضُه، وَمِنْ نَقِيضِهِ - عَيْنُهُ؛ فَيَجِيءُ أَرْبَعَةً؛ مِثَالُهُ: الْعَدَدُ: إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدُ؛ لكِنَّهُ إِلَى آخِرِهَا، وَإِنْ تَنَافَيَا إِثْبَاتًا لَا نَفْيًا، لَزِمَ

الشرح: "وضرب بغير الشرط؛ ويسمى "الاستثنائي المنفصل

(1)

؛ ويلزمه تعدد اللَّازم مع التنافي "

(2)

بين أمرين

(3)

؛ وحينئذٍ يلزم من وجود هذا - عدمُ ذاك، ومن عدمِ ذاك - وجودُ هذا؛ إذ لولا ذلك - والفرض

(4)

أنه لم يوجد لزوم صريح - لكان أحدهما لا يستلزم الآخر، ولا عدمَهُ؛ فلا استدلال؛ لأن الاستدلال إنما يكون بالملزوم عن اللَّازم؛ كما عرفت.

وإذا عرف التنافي؛ "فإن تنافيا إثباتًا ونفيًا"[معًا]

(5)

. بحيث لا يصدقان، ولا يكذبان - "لزم من إثبات كلٍّ نقيضُه، ومن نقيضِهِ عَيْنُهُ؛ فيجيء أربعة:

مثاله: العدد: إمّا زوج أو فرد؛ ولكنه إلى آخرها"، أي: اللوازم الأربعة.

فإن قلنا: ولكنه زوجٌ؛ فينتج: ليس بفردٍ - وفردٌ؛ فينتج: ليس بزوج، أو [ليس]

(6)

بزوج؛ فينتج: فهو فرد، أو ليس بفرد؛ فينتج: فهو زوج، فاستثناء عين الزوج ينتج نقيض

(7)

الفرد، وبالعكس، واستثناء نقيض الزوج ينتج عين الفرد، وبالعكس.

"وإن تنافيا إثباتًا لا نفيًا، لزم الأولانِ"، أي: مِنِ استثناء [عين كلّ نقيض]

(8)

- عينُ الآخر دون الآخَرَيْن؛ فلا يلزم [من]

(9)

استثناء نقيض كلٍّ عيْنُ الآخر؛ "مثاله: الجسم: إمّا جماد أو حيوان"؛ لكنه جماد؛ فليس بحيوان، لكنه حيوان؛ فليس بِجَمَادٍ.

ولو قلتَ: لكنه ليس بجماد؛ فهو

(10)

حيوان، أو ليس بحيوان؛ فهو جَمَادٌ - لم يكن لازمًا؛ لجواز انتفائهما؛ كما في النبات؛ فإنه ليس جمادًا ولا حيوانًا.

"وَإِنْ تنافيا نفيًا لا إثباتًا"، أي: كان كل منهما منافيًا لنفي الآخر - "لزم الأخيران"، أي: من

(1)

في كل النسخ: المتصل، والصواب ما أثبتناه.

(2)

في ت: الباقي.

(3)

أي وجودًا وعدمًا أو وجودًا فقط أو نفيًا فقط.

(4)

في ب: والغرض.

(5)

سقط في ج.

(6)

سقط في ت.

(7)

في ت: بعض.

(8)

سقط في ح.

(9)

سقط في ت.

(10)

في أ، ت، ح: وهو.

ص: 340

الْأَوَّلانِ؛ مِثَالُهُ: الْجِسْمُ: إِمَّا جَمَادٌ أَوْ حَيَوَانٌ، وَإِنْ تَنَافَيَا نَفْيًا لَا إِثْبَاتًا، لَزِمَ الْأَخِيرَانِ؛ مِثَالُهُ: الْخُنْثَى: إِمَّا لَا رَجُلٌ أَوْ لَا امْرَأَةٌ.

استثناء نقيض

(1)

الآخر، دون الأولَيْن.

"مثاله: الخُنْثَى

(2)

: إما لا رجل، أو لا امرأة"؛ فإنه يلزم من انتفاء لا رجلّ

(3)

- ثبوتُ لا امرأة

(4)

، وبالعكس.

ولا يلزم من تحقق أحدهما انتفاءُ الآخر؛ لجواز ألَّا يكون رجلًا ولا امرأة؛ وذلك باعتبار الصدق؛ ظاهرًا؛ إذ يصدق على الخُنْثَى المشْكلِ؛ أنه لا رجل ولا امرأة.

ونقل الغَزَّاليُّ في فرائض (الوسيط)

(5)

؛ عن بعض العلماء: أنه لا يرث؛ لأنه ليس بِذَكَرٍ ولا أُنْثَى، ولو صح هذا، لاستقام تمثيلُ المصنِّف.

ولكن الصَّواب - وهو مذهب الشَّافعي - أنه في نفس الأمر لا يخلو عن أن يكون رجلًا، أو امرأةً؛ فليحمل كلام المصنِّف على ما ذكرناه؛ من أن ذلك لا يطلق عليه ظاهرًا؛ ولذلك لو وقف على البنينَ والبنات، لم يدخل الخُنْثَى المشكِلُ؛ على وجه لبعض أصحابنا؛ لأنه لا يُعَدُّ من هؤلاء، و [لا]

(6)

من هؤلاء، ولكن الصحيح خلافه، نعم لو أفْرَدَ البنينَ عن البنات، أو

(7)

البناتِ عن البنين، لم يدخل.

وبعضهم مثَّل بقولنا: زيدٌ إما في الماء، أو لا يغرق

(8)

.

(1)

في ج: نقيض كل عين.

(2)

من الخنث، وهو اللين، وفي الشرع، شخص له آلتا الرجال والنساء أو ليس له شيء منهما أصلًا، والمشكل منه: من لا يترجح أمره إلى الرجولية والنسائية. ينظر: قواعد الفقه ص 282.

(3)

في أ، ج، ح، اللارجل، وفي ب: إلا رجل.

(4)

في أ، ج، ح: اللاامرأة، وفي ب: إلا امرأة.

(5)

في ت: الوسط.

(6)

سقط في أ، ج، ح.

(7)

في أ، ج، ح: و.

(8)

في ت: يعرف.

ص: 341

وَيُرَدُّ الاسْتِثْنَائِيُّ إِلَى الاقْتِرَانِيِّ؛ بِأَنْ يُجْعَلَ الْمَلْزُومُ وَسَطًا، وَالاقْتِرَانِيُّ إِلَى الْمُنْفَصِلِ بِذِكْرِ مُنَافِيهِ مَعَهُ.

الشرح: "وَيُردُّ" القياس "الاستثنائيُّ إلى الاقتراني

(1)

؛ بأن يجعل الملزوم وسطًا"؛ وثبوته - وهو

(2)

الاستثنائي - صغرى، واستلزامه - وهو المتّصل - كبرى؛ مثاله من النقيض

(3)

: الاثنان

(4)

: إما فرد أو زوج؛ لكنه زوج؛ فهو ليس بفرد؛ فإنه يتضمن؛ أنه كلُّ ما كان زوجًا، لم يكن فردًا، فنقول: الاثنان زوج، [وكل زوج]

(5)

ليس بفرد؛ فالاثنان ليس بفرد، وقِسْ على هذا.

ويردُّ "الاقْتِرَانِيُّ"

(6)

إلى الاستثنائي أيضًا

(7)

، ثم تارةً يردُّ إلى المتصل - وهو ظاهر - بأن يجعل الوسط ملزومًا للمطلوب، وتارةً "إلى المنفصل؛ بذكر مُنَافيه معه"، أي: يأخذ منافي الوسط، ويذكره مع الوسط.

مثاله: الاثنان زوج، وكل زوج فليس بفرد؛ فمُنَافي

(8)

الزوج الذي هو الوسط إنما هو الفرد، فنقول: الاثنان: إما زوج أو فرد؛ لكنه زوج؛ فليس بفرد.

(1)

أقول: القياسات الاقترانية غير الشكل الأول علمت أنها تردّ إليه، فلنبيّن كيف تردّ الاستثنائي إلى الاقتراني: طريقه أن يجعل الملزوم وسطًا وثبوته وهو الاستثنائي صغرى، واستلزامه وهو المتصل كبرى، مثاله في المنفصل: الاثنان إمَّا زوج أو فرد، لكنه زوج فهو ليس بفرد، فإنه يتضمن كل ما كان زوجًا لم يكن فردًا، فنقول: الاثنان زوج، وكلُّ زوج فهو ليس بفرد، فالاثنان ليس بفرد، وعليه فقس. ينظر: شرح المقدمة.

(2)

في أ، ب، ت: وسطًا وهو الاستثنائي.

(3)

في ج: المنفصل.

(4)

في أ: الإثبات، وهو تحريف.

(5)

سقط في ح.

(6)

ينظر: حاشية شرح السلم ص (121)، والمطلع ص (55)، وتحرير القواعد المنطقية (141).

(7)

يرد الاقتراني إلى الاستثنائي أيضًا، فإلى المتصل ظاهر بأن يجعل الوسط ملزومًا للمطلوب، وأمَّا إلى المنفصل فبأن نأخذ منافي الوسط، ونذكره مع الوسط، مثاله: الاثنان زوج، وكل زوج فهو ليس بفرد، فمنافي الزوج الذي هو الوسط إنما هو الفرد، فنقول: الاثنان إمَّا زوج أو فرد، لكنه زوج، فهو ليس بفرد.

(8)

في أ، ح: فينافي، وفي ب: فننافي.

ص: 342

‌الْخَطَأُ فِي الْبُرْهَانِ

(1)

وَالْخَطَأُ فِي الْبُرْهَانِ؛ لِمَادَّتِهِ، وَصُورَتِهِ: فَالْأَوَّلُ: يَكُونُ فِي. . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشرح: "والخطأ في البُرْهَان؛ لمادّته، وصورته

(2)

:

(1)

أقول: الخطأ في البرهان إنما يكون بخطأ مادته وخطأ صورته:

القسم الأول: وهو خطأ المادة يكون من جهة اللفظ ومن جهة المعنى.

أما اللفظ فلالتباس الكاذبة بالصادقة إذا كان اللفظ يحتملهما، وهو قد يكون للاشتراك إمَّا في أحد الجزئين نحو: هذا عين، وهو يصدق باعتبار مفهوم لها، ويريد بـ"العين" مفهومًا لها لا يصدق باعتباره، وأمَّا في حروف العطف مثل: الخمسة زوج وفرد، وهو يصدق بأنه مجموع مركب منهما، فيفهم منه أنه زوج وأنه فرد، ومثله بـ"هذا حلو حامض"، فإنه يصدق في الجمع دون الأفراد، وعكسه بـ"هذا طبيب ماهر" إذا كان في غير الطبّ طيّبًا؛ لأنه يصدق في الأفراد دون الجمع، وقد يكون لاستعمال المتباينة كالمترادفة نحو: السيف والصارم، فيغفل الذهن عما به الافتراق، فيجري اللفظين مجرى واحدًا، فيظن الوسط متحدًا ولا يكون، وأما المعنى فلالتباس الصادقة بالكاذبة أيضًا، وله أصناف:

الأول: الحكم على الجنس بحكم نوع منه مندرج تحته نحو: هذا لون، واللَّون سواد، فيكون بهذا سواد، وهذا سيّال أصفر وسيَّال أصفر مرة، فهذا مرّة، ويسمى مثله إيهام العكس، كأنه لمَّا رأى أن كلَّ سيَّال أصفر ظنّ أن كل سيّال أصفر مرة، ومنه: الحكم على المطلق بحكم المقيد بحال أو وقت: هذه رقبة، والرقبة مؤمنة، وفي الأعشى: هذا مبصر، والمبصر مبصر بالليل.

الثاني: جميع ما ذكر في التناقض من القوة والفعل، والجزء والكلّ، والزمان والمكان، والشرط إذا لم يراع التبست الصادقة بالكاذبة.

الثالث: جعل الاعتقاديات والحدسيات والتجريبات الناقصة والظنيات والوهميات مما ليس بقطع كالقطع وإجرائها مجراه، وذلك كثير.

الرابع: جعل العرضي كالذاتي نحو: السقمونيات مبرّد، وكل مبرد بارد، فالسقمونيات مبرد، أي لا بالذات، أي لا يوجب ذلك إيجابًا أوليًّا، بل بالعرضي؛ لأنه يسهل الصفراء، وانتفاضه عن البدن يوجب بروده، إنَّما البارد هو المبرّد بالذات، وهذا غير الذاتي والعرضي بالمعنى المتقدم.

الخامس: جعل النتيجة مقدمة من مقدمتي البرهان بتغيير ما، ويسمى مصادرة على المطلوب، مثل: هذا نقلة، وكل نقلة حركة، ومن هذا القبيل المتضائفة مثل: هذا ابن؛ لأنه ذو أب، وكلُّ ذي أب ابن، وكلُّ قياس دوريّ، وما هو يتوقف ثبوت إحدى مقدمتيه على ثبوت النتيجة بمرتبة أو بمراتب.

القسم الثاني: وهو خطأ الصورة هو أن يكون الخارج عن الأشكال بألا يكون على تأليف الأشكال المذكورة لا بالقوة ولا بالفعل أو يكون بفقد شرط من شروط الإنتاج.

(2)

ينظر حاشية شرح السلم ص (159)، والمطلع ص (63)، وتحرير القواعد المنطقية ص (167 - 168).

ص: 343

اللَّفْظِ: لِلاشْتِرَاكِ، أَوْ فِي حَرْفِ الْعَطْفِ؛ مِثْلُ: الْخَمْسَةُ زَوْجٌ وَفَرْدٌ؛ وَنَحْوُهُ: حُلْوٌ حَامِضٌ، وَعَكْسُهُ: طَبِيبٌ مَاهِرٌ؛ وَلاسْتِعْمَالِ الْمُتَبَايِنَةِ كَالْمُتَرَادِفَةِ؛ كَالسَّيْفِ وَالصَّارِمِ؛ وَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى؛ لالْتِبَاسِهَا بِالصَّادِقَةِ؛ كَالْحُكْمِ عَلَى الْجِنْسِ بِحُكْمِ النَّوْعِ؛ وَجَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِي النَّقِيضَيْنِ؛ وَكَجَعْلِ غَيْرِ الْقَطْعِيِّ كَالْقَطْعِيِّ؛ وَكَجَعْلِ الْعَرَضِيِّ كَالذَّاتِيِّ؛ وَكَجَعْلِ النَّتِيجَةِ

فالأول: يكون في اللَّفظ؛ للاشتراك"

(1)

؛ بحسب الذَّات؛ كالعين، أو التَّصْريفِ؛ كـ (المختار) المشترك بين اسم الفاعل والمفعول.

"أو في حروف العَطْف؛ نحو: الخمسةُ زوجٌ وفرد"؛ فإذا أريد بـ (الواو) الجمعُ في الصفات، كان كاذبًا، وفي الذوات

(2)

، كان صادقًا، "ونحو: حلو حامض"؛ فإنه صادق مركَّبًا على المُرِّ، وكاذبٌ مفردًا

(3)

عليه.

"وعكسه": إذا قيل: زيد "طبيب ماهر"، وكانت مهارته إنما هي في غير الطِّبِّ، فإنه كاذب

(4)

؛ لإيهامه المهارةَ في الطِّبِّ.

وإذا قيل: (طبيب)؛ بانفراده - و (ماهر)؛ بانفراده، وأريد فيما هو ماهرٌ فيه - كان صادقًا.

واعلم: أن خطأ الاشتراك واقعٌ في اللَّفْظ المركَّب، وخطأ: الخمسةُ زوجٌ وفردٌ؛ في نفس التركيب، ويسمَّى اشتراكَ التأليف.

وقولنا: حلوٌ حَامِضٌ؛ في تفصيل المركَّب، و: طبيبٌ ماهرٌ؛ في تركيب المفصَّل، ويسمى اشتراكَ القسمة.

"ولاستعمال"

(5)

الألفاظ "المتباينة" الدَّالِّ أحدُها على الذات، والآخرُ على الصفة؛ "كالمترادفة؛ كـ (السيف)، و (الصَّارم) "؛ فيغفُلُ الذهنُ عما به الافتراق، فيُجري اللَّفظين مُجْرى واحدًا

(6)

؛ فيظن الوسط متحدًا.

(1)

في أ، ب، ت، ح: الاشتراك.

(2)

في ت: الذات.

(3)

في ب: مفرد.

(4)

في ت: حادث.

(5)

في أ: ولا استعمال، وفي ب: وكاستعمال، وفي ح: والاستعمال، وفي. ت: وفي استعمال.

(6)

في أ، ب، ت: واحدًا.

ص: 344

مُقَدِّمَةً بِتَغْيِيرٍ ما، وَيُسَمَّى الْمُصَادَرَةَ؛ وَمِنْهُ الْمُتَضَايِفَة، وَكُلُّ قِيَاسٍ دَوْرِيٍّ، وَالثَّانِي أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الأَشْكَالِ.

"ويكون" الخطأ "في المعنى"؛ وذلك بألَا تكون

(1)

المقدمتان أو إحداهما صادقةً، وإنما تستعمل

(2)

مع كونها كاذبة؛ "لالتباسها بالصادقة؛ كالحكم على الجنس بحكم النوع"؛ نحو: هذا لون، واللون سواد؛ فهذا

(3)

سواد، يحكم على اللَّون الذي هو جنس؛ بحكم النَّوع، وهو السواد، ومنه الحكمُ على المُطْلق؛ بحكم المقيَّد بحالٍ، أو وقت؛ مثل: هذه رقبة، والرقبة مؤمنة، وفي الأعشى: هذا مبصرٌ، والمبصر مبصر بالليل.

"وجميعِ ما ذْكِرَ في النقيضين"؛ مِنْ أخذ ما بالقوّة مكانَ ما بالفعل؛ والجزء والكُلِّ، والزمانِ، [والمكان]

(4)

والشرط؛ "وكجعل غير القطعي" من المقدّمات "كالقطعي، وكَجَعْلِ العرضيِّ كالذاتيِّ"؛ كمن رأى إنسانًا أبيض يكتب، فظن

(5)

كل كاتبٍ أبيضَ؛ لكونه أخذ البياض ذاتيًّا للإنسان؛ "وكجعل النتيجة مقدِّمة" من مقدمتي البُرْهَان "بتغييرٍ ما" مثل: هذه

(6)

نَقْلَة، وكل نقلة حركة؛ فإن الكبرى عينُ النتيجة، ولكن بتغيير اللَّفظ، "ويسمَّى" هذا القسم "المصادرة" على المطلوب.

"ومنه" - أي: ومن هذا القسم - "المتضايفةُ"، وهو جعل إحدى المقدمتين أحدَ المتضايفين؛ نحو: زيد ابن؛ لأنه ذو أب، وكل ذي أب ابن.

وإنما كان من هذا القسم؛ لتوقُّف صدق الصُّغرى على صدق النتيجة، "وكلُّ قياسٍ دوريٍّ"؛ فإنه من هذا القبيل أيضًا.

والدَّوْرِيُّ: ما يتوقف ثبوت إحدى مقدمتيه على ثبوت النتيجة بمرتبةٍ أو مراتبَ؛ ومثاله:

(1)

في ب، ت: يكون.

(2)

في ت: يستعمل.

(3)

في ت: وهذا.

(4)

سقط في ت.

(5)

في ت: وظن.

(6)

في أ، ت، ح: هذا.

ص: 345

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قولنا: كل إنسان ناطق، وكل ناطق ضاحك؛ ينتج: كلُّ إنسانٍ ضاحكٌ؛ ثم نستدل

(1)

على قولنا: كل إنسان ناطقٌ؛ بقولنا: كل إنسانٍ ضَاحِكٌ، وكل ضاحك ناطقٌ.

"والثَّاني"؛ وهو الخطأ الصُّورِيُّ: "أن يخرج عن الأشكال" الأربعة؛ وذلك لاختلاف شرط من الشرائط؛ كما علمت.

وربما وقع في كلام الفُقَهَاءِ ما صورته ظاهرًا خارجةٌ، ويظهر لك عند التأمل عدمُ خروجها؛ فاحتَرِزْ إذا رأيت أمثال

(2)

ذلك من الإقْدام على التخطئة.

وذلك مثلًا كقول الرَّافِعِيِّ: ذهب القَفَّال إلى أنه يحرُمُ عليها - يعني: المُعْتَدَّةَ عن الوفاة - لُبْسُ الإبْرَيْسَمِ، وإن كان المنسوج منه على لونه الأصلي، وقال: إن لُبْسه تزيين، وهي ممنوعة من التزيين.

فقد نقول: هذا خارجٌ عن الأول والثَّالث والرَّابع؛ لأن الحد الأوسط

(3)

فيه التَّزيين، وهو محمول فيها، وليس كذلك

(4)

في هذه الأشْكَالِ، وخارجٌ عن الثَّاني؛ لأن شرطه اختلافُ مقدمتيه في الإيجاب والسَّلب، وهاتان موجبتان.

ويظهر لك عند التأمُّل أنه من الضَّرْبِ الأولِ من الشكْلِ الأولِ؛ فإن المعنى: هذا تزيينٌ، وكل تزيين حَرَامٌ، فهو

(5)

حرامٌ، وترك

(6)

فيه ذِكْرَ الكُبْرَى؛ للعِلْم بها؛ كقولك: هذا يطوف باللَّيل؛ فهو سَارِقٌ؛ تقديره: وكل طائف باللَّيل سارق؛ فهذا

(7)

سارق.

(1)

في أ، ت، ح: يستدل.

(2)

في ت: مثل.

(3)

في أ، ج، ح: الوسط.

(4)

في أ، ح: ذلك.

(5)

في ت: وهو.

(6)

في أ، ج، ح: ونزل.

(7)

في ت: وهذا.

ص: 346

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكقول الرَّافعيِّ أيضًا في الظِّهَار

(1)

: أصحُّ الوجهين

(2)

أن نفس الرَّجعة

(3)

عَوْد؛ لأنَّ العودَ هو الإمساك، والرجعة إمْسَاك.

(1)

الظهار، والتظهر، والتظاهر: عبارة عن قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، مشتق من الظهر، وخصوا الظهر دون غيره، لأنه موضع الركوب، والمرأة مركوبة إذا غشيت، فكأنه إذا قال: أنت عليَّ كظهر أمي، أراد: ركوبك للنكاح حرام عليَّ، كركوب أمي للنكاح، فأقام الظهر مقام الركوب؛ لأنه مركوب، وأقام الركوب مقام النكاح؛ لأن الناكح راكب، وهذا من استعارات العرب في كلامها.

ينظر: تاج العروس 3/ 373، والصحاح 2/ 730، والمصباح المنير 2/ 590، والمغرب 299.

واصطلاحًا:

عرَّفه الحنفية بأنه: تشبيه المسلم زوجته أو جزءًا شائعًا منها بمحرم عليه تأبيدًا.

وعرفه الشافعية بأنه: تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حِلًّا.

وعرفه المالكية بأنه: تشبيه المسلم المكلف من تحل أو جزءها بظهر محرم أو جزئه.

وعرفه الحنابلة بأنه: هو أن يشبه امرأته أو عضوًا منها بظهر من تحرم عليه على التأبيد أو بها أو بعضو منها. ينظر: حاشية ابن عابدين 2/ 574، وشرح فتح القدير 4/ 245، 246، ومجمع الأنهر 1/ 446، ومغني المحتاج 3/ 352، والمهذب 2/ 143، والمحلى على المنهاج 4/ 14، مواهب الجليل 4/ 111، الخرشي 4/ 101، وحاشية الدسوقي 2/ 439، والإنصاف 9/ 193، والمغني 3/ 255.

(2)

في أ، ح: لوجهين.

(3)

الرجعة: قال في "المصباح": بالفتح بمعنى الرجوع؛ وفلان يؤمن بالرجعة أي: بالعود إلى الدنيا.

وأما الرجعة بعد الطلاق ورجعة الكتاب فبالفتح والكسر، وبعضهم يقتصر في رجعة الطلاق على الفتح، وهو أفصح.

قال "ابن فارس": والرجعة مراجعة الرجل أهله، وقد تكسر، وهو يملك الرجعة على زوجته، وطلاق، رجعي بالوجهين أيضًا. وفيه: رجعت المرأة إلى أهلها؛ بموت زوجها أو طلاق، فهي راجع، ومنهم من يفرق فيقول: المطلَّقة مردودة، والمتوفى عنها راجع.

قال صاحب "المختار": رجع الشّيء بنفسه من باب "جلس" ورجعه غيره من باب "قطع"، وقوله تعالى:{يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} . أي: يتلاومون.

والرّجعي: الرجوع، وكذا المرجع، ومنه قوله تعالى:{إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} ، وهو شاذ؛ لأن =

ص: 347

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قد يقال: الحد الأوسط هو الإمْسَاك، وقد جاء محمولًا فيهما، وهما

(1)

موجبتان.

وجوابه كما عرفْتَ؛ أن المعنى. الرجعة إمساك، والإمساكُ عَوْد؛ فالرَّجعةُ عَوْدٌ.

وكذلك

(2)

قول الرَّافعي أيضًا: لو تصدَّق

(3)

على ابنه، فوجهان:

أصحُّهما: أن له الرجوعَ أيضًا؛ لأن الخبر يقتضي ثبوت الرُّجوع في الهبة

(4)

، والصدقةُ

= المصادر من فعَل إنما تكون بالفتح.

ورَجْعَةٌ بفتح الراء وكسرها، والفتح أوضح، والراجع: المرأة يموت زوجها، فترجع إلى أهلها، وأما المطلّقة: فهي المردودة.

والرجع: المطر. قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} . وقيل: معناه النفع. والمراجعة المعادة.

يقال: راجعه الكلام، وراجع امرأته. فهي لغة: المرَّة من الرجوع.

واصطلاحًا:

عرَّفها الحنفية بأنها: استدامة الملك القائم في العدة برد الزوجة إلى زوجها وإعادتها إلى حالتها الأولى.

وعرَّفها الشافعية بأنها: رد المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة على وجه مخصوص.

وعرفها المالكية بأنها: عود الزوجة المطلقة للعصمة من غير تجديد عقد.

وعرفها الحنابلة بأنها: إعادة المطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد. ينظر: القاموس المحيط 3/ 28، والصحاح 3/ 1216، والمصباح 1/ 1377، والمطلع 342، والاختيار 100، واللباب 56، والإقناع 2/ 175، وحاشية الدسوقي 2/ 415، وكشاف القناع 5/ 341.

(1)

في أ، ج، ح: وهو.

(2)

في أ، ح: ولذلك.

(3)

في أ، ت، ح: يصدق.

(4)

الهبة لغة: العطية الخالية عن الأعواض والأغراض، فإذا كثرت سمي صاحبها وهابًا. ينظر: لسان العرب 6/ 4929.

واصطلاحًا:

عرَّفها الأحناف بأنها: تمليك بلا عوض.

وعرَّفها الشافعية بأنها: التمليك بلا عوض.

وعرفها المالكية بأنها: تمليك متمول بغير عوض. =

ص: 348

‌مَبَادِئُ اللُّغَةِ

وَمِنْ لُطْفِ اللهِ تَعَالَى إِحْدَاثُ الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ، فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى حَدِّهَا، وَأَقْسَامِهَا، وَابْتِدَاءِ وَضْعِهَا، وَطَرِيقِ مَعْرِفَتِهَا.

‌تَعْرِيفُ الْحَدِّ

الْحَدُّ: كُلُّ لَفْظٍ وُضِعَ لِمَعْنًى.

ضربٌ من الهِبَةِ؛ معناه: الصدقة هبة، وكل هبة يثبت فيها الرجوعُ؛ ينتج: الصدقة يثبت فيها الرجوع، والله الموفِّق.

الشرح: "ومن لُطْف الله تعالى إحداثُ الموضوعاتِ اللغوية"

(1)

؛ ليعبِّر كلُّ [أحد]

(2)

عما في ضميره عند الاحتياج إلى ذلك، ولا كافلَ لهذا الغرضِ كالألفاظ؛ لأنها أعم من الإشارة، والحركات والرسوم، [وأخف]

(3)

، وكان من لطف الله إحداثُها، والله تعالى هو المُحْدِثُ لها، سواء أقلنا

(4)

: الواضع هو [الله تعالى أم]

(5)

العباد؛ إذ أفعال [العباد

(6)

مَخْلُوقةٌ له سبحانه وتعالى.

"فلنتكلم" فيها "على حدِّها"؛ فإن طالب الماهية إنما يتوصَّل إليها بتعريفها، "وأقسامِها"؛ إذ الإحاطةُ بالأقسام بعد معرفة الحد مُتَعَيِّنة.

"وابتداءِ وضعها"، هل هو توقيفي أو غيره، "وطريقِ معرفتها"، هل هو ضروريٌّ أو نظريٌّ.

الشرح: أما "الحَدّ" فهو: "كلّ لفظ وضع لمعنى"

(7)

؛ فـ (اللفظ): جنسٌ يتناول المُهْمَل

= وعرفها الحنابلة بأنها: تمليك جائز التصرف مالًا معلومًا أو مجهولًا تعذر علمه. ينظر: فتح القدير 9/ 19، وحاشية ابن عابدين 4/ 508، والإقناع 2/ 85، ومغني المحتاج 2/ 396، والمحلى على المنهاج 3/ 110، ومواهب الجليل 6/ 49، شرح منتهى الإرادات 2/ 517، والمغني 6/ 246.

(1)

قسم المصنف الكلام في الموضوعات اللغوية - أربعة فصول:

الفصل الأول: في حد الموضوعات اللغوية.

الفصل الثاني: في أقسامها.

الفصل الثالث: في ابتداء وضعها.

الفصل الرابع: في طريق معرفتها.

(2)

سقط في ح.

(3)

سقط في ت.

(4)

في ب، ج: قلنا.

(5)

سقط في أ، ت، ح.

(6)

سقط في ح.

(7)

لم يقيد المصنف المعنى بالمفرد وغيره؛ ليشمل المفرد والمركب كلاميًا كان أو لا؛ إذ اللغة تنطلق على الجميع، ينظر: الشيرازي 40 أ/ خ.

ص: 349

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والمستعمل، و (الوضع)

(1)

: فَصْل يخرج المهمل، والدّلالتين العقلية، والطَّبيعية؛ كدلالة الصَّوت على المصوِّت، وأحْ

(2)

على وجع الصدر.

وقوله: كل

(3)

لفظ

(4)

- علم أن (الكل) لا يذكر في الحد؛ لأن الحد للماهية، ولا يدخل فيها عمومٌ، وصدقه على كل فرد لا بصيغة

(5)

العموم

(6)

؛ فإما أن يكون ذكر ذلك للإشعار؛ بأنه لا يختص بقوم دون قوم

(7)

؛ أو بأنه لا يعنى

(8)

به جميع ما يتكلّم به قومٌ؛ كما يتبادر حين يقال: فلانٌ يعرف لُغَةَ

(9)

العرب، بل يقال لكل لفظة: هذه لغة بني فلانٍ مثلًا.

(1)

الوضع في أصل اللغة هو: جعل الشيء في حيز معين.

(2)

في أ: أخ.

(3)

أما الكل، فالمراد له الكل المجموعي لا الكل بحسب الأفراد، والفرق بينهما مذكور في كتب المنطق، فلتطلب هناك، وإنما أتى به مع أن في تعريف الحقائق يجتنب عن التعرض للأفراد؛ لأنه إنما يعرّف الموضوعات اللغوية، وهي ليست عبارة عن لفظ موضوع، بل عن جميع الألفاظ المتصفة بهذه الصفة، فكأنه قال: هي جميع الألفاظ الموضوعة لمعنى، فلو لم يأت به لما صح الحد. ينظر: الشيرازي 40 أ/ خ.

(4)

اللفظ: ما يتلفظ به من الأصوات المقطعة، سواء قلَّت حروفه أو كثرت، إجراءً له مجرى أصله؛ إذ هو في الأصل مصدر، وسواء تلفظ به حقيقة أو حكمًا، وذلك ليدخل فيه الضمائر المستكنة؛ فإنها وإن لم يكن ملفوظًا بها حقيقة فهي ملفوظ بها حكمًا؛ بدليل إسناد الفعل إليها وجواز تأكيدها والعطف عليها وغير ذلك. ينظر: الشيرازي 40 أ/ خ.

(5)

في أ، ج، ح: يصفه، وفي ب: بصفة.

(6)

وأكثر تعريفات المشايخ المتقدمين من الأدباء والأصوليين على هذا النسق؛ لأن نظرهم إلى تحصيل المقاصد، وتفهيم المعاني لا رعاية الاصطلاحات، فلا يناقشون في إهمال ما لا يضر بذلك، ولعلهم أرادوا التنبيه بملاحظة إحاطة الجزئيات التي هي أقرب إلى أذهان المبتدئين على المعاني الكلية المشتركة بينهما. ينظر: العضد 1/ 92.

(7)

يعني لو قال: لفظ وضع لمعنى؛ لربما توهم أن هذا الحد إنما هو للموضوع اللغوي العربي، فلما قال: كل لفظ اندفع؛ أو للإشعار بأن المصنف لا يعني بالمحدود الذي هو الموضوع اللغوي بل اللغة جميع ما يتكلم به قوم كما يتبادر إلى الفهم؛ فإنه إذا قيل: فلان يعرف لغة العرب، يفهم منها الجميع عرفًا، وإنما لا يعني به ذلك؛ لأنه عرف طارئ، وأما بحسب أصل المعنى، فاللغة تطلق على كل لفظة موضوعة، فيقال: هذه اللفظة لغة بني تميم مثلًا. ينظر: العضد 1/ 117.

(8)

في ح: نعني.

(9)

أما اللغة فاشتقاقها من لغى - بالكسر - يلغي لغىً: إذا لهج بالكلام، وقيل: من لغى يلغي، وأصلها =

ص: 350

‌أَقْسَامُ اللُّغَةِ

أقسَامُهَا: مُفْرَدٌ، وَمُرَكَّبٌ: الْمُفْرَدُ: اللَّفْظُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: مَا وُضِعَ لِمَعْنًى وَلَا جُزْءَ لَهُ يَدُلُّ فِيهِ، وَالْمُرَكَّبُ بِخِلَافِهِ فِيهِمَا، فنَحْوُ:(بَعْلَبَكَّ) مُرَكَّبٌ عَلى الْأوَّلِ لا الثَّانِي، وَنَحْوُ:(يَضْرِبُ) بِالْعَكْسِ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ نَحْوَ:(ضَارِبٍ)، وَ (مُخْرِجٍ)؛ مِمَّا لا يَنْحَصِرُ - مُرَكَّبٌ.

الشرح: وأما "أقسامها": فهي "مفرد، ومركب:

المفرد: اللفظ"، أي: الملفوظ "بكلمة واحدة

(1)

.

وقيل: ما وضع لمعنى، ولا جزء له يدل فيه"، أي: "في اللفظ، فما وضع لمعنًى - جنسٌ، والباقي فصلٌ؛ يُخْرجُ المركَّبَ.

"والمركَّب بخِلافِهِ فيهما"، أي: بخلاف المفرد في تعريفه؛ فهو على الأول: الملفوظ بأكثر من كلمة؛ وعلى الثاني: ما وضع لمعنًى، وله جزء يدُلُّ فيه، "فنحو:(بعلبك) مركَّب على" التعريف "الأول"؛ إذ هو أكثر من كلمة - "لا الثاني"؛ لأنه لا جزء له يدل فيه، وإن دَلَّ مفردًا، أو في وضع آخر، "ونحوُ: (يضرب) بالعكس" من حكم (بعلبك)؛ مفردٌ بالتعريف الأول؛ لأنها كلمة واحدة - دون الثاني؛ لاشتماله على حرفِ المُضَارعة الدال فيه على المُتكلِّم، ونحوه.

"ويلزمهم"، أي: القائلين بالتعريف الثَّاني؛ وهم المنطقيون - "أن نحو: (ضاربٍ) "من أسماء الفاعلين، "ومُخْرجٍ" وغير ذلك؛ "مما لا ينحصرُ - مركَبٌ"؛ لأن الألف من (ضارب) مثلًا جزءٌ منه

(2)

، وتدل

(3)

فيه.

= على ما قال الجوهري: لَغْيٌ أو لغو، والهاء عوض، وجمعها لغىٌ مثل برة وبرىً، ولغات أيضًا مثل: ثُبةٍ وثُباتٍ. ينظر: الشيرازي 40 أ/ خ.

(1)

أما المفرد فقد حده المصنف بحدين:

الحد الأول: اللفظ بكلمة واحدة، وكأنه قال: المفرد هو اللفظ الموضوع لمعنى بشرط كونه كلمة واحدة، والمراد من كونه كلمة واحدة ألَّا يشتمل على لفظين موضوعين.

والحد الثاني: ما وضع لمعنى ولا جزء له يدل فيه، فما وضع لمعنى بمنزلة الجنس؛ لأخذه العرض العام، وهو لفظة "ما" مقام اللفظ، ويجب أن يفسر لفظة "ما" باللفظ، وإلا بطل طرده؛ لدخول الإشارة وعقد الحساب ونحوهما، "ولا جزء له" يعني لذلك اللفظ "يدل فيه" أي في ذلك المعنى: أي لا جزء له يدل على جزء المعنى. والمراد من الدلالة فهم المعنى من اللفظ عند إطلاقه أو تخيله بالقياس إلى من هو عدم بالوضع. ينظر الشيرازي 40 ب، 41 أ/ خ.

(2)

في ت: ومنه.

(3)

في أ، ج، ح: وبدل، وفي ت: بدل.

ص: 351

‌تَقْسِيمُ الْمُفْرَدِ

وَيَنْقَسِمُ الْمُفْرَدُ إِلَى اسْمِ، وَفِعْلٍ، وَحَرْفٍ.

‌دَلَالَةُ الْمُفْرَدِ

وَدَلَالَتُهُ اللَّفْظِيَّةُ فِي كَمَالِ مَعْنَاهَا: دَلَالَةُ مُطَابَقَةٍ، وَفِي جُزْئِهِ دَلَالَةُ

الشرح: "وينقسم المفرد إلى اسم، وفعل، وحرف"؛ لأنها إما ألَّا يدلّ

(1)

على معنى في نفسه، فالحرف.

أو يدلَّ؛ فإما أن يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة التي هي الماضِي، والحال، والاستقبال - فالفعْل، أوْ لا؛ فالاِسْم.

الشرح: "ودِلَالتُهُ"، أي: المفردِ، "اللفظيةُ"

(2)

:

والدِلَالة

(3)

: هي كون اللَّفْظ بحيث إذا أُطْلق، أو تُخُيِّلَ، فَهِمَ منه المعنَى من كان عالمًا بالوضْعِ.

إن كانت (في) - و (في) هنا بمعنى (على) - "كمالِ معناها: دلالةُ مطابقةٍ"؛ كالبيت على مجموع السَّقْفِ، والأُسِّ، والجدران، ولفظة (كمال) هنا مستغنًى عنها؛ وكذلك لفظة (تمام)، في "منهاج

(4)

البيضاوي"

(5)

؛ ونظيرها قول النَّووي

(6)

في "المنهاج" في "باب مسح

(1)

في ت: تدل.

(2)

الدلالة اللفظية هي ما يفهم منها معنى غير خارج عن المسمى. ينظر الشيرازي 43 أ/ خ.

(3)

الدلالة مثلثة الدال المثلث ق 2/ 4. وينظر: شرح الخبيصى على التهذيب ص (10)، وشرح التنقيح ص (24)، وحاشية شرح السلم ص (50)، والمطلع ص (12)، وتحرير القواعد (28)، والمستصفى 1/ 30، وروضة الناظر 1/ 50 - 51، وشرح الغرة 121 - 123، والمحصول 1/ 1/ 300.

(4)

ينظر المنهاج مع شرح الإسنوي 2/ 30.

(5)

عبد الله بن عمر بن محمد بن علي، ناصر الدين، أبو الخير البيضاوي، صاحب المصنفات وعالم أذربيجان، قال السبكي: كان إمامًا مبرزًا، نظارًا، خيرًا، صالحًا، متعبدًا، وقال ابن خبيب:"عالم نمى زرع فضله ونجم، وحاكم عظمت بوجوده بلاد العجم، برع في الفقه والأصول، وجمع بين المعقول والمنقول، تكلم كل الأئمة بالثناء على مصنفاته وفاه، ولو لم يكن له غير "المنهاج" الوجيز لفظه المحرر لكفاه. له: "الطوالع"، و"المنهاج" و"مختصر الكشاف" وغيرها كثير. توفي سنة 691 هـ.

ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 172، وطبقات السبكي 5/ 59، وطبقات الإسنوي ص 100، والأعلام 4/ 248، ومفتاح السعادة 1/ 436، ونفح الطيب 2/ 737.

(6)

يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام، شيخ الإسلام محيي =

ص: 352

تَضَمُّنٍ، وَغَيْرُ اللَّفْظِيَّةِ: الْتِزَامٌ، وَقِيلَ: إِذَا كَانَ ذِهْنِيًّا.

الخُفّ"

(1)

: وشرطه أن يلبس بعد كمالِ طُهْر؛ وكذا في "التنبيه"

(2)

: طهارةٍ كاملةٍ، وفي الوجيز"

(3)

. و"المحرَّر"؛ تامَّةٍ.

قال الرافعي في "الشرح": لا حاجة إلى هذا القيد.

"وفي جزئه"، أي: جزءَ المعنَى "دلالة تضمُّن"؛ كالبيت على الجدران وحدها مثلًا.

"وغيرُ اللفظية: التزام"؛ كالبيت على بَانِيهِ، والمراد: أن الدلالة في الالتزام لا مَدْخَلَ لِلَّفظِ فيها إلَّا بانتقالِ الذِّهْنِ منه إلى المعنى.

فإن قلتَ: فتردُّ الدلالتان: العقلية، والطبيعيةُ؛ إذ لا مدخل لِلَّفْظِ فيها.

قلت: الدلالتان لا مدخلَ للفظ فيهما

(4)

ألبتة، وأما دلالة الالتزام، فاللَّفظُ فيها طريق إلى تعقل المعنى الخارجيِّ؛ فله

(5)

فيها مدخل على الجملة.

والضمير في قول المصنّف (معناها) عائدٌ على الدلالة اللَّفظية، وفيه تعسُّف؛ فإن المعنى يضاف

(6)

إلى اللفظ، لا إلى الدّلالة، وإنما أرأد التنبيه بذلك على أن المعنى لا ينسب إلى اللفظ إلا باعتبارهما.

ولو قال: (بمعناها)، لكان أوضح، ولم يحوج إلى هذا التَّحمُّل

(7)

.

= الدين، أبو زكريا الحزامي النووي، ولد سنة 631 هـ، قرأ القرآن ببلده، وختم وقد ناهز الاحتلام، وكان محققًا في علمه وفنونه، مدققًا في علمها وشئونه، حافظًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفًا بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه، واستنباط فقهه .. في كثير من المناقب يطول ذكرها. صنف "المنهاج" في شرح مسلم، و"المجموع" و"الأذكار" وغيرها. مات سنة 677 هـ. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 153، وطبقات السبكي 5/ 165، والنجوم الزاهرة 7/ 278.

(1)

ينظر: المنهاج مع شرح تحفة المحتاج 1/ 247.

(2)

ينظر: التنبيه للشيرازي ص (12).

(3)

وعبارة الوجيز: "كاملة" ولعل ما ذكره المصنف اعتمادًا على نسخة مخطوطة للكتاب. ينظر: الوجيز 1/ 23.

(4)

في ح: فيها.

(5)

في حاشية ج: قوله: "فله فيها

" إلخ أي: والكلام في دلالة اللفظ المفرد.

(6)

في ت: مضاف.

(7)

في ج: التمحل.

ص: 353

‌تَقْسِيمُ الْمُرَكَّبِ

وَالْمُرَكَّبُ جُمْلَةٌ، وَغَيْرُ جُمْلَةٍ: فَالْجُمْلَةُ: مَا وُضِعَ لإِفَادَةِ نِسْبَةٍ، وَلَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي اسْمَيْنِ، أَوْ فِي فِعْلٍ وَاسْمٍ، وَلَا يَرِدُ:(حَيَوَانٌ نَاطِقٌ)، وَ (كَاتِبٌ)؛ فِي:(زَيْدٌ كَاتِبٌ)؛ لأَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لإِفَادَةِ نِسْبَةٍ، وَغَيْرُ الْجُمْلَةِ بِخِلَافِهِ، وَيُسَمَّى مُفْرَدًا أَيْضًا.

"وقيل": إنما تحصل الدلالة الالتزامية، "إذا كان" المدلول عليه بها لازمًا "ذهنيًّا" للمسمى، وإلا فلا فَهْم.

وهذه العبارة تفهم أن الدلالةَ قد تتحقَّق، وإن لم يكنِ اللُّزومُ ذهنيًّا، وليس كذلك؛ لأن الغرض أن اللَّفظ غير موضوعٍ للمعنى، فلو لم يكن بينه وبين المعنى الخارجى لزومٌ ذِهْنِيٌّ يوجب انتقالَ الذِّهْن إليه، [لم]

(1)

يدل اللفظ عليه:

الشرح: "والمركَّب" ضَرْبان: "جملة، وغير جملة:

والجملة: ما وضع لإفادة نسبة" يصح السُّكوت عليها.

"ولا تتأتى إلا في اسمين"؛ نحو: زيد قائم، "أو في فعل" - محكوم به - "واسمٍ" - محكوم عليه -؛ نحو: قام زيد؛ لأن الإسناد شرط في الجملة، وهو متوقِّف على المسند والمسند إليه، والحرف لا يصلح لأحدهما.

"ولا يَرِدُ" على الحدِّ - المركَّبُ التقييديُّ

(2)

؛ مثل: "حيوان ناطق"؛ من جهة أنه وضع لإفادة نسبة

(3)

النُّطق إلى الحيوان، "فكاتب في: زيدٌ كاتبٌ"؛ من جهة وضعه - لإفادة نسبة الكتابة إلى زيد، وإن ظُنَّ صدقُ اسم الجملة على كلَّ واحد منهما؛ وذلك "لأنها لم توضع لإفادة نسبة"

(4)

؛ إذ المراد بالنسبة نسبةٌ يصح السُّكوت عليها؛ وما ذكر ليس كذلك.

"وغير الجملة بخلافه"

(5)

؛ وهو: ما لم يوضع لإفادة نسبة؛ "ويسمى مفردًا أيضًا"؛ فإذن المفرد يُطْلق على هذا، وعلى ما مضَى، وهو قسم من أقسام المركَّب؛ بهذا الاعتبار، وقسيمٌ له؛ بذلك الاعتبار -

(1)

سقط في ح.

(2)

في ح: التقيدي.

(3)

في أ: لنسبة.

(4)

في ب: نسبته.

(5)

في ح: بخلافها.

ص: 354

‌تَقْسِيمُ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ وَحْدَتِهِ وَمَدْلُولهِ

وَللْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ وَحْدَتِهِ وَوَحْدَةِ مَدْلُولِهِ وَتَعَدُّدِهِمَا: أَرْبَعَةُ أقسَامٍ: فَالْأَوَّلُ: إِنِ اشتَرَكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ، فَهُوَ الْكُلِّيُّ، فَإِنْ تَفَاوَتَ؛ كَالْوُجودِ لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَمُشَكَّكٌ، وَإِلَّا فَمُتَوَاطِئٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِكْ، فَجُزِئيٌّ، وَيُقَالُ لِلنَّوْعِ أَيْضًا:

الشرح: "وللمفرد باعتبار وحدته ووحدة مدلوله، وتعددهما: أربعة أقسام"؛ لأن لفظه: إما واحدٌ، أو متعدد؛ وعلى التقديرين، فمعناه: إما واحد، أو متعدد؛ فهذه أربعة أقسام:

"فالأول": وهو متحد اللفظ، والمعنى، "إن اشترك في مفهومه كثيرون"؛ لكونه غير مانع من وقوع الشَّرِكَة فيه، "فهو الكلي"؛ كالحيوان، ولسنا نشترط فيه الشَّرِكَة بالفعل؛ ألا ترى أن لفظ (الشَّمس) كليّ، وإن لم تقع

(1)

فيها شَرِكَة، "فإن تفاوت" مفهوم الكُلّي في أفراده؛ بأن كان في أحدهما أولَى من الآخر، أو أقدَمَ؛ "كالوجود للخالق والمخلوق" - فإنه للخالق أولى

(2)

وأقْدَمُ منه للمخلوق، أو كان في أحدهما أشدَّ من الآخر؛ كالبيَاضِ للثَّلج وللْعَاجِ؛ إذ هو في الثَّلج أشدُّ "فَمُشَكَّكٌ.

وإلَّا"، أي: وإن لم يتفاوت، "فمتواطئ"؛ كالإنْسانِيَّة بالنسبة إلى أفرادها.

فإن قلت: ما به الاختلافُ فيما جعلتموه مشكَّكًا: إما

(3)

ألّا يكون داخلًا في المسمى؛ وهو

(1)

في أ، ج، ح: يقع.

(2)

في أ، ت، ح: أول.

(3)

في حاشية ج: قوله: "إما أن يكون

" إلخ يعني أن ما به التفاوت بين الأفراد إن كان داخلًا في الماهية أي مسمى المشكك فلا اشتراك معنويًا هناك؛ ضرورة أن البياض المأخوذ مع خصوصية الشدة معنى، والمأخوذ مع خصوصية الضعف معنى آخر، والغرض أن تلك الخصوصيات داخلة في مسمى لفظ البياض فيكون مشتركًا لفظيًا لا معنويًا، وإن لم يكن التفاوت مأخوذًا في مسمى المشكك، بل يكون مسماه مثلًا مطلق البياض المشترك بين أفراده، فلا تفاوت في مسمى المشكك؛ لتساويه فيها فيكون متواطئًا؛ فلا تشكيك أصلًا.

والجوابُ ما ذكره وأجاب السيد بأن التفاوت مأخوذ من ماهية ما صدق عليه ذلك، أي مسمى المشكك من أفراده دون ما فيه مسماه، فلا يلزم التواطؤ؛ لاعتبار التفاوت في الأفراد، ولا الاشتراك لعدم اعتباره وماهية المسمى، والحاصل أن النفاوت إنما هو في الأفراد لا مطلقًا، بل باعتبار حصوله فيها وصدقه عليها، فالمعنى الواحد إذا كان حاصلًا في أفراد صادقًا عليها، فإما أن تختلف تلك الأفراد في حصوله فيها وصدقه عليها أو لا، فالأول المشكك، والثاني المتواطئ. تدبر شرح المقدمة.

ص: 355

جُزْئِيٌّ، وَالْكُلِّيُّ ذَاتيٌّ وَعَرَضِيٌّ؛ كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي؛ مِنَ الْأَرْبَعَةِ: مُقَابِلُهُ؛ مُتبَايِنَةٌ. الثَّالِثُ:

المتواطئ

(1)

، أو داخلًا؛ فهو المشترك، فأين المشكَّك

(2)

؟.

قلت: لا نسلم أنه إذا لم يكن داخلًا، يكون متواطئًا؛ لأن المتواطئ هو ما لا تختلف

(3)

مَحَالُّه بما هو من جنس مسماه؛ بخلاف المُشَكَّك

(4)

؛ فاشتركا في أن كلًّا منهما موضوعٌ لمعنى واحد بالحقيقة، وافترقا في اختلاف المحالِّ، وفارقا المشتَرَك؛ إذ هو موضوع لكلّ واحد من مختلفي الحقيقة.

"وإن لم يشترك" في مفهومه كثيرون، "فجزئيٌّ" حقيقيٌّ؛ وهو ما يكون نفسُ تصوّره مانعًا من وقوع الشركة فيه؛ كالعلم، "ويقال للنوع أيضًا جزئي" إضافيٌّ، أي: بالإضافة إلى جنسه؛ فإذن: لفظُ الجزء يطلق على الحقيقي والإضافي

(5)

.

"والكُلِّي ذاتي"

(6)

؛ وهو: ما يكون متقدِّمًا في التصوُّر على ما هو ذاتي له، "وعرضي"

(7)

؛ وهو: ما لا يكون كذلك؛ "كما تقدَّم" في المَنْطِقِ.

"الثاني: [من]

(8)

"الأقسام "الأربعة مُقابِلهُ"، أي: مقابلُ الأول، وهو متكثِّر اللَّفظ والمعنى؛ كالإنسان والفرس، ويقال لها "مُتَبَاينةٌ.

(1)

هو الكليّ الذي يكون حصول معناه وصدقه على أفراده الذهنية والخارجية على السويّة، وإن لم يكن على السويّة فهو المشكَّك.

(2)

في أ، ج: المشكل.

(3)

في أ، ت، ح،: يختلف.

(4)

في أ، ب، ح: التشكك.

(5)

الجزئي الإضافي وإن كان أعم من الحقيقي فليس جنسًا له؛ لجواز تصور الجزئي الحقيقي مع اندراجه تحت كلي. ينظر: الشيرازي 44 أ/ خ.

(6)

الذاتي إما أن يكون تمام حقيقة ما تحته من الجزئيات أو لا، فإن كان فهو النوع، وهو المقول في جواب "ما هو "بحسب الشركة والخصوصية، وإن لم يكن تمام حقيقة ما تحته، فإن لم يكن مشتركًا بينها وبين حقيقة ما كان فصلًا، وإن كان تمام المشترك كان جنسًا قريبًا أو بعيدًا، وهو المقول في جواب "ما هو" بحسب الشركة المحضة، وإن لم يكن تمام المشترك كان بعضًا منه مساويًا له دفعًا للتسلسل. ينظر: الشيرازي 44 ب/ خ.

(7)

العرضي إما أن يختص بالماهية أو لا، فإن اختص فهو الخاصة، وإن لم يختص فهو العرض العام.

ينظر: الشيرازي 44 ب/ خ.

(8)

سقط في أ، ت، ح.

ص: 356

إنْ كَانَ حَقِيقَةً لِلْمُتَعَدِّدِ، فَمُشْتَرَكٌ، وَإلَّا فَحَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ. الرَّابِعُ: مُتَرَادِفَةٌ.

وَكُلُّهَا مُشْقٌّ وَغَيْرُ مُشْتَقٍّ، صِفَةٌ وَغَيْرُ صِفَةٍ.

‌الْخِلَافُ فِي وُقُوعِ الْمُشْتَرَكِ

مَسْأَلَةٌ:

الْمُشْتَرَكُ وَاقِعٌ؛ عَلَى الْأَصَحِّ؛

الثالث": مُتَّحدُ اللفظ، متكثِّر المعنى؛ وحنيئذٍ

(1)

"إن كان حقيقةً للمتعدِّد"؛ كالعَيْنِ؛ للباصرة

(2)

، والجارية - "فمشترك، وإلا فحقيقة" في الموضوعِ له أَوَّلًا، "ومجازٌ، في الآخر؛ كـ"الأسد" الموضوع أوَّلًا؛ للحيوان المفترس، وثانيًا؛ للشجاع.

"الرَّابع": متكثِّر اللَّفظِ، متَّحدُ المعنى، ويقال له

(3)

: ألفاظٌ "مترادفةٌ"؛ كـ"الإنسان، والبشر"؛ فهذه الأقسام، "وكلها مشتقٌّ وغيرُ مشتقٍّ، صفةٌ وغيرُ صفةٍ".

"مسألة"

الشرح: "المشترك واقعٌ؛ على الأصح"؛ خلافًا لمن أحاله.

كـ"ثعلب"، وأبي زيد [البلخي، والأبهري]

(4)

، وزعموا أن ما يُظَنُّ مشتركًا، فهو إما حقيقةٌ ومجازٌ، أو متواطئٌ.

(1)

في أ، ج، ح: فحينئذ.

(2)

في أ، ت، ج، ح: الباصرة.

(3)

في أ، ج، ح: لها.

(4)

ينظر: المحصول 1/ 1/ 359، وشرح التنقيح ص (29)، والتبصرة ص (184)، والإبهاج 1/ 248، وروضة الناظر ص (93)، ونهاية السول 2/ 114، والبرهان 1/ 343، (246)، وأصول البزدوي على كشف الأسرار 1/ 37، والكوكب المنير 1/ 139، وشرح المحلى على جمع الجوامع 1/ 292، والبحر المحيط 1/ 122، والمستصفى 2/ 23 - 24، والمنخول (147)، (6)، واللمع ص (5)، والعضد 1/ 127، والمعتمد 1/ 300، والمزهر 1/ 369، وإرشاد الفحول (19)، وفواتح الرحموت 1/ 198.

ص: 357

لَنَا أَنَّ القُرْءَ لِلطُّهْرِ.

"لنا" على وقوعه: "أن القرء

(1)

للطُّهر" بخصوصه،

(1)

لا خلاف بين أهل اللغة في أن القرء من الأسماء المشتركة لفظيًا بين الحيض والطهر، وقد أطلق على كل منهما إطلاقًا حقيقيًا. أما إطلاقه على الحيض ففي قوله صلى الله عليه وسلم:"المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها" أي حيضها. وأما إطلاقه على الطهر ففي قوله عليه الصلاة والسلام لابن عمر: "إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالًا؛ فتطلقها لكل قرء تطليقة" أي طهر؛ لأن الطهر هو الذي يستن إيقاع الطلاق فيه.

وإنما الخلاف بينهم فيما هو المراد منه في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} .

هل المراد منه الحيض أم الطهر. ولا يمكن أن يتناولهما جملة؛ لأن اللفظ الواحد عند الحنفية لا يدل على معنيين مختلفين حقيقة أو حقيقة ومجازًا، فلا بد من الحمل على أحدهما. فذهب الحنفية إلى أن المراد به الحيض، وذهب الشافعية إلى أن المراد به الطهر، ولكلٍّ أدلة. فاستدل الشافعية على مدعاهم بالأدلة الآتية:

أولًا: بحديث ابن عمر، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أمره أن يراجع زوجته حين طلقها في الحيض ثم يتركها حتى تطهر من حيضها ثم يطلقها إن شاء ثم قال: فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء. فهذا نص على أن العدة هي الطهر. بيانه: أن الله تعالى أمرنا أن نطلقها لعدتها بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} واللام بمعنى "في" والطلاق يوقع في الطهر لا في الحيض فكان هو العدة.

وثانيًا: أن القرء بمعنى الحيض يجمع على أقراء قال عليه الصلاة والسلام: "دعي الصلاة في أيام أقرائك" وبمعنى الطهر يجمع على قروء قال الأعشى: [الطويل]

أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاثِمُ غزْوَةٍ

تَشُدُّ لأَقْصَاهَا غَرِيمَ عَزَائِكَا

مُوَرِّثَةً مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةً

لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قرُوءِ نِسَائِكَا

أراد بالقروء: الأطهار؛ لأن الحيض لا يختص ضياعه بزمن النية؛ لأنه ضاع دائمًا؛ فيكون المراد من القروء المذكورة في الآية الأطهار لا الحيض.

وثالثًا: لأن تأنيث العدد وهو الثلاثة يدل على أن المعدود وهو القروء مذكر؛ فيكون المراد منها الأطهار لا الحيض.

ورابعًا: الأنسب أن يراد من القرء الطهر لا الحيض؛ إذ القرء هو الجمع، والطهر هو الذي يجتمع فيه الدم لا الحيض. واستدل الحنفية على مدعاهم بالكتاب والسنة والمعقود: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ووجه الاستدلال بالآية الكريمة أن الله تعالى قرن اسم الجمع وهو القروء بالعدد وهو الثلاثة، واسم الجمع المقرون بالعدد لا يجوز إطلاقه إلا على ما وضع العدد بإزائه لا أزيد ولا أقل، فلو أردنا من القروء الأطهار لجاز إطلاق اسم الجمع المقرون بالعدد على الأقل، وهو طهران وبعض الثالث؛ لأن ذلك يكفي في انقضاء العدة، وهو لا يجوز فلا =

ص: 358

وَالْحَيْضِ مَعًا عَلَى الْبَدَلِ؛ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ.

"والحَيْض"

(1)

بخصوصه "معًا على البدل؛ من غير ترجيح" لأحدهما على الآخر؛ فكان حقيقةً فيهما؛ فيكون مُشْتَركًا

(2)

.

= يمكن أن يراد من القروء الأطهار، فإن قيل: قد أطلق اسم الجمع على اثنين وبعض الثالث في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وهي شوال وذو القعدة وبعض ذي الحجّة قلنا: قياس مع الفارق؛ لأن اسم الجمع في هذه الآية لم يقرن بالعدد بخلاف اسم الجمع في الآية التي معنا؛ فإنه قرن بالعدد.

وقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} ووجه الاستدلال بهذه الآية مع المطلوب أن الله تعالى جعل الأشهر بدلًا عن القروء عند اليأس عن الحيض، والمبدل هو الذي يشترط عدمه؛ لجواز إقامة البدل مقامه؛ فدل على أن المبدل هو الحيض، فكان هو المراد من القروء المذكورة في الآية. نظير ذلك قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فإن الله تعالى لما شرط عدم الماء عند ذكر البدل وهو التيمم دل على أن التيمم بدل عن الماء، فكان المراد منه الغسل المذكور في آية الوضوء، وهو الغسل بالماء. وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم:"طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان" ووجه الاستدلال بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن عدة الأمة بالحيض، ومعلوم أن الأمة لا تخالف الحرة في جنس ما تجب العدة بل في المقدار، فتكون عدة الحرة أيضًا بالحيض، وأما المعقول: فهو أن العدة وجبت لتعرف براءة الرحم، وهي إنما تعرف بالحيض لا بالطهر.

(1)

وأصله: السيلان، قال الجوهري: حاضت المرأة تحيض حَيْضًا ومَحيضًا فهي حائض وحائضة أيضًا، ذكره ابن الأثير وغيره. واستحيضت المرأة: استمر بها الدم بعد أيامها، فهي مستحاضة. وتحيّضت، أي: قعدت أيام حيضها عن الصلاة. وقال أبو القاسم الزمخشري في كتابه "أساس البلاغة": ومن المجاز: حاضت السَّمُرَةُ: إذا خرج منها شبه الدم.

واصطلاحًا:

عرفه الشافعية بأنه: الدم الخارج في سن الحيض، وهو تسع سنين قمرية فأكثر من فرج المرأة على سبيل الصحة.

وعرفه المالكية بأنه: دم كصفرة أو كدرة خرج بنفسه من قبل من تحمل عادة.

وعرفه الحنفية بأنه: دم ينفضه رحم امرأة سالمة عن داء.

وعرفه الحنابلة بأنه: دم جبلة يخرج من المرأة البالغة في أوقات معلومة. ينظر: لسان العرب 2/ 1070، وترتيب القاموس 1/ 750. وحاشية الباجوري 1/ 112، والاختيار 1/ 26، والمبدع 1/ 258، وأنيس الفقهاء ص 63، وحاشية الدسوقي 1/ 167.

(2)

قال العضد: وقوله "معًا" احتراز عن المنفرد؛ لأنه لواحد بعينه، وإن كان قد يقع فيه شك. وقولنا: =

ص: 359

وَاسْتُدِلَّ: لَوْ لَمْ يَكُنْ، لَخَلَتْ أَكْثَرُ الْمُسَمَّيَاتِ؛ لأَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ؛ وَأُجِيبَ بِمَنْع ذلِكَ فِي الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمُتَضَادَّةِ، وَلَا يُفِيدُ فِي غَيْرِهَا، وَلَوْ سُلِّمَ، فَالْمُتَعَقَّلُ مُتَنَاهٍ، وَإنْ سُلِّمَ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ المُرَكَّبَ مِنَ الْمُتَنَاهِي مُتَنَاهٍ؛ وَأسْتُدِلَّ بِأَسْمَاءِ الْعَدَدِ، وَإِنْ سُلِّمَ، مُنِعَتِ الثَّانِيَة، وَيَكُونُ كَأَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ.

الشرح: "واستدلّ"

(1)

على الوقوع؛ بدليل، والمصنِّف لا يرتضيه، فلذلك عبر عنه بلفظ:(استدل)، وذلك دَيْدَنُهُ إلا نادرًا.

وتقريره: "لو لم يكن" المشترك واقعًا، "لخلت أكثر المسمَّيات" عن أسماء؛ "لأنها غيرُ متناهيةٍ"؛ والحاجةُ ماسَّةٌ إلى معرفتها، والتَّعبيرِ عنها، والألفاظُ متناهيةٌ؛ لأنَّها مركَّبة من الحروف المتناهية، والمركّب من المتناهي متناهٍ، فلو لم يوجد وضْعُ لفظ واحد لِمَعَانٍ كثيرة؛ لزم خلوّ ما زاد على عدد الألفاظ من المعاني عن الأسماء.

"وأجيب بمنع ذلك"، أي: بمنع

(2)

عدم التناهي" [في "المعاني "المختلفة والمتضادَّة، ولا يفيد" عدم التناهي]

(3)

"في غيرها"، وهي المتماثلة

(4)

هنا، فجزئيَّات الحيوان لا تنحصرُ

(5)

مع أن لفظه موضوعٌ لها.

"[ولو سُلِّم" عدم تناهي المعاني، فيُمْنعُ كونُها متعقَّلَة؛ إذ الذهن لا يستحضرُ ما لا يتناهي]

(6)

؛ "فالمتعقَّل" منها وحده "متناهٍ"، والوضع

(7)

إنما يكون للمتعقَّل، "وإن سُلِّم" أن التعقّل غير متناهٍ، "فلا نسلِّم" تناهي الألفاظ؛ إذ يمنع "أن المركَّب من المُتَنَاهي مُتَنَاهٍ.

واستدل

(8)

بأسماء العدد"؛ فإنها غير متناهية، مع تركيبها من الحروف المُتَنَاهية.

"وإن سلم" أن الألفاظ متناهيةٌ، "مُنِعَتِ" المقدّمة "الثانية"، وهي الاستثنائية، أي: قولنا:

= "على البدل" عن المتواطئ؛ لأنه للقدر المشترك، وعن "الموضوع" للجميع، وقولنا:"من غير ترجيح عن الحقيقة والمجاز". العضد 1/ 128 - 129.

(1)

من عادة المصنف أن يشير إلى الدليل الذي استدل به على مطلوبه مع كونه مدخولًا فيه عنده بقوله: "واستدل"، وإلى ما يكون صحيحًا عنده بقوله:"لنا"؛ فلذلك قال في الدليل الأول: "لنا"، وفي الثاني:"استدل"، وقس عليه إلى آخر الكتاب. ينظر: الشيرازي 46 أ/ خ.

(2)

في ب: منع، وفي ت، خ: يمنع.

(3)

سقط في ح.

(4)

في ت: المماثلة.

(5)

في ت: لا ينحصر.

(6)

سقط في ت.

(7)

في أ، ج، ح: فالوضع.

(8)

في أ، ت، ج، ح: وأسند.

ص: 360

وَاسْتُدِلَّ: لَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكَانَ الْمَوْجُودُ فِي (الْقَدِيمَ) وَ (الْحَادِثِ) مُتَوَاطِئًا؛ لأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ؛ فَلأَنَّ الْمَوْجُودَ إِنْ كَانَ الذَّاتَ، فَلَا اشْتِرَاكَ، وَإنْ كَانَ الصِّفَةَ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْقَدِيمِ؛ فَلَا اشْتِرَاكَ؛ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالْإِمْكَانَ لَا يَمْنعُ التَّوَاطُؤَ؛ كَالْعَالِمِ وَالْمُتكَلِّمِ؛ قَالُوا: لَوْ وُضِعَتْ، لَاخْتَلَّ الْمَقْصُودُ مِنَ الْوَضْع؛ قُلْنَا: يُعْرَفُ

لَخَلَتْ أكثر المسمَّيات، "ويكون"

(1)

كأنواع الرَّوائح"؛ في كونها لم توضع لها أسماء، فلم يُستحلَّ خلوُّ بعض المعاني عن الأسماء.

الشرح: "واستدلَّ" أيضًا على وقوع المشترك؛ بأنه "لو لم يكن" واقعًا، "لكان الموجودُ في القديمِ والحادثِ متواطئًا"؛ واللازمُ باطلٌ، والملازمة واضحة؛ "لأنه حقيقة فيهما"، فلو لم يكن باعتبار وَضْعِهِ لخصوصهما، لكان [بالتَّوَاطئ، أي]

(2)

: باعتبار وضعه

(3)

لأمر عامٍّ - مشتركٌ بينهما عند من يجعل صدْقَ التواطؤ في أفراده بالحقيقة، "وأما الثانية"، أي

(4)

: المقدّمة الاستثنائية؛ "فلأن" الذي يُسمَّى "الموجودَ

(5)

، إن كان الذاتَ"؛ كما يقول الأَشْعَرِيّ، "فلا اشتراك"؛ لِمُخَالفة ذات واجب

(6)

الوجود سائِرَ الذوات، "وإن كان صفة" زائدة على الذات، "فهي وَاجِبَةٌ في القديم"، ممكنةٌ في الحادث؛ وحينئذٍ؛ "فلا اشتراك"، فأين المتواطؤ؟.

"وأجيب بأن الوجوب والإمكان لا يمنع" واحدٌ منهما "التَّوَاطُؤَ"؛ لكونه من الصفات العارضة للمعنى المشترك؛ "كالعَالِمِ والمتكلِّم"؛ فإنهما في القديم واجبان، وفي الحادث ممكنان، مع اشتراكهما في المعنى.

فإن قلت: إطلاق العالم والمتكلِّم على القديم والحادث ليس بالتواطؤ، [بل]

(7)

بالتشكيك

(8)

؛ إذ هو من القديم أوْلَى وأحْرَى.

قلت: كأنه تَوَسَّع هنا، فجعل المُتَواطِئَ أَعَمَّ؛ إذ غرضُهُ هنا دفع الاشتراك اللَّفظي، وهو حاصل بكل من التواطؤ والتشكيك

(9)

.

(1)

في أ، ج، ح: وتكون.

(2)

سقط في ج.

(3)

ثبت في ج ت زيادة لخصوصهما لكان باعتبار وضعه.

(4)

في حاشية ج: قوله: أي المقدمة الاستثنائية، وهي المعبر عنها بقوله: واللازم باطل؛ لأنه بمعنى، لكن الوجود فيها غير متواطئ.

(5)

في ب، ت: الوجود.

(6)

في ت: واجبه.

(7)

سقط في أ، ح.

(8)

في ت: بالشكلى.

(9)

حكى العضد في حاشيته على المختصر جوابين: =

ص: 361

بِالْقَرَائِنِ، وَإِنْ سُلِّمَ، فَالتَّعْرِيفُ الْإِجْمَالِيُّ مَقْصُودٌ؛ كَالْأَجْنَاسِ.

والمَانِعُونَ من وقوع الألفاظ المُشْتَركَة "قالوا: لو وضعت، لَاختلَّ المقصود من الوضع"؛ واللازم باطل، وبيان الملازمة: أن الفَهْمَ لا يحصل مع الاشتراكِ من حيثُ هو مشترك.

"قلنا: يعرفُ" مرادُ المتكلِّم "بالقرائن".

فإن قلت: فإذن يحتاج إلى انضمام قرينة، والقرائن [في]

(1)

الغالب خفيةٌ، ثم هَبْ أنها واضحة، فما الدَّاعي

(2)

إلى لفظ يحتاج فهْمُ المراد منه إلى قرائن.

فاعلم أن هذا لا يدفع الوقوعَ.

"وإن سُلِّم"؛ أنه لا يحصل بالمشترك فَهْمُ المراد بالتفصيل - "فالتعريف الإجمالي مقصود؛ كالأجناس"؛ فهي تفيد الماهية من غير تفصيل لما تَحْتَهَا.

ولقائل أن يقول: الأجناس تفيد قدرًا مشتَرَكًا بين ما تحتها أجْمَعَ، فامكن الامتثال

(3)

فهي أولى من المشترك، إذ لا يتأتى فيه هذا، ولهذا لم يمنع أحدٌ الوضْعَ للأجناس، فلو حذف المصنِّف الاستشهاد لهذا، لكان أحسن.

والتعريف الإجمالي حاصل بالمشترك، وإن لم يكن كالأجناس؛ فإن سامع المشترك يعرف أن المراد به بعض مدلولاته، فيستفيد ذلك، ثم يستعدُّ للامتثال

(4)

.

= أحدهما: هذا، والثاني: أن المصنف رحمه الله لا يرى التشكيك فقال: إما؛ لأنه لا يرى التشكيك فإنه قال في (المنتهى): واعترض أن ذلك إن كان مأخوذًا في الماهية فلا اشتراك وإلّا فلا تفاوت، ولم يجب عنه، والجواب أنه مأخوذ في ماهية ما صدق عليه ذلك دون ماهيته. وقوله:"واعترض" أي: على التشكيك بأن ذلك الأمر الزائد به التفاوت إن كان مأخوذًا في مفهوم المشكك فلا اشتراك فيه للأفراد؛ لأنه يوجد في الأشد دون الأضعف، وإن لم يكن مأخوذًا فيه فلا تفاوت بين الأفراد في ذلك المفهوم، مثلًا إن كان مفهوم البياض هو اللون المفرق للبصر مع الخصوصية التي توجد في الثلج، فلا اشتراك للعاج فيه، وإن كان مجرد اللون المفرق فالكل فيه على السواء. والجواب أنه مأخوذ في ماهية الفرد الذي يصدق عليه المشكك، كبياض الثلج لا في نفس مفهوم المشكك كمطلق البياض، فالأفراد متفاوتة الماهبات في ذلك المفهوم، والمفهوم مشترك بين الكل. ينظر: العضد 1/ 133.

(1)

سقط في ب.

(2)

في حاشية ج: قوله: فما الداعي؟ قد تقدم أنه عدم التناهي. تأمل.

(3)

في أ، ت، ح: الإمساك، وفي ب بياض.

(4)

في أ: للأمثال، وفي ب بياض.

ص: 362

مَسْأَلَةٌ:

وَوَقَعَ فِي الْقُرْآنِ؛ عَلَى الْأَصَحِّ؛ كَقَوْلهِ تَعَالَى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، و {عَسْعَسَ} لِـ (أقبَلَ)، وَ (أَدْبَرَ).

قَالُوا: إِنْ وَقَعَ مُبَيَّنًا، طَالَ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَغَيْرَ مُبَيَّنٍ - غَيْرُ مُفِيدٍ، وَأجِيبَ: فَائِدَتُهُ مِثْلُهَا فِي الْأَجْنَاسِ، وَفِي الْأَحْكَامِ الاسْتِعْدَادُ لِلامْتِثَالِ، إِذَا بُيِّنَ.

وهذا عند من لا يحمل المشترك على معانيه، وأما من يحمله، فلا يخفى حصول الفائدة بالمشتَرَكِ عنده.

"مسألة"

الشرح: "ووقع" المشترك "في القرآن؛ على الأصح؛ كقوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} "[سورة البقرة: الآية، 228]؛ فإن لفظ القُرْء

(1)

بالاشتراك اللفظي للطُّهر والحَيْض، "و {عَسْعَسَ} "؛ في قوله:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ، [سورة التكوير: الآية، 17]؛ فإنَّها لفظة موضوعة "لِـ (أقْبَلَ)، وَ (أَدْبَرَ)

(2)

"، والقرآن لا يتأتى الاستشهاد به إلّا على الأصح.

أما على ما ذهب إليه بعضهم - وهو وجه في مذهبنا - من أنه حقيقة في الطُّهر، مَجَاز في الحيض - فلا يتأتى.

وإنما أتى المصنِّف بهذين المِثَالَيْنِ؛ لأن الأول من الأسماء، والثاني من الأفعال، وأحدهما مفرد، والآخر جمع؛ ليفهم بذلك أن القرآن مَشْحُون بالمشترك على اختلاف

(3)

أنواعه.

الشرح: "قالوا: إن وقع" المشترك "مبيَّنًا" فيه مرادُ المتكلّم - "طال" الكلام "بغير فائدة، وغيرَ مبيَّن غيرُ مفيد" - فيقبح الخطاب به.

"وأجيب": بأنا نختار وقوعه غير مبيَّن.

[قولكم]

(4)

: غير مفيد:

قلنا: ممنوع؛ و"فائدته" إجمالية "مثلُها في الأجناس"؛ فإن الفائدة في الأجناس أيضًا إجمالية، "و "هذه الفائدة الإجمالية حاصلة في المشترك، سواء أورد "في الأحكام" أم غيرها؛

(1)

في ت: القرؤ.

(2)

ذكره الجوهري في الصحاح 3/ 949 مادة (عسس).

(3)

في ح: اختلاف على.

(4)

بياض في ب.

ص: 363

‌الْمُتَرَادِفُ

مَسْأَلَةٌ:

المُتَرَادِفُ وَاقِعٌ؛ عَلَى الْأَصَحِّ؛

على خلاف ما فهم الشَّارحون، والإجمالية في الأحكام أفاد به أصل التشريع

(1)

.

وفائدته في الأحكام، أي: يخص الأحكامَ فائدةٌ أخرى؛ وهي "الاستعداد للامتثال

(2)

[إذا بين]

(3)

" المراد.

"مسألة"

الشرح: "المترادفُ واقعٌ؛ على الأصحِّ"

(4)

.

(1)

الشريعة في الأصل اسم للمشرعة، وهي مورد الماء الجاري الذي يقصد للشرب والسقي، ومنه: شرعت الإبل: وردت شريعة الماء أو دخلت فيه، وأشرعها صاحبها وشرَّعها إشراعًا وتشريعًا: أوردها الشريعة أو أدخلها في الماء. وتطلق الشريعة أيضًا على الطريقة المستقيمة، ومنه: قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} ثم أطلقت في لسان الفقهاء الإسلاميين على الأحكام التي سنها الله لعباده؛ ليكونوا مؤمنين عاملين على ما يسعدهم في الدنيا والآخرة. وسميت هذه الأحكام شريعة إما لأنها شبيهة بمورد الماء من جهة أنها توصل إلى حياة النفوس كما أن المورد يوصل إلى ما فيه حياة الأبدان. وإما لأنها مستقيمة لا اختلاف فيها ولا اضطراب، كالجادة المستقيمة لا التواء فيها ولا اعوجاج. وعلى هذا يقال: شرع الدين يشرعه شرعًا: سنه وبينه وأظهره، وفي التنزيل:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} وقد يضعّف الفعل فيقال: شرَّع تشريعًا إذا سَنَّ وبين شريعة وأحكامًا، فالتشريع من الأحكام وإنشاء القوانين.

(2)

في أ، ب، خ: للأمثال.

(3)

سقط في ت.

(4)

ينظر: مباحث الترادف في: البحر المحيط للزركشي 2/ 105، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 24، والتمهيد للإسنوي ص 161، ونهاية السول له 2/ 154، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 286، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 45، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 209، وحاشية البناني 1/ 290، والإبهاج لابن السبكي 1/ 238، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 96، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 379، والتحرير لابن الهمام ص 56، وتيسير التحرير 1/ 176، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/ 134، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 18، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 114، والكوكب المنير للفتوحي ص 41، والمختصر لابن اللحام ص 41.

ص: 364

كَأَسَدٍ وَسَبُعٍ؛ وَجُلُوسٍ وَقُعُودٍ.

خلافًا لأبي العباس ثعلب، وأبي الحسين أحمد بن فارس

(1)

؛ حيث أنكرا

(2)

المترادف

(3)

؛ زاعمَيْن أن كلّ ما يظن مترادفًا، فهو من المتباينات بالصفات؛ كما في الإنسان والبشر؛ فإن الأول باعتبار النِّسْيان، أو باعتبار أنه يؤنس؛ والثاني باعتبار أنه بادي البَشَرة.

وسبيل الرد عليهما صُوَر لا محيص عنها؛ "كأسدٍ وسبع"، في الأعيان؛ "وجلوس وقعود"؛ في المعاني.

وأوضحُ من ذلك التمثيلُ بالبُرّ والحِنْطَةِ؛ وإلّا فقد يقولان: موضوع السَّبعُ أعم من الأسد؛ وعليه حديث: "نُهِيَ عَنْ أَكلِ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ"

(4)

، والجلوس: الاستقرار عن قيام، والقعود: الاستقرار عن اضطجاع، وقيل: عكسه.

وذلك الردُّ عليهما أيضًا [بما]

(5)

في "سنن أبي داود"

(6)

(1)

أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين: من أئمة اللغة والأدب من تصانيفه: "مقاييس اللغة" و"المجمل" و"الصاحبي" في علم العربية، ألفه لخزانة الصاحب بن عباد، و"جامع التأويل" في تفسير القرآن. ينظر: الأعلام 1/ 193، وابن خلكان 1/ 35، واليتيمة 3/ 214.

(2)

في ح: أنكر.

(3)

المترادفان هما اللفظان المتغايران، الموضوعان لمعنى واحد مستعملان مفردًا، فبالقيد الأول يخرج الاسم الموضوع لمعنى واحد إذا كرر - أعني التأكيد اللفظي - نحو: جاء زيد زيد - وبالثاني التأكيد المعنوي والأسماء المتباينة والاسم والحد؛ لأن الأول موضوع للمجموع من حيث هو مجموع، والثاني للأجزاء، وبالثالث بعض التأكيد المعنوي، والتابع نحو: شيطان ليطان؛ إذ لا يستعمل كل منهما مفردًا.

ينظر: الشيرازي 48 ب/ خ.

(4)

أخرجه مالك في الموطأ 2/ 496، في كتاب الصيد: باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع (13)، والبخاري 9/ 573، في الذبائح والصيد: باب أكل كل ذي ناب من السباع (5330)، ومسلم 3/ 1532، كتاب الصيد والذبائح: باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع (14 - 1932).

(5)

في ت: لما.

(6)

أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شدَّاد، الأزدي السِّجستاني، ولد سنة 202 هـ، وطوف وسمع بـ: خراسان، والعراق، والجزيرة، والشام، والحجاز، ومصر من خلق كثيرين، وقد روى عنه السُّنَنَ: ابن داسة، واللؤلؤي، وابن الأعرابيٍ، وأبو عيسى الرملي. قال ابن حبان: أبو داود أحد أئمة الدنيا فقهًا، وعلمًا، وحفظًا، ونسكًا، وورعًا، وإتقانًا. توفي سنة 275 هـ، بالبصرة. =

ص: 365

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والترمذي

(1)

وابن ماجه

(2)

من حديث العباس بن عبد المطَّلب - رضي الله تعالى عنه - قال: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبَطْحَاء، فمرت سحابة، فقال صلى الله عليه وسلم:"أَتَدْرُونَ، مَا هذَا؟ " فقلنا: السحاب، قال:"وَالمُزْن؟ "، قلنا: والمزن، قال:"وَالعَنَان؟ "

(3)

الحديث.

= ينظر: تهذيب الكمال 1/ 530، وتهذيب التهذيب 4/ 169، والكاشف 4/ 169، والجرح والتعديل 4/ 256.

(1)

محمد بن عيسى بن سورة [بمهملتين] بن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى الترمذي الحافظ الضرير، أحد الأئمة الأعلام، وصاحب الجامع والتفسير. عن خلق مذكورين في تراجمهم من هذا المختصر وغيره. وعنه محمد بن إسماعيلِ السمرقندي وحماد بن شاكر وأبو العباس المحبوبي والهيثم بن كليب وخلق من أهل سمرقند ونسف وتلك الديار. وقال ابن حبان: كان ممن جمع وصنف. قال أبو العباس المستغفري: مات سنة تسع وسبعين ومائتين.

ينظر: سير أعلام النبلاء 13/ 270، ووفيات الأعيان 4/ 278، والخلاصة 2/ 447، وتذكرة الحفاظ 2/ 633.

(2)

محمد بن يزيد الربعي أبو عبد الله بن ماجه، وماجه لقب أبيه يزيد القزويني، الحافظ، أحد الأئمة وصاحب السنن والتفسير، وذو الرحلة الواسعة. روى عنه السنن أبو الحسن القطان. قال أبو يعلى الخليلي: ثقة كبير، متفق عليه محتج به، له معرفة وحفظ، توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين.

ينظر: خلاصة الخزرجي 2/ 471.

(3)

الحديث عن عباس بن عبد المطلب قال: كنا جلوسًا مع رسول الله بالبطحاء فمرت سحابة، فقال:"أتدرون ما هذا؟ " قلنا: السحاب، قال:"والمزن"؟ فقلنا: والمزن، قال:"والعنان"؟ قال: فسكتنا، فقال:"أتدرون كم بين السماء والأرض؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:"بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكشف كل سماء خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تبارك وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء".

هذا حديث لا يصح، قال بعض الحفاظ: تفرد به يحيى بن العلاء، قال أحمد: هو كذاب يضع الحديث. وقال يحيى: ليس بثقة. وقال الفلاس: متروك الحديث: وقال ابن عدي: أحاديثه موضوعات، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقد رواه عباد بن يعقوب، فزاد في إسناده الأحنف بن قيس عن العباس، قال ابن حبان: عباد يروي المنكير عن المشاهير، فاستحق الترك. وقد روي لنا من طريق آخر على ألفاظ أخر.

أخبرنا ابن الحصين قال: نا أبو طالب بن غيلان، قال: أنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي قال: =

ص: 366

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أنا موسى بن إبراهيم وعبد الله بن محمد بن ناجية قالا: نا لوين قال: أنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس قال: كنت جالسًا بالبطحاء في عصابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ومرت عليهم سحابة، فنظر إليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هل تدرون ما اسم هذه؟ "قالوا: نعم، هذه السحاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والمزن والعنانة"، ثم قال:"أتدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ " قالوا: يعني لا. قال: "إن بعد ما بينهما إما واحد وإما اثنتان وإما ثلاث وسبعون سنة، والسماء فوقها" حتى عد سبع سموات. ثم قال: "فوق السماء السابعة بحر ما بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء، ثم فوق ظهورهن العرش، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله عز وجل فوق ذلك".

قال ابن نمير ويحيى بن معين: الوليد ليس بشيء. وقال ابن نمير في رواية: هو كذاب. وقال أحمد والنسائي: ضعيف. ولم ينفرد به الوليد بل تابعه عمرو بن قيس عند أبي داود ص (369، ج 4)، والترمذي ص (205، ج 4)، وابن مندة في كتاب التوحيد كما في العلو للذهبي ص (109)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وتابعه أيضًا إبراهيم بن طهمان كما أخرجه أبو داود ص (369، ج 4)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص (287)، وقال الترمذي: روى شريك عن سماك بعض هذا الحديث، ووقفه ولم يرفعه، وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص (82)، والحاكم في المستدرك ص (501، ج 2)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد أسند هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شعيب بن خالد الرازي والوليد بن أبي ثور وعمرو بن ثابت بن المقدم عن سماك بن حرب، ولم يحتج الشيخان بواحد منهم، وقد ذكر حديث شعيب بن خالد إذ هو أقربهم إلى الاحتجاج به، ثم رواه بإسناده عن عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن شعيب، ووافقه الذهبي على أن الإسناد الأول الموقوف على شرط مسلم، ثم تعقب في تجويده حديث شعيب فقال: يحيى واه، بل حديث الوليد أجود. قلت: موافقته على الإسناد الأول لا يصح؛ لأن عبد الله بن عميرة لم يخرج له مسلم. فالحاصل أن الوليد ليم ينفرد به، لكن فيه علة أخرى أشار إليها ابن مندة حيث قال: تفرد به سماك عن عبد الله، وعبد الله فيه جهالة انتهى كما في العلو للذهبي ص (109). وقد قال الإمام مسلم في الوحدان ص (14): تفرد سماك بالرواية عنه "أي ابن عميرة" وذكره الحافظ أيضًا في التهذيب ص (544، ج 15)، وسماك وإن كان صدوقًا إلا أنه كان ربما لقن، فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة كما قال ابن حبان، ومع ذلك فيه عبد الله بن عميرة وفيه جهالة. ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ص (124، ج 1، ق 2) ولم يذكر فيه شيئًا فهو مجهول عنده كما صرح في مقدمة الجرح والتعديل ص (38، ج 1، ق 1)، حيث قال: على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روي عنه العلم؛ رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله تعالى. على أن الحافظ ابن كثير والحافظ ابن حجر يذكران كثيرًا من الرواة سكت عنهم ابن أبي حاتم فيقولان: إنه مجهول أو مستور، انظر التهذيب ص (391، ج 1) حيث قال: إياس بن نذير ذكره ابن حبان في الثقات =

ص: 367

قَالُوا: لَوْ وَقَعَ، لَعَرِيَ عَنِ الْفَائِدَةِ؛ قُلْنَا: فَائِدَتُهُ التَّوْسِعَة، وَتَيْسِيرُ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ لِلرَّوِيِّ أَوِ الْوَزْنِ، وَتَيْسِيرُ التَّجْنِيسِ وَالْمُطَابَقَةِ.

