الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْجَائِزُ
مَسْأَلَةٌ:
يُطْلَقُ الْجَائِزُ عَلَى الْمُبَاحِ، وَعَلَى مَا لَا يَمْتَنِعُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، وَعَلَى مَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِيهِ فِيهِمَا، وَعَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ فِيهِمَا بِالاعْتِبَارَيْنِ.
الْإِبَاحَةُ وَالْمُبَاحُ
(1)
مَسْأَلَةٌ:
الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ. لنَا: أَنَّهَا خِطَابُ الشَّارعِ، قَالُوا: انْتِفَاءُ الْحَرَجِ، وَهُوَ قَبْلَ الشَّرْعِ.
«مسألة»
الشرح: "يُطْلَقُ الجَائِزُ عَلَى المُبَاحِ.
وعلى ما لا يمتنع شرعًا، أو عقلًا".
والثاني أعم من الأول، وأخصّ من الثالث.
"وعلى ما اسْتَوَى الأمران فيه"، وهما وجوده وعدمه - فيهما - أي: في العَقْلِ والشَّرْع سواء استويا شرعًا كالمباح، أو عقلًا كفعل الرَّضيع.
"وعلى المَشْكُوك فيه فيهما بالاعتبارين"، اعتبار عدم الامتناع شرعًا كان أو عقلًا، واعتبار استواء الطرفين.
«مسألة»
الشرح: "الإباحة حكم شرعي خلافًا لبعض المعتزلة". "لنا: أنها خطاب الشَّارع"، وكانت حكمًا شرعيًّا.
(1)
هذه أولى المسائل المتعلقة بالمباح، وهي في أنه هل هو مساوٍ للجائز أو أخص منه أو مباين له؟ واعلم أولًا أن المباح لغة هو المعلن والمأذون، مأخوذ من الإباحة وهي الإظهار والإعلان، ومنه يقال: باح بسره وأباحه: إذا أظهره، ومن الإذن والإطلاق، ومنه يقال:"أبحته كذا" أي "أذنت له، وأطلقته فيه". واصطلاحًا هو متعلق الإباحة، ويحد بأنه: ما ورد فيه خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك من غير ترجيح طلب، ولا يرد على طرده خصال الكفارة ولا الصلاة في أول الوقت=
مَسْأَلَةٌ:
الْمُبَاحُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ،
خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ. لَنَا: أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ يَسْتَلْزِمُ التَّرْجِيحَ وَلَا تَرْجِيحَ.
"قالوا": بل هي" [انتفاء]
(1)
الحرج، وهو": ثابت "قبل الشرع"، وما يثبت
(2)
قبل الشرع لا يكون شرعيًّا.
قلنا: كلامنا في التخيير بخطاب الشارع، لا بالبراءة الأصلية، والخلاف لفظي، ناشئ عن تفسير الإباحة
(3)
.
"مسألة"
الشرح: "المُبَاحُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ
(4)
.
= على ما ظن من أنه ما من خصلة إلا والمكلف مخير بين فعلها وتركها، ومع ذلك هي واجبة، وكذا الصلاة في أول الوقت لكونها واجبة مع كون المكلف مخيرًا فيها. مع أنا لا نسلم كون المكلف مخيرًا في الصلاة في أول الوقت من غير ترجيح، بل الإتيان بها أول الوقت أولى، وقول من قال: هو ما استوى جانباه من عدم الثواب والعقاب فتنقض بأفعاله تعالى، فإنها كذلك وليست مباحة، ومن أسمائه "الحلال" و"الطلق" وقد يقال: الحلال لما لا ضرر في فعله إن حرم تركه كدم المرتد.
ينظر الشيرازي 132 أ / خ.
(1)
سقط في ت.
(2)
في ت: ثبت.
(3)
قال الزركشي في البحر المحيط: والخلاف لفظي يلتفت إلى تفسير المباح، إن عرفه بنفي الحرج، وهو اصطلاح الأقدمين، فنفي الحرج ثابت قبل الشرع، فلا يكون من الشرع، ومن فسره بالإعلام بنفي الحرج، فالإعلام به إنما يعلم من الشرع فيكون شرعيًا. كذا قال في البحر. ينظر: البحر المحيط 1/ 277 - 278، والمستصفى 1/ 48، وشرح التنقيح ص (70)، والمحصول 1/ 2/ 359، وحاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 173، والإحكام للآمدي 1/ 115، والمعتمد 1/ 8، وشرح الكوكب المنير 1/ 428، وسلاسل الذهب ص (109).
(4)
ينظر: الإحكام للآمدي 1/ 115، والبرهان 1/ 294، والمحلى على جمع الجواح 1/ 172، والمستصفى 1/ 74، وشرح العضد 2/ 6، وتيسير التحرير 2/ 226، وفواتح الرحموت 1/ 113، والمسودة ص (36).
قَالَ: كُلُّ مُبَاحٍ تُرِكَ حَرَامٌ، وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَمَا لَا يَتِمُّ. . . . .
خلافًا للكَعْبيّ"
(1)
وشيعته حيث قالوا: المباح مأمور به، دون الأمر بالندب فالندب
(2)
دون أمر الإيجاب، كذا نقل
(3)
عنهم القاضي والغَزَالي وغيرهما.
ثم لا يقولون: إنه مأمور به باعتبار ذاته، بل باعتبار أنه يترك به الحرام. وقيل: بل أنكر المُباح في الشَّريعة رأسًا.
وهذا ما نقله عنه إمامُ الحرمين وابن برهان والآمدي وغيرهم، والأول عندي أثبت، وعليه جرى المصنّف.
"لنا: [أن]
(4)
الأمر طلب، والطلبُ يستلزم الترجيح" ترجيح الفِعْل على الترك "ولا ترجيح" في المباح.
الشرح: "قالوا: كلّ مباح ترك حرام، وترك الحرام واجبٌ"، فيكون المباح واجبًا.
وإن قيل: ليس ترك الحرام فعل المباح، بل به يحصل.
قلنا: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويؤول
(5)
الإجماع" في انقسام الأحكام إلى الخمسة "على ذات الفعل" مع قطع النَّظر عما يستلزمه، وهي خمسة باعتبار ذاتها "لا بالنظر إلى ما يستلزم" من توقّف ترك الحرام عليه "جمعًا بين الأدلة" من جهته وجهتنا، ولا يمنع كون الشيء مباحا باعتبارٍ، واجبًا باعتبار آخر، كالواجب الحرام باعتبارين.
"[وأجيب بجوابين:
(1)
ذهب الكعبي إلى أن لا مباح في الشريعة، وشق عصا المسلمين في ذلك. هذا نقل إمام الحرمين وابن برهان وغيرهما، وبنى مذهبه في ذلك على أصل هو أن الأمر بالشيء نهى عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده إن كان له ضد واحد كالحركة مع السكون، فإن كان له أضداد كان النهي عنه أمرًا بأضداده على سبيل البدل، فالنهي عن القيام أمر بواحد من القعود والاضطجاع والاستلقاء، قال: فما من شيء من هذه الأضداد إلا وهو من حيث الظر إلى نفسه واجب وإن ثبت التخيير بينها؛ لأن ذلك لا يخرجه عن حقيقة الواجب، كالواجب الموسع فهو واجب من هذا الوجه، ومباح مني حيث ثبوت التخيير فيه. ينظر: البرهان 1/ 294، والمستصفى 1/ 47، ومنتهى السول للآمدي 1/ 31.
(2)
في ج: والندب.
(3)
في ج: نقله.
(4)
سقط في ج.
(5)
في ج: تأول.
الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَتَأَوَّلَ الإجْمَاعَ عَلَى ذَاتِ الْفِعْلِ لَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَسْتَلْزمُ جَمْعًا بينَ الْأَدِلَّةِ. وَأُجيبَ بِجَوَابَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ غيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِذلِكَ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَفِيهِ تَسْلِيمُ أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ، فَمَا فَعَلَه، فَهُوَ وَاجِبٌ قَطْعًا. الثانِي: إِلْزَامُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ حَرَامٌ، إِذَا تُرِكَ بِهَا وَاجِبٌ، وَهُوَ يَلْتَزِمُهُ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ.
"وَلَا مُخَلِّصَ إِلَّا بِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الموَاجِبُ إِلَّا بِهِ مِنْ عقْلِيٍّ أَوْ عَادِيٍّ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
أحدهما: أنه" - أي: المباح - "غير معين لذلك] "
(1)
، لإمكان الترك بغيره من واجب وندب ومكروه "فليس بواجب".
وهو ضعيف، إذ "فيه تسليم أن الواجب واحد"، من الأضداد لا بعينه.
أما من الواجبات أو المندوبات، أو المكروهات، "فما فعله فهو
(2)
واجب قطعًا"، لتعينه بفعله فإذا اختار المكلف فعل المباح كان واجبًا.
"الثاني: إلزامه أن الصلاة حرام، إذ [تركها بـ،]
(3)
واجب" من جهة ترك ذلك الواجب "وهو يلزمه باعتبار الجهتين".
الشرح: فقد لاح سقوط الجوابين، "ولا مُخَلّص" عما قاله الكَعْبِي "إلا بأن ما لا يتم الواجب إِلَّا به [من]
(4)
عَقْلي أو عادي
(5)
فليس بواجب" وهو اختيار المصنّف، ولعل هذا هو الذي دعاه إلى اختيار ذلك.
وَالحَقُّ عندنا: أن ما لا يتم الواجب المطلق المقدور إلا به فهو واجب مطلقًا وأن ما قاله [الكَعْبِيُّ حَقّ باعتبار الجِهَتَيْنِ، نعم ينكر عليه تخصيصه]
(6)
المُبَاح بذلك، وما ذكره فيه آتٍ في غيره من الأحكام، فليحكم على كل منهما بالجهتين، وهو الظَّاهر، ونشدّد النكير عليه إن صح عنه إنكار المباح رأسًا فإن دليله لا ينهض به، وألزم على ذلك الخروج عما عليه عصابة المُسْلمين من انقسام الأحكام إلى الخمسة.
(1)
سقط في ح.
(2)
في ح: وهو.
(3)
في ج: تركه بها.
(4)
سقط في ت.
(5)
في حاشية ج: قوله: "من عقلي أو عادي. . ." إلخ أي لجواز الذهول عنه إذا لم يتعلق به الخطاب بخلاف الشرعي. سيد.
(6)
سقط في ح.
وَقَوْلُ الْأُسْتَاذِ: "الْإِبَاحَةُ تَكْلِيفٌ" بَعِيدٌ.
وأنا أقول: إن أنكر وجدان شيء استوى الطرفان فيه شرعًا باعتبار ذاته فقد خرق حجاب الهيئة
(1)
بلا شكٍ، وجحد كثيرًا مما وقع عليه الإجماعُ.
وإن قال: لا أنكر ذلك ولكن أنكر تسميته بالمُبَاح فهو خارج عن اصطلاح حملة
(2)
الشَّريعة في تسميتهم ما استوى الطرفان فيه بالمباح، ولا أستطيع أن أقول: إنه مرتكب بذلك حرامًا، إذ غايته الخروج عن
(3)
أمر اصطلاحي، وليس فيه مخالفة حكم شرعي ولا جحوده.
الشرح: "وقول الأستاذ: الإباحة تكليفٌ بعيدٌ"
(4)
أبعد مما قاله في المَنْدُوب والمكروه؛ لأن الإباحة لا كُلْفةَ فيها، بخلافهما، ولذلك خالفه هنا من وافقه فيهما، وهو قد قال: إن مراده وجوب اعتقاد الإباحة.
وهذا فيه رَدّ الكلام إلى الواجب، وهو من التكليف بلا ريب، ثم الخلاف لفظي.
(1)
في أ، ت: الهيبة.
(2)
في ح: جملة.
(3)
في ح: غير.
(4)
ينظر: البرهان 1/ 102، والمنخول ص (21)، والمستصفى 1/ 74، والمحصول 1/ 357، والإحكام للآمدي 1/ 117، وروضة الناظر ص (23)، والمسودة ص (36)، وتيسير التحرير 2/ 225، وفواتح الرحموت 1/ 112، والوصول إلى الأصول 1/ 77، وشرح العضد 2/ 6، والمحلى على جمع الجوامع 1/ 171.
المباح لغة: مشتق من الإباحة بمعنى الظهور والإعلان والإبانة، فهو مأخوذ من البوح: ظهور الشيء، والمباح اسم مفعول من الإباحة، وقد يرد المباح بمعنى الإطلاق والإذن، ومنه يقال: أبحتك الشيء، أي أحللته لك وأطلقتك فيه بمعنى أذنته لك. وهذا المعنى الأخير - الإذن" قريب من المعنى الاصطلاحي الشرعي. ينظر: لسان العرب 1/ 384.
ذكر علماء الأصول تعريفات كثيرة للمباح منها:
ما عرفه صدر الشريعة بأنه: فعل المكلف الذي يستوي فعله وتركه - أي في نظر الشارع - وبلفظ آخر: الفعل الذي خير الشارع المكلف فيه بين فعله وتركه.
وعرفه ابن السبكي بأنه: ما دلَّ خطاب الشارع المتعلق بفعل المكلف على التخيير بين فعله وتركه.
وعرفه البيضاوي بأنه: ما لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم. وعرفه ابن بدران بأنه: ما اقتضى خطاب الشارع التسوية بين فعله وتركه، ومدحه وذمه من غير مدح يترتب على فعله، ولا ذم يترتب على تركه.
الْمُبَاحُ لَيْسَ بِجِنْسٍ لِلْوَاجِبِ
مَسْأَلَةٌ:
الْمُبَاحُ لَيْسَ بِجِنْسٍ لِلْوَاجِبِ،
بَكْ هُمَا نَوْعَانِ لِلْحُكْمِ. لنَا: لَوْ. . . .
«مسألة»
الشرح: "المُبَاح ليس بجنسِ للواجبِ"
(1)
- خلافًا لبعضهم - "بل هما نوعان للحكمِ" مندرجان تحته مع تباينهما.
(1)
المباح ليس جنسًا للواجب، بل هما نوعان للحكم، يعني نوعين في مرتبة، وإلا لا يلزم من كونهما نوعين له ألا يكون أحدهما جنس الآخر، وهي بالحقيقة لفظية؛ لأن من ذهب إلى أن المباح هو ما خير بين فعله وتركه من غير ترجيح قال: إنه ليس جنسه، وإلا لاستلزم النوع وهو الواجب التخيير لاستلزام الخاص العام، وهو ينافي حقيقة الوجوب، ومن ذهب إلى أن المباح هو ما أذن فيه قال: إنه جنس للواجب لاشتراكهما بمرجوحية الترك والمكروه يرجحانه، والمصنف لما توهم أن هذا القائل يدعى أن المباح بالمعنى الأول جنسه لاشتراكهما في المأذونية واختصاص الواجب رد عليه بأنك تركت فصل المباح، وهو جواز أن الترك وهو متوجه عليه إن كان مدعاه ذلك، وكان يتوجه غليه أيضًا الترجيح من غير مرجح، وهو الحكم بكون المباح جنس الواجب دون العكس مع اشتراكهما في المأذونية، واختصاص كل بفصل، لكن ليس مدعاه هذا، بل المدعى أن المباح بالمعنى الثاني هو جنسه، وهو حق لا عرية فيه، وعلى هذا يكون النزاع لفظيًا، ويمكن أن يحمل الفصل في قوله: تركتم فصل المباح على القسم، حتى كأنه قال: تركتم قسم المباح أي بقيتموه عن البين، لامتناع وجود الجنس في الخارج دون الفصل، ويلزم حينئذ انتفاء أحد الأحكام الخمسة، وهو المباح كما لزم من مذهب الكعبي المستلزم لخرق الإجماع، وهذا الاحتمال وإن أمكن لكن المراد من الفصل الفصلُ المصطلح. ينظر: الشيرازي 135 أ/ خ، والبحر المحيط للزركشى 1/ 275، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 313، وسلاسل الذهب للزركشي 109، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 114، والتمهيد للإسنوي 61، ونهاية السول له 1/ 80، وزوائد الأصول له 190، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 65، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 10، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 174، والمستصفى للغزالي 1/ 75، وحاشية البناني 1/ 83، والإبهاج لابن السبكي 1/ 60، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 138، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 113، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 5، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 2/ 225، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/ 225، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 7/ 123، والموافقات للشاطبي 1/ 109، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 145 - 149، والكوكب المنير للفتوحي 130.
كَانَ جِنْسَه، لَاسْتَلْزَمَ النَّوْعُ التَّخْيِيرَ. قَالُوا: مَأْذُونٌ فِيهِمَا، وَاخْتُصَّ الْوَاجِب، قُلنَا: تَرَكْتُمْ فَصْلَ الْمُبَاحِ.
خِطَابُ الْوَضْعِ
مَسْأَلَةٌ:
خِطَابُ الْوَضْعِ، كَالْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالسَّبَبِيَّةِ الْوَقْتِيَّةِ؛. . . .
"لنا: لو كان المُبَاح جنسه لاستلزم النَّوع" - وهو الواجب - "التخيير"، ضرورة استلزام النوع لجنسه، فيكون الواجب مخيرًا، وهو باطل.
"قالوا": المُبَاح والواجب "مأذون فيهما، واختص الواجب" بفصل المنع من الترك استلزام مع الثواب على الفعل.
"قلنا: تركتم فصل المُبَاح" الذي به يتميّز عن الواجب، وهو عدم الذَّمّ على الترك ثُمَّ توهّمتم الجنسيَّة.
«مسألة»
الشرح: "خطابُ الوضعِ"
(1)
سبق أن المصنّف يرى دخوله في جملة الأحكام، وهو ورود بكون
(2)
الشيء سببًا ومانعًا وشرطًا، فعلى هذا لله - تعالى - في كلّ واقعة رتّب الحكم فيها على وصف أو حكمة - إن جوزنا التعليل بهما حكمان:
أحدهما: نفس الحكم المترتّب
(3)
على الوصف.
والثَّاني: سببية ذلك الوَصْفِ.
والمغايرةُ بينهما ظاهرة، وصحَّة القياس في الأول متَّفق عليها بين القياسيين
(4)
، وفي الثاني مختلف فيها، ونفس الحكم قد يثبت بدون السَّببية، وبالعكس كما في صورة المانع ثم الوضع "كالحكم على الوصف
(5)
المعين بالسَّببية".
(1)
وخطاب الوضع هو خطاب الله تعالى المتعلق بجعل الشيء سببًا، أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو فاسدًا. ينظر بحوث وأصول الفقه للدكتور الحسيني الشيخ ص 56.
(2)
في أ، ت، ح: ويكون.
(3)
في ج، ح: المرتب.
(4)
في ب: القياسين.
(5)
في ب: الوضع.
كَالزَّوَالِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ؛ كَالإِسْكَارِ وَالْمِلْكِ وَالضَّمَانِ وَالْعقُوبَاتِ، وَبِالْمَانِعِيَّةِ لِلْحُكْمِ؛ لِحِكْمَةٍ
والسَّببُ شرعًا هو: الوصف الظَّاهر المنضبط الذي دلَّ السَّمع على كونه معرفًا للحكم الشرعي
(1)
.
ويحتاج الآمدي والمصنّف [إلى] أن يزيدا: وفيه باعث؛ لقولهما: إنَّ العلَّة بالباعث.
وقسَّم المصنّفُ السَّببَ إلى وقتي ومعنوي، وقال:"الوقتية كالزَّوال"، فإنه سبب لوجوب الظهر، "والمعنوية كالإسكار"، فإنه أمر معنوي معرف لتحريم النبيذ" [والملك"، فإنه جعل سببًا لإباحة الانتفاع]
(2)
، "والضمان"
(3)
للمطالبة، "والعقوبات" لوجوب القصاص أو الدية، ونحو ذلك.
وتقسيم المصنّف السبب إلى وقتي
(4)
ومعنوي
(5)
مدخول؛ إذ الوقتي يجوز أن يكون معنويًا، كالنهي عن الصَّلاة حتَّى ترتفع الشمس قَدْرَ رُمْحٍ، ورب مكاني أيضًا - وهو لا وقتي ولا معنوي. أو مكاني معنوي كما تقول
(6)
على أحد القولين: إن دخول "مكَّة" موجب
(1)
ينظر: البحر المحيط للزركشي 1/ 305، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 118، ونهاية السول للإسنوي 1/ 89، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 71، وغاية الوصول للشيخ زكريا ص 13، التحصيل من المحصول للأرموي 1/ 177، والمستصفى للغزالي 1/ 93، والإبهاج لابن السبكي 1/ 64، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 138، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 351، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 117، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 141، نسمات الأسحار لابن عابدين ص 241، والموافقات للشاطبي 1/ 187، والكوكب المنير للفتوحي ص 138.
(2)
سقط في ج.
(3)
قوله: والملك والضمان والعقوبات يعني: أن البيع سبب الملك، والغصب ونحوه كالإتلاف سبب للضمان، وأن نحو الزنا سبب للعقوبة التي هي الحد، بهذا صرح به في المنتهى سعد الدين، وهل الشرح يفيد خلاف ذلك؟ تأمل.
(4)
فالوقتي هو ما لا يستلزم في تعريفه للحكم حكمة باعثة كدلوك الشمس، فإنه يعرف بأنه وقت وجوب الظهر، ولا يكون مستلزمًا لحكمة باعثة.
(5)
والمعنوي هو ما يستلزم حكمة باعثة في تعريفه للحكم الشرعي كالإسكار فإنه معنوي، جعل علة للتحريم، والملك فإنه جعل سببًا لإباحة الانتفاع، والضمان، فإنه جعل سببًا لمطالبة الضامن بالدين، والعقوبات؛ فإنه جعل سببًا لوجوب القصاص أو الدية.
(6)
في أ، ج، ح: يقول.
تَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ؛ كَالْأُبُوَّةِ فِي الْقِصَاصِ، وَللسَّبَبِ؛ لِحِكْمَةِ تُخِلُّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ؛
للإحرام
(1)
بحجٍّ أو عمرة إذا كان لحاجةٍ لا تتكرر، وكالصلاة في الدَّار المغصوبةِ، وأمثال ذلك يكثر.