الشرح: ومنكرو الترادف "قالوا: لو وقع، لعري" اللفظ "عن الفائدة"؛ لحصولها باللَّفظ الآخر؛ "قلنا: فائدته: التوسعة" في العبارة، "وتيسير النَّظْم والنثر وللرَّوِيِّ"

(1)

، وهو الحرف الذي تبنى

(2)

عليه القصيدة، سواءٌ أكان

(3)

آخر حرف في البيت أم لا، "أو الوزن"؛ بسبب موافقة أحد اللفظين رويًّا، أو استقامةٍ للوزن دون [الآخر]

(4)

، "أو تيسيرُ التجنيسِ والمُطَابقة"؛ فلا يخفى أن قوله تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [سورة الروم: الآية، 55]- أبلغُ من قولنا: ما لبثوا غير لحظة، وقولَهُ:{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [سورة الكهف: الآية، 104]- أوقعُ من قولنا: وهم يتوهَّمون أنهم يحسنون، وأقسامُ الجناس كثيرةٌ معروفةٌ في البديع، وتيسيرُ المُطَابقة

(5)

؛ وهي الجمع بين المُتَضَادَّين، مع مُرَاعاة التَّقَابل فيه - نحو:{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [سورة التوبة: الآية، 82].

= وذكره ابن أبي حاتم وبيض فهو مجهول، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره ص (138، ج 1) ذكره "أي موسى بن جبير" ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يحك فيه شيئًا من هذا ولا هذا، فهو مستور الحال انتهى. فهذا أيضًا يدل على ما قلنا: بأن ابن عميرة ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه الجرح ولا التعديل فهو مجهول، ويؤيده قول الحربي: لا أعرفه. كما في التهذيب ص (344، ج 5). وقال الحافظ في التقريب: مقبول، أي حيث يتابع، وأما توثيق ابن حبان وحده فلا يعتبر به.

(1)

في الأصول: والروي، والمثبت من أصل الكتاب.

(2)

في أ، ب: يبنى.

(3)

في ب: كان.

(4)

سقط في ب.

(5)

المطابقة، وتسمى التطبيق والطباق والتكافؤ، والتضاد أيضًا: هي الجمع بين معنيين متضادين، أي متقابلين في الجملة، أي يكون بينهما تقابل، وتناف، ولو في بعض الصور، ويكون ذلك الجمع بلفظين، إما من نوع واحد من أنواع الكلمة اسمين نحو:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} ونحو قوله:

ولقد نزلت من الملوك بماجد

فقر الرجال إليه - مفتاح الغنى

أو فعلين، نحو:"يحيي ويميت" ونحو: "ثم لا يموت فيها ولا يحيى" وكقوله:

أما والذي أبكي، وأضحك، والذي

أمات، وأحيى، والذي أمره الأمر

أو حرفين نحو: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وكقوله: [الطويل]

عَلَى أَنَّنِي رَاضٍ بِأَنْ أَحْمِلَ الْهَوَى

وَأَخْلُصَ مِنْهُ لَا عَلى، وَلَا لِيَا

ص: 368

قَالُوا: تَعْرِيفُ الْمُعَرَّفِ؛ قُلنا: عَلَامَةٌ ثَانِيَةٌ.

واضحٌ، فقد تحصل المطابقة بأحد اللفظين دون الآخر؛ وكذلك الوزنُ؛ كقول الشاعر:[الطويل]

فَلَا الجُودُ يُفْنِي الْمَالَ وَالْجَذُ مُقْبِلٌ

وَلَا الْبُخْلُ يُبْقِي الْمَالَ وَالْجَدُّ مُدْبِرُ

(1)

وإنما يتصور ذلك، إذا كان أحدهما موضوعًا بالاشتراك لمعنى آخر يحصل باعتباره التقابل

(2)

، دون صاحبه.

قال القاضي عضُد الدِّين: كما قيل: خَسُّنا

(3)

خير من خَسِّكم، وقيل في مقابلته: خَسُّنا خير من خِيَارِكُم، فوقع

(4)

، التَّقَابلُ بين الخسّ والخيار؛ بوجه، ووقع بينهما المُشَاكلةُ؛ بوجْه آخر، ولو قال: خير من قِثَّائكُم، لم يحصل التَّقَابُل

(5)

.

الشرح: "قالوا": التَّرادُف: "تعريف المعرَّف"؛ لأن اللَّفظ الثَّاني تعريفٌ لما عرَّفَ الأوَّلُ؛ وذلك محال.

"قلنا": بل "علامة ثانية"

(6)

، ويجوز أن يكون للشَّيء علاماتٌ؛ وهذا على تقدير أن يكون الوضع من واحد مرتَّبًا، أما إن كان من واضعين أو واحدِ دفعةً واحدةً، فلا يُتخيل تعريف المعرَّف أصلًا.

(1)

البيت في معاهد التنصيص 1/ 207، وهو شاهدٌ على حسن المقابلة.

(2)

في حاشية ج: التقابل: ذكر معنيين متقابلين.

(3)

في حاشية ج: قوله: "خسنا خبر من خسكم" هذا قاله مصري لبغدادي، فقال البغدادي في جوابه: خسنا خير من خياركم، فوقع التقابل بين الخس والخيار بوجه، وهو أن يراد بالخس الخسيس، وبالخيار خلاف الأشرار، ووقع بينهما المشاكلة أيضًا بوجه آخر، وهو أن يراد بالخس النبت المعروف، وبالخيار القثاء، والمراد بالمشاكلة هو التناسب، أعني جمع أمر مع ما يناسبه لا بالتضاد لا المصطلح عليها. سيد.

(4)

في حاشية ج: قوله: "فوقع التقابل

" إلخ والأولى بدل التقابل المطابقة على ما هو المعروف عند علماء البديع. وقوله: "المشاكلة إطلاقها على الجمع بين المعنيين المتوافقين كالخس بمعنى البقل، والخيار بمعنى القثاء، إنما هو باعتبار اللغة، وإلا فهي: ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته.

(5)

ينظر: العضد 1/ 136.

(6)

في أ، ح: ما بينه.

ص: 369

‌الْحَدُّ وَالْمَحْدُودُ غَيْرُ مُتَرَادِفَيْنِ

مَسْأَلَةٌ:

الْحَدُّ وَالْمَحْدُود، وَنَحْوُ:"عَطْشَانُ نَطْشَانُ"، غَيرُ مُتَرَادِفَيْنِ؛ على الْأَصَحِّ؛ لأَنَّ الْحَدَّ يَدُلُّ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَ"نَطْشَانُ" لَا يُفْرَدُ.

مَسْأَلَةٌ:

يَقَعُ كُلٌّ مِنَ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَكَانَ الآخَرِ؛ لأِنَّهُ بِمَعْنَاه، وَلَا حَجْرَ فِي

"مسألة"

الشرح: "الحد والمحدود، ونحو: عطشانُ نطشانُ"، أي: الاسم وتابعه: كخَرابٍ يَبابٍ - "غيرُ مترادفين؛ على الأصح"؛ خلافًا لمن توهّم الترادف؛ لما رأى أن كلًّا من الحَدّ والمحدود يستلزم صدقُه صدقَ الآخر، وأن معنى التابع والمتبوعِ واحدٌ.

ومذهبه في الحد ضعيف؛ "لأن الحَدّ يدل؛ على المفردات"، أعني: أجزاء المحدود؛ بالتفصيل، والمحدود يدلّ عليها؛ بالإجمال.

وأما في التابع، ففي غاية السُّقوط؛ إذ التابع لا يقوم مقام المتبوع؛ بخلاف المترادفين، ولا يستعمل منفردًا عن المتبوع؛ وإليه أشار بقوله:"ونَطْشانُ لا يفرد".

وأطلق البيضاوي في "منهاجه"

(1)

أن التابع لا يفيد.

والآمدي

(2)

قال: قد لا يفيد معنى أصلًا؛ بإثبات (قد).

والإمام قال في "المحصول": شرط كونه مفيدًا تقدُّم الأول عليه.

قلت: ويفيد التقوية حينئذٍ؛ هذا هو الحق.

"مسألة"

الشرح: "يقع كل من المترادفين مكان الآخر" حال التركيب؛ خلافًا للإمام الرَّازي، ومن تبعه؛ "لأنه بمعناه، ولا حَجْر في التركيب" في الألْفَاظ.

(1)

ينظر: المنهاج مع نهاية السول 2/ 105.

(2)

ينظر: الإحكام 1/ 26، (72).

ص: 370

التَّرْكِيبِ؛ قَالُوا: لَوْ صَحَّ، لَصَحَّ "خَداي أَكْبَرُ"؛ وَأُجِيبَ بِالْتِزَامِهِ؛ وَبِالْفَرْقِ بِاخْتِلَاطِ اللُّغَتَيْنِ.

"قالوا: لو صَحّ" وقوعه، "لصح" أن يقال: في الصَّلاة: "خداي أكبر"؛ إذ لا فرق في كون اللفظ موضوعًا للمعنى

(1)

؛ باصطلاح لغة، أو لغتين.

"وأجيب بالتزامه" أولًا، فنقول: يصح (خداي أكبر)؛ "وبالفرق" ثانيًا

(2)

بين كون المترادف من لغة، أو لغتين؛ "باختلاط

(3)

اللُّغتين"؛ وهو رأي ثالث في المسألة مفصَّل ذهب إليه البَيْضَاوي والهِنْدِيّ.

والحَقّ في الجواب: أن عدم صِحَّة (خداي أكبر)

(4)

؛ إنما هو للتعبُّد في الصَّلاة عند أصحابنا بلفظ (الله أكبر)، والخلاف في هذه المسألة؛ إنما هو حيث لا يقع تعبُّد بسبيكة لفظٍ، فإن وقع، فليس من هذا الباب في شيء، وذلك كلفظ التكبير

(5)

، والنِّكَاح، واللِّعَان

(6)

، للقادر على العربية، وأمثالِ ذلك.

(1)

في ب، ت، ح: موضوعًا باصطلاح.

(2)

في ت: بائنًا.

(3)

في أ، ج: باختلاف.

(4)

كلمة فارسية بمعنى "الله أكبر".

(5)

في أ، ح: التكبيرة.

(6)

اللعان لغةً: مصدر لاعن لعانًا: إذا فعل ما ذكر، أو لعن كل واحد من الاثنين الآخر. قال الأزهري: وأصل اللعن: الطرد، والإبعاد. يقال: لعنه الله، أي: باعده.

ينظر: لسان العرب 5/ 4044، والمصباح المنير 2/ 761.

واصطلاحًا:

عرَّفه الحنفية بأنه: شهادات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن قائمة مقام حد القذف في حقه، ومقام حد الزنا في حقها.

وعرَّفه الشافعية بأنه: كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق العار به أو إلى نفي ولد.

وعرَّفه المالكية بأنه: حلف زوج مسلم مكلف على زنا زوجته أو نفى حملها وحلفها على تكذيبه أربعًا.

وعرَّفه الحنابلة بأنه: شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين مقرونة باللعن والغضب قائمة مقام حد قذف أو تعذيب أو حد زنا في جانبها. ينظر: تبيين الحقائق 3/ 14، وحاشية ابن عابدين 2/ 585، ومغني المحتاج 3/ 367، والشرح الصغير 2/ 299، والكافي 2/ 609، وكشاف القناع 5/ 390، والإشراف 2/ 167.

ص: 371

‌الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ

مَسْأَلَةٌ:

الْحَقِيقَةُ: اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي وَضْع أَوَّلٍ؛ وَهِيَ: لُغَوِيَّةٌ، وَعُرْفِيَّةٌ، وَشَرْعِيَّةٌ؛ كَالْأَسَدِ، وَالدَّابَّةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْمَجَازُ: الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ وَضْع أَوَّلٍ؛ عَلَى وَجْهٍ يَصِحّ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَلَاقَةِ: وَقَدْ تكونُ بِالشَّكْلِ؛ كَالْإِنْسَانِ لِلصُّورَةِ، أَوْ فِي صِفَةٍ

«مسألة»

الشرح: "الحقيقة: اللَّفظُ المستعمل في وضعٍ أوَّل"

(1)

.

والأولية في [كلِّ]

(2)

لغة بالنسبة إليها؛ فهي اللغوية، أو الوضعية

(3)

من أهل اللسان، والشرعيةُ من أهل الشرع، والعرفيةُ من أهل العرف، وخرج بقولنا: أول - المجازُ؛ فإنه فيما وضع ثانيًا.

"وهي: لغوية، وعرفية، وشرعية

(4)

؛ كالأسد، والدَّابَّة، والصلاة.

والمجازُ": القول "المستعمل في غير وضعٍ أولٍ؛ على وجه يصح".

وإنما قلنا: على وجه يصح؛ ليعلم اشتراط العلاقة فيه.

"ولا بد" في التجوّز "من العلاقة" بين الحقيقة والمجاز

(5)

؛ وإلا لَتُجُوِّزَ

(6)

عن كلّ معنى

(1)

في حاشية ج: قوله: "وفي وضع أول" أي: بسببه.

(2)

سقط في ح.

(3)

في ب: الواضعة.

(4)

السبب في انقسامها هذا هو أن الحقيقة لا بد لها من وضع، والوضع لا بد له من واضع، فمتى تعين عندك نسبتَ إليه الحقيقة، فقلت:"لغوية" إن كان صاحب وضعها واضع اللغة، وقلت:"شرعية" إن كان صاحب وضعها الشارع، ومتى لم تتعين قلت: عرفية، سواء كان عرفًا خاصًّا أو عامًا.

مثال اللغوية: الإنسان المستعمل في الحيوان الناطق.

ومثال الشرعية: الصلاة المستعمل في العبادة المخصوصة.

ومثال الثالث: الدابة لذوات الأربع.

ولا يخفى عليك انقسام المجاز أيضًا إلى نحو هذه الثلاثة؛ فإن الإنسان المستعمل في الناطق مثلًا مجاز لغوي، والصلاة المستعمل في الدعاء مجاز شرعي وإن كان حقيقة لغوية، والدابة في استعمال كل ما يدب مجاز عرفي وإن كان حقيقة لغوية. ينظر: الشيرازي 51 ب/ خ.

(5)

اعلم أن لفظي الحقيقة والمجاز حقيقتان عرفيتان في المعنيين، ومجازان لغويان؛ إذ الحقيقة فعيلة من الحق وهو الثابت إذ يذكر في مقابلة الباطل الذي هو المعدوم، والفعيل إما أن يكون للفاعل كالعليم =

(6)

في أ، ب، ت: إلّا التجوز.

ص: 372

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أو للمفعول كالجريح، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية إذا كان المعنى الثاني، ولهذا لا يقال: شاة أكيلة ونطيحة. ينظر: الشيرازي على المختصر 51/ ب، والبحر المحيط للزركشي 2/ 152، وسلاسل الذهب له ص 182، والتمهيد للإسنوي ص 185، ونهاية السول له 2/ 145، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 327، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 46، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 221، والمستصفى للغزالي 1/ 341، وحاشية البناني 1/ 300، والإبهاج لابن السبكي 1/ 271، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 152، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 68، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 393، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 14، 2/ 405، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/ 437، والتحرير لابن الهمام ص 160، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 72، 2/ 2، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 225، وحاشية التفتازاني والشريف على المنتهى 1/ 138، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 72، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 97، وشرح مختصر المنار للكوراني ص 58، والوجيز للكراماستي ص 8، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 527، وتقريب الوصول لابن جزي ص 73، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 250، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 21، والكوكب المنير للفتوحي ص 39، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 2.

والمجاز مَفْعَل من الجواز إما بمعنى العبور وأنه يحنص بالجسم، فاستعماله في اللفظ مجاز في التشبيه؛ ولأن بناء المفعل للمصدر أو الموضع لا للفاعل، فاستعماله في اللفظ المنتقل مجاز. وإما بمعنى الإمكان، وحيئنذ يكون اللفظ حقيقة؛ لأن الجواز بهذا المعنى كما يمكن حصوله للأجسام يمكن حصوله في الأعراض.

ينظر: الشيرازي على المختصر، والبحر المحيط للزركشي 2/ 158، وسلاسل الذهب له ص 190، والتمهيد للإسنوي ص 185، ونهاية السول له 2/ 145، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 354، وغاية الوصول للشبخ زكريا الأنصاري ص 47، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 221، والمستصفى للغزالي 1/ 341، وحاشية البناني 1/ 304، والإبهاج لابن السبكي 1/ 273، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 152، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 387، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 399، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 14، 5/ 402، والإحكام في أصول الأحكام 4/ 437، والتحرير لابن الهمام ص 160، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 73، 2/ 3، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 226، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/ 138، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 72، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 98، وشرح مختصر المنار للكوراني ص 59، والوجيز للكراماستي ص 8، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 527، وتقريب الوصول لابن جزي ص 73، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 22، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 124، والكوكب المنير للفتوحي ص 39 - 56، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 2.

ص: 373

ظَاهِرَةٍ؛ كَالْأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ، لَا عَلَى الْأَبْخَرِ؛ لِخَفَائِهَا؛ أَوْ لأِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا؛ كَالْعَبْدِ؛ أَوْ

بكل لفظ، ولكان اللّفظ مشتَرَكًا بينهما.

"وقد تكون"

(1)

العلاقة "بالشَّكل؛ كالإنسان"؛ يقال "للصورة" الممثَّلة بالإنسان الحقيقي المنقوشَةِ على الجدار.

"أو "لاشتراكهما "في صفة ظاهرة" بينهما؛ "كالأسد على الشُّجاع"؛ لاشتراكهما في الشَّجَاعة الظاهرة في الأسد، "لا" لإطلاق الأسد "على" الرجل "الأبْخَر"؛ إذ لا يجوز، وإن كان البَخَرُ من صفات الأسد؛ "لخفائها" فيه.

ولقد صرح أبو إسحاق الشِّيرازيُّ في مُنَاظرة جرت بينه، وبين إمام الحَرَمَيْنِ؛ بأنه لا يقال للبليد: بَغْل، وإن فيل له: حمار؛ لمثل ذلك.

"أو لأنّه كان عليها؛ كالعبد" يطلق على المُعْتَقِ؛ باعتبار ما كان عليه؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ

(2)

. فَصَاحِبُ المَتَاعِ"

(3)

، أطلق عليه صاحب المتاع؛ باعتبار ما كان.

(1)

في أ، ج، ح: يكون.

(2)

التفليس لغةً: الفَلْسُ معروف، والجمع من القِلة أَفْلُس وفلوس في الكثير، وقد فَلَّسَه الحاكم تفليسًا: نادى عليه أنه أفلس. ينظر: لسان العرب 5/ 3460، وأنيس الفقهاء ص 195، وتاج العروس 4/ 210.

والتفليس اصطلاحًا:

عرَّفه الشافعية بأنه: النداء على المفلس وإشهاره بصفة الإفلاس.

وعرَّفه المالكية؛ فقسموه إلى قسمين أعم وأخص:

التفليس الأعم بأنه؛ قيام غرماء المدين عليه.

التفليس الأخص بأنه: حكم الحاكم بخلع المدين من ماله لغرمائه؛ لعجزه عن قضاء دينه.

وعرفه الحنابلة بأنه: منع الحاكم من عليه دين حالٌّ يعجز عنه ماله الموجود مدة الحجز من التصرف فيه. ينظر: فتح العزيز 10/ 196، وشرح منح الجليل 3/ 112، ومواهب الجليل 5/ 32، والإنصاف للمرداوي 5/ 272.

(3)

متفق عليه من حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري في الصحيح 5/ 62، كتاب الاستقراض (43)، ياب إذا وجد ماله عند مفلس

(14)؛ والحديث (2402)، ومسلم في الصحيح 3/ 1194، كتاب المساقاة، (22) باب من أدرك ما باعه عند المشتري (5)، الحديث (24/ 1194).

ص: 374

آيِلٌ؛ كَالْخَمْرِ؛ أَوْ لِلْمُجَاوَرَةِ، مِثْلُ: جَرَى الْمِيزَابُ.

وَلَا يُشْتَرَطُ النَّقْلُ فِي الآحَادِ؛ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لنَا: لَوْ كَانَ نَقْلِيًّا،

"أو آيلٌ؛ كالخمر"؛ يطلق على العصير، وإن لم يكن متصفًا به في الحال؛ باعتبار ما سيَئُولُ [إليه]

(1)

؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس".

وقد لا يتحقق أنه آيل، بل يظن، ويسمى مجاز الاستعداد.

ولا يكفي مجرّد التجويز والاحتمال؛ كما صرح به إمام الحرمين وغيره في التأويلات البعيدة في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا نِكَاح إِلَّا بِوَليٍّ"

(2)

.

"أو للمجاورة؛ مثل: جرى المِيزَابُ"؛ وإنما الجاري ماؤه، وقد عددنا في "شرح المنهاج" ستًّا وثلاثين علاقةً.

الشرح: "ولا يشترط" في إطلاق الاسم على مسمَّاه المجازيِّ - "النقلُ في الآحاد" عن أهل اللُّغة؛ "على الأصح"؛ بل تكفي العلاقة.

(1)

سقط في أ، ت.

(2)

من حديث أبي موسى أخرجه: أبو داود 2/ 229، كتاب النكاح، باب في الولي (2085)، والترمذي 3/ 407، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1101)، وابن ماجه 1/ 605، كناب النكاح باب:"لا نكاح إلّا بولي"(1889) وابن حبان ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص 304 كتاب النكاح باب ما جاء في الولي والشهود (1243)، والحاكم 2/ 169، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، والدارمي 2/ 137، وأحمد 394.

وإخراج أصحاب السنن له من طريق إسرائبل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال الترمذي في المصدر السابق: تابعه شريك وأبو عوانة وزهير وقيس بن الربيع، ورواه يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى. ومنهم من أدخل بين يونس وأبي بردة أبا إسحاق قال: ورواه شعبة وسفيان عن أبي إسحاق عن أبي بردة مرسلًا، ورواية من وصله أصح؛ لأن سماعهم من أبي إسحاق في أوقات مختلفة، وسماع شعبة وسفيان له في مجلس واحد، ثم روي عن الطيالسي عن شعبة: سمعت الثوري يسأل أبا إسحاق: أسمعت أبا بردة؟ فذكره مرسلًا. قال الترمذي: وإسرائيل ثبت في أبي إسحاق، وقد روى عن الثوري وشعبة موصولًا. أخرجه الحاكم من طريق النعمان بن عبد السلام، وأخرجه الحاكم من طريق رقبة بن مصقلة وأبي حنيفة ومطرف وزهير بن معاوية وأبي عوانة وزكريا بن أبي زائدة وغيرهم، كلهم عن أبي إسحاق موصولًا. قال: وفي الباب عن علي ومعاذ وابن عباس وابن عمرو وأبي ذر وابن مسعود وجابر وأبي هريرة وعمران بن حصين والمسور وابن عمر وأنس، وأكثرها صحيحة. كذا قال. وقد صحت الرواية فيه عن أمهات المؤمنين: عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش. انتهى. الدراية 2/ 59.

ص: 375

لَتَوَقَّفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُونَ.

واعلم أن جنس العلاقة لا بُدّ منه بالإجماع، وقد تقدم في قولنا: ولا بد من العلاقة؛ والتشخُّصُ لا يشترط بالإجماع، فلا يقول أحد: لا أطلق الأسدَ على هذا الشجاع، إلا إذا أطلقته العرب عليه بنفسه، بل يكفي إطلاقها لفظ الأسد على شجاع ما؛ لشجاعته، ثم نطلقه على كل شجاع، سواء أكان

(1)

من جنس ما أطلقته العرب عليه؛ كالأسد تطلقه

(2)

العرب على زيد، فنطلقه نحن على عمرو الشجاعين

(3)

، أم من غير جنسه؛ كإطلاقنا الأسدَ على غير إنسان من الشُّجعان؛ بجامع إطلاق العرب له على الإنسان الشجاع، وإلا لم يكن الآن مجازٌ على وجه الأرض؛ إذ

(4)

ليس الآن شخص تَجوَّزتْ فيه العرب.

والنوع محل الخلاف: فهل تكفي العلاقةُ التي نَظَر العرب إليها؛ فإذا رأيناهم أطلقوا السبب على المسبَّب في مَوْضِعٍ، أطلقناه أبدًا، وأطلقنا من العلاقات ما يُسَاوي في المعنى السببَ على المسبَّب، أي نزيد عليه؛ كالمسبَّب على السبب، أو لا نتعدَّى

(5)

علاقة أخرى، وإن ساوتها؛ ما لم تفعل العرب ذلك؟

اختار المصنِّف الأول؛ فهل يجوز مثلًا إطلاق لفظٍ باعتبارِ ما كان، وإن لم تستعمله العرب؛ لاستعمال

(6)

ما هو نظيره، أو دونه؛ كإطلاقهم اللَّفظ باعتبار ما سيكون.

والمختار عند الإمام وأتباعِهِ الثاني، وهو معنى قول البَيْضَاوِيِّ في "منهاجه": شرط المجاز العلاقة المعتبرُ نوعُها

(7)

.

فقد تحرَّر أن الخلاف إنما هو في الأنواع، لا في الجنس، ولا في جزئيات النَّوْعَ الواحد.

واحتجَّ المصنِّف على ما ارتضاه بقوله: "لنا: لو كان" الإطلاق في الآحاد "نقليًّا، لتوقّف

(1)

في ب: كان.

(2)

في ح: يطلقه.

(3)

في ج: الشجاعيين.

(4)

في حاشية ج: قوله: "إذ ليس الآن شخص

" إلخ هذا مسلم، ولا يمنع إطلاقنا الآن اللفظ عليه مجازًا لإطلاق العرب له كذلك، فإن أراد نفى مجاز مبتدأ فلا مانع منه، أو نفى مجاز نطقت به العرب فلا.

(5)

في أ، ب: يتعدى.

(6)

في حاشية ج: قوله: "لاستعمال ما هو نظيره

" إلخ فيه أنه يلزم إثبات اللغة بالقياس، ولا ينفع الجواب الآتي. تأمل.

(7)

ينظر: المنهاج مع النهاية 2/ 164، والعضد 1/ 142.

ص: 376

وَاسْتُدِلَّ: لَوْ كَانَ نَقْلِيًّا، لَمَا افْتقرَ إِلَى النَّظَرِ فِي الْعَلَاقَةِ؛ وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّظَرَ لِلْوَاضِعِ، وَإِنْ سُلِّمَ؛ فَلِلاطِّلَاعِ عَلَى الْحِكْمَةِ.

قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ، لَجَازَ:"نَخْلَةٌ"؛ لِطَوِيلٍ غَيْرِ إِنْسَانٍ، وَ"شَبَكَةٌ"؛ لِلصَّيْدِ، وَ"ابْنٌ"؛ لِلأَبِ؛ وَبِالْعَكْسِ؛ وَأُجِيبَ بِالْمَانِعِ".

قَالُوا: لَوْ جَازَ، لَكَانَ قِيَاسًا أَوِ أخْتِرَاعًا، وَأُجِيبَ بِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ

أهل العربية" في إطلاقهم؛ "عليه"، لكنهم يستعملون، "ولا يتوقَّفون" على النقل.

ولك أن تقول: إنما لا يتوففون على جزئيات النوع الواحد، وليس محلَّ النزاع، أما الأنواع، فلا نسلِّم أنهم لا يتوقفون.

الشرح: "واستُدِلَّ" على عدم اشتراط النقل؛ بأنه "لو كان" الإطلاق "نقليًّا، لما افتقر إلى النظر في العلاقة" المصحِّحة، وكان الاستعمال يكفي؛ لكنا نجتهد في استخراج العَلَاقَةِ.

"وأجيب بأن النظر" إنما هو "للواضع"، لا لنا، "وإن

(1)

سلم" أنه لنا؛ "فللاطلاع

(2)

على الحكمة"

(3)

في الوضع، لا لأجل جواز الإطلاق.

الشرح: "قالوا: لو لم يكن، المجاز متوقِّفًا على النَّقْلِ "لجاز

(4)

: نخلة؛ لطويل غير إنسان" وبالعكس؛ للاشتراك في الطُّول الذي هو سبب التجوُّز في الإنسان، "وشبكةٌ؛ للصيد"؛ للمجاورة، "وابنٌ؛ للأب، وبالعكس"؛ للسببية.

"وأجيب بالمانع"، أي: أن هذه الأشياء [إنما]

(5)

لم تَجُزْ؛ لقيام المانع فيها؛ لخصوصها؛ لا لعدم الاكتفاء بالعلاقة.

ولقائل أن يقول: ما المانع؟!

الشرح: "قالوا: لو جاز" الإطلاق بدون نقل، "لكان": إما "قياسًا، أو اختراعًا"؛ لأنه إثباتٌ غيرُ مصرَّح [به]

(6)

؛ وذلك إن كان لجامع بينه وبين ما صُرِّح به مستلزمٍ للحكم، فهو القِيَاس، وإلا فالاختراع، واللُّغَةُ لا تثبت قياسًا؛ كما سيأتي، إن شاء الله، ولا اختراعًا.

(1)

في ب: ولو.

(2)

في ت: فلا اطلاع، وهو تحريف.

(3)

في أ، ب: الجملة.

(4)

في ح: لجواز.

(5)

سقط في ت.

(6)

سقط في أ، ح.

ص: 377

الْعَلَاقَةَ مُصَحِّحَةٌ؛ كَرَفْع الْفَاعِلِ؛ وَقَالُوا: يُعْرَفُ الْمَجَازُ بِوُجُوهٍ: بِصِحَّةِ النَّفْي؛ كَقَوْلكَ لِلْبَلِيدِ: لَيْسَ بِحِمَارٍ عَكْسَ الْحَقِيقَةِ؛ لإمْتِنَاعِ (لَيْسَ بِإِنْسَانٍ)؛ وَهُوَ دَوْرٌ".

"وأجيب": لا نسلِّم أنه إذا لم يكن لجامع، يلزم الاختراع؛ بل ذلك "باستقراء أن العلاقة مصحِّحة" للإطلاق؛ "كرفعِ الفَاعِلِ"، ونَصْبِ المفعول؛ وذلك أمر ثالث، وهو الوضع قطعًا، ولا يجب النَّقْل في كل فرد، بل عُلِمَ علمًا كليًّا بالاستقراء.

"فرع"

إذا رأيناهم أطلقوا على الشجاع: الأسد؛ للشجاعة، فَلنَا أن نطلق عليه مرادفَ الأسد؛ كاللَّيْثِ قطعًا، وليس من محلّ الخلاف؛ خلافًا لكثير من الشَّارحين.

"وقالوا"؛ يعني - والله أعلم -[أهلَ]

(1)

الفرقة المخالفةِ [له]

(2)

القائلةِ: يشترط النقل في الآحاد؛ وكأن سائلًا قال لهم: إذا اشترطتم النقل؛ وهو

(3)

عزيز، فما الطريق - إذا فُقِدَ - إلى معرفة كون اللَّفظ مجازًا؟، فقالوا: "يعرف المجاز بوجوه: بصحَّة

(4)

النفي"، أي: في نفس الأمر، صرَّح به في (المنتهى)، وسكت عنه هنا؛ لوضوحه، فإذا أُطْلِق اللَّفظ على معنى؛ صح

(5)

نفيه عنه - عُلِمِ كونه مجازًا؛ "كقولك للبليد" بعد إطلاقنا الحمار عليه: "ليس بحمار"، ومورد النفي في الحقيقة غيْرُ مورد الإثبات؛ إذ مورد الإثبات المجاز، ومورد النفي الحقيقة، فقولنا للبليد: حمار، معناه: كالحمار، وليس بحمار، أي: ليس بحقيقة الحمار، ولو أردنا: ليس بحمار مجازًا، كان كاذبًا؛ لِصِدْق

(6)

نقيضه.

قوله: "عَكْسَ الحقيقة"، أي: أن الحقيقةِ لا يصحّ نفيها في نفس الأمر؛ "لامتناع" قوله: "ليس بإنسان" للبليد؛ لمَّا كان إطلاق (إنسان) عليه حقيقة.

[و] لا يقال: قد نفيت

(7)

الحقيقة في نحو قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [سورة الأنفال: الآية 17]؛ لأن ذلك النفي ليس في نفس

(8)

الأمر؛ بل بالتأويل؛ وهذا ما ذكره من ادَّعَى هذه العلاقة.

(1)

سقط في أ، ب، ت.

(2)

سقط في ب.

(3)

في أ، ت، ح: فهو.

(4)

في أ، ب، ح: كصحة.

(5)

في ب: مع.

(6)

في ح: بالصدق.

(7)

في ت: بقيت.

(8)

في ت: نفى.

ص: 378

وَبِأَنْ يَتبَادَرَ غَيْرُهُ؛ لَوْلَا الْقَرِينَةُ عَكْسَ الْحَقِيقَةِ؛ وَأُورِدَ الْمُشْتَرَك، فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَتَبَادَرُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ مَجَازًا.

قال المصنّف: "وهو دَوْر"؛ لأن إطلاق اللَّفظ على المَعْنَى دليلُ صدقه

(1)

عليه، وصحة نفيه مَوْقُوفَةٌ على معرفة كون الإطلاق مجازًا، فلو عُرِفَ كون الإطلاق مجازيًّا بصحة النفي، دار.

واعترض عضُد الدِّين

(2)

؛ بأن الدور إنما يصح إذا أطلق اللَّفظ لمعنى، ولم يدر أحقيقة فيه أم مجاز؟.

أما إذا

(3)

عُلِم معناه الحقيقي والمجازي، ولم يُعْلَم أيهما المراد، فحينئذٍ يمكن أن يعلم بصحَّة نفي المَعْنَى الحقيقي عن المورد؛ أن المراد هو المعنى المجازيُّ، [أي]

(4)

: فيعلم أنه مجاز.

الشرح: "وبأن يتبادر" إلى الفهم "غيره؛ لولا القرينة عكسَ الحقيقة"؛ فإنها تعرف بألّا يتبادر غيرُها؛ لولا القرينة.

"وأورد المشتركُ"؛ ويمكن تقرير إيراده على وجهين:

أحدهما: لو كان علامةُ الحقيقة التبادُرَ، لتبادر الفهم في المشترك.

والثاني: لو كان علامة المَجَازِ تبادر الغيرِ، لتبادَرَ؛ إذا استعمل المشترك في معناه المجازي.

"فإن أجيب" عنهما، "بأن يتبادر" واحد من الحقيقة "غيرُ معيَّن - لزم أن يكون المعيَّنُ" من معانيه "مجازًا"؛ لعدم تبَادره.

ولك أن تقول: المدَّعى في الحقيقة ألّا يتبادر غيرها، لا أن يقع التبادُرُ فيها، والمشترك لا يتبادر

(5)

فيه غيرُ الحقيقة، وإنما الذهن يتردد في معانيه، والمدَّعى في المجاز تبادرُ الغَيْرِ، وهو حاصل قولكم: إنما يتبادر المبْهَمُ.

(1)

في ب: صدق.

(2)

ينظر: العضد 1/ 147.

(3)

في حاشية ج: قوله: "أما إذا علم معناه الحقيقي والمجازي

" إلخ أي: علم أن له معنى حقيقيًّا ومعنى مجازيًا ولم يعلم أيهما المراد. قوله: "عن المورد" أي: المحل الذي ورد فيه الكلام.

(4)

سقط في ج.

(5)

في حاشية ج: قوله: لا يتبادر فيه غير الحقيقة، وإن لم يتبادر فيه بعض الحقيقة كالمعين. تأمل.

ص: 379

وَبِعَدَمِ اطِّرَادِهِ، وَلَا عَكْسَ؛ وَأُورِدَ: السَّخِيُّ، وَالْفَاضِلُ؛ لِغَيْرِ اللهِ، وَالْقَارُورَةُ؛ لِلزُّجَاجَةِ؛ فَإِنْ أُجِيبَ بِالْمَانِعِ، فَدَوْرٌ، وَبِجَمْعِهِ عَلَى خِلَافِ جَمْعِ

قلنا: مسلَّم قولكم؛ فيلزم كون المعيَّن

(1)

مجازًا - ممنوعًا؛ وهذا لأن المتبادر

(2)

حينئذٍ واحدٌ مشخَّص في نفس الأمر، وهذا كاف، وإن لم تعرف

(3)

عينه.

الشرح: "و" يعرف المجاز "بعدم اطّراده"؛ فإنك تقول: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [سورة يوسف: الآية، 82]، ولا تقول: واسأل البساط، وإن وجد فيه المعنى المقثضى للتجوُّز في:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [سورة يوسف: الآية 82]؛ وهذا يشهد لمن يقول: المجاز يحتاج إلى النقل، وإلا فلم

(4)

لا يطرد، والمعنى قائم؛ "ولا عكس" لهذه العلامات، فلا يكون الاطِّرَاد دليل الحقيقة؛ إذ قد يوجد مجازٌ مطَّرد؛ كالأسد للشُّجاع.

"وأورد" على هذه العلامة "السّخي، والفاضل" موضوعان للجَوَادِ والعالِمِ، ولا يقالان إلا "لغير اللهِ" تعالى؛ مع أنه - تعالى - جوادٌ وعالِم.

"والقارورةُ"؛ فإنها موضوعة "للزجاجة"؛ لاستقرار الشَّيء فيها، ولا يقال لكلِّ ما يستقر فيه الشيءُ؛ كالكُوزِ - مثلًا - قارورةٌ؛ فهذه

(5)

حقائق غير مطردة.

"فإن أجيب" عن عدم اطِّرادها؛ "بالمانع" الشَّرْعيِّ في الأولَيْن؛ إذ أسماء الله تَوْقِيفِيَّة

(6)

،

(1)

في أ، ج: المعنى.

(2)

في أ، ت، ج، ح: المبادر.

(3)

في ت: نعرف.

(4)

في حاشية ج: قوله: "فلم لا يطرد والمعنى قائم؟ " قد يقال: لما رأيناهم يقولون: واسأل القرية ولا يقولون: واسأل البساط، علمنا أن هناك خصوصية وإن لم نطلع عليها.

(5)

في ب، ت،: وهذه.

(6)

أي لا يطلق عليه اسم إلا بتوقيف من الشارع بأن يرد به الكتاب أو السنة أو الإجماع، وهذا مذهب الأشعري ومن تبعه، وصححه السبكي. وقالت المعتزلة: يجوز أن تطلق عليه الأسماء اللائق معناها به تعالى وإن لم يرد بها الشرع، ومال إليه الباقلاني فقال: كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى يجوز إطلاقه عليه بلا توقيف إذا لم يكن موهمًا، فمن ثم لم يجز إطلاق عارف وفقيه ونحوهما، وذهب الإمام الغزالي إلى جواز إطلاق ما علم اتصافه به على طريق التوصيف دون التسمية؛ لأن إجراء الصفة إخبار بثبوت مدلولها؛ فيجوز عند ثبوت المدلول إلا لمانع، بخلاف التسمية فإنها تصرف في المسمى، وهو تعالى منزه عمن يتصرف فيه اهـ. وفي شرح المواقف: ليس الكلام في الأسماء والأعلام الموضوعة في اللغات، بل في الأسماء المأخوذة من الصفات والأفعال اهـ. وقال =

ص: 380

الْحَقِيقَةِ؛ كَأُمُورٍ جَمْعَ أَمْرٍ؛ لِلْفِعْلِ، وَيَمْتَنِعُ "أَوَامِرُ"، وَلَا عَكْسَ، وَبِالْتِزَامِ تَقْيِيدِهِ؛ مِثْلُ:{جَنَاحَ الذُّلِّ} وَنَارِ الْحَرْبِ.

وَبِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْمُسَمَّى الآخَرِ؛ مِثْلُ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، وَاللَّفْظُ قَبْلَ الاسْتِعْمَالِ، لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ، وَفِي اسْتِلْزَامِ الْمَجَازِ الْحَقِيقَةَ خِلَافٌ؛

ولم يَرِدْ هذان، واللغويِّ في الثالث؛ فإن اللغة منعت إطلاق القَارُورَةِ على غير الزُّجَاجة - "فدور"؛ فإن عدم اطراده لا بُدَّ له من سبب، وهو: إما العلم بكونه مجازًا، أو الشرعِ، أو اللغةِ، والأخيران منتفيان بالفرضِ؛ فتعيَّن الأول.

ووضح أن عدم الاطِّرَاد إنما يكون دليلًا على المجاز، إذا علم أنه مجاز، فلو علم أنه مجاز؛ بعدم الاطّراد - كان دورًا.

ولك أن تقول: السَّخي، لما دار بين كونه لِلْجَوَاد المطلق، أو للجواد ممن شأنه البُخْل، ثم وجدناه لا يطلق على الله - تعالى -، مع أنه ذو الجود الأعظم - علمنا أنّ السخي ليس إلا الجوادَ المقيّد؛ ويوضح هذا أن أحدًا لم يطلق السخيَّ على الله - تعالى -، وإن كان من الذاهبين إلى أن الأسماء توقيفيةٌ؛ وكذا القول في الأخيرين؛ فلم يلزم دَوْرٌ، ولا نَقْضٌ.

"و" يعرف المجاز أيضًا "بجَمْعِهِ على خلاف" صيغةِ "جمعِ الحقيقةِ؛ كأمورٍ جمعَ أمر؛ للفعل"، "ويمتنع أوامر" الذي هو جمع للأمر؛ بمعنى الأمر الذي هو حقيقة فيه؛ باتفاق، فنقول: هو في الفعل مَجَاز؛ لمخالفته في الجمع، "ولا عكس"؛ إذ المجاز قد لا يجمع؛ بخلاف جمع الحقيقة؛ كالأسد.

"و" يعرف أيضًا "بالتزام تقييده"؛ فلا يستعمل في ذلك المَعْنَى عند الإطلاق؛ "مثلُ: {جَنَاحَ الذُّلِّ} [سورة الإسراء: الآية، 24] ونَارِ الحَرْب"، وإنما قال: بالتزام تقييده، ولم يقل: بتقييده؛ ليحترز من المشترك؛ فإنه قد يقيد؛ كما يقال: العينُ الجارية، لكن لا لزومًا.

الشرح: "وبتوقفه على المسمى الآخر؛ مثلُ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [سورة آل عمران: الآية 54] "؛ فإن مكْر الله مَجَاز، وإطلاقه مسبوق بإطلاق المكر منهم.

"واللَّفظ قبل الاستعمال، ليس بحقيقة ولا مجاز"؛ إذ الاستعمال أحد قيود الحقيقة والمجاز؛ كما سلف.

= السعد في المقاصد: محل النزاع ما اتصف الباري تعالى بمعناه ولم يرد إذن به وكان مشعرًا بالجلال من غير وهم بالإضلال.

ص: 381

بِخِلَافِ الْعَكْسِ، الْمُلْزِمُ: لَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ، لَعَرِيَ الْوَضْعُ عَنِ الْفَائِدَةِ، الثَّانِي: لَوِ اسْتَلْزَمَ، لَكَانَ لِنَحْوِ: قَامَتِ الحَرْبُ عَلَى سَاق، وَشَابَتْ لِمَّةُ اللَّيْلِ - حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ؛ لِلُزُومِ الْوَضْعِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَجَازَ فِي الْمُفْرَدِ، وَلَا مَجَازَ فِي التَّرْكِيبِ، وَقَوْلُ عَبْدِ الْقَاهِرِ فِي نَحْوِ: أَحْيَانِيَ اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِكَ: (إِنَّ الْمَجَازَ، فِي الإِسْنَادِ) بَعِيدٌ، لاتِّحَادِ جِهَتِهِ.

"وفي استلزام المجازِ الحقيقة خلافٌ"؛ فقيل: إن المجاز يستلزم سبق الحقيقة، وقيل: لا؛ فقد يوجد لفظ مجازي لم تسبقه حقيقة، بل وُضِعَ فقط؛ "بخلاف العكس"؛ فإنه لا خلاف فيه، أي: لا خلاف أن الحقيقة لا تستلزم المجاز، فقد يوجد لفظ حقيقي لم يُتَجَوَّزْ عنه ألبتة.

واحتج "المُلْزِمُ"، أعني: القائل أن المجاز يستلزم الحقيقة؛ بأنه: "لو لم يَسْتَلْزِمْ، لعري الوضع" الأول "عن الفائدة"؛ إذ فائدةُ الوضعِ الاستعمالُ؛ فحيث لا استعمال يكون عبثًا.

ورُدَّ بجواز كون الفائدةِ الاستعمالَ في الوَضْعِ المجازي، أو تسويغِ أصل الاستعمال.

واحتج "النَّافي" للاستلزام؛ بأنه: "لو استَلْزم، لكان لنحو: قامت الحرب على ساقٍ، وشابت لِمَّةُ الليل - حقيقةٌ"، أي: استعمالٌ مع موضوعها الأصلي؛ لكونها مجازًا.

"وهو" أي: هذا الاستدلالُ "مشتَرَكُ الإلزامِ"؛ إذ للمُلْزِمِ أن يقول: ما ذكرتَهُ ليس بمجاز، وإلا كان موضوعًا لغير هذا المعنى؛ "للزوم الوضع" الأول للمجاز؛ وذلك لأن النافي لاشتراط الحقيقة في المجاز يشترطُ أصل الوضع، وسبيلُ الانفصال عنهما واحدٌ.

الشرح: "والحق" فيه "أن المَجَاز" في هذين المِثَالَيْن، إنما وقع "في المفرد" من القيام والسَّاق، والشَّيب واللِّمَّة، "ولا مجاز في التركيب"، والكلامُ فيهما حالةَ التركيب، وإذا لم يكونا مجازين، فلا يطلب لهما حقيقةٌ.

"وقول عبد القَاهِرِ في نحو: أحيانِيَ اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِكَ: إن المجاز في الإسناد"؛ لأن إسناد الإحياء إلى الاكتحال غيرُ حقيقي.

قد يقال: إنه يَرِدُ علينا مساواةُ: أحياني اكتحالي بِطَلْعَتِكَ، للمثالين السَّابقين؛ وقد قلنا: إنه لا مَجَازَ في التَّرْكِيب.

ولكن نقول: ما قاله عبد القَاهِرِ "بعيدٌ"؛ لأن المجاز إنما يتحقَّق باختلاف جهتيه؛ وذلك غير متحقِّق في إسناد الإحياء إلى الاكتحال؛ "لاتحاد جهته"؛ كذا قال المصنِّف.

ص: 382

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والحق جوازُ المجازِ في الإسناد، ووقوعُه، واستبعاد المصنِّف لا يوجب رفع ذلك؛ وقُصاراه أن يثبت بعده، ولا يلزم من البُعْدِ عدمُ الوقوع.

ولنذكر ههنا كلمةً نافعةً في هذا المختصر، فنقول: المصنِّف كثير الاستعمال لردِّ رأي خصمه؛ باستبعاده؛ كما فعل هنا؛ وكما قال: (قولهم ما اتفق فيه اللّغتان؛ كالفُرْنِ والتَّنُّورِ - بعيدٌ)؛ مع رده على من يحكم على أمرٍ بِبُعْده؛ بأنه استبعاد؛ فلا يجديه؛ كما ردَّ قول الأستاذ؛ أن المجاز يُخِلُّ بالفَهْمِ؛ بأنه استبعاد؛ ولعلك تحسِب ذلك منه تناقضًا، وليس دعواك بُعْدَ ما يدعيه خصمُك في مسألة ناشئًا من دعوى خصمك بُعْدَ ما تدعيه في أخرى، ولا ردُّك مُدَّعى الخصْمِ ببُعده - أفْحَمَ من رده دعواك بِبُعْده.

والجواب: أن الاستقراءَ حُجَّةٌ؛ لا سيما في اللُّغات، فإذا استقرأ اللُّغويُّ أمرًا، قضى به، ثم بنى عليه ما شاء مما يلائمه، وغايةُ ما له من الاستقراء دليلٌ ظني، ثم من ادعى خروج شيء عن استقرائه، كان مُبعَدًا عنده، فإن حقق دعواه بدليل أقوى من الاستقراء، كما إذا أتى بصورة واقعة، لم ينهض الاستقراء حُجَّة عليه، ولم يصح أن يُرَدَّ مُدَّعاه بِمُجَرَّدِ البعد، وإن لم تتحقَّق دعواه بدليلٍ أقوى من الاستقراء، رُدَّت دعواه، وكان استبعادنا له حُجَّةً، وذلك كالمجاز يدعي مُنْكِرُه أنه يُخِلّ بالفهم، وأن ما يخلّ بالفَهْم لا يقع من العرب؛ فنقول: غايةُ ما ينتجُ لك هذا - دليلٌ ظَنّي على أن المجاز لا يقع؛ وهو معارض بأقوى منه؛ من دليل مثبت المجاز؛ فيُصَار إلى استبعاد وقوع أمر على خلاف استقرائك، واستقراؤك قد بطل بوجدان خلافه، فلم يُجْدِ الاستبعاد شيئًا، والحالة هذه.

وأما إذا لم يتحقّق الخصم دعواه؛ بما يبطل الاستقراءَ، فلا يُسْمع، وينتهض البُعد حجةً عليه؛ لاعتضاده بالاستقراء الذي لا مُعَارِضَ له؛ وذلك كقولهم:(مما اتفق فيه اللّغتان)؛ فإن المصنّف استبعده، وهو استبعاد موافق للدليل الذي أقامه من وجود المِشْكَاةِ، والإسْتَبْرَقِ، ونحوِهما، فمنكرُ المجازِ مستبعدٌ لما قام الدليل عليه؛ فكان استبعاده مردودًا، والمصنِّف مستبعِدٌ لما قام الدَّليل على خلافه، فكان استبعاده مقبولًا، وهذا في قوله:(قولهم مما اتفق فيه اللُّغتان)؛ وما شاكله، فقس عليه نظائره، فهي كثيرة في هذا المختصر.

وأما دعواه بُعْدَ قول عبد القاهِرِ

(1)

، فمثْلُ دعوى الإسنادِ بَعْد المجاز؛ فلا تُسْمع؛ لأنه

(1)

عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، أبو بكر: واضع أصول البلاغة. كان من أئمة اللغة من أهل جرجان، له شعر رقيق. من كتبه "أسرار البلاغة"، و"دلائل الإعجاز"، و"إعجاز القرآن". توفي سنة 471 هـ. ينظر: فوات الوفيات 1/ 297، والأعلام 4/ 48، وطبقات الشافعية 3/ 242.

ص: 383

وَلَوْ قِيلَ: لَوِ اسْتَلْزَمَ، لَكَانَ لِلَفْظِ "الرَّحْمنِ" حَقِيقَةٌ، وَلنَحْوِ:"عَسَى" - لَكَانَ قِوِيًّا.

استبعد شيئًا قام الدَّليل على خلافه.

فإن قلت: وما الدليل؟

قلت: مواضعُ لن يقع المجاز فيها إلا في الإسناد فقط؛ مثلُ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [سورة الأنفال: الآية، 2]، {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}] سورة إبراهيم: الآية، 36]، {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [سورة الزلزلة: الآية، 2].

الشرح: قال: "ولو قيل: لو استلزم" المجازُ الحقيقة، "لكان لِلَفْظِ:"الرحمن" حقيقةٌ، ولنحو: عسى"، ولا حقيقة لهما - "لكان" استدلالًا "قويًّا".

وبيانه: أنه لا حقيقة لهما: أما (عسى) ونحوُها؛ من حَبَّذا وغيرها من الأفعال الجوامد، فلم تستعمل لزمان معين، بل في مجرَّد الحدث؛ مع أن الأفعال موضوعة للحدث والزمان، ولم تستعملْ إلا في الإنشاء؛ مع أن أصلها خبرٌ ماضٍ.

وأما (الرحمن) فـ (فَعْلان)، ووزن (فَعْلَان) للمبالغة التي هي الكثرةُ المقابِلة للقلَّة، وصفات الله - تعالى - لا تقبل ذلك؛ باعتبار عدم قَبُولها للتعدُّد، ثم هو مشتقّ من الرحمة التي هي حقيقة الرِّقَّةِ والانعطافِ المستحيلِ على الباري تعالى.

ولم يستعمل (الرحمن) إلا في الله تعالى؛ وهذا بناء على [أن] أسماءَ الله - تعالى - صفات لا أعْلام، أما إن جعلناها أعلامًا، فالعَلَمُ لا حقيقة له ولا مجاز.

وما يقال: قد قال بنو حنيفة

(1)

(رَحْمان اليَمَامة)، و (ما زلْت رحْمَانًا) في

(1)

أخرج الشيخان، عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب المدينة في بشر كثير من قومه، فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة فقال:"لئن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني أراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني" ثم انصرف. قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك الذي أريت فيه ما رأيت" فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا نائم أريت أن في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي، فهذا أحدهما العنسي صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة". =

ص: 384

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مسيلمة

(1)

؛ فجوابه عندي: أنهم لم يستعملوا (الرحمن) المعرَّف بالألف واللام، وإنما استعملوه معرَّفًا بالإضافة في (رحمان اليمامة)، ومنكَّرًا في (لا زلت رَحْمانًا)؛ ودعوانا إنما هي في المعرَّف بالألف واللام.

وهذا الجواب أشدُّ من جواب الزمخشري

(2)

في (كَشَّافه)؛ أدق ذلك من تَعَنُّتهم في كفرهم؛ فإنه لا يعدُّ جوابًا؛ إذ التعنُّت لا يدفعُ وقوعَ إطلاقهم.

وغايته: أنه ذكر السبب الحاملَ لهم على الإطلاق.

وعند هذا أقول: مذهبي أن المجاز يَستلزمُ استعمالَ اللَّفظ المشتقِّ منه؛ بطريق الحقيقة، سواءٌ استعمل مع ذلك بالحقيقة فيما استعمل بالمجاز أم لا.

فأقول مثلًا: إنما يستعمل (رحمن)؛ إذا استعملت العرب الرحمة؛ كان لنا أن نتصرف فيما يُشتقُّ منها؛ من فَعْلان، وفَاعِل، ومَفْعُولٍ، وغيرِ ذلك، وإن لم تنطقْ به العرب ألبتة، ولا اشتراط أن تكون العربُ استعملت (رحمان) الذي هو (فَعْلَان)؛ بالحقيقة.

ولقائل أن يقول: على المصنَّف ما ذكرتَهُ أيضًا مشترَكَ الإلزامِ في الوضْع؛ بعين ما ذكرتَهُ آنفًا، ولا مخلَّص له، إنما اخترناهُ مذهبًا.

= وأخرج الشيخان، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا نائم إذ أتيت بخزائن الأرض، فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبرا عليّ وأهماني، فأوحي إليّ أن انفخهما، فنفختهما، فأولتهما الكذابين اللَّذين أنا بينهما: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة". ينظر: الخصائص للسيوطي 2/ 25.

(1)

أبو ثمامه مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي. متنبئ، من المعمرين، ولد ونشأ بـ"اليمامة" بوادي حنيفة، في نجد، تلقب في الجاهلية بـ"الرحمن"، وعرف بـ"رحمان اليمامة"، وقد أكثر مسيلمة من وضع أسجاع يضاهي بها القرآن، وكان مسيلمة ضئيل الجسم، قالوا في وصفه:"كان رُوَيجلًا، أصيغر، أخينس"، ويقال: كان اسمه "مسلمة"، وصغره المسلمون تحقيرًا له. قتل سنة 12 هـ، في معركة قادها خالد بن الوليد - في عهد أبي بكر الصدِّيق - للقضاء على فتنته. ينظر: ابن هشام 3/ 74، والروض الأنف 2/ 340، والكامل لابن الأثير 2/ 137.

(2)

محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري، جار الله، أبو القاسم ولد سنة 467 هـ، من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب، أشهر كتبه "الكشاف"، و"أساس البلاغة"، و "المفصل"، و"الفائق"، و"المستقصى" وغيرها. توفي سنة 538 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 2/ 81، ولسان الميزان 6/ 4، وظفر الواله 1/ 125، ونزهة الألبا 469، والأعلام 7/ 178.

ص: 385

‌دَوَرَانُ اللَّفْظِ بَيْنَ الاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ

‌مَسْأَلَةٌ:

إِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالاشْتِرَاكِ،

فَالْمَجَازُ أَقْرَبُ؛ لأَنَّ الاشتِرَاكَ يُخِلُّ بِالتَّفَاهُمِ، وَيُؤَدِّي إِلَى مُسْتَبْعَدٍ؛ مِنْ ضِدٍّ، أَوْ نَقِيضٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَتَيْنِ؛ وَلأِنَّ الْمَجَازَ أَغْلَب، وَيَكونُ أَبْلَغَ، وَأَوْجَزَ، وَأَوْفَقَ، وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى السَّجْعِ، وَالْمُقَابَلَةِ، وَالمُطَابَقَةِ، وَالْمُجَانَسَةِ، وَالرَّوِيِّ.

"مسألة"

الشرح: "إذا دار اللفظ بين المجاز والاشتراك، فالمجازُ أقرب"؛ عند المحقِّقين؛ "لأن الاشتراك يخلّ بالتفاهم"؛ عند عدم القرينة؛ بخلاف المجاز

(1)

.

ولك أن تقول: إنما يخلّ بالتفاهم، إذا قيل بأنه لا يُحْمَلُ على معنييه عند الإطلاق؛ أو يُحْمل، ولكن احتياطًا، أما إن قيل بأنه يحمل عمومًا، فلا إخلال.

"ويؤدّي إلى مستبعد؛ من ضد، أو نقيض"، إلا إذا كان موضوعًا للضدَّيْن، أو النقيضَيْن؛ إن قلنا بجواز الوضع [للضدَّيْن و] للنقيضين - وهو المُخْتار -؛ خلافًا للإمام الرَّازيِّ؛ فقد يفهم السَّامعُ ضدَّ مراد المتكلّم، أو نقيضَه.

ولقائل أن يقول: والمجاز بعلاقة المضادَّة يؤدِّي إلى ذلك أيضًا، وليس له أن يقول: حَمْلُ كلِّ لفظ على خلاف المراد منه يؤدِّي إلى مستبعد؛ لأن خلاف المراد إذا لم يكن ضدَّ المراد، ولا نقيضًا - لا يستبعده العقل؛ بخلاف الضد والنَّقيض؛ فإن العَقْل يستبعدهما، والحالة هذه.

"ويَحْتاج إلى قرينتين"؛ بحسب معنييه؛ بخلاف المَجَاز؛ فإنه يكفي فيه قرينة المجاز؛ "ولأن المجاز أغلب" من الاشتراك؛ بالاستقراء، والحملُ على الأغلب أولَى.

"ويكون" أيضًا "أبلغَ" من المشترك؛ فقولك: - (زيد أسد) - أبلغ من: (شجاع)، "وأوجز وأوفق"؛ إما للطبع؛ بسبب نَقْل الحضقة، أو عذوبةِ الحديث، وإما للمقامِ؛ لزيادة بيان، أو غير ذلك؛ مما يقتضيه الحال؛ ولذلك يجعله علماء البيان الأصْلَ؛ لأن مبنى علمهم على الاستعارة والمبالغة.

"ويتوصل به إلى" أنواع البديع من "السجع، والمُقَابلة، والمُطَابقة، والمُجَانسة، والرَّويِّ" وغيرِ ذلك.

(1)

في حاشية ج: قوله: "بخلاف المجاز" أي: فإنه لا يصح بدونها، أما المشترك فيصح إطلاقه بدونها؛ لأن القرينة فيه ليقين المراد لا لصحة الاستعمال.

ص: 386

وَعُورِضَ؛ بِتَرْجِيحِ الاشْتِرَاكِ؛ بِاطِّرَادِهِ؛ فَلَا يَضْطَرِبُ، وبِالاشْتِقَاقِ، فتَتَّسِعُ؛ وَبِصِحَّةِ الْمَجَازِ فِيهِمَا؛ فَتَكْثُرُ الْفَائِدَةُ؛ وَبِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْعَلَاقَةِ، وَعَنِ الْحَقِيقَةِ، وَعَنْ مُخَالَفَةِ ظَاهِرٍ، وَعَنِ الْغَلَطِ؛ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ.

الشرح: "وعورض" ما ذكرناه من أدلة المجاز؛ "بترجيح الاشتراك؛ باطِّراده؛ فلا يضطربُ"؛ بخلاف المجاز؛ فإنه لا يطرد.

"وبالاشتقاق" الحاصلِ من معنييه؛ "فتتسعُ" الفائدة؛ بخلاف المجاز؛ فإنه لا يُشتقُّ منه؛ وفاقًا للقاضي، والغَزَّاليِّ، وإلْكِيَّا

(1)

؛ حيث منعوا الاشتقاق من المجاز؛ واستدلوا على أن (الأمر) حقيقة في (القول)؛ بأنه اشتق منه بهذا المعنى فاعلٌ ومفعولٌ، ولم يشتق ذلك منه، إذا كان بمعنى (الفعل).

ولكن رُدَّ هذا المذهبُ؛ بأنه يئول إلى قصر المَجَازَاتِ كلِّها على المَصَادر؛ لأنك إذا اشتققت من المعنى الحقيقي، لم يصح؛ لانتفاء العَلَاقَةِ.

مثاله: (ضارب)؛ بمعنى: متسبِّب في الضرب، إذا اشتققت من الضرب الحقيقي؛ فإنه لا علاقة بينهما، والاشتقاق من المجاز متعذِّر؛ على هذا.

قلت: وأنا أجوِّز أن هؤلاء لا يطلقون منع الاشتقاقِ من المجاز، لكن يقولون: إنما يشتقُّ منه بحسب الحقيقة، فإذا اشتق منها فاعل فقط، لم يشتقَّ من مجازها إلا فاعلٌ فقط، لا مفعولٌ، ولا صفةٌ مُشَبَّهةٌ مثلًا؛ فيتوقف استعمال (ضارب) بمعنى: متسبَّب؛ على استعمال (ضارب) بالحقيقة، ولا يكفي استعمل (مضروب)؛ بالحقيقة، إلا إن تجوزنا باسم المفعول، وهذا قريبٌ، وإنما مَنْعُ الاشتقاقِ من المجاز رأيٌ ساقط؛ فليقرَّر كلام المصنِّف على أنه لا يشتق منه إلا بحَسَب الحقيقة.

"وبصحة المجاز فيهما"، أي: في معنيي المشترك؛ "فتكثر الفائدة"؛ بخلاف المَجَازِ؛ "وباستغنائه عن العَلَاقَةِ"، "وعن" سَبْقِ "الحقيقةِ، وعن مُخَالَفَةِ ظاهر"، والمجازُ ارْتِكَابٌ لخلاف الظاهر؛ إذ الظاهرُ الحقيقةُ.

"وعن الغلطِ؛ عند عدم القرينة؛ فإن السامع، إن وجد قرينة، عَلِمَ المرادَ، وإلَّا، توقف

(1)

في حاشية ج: قوله: "إلْكيّا" بكسر الهمزة وسكون اللأَم وتشديد الياء، كذا وجدته مضبوطًا بالقلم بخط الأذرعي.

ص: 387

وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ أَبْلَغ، فَمُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُقابِلُ الْأَغْلَبَ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ.

عند عدم القرينة - إلى الحقيقة، مع جواز إرادة المجاز.

الشرح: "وما ذكر" في ترجيح المجاز؛ "من أنه أبلغ" وأوجز

إلى آخرها - "فمشترك بينهما"؛ إذ يتحقق في المشترك؛ كما هو في المجاز؛ فلا يترجَّح به المجاز.

"والحق أنه لا يُقابِلُ الأغلَبَ شيءٌ مما ذُكِرَ" في تَرْجِيحِ المشترك؛ لأن ذلك كله إنما يعتبر؛ لأنه مَظِنَّةُ الغَلَبَةِ، ولا عِبْرَةَ بالمَظِنَّة، مع تحقُّق أن المجاز أغلبُ؛ فكان المجاز أولى.

ولمُضَايقٍ في العبارة أن يقول: سلَّمنا أنَّهُ لا يعارِضُهُ شيءٌ مما ذُكِرَ، لِمَ قلتم: إن مجموعها لا يعارِضُ؟.

وقد يجاب؛ بأن المجموع من جملة ما ذُكِرَ كلّ فرد ذكر له، يدخل تحت قوله:(شيءٌ ممَّا ذُكِرَ)؛ والمعنى: لا المجموع، ولا كلُّ فردٍ، ولكن إذا لم يعارض المجموع، لم يعارض بعضُه؛ بطريق أولى، فلو قال: لا يُعارِضُ الأغلبَ ما ذُكِرَ، كان أخصر وأولَى.

"فرع"

موطوءة الأب بالزِّنا،

يحل للابن نكاحُها، لقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [سورة النساء: الآية، 3].

فإن عورض؛ بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [سورة النساء: الآية، 22]، وحقيقةُ النكاح الوطءُ

(1)

.

(1)

النكاح في اللغة: الضم والتداخل، ومنه: نكحت البر في الأرض: إذا حرثتها وبذرته فيها، ونكح المطر الأرض: إذا خالط ثراها. ونكحت الحصى أخفاف الإبل: إذا دخلت فيها. ويكون التداخل حسيا كما ذكر، ومعنويًا كـ: نكح النعاس العين.

ويطلق في اللغة على الوطء حقيقة وعلى العقد مجازًا. قال المطرزي والأزهري: هو الوطء حقيقة؛ ومنه قول الفرزدق: [البسيط]

إِذَا سَقَى اللهُ قَوْمًا صَوْبَ غَادِيَةٍ

فَلَا سَقَى اللهُ أَرْضَ الْكُوفَةِ المَطَرَا

التَّارِكِينَ عَلَى طُهْرٍ نِسَاءَهُمُو

وَالنَّاكِحِينَ بشِطَّيْ دِجْلَةَ البَقَرَا

وهو مجاز في العقد؛ لأن العقد فيه ضم، والنكاح هو الضم حقيقة؛ قال الشاعر:[الطويل]

ضَمَمْتُ إلَى صَدْرِي مُعَطَّرَ صَدرِهَا

كَمَا نَكحَتْ أمُّ الْغُلامِ صَبِيَّهَا =

ص: 388

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلنا: بل حقيقته العَقْد، وإذا كان حقيقةً في العقد، لم يكن حقيقة في الوَطْء، وإلا يلزم الاشتراك؛ والمجاز خير منه.

= أي كما ضمت، أو لأنه سببه؛ فجازت الاستعارة لذلك. وقيل: إن حقيقته في العقد، مجاز في الوطء. وقيل: هو مشترك بين العقد والوطء اشتراكًا لفظيًا ويتعين المقصود بالقرائن، فإذا قالوا: نكح فلان بنت فلان أو أخته أرادوا تزوجها وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا إلا الوطء؛ لأن بذكر المرأة أو الزوجة يستغنى عن العقد. ومن هنا نشأ الاختلاف بين الفقهاء: هل النكاح حقيقة في الوطء والعقد أو هو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟.

فذهب جماعة إلي القول بأن لفظ النكاح مشترك بين الوطء والعقد، فيكون حقيقة فيهما. ودليلهم

على هذا أنه شاع الاستعمال في الوطء تارة وفي العقد تارة أخرى بدون قرينة، والأصل في كل ما

استعمل في شيء أن يكون حقيقة فيه إما بالوضع الأصلي أو بعرف الاستعمال. فالقول بالمجازية

فيهما أو في أحدهما خلاف الأصل.

وقد قال بعض الحنابلة: الأشبه بأصلنا أن النكاح حقيقة في الوطء والعقد جميعًا؛ لقولنا بتحريم موطوءة الأب من غير تزويج؛ لدخولها في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} .

وذهب الشافعية والمالكية وجمهور الفقهاء إلى القول بأن النكاح حقيقة في العقد، مجاز في الوطء.

وذهب الحنفية إلى العكس.

والقول بأن النكاح حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر أولى من الذهاب إلى الاشتراك اللفظي، وذلك لما هو متقرر في كتب الأصول من أنه: إذا دار لفظ بين الاشتراك والمجاز فالمجاز أولى لأنه أبلغ وأغلب، والمشترك يخل بالأفهام عند خفاء القرينة عند من لا يجيز حمله على معانيه، بخلاف المجاز؛ فإنه عند خفاء القرينة يحمل على الحقيقة. فكونه حقيقة في أحدهما مجازًا في الآخر أولى. ثم الظاهر مذهب الجمهور القائل بأن النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء؛ وذلك أولًا: لكثرة استعمال لفظ النكاح بإزاء العقد في الكتاب والسنة حتى قيل: إنه لم يرد في القرآن إلا للعقد، ولا يرد قول الله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} لأن شرط الوطء في التحليل إنما ثبت بالسنة، وذلك للحديث المتفق عليه في قصة امرأة رفاعة لما بت طلاقها وتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" فيكون معنى قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ} حتى تتزوج ويعقد عليها. وقد بينت السنة أنه لا بد مع العقد من ذوق العسيلة.

وثانيًا: أنه يصح نفي النكاح عن الوطء، فيقال: هذا الوطء ليسن نكاحًا، ولو كان النكاح حقيقة في الوطء لما صح نفيه عنه.

وتظهر ثمرة الخلاف بين الحنفية والجمهور في حرمة موطوءة الأب من الزنا. فلما كان النكاح عند =

ص: 389

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الحنفية حقيقة في الوطء الامل للوطء الحلال والحرام قالوا بحرمة موطوءة الأب من الزنا. ولما كان عند الجمهور حقيقة في العقد قالوا: لا تحرم موطوءة الأب من الزنا.

وعرَّفه الشافعية بقولهم: عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ الإنكاح والتزويج وما اشتق منهما - فقولهم: "عقد" جنس في التعريف. وقولهم: "يتضمن إباحة وطء" خرج به ما لا يتضمن إباحة الوطء، كالإجارة وغيرها. وقولهم:"بلفظ الإنكاح والتزويج" خرج به ما لم يكن بهذا اللفظ كالهبة والتمليك.

وعرَّفه العلامة الدردير رحمه الله في "أقرب المسالك" حيث قال: هو عقد لحل تمتع بأنثى غير محرم ومجوسية وأمة كتابية بصيغة.

فالعقد مصدر "عقد" أي تمسك وتوثق، والمراد به هنا ارتباط أحد الكلامين بالآخر أي ارتباط كلام الزوج بكلام ولي الزوجة على وجه، ويسمى باعتباره عقدًا شرعيًا يستعقب أحكامه. وقوله. "عقد" جنس في التعريف يشمل النكاح وغيره من العقود. وقوله:"لحل تمتع" الخ

علة باعثة على العقد، وهو فصل مخرج لكل عقد ليس كذلك، ومنه شراء الأمة للتلذذ بها؛ إذ ليس الأصل فيه حل التمتع بخصوصه بل الانتفاع العام وملك الرقبة. وخرج بقوله:"غير محرم ومجوسية وأمة كتابية" المحرم بنسب أو رضاع أو صهر والمجوسيات. والإماء الكتابيات؛ فلا يصح العقد على واحدة منهن، ولا يقال: إن هذا التعريف غير مانع لأنه يدخل فيه الملاعنة والمبتوتة والمعتدة من الغير والمحرِمة بحج أو عمرة؛ لأنه قصد بما ذكره إخراج من قام به مانع أصلي، وأما الملاعنة وما عطف عليها فمانعهن عرضي طارئ بعد الحل بخلاف المحرم والمجوسية والأمة الكتابية؛ فإن مانعهن ذاتي لا عرضي. وقوله:"بصيغة" متعلق بعقد وهو من تمام التعريف؛ لأن الصيغة أحد أركان النكاح. وقد عرفه الكمال بن الهمام من الحنفية بقوله: عقد وضع لتملك المتعة بالأنثى قصدًا فقوله: "عقد" جنس في التعريف يشمل سائر العقود. وقوله: "وضع لتملك المتعة بالأنثى" يخرج به العفد على المنافع كالإجارة، وعلى الذوات كالبيع والهبة. والمراد وضع الشارع لا وضع المتعاقدين. وقوله:"قصدًا" يحترز به عن عقد تملك به المتعة ضمنًا كما في البيع والهبة؛ لأن المقصود فيهما ملك الرقبة، ويدخل ملك المتعة فيهما ضمنًا إذا لم يوجد ما يمنعه.

وعرَّفه الحنفية بأنه: عقد يفيد ملك المتعة قصدًا.

وعرَّفه الحنابلة بأنه: عقد التزويج، فهو حقيقة في العقد، مجاز في الوطء على الصحيح.

ينظر: الصحاح 1/ 413، ولسان العرب 2/ 625، والمصباح المنير 2/ 965، والقاموس المحيط 1/ 263، ومعجم مقاييس اللغة 5/ 475، والمطلع 318، وتبيين الحقائق 2/ 94، وبدائع الصنائع 3/ 1324، ومغني المحتاج 3/ 123، ومنح الجليل 2/ 3، والفواكه الدواني 2/ 21، والكافي 2/ 519، والإنصاف 8/ 4، والمغني 7/ 3.

ص: 390

‌الأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ

مَسْأَلَةٌ:

"الشَّرْعِيَّةُ وَاقِعَةٌ؛ خِلَافًا لِلْقَاضِي

(1)

، وَأثْبَتَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الدِّينِيَّةَ أَيْضًا.

"مسألة"

الشرح: الألفاظ "الشرعية"؛ وهي المستفادة من جهة الشرع، وضعها للمعنى جائز؛ قال في (المنتهى): ضرورة.

وقال الإمام فخر الدّين الرَّازي، والآمدي، والهِنْدِي

(2)

: إنه لا خلاف في ذلك، وليس بجيد، ونقل على أبو الحسن؛ أن بعضهم منع من إمكانها

(3)

.

والمصنف هنا أهمل ذكر الجواز" لكونه توهّمه متَّفَقًا عليه؛ كما عرفته؛ ولشذوذ الخلاف فيه؛ وقال: "واقعة؛ خلافًا للقاضي"

(3)

؛ حيث صمَّم على إنكارها، وتابعه أبو نصر القُشَيْرِيّ.

والجمهور على الوقوع؛ ومنهم الفُقَهَاء، والمُعتزلة، والخَوَارج؛ ثم اختلفوا في أنها هل هي حقائق مبتكرة، ولم يُقْصَدْ فيها التفرُّعُ عن اللغوية، بل أريد وضع مبتكر أو مأخوذة من الحقائق اللُّغوية؛ إما بمعنى أنها أقرب على مدلولها، وزِيدَ فيها، وإما بأن يكون استعير لفظها للمدلولِ الشَّرعيِّ لعلاقة؟

فذهبت المُعْتزلة إلى الأول، قالوا: وتارةً يصادف ذلك الوضعَ علاقةٌ بين المعنى اللغوي والشرعي؛ فيكون اتفاقًا غير منظورٍ إليه، وتارة لا يصادف.

وذهب غيرهم إلى الثاني؛ قالوا: وهي مَجَازَاتٌ لغوية، حقائقُ شرعية؛ فعلى الأول: لا يتكلّف في إثبات المعنى الشَّرْعي إلى علاقة، ولا يستدلّ على أن اللّفظة غير منقولةٍ بعدم العلاقة؛ بخلاف الثاني.

قوله: "وأثبتت المعتزلة الدينية أيضًا".

(1)

فإنها عنده حقائق لغوية لم يستعملها الشارع إلَّا بها، وتبعه في ذلك أبو نصر القشيري. ينظر: سلاسل الذهب (182)، والبحر المحيط 2/ 161، والبرهان 1/ 174، (84).

(2)

ينظر: المحصول 1/ 1/ 427، والبحر المحيط 2/ 159.

(3)

ينظر: البحر المحيط 2/ 160، وسلاسل الذهب (183).

ص: 391

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اعلم أن المثبتين للأشياء الشرعية اختلفوا، هل وقع النقل في الأسماء الشرعية مطلقًا، سواء تعلَّقت بالأصول الشرعية؛ كالإيمان

(1)

، أو بفروعها؛ كالصلاة

(2)

، أو وقع في فروعها؛ كالصلاة والزكاة

(3)

؟

(1)

الإيمان في اللغة: الأمن من التكذيب والمخالفة. وهو التصديق بأي أمر حقًّا كان أو باطلًا. قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} . وفي الشرع للعلماء فيه مذاهب ثلاثة:

المذهب الأول: الإيمان هو التصديق القلبي، وهو لجمهور الأشاعرة والماتريدية.

المذهب الثاني: الإيمان هو التصديق والإقرار، وهو لأبي حنيفة ومن تبعه.

المذهب الثالث: الإيمان هو التصديق والإقرار بالشهادتين والعمل، وهو رأي الخوارج والمعتزلة والفقهاء مع المحدثين.

(2)

الصلاة في اللغة: الدعاء. قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم، وقال الأعشى:

وقابلَها الرِّيحُ في دنِّها

وصلَّى على دنها وارتسم

أيْ دعا وكبر، وهي مشتقة من الصلوين، قالوا: ولهذا كتبت الصلاة بالواو في المصحف. وقيل: هي من الرحمة. والصلوات، واحدها صلا كعصا، وهي عرقان من جانبي الذنب، وقيل: عظيان ينحنيان في الركوع والسجود. وقال ابن سيده: الصَّلا: وسْط الظهر من الإنسان، ومن كل ذي أربع، وقيل: هو ما انحدر من الوركين، وقيل: الفرجة التي بين الجاعرة والذنب، وقيل: هو ما عن يمين الذنب وشماله، وقيل: في اشتقاق الصلاة غير ذلك. ينظر: لسان العرب 4/ 2490، 2491، وتهذيب اللغة 2/ 236، 237، وترتيب القاموس 2/ 847.

واصطلاحًا:

عزَفها الحنفية بأنها: أركان مخصوصة وأذكار معلومة بشرائط محصورة في أوقات مقدرة.

وعند الشافعية: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم.

وعند الحنابلة: أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. ينظر: الاختيار 1/ 37، وفتح الوهاب 1/ 29، وقليوبي على المنهاج 1/ 110، والمبدع 1/ 298.

(3)

الزكاة لغةً: قال ابن قتيبة، الزكاة من الزكاء، وهو النماء، والزيادة، سميت بذلك؛ لأنها تثمر المال، وتنميه، يقال: زكا الزرع: إذا بورك فيه، وقال الأزهري: سميت زكاة؛ لأنها تزكي الفقراء، أي: تنميهم، قال: وقوله تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ، أي: تطهر المخرجين، وتزكي الفقراء.

ينظر: لسان العرب 3/ 1849، وترتيب القاموس 2/ 464، والمصباح المنير 1/ 346.

واصطلاحًا:

عرَّفها الحنفية بأنها: اسم لفعل أداء حق يجب للمال يعتبر في وجوبه الحول والنصاب.

وعرَّفها الشافعية بأنها: اسم لما يخرج عن مالٍ أو بدن على وجه مخصوص. =

ص: 392

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فذهبت المعتزلة؛ إلى الأول؛ غير أنهم أرادوا التفرقة بينهما، فخصوا الألفاظ المتعلّقة بفروع الشريعة؛ باسم الشَّرْعية، والمتعلّقة بالأصول؛ بالدينية.

وفي كلام الرَّازي وغيره؛ أنهم خصوا أسماء الأفعال؛ كـ (الصلاة)، و (الزَّكاة)؛ بالشرعية، وأسماءَ الفاعلين؛ كالمؤمن والفاسق؛ بالدّينية؛ وهو يقتضي أن جمل ما كان من أسماء الأفعال، يكون داخلًا عندهم في الشَّرعية؛ فيدخل الإيمان والكُفْر والفِسْق مثلًا في الشرعية، ويخرج عن الدينية، ويقتضي أن أسماء الفاعلين كلَّها دينية؛ فيدخل المصلّي والمزكّي تابعين للصَّلاة والزكاة، فهما شرعيّان، والإيمان والكُفْر أصل للمؤمن والكافر؛ وهما من الدِّينية.

فالحق

(1)

[أن]

(2)

المتعلِّق بفروع الدِّين شرعي، وبأصوله ديني؛ وإلَّا لزم تسمية اللَّفظ باسم، وتسمية أصله المشتقِّ منه؛ بغير اسمه.

وذهب غيرهم؛ إلى أن النقل إنما وقع في فروع الشريعة فقط، وهو رأي أبي إسحاق الشِّيرازي، وأكثرِ أصحابنا، واختاره المصنِّف.

ثم من أصحابنا من اقتضى كلامه أن محلَّ الخلاف، إنما هو الشرعية، وأن الدينية لم يثبتها أحدٌ؛ إلَّا ممن خَرَقَ الإجماع.

وهو قضية إيراد ابن السَّمْعاني، قال: وصورة الخلاف في الزَّكاة، والصَّلاة، والحج

(3)

،

= وعرَّفها المالكية بأنها: إخراج جزء مخصوص من مال مخصوص بلغ نصابًا لمستحقه.

وعرَّفها الحنابلة بأنها: حق واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص .. ينظر: شرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية 2/ 153، وشرح المهذب 5/ 324، ومغني المحتاج 1/ 368، والبجيرمي على الإقناع 2/ 275، ونهاية المحتاج 3/ 43، وشرح منح الجليل على مختصر خليل 1/ 322، ومواهب الجليل 2/ 255، وشرح الخرشي 2/ 148، والفواكه الدواني 1/ 378، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي 2/ 166.

(1)

في ت: فالجواز.

(2)

سقط في ت.

(3)

الحج بفتح الحاء وكسرها لغة: القصد؛ يقال: رجل محجوج، أي: مقصود؛ قال المخبل السعدي: [الطويل]

وأشهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَة

يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا

أي يقصدونه. وقال ابن السكيت: أي يكثرون الاختلاف إليه. هذا هو الأصل، ثم غلب استعماله في القصد إلى مكة حرسها الله تعالى. =

ص: 393

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والعمرة، وما أشبه ذلك

(1)

.

ونقل الإمام محمد بن نَصْرِ المَرْوَزِيّ

(2)

، في [كتاب]

(3)

(الصَّلاة)؛ عن أبي عُبَيْدٍ

(4)

؛ أنه استدل على أن الشارع نقل الإيمان؛ فإنه نقل الصلاة والحج ونحوهما إلى مَعَانٍ أخر.

قال: فما بال الإيمان؟ وهذا يدل على تخصيص الخلاف بالإيمان، وهو صحيح؛ فإن الخلاف بيننا وبين المعتزلة إنما هو في الدينية؛ كالإيمان، وأما الشرعية، فنحن وهم سواء في

= وشرعًا: قصد الكعبة بنسك.

واصطلاحًا:

عرَّفه الحنفية بأنه: قصد موقع مخصوص - وهو البيت - بصفة مخصوصة، في وقت مخصوص، بشرائط مخصوصة.

وعرَّفه الشافعية بأنه: قصد الكعبة للنسك.

وعرَّفه المالكية بأنه: هو وقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة، وطواف بالبيت سبعًا، وسعي بين الصفا والمروة كذلك على وجه مخصوص بإحرام.

وعرَّفه الحنابلة بأنه: قصد مكة للنسك في زمن مخصوص. ينظر: لسان العرب 2/ 779، والمغرب ص 103، والمصباح المنير 1/ 121، والاختيار 177، ومغني المحتاج 1/ 460، ونهاية المحتاج 3/ 233، والشرح الكبير 2/ 202، والمبدع 3/ 283، وكشاف القناع 2/ 375، وأسهل المدارك 1/ 441، والفواكه الدواني 1/ 406، ومجمع الأنهر 1/ 259.

(1)

ينظر: البحر المحيط 2/ 162.

(2)

أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي، أحد الأئمة الأعلام، ولد سنة 202 هـ، تفقه على أصحاب الشافعي بـ"مصر" وعلى إسحاق بن راهوية، قال الخطيب البغدادي: كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم، وقال أبو بكر الصيرفي: لو لم يصنف المروزي إلا كتاب القسامة لكان من أفقه الناس. مات سنة 294 هـ.

ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 84، والأعلام 7/ 346، والبداية والنهاية 11/ 102.

(3)

سقط في أ، ج.

(4)

القاسم بن سلام أبو عبيد البغدادي، أحد أئمة الإسلام فقهًا، ولغةً، وأدبًا، أخذ العلم عن الشافعي، والقراءات عن الكسائي وغيره. قال ابن الأنباري: كان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثًا، فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويصنف ثلثه. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: عرضت كتاب "الغريب" لأبي عبيد على أبي فاستحسنه، وقال: جزاه الله خيرًا. توفي سنة 224 هـ. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 67، وطبقات ابن سعد 7/ 355، وإنباه الرواة 3/ 12، وطبقات الشافعية للإسنوي ص 11، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 30، وطبقات الفقهاء للعبادي ص 25.

ص: 394

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إثباتها، وخلافنا فيها ليس معهم، بل مع القاضي.

وحصلنا من هذا، على أن من الناس: من نفى النقلَ مطلقًا؛ كـ (القاضي)، ومن أثبته مطلقًا؛ كـ (المعتزلة)، ومن فرَّق بين الدينية والشرعية فأثبت الشرعية؛ ونفى الدينية، وهو المختار، ولم يقلْ أحد بعكسه.

وهنا فوائد:

إحْدَاهَا: أن قوله: (وأثبت المعتزلة الدينية أيضًا)، يفهم أنهم أثبتوا الشرعية؛ لاقتضاء (أيضًا) ذلك.

وقد غلط بعض الشارحين؛ فزعم أن المعتزلة لا يثبتون الشرعية؛ وسبب وهمه

(1)

أن المصنِّف نصب الدليل من جِهَتِهِمْ في الدينية فقط، والمصنّف إنما فعل ذلك؛ لأنه يوافقهم في الشرعية، دون الدينية؛ فإن سكوته عن اختيار هذا القول، مع جزمه بإثبات الشَّرعية قرينةٌ في أنه لا يرى إثبات الدينية، وسيصرِّح به في الاستدلال.

الثانية: ليس في كلامه نقلٌ عن القاضي في الدِّينية، ومذهبه إنكارها؛ ولعلَّ المصنّف إنما فعل ذلك؛ لأنه إذا أنكر الشرعية، أنكر الدِّينية؛ بطريق أولى؛ لأن كل من أثبت الدِّينية، أثبت الشرعية، من غير عكس.

الثالثة: قوله: (الشرعية، والدِّينية)، لا شك أنهما صفتان لموصوفٍ محذوفٍ، وليس هو بالحقيقة؛ كما توهمه الشارحون، بل الأسماء والألفاظ؛ كما شرحناه؛ لقوله في (المنتهى):(الأسماء الشرعية)؛ ليشمل كلامه كلًّا من الحقائق الشرعية، والمجازات الشرعية؛ لأنهما سواء وفاقًا وخلافًا.

الرابعة: الشرعي، يطلق

(2)

في اصطلاح الفقيه والأصولي، على أنواع:

الأول: ما لم يستفدِ اسمه إلَّا من الشرع؛ وهو المراد هنا.

الثاني: الواجب والمندوب فقط، وذكر إمام الحرمين في (الأساليب)؛ أنه الذي يعنيه الفقيه بالشرعي؛ ويشهد له قول الأصحاب: الجماعة في النَّفل المطلق غير مشروعة، يعنون: غيرَ مندوبة، وإلا فهي مُبَاحةٌ.

(1)

في ب: زعمه.

(2)

في ج، ح: ينطلق.

ص: 395

لَنَا: الْقَطْعُ بِالاسْتِقْرَاءِ؛ أَنَّ الصَّلَاةَ لِلرَّكَعَاتِ، وَالزَّكَاة، وَالصَّوْم، وَالْحَجُّ كَذلِكَ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، وَالنَّمَاءُ، وَالْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا، وَالْقَصْدُ مُطْلَقًا.

وفي (الروضة) في صلاة الجماعة

(1)

- من زيادة النووي - معنى قولهم: لا تشرع: لا تستحب

(2)

.

الثالث: المباح.

الشرح: "لنا: القَطْع" الحاصل "بالاستقراء؛ أن الصلاة للركعات، والزكاة والصيام

(3)

والحج كذلك"، أي: الأفعال المخصوصة المفهومة من الشَّرع، "وهي في اللغة" لغير ذلك؛ فإن الصلاة، والزكاة، والحج لغة: حقيقة في "الدُّعاء، والنَّمَاء، والإِمْسَاك مطلقًا"، سواء كان إمساكَ صومٍ أم غيرِهِ، "والقصد مطلقًا"، سواء كان لـ"مكة" لحج أم

(4)

غير ذلك.

وإنما قال: الزكاة والصوم والحج كذلك، ولم يقل لنا القطع بأن الصَّلاة، والزكاة، والصوم، والحج للمعاني الشرعية؛ لأن قطعه

(5)

إنما هو بالنسبة إلى الصلاة فقط.

وقوله: "الزكاة

" إلى آخره - جملة مستأنفة.

وقوله: "والزكاة" مرفوع بالابتداء.

(1)

ينظر: الروضة بتحقيقنا 1/ 445.

(2)

في أ، ج، ح: لا يشرع لا يستحب.

(3)

مصدر صام، وهو في اللغة: عبارة عن الإمساك. قال الله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} . ويقال: صامت الخيل: إذا أمسكت عن السير، وصامت الريح: إذا أمسكت عن الهبوب.

قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام، أو كلام، أو سير، فهو صائم.

واصطلاحًا:

عرَّفه الحنفية بأنه: عبارة عن إمساك مخصوص، وهو الإمساك عن المفطرات الثلاث بصفة مخصوصة.

وعرَّفه الشافعية بأنه: إمساك عن المفطر على وجه مخصوص.

وعرَّفه المالكية بأنه: إمساك عن شهوتي البطن والفرج في جميع النهار بنية.

وعرَّفه الحنابلة بأنه: إمساك عن أشياء مخصوصة. ينظر: الصحاح 5/ 1970، وترتيب القاموس 3/ 871، والمصباح المنير 2/ 482، ولسان العرب 4/ 2529، والاختيار 158، والصنائع 3/ 1055، والمبسوط 3/ 114، ومغني المحتاج 1/ 420، والمجموع 6/ 247، والشرح الكبير، بحاشية الدسوقي 1/ 509، والكافي 1/ 352، وكشاف القناع 2/ 299، والمغني 6/ 186.

(4)

في ت: أو.

(5)

في ت: وضعه.

ص: 396

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله: "كذلك" أي: مثل الصلاة في النَّفل، لا في القطْع به، هذا تقرير كلامه.

ويشهد له كلامُه في (المنتهى)؛ إذ قال: لنا: القطع أن الصَّلاة للركعات، والظاهرُ أن الزكاة والصيام والحج كذلك.

فإن قلت: لم كان القطع موجودًا في الصلاة، دون غيرها؟

قلت: قد يقال: العرب كانت تعرف حجَّ البيت، وصومَ يومٍ إلى اللَّيل.

وقال داود الظاهري

(1)

: لم يكن لفظ الزكاة معروفًا. عندهم ألبتة، ونحن نقطع

(2)

بأنهم لم يكونوا عارفين بهذه الصَّلاة المخصوصة

(3)

.

وقوله: إن الصلاة: الدعاء - جزم منه بذلك.

وفي (المنتهى) قال: الدعاء أو الاتباع، وقد أشار إليه هنا من بَعْد؛ حيث يقول: ورُدَّ بأنه في الصَّلاة، وهو غير داعٍ ولا مُتَّبعٍ.

والمشهور: أن الصلاة في اللّغة: الدعاء الخَاصُّ؛ وهو الدعاء بخير.

وهل هي مشتركة بين الدعاء، والرحمة، أو حقيقة في الدعاء، مَجَازٌ في الرحمة؟.

ظاهر مذهب الشَّافعي الأول؛ إذ استدل على إعمال المشترك في معنييه بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [سورة الأحزاب: الآية، 56].

وذهب الزَّمَخشريُّ إلى أنها مجاز في الدعاء

(4)

؛ ذكره عند الكلام على قوله تعالى في (البقرة){وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [سورة البقرة: الآية، 3]؛ حيث قال: وقيل للداعي: حصل؛ تشبيهًا في تخشّعه بالراكع والساجد. انتهى، وجعل حقيقة المصلِّي تحرُّك الصَّلَوَيْنِ.

ولقائل أن يقول: قوله: "الصلاة للركعات" يقتضي أن كل صلاة ذاتُ ركعات، والركعات صلاة شرعية إجماعًا، وكذلك الركعة الواحدة عندنا.

ولا يقال: فلم تجب

(5)

ركعتان [على]

(6)

من نَذَرَ أن يصلي؛ في أصح القولين؛ لأن

(1)

أبو سليمان داود بن علي بن خلف بن سليمان الأصبهاني، ثم البغدادي إمام أهل الظاهر، ولد سنة 200 هـ، أخذ العلم عن إسحاق وأبي ثور. قال العبادي: وكان من المعصبين للشافعي، وصنف كتابين في فضائله والثناء عليه. مات سنة 270 هـ. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 77، وفيات الأعيان 2/ 26، طبقات الفقهاء ص 58.

(2)

في ج، ح: على قطع.

(3)

ينظر: شرح المهذب (5/ 295).

(4)

ينظر: الكشاف 3/ 557.

(5)

في أ، ت، ج، ح: يجب.

(6)

سقط في ت.

ص: 397

قَوْلُهُمْ: (بَاقِيَةٌ، وَالزِّيَادَاتُ شُرُوطٌ)؛ رُدَّ بِأنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ غَيْرُ دَاعٍ وَلَا مُتَّبَعٍ.

المأخذ في إيجاب ركعتين ليس أن الركعة ليستْ صلاةً، بل

(1)

إيجاب الآدمي على نفسه فرعٌ لإيجاب الله تعالى، وأقلُّ ما أوجب الله - تعالى - ركعتان، ويقتضي أيضًا أن ما لَا رَكعَةَ فيه ليس بصلاة؛ فتَرِدُ عليه صلاة الجنازة؛ وكذلك سجدتا التِّلاوة، والشكر.

قال الشَّيخ أبو حامد: كل منهما بانفراده صلاة شرعية.

الشرح: قال: "قولهم"، أي: في الاعتراض على هذا الدليل: لا نسلِّم أن هذه الألفاظ خارجةٌ عن موضوعاتها اللّغوية "باقيةٌ، والزياداتُ" المزيدة عليها "شروطٌ"؛ لصحة وقوع الفعل على الوجه الشرعي - "ردّ بأنه" قد يكون "في الصلاة، وهو غير داعٍ ولا مُتَّبعٍ"؛ مع أن الصلاة الدعاء؛ كما تقدم، والاتباع.

ومنه المُصَلِّي في السِّبَاق، وقد قرر كونه غير داعٍ بالمصلِّي حال التلبُّسُ بأركانٍ لا دعاء فيها.

ولك أن تقول: لا نسلِّم [أنه] يسمي، والحالة هذه، مصلِّيًا؛ بالحقيقة؛ وبالأخرس، فإنه يسمى مصليًّا، وإن لم [يكن]

(2)

داعيًا.

ولك منع كون الأخرس ليس بداعٍ؛ إذ الدعاءُ هو الطلب القائمُ بالنفس؛ وذلك يوجد من الأخرس؛ وبأن الدعاء ليس ملازمًا للصلاة.

ولك أن تقول: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عندنا رُكْنٌ في الصَّلاة؛ وذلك دعاء؛ وكذلك

(3)

قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ؛ في (الفاتحة)، وإن كان المُصلِّي إنما يقرؤه على أنه قرآن - فليقرَّر بمن لا يوجب الصلاة في الصلاة، ولا الفاتحة؛ كالحنفي، فإن صلاته

(4)

قد تَخْلُو عن الأمرين؛ فتخلو عن الدعاء، وقرر كونه [قد يكون]

(5)

غير متَّبعٍ

(6)

بالإمام والمنفرد، ولك أن تقول: المراد بالاتباع: اتباعُ الشارعِ، وذلك حاصل لهما.

فقد لَاحَ لك بهذا؛ أن ما رد به كلامُ القاضي فيه نظرٌ.

(1)

في ج: بل إن.

(2)

سقط في ح.

(3)

في ت: وكذا.

(4)

في ح: صلاة.

(5)

سقط في ب.

(6)

في أ، ب، ج: ممتنع.

ص: 398

قَوْلُهُمْ: مَجَازٌ، إِنْ أُرِيدَ اسْتِعْمَالُ الشَّارعِ لَهَا، فَهُوَ الْمُدَّعَى، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ، فَخِلَافُ الظَّاهِرِ؛ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهَا؛ وَلأَنَّهَا تُفْهَمُ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ، الْقَاضِي:

الشرح: وأما "قولهم"؛ بأننا سلمنا استعمال الشارع لهما، ولكن ذلك ليس دليلًا على الحقيقة، وإنما هو "مجاز"؛ لما بين الشرعي واللغوي من العَلَاقَةِ:

فجوابه من وجهين:

أحدهما: أن نقول: "إن أريد" بكونها مجازًا "استعمالُ الشَّارع لها"، أي: أن الشارع استعملها في هذه المَعَاني على سبيل التجوُّز، "فهو المدعَى"؛ إذ الحقيقة الشرعية مَجَازٌ لغويٌّ أشهر.

"وإن أريد" استعمالُ "أهل اللغة، فخلاف الظاهر؛ لأنهم لم يعرفُوها"، فكيف يستعملونها، واستعمال اللفظ في المعنَى فرعُ تعقُّله؟.

والثاني: المنع فلا نسلم أنها مجاز؛ وإليه أشار بقوله: "ولأنها" لو كانت مجازًا، لتوقَّف فَهْمُهَا على القَرِينَةِ، لكنها "تفهم بغير قَرِينَةٍ"، وتبادرُ الفهمِ دليلُ الحقيقة.

ولقائل أن يقول على الأول: قولكم: إن أريد استعمالُ الشَّارع، فهو المدعَى - ماذا تريدون

(1)

باستعماله؟ إن أردتم مجرد الاستعمال، فليس هو المدعَى، وإن أردتم الاستعمال مع الوَضْع الشرعي، فممنوع

(2)

؛ وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم سيّد أهل اللغة، واستعماله استعمال أهل اللُّغة، ففيم الترديد؟

وقولكم: وإن كان أريد أهلُ اللغة، فخلاف الظَّاهر؛ لأنهم لم يعرفوها - فيه نظر؛ لأنكم جزمتم بأن أهل اللُّغَةِ لم يعرفوها؛ واستدللتم بذلك على أن استعمالهم لها خلاف الظَّاهر، وكيف يكون الدَّليل مجزومًا به، والمدلولُ خلافُ الظاهر؛ ولا بد من تَسَاوِي الدَّليل والمَدْلُولِ في القطع والظَّن.

وعلى الثاني: لم قلتم: إن تبادر الفَهْمِ علامةُ الحقيقة، وقد تبادر المجاز الرَّاجح.

(1)

في ت: يريدون.

(2)

في حاشية ج: قوله: "فممنوع" قد يقال: دليل الوضع الاستعمال.

وقوله: "فاستعماله

" إلخ. قد يقال: إن استعملها فيما لم يعرفه أهل اللغة.

وقوله: "وكيف يكون

" إلخ قد يقال: اكتفى بمخالفة الظاهر؛ لكفايتها في المطلوب.

قوله: "لأنه قد يتبادر

" الخ قد يقال: إن هذا التبادر منشؤه كثرة الاستعمال مع القرينة، بخلاف تبادر الحقيقة.

ص: 399

لَوْ كَانَتْ كَذلِكَ، لَفَهَّمَهَا الْمُكَلَّفَ، وَلَوْ فَهَّمَهَا، لَنُقِلَ؛ لأَنَّا مُكَلَّفُونَ مِثْلَهُمْ، وَالآحَادُ لَا تُفِيدُ، وَلَا تَوَاتُرَ؛ وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا فُهِمَتْ بِالتَّفْهِيمِ بِالْقَرَائِنِ، كَالْأَطْفَالِ.

ولا يقال: تبادره، إنما يكون بِسَبْقِ حقيقةٍ عرفية، وهي منتفيةٌ، أو شرعيةٍ، وهي المدعَى؛ لأنه قد يتبادر، لا مع واحد من هذين.

واستدلّ "القاضي" على نَفْي الحقيقة الشرعية؛ بأنه "لو كانت كذلك"، أي: موضوعة بالشَّرع، "لفهَّمها" الشَّارع "المكلَّفَ" قبل أن يخاطِبَ بها، وإلا يلزم الخِطَاب بما لا يفهم، وهو تكليف بما لا يُطَاق، "ولو فهَّمها" للمكلَّفين، "لنقل" إلينا؛ "لأننا مكلَّفون مثلَهم"، أي: مثل الموحِّدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

والنقل: إما متواتر أو آحاد، "والآحاد لا تفيد"

(1)

؛ إذ المسألة علمية.

قال القاضي في (التقريب): بل لا يقدر أحدٌ أن يروي حرفًا في ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

"ولا تواتُرَ" اتفاقًا.

"والجواب": سلمنا أنه لا بُدّ من التفهُّم، [ولكن]

(2)

لِمَ حصرت التَّفَهُّم في النقل؟ فنقول: "إنها فُهِمت: بالتفهيم بالقرائن؛ كالأطفال"؛ حيث يعرفون مدلول اللَّفْظ من غَيْر نصٍّ عندهم.

وهذا الجواب على تقدير تسليم المُلَازمة، وقد منعها أخي الإمام أبو حَامِدٍ - سلّمه الله - في قطعة [وقفت]

(3)

عليها من كلامه على الحقيقة الشرعية؛ موجِّهًا بأنه قد كلَّف بالصلاة من لا يفهمُ موضوعها شرعًا، فيقال له: صَلِّ؛ ولا تجزئ صلاتك إلا إذا فعلت كَيْتَ وكَيْتَ.

أما دخول تلك الأمور في مسمى الصلاة بالوضعِ الشَّرعي، أو عدمِهِ، فليس من التَّكليف.

قال: ولا نعلم أحدًا قال: إن من شرط الصلاة أن يعرف المصلِّي الركْنَ من [الشرط]

(4)

.

ولقائل أن يقول: أما أن ذلك ليس من شرط الصلاة، فلا ريب فيه، بل ولا [تجب]

(5)

معرفته على مجموع العاملين.

وأما أصل وجوب معرفته، فهو من علوم [الشريعة]

(6)

التي يجب حملها، ولا وجه لمنع المُلَازمة، مع ثبوت أصل الوجوب.

وقول المصنِّف "بالتفهيم" حشوٌ، ولو قال: فهمت بالقرائن فقط، حصل غرضه، ثم إن

(1)

في أ، ب، ج، ح: فلا يفيد.

(2)

في ب: ولكنها.

(3)

في أ، ح: وقعت.

(4)

في ح: الشروط.

(5)

في أ، ج، ح: يجب.

(6)

في ح: الشرعية.

ص: 400

قَالُوا: لَوْ كَانَتْ، لَكَانَتْ غَيْرَ عَرَبِيَّةٍ؛ لأِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوهَا، وَأَمَّا الصُّغْرَى؛ فَلأِنَّهُ يَلْزَمُ أَلَّا يَكُونَ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا؛ وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ؛ بِوَضْعِ الشَّارعِ لَهَا مَجَازًا، .............

القاضي ومتابعيه ذكروا دليلًا آخر؛ وهو في كتاب (التقريب) مقدَّم في الذِّكر على الاحتجاج السَّابق.

الشرح: "قالوا: لو كانت" حقائقَ شرعيةً، "لكانت غير عَرَبِيَّة؛ لأنهم"؛ أي: العرب، "لم يضعوها، والتالي

(1)

باطل، فكذا المقدَّم.

أما الشرطية؛ فلأن العربي هو اللّفظ الموضوع لما خصَّصته به العرب، وليست هذه الألفاظُ كذلك.

"وأما الصغرى"؛ كذا بخط المصنّف، وفي بعض النسخ (الثانيةُ)، والمراد: بطلان التالي - "فإنه يلزم ألا يكون [القرآن]

(2)

عربيًّا"؛ لاشتماله عليها؛ لكنه عربي؛ لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [سورة يوسف: الآية، 2].

قال القاضي: ولإطباق الأمة على أنا لم نخاطَب إِلَّا باللِّسان العربي.

"وأجيب" بمنع الشَّرْطية؛ فليس من شرط العربي أن يضعه العرب لذلك المعنى؛ بل اللفظُ الذي تضعه العرب لمعنى مناسبٍ للمعنى الموضوع تجوُّزًا

(3)

: يسمى عربيًّا؛ وهو معنى قوله: "بأنها عربية؛ بوضع الشَّارع لها مجازًا".

والضمير في قوله: (لها) - عائدٌ على المَعَاني الشرعية؛ وقَوَّاه بـ (اللام)؛ لأن المصدر يقوى بـ (اللام)؛ لضعف عمله عن عمل الفعل.

والحاصل: أن المجاز عربيٌّ، والحقائق الشرعية مَجَازاتٌ.

فإن قلت: إنما يكون من اللُّغة المَجَازُ الذي تكلَّمت به العرب.

قلت: تقدم أنه لا يشترط النقل في الآحاد، وأن استعمال العرب لأصل العلاقة كافٍ في نسبة المجاز لها.

ومن هذا يعلم أن قوله: (مجازًا) يتعلق بوضع الشارع، لا بقوله (بأنها عربية)؛ ولك منع الملازمة بِوَجْهٍ آخر؛ وهو أن الشرعية عربيةٌ بوضعِ أفصحِ مَنْ نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم؛ وهو سيّد العرب العرباء.

(1)

في ص: والثاني.

(2)

في ب، ح: القرائن، وهو تحريف.

(3)

في ت: يجوز أن.

ص: 401

أَوْ {أَنْزَلْنَاهُ} ضَمِيرُ السُّورَةِ، وَيَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا؛ كَالْمَاءِ وَالْعَسَلِ، بِخِلَافِ نَحْوِ: الْمِائَةِ، وَالرَّغِيفِ، .......................................................

فإن قلت: فلتكن لغويةً.

قلت: اللغويُّ لم يلاحِظْ فيه الوضعَ الأصْلي.

"أو" يمنع بطلان التالي، ونقول: " {أنزلناه}

(1)

ضميرٌ للسورة"؛ أي: الضمير في (أنزلناه) للسورة، لا للقرآن، "ويصح إطلاق اسم القرآن عليها؛ كالماء، والعَسَل"؛ إذ يطلق كل منهما على قليله، وكثيره؛ "بخلاف نحو: المائة، والرغيف"؛ إذ لا يطلق على البَعْضِ.

وحاصله: أن القرآن اسمُ جنسٍ صادقٌ على القليل منه، والكثير؛ ولذلك

(2)

[فـ]ــإنَّ الحالف؛ لا يقرأ القرآن - يحنث بقراءة البعض.

ولقائل أن يقول: لا نسلم أن القرآن اسمُ جنسٍ

(3)

-، وإنما هو علمٌ على الكتاب العزيز، وهذا ما ذكره البَيْضَاوي في (مِرْصَاده)؛ بحثًا، ونقله أخي الإمام أبو حامد رحمه الله عن أبي علي الفارسي

(4)

، وهو الذي يصح عن الشَّافعي، رضي الله عنه.

وقاله إسماعيل بن قُسْطَنْطِين

(5)

الذي قرأ عليه الشَّافعي.

والإمام الرَّازي قال: إنه اسم للمجموع، وقولهم: الحالف لا يقرأ القرآن يحنثُ بالبعض -

(1)

في ج: إنا أنزلناه.

(2)

في ح: وكذلك.

(3)

في ح: للجنس.

(4)

الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الأصل، أبو علي: أحد الأئمة في علم العربية، ولد في "فسا""من أعمال فارس" ودخل بغداد سنة 307 هـ، وتجوَّل في كثير من البلدان، وقد طلب سنة 341 هـ، فأقام مدة عند سيف الدولة. وعاد إلى فارس، فصحب عضد الدولة ابن بويه، وتقدَّم عنده، فعلمه النحو، وصنَّف له كتاب "الإيضاح" في قواعد العربية، ولد سنة 288 هـ، وتوفي سنة 377 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 1/ 131 ونزهة الألبا 387، والأعلام 2/ 179.

(5)

أبو إسحاق إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين المخزومي، مولاهم المكي، المعروف بـ "القسط" مقرئ مكة. ولد سنة 100 هـ، وقرأ على ابن كثير وعلى صاحبيه: شبل بن عباد، ومعروف بن مشكان، وأقرأ الناس زمانًا، وكان ثقة ضابطًا، قرأ عليه الإمام محمد بن إدريس الشافعي ومحمد بن سبعون، وعكرمة بن سليمان، وروى عنه القراءة أحمد بن موسى اللؤلؤي، وفي سند البزي عن ابن كثير نفسه، وفي سند قنبل عن شبل ومعروف عن ابن كثير، قال الذهبي: والقولان صحيحان. ثم جمع بينهما. توفي سنة 170 هـ.

ينظر: غاية النهاية 1/ 166.

ص: 402

وَلَوْ سُلِّمَ؛ فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَا غَالِبُهُ عَرَبِيٌّ؛ كَشِعْرٍ فِيهِ فَارِسِيَّةٌ وَعَرَبِيَّةٌ.

ممنوع؛ فقد نصّ الشَّافعي على أنه لا يحنث، وهو ما ذكره

(1)

الشيخ أبو حامد، والمحاملي

(2)

ولا نعرف

(3)

فيه خلافًا، وقضية هذا الحكم أن يكون علمًا أو اسمًا للمجموع.

ومن عجائب الإمام الرازيِّ قوله: إن القرآن اسم للمجموعِ، مع قوله: إنه يحنث بالبعض؛ وذلك لا يلتئم.

وأعجب منه استدلالُهُ على أنه اسم للمجموع؛ بالإجماع على أن الله لم ينزل [إلا]

(4)

قرآنًا واحدًا.

قال: ولو كان صادقًا على كل جزء

(5)

، لما كان واحدًا، وهو عجيبٌ؛ لأن المطلق لا يدلّ على وحدةٍ. ولا

(6)

تعدّد.

وأعجب منه قول آخرين: لو لم يكن اسمًا للمجموع، لما حَرُمَ على الجنب قراءةُ البعض؛ أفخفي عليهم أن ذلك لقوله عليه السلام:"لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ"

(7)

.

قال: "ولو سلَّم" أن الضمير في {أنزلناه} للقرآن، فلا يخرج عن كونه عربيًّا بوقوع هذه الألفاظ فيه؛ "فيصح إطلاق" اسم "العربي على ما غالبه عربي؛ كَشِعْرٍ فيه فارسية وعربية"؛ فإنه

(1)

في أ، ب، ت، ج: ذكر.

(2)

أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي، أبو الحسن المحاملي البغدادي، أحد أئمة الشافعية، ولد سنة 368 هـ، أخذ الفقه على الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكان غاية في الذكاء والفهم، وبرع في المذهب، وله مصنفات كثيرة في الخلاف والمذهب، ومن تصانيفه "المجموع"، و"المقنع"، وكتاب "رءوس المسائل" مات سنة 415 هـ. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 174، وتاريخ بغداد 4/ 372، والنجوم الزاهرة 4/ 262.

(3)

في أ، ب، ت، ح: يعرف.

(4)

سقط في أ، ب.

(5)

في ت: خبر.

(6)

في ب: وإن.

(7)

أخرجه الترمذي 1/ 236، وفي الطهارة، باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن (131)، وابن ماجة 1/ 195، في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة. 1/ 595، والبيهقي 1/ 89، وفي إسناده إسماعيل بن عباس روايته عن الحجازيين ضعيفة، وهذه منها؛ إذ أن شيخه وهو موسى بن عقبة ليس من الشاميين. وللحديث طرق أخرى منها: ما أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 117، (5) من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر

وقال الشيخ شاكر في تعليقه على سنن الترمذي 1/ 238، على هذا الإسناد: إسناده صحيح. وبذلك صح الحديث، والحمد لله.

ص: 403

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يصدق على الأول أنه عربي، وعلى الثاني فارسيٌّ مجازًا.

فإن قلت: المجاز خلافُ الأصل.

قلت: هذا لا يضر؛ لأن المستدِلَّ، إذا ذكر دليلًا، فلا يسعه الذَّهاب إلى ما فيه مخالفة الأصل؛ من مجاز، أو غيره، إلا مع ذكر المُحْوج لذلك، مع الاستدلال عليه في ذلك المحلِّ، أما إذا ذَكَرَ دليلًا سالمًا عن المعارِضِ، فعورضَ بما هو ظاهر في المُعَارضة، مع احتمال عدمها؛ [كالمعارضة بقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [سورة يوسف: الآية، 2].

فقال المستدِلُّ: هذا أريد به خلافُ ظاهره؛ عن مجاز]

(1)

أو غيره، فدعواه ممنوعة؛ لأن الدليل المنصوب [أولًا]

(2)

لا يعارضه إلا دليلٌ سالمٌ عن الاحتمال، فكما منعْنا المستدِلَّ

(3)

من الذَّهاب إلى المجاز، منعْنا خصْمَه من الاستدلال بما فيه احتمال المجاز.

واعلم أن المصنِّف أطلق الصحة في قوله: ويصح إطلاقُ اسم القرآن عليها، وأراد الصحة [الحقيقية، وهنا أراد المجازية؛ كما أطلقَ الرَّافعي]

(4)

الصّحة في كلامه على قول (الوجيز): "والكثيرُ لا يَنْجُسُ إلا إذا تغيَّر"، وأراد الصَّحَّة الحقيقية.

وفي مواضع أخر، وأراد المجازية.

"فائدة"

لعلَّك تقول: الإمام الرَّازي والمصنِّف متوافقان على مذهب واحد في هذه المسألة، وقد تخالفا في هذا الدَّليل؛ إذ استدلّ به الإمامُ على أن القرآن عربي، واختار ذلك، وجعله المصنِّف دليلًا للخصم، واختار اشتماله على ما ليس بعربي تنزيلًا - فنقول: لنا هنا خصمان: المعتزلة، والقاضي؛ فحيث استدل الإمام بكونه عربيًّا، فمراده الرد على المعتزلة في قولهم بالوضْعِ المبتَكَر، ونخص مذهب القاضي بردٍّ آخر، ويكون الاحتجاج بكونه عربيًّا - دليلًا لنا، وللقاضي عليهم.

والمصنِّف نصبه شُبْهَةً من القاضي، وذكر جوابين:

أحدهما: يدفع ما تعلّق به القاضي؛ وهو قوله: (وأجيب بأنها

(5)

عربية)، ورشَّحه بما يمنع

(1)

سقط في ت.

(2)

سقط في ب، ج.

(3)

في ب: من المستدل.

(4)

سقط في ح.

(5)

في ت: أنها.

ص: 404

الْمُعْتَزِلَةُ: الإيمَانُ التَّصْدِيق، وَفِي الْشَّرْع الْعِبَادَاتُ؛ لأِنَّهَا الدِّينُ الْمعْتَبَرُ، وَالدِّينُ الإِسْلَامُ؛ وَالإِسْلَامُ الْإِيْمَانُ؛ بدَلِيلِ:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} [سورة آل عمران: الآية، 85]؛ فَثَبَتَ أَن الْإِيْمَانَ الْعِبَادَات، وَقَالَ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ

المعتزلةَ من التمسُّك فيه، وهو قوله: مجازًا، ولولا هذا التَّرْشيح، لقالت المعتزلت بذلك الَقَوْل.

والثاني: يدفع مذهب القاضي، ويمنع استدلالَ الإمام.

فقد جمع المصنِّف الكلام من الطَّرفين، وتوسَّط بين الطريقين

(1)

، والحاصل أن الإمام يجعل الآية دليلًا لمذهبه على المعتزلة، والقاضي يجعلها دليلًا لمذهبه علينا، والمصنِّف يقول: لا تدل

(2)

لواحد من المذهبين؛ نبّه عليه أخي رحمه الله.

الشرح: واسْتدلّت "المعتزلة" على ما انفردوا به عنا من القول بالأسماء الدينية؛ بأن "الإيمان" لغة "التصديقُ"، وهذا لا نزاع فيه.

"وفي الشرع: العباداتُ"، فكان حقيقة شرعية فيها؛ "لأنها"؛ أي: العبادات "الدّين المعتبر؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البية: الآية، 5] وأشار بذلك إلى ما سبق من العبادات، "فالدين: الإسلام"؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [سورة آل عمران: الآية، 19].

"والإسلامِ: الإيمان"، وإلا لم يُقْبلْ من فاعله؛ "بدليل": قوله تعالى: " {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران: الآية، 85] والإيمان مقبول؛ فكان هو الإسلام؛ "فثبت أن الإيمان العباداتُ".

هذا تقرير شُبْهتهم، فاعتمدْهُ، وهي مبنيةٌ على ما يدَّعوه من أن الإيمان: العبادات، وعندنا: التصديق.

وهل النطق بالشهادتين شرطٌ في الاعتداد به، أو ركنٌ؟ لأصحابنا فيه تردد.

ولك أن تعترض الشبهة بان ذلك لا يعود إلى جميع ما تقدَّم؛ فإن اسم الإشارة مفرد؛ فلا بد من عوده إلى شيء واحد، وذلك للبعيد، والبعيد هنا هو الإخلاص؛ فإذن الآية لنا عليهم؛ إذ مُدَّعانا أن الإيمان: الإخلاص؛ فاعتمدْ هذا الاعتراضَ بهذا التقرير.

واعترضَتْ بشيئين آخرين:

أحدهما: أن القياس فيها من الشكل الأول، وشرطه كليةُ كبراه، وهي فيه مهملة، والمهملةُ

(1)

في ت: الطرفين.

(2)

في ج، ح: يدل.

ص: 405

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في حكم الجزئية؛ والمعنيُّ بالمُهْمَلَةِ هنا - ما هو أعم من الطبيعية؛ كقولنا: الإنسانُ جنسٌ، وغيرِها؛ كـ: الإنسانُ في خُسْر.

والثاني: أنه إنما أنْتَجَ أن العبادات الإيمانُ؛ لأن

(1)

[الإيمانَ]

(2)

العباداتُ الذي هو المطلوبُ؛ وفرقٌ بينهما؛ لأنَّ قولنا: العباداتُ الإيمان، ينعكس إلى قولنا: بعض الإيمان عباداتٌ؛ فلم يثبت بذلك: الإيمانُ العبادات، بل أنَّ بعضَ الإيمانِ العباداتُ.

والجواب: أن المنطقيين لم يريدوا بكون المُهْملة في قُوَّة الجزئية - كونَها جزئيَّة أبدًا؛ كما عرفناك

(3)

عند قول المصنّف: (والمُحَقَّقُ في المهملة [في قوَّة]

(4)

الجزئيَّة).

ولو أرادوا ذلك

(5)

، لخالفوا ما قرره غيرهم من اشتمالها على صِيغَةِ العموم؛ كقولك: الإنسان حيوان"، والقضايا التي اقتصروا على ذكرها لم يدَّعوا انتفاء الدلالة في غيرها، بل أخذوا المحقَّق المطَّرِد، وأهملوا غيره، وأحالوه في كل مادة على تصرُّف يليق بأهله.

والمهملة يتحقَّق

(6)

فيها الجزئية، ثم قد يدلّ قطعيٌّ على إرادة العموم من الألف واللام، فتكون المهملةُ كلية قطعًا، فتكون صالحة لكبرى الأول في البراهين القطعية، وقد يدلّ عليه دليلٌ ظنّي؛ فيصلح لكُبْرَاه في الأدلة الظنية؛ فاعرف ذلك، ينفعك في أماكن كثيرةٍ، ويظهر لك به الجواب عن السؤال الثاني، فقولهم بانعكاس الكلية الموجبة إلى جزئية، ليس معناه أنها لا يمكن أن تنعكس كلية.

ولو أرادوا ذلك، لخالفوا القاعِدَةَ المجمَع عليها في علمي النَّحْو والبيان؛ من أن خبر المبتدأ تارة يكون مساويًا له، وتارة يكون أعمَّ - ولبَطَلَ الإخبار بأحد المترادفين عن الآخَر، وإنما يريدون أن المحقَّق في الانعكاس هو الجزئية؛ لاحتمال كون الخبر أعم؛: الإنسانُ حيوانٌ، فالانعكاس حيئذ قاصرٌ على الجزئية، وقد يكون الخبر مساويًا؛ فيكون الحكم غير قاصر على الجزئية؛ كـ: الإنسانُ ناطقٌ؛ فإنه ينعكس إلى: بعضُ الناطقِ إنسانٌ، والحكم غير قاصر عليها، بل يصدق كلية؛ لصحة: كلُّ الناطق إنسانٌ.

(1)

في أ، ب،: لا أن.

(2)

في ت: عرفنا.

(3)

سقط في ح.

(4)

سقط في أ، ب، ج، ح.

(5)

في حاشية ج: على معنى قولهم: المهملة في قوة الجزئية، وعلى المراد بقولهم: إن الكلية تنعكس جزئية.

(6)

في ح: تتحقق.

ص: 406

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهذا مكان

(1)

إذا حقَّقته، جمعت بين كلام الأصوليين، والمنطقيين، والنُّحَاة، والبيَانيين، وظهر لك أن الألف واللام ربما كانت سورًا للكلية في بعض الموارد.

وحاصله: أن هذين القياسين يرجعان إلى قياس المساواة؛ كأنه قال: العبادات مساوية

(2)

للدين المساوي للإسلام المساوي للإيمان؛ فالعبادات مساوية للإيمان.

"و" احتجت المعتزلة أيضًا على أن الإسلام هو الإيمانُ؛ بأنه - تعالى - استثنى المسلمين من المؤمنين: "قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}

إلى آخرها [سورة الذاريات؛ الآية، 35] "، أعني:{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الذاريات: الآية، 36] والمستثنَى من جنس المستثنَى منه؛ فالإسلام من جنس الإيمان.

ولك أن تقول: غاية ما تدلّ عليه الآيةُ - أن المسلم مؤمنٌ، ولا يلزم من ذلك كونُ الإسلامِ الإيمانَ

(3)

؛ لصدقِ: الضاحكُ كاتبٌ، وكذبِ: الضحكُ كتابةٌ.

(1)

في ح: إمكان.

(2)

في ج: مساواة.

(3)

مذهب الأشاعرة: أن الإسلام هو الامتثال الظاهري لما جاء به النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أي الإذعان للأوامر والنواهي سواء عمل بها أو لم يعمل، ويتحقق هذا الانقياد بالنطق بالشهادتين، أما غيره كالصلاة مثلًا، فاعتراف المكلف بوجوبها عند سؤاله عنها يحقق الامتثال والإسلام.

أما الماتريدية والمحققون من الأشاعرة فقالوا: إن الإسلام هو التصديق الباطني؛ بدليل قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} وعلى هذا فالنطق دليلٌ عليه، والأعمال كمال له.

وقد أجاب أصحاب المذهب الأول بأن المعنى الأول: أفمن شرح الله صدره لقبول الإسلام.

وباعتبار حقيقتها اللغوية: بينهما تغاير في المفهوم، وهو من تغاير العموم والخصوص المطلق يجتمعان في المصدق بقلبه، فهو مسلم لغة مؤمن لغة، وينفرد الأعم وهو الإسلام.

وباعتبار حقيقتهما الشرعية على رأي الأشاعرة: هما متغايران مفهومًا متلازمان شرعًا باعتبار المحل بعد اتحاد الجهة المعتبرة؛ أي إذا قصد الإيمان المنجى في الدنيا أو في الآخرة فلا يوجد مسلم ليس بمؤمن، ولا مؤمن ليس بمسلم، ومن صدق واخترمته المنية فهو مؤمن مسلم عند الله وليس بمؤمن ولا مسلم عندنا، أما إذا نظرنا إلى مطلق الإيمان ومطلق الإسلام فلا تلازم بل بينهما العموم والخصوص الوجهي، باعتبار محلهما يجتمعان فيمن صدق بقلبه وانقاد ظاهرًا، وينفرد الإيمان في المصدق بقلبه فقط، وينفرد الإسلام في المنافق.

وأما باعتبار حقيقتهما الثسرعية عند الماتريدية ومن تبعهم فهما مترادفان. والخلاف حقيقي بين الأشاعرة والماتريدية لكن لو راعينا ما قررناه من التلازم عند الأشاعرة ومن الترادف عند الماتريدية يكون الخلاف لفظيًا أي لا ثمرة له باعتبار المآل. واللّه أعلم. والمختار مذهب الأشاعرة.

ص: 407

الْمُؤمِنِينَ

} [سورة الذاريات: الآية، 35] إِلَى آخِرِهَا؛ وَعُورِضَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ لَمْ تُؤمِنُوا، وَلكِنْ قولُوا أَسْلَمْنَا] [سورة الحجرات: الآية 14].

قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكَانَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ مُؤمِنًا، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ؛ لأِنَّهُ مُخْزًى؛ بِدَلِيلِ:{مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [سورة آل عمران: الآية، 92] وَالْمُؤمِنُ لَا يُخْزَى؛ بِدَلِيلِ: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [مَعَهُ]} [سورة التحريم: الآية، 8]؛

"وعورض" أصلُ دليلٌ المعتزلة، وقيل: الاستدلال بالآية الأخيرة.

وقيل: بل بالآيتين؛ "بقوله" تعالى: " (قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُوُلوا: أَسْلَمْنَا} [سورة الحجرات: الآية، 17] "؛ سلب عنهم الإيمان، وأثبت الإسلام؛ وذلك نصٌّ في التغاير؛ وكذلك حديث جبريل عليه السلام قوله:"مَا الإِيمَانُ؛ وَمَا الإِسْلَامُ؟ "

(1)

وفسر فيه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان؛ بخلاف ما فسّر به الإسلام، ولن يَمْتَريَ بعد ذلك في تغايرهما إلا مُبَاهِتٌ.

الشرح: ثم استدلَّت المعتزلة أيضًا على أن الإيمان هو العبادات؛ بأن "قالوا: لو لم يكن" ذلك، وكان عبارةً عن التَّصْديق فقط - "لكان قاطع الطريق مؤمنًا"؛ لأنَّهُ مصدِّق؛ "وليس بمؤمن؛ لأنَّهُ مُخْزًى"

(2)

بدخول النار؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة المائدة: الآية، 33]؛ والعذاب العظيم يشتمل على دخول النَّار، وكل من يدخل النار فهو مُخْزًى؛ "بدليل" قوله تعالى:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [سورة آل عمران: الآية، 192].

والمؤمنُ لا يُخْزَى؛ بدليل" قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [سورة التحريم: الآية، 8] ".

فقاطع الطريق ليس بمؤمن؛ مع تصديقه؛ فإذن: الإيمانُ: العباداتُ.

ويمكن أن يقال أيضًا: لو لم يكن، لكان الزَّاني والسَّارق مؤمنَيْن؛ لكنهما ليسا بمؤمنين؛ لقوله عليه السلام:"لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤِمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِق، وَهُوَ مُؤِمِنٌ"

(3)

، أنهما مصدقان، وهو أخصر؛ وحوالة مشهور.

(1)

أخرجه البخاري 1/ 140، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام

(2)

في أ، ج، ح: مجزى.

(3)

أخرجه البخاري 5/ 143، كتاب المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه (2475)، وفي 10/ 33، =

ص: 408

وَأُجِيبَ: بِأنَّهُ لِلصَّحَابَةِ، أَوْ مُسْتَأَنفٌ.

‌وُقُوعُ الْمَجَازِ

مَسْأَلَةٌ:

الْمَجَازُ وَاقِعٌ؛ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ؛ بِدَلِيلِ الْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ، وَالْحِمَارِ لِلْبَلِيدِ، وَشَابَتْ لِمَّةُ اللَّيْلِ،

"وأجيب" عن الآية؛ "بأنه"؛ أي: قولهُ تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [سورة التحريم: الآية، 8] ليس عامًّا في كل المؤمنين، لأنَّهُ - تعالى - خصّ المخاطَبين فيه بالمَعِيَّةِ، فكان "للصَّحابة" خاصَّة.

"أو "يقال: إنه كلامٌ "مستأنفٌ"، ويكون (الذين) مبتدأ خبره:{نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [سورة التحريم: الآية، 8] وليس مراده من كونه مستأنفًا؛ أنه غير معطوف؛ بل إنه من عطف الجمل؛ [فإن العَطْفَ موجودٌ على كُلٍّ، سواء أكان مستأنفًا أم لم يكن، ولكن هل هو من عطف الجمل؟]

(1)

أو المفردات؟ في هذا النظر.

"مسألة"

الشرح: "المَجَاز واقع؛ خلافًا للأستاذ" أبي إسحاق الإسْفِرايينيِّ، وأبي علي الفارسي؛ "بدليل" إطلاق "الأسدِ للشجاعِ، والحمارِ للبليدِ، وشابتْ لِمَّة الليل"؛ فإنها حقائق في غير هذه الأمور؛ فلا تكون حقائق فيها.

قال بعض الشَّارحين: وإلا يلزم الاشتراك؛ وهو خلاف الأصل.

وهذا ساقط؛ لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، ولم يثبت غيرها، فيحال عليها؛ لأن المجاز إلى الآنَ لم يثبت.

= كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (5578)، وفي 12/ 59، كتاب الحدود (6772)، وفي 12/ 116، باب إثم الزناة (6810)، وأخرجه مسلم 1/ 76، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي (100/ 57).

(1)

سقط في ت.

ص: 409

الْمُخَالِفُ: يُخِلُّ بِالتَّفَاهُمِ؛ وَهُوَ اسْتِبْعَادٌ.

قال ابن المطهَّر

(1)

: وإلَّا يلزم الاشتراك، والمجازُ خيرٌ منه

(2)

.

وهو وَاهٍ أيضًا؛ لأن المجاز إلى الآن لم يثبت؛ فكيف يُفْزَعُ إليه؟

وقال بعضهم: وإلا يلزم تبَادرهما

(3)

إلى الذِّهْنِ

(4)

.

وهذا لا يتأتى إلا على القَوْلِ بأنَّ عدم التبادُرِ علامة المجاز.

وقال بعضهم بصحَّة النفْي فيها

(5)

.

وهو أيضًا يتوقف على ثبوت أن صحّة النفي علامةٌ.

وقد اعترض الشِّيرازي هذا؛ بأنه فرع ثبوتِ المَجَازِ

(6)

.

وليس بجيّد؛ فإنا لم نستدلّ على كونه مجازًا بصحّة النَّفي؛ بل على كونه غيرَ حقيقة، والحقيقة لا تنفي.

واحتج "المُخَالف"؛ بأنه يُخلُّ بالتَّفَاهم"؛ لتبادر الحَقِيقَةِ عند الإطلاق؛ "وهو استبعاد" لوجوده، ولا يلزم منه عَدَمُ وجوده.

"فائدة"

الأستاذُ لا ينكر استعمال الأسدِ للشجاعِ وأمثالِهِ؛ بل يشترطُ في ذلك القرينة، ويسمِّيه حينئذٍ حقيقةً، وانظره كيف

(7)

علل باختلال الفهْمِ، ومع القرينة لا اختلال، وإيّاك والاغترارَ بقول

(1)

جمال الدين، الحسن - ويقال: الحسين - بن يوسف بن علي بن المُطَهَّر الحِلِّي، ويعرف بـ "العلامة" ولد سنة 648 هـ بـ "الحلة" من العراق، وكان من أئمة الشيعة، وأحد كبار العلماء. صنف كتبًا كثيرة جدًّا منها:"تبصرة المتعلمين في أحكام الدين"، و"تهذيب طريق الوصول إلى علم الأصول"، و"مختلف الشيعة في أحكام الشريعة"، و"نهج الإيمان في تفسير القرآن"، و"نهاية المرام في علم الكلام"، و"إيضاح الاشتباه في أسماء الرواة".

ينظر: الدرر الكامنة 2/ 71، والنجوم الزاهرة 9/ 267، وأعيان الشيعة 24/ 277.

(2)

ينظر: حاشية البناني 1/ 308 والمزهر للسيوطي 1/ 364 والإحكام لابن حزم 4/ 532 وفواتح الرحموت 1/ 311، والمحصول 1/ 1/ 46 والمسودة ص (564).

(3)

في ت: تبارها.

(4)

ينظر: المصادر السابقة.

(5)

ينظر: المصادر السابقة.

(6)

ينظر: اللمع ص (5).

(7)

في حاشية ج: قوله: "كيف علل

" الخ أي: مع قوله بأنه حقيقة ومع القرينة، الخ ففيه اعتراضات على الأستاذ. تدبر.

ص: 410

مَسْأَلَةٌ:

وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ؛ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّة؛ بِدَلِيلِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: الآية، 11]،

بعضهم: قد يحصل الاختلال مع القَرِينَةِ أيضًا؛ وذلك عند عدم فهم السَّامع إياها، فهو

(1)

ساقط؛ إذ عدم الفَهْمِ حينئذٍ لِخَلَلٍ قائم بالسَّامع؛ وقائلُ هذا يحيل أن الأستاذ ينكر المجازَ مع القرينة؛ وليس كذلك؛ وإنما ينكر تسميته مجازًا؛ كما عرفتَ، والخلاف لفظي؛ كما صرح

(2)

[به]

(3)

إلْكِيَّا الهراسي.

"مسألة"

الشرح: "وهو"؛ أي: المجازُ - واقع "في القرآن"؛ وكذا الحديثُ؛ على ما نقله جماعة.

"خلافًا للظاهرية" فيهما، وليسوا مُطْبِقِينَ

(4)

على ذلك، وإنما قال ذلك منهم أبو بكرِ بنُ داود، وطائفةٌ، وإليه ذهب أبو العبَّاس بنُ القاصِّ، وجماعةٌ من قدماء أصحابنا

(5)

.

وذهب ابن حَزْمٍ

(6)

من الظاهرية؛ إلى أنه لا يجوز استعمال مجاز إلا إن ورد في كتاب أو سُنَّة

(7)

.

وظاهرُ النَّقْل عمن أنكره من الظاهرية؛ أنهم ينكرون مجاز الاستعارة، كما صرح به ابن داود في كتابه (الوصول)؛ قال:"بدليل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: الآية، 11] "؛ وهو مجاز زيادة

(8)

.

(1)

في ت: وهو.

(2)

في حاشية ج: قوله: "كما صرح به إلكيا الهراسي" نقله الزركشي في البحر عن إلكيا الطبري، فلعله نقل عنهما.

(3)

سقط في أ، ب، ح.

(4)

في أ، ب، ح: مطيعين.

(5)

ينظر: جمع الجوامع 1/ 30 والإبهاج 1/ 193.

(6)

علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، عالم الأندلس في عصره، أحد أئمة الإسلام، ولد سنة 384 هـ، كان في الأندلس خلق كثير ينتسبون إلى مذهبه، كان من صدور الباحثين، فقيهًا حافظًا يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة، له مؤلفات منها:"الملل والنحل"، و"المحلى"، و"جمهرة الأنساب"، و"الناسخ والمنسوخ" وغيرها توفي سنة 456 هـ.

ينظر: نفح الطيب 1/ 36 وآداب اللغة 3/ 96، وأخبار الحكماء 156، ولسان الميزان 4/ 198، وابن خلكان 1/ 340، والأعلام 4/ 254.

(7)

ينظر: الإحكام له 4/ 532.

(8)

المراد من المجاز بالزيادة هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مخصوصة بينهما بعد زيادة =

ص: 411

{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [سورة يوسف: الآية، 82]، {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [سورة الكهف: الآية، 77]،

ولك أن تقول: سبق أن مجاز الزيادة ليس في محلِّ الخلاف، وقد قررت الزيادة بأن الكاف زائدة، وإلا يكونُ التقدير: مِثْلَ مِثْلِهِ؛ فإنَّها بمعنى (مثل)، فيكون له - تعالى - مِثْلٌ؛ وهو مُحَال، والغرض من الكلام نفيه أيضًا.

والحقّ أن الكاف غيرُ زائدة، لا سيّما، وشيخنا أبو الحسن الأشعريُّ ينكر أن يكون في القرآن زيادة، والكلام محمول على حقيقته من نفْي مِثْل الْمِثْل، ويلزم [من]

(1)

نَفْي مثل المثل [نَفْيُ المثل؛ ضرورةَ أن مثل

(2)

المثل]

(3)

مثل؛ إذ المماثلة لا تتحقَّق إلا من الجانبين، فمتى كان زيدٌ مِثْلًا لعمرو، كان عمرو مِثْلًا له؛ وقد نُفِيَ المثل.

فإن قلت: إذا قرَّرتم أن المنفيَّ مثلُ المثل، [فالذَّات من جملة مِثْلِ المثل؛ فيلزم كونها منفية؟!

قلت: المرتضَى عندنا في جواب هذا: ما كان أبي - رضي الله تعالى عنه - يقرِّره؛ قال: هذا لا يراد بناءُ قائله على ظاهر الكلام؛ أن المنفيَّ مثلُ المثل]

(4)

؛ من غير تأمّل لتمام المعنى، وهو أن المَنْفِيّ مثلُ المثل عن شيء؛ فإن سياق الآية: اسم ليس (مثل) و (كمثله) الخبر، والمدلولُ نفْيُ الخبر عن الاسم، والذَّاتُ [يصح]

(5)

أن ينفي عنها أنها مِثْلُ مثلها؛ لأنَّهُ لا مثل لها، والشيءُ - الذي هو موضوعٌ - قد نفي عنه المِثْلُ - الذي هو مَحْمُول -، وهو منفيٌّ عنه، لا منفيٌّ؛ فيكون ثابتًا؛ فلا يلزم نفيُ الذَّات، وإنما المنفيُّ مثلُ مثلها، ولازمه نفيُ مثلها، وكلاهما

(6)

منفيُّ عنها.

قال: " {وَاسْأَلِ الْقَرْيةَ} [سورة يوسف: الآية، 82] "؛ على رأي من يقول: إنه عبر بالقرية عن أهلها؛ إطلاقًا لاسم المحلِّ على الحالِّ.

ولا ينبغي لك أن تقرِّره على أن التقدير: أهْل القَرية، وإن كان هو المذكور في (المنتهى)؛

= عليه تغير الإعراب والمعنى إلى ما يخالفه بالكلية - احتراز عن الزيادة التي لا تغير تغييرًا كذلك.

ينظر: الشيرازي 69 ب/ خ.

(1)

سقط في ت.

(2)

في حاشية ج: قوله: "ضرورة أن مثل المثل مثل" الظاهر أن يقال: ضرورة أن المثل مثل المثل. تأمل.

(3)

سقط في ت.

(4)

سقط في ت.

(5)

سقط في ج، ح.

(6)

في ت: فكلاهما.

ص: 412

{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [سورة البقرة: الآية، 194]، {سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [سورة الشورى: الآية، 40]؛ وَهُوَ كَثيرٌ.

قَالُوا: الْمَجَازُ كَذِبٌ؛ لأِنَّهُ يَنْتَفِي، فَيَصْدُقُ؛ قُلْنَا: إِنَّمَا يَكْذِب، إِذَا كَانَا مَعًا لِلْحَقِيقَةِ.

إذ يصير مَجَازَ حَذْفٍ، وابنُ داود لا ينكره؛ كما عرفت.

قال: " {[جِدَارًا} يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [سورة الكهف: الآية، 77] "؛ أي: ولا إرادة للجدار.

وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [سورة البقرة: الآية، 194] "؛ في مجاز المُقَابلة.

{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [سورة الشورى: الآية، 40]" كذلك؛ "وهو كثير".

وقيل: إن القِصَاصَ يسمى اعتداءً حقيقةً، يقال: عَدَا عليه، إذا أوقع به الفعل المُؤْلِمَ، والسَّيئة ما تَسُوءُ

(1)

مَنْ نَزَلَتْ به.

وعلى هذا لم يَسْلَمْ للمصنِّف من الآيات إلا (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ)؛ وهو نصّ في مجاز الاستعارة الذي فيه الخلافُ بلا رَيْبٍ؛ وعليها اعتمد المحقِّقون.

قال ابن القُشَيْرِيِّ: ومن زعم الجدار يريد حقيقة، فقد عَانَدَ

(2)

.

الشرح: "قالوا: المجاز كَذب؛ لأنَّهُ ينتفي، فيصدقُ"؛ كقولنا: البليد ليس بحمار، وإذا كان انتفاؤه صدقًا، كان إثباته كذبًا؛ والقرآن منزَّه عن الكذب.

"قلنا: إنما يكذب" المجاز؛ باعتبار الإيجاب، والنفي، "إذا كانا معًا للحقيقة"، أو للمجاز.

أما [إذا]

(3)

نُفِيَ المعنى الحقيقي، وأثبت المَجَازِيّ، [أو بالعكس]

(4)

- فلا؛ لعدم التوارد على مَحَلّ واحد.

(1)

في ج، ح: يسوء.

(2)

ينظر: الجواليقي ص (5)، والمزهر 1/ 266، ومعترك الأقران 1/ 19 والإتقان 2/ 105، والعضد 1/ 170، والإحكام للآمدي 1/ 71، وفواتح الرحموت 1/ 212 وحاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 326، والتبصرة (180)، وإرشاد الفحول (32)، والمسودة (174)، وشرح الكوكب المنير 1/ 19 ولأبي حيان - صاحب البحر المحيط في التفسير - كتاب في بيان المعرب نشره عالم الكتب.

(3)

سقط في ج، ح.

(4)

سقط في ب.

ص: 413

قَالُوا: يَلْزَمُ أَنْ يَكُون الْبَارِي - تَعَالَن - مُتَجَوِّزًا؛ قُلْنَا: مِثْلهُ يَتَوَقفُ عَلَى الْإِذْنِ.

‌الْمُعَرَّبُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

مَسْأَلَةٌ:

فِي الْقُرْآنِ مُعَرَّبٌ؛ وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَة - رَضِيَ اللهُ ...........................

الشرح: "قالوا: يلزم"من وقوعه في القرآن؛ "أن يكون الباري - تعالى - متجوِّزًا"؛ لأن وجود اسم المعنَى يستدعي الاشتقاق.

"قلنا: مثله" - مما يُوهِمُ نقصًا - "يتوقَّف على الإذْنِ"؛ ولذلك لا يقال: خالق الخِنْزِيرِ، ولولا ورودُ المانع، والضارِّ، والقابضِ، لَمَا أطلقنا ذلك.

قال ابن الصَّبَّاغ: متجوِّزٌ يستعمل لمن في كلامه قُبْحٌ، أو يتوقف؛ بناءً على أن أسماء الله تَوْفِيقِيّةٌ، وهو رأي شيخنا أبي الحَسَنِ.

والتقرير الأول أحسنُ؛ لأنَّ الظاهرية قد ينازعون في كون الأسماء توقيفيةً.

"مسألة"

الشرح: قال المصنِّف: "في القرآنِ المعرَّبُ"، وهو: اللفظ المستعْمَلُ عند العرب في معنًى وضع له في غير لُغَتِهِمْ، "وهو عن ابن عباس

(1)

وعِكْرِمة

(2)

رضي الله عنهم.

(1)

عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي أبو العباس المكي ثم المدني ثم الطائفي. ابن عم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وحبر الأمة وفقيهها، وترجمان القرآن، روى ألفًا وستمائة وستين حديثًا. اتفقا على خمسة وسبعين. وعنه أبو الشعثاء، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وابن المسيب وعطاء بن يسار وأمم. قال موسى بن عبيدة: كان عمر يستشير ابن عباس، ويقول: غواص، وقال سعد: ما رأيت أحضر فهمًا. ولا ألب لبًا، ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حلمًا من ابن عباس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وقال عكرمة: كان ابن عباس إذا مر في الطريق قالت النساء: أمر المسك أو ابن عباس؟ وقال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، وإذا نطق قلت: أفضح الناس، وإذا حدث قلت: أعلم الناس. مناقبه جمَّة. قال أبو نعيم: مات سنة ثمان وستين. قال ابن بكير: بـ "الطائف" وصلى عليه محمد بن الحنفية. ينظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 5/ 276 (474)، وتقريب التهذيب 1/ 425 (404)، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 69، 17 والكاشف 2/ 100، والجرح والتعديل 5/ 116، والثقات 3/ 207، وأسد الغابة 3/ 290، والبداية والنهاية 8/ 295، وتجريد 1/ 320، والإصابة 1/ 322، 4/ 141 والاستيعاب 3/ 133، وطبقات ابن سعد 9/ 118 - 119، والوافي بالوفيات 17/ 231.

(2)

عكرمة البربري مولى ابن عباس، أبو عبد الله أحد الأئمة الأعلام. عن مولاه وعائشة وأبي هريرة، =

ص: 414

عَنْهُمْ - وَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ؛ ..............................................................

ونفاه الأكثرون"؛ وزعيمهم إمامنا الشافعيُّ رضي الله عنه

(1)

.

قال أبو نصر بن القُشَيريّ

(2)

: وليس هذا الخلافُ في الأسماء الشرعية، بل هو في آخَرَ.

= وأبي قتادة ومعاوية وخلق، وعنه الشعبي وإبراهيم النخعي وأبو الشعثاء - من أقرانه - وعمرو بن دينار وقتادة وأيوب وخلق. قال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة، رموه بغير نوع من البدعة، قال العجلي: ثقة بريء مما يرميه الناس به، ووثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي، ومن القدماء أيوب السختياني، قال مصعب: مات سنة خمس ومائة، قرنه مسلم بآخر. ينظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 7/ 263 (475)، وتقريب التهذيب 2/ 30، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 240، والكاشف 2/ 276، وتاريخ البخاري الكبير 7/ 49، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 119، 243، 257، 258 والجرح والتعديل 7/ 41، وميزان الاعتدال 3/ 93، ولسان الميزان 7/ 308، وتاريخ الثقات 339، والمغني 4169، والحلية 3/ 326، والثقات 5/ 229 - 230، وطبقات الحفاظ 37، وتراجم الأحبار 3/ 3 والبداية والنهاية 9/ 244.

(1)

وجه تعلق هذه المسألة بالمسائل المتقدمة اشتراك المعرب والمجاز في أنهما ليسا من الموضوعات الحقيقية للغة العرب، لا في أن القرآن هل هو مشتمل عليهما. ينظر: الشيرازي 70 ب/ خ.

(2)

في ت: أبو نصر القشيري. في الأصل: الأبيات هكذا، والمثبت من الإتقان نقلًا عن السُّيوطي:

السَّلْسَبِيلُ وَطهَ كُوِّرَتْ بِيَعٌ

إِسْتَبْرَقٌ صَلَوَاتٌ سُنْدُسٌ طُورُ

وَالزَّنْجَبِيلُ وَمِشْكَاةٌ سُرَادِقُهُ

رُومٌ وَطُوبَى وَسِجِّيلٌ وَكَافُورُ

كَذَا قَرَاطِيسُ رَبَّانِيُّهُمْ وَغَسَّا

قٌ ثُمَّ دِينَارٌ والقِسْطَاسُ مَشْهُورُ

كَذاكَ قَسْوَرَةٌ وَاليَمُّ نَاشِئَةٌ

وَيُؤْتَ كِفْلَيْنِ مَذْكُورٌ وَمَنْظُورُ

لَهُ مَقَالِيدُ فِرْدَوْسٌ فعُدَّ كَذَا

مَا حَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ مِنْهُ تَنُّورُ

وزاد عليها الحافظ ابن حجر؛ فقال:

وَزِدتُ حِرْمٌ ومُهْلٌ والسِّجِلُّ كذا

السْنسَرِيُّ والأَبُّ ثُمَّ الجِبْتُ مذكورُ

وقِطَّنَا وإنَاهُ ثُمَّ مُتَّكَأً

دَارَست يصْهَرُ منه فهو مَصْهُورُ

وهيت والسَّكرُ الأوَّاهُ مع حَصَبٍ

وأوِّبِي مَعْهُ والطَّاغُوتُ مَسْطُورُ

صرْهنَّ إِصْرِي وغِيضَ المَاءُ معْ وَزَرٍ

ثمَّ الرَّقيمُ مَناصٌ والسَّنَا النُّسورُ

وذيل عليه السيوطي أيضًا:

وزدتُّ يس والرَّحْمنَ مع مَلَكُو

تٍ ثُمَّ سينينَ شَطْرُ البيتِ مَشْهُورُ

ثُمَّ الصِّراطُ ودُرِّيِّ يحورُ ومَرْ

جَانٌ ويَمٌّ مع القِنْطَارِ مَذْكُورُ

وَرَاعِنَا طَفِقَا هُدْنَا ابلَعِي وَوَرَا

ءٌ والأرائكُ والأَكْوَابُ مأْثورُ =

ص: 415

لنَا: (الْمِشْكَاةُ) هِنْدِيَّةٌ، وَ (إِسْتَبْرَقٌ)، و (سِجِّيلٌ) فَارِسِيَّةٌ، و (قِسْطَاسٌ) رُومِيَّةٌ.

قَوْلُهُمْ: (مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ اللُّغَتَانِ؛ كَالْصَّابُونِ وَالتَّنُّورِ) - بَعِيدٌ، ..........................

قلت: ذاك اختلافٌ في الوَضْعِ، وهذا في الاستعمال، وليس هذا أيضًا المجازَ، بلا عكْسَه؛ إذ المعرَّب فيه استعمال المَعْنَى بغير اللفظ الموضوعِ له في تلك اللّغة، والمجازُ اللفظ لغير المعنَى، واعلم أن الأعلام لا خلافَ في وقوعها.

قال: "لنا: (المِشْكَاةُ) هندية، و (إسْتَبْرق)، و (سِجِّيل) فَارسية، و (قِسْطَاس) رومية"، وألفاظٌ أخر وردتْ في القرآن؛ جملتها سبع وعشرون لفظًا، يجمعها قولنا:[البسيط]

السَّلْسَبِيلُ وَطهَ كُوِّرَتْ بِيَعٌ

رُومٌ وَطُوبَى وَسِجِّيلٌ وَكَافُورُ

وَالزَّنْجَبِيلُ وَمِشْكَاةٌ سُرَادِقُ مَعَ

إِسْتَبْرَقٌ صَلَوَاتٌ سُنْدُسٌ طُورُ

كَذَا قَرَاطِيسُ رَبَّانِيُّهُمْ وَغَسَّا

قٌ ثُمَّ دِينَارٌ والقِسْطَاسُ مَشْهُورُ

كَذاكَ قَسْوَرَةٌ وَاليَمُّ نَاشِئَةٌ

وَيُؤْتَ كِفْلَيْنِ مَذْكُورٌ وَمَنْظُورُ

لَهُ مَقَالِيدُ فِرْدَوْسٌ يُعُدَّ كَذَا

فِيمَا حَكَى ابْنُ دُرَيْدٍ مِنْهُ تَنُّورُ

(1)

الشرح: "قولهم": هذه الألفاظ، فين كانت في غير لُغَةِ العرب، لا ينافي كونَها من لغة العرب؛ لجواز أن يكون "مما اتفق فيه اللُّغتانِ؛ كالصَّابونِ"؛ وكذا "التَّنُّور" عند غير ابْنِ دُرَيْدٍ - قال المصنِّف: إنه "بعيدٌ"، وهي دعوَى منه.

وهذا الشَّافعيُّ الذي تفقَّأتْ عنه بَيْضَةُ بني مُضَرَ، قد اقتضى كلامه ذلك، وكفى به حجَّةً، ولقد أطنب في كتاب (الرسالة) في التَّغليظ على مَنْ يقول بالمعرَّب

(2)

.

= هُودٌ وَقِسْطٌ وكَفرّ رَمْزُه سَقَرٌ

هَوْنٌ يصِدُّونَ والمِنْسَاةُ مسطورُ

شهر مجوس وإقفال يَهُود حَوَا

رِيُّونَ كَنْزٌ وسِجِّينٌ وَتتْبِيرُ

بَعِيرٌ ازَرُ حُوبٌ وَرْدَةٌ عَرِمٌ

إلٌّ ومِنْ تَحْتِهَا عَبَّدتَّ والصُّورُ

وَلِينَةٌ فُومُهَا رَهْوٌ وَأَخْلَدَ منْـ

جاةٌ وسيِّدَهَا القَيُّومُ مَوقورُ

وَقُمَّلٌ ثم أسْفار عَنَى كُتُبًا

وسُجَّدًا ثم رِبيُّون تَكْثِيرُ

وحِطَّةٌ وطُوًى والرَّسِّ نُونُ كَذَا

عَدْنٌ ومنفطِرُ الأسْباط مَذْكُورُ

مِسْكٌ أبارِيقُ يَاقُوتٌ رَوَوْا فَهُنَا

مَا فَاتَ مِنْ عَدَدِ الألفاظِ مَحْصُورُ

وبعضهم عدَّ الأولى مَعْ بطائنِها

والآخِرَهْ لِمَعَانِي الضِّدِّ مَقْصُورُ

(1)

ينظر: الإتقان 2/ 119 - 120.

(2)

ينظر: الرسالة 131 - 178.

ص: 416

وَإجْمَاعُ الْعَرَبِيَّةِ؛ عَلَى أَن نَحْوَ: (إِبْرَاهِيمَ) مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ - يُوَضِّحُه، الْمُخَالِفُ: بِمَا ذُكِرَ فِي الشَّرعِيَّةِ؛ وَبِقَوْلِهِ: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [سورة فصلت: الآية، 44]؛ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ مُتَنَوِّعًا؛ وَأجِيبَ بأَنَّ الْمَعْنِيَّ مِنَ السِّيَاقِ: أَكَلَامٌ أَعْجَمِيٌّ، وَمُخَاطَبٌ عَرَبِيٌّ، لَا يَفْهَمُهُ؟؛ وَهُمْ يَفْهَمُونَهَا، وَلَوْ سُلِّمَ نَفْيُ التَّنْوِيعِ، فالْمَعْنَى: أَعْجَمِيٌّ لَا يفْهَمُهُ.

"وإجماع"[أهل]"العربية؛ على أن نحو: (إبراهيم) مُنِعَ من الصرف لِلْعُجْمَةِ، والتعريف - يوضِّحه"؛ أي: يوضح وقوعَ المعرَّب، [وهو] وهم؛ فإن الأعلام لا خلاف فيها؛ كما عرفت.

واحتج "المُخَالف؛ بما ذكره في الشرعية"؛ من أنها لو وقعتْ في القرآن، لاشتمل على غير العربي - وقد مَرَّ -؛ وبأنه لو وقع، لانقسم

(1)

القرآن إلى أعجمي وعربي، "و" الله قد صانه عن ذلك؛ "بقوله:{أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [سورة فصلت: الآية، 4]؛ أي: أكلامٌ بعضه أعجميٌّ، وبعضُه عربيٌّ؟ "فنفى

(2)

أن يكون متنوِّعًا"

(3)

.

"وأجيب بأن المعنى من السِّياقِ" الواقعِ في الآية هكذا: "أكلامٌ أعجميٌّ، ومخاطبٌ عربيٌّ لا يفهمه؟، وهُمْ" كانوا "يفهمونها".

والحاصل: أن المصنِّف منع نفي التَّنويعِ

(4)

ثم قال: "ولو سلِّم نفي التنويع"

(5)

؛ فليس المراد نفي كلّ تنويع، بل التنويع الواقع بين أعجميٍّ غيرِ مفهومٍ وعربيٍّ، "فالمعنى: أعجميٌّ لا يفهمه".

واعلم أن ابن قتيبة

(6)

وابن جِنِّي

(7)

قالا: الأعجميُّ مَنْ لا يُفصِحُ بالكلام، عَجَميًّا كان، أو

(1)

في ت: لا يسلم.

(2)

في أ، ح: فبقى.

(3)

في أ، ح: متبوعًا.

(4)

في أ، ت، ح: التسويغ.

(5)

في أ، ت، خ: التسويغ.

(6)

عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد، من أئمة الأدب، ولد بـ "بغداد" في سنة 213 هـ من كتبه:"تأويل مختلف الحديث"، و"أدب الكاتب"، و"المعارف"، و"عيون الأخبار"، و"الاشتقاق"، و"مشكل القرآن"، و"العرب وعلومها"، و"تفسير غريب القرآن"، وغير ذلك كثير. توفي سنة 276 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 1/ 51 والأنباري 272، ولسان الميزان 3/ 357، وآداب اللغة 2/ 170، ومجلة المجمع 26/ 238، ودائرة المعارف الإسلامية 1/ 206، ومجلة الكتاب 5/ 805، والأعلام 4/ 137.

(7)

عثمان بن جني الموصلي، أبو الفتح، من أئمة الأدب والنحو، وله شعر. ولد بـ "الموصل" وتوفي بـ "بغداد" عن نحو 65 عامًا، وكان أبوه مملوكًا روميًا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي. من =

ص: 417

‌الْمُشْتَقُّ

مَسْأَلَةٌ:

الْمُشْتَقُّ مَا وَافَقَ أَصْلًا بِحُرُوفِهِ الْأُصُولِ وَمَعْنَاه، وَقَدْ يُزَادُ بِتَغْيِيرٍ ......................

عربيًّا، ولفظه لفظ النسب، فأعجَمُ وأعجمي، كأحْمَرَ وأحمريٍّ، والعجميُّ منسوبٌ إلى لغة العَجَمِ، سواء كان فصيحًا أم لم يكن.

وقال أبو زيد، وأبو عليٍّ الفارسيُّ: الأعجميُّ العَجَمِيّ، ولهذا قوبل بالعربيِّ، ويشهد له قراءة من قرأ:(ءَاعْجَمِيٌّ).

وإذا عرفت هذا، علمتَ أنه لا وجه للاستدلال بالآية ألبتة على الأول، ولا على الثاني أيضًا؛ لأن المراد بالعجميِّ هنا: الأعجميُّ؛ بدليل صدر الآية؛ قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [سورة فصلت: الآية، 44].

"مسألة"

الشرح: "المشتق

(1)

: ما وافق أصلًا بحروفه الأصول ومعناه"

(2)

؛ فما لم يوافق أصلًا، أو وافق معنى فقط؛ كالمَنْع الموافق للجنس، أو في حروفه الأصول، لكن لا بمعناه؛ كالضَّربِ

= تصانيفه: رسالة في "من نسب إلى أُمّه من الشعراء"، و"شرح ديوان المتنبي"، و"الخصائص"، في اللغة. وكان المتنبي يقول: ابن جني أعرف بشعري مني. توفي سنة 392 هـ. ينظر: آداب اللغة 2/ 30 وشذرات الذهب 3/ 140، والأعلام 4/ 20 ومفتاح السعادة 1/ 114.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 2/ 71، وسلاسل الذهب له ص 171، والتمهيد للإسنوي ص 153، ونهاية السول له 2/ 67، وزوائد الأصول له ص 13 ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 263، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 44، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 204، وحاشية البناني 1/ 280، والإبهاج لابن السبكي 1/ 222، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 78 وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 368، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 8/ 588 وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 67، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/ 171، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 17، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 107، والكوكب المنير للفتوحي ص 64، والعضد 1/ 174 والمحصول 1/ 1/ 325 والمنتهى لابن الحاجب (17)، والخصائص لابن جني 2/ 133، والمزهر للسيوطي 1/ 346، وأسرار العربية (173).

(2)

في حاشية ج: هذه أولى المسائل المتعلقة بالمشتق، وهي في بيان حده، وهو على ما قاله: ما وافق أصلًا بحروفه الأصول، ومعناه: أن المشتق لفظ وافق اسمًا من أسماء المعاني أي الأحداث

ص: 418

ما، وَقَدْ يَطَّرِدُ؛ كَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يَخْتَصُّ؛ كَالْقَارُورَةِ وَالدَّبَرَانِ.

‌مَسْأَلَةٌ:

اشْتِرَاطُ بَقَاءِ الْمَعْنَى فِي كَوْنِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً

؛ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ ......................

للإيلام الخاصِّ الموافقِ للضرْبِ بمعنى الذَّهاب في الأرض - فليست بمشتقَّات.

وقد يمنع مانع من بقاء الحروف الأصولِ؛ كـ (خَفْ) من الخَوْفِ؛ فإن التقاء السَّاكنين أوجَبَ حذف حرفٍ، وإن كان موجودًا في الأصل.

"وقد يزاد" في الحَدِّ قولٌ: "بتغيير مَّا"؛ ليعلم أنه لا بُدَّ من تغييرٍ، وأن التغيير الاعتباريَّ كافٍ كذلك؛ مفردًا بزنة قُفْل، وجَمْعًا بزنة أُسْد.

والتغيير: إما بزيادة، أو نقصان، أو بهما

(1)

؛ إما في الحرف، أو الحركة، أو فيهما.

"وقد يطَّرد" الاشتقاق؛ "كاسم الفاعل، وغيره"؛ كاسْمِ المفعول، والصّفة المشبّهة المشتقَّةِ من الفعل.

"وقد يختصُّ" ببعض الأسماء؛ "كالقَارُورَةِ، والدَّبَرَانِ"

(2)

المأخوذَيْنِ من الاستقرارِ والدَّبُورِ، مع اختصاص (القَارُورَةِ) بالزُّجَاجة، (والدُّبَرَانِ) بعين الثور.

"مسألة"

الشرح: "اشتراطُ بقاء المعنى" المشتق منه "في كون المشتقِّ حقيقةً" فيه مذاهب

(3)

:

أحدها: الاشتراط؛ وهو رأي الجمهور؛ قال الإمام الرَّازيُّ: وهو الأقرب

(4)

.

وثانيها: عدمه؛ وهو قول أبي عليٍّ، وابنه، وابن سينا.

و"ثالثها: إن كان" البقاءُ "ممكنًا، اشتُرِط" وإلَّا فلا.

وهذا ذكره الإمام الرازيُّ بحثًا، وذكر أنه لم يقل به - أحد من الأُمة، والخلاف إنما هو في صِدْقِ الاسْمِ، أي: أنه هل يقال للضارب أمس: ضاربٌ الآن؛ حقيقةً، لا في أن حقيقة الضرب

(1)

في أ، ج، ح: هما.

(2)

الدبران في علم الفلك خمسة كواكب من النور يقال: إنها سنامة، وهو من منازل القمر. وقيل: هو نجم بين الثريا والجوزاء. ينظر: المعجم الوسيط 1/ 279.

(3)

ينظر: الإبهاج 1/ 227، والمحصول 1/ 1 / 327، ونهاية السول 2/ 7 وشرح التنقيح (47)، وإرشاد الفحول ص (17)، وحاشية البناني 1/ 283 وفواتح الرحموت 1/ 192.

(4)

ينظر: المحصول 1/ 1/ 327.

ص: 419

مُمْكِنًا، اشْتُرِطَ؛ الْمُشْتَرِطُ: لَوْ كَانَ حَقِيقَةً، وَقَدِ انْقَضَى، لَمْ يَصِحَّ نَفْيُهُ؛ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ الْأَخَصُّ؛ فَلَا يَسْتَلْزِمُ نَفْي الْأَعَمِّ؛ قَالُوا: لَوْ صَحَّ بَعْدَه، لَصَحَّ قَبْلَهُ؛ أُجِيبَ إِذَا كَانَ

الآن موجودةٌ منه، فذلك لا يقوله عاقلٌ.

قال أبي رحمه الله: وليس هو أيضًا في الصِّفاتِ القارَّة المحسوسة؛ كالسَّوَاد، والبياض؛ فإنا على قطع بأن اللغويَّ لا يُطْلِقُ على الأبيض بعد اسْوِدَادِهِ؛ أنه أبيض.

وقد ادَّعى الآمديُّ الإجماع؛ على أنه لا تجوز

(1)

تسميةُ النَّائم قاعدًا، والقاعد نائمًا

(2)

؛ وهذا واضح في اللّغة، وإنما الخلاف في الضرب ونحوه من الأفعال المنقضية؛ فإطلاق المشتق على محلّها من باب الأحكام؛ فلا يبعد إطلاقه حالَ خُلُوِّه عن مفهومه؛ لأنَّهُ أمر حكميٌّ.

ومن هنا؛ يتبين وجه انفصال الماضي عن المُسْتقبل؛ حيث كان إطلاقه باعتبار الماضي أولى؛ لأن من حصل منه الضربُ ماضيًا، قد يستصحبُ حبهمه؛ بخلاف مَنْ لم يحصل منه؛ إذ لم يثبت له حكم، فيُسْتَصْحبَ.

احتج "المشترِطُ"؛ بأنه "لو كان" صدق الضَّارب مثلًا على مَنْ صدر منه الضَّرْبُ؛ "حقيقةً، وقد انقضَى - لم يصحَّ نفيه"؛ لكنه

(3)

يصح نفيه في الحال؛ فإنا نعلم ضرورة؛ أنَّ من انقضى عنه الضرب ليس بضارب الآن، وإذا

(4)

صَحَّ نفيه في الحال، صَحَّ مطلقًا؛ إذ صِدْقُ الخاصِّ مستلزم لصدق العامِّ.

"وأجيب: بأن المنفيَّ" هو "الأخصُّ"؛ أي: الضربُ

(5)

في الحال؛ "فلا يستلزم نفي الأعمِّ"؛ وهو مطلق الضرب؛ فإذن: إن أريد بصحة النفي مطلقًا صِدْق: ليس بضارب في كل وقتٍ - ففاسدٌ، أو صدقَ نفْيِ ضربٍ ما، فحقٌّ؛ ولكن لا يلزم منه النَّفي في الماضي.

"قالوا: لو صحَّ" أن يقال لمن ضَرَبَ "بعده؛ أي: بعد انقضاء الضَّرْب: إنه ضارب - "لصحَّ قبله؛ أي: قبل وجود الضرب؛ [بجامع وجود الضَّرْب]

(6)

في غير الحال، واللازم باطل؛ بالاتِّفَاق.

(1)

في أ، ج، ح: يجوز.

(2)

ينظر: الإحكام 1/ 53.

(3)

في أ، ب: إذ.

(4)

في ب: وإنما.

(5)

في ت: الضرر.

(6)

سقط في ت، ج.

ص: 420

الضَّارِبُ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الضَّرْب، لَمْ يَلْزَم.

النَّافِي: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ: (ضَارِبٌ أَمْسِ)؛ وَأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ؛ أُجِيبَ: مَجَازٌ؛ كَمَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ بِاتِّفَاقٍ، قَالُوا: صَحَّ: (مُؤْمِنٌ وَعَالِمٌ)؛ لِلنَّائِم؛ أُجِيبَ: مَجَازٌ لامْتِنَاعِ (كَافِرٌ) لِكُفْرٍ تَقَدَّمَ.

"أجيب" بالفَرْقِ

(1)

بأنه "إذا كان الضَّارب من ثَبَتَ له الضربُ"، [وهو كذلك - "لم يلزم" من صحة إطلاقه باعتبار الماضي - إطلاقُهُ باعتبار المستقبل؛ وللخصم منع أن الضاربَ لغةً مَنْ ثبت له الضَّرب]

(2)

، وادعاءُ أنه مَنْ له الضرب، وهو أعمُّ من المستقبل.

الشرح: واحتج "النَّافِي" للاشتراط؛ بأنه قد "أجمع أهل العربية على صِحَّة: ضاربٌ أمس؛ فإنه اسم فاعل"، مع انقضاء الضرب.

"أجيب" بأنه "مجازٌ، كما في المستقبل؛ [باتفاف] "، وليس من لازم الصحَّة أن يكون حقيقةً.

"قالوا: صح

(3)

عالم، ومؤمن؛ للنائم"، وليس العلم والإيمان حاصلَيْن حالة النوم.

"أجيب: مجاز؛ لامتناع" إطلاق "كافر" على مسلم الآن؛ "لكفر تقدَّم" منه.

لا يقال: الشرع مَنَعَ من هذا الإطلاق؛ فلا دليلَ من الشَّرْع عليه، ثم كلامنا في أمر لغويٍّ،

(1)

الفرق لغةً: قال الجوهري: فرقت بين الشيئين أفرق فرقًا وفرقانًا، وفرقت الشيء تفريقًا وتفرقة فانفرق، وافترق وتفرق، وأخذت حقي منه بالتفاريق.

قال القرافي: سمعت بعض مشايخي الفضلاء يقول: فرقت العرب بين فرق بالتخفيف وفرَّق بالتشديد: الأول في المعاني، والثاني في الأجسام، ووجه المناسبة فيه أن كثرة الحروف عند العرب تقتضي كثرة المعاني أو زيادته أو قوته، والمعاني لطيفة، والأجسام كثيفة فناسبها التشديد، وناسب المعاني التخفيف، مع أنه قد وقع في كتاب الله تعالى خلاف ذلك، قال الله تعالى:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} فخفف في البحر، وهو جسم، وقال تعالى:{فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} وجاء على هذه القاعدة قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} وقوله تعالى. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} .

وقال: لا تكاد تسمع من الفقهاء إلا قولهم: ما الفارق بين المسألتين؛ ولا يقولون: ما المفرق بينهما بالتشديد؛ وتقتضي هذه القاعدة أن يقول السائل: أفرق لي بين المسألتين، ولا يقول: فرق لي، ولا بأي شيء تفرق؟ مع أن كثيرًا يقولونه في الأفعال دون اسم الفاعل.

(2)

سقط في ت.

(3)

في ب: لو صح.

ص: 421

"قَالُوا: يَتَعَذَّرُ فِي مِثْلِ: مُتَكَلِّمٍ، وَمُخْبِرٍ؛ أُجِيبَ: بِأَن اللُّغَةَ لَمْ تُبْنَ عَلَى الْمُشَاحَّةِ فِي مِثْلِهِ؛ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الْحَالِ؛ وَأَيْضًا: فَإنَّهُ يَجبُ أَلَّا يَكُونَ كَذلِكَ".

‌الاشْتِقَاقُ مِنِ اسْمِ الْفَاعِلِ

مَسْأَلَةٌ:

"لَا يُشْتَقُّ اسْمُ الْفَاعِلِ لِشَيْءَ، وَالْفِعْلُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ؛ خِلَافًا .............................

= ولقائل أن يقول: الإيمان الطارئُ يُضادُّ الكُفْرَ؛ فلذلك امتنع إطلاق كافر على المؤمن، وكان كإطلاقِ أسودَ على الأبيضِ؛ باعتبار سوادٍ تقدَّم، وليس محلَّ الخلاف.

الشرح: "قالوا: يتعذّر" بقاء المعنى المشتقِّ منه في المشتقِّ، في مثل: متكلِّم، ومخبِرٍ"، وسائرِ ما لا يوجد من الأفعال في زمانٍ مع إطلاق متكلِّم ومخبرٍ بالحقيقة عليه، فلو كان بقاء المعنَى شرطًا، لم يكن الأمر كذلك.

"أجيب: بأن اللغة لم تُبْن على المشاحَّة في مثله"؛ فإن أمكن وجود الفعل بتمامه، اشتُرِط، وإلا اكتُفِيَ بآخرِ جزءٍ؛ "بدليل صحة الحال"، ولو وقعت [مُشَاحَّةٌ]

(1)

، لم يتحقق الحال، وكان يتمُّ قول أبي حَفْص الأشعريِّ: لا معنى للحال، إنما هو للماضي والمستقبل.

سلمنا تعذُّر ذلك في مثل متكلِّم ومخبرٍ؛ لكن لا يلزم من عدم اشتراط البقاء فيما تعذَّر

(2)

- عدمُ الاشتراطِ مطلقًا، وإليه أشار بقوله:"وأيضًا: فإنه يجب ألَّا يكون كذلك"؛ أي: لا يكون المشتقُّ الذي فيه الكلامُ ممَّا لا يمكن بقاؤه حتَّى يشُترَطَ فيه البقاء.

ولك أن تقول: هذا رجوعٌ إلى القول الفَصْل

(3)

بِتَخْصِيص الدعوَى.

"فرعان"

في وقوع طلاق القاضي المعزولِ، إذا قال: امرأة القاضي طالقٌّ - وجهان، حلف لا يدخل مسكن فلانٍ، فدخل مِلْكًا له لم يكن ساكنه، فأوجه:

ثالثها: إن كان سَكَنَهُ في الماضي ساعةً ما، حَنِث، وإلَّا فلا، وفي (شرح المنهاج) فروعٌ أخر.

"مسألة"

الشرح: "لا يشتق اسم الفاعل لشيء، والفعلُ"؛ وهو: ما منه الاشتقاق - "قائم بغيره.

(1)

سقط في ب.

(2)

في أ، ج، ح، تقدم.

(3)

في ت، ج: المفصل.

ص: 422

لِلْمُعْتَزِلَةِ، لنَا: الاسْتِقْرَاءُ".

قَالُوا: ثَبَتَ قَاتِلٌ وَضَارِبٌ، وَالْقَتْلُ لِلْمَفْعُولِ؛ قُلْنَا: الْقَتْل التَّأثِير، وَهُوَ لِلْفَاعِلِ.

"قَالُوا: أُطْلِقَ الْخَالِقُ عَلَى اللهِ؛ بِاعْتِبَارِ الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ الْأَثَر، لأِن الْخَلْقَ الْمَخْلُوق، وَإِلَّا، لَزِمَ قِدَمُ الْعَالَمِ، أَوِ التَّسَلْسُل، أُجِيبَ: أَوَّلًا؛ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ؛ .......

خلافًا للمعتزلة"؛ حيث قالوا: الباري - تعالى - متكلِّم يخلقه، [أي: الكلام] في جسم

(1)

.

"لنا: الاستقراء"

(2)

.

الشرح: "قالوا: "قد" ثبت قاتل وضارب" للفاعل، "والقتل" والضرب إنما هما "للمفعول.

قلنا": ليس "القتل" التأثُّرَ الحاصلَ في ذات المفعول، بل [التأثيرَ]

(3)

؛ "وهو "حاصل "للفاعل".

الشرح: "قالوا: أُطْلِقَ الخالقُ على الله - تعالى -؛ باعتبار المخلوق، وهو الأثر"، وليس المخلوق صفةً قائمةً بذاته - تعالى -؛ "لأن الخلق" هو "المخلوق"؛ ومنه قوله تعالى:{هذَا خَلْقُ اللهِ} [سورة لقمان: الآية، 11]؛ أي: مخلوقه، "وإلا لزم

(4)

قِدَمُ العالَمِ"، إن كان الخلق قديمًا، "أو التسلسلُ"، إن كان حادثًا.

و"أجيب: أولًا؛ بأنه" غير محل النزاع؛ إذ محلّ النزاع فعلٌ قائمٌ بالغير، وما ذكرتموه من الخالقيّة "ليس بفعل قائم بغيره"، بل هو ذات الغير.

(1)

ينظر: الإبهاج 1/ 235، والعضد 1/ 181، وشرح التنقيح ص (48)، والمحصول 1/ 1/ 31 والعقيدة النظامية لإمام الحرمين ص (24)، والإنصاف للقاضي أبي بكر الباقلاني ص (70)، وغاية المرام للآمدي ص (88)، وفواتح الرحموت 1/ 192، ونشر البنود 1/ 116.

(2)

استدل المصنّف على مذهب الأصحاب بالاستقراء؛ إذ استقراء لغة العرب رَدَّ لنا على أن اسم الفاعل لا يطلق على شيء إلا ولكون الفعل - يعني الفعل المشتق - منه قائمًا به. ينظر: الشيرازي 73 ب/ خ.

(3)

في ت: التأثر وهو خطأ.

(4)

في حاشية ج: قوله: "وإلا لزم" أي: إن لم يكن الخلق هو المخلوق، بل كان التأثير لزمان قدم، لزم قدم العالم؛ إذ لا يتصور تأثير ولا أثر، وإن حدث احتاج إلى آخر ويتسلسل.

ص: 423

وَثَانِيًا: أَنَّهُ لِلتَّعَلُّقِ الْحَاصِلِ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْقُدْرَةِ حَالَ الإِيجَادِ، فَلَمَّا نُسِبَ إِلَى الْبَارِي، صَحَّ الاشْتِقَاقُ؛ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

‌دِلالةُ الْمُشْتَقِّ إِذا أُطْلِقَ

مَسْأَلَةٌ:

الْأَسْوَدُ وَنَحْوُهُ مِنَ الْمُشْتَق يَدُلُ عَلَى ذَاتِ مُتَّصِفَةٍ بِسَوَادِ، لَا عَلَى ...........

"وثانيا: أَنَّهُ"، أي: الخلقَ - إنما يقال "للتعلُّق الحاصل"؛ أي الواقع "بين المخلوق والقدرة؛ حال الإيجاد، فلما نُسِب" هذا التعلّق "إلى الباري" تعالى "صحَّ الاشتقاق".

والحاصل: أنَّ للقدرة تعلُّقًا حادثًا به الحدوثُ ضرورةً، وهذا التعلُّق، إذا نسب إلى العالَم، فهو صدوره عن الخالق، أو القدرةِ، فهو إيجادها له، أو ذي القدرةِ، فهو خلقه؛ فالخلقُ تعفق قدرة الذات، وهذه النسبة قائمةٌ بالخالق، وباعتبارها اشتق له؛ فيصح ما ذكرنا من الدَّليل على وجوب القيام؛ لأنا لا نعني بها كونها صفة حقيقية، بل سائرُ الإضافاتِ قائمةٌ بمحالِّها، والحملُ على هذا واجبٌ؛ "جمعًا بين الأدلَّة"، وهي الاستقراء من جهتنا، وأن الخَلْقَ ليس الصفة الموجودة من جهتكم.

"فرع"

لو حلف؛ لا يبيع، أو لا يحلق رأسه، فأمر غيره، فالأصحُّ أنه لا يحنث؛ إذ ليس ببائعٍ، ولا حالقٍ.

وقيل: يحنث.

وقيل: في الحلَّاق فقط، للعادة.

"مسألة"

الشرح: إذا أطلق "الأسود ونحوه من المشتق"، فإنما "يدل" بالحقيقة "على ذات متَّصفةٍ" بذلك الشيء

(1)

، ففي الأسود مثلًا: على ذات متّصفة "بسواد"، و"لا" يدلّ "على خصوص" لتلك

(1)

إنما يدل المشتق علي أمر متصف بالمشتق منه لا على حقيقة ما اتصف به من كونه جسمًا وغيره

كالأسود مثلًا، فإنه يدل على ذات متصفة بسواد، لا على خصوصية تلك الذات من جسمية وغيرها.