والآمدي إنما قسَّمه إلى معنوي وغيره، وهو الأسَدُّ.
ومن خطاب الوضع الحكم على وصف بالمانع
(2)
- أي: بكونه مانعًا، وهو ضربان:
(1)
والإحرام معناه نية الدخول في الحج وكيفيته أن يقصد الحج، والإحرام به لله تعالى؛ لخبر:"إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ"، ويشترط في النية أن تكون في أشهر الحج؛ لقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، والمراد به وقت إحرام الحجّ؛ لأن الحج لا يحتاج إلى أشهر، وإنما يحتاج إلى أيام معدودة، فدل على أنه أراد به وقت الإحرام؛ ولأن الإحرام نسك من مناسك الحج، فكان مؤقتًا، كالوقوف والطواف. وتبتدئ أشهر الحج من شوال، وتنتهي بفجر يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة؛ لما روي عن ابن مسعود وجابر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم قالوا:"أشْهُرُ الْحَجِّ مَعْلُومَات شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْر لَيَالِ مِنْ ذي الْحَجَّةِ". فلو نوى الحج في غير أشهره انعقد عمرة، ولا يجوز له الصرف إلى الحج في أوانه؛ لأنها عبادة مؤقتة، فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها. كصلاة الظهر إذا أحرم بها قبل الزوال ظانًا دخول الوقت، فظهر خلافه، فإنه ينعقد إحرامه بالنفل.
ولا يشترط في النية التعيين، فلو نوى وأطلق بأن نوى الدخول في النسك الصالح للأنواع الثلاثة، كما سيأتي أو اقتصر على قوله:(أحرمت) أجزأه ذلك، وصرفه بالنية إلى ما شاء من الحج والعمرة أو كليهما، ثم اشتغل بالأعمال، ولكن التعيين أفضل من الإطلاق؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص.
ولا يشترط اقتران النية بالتلبية، كما لا يشترط في النية التلفظ باللسان، وإنما يسنّ اقتران النية بالتلبية بأن ينوي ويلبّي بلا فاصل، كما يسنّ في النية - التلفظ باللسان؛ ليساعد اللسان القلب، بأن يقول الشخص: نويت الحج، وأحرمت به لله تعالى - إذا كان يحج عن نفسه، أو نويت الحج عن فلان، وأحرمت به لله - تعالى - إذا كان يحج عن غيره، وصيغة التلبية:"لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْك، لَا شَرِيكَ لَكَ".
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ينعقد الإحرام، حتى يلبّي، أو يسوق الهدي. واستدل أوّلًا: بقوله
عليه الصلاة والسلام: "أَمَرَني جِبْرِيلُ أنْ أَمُرَ أَصْحَابِيِ بِالتَّلْبِيَةِ وَرَفْع الصَّوْتِ".
ثانيًا: بالقياس على الصلاة - وأجيب عن الأول بأن الأمر أمر استحباب وإلا لزم رفع الصوت، كما أجيب عن الثاني؛ بأنّ المقصود من الصلاة الذكر بخلاف الحجّ.
(2)
ينظر: البحر المحيط للزركشي 1/ 310، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 120، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 13، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 177، وحاشية=
كَالْدَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَلْزِمُ عَدَمَه، فَهُوَ شَرْطٌ فِيهِمَا؛ كَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالطَّهَارَةِ.
أحدهما: أن يكون مانعًا "للحكم" وهو: الوصف الوجودي الظَّاهر المنضبط المستلزم "لحكمة [تقتضي نقيض الحكم"، حكم السبب مع بقاء حكمة السبب "كالأبوة في" منع "القصاص"
(1)
مع وجود القتل للولد، مع اشتمالها على حكمة تقتضي عدم القِصَاص، وهي أن
= البناني 1/ 98، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 138، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 117، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 137، والموافقات للشاطبي 1/ 187، والكوكب المنير للفتوحي ص 143.
(1)
وسبب اختلافهم ما رووه عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رجلًا من بني مدلج يقال له: قتادة حذف ابنًا له بالسيف، فأصاب سيفه فسرى جرحه، فمات فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فقال له عمر: اعدد علي ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ثم قال:"أين أخو المقتول؟ فقال: ها أنا ذا، قال: خذها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس لقاتل شيء" فإن مالكًا حمل هذا الحديث على أنه لم يكن عمدًا محضًا، وأثبت منه شبه العمد فيما بين الابن والأب. وأما الجمهور فحملوه على ظاهره من أنه عمد؛ لإجماعهم أن من حذف آخر بسيف فقتله، فهو عمد. وأما مالك فرأى لما للأب من التسلط على تأديب ابنه ومن المحبة له أن حمل القتل الذي يكون في أمثال هذه الأحوال على أنه ليس بعمد، ولم يتهمه إذا كان ليس بقتل غيلة، فإنما يحمل فاعله على أنه قصد القتل من جهة غلبة الظن وقوة التهمة إذا كانت النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى، فمالك لم يتهم الأب حيث اتهم الأجنبي؛ لقوة المحبة التي بين الأب والابن. والجمهور إنما عللوا درء الحد عن الأب لمكان حقه على الابن، والذي يجيء على أصول أهل الظاهر أن يقاد. فهذا هو القول في الموجب. ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد إلى عدم القصاص؛ لأن الأبوة مانعة من وجوب القصاص، فلا يقتل الأب بابنه، قال الشافعي: حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم: ألا يقتل الوالد بالولد، وبذلك أقول: وإلى هذا ذهب الجماهير من الصحابة وغيرهم كالهادوية والحنفية والشافعية وأحمد وإسحاق؛ لأن الأب سب لوجود الولد، فلا يكون الولد سببًا لإعدامه. وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الأبوة لا تمنع من وجوب القصاص إذا وجد القصد الجنائي، وذهب عثمان البتي إلى أنه يقاد الوالد بالولد مطلقًا.
واستدل الجمهور بالكناب والسنة؛ فأما الكتاب فقوله تعالى: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف. . .} [الإسراء / 23] وجه الدلالة من هذه الآية أمر الله تعالى ابن آدم بخفض الجناح، وهو على عمومه لم يخص حالًا دون آخر، فيكون القود ضد خفض الجناح.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأب سبب لوجوده فلا يحسن أن يكون هو سببًا لإعدامه
(1)
مع بقاء حكمة السَّبب، وهو حياة الإنسان.
والثاني: أن يكون مانعًا للسبب - سبب الحكم.
= واستدلوا من السنة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقاد الولد الوالد". أخرجه الدارمي 2/ 190، والترمذي 2/ 19 (1401)، وابن ماجة 2/ 888 (2661).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن سراقة بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه" أخرجه الترمذي 2/ 18 (1399) وضعفه.
ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن قتادة بن عبد الله قال له عمر بن الخطاب: "لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد والد بولده" لقتلتك أو لضربت عنقك" أخرجه الدارقطني 3/ 140 (178).
وقال عبد الحق: "هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح فيها شيء، والحديث دليل على أنه لا يقتل الوالد بالولد". والأحاديث تدل بمنطوقها على أنه لا يقتل الوالد بولده.
وقال ابن عبد البر: هو. حديث مشهور عند أهل العلم مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلفًا.
واستدل الإمام مالك بعموم قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} . وجه الدلالة: أن الله عز وجل أوجب القصاص على كل قاتل معتد وإن كان أبا. وبعموم قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} . ورد هذا الاستدلال بأن هذا عموم، والأحاديث التي ورد فيها أن الوالد لا يقاد بولده مخصصة لهذا العموم.
واستدل بالسنة قوله صلى الله عليه وسلم:"القصاص كتاب الله" مسلم 3/ 1302 حديث (1675)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من قتل عمدًا فهو قاد" أبو داود حديث (4539)، (4540)، والنسائي 8/ 39، وابن ماجة 2/ 880 حديث (2635). ورد هذا الاستدلال بما رد به استدلالهم بالكتاب. واستدل عثمان البتي بعموم قول الله عز وجل:{النفس بالنفس} ورد بأنه مخصص بالخبر.
(1)
قال الشوكاني في الإرشاد ص 7: وفي هذا المثال الذي أطبق عليه جمهور أهل الأصول نظر؛ لأن السبب المقتضى للقصاص هو فعله لا وجود الابن ولا عدمه، ولا يصح أن يكون ذلك حكمة مانعة للقصاص، ولكنه ورد الشرع بعدم ثبوت القصاص لفرع من أصل، والأولى أن يمثل لذلك بوجود النجاسة المجمع عليها في بدن المصلي، أو ثوبه؛ فإنه سبب لعدم صحة الصلاة عند من يجعل الطهارة شرطًا ا. هـ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومانع السَّبب هو: الوصف الوجودي المقتضي الظَّاهر المنضبط المستلزم "لحكمة تخل بحكمة السَّبب كالدَّين في الزَّكاة"
(1)
في ملك النّصاب، فإن السَّبب النصاب، والحكمة سد خلة الأصناف، والمانعُ يخلّ بحكمة السبب.
وقد اتبع المصنّف في هذا المثال الآمدي
(2)
- وهو غير آتٍ على الصحيح من مذهبنا، سواء قصد به الدين المكاني على
(3)
مالك النِّصاب أم الدين الثابت له على غيره؛ إذا حال حوله، فإنَّ وجوب الزكاة لا يمنع بشيء من الصورتين على الصحيح.
ومن خطاب الوضع الحكم على الوصف بأنه شرط، "فإن" لم يكن وجود الوصف مستلزمًا للإخلال بل "كان المستلزم" لذلك "عدمه [وهو شرط] "
(4)
فيهما - أي: في الحكم وسببه - وهو إما شرط في
(5)
الحكم "كالقدرة على التسليم"، فإن ثبوت المِلْك حكم، وصحة البيع سببه، وإباحة الانتفاع حكمه صحة البيع، والقدرة على التَّسْليم شرط صحة البيع؛ لأن عدم القدرة على التسليم، يستلزم عدم القُدْرة على الانتفاع الموجب لإخلال إباحة الانتفاع.
وأما شرط السَّببية نحو "الطَّهارة"
(6)
في الصلاة، فإن حصولَ الثواب حكمٌ، والصَّلاةُ سببٌ،
(1)
إذا كان له مالٌ تجب فيه الزكاة، وعليه دينٌ، فإن كان له مِن غير مال الزكاة ما يفي بدَينه يجب عليه إخراجُ الزكاة من ماله. وكذلك لو ملك أكثرَ مِن نصاب، ودينُه لا يزيد على الفاضَل عن النصاب يجب عليه الزكاة، وإن لم يكن له مال آخر، ودَيْنه يستغرق ماله، أو ينقُص النِّصاب لو أدَّاه من المال، فاختلف أهل العلم في وجوب الزكاة عليه، فذهب جماعةٌ إلى وجوب الزكاة عليه، وهو ظاهر مذهب الشافعي - وذهب قومٌ إلى أنه لا زكاة عليه، وهو قول عثمان، وإليه ذهب سليمانُ بن يسار، وابنُ سيرين، وبه قال مالك وأصحابُ الرأي وابن المبارك، وقالوا: يمنع وجوبَ زكاة العين، ولا يمنع وجوب عُشر الثمار والزروع، وهو قول أبي عُبيد.
(2)
ينظر الإحكام 1/ 121.
(3)
في ب: في.
(4)
في ج: فهو الشرط.
(5)
سقط في ج.
(6)
"الطهارة": هي في اللغة: النزاهة والنظافة عن الأقذار، يقال: طَهُرَت المرأة من الحيض، والرَّجل من الذنوب، بفتح الهاء وضمِّها وكسرها.
واصطلاحًا:
عرفها الحنفية بأنها: النظافة المخصوصة المتنوعة إلى وضوء، وغسل، وتيمم، وغسل البدن والثوب ونحوه.
وعند الشافعية: إزالة حدث أو نجس أو ما في معناهما وعلى صورتهما، وقيل أيضًا: فعل ما يترتب=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحكمتها التوجّه إلى جناب الحق تعالى، والطهارة شرط الصلاة
(1)
، فإن عدم الطهارة يستلزم ما يقتضي نقيض الحكم - أعني
(2)
: عدم حصول الثواب مع بقاء حكمة الصلاة
(3)
.
= عليه إباحة الصلاة ولو من بعض الوجوه، أو ما فيه ثواب مجرد.
وعند المالكية: صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به، أو فيه، أوله. ينظر: لسان العرب 4/ 2712، وترتيب القاموس 3/ 103، 104، والمعجم الوسيط: 2/ 574. والدرر 1/ 6، وفتح الوهاب: 1/ 3، وشرح المهذب: 1/ 123، والإقناع بحاشية البجيرمي: 1/ 58 - 59، وحاشية الباجوري 1/ 25، وحاشية الدسوقي: 1/ 30 - 31.
(1)
في ح: للصلاة.
(2)
في ب: عن.
(3)
ذكر القرافي في "التنقيح" خمس فوائد:
الأولى: الشرط وجزء العلة كلاهما يلزم من عدمهما العدم ولا يلزم من وجودهما وجود ولا عدم، فهما يلتبسان، والفرق بينهما أن جزء العلة منايسب في ذاته، والشرط مناسب في غيره، كجزء النصاب، فإنه مشتمل على بعض الغنى في ذاته، ودوران الحول ليس فيه شيء من الغنى وإنما هو مكمل للغنى الكائن في النصاب.
الثانية: إذا اجتمعت أجزاء العلة ترتب الحكم، وإذا اجتمعت العلل المستقلة ترتب الحكم، فما الفرق بين الوصف الذي هو جزء علة، وبين الذي هو علة مستقلة؛ الفرق أن الذي هو جزء علة إذا انفرد لا يترتب معه الحكم كأحد أوصاف القتل العمد العدوان، فإن المجموع سبب للقصاص، وإذا انفرد جزء العلة لا يترتب عليه قصاص، والوصف الذي هو علة مستقلة إذا اجتمع مع غيره ترتب الحكم، وإذا انفرد ترتب معه أيضًا، كإيجاب الوضوء على من لامس وبال ونام، وإذا انفرد أحدهما وجب الوضوء.
الثالثة: الحكم كما يتوقف على وجود سببه يتوقف على وجود شرطه، فبم يعلم كل واحد منهما؟ يعلم بأن السبب مناسب في ذاته، والشرط مناسبته في غيره، كالنصاب فإنه مشتمل على الغنى في ذاته، ودوران الحول ليس فيه شيء من الغنى، وإنما هو مكمل لحكمة الغنى في النصاب بالتمكن من التنمية.
الرابعة: الموانع الشرعية على ثلاثة أقسام: منها ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره، ومنها ما يمنع ابتداءه فقط، ومنها ما اختلف فيه هل يلحق بالأول أو بالثاني، فالأول كالرضاع يمنع ابتداء النكاح واستمراره إذا طرأ عليه، والثاني كالاستبراء يمنع ابتداء النكاح، ولا يبطل استمراره إذا طرأ عليه، والثالث كالإحرام بالنسبة لوضع اليد على الصيد. . .".
الخامسة: الشروط اللغوية أسباب؛ لأنها يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم، بخلاف=
وَأَمَّا
 الصِّحَّةُ وَالْبُطْلَانُ
أَوِ الْحُكْمُ بِهِمَا، فَأَمْرٌ عَقْلِيٌّ؛ لأِنَّهَا إِمَّا كَوْنُ. . . .
الشرح: "وأما الصحة
(1)
والبطلان، أو الحكم بهما فأمر عقلي؛ لأنها" - أي: الصحة الكائنة في العبادات، فهي "إما كون الفعل مسقطًا للقضاء" كما يقول الفقهاء، "وإما موافقة أمر الشَّارع" كما يقول المتكلمون.
وعلى [خلافهما تنبني]
(2)
صلاةُ من ظَنّ أنه متطهّرٌ.
وقد يكون في المُعَاملات، وهي ترتب الأَثَرِ.
وصحَّة العبادات لا تكون من أحكام الوضع كما قلناه؛ لأنه بعدَ ورود الشَّرْع بالفعل يكون الفعل موافقًا للأمر أو مخالفًا، ومسقطًا للقضاء، أو غير مسقط غير محتاج إلى التوقيف من الشرع، بل يعرف بمجرّد العَقْل، فهو كونه مؤديًا للصلاة، أو تاركًا لها، كذا قال، وفيه نظرٌ.
والصَّوابُ عندنا أن الصِّحة والبطلان والحكم بهما أمور شرعية، وكون الفعل مسقطًا أو موافقًا للشَّرْع هو من فعل الله - تعالى - وتصييره
(3)
إياه سببًا لذلك، فما الموافقة ولا الإسقاط
(4)
بعقليين؛ لأنَّ للشرع فيهما مدخلًا، ولو لم تكن الصِّحة شرعية لم يقض القاضي بها عند اجتماع شرائطها، لكنه يقضي بالصِّحة إجماعًا فدلَّ أنها شرعية؛ إذ لا مَدْخل للأقضية في العقليات.
والعَجَبُ كلُّ العجب ممن يرى أن خطاب الوضع حكم شرعي، لم لا يرى الصحةَ حكمًا شرعيًّا؟ ولو قال هذه المقالة مَنْ لا يرى ذلك لرددناها عليه، فما ظنّك بمن يراها.
= الشروط العقلية كالحياة للعلم، والشرعية كالطهارة مع الصلاة والعادية كالغذاء مع الحياة في بعض الحيوانات.
(1)
ينظر مباحثه في: البحر المحيط للزركشي 1/ 312، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 121، ونهاية السول للإسنوي 1/ 94، وزوائد الأصول للإسنوي ص 246، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 13، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 178، وحاشية البناني 1/ 99، والإبهاج لابن السبكي 1/ 67، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 138، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 117، والمعتمد لأبي الحسبن 1/ 138، والتحرير لابن الهمام ص 216، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 122، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 139، الكوكب المنير للفتوحي ص 146.
(2)
في أ، ح: اختلافهما ينبني.
(3)
في ب: تصير.
(4)
في ب، ج: إسقاط.
الْفِعْلٍ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ، وَإِمَّا مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّرْعِ، وَالْبُطْلَانُ وَالْفَسَادُ نَقِيضُهَا. الْحَنَفِيَّةُ: الْفَاسِدُ
" والبُطْلان والفساد نقيضها" - أي: نقيض الصّحة عندنا.
وقالت "الحنفية: الفاسد
(1)
المشروع بأصله الممنوع" بوصفه؛ كبيع درهم بدرهمين، فإنَّ العوضين قابلان للبيع، ولكن جاء الخَلَلُ من [قبل]
(2)
الزيادة، والباطل ما لم يشرع بأصله، ولا وصفه، كبيع الميتة بالدَّم، فإنهما غير قَابلين لِلْبَيْعِ.
ثم الفَاسِدُ عندهم إذا اتَّصل بالقبض أفاد ملكًا خبيثًا، والباطلُ لا يفيد شيئًا.
والخَطْب في هذه المسألة يسير؛ إذ هو آيل إلى الاصطلاح، فإن ثبت لهم إفادة بعض البياعات
(3)
الفاسدة شيئًا فليسموه بما شاءوا.
وإنما يعطي الخطب عند متفقّهة
(4)
الشَّافعية إذا مرت بهم فروع، فرَّق فيها الأصحاب بين الباطل والفاسد، حيث يظنون بها مناقضتهم لأصلهم فلنسردها ثم نفصح عن سردها فمنها:
الخُلعْ
(5)
. . . .
(1)
ينظر: مباحثه في: البحر المحيط للزركشي 1/ 314، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 122، ونهاية السول للإسنوي 1/ 96، وزوائد الأصول له ص 245، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 76، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 13، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 178، والمستصفى للغزالي 1/ 94، وحاشية البناني 1/ 105، والإبهاج لابن السبكي 1/ 67، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 138، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 117، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 146، والتحرير لابن الهمام ص 216، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 122، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 141، والكوكب المنير للفتوحي ص 146.
(2)
في ح: قبيل.
(3)
في أ، ح: التنازعات، وهو تحريف.
(4)
في أ، ب: مفقهة.
(5)
الخلع لغة: النزع، وهو استعارة من: خلع اللباس؛ لأن كل واحد منهما لباس للآخر، فكأن كل واحد نزع لباسه منه، وخالعت المرأة زوجها مخالعة إذا افتدت منه، وطلقها على الفدية. ينظر: لسان العرب 2/ 1232، والمصباح المنير 1/ 243، والمطلع 331.
واصطلاحًا:
عرفه الأحناف بأنه: عبارة عن أخذ المال بإزاء ملك النكاح بلفظ الخلع.
وعرفه الشافعية بأنه: فرقة بين الزوجين بعوض بلفظ طلاق أو خلع.
وعرفه المالكية بأنه: الطلاق بعوض.
الْمَشْرُوعُ بِأَصْلِهِ، الْمَمْنُوعُ بِوَصْفِهِ.
والكتابة
(1)
، الباطل فيهما ما كان على غير عوضٍ مقصود كالميتة، أو رجعَ إلى خلل كالصِّغر والسَّفَه
(2)
، والفاسد خلافه.
وحُكْم الباطل أنه
(3)
لا يترتّب عليه شيء، والفاسد يترتب عليه العِتْقُ والطَّلاق، ويرجع الزوج بالمهر، والسيد بالقيمة.
= وعرفه الحنابلة بأنه: فراق الزوج امرأته بعوض يأخذه الزوج بألفاظ مخصوصة. ينظر: تبيين الحقائق 2/ 267، وشرح فتح القدير 4/ 210، وحاشية ابن عابدين 3/ 422، ومغني المحتاج 3/ 262، والشرح الصغير للدردير 3/ 319، وبداية المجتهد 2/ 98، والكافي 2/ 597، وكشاف القناع 5/ 212، والمغني 7/ 536.
(1)
شرعًا هي: إعتاق المملوك يدًا حالًا ورقبة مآلًا حتى لا يكون للمولى عليه سبيلٌ، فإذا أدى بدل الكتابة يعتق مآلًا، وعند العجز يتول إلى الرقبة. ينظر: قواعد الفقه 440.