ومما يدل على أنه لا يدل على الجسمية صحة قولنا: الأسود جسم؛ إذ لو كان دالًا عليه لكان الأسود جسمًا منزلًا منزلة قولنا: الجسم ذو السواد جسم، وهو تكرار خال عن الفائدة. =

ص: 424

خُصُوصٍ مِنْ جِسْمِ وَغَيْرِهِ؛ بِدَلِيلِ صِحَّةِ: (الْأَسْوَدُ جِسْمٌ).

‌ثُبُوتُ اللُّغةِ

مَسْألَةٌ

لَا تَثْبُتُ اللُّغَةُ قِيَاسًا؛ .........................................................

الذات؛ "من جسم أو غيره؛ بدليل صحة: الأسودُ جسمٌ" فلو دلَّ على خصوصه، [كان]

(1)

بِمَثَابَةِ قولنا: الجسمُ الأسودُ جسمٌ، وليس كذلك؛ إذ في الأول فائدةٌ دون الثاني.

"مسألة"

الشرح: "لا تثبت اللُّغَةُ قياسًا، عند إمام الحرمَيْن، والغَزَالِيّ، وابن القُشَيْري، والآمدي، وطائفةٍ من أصحابنا، ومن الحنفية، وابن خويز مِنْداد

(2)

من المالكية

(3)

.

= ولا يلزم منه عدم صحة: الإنسان حيوان بأن يقال: هو بمنزلة قولنا: الحيوان الناطق حيوان؛ فإنه يلزم ذلك لو كان مدلول الإنسان لغة الحيوان الناطق، وهو ممنوع، ولا تعارض بأنه لو دلّ على الذات لما صح أن يقال: الأسود ذات، لكنه يصح؛ لأنا لا نسلم صحته بهذا على خلاف المشهور، وأن قوله:"ونحوه من المشتقات يدل على ذات متصفة بسواد" ليس على ما ينبغي؛ لأن الأحمر لا يدل على ذات متصفة بسواد، لكن المراد ظاهر. ينظر الشيرازي 74 أ/ خ.

(1)

سقط في ت.

(2)

محمد أبو بكر بن خويز منداد. كنيته أبو عبد الله، تفقه على الأبهري، وله كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وكتاب في أحكام القرآن. وكان يجانب الكلام، وينافر أهله، حتَّى يؤدي ذلك إلى منافرة المتكلمين من أهل السنة، ويحكم على الكل منهم بأنهم من أهل الأهواء كما قال مالك. ينظر: الديباج 2/ 229، وشجرة النور 1/ 103.

(3)

ينظر العضد 1/ 183، والمحصول 2/ 2/ 57 والمنخول ص (72)، والمستصفى 1/ 323، والتبصرة ص (444)، واللمع ص (6)، والإحكام للآمدي 1/ 5 وفواتح الرحموت 1/ 185، وشرح الكوكب المنير 1/ 22 والمسودة ص (173)، وإرشاد الفحول ص (116)، وجمع الجوامع 1/ 271، وأصول السرخسى 2/ 56، وتيسير التحرير 1/ 56، والمختصر لابن اللحام ص (50)، وكشف الأسرار 3/ 229، وميزان الأصول 1/ 545، وروضة الناظر ص (88)، والمعتمد 1/ 36، والبرهان 1/ 172 (82)، والخصائص لابن جني 1/ 99، المزهر للسيوطي 1/ 36.

ص: 425

خِلَافًا لِلْقَاضِي، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي نَحْوِ:(رَجُلٍ)، وَرَفْعِ الْفَاعِلِ، أَيْ: لا لَا يُسَمَّى مَسْكُوتٌ عَنْهُ إِلْحاقًا بِتَسْمِيَةٍ لِمُعَيَّنٍ، لِمَعْنًى يَسْتَلْزِمُهُ وُجُودًا وَعَدَمًا؛ كَالْخَمْرِ

"خلافًا للقاضي، وابن سريج"

(1)

، وابن أبي هريرة

(2)

، وأبي إسحاق الشِّيرَازي، والإمام، وكثيرٍ من أصحابنا، وابن القصَّار

(3)

، وابن التَّمَّار من المالكية، وأهل العربية؛ كالفارسي، وابن جِنِّي، والمَازِرِيِّ.

وفي النَّقل عن القاضي نظر؛ نقل عنه المَازِرِيُّ وغيره: المنع، وهو الصَّحيح عنه، وبه صرح في كتاب (التقريب).

"وليس الخلاف في "ما ثبت تعميمه بالنقل؛ "نحو: رجل"، أو بالاستقراء؛ كنصب المفعول، "ورفع الفَاعل"؛ إنما الخلاف في أن اسم الجنس، إذا كان معناه مقارِنًا لمعنى يستلزمه، صالحًا للغلبة؛ كاسم الخَمْرِ.

والمصنِّف من القائين بأنه لا يثبت، "أي: لا يسمَّى مسكوت عنه [إلحاقًا]

(4)

بتسميةٍ لمعيَّن؛ لمعنًى يستلزمه"؛ أي: يستلزم ذلك المعنى "وجودًا وعدمًا؛ كالخَمْرِ للنبيذ؛ للتخمير،

(1)

أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، حامل لواء الشافعية في زمانه، تفقه بأبي القاسم الأنماطي وغيره، وأخذ عنه الفقه خلق من الأئمة. قال العبادي: شيخ الأصحاب، وسالك سبيل الإنصاف، وصاحب الأصول والفروع الحسان، وناقض قوانين المعترضين على الشافعي، مات سنة 306 هـ.

ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 89، ووفيات الأعيان 1/ 49، طبقات العبادي ص 62، والأعلام 1/ 17 وشذرات الذهب 2/ 247، والنجوم الزاهرة 3/ 19 والمنتظم 6/ 149.

(2)

أبو علي الحسن بن الحسين، ابن أبي هريرة البغدادي، أحد أئمة الشافعية، تفقه على ابن سريج وأبي إسحاق المروزي، ودرس بـ "بغداد"، وروى عنه الدارقطني وغيره، وتخرج من جماعة، وكان معظمًا عند السلاطين، صنف التعليق الكبير على مختصر المزني مات سنة 345. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 126، وتاريخ بغداد 7/ 298، والبداية والنهاية 11/ 304، والأعلام 2/ 202، وشذرات الذهب 2/ 370، وطبقات الفقهاء للشيراري 92.

(3)

علي بن أحمد البغدادي القاضي أبو الحسن المعروف بـ "ابن القصار". تفقه بالأبهري، قاله الشيرازي، وله كتاب في مسائل الخلاف، لا أعرف للمالكيين كتابًا من الخلاف أكبر منه، وكان أصوليًّا نظَّارًا. وقال أبو ذر:"هو أفقه من رأيت من المالكيين" وكان ثقة قليل الحديث، وتوفي سنة 398. ينظر الديباج: 2/ 100، والمدارك 4/ 602، وشجرة النور 1/ 92.

(4)

بياض في أ، ب، ح.

ص: 426

لِلنَّبِيذِ؛ لِلتَّخْمِيرِ، وَالسَّارِقِ لِلنَّبَّاشِ، لِلأَخْذِ خُفْيَةً، وَالزَّانِي لِلَّائِطِ؛ لِلإِيلَاجِ الْمُحَرَّمِ؛ إِلَّا بِنَقْلٍ، أَوِ اسْتِقْرَاءِ التَّعَمِيمِ.

لَنَا: إِثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْمُحْتَمَلِ.

قَالُوا: دَارَ الاسْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا؛ قُلْنَا: وَدَارَ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الْعِنَبِ، وَكَوْنِهِ مَالَ الْحَيِّ، وَقُبُلًا.

والسَّارق للنباش؛ للأخذ خفية، والزَّاني لِلَّائِطِ؛ لِلإِيلَاجِ الْمُحَرَّمِ"؛ "إلا" أن يثبت شيء من هذه الصور "بنقل، أو استقراء لتعميم"؛ فيخرج عن محل النزاع، ولا يكون من أمثلة ما نحن فيه، وفائدةُ القياس في اللُّغَةُ؛ أنه يدعَى دخولُ النبيذِ، والنَّباش، واللَّائطِ تحت عمومِ لفظ: الخَمْرِ، والسَّارق، والزَّاني؛ لانسحاب الاسم عليه قياسًا، فافهمه

(1)

.

الشرح: "لنا": أن القياس في اللُّغَةُ: "إثباتُ اللُّغَةُ بالمحتمَلِ"؛ لأنَّهُ يحتمل التصريحَ بمنعه؛ كما يحتمل باعتباره؛ بدليل منعهم طرد الأدْهَمِ، والقَارُورَة، وما لا ينحصر؛ فيبقى عند السكوت على الاحتمال، ومجردُ احتمالِ وضع اللَّفظ للمعنَى لا يصحِّح الحكمَ بالوضعِ؛ للتحكُّم؛ ولئلا يلزم الحكم بالوضع من غير قياس؛ [كقيام الاحتمال.

ولك أن تقول: بل هو إثباتٌ بالظَّاهر؛ فلا تحكُّم، ولا يلزم الوضع من غير قياس]

(2)

.

الشرح: "قالوا: دَارَ الاسم" - كالخمر مثلًا - "معه"؛ أي: مع المعنى؛ كالتَّخْمير؛ "وجودًا" في ماء العنب المسكرِ، "وعدمًا" في غيره؛ والدَّوَرَان دليلٌ أنه متى تحقّق المعنى، تحقّق الاسم.

"قلنا: [و] دار" مع ما ذكرتم، ودار أيضًا "مع كونه من العنب" في الخَمْرِ، "وكونهِ مال الحَيِّ" في السرقة، "وقُبُلًا" في الزنا، فإذا كان الدَّوَران علَّةً، وقد دار فيما ذكرتموه، وفيما ذكرناه - كان المعنى الذي ذكرتموه جزء العلة؛ فلا يستلزم.

ولك أن تقول: إنما تعلُّقنا بدوران الوصف المُنَاسب، وما ذكرتموه غيرُ مناسب؛ فكان ما ذكرناه علَّة تامَّة؛ لأن التحقيق أن الدَّوَران، إذا كان مع أمور بعضُها مخيلٌ، دون بعض، فالعلَّية للمخيِّل

(3)

فقط.

(1)

في أ، ت: فأوهمه، وهو تحريف.

(2)

سقط في: ت.

(3)

في ت: للمختل.

ص: 427

قَالُوا: ثَبَتَ شَرْعًا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ؛ قُلْنَا: لَوْلَا الْإِجْمَاع، لَمَا ثَبَتَ وَقَطْعُ النَّبَّاشِ وَحَدُّ النَّبِيذِ؛ إِمَّا لِثبوتِ التَّعْمِيمِ، أَوْ بِالْقِيَاسِ، لَا لأِنَّهُ سَارِقٌ أَوْ خَمْرٌ؛ بِالْقِيَاسِ.

الشرح: "قالوا: ثبت" القياس "شرعًا"؛ أي: الشرعي، "والمعنى واحد"، وهو حمل فرعٍ على أصل بجامعٍ.

"قلنا: لولا الإجماع" في الشرعي، "لما ثبت، وقطع النباش"

(1)

؛ كما هو الصَّحيح من مذهبنا، "وحدُّ" شارب "النبيذ" ليس لثبوت اللُّغَةُ قياسًا.

"إمّا لثبوت التعميم"؛ أي: تعميم اسم السَّارق والخمر؛ للنَّباش والنَّبِيذ.

قال الشَّعْبي

(2)

: النباش سارق.

وقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ"

(3)

؛ فيكون تسميتها بالنَّقل لا بالقياس اللُّغوي، "وإمَّا

(1)

النَّبش: استخراج الشيء المدفون، ومنه: النباش الذي ينبس القبور. ينظر: قواعد الفقه 521.

(2)

عامر بن شراحيل الحميري الشعبي، أبو عمرو الكوفي، الإمام العلم، روى عن كثير من الصحابة، وروى عنه ابن سيرين والأعمش، وكان فقيهًا. قال الشعبي:"ما كتبت سوداء في بيضاء". توفي سنة 103 هـ. ينظر: الخلاصة 2/ 22 (3263)، وابن سعد 6/ 171 - 178 والمعارف ص 449 - 451، والحلية 4/ 310 - 338.

(3)

متفق عليه من حديث ابن عمر، أخرجه البخاري في الصحيح 10/ 30 كتاب الأشربة (74) باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ

} [سورة المائدة (5)، الآية (90)](1) الحديث (5575)، وأخرجه مسلم 3/ 1587 كتاب الأشربة (36)، باب بيان أن كل مسكر خمر

(7) الحديث (67/ 2001) وأخرجه أبو داود 3/ 327 في الأشربة، باب النهي عن المسكر حديث (3679) والنسائي 8/ 297 في كتاب الأشربة، باب إثبات اسم الخمر لكل مسكر من الأشربة (5585)، والترمذي 4/ 256 في الأشربة، باب ما جاء في شارب الخمر، حديث (1861) وقال: حسن صحيح، وابن ماجة 2/ 1124، في كتاب الأشربة باب كل مسكر حرام حديث (3390) وأحمد في المسند (2/ 16، 31، 98، 105، 134، 137) وأخرجه الدارقطني 4/ 249 حديث (11)، والطحاوي في معاني الآثار 4/ 215، والطبراني في الصغير 1/ 54، 2/ 55 وفي الكبير، وابن الجارود من المنتقى ص 218 حديث (857، 859) والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 293، 296، 306، وابن عبد البر في التمهيد 1/ 252، 253 وابن عساكر كما في تهذيب تاريخ دمشق 1/ 409، 3/ 12، 9/ 279، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان 1/ 17، 9/ 94، 12/ 251، 13/ 318، وينظر: مجمع الزوائد 5/ 57 وتلخيص الحبير 4/ 73.

ص: 428

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالقياس" الشرعي على السَّارق والخمر في الحُكْم؛ بجامع المفسدة، "لا لأنَّهُ سارق أو خمر؛ بالقياس" اللغوي، أو لكلٍّ من الأمرين، أو في أحدهما؛ وهو الخمر؛ بالنَّقْل الذي ذكرناه، وفي الآخَرِ: إما بالقياس الشرعي، وإما [بـ] ما في حديث البَراءِ؛ من قوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ نَبَشَ، قَطَعْنَاهُ"

(1)

.

وأنا أختار

(2)

التمسك بهذا؛ فإنَّ قَطْع النَّباش، لو كان بالقياس الشرعي، أو بتسميته سارقًا

(3)

، لقُطِعَ سارقُ ما عدا الكَفَنَ من الغير، والأصحُّ خلافه؛ فكل هذه طرق للأصحاب، ومن قاس منهم في اللُّغَة، لم يستنكفْ من القياس، وإنما المصنّف اعتذر عمن لم يقس، وليست هذه المسألة مسألة التعليل بالاسم؛ فتلك في أنه، هل يُنَاطُ حكمٌ شرعيٌّ باسم؟ وهذه في أنه، هل يسمى اسم بآخر؛ لغةً؛ بجامع، والقياس الشرعي إلحاقُ فرعٍ بأصلٍ في حكمه.

"فائدة"

الخلاف في ثبوت اللُّغة قياسًا، على الحقيقة والمجاز؛ هذا هو الظَّاهر، وأشار القاضي عبد الوهَّاب المالكي

(4)

؛ إلى أنه ممنوع في المَجَازِ؛ بلا خلافٍ؛ وذكر فرقين، ولم يرتضهما المازِريُّ.

(1)

رواه البيهقي في "كتاب المعرفة، فقال: أنبأني أبو عبد الله الحاكم إجازة، ثنا أبو الوليد، ثنا الحسن بن سفيان، قال - يعني ابن سفيان -: وفيما أجاز لي عثمان بن سعيد عن محمد بن أبي بكر المقدمي عن بشر بن حازم عن عمران بن يزيد بن البراء بن عازب عن أبيه عن جده من حديث ذكره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ومن نبش قطعناه" انتهى بحروفه. قال في "التنقيح": في هذا الإسناد من يجهل حاله، كبشر بن حازم، وغيره، وروي أيضًا: أنبأني أبو عبيد الله إجازة ثنا أبو الوليد محمد بن سليمان ثنا علي بن حجر ثنا سويد بن عبد العزيز عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، قالت: "سارق أمواتنا كسارق أحيائنا".

(2)

في أ، ح: أختال، وهو تحريف.

(3)

في أ، ب، ت: نباشًا.

(4)

عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي: ولد سنة 362 هـ، أحد أئمة المذهب، وكان حسن النظر، والعبارة، نظارًا للمذهب، ثقة حجة نسيجا وحده، فريد عصره، سمع من الأبهري، وحدث عنه وأجازه ومن تآليفه "النفرة لمذهب إمام دار الهجرة"، "والمعونة لمذهب عالم المدينة"، و"الأدلة" في مسائل الخلاف، وتوفى سنة 430 هـ. ينظر: الديباج 2/ 26 - 29، والمدارك 4/ 691 - 695، وشجرة النور 1/ 103 - 104 والعبر 3/ 149، وفوات الوفيات 2/ 21، وحسن المحاضرة 1/ 314.

ص: 429

‌الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ

الْحُرُوفُ: مَعْنَى قَوْلهِمُ: الْحَرْفُ: لَا يَسْتَقِلُّ بِالْمَفْهُومِيَّةِ، أَنَّ نَحْوَ (مِنْ) وَ (إِلَى) مَشْرُوطٌ فِي دِلَالَتِهِمَا عَلَى مَعْنَاهُمَا الإِفْرَادِيِّ - ذِكْرُ مُتَعَلَّقِهِمَا، وَنَحْوَ (الابْتِدَاء)، وَ (الانْتِهَاء)، وَ (ابْتَدَأَ)، وَ (انْتَهَى) - غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهَا ذلِكَ.

الشرح: "الحروف

(1)

: معنى قولهم: الحرفُ لا يستقل بالمفهومية

(2)

؛ أن نحو (من)، و (إلى) مشروط في دلالتهما

(3)

على معناهما الإفرادي"؛ وهو الابتداء في (من)، والانتهاء في (إلى) - "ذكر متعلِّقهما؛ من دارٍ ونحوها؛ نحو: سرتُ من الدار، وإلى الدارِ؛ فإنَّما يفيد أن البداية والنهاية بِضَمِيمَةٍ أخرى.

"ونحوَ: الابتداء، والانتهاء، من الأسماء، "وابتدأ، وانتهى" من الأَفْعَال - "غيرُ مشروطٍ فيها

(1)

لما فرغ من بيان المسائل المشتركة بين الاسم والفعل والحرف كالمتعلقة بالاشتراك والترادف والحقيقة والمجاز، المختصة بالاسم كباقيتها، ولم يكن في المبادئ اللغوية ما يختص بالفعل، وكان فيها ما يختص بالحرف - أراد بيان ذلك، فأفرد الحرف دون الفعل بالذكر، وقدم بيان معنى قول النحاة في تعريف الحرف: إنه لا يستقل بالمفهومية، وإنما خص هذا القيد بالبيان دون غيره؛ لخفائه وظهور الغير. ينظر الشيرازي 76 ب/ خ.

(2)

اعلم أن المراد من قول النحاة: إن الحروف تستعمل بالمقهومية أن نحو "من وإلى" شرط الواضع في دلالتها على معناها الإفرادي ذكر متعلقها على معنى أن الواضع نص على أن "من وإلى" إذا ذكر متعلقها بما معهما كان معناهما الابتداء والانتهاء، وإذا لم يذكر معهما ما هو متعلقهما لم يكن لهما معنى أصلًا لا ابتداء ولا انتهاء ولا غيرهما، واحترز بقوله: الإفرادي عن الاسم والفعل؛ فإن كلا منهما في دلالته على المعاني التركيبية - أعني المعاني التي تكون لها حالة التركيب مشروطة بذكر متعلقه، فإن كون الاسم فاعلًا إنما هو باعتبار الفعل، وكون الفعل خبرًا إنما هو باعتبار المبتدأ، لكن لم يشترط في دلالتها على معانيها الإفرادية ذكر متعلقهما، وذلك لأن نحو الابتداء والانتهاء وكذا "ابتدأ وانتهى" يشترط في دلالتهما على معانيهما الإفرادية ذكر متعلقها. ولهذا يفهم معنى الابتداء والانتهاء وكذا معنى ابتدأ وانتهى بدون ذكر متعلقها بخلاف من وإلى، فإن معناهما لا يفهم من غير أن يذكر متعلقهما، فإن قيل: من إلى يفهم منهما الابتداء والانتهاء بدون ذكر متعلقهما؛ أجيب بأن الابتداء والانتهاء فهما منهما حالة اعتبار متعلقهما وإن لم يصرح به، وإنما مثل من الأسماء بالابتداء والانتهاء، ومن الأفعال بابتدأ وانتهى؛ ليعلم أنه إذا عبر عن الابتداء أو الانتهاء بمجرد لفظ من وإلى ولم يذكر متعلقهما لم يدلا عليهما، وإذا عبر عن الابتداء أو الانتهاء بالاسم والفعل فهما بدون ذكر متعلقهما. ذكره الأصبهاني شارح المختصر.

(3)

في أ، ب، ت: دلالتها.

ص: 430

وَأَمَّا نَحْوُ (ذُو)، وَ (فَوْقَ)، وَ (تَحْتَ)، وَ (إِنْ) لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا بِمُتَعَلَّقِهَا لأَمْرٍ، فَغَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهَا ذلِكَ؛ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ وَضْعَ "ذو" بمَعْنَى صاحِبٍ؛ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى الْوَصْفِ بِأَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ - اقْتَضَى ذِكْرَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ وَضعَ "فَوْقَ" بِمَعْنَى مَكَانٍ؛ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى عُلُوٍّ خَاصٍّ - اقْتَضَى ذلِكَ، وَكَذلِكَ الْبَوَاقِي.

‌مَا تُفِيدُهُ الْوَاوُ

مَسْأَلَةٌ:

(الْوَاوُ) لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ؛ لَا لِتَرْتيبٍ، وَلَا مَعِيَّةٍ؛ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ؛ ...................

ذلك"؛ أي: وجود الضَّميمة؛ إذ يفهم المعنى بدونها.

الشرح: "وأما نحو (ذو)، و (فوق)، و (تحت) "، وسائر الألفاظ الدَّالَّة على النسبة؛ كـ (قبل)، و (بعد)، و (أمام)، و (قُدَّام)، و (خَلْف)، و (وراء) - فإنها "وإن لم تذكر إلا بمتعلَّقها

(1)

لأمرٍ" مَا عارضٍ - "فغير مشروط فيها ذلك"؛ أي: ذكر متعلِّقها، ولا تنتقض الحروف بها؛ "لما علم من "أنها وضعت في الأصل لِمَعَانٍ قائمة في نفسها غيرِ مفتقرةٍ في الدَّلالة على معانيها؛ إلى قرينة.

وتحريره: "أن وضع (ذو) "في الأصل "بمعنى (صاحب) "؛ لغرض. التوصُّل؛ أي: "ليتوصَّل به إلى الوصف بأسماء الأجناس"؛ في نحو: زيدٌ ذو مالٍ، وذو فرسٍ - "اقتضى" ذلك "ذِكْرَ المضاف إليه"؛ ليتم بذكره الغرضُ منها، لا أصلُ دلالتها، "وأنَّ وَضْعَ "فوق" مثلًا؛ لمَّا كان في الأصل "بمعنى مكانٍ" عالٍ؛ وأتى به "ليتوصل به إلى علو خاص" يستفاد من الضميمة - "اقتضى ذلك"؛ أي: اقتضى ذِكْرَ متعلَّقهُ؛ تقول: زيد فوق السطح؛ "وكذلك" حكم "البواقي" من هذه الألفاظ.

"مسألة"

الشرح: "الوَاوُ" العَاطِفَةُ "للجمع المُطْلَق".

ولو قال: مطلق الجمع، لكان أسدَّ؛ لما في الجمع المُطْلق من إيهامٍ؛ بتقييد الجَمْعِ بالإطلاق، والغرضُ نَفْيُ التقييد؛ وفرقٌ واضحٌ بين مطلقِ الحقيقةِ، والحقيقةِ المطلقةِ، والحقيقةِ بلا قيدٍ، والحقيقةِ بقيدٍ.

"لا لترتيب ولا مَعِيَّة؛ عند المحققين".

وقيل: للترتيب؛ وهو الذي اشتهر عند الشافعية، ونُقِلَ عن الشافعي نفسِهِ؛ وهو من أئمة

(1)

في أ، ب، ج: بمتعلقاتها.

ص: 431

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اللُّغَة، وفصحاء العرب الذي يحتجُّ بكلامهم، وعن قطرب

(1)

، والرَّبَعِيّ، والفراء

(2)

، وثعلب، وأبي عُمَر الزاهد

(3)

، وهشام

(4)

.

(1)

محمد بن المستنير بن أحمد، الشهير بـ "قطرب" نحوي، عالم بالأدب واللغة، من أهل البصرة كان يرى رأي المعتزلة النظامية، وهو أول من وضع المثلث في اللغة، من مصنفاته معاني القرآن، والنوادر، والأضداد، وغريب الحديث وغيرها توفي في 206 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 1/ 494، تاريخ بغداد 2/ 298، شذرات الذهب 2/ 15، كشف الظنون 1586، الأعلام 7/ 95.

(2)

أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور، الأسدي، مولاهم الكوفي، النحوي، ولد سنة 144 هـ، طلب العلم، وبلغ الغاية، وكان حجة، علامة، صاحب الكسائي، قال ثعلب: لولا الفراء لما كانت عربية، ولسقطت؛ لأنَّهُ خلصها، ولأنها كانت تتنازع، ويدعيها كل أحد.

قال سلمة: إني لأعجب من الفراء كيف يعظم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه. وقد صنَّف كتبًا كثيرة منها: "البهي" في حجم "الفصيح" لثعلب.

قال الذهبي: ومقدار تواليف الفراء ثلاثة آلاف ورقة. مات في طريقه إلى الحج سنة 207 هـ. ينظر: أخبار النحويين للسيرافي 51، وبغية الوعاة 2/ 333، وتذكرة الحفاظ 1/ 372:

(3)

أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البغدادي الزاهد المعروف بـ "غلام ثعلب" ولد سنة إحدى وستين ومائتين. وسمع من موسى بن سهل الوشاء وأحمد بن عبيد الله النرس، ولازم ثعلبًا في العربية فأكثر عنه إلى الغاية، وهو في عداد الشيوخ في الحديث لا الحفاظ، حدث عنه: أبو الحسن بن رزقويه، وابن منده وأبو عبد الله الحاكم والقاضي أبو القاسم بن المنذر. قال ابن خلكان: استدرك على "الفصيح" لثعلب كراسًا سماه "فائت الفصيح" وله كتاب "الياقوتة" وكتاب "الموضح" وكتاب "الساعات" وكتاب "يوم وليلة" وكتاب "المستحسن" وكتاب "الشورى" قال الخطيب: سمعت عبد الواحد بن برهان، يقول: لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأولين والآخرين أحسن كلامًا من كلام أبي عمر الزاهد، وله كتاب "غريب الحديث" ألَّفه على مسند أحمد بن حنبل.

مات أبو عمر في ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. بنظر: سير أعلام النبلاء 15/ 508، تذكرة الحفاظ 3/ 873، 876، الوافى بالوفيات 4/ 72، 73 وفيات الأعيان 4/ 329، 333.

(4)

ينظر: الإحكام للآمدي 1/ 59، والعضد 1/ 90، والبرهان 1/ 181 (91)، والتبصرة ص (231)، وتخريج الفروع للزنجاني ص (53)، والبناني على جمع الجوامع 1/ 365، وتيسير التحرير 3/ 64، والعدة 1/ 194، وكشف الأسرار 2/ 109، وشرح الكوكب المنير 1/ 230، والإبهاج 1/ 338، والتمهيد للإسنوي ص (208)، ونهاية السول له 2/ 185، والبحر المحيط 1/ 253، وأصول السرخسي 1/ 200، والتقرير والتحبير 2/ 39، وشرح تنقيح الفصول ص (99)، وحاشية العطار 1/ 461، ومغني اللبيب 1/ 391 - 408.

ص: 432

لا الْنَّقْلُ عَنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهَا كَذلِكَ.

وَاسْتُدِلَّ: لَوْ كَانَ لِلتَّرْتِيب، لَتَنَاقَضَ:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [سورة البقرة: الآية، 58] مَعَ الْأخْرَى، وَلَمْ يَصِحَّ:(تَقَاتَلَ زَيْدٌ وَعَمْرو)، وَلَكَانَ:(جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو بَعْدَهُ) تَكْرِيرًا، وَ (قَبْلَهُ) تَنَاقُضًا؛ وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ مَجَازٌ؛ لِمَا سَنَذْكُرُ.

وقيل: للمعية؛ وهو المشهور عن الحنفية

(1)

.

"لنا: النقل عن الأئمة: أئمَّةِ اللُّغَةُ؛ "أنها كذلك؛ فقد نصَّ عليه سيبويه في سبعةَ عشَرَ موضعًا من كتابه.

وقال الفارسي: أجمع عليه نحاة (البَصرة)، و (الكوفة)

(2)

.

ولكن نازع فيه شيخنا أبو حيَّان

(3)

، و [قد]

(4)

أصاب؛ لما نقلناه آنفًا

(5)

.

الشرح: "واستدل: لو كانـ"ت "للترتيب، لتناقض" قوله تعالى: " {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [سورة البقرة: الآية، 58] مع" الآية "الأخرى"؛ وهي: (وَقُولُوا: حِطَةٌ، {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [سورة الأعراف: الآية، 161]؛ والقصة

(6)

واحدة.

"ولم يصح: تقاتل زيد وعمرو، ولكان" قولنا: " (جاء زيد وعمرو بعده) - تكريرًا؛ للعلم بالبَعْدية من "الواو"، و (قبله) تناقضًا؛ لدلالة (الواو) على التأخير، ولكن لا تكرار، ولا نقض؛ فلا ترتيب.

"وأجيب: بأنَّه" فيما ذكرتم "مَجَاز؛ لما سيذكر" من الدَّلالة على أنَّها للترتيب.

(1)

ينظر المصار السابقة.

(2)

ينظر البحر المحيط 2/ 257.

(3)

محمد بن يوسف بن علي بن حيان بن يوسف، الشيخ الإمام العلامة، والحافظ المفسر النحوي اللغوي، أثير الدين أبو حيان الأندلسي، الجياني، الغرناطي، ثم المصري. ولد في 652 هـ. قرأ العربية على رضي الدين القسنطيني، وبهاء الدين بن النحاس وغيرهم، سمع نحوًا من أربعمائة شيخ، وكان ظاهريًا فانتمى إلى الشافعية، له مصنفات منها:"البحر المحيط في التفسير" و"النهر في البحر"، و"شرح التسهيل" وارتشاف الضرب". سمع منه الأئمة العلماء، وأضر قبل موته بقليل، توفي بـ "القاهرة" في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 67، والأعلام 8/ 26، وطبقات السبكي 6/ 31؛ والدرر الكامنة 4/ 302.

(4)

سقط في ب.

(5)

ينظر: "البحر المحيط 2/ 257.

(6)

في ب، ت: القضية.

ص: 433

قَالُوا: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [سورة الحج: الآية، 77]؛ قُلْنَا: التَّرْييبُ مُسْتَفَادٌ مِنْ غَيْرِهِ؛ قَالُوا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [سورة البقرة: الآية، 158]؛ وَقَالَ عليه السلام: (ابدَءُوا بمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ)؛ قُلْنَا: لَوْ كَانَ لَه، لَمَا احْتِيجَ إِلَى (ابْدَءُوا).

الشرح: "قالوا: قد أفادت (الواو) الترتيب في قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [سورة الحج؛ الآية، 77]؛ [قلنا: الترتيب بدليل امتناع تقديم السجود على الركوع؛ فليقدَّم في غيره؛ دفعًا للاشتراك والمجاز"

(1)

.

قلنا: الترتيب" هنا "مُسْتَفَادٌ من غيره.

قالواا: لَمَّا نزلَتْ: " {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ

} " [سورة البقرة: الآية، 158] بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصَّفَا "وقال: (ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بهِ)

(2)

؛ [كذا]

(3)

بخط المصنّف: (ابْدَءُوا)؛ بضمير الجمع للمخاطبين؛ وهو لفظ رواية النَّسَائي

(4)

؛ وفي مسلم

(5)

: (ابْدَأْ) بضمير المتكلم.

(1)

سقط في ت.

(2)

أخرجه مسلم من حديث طويل عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما 2/ 886 - 892 في كتاب الحج، حجة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حديث (147/ 1218)، وأخرجه النسائي مختصرًا 5/ 236 في كتاب المناسك، باب القول بعد ركعتي الطواف، حديث (2962) ولفظه:"فابدءوا"، وأبو داود بطوله 2/ 445 في كتاب مناسك الحج، باب صفة حجه صلى الله عليه وسلم حديث (1905)، والترمذي 3/ 216 في أبواب الحج، باب ما جاء أنه يبدأ بالصفا قبل المروة حديث (862) ولفظه: "نبدأ بما بدأ

" وقال: (حسن صحيح). والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه، وبدأ بالصفا.

(3)

في ب: وكذلك.

(4)

أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن شأن بن بحر النسائي، الإمام الجليل الحافظ، ولد سنة 215 هـ، سمع الكثير، وأخذ عن يونس بن عبد الأعلى، وكان أفقه مشايخ مصر، قال الدارقطني: أبو عبد الرحمن مقدم على من يذكر بهذا العلم من أهل عصره. مات ب "مكة" سنة 303 هـ. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 88، والنجوم الزاهرة 3/ 188، وتذكرة الحفاظ 2/ 698.

(5)

مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري، أبو الحسين النيسابوري الحافظ أحد الأئمة الأعلام وصاحب الصحيح والطبقات.

قال أحمد بن سلمة: رأيت أبا حاتم وأبا زرعة يقدمان مسلمًا في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما. وقال أبو عبد الله بن الأخرم توفي لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين، ومولده سنة أربع ومائتين. ينظر: الخلاصة 3/ 24 (6962)، وسير أعلا النبلاء 12/ 557 وتذكرة الحفاظ 2/ 588، وتهذيب التهذيب 10/ 226، والتقريب 2/ 245.

ص: 434

قَالُوا: رَدَّ [صلى الله عليه وسلم] عَلَى قَائِلِ: (وَمَنْ عَصَاهُمَا، فَقَدْ غَوَى)؛ وَقَالَ: (قُلْ: وَمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ)؛ قُلْنَا: لِتَرْكِ إِفْرَادِ اسْمِهِ بِالتَّعْظِيمِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ مَعْصيتَهُمَا لَا تَرْتِيبَ فِيهَا.

"قلنا: لو كان له" - أي: الترتيب - "لما احتيج إلى (ابْدَءُوا) "؛ لمعرفتهم الترتيب من الواو؛ فإذن الحديث عَلَيْكُمْ، لَا لَكُمْ.

الشرح: "قالوا: رد" النَّبِيّ "صلى الله عليه وسلم على قائلِ": (من يطع الله ورسوله، فقد رَشَدَ، "ومن عصاهما"؛ كذا بخط المصنِّف.

ولفظ الحديث (ومن يعصهما "فقد غوى)، وقال":(بِئْسَ الخَطِيبُ أَنْتَ؛ "قُلْ: وَمَنْ عَصَى)

(1)

"؛ كذا بخطّ المصنّف، واللَّفظُ: (يعصِ "الله ورسوله) "؛ رواه مسلم، فلو لم تكن للترتيب، لم يكن فرق بين ما أمره به، وما نهاه عنه.

"قلنا": ليس اللَّوم للترتيب؛ بل "لترك إفراد اسمه"؛ أي: اسمِ الله "بالتَّعظيم؛ بدليل أن معصيتهما لا ترتيبَ فيها"، وكلٌّ منهما مستلزمةٌ للأخرى.

فإن قلت: كيف قال المصنّف: (معصيتهما) عَقِبَ سماع اللَّومِ على الجمع بين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في ضمير واحد.

قلت: لَوْمُ الخطيبِ؛ إنَّما كان لأن مَقَامَهُ

(2)

- وهي العظة والخطابة - يقتضي التوسُّع في الكلام؛ فكان المناسبُ فيه الإفراد؛ تعظيمًا، ولا كذلك أماكنُ الاختصار؛ كـ (مختصر ابن الحاجب)؛ وفي القرآن:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [سورة الأحزاب: الآية، 56].

وفي الحديث: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا .. "

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم 2/ 594 في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (48/ 870) وأخرجه أبو داود 1/ 288 في الصلاة باب الرجل يخطب على قوس؛ حديث (1099) وفي 4/ 295 حديث (4981)، وأخرجه النسائي 6/ 90 كتاب النكاح، باب ما يكره في الخطبة حديث (3279)، وأحمد في المسند 4/ 256 وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 289، والطحاوي في مشكل الآثار 4/ 296 والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 86، 3/ 216.

(2)

قوله: لأن مقامه

إلخ يدل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "بئس الخطيب دون المتكلم" حيث علق الذم بالخطابة.

(3)

أخرجه البخاري (1/ 91) كتاب الإيمان: باب حلاوة الإيمان (16) وفي باب من كره أن يعود في =

ص: 435

قَالُوا: إِذَا قِيلَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ - وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ؛ بِخِلَافِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَقَوْلُ مَالِكٍ [رحمه الله]: وَالأَظْهَرُ أَنَّهَا مِثْلُ (ثُمَّ)؛ إِنَّمَا قَالَهُ فِي .........................

الشرح: "قالوا: إذا قيل لغير المدخول بها: أنْتِ طالق، وطالق، وطالق - وقعت واحدة؛ بخلاف أنت طالق ثلاثًا"؛ فلو اقتضت (الواو) الجمع، لم تفترق الصُّورتان.

"وأجيب بالمنع"؛ فقد قال أحمد بن حنبل

(1)

، وبعض المالكية؛ بوقوع الثلاث؛ وهو قول قديم للشافعي؛ أثبته ابن أبي هريرة

(2)

.

قال المصنّف: "وهو "- أي: المنعُ - "الصحيحُ".

ونقله: ابن أبي هريرة في (النَّوَادر) عن ابن حبيب، وقاله فضل بن أبي سَلَمَة

(3)

في (اختصار الواضحة).

الشرح: "و" أما "قول مالك: والأظهر أنها مثلًا (ثُمَّ)

(4)

" - فمحمول على أنه "إنَّما قاله في

= الكفر (21) وفي (10/ 478) كتاب الأدب، باب الحب في الله (6041) وفي 12/ 330 كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر (6941) - وأخرجه مسلم 1/ 66 كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (67/ 43).

(1)

أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي، ولد سنة 164 هـ، أخذ الفقه عن الشافعي، وسلك مسلكه، صنف المسند. قال إبراهيم الحربي: كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين.

توفي سنة 241 هـ. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 56، وحلية الأولياء 9/ 161، وتذكرة الحفاظ 2/ 431.

(2)

ينظر: حاشية الدسوقي 2/ 36 نهاية المحتاج 6/ 417، المغنى لابن قدامة 7/ 104.

(3)

فضل بن سلمة بن جرير بن منخل الجهني، كان حافظًا للفقه على مذهب مالك، بعيد الصيت فيه، وكان يرحل إليه للسماع منه، والمفقه عنده، كان بصرًا بالمذهب، حافظًا له، متضننًا. قال أبو محمد بن حزم الظاهري: كان من أعلم الناس بمذهب مالك. وله مخنصر في "المدونة"، ومختصر "الواضحة" إلى غير ذلك، وتوفي سنة 319 هـ ينظر: الديباج 2/ 137 - 13 وشجرة النور 1/ 82، وجذوة المقتبس 308.

(4)

هذا جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن مذهب مالك أن الواو مثل ثم، ولا نزاع في أن ثم في صورة: ثم طالق تقع طلقة واحدة، فيجب أن يقع في صورة الواو أيضًا واحدة، فكيف يصح أن =

ص: 436

الْمَدْخُولِ بِهَا؛ يَعْنِي يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَلَا يَنْوِي فِي التَّأكِيدِ.

المدخول بها؛ يعني

(1)

: يقع" عليها "الثلاث، ولا يَنْوِي"؛ - أي: ولا تُقْبلُ

(2)

منه نِيَّته "في" إرادة "التأكيد"؛ كما لا تقبل إرادته التأكيد في (ثم).

والمحفوظ عن مالك؛ أن في النَّسَق بالواو إشكالًا.

قال ابن القاسم

(3)

: ورأيت الأغلب على رأيه أنها مثل (ثم)، ولا ينوي.

والمصنِّف جرى على مختاره في مَذْهَبِهِ.

وأما نحن، فالصَّحيح من مذهبنا وقوعُ واحدةٍ فقط؛. لأنها تَبِينُ بالأولَى؛ فلا يقع ما بعدها؛

قال أصحابنا: وإنما سبق وقوعه؛ لأنَّهُ تكلّم به على وجه الإيقاع؛ من غير أن يربطه برابط، أو يعلِّقه

(4)

بشيءٍ ما.

والموجود منه ثلاث إيقاعاتٍ متوالية، لا تعلُّقَ لبعضها ببعض، وحظ (الواو) هنا مطلق العطف، فصارت قضية الكلام الأولِ الوقوعَ من غير إبطاءٍ

(5)

ولا مهلة، وإذا وقع، لم يُصادِف الثاني والثالثُ إلا بائنًا، لا يلحقها طلاق، ويخالف: أنت طالق ثلاثًا؛ لأن ثلاثًا بيانٌ للأول.

= يقال: إنه تقع الثلاث في صورة الواو؟ أجيب عنه بأن مالكًا قال: إنه تقع الثلاث بـ "ثم" في صورة المدخول بها، ولم يعتبر نيته في التأكيد؛ أي لم يحمل على التأكيد إذا قال الزوج: أردت به التأكيد، كما يقع الثلاث بالواو في صورة المدخول بها، ولم يعتبر نيته في التأكيد، فتكون الواو بمنزلة ثم في صورة المدخول بها في عدم اعتبار نية التأكيد بها لا في صورة غير المدخول بها؛ فلم يلزم عدم وقوع الثلاث بالواو في غير المدخول بها. هذا مذهب مالك.

(1)

في حاشية ج: قوله: يعني يقع الثلاث

إلخ يعني أن مراد الإمام أنها مثله ثم في الحكم لا في المعنى اللغوي؛ لأن غرض المجتهد في اجتهاده إنما هو الحكم الشرعي لا المعنى اللغوي.

قوله: "ولا ينوي

أي: لأن التأكيد خلاف الظاهر، ومثله لا يعتبر فيه النية".

(2)

في ت: يقبل.

(3)

عبد الرحمن بن القاسم العُتقي: الإمام المشهور يكنى أبا عبد الله. وهو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة. ولد سنة 132 هـ. روي عن مالك، والليث وغيرهما، روى عنه سحنون وغيره كثير، وخرج عنه البخاري في صحيحه: قال الدارقطني: هو من كبار المصريين وفقهائهم، رجل صالح مُقِلٌّ متقن حسن الضبط. قال الحارث بن مسكين: كان في ابن القاسم: العلم والزهد والسخاء والشجاعة والإجابة، وله سماع من مالك: توفي سنة 191. ينظر: الديباج 1/ 464 - 469، والمدارك 443، 447، وشجرة النور 1، 58.

(4)

في ب، ت: معلقه.

(5)

في أ، ب، ج: انتظار.

ص: 437

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد لاح بهذا أنه لا حُجَّةَ لمن زعم أن الشافعي يقول: (الواو) للترتيب بهذه المسألة.

فإن قلت: فالأصح وقوع الثلاث فيما إذا علَّق هذا اللَّفظ، ووجدتِ الصفة.

قلت: لأن الصفة وقوعٌ لا إيقاعٌ، فوُجِدَتِ التَّطليقاتُ الثلاثُ معًا، وهو في التَّعليق بإزاء: أنتِ طالق ثلاثًا سواء.

وتعلَّقوا أيضًا بإيجاب الشَّافعى الترتيب في الوضوء

(1)

من آية الوضوء، والشَّافعيُّ لم يأخذ ذلك من (الواو)، بل من جهة أن العبادة كلَّها مترتبة؛ كالصَّلاة، والحج، والوضوءُ منها، و (الواو) لا تنفي الترتيب.

وقال الأستاذ أبو منصور البغداديُّ: معاذ الله أن يصحَّ عن الشَّافعيّ أنها للترتيب، وإنما هي عنده لمطلق الجمع

(2)

.

قلت: ومما يوضِّحه اتفاق الأصحاب على أنَّ: وقفت

(3)

على أولادي، وأولاد

(4)

أولادي - يقتضي التسوية، وإن أتى في بعض الفروع خلافٌ، فمنشؤه من اختيارٍ لقائله أن (الواو) للترتيب؛ كما في: إن دخلتِ الدار، وكلمتِ زيدًا، فأنتِ طالق.

قال الأصحاب: لا فرق بين تقدَّم الكلام وتأخُّره.

وفي (التتمة) ما يقتضي إثبات خلافٍ فيه؛ ولا يشكل علينا إلا ما قال صاحب (التهذيب) فيما إذا قال لعبده: إن مت، ودخلت الدار، فأنت حر - أنه لا بد من وقوع الدَّار بعد الموت، وسكت عليه الرَّافعي، فإن لاح له وجهٌ غيرُ اقتضاء (الواو) الترتيب، وإلا فلا أراه المذْهَبَ.

(1)

واختلفوا في الترتيب، فذهب بعضُهُم إلى وُجوبه على ما ذكر الله سبحانه وتعالى، حتَّى لو بدأ بغسل اليدين قبل غسل الوجه، أو مسحَ برأسه قبل أن يغسل يديه وصلَّى، تجب الإعادة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، ويُروى ذلك عن أبي هريرة.

وذهب الأكثرون إلى أنه سُنَّة، فلو عكس وصلى، لا تجب الإعادة، ويُروى ذلك عن علي وابن مسعود، وبه قال من التَّابعين: سعيدُ بن المُسَيَّب، وعطاء، والنخعي، وإليه ذهب الأوزاعيّ، والثوريّ، وربيعة، وأصحاب الرأي. ينظر: شرح السنة 1/ 322.

(2)

وتكملة كلامه: وإنما نسب للشافعي من إيجابه الترتيب في الوضوء، ولم يوجبه من الواو بل لدليل آخر؛ وهو قطع النظير عن النظير، وإدخال الممسوح بين المغسولين، والعرب لا تفعل إلا إذا أرادت الترتيب. ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه 2/ 256.

(3)

في ت: وقعت.

(4)

في ت: فأولاد.

ص: 438

الثالِثُ‌

‌ ابْتِدَاءُ الْوَضْعِ

لَيْسَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَدْلُولهِ مُنَاسَبَةٌ طَبِيعِيَّةٌ؛ لَنَا: الْقَطْعُ بِصِحَّةِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ وَضِدِّهِ - وَبِوُقوعِهِ؛ كَالْقُرْءِ، وَالْجَوْنِ.

الشرح: "ابتداء الوضع ليسر بين اللَّفظ ومدلوله مناسبةٌ طبيعيةٌ"

(1)

؛ خلافًا لـ "عبَّاد بن سليمان الصَّيْمَرِيّ

(2)

(3)

؛ إذ أثبت مناسبةً، قيل: حاملةً للواضعِ على

(4)

أن يضع.

وقيل: بل كافيةً بمجرَّدها في كون الألفاظ دالَّةً على المعاني من غير احتياج إلى الوضع، قال الشيخ الأصبهاني: وهو الصحيح عن عباد.

"لنا: القَطْعُ بصحَّة وضع اللَّفظ للشيء ونقيضه"، وللشيء "وضده"؛ "و "القطع، "بوقوعه" أيضًا؛ "كالقُرْء"؛ الموضوعِ للطهر والحيض، "والجَوْن"

(5)

؛ للأسود والأبيض.

ولك أن تقول: هذا

(6)

مثال الضدين، فأين مثال النقيضين؟

وقد قال الإمام الرَّازي: لا يجوز أن يكون اللفظ مشتَرَكًا بين عدم الشيء وثبوته؛ وهو ضعيف.

(1)

من المعلوم ضرورة أن دلالة اللفظ على مسمى دون مسمى مع استواء نسبته إليهما يمتنع، فيلزم الاختصاص بأحدهما ضرورة، والاختصاص لكونه أمرًا ممكنًا يستدعي في تحققه مؤثرًا مخصصًا، وذلك المخصص بحكم التقسيم إما الذات أو غيرها، وغيرها إما الله تعالى وتقدس أو غيره. ثم إن في السلف من يحكى عنه اختيار الأول، كأرباب علم التكسير وبعض المعزلة حيث ذهبوا إلى أن دلالة اللفظ على المعنى لمناسبة طبيعية بينهما، وفيهم من اختار الثاني، وفيهم من اختار الثالث، وأطبق المتأخرون على فساد الرأي الأول. ينظر: الشيرازي.

(2)

أبو سهل عباد بن سليمان المعزلي من أصحاب هشام الغُوطي. يخالف المعزلة في أشياء اخترعها لنفسه، وقد وصفه أبو علي الجُبَّائي بالحذق في الكلام، ويقول: لولا جنونه. صنف كتاب: "إنكار أن يخلق الناس أفعالهم"، و"تثبيت دلالة الأمراض" و"إثبات الجزء الذي لا يتجزأ". ينظر: طبقات المعزلة 77، وسير أعلام النبلاء 10/ 551، والفهرست 215.

(3)

في ت: سلمى الضمري.

(4)

ينظر: الإحكام للآمدي 1/ 70، والعضد 1/ 19 وحاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 265، وشرح الكوكب المنير 1/ 97، والمستصفى 1/ 31 والإبهاج 1/ 194، وإرشاد الفحول ص (12)، ونهاية السول 2/ 11، والخصائص لابن جني 1/ 40، المزهر للسيوطي 1/ 16.

(5)

في أ: الحوت.

(6)

في حاشية ج: قوله: هذا مثال

إلخ جعل العضد الحيض والطهر نقيضين. فتأمله.

ص: 439

قَالُوا: لَوْ تَسَاوَتْ، لَمْ يَخْتَصَّ؛ قُلْنَا: يَخْتَصُّ بإرَادَةِ الْوَاضِع الْمُخْتَار.

‌تَوْقِيفِيَّةُ الأَلْفَاظِ

(1)

مَسْأَلَةٌ:

قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: عَلَّمَهَا اللهُ بِالْوَحْي، أَوْ بِخَلْقِ الْأَصْوَاتِ، أَوْ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ، الْبَهْشَمِيَّةُ: وَضَعَهَا الْبَشَرُ؛ وَاحِدٌ، أوْ جَمَاعَةٌ؛ وَحَصَلَ التَّعْرِيفُ بِالإِشَارَةِ وَالْقرَائِنِ كَالْأطْفَالِ، الْأُسْتَاذُ: الْقَدْرُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي التَّعْرِيفِ تَوْقِيفٌ، وَغَيْرُهُ مُحْتَمِلٌ، وَقَالَ

الشرح: "قالوا: لو تساوت" نسبة الألفاظ إلى المعاني "لم يختص" لفظ بمعنى، وإلا يلزم الترجيحُ بلا مرجِّح.

"قلنا: يختص لإرادة الواضع المختار"، وذلك كتخصيصه وجودَ العالَمِ بوقت دون وقت.

فإن قلت: هذا ظاهر على القَوْلِ بأن الواضع هو الله، فبماذا يجيب من يقول بالاصطلاح؟

قلت: قيل بأن سببه حضور اللَّفظ عند سبق المعنى، والأصحُّ - وإياه ذكر الشيخ الأصفهاني - أن الجواب الأول عامٌّ؛ لأنَّهُ إذا كان الواضعُ العَبْدَ، وأفعالُه مخلوقةٌ لله - تعالى -، رجع الكلُّ إلى إرادته تعالى.

"مسألة"

الشرح: "قال" الشيخ "الأشعري": إنَّ الألفاظ توقيفية

(2)

؛ "علمها الله صلى الله عليه وسلم - تعالى - ووقف عباده عليها؛ إما: "بالْوَحْي" لبعض أنبيائه عليهم السلام، "أو بخلق الأصوات" في بعض الأجسام، "أو بعلمٍ ضروريٍّ" خلَقَه في بعضهم، حصَّل له إفادة اللفظ للمعنى.

وقالت "البَهْشَمِيَّةُ" - وهم أبو هاشم وأتباعه

(3)

-: "وضعها البشر"؛ إما: واحد، أو جماعة" اصطلحوا عليها؛ "وحصل التعريف" منهم لغيرهم؛ "بالإشارة و "بـ "القرائن؛ كَالأطفال" في حصول المعرفة لهم بذلك.

وقال "الأستاذ: القدرُ المحتاج إليه في التعريف توقيف، وغيرُهُ محتملٌ"؛ لأن يكون أيضًا بالتوقيف من الله، ولأن يكون بالمواضعة من البشر.

(1)

ينظر: المصادر السابقة في ابتداء الوضع.

(2)

ينظر: المحصول 2/ 2/ 459.

(3)

ينظر: الإحكام للآمدي 1/ 71.

ص: 440

الْقَاضِي: الْجَمِيعُ مُمْكِنٌ، ثُمَّ الظَّاهِرُ قوْلُ الْأَشْعَرِيِّ.

قَالَ: {وَعَلَّمَ آدَمَ [الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا]} ، [سورة البقرة: الآية، 31]؛ قَالُوا: أَلْهَمَه، أَوْ عَلَّمَهُ مَا سَبَقَ؛ قُلْنَا: خِلَافُ الظَّاهِرِ.

وقيل: عكسه.

"وقال القاضي" في كتاب (التقريب): الصحيحُ الوقْفُ؛ إذ "الجميع ممكنٌ"؛ وتبعه المحقِّقون.

واعلم أن المسألة عند أئمتنا قطعية، فالتوقف عن القطعي بواحد من هذه الأقوال؛ كما ذهب إليه القاضي - حق.

"ثم الظاهر" منها "قولُ الأشعريِّ"، فلا تظننّ المتوقِّف

(1)

توقَّف إِلَّا عن القطْعِ فقط، ثم الظاهرُ من الاحتمالات التي ذكرها الأشعريِّ "احتمالُ الوحي؛ دون خلق الأصوات، والعلمِ الضروريِّ، وسيذكره المصنِّف؛ حيث يقول: فخلاف المعتاد.

و"قال" الأشعري: قوله تعالى: " {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ [كُلَّهَا]} "[سورة البقرة: الآية، 31] دليلٌ على التَّوقيف، وإذا ثبت في الأسماء، ثبت في الأفعال والحروف؛ لعدم القائل بالفصْل؛ أو لأن المراد بالأسماء العلامات، والأفعال والحروف أسماء؛ بهذا الاعتبار.

"قالوا": يحتمل أن يكون المرادُ من (علَّم): "ألهمه" الاحتياجَ إلى هذه الألفاظ، ووهبه ما به يتمكَّن من الوضع، "أو علَّمه ما سبق" وضعُهُ من اصطلاحِ مَنْ تقدَّمه.

قال القاضي في (التقريب): ويحتمل أيضًا أن يكون غيرُ آدم تواضَعُوا على مثْلِ ما وقَّفه الله عليه، أو يكون علَّمه لغة من اللُّغات مبتدأةً لم ينطقْ بها أحد قبله، أو أنطقه، أو أقدَرَه، أو غيرُ ذلك.

"قلنا": كلُّ هذا "خلاف الظاهر"، فظاهر التعليم أنه أوجد فيه العلم بأن اسم هذا المعنى هذا اللفظُ؛ وإذن: لا يكون التوقّف صوابًا إِلَّا عن القطْعِ، لا عن الظُّهور؛ وهذا ما ذكره ابن دقيقِ العِيدِ.

وقول الإمام الرَّازي: (ليس التعليم إيجاد العلم، بل فعلٌ صالحٌ لترتُب حصول العلم عليه) ضعيفٌ؛ كما ذكرنا في (شرح المنهاج)

(2)

.

(1)

في أ، ج، ح: التوقف.

(2)

قال: وقال الإمام: وليس لأحد أن يقول التعليم الجاد العلم، بل التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه =

ص: 441

قَالُوا: الْحَقَائِق، بدَلِيلِ:{ثُمَّ عَرَضَهُمْ} [سورة البقرة: الآية، 31]؛ قُلْنَا: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ} [سورة البقرة: الآية، 31] يُبَيِّنُ أَنَّ التَّعْلِيمَ لَهَا، وَالضَّمِيرَ لِلْمُسَمَّيَاتِ.

= نعم لك أن تقول: هي ظاهرة في أنه علمه، لكن لم قلتم: إن الوضع منه - تعالى - وجاز أن يكون الوضع من السَّابقين، ولسنا ندعي أن قبل آدم الجِنَّ والبِنَّ؛ فذلك لم يثبت عندنا، بل قال القاضي في (التقريب): جاز تواضعُ الملائكةِ المخلوقةِ قبله.

قال ابن القُشَيري: وقد كانوا قبله يتخاطبون ويفهمون؛ فالإنصافُ أن احتمال الإلهام خلافُ الظَّاهر، واحتمال تعليم ما سبق لا يخالفُ الظَّاهر؛ إذ ليس فيه إثباتُ ما ينفيه اللَّفظ، ولا نفيّ ما يثبته.

الشرح: "قالوا": لعلَّ الَّذي علمه آدمَ "الحقائقُ"؛ مثل: حقيقةُ الخيلِ كذا، والبقرِ كذا، وهي تصلحُ لكذا، وأطلق عليها الأسماء؛ "بدليلِ" قوله تعالى:" {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} [سورة البقرة: الآية، 31] "، ولو كان الضمير للأسماءْ، لقال: عرضها، أو عرضهنَّ.

"قلنا": ليس المقصود الحقائقَ، بل الألفاظَ؛ بدليل قوله تعالى:" {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاء هؤُلَاء} [سورة البقرة: الآية، 31] "؛ فإِنَّه "يُبيِّن أن التعليم" كان "لها" - أي: الأسماء - "والضمير" في عرضهم "للمسمَّيات"، ولا مُنَافاة بينهما.

= حصول العلم، ولذلك يقال: علمته فلم يتعلم، وهذا أيضًا خلاف الظاهر؛ إذ الظاهر من التعليم الإِيجاد الأول للإلهام.

قال بعضهم: وأصل التعليل الإِثبات أثر الثلاثي المشتق، يقال: سودته فتسود، وقول الإمام: يقال: علمته فلم يتعلم، ممنوع.

قلت: وهذا المنع غير منقدح، وقد كان الإمام علاء الدين الباجي يقول: أو لم يصح: علمته فما تعلم لما صح: علمته فتعلم؛ لأنَّهُ إذا كان التعليم يقتضي الجاد العلم وهو علة فيه، فمعلوله وهو التعلم يوجد معه بناء على العلة مع المعلول، والفاء في قولنا: فتعلم تقتضي تعقيب التعلم، وإن قلنا: إن المعلول يتأخر فنقول: لا فائدة في قولنا: فتعلم لأن التعلم قد فهم من قولنا: علمته، فوضح أنه لو لم يصح: علمته فما تعلم لكان؛ أما ألا يصح: علمته فتعلم بناء على أن العلة مع المعلول، أو لا يكون في قولنا: فتعلم فائدة بناء على تأخر المعلول. فإن قلت: أليس أنه يقال: كسرته فما انكسر، فما وجه صحة قولنا مع ذلك: علمته فما تعلم؟

قلت: فرق والدي - أحسن الله إليه - بينهما بأن العلم في القلب من الله يتوقف على أمور من المعلم ومن المتعلم، وكان "علمته" موضوعًا للجزء الذي من المعلم فقط لعدم إمكان فعل من المخلوق يحصل به العلم، ولا بد بخلاف الكسر، فإن أثره لا واسطة بينه وبين الانكسار. وهو جواب دقيق، والإنصاف أن هذه ظاهرة فيما ادعاه الشيخ. ينظر: الإبهاج 1/ 199.

ص: 442

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: {وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ} [سورة الروم: الآية، 22]؛ وَالْمُرَادُ اللُّغَاتُ؛ بِاتِّفَاقٍ.

قلنا: التَّوْقِيفُ وَالْإِقْدَارُ؛ فِي كَوْنِهِ آيَةً - سَوَاءٌ.

الْبَهْشميَّةُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [سورة إبراهيم: الآية، 4]؛ دَلَّ عَلَى سَبْقِ اللُّغَاتِ، وإِلَّا، لَزِمَ الدَّوْرُ؛ قُلْنَا: إِذَا كَانَ آدَمُ عليه السلام هُوَ الَّذِي عَلَّمَهَا، انْدَفَعَ الدَّوْرُ؛ .............................................................

الشرح: "واستدلَّ" على التوقيف أيضًا؛ "بقوله" تعالَى: " {وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ} [سورة الروم: الآية، 22] والمرادُ" بالألسنة "اللغاتُ؛ باتِّفاقٍ"؛ إطلاقًا للسبب على المسبَّب، دون الجَارِحَةِ

(1)

؛ إذ ليست هي المراد؛ بالاتفاق.

"قلنا: التوقيفُ والإقدار" على وضع اللُّغات؛ "في كونه

(2)

آيةً - سواءٌ"؛ وكما يطلق اللسان على اللغات مجازًا، يطلق على القدرة كذلك، فليس الحمل على اللغات بأولى من الحمل على القدرة.

ولقائل أن يقول: مجازُ المستدِلِّ أولى؛ لأنَّهُ أقل إضمارًا.

نعم لِلْخَصْمِ أن يقول: سلمنا أن المراد اختلاف اللغات؛ ولكن لم قلتم: إن ذلك إنما يكون آية بالتوقيف، بل هو آيةٌ، وإن كان العبد هو الواضع؛ إذ أفعاله مخلوقة لله تعالَى.

الشرح: واستدلَّ "البهشميةُ" على الاصطِلَاحِ؛ بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [سورة إبراهيم: الآية، 4]"؛ فإنه "دلَّ

(3)

على سبق اللّغات" للرسالة؛ فكانت

(4)

، اصطلاحية، "وإلا، لزم الدَّوْر"؛ لكونها توقيفية عند انتفاء الاصطلاح؛ فيلزم تأخرها عن الرِّسالة المتأخِّرة عنها؛ وهو محالٌ؛ لاستلزامه تقدَّم كل منهما على الآخَر

(5)

.

"قلنا: إذا كان آدم عليه السلام هو الذي علَّمها" غيرَهُ بتعليمِ الله إيَّاه - "اندفع الدَّور"؛ لأن لآدم حالتين: حالة النبوة، وهي الأولَى، وفيها الوَحْيُ الذي من جملته تعليمُ اللغات؛ وعلَّمها الخلْقَ [إذ ذاك، ثم بُعِثَ بعد أن عَلِمَها قومُهُ؛ فلم يكن مبعوثًا لهم إلا بعد عِلْمِهِمُ اللغات، فبعث

(1)

في ت: الخارجة، وهو تحريف.

(2)

قوله: "في كونه آية" إشارة لأول الآية "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم".

(3)

في ت: يدل.

(4)

في ت: وكانت.

(5)

في أ، ج: على نفسه.

ص: 443

وَأَمَّا جَوَازُ أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيفُ بِخَلْقِ الْأَصْوَاتِ أَوْ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ - فَخِلَافُ الْمُعْتَادِ.

الْأُسْتَاذُ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَوْقِيفِيًّا، لَزِمَ الدَّوْر، لِتَوَقُّفِهِ عَلَى اصْطِلَاحٍ سَابِقٍ؛ قُلْنَا: يُعْرَفُ بِالتَّرْدِيدِ وَالْقَرَائِنِ؛ كَالْأَطْفَالِ.

بلسانهم]

(1)

؛ وحاصلها: أن نُبُوَّته متقدمة على رسالته، والتعلُّم متوسط، وهذا وجهُ اندفاع الدَّوْر.

"وأما" ما قد يقال في دفعه؛ من "جواز أن يكون التوقيف بخلق الأصوات، أو بعلمٍ ضروريٍّ"؛ فينا، لا بالتَّفهيم

(2)

بالخِطَابِ - "فخلافُ المعتاد"؛ إذ المعتاد التفهُّم بالخطاب.

الشرح: وقال "الأستاذ"؛ محتجًّا لمذهبه: "إن لم يكن" القدرُ "المحتاجُ إليه" في التعريف وقع "توقيفيًا - لزم الدور؛ لتوقفه على اصطلاح سابق" يعرف به؛ أن اللفظ موضوع للمعنى، فلو استفيدتْ تلك الألفاظ التي يراد أن يعرف بها الاصطلاحُ من الواضع - لزم التوقيف.

"قلنا": لا نسلِّم توقفه على اصطلاح سابق، لو لم يكن توقيفيًا؛ لجواز أن "يعرف" ما في الضَّمير "بالترديد والقَرَائن؛ كالأطفال".

واعلم أن للمسألة مَقَامَيْنِ:

أحدهما: الجوازُ؛ فمن قائل: لا يجوز أن تكون اللُّغة إلا توقيفًا.

ومن قائل: لا يجوز أن تكون [إلا]

(3)

اصطلاحًا.

والثاني: أن ما الذي وقع؛ على تقدير جواز كل من الأمرين.

والقول بتجويز كل من الأمرين هو رأي المحقِّقين، ولم أرَ من صرَّح عن الأشعري بخلافه.

والذي أراه أن الشيخ إنما تكلَّم في الوقوع، وأنه يجوِّز صدور اللُّغَةُ اصطلاحًا، ولو منعَ الجواز، لنقله عنه القَاضِي وغيره من محقِّقي كلامه، ولم أرهم نقلوه عنه، بل لم يذكر القاضي، وإمام الحرمَيْن، وابن القُشَيْري الشيخ في مسألة مبدأ اللغات ألبتة.

وذكر إمام الحرمين الاختلاف في الجواز، ثم قال: إن الوقوع لم يثبت، وتبعه ابن القُشيري وغيره.

"فائدة"

الصحيح عندي؛ أنه لا فائدة لهذه المسألة، وهو ما صحَّحه ابن الأَنْباري

(4)

وغيره؛ ولذلك

(1)

سقط في ت.

(2)

في ب، ت، ج: بالتفهيم.

(3)

سقط في ح.

(4)

محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الأنباري. ولد سنة 271 هـ ب "الأنبار" - على الفرات، =

ص: 444

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قيل: ذكرها في الأصولِ فُضولٌ.

وقيل: فائدتها النَّظَرُ في جواز قَلْبِ اللغة؛ فحُكِيَ عن بعض القائلين بالتوقيفِ منع القَلبِ مطلقًا؛ فلا يجوز تسمية الفرسِ ثوبًا، والثوبِ فرسًا، وعن القائليِن بالاصطلاحَ تجويزُهُ.

وأما المتوقِّفون، قال المازِرِيُّ: فاختلفتْ إشارة المتأخِّرين؛ فذهب الأزدي إلى التجويز؛ كمذهب قائل الاصطلاح.

وأشار أبو القاسم عبد الجليل الصَّابونيُّ؛ إلى المنع، وجوَّز كون التوقيف واردًا على أنه وجب ألّا يقع النطق إلا بهذه الألفاظ.

قلت: وعلى الخلاف بنَى بعضهم مسألة: إذا عَقدَ صَداقًا في السِّرِّ، وصداقًا في العلانية، ويلتحقُ به ما إذا استعمل لفظ شركةِ

(1)

المفاوضةِ

(2)

، وأراد شركة العنانِ

(3)

، وقد نص الشَّافعي

= كان عن أعلم أهل زمانه بالأدب واللغة، وأكثرهم حفظًا للشعر والأخبار. قيل: كان يحفظ ثلاثما ألف شاهد في القرآن. وكان يعلم أولاد الخليفة "الراضي". صنف كتبًا عدة منها: "الزاهر"، في اللغة، و"شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات"، و"غريب الحديث". ينظر: تاريخ بغداد 3/ 181، ووفيات الأعيان 1/ 503، وتذكرة الحفاظ 3/ 57.

(1)

الشركة لغة: قال ابن القطاع: يقال: شَرِكْتُكَ في الأمر اشْرَكُكَ شرْكًا وشرْكةً، وحكي: بوزن نعمة وسرقة، وحكي مكي لغة ثالثة: شَرْكَة بوزن تمرة، وحكى ابن سيده: شركته في الأمر وأشركته. وقال الجوهري: وشَرَكْتُ فلانًا: صرت شريكه، واشْتَركْنا، وتَشارَكْنا في كذا؛ أي: صرنا فيه شركاء. والشِّرك بوزن العلم: الإشراك، والنصيب. ينظر: الصحاح 4/ 159 ومعجم مقاييس اللغة 3/ 265، المصباح المنير 1/ 47 والنهاية في غريب الحديث 2/ 466.

اصطلاحًا:

عرفها الحنفية بأنها: عبارة عن اختلاط النصيبين فصاعدًا بحيث لا يعرف أحد النصيبين من الآخر.

وعرفها الشافعية بأنها: هي ثبوت الحق في شيء لاثنين فأكثر على جهة الشيوع.

وعرفها المالكية بأنها: إذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في التصرف في ماله أو ببدنه لهما.

وعرفها الحنابلة بأنها:. نوعان: اجتماع في استحقاق أو في تصرف، والنوع الأول: شركة في المال، والنوع الثاني: شركة عقود. بنظر: تبيين الحقائق 3/ 313، وشرح فتح القدير 6/ 152، وحاشية ابن عابدين 3/ 332، والمبسوط 11/ 151، ومغني المحتاج 2/ 211، ومواهب الجليل 7/ 115، والكافي 2/ 780، وكشاف القناعِ 3/ 496، والمغني 5/ 1.

(2)

قال ابن قتيبة: سُمِّيت بذلِكَ من قولهم: تَفَاوَضَ الرَّجُلانِ في الحَدِيث: إذا شَرَعَا فيه جَميعًا. وقيل: من قولهم: قومٌ فَوْضَى أي مُسْتَوُون. ينظر: تحرير التنبيه 229، 230.

(3)

بكسر العين، قال الفراء وابن قتيبة وغيرهما: هي مشتقة من قولك: عَنّ الشيء يَعِنّ ويَعُنّ: إذا =

ص: 445

الرَّابعُ: طَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا: التَّوَاتُرُ فِيمَا لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ؛ كَالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ؛ وَالآحَادُ فِي غَيْرِهِ.

فيها على الجواز.

والحق عندي - وإليه يشير كلام المازري -: أنه لا تعلُّق لهذا بالأصل السابق؛ فإن التوقيف؛ لو تم، ليس فيه حَجْر علينا؛ حتَّى لا ننطق

(1)

بِسِوَاه، فإن فُرِض حَجْرٌ، فهو أمر خارجي، والفرعُ حكمه حكم الأشياء قبل ورود الشَّرائع؛ فإنَّا لا نعرف في الشرع ما يدلُّ عليه.

وما ذكره الصَّابُوني من الاحتمال مدفوعٌ.

قال المَازِرِيُّ: وقد علم أن الفقهاء المحقِّقين لا يحرِّمون الشَّيء بمجرّد احتمال ورود الشَّرع بتحريمه، وإنما يحرِّمونه عند انتهاض دَليلِ تحريمه.

قال: وإن استند

(2)

في التحريم إلى الاحتياط، فهو

(3)

نظر في المسألة من جهة أخرى.

وهذا كله فيما لا يؤدِّي قَلْبُهُ إلى فساد النِّظَام، وتغييرهُ إلى اختلاط الأحكام، فإن أدى إلى ذلك، قال المَازِرِيُّ: فلا يختلف في تحريمِ قَلْبِهِ

(4)

، لا لأجل نفسه؛ بل لأجل ما يؤدي إليه.

الشرح: "طريق معرفتها" - أي. معرفةِ اللُّغَةُ

(5)

- "التَّوَاتُرُ فيما لا يقبلُ التَّشْكيك؛ كالأرض والسَّماء، والحر والبَرْد"؛ فتعرف به؛ "و "بـ"الآحاد في غيره"؛ وهو ما يقبل التَّشْكِيك.

= عَرض، كأنه عَنَّ لهما: أي عرض هذا المال فاشتركا فيه.

قال الأَزهري 1/ 109. سُمِّيَت بذلك لأَنَّ كلَّ واحدٍ عانَ صاحِبَه، أَي: عارضَه بمالٍ مثلِ ماله، وعملٍ مثل عمله. يقال: عارضتُه أُعارِضُه معارضةً، وعانَيْتُه مُعانةً وعِنانًا: إذا عملتَ مثلَ عمله.

ينظر: تحرير التنبيه 229.

(1)

في أ، ح: ينطق.

(2)

في ت: استبد.

(3)

في أ، ج، ح: وهو.

(4)

في ح: قلته.

(5)

اعلم أنه لا مجال العقل في معرفة الموضوعات اللغوية على الاستقلال؛ لأن الأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها بل يكون الطريق إلى معرفتها النقل، وهو إما متواتر، وهو في اللغات التي لا تقبل التشكيك كالأرض والسماء، والحر والبرد، ونحوها في عدم قبول التشكيك، وإما آحاد، وهي في اللغات التي تقبل التشكيك، ولغات القرآن والأحاديث أكثرها من القسم الأول.

ص: 446

‌مَبَاحِثُ الْأَحْكَامِ

الْأَحْكَامُ: لَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِأَنَّ الْفِعْلَ حَسَنٌ أَوْ قَبِيحٌ؛ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُطْلَقُ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ إِضَافِيَّةٍ: لِمُوَافَقَةِ الْغَرَضِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَلمَا أُمِرْنَا بِالثَّنَاء عَلَيْهِ ...........

الشرح: "الأحكام": تستدعى حاكمًا، ومحكومًا به، وعليه؛ فليقع الافتتاحُ بالنَّظر في الحكم:

قال أئمتنا: "لا يحكمُ العَقْلُ؛ بأن الفعل حسن أو قبيح؛ في حكم الله تعالى".

وقوله: (في حكم الله) قيدٌ يخرجُ به حكمُ العَقْل؛ بأن هذا حسنٌ، أو قبيحٌ؛ بمعنى ملاءمة الطبع ومُنافرته، وجمالِ الصورةِ وقُبْحها، وصفةِ الكمالِ والنقصِ؛ فإن ذلك عقلي؛ بلا خلاف.

وإضافة الحكم إلى الله قيدٌ يظهر في بادئِ الرَّأي؛ أنه غير محتاج إليه.

وعندي أن ذكره تبعًا لإمام الحرمين؛ حيثُ قال: لسنا ننكر أن العقول تقضي من أربابها باجتناب المهالك، وابتدار المَنَافع الممكنة؛ على تفاضل

(1)

فيها، وجَحْدُ هذا خروجٌ عن المعقول، ولكن الكلام فيه يحسنُ ويقبحُ في حكم الله تعالَى. انتهى.

والسّر فيه عندي أن الخَصْمَ لا ينكر أن الله - تعالى - حاكمٌ، ولكنه يقول: العقل يحكم، والشَّرع يَعْضُدُه، ولا يخرجُ عن قضيته؛ فهو حاكم بهذا الاعتبار.

"ويطلق"

(2)

الحسن والقبح

(3)

"لثلاثة أمورٍ إضافيةٍ: لموافقة الغرض ومُخَالَفَتِهِ"؛

(1)

في ج: تفاصيل.

(2)

سقط في ب.

(3)

يطلق الحسن والقبح على ملائمة الغرض وعدم ملائمته، فما لازم الغرض فهو حسن وما نافره فقبيح. وهو بهذا المعنى قد يعبر عنه بالمصلحة والمفسدة - فيقال: الحسن ما فيه مصلحة، القبيح ما فيه مفسدة، وقد اتفق الجميع على أنهما بهذا المعنى عقليان ويختلفان بالاعتبار - إذ أن قتل الملك الكبير مثلًا مصلحة لأعدائه وموافق لغرضهم

ومفسدةً لأوليائه ومخالف لغرضهم؛ - فدل هذا الاختلاف على أنه أمر إضافة لا صفة حقيقية وإلا لم تختلف؛ لما لا يتصور كون الجسم الواحد أسود وأبيض بالقياس إلى شخصين. قد يقال: إن المراد بالغرض غرض الفاعل كما هو الظاهر، ولا شكَّ أن القتل إذا صدر عن الأعداء كان ملائمًا لغرضهم دائمًا - وإذا صدر عن الأولياء يكون مخالفًا له كذلك، فلم يختلف بالاعتبار فيكون صفة حقيقية لا أمرًا إضافيًا.

فنقول: إن القتل إذا صدر عن شخص فقد يلائمه في وقت دون آخر، وذلك كما إذا تحولت عداوته مثلًا إلى محبة فيختلف الفعل ملائمة ومنافرة بالنسبة إليه. ثم إن إطلاق الحسن والقبح بهذا المعنى =

ص: 447

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اصطلاح عامي مشهور، وهم لا يتحاشون عن تقبيح فعل الله إذا خالف غرضهم، ولذلك يسبُّون الدهر والفلك وهم يعلمون أن الفلك مسخر فقط ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" وكما يطلق الحسن والقبح على ما تقدم يطلق على ملائمة الطبع ومنافرته، فما لائم الطبع فحسن وما نافره فقبيح، وذلك كحسن الحلو وقبح المر. وإطلاق الحسن والقبح بهذا المعنى كإطلاقه على الصور، ولذلك من يميل طبعه إلى صورة يقضي بحسنها، ومن ينفر طبعه عن صورة يقضي بقبحها. وهو بهذا المعنى عقلي أيضًا بالاتفاق ويختلف بالاعتبار؛ لأن كثيرًا من الأشياء تميل إليها بعض الطباع لملائمتها لها، وتنفر منها أخرى، فتكون حسنة عند الأولى وقبيحة عند الثانية، ثم إنه بهذا المعنى يغاير المعنى الأول؛ إذ أن تناول الأدوية المرة حسن بالمعنى الأول لملائمته للغرض وقبيح بالمعنى الثاني لمنافرته للطبع، وتناول الأشربة اللذيذة الطعم الضارة بالجسم أو العقل قبيح بالمعنى الأول حسن بالمعنى الثاني.

ويطلق أيضًا على صفة الكمال والنقص، فالحسن كون الصفة صفة كمال، والقبح كونها صفة نقص، فينال الكرم حسن أعني صفة كمال لمن قامت به، والبخل قبيح أي صفة نقص لمن كانت به، وهذا المعنى ثابت للصفات في نفسها، ولا نزاع في أنه عقلي أيضًا.

وعلى استحقاق المدح في العاجل والثواب في الآجل واستحقاق الذم والعقاب فيها كذلك فالفعل الذي تعلق به الأولان يسمى حسنًا، وما تعلق به الأخيران يسمى قبيحًا، وما لا يتعلق به شيء منهما لا يسمى حسنًا ولا قبيحًا. وهذا الأخير هو محل النزاع، فهو عند الأشاعرة شرعي أي بجعل الله تعالى وخطابه فما أمر به فحسن وما نهى عنه فقبيح، ولو انعكس الأمر فأمر بما نهى عنه أو نهى عما أمر به لانعكس أمر الحسن والقبح، وصار الحسن قبيحًا والقبيح حسنًا.

وإذا جاء النسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة، فليس في ذات الأفعال ولا في صفاتها، ولا في جهاتها ما به يكون استحقاق المدح والذم عاجلًا والثواب والعقاب آجلًا، بل الأفعال كلها سواسية، وكل ذلك بجعل الشارع وخطابه، فالشارع هو الذي جعل الصلاة والصوم مناطًا للثواب، والزنا وشرب الخمر مناطًا للعقاب بدون صلاحية واستحقاق لذلك في ذواتها أو صفاتها أو جهاتها.

وعند المعتزلة وجميع الحنفية - لا فرق بين ماتريدية وغيرهم - عقلي أي لا يتوقف معرفته وأخذه على الشرع أي الدليل السمعي والخطاب اللفظي بل يمكن إدراكه وأخذه من طريق العقل بإدراك ما في الأفعال من المصالح والمفاسد.

فاتفق الجميع على أنه عقلي لكنهم اختلفوا في استلزامه للحكم في العقل، فذهبت المعتزلة إلى أن كلًّا من الحسن والقبح يوجب الحكم من الله تعالى، فلو لم يجيء الشرع بأن لم ترسل الرسل ولم تنزل الكتب، وأوجد الله الأفعال لوجبت الأحكام على حسب ما فصل، وجاءت به الشريعة الحقة. ثم إنهم جعلوا هذا الاستلزام عامًا لا خاصًا بفعل دون آخر ما دام الفعل أدرك جهة المصلحة أو =

ص: 448

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= المفسدة، وعلم الحسن أو القبح، وذهب المتأخرون من الحنفية إلى عدم استلزامهما له في أي فعل بل كل ما هنالك أنهما يجعلان الفعل صالحًا لاستحقاق الحكم من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه، قالوا: لأن ما أدرك العقل حسنه راجح وكذا ما أدرك العقل قبحه، ونقيضها مرجوح. بمعنى أن صفة الحسن إذا فاتت بفعل بسبب ما فيه من مصلحة رجحت جانب الأمر به على جانب الأمر بنقيضه القبيح، وصفة القبح إذا فاتت بفعل بسبب ما فيه من مفسدة رجحت جانب النهي عنه على جانب النهي عن نقيضه الحسن؛ عملًا في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة كمال الله تعالى.

والحاصل أنه لا حكم عند هؤلاء المحققين إلا من خطاب الله اللفظي، فما لم يرسل الله رسولًا وينزل عليه كتابًا فليس هنالك أمر ولا نهي ولا حكم مهما أدرك العقل من المصالح أو المفاسد في الأفعال - وخلاصة مذهبهم أنهم يقولون إنه لا بد أن يكون الفعل المأمور به قبل أن يؤمر به صالحًا للأمر به بأن تكون فيه مصلحة تقتضي حسنه وتجعله صالحًا لأن يكون مناطًا للمدح والثواب على الفعل والذم والعقاب على الترك، ولا بد أن يكون الفعل المنهي عنه قبل أن ينهى عنه صالحًا للنهي عنه بأن يكون فيه مفسدة تقتضي قبحه وجعله صالحًا لأن يكون مناطًا للعقاب على الفعل والثواب على الكف عنه. هذا ما ذهب إليه المتاخرون.

وذهب المتقدمون منهم كالشبخ أبي منصور ومن تبعه - وهم أكثر مشايخ سمرقند - ووافقهم البعض فيما ذهبوا إليه - كالإمام فخر الإسلام وصدر الشريعة - أقول: ذهب هؤلاء إلى موافقة المعتزلة في استلزام إدراك الحسن والقبح الحكم قبل مجيء الشرع. لكن مواققتهم للمعتزلة لا في جميع الأحكام بل في البعض، فقالوا: إن العقل قد يستقل في إدراك بعض أحكامه تعالى، وذلك كوجوب الإيمان وحرمة الكفر.

لم يلق هؤلاء المتقدمون القول على عواهنه فيما ذهوا إليه بل كان لهم عضد في ذلك من كلام إمامهم؛ إذ استندوا في ذلك إلى ما رواه الحاكم في المنتقى عن الإمام الهمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: "لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه" - ولما روي عنه أيضًا إذ قال: لو لم يبعث الله رسولًا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم.

وقد علق صاحب فواتح الرحموت على الرواية الأولى بقوله: لعل المراد بقول الإمام: لا عذر إلخ الرواية أي بعد مضي مدة التأمل؛ فإن التأمل بمنزلة دعوة الرسول في تنبيه القلب، وقد نبه صاحب المسلّم على أن هذا التوجيه للرؤية قد أشار إليه الإمام فخر الإسلام ناقلًا عباراته في ذلك، فقال حيث قال - أعني الإمام -: ومعنى قولنا: أنه يكلف بالعقل يريد به أنه إذا أَعانه بالتجربة مولاه وأمهله لدرك العواقب لم يكن معذورًا وإن لم تبلغه الدعوة على نحو ما قال أبو حنيفة في السفيه إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة لا يمنع منه ماله؛ لأنَّهُ قد استوفى مدة التجربة، فلا بد أن يزداد رشدًا، ثم قال: وليس على الحد في هذا الباب دليلٌ قاطع. =

ص: 449

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال في شرح أصوله: لأن لأن إدراك مدة التأمل في حق تنبيه القلب بمنزلة الدعوة. وقال أيضًا في الشرح: لا عذر له بعد الإمهال لا في ابتداء العقل.

وفرع على هذا التوجيه أن من لم تبلغه الدعوة لو لم يعتقد شيئًا من الكفر والإيمان في ابتداء العقل كان معذورًا، لأنَّهُ لم تمض عليه مدة التأمل - ولو اعتقد الكفر لم يكن معذورًا لأنه اعتقاد جانب يدل دلالة واضحة على أنه ترك الإيمان مع القدرة على تحصيله بالتأمل، وأنه تأمل فاختار الكفر. هذا هو مذهب المتقدمين من الحنفية في تلك المسألة وما استندوا إليه من أقوال إمامهم.

ولنرجع مرة أخرى إلى المتأخرين لتتعرف رأيهم في أقوال إمامهم، وكيف انتحوا ناحية مخالفة لظاهر تصاريحه. فنقول: إن ابن عين الدولة نقل عن المتأخرين رأيهم في رواية (لا عذر) لأبي حنيفة بما حاصله أنها في شأن ما بعد البعثة.

إذ قال: أئمة بخارى الذين شاهدناهم كانوا على القول بعدم وجوب شيء أو تحريم شيء وحكموا بأن المراد من رواية ألا عذر لأحد في الجهل بخالقه إلخ الرواية بعد البعثة. هذا رأيهم بالنسبة إلى تلك الرواية، ولا شكَّ أن هذا الحمل لا يمكن بالنسبة لرواية: لو لم يبعث الله رسولًا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم، بل إن تلك الرواية تكاد تجعل الحما في الرواية الأولى على ما بعد البعثة بعيدًا عما أراده أبو حنيفة منها.

وقد حاول البعض الإجابة عن تلك بما هو جدير بالاعتبار لولا أن ظاهر اللفظ لا يعطيه؛ إذ قال ذلك المجيب: إن المراد بالوجوب في تلك الرواية الوجوب العرفي بمعنى الذي هو أولى. هذا على أنى لا أرى موجبًا لتحمل أجوبة لا تكاد تنفع تبريرًا لما ذهبوا إليه في تلك المسألة؛ إذ ما المانع من مخالفة رأي إمامهم في تلك المسألة إذا كان ذلك ما ذهب إليه ولكننا نعود فنقول: هذا ما وقع منهم.

يفهم مما تقدم أن النزاع في مسألة الحسن والقبح وما جرت إليه من استلزام الحكم وعدم استلزامه يتلخص في أن هناك أربعة مذاهب:

الأول: مذهب الشيخ أبي الحسن ومن تبعه، وحاصله أن الحسن والقبح في الأفعال شرعي، وكذا الحكم.

المذهب الثاني: أنهما عقليان، وهما مناطان لتعلق الحكم من الحكيم، فإذا أدركا في فعل أي فعل كان تعلق الحكم من الله تعالى بذمة العبد بالنسبة إلى ذلك الفعل، وهو مذهب المعتزلة.

الثالث: أنهما عقليان، ومناطان لتعلق الحكم من الله تعالى في ذمة العبد عند إدراكهما في بعض الأفعال دون البعض وهو مذهب أبي منصور ومن نحا نحوه من متقدمي الحنفية إلا أنه لا تجب العقوبة بحسب القبح العقلي كما لا تجب بعد ورود الشرع لاحتمال العفو، بخلاف المعتزلة بناء على وجوب العدل عندهم.

الرابع: أنهما عقليان، وليسا موجبين للحكم ولا كاشفين عن تعلقه بذمة العبد، وهو مختار =

ص: 450

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= المتأخرين منهم، وقد اختاره الكثير من المتأخرين من غيرهم. وليس النزاع في تلك المسألة كما يفهم من كلام الإمام الفخر من أن العقل علة موجبة للحكم عند المعتزلة وعند الأشعرية مهدرة لا اعتبار له - وعند الحنفية لا هذا ولا ذاك بل العقل يوجب أهلية الحكم وتعلق الحكم من العليم الخبير؛ لأن جميع المسلمين مجمعون على أنه لا حاكم إلا الله تعالى. وعلم من التحرير السابق للمذاهب أن جماعة المتأخرين من الحنفية يوافقون الأشاعرة في أنه لا حكم قبل البعثة لأحد من الرسل، ويخالفونهم في وجود صفتي حسن وقبح تابعتين لما في الأفعال من مصلحة أو مفسدة.

ويوافقون المعتزلة في وجود تلك الصفتين - ويخالفونهم في استلزامهما حكمًا في الأفعال من وجوب وحرمة قبل البعثة، فلا يلزم عندهم من كون الفعل مصلحة أو مفسدة وحسنًا أو قبيحًا أن يكون لله فيه حكم قبل البعثة لأحد من الرسل بخلاف المتقدمين منهم فإنهم يوافقون المعتزلة في استلزام ذلك الأحكام في بعض الأفعال. هذا وإذا علمنا أن من عدا الأشاعرة من الحنفية عمومًا والمعتزلة قائلون بوجوب صلاحية الفعل المأمور به للأمر به قبله وصلاحية المنهي عنه للنهي عنه كذلك.

وأن الأشاعرة قائلون بعدم وجوب شيء من ذلك مما تقدم سابقًا - علمنا أن الاختلاف في تلك المسألة مبني على الاختلاف في وجوب مراعاة الحكمة في جميع الأفعال التي تصدر عن الباري جل شأنه. أو بعبارة أخرى: علمنا أنه مبني على أنه هل لا بد في إقدام الفاعل جل شأنه على فعل ما من داع غير القدرة والإرادة يرجح جانب الفعل على جانب الترك أو ليس ذلك بمحتم؟.

فلما قال بالأول المعتزلة والحنفية بنوا على ذلك مسألة التحسين والتقبيح، وقالوا: إن العقل قد يصل إلى إدراك حسن الفعل أو قبحه بإدراك ما فيه من مصلحة أو مفسدة.

وقالت المعتزلة: إن الأحكام يجب أن تكون طبقًا لما أدركه العقل، وبنوا على مسألة التحسين والتقبيح وجوب مراعاة الصلاح والأصلح، ووجوب الثواب والعقاب والعوض عن الآلام إلخ ما قالوا، ولما قالت الأشاعرة بالثاني لما قام عدهم من الأدلة نفوا عقلية الحسن والقبح ورد إشكال انبنى على الخلاف في تلك المسألة أو بعبارة أخرى انبنى على موافقة الحنفية للمعتزلة في العقلية.

وحاصله أنه إذا كان جميع الحنفية والمعتزلة متفقين على التسليم بعقلبة الحسن والقبح صح أن يقال بعدم الفرق بينهما في شيء من تلك المسألة أعني أنه لا يصح أن يقال من قبل الحنفية بعد استلزام ذلك للحكم في الكل أو في البعض. وبيان ذلك أنه إن أريد بالحكم الخطاب - أعني خطاب الله تعالى - فلا خطاب قبل ورود الشرع بالاتفاق، فلا يجيء قول المعتزلة إن الحكم ثابت قبل البعثة تبعًا لما في الأفعال من المصالح والمفاسد، وإن أريد به كون الفعل مناطًا للثواب والعقاب فبعد تسليم الحنفية بعقلية الحسن والقبح لا يتأتى لهم إنكاره مطلقًا بالنسبة لجماعة المتأخرين وفي البعض بالنسبة للماتريدية؛ فلا نزاع بينهما في الحقيقة إلا في اللفظ، فمن قال: يتعلق الحكم بالفعل قبل الشرع - أعني المعتزلة - أراد به المعنى الثاني، ومن نفاه فقد نفاه بالمعنى الأول.

ودفع هذا الإشكال بأن الحكم المختلف فيه بينهما ليس بأحد المعنيين حتى يكون النزاع لفظيًا كما =

ص: 451

وَالذَّمِّ، وَلمَا لا حَرَجَ فِيهِ وَمُقَابلِهِ؛ وَفِعْلُ اللهِ - تَعَالَى - حَسَنٌ بِالاعْتبَارَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ وَالْبَرَاهِمَةُ: الْأَفْعَالُ حَسَنَةٌ وَقَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا ................

نقول

(1)

: هذا حسنٌ؛ لموافقته الغرض، وهذا قبيح؛ لمخالفته؛ فليس ذاتيًّا؛ لتبدله بتبدل الأغراض - "ولمَا أمرنا بالثناء عليه والذَّمِّ"، فالحُسْن بهذا التفسير يتناول الواجبَ والمندوب، دون المباح، والقبيحُ يتناول الحَرَامَ دون المكروهِ والمُبَاحِ.

"ولمَا لا حَرَجَ فيه ومقابِلِهِ"، فالحسن على هذا أعمُّ من الثاني؛ لتناوُلِ المباحِ أيضًا.

"وفعل الله - تعالى - حسنٌ [بالاعْتبَارَيْن] الأخيرين"؛ إذ أمرنا بالثناء عليه، ولا حَرَجَ فيه، وقضيةُ الثالث - أن المكروه حَسَنٌ، إذ لا حَرَجَ في فعله.

والصَّحيح - وبه صرَّح إمام الحرمين في (الشَّامل): أنه خارجٌ عن وصف الحسن والقبح جميعًا.

"وقالت المعتزلة والكرَّامية والبراهمة: الأفعال حسنةٌ وقبيحةٌ لذاتها"

(2)

.

= زعم المستشكل، بل المراد به اشتغال ذمة العبد أعني اعتبار الشارع أن في ذمة العبد الفعل أو الكشف جبرًا. ولا شك أن هذا المعنى غير الخطاب وغير كون الفعل مناطًا للثواب. ينظر: البحر المحيط للزركشي 1/ 43/ 1682، البرهان لإمام الحرمين 1/ 87، سلاسل الذهب للزركشي 97، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 76، التمهيد للإسنوي 61 - 62، غاية السول له 1/ 88، زوائد الأصول له 195، منهاج العقول للبدخشي 1/ 67، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 7، التحصيل من المحصول للأرموي 1/ 175 - 180، المنخول للغزالي 8، المستصفى له 1/ 55، حاشية البناني 1/ 64، الإبهاج لابن السبكي 1/ 61، 138، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 87 - 88، تخريج الفروع 244، حاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 77 - 80، المعتمد لأبي الحسين 2/ 327، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 173، نسمات الأسحار لابن عابدين 45، شرح المنار لابن ملك 35، ميزان الأصول للسمرقندي 1/ 150 - 151، الكوكب المنير للفتوحي 95.

(1)

في ج، ح: يقول.

(2)

قسمت المعتزلة الأفعال بحسب ما فيها من الحسن والقبح أو بعبارة أخرى قسموا الحسن والقبح من حيث إدراكهما إلى ما هو ضروري أي لا يحتاج في إدراكه إلى نظر، وذلك كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى والصدق النافع وقبح الكذب الضار أو الذي لا غرض فيه والكفر وإيلام البريء.

استشكل مستشكل على كون إدراك ما ذكر بضرورة العقل بل على كون الحسن والقبح مما يمكن عقله ولو بالنظر فضلًا عن كونه بالضرورة، وحاصل الإشكال أن الثواب والعقاب في الآجل=

ص: 452

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومنها: ما يتضح

(1)

حكمه، ووجه المصلحة فيه غاية الإيضاح، فيجعلونه معلومًا بالعلم الضروريِّ العقليِّ؛ كإنقاذ الغرقَى من غير ضَرَرٍ يلحق المنقذَ، أو الظلمِ والكذبِ بغير غرض.

ومنها: ما انحطتْ رتبته عن هذا الإيضاحِ؛ حتى احتيج فيه إلى قياسه على الضروريِّ؛ كظلمٍ مقيَّد، أو كذبٍ مقيَّد.

ومنها: ما لا تبلغ العقول كُنْهَ معرفته، ولو بحثت وفكرت وقاست واستنبطت، كَتَفاصِيلِ الشرعياتِ - المأموراتِ والمنهياتِ -، فَالعَقْلُ في هذا يفتقر إلى الشرائع،. وما جاءت به الرسلُ عليهم السلام.

= المأخوذين في مفهومي الحسن والقبح لا يتعقلان إلا بعد تعقل الآخرة، فالحسن والقبح لا يدركان إلا بعد ذلك - وأمر الآخرة سمعي لا يستقل العقل بإدراكه فضلًا عن كون الإدراك ضروريًا فلا يتأتى الحكم بالثواب والعقاب لذلك التوقف، فلا يدرك الحسن والقبح عقلًا فضلًا عن كون الإدراك ضروريًا.

وأجيب عن ذلك من قبل المعتزلة بأن العدل واجب فالمجازاة واجبة تحقيقًا لذلك، ومن المعلوم أنها لا تتم في الدار الدنيا بالمشاهدة؛ لأنا كثيرًا ما نرى المظلوم يموت قبل أن ينصف من ظالمه والظالم يموت قبل أن يقتص منه، فلا بد من دار سوى هذه الدار؛ ليقع فيها الجزاء تحقيقًا لمعنى العدالة، وذلك كاف لأن يحكم العقل بالثواب والعفاب فيها وإن كان خصوص الميعاد الجسماني سمعيًا. وحاصل الاعتراض أن الحسن والقبح يتوقف تعقله على أمر سمعي، وكل ما كان كذلك لا يستقل العقل بإدراكه فضلًا عن أن يكون ضروريًا.

والجواب بمنع صغراه أي لا يتوقف على أمر سمعي بل يتوقف على أمر عقلي، أعني مطلق دار الجزاء، والدليل على أنه عقلي أن الفلاسفة مع إنكارهم للحشر قالوا بوجود دار للجزاء. فذا حاصل رد المعتزلة على هذا الإشكال، وهو بعينه يصلح للرد من جانب الحنفية بعد إغفال مقدمة وجوب العدل.

ولنرجع إلى إتمام التقسيم فنقول: ومنه ما هو نظري، وذلك كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع؛ فإنهما يعرفان بعد التأمل، قالوا: ومنه الأفعال ما لا يدرك حسنها أو قبحها أصلًا أي لا بالضرورة ولا بالنظر بل بالسمع، وذلك كحسن الصلاة والصوم وسائر العبادات وكقبح صوم أول يوم من شوال؛ فإنه لا سبيل للعقل إلى معرفته لكن الشارع لما حكم على هذا الوجه علمنا أن بالأول حسنًا ذاتيًا وبالأخير قبحًا كذلك؛ لما علم من أن الشارع الحكيم لا يصدر عنه فعل إلا وقد لاحظ فيه ما يدعو إليه من مصلحة.

(1)

في أ، ب، ح: ينصلح.

ص: 453

فَالْقدَمَاءُ: مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ، وقوْمٌ بِصِفَةٍ، ..............................

وتبعهم من الحنفية جَمَاعَةٌ

(1)

، ومن أصحابنا الصَّيْرَفي، والقَفَّال الكبير، وأبو بكر الفارسي، والقاضي أبو حامد، وأبو عبد الله الحليمي

(2)

- نقله عنه ابن السَّمْعَاني - وفيه ما سأذكره - إن شاء الله - في مسألة شُكر المُنْعِمِ.

واعلم أن البراهمة ليسوا مُسْلِمِينَ، ولا كلامَ معهم، وإنما الكلامُ مع القدريَّة، ومن تبعهم؛ من الكَرَّامية والخَوارج.

وقد اختلفوا "فالقدماء" من المعتزلة قالوا: بحصول الحُسْنِ والقُبْحِ "من غير صفة" موجبةٍ لهما

(3)

.

(1)

ينظر مراجع صدر المسألة.

(2)

الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم القاضي، أبو عبد الله الحليمي البخاري، ولد سنة 338، قال الحاكم: أوحد الشافعيين بما وراء النهر وأنظرهم وآدبهم، وكان مقدمًا فاضلًا كبيرًا، له مصنفات مفيدة ينقل منها الحافظ والبيهقي كثيرًا، ومن تصانيفه: شعب الإيمان، وهو كتاب جليل فيه مسائل فقهية وغيرها تتعلق بأصول الإيمان، وآيات الساعة، وأحوال القيامة. مات في سنة 403. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 178، والمنتظم 7/ 264، وتذكرة الحفاظ 3/ 1030.

(3)

اختلفوا فيما بينهم في مقتضى الحسن - فذهبت الأوائل منهم إلى أن حسن الأفعال وقبحها لذواتها لا لصفات فيها - تقتضيهما.

وذهب بعض من المتأخرين إلى إثبات صفات حقيقية توجب ذلك مطلقًا في الص سنن والقبح جميعًا، فقالوا: ليس حسن الفعل أو قبحه لذاته كما ذهب إليه من تقدمنا من أصحابنا، بل لما فيه من صفة موجبة لأحدهما. وذهب أبو الحسين من متأخريهم إلى إثبات صفة في القبيح مقتضية لقبحه دون الحسن؛ إذ لا حاجة به إلى صفة محسنة بل يكفيه لحسنه انتفاء الصفة المقبحة.

وقال الجبائي: ليس حسن الأفعال وقبحها بصفات حقيقية بل لوجوه ستبارية وأوصاف إضافية تختلف بحسب الاعتبار، كما في لطم اليتيم تأديبًا وظلمًا.

وأما عند الماتريدية - بل جميع الحنفية - فالحسن والقبح يثبت ليا هو أعم من أن يكون لذاته أو لصفاته أو لوجوه واعتبارات. وعلى ذلك فلا يرد النسخ عليهم؛ لأنه لما جاز أن يحدث الحسن لصفة ووجوه واعتبارات فعند بطلانها يبطل الحسن ويتغير.

وأما المعتزلة - أعني الأوائل منهم - القائلين بأنهما لذات الفعل، فلا يصح عندهم النسخ، أي لا يتأتى قولهم به، ويرد عليهم لعدم صحة بطلان الحسن، وقد يكون من تتمة الفائدة أن نذكر أن هناك من نازع في أن ما ذكرناه سابقًا على أنه محل النزاع هو محل النزاع.

فقال: إن المعتزلة لا ينظرون إلى عاجل ولا آجل. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هم لا يقولون=

ص: 454

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بلزوم الثواب والعقاب للحسن والقبح، وإنما يحكمون بلزوم الرفع الذي منه المدح، وكونه معرضًا للثواب والوضع الذي منه الذم وكونه معرضًا للعقاب للطاعة والمعصية، وذلك من حال الفعل وما اشتمل عليه من مصلحة أو مفسدة.

فالغلط عليهم من جهتين: ذكر الثواب والعقاب وهما من لوازم التكليف لا من لوازم التحسين والتقبيح، والتكليف أخص وذكر العاجل والآجل. ثم إن جميعهم لا يوجبون الثواب والعقاب بعد التكليف بل اختلفوا في ذلك. فالبصرية يوجبون الثواب ويحسنون العقاب ققط، وللباري جل شأنه أن يسقطه عقلًا. والبغدادية يقولون: إن الثواب تفضل أي ليس له جهة وجوب في نفسه وإن وجب لما فيه من الصفات المقتضية لتوفر داعي الحكيم إلى فعله، لأن ما خلف الداعي إليه يتحتم فعله. هذا ما ذهبوا إليه في الثواب، وقد أوجبوا العقاب ولم يجيزوا العفو عقلًا - وقالوا: لأنه لطف للمكلفين وهو واجب عندهم. ثم إن التكليف عند هؤلاء يكفي في حسنه سابقة الإنعام، وأما عند البصرية فالمحسن للتكليف إنما هو لزوم الثواب وحسن العقاب، فمذهب الفريقين في الثواب والعقاب متعاكس، وعلى ذلك فمحل النزاع هو أنه هل للأفعال حقائق فإنفسها هي أهلٌ لأن تراعى وتؤثر على نقائضها وتستتبع الرفع من شأن المتصف بها؟ وحقائق هي في نفسها أهلٌ لأن يعدل عنها وتستتبع الوضع من شأن من اتصف بها أو ليس لها ذلك؟

فبالأول قالت المعتزلة، وبالثاني قالت الأشاعرة. ثم إن النزاع أيضًا في أنه هل أدرك العقل شيئًا من تلك الأمور الثابتة في نفس الأمر أم لا؟

فبالأول قالت المعتزلة، وبالثاني قالت الأشاعرة، وعدم إدراكها عندهم لعدم ثبوتها. لم يذكر هذا البعض ذلك القول مرسلًا بل استشهد فيما ذهب إليه من أن ما ذكروه ليس محلًا للنزاع بما ذكرته المعتزلة في عباراتهم لجدية مما نقل عن كتبهم.

فذكر عبارة أبي الحسين في تحديده، للقبيح، وهو قوله: ما ليس للمتمكن منه ومن العلم بحاله أن يفعله، يعني أن الإقدام عليه لا يلائم عقل العقلاء. فعبارة أبي الحسين لم يتعرض فيها لا للعقاب ولا للعاجل والآجل. وأيضًا فقد ذكروا عبارات في حد القبيح أصرح من ذلك إذ تعرضوا فيها لاستحقاق الذم، ولم يذكروا لا عقابًا ولا عاجلًا وآجلًا. إذ قالوا: إنه فعل يستحق الذم فاعله، وقالوا أيضًا: إنه فعل هو على صفة تؤثر في استحقاق الذم.

هذا ما ذكره البعض في بيان محل النزاع ومناقشته أن نقول: إنه لم يأت بكلام بعيد عما ذكرناه على أنه محل النزاع؛ إذ لم يعنِ باستحقاق العقاب والثواب على الفعل إلا الصلاحية لا لزوم الثواب والعقاب. هذا بعد تسليمنا بأن المعتزلة يقولون بأن الثواب والعقاب من لوازم التكليف لا من لوازم التحسين والتقبيح، على أننا لو سلمنا لهم ذلك، وسلمنا أيضًا - بأنهم لا يتعرضون لعاجلٍ ولا آجل - فهم بعد قولهم بلزوم التكليف للتحسين والتقبيح، فأدلة الأشاعرة قائمة في وجوههم، سواء أكان ما ذكره هو محل النزاع أو ما ما ذكرناه محل النزاع.

ص: 455

وَقَوْمٌ بِصِفَةٍ فِي الْقَبِيحِ، وَالْجُبَّائيَّةُ بِوُجُوهٍ وَاعْتِبَارَاتٍ.

"وقومٌ" منهم قالوا: "بصفةٍ" زائدةٍ عليها.

و"قومٌ" ذهبوا إلى أنها مختصَّة "بصفة في القبيح"، دون الحَسَن.

"والجُبَّائية" - وهم أبو علي وأتباعه - ذهبوا إلى أن الاختصاص بالحُسْن والقبح؛ إنما هو؛ "بوجوهٍ واعتباراتٍ"؛ فَلَطْمَةُ اليتيم حسنةٌ؛ باعتبار التأديب، قبيحةٌ؛ باعتبار الإيلامِ.

فإن قلت: قولهم: الأفعال حسنة وقبيحة لذاتها، مع قولهم: إن حُسْنَهَا وقُبْحَهَا، باعتبار صِفَاتِهَا - مما يتناقض.

= (محاولة التوفيق بين المثبتين والنافين) ولنذكر هنا محاولة لابن تاج الشريعة أراد بها التوفيق بين فريقي النافين والمثبتين؛ إذ قال: إن الأشعري يسلم الحسن والقبح عقلًا بمعنى الكمال.

والنقصان، ولا شك أن كل كمال محمود، وكل نقص مذموم، وأن أصحاب الكمال محمودون لكمالاتهم، وأصحاب النقائص مذمومون بنقائصهم - فإنكاره الحسن والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم الموصوف بهما في غاية التناقض. وإن أنكرهما بمعنى أنه لا يوجد في الفعل شيء يثاب الفاعل أو يعاقب لأجله، فنقول: إن عني أنه لم يجب على الله الإثابة أو العقاب لأجله فنحن نساعده على هذا، وإن عنى أنه لا يكون في معرض ذلك، فهذا بعيد عن الحق. وذلك لأن الثواب والعقاب آجلًا وإن كان لا يستقل العقل بمعرفة كيفيتهما لكن كل من علم أن الله عالم بالكليات والجزئيات فاعل بالاختيار قادر على كل شيء، وعلم أنه غريق نعمة الله في كل لمحة ولحظة ثم مع ذلك كله ينسب من الصفات والأفعال ما يعتقد أنه في غاية القبح والشناعة إلى الله تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، ولم ير بعقله أنه يستحق بذلك مذمة وإنه في معرض سخط عظيم وعذاب أليم، فقد سجل على غباوته ولجاجه إلخ ما قال.

لم ينفرد بالمحاولة وحده فقد حاول مثل ذلك العضد، وهذه محاولة ولا شك نبيلة لولا أنها لم تجد إذ في تلك المحاولة قد ادعوا على الأشاعرة بأنهم يثبتون الوصفين أعنيء الكمال والنقص فما هو من قبيل الأفعال حتى يجيء التناقض ولكن الذي فهمناه من كلام الأشاعرة أنهم يثبتون ذلك فما هو من قبيل الفرائد كالعلم والجهل والصدق والكذب أي كونه شأنه الصدق وكونه شأنه الكذب، لا في مثل صدق وكذب وحصل الصدق وحصل الكذب، وحصل العلم وحصل الجهل. وعلى ذلك فهم سالمون من المناقضة ومقرون على الخلاف، والحاصل أنه قد التبس عليهم ما كان بمعنى الثبوت وما كان بمعنى الحدوث.

إذا علمنا هذا جميعه فنقول: إن كلًّا من الفريقين لم يدع دعوى مجردة. بل عزز ما ذهب إليه بحجج بعضها تحقيقي وبعضها إلزامي متعرضًا لأدلة خصمه بالإبطال. فاحتجت الأشاعرة بأدلة تنفي ذاتية الحسن والقبح أي لثبوتهما للذات أو لصفة لازمة للذات ولا شك أن مثل تلك الحجج صدقت؛ فإنها لا تنهض إلا على المتقدمين من المعتزلة القائلين بأنهما للذات ومن بعدهم ممن قالوا بأنهما =

ص: 456

لَنَا: لَوْ كَانَ ذَاتِيًّا، لَمَا اخْتَلَفَ، وَقَدْ وَجَبَ الْكَذِب، إِذَا كَانَ فِيهِ عِصْمَةُ نَبِيٍّ، وَالْقَتْلُ وَالضَّرْبُ وَغَيْرُهُمَا.

"وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ ذَاتيًّا، لاجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ فِي صِدْقِ مَنْ قَال: لأَكْذِبَنَّ غَدًا - وَكَذِبِهِ.

وَاسْتُدِلَّ: لَوْ كَانَ ذَاتيًّا، لَلَزِمَ قيَامُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى؛ لأَنَّ حُسْنَ ...........

قلت: اقتضاء الذات للحُسْن والقبح هو قولٌ اشتركوا فيه، ثم اقتضاؤها قد يكون بواسطةٍ هي الصفةُ والاعتبارات، وقد لا يكون بِوَاسِطَةٍ.

الشرح: "لنا: لو كان" الحسن والقبح "ذاتيًا" للفعْلِ - "لما اختلف" بصيرورة

(1)

الحَسَن قبيحًا، وبالعكس؛ لامتناع اختلاف الذَّاتيات، "وقد" اختلف؛ إذ "وجب الكذب" عند اشتماله على مصلحة رَاجِحَةٍ؛ كما "إذا كان فيه عِصْمةُ نبِيٍّ، والقَتْلُ واِلضربُ وغيرهما" - كذا بخطّه -، أي: وجب القتل أو الضرب وغيرهما أيضًا؛ إذا كان فيه عصمة نبيّ؛ فلا يكون ذاتيًّا.

الشرح: "وأيضًا: لو كان ذاتيًا، لاجتمع النقيضان"؛ وهما الحسن والقبح الذَّاتيان "في صدق من قال: لأكذبنَّ غدًا - وكذبه"؛ لأنه إن صدق، لزم إيجاد القَبِيحِ، والفعل المستلزمُ للقبيح قبيحٌ، فالصدقُ إذن قبيحٌ، وإن لم يصدقْ، لزم القبيحُ أيضًا، فحصول القبيحِ لازمٌ على التقديرين، ويلزم منه اجْتِمَاع

(2)

الحسن والقبح فيه.

واعترض الأول: بأن الواجب لازمُ الكذبِ والقَتْل والضربِ، وهو خلاصُ النَّبي، دون ما ذكر؛ كما تقول في الصَّلاة في الدَّار المغصوبة: إنها ذات وجهين.

وهو ساقط؛ إذ المصلَّي مأثوم بأفعال الصَّلاة من جهة أنها شَغْلُ مِلْكِ الغَيْرِ، ولم يقل أحدٌ من علماء الشَّريعة؛ بأن الكاذب فيما نحن فيه آثم من جهة أنَّهُ كاذب.

واعترض الثاني: أنه ذو وجهين أيضًا، فيحسُنُ من جهة صدقه، ويقبُحُ من جهة استلزامه الكذب.

الشرح: "واستدلَّ: لو كان ذاتيًّا" لـ"ــــلزم قيامُ المعنى"؛ وهو الحسن والقبح - "بالمعنى"؛ وهو الفعل.

والتَّالي؛ وهو قيام العَرَض بالعَرَض - باطلٌ؛ فكذا المقدِّم.

= لصفة لازمة للذات دون من قالوا بأنهما لوجوه واعتبارت أولما هو أعم من الذات، وهم الجبائية والماتريدية.

(1)

في ب: لصيرورة.

(2)

في أ، ج، ح: إجماع.

ص: 457

الْفِعْلِ زَائِدٌ عَلَى مَفْهُومِهِ؛ وإلّا، لَزِمَ مِنْ تَعَقُّلِ الْفِعْلِ تعَقُّلُهُ؛ وَيَلْزَمُ وُجُودُهُ؛ لأِنَّ نَقِيضَهُ:(لا حُسْنَ)، وَهُوَ سَلْبٌ، وإلَّا، اسْتَلْزَمَ حُصُولُهُ مَحَلًّا مَوْجُودًا، وَلَمْ يَكُنْ ذَاتِيًّا، وَقَدْ وُصِفَ الْفِعْلُ بِهِ؛ فَيَلْزَمُ قِيَامُهُ بِهِ، ........................................................

وإنما قلنا: إنه يلزم ذلك؛ "لأن حسن الفعل زائدٌ على مفهومه؛ وإلا، لزم من تعقل الفعل تعقُّلُه" - أي: تعقُّلُ حسنِهِ - والتَّالي باطل؛ إذ قد يُعْقل الفعل، ولا يخطر بالبال حسنُهُ ولا قبحُهُ.

"ويلزم" مع ثبوت زيادته على الفعل "وجودُهُ" - أي: أن يكون أمرًا وجوديًّا؛ "لأن نقيضه لا حُسْنَ، وهو سَلْبٌ.

وإلا" فلو لم يكن سلبًا، كان ثبوتيًّا، و"استلزم حصوله محلًّا موجودًا"؛ لامتناع قيام الصِّفة الثبوتية بالمعدوم؛ وهو صادق على المَعْدوم؛ إذ نصف

(1)

كثيرًا من المعدومات بأنها غير حَسَنَةٍ؛ فلا يكون ثبوتيًّا.

وإذا كان: لا حُسْنَ، أمرًا سلبيًا - لزم كون نقيضه، وهو الحُسْن - أمرًا ثبوتيًّا.

وأيضًا: إذا لم يصدق عليه أنه ليس بحُسن، صدق أنه حُسْن؛ إذ لا مَخْرَجَ عن النَّفْي والإثبات.

"ولم يكن ذاتيًّا"؛ إذ المعدوم لا يكون له صفةٌ إلا مقدرةً موهومة، وكيف تكون صفةٌ حقيقيةٌ ذاتيةٌ لما لا حقيقة له ولا ذات.

وإذا ثبت أن نقيضه سلبٌ، كان هو وجودًا؛ فقد ثبت أنه زائدٌ وجوديٌ، "وقد وُصِفَ الفعل به؛ فيلزم قيامُهُ به"، أي: قيامُ المعنى بالمعنى، أو قيامُ الحُسْن بالفعل؛ وهو قيام المعنى بالمعنى؛ والدليل على بطلان التالي؛ وهو قيام العرَضِ بالعَرَضِ: أن العرض الذي هو مَحَلُّ العَرَض لا بد، وأن يكون قائمًا بالجَوْهَرِ؛ دفعًا للتَّسَلْسُل، وقيامُ العرض بالجوهر لا معنى له إلا كونُهُ حاصلًا في الحيِّز؛ تبعًا لحصول الجَوْهَرِ فيه، فلو كان العرض قائمًا بالعرض، لزم حصوله في حَيِّزِ العَرَض الذي هو محلُّه؛ تبعًا لحصوله فيه؛ فَهُمَا قائمان بالجوهر؛ وإن كان قيام أحدهما به مشروطًا بقيام الآخر؛ كما في الأعراض المشروطة بالحياة.

وهذا الدليل اعتمده الآمِدِيُّ، وهو مبنيٌّ على امتناع قيام العَرَضِ بالعرض.

والخَصْم يمنعه؛ فإن السرعة والبُطْءَ عَرَضان قائمان بالحركة - وهي عَرَض - وليسا قائمين بالجِسْمِ؛ إذ يقال: جسم بطيء في حركته، ولا يقال: بطيء في جسميّته.

(1)

في أ، ت، ح: يصف.

ص: 458

وَاعْتُرِضَ بإجْرَائِهِ فِي الْمُمْكِنِ؛ وَبِأَنَّ الاسْتِدْلالَ بِصُورَةِ النَّفْي عَلَى الْوُجُودِ دَوْرٌ؛ لأِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ثُبُوتيًّا أَوْ مُنْقَسِمًا؛ فَلا يُفِيدُ ذلِكَ.

وَاسْتُدِلَّ: فِعْلُ الْعَبْدِ غَيْرُ مُخْتَارٍ؛ فَلا يَكُونُ حَسَنًا وَلا قَبِيحًا ...........

وأصحابنا يجيبون عن هذا المَنْع - كون البُطْء صفةً للحركة -؛ ويقولون: إنما هو عبارة عن تخلل السَّكتات؛ وكذلك السرعةُ عبارةٌ عن عدم التَّخلل؛ فيرجع حاصله إلى أن الجسم يسكُنُ في بعض الأحيان، ويتحرّك في بعضها؛ فيكون ذلك صفةً للجسم؛ لا للحركة، ويقولون

(1)

أيضًا: إن ما ذكره الخصوم لا يتأتى على مذهبهم أيضًا؛ لجواز أن تكون طبقاتُ الحركات أنواعًا مختلفة، وليس ثمَّ إلا الحركةُ المخصوصة، وأما السُرعة والبطء، فمن الأمور النِّسْبية؛ ولذلك تكون بطيئةً سَريعة بالنسبة إلى حركة؛ كالإنْسانِ مثلًا، سريعة بالنسبة إلى أخرى؛ كالفَرَس.

"واعتُرِضَ" الدَّليل أيضًا "بإجرائِهِ في المُمْكِنِ"؛ فيقال: إمكانُ الممكنِ زائدٌ على مفهومه، وهو ثبوتي؛ لأنه نقيض:(لا إمكان) العدميِّ، وقد وُصِفَ الفعلُ به؛ فيلزم قيام العَرَض بالعرض.

ولك أن تقول: الإمكان أمر اعتباريٌّ؛ لا وجود له في الخارج.

والخصم لا يمكنه الجوابُ بهذا؛ لأن الحسن والقبح عنده من الصفات الوجودية.

"وبأن الاستدلال بصورة

(2)

النَّفي"، وكونه سلبًا "على الوجود" - أي: وجود المنفى - "دورٌ؛ لأنه" إنما نعلم أن: لا حُسْن، أمر سلبيٌّ؛ إذا علمنا أنه نقيض الحُسْن، وأن الحسن أمرٌ وجوديٌّ؛ فإن نقيض الوجودي سلبي؛ فلو استدللنا على أن الحسن جودي؛ بأن نقيضه سلبي، لزم الدور؛ وهذا لأنه "قد يكون" السلب "ثبوتيًّا"؛ كاللامعدوم، "أو منقسمًا" إلى الوجودي والعدمي، كاللاممكن؛ فإنه ينقسم إلى الواجب - وهو وجوديٌّ -، والممتنعِ - وهو عدميٌّ؛ "فلا يفيد" الاستدلالُ بصورة النّفي "ذلك" المطلوبَ.

ولك دفع الدور؛ بانَّ عِلْمَنا بأن: لا حُسْنَ سلبي - ليس مستندًا إلى أنه نقيضُ الحسن؛ حتى يلزم الدَّوْرُ؛ وإنما هو مستند إلى أنه لو كان ثبوتيًّا، استلزم محلًّا موجودًا.

الشرح: "واستدل" ثانيًا على أن الحسن والقبح ليسا ذاتيين بما تقريره أن تقول

(3)

: "فعلُ العبد غير مختار" - وحينئذٍ يكون إما اضطراريًّا أو اتفاقيًّا - "فلا يكون حسنًا ولا قبيحًا لذاته؛

(1)

في ت زيادة: (إنما هو عبارة) ولا موضع لها.

(2)

في ت: تصوره.

(3)

في أ، ت، ح: يقول.

ص: 459

لِذَاتِهِ؛ إِجْمَاعًا؛ لأِنَّهُ إِنْ كَانَ لازِمًا، فَوَاضِحٌ، فإنْ كَانَ جَائِزًا؛ فإنِ افْتَقَرَ إِلَى مُرَجِّحٍ، عَادَ التَّقْسِيم، وَإلَّا، فَهُوَ اتِّفَاقِيٌّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ فإنَّا نَفْرُقُ بينَ الضَّرُورِية، وَالاخْتيَارِيَّةِ؛ ضرُورَةً؛ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْبَارِي، وَأَلَّا يُوصَفَ بِحُسْنٍ وَلا قُبْحٍ؛ شَرْعًا؛ .............

إجماعًا"، أما عندنا فظاهرٌ، وأما عند الخَصْمِ فلأنه لا يجوز التكليف بالأفعال التي هي غير اختيارية شرعًا، فضلًا عن أن يعلم ذلك بضرورة العقل أو نظره.

وإنما قلنا: إن العبد غير مختار في أفعاله؛ "لأنه إن كان" صدور الفعل عنه "لازمًا، فواضح" لزوم الجَبْرِ، وحصول المطلوب من عدم الاختيار، "وإن كان جائزًا"؛ فإما أن يفتقر

(1)

في ترجيح أحد طرفيه على الآخر إلى مرجح، أو لا؛ "فإن افتقر إلى مرجِّح، عاد التقسيم" المذكور فتقول: - مع ذلك المرجح - إما أن يكون الفعل لازمًا أو جائزًا، ويلزم التسلسل أو الانتهاء إلى مرجح مخلوق لله - تعالى - ولا يتمكن العبد من تركه عند وجوده. فيلزم الاضطرار؛ "وإلا" - أي: وإن لم يفتقر إلى مرجِّح، "فهو اتفاقي" لا يصدر عن اختيار، وقد اعتمد الإمام الرَّازي على هذا الدليل.

"وهو ضعيفٌ" لوجوه:

الأول: العلم ببطلان مدلوله ضرورة؛ "فإنا نفرِّق بين" الأفعال "الضرورية" كحركة المرتعش "والاختيارية" كسائر الحركات الإرادية "ضرورة".

والثاني: أنه "يلزم عليه فعل الباري"، فيلزم ألا يكون مختارًا، وذلك كُفْرٌ.

والثالث: أنه يلزم منه أيضًا "ألا يوصف" الفعل "بحسن ولا قُبْح شرعًا" بغير ما ذكر وهو باطل وفاقًا.

واعلم أن الإلزام الأول أوجه الإلزامات.

وقد يقال عليه: أما التفرقة بين حركة المرتعش وغيره فضرورية، وهي التي جعلت مذهبنا - معاشر الأشاعرة - واسطة بين الجَبْرِ والقَدَرِ.

وأما إبطال هذا الدليل بهذا ففيه نظر؛ لأن مورد التقسيم فعل العبد، وحركة المرتعش ليست من فعله، ولا يقال: حرك المرتعش يده إلا مجازًا، لفقدان الاختيار والداعية.

قولكم: لو كانت أفعالنا اضطرارية لساوت حركاتنا حركات المُرْتَعِشِ.

قلنا: أي المساواة تريدون المساواةَ من جِهَةِ امتناع التَّكليف بها.

(1)

في ت: يقتصر.

ص: 460

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ بِالاخْتيَارِ.

الأول: مسلَّمٌ، فإنها واجبة الوقوع لتمام عِلَّتها

(1)

الصَّادرة من الغير.

والثاني ممنوع؛ لأنها وجبت بالغَيْرِ، ووجوب الشَّيء بشرط غيره لا ينافي إمكانه وقدرة الغير عليه، فلم تكن حركاتنا كحركات المرتعش.

والحاصل: أنا نلتزم الاضطرار، ولا ينتفي للمدح والذم.

وما قيل من الإجماع على انتفاء التكليف بالاضطراري إنما هو في الاضطراري الذي لا مدخل للعبد [فيه]

(2)

ألبتة.

وأما ما يكمل المرجّح فيه بداعية العبد وعزمه فالفعل واجب، ولا ينفي

(3)

هذا الاضطرار الثواب والعقاب.

وأما الثاني فضعيف، لقيام الفرق، فإن فاعلية الباري - تعالى - تتوقَّف على مرجّح من قبله، وهو إرادته القديمة المتعلّقة بالإيجاد في وقت مخصوص، وما ذكرنا من التقسيم غير آتٍ فيه حتى يلزم التسلسل أو الاضطرار أو الاتفاق، ولا يلزم قدم مخلوقاته.

وأما الثالث فساقطٌ؛ لأَن الدليل على المقدمة الثانية في البرهان المذكور إنما هو الاتفاق على أن الاضطراري والاتفاقي لا يصحَّان عقلًا، وهو غير حاصل في الحسن والقبح الشرعيين، ولأَنَّ جماهير القائلين بانهما شرعيان - وإمامهم شيخنا أبو الحسن - قالوا بجواز التكليف بما لا يطاق.

"والتحقيق" في الجواب عن فعل العَبْدِ: "أنه" يجوز صدوره، ولكن "يترجَّح" صدوره "بالاختيار" من العبد.

والحاصل: أن بين القدر والجبر واسطة، وهي: الكَسْب الذي نقول بإثباته، وتحقيقه محال على الكتب الكلامية من كتب أصحابنا. فلا تظنن هذا المكان يتكفّل لك بتقرير الكسب الذي هو أصعب ما عند الأشاعرة.

وإن أبيت إلا التعتق بما يكون في ضميرك عقدًا من معرفة الكسب، فاعلم أن أئمتنا قد أكثروا فيه.

ولي أنا فيه طريقة أراها الصواب فأقتصرُ على ذكرها قائلًا: ثبت لنا قاعدتان: إحداهما: أن

(1)

في ت: عليها.

(2)

سقط في ت.

(3)

في أ، ح: يبقى، وفي ت: ينتفي.

ص: 461

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العبد غير خالق "لأفعال نفسه"

(1)

.

والثانية: أن الله لا يعاقب إلا على ما فعله العبد، والثواب والعقاب واقعان على الجوارح

(2)

، فلزمت الواسطة بين القَدَرِ والجَبْرِ، وساعدنا عليها شاهد في الخارج، وهو التفرقة الضرورية بين حركة المرتعش والمريد، فأثبتنا هذه الواسطة، وسميناها بالكَسْبِ لقوله تعالى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [سورة البقرة: الآية 286] وغير ذلك من الآي والأخبار، فإنْ سُئِلْنا

(3)

عن التعبير عن هذا الكَسْبِ بتعريفٍ جامعٍ مانعٍ قلنا: لا سبيل لنا إلى ذلك والسلام، فرُبَّ ثابتٍ لا تحيط

(4)

به العِبَارَات، ومحسوسٍ لا تكتنفه الإشاراتُ.

ومن أصحابنا من أخذ يحقق الكَسْب فوقع في مُعْضل أرب لا قِبَلَ له به.

والصواب عندنا: أنه أمر لَزِمَ عن حقّ فكان حقًّا، وعضده ما ذكرناه، فعرفناه على الجملة دون التَّفصيلِ.

وما أحسنَ قول علي بن موسى الرضا

(5)

وقد سُئِل: أيكلّف الله العباد بما لا يطيقون؟ قال: هو أعدل من ذلك.

قيل: أفيستطيعون أن يفعلوا

(6)

ما يريدون؟ قال: هم أعجز من ذلك.

وعلى الرضا هو ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمَّد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وهذا الذي قاله عينُ مَذْهبنا فافهمه.

وهو قبل الأشعري وَفَاة بما ينيف على مائة وعشرين سنة، فإنه مات بـ"طوس" سنة ثلاث

(1)

في أ، ج، ح: لأفعاله.

(2)

في ب: الخوارج.

(3)

في ت: سكتنا.

(4)

في أ، ج، ح: يحيط.

(5)

أبو الحسن علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، الملقب بـ"الرضي": ثامن الأئمة الإثني عشر عند الإمامية، ومن أجلاء أهل البيت وفضلائهم. ولد بالمدينة سنة 153 هـ، أحبه المأمون العباسي، فعهد إليه بالخلافة من بعده، وزوجه ابنته، وضرب اسمه على "الدينار"، و"الدرهم"، وغير من أجله الزي الذي هو السواد، فجعله الأخضر، فاضطرب العراق، وثار أهل بغداد، فخلعُوا المأمون، وهو في "طوس" وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، إلا أن المأمون قضى عليهم، وعفا عن عمه. مات الرضي في حياة المأمون سنة 203 هـ. ينظر: الطبري 10/ 251، وابن الأثير 6/ 119، وابن خلكان 1/ 321.

(6)

في أ، ج، ح: تفعلوا.

ص: 462

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومائتين - قبل الشافعي بِسَنَةٍ - والأشعري مات بعد العشرين وثلثمائة.

فإن قلت: وأي برهان قام على إبطال القَدَرِ والجبْر.

قلت: هذا الآن من فمن الكلام، وإدخاله في الأصول فضول، ونحن يشير إلى زبدة القول فيه فنقول: قد تقرّر عند كل ذي لُبّ أن الرب - تعالى - مطالبٌ عباده بأعمالهم في حالهم، ومثيبهم ويعاقبهم عليها في مآلهم، وتبين بالنصوص المترقبة عن درجات التَّأويل أنهم من الوفاء بما كلفوه بسبيل.

وَمَن نظر في كليات الشرائع، وما فيها من الاستحثاث على المكرمات والزواجر عن الموبقات، وما اشتملت عليه من وعد الطائعين بالزُّلْفَى، ووعيد العاصين بسوء المنقلب، وما تضمنه قوله تعالى: تعديتم وعصيتم وأبيتم، وقد أرخيت لكم الطول وفَسَّحت لكم المهل؛ فأرسلت الرسل وأوضحت السُّبل لئلَّا يكون للناس على الله حُجَّةٌ، وأحاط بذلك كله، ثم استراب في أن القول بالجَبْرِ باطل فهو

(1)

مُصَابٌ في عقله، أو ملقى من التقليد في وَهْدَةٍ

(1)

من جهله.

فإن أخذ الجبري يقول: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء: 23].

قيل له: كلمةُ حق أريد بها باطلٌ، نعم يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولكن يتقدس عن الخُلْف ونقيض الصدق، وقد فهمنا

(2)

بضرورات العُقُولِ من الشَّرع المنقول أنه عزت قدرته طالبَ عباده بما أخبر أنهم مُتَمَكِّنُونَ من الوفاء به، فلم يكلفهم إلا على مبلغ الطاقة والوُسْعِ، فقد لاحَ إبطالُ القول بالجَبْرِ.

وأسْفَهُ منه القول بِخَلْقِ الأفعال، فإنَّ فيه مُرُوقًا عما درج عليه الأولون، واقتحام ورطات الضلال، ولزوم حدوث الفعل الواحد بِقَادِرَيْنَ، ومُدَاناة القول بشريك الباري، فلقد أجمع المسلمون قَاطِبةً قبل ظهور البِدَعِ

(3)

والآراء، واجتماع أصحاب الأهواء على أنه لا خالق إلا الله، وفاهوا به كما فاهوا بقولهم: لا إله إلَّا الله، وبمدح الرب سبحانه وتعالى في آي من الكتاب بقوله:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [سورة النحل: الآية 17]. {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [سورة فاطر: الآية 3]. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام: الآية 101]، فلا يشك لبيبٌ أنْ [من]

(4)

وصف نفسه بكونه خالقًا

(1)

في أ، ب، ح: وهو.

(2)

في ب: وهمنا.

(3)

البدعة: هي الأمر المحدث الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون، ولم يكن اقتضاه الدليل الشرعي.

قاله السيد ينظر: قواعد الفقه (204).

(4)

سقط في أ، ج، ح.

ص: 463

وعلى الجُبَّائيّة لَوْ حَسُنَ الْفِعْلُ أَوْ قَبُحَ لِغَيْرِ المطَّلَبِ، لَمْ يَكُنْ تَعَلُّقُ الطَّلَبِ لِنَفْسِهِ؛ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى أَمْرِ زَائِدٍ.

وَأيْضًا: لَوْ حَسُنَ الْفِعْلُ أَوْ قَبُحَ لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَتِهِ، لَمْ يَكُنِ الْبَارِئُ مُخْتارًا فِي الْحُكْمِ؛ لأِنَّ الْحُكْمَ بِالْمَرْجُوحِ عَلَى خِلافِ الْمَعْقُولِ، فَيَلْزَمُ الآخَر، فَلا اخْتيَارَ.

على الحقيقة، فقد أعظم الفِرْيةَ

(1)

على ربِّه، فلقد وضح كالشمس أن الجبري مبطلٌ لدعوة الأنبياء عليهم السلام.

والقدري مثبتٌ لربه شريكًا، وهذه جملة لا يقنع بها الطَّالب للبسط، وفيها رمز إلى خلاصة ما يقوله علماؤنا رضي الله عنهم، وقد تم

(2)

الدَّليل على غير الجُبَّائية.

الشرح: "وعلى الجُبَّائية" أن نقول: "لو حسن الفعل أو قبح بغير الطلب" من الشَّارع

(3)

وكان حسنه، أو قبحه لما زعمتم من الوجوه والاعتبارات أو لذاته، "لم يكن تعلّق" الفعل لنفسه - كذا بخط المصنّف، أي: لم يكن تعلّق "الطلب" بالفعل "لنفس الفعل"، "لتوقفه على أمرٍ زائدٍ" وهي تلك الوجوه والاعتبارات، والتالي باطل فالمقدم مثله.

أمَّا الشرطية؛ فلأن حسنَ الفعل أو قبحه لو كان مستندًا إلى اعتبار ما لكان متوقفًا في حسنه على حصول ذلك الاعتبار، [والباري - تعالى - إنما يأمر بالفعل لأجل الحُسْن فيكون الطلب متوقفًا على ذلك الاعتبار]

(4)

الذي به يحسن

(5)

[الفعل]

(6)

، وأما بطلان التالي، فلأنا نفرض الكلام في فعل تعلَّقَ الطلبُ به.

الشرح: "وأيضًا" الحجَّة على الجميع "لو حسن الفعل، أو قبح لذاته، أو لصفته لم يكن الباري" - تعالى - "مختارًا في الحكم؛ لأن" الحسن راجحٌ على القُبْحِ، والحكيم إنما يأمرُ بالرَّاجح، لأن "الحكم بالمرجوح على خلاف المعقول، فيلزم الآخر" وهو الحسن الرَّاجح، وإذا كان تعلق الأمر بطرف الحسن واجبًا، وطرف القبح ممتنعًا "فلا اختيار"

(7)

:

(1)

في ح: القربة، وهو تحريف.

(2)

في أ، ح: قديم.

(3)

في أ، ت، ح: التنازع.

(4)

سقط في ت.

(5)

في أ، ح: الحسن.

(6)

سقط في أ، ح.

(7)

فالاختيار.

ص: 464

وَمِنَ السَّمْعِ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [سورة الإسراء: الآية 15] لاِسْتِلْزَامِ مَذْهَبِهِمْ خِلافهُ.

قَالُوا: حُسْنُ الصِّدْقِ النَّافِعِ وَالإيمَانِ، وَقُبْحُ المكَذِبِ الضَّارِّ وَالكفْرَانِ - مَعْلومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى عُرْفٍ أَوْ شَرْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. والْجَوَابُ الْمَنْعُ بلْ بِمَا ذُكِرَ.

قَالُوا: إِذَا اسْتَوَيَا فِي الْمَقْصُودِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كُلِّ مِقْدَارٍ، آثَرَ ........

الشرح: "ومن السمع" مما يهدم قاعدةَ الحسنِ والقبح قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [سورة الإسراء: الآية 15].

ولم يقل

(1)

: حتى نركِّب [فيهم]

(2)

، عقولًا، وإنما ورد على الخصوم هذا "لاستلزام مذاهبهم خلافه"، وذلك لأنه - تعالى - نفى التعذيب قبل البعْثَةِ.

والقولُ بأنَّ العقل يقتضي ويستلزم التعذيب وإن لم توجد البعثة، لوجدانه قبلها، والتعذيب عندهم إذا قضى به العَقْل واجب، فلا يتخلف.

ولنا آي أُخَر، سأذكر بعضها في أثناء مسألة شُكْر المنعم.

الشرح: "قالوا": العلمُ بالحسن والقبح ضروريٌّ، إذ "حسن الصدق النافع والإيمان، وقبح الكذب الضَّار، والكُفْران معلوم ضرورة من غير نظر إلى عُرْفٍ أو شرع أو غيرهما"، بدليل أنه حاصل لجميع الأمم، حتى إن منكري الشرائع يعترفون بحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضَّار، ولو كان ذلك مستفادًا من الشرع لما حصل لهم.

"والجواب المنع"، فلا نسلِّم أن ذلك يعلم بضرورة العَقْل، وكيف يستتب

(3)

ادعاء الضرورة، ومن العقلاء من لا يعتقد قُبْحَ ما ذكروه من الأشياء، "بل" إنما يحكم بالحسن والقبح "بما ذكر" من الشَّرْع.

الشرح: "قالوا" الصِّدقُ والكذبُ "إذا استويا في المقصود مع قطع النَّظر عن كل" أمر "مقدر" يقضي بترجيح. أحدهما "آثر العقلُ الصدقَ" على الكذب، وليس ذلك إلَّا لأنه حسن بالعقل.

(1)

في ت: نقل.

(2)

سقط في ت.

(3)

في أ، ح: يتسبب، وفي ت: تستثبت.

ص: 465

الْعَقْلُ الصِّدْقَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تَقْدِيرُ مُسْتَحِيلٍ؛ فَلِذلِكَ يُسْتَبْعَدُ مَنْعُ إِيثَارِ الصِّدْقِ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَلا يَلْزَمُ فِي الْغَائِبِ؛ لِلْقَطْع بِأَنَّهُ لا تقْبُحُ مِنَ اللهِ تَمْكِينُ الْعَبْدِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَقْبُحُ مِنَّا.

قَالُوا: لَوْ كَانَ شَرْعِيًّا، لَزِمَ إِفْحامُ الرُّسُل. فَيَقُولُ: لا أَنْظُرُ فِي مُعْجِزَتِكَ حَتَّى يَجِبَ النَّظَر، وَيُعْكَسَ، أَوْ لا يَجِبُ حَتَّى يَثْبُتَ الشَّرْعُ وَيُعْكَس. وَالْجَوَابُ أَنَّ .......

"وأجيب [بأنه] تقديرٌ مستحيلٌ" وقوعه، فإن الصدق والكذب مُتَنَافيان، ويستحيل تساوي المتنافيين في جميع الصفات، "فلذلك" الفرض المستحيل "يستبعد" في العقل "منع إيثار

(1)

الصدق"، ولا يلزم من استبعاد العقل ذلك على هذا التقدير بعده في نفس الأمر، وإنما يلزم أن لو وقع في نفس الأمر، وهو ممنوع،

"ولو سلم" إمكان التقدير في حقنا "فلا يلزم" مثله "في الغالب

(2)

، للقطعِ بأنَّه لا يقبح

(3)

، من الله تمكين العَبْدِ من المعاصي، ويقبح" ذلك "منا" فلا يُقاس الغائب بالشاهد.

الشرح: "قالوا: لو كان" الحسن والقبح "شرعيًا" لكان وجود النظر شرعيًا، وذلك واضح.

ولو كان كذلك "لزم إفحام الرسل" عليهم السلام أي: انقطاعهم؛ وذلك لأن الرَّسول

(4)

إذا قال للمرء: انظر في معجزتي لتؤمن "فيقول: لا انظر في معجزتك

(5)

حتى يجب النظَرُ" فيها "ويعكس"

(6)

قائلًا: "ولا يجب" عليَّ النظر "حتى يثبت الشرع"، ضرورة توقّف الوجوب على الشرع حينئذ، "ويعكس" قائلًا: ولا يثبت الشرع حتى أنظر، وأنا لا أنظر، ويكون هذا القول حقًّا، ولا سبيل للرسول إلى دفعه وهو حُجَّة عليه، وهو معنى الإفهام.

(1)

في أ: مع إثبات الصدق.

(2)

في ج، ح: الغائب.

(3)

في أ، ح: يصح.

(4)

الرسول في الشرع إنسان بعثه الله تعالى إلى الخلق لتبليغ الأحكام، والنبي أعم منه، وقد ختم بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.

(5)

قال السعد: المعجزة أمر خارق للعادة قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول، وعرفها غبره بأنها أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة، والأمر الخارق يشمل ما كان فعلًا كنبع الماء أو تركًا كعدم إحراق النار لإبراهيم عليه السلام، ومعنى كونه خارقًا للعادة أنه لم يعهد ظهور مثله فهو خارج عن المألوف والمعتاد. ينظر: رسالة التوحيد لصالح شرف ص (63).

(6)

في ب: تعكس.

ص: 466

وُجُوبَهُ عِنْدَهُمْ نَظَرِيٌّ فَيَقُولُ بِعَيْنهِ، عَلَى أَنَّ النَّظَرَ لا يَتَوَقفُ عَلَى وُجُوبِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَالْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ، نَظَرَ أَوْ لَمْ يَنْظُرْ، ثَبَتَ أَوْ لَمْ يثْبُتْ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ ذلِكَ، لَجَازَتِ الْمُعْجِزَةُ مِنَ الْكَاذِبِ، وَلامْتَنَعَ الحكْمُ بِقُبْح نِسْبَةِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ قَبْلَ السَّمْعِ، وَالتَّثْلِيثِ وَأَنْوَاعِ الْكُفْرِ مِنَ الْعَالَمِ

(1)

. وَأُجِيبَ بِأنَّ الأَوَّلَ إِنِ امْتَنَعَ فَلِمَدْرَكٍ آخَرَ، ....................................

"والجواب: أن وجوبه" [وإن استند عندهم إلى العقل، فليس بضروري "عندهم" بل هو "نظري فيقول بعينه": لا أنظر حتى أعرف وجوب النظر، ولا أعرف حتى أنظر، فإذن الشُّبهة

(2)

مشتركة الإلزام، فما كان جوابًا لهم فهو جوابنا.

"وعلى" أنا نقول: "إن النظر" في المعجز "لا يتوقف على وجوبه"]

(3)

، لإمكان أن ينظر العاقلُ قبل تعلّق الوجوب به.

"ولو سلَّم" توقّفه عليه "فالوجوبُ" - وجوبُ النَّظر - إنما هو "بالشَّرع" عندنا، "نظر أولم ينظر، ثبت" عنده الشرع "أو لم يثبت"، فإنه متى ظهرت المُعْجزة فإنفسها وكان صدق النبي فيما ادّعاه [ممكنًا]

(4)

، والمدعو متمكنًا من النظر والمعرفة فقد استقر الشرعُ وثبت، والمدعو مفرط في حق نفسه.

الشرح: "قالوا: لو كان ذلك" - كذا بخطّه - أي: كون الحسن والقبح شرعيين قائمًا في نفس الأمر، ولم يكونا عَقْليين - لحسن من الله كل شيء، ولو حسن منه كل شيء، "لجازت" وحسنت "المعجزة من الكاذب"، وحينئذٍ يقع التباس النَّبي بالمتنبئ، "ولامتنع الحكم بقبح نسبة الكذب على الله - تعالى - قبل ورود السمع" بحرمة الكَذِبِ عليه - كذا بخط المصنف. وفي بعض النُّسخ: نسبة الكذب إلى الله، أي: لا يقبح أن ينسب الكذب إليه قبل السمع ولامتنع الحُكْمُ بقبح عِبَادَةِ الأصنام، "والتَّثْلِيث، وأنواع الكفر من العالم" قبل الشرع.

"وأجيب: بأن الأولَ" أي: المعجزة على يد الكاذب - لا نسلم أن امتناعه لذاته، بل "إن امتنع فلمدرك آخر" غير القبح الذاتي، وهو العادة، ولا يلزم عليه التباس النبي بالمتنبئ، فإن

(1)

ضُبطَ في أصل الخطية بفتح اللام، وسَقَط منها لفظة "بخِلافِهِ" التي شَرَح عليها العَضَد، فَإنها بكَسْر اللَّام على أصله، فليتنبه.

(2)

في أ، ج: المشبهة.

(3)

سقط في ت.

(4)

في ب: متمكنًا، سقط في ح.

ص: 467

وَالثَّاني مُلْتَزَمٌ إِنْ أُرِيدَ [بِهِ] التَّحْرِيمُ الشَّرْعِيُّ.

الالتباس إنما يلزمُ بتقدير الوقوع، ولا يلزمُ من حسن الشيء وقوعه، بل قد يمتنع عادةً.

"والثاني" وهو الكذب، والتَّثْليث إلى آخر ما ذكروه "ملتزم" عدم التحريم فيه "إن أريد بالتحريم التحريم الشرعي"؛ إذ لا تحريم قبل ورود الشرع على أصولنا.

ومنهم من يستثني المعرفة ويقول: لا توجب العقول سواها، فعلى هذا إيراد أنواع الكفر إيراد ما هو من غير محل النزاع.

والحقُّ أن العقول لا توجب شيئًا ألبتة، ومن تُرَّهَات القوم قولهم: لو لم تجب

(1)

المعرفة بالعَقْلِ لجاز ورود الشَّرع بإسقاطها، وهذا من فن الهَذَيَانِ؛ إذ التكليف بالجهل مستحيلٌ، فإنه فرع معرفتك من كلفك

(2)

، وهو تناقض، ثم قد أخبر الله بأنه لا يأمر بالفَحْشَاء، وتأخيره القائلين بالعقول، وخيبتهم

(3)

فما هم واللهِ بأعقل من قدماء الفلاسفة، ولا أكثر رياضةً منهم، وقد وقعوا في الكُفْرِ بركونهم إلى عقولهم، واعتقد كثير منهم خمسة قدماء، وكثير منهم اثنين.

فلينظرِ النَّاظرُ إلى أي شيء صار أمرهم، وانتهت حالهم، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره.

قال علماؤنا: عقول عامَّة الناس مَغْمُورة بِالهَوَى، مَكْفُوفَةٌ عن بلوغ الغاية

(4)

بالميل الطبعي، ولهذا وقع أكثر العقلاء في مهاوى الحَيْرَةِ، ولحقتهم من الدَّهش والتردد

(5)

ما لا غاية وراءه.

قالوا: ودليل هذا أنا لم نجد أحدًا غادره الله وعقله خلي، بل أنزل الكتبَ وأرسل الرسلَ، ولو استقل العقل بشيء لكان بالحري

(6)

إن وجد واحد خلي وعقله من غير أن يدخل تحت رِبْقَةِ أحد من الأنبياء عليهم السلام.

معاذَ اللهِ أن يكون ذلك، فليتق المرءُ ربه، وَلْيَقِ نَفْسَهُ [ولا يدْخِلْ في الدِّين ما ليس منه، وليتبع الوحي النبوي، وليلتمس التأييد الإلهي، ولا يغتر بزخارفَ من القول، وأباطيل من البهت، فإنها خدع الشيطان وتسويلات النفسِ، وخُذْلان من الله - تعالى - يلحق العبد، ولا عقوبةَ من الله أعظم من أن يكل العبد إلى نفسه]

(7)

، ويدعه وحَوْلَهُ وَقُوَّتَه، ويخليه ورأيه وعَقْلَهُ.

(1)

في ح: توجب.

(2)

في ت: كلف.

(3)

في ت: حسنتهم.

(4)

في ب: العناية.

(5)

في ت: الترديد.

(6)

في أ، ت: بالحرأى.

(7)

سقط في ت.

ص: 468

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فوحق الحق ليس معتمدي في ردِّ قاعدة الحسن والقبح على ما ذكره المتأخرون من الوجوه العقلية مما قد ذكر المصنّفُ بعضه، فإن ذا الحجاج بسبيل من المضايقة فيه - على ما يكثر تَعْدَاده من آي إلهية، وأحاديث نبوية تَنْشَرحُ لها الصدور، وتفرج بها مضايق الكروب.

فإن قلت: قد عُلِم مذهب أهل السُّنة في إبطال الحسن والقبح العقليين فما المعنى بالعبارات الواقعة في كلام بعض فقهاء أهل السُنة من تحليل وتحريم بالعقل؟

قلت: قد قدمنا أنه لا ينكر أحدٌ أن العقل مدرك

(1)

، وربما أدرك الحكمَ الشرعي بالقياس، أو أدرك دخول الفرع الخاص تحت القاعدة الكلية، فقيل فيه: عقلي لذلك، لا لأن العقل الحاكم فيه كما تقول

(2)

: الوَتْرُ يُصَلَّى على الراحلة

(3)

، [وما يصلى على الراحلة]

(4)

سُنَّة.

قال: سُنَّة بالعقل، أي: بمعنى إدراك العقل النتيجة، لا جعله الوتر سُنَّةً.

ومن هذا القبيل: أن الشافعي رضي الله عنه أطلق القول في "المختصر" بِتَعْصِيةِ

(5)

الناجش

(6)

، وهو: الذي يزيد في .....................................

(1)

في أ، ح: يدرك.

(2)

في ح: يقول.

(3)

أكثر أهل العلم على جوازها على الراحلة، رُوي ذلك عن: علي، وعبد الله بن عبَّاس - وابن عمر، وهو قول عطاء، وبه قال مالك، والشَّافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال أصحاب الرأي: لا يوترُ على الراحلة، وقال النخعي: كانوا يصلُّون الفريضة والوتر بالأرض.

(4)

سقط في ت.

(5)

في ج، ح: ببغضية.

(6)

والنجش في اصطلاح الفقهاء: هو أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها؛ لينفر من يريد شراءها؛ فيشتريها بأكثر من قيمتها. وهو مأخوذ من: نجش الصيد ينجشه نجشًا إذا استثاره ليصيده ويحكما أن الصائد يحتال على الصيد بعمله هذا ليقتنصه. فالناجش يحتال على المشتري، حتى يشتري السلعة بأكثر مما تستحق. فالفعل يدل لغة وشرعًا على الاحتيال، والمكر، والخداع. ينظر: لسان العرب: 6/ 4353، المصباح المنير:594.

وإصطلاحًا:

عرفه الحنفية بأنه: أن يزبد في الثمن من لا يريد الشراء ليرغب غيره.

وعرفه الشافعية بأنه: أن يزيد في الثمن للسلعة المعروضة للبيع لا لرغبة في شرائها بل يخدع غيره فيشتريها.

وعرفه المالكية بأنه: أن يزيد في السلعة وليس في نفسه شراؤها يريد بذلك أن ينفع البائع ويضر المشتري.=

ص: 469

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثمن

(1)

السِّلعة المعروضة للبيع، وهو غير راغب فيها، ليخدع الناس ويرغبهم فيها، وشرط في تَعْصِيةِ

(2)

من بَاعَ على بَيْعِ أَخيه أن يكون عالمًا بالحديث الوارد فيه.

قال الشَّارحون: إن السبب فيه أن النَّجَشَ خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد، معلوم من الألفاظ العامة، وإن لم يعلم الخبر فيه بخصوصه، والبيع على بيع الأخ إنما عُرِف تحريمه من الخبر الوارد فيه، فلا يعرفه من لا يعرف الخبرَ.

وذكر بعضهم: أن تحريمَ الخِدَاعِ يعرف بالعقلِ، وإن لم يرد فيه شرعٌ.

واعترض الرافعي على هذا بأنه ليس معتقدنا.

وفيه نظر، فإن هذا القائل لم يقل: إن العقل حرم، ولو أراد ذلك لم يقل: يعرف بالعقل. بل كان يقول: العقل يُحرم الخِدَاع، أو ما يؤدي هذا المعنى، وإنما مراده أن العقل يدرك تحريم الخداع من غير زيادةِ في الفِكْرِ والنظر؛ إذ كل نجَش خديعة. وكل خديعة حرام، وينتج عن هذا أن النجشَ حرامٌ - ومراده بقوله:"وإن لم يرد شرع" أي: خبر خاص، لا القول بأنَّ العقل يحسن ويقبح، كما فهمه الرَّافعي.

فإن قلت: فالبيع على بيع الأخ إضرار، وكما يعرف تحريم النَّجش من الألفاظ العامة في تحريم الخِدَاعِ يعلم تحريمه من الأنماظ العامة في تحريم الإضرار.

قلت: كذا اعترض [به]

(3)

الرافعي.

ولقائل أن يقول: لا يؤخذ

(4)

البَيْع على البيع من الألفاظ العامة، وإن أخذ النجش.

والفرق أن النجش لا يجلب للناجش مصلحة؛ لأنه لا غرض له إلا الزيادة في ثَمَنِ

(5)

السلعة لتجلب نفعًا لصاحبها يلزم

(6)

منه الإضرار بالمشتري، وجلب منفعة لشخص بإضرار آخر حرامٌ، واضح من القواعد المقررة في الشرع.

= وعرفه الحنابلة بأنه: أن يزيد في السلعة من لا يريد شرائها ليقتدي به المستلم فيظن أنه لم يزد فيها هذا القدر إلا وهي تساويه فيغتر بذلك. ينظر: الهداية 3/ 53، مجمع الأنهر: 2/ 69، مغني المحتاج 2/ 37، بداية المجتهد: 2/ 167، فتح العزيز 8/ 225، المغنى 4/ 234.

(1)

سقط في ت.

(2)

في ت: بغضية.

(3)

سقط في ح.

(4)

في ت، ح: لا يوجد.

(5)

في ت: أمر.

(6)

في ت: يلزمه.

ص: 470

‌مَسْألتَانِ

عَلَى التَّنَزُّلِ،

الْأُولَى: ...........................................................

وأما البيع على البيع فهو يدعو أخاه إلى فسخ

(1)

البيع ليبيعه

(2)

خيرًا منه بأرخص، ففيه جَلْب منفعةٍ له من حيث ترويج سِلْعَةِ للمشتري من جهة شراء الأجود بأرخص، فهاتان مصلحتان لم تعارضهما إلا مفسدة محتملة ليست متيقنة

(3)

، وذلك لجواز أن البائع الأول يبيع سلعته إذا فسخ البيع من مشترٍ آخر بذلك الثمن أو أزيد، فليس يلزم من تحريم جَلْبِ منفعة واحد يلزم عنها وقوع مفسدة، وهو الواقع في سورة النَّجش - تحريم جلب منفعة اثنين لمجرد ظن ترتب مفسدةٍ [عليها]

(4)

، وهو الواقع في سورة البيع على البيع يدرك تحريمه لما ذكرناه بخلاف النَّجش، أو أنه وإن أدركه فليس كالأول؛ إذ هو فيه متوقّف على مزيد

(5)

فكر ونظر.

"مسألتان"

الشرح: جرت عادة أئمتنا بذكرهما بعد إبطال قاعدةِ الحُسْن والقبح "على" سبيل "التنزل"، وتسليم القاعدة، وأنه لا يلزم من تسليمها صحَّة دعوى الخصوم في هذين الفرعين مع أن الحامل لهم على ارتكاب العظيمة في الدين الذهاب إلى هذه القاعدة إنما هو التوصُّل إلى إثبات ما ادعوه في هذين الفرعين.

وبهذا يظهر لك أن مسألة - شكر المنعم - فرع من فروع مسألة التحسين والتقبيح، ولذلك يُعبر عنها طوائف بلفظ: الفرع

(6)

.

(1)

الفسخ: شرعًا: رفع العقد على وصف كان قبله بلا زيادة ونقصان. ينظر قواعد الفقه (412).

(2)

في ت: ليتيعه.

(3)

في ت: متعينه.

(4)

سقط في ت.

(5)

في ج: دريد.

(6)

لما بطل الحسن والقبح العقلي - لزم منه امتناع وجوب شكر المنعم عقلًا، وامتناع حكم عقلي، وهما قبل ورود الشرع مبنيان على ذلك غير أن عادة الأصوليين جارية بفرض الكلام في هاتين المسألتين؛ إظهارًا لما يختص بكل واحدة من الأشكال والمناقضة؛ أو إظهارًا لسقوط كلام المعتزلة في هاتين المسألتين بعد تسليم الحسن والقبح العقليين على ما هو مذكور في الكتب المشهورة، فلذلك قال:"مسألتان على التنزل" أي على الافتراض أو على التبرك على ما في بعض النسخ اقتضاء للمشايخ.

واعلم أن الشكر عند الخصوم ليس عبارة عن قول القائل: "الحمد لله" أو "الشكر لله" وأمثالهما على ما يسبق إلى الأوهام؛ فإن العقل لا يوجب النطق بلفظ دون آخر، ولا على معرفة الله تعالى على ما يُظَنُّ؛ لأن الشكر هو فرع المعرفة، بل هو عبارة عن صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من السمع=

ص: 471

شُكْرُ الْمُنْعِمِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَقْلًا؛ ................................

وقال إلكيا الهراسي: بل هي نفس مسألة الحسن والقبح؛ إذ المراد بالشكر عندنا - امتثال الأوامر واجتناب النَّواهي

(1)

.

وعندهم ارتكاب المستحسنات، واجتناب المستقبحات قال: ولكنا أفردناها بالذّكر على عادة المتقدمين.

قلت: وحينئذٍ فلا يحسن استعمال لَفْظ: الفرع فيها، ولا لفظ: التنزل

(2)

، وقد عدل المصنّف عن الأول فقال: مسألتان، ولم يقل: فرعان، ووقع في الثاني.

المسألة "الأولى: [شكر]

(3)

المنعم ليس بواجب عقلًا" خلافًا للمعتزلة، وبعض أصحابنا كالصيرفي، وأبي العباس بن سُرَيجٍ

(4)

والقفال الكبير، وابن أبي هريرة، والقاضي أبي حامد، وغيرهم.

وقد اعتذر القاضي في "التقريب"، والأستاذ أبو إسحاق في "أصوله" والشيخ أبو محمد

= والبصر وسائر الجوارح، وكذا التمكن والاقتدار على الكسب والمال إلى ما خلق لأجله وأعطاه لأجله؛ كصرفه النظر إلى مصنوعاته، والسمع إلى تلقي الإنذارات، والذهن إلى فهم معانيها، والحال إلى أسباب البقاء مدة العمر، وعلى هذا القياس، فهذا معنى الشكر حيث جاء في كتابه الكريم، ولهذا وصف الشاكرين بالقلة، والمنعم المشكور هو الله المنعم، والواجب ما يذم تاركه.

ومحل الخلاف أن أصحابنا وأهل السنة يذهبون إلى أن وجوب هذا الشكر مأخوذ من الأنبياء بناء على وجوب متابعتهم بعد ثبوت نبوتهم، ولا يقوم عليه برهان عقلي، والمعتزلة يذهبون إلى أن عليه برهانًا عقليًا حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لو نبهنا على هذه المسألة وهدانا إلى مقدماتها قبل الاعتراف بنبوته أو تنبهنا لها لحكم العقل بوجوبه بناء على البرهان العقلي. ينظر: البحر المحيط للزركشي 1/ 149، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 94، وسلاسل الذهب للزركشي 99، والإحكام من أصول الأحكام للآمدي 1/ 83، ونهاية السول للإسنوي 1/ 263، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 157، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 7، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 184، والمنخول للغزالي 14، والمستصفى له 1/ 61، وحاشية البناني 1/ 60، والإبهاج لابن السبكي 1/ 139، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 97، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 85، وتيشر التحرير لأمير بادشاه 2/ 165، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/ 216. الكوكب المنير للفتوحي 98.

(1)

ينظر المصادر السابقة.

(2)

في ت، ح: التبرك.

(3)

سقط في ح.

(4)

في ج، ح: شريح.

ص: 472

لأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ، لَوَجَبَ لِفَائِدَةٍ، وَإلَّا، كَانَ عَبَثًا، وَهُوَ قَبِيحٌ، وَلا فَائِدَةَ لله تِعَالَى؛ لِتَعَالِيهِ عَنْهَا، وَلا لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لأِنَّهُ مَشَقَّةٌ، وَلا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ، وَلا فِي الآخِرَةِ؛ إِذْ لا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِي ذلِكَ.

قَوْلُهُمْ: الْفَائِدَةُ الْأَمْنُ مِنَ احْتِمَالِ الْعِقَابِ فِي التَّرْكِ، وَذلِكَ لازِمُ الْخُطُورِ - مَرْدُود بِمَنْعِ الْخطُورِ فِي الْأَكْثَرِ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَمُعَارَضٌ بِاحْتِمَالِ الْعِقَابِ عَلَى ..........

الجويني في "شرح الرسالة" عمن وافق المعتزلة من أصحابنا بأنهم لم يكن لهم قدمٌ راسخٌ في الكلام، وربما طالعوا كتب المعتزلة فاستحسنوا هذه العبارة - وهي أن شكر المنعم واجب "عقلًا"، فذهبوا إليها غافلين

(1)

عن تشعّبها عن أصول القدرية.

قال القاضي: مع علمنا بأنهم ما انتحوا مَسَالكهم، وما اتبعوا

(2)

مقاصدهم.

قلت: وهو كلام حَق بالنسبة إلى من عدا القَفَّال الكبير، أما القفالُ فكان إمامًا في الكَلامِ مقدمًا، والذي عندنا أنه لما ذهب إلى هذه المقالة وما أشبهها من قوله: يجب العمل بخبر الواحد عقلًا، وبالقياس عقلًا، ونحو ذلك - كان على الاعتزال، لا بد أن يكون رجع عن ذلك.

واستدلّ على عدم الوجوب بالعَقْلِ، فقال: "لأنه لو وجب لوجب

(3)

لفائدة وإلَّا" فلو وجب لا لفائدة "كان" الوجوب "عبثًا، وهو قبيح"، والعقل الذي عليه تفرع

(4)

يدرؤه.

والقولُ بالوجوب لفائدة أيضًا باطلٌ؛ لأن الفائدةَ، إما راجعة إلى الله أو إلى العبد، "ولا فائدة" في الشكر" [لله تعالى، لتعاليه عنها، ولا للعبد]

(5)

في الدنيا؛ لأنه مشقّة"، إذ هو ارتكاب الواجب واجتناب المحرم، وهو تعب ناجز، "ولا حَظّ للنفس فيه، ولا في الآخرة؛ إذ لا مجالَ للعقل في ذلك" - كذا بخطه - أي: في ثواب الآخرة أو نفعها.

وإما التزامهم القسم الثاني - وهو عود الفَائِدَةِ إلى العَبْد في الدنيا.

الشرح: "قولهم: الفائدة الأمن من احتمال العكاب في الترك" لشكر المنعم، "وذلك" الاحتمال "لازم الخطور" بِبَالِ كُل عاقل يرى نفسه متقلبًا في نعم محسن، ثم لا يشكره؛ فإن مثلَ هذا بالحري أن يخاف عقابَ المنعم على نفسه.

وهو قول "مردود لمنع الخطور" خطور العقاب "في"بال "الأكثر" من الخلق.

"ولو سلم" خطوره لجميع العقلاء، "فمعارض باحتمال العِقَابِ على الشكر"، فإذن احتمال

(1)

في ت: عاقلين.

(2)

في أ، ج، ح: ابتغوا.

(3)

سقط في ت.

(4)

في أ: تفرع عليه.

(5)

سقط في ح.

ص: 473

الشُّكْرِ؛ لأِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ غَيْره، أَوْ لأِنَّهُ كَالاسْتِهْزَاءِ، كَمَنْ شَكَرَ مَلِكًا عَلَى لُقْمَةٍ، بَلِ اللُّقْمَةُ بِالنِّسْبةِ إِلَى المَلِكِ أَكْثر.

العقاب - وإن قام عند عدم الشكر - فهو

(1)

قائم عند وجدانه، إما "لأنه تصرف في ملك غيره" - كذا بخطه - وفي بعض النسخ الغير، بإدخال الألف واللَّام على "غير" - وهو لحنٌ.

وإنما قلنا: تصرف في ملك غيره؛ لأن ما يتصرف فيه العبد من جوارحه، ملك لباريه، والتصرف في ملك غيره بغير إذنه قبيح.

"أو لأنه كالاستهزاء" بالمنعم، فكان الشَّاكر لربه

(2)

"كمن شكر ملكًا على لُقْمة" وقام في المَحَافل

(3)

ينادي بها، فإن العقلاء يعدونه مستهزئًا به، بل اللقمة - وإن حقرت "بالنسبة إلى الملك أكبر" من هذه النعم وإن تعاظمت بالنسبة إلى الله. واستغراق العبد أيامه ولياليه بالشُّكر، أحقر في جنب الله من شكره للملك بتحريك إصبعه.

وعلى مسألة شكر المُنْعِمِ يتخرج

(4)

مسألة من لم تبلغه الدعوة، فعندنا يموت ناجيًا، ولا يقاتل حتى يدعى إلى الإسلام، وهو مضمون بالكَفَّارة

(5)

والدية

(6)

(7)

، ولا يجب .......

(1)

في ب: وهو.

(2)

في ح: لزمه.

(3)

في أ، ح: الجحافل.

(4)

في ج: فيتخرج.

(5)

صفة مبالغة كعلامة. ثم غلب استعمالها اسمًا فيما يستر الذنب ويمحوه، وهذه المادة في اللغة تنبئ عن الستر؛ لأنها مأخوذة من الكفر "بفتح الكاف" ومعناه الستر ومنه سمي الليل كافرًا؛ لأنه يستر الشيء بظلمته، قال الشاعر:

في ليلة كفر النجوم غمامها

وسمي الزارع كافرًا؛ لأنه يستر البذر بالتراب، وسميت الأشياء المصطلح عليها في الشريعة "كفارات" لأنها تستر الذنب وتمحو أثره. وهي في اصطلاح الفقهاء. اسم لأشياء مخصوصة طلبها الشارع عند ارتكاب مخالفات معينة.

وقد عرفها الرحماني من الشافعية فقال: هي مالك أو صوم وجب بسبب، كحلف أو قتل أو ظهار.

وعرفها بعضهم بتعريف آخر فقال: هي مالك أو صوم وجب بسبب من حلف أو قتل أو ظهار أو جماع نهار رمضان عمدًا.

(6)

الدِيَةُ: مصدر وَدَى القاتل المقتول: إذا أعطى وليّه المال الذي هو بدل النفس، ثم قيل لذلك المال: الدِيّة تسمية بالمصدر. ولذا جمعت، وهي مثل عِدة في حذف الفاء. كذا في المغرب. قيل: والتاء في آخرها عوض عن الواو في أولها. ينظر: المغرب 2/ 347، والصحاح 6/ 2521، والقاموس المحيط 4/ 401، والمصباح 2/ 1013، وفتح القدير 10/ 270، ودرر الحكام 2/ 102، وحاشية ابن عابدين 6/ 573، والكافي 2/ 1108، ومغني المحتاج 4/ 53.

(7)

في حاشية ج: على حكم من لم تبلغه الدعوة، أي دية تجب ثلث دية مسلم؛ لأنه غير مسلم.

ص: 474

الثانِيَةُ: لا حُكْمَ فِيمَا لا تقْضِي الْعَقْلُ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلا قُبْح. وَثَالِثها: لَهُمُ الْوَقْفُ عَنِ الْحَظْرِ وَالإبَاحَةِ. وَأَمَّا غَيْرُهَا فَانْقَسَمَ عِنْدَهُمْ إِلَى الْخَمْسَةِ.

القصاص

(1)

على قاتله على الصحيح؛ إذ ليس هو بمسلم.

قال الشَّافعي رضي الله عنه: ولا أعلم أحدًا لم يبلغه هذا، يعني: دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون قوم وراء الترك.

قلت: وهذا إن كان هو في زمن الشَّافعي رضي الله عنه، وأما الآن فما أدري أحدًا إلَّا وقد بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.

الشرح: "الثانية: لاحكمَ للعَقْلِ فيما لا يقضي العَقْلُ فيه بحُسْنٍ ولا قُبْحٍ"

(2)

.

وللمعتزلة مذاهب:

أحدها: القول بالإباحة.

وثانيها: التحريم.

"وثالثها: لهم الوقف عن الحَظْر والإباحة.

وأما غيرها" فما للعقل فيه قضاء بحسن أو قبح، "فانقسم عندهم إلى الخمسة" من واجبٍ، ومَنْدُوبٍ، وحَرَام، ومَكْرُوهٍ، ومُبَاحٍ، بحسب تأدية العقول.

وذكر القاضي: أنه انقسم عندهم إلى أربعة: واجب، كشكر المنعم والعدل، وندب كالتفضل والإحسان، وحرام كالجَهْلِ بالصَّانع وكفر النعمة، ومباح، ولم يذكر المكروه.

واعلم أن الكلام في المسألة في موضعين:

أحدهما: في حكم الأشياء قبل ورود الشراع مطلقًا، سواء ما قضى فيها العقل بشيء عند

(1)

القصاص: بالكسر: القود، قال السيد:"هو أن يفعل بالفاعل الجاني مثل ما فَعَل" قال النسفي: هو القتل بإزاء القتل، وإتلاف الطرف بإزاء إتلاف الطرف. ينظر: المغرب 2/ 182، والصحاح 3/ 1052، والقاموس المحيط 2/ 324، وما بعدها والمصباح المنير 2/ 778، وما بعدها.

(2)

ينظر مباحثه في: البحر المحيط للزركشي 1/ 152، 1383،، البرهان لإمام الحرمين 1/ 99، سلاسل الذهب للزركشي 101، الإحكام للآمدي 1/ 86، التمهيد للإسنوي 109، نهاية السول له 1/ 275، منهاج العقول للبدخشي 1/ 164، التحصيل من المحصول للأرموي 1/ 186، المنخول للغزالي 19، المستصفى له 1/ 63، حاشية البناني 2/ 353، الإبهاج لابن السبكي 1/ 142، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 101، 4/ 192، حاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 92، المعتمد لأبي الحسين 2/ 315، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 681.

ص: 475

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القائلين بقضايا العُقُول، وما لم يقْضِ.

والصحيح عند أصحابنا: أن الحكم مرتفع إذ ذاك، سواء كانت الأفعال ضرورية أم اختيارية، ولا عليك إن أشعرت عبارةُ الإمام الرازي بخلاف هذا، على أن لها محملًا صحيحًا ذكرناه في غير هذا المَكَانِ، وهذا لأن الحكم عندنا عبارة عن الخطاب، فحيث لا خطاب لا حُكْمَ، واستدلُّوا أيضًا بقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [سورة يونس: الآية 59] فمن ادَّعى تحريم شيء، أو تحليله بغير إذنه، فقد افترى عليه.

واعلم أنه ربما عبَّر أصحابُ هذا القول المُخْتَار عن قولهم: بالوَقْفِ، وهي عبارة أكثر المتقدمين، ونقلت عن شيخنا أبي الحسن، وأبي بكر الصَّيرفي، وأبي بكر الفارسي وأبي علي الطبري

(1)

.

ولا تحسبن

(2)

أن المراد به التردد في أن الأمر ما هو؟ وإنما مرادهم به أن الحكم موقوف على ورود السمع مجزوم به قبل وروده، وهذا شأن كل موقوف في الوجود على غيره، فافهمه، وبه صرح القاضي في "التقريب"، وابن السَّمعاني، وغيرهما

(3)

.

وقالت المعتزلة: هذه الأشياء إما أن يقضي فيها العقل بشيء، فيتبع فيها حكمه. وإما ألَّا يقضي ففيها المذاهب المذكورة في الكتاب، وثالثها: لهم لا لنا الوقف.

ومرادهم به فيما أظن التردد، فلم يريدوا بالوَقْفِ ما نريده

(4)

نحن، وقد تابعهم في كل قول من هذه الأقوال بعض فقهائنا ممن لم يعرف عود كلامهم.

والموضع الثاني: تفريعها على الأصل السابق، فيقول: ما لا يقضي العَقْل فيه بشيء فلا يتجه تعريفه على الأصل السَّابق، وهذا واضح لمن تَدَبّرَه؛ فإن الأصل السَّابق إنما هو حيث يقضي العقل، هل يتبع حكمه؟

(1)

أبو علي الحسن بن القاسم الطبري، تفقه ببغداد على أبي علي بن أبي هريرة، ودرس بها بعده، وصنف كتابًا له يسمى الإفصاح، وأيضًا في الأصول والجدل والخلاف، وهو أول من صنف في الخلاف المجرد وكتابه فيه يسمى التحرير. مات سنة 350. ينظر: طبقال ابن قاضي شهبة 1/ 127، النجوم الزاهرة 3/ 328، المنتظم 7/ 4.

(2)

في أ، ج، ح: فلا تحسبن.

(3)

ينظر مراجع صدر المسألة.

(4)

في ت: يريده.

ص: 476

لأنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَحْظُورَةً، .............................................

وإنما الأصحاب قالوا: هب أن ذاك الأصل صحيح، فلم قضيتم حيث لا قضاء للعقل؟ وليس هذا تفريعًا على ذلك الأصل.

وأما ما للعقل فيه قضاء فهم ذهبوا إلى انقسامه حسب

(1)

تأدية العقلِ، وخالفهم أصحابنا.

وعند هذا أقول: لم ترد هذه المسألة على قولك: ما للعقل فيه قضاء اتبع المعتزلة فيه عقولهم، ونحن خالفناهم، وذلك هو عَيْن مسألة التحسين والتقبيح، فكيف يقال: إنه فرع عنه؟ ولعمري كذلك [يقال في مسألة شكر المنعم: الشكر هو اجتناب القبح وارتكاب الحسن، وذلك كما قال إلكيا: هو عين مسألة التحسين والتقبيح]

(2)

.

وقد لاح بهذا أنه لا تفريع لهاتين

(3)

المسألتين على قاعدة الحُسْن والقبح، والسر عدي في إفراد

(4)

الأولى بالذكر - أن أبلغ فقاقع المعتزلة بتشنيعهم بأن شكر المنعم عقلًا، وصاروا يَمُوجُونَ في تشنيعهم

(5)

ومناداتهم علينا بهذا القول فراد أصحابنا تبيين سفاهتهم، وتخصيص هذه المسألة بالذكر، وأنها ممنوعةٌ على قضية أصلهم، كما هي ممنوعة على أصلِ غيرهم.

والسرُّ في إفراد الثانيةِ أن أصحابنا يقولون: معاشر القدرية فيم هذا الطغيان؟! والقول بإضافة الحكم إلى غير الرحمن، والحال حالان قبل الشرع وبعده.

فأما بعده، فالشرع قائم، والمرجع إليه.

وإن

(6)

قيل: فالحسنُ والقبح حقّ؛ إذ هو كاشف لا يخطئ، فلا فائدة في العتو والبغي، وإطلاق القول بأن الحاكم هو العقل، ورب الأرباب ينادي في كتابه:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [سورة يوسف: الآية 40]، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [سورة الإسراء: الآية 15]، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [سورة الزمر: الآية 71]، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [سورة تبارك: الآية 8]، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [سورة النساء: الآية 165] إلى غير ذلك من الآي.

وأما قبله فما ليس للعَقْل فيه قضاء على أصولكم لا يتجه القول فيه بالحَظْر؛

الشرح: "لأنها" أي المنافع - والحالة هذه

(7)

- "لو كانت محظورةً" عند توهّم عقولكم فيها

(1)

في ت: حيث.

(2)

سقط في ب.

(3)

في أ، ت، ح: لها بين.

(4)

في أ: إفرادك.

(5)

في ت: تشعبهم.

(6)

في أ، ج، ح: فأما.

(7)

اعلم أن غرض الأصحاب من التنزل إبطال قول المعتزلة في الأفعال الاختيارية، التي لا يقضى العقل =

ص: 477

وَفَرَضْنَا ضِدَّيْنِ، لَكُلِّفَ بِالْمُحَالِ.

الْأسْتَاذُ: إِذَا مَلَكَ جَوَادٌ بَحْرًا لا يَنْزِف، ........................................

الحظر، وكان فيها فعلان "وفرضنا ضدين" لا ثالثَ لهما كالحَرَكَةِ والسكون "لكلّف بالمُحَال" إن حظرتم جميعها

(1)

، وإن خصصتم بعضها بالحظر دون بعض، فهو ترجيحٌ من غير مرجّح، فقد سقط القولُ بالحظر.

واعلم أن المراد بالضِّدين هنا ما يستحيل خلوّ المحل عنهما، كذا ذكره القاضي وإمام الحرمين، وغيرهما.

لا يقال: مثل هذين الضِّدين من الأفعال الضرورية، والكلام في الاختيارية لأن

(2)

الكلام فيهما جميعًا على حد سواء كما أسلفناه.

قال إمام الحرمين: وإن خصصوا الحَظْر بما يعتقدون الخلو عنه أصلًا، فمرجعهم إلى أن التصرفَ في مِلْكِ الغير بغير إذنه قبيح، وقد مضى من الكلام ما يدرؤه.