(2)
السَّفَه في اللّغة: خفة الحكم أو نقيضه، وأصله الخفة والحركة أو الجهل، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى. فمن الأول قول الشاعر: -[السريع]
نَخَافُ أَنْ تَسْفُهَ أَحْلَامُنَا
…
وَيَجْهَلَ الدَّهْرُ مَعَ الْجَاهِلِ
ومن الثاني قول ذي الرمّة: -[الطويل]
مَشَيْنَ كما اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَّفهَتْ
…
أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
والسفيه: المهلهل الرأي في المال الذي لا يحممن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها.
وفي اصطِلاح الفقهاء يراد من السفه السرف والتبذير وعدم حفظ المال. ثم اختلفت كلمتهم فيما يكون صرف المال سرفًا وتبذيرًا:
فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن صرف المال في وجوه الخير وأنواع البر والقرب لا يعد سرفًا ولا تبذيرًا. وذلك كصرفه في سبيل الله، وبناء المساجد، وإصلاح الطرق، وبناء القناطر، وإقامة المعاقل والحصون، وبناء المشافي، وما إلى ذلك من كل عمل يعود على الإسلام والمسلمين بالمصلحة.
وذهب الحنفية إلى أن صرف المال في وجوه البر يعد سرفًا مذمومًا إن زاد عن حد التوسط. فأنت ترى أن الحنفية يرون كل تبذير سفهًا حتى لو كان في القربات. وغيرهم يرى أن التبذير ليس سفهًا في القربات، فإنه لا سرف في الخيرِ، كما لا خير في السرف.
(3)
في ح: أن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنها: الحج يبطل بالزيادة، ويفسد بالجِمَاعِ
(1)
، وحكم الباطل أنه لا يجب قضاؤه، ولا يمضي فيه، بخلاف الفاسد.
هذا حكم ما يطرأ، وأما الفاسد ابتداء فإذا أحرم بالعمرة، ثم جامع ثم أدخل عليها الحج، فالأصحُّ ينعقدُ فاسدًا.
وقيل: صحيحًا.
وقيل: لا ينعقد - قاله في "الروضة" في باب الإحرام.
(1)
يفسد كل من الحج والعمرة بالوطء من غير الخنثى في الفرج قبلًا كان أو دبرًا من آدمي أو بهيمة بإنزال أو بدون إنزال، بشرط أن يكون الواطئ مميزًا عامدًا عالمًا مختارًا، ولو كان صَبيًّا مميزًا أو رقيقًا. وأما المرأة فإن وطأها مكرهة أو نائمة لم يفسد حجها وعمرتها، وإن كانت طائعةً عالمة فسد حجها وعمرتها. والحجّة في ذلك قوله تعالى:{فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} أي فلا ترفثوا في الحج: أي لا تجامعوا، والأصل في النهي اقتضاء الفساد، وقيس بالحج العمرة. يجب على من أفسد نسكه من حج أو عمرة أن يتم النسك الذي أفسده بأن يأتي بجميع ما يعتبر به قبل الوطء لإطلاق قوله تعالى:{وأتموا الحج والعمرة لله} قإنه لم يفصل بين الصحيح والفاسد منهما. وأيضًا صح ذلك عن جمع من الصحابة ولم يعرف لهم فيه مخالف. ويلزمه دم وهو بدنة، وسيأتي بيانه، وأما المرأة فلا شيء عليها غير الإثم. ويجتنب في أثناء إتمامه ما كان يجتنبه قبل الوطء فتلزمه الفدية أيضًا إذا فعل محظورًا. ويلزمه إعادة الفاسد فورًا، وإن كان ما أفسده نفلًا؛ لأنه يلزم بالشروع فيه إتمامه وإكماله كالفرض؛ ولأنه وإن كان وقته موسعًا تضيق عليه بالشروع فيه. ويلزمه أن يحرم في الإعادة مما أحرم منه في الأول من الميقات أو قبله، ولا يلزمه أن يحرم في الإعادة في مثل الزمن الذي أحرم فيه في الأوّل، لعسر ضبط الزمان. بعد مضيّه. ثم إعادة العمرة الفاسدة فورًا ظاهر. وأما الحج الفاسد فيمكن أن يتصور إعادته في سنة الفساد - كأن يحصر الحاج بعد الجماع أو قبله، ويتعذّر عليه إتمام نسكه فيتحلّل، ثم يزول الحصر والوقت باق، فإن لم يحصر أعاده في العام القابل. ولو أفسد في الإعادة - لزمه بدنة أيضًا، ولكن لا تلزمه الإعادة عنها بل يعيد الأصل؛ لأن المعاد، واحد فلا يلزمه أكثئر من الواحد. ومحل فساد الحجِ بالوطء إذا حصل الوطء قبل التحلّل الأول؛ لأنه وطء صادف إحرامًا صحيحًا لم يحصل فيه التحللِ الأوّل، أما بعد التحلّل الأول وقبل التحلّلِ الثاني، فلا يفسد به إلا أنه حرام؛ لأنه لا يحل قبل التحلّل الثاني ما يتعلق بالنساء كما تقدّم. ومحلّ فساد العمرة به إذا وقع قبل الفراغ من أعمالها وكانت مفردة، بخلاف ما إذا كانت في قرانٍ، فإنها تابعة للحج صحةً وفسادًا. ويبطل كل من الحج والعمرة بالرّدة - والعياذ بالله - ولا يجوز المضي فيه؛ لأنه يخرج منه بالبطلان، ففرق بين الفاسد والباطل في كلّ من الحجّ والعمرة.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأمَّا إذا أحرم وهو مجامعٌ، فينعقد فاسدًا أيضًا على الأصح - قاله الرَّافعي في باب المواقيت
(1)
قبل الميقات المَكَاني، وصحَّح النَّووي في "باب محرّمات الإحرام" عدم الانعقاد.
(1)
من واجبات الحج وقوع الإحرام بالحج في الميقات. والمراد الميقات المكاني، فإن للحج ميقاتين:
الأوّل: ميقات زماني، وهو من ابتداء شوّال إلى فجر يوم النحر، فلا ينعقد الحج إلا إذا نواه الشخص في هذا الوقت، أما إذا نواه في غيره، فإنه ينعقد عمرة، كما تقدم؛ لشدّة تعلّق الإحرام ولزومه، فإذا لم يقبل الوقت ما أحرم به انصرف لما يقبله، وهو العمرة. وهذا الميقات عام لجميع آحاد الناس، لا فرق بين بين هو بـ "مكة" ومن هو في غيرها.
الثاني: ميقات مكاني، ويختلف باختلاف الجهات، فمن كان في مكة، ولو كان من غير أهلها وأراد الإحرام بالحج، فميقاته نفس مكة، فيجب عليه أن يحرم من أي مكان منها، فلو أحرم بعد مفارقة بنيان مكة، ولم يرجع إليها إلا بعد الوقوف لزمه دم؛ لتركه إيقاع الإحرام في الميقات. والأفضل له أن يحرم عند باب داره، بعد أن يصلّي سنّة الإحرام في المسجد تحت الميزاب، ومحل كون مكة ميقاتًا لمن هو فيها إذا كان يحج عن نفسه أو عن شخص آخر بـ "مكة"، أما إذا كان يحج عن آفاقي فميقات إحرامه هو ميقات من يحج عنه، أو مثل مسافته، وميقات المتوجه من المدينة ذو الحليفة، وهو موضع ماء لبني جشم، وهو المعروف الآن بـ "أبيار علي" بينه وبين المدينة ثلاثة أميال. وميقات المتوجه من الشام ومصر والمغرب الجُحْفَة، وهي قرية بين مكة والمدينة، وهي الآن خربة ويقرب منها القرية المعروفة بـ "رابغ"، فيصح الإحرام منها بلا كراهة، وميقات المتوجه من تهامة يلملم، وهو جبل من جبال تهَامَةَ على مرحلتين من مكة، وميقات المتوجه من نجد الحجاز، ومن نجد اليمن قَرْن، وهو جبل مشرف على عرفات، وهو على مرحلتين من مكّة، وميقات المتوجه من المشرق الشامل للعراق، وغيره ذات عِرق، "وهي قرية على مرحلتين من مكة"، وسمّيت بذلك؛ لأن بها جبلًا يسمى عِرقًا يشرف على واد يقال له: وادي العقيق، وميقات من مسكنه بين ميقات من هذه المواقيت، وبين مكة نفس مسكنه، وميقات من جاوز ميقاتًا غير مريد نسكًا ثم أراده نفس الموضع الذي أراد النسك وهو فيه.
والأصل في المواقيت ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس، قال:"وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأِهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُليْفَةِ، وَلأِهْلِ الشَّامِ الجُحْفَةَ، وَلأِهْلِ نَجْدٍ قرنًا، وَلأِهْلِ الْيمَنِ يلمْلم وَقَال: هُنَّ لهنَّ وَلِمَنْ أتَى عَليْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِن مِمَّنْ أَرَاد الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَينْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ" وروى الشافعي في الأم عن عائشة "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَتَ لأَهْل المَدِينَةِ ذَا الحُليْفَةِ، وَلأِهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالمَغْرِب الْجُحْفَةَ"، وفي رواية أبي داود:"أنَّه صلى الله عليه وسلم وَقَّت لأَهل العراق ذاتَ عرق". ولا يشترط عند الإحرام المرور بهذه المواقيت أنفسها، بل يكفي الإحرام من مكان يحاذيها يمنةً أو يسرةً، فمن سلك طريق البحر أو البر، ولم يمر بين الميقات، بل كان بعيدًا عنه لزمه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنها: العارية
(1)
قال الغزالي في "الوسيط" بعد حكاية الخلاف في إعارة الدراهم والدَّنانير: فإن أبطلناها ففي طريقة "العراق"
(2)
أنها مضمونة، لأنها إعارةٌ فاسدةٌ، وفي طريقة
= أن يحرم من موضع يحاذيه، فلو حاذى ميقاتين أحدهما قريب إليه، والآخر بعيد عنه لزمه أن يحرم من موضع محاذاة أقربهما إليه؛ لأنه لو كان أمامه ميقات؛ لكان هو ميقاته، فكذا الموضع الذي قريب منه، ولو استوى الميقاتان في القرب إليه لزمه أن يحرم من موضع محاذاة أبعدهما من مكة، فإن اشتبه عليه موضع المحاذاة اجتهد، فإن تحيّر قلد غيره كالأعمى. ولو لم يجد مريد الحج في طريقه ميقاتًا، ولا موضعًا يحاذيه، فميقاته على بعد مرحلتين من مكة، إذ لا ميقات أقل مسافة من هذا القدر.
(1)
العاريَّة لغة مشددة الياء على المشهور، وحكى الخطابي وغيره تخفيفها، وجمعها: عواريّ بالتشديد والتخفيف، قال ابن فارس: ويقال لها: العارة أيضًا، قال الشاعر:[الطويل]
فأخْلِفْ وأتْلِف إِنَّما المالُ عارةٌ
…
وكُلْه معَ الدَّهْر الذي هوَ آكِلُه
قال الأزهري: هي مأخوذة من: عار الشيء يعير: إذا ذهب وجاء، ومنه قيل للغلام الخفيف: عيار، وهي منسوبة إلى العارة، بمعنى: الإعارة، وقال الجوهري: هي منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار وعيب، وقيل: هي مشتقة من التعاور، من قولهم: اعتوروا الشيء، وتعاوروه، وتعوَّروه: إذا تداولوه بينهم. ينظر: الصحاح 2/ 761، ولسان العرب 4/ 622.
اصطلاحًا:
عرفها الحنفية بأنها: تمليك المنافع بغير عوض، أو هي إباحة الانتفاع بملك الغير.
وعرفها الشافعية بأنها: اسم لإباحة منفعة عين مع بقائها بشروط مخصوصة.
وعرفها المالكية بأنها: تمليك منفعة مؤقتة لا بعوض.
وعرفها الحنابلة بأنها: العين المعادة من مالكها أو مالك منفعتها أو مأذونها في الانتفاع بها مطلقًا أو زمنًا معلومًا بلا عوض. ينظر: تبيين الحقائق 5/ 83، والمحلى على المنهاج 3/ 17، ومواهب الجليل 5/ 268، وكشاف القناع 4/ 62، وأسهل المدارك 3/ 29، ومجمع الأنهر 2/ 345، 346.
(2)
قال ابن السبكي في "الطبقات" 1/ 324: واعلم أن أصحابنا فرق تفرقوا بتفرق البلاد. فمنهم: أصحابنا بالعراق كـ"بغداد"، وما والاها. وأولئك بعيد أن تعزُب عنا تراجمهم؛ فإنهم إما من بغداد نفسها، أو من البلاد التي حواليها، والغالب على من يقرب منها أنه يدخلها. وكيف لا وهي محلة العلماء إذْ ذاك، ودار الدنيا، وحاضرة الرُّبع العامر، ومركز الخلافة؟!.
وبغداد لها كتاب "التاريخ" للإمام أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب رحمه الله، وهو من أجلّ الكتب وأعْوَدها فائدة. وقد ذيَّل عليه الإمام أبو سعد تاج الإسلام ابن السّمعانيّ، فأحسن ما شاء. وذيَّل على ابن السّمعاني الحافظ أبو عبد الله بن الدُّبَيْثيّ. ثم جاء الحافظ محمد بن محمود بن=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"المَرَاوزة"
(1)
. أنها غير مضمونة؛ لأنها غير قابلة للإعارة، فهي باطلة.
ومنها: الإجارة
(2)
الفاسدة، يجب بها أجرة المِثْلِ.
= النجَّار، فذيل على الخطيب نفسه، فجمع فأوعى، على أنه أخل بذكر جماعة كثيرين ذكرهم ابن السّمعانيّ، وما أدري لِمَ فعل ذلك!.
(1)
طريقة المراوزة عند علمائنا السادة الشافعية يطلقونها على الخراسانيين تارة وعليهم أخرى. وهما عبارتان عندهم عن مُعبَّر واحد، والخُراسانيون نصف المذهب، فكأن مرو في الحقيقة نصف المذهب، وإنما عبروا بـ"المَرَاوزة" عن الخراسانيين جِميعًا؛ لأن أكثرهم من "مرو "وما والاها. وكفاك بأبي زيد المَرْوَزي وتلميذه القَفَّال الصغير، ومن نَبَغ من شعابهما، وخرج من بابهما. ينظر: طبقات الشافعية لابن السبكي 1/ 326.
(2)
الإجارة مثلثة الهمزة، وأن لغة الكسر أفصح من لغتي الضم والفتح، وهي مصدر سماعي بوزن فِعَالة من: أجر الدار والعبد بالقصر من بابي نصر وضرب، فيقال: أجر يأجر كنصر ينصر، وأجر يأجر، كضرب يضرب وهذه لغة بني كعب، ومصدرهما القياسي الأجر، والإجارة أيضًا اسم للأجرة، وهي الكراء مأخوذة من الأجر، وهو ما يستحق على عمل الخير، ولهذا يدعى به، فيقال: أجرك الله أجرًا أي: أثابك، وقد يطلق الأجر على الأجرة، ويقال: أيضًا أَجرت زيدًا الدار إيجارًا فأنا مؤجر، أي: أكريته إياها، وأجرت زيدًا مؤاجرة، فأنا مؤاجر، أي: عاقدته على الإجارة، ويقال: استأجرت الدار، أي أكريتها، والعبد أي اتخذته أجيرًا. وأما الإجارة من السوء ونحوه، فهى مأخوذة من أجار إجارة كأنما أعاذه وزنًا ومعنى، فهمزتها زائدة، بخلاف الإجارة بالمعنى السابق؛ فإن همزتها فاء الكلمة. الإجارة والكراء بمعنى واحد في الاصطلاح، كما هما بمعنى واحد في اللغة، غير أن المالكية سموا العقد على منافع الآدمي، وما ينقل سوى السفن والحيوان إجارة، والعقد على منافع ما لا ينقل كالأرضين والدور، وما ينقل من سفينة وحيوان كراء. وهذه التسمية إنما هي في الغالب فيهما.
واصطلاحًا:
عرفها الحنفية بأنها: عقد على المنافع بعوض.
وعرفها الشافعية بأنها: تمليك منفعة بعوض بشروط معلومة.
وعرفها المالكية بأنها: تمليك منفعة غير معلومة زمنًا معلومًا بعوض معلوم.
وعرفها الحنابلة بأنها: عقد على منفعة مباحة معلومة تؤخذ شيئًا فشيئًا مدة معلومة من عين معلومة أو موصوفة في الذمة أو عمل معلوم بعوض معلوم. ينظر: الصحاح 2/ 572، والمصباح المنير 1/ 11، والمغرب (20)، والمبسوط للسرخسي 15/ 74، ومجمع الأنهر 2/ 368، ومغنى المحتاج 2/ 332، والإقناع 2/ 70، ومواهب الجليل 5/ 389، وشرح الخرشي 7/ 2، وأسهل المدارك 2/ 321، وكشاف القناع 3/ 546، والإنصاف 6/ 3.
وَأَمَّا
 الرُّخْصَة،
فَالْمَشْرُوعُ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ لَوْلَا الْعُذْرُ؛. . . .
وأما إذا استأجر - مثلًا - صبيٌّ رجلًا بالغًا فعمل عملًا لم يستحق شيئًا؛ لأنه الذي فَوَّت على نفسه عمله، وتكون باطلة.
ومنها: لو قال للمديون: اعزل قدر حَقِّي، فعزل، ثم قال: قارضتك عليه لم يصحّ؛ لأنه لا يملكه بالعزل، فإذا تصرف المأمورُ بأن اشترى بالعين فهو ملك له، وإن اشترى في الذمة للقراضِ ولغيره فوجهان:
أحدهما: الشراء للقراض، ويكون قراضًا فاسدًا، وله الأجرة والربح لبيت المال.
والثاني: لا يكون قراضًا
(1)
لا فاسدًا ولا صحيحًا، بل هو باطلٌ.
ومنها: لو قال: بعتك، ولم يذكر ثمنًا، وسلَّم، وتلفت العين في يد المشتري، هل عليه قيمتها؟ وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأنه بيعٌ فاسدٌ.
والثاني: لا؛ لأنه ليس بيعًا أصلًا، فيكون أمانة، وهذا ما حضرنا منها.
واعلم أنَّا فرقنا في هذه الفروع - كما عبمت - بيد أنا لم نَرُمْ مَرَامَ الحنفية، ولم [نَنْحُ]
(2)
طريقتهم؛ لأنهم يثبتون بيعًا فاسدًا يترتب عليه مع القبض أحكام شرعية. ونحن لا [نغفل]
(3)
ذلك، وإنما العقود لها صورة لغةً وعرفًا من عاقد ومعقود عليه، وصيغة، ولها شروط شرعية.
فإن وجدت كلها فهو الصحيح، وإن فقد العاقد أو المعقود عليه، أو الصيغة وما يقوم مقامها فلا عقد ألبتة، وتسميته باطلًا مجاز، وإن وجدت وقارنها
(4)
مفسد من عدم شرط أو نحوه فهو فاسدٌ.
وعندنا هو باطلٌ أيضًا، ولكن يطلق عليه الفاسد لمشابهته للصَّحيح من جهة ترتُّب أثر
(5)
ما عليه من أُجْرة مِثْلٍ، وغير ذلك، ولم ننف عنه الإبطال، وإنما سَمَّيناه بالفاسد، وسكتنا عن ذكر الباطل تفرقةً بين ما يترتّب عليه أثر ما، وما لا يترتَّب.
الشرح: واعلم أن الرُّخصةَ من خطاب الاقتضاء لا الوضع، وستعرف انقسامها بحسب ما تؤول
(6)
إليه إلى: واجبٍ، ومندوبٍ، ومباحٍ، ولكنَّ المصنّف أوهم أنها من الوضع، إذ
(1)
في أ: قرضًا.
(2)
في ت: نتج.
(3)
في ت، ح: نفعل.
(4)
في أ، ت، ح: قاربها.
(5)
في أ، ح: أمر.
(6)
في ت، ح: يؤول.
كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَاجِبًا وَمَنْدُوبًا وَمُبَاحًا.
وضعها هنا، وهي قسيم العزيمة.
فأما العزيمةُ
(1)
فالحكم الأصلي الذي شرعه الشَّارع، ولم يتغير من ذلك الوَضْع بعارض، كالصلوات الخمس والبيع.
"وأما الرُّخصة، فالمشروع لِعُذْرٍ مع قيام المحرم لولا العُذْر"، والمشروع يتناول الفعلَ والكَفّ، وقيد العذر يخرج المشروع لا لعذر كالصَّلاة.
وقوله "مع قيام المحرم": لولا العذر يفهم أن المحرم ليس قائمًا مع العُذرِ، وكأنه يريد بقيامه انتهاضه مترتبًا عليه الحكم، وإلا فسببه قائم مع العذر.
ويحسن أن يحترز بهذا القَيْدِ عن المشروع لِعُذْر، ولكن لا مع قيام المحرم لولا العذر كالإطعام في كَفَّارة الظِّهار، مشروع لِعُذْرِ عدم القُدْرَةِ على الإعتاق، والمحرم غير قائم؛ لأن الإعْتاق عند فقد الرَّقبة لا يكون واجبًا، فلا يكون محرم ترك الإعتاق قائمًا.
وأحسن من هذا التَعريف أن يقال: الرُّخصةُ ما تغير من الحكم الشَّرعي لعذر إلى سهولة، ويسر مع قيام السَّبب للحكم الأصلي "كأكل الميتة للمضطر"
(2)
.
(1)
ينظر مباحثها في: البحر المحيط للزركشي 1/ 325 - 326، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 122، والتمهيد للإسنوي 70، ونهاية السول له 1/ 120، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 93، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 19، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 179، والمستصفى للغزالي 1/ 98، وحاشية البناني 1/ 119 - 123، والإبهاج لابن السبكي 1/ 81، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 185، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 162 - 165، والتحرير لابن الهمام 258، ونيسير التحرير 2/ 229، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 447، 460، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 128، وشرح المنار لابن ملك 70، والوجيز للكراماستي 30، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 158 - 159، والكوكب المنير للفتوحي 149 - 150، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 146.