الشرح: وقال "الأستاذ" في الرد على الحاظر

(3)

: "إذا ملك جواد بحرًا لا ينزف"، وهو

= فيها بحسن ولا قبح على تقدير ثبوت قاعدة الحسن والقبح العقليين، لا إبطال قولهم في الأفعال الاضطرارية، والأفعال التي يقضى العقل فيها بحسن وقبح، فإنهم اكتفوا في إبطال قولهم في هذين المقامين على ما قيل في إبطال قاعدة الحسن والقبح، فلذلك لم يتعرض المصنف إلا لإبطال المذاهب الثلاثة في الأفعال التي لم يقض العقل فيها بحسن ولا قبح، فبدأ بإبطال مذهب القائلين بالحظر، وتقريره أن الأفعال التي لم يقض العقل فيها بحسن ولا قبح لو كانت محظورة أي محرمة قبل الشرع وفرضنا ضدين لزم التكليف بالمحال، والتالي باطل فالمقدم مثله. بيان الملازمة أن هذه الأفعال لو كانت محرمة لوجب ترك جميعها، فلو فرض في تلك الأفعال ضدان بحيث يمتنع ترك كل منهما كالحركة والسكون، فإنه يمتنع ترك كل واحد منهما، لزم التكليف بالمحال. قاله الأصفهاني في شرح المختصر.

(1)

في ح: جميعًا.

(2)

في ب: كان.

(3)

اعلم أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني قنع في رد مذهب هذه الطائفة - أعني القائلين بالحرمة - بمثال في الشاهد وهو لا يفيد إلا مجرد الاستبعاد، توجيهه أن يقال: إن الجواد إذا ملك بحرًا لا ينزف، أي لا يذهب ماؤه، وأحب مملوكه قطرة منه، فكيف يدرك تحريمها عقلًا، أي لا يتصور منع الجواد المملوك عن تلك القطرة، فكذلك الجواد المطلق جل ثناؤه، المالك لجميع النعم، إذا أحب عبد من عباده الاستلذاذ بنعمة من نعمه التي هي أقل بالنسبة إلى نعمه من تلك القطرة إلى بحر الجواد، فكيف يتصور تحريمها. قاله الأصفهاني في شرح المختصر.

ص: 478

وَأَحَبَّ مَمْلُوكُهُ قَطْرَةً، فَكَيْفَ يُدْرِكُ تَحْرِيمَهَا عَقْلًا.

قَالُوا: تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ. قُلنا: يَنْبَنِي عَلَى السَّمْعِ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَفِيمَنْ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ مَا، وَلَوْ سُلِّمَ، فَمُعَارَضٌ بِالضَّرَر النَّاجِزِ.

مستغنٍ عنه، "وأحب

(1)

مملوكه قطرة"، وهو عطشان لاهِثٌ، "فكيف يدرك تحريمها عقلًا" حتى يقضى به.

وهذا الكلام من الأستاذ واضح في تسفيه رأي الخصوم، وفي أن الكلام في الضروري والاختياري سواء، إذ مثل بالعطشان اللَّاهث.

ولكن قال الإمام: لا حاجة إليه مع وضوح مسلك البُرْهَانِ.

الشرح: "قالوا: تصرّف في ملك الغير" بغير إذنه، فيكون حرامًا.

"قلنا": لا نسلِّم، بل "يبنى على السَّمع"، ولولا ورود السمع لما عرفنا تحريم التصرّف في ملك الغير، وإن كنا قائلين بقاعدة العَقْلِ.

"ولو سلم" أنه مما يدرك تحريمه عقلًا "ففيمن يلحقه ضرر" بالتصرّف في ملكه لا على الإطلاق والله - تعالى - منزّه عن لحاقِ الضرر، فلا يقبح عقلًا التصرف في ملكه.

"ولو سلم" أنه لا يجوز التصرُّف في ملك الغير مطلقًا، سواء كان ممن يلحقه ضرر أم لا. "فمعارض بالضرر النَّاجز"، فإنه لو لم يتصرف، وانتظر الإذن الشرعي لتضرر في الحال بترك اللَّذة العاجلة، والعقل يقضي بالاحتراز من الضَّرر العاجل، فهذا تمام الرد على القائلين بالحظر

(2)

.

(1)

في ج: وأخذ.

(2)

القائلون بالحظر قالوا: إن مباشرة الأفعال المذكورة تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيكون حرامًا كما في الشاهد، أجاب المصنف عنه بأن كون التصرف في ملك الغير حرامًا ينبني على السمع، ولا سمع قبل الشرع، فلا يحكم بكونه حرامًا، ولو سلم أنه علم بالعقل لا بالسمع أن التصرف في ملك الغير حرام ولكن لا نسلم أن التصرف في ملك الغير مطلقًا حرام عقلًا، بل التصرف في ملك من يلحقه ضرر حرام عقلًا أما غيره فلا، كالاستظلال بجدار الغير والاقتباس من نار غيره، ولو سلم أن التصرف في ملك الغير مطلقًا سواء تضرر به أو لم يتضرر حرام عقلًا لأنه يجوز أن يتضرر المتصرف به آجلًا، لكنه معارض بالضرر الناجز أي الحاضر؛ فإن الترك يوجب الضرر في الحال، ودفع الضرر واجب عقلًا، واعتبار الحاضر أولى. قيل في هذه المعارضة نظر؛ لأن صورة الضرر الناجز هي التي يقضي العقل فيها بالقبح، وهي لا تكون محل النزاع، بل النزاع إنما كان في سورة لا يهتدي العقل إلى حسنها وقبحها. أجيب بأن المراد بقوله بالضرر الناجز جواز الضرر الناجز بطريق الاحتمال لا=

ص: 479

وَإنْ أَرَادَ الْمُبِيحُ أَنْ لا حَرَجَ، فَمُسَلَّمٌ وَإنْ أَرَادَ خِطَابَ الشَّارعِ، فَلا شَرْعَ، وَإنْ أَرَادَ حُكْمَ الْعَقْلِ، فَالْفَرْضُ أَنَّهُ لا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ.

قَالُوا: خَلَقَهُ وَخَلَقَ الْمُنْتَفِعَ بِهِ، فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي الإبَاحَةَ. قُلْنَا: مُعَارَضٌ بِأنَهُ مِلْكُ غَيْرِه، وَخَلَقَهُ لِيَصْبِرَ، فَيُثَابُ.

الشرح: "وإن أراد المبيح [أن]

(1)

لا حرج"

(2)

في هذه الأفعال "فمسلم"؛ إذ الحرج إنما يكون بالشرع "وإن أراد خطاب الشرع فلا" نسلِّم؛ إذ لا "شرع".

"وإن أراد حكم العَقْل" بالتخيير "فالفرض أنه لا مجال للعقل فيه"، أي: فيما ليس للعقل فيه قضاء؛ إذ كلامنا فيما لا يحكم العَقْل فيه بحسن ولا قبح.

الشرح: "قالوا: خلقه"، أي: خلق العبد، "وخلق" الشيء "المنتفع به فالحكمةُ تقضي الإباحة"، وإلا لكان خلقه عبثًا، وهو قبيح؛ للضرر، ولم يقل به عاقل.

وإنما قال: المنتفع به، ولم يقل: الرزق؛ لأن الحرام [عندهم]

(3)

ليس برزق، فلو قال: الرزق.

قيل: إنما يكون رزقًا على أصلك بعد إثبات أنه حلالٌ.

"قلنا: معارض بأنه ملك غيره"، فلا يجوز التصرف فيه، "وخلقه" للنفع ولا ينحصر النفع في التناول، بل جاز أن يكون "ليصبر" العبد "فيثاب"، والثواب نفع، فهذا تمامُ الرد على القائلين بالإباحة

(4)

(5)

.

= الجزم بتحقق الضرر الناجز، فحينئذٍ لا يكون خارجًا عن محل النزاع؛ لأن العقل وإن لم يقض فيه بحسن ولا قبح لكن لم يجزم بعدم احتمال الضرر الناجز. قاله الأصفهاني في شرح المختصر.

(1)

سقط في ج.

(2)

لما فرغ من إبطال مذهب الحظر شرع في إبطال مذهب الإباحة، وتقريره أن المبيح إن أراد بكونه مباحًا أن لا حرج في الفعل والترك فمسلم؛ إذ الحرج إنما يحصل من الشرع ولا شرع، وإن أراد بالإباحة خطاب الشارع، وهو الإذن الشرعي في الفعل مع نفي الحرج فلا إباحة قبل الشرع؛ إذ لا شرع، وإن أراد بالإباحة حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك فلا إباحة أيضًا؛ إذ الفرض أنه من الأفعال التي لا مجال للعقل فيها بأن يقضى بكونها حسنة أو قبيحة.

(3)

في ب: عنده.

(4)

في أ: بإباحة.

(5)

القائلون بالإباحة قالوا: إن الله تعالى خلق ما بنتفع به من المطعوم، وخلق المنتفع به مع إمكان ألَّا=

ص: 480

وَإنْ أَرَادِ الْوَاقِفُ أنَّهُ وَقَفَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، فَفَاسِدٌ.

الشرح: "إن أراد الواقفُ أنه وقف لتعارض الأدلة" فلم يدر الحق في أي طرف "ففاسد" لِمَا مر من بطلان الإباحة والتحريم، وإن أراد أن الحكم موقوف على ورود السَّمع ولا حكم في الحال فصحيح - وهو مذهبنا - وهذا ذكره الغَزَالِيُّ، وتبعه الآمدي والمصنف.

وإنما قال ذلك؛ لأن الواقفية منهم أصحابنا، ومنهم المعتزلة، ومراد أصحابنا بالوَقْفِ غير مُرَاد المعتزلة كما عرفت، وهذا كله فيما قبل الشَّرع مما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قُبْح، أما ما له فيه قضاء، فقد عرفت أنهم قسموه إلى الخمسة، ولم يتكلم المصنف عليه، وعند هذا يظهر لك أن ما لا يقضي فيه العقل بشيء لا يكون فرعًا لمسالة الحسن والقبح؛ إذ هي مقصورة

(1)

على ما للعقل [فيه]

(2)

قضاء، وإنما كان يتجه لو تكلموا فيما للعقل فيه قضاء، فكان في الحقيقة ليس فرعًا، بل هو عين المسألة كما ذكرناه.

ولو قيل: إذا كنتم مَعَاشر القَدَرِيَّةَ تتبعون العقول، وفرض مسألتنا أنه لا عقل فبأي

(3)

وجه حكمتم لكان صوابًا قاضيًا على ما أورده من الشّبه العقلية في طرفي الحظر والإباحة بالفساد والتناقض، إذ فرضوا الكلام فيما لا تقضي

(4)

فيه العقول، ثم قضوا واستندوا إلى العقل، وهذا لعمر الله تناقض لائح، وقد أشرنا [إليه]

(5)

آنفًا.

= يخلقهما فالحكمة تقتضي الإباحة، إذ المنع من الانتفاع به لا يناسب الحكيم؛ لأنه إن لم يكن في خلقه فائدة يكون عبثًا، ومستحيل أن نعود الفائدة إلى الخالق لتعاليه عنها، فلا بد وأن تكون للمنتفع به، وليست للإضرار اتفاقًا، فتكون الفائدة الانتفاع وهو إما التلذذ أو الاجتناب مع الميل، أو الاستدلال بالصانع؛ إذ الأصل عدم الغير، ولا يحصل شيء منها إلا بالتناول فيكون التناول مباحًا، أجاب المصنف عنه بمعارضة ومناقضة، أما المعارضة فهي ما استدل به القائلون بالحظر بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيحرم؛ لأن الحكمة تقتضي عدم التصرف في ملك الغير. وأما المناقضة فهي أنا لا نسلم أن الانتفاع لا يحصل بدون التناول؛ لجواز أن يكون خلقه ليصبر المكلف على ترك التناول فيثاب على الصبر، ولقائل أن يقول: المعارضة بدليل القائلين بالحرمة مما ينافي تسليم المصنف الإباحة بمعنى أنه لا حرج فيه.

(1)

في ب، ت، ج: مقصورة.

(2)

سقط في ت.

(3)

في ت: فأي.

(4)

في ت، ح: يقضي.

(5)

سقط في ح.

ص: 481

‌تَعْرِيفُ الْحُكْم الشَّرْعِيّ

(1)

الْحُكْم، قِيلَ: خِطَابُ اللهِ تَعَالَى الْمُتَعَلَّقُ بِأفعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَوَرَدَ ..............

الشرح: "الحكم: قيل" في تعريفه: "خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلفين". والخطاب: توجيه الكلام للأفهام، وبإضافته إلى الله - تعالى - خرج من عداه؛ إذ لا حكم إلا لله.

(1)

تنوعت آراء الأصوليين في حقيقة الحكم الشرعي، فتعددت عباراتهم حول تعريف هذا الحكم، فمنهم المكثر لقيوده، ومنهم المقل، ويرجع سبب اختلافهم في ذلك إلى اختلاف وجهات نظرهم في بعض الأحكام، كالحكم الوضعي، فمنهم من لا يرى أنه حكم شرعي، إنما هو حكم عقلي، ومنهم من يرى أنه مندرج تحت الحكم التكليفي، ومنهم من يرى - وهو الراجح - أنه حكم شرعي مستقل عن الحكم التكليفي. وعلى ذلك فقد تعددت تعريفات الأصوليين حول الحكم الشرعي، منها تعريف حجة الإسلام الغزالي - قدَّس الله سره - بأنه: خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين.

والثاني: وهو لجمهور علماء الأصول من أهل السنة بأنه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا، وهذا التعريف ارتضاه جمهور الأصوليين. والتعريف الثالث وهو للقاضي أبي الخير البيضاوي فقد عرفه بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، وعلى هذا صار فخر الدين الرازي والعلامة الزركشي في البحر وغيرهما. والحكم الشرعي عند الفقهاء وردت تعريفات متعددة للحكم الشرعي عند الفقهاء منها: هو ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة وغيرهما مما هو من صفات فعل المكلف. وقيل: هو ما ثبت بالخطاب اللفظي، وقيل: هو مدلول خطاب الشارع. ولعل أوفى هذه التعريفات وأدقها - وهو المختار عند الحنفية - أن الحكم الشرعي هو: أثر خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء أو التخيير أو الوضع.

وكلمة "أثر" لها ثلاثة معان. الأول: بمعنى العلاقة. الارتباط، والثاني: بمعنى النتيجة، وهو الحاصل من الشيء، والثالث: بمعنى الجزء. ينظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 90، والتمهيد للإسنوي 48، ونهاية السول للإسنوي 1/ 47، وزوائد الأصول له 167، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 41، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 6، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 170، المنخول للغزالي 7، والمستصفى له 1/ 8، وحاشية البناني 1/ 46، والإبهاج لابن السبكي 1/ 43، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 71، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني 127، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 65، والتحرير لابن الهمام 214، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 2/ 181، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/ 220، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 122، والوجيز للكراماستي 29، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 112، وإرشاد الفحول للشوكاني 6، والكوكب المنير للفتوحي 104، التقرير والتحبير لابن أمير. الحاج 2/ 76.

ص: 482

مِثْلُ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات: الآية 96] فَزِيدَ بِالاقْتِضَاء أَوِ التَّخْيِيرِ، فَوَرَدَ كَوْنُ الشَّيْءِ دَلِيلًا وَسَبَبًا وَشَرْطًا، فَزِيدَ: أَوِ الْوَضْعِ، فَاسْتَقَامَ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الاقْتِضَاءِ وَالتَّخْيِيرِ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَقِيلَ: الحكْمُ خِطَابُ الشَّارعِ بِفَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ

وقوله: "المتعلّق بأفعال المكلّفين" يخرج ما ليس كذلك، والمراد. جنس الفعل، والمكلّف واحدًا كان أو أكثر.

فلو قيل: بفعل المكلف، كان أوضح.

قوله: "فورد"، أي: نقضًا على هذا التعريف ما له تعلّق بفعل المكلف، وليس بحكم "ومثل:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات: الآية 96]. فزيد

(1)

بالاقتضاء، أو التخيير".

والاقتضاء: الطلب، فيندرج

(2)

فيه الأربعة، والتخيير: الإباحة.

وإنما زيد هذا؛ لدفع الإيراد المشار إليه، فورد بسبب زيادته ما لم يكن واردًا من قبل، وهو كون الشيء دليلًا - كـ"الدلوك" دليل الصلاة - وسببًا - كـ"البيع" سبب صحة التصرفات - وشرطًا - كـ"الطهارة" للصلاة - فإن كل واحد منها حكم شرعي، ولا اقتضاء فيه ولا تخيير، فزيد "أو الوضع" عند ذكر هذا الإيراد، فاستقام الحد من جهتي الطرد والعكس.

وهذا عند من يرى السؤال واردًا كالمصنّف.

وقيل: بل هو، أي: ما أورد لا يرد؛ لأنه داخل في الحَدّ؛ إذ هو راجعٌ إلى الاقتضاء والتخيير؛ لوجوب الشيء عنده، ومعنى

(3)

سببية الدَّلوك

(4)

وجوب الصلاة عنده، وصحة البيع إباحة التصرف، ومانعية الحدث للصَّلاة راجعة إلى تحريمها.

وهذه طريقة الإمام الرَّازي، وعليها يعتمد.

"وقيل: ليس" واحد من هذه الأشياء "بحكم"، بل علامات الحكم.

"وقيل: الحكم: خطاب الشارع بفائدة شرعية" - قاله الآمدي

(5)

- ولم يرد بالفائدة الشرعية متعلّق الحكم الشرعي، وإلا لزم الدور، وإنما أراد

(6)

- كما ذكر في "الإحكام" - الاحتراز عما

(1)

في ح: تريد.

(2)

في ب: فتندرج.

(3)

في حاشية ج: قوله: ومعنى .. إلخ لا يخص ما فيه.

(4)

في ح: المدلول.

(5)

ينظر الإحكام 1/ 90.

(6)

في حاشية ج: قوله: وإنما أراد

إلخ يعني أنه ليس المراد بالفائدة الشرعية متعلق الحكم الشرعي، بل ما لا يكون حسية ولا عقلية، فلا دور.

ص: 483

تَخْتَصُّ بِهِ، أَيْ: لا تُفْهَمُ إِلَّا مِنْهُ لأَنَّهُ إِنْشَاءٌ فَلا خَارجَ لَهُ.

‌أَقْسَامُهُ

فإنْ كَانَ طَلَبًا لِفِعْل غَيْرِ كَفٍّ، يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ فِي جَمِيعِ وَقْته سَبَبًا ..............

[لا]

(1)

يفيد فائدة شرعية؛ كالإخبار عن المعقولات، والمَحْسُوسَاتِ ونحوها.

وقد أورد عليه أنه صادق على إخبار الشَّارع عن المغيبات، مثل:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} [سورة الروم: الآية 2]؛ إذ هي فائدة غير عقليَّة ولا حسيَّة، وليست حكمًا.

وعندي أنه مندفع؛ لأنه نحو العقلية والحسية، وهو قد احترز "بالشرعية"

(2)

عنهما وعن نحوهما، لا عنهما فقط.

والمصنّف لما رأى هذا الإيراد يستلزم بطلان الحَدّ بإبطال طرده بالأخبار الشرعي قيل: الخطاب يفيد كونه بكون

(3)

يكون معه إنشائيًا؛ لظنّه ورود الإيراد، فقال: "تختص

(4)

به [أي: لا تفهم]

(5)

أي: لا تعرف إلا منه"، فخرج الإخبار الشرعي، فإنه وإن كان خطابًا بفائدة شرعية، لكن قد تفهم تلك الفائدة من غير ذلك الخطاب.

وأما الفائدةُ الشَّرعية التي هي في الحكم، فلا تفهم

(6)

إلَّا من الخطاب؛ "لأنه" - أي: الحكم - "إنشاء فلا خارج له"، وإذا لم يكن له خارج، لم يتأت فهمه إلَّا من الخطاب.

ولك أن تقول: لا حَاجَةَ مع هذا القَيْدِ الذي زاده المصنّف إلى لفظة "شرعية"؛ إذ هو مفصح عن المراد بها فقط كما عرفت - وهو مغن عن ذكرها.

الشرح: إذا عرفت هذا "فإن كان" الحكم "طلبًا

(8)

لفعل غير كَفّ ينتهض تركه في جميع وقته سببًا للعقاب، فوجوب".

وقيدنا "الفعل" بغير الكَفّ ليحترز عن النهي؛ إذ مقتضاه عندنا فعل الضد، لا الانتفاء، وقال: في جميع وقته - ليدخل الموسع.

(1)

سقط في ح.

(2)

في ج: بالسرعة.

(3)

في أ: تكونه.

(4)

في أ، ت، ح: يختص.

(5)

سقط في أ، ت.

(6)

في ت، ح: يفهم.

(7)

لما فرغ من تحقيق الحكم الشرعي أراد الشروع في تقسيمه إلى أحكام تكليف وأحكام وضع وإخبار.

(8)

في ت: ظنًا.

ص: 484

لِلْعِقَابِ، فَوُجُوبٌ، وَإنِ انْتَهَضَ فِعْلُهُ خَاصَّةً لِلثَّوَابِ، فنَدْبٌ، وإنْ كَانَ طَلَبًا لِكَفٍّ عَنْ فِعْل، يَنْتَهِضُ فِعْلُهُ سَببًا لِلْعِقَابِ، فتَحْرِيمٌ. وَمَنْ يُسْقِطُ "غَيْر كَفٍّ" فِي الْوُجُوبِ تقُولُ: طَلَبًا لِنَفْى

"وإن انتهض فعله خاصَّة" سببًا "للثواب، فندبٌ".

وإنما قال: "خاصَّة" ليعرف أنه لا يترتب على تركه شيء.

وإن أورد الفقيه ردَّ شهادة من اعتاد ترك السُّنن الراتبة، وتسبيحات الركوع [والسجود]

(1)

، ونحو ذلك.

وقيل له: ليس العقاب في شيء من ذلك لمجرد ترك السنن، بل للإشعار من فاعله

(2)

بقلَّة المُبَالاة بالمُهَمَّات

(3)

.

"وإن كان طلبًا لكف عن فعل ينتهض فعله سببًا للعقاب، فتحريم.

ومن يسقط" قولنا: "غير كف في "تعريف "الوجوب" وهو قائل: إن مطلوب النهي [عن]

(4)

الانتفاء - كأبي هاشم - "يقول: طلبًا لنفي فعل" ينتهض فِعْلُهُ سببًا للعقاب "في التحريم".

ولا نعني بانتهاض فعله سببًا للعقاب، عقاب الدنيا بخصوصه من حَدّ أو تَعْزِيزٍ

(5)

، ونحوهما، بل أعم من عقاب الدُّنيا وإثم الآخرة، فلا يرد حرام لا يعاقب مرتكبه في الدنيا كما قال القاضي أبو حامد المروروذي

(6)

: فيمن دخل من أهل القوة الحمى الذي حماه الإمام فرعى ماشيته أنه لا غرم ولا تعزير

(7)

عليه، وكما قيل على وجه آخر: إذا وطئ السَّيد المكاتبةَ فلا يعزّر، وإن

(1)

سقط في ح.

(2)

في ت: فاعلية.

(3)

في ج: بالمنهيات.

(4)

سقط في ج، ح.

(5)

في ح: تقرير، وهو تحريف.

(6)

أحمد بن بِشْر بن عامر، القاضي، أبو حامد المروروذي، أحد أئمة الشافعية، أخذ عن أبي إسحاق المروزي، وشرح مختصر المزني، وصنف الجامع في المذهب، وفي الأصول وغير ذلك، وكان إمامًا لا يشق له غبار، قال العبادي: إنه من أنجب أصحاب أبي علي بن خيران. مات سنة 362.

ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 137، وطبقات العبادي ص 76، والأعلام 1/ 99.

(7)

التعزير: تأديب وإصلاح وزجر، على ذنوب لم تشرع فبها حدود ولا كفارات، وذلك لأن الشريعة الإسلامية، وإن عمدت إلى بعض الجرائم والمخالفات، فسنت لها عقوبة معينة محدودة، فإن كثيرًا غيرها، لم تسن لها تلك العقوبة، وتركت أمر تقديرها لولاة الأمور يضعون لكل منها ما يناسبها بعد النظر في حال الجريمة، وحال من وقعت منه ومن وقعت عليه والآثار التي ترتبت عليها، وغير ذلك من الظروف والملابسات التي قد تكون داعية للتخفيف في العقوبة بالنسبة لبعض مرتكبيها، كما قد تكون داعية للتشديد والمبالغة فيها بالشبة لآخرين منهم، وقد يبدو من عجيب الأمر أن يختلف حال =

ص: 485

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الجرائم والمخالفات في الشريعة الإسلامية، من حيث وضع العقوبات الرادعة لبعض منها: وترك الكثير منها بدون تحديد لتلك العقوبة. ولكن بقليل تأمل يظهر أن هذا الصنيع من محاسن الشريعة، وأنها عدل كلها، لا تبغي إلا الإصلاح والهداية، والسلوك بالمجموعة البشرية مسلك الرشاد والخير والفلاح. وذلك لأننا لو نظرنا إلى هذه العقوبات المقدرة، لوجدناها في تقديرها، ترجع إلى طبيعة تلك الجرائم ذاتها، فلا تختلف حينئذ باختلاف بيئة عن أخرى، ولا تتفاوت بتفاوت الأفراد.

أما المحظورات التي لم تشرع فيها عقوبات مقدرة، كمن اعتدى على آخر فسبه أو سب أباه - بما ليس بزنا - أو ضربه أو مطله دينه عن يسار، أو غير ذلك، فالأمر فيها على ذلك، فالناس فيها يتفاوتون، وللظروف والملابسات المحيطة حكمها. لذلك كان العدل والحكمة والرحمة، كل ذلك قاضيًا بتركها لولاة الأمور، يعملون فيها رأيهم، ويعطون لكل جريمة ما يكون كفيلًا بردع مقترفيها وزجرهم. ولنقسم التعزير في ذاته إلى: قولي وفعلي.

فأما التعزير "بالقول"، فما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه، حينما أتى إليه برجل سكران:"بَكِّتُوه"، فأقبلوا عليه يقولون: - ما اتقيت الله، ما خشيت الله، ما استحيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا التبكيت، من التعزير بالقول.

وأما التعزير "بالفعل"، فَقَدْ رُوِّينَا فيما تقدم من تعزيراته صلى الله عليه وسلم الكثير، فلا نطيل بتكراره. فهذا تقسيم للتعزير في ذاته، وهناك تقسيم آخر له باعتبار موجبه

وذلك لأنه إما أن يكون على ترك الواجب، وإما أن يكون على فعل المحرم. فأما ما يكون منه - على ترك الواجب -، فمنه منع الزكاة وترك قضاء الديون، وأداء الأمانات مثل الوداخ، وأموال الأيتام وغلات الوقوف، والامتناع من رد المغصوب والمظالم، مع القدرة على أداء ذلك كله إلى أربابه، فإن مرتكب هذه المخالفات كلها يعاقب حتى يؤدي ما يجب عليه. وأما ما يكون منه - على فعل المحرم -، فعلى التفصيل الآتي:

وذلك لأن المحرم أنواع: فمنه ما تجب فيه العقوبة والكفارة والغرم، كقتل العمد إذا عفي عنه، فإنه يجب على القاتل الدية، ويستحب له الكفارة، ويضرب مائة، ويحبس سنة، على ما يراه بعضهم، ومنه ما يجب فيه القصاص والأدب، وهو: الجارح عمدًا، يقتص منه ويؤدب. ومنه ما يجب فيه الغرم، وهو الجنين. ومنه ما فيه التعزير فقط كسرقة ما لا قطع فيه، والخلوة بالأجنبية، واليمين الغموس، والغش في الأسواق، وشهادة الزور، والعمل بالربا. ومنه ما تجب فيه الكفارة والغرم: كقتل الخطإ. ومنه ما فيه العقوبة كحماية الظلمة والذب عنهبم، وكمن دافع عن شخص وجب عليه حق، كمن يحمي قطاع الطريق أو السارق؛ فإن هؤلاء جميعا يعاقبون، حتى يرجعوا عما اقترفوا من الجرائم، وقد رأى بعضهم أن فاعل المكروه يؤدب أيضًا. وقسَّم العلامة ابن القيم المعاصي إلى ثلاثة أقسام:

- قسم فيه حد ولا كفارة فيه، كالزنى والسرقة وشرب الخمر، والقذف، وهذا يكفي فيه الحد عن الحبس والتعزير.

- وقسم فيه كفارة ولا حَدَّ فيه، كمضاجعة النساء في الإحرام أو في نهار رمضان، فهذا يكفي فيه=

ص: 486

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كان عالمًا بالتحريم، وكما قال الشَّيخ عز الدين بن عبد السلام

(1)

: إنه لا يجوز تعزير الأولياء على الصَّغائر، بل تقال عثراتهم، وكما قيل - على وجه -: فيما إذا وطئ الأب جارية الابن - وقلنا: - بالصحيح، وهو أنه لا حَدّ عليه - أنه لا تعزير أيضًا، وكما قال ابن داود - شارح "مختصر المزني" -: إن قاتل الزَّاني المحصن إذا وجده مع أهله فقتله على تلك الحالة لا يعزّر.

= الكفارة عن الحد، وهل يكفي عن التعزير؟. فيه قولان للفقهاء، وهما لأصحاب أحمد وغيرهم.

- وقسم لا كفارة فيه ولا حَدَّ، كسرقة ما لا قطع فيه واليمين الغموس عند أحمد وأبي حنيفة، ونحو ذلك. فهذا يسوغ فيه التعزير وجوبًا عند الأكثرين، وجوازًا عند الشافعي. وقال القرافي في الفروق:

- الفرق السادس والأربعين بعد المائتين: إنَّ في التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فرُبَّ تعزير في بلد، يكون إكرامًا في بلد آخر، كقلع الطيلسان لغير تعزير في الشام؛ فإنه إكرام، وكشف الرأس عند الأندلسيين ليس هوانًا، وبمصر والعراق هوان".

وبعد، أفرأيت إلى أي حد راعى فقهاء الإسلام اختلاف البيئات، وتفاوت الأزمنة والعصور في التَّهذيب والتقويم؟ وهل أدركت مقدار ما في صنيعهم هذا من مرونة واستجابة لوحي المصلحة، ومسايرة لأحوال الناس في جميع بيئاتهم ومختلف أزمانهم؟ ذلك، لم يكن بدْعًا إن بقيت، وسيبقى على الزمان شرع الله في الأرض الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلَفه. ثم لننظر الآن فيما ذكره الفقهاء من أنواع التعزيرات مع الالتفات أحيانًا إلى خلافهم في بعض هذه الأنواع. ذكروا من هذه الأنواع:

1 -

الهجر والإعراض.

2 -

التوبيخ والتبكيت.

3 -

الحبس.

4 -

النفي والإبعاد عن الوطن.

5 -

الضرب.

6 -

الغرامات المالية.

7 -

القتل.

(1)

عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، وحيد عصره، سلطان العلماء، عز الدين، أبو محمد السلمي، الدمشقي ثم المصري، ولد سنة 578، وتفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر، وجمال الدين بن الحرستاني، وقرأ الأصول على الآمدي، وبرع في المذهب، حتى قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، وصنف التصانيف المفيدة، وله كرامات ومحن جسيمة، وكان يضرب به المثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله القواعد الكبرى والصغرى، ومجاز القرآن وغيرها. توفي سنة 660. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 109، والأعلام 4/ 144، وفوات الوفيات 1/ 287.

ص: 487

فِعْلٍ فِي التحْرِيمِ، وإنِ انْتَهَضَ الْكَفُّ خَاصَّةً لِلثوَابِ، فَكَرَاهَةٌ، وإنْ كَانَ تَخْيِيرًا، فإبَاحَةٌ، وإلَّا، فوَضْعِيٌّ.

قال: لأن الغيظ والحمية حمله، وهو قد جنى على محل حقه، فجاز أن يعزر - وإن كان حرامًا - للافتيات على الإمام.

فهذه معاصٍ لا عِقَابَ فيها في الدُّنيا، وهي مستثناة من القاعدة المشهورة في الفقه. إن من أتى معصيةً لا حَدَّ فيها ولا كَفَّارة، عليه التعزير، فاحفظها

(1)

.

وكذلك نقول في الواجب: مرادنا "بانتهاض تركه سببًا للعقاب" ما هو أعم من عقاب الدَّارين.

"وإن انتهض الكَفّ خاصةً سببًا للثواب فكراهة".

وقال: خاصَّة في الكراهة أيضًا؛ ليعلم أنه لا يترتب عليها عقاب، وإن أورد الفقيه هنا مواظب لعب الشِّطْرنج، ونحوه، وكالندب.

وإن انتهض "الحكم تخييرًا" بين الفعل والترك، "فإباحة".

"وإلا" - أي: وإن لم يكن طلبًا ولا تخييرًا - "فوضعي" كالصحة والبطلان، وكون الشيء سببًا ودليلًا وشرطًا ومانعًا، وغير ذلك.

والمصنّف جار في الوضعي على مختاره - وقد سبق القول فيه - وتابع في حصر الاقتضاء والتخيير في الأحكام الخمسة لعلمائنا أجمعين.

وأنا أقول: بقي

(2)

خلاف الأولى الذي تذكره الفقهاء في مسائل عديدة، ويفرقون بينه وبين المكروه، كما في صوم يوم "عرفة" للحاج الصحيح خلاف الأَوْلى.

وقيل: مكروه.

والخروج من صوم التطوع أو صلاته بعد الثلثين بغير عذر مكروه.

وقيل: خلاف الأَوْلى.

ونفض

(3)

اليد في الوضوء مباح.

(1)

في ت: فاحفظهما.

(2)

في أ، ت، ج: تقي.

(3)

في أ، ت، ح: بعض.

ص: 488

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل: مكروه.

وقيل: خلاف الأَوْلى.

والزيادة على الثلاث في الوضوء مكروه.

وقيل: حرام.

وقيل: خلاف الأَوْلى.

وقيل: مكروهة.

وتفضيل أعضاء العقيقة

(1)

. خلاف الأولى.

وأصح الوجهين في "شرح المهذب"

(2)

: أنه غير مكروه.

قال النووي: لأنه لم يثبت فيه نهي مقصود.

وعمارة الدّور وسائر العَقَار، الأَوْلى ترك الزيادة فيها.

وربما قيل: تكره

(3)

والمعتكف.

قال في "البحر": يكره أن يغسل يده من غير طست.

(1)

"والعقيقة، العقيقة في الأصل: صوف الجذَع، وشعر كل مولود من الناس والبهائم الذي يولد عليه. قاله الجوهري. وقال غيره: العقيقة: الذبيحة التي تذبح على المولود يوم سابعه. وأصل العَقِّ: الشقّ، فقيل: سميت هذه الشاة عقيقة؛ لأنها يشقّ حلقها. وقيل: سميت عقيقة: باسم الشعر الذي على رأس الغلام، وهو أنسب من الأول. وحكى العلامة ابن القيم اشتقاقها في "تحفة المودود بأحكام المولود". وقد استشهد من قال بأنها سميت "عقيقة" باسم الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، بقول زهير يذكر حمار وحش:[الوافر]

أَذَلِكَ أَمْ أَقبُّ البَطْنِ جَأْبٌ

عَلَيْهِ مِنْ عَقِيْقَتِهِ عَفَاءُ

وقالوا: إن هذا الشعر يحلق عند الذبح، فسميت الشاة عقيقة، لعقيقة الشعر، وقد أنكر الإمام أحمد هذا التفسير، وقال: إنما العقيقة: الذبح نفسه؛ لأنه يقال: عق: إذا قطع، واحتجوا له بقول الشاعر:[الطويل]

بِلادٌ بِهَا عَقَّ الشَّبابُ تَمائمِي

وَأوَّلُ أَرْضِ مَسَّ جِلْدِي تُرَابَهَا

(2)

قال النووي في الشرح 8/ 410: يستحب أن تفصل أعضاؤها ولا يكسر شيء من عظامها، فإن كسر فهو خلاف الأولى، وهل هو مكروه كراهة تنزيه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه لم يثبت فيه نهي مقصود.

(3)

في ب: يكره.

ص: 489

وفي تَسْمِيَةِ الْكَلامِ فِي الْأَزَلِ خِطَابًا خِلافٌ.

وقيل: [لا]

(1)

يكره، ولكن الأحسن غيره.

ويكره أن يقال لغير الأنبياء صلوات الله عليهم: فلان صلوات الله عليه.

وقيل: خلاف الأَوْلى.

وإذا كان موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين، ولم يكن مريدًا تعليمهم أفعال الصلاة، فهو خلاف الأَوْلى.

وأطلق ابن الصَّباغ والمتولّي فيه لفظ الكراهة.

ومن تأمل وجده خارجًا عن الخمسة، ولعلنا نحقق ذلك في التعليقة، فلنقل: الحكم إما طلب لفعل غير كَفّ، أو لفعل هو كَفّ، أو تخيير.

والأول: إما مع الجزم [فالوجوب، أو لا، فالندب.

والثاني: إما مع الجزم]

(2)

فالحرمة، أو لا، وفيه نهي مخصوص، فالكراهة، أو لا نَهْيَ فيه مخصوصٌ، فخلاف الأولى.

والثالث: الإباحة، والندب، والسُّنة، والمستحبّ، والطَّاعة، والحسن، والنَّفل - مترادفة، خلافًا لبعض فقهائنا.

الشرح: "وفي تسمية الكلام في الأزل خطابًا خلاف" مفزع على تفسير الخطاب

(3)

، فمن قائل: إنه الكلام الذي يقصد به إفهام من هو متهيّئ لِلْفَهْم.

ومن قائل: الذي يعلم منه أنه يقصد به الإفهام، فعلى هذا هو خطاب دون الأول.

(1)

سقط في ت.

(2)

سقط في ج.

(3)

هذا الخلاف لفظي؛ لأن من قال: الخطاب هو الكلام الذي قصد به الإفهام، ومن قال: الخطاب هو الكلام الذي علم أنه يقصد به الإفهام - قال: إن الكلام من الأزل خطاب؛ لأنه علم أنه يقصد به الإفهام. ينظر الشيرازي 100 ب/ خ.

(4)

ينظر: حاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 48، تيسير التحرير 2/ 131.

ص: 490

‌الْوُجُوبُ وَالْوَاجِبُ

الْوُجُوبُ: الثُّبوتُ وَالسُّقُوط، وَفِي الاصْطِلاحِ مَا تَقَدَّمَ. وَالْوَاجِبُ: الْفِعْلُ المتَعَلَّقُ لِلْوُجُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَا يُعَاقَبُ تَارِكُهُ مَرْدُودٌ؛ بِجَوَازِ الْعَفْوِ، وَمَا أُوعِدَ بِالْعِقَابِ تَارِكُهُ مَرْدُودٌ؛ بصِدْقِ إِيعَادِ اللهِ تَعَالَى، وَمَا يُخَافُ مَرْدُودٌ؛ بِمَا يُشَكُّ فِيهِ. الْقَاضِي: مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا بِوَجْهٍ مَا. وَقَالَ: "بِوَجْهٍ مَا" لِيَدْخُلَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ وَالْكِفَايةُ؛ حَافَظَ عَلَى عَكْسِهِ؛ فَأَخَلَّ بِطَرْدِهِ؛ إِذْ يَرِدُ النَّاسِي وَالنَّائِمُ وَالْمُسَافِرُ فإنْ قَالَ: يَسْقُطُ الْوُجُوب بِذلِكَ. قُلنا: وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ

(1)

.

الشرح: "الوجوب" في اللُّغة

(2)

: "الثبوت"، ومنه الحديث: "اللَّهُمَّ إِني أَسْألُكَ مُوجِبَاتِ

(1)

لما فرغ من التقسيم - أراد أن يتكلم على ما يتعلق بكل واحدٍ من الأقسام كالواجب والحرام والمندوب المكروه والمباح، وما يتعلق بها من المسائل وغيرها.

ينظر: الشيرازي 100 ب/ خ.

(2)

ينظر مباحث الواجب في: البحر المحيط للزركشي 1/ 176، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 308، وسلاسل الذهب للزركشي 114، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 91، والتمهيد للإسنوي 58، ونهاية السول له 1/ 37، وزوائد الأصول له 232، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 54، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 10، التحصيل من المحصول للأرموي 1/ 172، والمستصفى للغزالي 1/ 27، وحاشية البناني 1/ 88، والإبهاج لابن السبكي 1/ 51، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 135، حاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 111 والمعتمد لأبي الحسين 1/ 4، التحرير لابن الهمام 217، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 2/ 185، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/ 225، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 123، الموافقات للشاطبي 1/ 109، 133، ميزان الأصول للسمرقندي 1/ 128، الكوكب المنير للفتوحي 105.

ص: 491

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رَحْمَتِكَ"

(1)

، "والسقوط"، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [سورة الحج: الآية 36].

وفي حديث أبي عبيدة

(2)

ومعاذ

(3)

"إِنَّا نُحَذِّرُكَ يَوْمًا تَجِبُ فِيهِ القُلُوبُ" فكأنه الشيء الذي سقط على المخاطب فلزم وأثقله، كما يسقط عليه الشيء، فلا يمكنه دفعه عن نفسه.

(1)

أخرجه الترمذي 2/ 344 في كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الحاجة (479) وقال: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال؛ فائد بن عبد الرحمن يضعف في الحديث، وفائد هو "أبو الورقاء". وأخرجه ابن ماجه 1/ 441 في إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الحاجة (1384).

قلت: وفائد هذا تركوه واتهموه، قال ابن معين: ضعيف ليس بثقة، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال الحاكم: حديثه ليس بالقائم، وضعفه الساجي والعقيلي والدارقطني. ينظر تهذيب التهذيب 8/ 55، والتقريب 2/ 107، والتاريخ الكبير للبخاري 7/ 132، والصغير 2/ 76، 142، والجرح والتعديل 7/ 475، وميزان الذهبي 3/ 339، والمجروحين 2/ 203.

(2)

أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال الفهْري، أحد العشرة المبشرين، شهد بدرًا، وولي الشام، وافتتح "اليرموك" و"الجابية". و"الرمادة"، و"دمشق" صلحًا، وكتب لهم كتاب الصلح. قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أبو عبيدة أمين هذه الأمة". روى عنه: جابر، وأبو أمامة، وعبد الرحمن بن غنم.

وانفرد له مسلم بحديث. مات في طاعون "عمواس" سنة 18 هـ. ينظر: الإصابة 3/ 586، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 285، والاستيعاب 2/ 792، وتهذيب الكمال 2/ 645، وتهذيب التهذيب 5/ 73، والكاشف 2/ 56.

(3)

معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ - بمعجمة آخره - ابن عدي بن كعب بن عمرو بن آوى بن سعد بن علي بن أسد بن سارذة بن تريد - بمثناة - ابن جشم بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن المدني، أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وشهد بدرًا والمشاهد، له مائة وسبعة وخمسون حديثًا، وعنه ابن عباس وابن عمر ومن التابعين عمرو بن ميمون وأبو مسلم الخولاني ومسروق وخلق، وكان ممن جمع القرآن. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء"، وقال ابن مسعود: كنا نشبهه بابراهيم عليه السلام، وكان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين. توفي في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وقبر بـ "بيسان"، قال ابن المسيب: عن ثلاث وثلاثين سنة، وبها رفع عيسى عليه السلام. ينظر ترجمته في: تهذيب التهذيب، 10/ 186 (347)، وتقريب التهذيب: 2/ 255، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 35، وتاريخ البخاري الكبير: 7/ 359، وتاريخ البخاري الصغير: 1/ 41، 47، 49، 52، 53، 54، 58، 66، 73، 157، 176، والثقات: 3/ 368، وأسد الغابة، 5/ 194، وتاريخ الإسلام: 3/ 105، وشذرات: 1/ 30، 62، 63، وطبقات الحفاظ: 6، 24، وتجريد أسماء الصحابة: 2/ 80، والاستيعاب: 3/ 1402.

ص: 492

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وفي الاصطلاح ما تقدم".

"الواجب الفعل المتعلّق للوجوب، كما تقدم".

وتعريفه بأنه "ما يُعَاقب تاركه". مردود بجواز العفو من الله تَعَالَى.

وما أوعد

(1)

بالعقاب على تركه.

قال المصنّف: "مردودٌ بصدق إيعاد الله".

ولك أن تقول: قد يتجاوز الرّب ويعفو، ثم لا ينتفى الصّدق.

"وما يخاف" العقاب على تركه، ردَّه إمام الحرمين بما يحسبه المرء واجبًا، فإنه يخاف العقاب عليه، وقد لا يكون كذلك.

وهذا صحيح، فإِنَّ من اعتقد جهلًا صيام رجب، يخاف العقاب على تركه مع انتفاء الوجوب.

وقد عبَّر المصنّف تبعًا للآمدي

(2)

عن هذا الرد بعبارة غير سَدِيدَةٍ، فقال:"مردود بما يشك فيه" أنه واجب، أو لا؛ إذ الخوف موجود مع عدم الوجوب.

والظاهر: أن المراد بهذه العبارة ما ذكره الإمام، ولكن فيها قصور. والاعتراض عليها لائح

(3)

ذلك منع وجود الخوف، وإن سلم فالخوف من قبل الوجوب.

وإن قدر اختلاط الحلال بالحرام كما في امرأة اختلطت بأجنبيَّات محصورات فالحرمة متحققة، إلا أنها في واحدة بالذات، وفي الأخريات بمقدمة الواجب.

وقال "القاضي": الواجب "ما يُذمُّ تاركه شرعًا بوجهٍ ما".

والمراد بالذمّ شرعًا: أنه واقع من قبل الشارع؛ إذ لا حكم إلَّا من الشرع.

"وقال بوجه ما" كما ذكر في كتاب التقريب، "ليدخل فيه الواجب الموسّع".

قال المصنّف: "والكفاية"؛ فإن التارك فيها لا يُذَمُّ مطلقًا، بل بوجه دون وجه ففي الموسّع إذا ترك في جميع الوقت، وفي الكفاية إذا لم يظن قيام غيره به، وكذا المخير إذا قلنا: كل واحد

(1)

في حاشية ج: قوله: "وما أوعد بالعقاب على تركه" أي عرف بهذا ليندفع ما أورده على الأول من أنه يجوز العفو، فرد الجواب؛ فإن الإيعاد صدق، فالإشكال باق. عضد.

(2)

ينظر الإحكام 1/ 92.

(3)

في أ، ج، ح: لا يخلو.

ص: 493

وَ‌

‌الفَرْضُ وَالْوَاجِبُ مُتَرَادِفَانِ

و الْحَنَفِيَّةُ: الفرْضُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَالوَاجِبُ الْمَظْنُون.

واجب، فإنه يذم تاركه إذا ترك معه الآخر لا مطلقًا. وأما إذا قلنا: الواجب فيه واحد مبهم - كرأي المصنّف - فيذم تاركه بأي وجه فرض؛ فلذلك لم يذكره كغيره.

ولك أن تقول: كان ينبغي أيضًا ألَّا يذكر في فرض الكفاية إلا أن يحقق أن القاضي يقول: إنه على الجميع.

والقاضي لم يذكره في "التقريب" فلعلَّه يقول: إنه على البعض.

واعلم أن القاضي بهذا القيد "حافظ على عكسه"، فلم يخرج من الحد

(1)

ما هو المحدود، أعني: الموسع والكفاية "فأخذ بِطَرْدِهِ"، لدخول ما ليس من المحدود فيه، "إذ يرد النَّاسي والنائم"؛ حيث لا تجب عليهما الصلاة، "والمسافر"، حيث لا يجب عليه الصَّوم، ويذمون على تركه بوجه ما، وذلك عند انتفاص الأعذار، كما يذتم فرض الكفاية بتقدير ترك الجميع.

"فإن قال" القاضي: لا نسلِّم أن هذه غير واجة، بل هي واجبة، وإنما "يسقط الوجوب بذلك" العُذْر - عذر السَّفَرِ، والنوم، والنسيان.

"قلنا": كذلك في الكِفَايةِ "يسقط" الذم "بفعل البَعْضِ" الآخر.

واعلم أن القاضي لا يقول ذلك؛ إذ صرَّح في "التقريب" بأنه لا وجوب على النائم والنَّاسي، ونحوهما حتى السَّكران، وأن المسافر يجب عليه صوم أحد الشهرين كالواجب المُخَيَّر سواء.

وللقاضي الجواب بأن النَّائم لا يذم بوجه ما.

قولكم: عند انتفاء العذر.

قلنا: ليس هو - والحالة هذه - نائمًا، والكلام في النائم.

الشرح: "والفرض والواجب" لفظان "مترادفان" وقالت "الحنفيةُ: الفرض: المقطوع، والواجب: المظنون". والخلاف لفظي

(2)

.

(1)

في ب: أحد.

(2)

والفرض في اللغة معناه: التقدير، ومنه قوله سبحانه وتعالى:{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي قدرتم بالتسمية، ومنه قولهم: فرض القاضي النفقة فرضًا أي: قدرها وحكم بها. والفريضة فعيلة بمعنى مفعولة، والجمع فرائض، قيل: اشتقاقها من الفرض الذي هو التقدير؛ لأن الفرائض مقدرات.=

ص: 494

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وحكي القاضي في "التقريب" عن بعضهم أن الفرض ما ورد في القرآن، والواجب ما ورد في السُّنة، وهو فاسدٌ، ولفظي أيضًا.

= وقيل: معناه القطع، ومنه قوله سبحانه وتعالى على لسان الشيطان:{وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أي مقتطعًا محدودًا معلومًا. وقيل: معناه: التأثير.

وجاء في "مختار الصحاح": الفرض الحزُّ في الشيء، ومنه: فرضت الخشبة فرضًا من باب ضرب أي: حززتها. وقيل: معناه الإلزام. ومنه قوله سبحانه وتعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} أي ألزمنا وأوجبنا العمل بها. ومنه: فرض الله الأحكام فرضًا أي أوجبها سميت بذلك؛ لأن لها معالمًا وحدودًا. فالفرض هو المفروض، وجمعه فروض، وقيل: معناه الإنزال ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي أنزل عليك القرآن، وهو ما قاله أكثر المفسرين، وقيل: معناه الحل، ومنه قوله تعالى:{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي أحل له وأباحه له. ينظر: لسان العرب 5/ 3387، ومختار الصحاح / 498.

تعريفه شرعًا:

عرف الشافعية ومن وافقهم الفرض بتعريف الواجب؛ لأن الفرض والواجب عندهم مترادفان.

تعريف الواجب شرعًا عند الحنفية:

عرف علماء الأحناف الواجب شرعًا بتعريفات متعددة منها: تعريف صدر الشريعة: فقد عرفه صدر الشريعة بقوله: ما كان فعل أولى من تركه مع المنع من الترك بدليل ظني. أما تعريف الواجب عند الإمام النسفي: فقد عرفه الإمام النسفي في كتابه "المنار في أصول الفقه" بقوله: "ما ثبت بدليل فيه".

والواقع أن الخلاف بين الحنفية وغيرهم خلاف لفظي وليس حقيقيًا؛ لأنهم جميعًا متفقون على أن ما ثبت بدليل ظني لا يكون في قوة ما ثبت بدليل قطعي، وأن جاحد الأول لا يكفر بخلاف جاحد الثاني، كما أنهم متفقون على تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة. وإنما الخلاف بينهم في التسمية فقط، فنحن نقول: إن الفرض والواجب لفظان مترادفان اصطلاحًا نقلًا عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو الفعل المطلوب طلبًا جازمًا، سواء ثبت ذلك بدليل قطعي أو ظني، والحنفية يخصون كلا منهما باسم خاص ويجعلونه اسمًا له، وهذا اصطلاحا ولا مشاحة في الاصطلاح. ومقتضى كون الخلاف لفظيًا ألا يكون له أثر في الفروع يترتب على الفرق بين الفرض والواجب، وهو كذلك. وما يظن من أن هذا الخلاف حقيقي؛ لأن له أثرًا ظهر في ترك قراءة الفاتحة في الصلاة حيث قيل بتأثيم التارك وعدم فساد صلاته إن أتى بقراءة غيرها، بخلاف تارك القراءة فيها أصلًا حيث قيل بتأثيمه وفساد صلاته - غير سديد لأن عدم الفساد عندهم ليس ناشئًا من التفرقة بين الفرض والواجب، وإنما هو ناشئ عن الدليل الذي دل المجتهد على الحكم، وهو ظنية الدليل الذي تسبب عنه أمران: التسمية بالواجب، وعدم الفساد، ولا يلزم من سببية شيء لأمرين أن يكون أحدهما سببًا=

ص: 495

‌الأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ وَالإعَادةُ

(1)

الأَدَاءُ: مَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ المُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا أَوَّلًا، وَالْقَضَاءُ: مَا فُعِلَ ............................

واقتضت عبارة صاحب "التنبيه" في كتاب الحج

(2)

: أن الفرض أعم من الواجب؛ إذ قال في "باب فروض الحج والعمرة": وذكر أركان الحج من واجباته، وهي مؤولة، فاعرف ذلك.

ونقل الرافعي عن زيادات العَبَّادي

(3)

أنه لو قال: الطلاق واجب عَلَيَّ، تطلق، أو فرض عليّ، لم تطلق. وليس افتراقًا بين حقيقتيهما

(4)

، وإنما هو ادعى أن العرف جرى بالواجب دون الفرض.

الشرح: والعبادة المُؤَقَّتة تنقسم باعتبار فعلها في الوَقْتِ وخارجه إلى أداء، وقضاء، وإعادة.

= للآخر، والذي كان في مقابلته الدليل القطعي الدال على فرضية مطلق القراءة الذي عدل عن الفاتحة إليها، فقيل بعدم الفساد عملًا بظنية دليل الفاتحة وقطعية دليل مطلق القراءة. ينظر: الإحكام للآمدي 1/ 93 - 94، والإبهاج 1/ 52، ونهاية السول 1/ 73، والتمهيد للإسنوي ص 58، والمحصول 1/ 1/ 117، والبرهان 1/ 308، والمستصفى 1/ 42، والمنتهى لابن الحاجب ص 23، وكشف الأسرار 2/ 300، وأصول السرخسي 1/ 110، والمنخول ص 76، وفواتح الرحموت 1/ 58، والعدة 1/ 162، 2/ 376، وشرح الكوكب المنير 1/ 351، وسلاسل الذهب ص 114، والبحر المحيط 1/ 181، وروضة الناظر ص 16، والحدود للباجي ص 53، ومختصر ابن اللحام ص 59، وميزان الأصول 1/ 128 - 129، وجمع الجوامع 1/ 88 - 86.

(1)

ينظر مباحثها في: البحر المحيط للزركشي 1/ 336، والإحكام للآمدي 1/ 103، والتمهيد للإسنوي 63، ونهاية السول للإسنوي 1/ 109، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 86، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 16 - 17، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 179، والمستصفى للغزالي 1/ 95، وحاشية البناني 1/ 108، 111، والإبهاج لابن السبكي 1/ 74، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 168 وما بعدها، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 150 وما بعدها، والتحرير لابن الهمام 245، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 2/ 198، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 64، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/ 232، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 160، وشرح المنار لابن ملك 32 - 33، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 167، وشرح الكوكب المنير للفتوحي 113، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 123.

(2)

ينظر: التنبيه ص 48.

(3)

محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عباد، القاضي أبو عاصم العبادي الهروي أحد أعيان الشافعية، تفقه على أبي منصور الأزدي، وأبي عمر البسطامي وأبي إسحاق الإسفراييني، وأبي=

(4)

في ت، ح: حقيقتها.

ص: 496

بَعْدَ وَقْتِ الْأَدَاءِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبق لَهُ وُجُوبٌ مُطْلَقًا، أَخَّرَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، تَمَكَّنَ مِن فِعْلِهِ كَالمُسَافِرِ، أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ؛ لِمَانِع مِنَ الْوُجُوبِ شَرْعًا، كَالْحَائِضِ، أَوْ عَقْلًا كَالنَّائِمِ، وَقيلَ: لِمَا سَبَقَ وُجُوبُهُ عَلَى الْمُسْتَدْركِ، فَفِعْلُ الْحَائِضِ وَالنَّائِمِ قَضَاءٌ عَلَى الأَوَّلِ لا الثانِي إِلَّا عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ. وَالإعَادَةُ مَا فُعِلَ فِي وَقْتِ الْأدَاء ثَانِيًا؛ لِخَللٍ. وَقيلَ: لِعُذْرٍ.

فأما "الأداء" فهو "ما فعل في وقته المقدر له شرعًا أولًا"، فخرج ما لم يقدر له وقت كالنَّوافل المُطْلقة، أو قدر لا بأصل الشرع، كمن يضيق عليه المُوَسّع لعارض ظنه الفوات إن لم يبادر، وما وقع في وقته المُقَدَّر له شرعًا، ولكن غير الوقت الذي قدر له أولًا. كالظهر وقتها الأول ما بين زوال الشَّمْس إلى صيرورة ظِلِّ كلّ شيء مثله، ووقتها الثاني إذا ذكرها بعد النِّسْيَان، لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أَو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا"

(2)

فإنَّ ذلك وقتها.

وإذا أوقعها في الثاني لم يكن أداءً.

وليس قوله: أولًا متعلقًا بقوله: فعل فيكون معناه: فعل أولًا لتخرج

(3)

الإعادة؛ لأن الإعادة

= طاهر الزيادي، ثم صار إمامًا دقيق النظر، وصنف كتاب المحيط، والهادي، والمياه، والأطعمة.

أخذ عنه أبو سعد الهروي، وابنه أبو الحسن العبادي وغيرهما. مات سنة 458. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 232، وطبقات الإسنوي ص 315 وطبقات السبكي 3/ 42 والأعلام 6/ 206، ووفيات الأعيان 3/ 351، وشذرات الذهب 3/ 306، والعبر للذهبي 3/ 243.

(2)

متفق عليه من رواية أنس: أخرجه البخاري 2/ 70 في مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها حديث (397)، وأخرجه مسلم 1/ 477 في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة (315/ 684)، (311/ 681)، وأيضًا من حديث أبي هريرة 1/ 471 في المساجد حديث (309/ 680) من حديث أنس، وأخرجه أبو داود في السنن 1/ 121 في الصلاة، باب من نام عن صلاةٍ، حديث (442) و (435) والنسائي 1/ 293 في الصلاة، باب فيمن نسي صلاة حديث (613، 614، 615) وأخرجه الترمذي 1/ 335 في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل ينسى الصلاة (178) وقال: حسن صحيح، وأخرجه الدارمي 1/ 280 في كتاب الصلاة، باب من نام عن صلاة أو نسيها، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 64، وأخرجه أبو عوانة في مسنده 1/ 385، وابن ماجه في السنن 1/ 227 في كتاب الصلاة، باب من نام عن الصلاة

حديث (695، 696، 697)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 417 في الصلاة، باب لا تفريط على من نام عن صلاة أو نسيها.

(3)

في أ، ت، ج، ح: ليخرج.

ص: 497

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قسم من الأداء في مصطلح الأكثرين، وعليه جرى الآمدي.

"والقضاء" اختلف فيه، والمختار أنه "ما فعل بعد وقت الأداء استدراكًا لما سبق له وجوب مطلقًا" أي: سواء كان الوجوب على المستدرك أم غيره، وسواء "أخره عمدًا أم سهوًا" وسواء "تمكن" المستدرك "من فعله" في وقته "كالمسافر" إذا ترك الصوم، "أو لم يتمكن لمانع من الوجوب".

إما "شرعًا كالحائض" في الصوم، إذا لم نقل بوجوب الصَّوم عليها في زمن الحيض، وهو رأي الأصوليين، "أو عقلًا كالنّائم، في الصلاة.

"وقيل": ما فعل بعد وقت الأداء استدراكًا "لما سبق وجوبه على المستدرك".

وهذا أخص من الأول، ويظهر الفَرْقُ بينهما في الحَائِضِ والنائم، "ففعل الحائض" بعد انصرام الحَيْض، "والنّائم" بعد الانتباه "قضاء على الأول"؛ إذ هو استدراك لما سبق له وجوب مطلقًا، "لا الثاني إلا في قول ضعيف"، وهو قول من يقول بوجوب الصوم على الحائض.

وقد قال الشيخ أبو إسحاق: إن الخلافَ في الوجوب على الحائض لفظي.

وذكرنا في "شرح المنهاج"

(1)

: أن منهم من بنى عليه وجوب التعرّض للأداء، والقضاء في النِّيَّة، وينبغي أن تبدل لفظة "الوجوب" في التعريفين بالمشروعية، فيقال: ما سبقت له مشروعية

(2)

، ليشمل النّوَافل المؤقَّتة، فإنَّ أصح أقوال الشافعي أنها تقضي.

"والإعادة: ما فعل في وقت الأداء ثانيًا لِخَلَل في الأول"، من فقدان رُكْن أو شرط، كذا صرح به القاضي أبو بكر.

"وقيل": في وقت الأداء ثانيًا "لعذر"، فعلى الأول صلاة من أدَّى منفردًا، ثم أعاد في جماعة لا يكون إعادة، وعلى الثاني يكون؛ إذ وجد أن الجماعة عُذْر.

وكذا يتخرّج من صَلَّى ولو في جماعة، ثم رأى من يصلي تلك الصَّلاة الفريضة وحده، فإنه يستحبّ له أن يصليها معه لتحصل

(3)

له فضيلةُ الجَمَاعَةِ

(4)

.

ومن صلّى في جماعة ثم أدرك جماعة أخرى، يستحبّ له الإعادة على الصحيح، سواء

(1)

ينظر الإبهاج 1/ 77.

(2)

في أ: مشروعيته.

(3)

في ج، ح: ليحصل.

(4)

ينظر شرح السنة 2/ 419.

ص: 498

‌الْوَاجِبُ عَلَى الكِفَايةِ

(1)

‌مَسْألةٌ:

الْوَاجِبُ عَلَى الْكِفَايةِ

عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَسْقُطُ بِالْبَعْضِ. لنَا إِثْم ...........................

اشتملت الجماعةُ الثانية على زيادة فضيلة من كون الإمام أعلم، أو أورع، أو الجمع أكثر، أو المكان أشرف، أو لا، وسَمَّاها الفقهاء إعادة

(2)

.

وقد يقال: لا عُذْرَ إذا استوت الجَمَاعَتَانِ من كل وجه، ويكون

(3)

على هذا الإعادة ما فعل في وقت الأداء ثانيًا مطلقًا، وهو المُخْتَار، في تعريفها، وقد يقال: وجدان جماعة أخرى عذر.

"فرعٌ"

قال القاضي الحُسَين

(4)

: إذا شرع في الصَّلاة ثم أفسدها، ثم صَلّاها في وقتها كانت قضاء، وتبعه غيره على ذلك، ومأخذه: أنها تضيقت عليه بالشروع

(5)

.

وهو ضعيف، لأن التضييق بالشروع بفعله لا بأمر الشرع، والنظر في القضاء والأداء إلى أمر الشرع، لا إلى فعله كما عرفت

(6)

.

"مسألة"

الشرح: "الوَاجِبُ عَلَى الكِفَايةِ".

(1)

ينظر: العضد 1/ 234، والمستصفى 2/ 14، وحاشية البناني 1/ 182، وشرح الكوكب المنير 1/ 376، وتيسير التحرير 2/ 214، وفواتح الرحموت 1/ 66، والإبهاج 1/ 100، والإحكام للآمدي 1/ 94، والتمهيد للإسنوي ص 74، ونهاية السول 1/ 76، والبحر المحيط 1/ 242.

(2)

المصدر السابق.

(3)

في ب: وتكون.

(4)

الحسين بن محمد بن أحمد القاضي، أبو علي المروزي، أخذ عن القفال، وهو والشيخ أبو علي أنجب تلامذة القفال، وأوسعهم في الفقه دائرة، وأشهرهم فيه اسمًا، وأكثرهم له تحقيقًا، وكان فقيه خراسان، وكان عصره تاريخًا به. قال الرافعي: وكان يلقب بـ: حبر الأمة. قال النووي في تهذيبه: وله التعليق الكبير، وما أجزل فوائده. مات سنة 462. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 244، وطبقات السبكي 3/ 155، ومرآة الجنان 3/ 85، والأعلام 2/ 278، ووفيات الأعيان 1/ 400، وشذرات الذهب 3/ 310.

(5)

ينظر التعليقة للقاضي حسين، فهو بتحقيقنا تحت الطبع.

(6)

في ت: فرعت، وهو تحريف.

ص: 499

الْجَمِيعِ بِالتَّرْكِ بِاتِّفَاقٍ. قَالُوا: يَسْقُطُ بِالْبَعْضِ. قُلْنَا: اسْتِبعَادٌ.

قال الغَزَّالي: وهو مهم ديني يقصد الشرع حصوله، ولا يقصد به عين مَنْ يَتَوَلَّاهُ

(1)

.

واجب "على الجميع، ويسقط بالبعض" عند الجمهور، ومنهم المصنّف، وأبي رحمه الله تعالى.

وقيل: على البعض - وهو المُخْتَار.

ويعبَّر عنه بأنه غير واجبٍ على واحدٍ بعينه إلَّا بشرط ألَّا يقوم به غيره.

[قال ابنُ السَّمْعَاني: فيكون على الأول فرضًا إلا أن يقوم به]

(2)

الغير [فيسقط، وعلى الثاني ليس بفرض إلَّا ألَّا يقوم به الغير]

(3)

فيجب، ومَدَاره على الظنون، فإن ظن قيام غيره به سقط، أو عدم قيامه لم يسقط

(4)

.

"لنا: إثم الجميع بالترك باتِّفَاق"، ولو لم يتعلّق بالكُلّ لما أثموا.

ولك أن تقول: إنما أثموا لوقوع تفويت المقصد الشرعي، ولم يأثم الكل، لكونهم تركوا.

وعند هذا نقول: الدليل لنا لا لكم؛ إذ نقول: لو وجب على الجميع لأثموا بتركهم إياه، وليس كذلك، وإنما يأثمون بعدم وقوعه في الخارج، لا بعدم

(5)

إيقاعهم إياه.

فإن قلت: كيف يأثمون على ما ليس من فعلهم؟

قلت: هم مكلفون بوقوع هذا الفعل في الخارج، سواء كان وقوعه منهم أم من غيرهم، وذلك مقدور لهم بتحصيلهم بأنفسهم أو بغيرهم.

(1)

فخرج بالقيد الأخير فرض العين، ومعنى هذا أن المقصود من فرض الكفاية وقوع الفعل من غير نظر إلى فاعله، بخلاف فرض العين؛ فإن المقصود منه الفاعل، وجعله بطريق الأصالة لكن الحق: أن فرض الكفاية لا ينقطع النظر عن فاعله بدليل الثواب والعقاب. نعم ليس الفاعل فيه مقصودًا بالذات بل بالعرض؛ إذ لا بد لكل فعل من فاعل، والقصد بالذات وقوع الفعل. وقوله:"ديني" بناه على رأيه أن الحرف والصناعات وما به قوام المعاش ليس من فرض الكفاية كما صرح به في "الوسيط" تبعًا لإمامه، لكن الصحيح: خلافه، ولهذا لو تركوه أثموا. وما حرم تركه وجب فعله. ينظر: البحر المحيط 1/ 242، والمستصفى 2/ 14.

(2)

سقط في ح.

(3)

سقط في ت، ج، ح.

(4)

ينظر: البحر المحيط 1/ 245.

(5)

في ت: بعد.

ص: 500

قَالُوا: كَمَا أُمِرَ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ أَمْرُ بَعْضٍ مُبْهَمٌ. قُلْنَا: إِثْمُ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ لا يُعْقَلُ قَالُوا: {فَلَوْلَا نَفَرَ} [سورة التوبة: الآية 122]. قُلْنَا: يَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى الْمُسْقِطِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الأَدِلَّةِ.

والقائلون بما اخترناه "قالوا: سقط بالبعض"، ولو وجب على الكُلّ لما كان كذلك؛ إِذ يستبعد سقوط الواجب على المكلف بفعل غيره.

"قلنا: استبعاد" لا يقتضي الامْتِنَاع

(1)

.

الشرح: "قالوا: كما أمر بواحد مبهم" في خصال الكَفَّارة، "أمر بعض مبهم".

قال: "قلنا: إِثم واحد مبهم لا يعقل"، بخلاف الإِثم بترك واحد مبهم

(2)

.

ولك أن تقول: نحن لا نؤثم [مبهمًا]

(3)

، وإِنما نؤثم الكل، ولا يمتنع كما قَدَّمناه.

"قالوا: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [سورة التوبة: الآية 122] ". دليل على أن فرض الكفاية غير معيّن؛ إِذ طلب التفقُّه - وهو من فروض الكِفَايةِ من طائفة وهي غير معينة.

قال: "قلنا": الطَّائفة كما يحتمل أن يكونوا الذين أوجب عليهم طلب التفقُّه، يحتمل أن يكونوا هم الذين يسقطون الوجوب بالمُبَاشرة من الجميع، وحينئذٍ "يجب تأويله على المسقط" - وإِن كان مرجوحًا - "جمعًا بين الأدلَّة".

ولك أن تقول: أي أدلة ذكرت؟ وليس إِسقاطهم عن غيرهم بفعلهم أولى من تأثيم غيرهم بتركهم، ومما يدلّ على ما اخترناه قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران: الآية 104]، وقوله تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النور: الآية 2].

"خاتمة"

الأفعال قسمان: ما يتكرر مصلحته بتكرره، فهو على الأعيان وكالظّهر مثلًا، مصلحتها الخضوع، وهو يتكرر بتكررها، وما لا يتكرر وهو فرض الكفاية، كإِنقاذ الغَرِيقِ، وكِسْوَةِ العاري، ونحوه.

(1)

في حاشية ج: ولا مانع من سقوط الواجب على الجميع بفعل البعض إِذا حصل الغرض، كما يسقط ما في ذمة زيد بأداء عمرو عنه.

(2)

في ج: مبهم.

(3)

في ب، ت، ح: منها.

ص: 501

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإِن قلت: الجديد فيمن صلى ثم أعاد في جماعة أن الأولى للفرض، والقديم إِحداهما لا بعينها، وفي وجه هما جميعًا يقعان على الفرض، ومقتضى ما فرقت به بين هذين الفرعين أن يكون هذا الوجه هو الأصح؛ لأن مصلحة الخضوع تتكرَّرُ بتكرُّرِ الفعل.

قلت: المرادُ تعدد الفاعلين لا تَكْرَار أفعالهم، وإلا لوجبت الإِعادةُ على المصلي، ولا يتناهى ذلك، بل إِذا أعاد كان حسنًا، وقد يوصف فعله بالفريضة، ولاشتماله على المصلحة الَّتي من أجلها جعل أصل الفعل فرضًا، وقد لا يوصف، لعدم العقاب على تركه، وقائل هذا الوجه لم يقل: إِنها فرض، بل [قال: يقع]

(1)

عن الفرض:

(2)

ولا بعد فيه، لما ذكرنا.

ومن هنا يعلم أنَّ المقصود في فرض العَيْنِ الفاعلون وأفعالهم بطريق الأصالة، وفي فرض الكِفَايَةِ الفرض: وقوع الفِعْلِ من غير نظر إِلى فاعله، وهذا معنى قول الغزالي: إِنه كلّ مهم

(3)

ديني يراد حصوله، ولا يقصد عَيْن من يَتَوَلَّاه، كما قدمناه عنه. وبهذا يترجّح عندك أنه لا يجب على الكلِّ؛ لأن الفاعلين لا نظر إِليهم فيه بالذات.

بل [لضرورة]

(4)

الواقع؛ إِذ لا يقع الفعل إِلا من فاعل، فما بالُنا نجعله متعلقًا بالكلّ ولا ضرورة تدعو إِلى ذلك، وملاقاة الوجوب للبعض مُمْكنة بالمعنى الذي أسلفناه.

ولو أن غريقًا قذفه الحوت إِلى شاطئ البحر فيحيا، أو جائعًا قدر الله له الشبع بدون أكل، فيحتمل أن يقال: بالتأثيم؛ لعصيان الكُلّ بالجرأة على الله تعالى.

والأظهر: أنه لا يأثم أحدٌ لحصول

(5)

المقصود.

فإِن قلت: كيف يستحبّون صلاة الجَنَازَةِ لمن لم يصلّها مع حصول الفرض بالصلاة أولًا.

قلت: الفرض بالذات من صلاة الجَنَازَةِ انتفاع المَيّت والدعاء سبب، فما لم يتحقق الانتفاع يستحبّ الصلاة؛ إِذ يحتمل أن الله لم يستجب دعاء الأولين، وإِنما لم [توجب]

(6)

إِعادة الصَّلاة لئلا [يوجب]

(7)

ما لا يتناهى، إِذ لسنا على يَقِينٍ من الاستجابة في واحدة من الصلوات، وأيضًا فالاستجابة ليست في قدرتنا، والتوصُّل إِليها مرة واجب، وبما زاد [مستحب]

(8)

.

(1)

سقط في أ.

(2)

في ب، ح: الغرض.

(3)

في ح: منهم، وفي ج: فهم.

(4)

في ح: للضرورة.

(5)

في أ: بحصول.

(6)

في أ، ح: يوجب، وفي ج: نوجب.

(7)

في ج: نوجب.

(8)

في ج: لا نجب.

ص: 502

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإِن قلت: قد قال الأصحابُ: إِنَّ صلاةَ الطَّائفة الثَّانية تقع

(1)

فرضًا مع سقوط الحرج والإِثم بالأول، فكيف يكون فرضًا مع جواز تركها؟.

قلت: فرض الكفاية قسمان:

ما يحصل تمام المقصود منه أولًا، ولا يقبل الزيادة، كإِنقاذ الغريق، فهذا إِذا وقع فعله لا يتصور وقوعه ثانيًا.

وما تتجدد

(2)

به مصلحة بتكرُّر الفاعلين، كالاشتغال بالعلم وصلاة الجنازة، وهذا كلّ من أوقعه وقع فرضًا.

فإِن قلت: ردّ السَّلام فرض كفاية، وقد قال الأصحاب: لو سلَّمَ على جماعة فأجاب الجميع كانوا كلهم مؤدِّين للفرض، سواء أجابوا معًا، أم على التعاقب، ومقتضى ما يقولون إِن الفرضَ فيما إِذا أجابوا على التَّعَاقُبِ الأولِ؛ لحصول تمام المقصودية.

قلت: المقصود الذي من أجله شرع أصل السَّلام إِلقاء المَوَدَّة بين المسلمين على ما قال صلى الله عليه وسلم: "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْء إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ قَالُوا: نعم. قال

(3)

: أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ"

(4)

والمودةُ لا تحصل إِلا بين المجيب والمبتدي، دون السَّاكت؛ ولذلك يستحبّ للثَّاني الجواب، فإِذا أجاب وقع فرضًا، كما قلناه.

"فائدة"

فرضُ الكفاية منزلةٌ بين منزلتين: فرض العَيْنِ، والسُّنة، [وهو] يضاهي فرض العَيْنِ من جِهَةِ وجوبه، والسُّنة من جهة جواز تركه عند فعل الغَيْر، ولربما وقع خلاف في صورة، ومثاره من

(1)

في أ، ج، ح: يقع.

(2)

في ج: يتجدد.

(3)

في ح: قالوا.

(4)

من حديث أبي هريرة. أخرجه مسلم 1/ 74 في كتاب الإِيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إِلا المؤمنون .... (93/ 54). وأخرجه معمر في جامعه 10/ 385، باب إِفشاء السَّلام (19438)، وأخرجه من رواية الزبير بن العوام أحمد في المسند 1/ 167، والترمذي 4/ 664 في كتاب صفة القيامة (2510)، ذكره الهيثمي في كشف الأستار 2/ 418 في كتاب الأدب: عقب باب فضل السَّلام (2002)، وذكره الهندي في الكنز وعزاه للضياء المقدسي، وأخرجه البزار (2002) من حديث عبد الله بن الزبير.

ص: 503

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هذا، كما تقول: لا يؤدّي بالتيمُّم

(1)

فريضتان. ويؤدّي نافلتان، وهل يجمع بين فريضةٍ، وصلاة جنازةٍ، أو صلاتي جنازة.

أصح القولين: الجواز، والخلاف جارٍ في أنَّه هل يصلي على جنازتين صلاةً واحدة بتيممٍ

(1)

التيمم في "لسان العرب": القصد يقال: تيممت فلانًا، ويممته، وأممته، وتأممته. أي: قصدته - والأولان منها مصدرهما تيمما، ومصدر الثالث تأميما -، ومصدر الرابع تأمما. وأممته بوزن قصدته - وفي المختار: أمَّه من باب ردّ، وأمّمه تأميمًا - وتأمَّمه إِذا قصده اهـ. وهو يفيد أنه بالتشديد، وقال بعضهم: أمَّمْته بتشديد الميم لا بتخفيفها، كما في المختار والمصباح وغيرهما - وأما أمَمْته مخففًا، فمعناه ضربت أُمَّ رأسه. قال في "المُغرب": أممته بالعصا أممًا من باب طلب: إِذا ضربت أم رأسه، وهي الجلدة الَّتي تجمع الدماغ. وقال في "القاموس": أمه قصده كأتمه وأمّمه. وتأممه. ويممه. وتيممه، والتيمم: أصله التأمم، فمعناه القصد قال الله تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، أي اقصدوه، وقال:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ، أي: لا تقصدوه. وقال: امرؤ القيس في رواية: [الطويل]

تَيَمَّمْتُها مِنْ أَذْرِعاتَ وَأَهْلُها

بِيَثرِبَ أَعْلَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي

أي: قصدتها - وقال أيضًا: [الطويل]

تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارجٍ

يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي

أي: قصدت. وقال الشاعر: [الوافر]

فَلا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا

أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُما يَلِينِي

أي: قصدتها. وقال البوصيري: [البسيط]

يَا خَيْرَ مَنْ يَمَّمَ العَافُونْ سَاحَتَهُ

سَعْيًا وَفَوْقَ مُتُونِ الأيْنُقِ الرُّسُمِ

أي: قصد ويقال: تأمَّم. العطف والعدالة من عالم، ولا تأْمَّمها من جاهل، أي: اقصد، ولا تقصد.

واصطلاحًا:

عرفه الحنفية بأنه: قصد الصعيد الطاهر واستعماله بصفة مخصوصة لإِقامة القربة.

وعرفة الشَّافعية بأنه: إيصال تراب إِلى الوجه واليدين بشروط مخصوصة.

وعرفه المالكية بأنه: طهارة ترابية تشتمل على مسح الوجه واليدين بنيَّة.

وعرفه الحنابلة بأنه: عبارة عن قصد شيء مخصوص على وجه مخصوص. ينظر لسان العرب: 6/ 4966، وترتيب القاموس 4/ 681، والصحاح 5/ 2064، والاختيار 1/ 20، وفتح الوهاب: 1/ 21، ومغني المحتاج: 1/ 87، وحاشية الدسوقي: 1/ 147، والمبدع: 1/ 205.

ص: 504

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واحدٍ؟ وهل يقصد في صلاة الجَنَازة؟ وفرض العَيْن يلزم بالشروع، دون النفل؟ وفي فرض الكفاية خلاف.

قال الجُمْهُور: يجب إِتمام صلاة الجَنَازَةِ بالشُّروع.

وقال الغَزَّالِي: [الأصح]

(1)

أن العلم وسائر فروض الكفايات تجب

(2)

بالشروع

(3)

.

قلت: ويظهر أن يفرق بين صلاة الجَنَازَةِ والعلم، [وبين]

(4)

ترك فرض عَيْن أجبر، بخلاف النفل.

وفي فرض الكِفَايَةِ خلاف جار في القاضي

(5)

، وكفالة اللَّقيط، وغيرهما، والصحيح الإجبار

(6)

وفي كتابنا "الأشباه والنظائر" صور أخر

(7)

.

"فائدة"

قال الشيخ أبو محمد وولده إِمام الحرمين، والأستاذ أبو إِسحاق: فرضُ الكفايةِ أفضلُ من فرضِ العينِ

(8)

.

(1)

في أ، ب، ح: الأصلح.

(2)

في ح: يجب.

(3)

ينظر: المستصفى 2/ 6، والمحصول 1/ 2/ 310، ومنتهى السول ص 24، والإِبهاج 1/ 100، وتيسير التحرير 2/ 213، والموافقات للشاطبي 1/ 176، وشرح التنقيح ص 155. ونشر البنود 1/ 192، والمعتمد 1/ 149، والبحر المحيط 1/ 250، والأشباه والنظائر لابن السبكي 1/ 90.

(4)

في أ، ج، ح: من.

(5)

في ج: القضاء.

(6)

في ب، ج: الإِخبار.

(7)

تنظر هذه الصور في الأشباه والنظائر 1/ 90.

(8)

قيل: القيام بفرض الكفاية أولى من القيام بفرض العين؛ لأنه يسقط فيها الفرض عن نفسه وعن غيره، وفي فرض العين يسقط الفرض عن نفسه فقط. حكاه الأستاذ أبو إِسحاق الإِسفراييني في "شرح كتاب الترتيب" وجزم به الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه "المحيط بمذهب الشَّافعي" وكذلك ولده إِمام الحرمين في كتابه "الغياثي"، وهو ظاهر على القول بوجوب الكفاية على البعض، ووهم بعضهم فحكى عمن ذكر أن فرض الكفاية أفضل من فرض العين، وهو غلط؛ فإِن كلامهم إِنما هو في القيام بهذا الجنس أفضل من ذلك، ثم عبارة الجويني: وللقائم به مزية، ولا يلزم من المزية الأفضلية. على أن الشَّافعي نص ما ينازع في ذلك، ففي "الأم": إِن قطع الطواف المفروض =

ص: 505

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فائدة"

[نسبةُ]

(1)

سُنَّة الكفاية من سُنَّة العَيْن نسبة فرض الكفاية من فرض العَيْن

(2)

، وقد زعم فخر الإِسْلام [الشَّاشِي]

(3)

أنه ليس لنا سُنَّة على الكِفَايةِ إِلا الابتداء بالسَّلام وليس كذلك، فمن سُنَنِ الكفاية تشميت العَاطِسِ، والتسمية على الأكل. والأذان والإِقامة، وما يفعل بالميت، وما ندب إِليه، والشَّاة الواحدة إِذا ضحى بها واحد من أهل البيت، تأدَّى [الشّعَار]

(4)

.

= لصلاة الجنازة أو الرواتب مكروه، إِذ لا يحسن ترك فرض العين لفرض الكفاية، وجرى عليه الأصحاب، ومنهم الرافعي في بابه.

وقال الغزالي في "الإِحياء" في شروط الاشتغال بعلم الخلاف: ألَّا يشتغل به وهو من فروض الكفايات من لم يتفرغ عن فروض الأعيان. قال: ومن عليه فرض عين فاشتغل بفرض الكفاية وزعم أن مقصوده الحق فهو كذاب، ومثاله: من ترك الصلاة في نفسه وتبحّرَ في تحصيل الثياب ونسجها قصدًا لستر العورات. اهـ. وبتقدير تسليمه فكان بعض مشايخنا يخصصه بمن سبق إِليه أوّلًا. أما من فعله ثانيًا فلا يكون في حقه أفضل من فرض العين؛ لأن السقوط حصل بالأول، وإِن كنا نسمي فعل الآخرين فرضًا على رأي.

وقال الشيخ كمال الدين الزَّمَلْكَاني. ما ذكر من تفضيل فرض الكفاية على فرض العين محمول على ما إِذا تعارضا في حق شخص واحد، ولا يكون ذلك إِلا عند تعينها وحينئذ هما فرضا عين، وما يسقط الحرج عنه وعن غيره أولى، وأما إِذا لم يتعارضا وكان فرض العين متعلقًا بشخص، وفرض الكفاية له من يقوم به ففرض العين أولى.

(1)

في أ، ت، ج: شبه.

(2)

المشهور وقوع سنة الكفاية، وخالف في ذلك الشاشي وقال في كتابه "المعتمد" في صلاة الجمعة ما نصه: لم نر في أصول الشَّرع سنة على الكفاية بحال، والسنن معلومة ويخالف الفرض حيث انقسم إِلى عين وكفاية، فإِن في الكفاية فائدة، وهي السقوط بفعل البعض على الباقين، والسنة لا يظهر لها أثر من كونها على الكفاية؛ لأنها لا إِثم في تركها فتسقط كمن ترك بفعل من فعل، وإِنما هي ثواب يحصل له بالسلام مثلًا، ولا يجوز أن يحصل له ثواب بفعل غيره من غير فعل يوجد من جهة تساويه؛ ألا ترى أنه إِذا دخل المسجد جماعة سن لهم تحية المسجد، ولا تسقط سنة التحية في حق بعضهم بفعل البعض؟ وهذا لأن فرض الكفاية موجه على الجماعة احتياطًا؛ ليحصل ذلك الفرض، فإِذا فعل بعضهم فقد حصل المقصود وسقط عن الباقين، والسنة إِنما أمر بها استحبابًا لحظ المأمور من تحصيل الثواب له، فلا يحصل له ثواب بما لا كسب له فيه. ينظر: البحر المحيط 1/ 291 - 292.

(3)

في ب: السادس.

(4)

في ج: الشعائر.

ص: 506

‌الْأَمْرُ بِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ "الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ"

(1)

مَسْأَلةٌ:

الْأَمْرُ بِوَاحِدٍ مِنْ أَشْيَاءَ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ مُسْتَقِيمٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْجَمِيعُ وَاجِبٌ. وَبَعْضُهُمُ الْوَاجِبُ مَا يُفْعَلُ. وَبَعْضُهُمُ الْوَاجِبُ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، وَيَسْقُطُ بِهِ وَبِالآخَرِ.

"مسألة"

الشرح: "الأمر بواحد مبهم من "أشياء" معيّنة"، "كَخِصَالِ الكَفَّارة"، وما هو على التخيير من كفَّارات الحج "مستقيم" عند علمائنا، ويعرف بـ "الواجب المُخَيّر" عند جميع الطَّوائف.

"وقال بعضُ المعتزلةِ: الجميعُ واجبٌ"، ويسقط بواحد.

ومأخذ الخلاف بيننا وبينهم الحُسْن والقُبْح.

قالوا: إِيجاب مبهم

(2)

يمنع حسنه الخاص به، فلو كان واحد من الثلاثة واجبًا، واثنان

(1)

ينقسم الواجب باعتبار ذاته، أي باعتبار نفس الفعل الذي تعلق به الوجوب إِلى واجب معين وإِلى واجب مخير، وذلك لأن الوجوب - وهو أحد الأحكام الخمسة الَّتي تقع صفة لفعل المكلف عند الجمهور - لا يتعلق إِلا بفعل معين من كلّ وجه، أو بفعل مبهم من وجه معين من وجه آخر، ولا يجوز باتفاق العلماء أن يتعلق بفعل مبهم من كلّ وجه؛ إِذ لا فائدة في التكليف به، ضرورة أنه لا يصح القصد إِلى المجهول المطلق، فتعلق الوجوب بأمر مبهم من كلّ وجه غير واقع؛ لأنه تكليف بالمحال، وهو باطل، كما أن من شروط التكليف علم المكلف بما كلف به، بخلاف إِيجاب أمر مبهم من أمور معلومة فإِنه صحيح وواقع.

والواجب المعين: هو ما ألزمنا الشارع به بذاته، بحيث لا يجوز تركه، ولا يجوز استبداله بغيره، بل لا بُدَّ من الإِتيان به، وفعله بذاته، وينظر مباحثه في: الإِحكام للآمدي 1/ 194، والبرهان 1/ 268، والمحصول 1/ 2/ 266، والإِبهاج 1/ 84، والتمهيد للإِسنوي ص 79، ونهاية السول 1/ 132، والمختصر لابن اللحام ص 61، والتبصرة ص 70 والمستصفى 1/ 43، ومنتهى الوصول ص 24، والمعتمد 1/ 87، والتحصيل 1/ 302، والبحر المحيط 1/ 186، وروضة الناظر ص 17، والمسودة ص 27، وشرح التنقيح ص 152، وتيسير التحرير 2/ 212، وفواتح الرحموت 1/ 68، والعدة 1/ 302، ومفتاح الوصول للتلمساني ص 30، واللمع ص 9، وجمع الجوامع 1/ 175، والقواعد والفوائد ص 65.

(2)

في ب: منهم.

ص: 507

لَنَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ؛ وَالنَّصُّ دَلَّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا وُجُوبُ تزوِيجِ أَحَدِ الْخَاطِبَيْنِ، وإِعْتَاقِ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ، فَلَوْ كَانَ التَّخْيِيرُ يُوجِبُ الْجَمِيعَ، لَوَجَبَ تَزْوِيجُ الْجَمِيعِ، وَلَوْ كَانَ مُعَيَّنًا؛ لِخُصُوصِ أَحَدِهِمَا، امْتَنَعَ التَّخْيِيرُ.

غير واجبين، لخلى اثنان عن المقتضى للوجوب، فلا بد وأن يكون كلّ واحد بخصوصه مشتملًا على صفة تقتضي وجوبه، ولكن كلّ منهما يقوم مقام الآخر، فلهذا سُمِّي بالمخيّر.

وقد وافقهم على إِطلاق القول بوجوب الجَمِيعِ ابن خويز منداد، من المالكية. نقله المَازِرِيُّ.

"وبعضهم" قال: "الواجب ما يفعل".

"وبعضهم: الواجب واحد منها معيّن، ويسقط" الفرض "به وبالآخر".

وهذا يُسَمَّى قول التراجم

(1)

ينسبه أصحابنا إِلى المعتزلة، والمعتزلة إِلى أصحابنا فاتفق الفريقان على فَسَادِهِ، ولست أرى مسوغًا لنقله عن واحد من الفريقين وقد [تَعَاضَدَا]

(2)

على إِفساده.

وقال أبي رحمه الله: وعندي أنه لم يقل به قائل، ولا وَجْهَ [له]

(3)

، لرواية أصحابنا له عن المعتزلة لِمُنَافَاةِ قواعدهم له.

الشرح: "لَنَا: القطْعُ بِالجواز"؛ إِذ لا يلزم مُحَال من قولك: أوجبت عليك واحدًا مبهمًا

(4)

من هذه الأمور، وأيها فعلت برئت ذمّتك، وإِن تركت الجميع عاقبتك، لتركك أحدها من حيث هو أحدها "والنَّص دَلَّ عليه"، كما في الكَفَّارة، فوجب حمله عليه.

"وأيضًا [وجوب]

(5)

تَزْويج أحد الخاطبين" الكفؤين

(6)

إِذا دعت المرأة إِليهما،

(1)

في أ، ب، ح: التزاحم.

(2)

في ت: يقال ضدًا.

(3)

سقط في أ، ت، ج.

(4)

في أ، ب، ت، ح: منهما.

(5)

سقط في ت، ح.

(6)

والكفاءة بالفتح: مصدر كافأه في كذا: إِذا ساواه فيه، فهي لغة المماثلة والمساواة، والكفء هو المماثل والنظير، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم" أي تتساوى في الديات والقصاص، فدم الشريف منهم كدم الوضيع، ويقال: فلان كفء فلانة، إِذا كان يصلح لها =

ص: 508

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وإعتاق

(1)

واحد من الجنسِ" جنسِ الرقبة في الكَفَّارة بالتخيير.

"ولو كان التخيير يوجب الجميع لوجب تزويج الجميع"، وإِعتاق جميع الرِّقَاب.

"ولو كان" التخيير "معينًا لخصوص أحدهما، امتنع التخيير"؛ لأن التعيين يوجب ألَّا

= بعلًا. والمراد بها شرعًا: مساواة الزوج للزوجة في أمور مخصوصة. اتفق جمهور العلماء على أن الكفاءة معتبرة في النكاح عدا الكرخي من الحنفية؛ فإِن صاحب المبسوط حكى عنه أنه لا يعتبرها في النكاح أصلًا. وذكر في رد المحتار نقلًا عن العلامة نوح في حاشيته على الدر أن الإِمام أبا الحسن الكرخي والإِمام أبا بكر الجصاص - وهما من أئمة العراق - ومن تبعهما من المشايخ لا يعتبرونها في النكاح أصلًا، ولو لم تثبت عندهما هذه الرواية عن أبي حنيفة لما اختاراها. واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم:"ألا لا يزوج النساء إِلا الأولياء، ولا يزوجن إِلا من الأكفاء". وقوله عليه السلام لعلي - كرَّم الله وجهه -: "ثلاث لا نؤخرها: الصلاة إِذا أتت، والجنازة إِذا حضرت، والأيم إِذا وجدت كفئًا". وما روي عن عائشة رضي الله عنها وعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: "لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إِلا من الأكفاء". وهذا في حكم المرفوع؛ لأنه أمر لا يعرف من جهة الرأي. واستدل الشَّافعي رحمه الله بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم خير بريرة لما أعتقت وكانت تحت عبد على ما حققه الشوكاني جهة الدلالة: أنها كملت تحت ناقص؛ فانتفت كفاءته لها. وقال الشَّافعي رضي الله عنه: أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة.

(1)

العتق لغة: الحرية، يقال منه: عتق يعتق عِتقا وعَتقا: بكسر العين وفتحها، عن صاحب "المحكم" وغيره، وعتيقة وعتاقا وعتاقة فهو عنيق، وعاتق، حكاها الجوهري، وهم عتقاء، وأمة عتيق، وعتيقة، وإِماء عتائق، وحلف بالعَتاق، بفتح العين، أي: بالإِعتاق. قال الأزهري: هو مشتق من قولهم: عتق الفرس: إِذا سبق ونجا، وعتق الفرخ: إِذا طار واستقل؛ لأن العبد يتخلص بالعتق، ويذهب حيث يشاء. قال الأزهري، وغيره: إِنما قيل لمن أعتق نسمة: إِنه أعتق رقبة، وفك رقبة، فخُصّت الرقبة دون سائر الأعضاء، مع أن العتق يتناول الجميع؛ لأن حكم السيد عليه، وملكه له كحبل في رقبته، وكالغل المانع له من الخروج، فإِذا أعتق، فكأن رقبته أطلقت من ذلك.

واصطلاحًا:

عرفه الحنفية بأنه: خروج الرقيق عن الملك لله تعالى.

وعرفه الشَّافعية بأنه: إِزالة الرق عن الآدمي.

وعرفه المالكية بأنه: خلوص الرقيق من الرق بصيغة.

وعرفه الحنابلة بأنه: تحرير الرقيق وتخليصه من الرق. ينظر: ترتيب القاموس 3/ 129، والبحر الرائق 4/ 238، وتبيين الحقائق 3/ 66، ومغني المحتاج 4/ 491، وبلغة السالك 2/ 441، وكشاف القناع 4/ 508، والكافي 2/ 961، والإِشراف 2/ 371.

ص: 509

الْمُعْتَزِلَةُ: غَيْرُ الْمُعَيَّنِ مَجْهُولٌ، وَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُه، فَلا يكَلَّفُ بِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعَيَّنٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلاثَةِ، فَيَنْتَفِي الْخُصوُص، فَصَحَّ إِطْلاقُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ عَلَيْهِ.

قالوا لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ هُوَ أَحَدُهَا لا بِعَيْنِهِ مُبْهَمًا، ........

يجزئ الآخر، والتخيير يوجب الإِجزاء

(1)

، وهما متنافيان، فلم يَبْقَ إِلا إِيجاب أحدهما لا بعينه، وهو المطلوب، وفي هذا نظر سيأتي إِنْ شَاءَ الله تعالى.

الشرح: قالت "المعتزلةُ: غير المعيّن مجهول"، والمجهول لا يكلّف به، وأيضًا فالمجهول "مستحيل وقوعه، فلا يكلف به".

"والجواب: أنه معين من حيث هو واجب، وهو واحد من الثلاثة، فيبقى الخصوص" أي: تعينه الشخصي؛ لأنه أحد الثلاثة لا بعينه "فصح إِطلاق غير المعين عليه" بانتفاء خصوصه الشَّخصي، وإِطلاق المعين عليه باعتبار كونه واجبًا، فصح بهذا الاعتبار كونه معلومًا ووقوع التكليف بهِ.

الشرح: "قالوا: لو كان الواجبُ واحدًا من حيث هو أحدها لا بعينه مبهمًا

(2)

لوجب أن يكون المخيرُ فيه واحدًا [لا]

(3)

بعينه من حيث هو أحدها، فإِن تعددا" - أي: الواجب والمخير فيه - "لزم التخيير بين واجب وغير واجب"، مثل: صَلّ، أو: كُل، "وإِن اتحدا لزم اجتماع التخيير" وهو جواز التَّرك "والوجوب"، وهو عدم جواز التَّرك في شيء واحد، وهما متناقضان.

"وأجيب بلزومه في "أعيان

(4)

واحد من "الجنس، و [في]

(5)

"تزويج أحد "الخاطبين"، فإِنَّ دليلكم بعينه يأتي فيهما.

"والحَقُّ" في الجواب "أن الذي وجب" - وهو المبهمُ - "لم يخير فيه، والمخير فيه" - وهو كل واحد من المتعيّنات - " [لم يجب]

(6)

، لعدم التَّعيين"، وإِن كان يتأتى به الواجب، لتضمّنه مفهوم أحدها، "والتعدّد" فيما صدق عليه أحدها إِذا تعلّق به الوجوب، والتخيير "يأبى كون

(1)

في ب: الآخر.

(2)

في أ، ب، ت: منها، وفي ح: منهما.

(3)

في ج: إِلا.

(4)

في ج: إِعتاق.

(5)

سقط في ت، ج.

(6)

في أ: ما يجب، وفي ح: بل ما يجب.

ص: 510

لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ المخَيَّرُ فِيهِ وَاحِدًا لا بِعَيْنِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَحَدُهَا. فَإِنْ تَعَدَّدَا، لَزِمَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ

المتعلّقين" - متعلّقي الوجوب والتخيير - واحدًا، "كما لو حرم واحدًا وأوجب واحدًا" من الأمرين، فإِن معناه: أيهما فعلت حرم الآخر، وأيهما تركت وجب الآخر، والتخيير بين واجب وغيره بهذا المعنى جائزٌ، كما أن الصَّحيح فيمن قال لامرأته: أنت عَلَيَّ حرام كظهر أمي، ونوى الطَّلاق والظّهار معًا بقوله: حرام، أنه يخير في الأخذ بما شاء من الطلاق والظّهار، وأيهما أخذ به حرم الآخر.

وكذا - على وجه - المُبتدأة الَّتي لا تَمْييز لها إِذا عرفت ابتداء دمها، وقلنا: تحيض سِتًا أو سبعًا - أن ذلك على سبيل التخيير.

وعلى هذا إِن شاءت السّت، وجب عليها في اليوم السَّابع الصَّلاة والصوم، وإلا حرما، فهي في السَّابع مخيّرة بين أمرين أيهما أخذت به حرم الآخر.

وإِنما ذكرنا هذين المثالين للتقريب، وإِلَّا فقد يضايق

(1)

فيهما؛ لأن تحريم أحدهما وإِن كان منهما فليس بالأصالةِ، كما في: حرمت أحدهما لا بعينه، وأوجبت الآخر، والفرض أن مثل ذلك لا يمتنع، وإِنما الممتنع التخيير بين واجبٍ بعينه، وغير واجبٍ بعينه

(2)

، على ما فيه من النَّظر؛ إِذ لقائلٍ أن يقول: قد خُيِّرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإِسراء بين الخَمْرِ

(3)

واللَّبَنِ.

وقيل فيه: إِن ذلك كان في السماء، وليست عالم تكليف، وأنه كان من خمر الجنَّة، وليس بحرام.

ويمكن أن يقال: إِنه على ما به، وخُيِّرَ بين واجب وحرام، لعلم الله - تعالى - أنه لا يقع منه الحرام، ويتجوز

(4)

بهذا أنَّ التخيير بين واجب وحرام، إِنما يمتنع إِذا كان المخاطب ممن لا يبعد إِتيانه لكلّ منهما، أما إِذا امتنع عليه الإِتيان بالحَرَام، وعُصِم عنه فلا.

(1)

في ب، ج، ح: تضايق.

(2)

سقط في ت.

(3)

في أ، ت، ح: الآخر.

(4)

في حاشية ج: قوله: ويتجوز بهذا

إِلخ وبه يجاب عن حديث: "ما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إِلا اختار أيسرهما ما لم يكن إِثمًا" ويمكن أن "ما" زمانية، أي مدة عدم كونه إِثمًا، ويكون ذلك فيما نسخ حله، أي يختار الأيسر ما لم ينسخ حله، كاستغفاره للمنافقين.

ص: 511

وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ، وَإِنِ اتَّحَدَا، لَزِمَ اجْتِمَاعُ التَّخْيِيرِ وَالْوُجُوبِ. وَأُجِيبَ بِلُزُومِهِ فِي

فإِن قلت: وأي فائدة فيه حينئذٍ؟

قلت: رفع درجته بكونه قد تعاطى اختيار الحَلالِ؟

وفي قصَّة الإِسراء

(1)

زيادة لطيفة، وهي أن شرب اللَّبن سبب هداية هذه الأمة، ولو شرب عليه الصلاة والسلام الخمر لغوت أمته - كما أخبر به جبريل عليه السلام فوقع التخيير بينهما، ليختار اللَّبن فتقع هداية أمته على يديه، ويكون هو السَّببُ فيها.

وهذا كلّه حائد عن مقصدنا، والغرضُ من جواب المصنّف أن متعلّق الوجوب هو القدر المشترك بين الخِصَالِ، ولا تخيير فيه، ومتعلّق التخيير خصوصيات الخِصَالِ، ولا وجوب فيها.

وكان أبي رحمه الله يسلك في الجواب مسلكًا فائقًا عائدًا على هذا الجواب بمزيد تحرير، فيقول

(2)

: القدر المشترك يقال: على المتواطئ، كالرجل، ولا إِيهام فيه، فإِن حقيقته معلومة متميزة عن غيرها من الحقائق.

وقال: على

(3)

المبهم بين شيئين أو أشياء، كأحد الرجلين.

والفرق بينهما: أنَّ الأول لم يقصد فيه إِلا الحقيقة الَّتي هي مسمى الرجولية، والثَّاني: قصد فيه أخص من ذلك، وهو أحد الشَّخصين بعينه، وإِن لم يعين، ولذلك سُمِّيَ مبهمًا؛ لأنه أُبْهِمَ علينا أمره، والأول لم يقل أحد: إِن الوجوب يتعلّق بخصوصياته كالأمر بالإِعتاق

(4)

، فإِنَّ مسمى الإِعتاق، ومسمى الرقبة متواطئ كالرجل، فلا تعلّق للأمر بالخصوصيات لا على التعيين، ولا على التخيير، ولا يقال فيه: واجبٌ مخيَّرٌ، ولا يأتي فيه الخلاف الذي في المخير، وأكثر أوامر الشريعة من ذلك.

والثَّاني: متعلّق بالخصوصيات؛ فلذلك وقع الخلاف فيه، وسمي الواجب المخيّر.

وبهذا تبيّن لك أن وجوب تزويج أحد الخاطبين، وإِعتاق واحد من الجنس اللذين ذكرهما

(1)

أخرجه البخاري 7/ 241، كتاب مناقب الأنصار: باب المعراج (3887)، ومسلم (1/ 149) 150 - 151، كتاب الإِيمان: باب الإِسراء (264 - 164).

(2)

في ب: فنقول.

(3)

في ح: عليه.

(4)

في ج: بالاعتناق.

ص: 512

الْجِنْسِ وَفِي الْخَاطِبَيْنِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الَّذِي وَجَبَ لَمْ يُخَيَّرْ فِيهِ، وَالْمُخَيَّرُ فِيهِ لَمْ يَجِبْ؛ لِعَدَمِ

المصنّف، وكذا نصب أحد المستعدين للإِمامة

(1)

- إِذا شغر الوقت عن إِمام - ليس ممَّا نحن فيه؛

(1)

عرفها كثير من علماء الشريعة الإِسلامية بتعريفات ترجع إِلى معنى واحد: وهو رياسة الحكومة الإِسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا. قال السعد في "شرح المقاصد": (الفصل الرابع في الإِمامة، وهي رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافةً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم) وقال البيضاوي في "طوالع الأنوار": (الإِمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول عليه السلام في إِقامة القوانين الشرعية، وحفظ حوزة الملة، على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة). وقال أبو الحسن الماوردي في الأحكام السلطانية: (الإِمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا). وقد زاد الإِمام الرازي قيدًا آخر في التعريف فقال: (هي رياسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص). وقال: هو احتراز عن كلّ الأمة إِذا عزلوا الإِمام لفسقه. وترادف الخلافة الإِمامة العظمى وإِمارة المؤمنين، فهي ثلاث كلمات متحدة المعنى في لسان الشرعيين والقائم بهذه الوظيفة يسمى خليفة، وإِمامًا، وأمير المؤمنين.

أما تسميته خليفة: فلكونه يخلف النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمته، فيقال: خليفة بإِطلاق، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في تسمية خليفة الله، فجوزه بعضهم؛ لقيامه بحقوقه في خلقه، ولقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} ومنع جمهور العلماء من جوازه، ونسبوا قائله إِلى الفجور، وقالوا: يستخلف من يغيب أو يموت، والله لا يغيب ولا يموت، وقد قيل لأبي بكر رضي الله عنه: يا خليفة الله، فقال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما تسميته إِماما: فتشبيه بإِمام الصلاة في اتباعه، والاقتداء به، ولهذا يقال: الإِمامة العظمى احترازًا عن إِمامة الصلاة. أما نصب الخليفة فذهب جمهور العلماء إِلى أن نصب الخليفة، وإِقامته على الأمة واجب على المسلمين. وخالفهم الأصم من المعنزلة وبعض الخوارج إِذ قالوا بجواز نصب الخليفة لا وجوبه، والواجب عندهم إِمضاء أحكام الشَّرع، فإِذا اتفقت الأمة على العدل، وتواطأت على تنفيذ أحكام الله تعالى لم تحتج إِلى خليفة، ولا يجب عليها نصبه. والقائلون بوجوب نصب الخليفة اختلفوا في طريقه:

فذهب أهل السنة، وأكثر المعتزلة إِلى أن نصبه واجب بالسمع، وذهب جماعة منهم الجاحظ والخَيَّاط والكَعْبي وأبو الحسين البصري إِلى أن نصبه واجب بالعقل. استدلّ أهل السنة، ومن وافقهم على الوجوب سمعًا بأمور:

الأول: تواتر إِجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت عن خليفة، حتى قال أبو بكر في خطبته حين وفاة الرسول عليه السلام:"ألا إِن محمدًا قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به" فبادر الكلّ إِلى قبول قوله، ولم يقل أحد: لا حاجة لنا بذلك، بل اتفقوا عليه، وأخذوا ينظرون فيمن يتولّى أمرهم، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن النبيّ صلى الله عليه وسلم واختلاف =

ص: 513

التَّعْيِينِ. وَالتَّعَدُّدُ يَأْبَى كَوْنَ الْمُتَعَلِّقَيْنِ وَاحِدًا، كَمَا لَوْ حَرَّمَ وَاحِدًا، وَأَوْجَبَ وَاحِدًا.

لأنه ممَّا يتعلّق الوجوب فيه بالقَدْرِ المشترك من غير نظر إِلى الخصوصيات.

الصحابة في تعيين الخليفة لا يقدح في ذلك الاتفاق، ولم يزل الناس بعدهم على ذلك في كلّ عصر وزمن.

الثَّاني: أن الشارع أمر بإِقامة الحدود، وسد الثغور، وتجهيز الجيوش للجهاد، وكثير من الأمور المتعلّقة بحفظ النظام، وحماية البيضة ممَّا لا يتم إِلا بخليفة؛ إِذ لا يمكن لآحاد الناس أن يقوم به، وما لا يتم الواجب المطلق إِلا به، وكان مقدورًا عليه فهو واجب.

الثالث: أن في نصب الخليفة جَلْبَ منافع كثيرة، ودفع مضارَّ عديدة، وكل ما كان كذلك فهو واجب بالإِجماع؛ وذلك لأنا نعلم علمًا ضروريا أن اجتماع الناس الموصل إِلى صلاحهم في دينهم ودنياهم لا يتم إِلا بسلطان قاهر يدرأ المفاسد، ويحفظ المصالح، ويمنع ما تتسارع إِليه طباعهم، وتتنازع عليه أطماعهم. ولهذا لا ينتظم أمر أدنى اجتماع كرفقة طريق بدون رئيس يقتدون برأيه، وربما يحصل مثل هذا بين الحيوانات كالنحل؛ إِذ لها عظيم يقوم مقام الرئيس ينتظم به أمرها، فإِذا هلك شاع بينها الانقسام والفساد. ونوقش هذا الدليل "بأن في نصب الخليفة مضارَّ كثيرة، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا ضرَرَ ولا ضرارَ". فإِن تولية الإِنسان على مثله ليحكم عليه فيما يهتدى إِليه، وفيما لا يهتدى إِليه ضرر لا محالة.

وقد يستنكف عنه بعض الناس، كما وقع فيما مضى، فيفضي ذلك إِلى الاختلاف والفتنة، وهذا ضرر عظيم. ويزاد على ذلك أن الخليفة لا تجب عصمته، فيتصور منه الكفر والفسوق، وإِن لم يعزل أضر بالأمة، وإِن عُزل أدى ذلك إِلى الفتنة لاحتياج الناس إِلى محاربته. وأجيب عن ذلك: بأن المضار اللازمة من ترك نصب الخليفة أكثر بكثير من المضار الناشئة من نصبه، ودفع الضرر الأعظم عند التعارض واجب.

قال العلامة السعد في "شرح المقاصد" بعد أن ذكر الأدلة الثلاثة: وقد يتمسك بمثل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمام زمانه مَاتَ ميتة جاهلية" فإِن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي الحصول.

واستدل القائلون بوجوب نصب الخليفة عقلًا: بأن طباع العقلاء توجب التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، وأن كلّ أمة لا تستغني عن قوَّة تحمي قوانينها، وتدير شئون أفرادها، وعليه فوجود الحاكم الوازع ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري الذي تختلف فيه الأهواء، وتتشتت الآراء، فيكثر النزاع، ويشتد الخصام، وتسود الفوضى لذلك يقول الأفوه، وهو شاعر جاهلي:[البسيط]

لا يَصْلُح النَّاسُ فَوْضَى لا سراةَ لَهُمْ

ولا سُرَاةً إِذا جُهّالُهُمْ سَادُوا

ورد هذا الدليل: بأنه مبني على قاعدة (ما أدركه العقل حسنًا، فهو عند الله حسن، وما أدركه قبيحًا =

ص: 514

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكان أبي رحمه الله يمثل بأهل الشُّورى الذين جعل عمر رضي الله عنه الأمر [فيها] بأعيانهم.

= فهو عند الله قبيح). وهي قاعدة باطلة؛ إِذ لو كان العقل كافيًا في درك الأحكام الشرعية، وانتظام أمر الناس في دينهم ودنياهم، لما كان هناك حاجة لإِرسال الرسل عليهم السلام إِلى الخلق. وهذا هو الصواب الذي تركن إِليه النفس، ويطمئن إِليه القلب، ويخضع له الفكر السليم؛ لأن العقول متباينة ومتفاوتة، فرب أمر يكون حسنًا في نظر بعض العقول، وهو قبيح في نظر بعض آخر، فكيف يدرك العقل الأحكام الشرعية؟ وكيف يكون متعلّق المدح والثواب والذم والعقاب؟ لا بد إِذًا في انتظام أمر المجتمع من قانون سماوي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} يكون هو المرجع في تعريف الأحكام الشرعية، وتنظيم شأن المجتمع، حتى يسود العدل، ويستقر في نصابه، وينتظم أمر الدين والدنيا. هذه أدلة القائلين بوجوب نصب الخليفة على اختلافهم في طريق الوجوب. أما القائلون بعدم وجوب نصب الخليفة، فاستدلوا بما يأتي:

الأول: توفر الناس على مصالحهم الدنيوية، وتعاونهم على واجباتهم الدينية ممَّا يحث عليه طبعهم، وينادى به دينهم، فلا حاجة بهم إِلى قيام حاكم عليهم فيما يستقلون به، ويدل على ذلك انتظام أحوال العرب، وأهل البادية النائين عن السلطان وحكمه.

الثَّاني: انتفاع الناس بالخليفة لا يكون إِلا بالوصول إِليه، ولا يخفى أن وصول آحاد الرعية إِليه في كلّ ما يطرأ لهم من الأمور الدنيوية متعذر عادة، فلا فائدة إِذًا في نصبه للعامة، فلا يكون واجبًا بل جائزًا.

الثالث: اشترط العلماء في الخليفة شروطًا قلَّما تتوفر في كلّ عصر، وعلى ذلك فإِن أقام المسلمون فاقدها لم يأتوا بالواجب عليهم، وإِن لم يقيموه فقد تركوا الواجب، فوجوب نصبه يستلزم أحد الأمرين الممتنعين، فيكون ممتنعًا.

ورد دليلهم الأول: بأنه وإِن كان ممكنًا عقلًا، فهو ممتنع؛ عادة لما نشاهده من قيام الفتن، وحدوث الخلاف والشقاق عند موت الولاة، حيث كان العرب من سكان البادية قساة غلاظًا أجلافًا يشنون الغارات لأتفه الأسباب، ويقتلون الأنفس والذَّراري، فهم إِذن بعيدون عن آداب الدين وسياسة الدنيا.

ورد الثَّاني: بمنع ما يدعونه من أن الانتفاع بالإِمام لا يكون إِلا بالوصول إِليه فقط، بل كما يكون بالوصول إِليه يكون بوصول أحكامه وسياسته إِلى الرعية، ونصبه من يرجعون إِليه في مصالحهم.

ورد الثالث: بأن الواجب على المسلمين أن يبايعوا من كان مستجمعًا للشروط الواجبة، فإِذا تعذَّر وجوب بعض الشروط دخلت المسألة في حكم الضرورات، والضرورات تقدر بقدرها، فيكون الواجب حينئذ مبايعة من كان مستجمعًا لأكثر الشروط من أهلها مع الاجتهاد، والسعي لاستكمالها كلها فيه. =

ص: 515

قَالُوا: يَعُمُّ، وَيَسْقُط، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ كَالْكِفَايةِ. قُلْنَا: الْإِجْمَاعُ ثَمَّةَ عَلَى تَأْثيمِ الْجَمِيعِ، وَهُنَا: بِتَرْكِ وَاحِدٍ لا بِعَيْنِهِ، وَأَيْضًا: فتَأْثِيمُ وَاحِدٍ لا ...........

الشرح: "قالوا": الوجوبُ "يعمّ" كلَّ الخصال، "ويسقط" بمباشرة أحدها، "وإِن كان بلفظ التخيير" وذلك "كالكفاية"، فإِن فرضَ الكفاية - كما مَهَّدتم - واجب على الجميع، ويسقط بالبعض بجامع حصول المصلحة بمبهم

(1)

.

"قلنا": الفرق أن "الإِجماع ثَمَّ على تأثيم الجميع"، والإِجماع "هنا"، على الذمِّ "بترك واحد [لا بعينه] "، كذا ذكر في "المنتهى".

ونقل عن بعض المعتزلة التأثيم بالجميع.

ولكن ظاهر إِيراد الأكثرين ما ذكره المصنّفُ من اتفاق الفريقين على أن التَّارك إِنما يأثم بواحد، وقالوا: على هذا، لا خلاف في المَعْنَى.

وممن صرَّحَ بأنه لا خلاف في المعنى إِمام الحرمين، وابن السَّمعاني، وجماعة من المتأخرين.

= قال ابن خلدون بعد أن ذكر مذهب القائلين بجواز نصب الخليفة: (والذي حملهم على هذا المذهب، إِنما هو الفرار عن الملك، ومذاهبه من الاستطالة والتغلُّب، والاستمتاع بالدنيا؛ لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك، والنعي على أهله ومرغبة في رفضه، واعلم أن الشَّرع لم يذم الملك لذاته، ولا حظر القيام به، وإِنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القَهْر والظلم، والتمتع باللذات، ولا شك أن في هذه مفاسد محظورة، وهي من توابعه، كما أثنى على العدل والنصفة، وإِقامة مراسيم الدين والذب عنه، وأوجب بإِزائها الثواب، وهي كلها من توابع الملك، فإِذًا وقع الذم للملك على صفة وحال دون حال أخرى، ولم يذم لذاته

إِلخ.

خلاصة القول: إِن وجوب نَصْب الخليفة الذي ذهب إِليه جمهور العلماء ليس وجوبًا عينيًا، بل هو وجوب كفائي، شأنه شأن سائر الواجبات الكفائية من جهاد وطلب علم ونحو ذلك، فإِذا قام بهذه الوظيفة من يصلح لها سقط وجوبها عن كافة المسلمين، وإِن لم يقم بها أحد أثم من الناس فريقان:

الأول: أهل الاختيار المعروفون بشروطهم، حتى يختاروا خليفة المسلمين.

والثَّاني: أهل الخلافة حتى ينتصب أحدهم، ويتولى أمورها، وليس على غير هذين الفريقين من الأمة حرج ولا مأثم. ينظر: الخلافة أو الإِمامة العظمى للسيد رشيد رضا ص 36، ومقدمة ابن خلدون 160، والأحكام السلطانية للماوردي ص 3.

(1)

في ب: منهم.

ص: 516

بِعَيْنِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ بِخِلافِ التَّأْثِيمِ عَلَى تَرْكِ وَاحِدٍ مِنْ ثَلاثَةٍ.

قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ الآمِرُ الْوَاجِبَ. قُلْنَا: يَعْلَمُهُ حَسْبَمَا أَوْجَبَه، وَإِذَا أَوْجَبَهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَجَبَ أَنْ يَعْلَمَهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ.

قَالُوا: عَلِمَ مَا يُفْعَلُ فَكَانَ الْوَاجِبَ. قُلْنَا: فَكَانَ الْوَاجِبَ؛ لِكَوْنِهِ ...........

وقد حكى المَاوَرْدِيّ

(1)

في "الحاوي"

(2)

وجهين، فيمن مات وعليه الكَفَّارة المخيرة، ولم يوص بإِخراجها، وعدل الوارث عن أول الأمور إِلى العِتْقِ، هل يجزئ؟.

قال: ويشبه أن يكونا مخرجين من الخلاف المذكور.

إِن قلنا: الجميع واجب، وله إِسقاط الوجوب بإِخراج واحد آخر.

وإِن قلنا: أحدها لا بعينه لم يجزئ؛ لأنه لم يتعيَّن في الوجوب.

"وأيضًا فتأثيمُ واحد لا لعينه غير معقول"؛ لأنه لا يمكن عقاب أحد الشخصين إِلا على التعيين، "بخلاف التَّأثيم على تَرْك واحد من الثلاثة"، لجواز أن العقاب على أحد الفعلين لا بعينه. والذين ذهبوا إِلى أن الواجب معين عند الله تعالى.

الشرح: "قالوا: يجب أن يعلم الآمرُ الواجبَ"؛ لأنه طالبه، ويستحيل طلب المَجْهُول، وإِذا علمه كان معينًا، لتميزه عن غيره.

"قلنا": أما وجوب علمه بما أوجبه فصحيح، ولكن إِنما "يعلمه حسب ما أوجبه، وإِذا أوجب" واحدًا "غير معين، وجب أن يعلمه غير معين"، وإِلَّا لم يكن عالمًا بما أوجبه.

والحاصلُ: أن المعيَّن يطلق على المُشَخَّص، ولا يلزم أن يعلم الطَّالب المشخّص، ولا أن يوجه الطَّلب نحوه، وعلى المعلوم المتميّز، فإِنَّ له تعيُّنًا بوجه ما، وهو الموجود هنا، والَّذين قالوا: الواجب هو: ما يفعله العبد.

الشرح: "قالوا: علم" الله "ما يفعل" العبد، "فكان" المفعول "الواجب" في علمه تَعَالى، للاتفاق على إِثباته بالواجب إِذا فعل ما شاء منهما.

(1)

علي بن محمد بن حبيب القاضي أبو الحسن الماوردي البصري، أحد أئمة أصحاب الوجوه، تفقه على أبي القاسم الصيمري، وسمع من أبي حامد الإِسفراييني، قال الخطيب: كان ثقة، من وجوه الفقهاء الشافعيين. وقال الشِّيرازي: وله مصنفات كثيرة في الفقه والتفسير وأصول الفقه والأدب، وكان حافظًا للمذهب. ومن تصانيفه: الحاوي. قال الإِسنوي: ولم يصنف مثله، والأحكام السلطانية، والتفسير المعروف بالنكت والعيون وغيرها. مات سنة 450. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 230، وتاريخ بغداد 12/ 102، وطبقات السبكي 3/ 303.

(2)

الحاوي؛ حققناه - بعون الله تعالى - في تسعة عَشَرَ مجلدًا، ولله الحمد والمنة.

ص: 517

وَاحِدًا مِنْهَا لا لِخُصُوصِهِ؛ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ سَوَاءٌ.

قلنا: علم الله ما يفعله العَبْدُ فكان ما يفعله العبد هو الواجب، "لكونه واحدًا منها" - أي: من الثلاثة - "لا بخصوصه" من إِطعامٍ، أو كسوةٍ، أو إِعتاقٍ، "لِلْقَطْعِ بأن الخلق فيه سواء" من غير تفاوت، وأن الواجب على زَيْدٍ هو الواجب على عَمْرٍو.

"فائدة"

ذكر ابن السَّمعاني أن أصحابنا قالوا: إِذا فعل الخِصَالَ، فالواجبُ أعلاها؛ لأنه مُثَاب على جميعها، وثواب الواجب أكثر من ثواب النَّدب، فانصرف الواجب إِلى أعلاها، ليكثر ثوابه، وإِن ترك الجميع عوقب على أدناها، ليقل وَبَالُهُ وَوِزْرُهُ؛ ولأن الوجوب [سقط]

(1)

بفعل الأدنى. انتهى.

ولا أعرف هذا عن الأصحاب، ولكنه قول القاضي أبي بكر، وادَّعى عبد الجليل الصَّابوني مناقضته فيه.

وليس كما ادَّعَاهُ؛ لما ذكر ابنُ السَّمْعَاني من التَّفْرقة.

نعم - إِن اتَّجه ما قاله في العِقَابِ فلا يتَّجه في الثواب، بل التَّحقيق فيه أنه يُثَابُ ثواب الواجب على مُسَمَّى أحدها.

وقوله: الواجب أكثر ثوابًا صحيح، ولكن المتعين ليس بواجب كما عرفت.

وابن السَّمْعَاني بنى هذا على أصله من أن الواجب يتعيَّن بفعل المكلّف، ويكون مبهمًا قبل الفعل، متعينًا بعده بفعله، فإِنه نصير

(2)

هذا، ونقله عن جمهور الفقهاء.

وجمهور الفُقَهَاء إِذا حقّق مذهبهم لم يكن إِلَّا ما اخترناه، وهو رأي المتكلمين من أهل السُّنة، ونقل عن حذاق الفقهاء.

وأما هذا فهو المذهب الذي عَزَاهُ المصنّف إِلى بعض المعتزلة.

وما أظنّ ابن السَّمعاني ذهب إِلا إِلى المختار، ولكن في عبارته قصور.

"فرع"

قد يقع التخيير بين ضدين كـ"قُمْ" أو اقعد، أو خلافين، كما في خصال الكَفَّارة وجزاء الصيد، أو المثلين مثل: صلّ ركعتين غدًا، أو بعد غد.

(1)

سقط في ج.

(2)

في ج: نسير.

ص: 518

الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ

(1)

ومثل له المازري بـ "صَلّ ركعتين قبل قدوم زيد بساعة، أو بعد قدومه بساعة" وزيد لا يعلم متى يقدم، ثم قال: وهذا وإِن تصور، لا يرد به الشَّرع إِلا على القول بتكليف ما لا يُطَاق.

قلت: وهذا صحيح، والاستحالة فيه من قبل المثال، لا من التخيير

(2)

بين المثلين، وقد مثلنا بواضح.

ثم ما وقع التخيير فيه قد لا يمكن الجَمْعُ بين المخير بينهما عقلًا وشرعًا كالضدين، وقد يمكن عقلًا وشرعًا، كما ذكرنا من الخلافين.

وقد يمكن عقلًا لا شرعًا كالتزويج من الخاطبين

(3)

.

(1)

الفعل الذي تعلق به الوجوب قد لا يكون له وقت محدد من الشارع بحيث يكون معلوم البداية والنهاية كالزكاة، ويسمى واجبًا غير مؤقت، وقد يكون له وقت محدد أي معلوم البداية والنهاية ويسمى لذلك واجبًا مؤقتًا، أي ذا وقت معين، وهو على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون وقته مساويًا لفعله لا يزيد عليه ولا ينقص عنه كصوم رمضان، ويسمى واجبًا مضيقًا.

ثانيها: أن يكون الوقت ناقصًا عن الفعل بحيث لا يمكن إِيقاعه بتمامه فيه، فإِن أريد الإِتيان بجميع الفعل في ذلك الوقت الذي لا يسعه كان ذلك من باب التكليف بالمحال، يمنعه من لا يجوز التكليف به، وإِن أريد الشروع فيه والتكميل خارجه جاز التكليف به، كوجوب الصلاة على من زال عذره وقد بقي من وقتها ما يسع ركعة، كحائض تطهر، وصبي يبلغ، ومجنون يفيق ولم يبق من الوقت إِلا ما يسع ركعة، والفعل حينئذ يكون أداء في اصطلاح الفقهاء قضاء عند الأصوليين، بخلاف ما لو زال العذر وقد بقي من الوقت ما لا يسع ركعة؛ فإِن الفعل حينئذ يكون قضاء عند الجميع.

ثالثها: أن يكون الوقت زائدًا على الفعل، ويسمى لذلك بالواجب الموسع، وللعلماء فيه خمسة مذاهب. منها مذهبان متفقان على الاعتراف بالواجب الموسع، ووجهتهما في ذلك أن الوجوب متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء الوقت وأي جزء من هذه الأجزاء صالح لأن يتعلق به الوجوب، كما أنه متعلق بالقدر المشترك بين الأفراد في الواجب المخير، وكل فرد صالح لأن يتعلق به الوجوب: فأجزاء الزَّمان في الواجب الموسع كالأفراد في الواجب المخير، كلّ منها صالح لأن يتعلق به الوجوب. وبعد أن اتفقا على الاعتراف بالواجب الموسع اختلفا فيما وراء ذلك على رأيين: الأول: وهو للجمهور أن الوجوب يقتضي القاع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت، سواء كان أولًا أو آخرًا من غير شرط لعزم، أو تعيين لبعض الأجزاء.

الثَّاني: وهو لجماعة من المتكلمين منهم القاضي أبو بكر وموافقوه، أن الوجوب يقتضي إِيقاع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت، لكن لا يجوز تركه في الجزء السابق إِلا بشرط العزم على الفعل في الجزء اللاحق إِلى أن يبقى من الوقت ما يسع الصلاة؛ فيتعين فعلها حينئذ.

أما الثلاثة الباقية فمتفقة على إِنكار الواجب الموسع، ووجهوا ذلك بأن الوجوب يقتضي المنع من الترك، والتوسعة تقتضي جواز الترك، والجمع بينهما محال. ومع اتفاقهم على ذلك اختلفوا فيما بينهم على ثلاثة آراء:

الأول: أن الوجوب يختص بأول الوقت فإِن فعله في آخره كان قضاء مع عدم الإِثم، فقد نقل القاضي أبو بكر الإِجماع على نفي الإِثم حيث قالوا: إِنه قضاء سد مسد الأداء، ونقل الشَّافعي هذا القول عن المتكلمين، ونسب خطأ لبعض الشَّافعية؛ لأن هذا القول غير معروف في مذهبهم، وزعم البعض أنه قضاء مع الإِثم.

الثَّاني: وهو معزو لبعض الحنفية: أن الوجوب يختص بآخر الوقت، فإِن فعل في أوله كان تبجيلًا.

الثالث: وهو رأي الكرخي من الحنفية، أنه يختص بآخر الوقت فإِن فعل أوله نظر إِن أدرك الفاعل آخر الوقت وهو على صفة التكليف كان ما فعله واجبًا، وإِن لم يكن على صفته بأن جن العاقل، أو حاضت المرأة، أو غير ذلك كان ما فعله نفلًا. وبضم هذه الآراء الثلاثة للمنكرين للواجب الموسع إِلى الرأيين السابقين للمعترفين به يكون مجموع الأقوال فيه خمسة. مذكرة شيخنا الشيخ الحسيني الشيخ. وينظر: المحصول 1/ 2/ 290 - 291، وشرح تنقيح الفصول ص (150 - 151)، ومنتهى السول والأمل ص (35 - 36)، وشرح العضد 1/ 241، وروضة الناظر 1/ 99، والإِبهاج ص (93)، والتحصيل 1/ 304 - 306، ونهاية السول 1/ 160، والبحر المحيط 8/ 201، والإِحكام 1/ 98، وتيسير التحرير 2/ 188، وكشف الأسرار 1/ 218، وأصول السرخسي 1/ 31، وفواتح الرحموت 1/ 72.

(2)

في ب: التحسين.

(3)

في أ، ت، ح: الحاصلين.

ص: 519

مَسْألَةٌ:

الْمُوَسَّعُ: الْجُمْهُورُ: إِنَّ جَمِيعَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَنَحْوِهِ وَقْتٌ لِأَدَائِهِ.

«مسألة»

الشرح: "المُوَسَّع"

(1)

قال "الجمهورُ: [إِن] جميع وقت الظهر ونحوه" ممَّا وُقِّتَ بوقتٍ

(1)

لما فرغ من الكلام على الواجب المخير شرع في الواجب الموسع، وكان المناسب أن يصدره بالمسألة، ويقول:"مسألة الموسع"، وكأنه إِنما لم يفعل بل جعله ردفًا للواجب المخير؛ لرجوع =

ص: 520

الْقَاضِي: الْوَاجِبُ الْفِعْلُ أَوِ الْعَزْمُ وَيَتَعَيَّنُ آخِرًا، وَقِيلَ: وَقْتُهُ أَوَّلُه، فَإِنْ أَخَّرَهُ فَقَضَاءٌ. بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: آخِرُه، فَإِنْ قَدَّمَه، فنَفْلٌ يُسْقِطُ الْفَرْضَ. الْكَرْخِيُّ: إِلَّا أَنْ يَبْقَى بِصِفَةِ التَّكلِيفِ، فَمَا قَدَّمَهُ وَاجِبٌ.

يفضل عنه، كسائر الصلوات الخمس "وقت لأدائه" ففي أي جزء أوقعه منه، فقد أوقعه في وقته، مع تعلق الوجوب بأول الوقت وجوبًا موسعًا يطلق فيه التأخير إِلى وقت، يعلم أنه إِن أخر فات، فحينئذ يضيق عليه، وهو قول محمد بن شُجَاع الثَّلْجي

(1)

، وغيره من الحنفية وجمهور المتكلمين.

ثم قال "القاضي" وجمهور المتكلّمين

(2)

: "الواجب" في كلّ جزء "الفعل، أو العزم" فيه على الفعل في ثاني الحال، "ويتعين" الفعل "آخرًا".

"وقيل: وقته أوله، فإِن أَخَّرَهُ فقضاء".

ثم زاد بعضهم: يسد مسد الأداء - يعني: ولا يعصي

(3)

بتأخيره، وحمله على ذلك نقل القاضي أبي بكر، ومن تابعه الإِجماع على أنه لا يأثم بتأخيره عن أول الوقت.

وهو نقل مدفوع؛ فإِن الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - نقل في "الأم" في كتاب الحَجّ عن بعضهم التأثيم - وهو أثبت - فينبغي الاقتصار على لفظة القضاء كما في الكتاب.

وقال "بعض الحَنَفِيَّة": وقته "آخره، فإِن قدّمه فَنَفْلٌ يسقط الفرض"، كتحصيل الزَّكاة قبل وجوبها

(4)

.

= الموسع في التَّحقيق إِلى المخير، إِذ المؤداة في كلّ جزء من الوقت شخصها غير المؤداة في غيره، والواجب هو أحد أشخاص الصلاة المتماثلة في النوع، المتحدة في المحل، المتمايزة بالأوقات. ينظر الشِّيرازي 112 أ / خ.

(1)

ابن الثَّلجي: هو محمد بن شجاع بن الثلجي البغدادي، أبو عبد الله: فقيه العراق في وقته من أصحاب أبي حنيفة. ولد عام 181 هـ وتوفي عام 226 هـ، وهو الذي شرح فقهه، واحتج له، وقواه بالحديث. وكان فيه ميل إِلى المعتزلة. له كتاب "تصحيح الآثار" فقه، و"النوادر" و"المضاربة" و"الرد على الشبهة" وغير ذلك. وبعض مترجميه يسميه "ابن الثلاج" ولرجال الحديث مطاعن فيه. ينظر الأعلام 6/ 157، وتذكرة الحفاظ 2/ 184، وتهذيب 9/ 220، والجواهر المضية 2/ 60، وميزان الاعتدال 3/ 71، وتاريخ بغداد 5/ 350، والوافي بالوفيات 3/ 148.

(2)

ينظر مصادر المسألة.

(3)

في أ، ت، ح: يقضى.

(4)

ينظر مصادر المسألة.

ص: 521

لَنَا: أَنَّ الْأَمْرَ قُيِّدَ بِجَمِيعِ الْوَقْتِ، فالتَّخْيِيرُ وَالتَّعْيِينُ تَحَكُّمٌ، وَأَيْضًا، لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا، لَكَانَ الْمُصَلِّي فِي غَيْرهِ مُقدِّمًا؛ فَلا يَصِحُّ، أَوْ قَاضِيًا؛ فَيَعْصِي، وَهُوَ خِلافُ الْإِجْمَاعِ.

الْقَاضِي: ثَبَتَ فِي الْفِعْلِ وَالْعَزْمِ حُكْمُ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ. وَأُجُيبَ ..........

وقال "الكَرْخي"

(1)

: آخره "إِلَّا أن يبقى بصفةِ

(2)

التَّكليف"

(3)

إِلى آخر الوقت "فما قدمه واجب"، وهو عنده موقوف مُراعي.

الشرح: "لنا: أن الأمر قيِّد بجميع الوَقْت"، ولا تعرض فيه للتخيير بين الفعل والعزم كما يقول القاضي، ولا بأول الوقت وآخره كقول الآخرين، "فالتَّخيير والتعيين [تحكُّم]

(4)

.

وأيضًا: لو كان الوقت معينًا لكان المصلي في غيره مقدمًا فلا يصح، أو "مؤخرًا "قاضيًا"؛ لأنه أخرج العبادة عن وقتها "فيعصي، وهو خلافُ الإِجماعِ".

ودعوى الإِجماع في المؤخَّر قد عرفت أنها ليست بصحيحة بنقل الشَّافعي رضي الله عنه.

الشرح: واحتجّ "القاضي" بأنه "ثبت في الفعل والعزم" قبل آخر الوَقْتِ الذي هو وقت التضييق "حكم خصال الكَفَّارة" من حيث هو وجوب أحدها لا بعينه، وذلك لأن الفِعْلَ لمَّا جاز تركه في أوَّل الوقت، فلو لم يجب العزم بدلًا لم يكن الفعل واجبًا مطلقًا، لأنه جاز تركه بلا بدل، فيكون الواجب في أول الوَقْتِ أحدها.

"وأجيب: بأن الفاعل" للصَّلاة في أول الوقت

(5)

"ممتثلٌ، لكونها صلاةً قطعًا لأحد الأمرين" ولا كذلك في خصال الكَفَّارة.

وأما "وجوب العَزْمِ" فإِنه لا يدلُّ على التخيير؛ لأنه غير مخصوص بالموسّع، بل هو جارٍ

(1)

عبيد الله بن الحسين الكرخي، أبو الحسن. فقية، انتهت إِليه رياسة الحنفية بـ"العراق"، ولد 260 هـ له رسالة في الأصول الَّتي عليها مدار فروع الحنفية وشرح الجامع الصغير، وشرح الجامع الكبير توفى في بغداد 340 هـ. ينظر: الفوائد البهية 107، والأعلام 4/ 193، وتاريخ بغداد 10/ 353 - 355، والفوائد البهية ص 108 - 109، وهدية العارفين 1/ 646.

(2)

في ت: الصفة.

(3)

في ج، ح: المكلف.

(4)

سقط في ت.

(5)

سقط في ت.

ص: 522

بأَنَّ الْفَاعِلَ مُمْتَثِلٌ لِكَوْنِهَا صَلاةً قَطْعًا لا لِأَحَدِ الأَمْرَيْنِ، وَوُجُوبُ الْعَزْمِ فِي كُلِّ وَاجِبٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ.

"في كلّ واجب من أحكام الإِيمان" أي: كل أمر ديني يجب العَزْمُ على فعله إِذا كان واجبًا، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"

(1)

.

قلت: وهذا ساقطٌ، فإِنَّ القاضي لم يرد بالعَزْمِ النِّيَّةَ على الفعل، أو على تقدير إِرادة النّية، فلا نسلِّم أنها واجبةٌ في كلّ واجب قبل [الشروع]

(2)

فيه، والذي يوجبه القاضي هنا إِنما هو العزم على أن يفعل في ثاني الحال، ويسميه

(3)

بدلًا عن الفعل في أول الحال، وهو غير نِيَّة الفعل المقارنة

(4)

للشروع فيه.

ولقد أطال أصحابنا في الرد على القاضي في إِيجاب البدل.

والطريقة المحررة عندنا في الرَّد عليه أن تقول: إِما أن يكون الفعل في الأول واجبًا، أو لا،

(1)

أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 15 في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، حديث (1) وفي 5/ 190 في كتاب العتق، باب الخطإِ والنسيان حديث (2529) وفي 7/ 267 في كتاب مناقب الأنصار حديث (3898) وفي 9/ 17 في كتاب النكاح، باب من هاجر أو عمل خيرًا لتزويج امرأة فله ما نوى حديث (5070) وفي 11/ 580 في الأيمان والنذور، باب النّية في الأيمان حديث (6689) وفي 12/ 342، 343 في كتاب الحيل باب من ترك الحيل حديث (6953)، ومسلم 3/ 1515 في كتاب الإِمارة باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم حديث (3/ 1515)، وأخرجه الترمذي 1/ 154 في فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياءًا وللدنيا حديث (1647) والنسائي 1/ 58، 59 في كتاب الطهارة، باب النية من الوضوء حديث (75) وفي 6/ 158، 7/ 13، وابن ماجه 2/ 1413 في الزهد باب النّية حديث (4227)، وأحمد في المسند 1/ 25، والحميدي في مسنده 1/ 16، حديث (28)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 96، وأبو نعيم في الحلية 6/ 342، وفي تاريخ أصفهان 2/ 15، 227، وابن خزيمة في الصحيح 1/ 73 في جماع أبواب الوضوء وسننه باب إِيجاب إِحداث النية عند دخول كلّ صلاة

حديث (455)، وابن المبارك في الزهد ص (62) حديث (188)، والطيالسي كما في المنحة 2/ 27 حديث (1997)، والدارقطني في السنن 1/ 51 كتاب الطَّهارة باب النّية (1)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 41 في كتاب الطَّهارة باب النّية في الطَّهارة الحكمية، وفي 1/ 215، 298، 2/ 14، 6/ 331، 7/ 341، والرازي في العلل (362).

(2)

في أ، ت، ح: الشَّرع.

(3)

في أ، ت، ح: نسميه.

(4)

في أ: المقاربة.

ص: 523

الْحَنَفِيَّةُ: لَو كَانَ وَاجِبًا أَوَّلًا، عَصَى بِتَأْخِيرِهِ؛ لأَنَّهُ تَرْكٌ. قُلْنَا: التَّأْخِيرُ وَالتَّعْجِيلُ فِيهِ كَخِصَالِ الكَفَّارَةِ.

تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ

مَسْأَلةٌ:

مَنْ أَخَّرَ مَعَ ظَنِّ الْمَوْتِ قَبْلَ الفِعْلِ عَصَى اتِّفَاقًا، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ ثُمَّ ...........

إِن لم يكن فلا حاجة إِلى البَدَلِ، وإِن كان فإِما أن يكون كُلّ الواجب، أو لا، إِن كان فيتأدى ببدله، وإِلا فيلزم أن يكون واجبان، ولا دليلَ عليه

والقاضي في "التقريب" ذكر ما حاصله أن قولنا: لا دليلَ على العَزْمِ ممنوع، بل دليله أنه إِذا ثبت جواز التَّرْك مع القَضَاء عليه بالوجوب فلا بُدّ وأن يكون تركه على خلاف ترك النَّفل ليتميز عنه، فليجب العَزْمُ لذلك.

ولقائلٍ أن يقول: يكفي في تمييزه عن النَّفْلِ أن إِخراج

(1)

الوقت عنه يؤثم

(2)

، ولا حاجة إِلى ما ذكرت.

الشرح: واحتجت "الحنفية" بأنه "لو كان واجبًا أولًا عصى بتأخيره؛ لأنه ترك" الواجبَ وهو الفعل أولًا.

"قلنا: التأخير والتَّعجيل فيه كَخِصَالِ الكَفَّارة"؛ لأنا لم نقل: إِنه واجب أولًا عينًا.

وحاصل قولنا: إِن الوجوب يلاقي المكلّف في أول الوقت، لا أنه يجب عليه إِيقاع الفعل أول الوقت، فلم يلزم ترك الوَاجب.

"مسألة"

الشرح: "مَنْ أخَّر" الموسع

(3)

"مع ظنِّ الموت قبل الفعل عصى اتفاقًا"؛ لأنه تضيق عليه

(1)

في خ: أخرج.

(2)

في أ، ت، ح: لؤتم.

(3)

اعلم أن القائلين بالواجب الموسع اتفقوا قاطبة على أن المكلف لو أخر الفعل الواجب عن أول الزَّمان الذي ظن أنه لو لم يشتغل به مات قبله عصى لتقصيره، بناءً على تضييق الوقت بحسب ظنه، فإِن لم يمت تم فعله في وقته المقدر. ينظر: الشِّيرازي.

ص: 524

فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ فَالْجُمْهُورُ: أَدَاءٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: قَضَاءٌ، فَإِنْ أَرَادَ وُجُوبَ نِيَّةِ الْقَضَاء فَبَعِيدٌ،

بظنه "فإِن" تبين خطأ ظنه، "ولم يمت ثمَّ فعله في وقته، فالجمهور" قالوا: إِنه "أداء"، لا مفعول في وقته المقدر له شرعًا، ولا يرتفع ذلك الإِثم، لجرأته، كمن وطئ امرأته يظنها أجنبية.

وعن إِمام الحرمين: أن الإِثْم ينتفي.

ونظيره قول بعض الأشياخ: إِن الرَّجْعَةَ ترفع إِثم الطَّلاق في الحَيْضِ.

"وقال القاضي: قضاء"، لأنه تضيق عليه بظنّه، وهو نظير ما قَدَّمناه عن القاضي، والحَقّ مع الجمهور.

ونظير المسألة: الزَّاني، ومن وطئ امرأته وهو يظنّها أجنبية، ولا يشكّ ذو نظر صحيح؛ أن إِثم الزَّاني أبلغ، وأن هذا إِنما يأثم على جرأته.

ومثار التَّردد أنه هل ينظر إِلى ما في نفس الأمر أو الظاهر.

وهي قاعدة من فروعها: ما لو رأى العسكر سوادًا، وظنوه عدوًا، فصلوا صلاة الخَوْفِ، وبان غير عدو، ففي القضاء قولان:

أظهرهما: الوجوب.

ولو رأوا عدوًا فخافوا، ثم بَانَ أنه كان بينهم وبينه خندق، فالصحيح وجوب القضاء، ولو استناب، المعضوب الذي لا يرجى برؤه ثم برئ، فالأصحُّ عدم الإِجزاء، نظرًا إِلى ما في نفس الأمر في الكلّ.

"فإِن أراد" القاضي بكونه قضاء حقيقة القضاء المصطلح عليه

(1)

بحيث ينبني عليه وجوب نيّة القضاء فبعيدٌ

(2)

، إِذ هو واقع في [الوَقْتِ]

(3)

المحدود له.

ولقائلٍ أن يقول: إِذا كان ينظر إِلى فصل المكلّف إِلى الوَقْتِ المحدود في نفس الأمر فلا بعد

(4)

فيه، وقد علمت موافقة القاضي الحسين له، وهو من أسَاطِين الفقهاء.

ثم لا يلزم من كونه قضاء "وجوب نِيَّةِ القضاء"؛ لأنا لا نشترطُ نيةَ القضاء في القضاء، ولا نِيَّةَ الأداء في الأداء، نعم هو في نفسه ضعيف ناءٍ عن صنيع السلف.

"ويلزمه" أن المرء "لو اعتقد انقضاء الوقت قبل دخول الوقت"، وقد يتفق ذلك، كمحبوس

(1)

سقط في ت، ح.

(2)

في أ، ت، ح: فيعيد.

(3)

سقط في ت.

(4)

في أ، ب، ح: يعد.

ص: 525

وَيَلْزَمُهُ لَو اعْتَقَدَ انْقِضَاءَ الْوَقْتِ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَيَعْصِي بالتَّأْخِيرِ. وَمَنْ أَخَّرَ مَعَ ظَنِّ السَّلامَةِ، فَمَاتَ فَجْأَةً فَالتَّحْقِيقُ لا يَعْصِي بِخِلافِ مَا وَقْتُهُ الْعُمْرُ.

لا يعرف أمر الأوقات فعصى بالتأخير أي: لم يفعل عند ظَنّه، ثم تبين خطأ ظنه، وأوقعها في الوقت أن يكون ذلك قضاء.

هذا تقرير كلام المصنّف، وبه يظهر لك أن جواب "لو" محذوف، لدلالة ما قبله - وهو ما يلزمه عليه، ففاعل يلزمه ضمير يعود على، القضاء المتقدم كما قررناه.

والمعنى: ويلزمه القضاء في هذه الصورة.

وقوله: "فيعصي بالتأخير" معطوف على اعتقد، أصله: لو اعتقد فعصى.

وقد توهّم الشِّيرَازي أن لفظ المصنّف فيعصي - فعل مضارع - ثم توهّم ثانيًا أن ذلك جواب "لو"، ثم اعتقد ثالثًا أن عدم العصيان في هذه الصورة مفروغ منه، فلمَّا لزم القضاء الزم به، ليتبيّن فساد قوله، فأخذ ينتصر للقاضي بأنه لا يلزم، إِذ لا يلزم من كون الظن موجبًا للعصيان بالتأخير عن الوَقْتِ المظنون في الوقت المَشْرُوع كونه موجبًا بالتأخير عنه قبل الوَقْتِ المشروع.

وما روي أن المصنّف وكل أحد يقول بالعصيان، وأن المفروغ منه ثبوت العصيان لا انتفاؤه، وأن الذي الزم به القاضي جعل هذه الصورة قضاء فقط، فإِن التزمه فقد باء بعظيم، فإِنَّ أحدًا لا يقول بأن العبادة تقع قبل الوقت أداء وبعده قضاء، وإِلَّا فقد تحكم؛ إِذ في المكانين ظنٌّ بانَ خطؤه وأثم بتأخير العبادة فيه، وكون ذلك الوقت المشروع لا هذا، لأن الوقت عنده ما يظنه المكلف فحسب.

وهذا على تقدير أن يكون القاضي أراد بكونه قضاء، القضاء المصطلح عليه

(1)

الذي دَلَّ عليه المصنّف بما يترتَّب عليه من وجوب نيَّة القضاء.

وعندي أن القاضي يلتزم كونه قضاء، بل هذا قوله، ولا حاجة إِلى الاستفسار. وأمَّا نِيَّةُ القضاء ففرع عنه، ولا يلزم أيضًا، لما ذكرناه من عدم اشتراطها فلا تصحّ

(2)

إِرادتها بلفظ القضاء، وإِذا كان هذا هو مدعى القاضي فلا يقال: إِنه يلزم.

ولعلَّ المصنّف إِنما عدل عن القضاء إِلى نيّة القضاء؛ لئلَّا يكون قد ألزم بنفس المدعى فأخذ يلزم باثر من آثاره، يستبعد التزامه وهو النّية.

(1)

سقط في ج، ح.

(2)

في ح: يصح.

ص: 526

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وسببه: أنه ظنها أثرًا من آثار القضاء [كما هو مذهب من يشترط تعيين نيَّة القضاء]

(1)

والأداء، وحينئذٍ فإِن كان الإِلزام بالنّية، وهو

(2)

إِما أن يلتزم ذلك بناء على هذا المذهب أو لا يلتزمه، ولا يلزمه بناء على عدم الاشتراط، وإِن كان بكونه قضاء، فهو

(3)

في نفس الدَّعوى فلم يصح الإِلزام.

نعم أنا أقول: يلزمه إِذ تضيق

(4)

عليه الوقت بالظَّن قبل دخوله، وأخر لعذر، ثم أن يجوز له التأخير والقضاء على التَّراخي؛ لأن ذلك شأن الصلاة المتروكة بِعُذْرٍ. فإِن عاش التزم ذلك وقال: يحل له التأخير والقضاء إِذا دخل الوَقْت، وتبين أنه كان مخطئًا في ظن دخوله، وتضييقه تأخير قضائه عنه، ولا يعتبر بالوقت، لأن المَدَارَ على الظَّن فاعتقد أن ذلك خرق لإِجماع الأمة، هذا تمام الكلام على هذا الشِّق.

وإِن أراد القاضي غيره فلا بد من بيانه، وقال في "المختصر [الكبير] "

(5)

: إِن أراد غيره لم يكن لا خلاف أثرٌ في المعنى، ولم يذكر هنا هذا الشق، إِما لوضوحه، أو لعود الخلاف لفظيًّا.

وقول الآمدي: إِنما تظهر فائدته في نِيَّة القضاء والأداء بناء منه على ما اعتقده هو والمصنّف من أن كونه قضاء يوجب نيَّة القضاء، ثم يقول بهذا التقدير: إِنما تظهر الفائدة إِذا التزمه، فلا ظهور لهذه الفائدة، نعم لو التزم القاضي ما ألزمناه نحن ظهرت فائدة معنوية للخلاف، وهي حلّ التأخير عن الوَقْتِ، لكنى أجلُّ مقداره عن التزام ذلك، والله أعلم.

"ومن أخَّر مع ظَنّ السلامة فمات، فالتحقيق لا يعصي" فيما له أمد معلوم كالصلوات الخمس "بخلاف ما وقته العمر" كالحج، فإِنه يعصي فيه.

والفرق: أنه بالموت في أثناء وقت الصَّلاة لم يخرج وقت الصَّلاة، وبالموت في أثناء وقت الحَجّ خرج وقته مع القول بأن من مات في أثنائه لا يُقْضَى

(6)

له إِلا على تأويل - وهو أنها لو أقيمت [لوقعت على مرتبة الواجبات]

(7)

.

وأغلظُ له ابنُ السَّمعاني القَوْلَ في الردِّ عليه وقال: إِن من مات بَغْتَةً غير مفوت للمأمور؛

(1)

سقط في ت.

(2)

في ج: فهو.

(3)

في ب: وهو.

(4)

في أ، ت: يضيق.

(5)

سقط في ت.

(6)

في ج، ح: يعصى.

(7)

سقط في ت.

ص: 527

مُقَدِّمَةُ الوَاجِبِ

(1)

‌مَسْأَلةٌ:

مَا لا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ،

وَكَانَ مَقْدُورًا شَرْطًا، وَاجِبٌ، ............

لأن التأخير من وقت إِلى مثله لا يُعدّ تفويتًا، إِلا أنه صار فائتًا [بمعنى]

(2)

من قبل الله - تعالى - فلم يجز أن يوصف بالعصيان، وهو كالمضيق إِذا لم تساعده الحياة في وقته هذا حاصل كلامه، وهو معروف ممَّا قلناه قابل لِلتَّشْكيك.

«مسألة»

الشرح: "ما لا يتم الواجب إِلا به" ممَّا ورد الأمر فيه مطلقًا كالصَّلاة "وكان مقدورًا" للمكلف "شرطًا" لحصول المأمور به كالطهارة للصلاة - "واجب"

(3)

.

وقولنا: "مطلقًا" - احتراز

(4)

من الوجوب المقيد بشرط، كالزكاة، وجوبها متوقف على النِّصَاب

(5)

، والجمعة

(6)

، على الأربعين

(7)

، ولا يجب تحصيلها، "والمقدور" - احتراز من قدرة

(1)

ينظر: البرهان 1/ 257، والمحصول 1/ 2/ 322، والمستصفى 1/ 71، والعضد 1/ 244، الإِحكام للآمدي 1/ 103، المسودة ص (60)، وفواتح الرحموت 1/ 95، وتيسير التحرير 2/ 215، وشرح الكوكب 1/ 358، والتقرير والتحبير 2/ 237، ونهاية السول 1/ 197، والإِبهاج 1/ 113، والبحر المحيط 1/ 223.

(2)

سقط في ت.

(3)

في حاشية ج: قوله: "واجب" أي لوجب الواجب إِذ لو لم يجب به لجاز تركه من جهته، ولو جاز تركه لجاز ترك الواجب في هذا الدليل مع أن الإِيجاب هو إِلزام الفعل مع المنع من الترك. فتأمل.

(4)

في حاشية ج: قوله: احتراز من الوجوب المقيد

إِلخ وذلك لأنه إِذا أمر به مطلقًا كان مأمورًا به حتى في وقت عدم الشرط، وإِذا كان لا يحصل إِلا به وجب تحصيله بخلاف ما لو أمر به مقيدًا، فإِنه أمر بتحصيله عند وجوب القيد، فلا يجب إِلا عند وجوده هذا، وكأن مسألة تكليف الكفار بالفروع مبنية على هذه. فتأمل.

(5)

النصاب من المال: القدر الذي يجب فيه الزكاة إِذا جمعه نحو مائتي درهم وخمس من الإِبل. ينظر: أنيس الفقهاء (132).

(6)

في حاشية ج: قوله: "والجمعة على الأربعين ولا يجب تحصيلهما، يعني أن وجود النصاب ووجود الأربعين مقدمة وجوب، فلا تجب بوجوب الواجب، وأمَّا حضور العدد فمقدمة وجود، لكنها لا تجب؛ لأنها غير مقدورة، كذا في شرح جمع الجوامع.

(7)

الجمعة من الاجتماع، كالفرقة من الافتراق أضيف إِليها اليوم، ثم كثر الاستعمال حتى حذف منها =

ص: 528

والأَكْثَرُ: وَغَيْرَ شَرْطٍ؛ كَتَرْكِ الْأَضْدَادِ فِي الْوَاجِبِ، وَفِعْلِ ضِدٍّ فِي الْمُحَرَّمِ، وَغَسْلِ جُزْءِ الرَّأْسِ. وَقِيلَ: لا، فِيهِمَا.

العبد على الفعل وداعيته المخلوقين لله تعالى.

ولا تتم الواجبات المطلقة إِلا بها، ولا يجب تحصيلهما، ولا يتوقّف الوجوبُ عليهما.

= المضاف، وجمعت، وضم ميمها لغةُ "الحجاز"، وبها ورد "القرآن"، وهي مصدر بمعنى الاجتماع، وإِسكانها لغة "عقيل"، وهي - على هذا - إِما من الاجتماع فتكون مصدرًا، أو بمعنى اسم المفعول

أي المجموع فيه، كقولهم: ضحْكة للمضحوك منه. وفتحها لغةُ "بني تميم"، قال "النووي": وجهوا الفتح بأنها تجمع الناس، لقولهم: ضحكة، لكثير الضحك، وهمزة لمزة لكثير الهمز واللمز، والجمع لها جمع وجمعات، وميم الجمع تابعة لميم المفرد في حركاتها، وبعضهم جعل الأول الساكن الميم فقط. وتطلق على الأسبوع بأسره مجازًا مرسلًا من باب تسمية الكلّ باسم جزئه؛ لفضله وشهرته. وسميت الصلاة بصلاة الجمعة؛ لاجتماع الناس لها، وسمي اليوم يوم جمعة؛ لما جمع فيه من الخير، وقيل: لاجتماع آدم مع حواء فيه بموضع يقال له: سرنديب. وقيل: لأن خلق آدم عليه السلام جمع فيه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا نبي الله لأيِّ شيءٍ سُميَ يَوْمُ الجُمُعَةِ؟ فقال: "لأِنَّ فيه جُمِعَتْ طِينَةُ أَبيكُمْ آدَمَ عليه السلام"، وكان يسمى في الجاهلية يوم العَروبة، ومعناه: البين المعظم، قال بعضهم:

نفسي الفداء لأقوام هموا خلطوا

يوم العروبة أورادًا بأوراد

وأول من سماه الجمعة كعب بن لؤي، وهو أول من جمع الناس بـ "مكة"، وخطبهم وبشرهم بمبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم.

بيانُ مَوْضِع فَرضيَّتَها وأول من أقامها: فرضت بـ "مكة المشرفة" ليلة الإِسراء، ولم تقم بها؛ لقلة المسلمين، وخفاء الإِسلام، وأول من أقامها أسعد بن زرارة بـ"المدينة الشريفة" قبل الهجرة بـ: نقيع الخضمات على ميل من المدينة في حي بني بياض. ونقل عن الحافظ ابن حجر أنها فرضت بـ "المدينة"، ويمكن حمله على استقرار الوجوب، لزوال العذر الذي كان قائمًا بهم. والعذر: هو عدم بلوغ العدد عنده صلى الله عليه وسلم .. أو لأن من شعارها الإِظهار، وقد كان صلى الله عليه وسلم بـ"مكة" مستخفيًا، وهذا أقرب. من شروط الجمعة أن يكون العدد أربعِين: فلا تنعقد بأقل من أربعين عند الشَّافعي وبه قال أحمد واختلف رواية الأصحاب عن مالك، فمنهم من روي عنه مثل مذهبنا، ومنهم من روي عنه أن الاعتبار بعدد .. يعد بهم الموضع قرية. وقال أبو حنيفة: تنعقد بأربعة؛ لأنه عدد يزيد على أقل الجمع المطلق، وعن الأوزاعي وأبي ثور - وهو قول لأحمد - أنها تنعقد بثلاثة؛ لأنه يتناوله اسم الجمع، فانعقدت به الجماعة، كما لأربعين. وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر رجلًا، لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كتب إِلى مصعب بن عمير في المدينة، فأمره أن يصلي الجمعة عند الزوال ركعتين، وأن يخطب فيهما، فجمع مصعب بن عمير بـ "المدينة" في بيت سعد بن خيثمة. باثني عشر رجلًا، =

ص: 529

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل: إِن كان سببًا لتحصيل الواجب كان واجبًا، وإِن كان شرطًا فلا، وربما أوهم إِطلاق

= وعن جابر قال: "كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدِمَتْ سُوَيْقَة، فخرج الناس إِليها، فلم يبقَ إِلا اثنا عشر رجلًا أنا فيهم، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} إِلخ الآية، رواه مسلم وما يشترط للابتداء يشترط للاستدامة. يدلّ للشافعية ما رواه البيهقي عن ابن مسعود أَنه صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بـ "المَدِينَةِ" وكانوا أَربعين رجلًا".

قال في "المجموع": قال أصحابنا: وجه الدلالة أن الأُمة أجمعوا على اشتراط العدد، فلا تصح الجمعة إِلا بعدد ثبت فيه توقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت "صلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي"، ولم تثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا تجوز بأقل منه. أما قول الثلاثة وقول الأربعة؛ فتحكم بالرأي فيما لا مدخل له فيه؛ فإِن التقديرات بابها التوقيف، فلا مدخل للرأي فيها، ولا معنى لاشتراط كونه جمعًا، ولا للزيادة مع الجمع؛ إِذ لا نص في هذا، ولا معنى نص: ولو كان الجمع كافيًا لاكتفى بالاثنين، فإِن الجمعة تنعقد بهما. فأما من روى أنهم كانوا اثني عشر رجلًا، فلا يصح، فإِن ما رويناه أصح منه. رواه أصحاب السنن.

وأما الخبر الآخر، وهو خبر الانفضاض، فليس فيه أنه ابتدأها باثني عشر رجلًا، بل يحتمل عودهم أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة، وفي مسلم "انفضُّحوا في الخُطْبَة" وفي رواية للبخاري "انْفَضُّحوا في الصَّلاةِ" وهي محمولة على الخطبة جمعًا بين الأخبار، فتمت دلالتنا. وعلى ذلك لا تنعقد الجمعة إِلا بأربعين، ولو أُميين في درجة.

فإِن قيل: لم اختصت الجمعة بأربعين رجلًا من بين سائر الصلوات؟ ولم اختصت الأربعون بذلك من بين سائر الأعداد به؟ قال الأصبحي: إِنما كان كذلك لأن الجمعة إِنما شُرعت لمباهاة أهل الذمة، ولا يحصل ذلك إِلا بعدد، والأولى من الأعداد ما أظهر الله به الإِسلام، وهو الأربعون، فهذا هو المعنى في ذلك. ذكره الشيخ أبو إِسحاق في النكت. قال بعضهم: ويمكن أن يقال: إِنما اختصت بهذا العدد لأن خير الطلائع أربعون. سبق أن قلنا: تنعقد بأربعين ولو أميين في درجة، فلو كان في الأربعين أمي واحد أو أكثر لم تصح الجمعة؛ لارتباط صحّة صلاة بعضهم ببعض، فصار كاقتداء القارئ بالأمي. نقل هذا الأذرعي عن فتاوى البغوي، واستظهر بعضهم أن هذا محله إِذا قصَّر الأمي في التعلم، وإِلا فتصح الجمعة إِن كان الإِمام قارئًا، وفي صفة الأئمة أن الأميين إِذا لم يكونوا في درجة لا يصح اقتداء بعضهم ببعض. ويشترط في الأربعين أن يكونوا ذكورًا مكلفين أحرارًا متوطنين ببلد الجمعة، لا يظعنون شتاء ولا صيفًا إِلا لحاجة كتجارة .. وزيارة، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُجَمِّع بحجة الوداع مع عزمه على الإِقامة أيامًا لعدم الاستيطان، وكان يوم عرفة فيها يوم جمعة كما ثبت في الصحيحين، وصلى الظهر والعصر تقديمًا كما ثبت في رواية مسلم، وهذه الصفات المذكورة معتبرة هنا للانعقاد بخلافها فيما تقدم، فاعتبارها للوجوب، فلا تنعقد بالنساء والخناثي وغير المكلفين، ومن فيه رق .. لنقصهم، ولا بغير المتوطنين كمن أقام مصرًا على العود إِلى بلده، ولو بعد مدة =

ص: 530

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصنّف أن السبب لا يجب تحصيله، بخلاف الشرط، وهذا لا يقوله أحد، فإِن السبب أولى بالوجوب.

وإنما مراده أنه يجب الشرط الشرعي دون ما عداه الشروط العقليّة والعادية، وهو رأي إِمام الحرمين

(1)

.

وإِنما أطلق في الكتاب قوله: شرطًا، ولم يقيد بالشرعي؛ لأنه لا يسمى العقلي والعادية شروطًا كما ظهر من كلام إِمام الحرمين.

ومحاولة بعض الشَّارحين أن المصنّف يختار وجوب الشَّرط دون السَّب إِيقاع للمصنّف في خرق الإِجماع الذي سينقله هو من بعد، وإِلزام له بما لا [ينتهض]

(2)

به توجيه.

والحق عندنا - وهو اختيار الشيخ الإِمام وعليه الأكثر - وجوبه مطلقًا شرطًا، وغير شرط، ممَّا يلزم فعله عقلًا "كترك الأضداد في الواجب، وفعل ضد في المحرم"، وعادة نحو "غسل جزء من الرأس" لتحقُّق غسل الوجه كله.

= طويلة كالمتفقهة والتجار ولا بالمتوطنين خارج بلد الجمعة، وإِن سمعوا النداء؛ لعدم الإِقامة ببلدها، ومن هنا اشترط تقدم إِحرام من تنعقد بهم الجمعة لتصح لغيرهم تبعًا، قال البغوي: ولا ينافيه صحتها له إِذا كان إِمامًا؛ لأن تقدمه ضروري فاغتفر. وحكى ابن الصباغ أن أبا حنيفة يقول بانعقادها بأربعة من العبيد، وبأربعة من المسافرين، واحتج عليه بأن من لا تلزمه الجمعة لا تنعقد به.

وهل تنعقد بالمرضى؟ المشهور أنها تنعقد بهم لكمالهم وإِن لم تجب عليهم تخفيفًا، ونقل ابن كج عن أبي الحسين أن الشَّافعي رضي الله عنه قال: لا تنعقد الجمعة بأربعين مريضًا كالمسافرين والعبيد، فعلى هذا صفة الصحة تعتبر مع الصفات الَّتي أسلفناها. ثم عدد الأربعين معتبر مع الإِمام، أو يشترط في الإِمام أن يكون زائدًا على الأربعين؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه من جملة الأربعين؛ لخبر كعب بن مالك قال: "أول من جمع بنا .. أسعد بن زرارة في هزم النبيون من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون" رواه أبو داود والأثرم.

والثَّاني: أنه زائد على الأربعين، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة، ولم يجمع بأقل من أربعين. وقد حكى القاضي الروياني الخلاف في المسألة قولين: القديم أنه زائد على الأربعين. ويشترط حضور الأربعين في الخطبة، وأن يسمعوها وإن لم يفهموها، قال تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قال أكثر المفسرين: إِن المراد منه الخطبة. وقال أبو حنيفة: لا يشترط بل لو خطب منفردًا جاز، واحتج عليه بأن الخطبة ذكرٌ واجب في الجمعة، فيشترط حضور العدد فيه كتكبيرة الإِحرام.

(1)

ينظر: مصادر المسألة.

(2)

في ب: ينهض.

ص: 531

لَنَا: لَوْ لَمْ يَجِبِ الشَّرْط، لَمْ يَكُنْ شَرْطًا.

ثم قال أكثرهم: إِن ذلك ليس من صيغة اللَّفظ، بل من دلالته، وهو الصَّحيح.

واقتضى كلامُ ابن السَّمْعَاني أن منهم من يقول: بأنه من نفس الصيغة يقتضي ذلك وهو ساقطٌ.

"وقيل: لا" وجوب "فيهما" أي: في الشرط وغيره.

وزعم

(1)

ابنُ الأَنْبَاري أنه لا خلاف في وجوب الشَّرط الشرعي، وليس كذلك، ولو تَمَّ لاتجه للمصنّف أن يقول بوجوب الشَّرط الشرعي دون السَّبب؛ لأن لنا قائلًا بأن السَّبب لا يجب.

فإِذا قام الإِجماع مع ذلك على وجوب الشَّرْط كان السبب أولى، بأن يقال بوجوبه، ولكن ذلك مردود نقلًا ومعنى لا [تقوم]

(2)

به الحُجَّة.

الشرح: "لنا"

(3)

على وجوب الشَّرط الشرعي أنه "لو لم يجب الشَّرطُ لم يكن شرطًا"، والتالي باطل؛ لأنه خلاف الفرض.

وبيان الملازمة: أن الشرط إِذا لم يجب جاز تركه، فإِذا تركه، فإِما أن يكون الفعل إِذ ذاك مأمورًا به، أَوْ لا، والتالي

(4)

باطل، فيلزم أن يتقيَّد الوجوب بوقت وجود الشَّرط، وهو خلاف الفَرْض؛ لأن صورة المسألة: إِذا ورد الأمر مطلقًا غير متوقف بحالة حصول المتوقّف عليه.

(1)

زعم: قال الإِمام الواحدي المفسر رحمه الله تعالى في قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} قال الزُعم والزَعم لغتان وأكثر ما يستعمل بمعنى القول فيما لا يتحقق قال ابن المظفر: أهل العربية يقولون زعم فلان إِذا شك فيه ولم يدر لعله كذب أو باطل. وعن الأصمعي الزعم الكذب. وقال شريح: زعموا كنية الكذب. وقال ثعلب عن ابن الأعرابي الزعم القول يكون حقًّا ويكون باطلًا وأنشد في الزعم الذي هو حق لأمية بن أبي الصلت: [المتقارب]

وَإِنِّي أَذِينٌ لَكُمْ أَنَّهُ

سَيُنْجِزكُمْ ربُّكُمْ مَا زَعَمْ

ومثل ذلك قال شمر وأنشد للجعدي رضي الله تعالى عنه في الزعم الذي هو حق يذكر نوحًا عليه الصلاة والسلام:

نودي قم واركبن بأهلك

إِن الله موفٍ للناس ما زعما

وهذا بمعنى التَّحقيق. ينظر: تهذيب الأسماء واللغات 3/ 134.

(2)

في ت، ح: يقوم.

(3)

لما فرغ من تحرير المذاهب أقام الدليل على أن ما لا يتم الواجب إِلا به إِن كان شرطًا فهو واجب، وإِن كان غير شرط فليس بواجب.

(4)

في ج: والثاني.

ص: 532

وَفِي غَيْرِهِ، لَوِ اسْتَلْزَمَ الْوَاجِبُ وُجُوبَه، لَزِمَ تَعَقُّلُ الْمُوجِبِ لَه، وَلَمْ يَكُنْ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ لِنَفْسِهِ، وَلامْتَنَعَ التَّصْرِيحُ بِغَيْرِهِ، وَلَعَصَى بِتَرْكِهِ، وَلَصَحَّ قَوْلُ الْكَعْبِيِّ فِي نَفْي الْمُبَاحِ، وَلَوَجَبَتْ نِيَّتُهُ.

والأول إِما أن يكون الفعل ممكن الحصول عند عدم الشرط أو لا، والتالي باطل، وإِلا يلزم تكليف ما لا يُطَاق، فيتحقق الأول، وهو كونه غير شرط.

الشرح: "وفي "الدلالة على عَدَمِ وجوب "غيره".

قال المصنّف: "لو استلزم الواجب وجوبه لزم تعقل الموجب له"، وإِلا أدَّى إِلى الأمر بما لا شعورَ له به، وهو قد يغفل عنه.

وأيضًا: "لم يكن تعلّق الوجوب" الذي هو الطلب الجازم بغير الشرط "لنفسه". لكن الطلب الذي هو نسبة بين الطَّالب والمطلوب ما لا يعقل منه غير المطلوب فلا يستلزم إِيجاب شيء غيره.

وأيضًا: لو كان مستلزمًا وجوبه "لامتنع التصريح بغيره"، ولا يمتنع أن يقول: لا يجب غسل شيء زائد على الوجه مثلًا.

وأيضًا: لو استلزم "لعصى

(1)

بتركه"، وتارك مقدمة الواجب إِنما يعصي

(2)

بترك الواجب لا بترك المقدمة.

"ولصح قول الكعبي

(3)

في نفي المُبَاح"؛ لأن فعل الواجب - وهو ترك الحرام - لا يتم إِلا به فيجب.

وفي بعض النسخ - وليس في أصل المصنّف - "ولوجبت نِيَّته"

(4)

؛ لأنه عبادة، ولا تجب إِجماعًا.

ولقائل أن يقول: على الأول، لا نسلم الغَفْلة عنه على الجملة.

(1)

في ت: لقضى.

(2)

في ت: يقضي.

(3)

عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي، من بني كعب، البلخي الخراساني، أبو القاسم: أحد أئمة المعتزلة، كان رأس طائفة منهم تسمى "الكعبية" وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها، وهو من أهل "بلخٍ"، أقام بـ"بغداد" مُدَّةً طويلة، له كتب منها: التفسير، وتأييد مقالة أبي الهذيل. صنف في الكلام كتبًا كثيرة، وانتشرت كتبه بـ "بغداد". ولد سنة 273 هـ، وتوفي سنة 319 هـ. ينظر: تاريخ بغداد 9/ 384، المقريزي 2/ 348، الأعلام 4/ 65.

(4)

في ج، ح: بنية.

ص: 533

قَالُوا: لَوْ لَمْ يَجِبْ، لَصَحَّ دُونَه، وَلَمَا وَجَبَ التَّوَصُّلُ إِلَى ............

سلمنا، ولكن لِمَ قلتم بامتناع الغفلة عنه: إِنما يمتنع الغفلة عما يجب بالذات؟ أما ما يكون مقدمة للواجب فقد يغفل عنه

(1)

، ثم

(2)

يجب تبعًا.

وعلى الثَّاني: أن ما ذكره جار في الشَّرط الشرعي، فلم أوجبه.

والتحقيق: أن إِجابة المقدمة ليس بذاته، بل بالدلالة والاستلزام، كما نقلناه عن أكثر.

وعلى الثالث: أنه ملتزم إِن أريد وجوب الوسائل

(3)

، وغير لازم إِن أريد وجوب المقاصد.

وعلى الرابع: أنه ملتزم أيضًا.

وعلى الخامس: أن قول الكعبي بهذا الطريق، هو المختار على ما حقق في مكانه.

وعلى السادس: أنه غير لازم، وإِنما تجب نِيَّة

(4)

العبادة المقصودة بنفسها.

وهذا هو السِّر في قيام الإِجماع على أن الصائم يخص النِّيَّة بالإِمساك الواقع في النهار، ولا يجب عليه أن يبسط النِّيَّة على ما وراءه، وإِن قيل: بوجوب الإِمساك فيه.

الشرح: وأصحابنا "قالوا: لو لم يجب" ما لا يتمّ الواجب إِلا به مطلقًا "لصح" الواجب "دونه"، لأنه آت - والحالة هذه - بكلّ ما وجب عليه، والفرض أن الواجب ممتنع إِلا به.

وأيضًا: لو لم يجب "لما وجب التوصُّل إِلى الواجب، والتوصل" إِلى الواجب "واجب بالإِجماع".

"وأجيب

(5)

إِن أريد بلا يصح" دونه، وبأن التوصّل إِلى الواجب "واجب"، أنه "لا بد منه فمسلم"، وليس محلّ النّزاع، "وإِن أريد" أنه "مأمور به" شرعًا، "فأين دليله"؟

وما ذكر من الإِجماع ممنوعٌ قيامه، "وإِن سلم الإِجماع ففي الأسباب" دون الشروط العقليّة والعادية، وهي في الأسباب "بدليل خارجي"، لا من جهة كونه وسيلة، فلا يدلّ على إِيجاب الوسيلة مطلقًا.

وهذا يعرفك أن المصنّف يختار وجوب السَّبب، بل يسلّم

(6)

قيام الإِجماع عليه.

(1)

قوله: "فقد يغفل عنه ودلالة الاستلزام يكفي فيها اللزوم وإِن لم تقصد كما قرره بعضهم خلافًا للبعض. في شرح المقاصد.

(2)

في ج، ح: لم.

(3)

في ح: السائل.

(4)

في أ، ح: يجب بنية.

(5)

في ت، ج: واجب.

(6)

في ب: نسلم.

ص: 534

الْوَاجِبِ، وَالتَّوَصُّلُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأُجِيبَ إِنْ أُرِيدَ بِـ "لا يَصِحُّ وَوَاجِبٌ": لا بُدَّ مِنْه،

"فروع"

إِذا ترك واحدة من الخمس، وجهل عينها، وجب الخمس.

والأصح: إِيجاب تيمم واحد، لا خمس تيمُّمات؛ لأن الأربع - من حيث إِنها لم ترد لنفسها - منحطةٌ عن مراتب الفرائض.

وإِذا قال: إِحداكما طالق، حِيلَ بينه وبينهما إِلى أن يعيِّن، خلافًا لأبي علي بن أبي هريرة.

وفي الزائد على ما ينطلق عليه الاسم من المَسْح، وقدر قيمة الشَّاة من البعير المخرج عن الشَّاة الواجبة في الزَّكاة، ومن البَدَنَة الَّتي يذبحها المتمتع بدلًا عن الشَّاة، وحلق جميع الرأس، وتطويل أركان الصَّلاة زيادة على ما يجوز الاقتصار عليه، والبَدَنة المضحى بها بدلًا عن الشَّاة المقدورة، هل يوصف بالوجوب؟

خلاف، رجَّح الإِمامُ الرازي أنه لا يوصف.