(2)
وقول بعض أصحاب الرأي: "الرخصة ما أبيح فعله مع كونه حرامًا" تناقض ظاهر، وكذا قول من قال:"ما رخص فيه مع كونه حرامًا" لأن الرخصة غير خارجة عن الإباحة، فكان في معنى الأول وزيادة، وهي استعمال رخص في حد الرخصة وإن أمكن تأويله اللغوي دون الاصطلاحي، لأن أقله استعمال اللفظ المجمل في الحد، وهو قبيح. وأما الذي فسر من المتأخرين العزيمة بأنها عبارة عن الحكم الثابت على وجه ليس فيه مخالفة دليل شرعي، والرخصة بأنها الحكم الثابت على خلاف=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال إمامُ الحرمين في "النهاية" في "باب صلاة المسافر": يجوز أن يقال: إنه ليس من الرُّخص لوجوبه، ويجوز أن يُجَاب بالتّيمُّمِ، فإنه واجبٌ على فاقد الماء، وهو معدود من الرُّخص.
وهذا من الإمام تردُّد في أن الوجوب هل بجامع الرُّخصة؟
وكلام غيره أيضًا يدلّ على ذلك، وسننبّه على الجَمْع بين هذا، وبين كلام الأصوليين.
"والقصرُ" للمسافر
(1)
إذا بلغ سفره ثلاثة أيام، "والفطر في السَّفر
= الدليل لمعارض راجح" فقد أخطأ فإن النكاح مع مخالفة النافي، وهو دليل شرعي وكذا وجوب الزكاة والقتل قصاصًا لا يسمى رخصة. ينظر الشيرازي 139 ب/ خ.
(1)
القصر لغة: التنقيص، وشرعًا ردّ الصلاة الرباعية إلى ركعتين. وسبب القصر السفر فقط، وإن لم توجد فيه مشقة بخلاف الجمع؛ فإنه لا يختصر بالسفر، بل قد يكون بالمطر. وحكم القصر الجواز عند الأمن والخوف، والدليل عليه قوله تعالى. {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، ونصوص السنة المصرحة بجوازه عند الأمن أيضًا قال "ثعلبة بن أمية": قلت "لعمر بن الخطابِ" رضي الله عنه: إنما قالما الله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد أمن الناس. قال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(صدَقَةٌ تصدَّقَ الله بِهَا عَليْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَه). وحكمة مشروعية القصر أن السفر عذاب ومشقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"السَّفَر قِطْعةٌ مِنَ الْعَذَابِ يمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَه وَشَرَابه، فإذا قضى أَحَدُكُمْ نَهِمَتَه مِنْ سَفَرِهِ فَلْيُعَجِّلُ إِلى أَهْلِهِ"، فلما كان في السفر أنواع المشاق والصعوبة وكثيرًا ما يكون الإنسان نازحًا من الوطن؛ لمشاغل دنيوية تنازعه بالطلب بكرة وعشية، تفضل مولانا الكريم على عباده بالرحمة والإحسان، فشرع قصر الصلاة رحمةً بالأمة وتخفيفًا للعباد {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، وشرع القصر في السنة الرابعة من الهجرة، قاله "ابن الأثير".
وقيل: في ربيع الآخر من السنة الثانية للهجرة، قاله "الدولابي" وقيل: بعد الهجرة بأربعين يومًا، وهل القصر رخصة أو عزيمة؟!.
الرخصة لغةً: السهولة، وشرعًا: الحكم المتغير من صعوبة على المكلف إلى سهولة؛ لعذر مع قيامٍ السبب للحكم الأصلي واجبًا كأكل الميتة، ومندوبًا، كالقصر إذا بلغ السفر ثلاثة أيام، ومباحًا كالسلم، وخلاف الأولى كفطر المسافر الذي لا يجهده الصوم. والحكم الأصلي في المذكورات: الحرمة، والسبب الخبث في الميتة، ودخول وقتي الصلاة والصوم في القصر والفطر، والغرر في السلم، وهو قائم حال الحل، والعذر الإضرار، ومشقة السفر، والحاجة إلى ثمن الغلات قبل=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إدراكها، وسهولة الوجوب في أكل الميتة لموافقته لغرض النفس في بقائها. فإن لم يتغير الحكم كما ذكر فهو العزيمة بأن لم يتغير أصلًا، كوجوب الصلوات الخمس، أو تغير إلى صعوبة، كحرمة الاصطياد بالإحرام بعد إباحته قبله، أو إلى سهولة لا لعذر، كحل ترك الوضوء لصلاة ثانية مثلًا لمن لم يحدث بعد حرمته؛ أو لعذر لا مع قيام السبب للحكم الأصلي كإباحة ترك ثبات الواحد مثلًا من المسلمين للعشرة من الكفار زمن القتال بعد حرمته، وسبب الحرمة قلة المسلمين ولم تبق حال الإباحة لكثرتهم حينئذ، والعذر في الإباحة مشقة الثبات المذكور لما كثروا. واختلف الأئمة في القصر هل هو رخصة أو عزيمة:
فقال أبو حنيفة: هو عزيمة، فهو عنده من النوع الأول من أنواع العزيمة، وقال مالك والشافعي وأحمد: هو رخصة. والذي يقصر من الصلوات هو الرباعية المكتوبة المؤداة أو فائتة سفر طويل مباح في سفر طويل مباح بالشروط المعروفة، فلا تقصر صبح ومغرب؛ للإجماع على عدم جواز القصر فيهما فالقصر مخصوص بالظهر والعصر والعشاء بالإجماع، وإذا قصرت الصلاة الرباعية ردت إلى ركعتين، سواء أكان هناك خوف أم لا.
وخالف ابن عباس في الخوف، وقال: الواجب في الخوف ركعة، وحكي هذا عن، الحسن البصري" والجمهور على الأول، وتأولوا الحديث الثابت في مسلم عن ابن عباس: "فُرضَتِ الصَّلاةُ فِي الْحَضَرِ أربعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ" على أن المراد ركعة مع الإمام، وينفرد بأخرى، كما هو المشروع فيها في صلاة الصبح، والمراد بالمكتوبة: المفروضة أصالة، وإن وقعت نفلًا فشملت صلاة فاقد الطهورين وصلاة المتيمم بمحل يغلب فيه وجود الماء، وشملت المعادة وجوبًا لغير إفساد وإن أتم أصلها على المعتمد، وذلك كأن يجد فاقد الطهورين والمتيمم المذكور الماء؛ فإنه يجب إعادة ما صلاه، ويقصر الصلاة المعادة، وإن كانت صلاته الأولى تامة، وشملت صلاة الصبي، والمعادة ندبًا لكن لا يقصرها إلا إذا قصر أصلها، وإلا لم يجز قصرها، وخرج المنذورة والنافلة؛ فإن سنة العصر مثلًا أربع ركعات فلو أراد صلاة ركعتين، ونوى قصر الأربع إليهما لم يكف بل إن أحرم بركعتين سنة العصر من غير تعرض، لقصر صحتا وكانت بعض ما طلب للعصر، وإن أحرم على أنهما قصر للأربع بحيث إنهما يجزآن له عن الأربع، ويسقط عنه طلب ما زاد لم تصح صلاته؛ لأنه نوى ما لا يعتد به شرعًا، وخرج بالمؤداة أو الفائتة في السفر الطويل. (أي بأحدهما) الفائتة في الحضر أو في سفر لا يجوز فيه القصر؛ فإنه لا يصح قضاؤها مقصورة في السفر، أما فائتة السفر الطويل، فتقضي مقصورة في السفر الطويل، سواء السفر الذي فاتت فيه أو سفر آخر، وإن تخللت بينهما إقامة طويلة دون الحضر في أظهر الأقوال للإمام "الشافعي" رضي الله عنه أما القصر في السفر، فلقيام العذر، وهو وجود سبب القصر في قضائها كأدائها،=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واجب"
(1)
- أي في أكل المَيْتَةِ على الصَّحيح.
= وبذلك فارق عدم قضاء الجمعة جمعة، وأما عدم القصر في الحضر؛ فلأنه ليس محلًا للقصر، لفقد سبب القصر حال فعلها.
والقول الثاني: يجوز القصر في السفر والحضر؛ لأنه يلزمه في القضاء ما كان يلزمه في الأداء، وكان يلزمه في الأداء صلاة، ولو مقصورة، فكذلك القضاء.
والقول الثالث: لا يجوز قصر المقضية، لا في السفر ولا في الحضر، لأنها صلاة ردَّت إلى ركعتين، فإن فاتت يؤتى بأربع كالجمعة.
والقول الرابع: إن قضى في السفر الذي قامَت فيه قصر، وإلا فلا.
(1)
يباحُ للمسافر الفطر في رمضان إذا تحققت الشروط الآتية:
الأول: أن يكون سفره سفر قصر أي: أن يكون سفرًا طويلًا، والسفر الطويل ما كان مرحلتين فأكثر، وهما: سير يومين من غير ليلة على الاعتبار، أو ليلتين بلا يوم كذلك، أو يوم وليلة مع النزول المعتاد ولنحو استراحة، أو أكلٍ أو صلاةٍ، وأن تكون المرحلتان بسير الأثقال أي: الحيوانات المثقلة بالأحمال، والبحر كالبر في اشتراط المسافة المذكورة، فلو قطع الأميال فيه في ساعة مثلًا، لشدة جري السفينة بالهواء ونحوه، فإنه يبيح له الفطر أيضًا؛ لوجود المسافة الصالحة، وَلا يضُرُّ قَطْعُهَا في زَمَنٍ يسيرٍ. فإن قيل: إذا قطع المسافة في لحظة صار مقيمًا، فكيف يتصور ترخيصه فيها؟.
أجبب بأنه لا يلْزَمُ من وُصُولِ الْمَقْصِدِ انْتِهَاءُ الرُّخْصَةِ.
الشرطُ الثَّاني: أَن يكون سفره في غير معصية بأَلَّا يكون عاصيًا بالسفرِ، وهو الذي أنشأ سفره معصية، ولا عاصيًا بالسفر في السفر، وهو الذي أنشأ سفره طاعة ثم قلبه معصية. أَمَّا العاصي في السفر وهو من أنشأ سفره طاعة، واستمر كذلك إِلَّا أنه وقعَت منه معصية في أثناء سفره، فيجوز له الفطر، وَلمْ يجَوِّز الشارعُ الفطر لمن كان سفره في معصية؛ لأن ذلك يكون إعانة له على المعصية؛ ولأن جواز الفطر رخصة، والرخصة لا تُنَاطُ بِالْمَعاصِي. وبناءً على هذين الشرطين يمكن أن يُقَلُ: إِنَّ المسافر الذي كان سفره في غير معصية، وكان سفره سفر قصر يباحُ له الفطر بالإجماع؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أَي: فله الفطر وعليهِ عدة من أيام أخر، ولما روت السيدة عائشة رضي الله عنها أنْ حَمْزَةَ بن عمرِ الأسلمي قَال: يا رَسُول اللهِ أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَال له رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِر".
ثُمَّ إن كان المسافر ممن لا يجهده الصوم - أي: لا يتضرر به، فالأفضل له الصوم؛ لِمَا روِي عن أنس رضي الله عنه أنه قال لِلصَّائِمِ فِي السَّفَرِ:"إنْ أَفْطَرْتَ فَرخْصَةٌ، وَإِنْ صُمْتَ فَأَفْضَلُ". وَلأِنَّه لو أفطر عرض الصوم للنسيان، وحوادث الأيَّام؛ ولأن شهر الصوم له أفضلية وَمَزِيَّةٌ عَلى سائر الأيام، وإن كان المسافر ممن يجهده الصَّوم، أي يتضرر به فالأَفْضَلُ له الفِطْر؛ لما روى جابر رضي الله عنه=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي وجه يباح فقط.
ونظيره العاصي بسفره إذا عدم الماء، فأصح الأوجه يلزمه التيمُّم، وإعادة الصلاة.
والثَّاني: يلزمه، ولا إعادةَ.
والثالث: يحرم التيمم، ويجب القضاء "مندوبًا" أي: في القصر، والرُّخصة في الحقيقة ما تضمّنه الواجب والندب من الإحلال، وأما خصوصُ الوجوب والندب فزائد آلت إليه الرخصة بدليل خاصٍّ.
= أنَّه قال: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سفر برجلٍ تَحْت شَجَرَةٍ يرشُّ عَليْهِ الماءَ فَقَال عليه السلام: "ما بالُ هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ يا رَسُولَ اللهِ، قَال عليه السلام: ليْسَ مِنْ البِرِّ الصِّيامُ فِي السَّفَرِ". فإنْ صَامَ المُسَافِر ثُمَّ أَرَادَ أن يُفْطِرَ فَله أن يُفْطِر؛ لأَنَّ العذر قائِمٌ كما لو صام المريض، وأرادَ أَنْ يُفْطِرَ.
الشرط الثالث: أَنْ يكُونَ السَّفَر سابقًا على الصوم، بأن يكون الشروع فيه سابقًا على الشروع في الصوم، كأن يقع السفر بعد الغروب، وقبل الفجر. أَمَّا إِذَا كان الشروعُ في السَّفَرِ بعد الشروع في الصوم، فيحرم عليه الفطر، ويجب الصومُ.
وقال المزني: له أَنْ يُفْطِرَ كما لوِ أَصْبَح الصبحُ صائمًا، ثُمَّ مَرِضَ. والمذهب الأول: وهو وجوبُ الصَّوْمِ وَعَدَمِ جواز الفطر؛ دليلُ ذلِكَ أنَّه عِبادَةٌ اجتمع فيها سَفَرٌ وَحَضَرٌ، وَكُلُّ عِبادةٍ يجْتَمع فيها سَفَرٌ وحَضَرٌ يغْلِبُ جانب الحضر؛ لأنَّه الأَصلُ. وعلى الأول: لو جامع فيه، لزمه الكفارة؛ لأنه يوم من رمضان هوَ صائمٌ فِيه صومًا لا يجوز فِيه الفطر.
الشرط الرابع: أَنْ يرجو المسافر إقامةً يقضي فيها ما أفطره من أيام سفره، فإن لم يرجُ إقامة يقضي فيها ما أفطره، بأن كان مديم السَّفَرِ، فَلا يُباحُ له الفِطْر؛ لأَنَّ إباحةَ الفطر في هذه الحالة تُؤَدِّي إِلى إِسْقَاطِ الفرض بالكلية، نعم لوْ قَصَدَ القَضاءَ في أيام أخرى من أيام سفره، جاز له الفطر، وَلا فرْقَ في جواز الفطرِ للمسافرِ بين أن يكون بأكل أو نحوه، كجماع، وغير ذلك. ومتى أَفْطَرَ المسافر وَجَب عَليْهِ القضاءُ دُونَ الفديةِ، ثم إِنَّه إِذَا قَدِمَ المُسافِر أو برئ المريض، وهما مفطران استحب لهما إمساكُ بقية النهارِ؛ لِحُرْمَةِ الوقت، ولا يجب عليهما ذلك؛ لأنهما أفطرا بعذر. ويُنْدَبُ لهما إِذا أكلا أَلا يأْكُلا إِلَّا عند من يعرف عذرهما؛ لخوف التهمة. وإذا قدم المسافر وهو صائمٌ أو برئ المريضُ وهو صائمٌ، فقى جواز إفطاره وجهان:
أحدهما: أنه يجوز لهما الفطر، وبه قال ابن أبي هريرة؛ لأنه أبيح لهما الفطر من أَوَّلِ النهارِ، فجاز لهما الإفطار في بقِيَّة النَّهار، كما لو دَامَ السَّفَر والمرضُ.
وثانيهما: لا يجوز لهما الإفطار، وهوَ قَوْلُ القاضي أبي الطيِّبِ وجمهور الأصحابِ، لأنه زال سبب الرُّخْصَةِ قبل التَّرَخُّصِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبهذا يجمع كلام الإمام في "النهاية" وغيره مع كلام الأصوليين.
"ومباحًا" أي: في الفطر، وفيه نظر، فإن مراده بالمُبَاح مستوى الطرفين، فالمسافر إن كان يجهده الصَّوم، فالأفضل الفطر، وإلا فالصَّوم، فلا استواء، فالأولى التمثيل بالسّلم
(1)
والعرايا
(2)
، وأن يجعل الإفطار في السفر مثالًا لخلاف الأوْلَى.
(1)
السلم لغة: السلم بالتحريك السلف، وأسلم في الشيء وسلم وأسلف بمعنى واحد، والاسم: السلم. ينظر: لسان العرب 3/ 2081، والمصباح المنير 2/ 286، وتحرير التنبيه 209.
واصطلاحًا:
عرفه الحنفية بأنه: عبارة عن نوع بيع معجل فيه الثمن - هو أخذ عاجل بآجل.
وعرفه الشافعية بأنه: بيع موصوف في الذمة.
وعرفه المالكية بأنه: بيع شيء موصوف في الذمة بغير جنسه مؤجلًا.
وعرفه الحنابلة بأنه: عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس عقد. ينظر: مغني المحتاج 2/ 102، ومواهب الجليل 4/ 514، ومطالب أولي النهى: 3/ 207، وحاشية ابن عابدين 4/ 203، وأسهل المدارك 2/ 311، وكشاف القناع 3/ 288.
(2)
العرايا لغة: واحدتها عرية، وهي النخلة التي يعريها صاحبها رجلًا محتاجًا، والإعراء أن يجعل له ثمرة عامها، فقال بعض العرب: منا من يعري، وهو أن يشتري الرجل النخل ثم يستثني نخلة أو نخلتين.
قال الأزهري: ويجوز أن تكون العرية مأخوذة من: عرى يعري كأنها عريت من جملة التحريم، وأعرى فلانٌ فلانًا ثمرة نخلة، إذا أعطاه إياها يأكلها رطبًا، وليس في هذا بيع إنما فضل ومعروف، وقيل: هي من: عراه يعروه إذا قصده أو من: عرى يعري إذا خلع ثوبه وأعراه النخلة وهبه. ينظر: الصحاح 6/ 2424، وتاج العروس 10/ 240، ولسان العرب 19/ 278.
واصطلاحًا:
هي عند الأحناف: محمولة على الهبة والعطية، واسم البيع وقع عليها مجازًا، عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: معنى العرية أن يعري الرجل الرجل ثمر نخلة من نخله، فلم يسلم ذلك إليه حتى يظهر له ألَّا يمكنه ذلك، فيعطيه مكانه حرصًا ثمرًا، فيخرج بذلك عن إخلاف الوعد.
وهي عند المالكية: في النخل وفي جميع الثمار كلها مما يبس ويدخر، مثل العنب، والتين، والجوز، واللوز، وما أشبهه.
وهي عند الشافعية: التي رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعها أن قومًا شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يحضر وليس عندهم ما يشترون به من ذهب ولا ورق، وعندهم فضول ثمر من قوت سنتهم،=
الْمَحْكُومُ فِيهِ والْتَّكلِيفُ بِالْمُحَالِ
مَسْأَلَةٌ:
الْمَحْكُومُ فِيهِ الْأَفْعَالُ. شَرْطُ الْمَطْلُوبِ الْإِمْكَانُ وَنُسِبَ خِلَافُهُ. . . . .
واعلم أن الآمدي
(1)
شَكَّك في تحقُّق الرخصة بأن العُذْر المرخّص إن كان راجحًا على السبب المحرم كان موجبه عزيمة، وإلا لكان حكمًا ثابتًا براجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة، وإن كان مساويًا أو مرجوحًا فبأي شيء يرجّح دليل الرُّخصة، ثم قال: القول بأنه مرجوح هو الأشبه بالرُّخصة، لما فيه من التَّيسير بالعمل بالمَرْجُوح.
قلت: وهذا ضعيف؛ فإن التيسير يصير المرجوح راجحًا إذا كان فيه تشوّف للشارع كما هو الواقع، وكما أن الله يحب أن تؤتى رُخَصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وهذا كما أنا [لا]
(2)
نحكم بإسلام لقيط وجد في مَدِينَةٍ غالب أهلها كُفَّار، أو بحرية [عبد] لقيط في بقعة غالب من فيها عَبِيدٌ فلسنا هنا عاملين بالمَرْجُوح.
وجواب سؤال الآمِدِيّ. أنا نلتزم أن العذر المرخّص راجح.
قوله: يلزم أن يكون كُلّ راجح رخصةً.
قلنا: الرَّاجح قسمان: راجح شُرعَ لعذر، واستفيد رجحانه من دليل خاصّ فهو رخصة أبدًا، وكل خاصّ عارض العام، وكان خروجه لعذر فهو رخصة، وراجح شُرعَ لا لعذر وتسهيل، فلا يلزم فيه هذا.
«مسألة»
الشرح: "المحكوم فيه الأفعال شرط المَطْلوب الإمكان" - عند جمهور المعتزلة، وعليه
= فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتروا العرية بخرصها ثمرًا يأكلونها رطبًا ولا يشتري من العرايا إلا أقل من خمسة أوسق.
وهي عند الحنابلة: أن يوهب للإنسان من النخل ما ليست فيه خمسة أوسق فيبيعها بخرصها من التمر لمن يأكلها رطبًا. ينظر: تبيين الحقائق 4/ 48، وبدائع الصنائع 2/ 547، والحجة على أهل المدينة 2/ 547، والبحر الرائق 6/ 82، والمدونة 4/ 258، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/ 179، والأم 3/ 56، والمهذب 1/ 281، ومغني المحتاج 2/ 93، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 4/ 157، والمغني 4/ 56، وكشاف القناع 3/ 258.
(1)
ينظر: الإحكام 1/ 122.
(2)
سقط في ب، ح.
إِلَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ لَنَا؛ لَوْ صَحَّ التَّكلِيفُ
شذوذ من أصحابنا منهم المصنّف.
"ونسب خلافه إلى الأشعريِّ" - وهو لم يصرّح به، ولكنه قضيةُ مذهبه، وعليه جماهير أئمّتنا، وهو الحق
(1)
.
والمسألةُ من عَظَائم المشكلات، وقد كثر خوض الخائضين فيها، وتشاجرهم جوازًا ووقوعًا.
والحاصل: أنه يجوز التكليف بالمُحَال عند شيخنا، وأكثر أصحابه سواء كان ذلك محالًا لنفسه أو لغيره
(2)
.
(1)
ينظر: المحصول 1/ 2/ 363، والمعتمد 1/ 177، والبرهان 1/ 277، والمنخول ص (24)، والعضد 1/ 86، والمسودة ص (79)، والإحكام للآمدي 1/ 124، وشرح الكوكب المنير 1/ 485، وإرشاد الفحول ص (9)، تيسير التحرير 2/ 137، شرح التنقيح ص (143)، وفواتح الرحموت 1/ 123، وحاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 123، والإرشاد لإمام الحرمين ص (226)، والإبهاج 1/ 171، ونهاية السول 1/ 345، والعدة 2/ 395.
(2)
وأصل الخلاف يلتفت على أمرين:
أحدهما: أن الأمر هل يشترط فيه الإرادة أم لا؟ فالمعتزلة يشترطونها، ونحن لا نشترطها، فلما اشترطوا كون الآمر مريدًا لوقوع ما أمر به استحال عندهم تكليف المستحيلِ؛ لأن الله تعالى إذا أمر بإيقاع أمر مستحيل فلا شك أنه سبحانه عالم بأنه لا يقع، ومن أصلهم أن الآمر يريد وقوع ما أمر به، والجمع بين العلم بعدم وقوعه وإرادته بأن يقع متناف، ونحن لم نشترط ذلك فجوزنا، فإن قيل: فإن إمام الحرمين قد وافق المعتزلة على وقوعه مع أنه يقول بالأصل المذكور. قلنا: بنوا مذهبهم على هذا الأصل، وأما الإمام فمدركه غير ذلك، وهو إن الطلب في نفسه لا يتحقق مع علم الطالب أن المطلوب بأمره مستحيل. فحاصل المسألة أن طلب المستحيل من عالم باستحالته هل يتحقق أم لا؟.
الثاني: أن القدرة مع الفعل، وعندهم قبله، واعلم أن الشيخ لم يصرح بالجواز في هذه المسألة إلا أن له أصلين يقتصيان تجويزه:
أحدهما: أن القدرة مع الفعل لا قبله، والتكليف يتوجه قطعًا، والتكليف بغير المقدور تكليف بما لا يطاق.
والثاني: أن أفعال العباد بقدرة الله تعالى، فالعبد مطلوب بإيقاع فعل غيره، وفعل الغير لا نطيق اختراعه. واعلم أن هذه المسألة تكلم عليها أهل العلمين: علم الكلام، وعلم أصول الفقه، أما=
بِالْمُسْتَحِيلِ، لَكَانَ مُسْتَدْعَى الْحُصُولِ؛ لأَنَّهُ مَعْنَى الطَّلَبِ وَلَا يَصِحُّ؛ لأِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ
وذهب جمهور المعتزلة إلى امتناعه مطلقًا، لا
(1)
فيما كان ممتنعًا لتعلّق العلم بعدم وقوعه كما مَرّ من [تكليف]
(2)
من علم أنه لا [يؤمن]
(3)
بالإيمان.
ووافقهم من أصحابنا الشيخ أبو حامد، والغزالي، وابن دقيق العِيدِ
(4)
.
وفصَّل معتزلة "بغداد"، فمنعوا المحال لِذَاتِهِ دون المُحَال لغيره، وادَّعى الآمدي ميل الغزالي إليه وارتضاه.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: إن ورد لم يسم تكليفًا، بل علامة نصبت على عذاب المكلف به.
وقال إمام الحرمين: إن أريد بالتَّكليف بالمحال طلب الفعل، فهو محال من العالم باستحالة وقوع المطلوب، وإن أريد ورود الصيغة، وليس المراد بها طلبًا مثل:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [سورة الأعراف: الآية 166] فغير ممتنع، وعلى هذا المذهب تنطبق عبارة المصنّف حيث قال: المطلوب، فإنه ليس كلّ ما وردت فيه صيغة الأمر يكون مطلوبًا.
فإن قُلْتَ: كيف حادَ إمام الحرمين، وكذلك الشيخ أبو حامد [والغزالي ومن معهم عن قول الشيخ]
(5)
، ووافقوا المعتزلة، ومنع التكليف بالمُحَال لا يمشي على قاعدة أهلِ السُّنةِ.
قلت: هم وإن وافقوهم في الحكم، فالمأخذ مختلف.
وذلك أن مأخذ القدرية أن الآمر يريد وقوع المأمور به، والجمع بين علمه - تعالى - بأنه لا يقع وإرادته وقوعه تناقض.
والإمام بريءٌ من هذا المأخذ، وإنما تصور أن الطلب في نفسه لا يتحقّق مع علم الطالب أن المطلوب بأمره مستحيل.
وأما أشياخنا فتصوروا أن العلم بامتناع وقوعه لا يمنع وقوع الطَّلب.
هذا حكم الجواز.
وأما الوقوع فالممتنع لذاته غير واقع، سواء كان امتناعه مطلقًا لا يختلف
(6)
استحالته
= المتكلمون؛ فلتعلقها بأحكام القدر، وخلق الأفعال، وأما الأصوليون؛ فلتعلقها بأحكام التكليف وما يصح الأمر إلا به، وما لا يصح.
(1)
في أ، ب: إلا.
(2)
سقط في ت.
(3)
في أ، ت: يؤمر.
(4)
ينظر مراجع صدر المسألة.
(5)
سقط في ت.
(6)
في ب: تختلف.
وُقُوعُه، وَاسْتِدْعَاءُ حُصُولهِ فَرْعُهُ؛ لأِنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ مُثْبَتًا، لَزِمَ تَصَوُّرُ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَاهِيَّتِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
بالنِّسْبة
(1)
إلى قادرٍ دون قادرٍ كالجمع بين النَّفي والإثبات، أو غير مطلق - وهو قسمان؛ لأنه إما أن يكون واقعًا بالقدرة التي هي
(2)
غير مستحيل بالنِّسبة إليها كخلق الأجسام، وبعض الأعراض والطعوم والرّوائح، فإنه مستحيل بالنسبة إلى القدرة الحادثة، دون القديمة، وهو واقع بها، وعلى هذا رأي من يُثبت القدرةَ.
وأما من ينفيها - وهو الحق - فلا يتصوّر اختلاف الاستحالة بالنسبة إلى قدرة دون قدرة، أو يكون غير واقع بها أيضًا، كجبل من ذَهَبٍ وبحر من زِئْبَق.
وأما الممتنع لغيره إما لفقد شرط سواء علم اشتراطه له حسًّا، كالمَشْى من مقطوع الرِّجْل، أو عقلًا، كالقيام في حالة [عدم]
(3)
الداعي إليه، أو لوجود مانع، إما حسي، كالقيام من المقيّد بقيد مانع منه، أو عقلي، كالأمر بتحصيل ما علم الله أنه لا يحصل منه، والأمر بالفعل حال التَّلبس بضده، وليس هو المذكور في صدر كلام المصنّف، فإن منه الواقع.
ولا ينبغي لأشعريٍّ أن يَتَلَعْثَمَ
(4)
في ذلك، بل كلّ التكاليف عندنا هكذا، لأن الاستطاعةَ عندنا لا تتقدم الفعل مع توجه الأمر قبلها، والعَبْدُ ليس بمخترع فعله، وما يشتبه
(5)
من الكسب لا تأثير له بحال كما هو مقرر في الديانات.
وإن وقع اضطراب في النَّقل عن الشيخ، فلعله في وقوع الممتنع لذاته.
ويدّل له تمثيلهم بتكليف أبي جهل بالجَمْع بين النفي والإثبات، لا في جوازه ولا في وقوع الممتنع لغيره.
وهذا واضح لمن تدبّر مذهب الشيخ، وقد صرَّحَ الشيخ في كتاب "الإيجاز" بأن تكليف العاجز الذي لا يقدر على شيء أصلًا، وتكليف المحال الذي لا يقدر عليه المكلف صحيح ثم قال: وقد وجد تكليف الله العِبَاد بما هو مُحَال يصح وجوده خلافًا لبعض أصحابنا. ثم استدل بقضية أبي لهب، وبإجماع الأمة على أن الكافر مكلَّفٌ بالإيمان.
"والإجماع على صحَّة التكليف بما علم الله أنه لا يقع".
(1)
في ت: بالنية.
(2)
في أ، ب: هو.
(3)
سقط في ح.
(4)
في ح: يتعلثم وهو تحريف.
(5)
في أ، ب، ح: يثبته.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ، لَمْ يُعْلَمْ إِحَالَةُ الْجمْع بَيْنَ الضِّدَّيْنِ؛ لأِنَّ الْعِلْمَ بِصِفَةِ الشَّيْءِ فَرْعُ تَصَوُّرِهِ. قُلْنَا: الْجَمْعُ الْمُتَصَوَّرُ جَمْعُ الْمُخْتَلِفَاتِ، وَهُوَ الْمَحْكُومُ بِنَفْيِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِهِ مَنْفِيًّا عَنِ الضِّدَّيْنِ تَصَوُّرُهُ مُثْبَتًا.
وهو ضرب من الممتنع لغيره، والجماهير على وقوعه أيضًا، وقد كلف الله الثقلين جميعًا بالإيمان مع قوله:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
وإن وجدت على
(1)
أحد هنا [خلافًا]
(2)
فاعلم أنه من القائلين بأن للعبد قدرةً تؤثر، كالقدرية.
فإذن أبو جهل - مثلًا - مكلّف
(3)
بالإيمان بإجماع المسلمين مع علم الله تعالى أنه لا يؤمن بإجماع المسلمين، ولم يمنع علم الله بأنه لا يؤمن [من]
(4)
تكليفه.
أما عندنا فلأنا نكلّف بالممتنع لغيره، وأما عند غيرنا فلأنه قادرٌ فرَّطَ في حقّ نفسه، فيعاقب على كَفّه عن الإيمان مع قدرته عليه، فافهم هذا.
قال: "لنا لو صَحّ التكليف بالمستحيل" لذاته "لكان مستدعى الحصول، لأنه" - أي: استدعاء الحصول "معنى الطلب، ولا يصح" كونه مستدعى الحصول، "لأنه لا يتصور وقوعه".
"واستدعاء حصوله فرعه" - أي: فرع تصوّر الوقوع - لاستحالة
(5)
استدعاء ما لا يتصّور.
وإنما [لا] يتصوّر وقوعه، "لأنه لو تصوّر مثبتًا"
(6)
- أي: لو تصور وقوعه من المكلف "لزم تصور الأمر على خلاف ماهِيَّته، وهو محال"، فإن ماهيته تنافي ثبوته، وإلَّا لم يكن ممتنعًا لذاته.
الشرح: "فإن قيل: لو لم يتصور" وقوع المحال "لم يعلم إحالة الجمع بين الضّدين" أي: كان يمتنع التَّصديق بذلك؛ "لأن العلم" - أي: التصديق - "بصفة الشيء فرع" وقوعه.
"قلنا: الجمع المتصوّر جمع المختلفات" - أي: الجمع بين المختلفات التي ليست متضادة "وهو المحكوم بنفيه" عن الضِّدين، "ولا يلزم من تصوره منفيًا عن الضِّدين تصوره مثبتًا"، فلا يلزم تصور وقوع المحال.
(1)
في أ، ب، ح: عن.
(2)
سقط في ح.
(3)
في أ، ح: تكلف.
(4)
سقط في ح.
(5)
في ت: لاستحالته.
(6)
في أ، ح: ثبتًا.
فَإِنْ قِيلَ: يُتَصَوَّرُ ذِهْنًا، لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ لا فِي الْخَارجِ - قُلْنَا: فَيَكُونُ الْخَارجُ مُسْتَحِيلًا، وَالذِّهْنِيُّ بِخِلافِهِ، وَأَيْضًا يَكُونُ الْحُكْمُ بِالاِسْتِحَالَةِ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُسْتَحِيلٍ، وَأَيْضًا، الْحُكْمُ عَلَى الْخَارجِ يَسْتَدْعِي تَصَوُّرَهُ فِي الْخَارجِ.
الْمُخَالِفُ: لَوْ لَمْ يَصِحَّ، لَمْ تقَعْ، لأِنَّ الْعَاصِيَ مَأْمُورٌ، وَقَدْ عَلِمَ ..........
الشرح: "فإن قيل: يتصور ذهنًا للحكم عليه لا في الخارج" حتى يلزم منه تصوّر الشيء على خلاف ما هو عليه.
"قلنا: فيكون الخارج مستحيلًا والذهني بخلافه"، فلا يكون تصور وقوع الجمع بين الضدين تصور وقوع المُحَال، بل الممكن، وإنما النزاع في تصور وقوع المُحَال.
"وأيضًا يكون حينئذٍ الحكم بالاستحالة على ما ليس بمستحيل"، لعدم الاستحالة ذهنًا.
"وأيضًا الحكم على الخارج يستدعي تصور الخارج"[وإلا فلو لم يتصوّر وقوعه في الخارج استحال الحكم باستحالته، ولا يخفى ضعف هذه الأوجه]
(1)
.
الشرح: [واحتج "المخالف] "
(2)
بأنه "لو لم يصح لم يقع"، لكنه وقع "لأن العاصي مأمور" بأن يطيع "وقد علم الله أنه لا يقع "منه أن يطيع، ضرورة أنه عاص لم يقع منه المأمور به، والله يعلم الأشياء على ما هي عليه.
وأيضًا "أخبر أنه لا يؤمن.
وكذلك من علم بموته" قبل تمكّنه من الفعل المأمور به، فإنه يمتنع منه الفعل. وكذلك "[من]
(3)
نسخ عنه قبلِ تمكنه" من الفعل.
"ولأن المكلّف لا قُدْرَةَ له إلا حال الفِعْل" كما علم من أصل الشيخ أبي الحسن "وهو حينئذٍ غير مكلف"؛ لأن التكليف استدعاء الفعل على وجه اللزوم، وذلك إنما يكون في المستقبل "فقد كلف" في حال كونه "غير مستطيع لا، وهي حالة ما قبل الفعل.
"ولأن الأفعال"، - أفعال العباد - "مخلوقة لله
(4)
.
(1)
سقط في ت.
(2)
سقط في ت.
(3)
سقط في أ، ح
(4)
المراد من أفعال العباد: المعنى الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد والإيقاع أعني ما نشاهده من الحركات والسكنات مثلًا، لا المعني المصدري الذي هو الإيجاد والإيقاع؛ لأنه من الأمور=
اللَّهُ أنَّهُ لا تقَع، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لا يُؤْمِن، وَكَذلِكَ مَنْ عُلِمَ بِمَوْتِهِ، وَمَنْ نُسِخَ عَنْهُ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ،
ومن هذين" اختصاص القدرة بحال المُبَاشرة، وكون الأفعال مخلوقة لله تعالى "نسب
= اللاموجودة واللامعدومة المسماة بالحال كما ذهبت إليه مشايخ الحنفجة، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين من الأشاعرة؛ أو هو أمر اعتباري عند نفاة الحال، فلا يتعلق به خلق ولا الجاد، وإلا لزم التسلسل، وإطلاق المصدر على المعنى الحاصل بالمصدر، وإن كان مجازًا من قبيل إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، إلا أنه كثير الوقوع، فلا يحتاج إلى قرينة. وتنقسم أفعال العباد إلى: اختيارية كحركة البطن، وإلى اضطرارية كحركة الارتعاش، وإلى أفعال مباشرة كما سبق التمثيل به، وإلى أفعال متولدة كحركة المفتاح المتولدة من حركة اليد، ثم إن أفعال العباد منها ما يتعلق بالجوارح، ومنها ما يتعلق بالقلوب، هذا كله بالنسبة للمستيقظ.
وأما أفعال النائم فقد اختلفوا فيها، فقال بعضهم: إنها مقدورة مكتسبة للنائم، والنوم لا يضاد القدرة، وإن كان يضاد العلم وغيره من الإدراكات، وقال بعضهم: إنها غير مقدورة له، وأن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم، وبعضهم لا يقطع بكونها مكتسبة، ولا بكونها ضرورية بل كل من الأمرين ممكن. وقد استدل القائلون بأن أفعال النائم مقدورة له بما يأتي:
أولًا: بأن النائم كان قادرًا في يقظته، وقدرته باقية، والنوم لا ينافيها، فوجب استصحاب حكمها.
ثانيًا: بأن النائم إذا انتبه فهو على ما كان عليه في نومه، ولا يتجدد أمر وراء زوال النوم، وهو قادر بعد الانتباه، وزوال النوم غير موجب للاقتدار، ولا وجوده نافيًا للقدرة.
ثالثًا: قد يوجد من النائم ما لو وجد منه في حال اليقظة، لكان واقعًا على حسب الداعي والاختبار؛ والنوم وإن نافى المقصد فلا ينافي القدرة.
رابعًا: نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم، وحركة المرتعش، وما ذاك إلا أن حركته مقدورة له، وحركة المرتعش غير مقدورة له.
وقال النافون للقدرة: قولكم: النوم لا ينافي القدرة دعوى كاذبة؛ فإن النائم منفعل محضًا "متأثر صرفًا" ولهذا لا يمتنع ممن يؤثر فيه. وقولكم: لم يتجدد له أمر غير زوال النوم؛ غَيْر مسلم به؛ لأن التجدد: زوال المانع من القدرة، فعاد إلى ما كان عليه، كمن أوثق غيره رباطًا، ومنعه من الحركة، فإذا حُلَّ رباطه تجدد زوال المانع. والتحقيق أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسبة، وكما في قنا في حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه، كذلك نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ. وعلى كل حال فالمثبتون للفدرة - وهم المعتزلة وبعض الأشعرية - والنافون لها وهم: أبو إسحاق وغيره، والمتوقفون في ذلك، وهم جمهور الأشعرية، والقاضي أبو بكر، متفقون على أن أفعال النائم غير داخلة تحت التكليف.
وأما أفعال الساهي فاختيارية؛ لأنه وإن كان يفعل الفعل مع غفلته وذهوله، فهو إنما يفعله بقدرته؛ إذ=
وَلأِنَّ الْمُكَلَّفَ لا قُدْرَةَ لَهُ إِلَّا حَالَ الْفِعْلِ، وَهُوَ حِينَئذٍ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَقَدْ كُلِّفَ غَيْرَ مُسْتَطِيعِ
تكليف المحال إلى الأشعري"، وقد تقدم هنا، وقدمنا أنه صرح في "الأرجانيين"، وإن كان ممتنعًا لذاته فلا حَاجَةَ إلى الاستنباط.
= لو كان عاجزًا لما تأتي منه الفعل وله إرادة لكنه غافل عنها؛ فالإرادة شيء، والشعور بها شيء آخر، فالعبد قد يكون له إرادة وهو ذاهل عن شعوره بها؛ لاشتغال محل التصور منه بأمر آخر منعه من الشعور بالإرادة، فعملت عملها وهي غير مشعور بها، وإن كان لا بد من الشعور عند كل جزء. ومع كل فالفعل الاختياري يستلزم الشعور بالفعل في الجملة، وأما الشعور به بالتفصيل فلا يستلزمه.
وأما زائل العقل بجنون أو سكر، فليست أفعاله اضطرارية كأفعال الملجإ، ولا اختيارية بمنزلة أفعال العاقل العالم بما يفعله، بل هو نوع آخر يشبه الاضطرارية، وأفعاله كفعل الحيوان، وفعل الصبي الذي لا تمييز له؛ إذ لكل واحد من هؤلاء داعية إلى الفعل يتصورها، وإرادة يقصد بها، وقدرة ينفذ بها، فهذه أفعال طبيعية، واقعة بالداعي والإرادة والقدرة، وإن كانت الداعية التي فيهم غير داعية العاقل العالم بما يفعله؛ لأنه يتصور ما في الفعل من الغرض، ثم يريده. ويفعله، ولهذا لم يكلفه أحد من هؤلاء بالفعل، فأفعالهم لا تدخل تحت التكليف، وليست كأفعال الملجإ ولا المكره وهي مضافة إليهم مباشرة، وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم خلقًا. فهي مفعولة وأفعال لهم. والله أعلم.
ولا خلاف في أن أفعال العباد الاضطرارية مخلوقة لله تعالى، ولا في أن الكلام اللفظي القائم بالنبي صلى الله عليه وسلم على تقدير حدوثه مخلوق له تعالى. أما عند أهل السنة فظاهر، وأما عند المعتزلة فإما بنفي اختياريته أو باستثنائه من الكلية.
وأما أفعال العباد الاختيارية، فقد اختلفوا في الخالق لها: فقالت الجبرية: الخالق لأفعال العباد الاختيارية هو الله فقط، ولا دخل لقدرة العبد في فعله ألبتة، بل هو مجبور ومقهور، وأن حركته الاختيارية لا اختيار له فيها، وأنها كحركة الأشجار عند هبوب الرياح، وكحركة الأمواج، وأن العبد كالريشة المعلقة في الهواء وقالوا:[البسيط]
مَا حِيلَةُ الْعَبْدِ، والأَقْدَارُ جَارِيَةٌ
…
عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ أَيُّهَا الرَّائِي
أَلْقَاهُ فِي اليَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ
…
إِيَّاكَ إِياكَ أَنْ تبتَلَّ بِالمَاءِ
وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: فعل العبد واقع بقدرة الله ومخلوق له، وأن قدرة العبد لها دخل في الفعل الاختياري بالكسب والاختيار، وأن الله قد جرت عادته بأن يخلق فعل العبد الاختياري مقارنًا لقدرته، وهذا هو الكسب عنده.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: أصل الفعل واقع بقدرة الله تعالى، وأما وصفه فواقع بقدرة العبد كما في لطم اليتيم تأديبًا وإيذاءً، فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى، وكونه طاعة على الأول ومعصية=
وَلأِنَ الْأَفْعَالَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى؛ وَمِنْ هذَيْنِ، نُسِبَ تكلِيفُ الْمُحَالِ إِلَى ألْأَشْعَرِيِّ. وَأُجِيبَ
وأجيب بأن ذلك لا يمنع تصوّر الوقوع، لجوازه منه - أي: لجواز وقوعه من المكلف في
الجملة.