وهل يختصّ الخلاف في مَسْحِ الرأس

(1)

مثلًا، بما إِذا وقع دفعة واحدة، أم

(1)

قبل الحديث عن المسألة أبين أن الفقهاء قاطبة اتفقوا على استحباب مسح جميع الرأس، وعلة ذلك كما صرح بذلك الإِمام النووي: بأنه طريق إِلى استيعاب الرأس ووصول الماء إِلى جميع الشعر. وأصل الاختلاف في هذا الاشتراك الذي في الباء في كلام العرب، وذلك أنها مرة تكون زائدة مثل قوله تعالى:{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} على قراءة من قرأ: تنبت بضم التاء وكسر الباء من أنبت، ومرة تدلّ على التبعيض مثل قول القائل: أخذت بثوبه وبعضده، ولا معنى لإِنكار هذا في كلام العرب؛ أعني كون الباء مبعضة، وهو قول الكوفيين من النحويين، فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله، ومعنى الزائدة ههنا كونها مؤكدة، ومن رآها مبعضة أوجب مسح بعضه. وإِن سلمنا أن الباء زائدة بقي ههنا أيضًا احتمال آخر وهو. هل الواجب الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ وعلى ضوء هذا اختلف أهل العلم في القدر المفروض من المسح، فذهب مالك وأهل العترة والمزني والجبائي وإِحدى الروايتين عن أحمد إِلى أن مسح جميع الرأس فرض. وقال الشَّافعي رضي الله عنه والطبري صاحب التفسير - كما نبه على ذلك ابن سيد الناس في شرح جامع الترمذي -: يجب أن يمسح قدر ما ينطلق عليه اسم المسح وإِن قل. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجب مسح ربع الرأس، وقال الأوزاعي وسفيان الثوري والليث بن سعد: يجزئ مسح بعض الرأس ويمسح المقدم، وهو قول الإِمام أحمد. والظاهرية تنوعت آراؤهم في هذا، فذهبت بعضهم إِلى وجوب الاستيعاب، وبعضهم قال باكتفاء البعض. =

ص: 535

فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ أُرِيدَ: مَأْمُورٌ بِهِ، فَأَيْنَ دَلِيلُه، وَإِنْ سُلِّمَ الْإِجْمَاع، فَفِي الْأَسْبَابِ بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= واستدل الإِمام مالك بحديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلًا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى:"هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ قال عبد الله بن زيد: نعم؛ فدعا بوضوء، فأفرغ على يده اليمنى فغسل يده مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثًا ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه مرتين، مرتين إِلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إِلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إِلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه". أخرجه البخاري 1/ 347 (191)، (192)، (197)، (199)، ومسلم 1/ 210 (18/ 235) واستدلوا بقول الله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} والرأس حقيقة: اسم لجميعه، والبعض مجاز، ورُدَّ بأن الباء للتبعيض، وأجيب بأنه لم يثبت كونها للتبعيض، وقد أنكره سيبويه في خمسة عشر موضعًا من كتابه، ورد أيضًا بأن الباء تدخل في الآلة، والمعلوم أن الآلة لا يراد استيعابها كـ: مسحت رأسي بالمنديل، فلما دخلت الباء في الممسوح كان ذلك الحكم، أعني عدم الاستيعاب في الممسوح، أيضًا قاله التفتازاني قالوا: جعله جار الله مطلقًا، وحكم على المطلق بأنه مجمل. وبينه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاستيعاب، وبيان المجمل الواجب واجب. ورد بأن المطلق ليس بمجمل؛ لصدقه على الكلّ والبعض؛ فيكون الواجب مطلق المسح كلًّا أو بعضًا، وأيًّا ما كان وقع بها الامتثال. ولو سلم أنه مجمل لم يتعيّن مسح الكلّ؛ لورود البيان بالبعض عند أبي داود من حديث أنس بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة" وعند مسلم (1/ 230) حديث (81/ 274) وأبي داود والترمذي من حديث المغيرة بلفظ "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة" قال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 193): "إِنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة، ولكن كان إِذا مسح بناصيته أكمل على العمامة. قال: وأما حديث أنس فمقصود أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مس الشعر كله، ولم ينف التكميل على العمامة، وقد أثبته حديث المغيرة، فسكوت أنس عنه لا يدلّ على نفيه. وأيضًا قال الحافظ: إِن حديث أنس في إِسناده نظر. وأجيب بأن النزاع في الوجوب، وأحاديث التعميم - وإِن كانت أصح وفيها زيادة - وهي مقبولة، لكن أين دليل الوجوب وليس إِلا مجرد أفعال؟ ورد بأنها وقعت بيانًا للمجمل؛ فأفادت الوجوب. والإِنصاف أن الآية ليست من قبيل المجمل وإِن زعم ذلك الزمخشري وابن الحاجب في مختصره والزركشي، والحقيقة لا تتوقف على مباشرة آلة الفعل بجميع أجزاء المفعول، كما لا تتوقف في قولك: ضربت عمرًا على مباشرة الضرب لجميع أجزائه، فمسح رأسه يوجد المعنى الحقيقي بوجود مجرد المسح للكل أو البعض، وليس النزاع في مسمى الرأس؛ فيقال: هو حقيقة في جميعه، بل النزاع في إيقاع المسح على الرأس، =

ص: 536

‌تَحْرِيمُ وَاحِدٍ لا بِعَيْنِهِ

(1)

مَسْألَةٌ:

يَجُوزُ أَنْ يُحَرَّمَ وَاحِدٌ لا بِعَيْنِهِ، خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَهِيَ كَالْمُخَيَّرِ.

يجزئ

(2)

وإن وقع مرتبًا؟ فيه وجهان.

وفائدة الخلاف تظهر في الثَّواب، فإِن ثواب الفريضة أكثر من ثَوَاب النَّافلة، وفيما إِذا عجل البعير عن شَاةٍ، واقتضى الحال الرجوع بجميعه أو بسبعه

(3)

. فيه وجهان في "شرح المهذب" وغير ذلك.

ومن مقدّمة الواجب مؤنة الكَيْل الذي يفتقر إِليه القبض، وهو على البائع كمؤنة إِحضار المبيع الغائب، ومؤنة وزن الثَّمن على المشتري، وفي أجرة نقد الثمن وجهان.

وإِذا خفي عليه موضع النَّجَاسة من الثوب أو البدن غسله كله.

وإذا اكترى دابَّة للرّكوب أطلق الأكثرون أن على المكتري الإِكَاف والبَرْدَعة والحزام وما ناسب ذلك، لأنه لا يتمكّن من الركوب دونها.

«مسألة»

الشرح: "يجوز أن يحرِّم واحدًا لا بعينه" - أي: مبهم من أشياء - فقد يرد التخيير بين

= والمعنى الحقيقي للإِيقاع يوجد بوجود المباشرة، ولو كانت المباشرة الحقيقية لا توجد إِلا بمباشرة الحال لجميع المحل لقل وجود الحقائق في هذا الباب، بل يكاد يلحق بالعدم؛ فإِنه يستلزم أن نحو: ضربت زيدًا وأبصرت عمرًا من المجاز؛ لعدم عموم الضرب والرؤية، وقد زعمه ابن جني منه، وأورده مستدلًا به على كثرة المجاز، والحاصل أن الوقوع لا يتوقف وجود معناه الحقيقي على وجود المعنى الحقيقي لما وقع عليه الفعل، وهذا هو منشأ الاشتباه والاختلاف، فمن نظر إِلى جانب ما وقع عليه الفعل جزم بالمجاز، ومن نظر إِلى جانب الوقوع جزم بالحقيقة، وبعد هذا فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه، ولكن دون الجزم بالوجوب مفاوز وعقبات.

(1)

ينظر: المحصول 1/ 2/ 509، والعضد 2/ 2، وجمع الجوامع 1/ 181، والتمهيد للإِسنوي ص (81)، والقواعد الأصولية لابن اللحام ص (69)، والمختصر له ص (63)، وشرح الكوكب المنير 1/ 387، وتيسير التحرير 2/ 218، وفواتح الرحموت 1/ 110، والأشباه والنظائر لابن السبكي 1/ 90، والفروق للقرافي 2/ 4، والمغني لعبد الجبار 17/ 135، والمعتمد 1/ 183.

(2)

في أ: يجري.

(3)

في أ، ج: بتسعة.

ص: 537

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ضدّين لا ثالث لهما

(1)

.

والمعنى ملاءمة المكلف أحد الضِّدين الذي اختار وآثره على نقيضيه

(2)

، مثل: أنهاك عن الحركة، أو السُّكون، أحببت أيهما شئت، ولا تأكل اللَّبن أو السمك، فقد منعتك عن أحدهما مبهمًا، لا عن كليهما جميعًا، ولا عن أحدهما معينًا، "خلافًا للمعتزلة"؛ إِذ منعوا ذلك. "وهي كالمخيّر" خلافًا وحِجَاجًا.

وفيها زيادة، وهي دعوى بعض المُخَالفين، كما نقل المَازِرِيُّ أن اللغة لم ترد بذلك قال: ألا ترى أن قوله سبحانه: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [سورة الإنسان: الآية 24] محمول على أنه نهى عن طاعتهما.

قال المَازِرِيُّ: وهذا ليس بشيء، قال: ولولا الإِجماع على أن المراد في الشَّرْع النَّهي عن طَاعَة الجميع لم تحمل الآية على ذلك.

فاعلم

(3)

أن القَرَافِيَّ فرّق بين الأمر المخيّر، والنَّهي

(4)

المخيّر، بأن الأمر يتعلّق بمفهوم أحدها، والخصوصيات بتعلّق التخيير، ولا يلزم من إِيجاب المشترك إِيجاب الخصوصيات كما مضى.

وأما النهي فإِنه إِذا تعلّق بالمشترك لزم منه تحريم الخصوصيات؛ لأنه لو دخل منه فرد إِلى الوجود لدخل في ضمنه المشترك المحرم ووقع المحذور، كما إِذا حرم الخنزير، يلزم تحريم السَّمين منه والهَزِيل والطَّويل والقصير.

وتحريم الجمع بين الأختين، ونحوه، إِنما لاقى المجموع عينًا لا المشترك بين الأفراد،

(1)

لما فرغ من مسائل الواجب شرع في مسائل المحظور، وهي في اللغة تطلق على ما كثرت آفاته، ومنه يقال:"لبن محظور" أي كثير الآفة - وعلى الممنوع، ومنه قولهم:"حظرت عليهم" أي منعتهم منه، ومنه الحظيرة.

وفي الاصطلاح: هو ضد ما قيل في الواجب، ومن أسمائه: المحرم والمعصية، وهي فعل ما نهى الله تعالى عنه. ينظر الشِّيرازي.

(2)

في ج، ح: نقيضه.

(3)

في ب: واعلم.

(4)

في حاشية ج: قف على الفرق بين النهي عن واحد لا بعينه والأمر بواحد لا بعينه والنهي عن المجموع، وهو فرق واضح.

ص: 538

‌مَسْأَلَةٌ:

يَسْتَحِيلُ كَوْنُ الشَّيْءِ وَاجِبًا حَرَامًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا عِنْدَ بَعْضِ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ.

وَأَمَّا الشَّيْءُ الْوَاحِد، لَهُ جِهَتَانِ؛ كَالصَّلاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ،

فالمطلوب فيه ألَّا يدخل ماهية المجموع في الوجود، والماهيةُ تنعدم بانعدام جزء منها، فأي أخت تركها خرج عن عُهْدَةِ المجموع، فليس كالأمر.

«مسألة»

الشرح: "يستحيل كون الشيء واجبًا حرامًا من جهة واحدة"

(1)

، وحينئذ فلا يكلف به "إِلا عند بعض من يجوِّز تكليف المُحَال"، أي: التكليف بما لا يُطَاق.

وعند الآخرين يمتنع، لما فيه من التَّناقض.

"وأما الشيء الواحد" الذي "له جِهَتَان" غير [متلازمتين]

(2)

، فإِنه يجوز توارد الأمر والنَّهي، باعتبار جهتيه "كالصَّلاة في الدَّار المغصوبة"، مأمور بها من حيث إِنها صلاة، منهي

(3)

عنها من حيث إِنها شغل ملك الغَيْر عدوانًا، فقد اختلفوا فيه.

"فالجُمْهُور" قالوا: "يصح".

"والقاضي" قال: "لا يصح، ويسقط

(4)

الطلب عندها".

قال ابن السَّمْعَاني: وهو هذيان. وقال "أحمد وأكثر المتكلّمين: لا يصح، ولا يسقط"

(5)

.

وذكر بعض أصحابنا للمسألة أصلًا، وهو أن الأمر المطلق لا [يتناول]

(6)

المكروه عندنا، وإِن لم يكن محرمًا.

وقال الحنفية: يتناوله

(7)

.

واحتجّ أصحابنا بأنَّ المكروه مطلوب التَّرك، فكيف يندرج تحت الأمر الذي هو طلب الفعل، [والجمع بين طلب الفعل]

(8)

والترك في فعل واحد من وجه واحد يتناقض، ثم إِذا لم

(1)

ينظر: العضد 2/ 2، والمحصول 1/ 2/ 481، والمستصفى 1/ 76، والإِحكام للآمدي 1/ 106، وجمع الجوامع 1/ 182، والمسودة ص (84)، وكشف الأسرار 1/ 278، وتيسير التحرير 2/ 219، وفواتح الرحموت 1/ 104، وشرح الكوكب المنير 1/ 389، أصول السرخسي 1/ 81.

(2)

في ب: متلازمين.

(3)

في أ، ج، ح: نهى.

(4)

في حاشية ج: قوله: ويسقط الطلب عندها أي: لا بها.

(5)

ينظر مصادر المسألة.

(6)

في ح: يناول.

(7)

ينظر مصادر المسألة.

(8)

سقط في ج.

ص: 539

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يدخل المباح تحت قضية الأمر، فكيف يدخل الممنوع، وإِذا تحقَّق ذلك وجب أن يكون المأمور بفعل إِذا فعله على وجه كره الشَّرع إِيقاعه عليه لا يكون ممتثلًا، وينعطف

(1)

من كراهيته

(2)

الإِيقاع على هذا الوجه، فيدل

(3)

على الأمر المطلق.

قال إِمام الحرمين: وهذه المسألة مَثَّلها الإِئمةُ بالترتيب في الوضوء، فمن يراه يقول: المنكس

(4)

مكروه، فلا يدخل تحت مقتضى الأمر

(5)

.

وقال ابنُ السَّمْعَاني: تظهر فائدة

(6)

الخلاف في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [سورة الحج: الآية 29].

فعندنا: هذا لا يتناول الطَّواف بغير طهارة، ولا المنكّس، وعندهم يتناوله فإِنهم وإِن اعتقدوا كراهته ذهبوا إِلى أنه دخل في الأمر وأجزأ.

قلت: وفائدة هذا أن من يدعي دخول المكروه تحت الأمر يستدلّ بالأمر عليه، ولا يحتاج إِلى دليل من خارجٍ، بخلاف من ينكره، فالشَّافعي مثلًا، يطالب الحنفي بالدَّليل على إِجزاء المنكّس في الوضوء والطواف.

فإِن قال: الاسم صادق عليه، فدخل تحت عموم الأمر، منعه، وقال: إِنما يدخل تحت عموم الأمر، ما يكون مطلوبًا، وهذا مكروه بالاتفاق، وسواء كان مجزئًا كما يقولون، أم لا.

قال ابن السَّمْعاني: وهذا المثال - يعني الطواف - إِنما يتصوّر على أصلهم. وأما عندنا فليس هو بطواف أصلًا.

قلت: هذا ينبني على أن العبادات الشرعية، هل هي موضوعة للصحيح فقط، أَوْ لِما هو أعم من الصحيح والفاسد؟ وسنتكلم على ذلك في باب النواهي، إِن شاء الله تعالى.

(1)

في ج، ح: يتعطف.

(2)

في ج: كراهية.

(3)

في ج، ح: قيد.

(4)

في ج: المتنكس.

(5)

ينظر البرهان 1/ 296 (206).

(6)

في حاشية ج: قوله: يظهر فائدة الخلاف

إِلخ الظاهر أن كلّ ما مثلوا به ليس من المسألة؛ لأن الكراهة لعارض غير لازم. تأمل.

ص: 540

فَالْجُمْهُورُ: تَصِحُّ، وَالْقَاضِي: لا تَصِحُّ، وَيَسْقُطُ الطَّلَبُ عِنْدَهَا. وَأَحْمَدُ وَأكْثَرُ

قلت: وتظهر فائدة الخلاف أيضًا في الصَّلاة في الأوقات المكروهة

(1)

، إِذا قلنا: إِنها مكروهة كراهة تنزيه - وفي صحتها - تفريعًا على هذا - وجهان.

(1)

الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في الأوقات:

1 -

حديث عقبة بن عامر الثَّابت في صحيح مسلم وغيره قال: "ثلاثة أوقات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند زوالها حتى تزول وحين تضيِّف للغروب حتى تغرب".

2 -

قوله عليه الصلاة والسلام: "إِن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإِذا ارتفعت فارقها، ثم إِذا استوت قارنها، فإِذا زالت فارقها، فإِذا دنت للغروب قارنها، وإِذا غربت فارقها: ونهى عن الصلاة في تلك الساعات" رواه مالك في الموطأ والشَّافعي عنه والنسائي وابن ماجه من رواية عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي، وقد اختلف في صحبته، ورواه مسلم من حديث عمرو بن عبسة في حديث طويل.

3 -

قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة بين الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" متفق عليه من حديث أبي سعيد، واتفقا عليه أيضًا من حديث أبي هريرة بلفظ: "نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس

الحديث" يتبين من هذا أن الأوقات الَّتي جاءت الأحاديث بالنهي عن الصلاة فيها خمسة:

عند طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح أو رمحين، ويستولي سلطانها بظهور شعاعها. وعد استوائها حتى تزول .. وعند اصفرارها حتى يتم غروبها "الرابع" بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس.

"والخامس" بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس.

فقال الحنفية: إِن النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة الأولى قد أفاد فيها كراهة التحريم؛ لأن النهي ظنى الثبوت، ولم يصرفه عن مقتضاه صارف؛ وفرّعوا على ذلك أن قضاء الفرائض والواجبات لا يصح في هذه الأوقات، ولا يصح الصبح إِن طلعت عليه الشمس وهو يصليه، بخلاف عصر اليوم إِن بدأ فيه قبل مغيب الشمس فغابت وهو يصليه؛ إِذ يصح مع الكراهة، وبخلاف النوافل؛ فإِنه يصح الشروع فيها في هذه الأوقات، غير أنه ينبغي أن يقطعها، فإِن قطعها وجب عليه القضاء في وقتت غير مكروه، وإِن أتمها أجزأه مع الكراهة. وقالوا: إِن عدم صحّة الفرائض في هذه الأوقات ليس ناشئًا من كراهة التحريم وحدها، بل لأنها في الصلاة لما كانت لنقصان في الوقت منعت أن يصح فيه ما تسبب عن وقت لا نقص فيه، إِذ لا يتأدى ما وجب كاملًا بالناقص، وذلك أن حديث مالك المتقدم في الموطإِ أفاد كون المنع لما اتصل بالوقت ممَّا يستلزم كون فعل الأركان فيه تشبهًا بعبادة الكفار، وهذا هو المراد بنقصان الوقت، وإِلا فالوقت في ذاته لا نقص فيه، بل هو وقت كسائر الأوقات، وإِنما النقص في الأركان المقومة للحقيقة، فلا يتأدى بها ما وجب كاملًا، ولكون =

ص: 541

المتكَلِّمِينَ": لا تَصِحُّ، وَلا يَسْقُطُ.

والقول بعدم صحتها يتخرَّجُ على أن المكروه لا يدخل تحت مطلق الأمر.

= الوقت نفسه لا نقص فيه لو أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون في الجزء المكروه، فلم يؤد الفرض حتى خرج الوقت، فإِن السبب في حقهم لا يمكن جعله كلّ الوقت حين خرج، إِذ لم يدركوا مع الأهلية إِلا ذلك الجزء، فليس السبب في حقهم إِلا إِياه، ومع هذا لو قضوا في وقت مكروه لا يجوز؛ لأن الثَّابت في ذمتهم كامل لا نقص فيه؛ إِذ لا نقص في نفس الوقت، بل المفعول فيه يقع ناقصًا، غير أن تحمل ذلك النقص لو أدى فيه العصر ضروري؛ لأنه مأمور بالأداء فيه، فإِذا لم يؤد لم يلزم النقص الضروري. وهو في نفسه كامل فيثبت في ذمته كذلك، فلا يخرج عن عهدته إِلا بكامل. وكذلك لا تصح سجدة التلاوة، ولا صلاة الجنازة في الوقت المكروه إِذا حصل سببهما في وقت غير مكروه، أما إِذا وجد السبب في وقت مكروه فإِنها تصح فيه، ويصح قضاؤها في مثله؛ وذلك لأن عند التلاوة مثلًا يخاطب بالأداء موسعًا ومن ضرورته تحمل ما يلزمه من النفص لو أدى عندها. بخلاف ما إِذا تليت في وقت غير منهي عنه، فإِن الخطاب لم يتوجه بأدائها في وقت مكروه، فلا يجوز قضاؤها في مكروه، وكذا لو قضى في الوقت المكروه ما قطعه من النفل المشروع فيه في وقت مكروه، فإِنه يخرجه عن العهدة وإِن كان آثمًا؛ لأن وجوبه ضرورة صيانة المؤدي عن البطلان ليس غير، والصون عن البطلان يحصل مع النقصان، وإِنما قالوا بجواز عصر اليوم عند تغير الشمس واصفرارها لما تقرر في الأصول من أن سبب وجوب الصلاة هو الوقت، لكن لا يمكن أن يجعل كلّ الوقت سببًا للوجوب؛ لأنه لو كان كلٌّ سببًا له لوقع الأداء بعده؛ لوجوب تقدم السبب على المسبب بجميع أجزائه، كما أنه لا دليل على قدر معيّن منه كالربع والخمس مثلًا، فوجب أن يجعل بعض منه سببًا، وأقل ما يصلح لذلك هو الجزء الذي لا يتجزأ، والجزء السّابق لعدم ما يزاحمه أولى، فإِن اتصل به الأداء تعيّن لحصول المقصود من الأداء، وإِن لم يتصل به الأداء ينتقل إِلى الجزء الذي يليه، وهكذا إِلى أن يضيق الوقت، ولم يتقرر على الجزء الماضي؛ لأنه لو تقرر كانت الصلاة في آخر الوقت قضاء، وليس كذلك، فكان الجزء المتصل بالأداء أو الجزء المضيّق أو كلّ الوقت إِن لم يقع الأداء فيه هو السبب؛ لأن الإِنتقال من سببية الكلّ إِلى الجزء كان لضرورة وقوع الأداء خارج الوقت على تقدير سببية الكل، وقد زالت فيعود كلّ الوقت سببًا ثم الجزء الذي يتعيّن سببًا للصلاة تعتبر صفته من الصحة والفساد، فإِن كان صحيحًا بألا يكون موصوفًا بالكراهة ولا منسوبًا إِلى الشيطان كوقت الظُهر وجب المسبب كاملًا، فلا يتأدى ناقصًا، وإِن كان السبب ناقصًا بأن كان منسوبًا إِلى الشيطان كالعصر إِذا استأنفه في وقت الاصفرار وجب الفرض فيه ناقصًا تبعًا لنقصان سببه، فيجوز أن يتأدى ناقصًا؛ لأنه أداه كما وجب، بخلاف غيره من الصلوات الواجبة بأسباب كاملة فإِنها لا تقضي في هذه الأوقات؛ لأن ما وجب كاملًا لا يتأدّى ناقصًا، وبخلاف ما إِذا بدأ في صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فطلعت وهو يصلي حيث تطل الصلاة، لأنها وجبت كاملة، فلا تتأدى =

ص: 542

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بالناقص الواقع عند طلوع الشمس.

قال السرخسي في الفرق بين صلاة العصر اليوم عند الاصفرار فغابت الشمس وهو يصلي، وصلاة الصبح فطلعت الشمس وهو يصلي حيث صحت الأولى وبطلت الثَّانية: - إِن الطلوع بظهور حاجب الشمس وبه لا تنتفي الكراهة، بل تتحقق فكان مفسدًا للفرض، والغروب بآخره وبه تنتفي الكراهة ولم يكن مفسدًا للعصر.

أمّا النوافل: فالصلاة النافلة الَّتي يشرع فيها الإِنسان في هذه الأوقات الثلاثة: قال الحنفية: إِنها صحيحة تلزم بالشروع فيها وتضمن بالقطع، حتى لو قطعها وجب عليه القضاء، وينبغي أن يقطعها ويقضيها في وقت تحل فيه الصلاة تخلّصًا من الكراهة، فإِن قضاها في وقت آخر مكروه أجزأه وقد أساء؛ لأنه لو أتمها في ذلك الوقت أجزأه مع الإِساءة، فكذا إِذا قضاها في مثل ذلك الوقت. وقال زفر: إِن قطعه لا يضمن، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى؛ لأنها منهي عنها فلم تجب صيانتها عن البطلان. ووجه القول الأول - وهو ظاهر الرواية - أن الصلاة تركبت من أجزاء مختلفة غير متجانسة من قيام وركوع وسجود، فلا يكون لبعضها اسم الصلاة، وإِنما ينطلق الاسم عند انضمام هذه الأجزاء بعضها إِلى بعض بأن يقيد الركعة بالسجدة، وصارت الركعات بعد ذلك أجزاء متجانسة فكان لركعة واحدة اسم الصلاة، ولهذا لو حلف ألّا يصلي فشرع في الصلاة لا يحنث ما لم يقيّد الركعة بالسجدة، ومن انتقل من الفرض إِلى النفل قبل تمامه لا يجعل متنفلًا ما لم توجد منه السجدة؛ لأن ما دون الركعة ليس بصلاة، والنهي ورد عن الصلاة في هذه الأوقات، فلم يكن الشروع فيها منهيًا عنه، ولا القيام والقراءة والركوع، وإِنما يتوجه النهي إِلى هذا الفعل عند وجود السجدة، فما مضى قبل ذلك انعقد عيادة محضة غير منهي عنها، فإِبطالها حرام وصيانتها واجبة، ولا تحصل الصيانة دون المضيّ، فكان المضي في حق ما مضى امتناعًا عن إِبطال العمل وهو واجب، وفي حق ما يستقبل تحصيل طاعة وتحصيل معصية، فكان المضيّ طاعة ومعصية وامتناعًا عن معصية: وهي إِبطال العبادة. وترك المضيّ امتناع عن معصية وطاعة وتحصيل معصية وهي إِبطال عبادة محضة، فترجحت جهة المضيّ على جهة القطع، فإِذا قطع الصلاة فقد قطع عبادة وجب عليه المضيّ فيها، فيلزمه القضاء. هذا هو ما ذكره بعض المشايخ توجيهًا لقول الحنفية بصحة النوافل في هذه الأوقات. وقد ناقش الكمال هذا التوجيه فقال ما حاصله:

إِن محصل هذا التوجيه أن النهي يتعلّق بمسمى الصلاة، ومسمّاها مجموعة الأركان، وبمجرد الشروع لا تتحقق الأركان، فلم يتحقق المنهي عنه؛ فصح الشروع لعدم تعلق النهي به، فيلزم القضاء بالإِفساد وهو مدفوع؛ إِذ كون مسمّى الصلاة لا يتحقق إِلا بالأركان، لا يقتضي وجوب القضاء بالإِفساد، لأن وجوب القضاء بوجوب الإِتمام قبل الإِفساد، والثابت نقيضه، وهو حرمة الإِتمام بالنهي. كما يلزم عليه أيضًا أن تفسد الصلاة بعد ركعة؛ لارتكاب المنهي عنه حينئذ، وهو منتف =

ص: 543

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عندهم، فالوجه ألّا يصح الشروع؛ لانتفاء فائدته من الأداء والقضاء، ولا مخلص لهم من هذه المناقشة إِلَّا بجعل كراهة الصلاة النافلة في الأوقات الثلاثة المكروهة تنزيهية، وهي لا تنافي الصحة والمشروعية، غير أنه لم يقل به إِلّا بعض من لا يعَوَّل على قوله.

أمّا الشَّافعي رحمه الله تعالى فقال: إِن هذه الأوقات المكروهة لا ينهى عن الصلاة فيها على الإِطلاق، بل عن بعض أنواع منها، وما ورد فيها من النهي المطلق حمل على ذلك البعض، فالنهي والكراهة إِنما هما لكل صلاة ليس لها سبب خاصّ متقدم أو مقارن لوقت النهي - وهي النوافل المطلقة.

أمّا الصلوات الَّتي لها سبب متقدم على وقت النهي أو مقارن له، كقضاء الفرائض والسنن الفائتة وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة، وركعتي الطواف، فإِنها جائزة غير منهي عنها، كما أن الصلاة مطلقًا جائزة عنده بحرم مكة فرضها ونفلها، وجوّز أيضًا التنفل يوم الجمعة وقت الزوال، وبه قال أبو يوسف رحمه الله.

واستدلّ الشَّافعي رضي الله عنه على إِخراج الفرائض المقضية من النهي والكراهة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إِذا ذكرها فإِن ذلك وقتها" رواه الدارقطني والبيهقي في الخلافيات عن حديث أبي هريرة بسند ضعيف، وأصله متفق عليه دون قوله:"فإِن ذلك وقتها".

فيرى الشَّافعي أن هذا الحديث خاص في الصلاة الَّتي نام عنها أو نسيها، فيخص به حديث عقبة بن عامر الذي ينهى عن جميع الصلوات، فاستدلّ بهذا الحديث على صحّة الصلاة الَّتي تقدم سببها، وكان قد نسيها أو نام عنها ثم تذكرها بعد مضي وقتها، ويلحق به كلّ قضاء؛ إِذ لا فرق. كما استدلّ به على صحّة الصلاة الَّتي لم يزل وقتها باقيًا وتذكرها؛ إِذ قوله:"ثم ذكرها" أعمّ من أن يكون قد مضى وقتها أو ما زال باقيًا. ويلحق بذلك أيضًا الفرض الذي أخره من غير نوم أو نسيان حتى دخل وقت الكراهة؛ إِذ لا فرق. وبما روى مجاهد عن أبي ذر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتّى تطلع الشمس إِلا بمكة إِلا بمكة" رواه الشَّافعي قال: أخبرنا عبد الله بن المؤمل عن حميد مولى عفرة عن قيس بن سعد عن مجاهد "وفيه قصة" ورواه أحمد عن يزيد عن عبد الله بن المؤمل، إِلا أنه لم يذكر حميدًا في سنده. ورواه الدارقطني والبيهقي.

واستدلّ الشَّافعي وأبو يوسف رحمهما الله: على إِباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال بما جاء في مسند الشَّافعي رحمه الله تعالى قال: - أخبرنا إِبراهيم بن محمد عن إِسحاق بن عبد الله عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إِلا يوم الجمعة".

أمّا الوقتان الآخران وهما ما بعد صلاة العصر إِلى غروب الشمس، وما بعد صلاة الصبح إِلى طلوع =

ص: 544

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولإِمام

(1)

الحرمين احْتِمَالٌ في إِعادة صلاة الجَنَازة، أنها لا تصح؛ لأن إِعادتها لا تستحب وفي وجه: تكره.

واعلم أن إِمام الحرمين أنكر كون المكروه لا يقع مجزئًا مع موافقته

(2)

على أن الأمر لا يتناول المكروه وقال: إِن من يتتبع قواعد الشَّريعة ألفى من المكروه المجزئ أمثلة تفوت الحصر.

وحاصلُ كلامه آيل إِلى ما تقرّر في الصَّلاة في الدَّار المغصوبة، وأن النهي إِذا لم يرجع إِلى عين الفعل المأمور به لم يمتنع الإِجزاء من هذه الجِهَةِ.

كذا فهمه المازري عنه، واعترضه بأن الأمثلة المُشَار إِليها وإِن تكاثرت إِنما ترد لو عممنا القول، وقلنا: لا نعتد بمكروه أصلًا، [ونحن إِنما نقول: الأصل أن الأمر لا يتناول المكروه]

(3)

، وإِذا لم يتناوله بقيت المُطَالبة بموجب الأمر الأول فلا يرد عليه.

ولم يفهم عنه ابن الأَنْبَارِيّ رد القول في ذلك إِلى نظيره من الصلاة في الدَّار المغصوبة

= الشمس، فإِنهما لا يصلى فيهما شيء من النوافل ولا بأس بأن يصلّى في هذين الوقتين الفوائت ويسجد للتلاوة، ويصلى على الجنازة؛ إِذ النهي فيهما إِنما جاء عن التطوعات خاصّة، فمن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: شهد عندي رجال مرضيّون، وأرضاهم عندي عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب" متفق عليه.

هذا - وثبت عن عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: "ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعهما سرًا ولا علانية: ركعتان قبل صلاة الصيح، وركعتان بعد العصر" وفي لفظ: "ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتيني في يوم بعد العصر إِلَّا صلى ركعتين" وفي لفظ لمسلم عن طاوس عنها قالت: وهم عمر رضي الله عنه، إِنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحرّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك" وفي لفظ للبخاري عن أم أيمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله تعالى، وما لقي الله تعالى حتى ثقل عن الصلاة، وكان يصليهما ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحب ما خفف عنهم" فمن هذا يتبين أن عائشة رضي الله عنها كانت ترى أن الركعتين بعد صلاة العصر جائزتان غير منهي عنهما. قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله في أثر لمنهي في العبادات.

(1)

في ح: وإِمام.

(2)

ينظر البرهان 1/ 297 (207).

(3)

سقط في ح.

ص: 545

لَنَا الْقَطْعُ بِطَاعَةِ الْعَبْدِ وَعِصْيَانِهِ، بِأَمْرِهِ بِالْخِيَاطَةِ، وَنَهْيِهِ عَنْ مَكَانٍ ..........

وقال: ليس الأمر على ما قاله، بل يستحيل كون المكروه طاعةً على حال، فكيف يصحُّ اجتماع الحكمين وهما متضادان؟.

نم: إِن تعددت الوجوه أمكن ذلك كما في الدار المغصوبة.

قلت: وهو حق إِلا أن الإِمام ردّ المسألة إِلى مآخذ الكلام في الدار المَغْصُوبة، فلذلك فهم عنه المَازِرِيّ ذلك، ولو لم يكن كذلك لم يتَّجه كلامه ألبتة.

وأنا أقول في رَدّ [هذا] القَوْل إِلى مأخذ الصَّلاة في الدار المَغْصُوبة نظر، وإِن ذكر الإِمام وابن السَّمعاني وغيرهما، وذلك لتحقّق جهتين فيها، بخلاف ما نحن فيه، فإِن الوضوء المنكسَ مثلًا - مكروه، من حيث إِنه تنكيس وضوء، فهو كصوم يوم النَّحْر سواء، ولا كذلك الصلاة، فإِنها ليست حرامًا من حيث إِنها صلاة، بل من حيث إِنها شغل فافهم ذلك.

وقد أغلظ الإِمامُ القول علي أئمتنا، وقال: الاستدلال على وجوب التَّرتيب في الوضوء، بأن المنكس مكروه، والمكروه لا يتناوله الأمر فتبين أنَّ الأمر بالطهارة لم [يمتثل]

(1)

فيطالب

(2)

المكلف به، وذكر أن مَغْزَى هذا إِثبات وجوب الشَّيء من حيث يثبت الخَصْم كراهته، [وهو من فن العبث - أي: ليس في دعوى الخَصْمِ كراهة]

(3)

المنكس، ما ينتهض حُجَّة لنا في وجوب الترتيب.

وهذا صحيح لو أن أئمتنا يستندون في وجوب الترتيب إِلى هذا، وإِنما [لم]

(4)

يذكر أئمتنا هذا الطريق على وجه الإِلزام والإِفحام، كما يقول المناظر.

قلت: كذا وكذا، فيلزم عليك كذا وكذا، وهذا اللازم لا يتوجَّه إِلا على أصلي فدلّ على [أنه]

(5)

الصحيح.

إِذا عرفت هذا فلنعد إِلى الكلام في تعلق الأمر والنهي بالشيء الواحد من جهتين فنقول:

الشرح: "لنا: القطع بطاعة العَبْدِ وعصيانه بأمره بالخِيَاطَةِ ونهيه عن مكان مخصوص"، كما إِذا قال: خِطْ هذا الثوب ولا تدخل الدَّار، فإِنه إِذا خَاطَ الثوب في الدار [كان]

(6)

ممتثلًا من

(1)

في ح: يتمثل.

(2)

في ت: فيطلب.

(3)

سقط في ج.

(4)

سقط في ج، ت.

(5)

سقط في ح.

(6)

سقط في ت.

ص: 546

مَخْصُوصٍ؛ لِلْجِهَتَيْنِ، وَأَيْضًا، لَوْ لَمْ تَصِحَّ، لَكَانَ لاتِّحَادِ الْمُتَعَلَّقَيْنِ؛ إِذْ لا مَانِعَ سِوَاهُ اتِّفَاقًا، وَلا اتِّحَادَ؛ لأِنَّ الْأَمْرَ لِلصَّلاةِ، وَالنَّهْيَ لِلْغَصْبِ. واخْتِيَارُ الْمُكَلَّفِ جَمْعَهُمَا لا يُخْرِجُهُمَا عَنْ حَقِيقَتِهِمَا.

وَاسْتُدِلَّ: لَوْ لَمْ تَصِحَّ، لَمَا ثَبَتَ صَلاةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَلا صِيَامٌ مَكْرُوهٌ؛ لِتَضَادِّ الْأَحْكَامِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنِ اتَّحَدَ الْكَوْن، مُنِعَ، وَإِلَّا لَمْ يَفْسُدْ؛ لِرُجُوعِ النَّهْيِ إِلَى وَصْفٍ مُنْفَكٍّ.

الخِيَاطَة عاصيًا من حيث الدخول

(1)

، وإِنما حصل التغاير بينهما "للجهتين.

وأيضًا لو لم يصح لكان لاتحاد المتعلّقين"، أي: لأن متعلّق الوجوب والحرمة واحدٌ؛ "إِذ لا مانع سواه اتفاقًا"، واللازم باطل، إِذ "لا اتحاد" للمتعلّقين؛ "لأنَّ الأمر للصلاة والنهي للغصب، واختيار المكلّف جمعهما لا [يخرجهما]

(2)

عن حقيقتيهما" اللَّتين هما متعلّقا

(3)

الأمر والنهي، وإِذا لم يكن متعلق الأمر والنهي واحدًا، صح تعلّقه به، وأيضًا قد وافق المخالفون على صحّة صوم الشَّيخ والمريض اللَّذينَ يستضران بالصَّوم، مع أنه منهي.

الشرح: "واستدلّ لو لم يصحّ" اجتماع الأمر والنَّهي

(4)

باعتبار جهتين "لما [ثبتت]

(5)

صلاة مكروهة، ولا صيام مكروه، لتضاد الأحكام" الخَمْسَة، فالوجوبُ كما يضاد التحريم يضاد الكَرَاهة، فلو لم يثبت مع التحريم لما ثبت مع الكَرَاهَةِ، إِذ لا مانع إِلا التضاد، واللازم باطل؛ بدليل كراهية ما لا ينحصر من صلاة وصوم.

"وأجيب" عن هذا الاستدلال "بأنه إِن اتحد الكون" أي: الحصول في الحيز واحد في الصلاة، وهو مأمور به، وفي الغَصْبِ منهي؛ لأنه هو الغصب فاتَّحد المتعلّقان، فمنعت الصحة، فإِن كان الصوم والصلاة المكروهين كذلك "منع" كونهما صحيحين، "وإِلا لم يفسد"؛ إِذ لا يلزم من الصِّحة الواقعة في المنهي "لرجوع النَّهي إِلى وصف منفك" لا يتّحد فيه المتعلّق الصحة حيث يرجع إِلى الكون

(6)

الَّذي هو ذاتي متَّحد

(7)

المتعلّق.

ولقائل أن يقول: النَّهي في الصلاة في الدَّار المغصوبة راجع أيضًا إِلى وصف منفك، ولا يظهر فرق بينهما وبين الصَّلاة المكروهة.

(1)

في ح: المدخول.

(2)

في ب: نخرجهما.

(3)

في ب: متعلق.

(4)

في ح: نهى.

(5)

في أ، ج: تثبت.

(6)

في أ: اللون.

(7)

في ج: فيتحد.

ص: 547

واسْتُدِلَّ: لَوْ لَمْ تَصِحَّ، لَمَا سَقَطَ التَّكْلِيفُ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ، وَرُدَّ بِمَنْعِ الْإِجْمَاعِ مَعَ مُخَالَفَةِ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَقْعَدُ بِمَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ.

قَالَ الْقَاضِي وَالْمُتَكَلِّمُونَ: لَوْ صَحَّتْ، لاتَّحَدَ الْمُتَعَلَّقَانِ؛ لِأَنَّ الْكَوْنَ وَاحِدٌ، وَهُوَ غَصْبٌ. وَأُجِيبَ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ.

الشرح: "واستدلّ لو لم يصح لما سقط التكليف" بها.

"قال القاضي: وقد سقط بالإِجماع؛ لأنهم" أي: الماضين "لم يأمروهم"، أي: المصلين في الدار المغصوبة "بقضاء الصلوات".

والقاضي هو المحتج بهذا الدَّليل، ولكن على السقوط لا على الصحة، وأشار به إِلى أن المسألة من القَطْعيَّاتِ، لحصول الإِجماع، وذلك أن تقلبهم في البِلادِ، وتحركهم في الأسفار لا يسلم معه في مستقرّ العادات من الصلاة في مكان مَغْصُوب، ولو كانت تعاد لنقل عن الصحابة رضي الله عنهم، ولو نقل عنهم لما خفي.

وقد زاد النَّووي في "باب الآنية" من "شرح المهذب" فذكر: أن أصحابنا يدعون الإِجماع على الصحة قبل مخالفة أحمد.

وهذا لو تَمَّ دفع مذهب القاضي؛ إِذ هو موافق على عدم الصِّحَّة.

"ورد" هذا الوجه "بمنع الإِجماع"؛ إِذ كيف يصح ادعاؤه "مع مخالفة أحمد وهو أقعد بمعرفة الإِجماع"، فلو سبقه إِجماع لكان أجدر من القاضي بمعرفته ثم لم يخرقه.

وممن منع الإِجماع إِمام الحرمين، وابن السَّمعاني، وغيرهما من الأئمة وهو الحَقّ.

وما ذكره القاضي من عدم انْفِكَاكِ عصر الماضي عن الصلاة في مكان مغصوب مردود عندنا؛ فإِن الظَّاهر من حال الصَّحابة أن هذا لم يتَّفق في عصرهم، ولو فرض وقوعه من واحد من الأتباع لأمكن أن يخفى عنهم

(1)

، وعلى تقدير اطّلاعهم فغايته إِجماع سكوتي، والقاضي لا يراه حُجَّة.

الشرح: "قال القاضي": "لو صحَّت لاتَّحد المتعلّقان" متعلقا الأمر والنهي؛ "لأن الكون"

(1)

في ج: عليهم.

ص: 548

قَالُوا: لَوْ صَحَّتْ، لَصَحَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ بِالْجِهَتَيْنِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنِ الصَّوْمِ بِوَجْهٍ، فَلا تتَحَقَّقُ جِهَتَانِ، أَوْ بِأَنَّ نَهْيَ التَّحْرِيمِ لا يُعْتَبرُ فِيهِ تَعَدُّدٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ فِيهِ.

وَأَمَّا‌

‌ مَنْ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً،

فَحَظُّ الْأصُولِيِّ فِيهِ بَيانُ اسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ

جزء الحركة والسُّكون، وهما جزءا الصَّلاة، فيكون الكون جزءًا للصلاة، وهو "واحد" فيكون مأمورًا به، ثم هو بعينه منهي [عنه]؛ لأنه كون في المغصوب "وهو غصب.

وأجيب" بالمَنْعِ من اتحاد الكون اتحادًا شخصيًا، للقطع "بإِعتبار الجِهَتَيْنِ" فيكونان متغايرين "بما سبق" تقديره.

الشرح: "قالوا: لو صَحَّت لصح يوم النَّحْر بالجهتين"، كونهْ صومًا وواقعًا يوم النَّحْرِ.

"وأجيب": بمنع اختلاف الجهة، "بأن صوم يوم النَّحْرِ غير منفك عن الصَّوم بوجه"، لاستلزام

(1)

المقيد المطلق "ولا يتحقق"

(2)

فيه "جهتان" تنفك إِحداهما عن الأخرى، بخلاف الصَّلاة في الدار المغصوبة.

"أو بأن نهي التحريم لا يعتبر فيه تعدد إِلا بدليل خاص فيه"؛ لأنه ظاهر في البطلان منصرف

(3)

إِلى الذات غالبًا، بخلاف نهي الكراهة فإِنه ينصرف في الوصف غالبًا، وهذا ضعيف والأول هو المعتمد.

الشرح: "وأما" ما لا يمكن الانفكاك فيه مثل: "من توسّط أرضًا مغصوبة، فحظ الأصولي [فيه] بيان استحالة الأمر والنهي معًا بالخروج" منها، فإِنه تكليف بالمُحَال فيتعلّق التكليفُ بواحدٍ منها يعينه الفقيه.

والفقيهُ يقول: يؤمر بالخروج، كما يؤمر المُولِج في الفرج الحرام بالنزع

(4)

، وإِن كان به مماسًا لِلْفَرْجِ الحرام، ولكن يقال: انزع على قصد التوبة، لا على قصد الالتذاذ، فكذلك

(5)

الخروج من الغَصْب فإِن أهون الضررين يصير واجبًا بالإِضافة إِلى أعظمهما.

(1)

في ت: لاستلزم.

(2)

في حاشية ج: قوله: ولا يتحقق فيه، أي في صوم يوم النحر لكن والصوم حينئذ ليوم النحر.

(3)

في ح: ينصرف.

(4)

في أ: بالنزاع، وهو خطأ.

(5)

في ج، ح: فلذلك.

ص: 549

مَعًا بِالْخُرُوجِ وَخَطَأِ أَبِي هَاشِمٍ، وَإِذَا تَعَيِّنَ الْخُرُوجُ لِلْأَمْرِ، قُطِعَ بِنَفْيِ الْمَعْصِيَةِ بِهِ

ومن حظّ الأصوليين أيضًا بيان "خطأ أبي هاشم"، حيث يقول: بأنه منهي عن خروجه؛ لأنه متصرفٌ في ملك الغير بغير إِذنه، وذلك قبيح لعينه، ومأمور به؛ لأنه انفصالٌ عن المُكْثِ. وهذا الشيخ بنى كلامه على أصله الفاسد في الحسن والقبح فأخلّ

(1)

بأصله الفاسد من منع التكليفِ بالمحال، إِذ حرم عليه الشَّيء وضده.

"وإِذا تعيَّن الخروج للأمر قطع بنفي المعصية به" إِذا وقع الخروج "بشرطه" من السّرعة على مبلغ الجهد، واجتناب التقصير، والتصرف في ملك الغير ليس حرامًا لعينه، بل بنهي الشارع، وهذا مأمور به فلا يكون معصية.

"وقول الإِمام باستصحاب حكم المَعْصية مع الخروج ولا نَهْي بعيد".

وضَعَّفه تلميذه الغزالي

(2)

؛ لأنه معترف بانتفاء النهي، فالمعصية إِلى ماذا تستند؟.

وقوله في "البرهان": إِن هذا يلتفت على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة فإِنها تقع امتثالًا من وجه

(3)

، وغصبًا واعتداء من وجه، فكذلك الذاهب إِلى صوب

(4)

الخروج، ممتثل من وجه، عاصٍ ببقائه من وجه، فيه نظر؛ إِذ الخروج شيء واحد، "ولا جهتين، لتعذُّر الامتثال"

(5)

، بخلاف الصَّلاة في الدَّار المَغْصُوبة، فإِن الامتثال يمكن، وإِنما جاء الاتحاد من جهة المُكَلّف.

واعلم أنه اعترف في "البرهان" بأن الإِمكان لا بد منه في المنهيات والمأمورات. وقال: إِن المعصية إِنما هي من أجل نسبته إِلى ما تورّط فيه آخرًا قال: وليس هو عندنا منهيًّا عن الكون في هذه الأرض، ولكنه مرتبك في المعصية مع انقطاع تكليف النَّهْيِ عنه، وهذا ما أشار إِليه المصنّف بقوله: ولا نهي.

والحاصلُ أن الصَّلاةَ في الدَّار المغصوبة كان يمكن الامتثال، ولكن الاتحاد جاء من اختيار المكلف، فكلف، والتكليف بالمُحَال لا خيرة للعبد فيه، فلا يكلّف.

وهذا في المحال الذي لم يكن العبد متسببًا إِلى وقوعه، وأما ما كان متسببًا فيه - كما في هذه المسألة - فإِنه كان في وُسْعِ هذا الإِنسان ألّا يقع في هذا الممتنع المحال بألَّا يدخل الدار فهل يمتنع التكليف؟.

(1)

في ج: فأدخل.

(2)

في ب: العراقي.

(3)

في ب: جهة.

(4)

في ت: صواب.

(5)

في ب: الإِمساك.

ص: 550

بِشرْطِهِ. وَقَوْلُ الْإمَامِ: بِاستْصْحَابِ حُكمِ المَعْصِيَةِ مَعَ الْخُرُوجِ، وَلَا نَهْيَ، بَعِيدٌ، وَلَا

قال أبو هاشم: يتوجّه عليه التكليف بهما، وهو خطأ لا سيما على أصله، كما قلنا.

وقالت الجماعة: إذا كان التَّعرِّي من الأمرين محالًا، فلا مُبالَاةَ بمبدئهما وسببهما، فليقع الفعل مأمورًا.

وحاول الإمام طريقة التوسّط فقال: إنه غير منهي؛ وإن انسحب عليه حكمُ العصيان، وهذا موضع الأناة والاتِّئاد، فإنه في غاية من الإشكال فنقول: المرء منهي عن الغصب، وهو: ما لم يعر عن الاستيلاء على حق الغير غاصب، إذ الغصب الاستيلاء على حق الغير. إلا أنه لما كان آخذًا في الخروج من المعصية، والأمر متوجّه نحوه إذ ذاك بها، لم يكن منهيًّا الآن، وهذا واضحٌ؛ لامتناع اجتماع الأمر والنهي من جهة واحدة، ولكن النهي السَّابق قضى عليه بالإثم ما لم يخرج عن الاستيلاء فبقيت آثاره، وإن لم يطرأ الآن نهي، فلم نَقُل بالمعصية مع انتفاء النهي رأسًا، بل مع انتفاء نهي طرأ الآن، ثم المعصية مستندة إلى النهي السابق الذي إن انقطع لمصادمة الأمر لم [تنقطع]

(1)

آثاره، فإن المُضَادَة إنما وقعت بين الأمر [والنهي]

(2)

لا بين آثارهما، فإنا لا نعني بالنهي إلا طلب الكَفّ ولا بالأمر إلا طلب الفعل ليس بكَفّ، واجتماعهما متعذّر، والأمر موجود، فانتفى النهي، وأثر النهي - وهو التأثيم لا وجه لارتفاعه، وهذا كما يقول الفقهاء فيمن ارْتَدَّ، ثم جُنَّ، ثم أَفاق وأسلم: إنه يجب عليه قضاء صلوات أيام الجنون

(3)

، وما ذلك إلا لاستصحاب حكم الرِّدَّة عليه، ولا [تسألن]

(4)

الفقيه هنا فما قولكم فيه: لو مات أيام جُنُونه، هل يلقى الله تعالى كافرًا أو غير مكلف؟.

لأنا نقول: هذا ليس مما نحن فيه؛ لأن لُقْيَهُ رَبَّهُ راجعٌ إلى ما عرف الربُّ من حاله، والذي يظهر لنا أنه مرتد، والربُّ أعلمُ به.

(1)

في أ، ج، ح: ينقطع.

(2)

سقط في ب.

(3)

الجنون في اللغة: يقال: جنّه يجنه جنا، وجنَّ عليه جنا وجنونا، وأجنه الليل ستره. قال الراغب: وأصل الجن الستر عن الحاسة، قال تعالى {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} وحيثما كانت هذه المادة فهي تنضمن الستر، وإنما سمي المجنون مجنونًا لأن عقله قد ستر.

الجنون في الاصطلاح: وعرفه الفقهاء: بأنه اختلال العقل بحيث لا نجري أفعاله وأقواله على نهجه قصدًا. وذلك إمّا لنقصان جبل عليه دماغه، فلا يصلح لقبول ما أُعدَّ له كلسان الأخرس وعين الأكمه. وإمّا لخروج مزاج الدماغ عن حد الاعتدال بسبب خلط أو رطوبة أو يبوسة، وإمّا باستيلاء الشيطان وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه. ينظر: فتح الغفار 3/ 86، وابن ملك على المنار ص 340.

(4)

في ب: يسألن.

ص: 551

جِهَتَينِ؛ لِتَعَذُّرِ الاِمْتِثَالِ.

فإن قال: فهل تقتلون

(1)

المرتد إذا طرأ جنونه؟

قلنا: لو قيل

(2)

: لم يوقع الموقع، ولكنا لا نجوز قتله

(3)

لأمر لا يتعلق بما نحن فيه، وقد مثل إمامُ الحرمين بالتَّائب

(4)

فيما اقْتَرَفَ من حقوق الآدميين، فإن الإثم ينسحبُ عليه ما لم يعزم

(5)

.

وإن عزم على العزم، وما ذلك إلا لتَوْرِيطِهِ نفسه.

قال المَازِرِيّ: ولو يمثل بقيام الحدود

(6)

على السَّكران، ووقوع طلاقه

(7)

، وإن كان غير

(1)

في ج، ح: يقتلون.

(2)

في ت: قيل.

(3)

في أ، ت، ح: قبله.

(4)

في أ، ت، ج: بالثابت.

(5)

في ج: يقوم.

(6)

جمع حدّ، في اللغة: المنع، وفي الشرع: عقوبةٌ مقدرةٌ وجبت حقًّا لله تعالى زجرًا، والحدودُ ستةٌ: حد الزنا، وحد شربه الخمر والسكر، وحد القذف، وحد السرقة، وحد قطع الطريق. ينظر: القواعد الفقهية 261.

(7)

أما من شرب دواء بقصد التداوي أو أكره على شربه أو لم يعلم أنه مسكر وشرب فلا يؤاخذ بذلك، أما المتعدي فعلى ضربين: الضرب الأول: أن يسكر بشراب مطرب عالمًا به مختارًا. وقد نقل عن الشافعي في وقوع طلاقه وسائر تصرفاته طريقان: الطريقة الأولى: حاكية لقولين: الأول - وهو المشهور - ينفذ طلاقه وسائر تصرفاته له وعليه قولًا وفعلًا كالنكاح، والعتق، والبيع، والشراء، والإسلام والردة، والقتل والقطع، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، وأكثر الفقهاء - وذلك لما روي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خطب خديجة بنت خويلد تزوجها من أبيها خويلد وهو سكران ودخل بها، فلما جاء الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يزوج نشوان ولا يطلق إلا أجزته" وهذا نص؛ ولأنه مؤاخذ بسكره فوجب أن يؤاخذ بما يحدث عن سكره؛ ألا ترى أن من جنى جناية فسرت لما كان مؤاخذًا بها كان مؤاخذًا بسرايتها. فإن قيل: فليس السكر من فعله وإنما هو فعل الله تعالى، فيه فكبف صار منسوبًا إليه ومؤاخذًا به؟ قيل: لأن سببه وهو الشرب من فعله، فصار ما حدث عنه - وإن كان من فعل الله تعالى - منسوبًا إليه، كما أن سراية الجناية لما حدثت عن فعله نسبت إليه وكان مؤاخذًا بها، وإن كانت من فعل الله تعالى. ولأن رفع الطلاق تخفيف ورخصة وإيقاع تغليظ وعزيمة، فإذا ما وقع من الصاحي وليس بعاص كان وقوعه من السكران مع المعصية أولى.

القول الثاني: لا ينفذ شيء من ذلك، وبه قال عثمان بن عفان رضي الله عنه ومجاهد وربيعة والليث بن سعد وداود، ومن أصحابنا المزني وأبو ثور، ومن أصحاب أبي حنيفة: الطحاوي والكرخي، وقد تفرد بنقل هذا عن القديم المزني في الظهار، ولم يساعده غيره من أصحابه القديم، =

ص: 552

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عاقل حين جنايته ما جنى لأجل أن شربه الخَمْر معصية، وهي طريق إلى زوال العقل، فزوالٌ

= ولا وجد في شيء من كتبه القديمة، ولذلك اختلف أصحابنا: هل يصح تخريجه قولًا ثانيًا للشافعي في القديم أم لا، فذهبت طائفة إلى صحة تخريجه؛ لأن المزني ثقة فيما يرويه ضابط لما ينقله ويحكيه. وذهب الأكثرون إلى أنه لا يصح تخريجه، وليس في طلاق السكران إلا قول واحد أنه يقع؛ لأن المزني وإن كان ثقة ضابطًا فأصحاب القديم بمذهبه أعرف.

استدلوا أولًا على ألا ينفذ شيء من ذلك بخبر ماعز عندما أقر للنبي صلى الله عليه وسلم بالزنى، فقال له الرسول:"أبك جنون؟ فقال: لا، فقال أشربت الخمر؟ فقال: لا، فقام رجل فاستنكهه فلم يجد فيه ريح خمر" أي أن الإسكار يسقط الإقرار. ويجاب عنه بأنه ليس في الحديث ما يفيد أنه شرب الخمر متعديًا، بل يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم جوز ذلك لسكر لم يتعد به، فسأله عنه، والدليل متى تطرقه الاحتمال سقط به الاستدلال. واستدلوا ثانيًا. بأنه ليس له فهم وقصد صحيح، ويجاب عنه بأن ما عنده من القصد والفهم يكفي على أن وقوع طلاقه من قبيل ربط الأحكام بالأسباب تغليظًا عليه.

الطريقة الثانية: تفرق بين تصرف له كالنكاح والشراء فلا ينفذ، وبين ما عليه من التصرفات كالطلاق والإقرار والضمان فينفذ تغليظًا عليه لينزجر. فإذا صح أن طلاق السكران واقع، فقد اختلف أصحابنا في علة وقوعه على ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول أبي العباس بن سريج: العلة في وقوعه أنه متهم فيه لنفسه، ولا يُعلم سكره إلا من جهته. فعلى هذا يلزمه الطلاق وجميع الأحكام المغلظة والمخففة في الظاهر دون الباطن، ويكون مدينًا فيما بينه وبين الله تعالى. ثانيها: أن العلة في وقوع طلاقه أنه بالمعصية مغلظ عليه، فعلى هذا يلزمه كل ما كان مغلظًا من الطلاق والظهار والعتق والردة والحدود .. ولا يصح منه ما كان تخفيفًا كالنكاح والرجعة وقبول الهبات والوصايا. ثالثها: وهو قول الجمهور أن العلة في وقوع طلاقه، إسقاط حكم سكره، وأنه كالصاحي. فعلى هذا يصح منه ما كان تغليظًا وتخفيفًا ظاهرًا وباطنًا. وهذه العلة توافق نص الشافعي على صحة رجعته وإسلامه من الردة.

الضرب الثاني: أن يسكر بشرب دواء لا بقصد التداوي بل لقصد السكر. ففي وقوع طلاقه وجهان:

أحدهما: أن يكون في حكم المسكر من الشراب في وقوع طلاقه ومؤاخذته به بأحكامه على ما ذكر.

لمؤاخذته بسكره. ومعصيته بتناوله كمعصيته بتناول الشراب. ثانيهما: وبه قال أبو حنيفة أنه لا يقع طلاقه ولا يؤاخذ بأحكامه، ويكون في حكم المغشي عليه، وإن كان عاصيًا؛ لأن ذلك ليس مطربًا يدعو النفوس إلى تناوله كالشراب. ولذلك لم يغلظ بالحد، فلم يغلظ بوقوع الطلاق. والصريح والكناية في حقه سواء. خلافًا لابن الرفعة فإنه قال:"الكناية تحتاج لنية، وهي مستحبلة في حق السكران". ويرد بما قالوه من أن الصريح يعتبر فيه قصد اللفظ لمعناه، وذلك مستحيل في حقه، فكما أوقعوا عليه الطلاق بالصريح ولم ينظروا لذلك، فكذلك الكناية مع النية سواء أخبر بها عن نفسه حال السكر أو بعده، وكونها يشترط فيها قصدان وفي الصريح قصد لا يؤثر؛ لأن الملحظ=

ص: 553

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العقل كالمكتسب

(1)

له بسببه، وإن كان لا [صنع]

(2)

له فيه لكان أوضح، لكون الجناية الواقعة الآن ليست كَفِعْلٍ يقضي مثل ما يقضي زمن الغَضبِ، بل هي فعلٌ شرعَ فيه السّكران كما شرع الغاصب في الخروج من الدار.

ثم ذكر إمام الحرمين

(3)

أن غرضه يظهر بمسألة ألقاها أبو هاشم فحارت فيها عقول الفقهاء، وهي أن من توسّط جمعًا من الجَرْحَى، وجثم على صدر واحد منهم، وعلم أنه لو بقي

(4)

على ما هو عليه لَهَلَكَ من تحته، ولو انتقل لهلك آخر، بعني مع تساوي الرجلين في جميع الخِصَالِ.

قال

(5)

: وهذه المسألة لم أتحصل فيها من قول الفقهاء على ثبت، فالوجه المقطوع به سقوط التكليف عن صاحب الواقعة مع استمرار حكم سخط الله عليه وغضبه.

ووجه السقوط استحالةُ التكليف بالمُحَال، واستمرار العصيان بسببه

(6)

إلى ما لا مخلص منه.

ولو فرض إلقاء رجل على صدر آخر بحيث لا يُنْسب الواقع إلى اختيار فلا [تكليف]

(7)

ولا عصيان.

وقال الغَزَالِيُّ: يحتمل ذلك، ويحتمل أن يقال: يمكن

(8)

، فإن الانتقال فعل مستأنف، ويحتمل التخيير.

= المقنضى للوقوع في الصريح إسقاط حكم سكره وجعله كالصاحي، وهذا موجود في الكناية.

ويرجع في حد السكران إلى العرف، فإذا انتهى تغيره إلى حالة يقع عليه اسم السكران عرفًا فهو محل الخلاف في المتعدى، وعدم الوقوع في غير المتعدي. وقبل هذه الحالة تنفذ جميع تصرفاته تعدى أم لا؛ لوجود العقل. وعن الشافعي رضي الله عنه: هو الذي اختل كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم. وقال إمام الحرمين: "شارب الخمر تعتريه ثلاثة أحوال: إحداها هزة ونشاط إذا دبت الخمرة فيه، ولم تستول عليه؛ فينفذ الطلاق فيها قطعًا لبقاء العقل. ثانيها: نهاية السكر، وهو أن يصير طافحًا يسقط كالمغشي عليه، لا يتكلم ولا يكاد يتحرك، وهذه لا ينفذ الطلاق فيها، إذ لا قصد له قياسًا على المغشي عليه. (وهذا خلاف المعتمد، لأن تعديه بالتسبب إلى هذه الحالة اقتضى نفوذ جميع تصرفاته له وعليه) ثالثها: متوسط بينهما، وهي أن تختلط أحواله فلا تنتظم أقواله وأفعاله وبقى تميز وكلام وفهم، وهذه الحالة محل الخلاف في تصرفاته.

(1)

في ح: كالمتسبب.

(2)

في ب: صنيع.

(3)

ينظر: البرهان 1/ 302 (212).

(4)

في ح: أبقى.

(5)

ينظر: البرهان 1/ 302 (212).

(6)

في ج: بتسببه.

(7)

سقط في ج، ح.

(8)

في ب: يمكث.

ص: 554

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وسيكون لنا عَوْدَةٌ إلى هذا في أخبار الآحاد.

وبلغنا أن الغزالي قال للإمام: كيف قلت: لا حكمَ، وأنت ترى أنه لا تخلو واقعةٌ عن حكمٍ؟ فقال: حكم الله ألا حكم، فقال الغزالي: لا أفهم هذا.

قال ابن الأنباري: وهذا تأدب من الغزالي، وهذا القول غير مفهوم في نفسه وهو متناقض.

قلت: ويمكن أن يقال: إن الله تعالى حكم بانتفاء الأحكام الخمسة التي هي الاقتضاء والتخيير، وتكون البراءةُ الأصلية حكمًا لله تعالى بهذا الاعتبار، فإن تركه الخلق على قضيتها قضاء منه بها، وليس هو القضاء في الأحكام الخمسة.

وقد عدّ الغزالي ما قاله الإمام من المحتملات مع قوله أيضًا بألّا تخلو واقعة عن حكم.

فإن قلت: ما قولكم فيمن كسر رجله، أو ألقى بنفسه من سطح، هل يقضي الصلاة قاعدًا؟.

قُلْتُ: قال الغزالي: لا، وينبغي مساق كلام الإمام إن كان فعل ذلك ذريعةً للصلاة قاعدًا أن ينسحب عليه حكم العصيان، بل ويجب القضاء.

قال الإمام

(1)

: ومما أخرجه على ذلك أن من واقع قريب الفجر قاصدًا إيقاع ذلك الوقاع بحيث إذا طلع الفجر اقترن بِمَطْلَعِهِ الانكفاف والنزع

(2)

، فسد صومه من جهة سببه

(3)

إلى وضع المخالطة في مقارنة الفجر وإن كان مُنْكَفًّا، وإن خالط أهله ظانًّا أنه في مهل من بقية الليل، ثم ابتدره الفَجْر فابتدر النزع فلا يفسد.

والفقهاء لا يفصلون هذا التفصيل، ويحكمون بأن النازع لا يفطر، وإن قصد وتعمّد في الصورة التي فرضناها من جهة أنه نازع مع أول الفَجْرِ.

قلت: وقد حكى الأصحاب فيما إذا قال لزوجته: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثًا وجهين:

أحدهما: أنه بعد مضي مدة الإيلاء

(4)

يطالب بالطَّلاق على

(1)

ينظر البرهان 1/ 303 (212).

(2)

في ب: والمنزع.

(3)

في ب: لسببه.

(4)

الإيلاء لغة: بالمد: الحلف، وهو: مصدر. يقال: آلى بمدة بعد الهمزة، يؤلي إيلاءً، وتألَّى وأتلى، والأليَّة، بوزن فعيلة: اليمين، وجمعها ألايا: بوزن خطايا، قال الشاعر:[الطويل]

قليل الألايا حافظ ليمِينه

وإن سبقت فيه الأليَّة برَّت =

ص: 555

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التعيين

(1)

، ويمنع من الوطء؛ لأن الطلاق يقع بتغييب الحشفة، فالنزع يقع بعد وقوعه، وهو نوع اسْتِمْتَاع بالمُطَلَّقة فلا يجوز.

وأيضًا فإنه لا يتأتى وصل النّزع بآخر التَّغييب

(2)

، بل يقع بينهما فصل، وهي في تلك الحالة محرمة عليه.

وأيضًا فالصَّائم إذا خشي طلوع الفَجْر، ووقوع النزع بعد الطلوع يمنع من الوَطْء فكذا هنا.

والأصح المنصوص عليه يطالب بالفَيْئَةِ أو الطلاق، ولا يمنع من الوطء؛ لأن النزع ترك وخروج عن المعصية.

قال الرَّافعي: والقول بأن يقع بينهما فصل لا حاصلَ له، فإن التكليفَ بما في الوسع والفصل الذي لا [يحسن]

(3)

لا عبرةَ به.

قلت: وهذا نازع إلى أن المنتسب إلى الضدين لا تكليف عليه بهما

(4)

كما تقدم إلا أن هذا أصل إيلاجه حلال بخلاف الغاصب، فنظيره: مَنْ وقع على جريح بغير اختيار منه.

قال: ومسألة الصّوم ممنوعة إن تحقّق وقوع الإيلاج في اللَّيل، ولا فرق بين الصورتين.

قلت: هذا نظير مسألة الإمام، وقد قال بالجواز.

= والألوة بسكون اللام، وتثليث الهمزة: اليمين أيضًا. ينظر: الصحاح: 6/ 227، والمغرب: 1/ 44، ولسان العرب: 1/ 117، والمصباح المنير: 1/ 35.

واصطلاحًا:

عرفه الحنفية بأنه: عبارة عن اليمين على ترك وطء المنكوحة أربعة أشهر أو أكثر.

وعرفه الشافعية بأنه: هو حلف زوج يصح طلاقه ليمتنعن من وطئها مطلقًا أو فوق أربعة أشهر.

وعرفه المالكية بأنه: حلف الزوج المسلم المكلف الممكن وطؤه بما يدل على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر أو شهرين للعبد تصريحًا أو احتمالًا، قيد أو أطلق.

وعرفه الحنابلة بأنه: حلف الزوج القادر على الوطء - بالله تعالى أو. صفة من صفاته على ترك وطء زوجته في قبلها مدة زائدة على أربعة أشهر. ينظر: تبين الحقائق، وشرح كنز الدقائق 2/ 261، ومغني المحتاج 3/ 343، والشرح الصغير 2/ 278، 279، والمطلع 343، وتحفة المحتاج 8/ 188، وشرح المحلى على المنهاج 24.

(1)

في أ، ح: بالتعيين.

(2)

في ح: التغيب.

(3)

في ب: يحس.

(4)

في أ، ب: بها.

ص: 556

‌هَلِ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ

مَسْأَلَةٌ:

الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَالرَّازِيِّ. لنَا: أَنَّهُ طَاعَةٌ،. . .

وذكر ابن الأَنْبَاري أن ما قاله الإمامُ ضعيف؛ لأن مدار مسألة النزع عليه على أنه وطئ فيفطر به أم لا فلا، سواء كان متعمدًا أم ناسيًا.

قلت: قد يقول الإمام: هو وطءٌ إن كان متعمّدًا، غير وطي إن كان ناسيًا، وهذا لأن النَّزْع صالح [لأن

(1)

يكون] وطئًا؛ لما فيه من نوع الاستمتاع. وألَّا يكون لكونه خروجًا ضروريًا فيميزه القصد فيتجه ما قاله.

والإمام قد قال: نظير هذا فيما إذا طلع الفجر وهو يجامع

(2)

وعلم به فمكث، حيث رَدّ على من قال: ينعقد صومه، ثم يفسد بأن النَّزع إنما لا ينافي الصوم إذا قصد الترك.

أما إذا لم يقصد فينافيه، فانظر كيف فرق بين القصد وعدمه فرقًا يتغير به حكمه.

ومن فروع المسألة: اختلاف أصحابنا فيمن أحرم نازعًا عن الجماع، هل ينعقد صحيحًا أو فاسدًا، أو لا ينعقد أصلًا؟ حكاه ابن الرفعة

(3)

، والشيخ الإمام أبي في "شرح المنهاج".

وكذلك الصَّائم

(4)

- هل انعقد ثم فسد كما قلناه - واختاره أبي رحمه الله وأطال البحث فيه - أو لم ينعقد كما نص الإمام.

«مسألة»

الشرح: "المندوب مأمور به" حقيقة، وهو رأي القاضي، "خلافًا للكرخي والرَّازي" من

(1)

في ح: لا يكون.

(2)

في ت، ج، ح: مجامع.

(3)

أحمد بن محمد بن علي بن مرتفع بن حازم بن إبراهيم بن العباس الأنصاري، البخاري، حامل لواء الشافعية في عصره، أبو العباس بن الرفعة، المصري، ولد سنة 645، وسمع الحديث من ابن الصواف، وابن الدميري، وتفقه على السديد والظهير التزمنيتين وغيرهما، ولى، وناب، وصنف كنابيه:"الكفاية" في شرح التنبيه، و"المطلب" في شرح الوسيط، في نحو أربعين مجلدًا، وله تصنيف آخر سماه "النفائس في هدم الكنائس" أخذ عنه تقي الدين السبكي وجماعة. قال الإسنوي: كان شافعي زمانه. .". مات سنة 710. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 211، وطبقات الإسنوي ص 220، والدرر الكامنة 1/ 284.

(4)

في أ، ج، ح: الصيام.

ص: 557

وَأنَّهُمْ قَسَّمُوا الْأَمَرَ إلَى إِيجَابٍ وَنَدْبٍ.

الحنفية، والشيخ أبي حامد، والقاضى أبي الطيب، وابن الصَّبَّاع، وابن السَّمعاني، والإمام الرَّازي وغيرهم من الشافعية

(1)

.

فإن قلت: كيف يكون المندوب عند المصنّف كذلك، وسيقول في باب الأمر: إن صيغةَ: "افعل" حقيقة في الوجوب.

قلت: الكلام هنا في الأمر - أمر - لا في صيغة "افعل"، والأمر مقول على الواجب والمندوب بالحقيقة.

و"افعل" مختصة بالوجوب، فالندب

(2)

مأمور به حقيقة، ولا يدخل فيه صيغة "افعل"

(1)

لما فرغ من مسائل المحظور شرع في مسائل المندوب، وهو في اللغة:"المدعو لهم" مأخوذ من "الندب" وهو الدعاء لذلك، ومنه قول الشاعر:[البسيط]

لَا يَسْأَلونَ أَخاهُم حينَ يَنْدُبُهُم

فِي النَّائِباتِ عَلى مَا قَالَ بُرْهَانَا

وفي الاصطلاح: المطلوب فعله شرعًا من غير ذم على تركه مطلقًا، فـ "المطلوب فعله شرعًا" احترز به عن الحرام، والمكروه، والمباح، وغيره من الأحكام الثابتة بخطاب الوضع والإخبار "ونفى الذم على الترك" احتراز عن الواجب المضيق، "ومطلقًا" احتراز عن المخير والموسع والكفاية.

وقولهم: "هو ما فعله خير من تركه" مردود بالأكل قبل ورود الشرع، فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة واستبقاء المهجة، وليس مندوبًا، وما قيل:"هو ما يمدح على فعله، ولا يذم على تركه" منقوض بأفعاله تعالى، فإنها كذلك وليست مندوبة، ومن أسمائه: المرغب فيه أي بالطاعة "والمستحبُّ" أي من الله، و "النفل" أي الطاعةُ الجر واجبة، و"التطوع" أي الانقياد في قربة بلا حتم، و"السنة" أي الطاعة الجر الواجبة؛ لأنها تذكر في مقابلة الواجب. ينظر: شرح المختصر 1/ 129 أ، والبحر المحيط للزركشي 1/ 284، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 310، وسلاسل الذهب للزركشي ص (111)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 111، ونهاية السول للإسنوي 1/ 77، وزوائد الأصول له ص (168)، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 62، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص (10)، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 174، والمستصفى للغزالي 1/ 75، وحاشية البناني 1/ 80، والإبهاج لابن السبكي 1/ 56، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 135، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 112، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 4، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 2/ 222، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/ 225، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 123، والموافقات للشاطبي 1/ 109، 1/ 132، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 135، والكوكب المنير للفتوحي ص (125).

(2)

في ح: فالمندوب.

ص: 558

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حقيقة، هذا ما تحررّ من كلام المصنّف، وبه يظهر أن كلامه غير مختلف، ولولا ذلك لناقض كلامه هنا ما قاله في باب الأمر، وهذه طريقة الآمدي.

وطريقة الإمام الرازي: أنه لا فرق بين الأمر وصيغة "افعل".

ويعضد

(1)

طريقة الآمدي تصريح بعض أصحابنا بأن الأمر حقيقةٌ في الوجوب، مع أن المندوب مأمور به حقيقة كما نقله الشيخ أبو حامد، وابن السَّمعاني وغيرهما، إلا أنهما صرحا بأن مأخذ هذا القائل أن الواجب ما يُثَاب [على]

(2)

فعله، ويعاقب على تركه، والمندوب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، فإذا استعمل الأمر في الندب، فقد استعمل في بعض ما اشتمل عليه الواجب فكان حقيقة كحمل العموم على بعض ما يتناوله.

ولذلك قال سليم الرَّازي في "التقريب": ونقله عن كثر أصحابنا، ونقل كونه مجازًا عن أهل "العراق".

قلت: وهذا فيه نظر من وجهين:

أحدهما: أن اللفظ إذا أطلق على بَعْضِ مدلوله الحقيقي كان

(3)

مجازًا، وكذلك

(4)

نقول

(5)

: في العام يطلق على الخاص.

والثاني: أن المندوب ليس بَعْضَ الواجب، بل هو قسيمه، وإن اشتركا في الثواب على الفعل، فافهم ذلك.

قال: "لنا" وجهان:

أحدهما: "أنه طاعة" إجماعًا، ولذلك يعقد الفقهاء باب صلاة التطوع للنَّوَافل، والطاعة امتثال الأمر، فيكون مأمورًا به.

والثاني: "أنهم قسموا الأمر إلى إيجاب وندب"، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين. وقد يمنع كبرى الأول، ويقال: الطَّاعة فعل المطلوب، وهو أعم من الأمر، والمندوب طاعة؛ لأنه مقتضى ممن له الاقتضاء.

قال ابن القشيري: وربما كان طاعةً لورود الوعد بالثَّوَاب عليه. وقد يمنع صغرى الثَّاني ويقال: لا نسلّم أنهم قسموا.

(1)

في ب: يقصد.

(2)

سقط في ب.

(3)

في حاشية ج: قوله: "كان مجازًا" هذا إن أطلق عليه من جهة خصوصه كما هنا؛ إذ لا يدخل في الواجب من جهة عمومه لأخذ العقاب على الترك في حقيقته. تدبر.

(4)

في ت، ح: لذلك.

(5)

في ت، ح: يقول.

ص: 559

قَالُوا: لَوْ كَانَ، لَكَانَ تَرْكُهُ مَعْصِيَةً؛ لأِنَّهَا مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَلَمَا صَحَّ "لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ". قُلنا: الْمَعْنَى أَمْرُ الإِيجَاب فِيهِمَا.

الشرح: "قالوا: لو كان" مأمورًا به لكان "تركه معصيةً؛ لأنها" - أي: المعصية - "مخالفة الأمر ولمَّا صح" قوله عليه السلام: "لَوْلَا أنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ"

(1)

رواه البُخَاري ومسلم؛ لأنه ندبهم إليه.

وقال الشَّافعي رضي الله تعالى عنه: لو كان واجبًا لأمرهم به، شَقّ أم لم يَشُقّ عليهم.

"قلنا": "نعني أمر الإيجاب فيهما" - أي: في قولكم: المعصية مخالفة الأمر، وقوله عليه السلام:"لأمرتهم" - لا مطلق الأمر.

وهذا وإن كان خلاف الأصل، ولكن يصار إليه بما ذكرناه من الدليل.

ولقائل أن يقول: هذا يقال لك أيضًا في باب الأمر، حيث قلت: تارك المأمور عاصٍ بدليل: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93].

(1)

من حديث أبي هريرة؛ أخرجه البخاري 1/ 435 في كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة حديث (887) وفي 13/ 237 في كتاب التمني حديث (7240) ومسلم في الصحيح 1/ 220 في كتاب الطهارة، باب السواك (42/ 252) ومن حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أخرجه أبو داود 1/ 12 في الطهارة، باب السواك حديث (47)، والترمذي في السنن 1/ 35 في أبواب الطهارة باب ما جاء في السواك حديث (22، 23) وقال: (هذا حديث حسن صحيح)، والنسائي في المجتبى 1/ 12 في كتاب الطهارة، باب الرخصة في السواك بالعشى للصائم حديث (7)، وأخرجه ابن ماجه 1/ 105 في الطهارات، باب السواك حديث (287)، ومالك في الموطإ 1/ 66 في كتاب الطهارة باب ما جاء في السواك حديث (114)، وأخرجه أحمد 1/ 221، 366، 245، 250، 287، 399، 400، 410، 429، 433، 460، 509، 517، 4/ 166، 5/ 410، 6/ 325، 429، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف حديث (2106)، وابن المبارك في الزهد ص (437) حديث (1231)، والطبراني في المعجم الكبير 5/ 280، 12/ 375، 435، وأخرجه ابن حبان 2/ 202 حديث (1066) والهيثمي في "الموارد" حديث (142) والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 33، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 168، وأبو نعيم في الحلية 8/ 386، وأبو عوانة في مسنده 1/ 191، وأخرجه البزار كما في الكشف 1/ 241 حديث (491)، وأخرجه أبو يعلى في مسنده حديث (6270، 6343، 6617)، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 35، 36، 37، وينظر: التلخيص للحافظ ابن حجر 1/ 62، 64.

ص: 560

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمَنْدُوبُ لَيْسَ بِتكْلِيفٍ،

خِلَافًا لِلأُسْتَاذِ؛، وَهِيَ لفظِيَّةٌ.

فنقول

(1)

: المعنى بما يعصي

(2)

بتركه أمر الإيجاب بما ذكرناه من الدليل.

«مسألة»

الشرح: "المندوب ليس بتكليف، خلافًا للأستاذ"، والقاضى وهى مسألةٌ "لفظية" راجعة إلى تفسير التكليف فيهما

(3)

.

يقولان: الدعاء إلى ما فيه كُلْفَة ومَشَقَّة، والنوافل من ذلك، ونحن نقول: بل إلزام ما فيه كُلْفَة"

(4)

.

(1)

في أ، ح: فيقول.

(2)

في ت: يقضى.

(3)

في ج: منهما.

(4)

هذه المسألة في أن المندوب هل هو من أحكام التكاليف أم لا؟ فأثبته الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ونفاه الأكثرون. حجة الأكثرين أن التكليف إنما يكون بما فيه كلفة ومشقة، والمندوب مساوٍ للمباح في التخيير بين الفعل والترك من غير حرج، والمباح ليس من أحكام التكليف على ما سيأتي؛ فكذا المندوب قالوا: نعم إن قيل: إنه تكليفي باعتبار وجوب اعتقاد كونه مندوبًا، فلا حرج وعليه نزلوا مذهب الأستاذ. ولقائل أن يقول: إن أردتم بأن التكليف إنما يكون بما فيه كلفة أنه إنما يكون بإلزام ما فيه كلفة فهو ممنوع، وإن أردتم به أنه إنما يكون بطلب ما فيه كلفة وإن لم يكن إلزامًا فمسلم، لكن لا نسلم أن المندوب ليس كذلك، بل هو لكونه سببًا للثواب لا يخلو عن كلفة ومشقة؛ فإن المكلف لو فعله رغبة في الثواب شق عليه كفعل الواجب، وكذا إن تركه بما فاته من الثواب الجزيل على فعله، وربما كان ذلك أشق عليه من الفعل، ومنه ذهب الأستاذ إلى أنه تكليف، وأورد عليه بأنه لو كان كون الفعل سببًا للثواب موجبًا للتكليف بما ذكرنا من الاعتبار لكان حكم الشارع على الفعل بكونه سببًا للثواب من أحكام التكليف بعين ما ذكرتم، وهو خلاف الإجماع؛ لكونه من أحكام الوضع والإخبار، ويمكن أن يمنعِ الملازمة، ويسند بأنه لا يلزم من كون الفعل تكليفيًا بما ذكرنا من الاعتبار مع أنه لا يكون مطلوبًا، إذ الطلب معتبر في كون الفعل مكلفًا به، ولا طلب للفعل في قول الشارع: هذا الفعل سبب للثواب أصلًا؛ إذ لا طلب صريحًا بخلاف المندوب، فإنه لازم الإتيان به، ومراد الأستاذ من أنه تكليف أن فيه مشقة بما ذكرنا من الاعتبار، فلم يتوارد النفي والإثبات على مجز واحد، فيكون النزاع لفظيًا. ينظر: الشيرازي (131 أ/ خ)، والبرهان 1/ 101، والمنخول ص (21)، والإحكام للآمدي 1/ 113، والمحلى على جمع الجوامع=

ص: 561

‌مَبَاحِثُ المَكْرُوهِ

(1)

مَسْأَلَةٌ:

الْمَكْرُوهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ، كَالْمَنْدُوبِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْحَرَامِ، وَعَلَى تَرْكِ الأَوْلَى.

«مسألة»

الشرح: "المَكْرُوهُ" فيه أبْحَاث.

أحدها: "منهي عنه".

= 1/ 171، وسلاسل الذهب ص (111)، والعضد 2/ 5، وتيسير التحرير 2/ 224، وفواتح الرحموت 1/ 112، وشرح الكوكب المنير 1/ 405، والوصول إلى الأصول 1/ 75.

(1)

المكروه لغة: مأخوذ من كره الشيء كرهًا، خلاف أحبَّه، فهو ما تعافه النفس وترغب عنه، والمكروه: الشر، ويقال: كرَّهت إليه الشيء تكريهًا ضد حبَّبته إليه.

وفي الاصطلاح الشرعي: المكروه لفظ مشترك يطلق في عرف الفقهاء على معان كثيرة:

أولًا: يطلق ويراد به المحظور وهو الحرام كما في قوله تعالى: "كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهًا": أي محرمًا.

ثانيًا: يطلق ويراد به ترك ما كانت مصلحته راجحة كترك المندوب، وهذا المعنى صادق على خلاف الأولى، فيكون تعريفه تعريفًا له.

ثالثًا: يطلق ويراد به ما نهى عنه نهى تنزيه، كالصلاة في الأمكنة المكروهة كالحمام للتعرض لوسوسة الشياطين والرشاش، وفي مبارك الإبل، فإنه يتعرض لنفارها، وفي قارعة الطريق لمرور الناس، وغير ذلك، وكل من هذه الأمور يشغل القلب عن الصلاة، ويشوش الخشوع.

رابعًا: قد يطلق ويراد به ما في النفس منه شيء أي فيه ريبة وشبهة في تحريمه وإن كان في أصله حلالًا، كأكل لحم الضب.

أما في اصطلاح الأصوليين: نظرًا لورود المكروه في الشرع بالمعاني السابقة اختلف في حده، فمن نظر إلى الاعتبار الأول حده بحد الحرام. ومن نظر إلى الاعتبار الثاني: حده بترك الأولى. والأفضل مذهب الخصم كراهيته، وهذا من العبث، وكيف يطمع المحصل في إفضاء هذا الكلام إلى التحقيق، مع اعترافه بأنه المكروه لا يمتنع أنه يقع امتثالًا. وهذا الكلام من إمام الحرمين يفهم منه: أن نهي الكراهة، يدل على الفساد إذا كان منهيًا عنه من الجهة التى أمر به منها فيكون واجبًا من حيث ثبتت كراهيته، ومكروهًا من حيث ثبت وجوبه، وبالتالي في مثل هذه الحالة لا يمكن أن يجتمع المكروه والواجب لوجود التضاد بينهما، أما إذا كانت الكراهية من غير جهة الإيجاب، أو الوجوب من غير جهة الكراهية، ففي هذه الحالة لا يقتضي النهي فيه الفساد، =

ص: 562

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثاني: أنه "غير مكلّف به" على المُخْتَار فيهما، "كالمندوب" مأمور غير مكلف به.

والمخالف ثمَّ مخالف هنا.

والثالث: أنه "يطلق أيضًا على الحَرَام".

وهو كثير في كلام الشَّافعي وغيره من الأقدمين، وكانوا يتورَّعُونَ عن استعمال لفظة الحرام والحلال في المُجْتهدات، خشية وفرقًا من قوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116].

"وعلى ترك الأَوْلَى".

= وبالتالي فيمكن أن يجتمع الواجب والمكروه في مثل هذه الحالة، ومن تتبع قواعد الشريعة ألفى من ذلك أمثلة تفوق الحصر، ومنها صحة الصلاة في الحمام ومعاطن الإبل والمقبرة وغير ذلك مع القول بكراهيتها.

وقال الإمام الغزالي في "المستصفى": كما يتضاد الحرام والواجب فيتضاد المكروه والواجب، فلا يدخل مكروه تحت الأمر حتى يكون شيء واحد مأمورًا به مكروهًا، إلا أن تنصرف الكراهية عن ذات المأمور به إلى غيره، ككراهية الصلاة في الحمام وأعطان الإبل، وبطن الوادي وأمثاله، فإن المكروه في بطن الوادي التعرض لخطر السيل، وفي الحمام التعرض للرشاش أو لتخبط الشياطين، وفي أعطان الإبل التعرض لنفارها، وكل ذلك مما يشغل القلب في الصلاة، وربما شوش الخشوع، بحيث لا ينقدح صرف الكراهة عن المأمورية إلى ما هو في جوازه وصحته؛ لكونه خارجًا عن ماهيته وشروطه وأركانه، فلا يجتمع الأمر والكراهية. وبذلك رأينا أن الإمام الغزالي رحمه الله قرر أن المكروه لا يجامع الواجب؛ إذ كان النهي عائدًا إلى عين المأمور به أو إلى وصفه الملازم، ولا فرق في ذلك بين أن يكون النهي للتحريم أو للتنزيه، أما إذا كان النهي عائدًا إلى معنى خارج عن الأمر كما في الأمثلة التي ذكرها الغزالي - فهذا لا مانع من أن يكون المأمور به منهيًا عنه من هذه الجهة، بمعنى أنه يجوز أن يجتمع الواجب والمكروه في تلك الحالة. ينظر: لسان العرب 5/ 3865، وترتيب القاموس المحيط 4/ 44، والمصباح المنير 2/ 84. وينظر: البحر المحيط للزركشي 1/ 296، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 310، وسلاسل الذهب للزركشي 108، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 114، ونهاية السول للإسنوي 1/ 79، وزوائد الأصول له 170، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 65، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 10، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 175، والمستصفى للغزالي 1/ 28، وحاشية البناني 1/ 80، والإبهاج لابن السبكي 1/ 59، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 135، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 113، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 5، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/ 225، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 123، والموافقات للشاطبي 1/ 109، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 147، والكوكب المنير للفتوحي 128.

ص: 563

تمّ الجزء الأول من كتاب رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب

ويليه الجزء الثاني وأوله مسألة إطلاق الجائز على المباح

ص: 564