= على الثاني بقدرة العبد. والظاهر أنه لم يرد أن قدرة العبد مستقلة في خلق وصبف الفعل، وإلا لزم
عليه ما لزم على المعتزلة، بل أراد أن القدرة لها مدخل في ذلك الوصف، فهو بالنسبة إلى العبد
طاعة ومعصية. كذا ذكره المحقق الديواني، وقد ورد على مذهبه أن هذه الححفات أمور اعتبارية تلزم
فعل العبد باعتبار موافقتها للشرع أو مخالفتها له، فلا وجه لكون وصف الفعل واقعًا بقدرة العبد،
وهذا مدفوع بأن كون الفعل طاعة أو معصية إنما هو بالنبة والإرادة الجزئية والعزم، وهي مقدورة
للعبد، وبسببها يكون الفعل طاعة أو معصية، وهذا بعينه ما ذهب إليه الماتريدية.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني من أهل السنة، وكذا النجار من المعتزلة: إن أصل الفعل
ووصفه واح بمجموع القدرتين، قدرة الله وقدرة العبد؛ ثم الأستاذ إن أراد أن قدرة العبد غير مستقلة
بالتأثير، وأنها إذا انضمت إليها قدرة الله تعالى صارت مستقلة بتوسط هذه الإعانة على ما قدره
البعض، فقريب من الحق، وإن أراد أن كلا من القدرتين مستقلة بالتأثير كما اشتهر عنه في مذهبه،
فباطل؛ لامتناع مؤثرين على أثر واحد، وإن جوز اجتماعهما كما اشتهر عنه.
وقال صاحب المسايرة وهو الكمال بن الهمام: إن جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح والنفوس من
الميل والداعية والاختيار لا تأثير لقدرة العبد فيه وإنما محل قدرته العزم المصمم، فإذا أوجد العبد
ذلك العزم المصمم خلق الله له الفعل عقبه، وهذا ينطبق على كلام القاضي أبي بكر الباقلاني، لأن
كون الفعل طاعة أو معصية إنما هو بالنية، والإرادة الجزئية، والعزم عنده "أي عند القاضي".
وقال بعض المحققين من أهل السنة: الله خالق لفعل العبد الاختياري، والعبد فاعل له حقيقة. وبيان
ذلك أن الله خلق قدرة العبد، وأذن لها أن تتصرف في المقدور حسمب اختيار العبد، فيكون الفعل
مخلوقًا لله؛ لأنه واقع بالقدرة التي خلقها الله فيه، وقد جعلها تنصرف في المقدور، ويكون الفعل
المقدور واقعًا بالقدرة الحادثة، ومضافًا إلى العبد كسبًا وفعاذ حقيقة، "ومثال ذلك" أن العبد لا يملك
التصرف في مال سيده، ولو استبد بالتصرف في مال سيده لم ينفذ تصرفه؛ فإذا أذن له في بيع ماله
فباعه نفذ، والبجع في التحقيق معزو إلى السيد من جث إن سبجه إذنه، ولولا إذنه لم ينفذ التصرف،
ولكن العبد يؤمر بالتصرف، وينهى ويوبخ على المخالفة، فالعبد فعلها حقيقة، والله خالقه، وخالق
ما فعل به من القدرة والإرادة، وخالق فاعليته؛ وإلعبد غير مستقل بالإيجاد؛ لأن قدرته وإرادته جزء
سبب أو شرط.
وقال الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي: المختار عندنا أن عند حصول القدرة والداعية
المخصوصة يجب الفعل، وعلى هذا التقدير يكون العبد فاعلًا على سبيل الحقيقة، ومع ذلك فتكون
الأفعال باسرها واقعة بقضاء الله تعالى وقدره، وذلك أنا لما اعترفنا بأن الفعل واجب الحصول عند=
بِأَنَّ ذلِكَ لا يَمْنَعُ تَصَوُّرَ الْوُقُوعِ لِجَوَازِهِ مِنْهُ فَهُوَ غَيْرُ مَحَل النِّزَاعِ، وَبِأَنَّ ذلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ
وإن كان ممتنعًا بالغير من علم أو خبر، فهو غير مَحَل النزاع، إذ النزاعُ في الممتنع بالذات.
= مجموع القدرة والداعية، فقد اعترفنا بكون العبد فاعلًا وجاعلًا؛ فلا يلزمنا مخالفة ظاهر القرآن، هاذا قلنا بأن المؤثر في الفعل مجموع القدرة والداعي، مع أن هذا المجموع حصل بخلق الله تعالى، فقد قلنا بأن الكل بقضاء الله تعالى وقدره.
وقال جمهور المعتزلة: فعل العبد واقع بقدرته وحدها على سبيل الاستقلال بلا الجاب بل باختيار.
وقالت الحكماء: إن فعل العبد واقع بقدرته استقلالًا بالإيجاب لا بالاختيار، وهذا ما اشتهر عنهم، ولكن تحقيق مذهبهم أنه تعالى فاعل الحوادث كلها، وأن المراتب شروط معدة لإفاضة المبدأ الأول على ما صرح به في "شرح الإشارات" حيث قال: إن الكل متفقون على صدور الكل منه جل جلاله، وأن الوجود معلول له على الإطلاق، وإن تساهلوا في مقالاتهم، وقال بهزبار في التحصيل: وإن سألت الحق، فلا يصح أن يكون علة لوجود إلا ما هو برئ من كل وجه من معنى ما بالقوة، وهذا هو المبدأ الأول لا غير. وللحكماء رأى آخر يوافق المعتزلة، وهو وقوع الفعل بقدرة العبد اختيارًا. وقال إمام الحرمين: فعل العبد واقع بقدرته وإرادته بالإيجاب استقلالا لا بالاختيار، فيكون موافقًا لمذهب الحكماء، وهذا ما اشتهر عنه بين القوم: ولكن تحقيق مذهبه أن الخالق لفعل العبد الاختياري هو الله تعالى كما صرح به في الإرشاد حيت قال: "اتفق أئمة السلف قبل ظهور البدع والأهواء على أن الخالق هو الله تعالى، ولا خالق سواه، وأن الحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى من غير فرق بين ما تتعلق به قدرة العباد وبين ما لا تتعلق به؛ فإن تعلق الصفة بشيء لا يستلزم تأثيرها فيه، كالعلم بالمعلوم والإرادة بفعل الغير، فالقدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها، واتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الزيغ على أن العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم" هذا كلامه، وبالله التوفيق.
والفرق بين مذهب المعتزلة والحكماء هو أن وقوع الفعل بقدرة العبد على سبيل الاختيار عند المعتزلة بخلاف الحكماء، فعندهم وقوع الفعل بقدرة العبد على سبيل الوجوب، وهذا الفرق ظاهر بالنسبة إلى نفس القدرة، وأما مع تمام الشرائط من الإرادة وغيرها فيفرق بينهما بأن الله خلق قدرة العبد بالاختيار عند المعتزلة، وأما عند الحكماء فالله خلق قدرة العبد بالإيجاب، وذلك أنه عند تمام الشرائط من الإرادة وغيرها فليس إلا الوجوب عند المعتزلة، فيكون الفعل واجبًا كمذهب الحكماء، اللهم إلا أن يقال: إن مذهب المعتزلة هو صدور الفعل عن المختار، ولو بعد تمام الشرائط على سبيل الصحة دون الوجوب؛ بناء على كفاية الرجحان في الوقوع، وإن كان مردودًا عند المحققين، ولكن يمكن أن يفرق بينهما بعد تمام الشرائط بأن ذات القدرة لا توجب الفعل عند المعتزلة، إنما الإيجاب من التعلق الذي يجوز أن يكون بدله تعلق آخر، وأما عند الحكماء فذات القدرة توجب=
التكالِيفَ كُلَّهَا تكلِيفٌ بِالْمُسْتَحِيلِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالإِجْمَاعِ.
قَالُوا: كَلَّفَ أَبَا جَهْلٍ تَصْدِيقَ رَسُولهِ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَمِنْهُ ..........
وبأنه
(1)
يستلزم أن التَّكاليف كلّها تكليف بالمستحيل، لوجود وجوب الفعل أو عدمه لوجوب تعلّق العلم بأحدهما، فيتعين، وهو باطل بالإجماع.
وهذا ساقط، لأن
(2)
الشيخ كان يقول: كل التكاليف بالممتنع، ولكن امتناعًا بالغير لا بالذات كما عرفت، والأول
(3)
هو المعتمد.
الشرح: "قالوا": لو لم [يَجُزْ]
(4)
لم يقع، ولكنه واقع، بدليل أنه - تعالى - "كلف أبا جهل"
= التعلق المخصوص الموجب للفعل، بأن تكون القدرة المؤثرة عندهم مع الفعل، كما أن القدرة الكاسبة عندنا كذلك.
والفرق بين المعتزلة وبين المحققين من أهل السنة: أن المعتزلة يعتقدون انفراد العبد بالخلق، وأنه إذا عصى فقد انفرد بخلق فعله، والرب كاره له، فيكون العبد موقعًا ما أراد إيقاعه، شاء الرب أو كره، وأما المحققون من أهل السنة فيعتقدون بأن أفعال العباد واقعة بقضاء الله وقدره ومشيئته وخلقه، وأن العباد فاعلون لها حقيقة، فتضاف أفعال العباد إلى الله خلقًا، وإلى العبد كسبًا وفعلًا حقيقة.
والفرق بين الجبرية وبين الأشعرية: أن الجبرية تنفي قدرة العبد، وتجعله مجبورًا مقهورًا في أفعاله ليس لقدرته مدخل فيها، ولا اختيار له؛ وأما الأشعرية فتثبت قدرة للعبد، وتجعله مختارًا في أفعاله، وأن الله يخلق الفعل مقارنًا لقدرة العبد، فليس العبد مجبورًا إلا في نفس تعلق الإرادة؛ لأنه مخلوق عنده، ولا يستلزم الجبر في الأفعال بل الجبر الحاصل في مذهب الأشعري، إنما هو بالنسبة للاختيار فقط؛ لأن الأشعري يقول بخلق الاختيار.
والجبري إن كان ينكر التكاليف الشرعية، أو يعترض على الله تعالى فيها، وينسبه إلى الظلم، فهو كافر قطعًا، وإن كان يعترف بالتكاليف، ولا ينكر شيئًا منها علم من الدين بالضرورة، ولا يوجه في ذلك اعتراضًا عليه سبحانه، بل يقول كما قال غيره:"يفعل ما يشاء ويختار"لا يسأل عما يفعل" فليس بكافر قطعًا؛ ولكنه بحسب ظاهر مذهبه مخطئ في هذه العقيدة قطعًا لمخالفته ما قضت به بداهة العقل من الفرق البين بين أفعال العبد الاختيارية وبين أفعاله الاضطرارية، وأنه في الأولى متمكن من الفعل والترك دون الثانية.
وكل إنسان سليم العقل يشهد وجدانه في نفسه وفي كل بني نوعه بذلك، كما أن المعتزليّ مخطئ في عقيدته قطعًا؛ لمخالفته ما قضت به الأدلة النقلية والعقلية أنه لا خالق سوى الله جل شأنه.
(1)
في أ: وبأن.
(2)
في ت، ح: فإن.
(3)
في أ، ح: فالأول.
(4)
في ت: يجزم.
أنَّهُ لا يُصَدِّقهُ فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي أَلَّا يُصَدِّقَه، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ أَلَّا يُصَدِّقَهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ
ونحوه ممن عام موتهم على الكفر "تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به. ومنه لا يصدقه، فقد كلفه بأن يصدقه في ألّا يصدقه، وهو مستلزم ألا يصدقه"، فيكون مكلفًا بأن يصدقه وبألَّا يصدقه، وهو تكليف بالجمع بين الضدين، فيكون التكليف بالمحال لذاته واقعًا.
وهذا وجه اعتمده الشَّيخ، والقاضي رضي الله عنهما في كتاب "شرح الإيجاز" واتبعهم الأصحاب كلهم.
"والجواب أنهم كلّفوا بتصديقه، فيما جاء به، وتصديقه عليه السلام فيما جاء به أمر ممكن في نفسه، "وإخبار رسوله صلى الله عليه وسلم " بأنهم لا [يصدقونه]
(1)
، "كإخبار نوح عليه السلام " في قوله تعالى:{لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36].
"ولا يخرج الممكن"، وهو إيمان أبي جهل مثلًا "عن الإمكان بخبر" الصَّادق بعدم وقوعه، "أو علم" منه أن ذلك لا يقع، غاية الأمر أنه يكون ممتنعًا بسبب تعلّق الخبر والعلم
(2)
، وذلك
(1)
في أ، ب، ت، ح: يصدقوه.
(2)
وقد استدل على أن العلم والخبر لا يؤثر في وجوب الشيء وامتناعه بأدلة سمعية وعقلية، أما السمعية فمن وجوه:
الأول: أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أن لا مانع لأحد من الإيمان، كقوله عز من قائل:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} ، وقوله تعالى:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} لأنه استفهام في معرض الإنكار، وهو لا يصح مع كون العلم والخبر مانعين من الإيمان.
الثاني: قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، ولو كان العلم والخبر مانعًا لكان ذلك من أقوى الأعذار.
الثالث: قوله تعالى: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} ، وقوله تعالى {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ذمهم الباري على ترك الإيمان، وذلك لا يصح مع مانعية العلم والخبر، لقيام العذر عندهم حينئذ. وأما العقلية فمن وجوه أيضًا:
الأول: أن العلم والخبر لو أوجبا الأشياء وأحالاها كانت الأشياء إما واجبة أو ممتنعة، والواجب والممتنع غير مقدورين؛ فيلزم عدم قادرية الله تعالى، وهو باطل بالإجماع.
الثاني: لو كان العلم نفس القدرة والإرادة إذ لا معنى لهما إلا الصفة المؤثرة المخصصة، وهو محال؛ لامتناع قلب الحقائق.
الثالث: وكان العالم غنيًا عن المؤثر لكونه واجب الوجود في الوقت الذي علم الله وقوعه فيه، وكذا كل حادث، وهو خلاف الإجماع.
كُلِّفُوا بِتَصْدِيقِهِ، وَإِخْبَارُ رَسُولِهِ كَإِخْبَارِ نُوح، عليه السلام، وَلا يَخْرُجُ الْمُمْكِنُ عَنِ الإِمْكَانِ
امتناع بالغير لا ينافي الإمكان بالذات، فلا يكون تكليفهم به تكليفًا بالممتنع لذاته الذي هو محلّ النزاع.
"نعم لو كلفوا" بتصديقه "بعد علمهم" بأنهم لا يصدقونه "لانتفت فائدة التكليف" التي هي الابتلاء والاختبار، وهو لا يتصور مع علم المكلّف بعدم صدور الفعل منه، "ومثله" أي: مثل التكليف بالفعل مع عدم علم المكلف بعدم وقوعه "غير واقع".
هذا
(1)
كلام المصنّف، وهو سَاقِطٌ، ولم يبرح كلّ كافر مأمورًا بالإيمان سواء علم من نفسه أنه يؤمن أم لم يعلم، وهذا مما [لا]
(2)
يَمْتَرِي فيه مُتَشَرّع.
= الرابع: وكانت أفعالنا الاختيارية كالحركات القسرية التي للجمادات؛ وهو باطل بالضرورة.
الخامس: وكان القرآن وسائر الكتب المنزلة على الرسل حجة عليهم لا لهم؛ لأن للكفار أن يجيبوا عن مثل قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} بوجوه:
منها: أنه أخبره عن عدم إيماننا على ما ادعيتم، وخلاف الخبر محال.
ومنها: أنه أراد منا الكفر.
ومنها: أنه خلق فينا الكفر والقدرة عليه.
ومنها: أنه أخبر وأراد، أو أخبر وخلق إلى آخر الخمسة، وقس التركيبات عليه؛ فإنه يخرج وجوه كثيرة.
والجواب عن الأول من السمعيات منع عدم صحة الإنكار بدون المكنة؛ فإن قال: لكونه تكليف المحال.
قلنا: ولم قلت: إنه محال؛ فإنه عين النزاع، وبه خرج الجواب عن الثاني والثالث. وعن أول العقليات بمنع لزوم عدم قادرية الله تعالى وإنما يكون كذلك لو كان المؤثر هو العلم، وهو ممنوع؛ إذ لا يلزم من وجوب الشيء عند العلم لموافقته القدرة الموافقة للإرادة كونه أثرًا له، وبه خرج الجواب عن الثاني والثالث.
وعن الرابع أن الخبر حق، وأفعالنا على ما ادعيت والضرورة معارضة بمثلها.
وعن الخامس غير خاف بعد الإحاطة بما أجبنا به عن السمعيات. ينظر: الشيرازي 144 ب، 145 أ / خ.
(1)
في ت: هنا.
(2)
في ح: لم.
بِخَبَرٍ أَوْ عِلْمٍ، نَعَمْ، لَوْ كُلِّفُوا بَعْدَ عِلْمِهِمْ، لانْتَفَتْ فَائِدَةُ التكلِيفِ، وَمِثْلُهُ غَيْر وَاقِعٍ.
الشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ فِي التَّكلِيفِ
مَسْأَلَةٌ:
حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ شَرْطًا فِي التكلِيفِ قَطْعًا، خِلافًا .........
وأجاب القَرَافِيّ عن قصة أبي جهل
(1)
ونحوه بأن ما تخيل من
(2)
التكليف بالجَمْعِ بين الضدين ليس كذلك، وإنما يكون مكلفًا بالجمع بينهما لو كلف بأن يؤمن وبألّا يؤمن، وليس كذلك، بل الصوابُ حذف "الواو" وأنه كلف بأن يؤمن بألَّا يؤمن، وهو مدلول الأمر بالإيمان. وإذا كان مكلفًا بأن يصدق الخبر بأنه لا يؤمن لا يلزم أن يكون مكلفًا بجعل الخبر صادقًا. ألا ترى أن الصادق إذا أخبرك [أن]
(3)
زيدًا سيكفر غدًا يجب عليك تصديقه، ثم يحرم عليك أن تجعل زيدًا كافرًا، وأبو جهل والحالة هذه إنما كلف
(4)
بأن يصدق بأنه لا يؤمن، سواء كان على الجملة أم على التفصيل، لا بأن يجعل الخبر صادقًا، ويسعى في عدم إيمان
(5)
نفسه.
«مسألة»
الشرح: "حصول الشرط الشَّرْعي ليس شرطًا في التكليف" بالمشروط "قطعًا، خلافًا لأصحاب الرَّأي"، حيث قطعوا بكونه شرطًا.
"وهي مفروضةٌ في تكليف الكفَّارِ بالفروع"
(6)
، وقد جروا على أصلهم،
(1)
عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي: أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأحد سادات قريش وأبطالها ودهاتها في الجاهلية، كان يقال له أبو الحكم كان عنيدًا عنيفًا، حتى كانت وقعة بدر الكبرى، فشهدها مع المشركين، فكان من قتلاها سنة 2 هـ. ينظر: الكامل 2/ 127، وفتح الباري 7/ 293 - 296، وعيون الأخبار 1/ 230، والسيرة الحلبية 2/ 33، ودائرة المعارف الإسلامية 1/ 322، وإمتاع الأسماع 1/ 18، والأعلام 5/ 87.
(2)
في ح: عن.
(3)
في ج: أن.
(4)
في ح: يكلف.
(5)
في ح: إيمانه.
(6)
البحر المحيط للزركشي 3/ 36، والتمهيد للإسنوي ص 364، ونهاية السول له 1/ 369، وزوائد =
لأِصْحَابِ الرَّأْيِ، وَهِيَ مَفْرُوضَةٌ فِي تَكلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ، وَالظَّاهِرُ الْوُقُوعُ. لَنَا: لَوْ كَانَ
فقالو
(1)
: إنه غير مكلّف بها؛ لفقدان الشَّرْط.
وتابعهم من أصحابنا الشَّيخ أبو حامد الإسفراييني.
ثم منهم من منع ذلك عقلًا، ومنهم من منعه سمعًا.
ونحن جرينا على أصلنا في انتفاء القطع بعدم الاشْتِرَاطِ.
"والظَّاهر وقوعه"، وعليه الجمهور.
وقيل: تتعلَّق بهم النَّوَاهي دون الأوامر، وهي أوجه لأصحابنا.
ومنهم من قال: لا خلاف في تعلُّق النَّوَاهي بهم، إنما الخلافُ في الأوامر.
وقيل: المرتدّ مكلّف دون غيره.
وقيل: هم مكلّفون بما عدا الجِهَاد
(2)
، لامتناع قتالهم أنفسهم - والخلافُ جَارٍ في خطاب
= الأصول ص 179، ومنهاج العقول للبدخشي 1/ 203، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 321، والمنخول للغزالي ص 31، والإبهاج لابن السبكي 1/ 177، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/ 285، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 98، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 137، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 213، ونسمات الأسحار لابن عابدين ص 60، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 304.
(1)
في ح: وقالوا.
(2)
الجهاد في اللغة: المبالغة واستفراغ الوسع في الشيء، مشتق من الجهد يقال: جهد الرجل في كذا: أي جدّ فيه وبالغ، ويقال: اجهد جهدك: أي ابلغ غابتك، ومنه قوله تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي بالغوا في اليمين واجتهدوا فيها. وهذا من المعاني الحقيقية لمادة الجهاد، ومن المعاني المجازيّة قول العرب:"سقاه لبنًا مجهودًا، وهو الذي أخرج زبده أو أكثر ماؤة" ويقال: أجهد فيه الشيب: إذا كثر. هذا معناه في اللغة، ثم خص عند الفقهاء.
فالحنفية يرون بأنه: بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله تعالى بالنفس، والمال، واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك.
والشافعية بأنه: المتلقى تفسيره في سيرته صلى الله عليه وسلم.
والمالكية بأنه: قتال مسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى، أو حضوره له، أو دخوله أرضه له. =
شَرْطًا، لَمْ تَجِبْ صَلاةٌ عَلَى مُحْدِثٍ وَجُنُبٍ، وَلا قَبْلَ النِّيَّةِ، وَلا "اللَّهُ أَكْبرُ" قَبْلَ النِّيَّةِ وَلا اللَّامُ قَبْلَ الْهَمْزَةِ؛ وَذلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا.
قَالُوا: لَوْ كُلِّفَ بِهَا، لَصَحَّتْ مِنْهُ. قُلْنَا: غَيْرُ مَحَلِّ النزَاعِ.
التكاليف بأسرها، وفيما يرجع إليها من خطاب الوَضْعِ ككون الطَّلاق سببًا لتحريم الزوجة، فنحن نجعله سببًا، والخصم يخالف فيه.
ولا يجري في إتلافاتهم وجناياتهم، بل هي أسباب للضَّمَان بالإجماع، وكذلك كون وقوع العَقْدِ على الوجه الشرعي سببًا لترتُّب أثره، والإرث، والمِلْك به، وترتب الأموال في [ذممهم]
(1)
وصحَّة أنكحتهم.
وقد قال أبو حنيفة: بصحة أنكحتهم - وهو صدر القائلين بأنهم لا يكلفون بالفروع "لنا" - على الجواز - "لو كان شرطًا لم [تجب]
(2)
صلاة على محدث [ولا]
(3)
جُنُبٍ
(4)
ولا قبل النية ولا الله أكبر قبل النِّية، ولا اللام قبل الهمزة"؛ لانتفاء الشرط، "وذلك باطل قطعًا".
الشرح: "قالوا: لو كلّف
(5)
لصحَّت منه"؛ لأن الصِّحَّة موافقة الأمر، واللَّازمُ منتفٍ.
"قلنا": عين - بالنون كذا ضبطه المصنّف - محلّ النزاع، فإِنَّا نجوز التكليف عقلًا بدون الصِّحة شرعًا.
وفي بعض النّسخ: "غير محلّ النزاع"، ووجه المُغَايرَةِ أنا لا نريد أنه مأمور بفعله حالة كُفْره، نعم يصح منه بأن يؤمن، ويفعل كالمحدث.
= والحنابلة بأنه: قتال الكفار خاصة بخلاف، المسلمين من البغاة وقطاع الطريق وغيره. ينظر: لسان العرب 1/ 710، والمصباح المنير 112، وبدائع الصنائع 9/ 299، وحاشية أبو السعود 2/ 417، ومغني المحتاج 4/ 208، ونهاية المحتاج 8/ 45، والمحلى على المنهاج 4/ 213، وشرح الزرقاني 23/ 106، وكشف القناع عن متن الإقناع 3/ 32.
(1)
في ت: ذمتهم.
(2)
في ج: يجب.
(3)
سقط في ب.
(4)
الجنابة: هي النجاسة، والجنب هو الذي أصابته جنابة أي نجاسة، وذلك بالتقاء الختانين أو الإنزال.
ينظر: القواعد الفقهية (253).
(5)
في ح: قالوا كلفت.
قَالُوا: لَوْ صَحَّ، لأَمْكَنَ الاِمْتِثَال، وَفِي الْكُفْرِ لا يُمْكِنُ وَبَعْدَهُ ...........
الشرح: "قالوا: لو صَحَّ" تكليف الكافر بالصَّلاة مثلًا "لأمكن الامتثال، وفي الكفر [لا يمكن]
(1)
وبعده يسقط"؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله.
"قلنا": ليس الامتثال ممتنعًا، بل "يسلم ويفعل".
والحاصل: أن المكتسبات منها ما يقع ارتجالًا.
ومنها ما يقع بعد مقدمات. وافتقار بعضها إلى مقدّمات مكتسبات لا يخرج الأواخر
(2)
أن تكون ممكنةً متأتية
(3)
.
ومن أمر أن يكتب والقلم في يده، كمن أمر أن يكتب والقلم موضوع بين يديه يمكنه
(4)
أن يتناوله، فالكافر "كالمحدث" يمكنه الصَّلاة بأن يتوضأ.
وقد ارتكب أبو هَاشِمٍ
(5)
هذه المُنَاقضة، وزعم أنه غير مُخَاطب بالصَّلاة، ولو بقي سائر دهره محدثًا، ووافقه ابْنُ خويز مِنْدَاد، وعزاه إلى مالك رضي الله عنه.
وقال إمامُ الحَرَمَيْنِ: التحقيق أنَّ الكافرَ يستحيل أن يخاطب بإنشاء فرع على الصحة، وكذلك كُلّ ما يقع آخرًا من العقائد في حَق من لا يصح عقده في الأوائل، وكذا المحدث يستحيل أن يخاطب بإنشاء الصَّلاة الصحيحة مع بقَاءِ الحدث، ولكن هؤلاء يخاطبون بالتوصّل إلى ما يقع آخرًا، ولا ينجز الأمر عليهم بإيقاع المشروط قبل وقوع الشرط - إذا مضى من الزَّمان ما يسع الشَّرط والمشروط والأوائل والأواخر، فلا يمنع أن يعاقب الممتنع على حكم التَّكليف معاقبة من يخالف أمرًا توجّه عليه ناجزًا، فمن أبى
(6)
ذلك قضى عليه قاطع الفعل
(7)
بالفَسَاد، ومن جَوّز
(8)
تنجيز الخِطَابِ بإيقاع المشروط قبل وقوع الشرط، فقد سوّغ تكليف ما لا يُطَاق، ومن أراد أن
(1)
في ب: لأمكن.
(2)
في ت: الأوائل.
(3)
في ح: متباينة.
(4)
في ح: يمكن.
(5)
عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، من أبناء أبان مولى عثمان: عالمٌ بالكلام، من كبار المعتزلة، له أراء انفرد بها، وتبعته فرقة سميت "البهشمية" نسبة إلى كتيته "أبي هاشم" وله مصنفات "الشامل" في الفقه، و"تذكرة العالم"، و"العدة" في أصول الفقه. ينظر: المقريزي 2/ 348، ووفيات الأعيان 1/ 292، والبداية والنهاية 11/ 176، والأعلام 4/ 7.
(6)
في أ، ب: أتى.
(7)
في أ، ت: العقل.
(8)
سقط في ح.
يَسْقُطُ. قُلْنَا: يُسْلِم، وَيَفْعَلُ كَالْمُحْدِثِ. الْوُقُوعُ {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [سورة النساء: الآية 30]، {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [سورة المدثر: الآية 43].
يفرّق بين الفروع وآخر العقائد، وبين صلاة إلى حدث وهو مبطل قطعًا.
ثم ذكر مقالة أبي هَاشِمٍ ثم قال: إن أراد ما ذكرناه فهو الحقُّ الذي لا خفاءَ فيه، وإن أراد ألَّا يعاقب على ترك الصَّلاة لتركه
(1)
التوصُّل إليها فقد خرق إجماعَ الأمةِ.
وهذا من الإمام تحقيق لمقالة أصحابنا، ومن بحره اغترف ابن برهان فقال: ترجمة المسألة بأن الكُفَّار مخاطبون بفروع الإيمان خطأ؛ لأن الصلاة غير صحيحة من الكافر، وهو منهي عنها، فكيف يخاطب بها؟.
وقد اشتمل كلام الإمام هذا على دفع شُبْهَةِ الخصوم، إذ قالوا: هو غير مخاطب بالصلاة مثلًا؛ لأنه في الزَّمَان الأول وهو حين بلوغه [لا]
(2)
يمكن أن يكون مخاطبًا بأن الإيمان والصَّلاة معًا؛ إذ الزمان يضيق عنهما، ولا بالصَّلاة فقط، لأنها مشروطة بالإيمان [فيما بقي إلا أن يكون مكلَّفًا بالإيمان]
(3)
فقط.
والقول في ثاني الزَّمَان كالقول في أوله، فلا خِطَابَ بالفروع أصلًا، ووجهه أنه مكلف بالإيمان في الزمان الأول، والصلاة في الثاني، فإذا مضى زمانها عوقب على تركهما كالمحدث، يخاطب بالطَّهَارة والصَّلاة، فإذا تركهما عوقب عليهما.
فإن قلت: لو مضى الزمان الأول لا يعصي عند الإمام إلا بالكُفْر فقط، ويعصي عند الأصحاب به وبالفروع.
قلت: قال الإمام: لو أثم بالفروع والفرض أنها غير ممكنةٍ كان تكليفًا بما لا يُطَاق، هذا منتهى الكلام في دليل الجواز.
وأما "الوقوع" فدليله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ "وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [سورة الفرقان: 68] وأشار بذلك إلى جميع ما تقدم، وإن كان ظاهرها أنها لفظ مفرد لا يعود إلا على مفرد، وإلا يلزم أن يضيق ذكر القتل والزنا.
(1)
في أ، ح: كتركه.
(2)
سقط في أ، ت.
(3)
سقط في ح.
قالُوا: لَوْ وَقَعَ، لَوَجَبَ الْقَضَاءُ، قُلْنَا: الْقَضَاءُ بِأَمْر جَدِيدٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُقُوعِ التكلِيفِ وَلَا صِحَّتِهِ رَبْطٌ عَقْلِيٌّ.
وقوله -تعالى- حكاية عنهم: " {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [سورة المدثر: الآية 43] "، عللوا دخول النَّار بترك الصَّلاة فدلَّ على أنهم مخاطبون بها.
وأوضح
(1)
من هاتين الآيتين
(2)
عندي في الدلالة على تكليفهم قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [سورة النحل: 88]؛ إذ لا ريب في أن زيادة هذا العَذَاب إنما هو بالإفساد الذي هو من وراء الكفر.
الشرح: "قالوا: لو وقع" تكليفهم بالفروع "لوجب" عليهم "القضاء".
قلنا: القضاء "بأمر جديد، فليس بينه وبين وقوع التَّكليف ولا صحته ربط عَقْلي" بحيث يلزم من وجودهما وجوب القضاء.
وهذه الشُّبهةُ هي الحاملة لأبي حامد الإسفراييني على اختيار تكليف الكُفَّار بالفروع.
ونقول تفريعًا على أن القضاء بالأمر الأول: قال أصحابنا: إن المرتد يقضي صلاة أيام الردة وهو كافر، وأما من عداه فإنما سقط القَضَاء بقوله
(3)
تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [سورة الأنفال: الآية 38] وقوله عليه السلام: "الإِسْلَامُ يَجُا ما قَبْلَهُ"
(4)
.
"فروع"
قال الأستاذ أبو إسحاق: يجب على الحَرْبِيّ ضمان النَّفس والمال، تخريجًا من [أن]
(5)
الكُفَّار مخاطبون بالفروع، وعزاه إلى المُزَني في "المنثور"، والصحيح خلافه.
إذا اغتسلت الذِّمّية لتحل لمن يحل له وطؤها من المسلمين، فهل يجب عليها إعادة الغسل إذا أسلمت؛ فيه وجهان.
لو اغتسل الكافر عن جنابة أو توضأ أو تيمَّم، ثم أسلم فالصَّحيحُ وجوب الإعادة. في لُبْث الكافر والجنب [في المسجد]
(6)
وجهان.
(1)
في ح: واضح، وهو تحريف.
(2)
في أ، ح: الاثنين.
(3)
في أ، ب: لقوله.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 199، 204، 205 وابن سعد في الطبقات 7/ 2/ 191، والبيهقي في الدلائل 4/ 351، وابن كثير في التفسير 3/ 596، والزبيدي في الإتحاف 9/ 609، وابن عساكر كما في "التهذيب" 5/ 100، والعجلوني في "الكشف" 1/ 140، والمتقي الهندي في الكنز 243، (37024).
(5)
سقط في ح.
(6)
سقط في ح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المذهب أنا لا نأخذ في الجِزْيةِ، وفي ثمن الشِّقْصِ المشفوع، فما تَيَقَّنَا أنه من ثمن الخمر.
وفيه وجه: التصرف في الخمر حرام عليهم عندنا خلافًا لأبي حنيفة
(1)
.
(1)
اتفق الفقهاء على أن الخمر التي من نيء عصير العنب المشتد يحرم على المسلم المكلف العالم بها وبتحريمها التصرف فيها بأي نوع من أنواع التصرف، وأنه لا ضمان على من أتلفها عليه أو غصبها منه، سواء أكانت محترمة أم غير محترمة، ونقل النووي في المجموع أن الشيخ أبا علي السّنجي "بكسر السين المهملة وبالجيم" حكى وجهًا في الخمر المحترمة بصحة بيعها؛ بناء على الشاذ في طهارتها، فإن صح عنه فهو محجوج بالإجماع. واختلفوا في التصرف في النبيذ وضمانه:
فذهب الجمهور إلى حرمة الانتفاع والتصرف في سائر الأنبذة المسكرة وأنه لا ضمان على من أتلفها على المسلم المذكور.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الأنبذة الثلاثة المحرمة عنده مما سوى الخمر يحرم الانتفاع بها، ويجوز التصرف فيها بمعنى أنه يترتب عليه الأثر لا بمعنى الحل بالبيع ونحوه، وعلى من أتلفها على المسلم الضمان بالقيمة لا بالمثل.
وذهب الصاحبان إلى أن الأنبذة الثلاثة المحرمة يحرم الانتفاع بها والتصرف فيها بالبيع ونحوه، ولا يضمن من أتلفها على المسلم، أما غير تلك الأنبذة الثلاثة فيجوز التصرف فيها، وعلى من أتلفها أو غصبها الضمان. "الأدِلَّة" للجمهور: استدل الجمهور بالسنة والأثر والمعقول: أمّا السنة فمنها ما يأتي:
ما رواه مسلم، وأحمد، والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس، فلقيه يوم الفتح براحلة أو راوية من خمر يهديها إليه، فقال:"يا فلان أما علمت أن الله حرمها؟ " فأقبل الرجل على غلامه، فقال: اذهب فبعها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الذي حرم شربها حرم بيعها"، فأمر بها فأفرغت في البطحاء.
وما رواه الحميدي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فأهداها إليه عامًا وقد حرمت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنها قد حرمت" فقال الرجل: أفلا أبيعها؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها"، قال: أفلا أكارم بها اليهود؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود"، قال: فكيف أصنع بها؟ قال: شنها على البطحاء.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بحرمة بيع الخمر وإهدائها كما صرح بحرمة شربها، ولم يبح الانتفاع بها بأي وجه، ولو بالإهداء إلى اليهود؛ كيلا تعود بفائدة على المهدي مكافأة له على هديته، ولذلك أمر أصحابه بإراقتها وإتلافها إهانة لها، ولو كانت مالًا متقومًا منتفعًا به شرعًا لما أمر بإراقتها؛ لأن فيه إضاعة للمال، وقد نهى عن إضاعته، وإذا لم تكن الخمر مالًا متقومًا منتفعًا به شرعًا، فلا يجب الضمان على من أتلفها على المسلم أو غصبها منه، وقد سبق أن كل شراب مسكر يسمى خمرًا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال في "التتمة": وهو مبني على هذا الأصل.
= من غير فرق بين المتخذ من عصير العنب المشتد وغيره. وإذا حرم شربها وبيعها وإهداؤها فلتحرم سائر التصرفات فيها. وأما الأثر فمنه ما يأتي:
ما ذكره الشافعي في كتاب الأم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بلغ عمر بن الخطاب أن رجلًا باع خمرًا، فقال عمر: قاتل الله فلانًا باع خمرًا، أوَما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها وباعوها"؟.
وما روى ابن حزم عن طاوس أنه سئل عن الطلاء فقال: أرأيت الذي مثل العسل تأكله بالخبز، وتصب عليه الماء فتشربه، عليك به، ولا تقرب ما دونه، ولا تشتره ولا تبعه، ولا تسقه، ولا تستعن بثمنه.
وجه الدلالة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا على من باع الخمر بقوله: قاتل الله فلانًا - وهذه الجملة لا تذكر في العرف غالبًا إلا لمن ارتكب محرما، ورأيت في "لسان العرب" أن الذي باع الخمر سمرة رضي الله عنه فقال عمر: قاتل الله سمرة. قال الخطابي: إنما باع عصيرًا ممن يتخذه خمرًا، فسماه باسم الخمر مجازًا باعتبار ما يؤول، إليه كما قال تعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} فلهذا نقم عمر عليه. وأما أن يكون سمرة باع خمرًا فلا؛ لأنه لا يجهل تحريمه مع اشتهاره
…
وكذلك طاوس يجيب سائله بقوله في الطلاء المشتد الذي لم ينعقد ولم يصر كالعسل لا تبعه ولا تشتره ولا تستعن بثمنه إلى آخره؛ فدل ذلك على أن الأنبذة المسكرة المتخذة من غير عصير العنب يحرم التصرف فيها بالبيع ونحوه.
وأما المعقول فقالوا: الأنبذة المسكرة يحرم التصرف فيها والانتفاع بها، ولا ضمان على من أتلفها على المسلم كالخمر التي من نيء عصير العنب.
وللإمام السنة والمعقول. أما السنة فما سبق أن استدل به الجمهور، وقال في توجيهها: صرح النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحاديث بحرمة بيع الخمر وإهدائها، والخمر هي النيء من عصير العنب المشتد، وما عداها من الأنبذة المسكرة لا تسمى خمرًا، ولا يثبت لها من الأحكام إلا ما أثبته الدليل من حرمة الشرب ووجوب الحد في السكر منها كما سيأتي.
وأما المعقول فقال: إن البيع مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه، قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} وهذا متحقق في النبيذ؛ لأنه مرغوب فيه، والمال اسم لما هو مرغوب فيه إلا أن الخمر مع كونها مرغوبًا فيها لا يتصرف فيها بالبيع ونحوه؛ للنص الوارد فيها، والنص ورد باسم الخمر، فيقتصر على مورد النص.
واستدل الصاحبان بالمعقول فقالا: إن محل البيع هو المال، والمال اسم لما يباح الانتفاع به حقيقة وشرعًا، ولم يوجد في الأنبذة المحرمة، فلا تكوّن مالًا، فلا يجوز بيعها كالخمر. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إذا دخل الكافر الحرم، وقتل صيدًا لزمه الضمان.
= المناقشة: ورد على الإمام في السنة أنا لا نسلم أن اسم الخمر خاص بالنيء من عصير العنب المسكر حتى تقصر الأحكام عليه، لما سبق أن كل شراب مسكر يسمى خمرًا من أي مادة اتخذ، لا فرق بين ما كان متخذًا من نيء عصير العنب، المشتد وما كان من غيره، وقد وافق الإمام الجمهور على حرمة الانتفاع بهذه الأنبذة المسكرة، والبيع ونحوه انتفاع بها، وقد روي عن أبي هريرة عند أبي داود، وعن ابن عباس عند ابن حبان، وعن ابن مسعود عند الحاكم، وعن بريدة عند الطبراني في الأوسط: من طريق محمد بن أحمد بن أبي خيثمة بلفظ: "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو من يتخذه خمرًا فقد تقحم النار على بصيرة" حسنه الحافظ. وإذا كان هذا وعيد من يمسك العنب الحلال ليبيعه ممن يتخذه خمرًا، فما يكون وعيد من يمسك النبيذ الحرام ويبيعه لينتفع بثمنه؟ ورد عليه في المعقول أن محل البيع الشرعي إنما هو المال المتقوم المباح الانتفاع به حقيقة وشرعًا، ولم يتحقق هنا شرط المحل، وهو الانتفاع به شرعًا بالاتفاق؛ فلا يجوز بيعها كالخمر؛ لأن البيع ونحوه انتفاع أيما انتفاع. وكون البيع اللغوي مبادلة شيء مرغوب فيه بآخر مرغوب فيه لا يقتضى حل بيعها شرعًا؛ لأن الشارع اعتبر لحقيقة البيع الشرعي شروطًا لا تتحقق الحقيقة الشرعية بدونها، ككون المبيع مالًا متقومًا منتفعًا به شرعًا، وهذه الأشربة ليست كذلك عند الإمام. على أن هذا نظر، والنظر لا يقاوم الأخبار والآثار الصحيحة الصريحة في النهي عن الانتفاع بها من البيع والإهداء ونحوهما، وعموم النصوص شامل لكل شراب مسكر من غير فرق؛ لما سبق أن الأصح في اسم الخمر العموم لغة لكل شراب مسكر.
ورد على الصاحبين أن قصر الأحكام على بعض الأشربة المسكرة دون بعض تحكم بعدما سبق عن الدليل الدال على عموم اسم الخمر لكل شرب مسكر من أي مادة اتخذ، وكما ألحق الصاحبان هذه الأنبذة الثلاثة بخمر عصير العنب المشتد يلزمهما أن يلحقا بها سائر الأنبذة المسكرة حيث لم يقم دليل على التخصيص، والدي نختاره حرمة التصرف في كل مسكر بأي نوع من أنواع التصرف؛ لورود الأخبار الصحيحة الدالة على حرمة إمساكها ووجوب إتلافها وحرمة بيعها وشربها واهدائها، ولم تفصل الأخبار بين نوع من الشراب المسكر وآخر منه، ولا بين المحترمة وغيرها، ولو كان ما حرمه الله ورسوله مالًا محترمًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظه ونهى عن إضاعته، وقد علمنا مما تقدم أن اسم الخمر شامل لغة لكل شراب مسكر من أي مادة اتخذ من غير فرق بين المتخذ من نيء عصير العنب والمتخذ من غيره؛ فإن لم يسلم ذلك لغة فالجميع خمر شرعًا يحرم الانتفاع بها بأي وجه من أوجه الانتفاع ومنه البيع والإهداء وما ماثلهما. بقول الرسول عليه الصلاة والسلام:"كل مسكر خمر" وقوله: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" وقوله: "إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود" كما سبق في الأحاديث. =
لا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ
(1)
مَسْأَلَةٌ:
لا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ
؛ فَالْمُكلَّفُ بِهِ فِي النَّهْي كَفُّ النَّفْسِ عَنِ ...........
وقال صاحب "المهذب": يحتمل لا.
«مسألة»
الشرح: "لا تكليفَ إِلَّا بفعلٍ" - سواء كان في الأمر أم النهي.
= هذا، والقول بإباحة التصرف فيها بالبيع ونحوه ينافيه أنه إعانة على المعصية للمشتري أو المهدى إليه، والإعانة على المعصية حرام قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وإذا لم تكن الأشربة المحرمة مالًا متقومًا محترمًا منتفعًا به شرعًا فلا ضمان على من غصبها أو أتلفها على المسلم؛ لأنها واجبة الإتلاف، وقد سبق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توعد من أمسك العنب الحلال ليبيعه ممن يتخذه خمرًا بأنه يتقحم النار على بصيرة، فأولى بالتوعد من يمسك المسكر ويتصرف فيه بالبيع وغيره.
هذا، وقد اختلفوا في تعامل الذميين بها وشربهم لها: فذهب الجمهور إلى الحرمة. وذهب الحنفية إلى عدمها.
قال النووي في "المجموع": "بيع الخمر وسائر التصرفات فيها حرام على أهل الذمة كما هو حرام على المسلم. وقال أبو حنيفة لا يحرم ذلك عليهم، قال المتولى: المسألة مبنية على أصل معروف في الأصول، وهو أن الكافر عندنا مخاطب بالفروع وعندهم ليس بمخاطب وموضع تحقيق هذا المبحث علم الأصول. فإن قيل: إنك في بحث النجاسة أو الطهارة اخترت القول بالطهارة، فكيف تحرم التصرف في الخمر بالبيع ونحوه؟.
قلنا: إنه لا تلازم بين الطهارة وصحة البيع الشرعي ونحوه، فكم من أشياء طاهرة ويحرم التصرف فيها شرعًا بالبيع وما شاكله؛ ألا ترى أن الأصنام المصنوعة من الطاهر كالخشب، والحجر، والذهب، والفضة طاهرة إجماعًا وبيعها حرام شرعًا؛ ومثله سائر التصرفات فيها؛ لأنها واجبة الإتلاف ولنهي الشرع عن بيعها. روى جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: با رسول الله أرأيت شحوم الميتة؛ فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؛ فقال: "لا، هو حرام"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"قاتل الله اليهود، إن الله لمّا حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه". رواه الجماعة: جملوه بفتح الجيم والميم أذابوه يقال: جَمَله إذا أذابه، والجميل الشحم المذاب. ينظر: الهداية 8/ 157، ونيل الأوطار 5/ 120، 131، 8/ 144، والمحلى 7/ 498، والبدائع 5/ 115، والمجموع 2/ 578.
(1)
ينظر: شرح العضد 2/ 13، والمستصفى 1/ 90، وشرح الكوكب المنير 1/ 490، وحاشية البناني=
الْفِعْلِ، وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ وَكَثيرٍ: نَفْيُ الْفِعْلِ. لَنَا: لَوْ كَانَ، لَكَانَ مُسْتَدْعًى حُصُولُهُ مِنْه، وَلا
فإن قلت: "فالمكلف"، "في النهي" كيف، يكون فعلًا، وهو طلب ترك الفعل.
قلت: المطلوب بالنهي "كَفّ النَّفس عن الفعل"، والكَفّ فعل.
"وعن أبي هاشم وكثير" أن المكلف به في النهي "نفي الفعل".
"لنا: لو كان" الانتفاء هو المَطْلُوب لكان "يستدعى حصوله منه، ولا يتصور" ذلك؛ "لأنه غير مقدور له"؛ لكونه عدمًا، والعدم لا يكون مقدورًا.
"وأجيب بمنع أنه - أي: العدم - "غير مقدور له"؛ فإن القادر على الزّنا قادرٌ على تركه، وهذا "كأحد قولي القاضي" أبي بكر: إن عدم الفعل مكتسب للعبد.
"ورد" المنع "بأنه" - أي: الفعل - "كان معدومًا، واستمر"، فكيف يكون مقدورًا "والقدرة تقتضي أثرًا عقلًا"، والعدم ثابت قبلها فكيف يَكون أثرًا لها؟
"وفيه نظرٌ"، فقد يقال: لا نسلّم أن استمراره لا يصلحُ أثرًا للقدرةِ؛ إذ هو متمكن من ألَّا يفعل فيستمر، ومن أن يفعل فلا يستمر.
وأيضًا فأثره أنه لم يشأ فلم يفعل، وهذا كافٍ في كونه أثرًا، وأما وجوب أن يفعل شيئًا فلا.
وأنا قد وقعت على دليلين يدلّان على أن الكَفّ فعلٌ.
أحدهما: قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [سورة الفرقان: الآية 30] إذ الاتخاذ "افتعال"، والمهجور: المتروك.
والثاني: ما رواه أبو جُحَيفَةَ السُّوَائيّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُّ الأَعْمَالِ خَيْرٌ؟ " فسكتوا قال: "حِفْظُ اللِّسَانِ".
"فرع"
نقل الرَّافعي عن القَفَّال فيمن قال لزوجته: إن [فعلت]
(1)
ما ليس لله فيه رضا فأنت طالق، فتركت صومًا أو صلاةً أنه ينبغي ألَّا تطلق
(2)
؛ لأنه ترك وليس بفعل، فلو سرقت أو زَنتْ طلقت.
= 1/ 213، وتيسير التحرير 2/ 135، وفوات الرحموت 1/ 132، والقواعد والفوائد ص (62)، والإحكام للآمدي 1/ 136.
(1)
سقط في ت.
(2)
في أ، ت، ح: يطلق.
يُتَصَوَّرُ؛ لأِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ. وَأُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَه، كَأَحَدِ قَوْلَي الْقَاضِي، وَرُدَّ بِأَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا، وَاسْتَمَرَّ، وَالْقُدْرَةُ تَقْتَضِي أَثَرًا عَقْلًا، وَفِيهِ نَظَرٌ.
هَلْ يَنْقَطِعُ التَّكلِيفُ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ؟
مَسْأَلةٌ:
قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: لا يَنْقَطِعُ التَّكلِيفُ بِفِعْل حَالَ حُدُوثِهِ، وَمَنَعَه، ...........
"فرع [آخر] "
(1)
لو منع مالكُ الطَّعام عن المضطر فمات جوعًا، فلا ضمانَ؛ لأنه لم يحدث منه فعل مهلك.
وقال صاحب "الحاوي": لو قيل
(2)
يضمن الدية كان مذهبًا؛ لأن الضرورة أثبتت له في ماله حقًّا بدليل أنه يجب عليه أن يطعمه فكأنه منع منه طعامه.
"مسألة"
الشرح: "قال" الشَّيخ "الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعل حال حدوثه"، بل يبقى تعلُّق التكليف كما كان.
"ومنعه الإمامُ والمعتزلةُ
(3)
.
فإن أراد الشيخ أن تعلّقه"
(4)
بالفعل "بنفسه، فلا ينقطع" فحق، لكنه يلزم ألَّا ينقطع التكيف بعد الفعل لنقل هذا التعلق "بعده أيضًا"، وهو باطل إجماعًا، والشيخ أجلّ من أن يريد هذا، "وإن أراد أن تنجيز التكليف به باقٍ" - وهو مراده بلا شَكّ - "فتكليف" بالمحال؛ إذ هو تكليف "بإيجاد الموجود وهو مُحَال، ولعدم صحَّة الابتلاء، فتنتفي فائدة التكليف"؛ لأن الابتلاء إنما يتصوّر عند التردّد، وعند تحقق الفعل لا تردد.
(1)
سقط في ح.
(2)
في ب: قتل.
(3)
ينظر: الإحكام للآمدي 1/ 137، وشرح العضد 2/ 14، والمحصول 1/ 2/ 456، والمعتمد 1/ - 179، وشرح الكوكب المنير 1/ 495، وإرشاد الفحول ص (11)، وتيسير التحرير 2/ 141، وفواتح الرحموت 1/ 134.
(4)
في أ، ت، ح: يعلقه.
الإِمَامُ وَالْمُعْتَزلَة، فَإِنْ أَرَادَ الشَّيْخُ أَنَّ تَعَلُّقَهُ لِنَفْسِهِ، فَلا يَنْقَطِعُ بَعْدَهُ أَيْضًا، وَإِنْ أَرَادَ أَن تنجِيزَ التَّكلِيفِ بَاقٍ، فَتَكْلِيفٌ بإِيجَادِ الْمَوْجُودِ، هُوَ مُحَالٌ، وَلعَدَمِ صِحَّةِ الاِبْتِلاءِ، فتَنْتَفِي فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ.
"قَالُوا: مَقْدُورٌ حِينَئذٍ بِاتِّفَاقٍ؛ فَيَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ. قُلْنَا: بَلْ يَمْتَنِعُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
ولقائِلٍ أن يقول: إنما يستحيل لو أريد بكونه مأمورًا أنه مطلوبُ مقتضى، وليس ذلك المراد كما سيأتي.
سلمنا أنه المراد، ولكن إنما يكون الفعل موجودًا عند تمامه؛ لأن المركب ينتفي بانتفاء جزء منه، فالصلاةُ مثلًا إنما تكون موجودة إذا تحققت في الخارج، وذلك عند انقضائها وهو
(1)
ما لم يَنْتَهِ إلى آخرها مأمور بها مطلوبة منه، وليست حاصلة، ضرورة أنها إنما تحصل عند آخر جزء منها، فلا يلزم تحصيل الحاصل.
الشرح: "قالوا" - يعني - ناصري الشيخ -: "مقدور" للمكلّف [حينئذٍ]
(2)
باتفاق" - منا ومن المعتزلة أما عندنا فلأن القدرة حال الفعل.
وأما عندهم، فهي موجودةٌ قبل، وفي الحال "فيصحُّ التكليف به".
"قلنا: بل يمتنع" بقاؤه - أي: بقاء التكليف - "بما ذكرناه" من لزوم تحصيل الحاصل، وانتفاء فائدة التكليف.
واعلم أن المسألة
(3)
من عظائم الكلام، ودقائق أحكام القدر، وهي قليلة الجدوى في الفقه.
وقد وافق الإمام فيها المعتزلة وأغلظ القَوْل في شيخ الجَمَاعة، وادعى احتياطة مذهبه، وتابعه الآمدي والمصنف.
ونحن نذكر الخِلافَ فنقول: للفعل أحوال: استقبال، وحال، ومضي.
أما الاستقبال: فالفعل يوصف قبل وجوده بأنه مأمور به، ومقتضى، ومطلوب، ومرغَّب فيه، ومحضوض
(4)
عليه، وطاعة.
(1)
في أ، ت، ح: فهو.
(2)
سقط في ت.
(3)
في ت، ح: مسألة.
(4)
في أ، ت، ح: مخصوص.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الحال: فلا يصح وصف الفعل فيه بأنه مقتضى، ومرغب فيه، ومحضوض عليه]
(1)
؛ لأن الطلب والاقتضاء، وما في معنى ذلك إنما يتصور فيما لم يوجد، والموجود حاصل، والحاصلُ لا ينتفي، ويصح وصفه بأنه طاعة، وهل يوصف بأنه مأمور به حال وقوعه؟.
قال أصحابنا: نعم، ونفاه المعتزلة.
وأما الماضي: فلا خلاف أنه لا يوصف بهذه الأوصاف إلا مجازًا إطلاقًا باعتبار ما كان.
فإذا قلنا: إنه حال الإيقاع وقبله مأمور به على مذاهبنا، فهل يتعلّق الأمر بهاتين الحالتين تعلّقًا مساويًا؛ اختلف أئمتنا فيه.
فمنهم
(2)
من قال: هما سواء، والأمر متعلّق بالفعل في الحالتين تعلّق إلزام.
ومنهم من قال: أما حال الوقوع فتعلّق إلزام، وأما قبله فتعلّق إعلام، وأكثرنا على القول الأول.
والإمامُ الرَّازي وأتباعه على الثاني، وهو مقتضى نقل إمام الحرمين عن الأصحاب، إذا عرفت هذا، فقد صار الإمام وتلميذه الغَزَالي في هذه المسألة إلى رأي المعتزلة، ورأيا أن الفعل حال الإيقاع لا يتعلّق الأمر به، ثم اختلفت الطرق
(3)
بهم.
فالمعتزلة: بَانُون على أصلهم من تقدّم القدرةِ على الفِعْل، وانقطاع تعلّقها حال وجوده.
والإمام كاد يوافقهم؛ لأنه يقول: ما ليس بمقدور لا يؤمر به من يثبت
(4)
قدرته ويقول
(5)
: الحال غير مقدور، فلزمه تقديم القُدْرَةِ، فصرح من أجلها بتوجه الأمر قبل الفعل وانقطاعه معه.
وأما الغزاليُّ، فإنه سلَّم مقارنة القدرة للمقدور، ووافق مع هذا على انتفاء الأمر حال الوقوع، فوافقنا في الأصل، وخالفنا في الفرع، ثم اعتمد هو وإمامه على أن حقيقة الأمر الاقتضاء والطلب، والحاصل لا يطلب
(6)
.
وجوابهما معروف ممَّا قدمناه في نَقْلِ المذاهب، فإنَّا سلَّمنا أنه غير مقتضى حال الإيقاع،
(1)
سقط في أ، ت، ح.
(2)
في ت: فمنعهم.
(3)
سقط في ت.
(4)
في أ، ح: ثبتت.
(5)
في أ، ت، ح: وتقول.
(6)
في ت، ح: يتطلب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولكنه مع هذا مأمور به بمعنى أنه طاعة - وامتثال
(1)
، ولا ينكر أحد كونه طاعة وامتثالًا؛ لأن الطاعة موافقة الإرادة، والإرادة يصح
(2)
عندهم أن تقارن المراد، وإذا ثبت كونه طاعة ومرادًا صح كونه مأمورًا به، ويكون للأمر فائدتان. الاقتضاء، ثم كون الفعل الموقع طاعة، وهذه الإفادة حاصلة حال الإيقاع كما تحصل
(3)
قبله.
والإمام والغزالي ومن تبعهما كالمصنّف، قد رأوا أن لا حقيقة له [إلَّا في]
(4)
الاقتضاء فإذا بطلت الحقيقة بطل في نفسه.
وأما مخالفة إمام الحرمين لنا في تقدُّم القدرة على الفعل، فإنه اعتل بأن القدرة هي التمكن، والتمكن لا يكون حال وجود الفعل، بل قبله.
وهذا من دقائق ما يذكر في علم الكَلامِ، فلا نطيلُ هنا باستيفاء القول فيه.
والشَّيخُ يقول: القُدْرَة المحدثة لا تتقدم المقدور، والأمر يتقدم الفعل، ويقارنه كما عرفت.
فقال الإمام ملزمًا له على هذا: إن المكلف في حال قعوده مأمور بالقيام باتفاق أهل الإسلام، والقيام غير مقدور له قبل شروعه فيه مع كونه مأمورًا به، فقد صار المأمور به غير مرتبط بكونه مقدورًا عليه، فلا وَجْه لبنائه المسألة على أن المكلف إذا اشترط كون قدرته تفارق المقدور صح كون الفعل مأمورًا به حال وجوده لكونه مقدورًا حينئذ، لأنا أريناه أن المأمور به يكون غير مقدور عليه.
هذا حاصل كلام الإمام.
وردّه المَازِرِيُّ بأنه يلزم الشيخ حيث يستدلّ على صحَّة تعلّق الأمر بالحادث لتعلّق القدرة أن يقول: [لا يتعلّق]
(5)
قبل، لعدم تعلق القدرة به، وهو استدلالٌ بالعَكْسِ.
قال: وهو باطل على سائر المذاهب، ألا ترى أنا نستدل على وجود البَارِي بوجود أفعاله، ولا يلزم من عدمها عدمه.
قال: فكذلك [لا يقال]
(6)
للأشعري إذا استدللت على حصول الأثر بحصول القدرة،
(1)
في أ، ت، ح: إمساك.
(2)
في ب، ح: تصح.
(3)
في ت، ح: يحصل.
(4)
سقط في أ، ب، ت.
(5)
في أ، ت، ح: تتعلق.
(6)
سقط في ت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فاستدل على انتفاء الأمر بانتفاء القدرة، وإذا استدللت بهذا أريناك نقيضه؛ لأن القاعد مأمور بالقيام، وقدرته معدومة عليه، وهذه القُدْرَةُ انعدمت، ولم ينعدم الأمر.
قال المَازِرِيُّ: وكلّ من نظر بعينِ الإنصاف علم صحَّةَ ما بَيَّناه، وأن الإمام لم ينصف الرجل في إلزامه كيف وهو يعني الإمام وقد نبَّه على أن الأشعري لم يمنع تقدم القدرة على الفعل بمعنى يعود إلى حقيقة تعلّقها بالأفعال، ولكن من حيث إنها عرض، والعرَضُ لا يبقى زمانين، فلو فرضناها متقدمة، وانعدمت في الثَّاني من حال وجودها قبل إيقاع المقدور بها، فلا فائدة فيها، ولا تأثير لها، وإن فرضناها باقيةً أبطلنا أصلنا في أن الأعراض لا تبقى زمانين
(1)
.
قلت: وكلام الإمام يقتضي أن القائل بهذه المَقَالَةِ لا يقول بتوجّه الأمر قبل الفعل، إلا على سبيل الإعلام دون الإلزام، كما قدمته، وعلى هذا لا يكون استدلاله استدلالًا بالعكس، بل نقض على دعوى أن الأمر لا يتوجّه قبل المُبَاشرة بأن القاعد مأمور بالقيام إجماعًا ويصح مقاله
(2)
، وقد ألزم صاحب هذه المقالة أيضًا بأن أحدًا لا يعصي بترك المأمور؛ لأنه إن أتى به، فذاك وإلا فهو غير مكلف.
وجواب هذا عندنا، أن الأمر بالشَّيء نهي عن ضده على أصل شيخنا. والتارك مباشر للترك، وهو فعل منهي حرام قائم من هذه النَّاحية، لكن مساق هذا أن تارك الصلاة مثلًا غير مكلف بالصلاة، بل بترك ترك الصَّلاة الذي يلزمه الصلاة.
والإمام قد ادعى الإجماع على أن القاعد مأمور بالقيام، فإن أمكن ردَّه إلى ترك الترك كما قررناه فلا إشكالَ، وإلَّا فهو معدم على القول بذلك.
وقد يقال: ترك الترك هو نفس الصلاة
(3)
، وإذا تأملت ما ألقيت إليك علمت اندفاع ترديد المصنّف، وأن الشيخ لم يرد إلا تنجيز التكليف، ولا يلزم عليه ما ذكره، لأنه لم يقل بأن الاقتضاء قائم في إيجاد
(4)
الموجود، بل إنه مأمور به كما عرفت، ولكن [لم]
(5)
قلتم: إن كل مأمور به مقتضى؟ سلمنا أن كل مأمور به مقتض، ولكن لم قلتم: إنه يستلزم تحصيل الحاصل، وتقريره قد عَرفْتَه.
(1)
في أ، ب، ت، ج: وقتين.
(2)
في ت، ح: كلامه.
(3)
في ت: للصلاة.
(4)
في ب: اتحاد.
(5)
سقط في ح.
الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ
مَسْأَلةٌ:
الْفَهْمُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ. وَقَالَ بِهِ بَعْضُ مَنْ جَوَّزَ الْمُسْتَحِيلَ؛ لِعَدَمِ الاِبْتِلاءِ. لَنَا: لَوْ صَحَّ، لَكَانَ مُسْتَدْعى حُصُولُهُ مِنْهُ طَاعَةً، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَصَحَّ تكلِيفُ الْبَهِيمَةِ؛ لأِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْفَهْمِ.
قَالُوا: لَوْ لَمْ يَصِحَّ، لَمْ تقَعْ، وَقَدِ اعْتُبِرَ طَلاقُ السَّكْرَانِ وَقَتْلُهُ .............
"مسألة"
الشرح: "الفهم شرطُ صحة التكليف".
قال به
(1)
من جوز المستحيل"، وادعى بعضهم الوفاق على ذلك، وهو ما ذَكَرَهُ القاضي في "التقريب"؛ "لعدم الابتلاء" الذي به تَحْصُل
(2)
فائدة
(3)
التكليف؛ ولأن الأمر بالشيء يتضمن إعلام المأمور بأن الآمر طالب، سواء أمكن حصوله منه أو لم يمكن، وإعلام من لا عَقْلَ له، ولا فَهْمَ متناقض؛ إذ يصير التقدير، بأن من لا فهم له فهم
(4)
.
"لنا: لو صحَّ" تكليف الغافل "لكان" الفعل "مستدعى حصوله منه طاعة" - أي: على وجه الطاعة - "كما تقدم" في مسألة التَّكليف بالمستحيل، والثاني باطل؛ لعدم تصوره.
"ولصح
(5)
تكليف البَهِيمَة لأنهما سواء في عدم الفهم".
ولقائل أن يقول: الفارق أن البهيمة لا قابليةَ لها.
والذين جوَّزوا تكليف الغافل.
الشرح: "قالوا: لو لم يَصِحّ لم يقع، وقد" وقع بدليل أنه "اعتبر طلاق السَّكران وقتله وإتلافه" ورُتِّبت
(6)
عليها الأحكام، وإن كانت صادرة ممن لا يفهم.
(1)
ينظر: الإحكام للآمدي 1/ 138، وشرح العضد 2/ 15، والمستصفى 1/ 183، والبرهان 1/ 106، وشرح الكوكب المنير 1/ 498، والقواعد والفوائد ص (15)، وأصول السرخسي 2/ 340، وتيسير التحرير 2/ 243، وفواتح الرحموت 1/ 143، وإرشاد الفحول ص (11).
(2)
في أ، ت، ح: يحصل.
(3)
في أ، ح: فإنه.
(4)
في أ، ح: افهم.
(5)
في ب: يصح، وفي ح: تصح.
(6)
في ت: ورتب.
وَإِتْلافُهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذلِكَ غَيْرُ تَكْلِيفٍ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْبَابِ؛ كَقَتْلِ الطِّفْلِ وَإِتْلافِهِ.
"قَالُوا: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [سورة النساء: الآية 43] .................
"وأجيب بأن ذلك" الأمر المجرى على السَّكران "غير تكليف، بل من قبيل الأسباب"، وذلك من باب خطاب الوَضْع، فطلاقه
(1)
سبب الفراق، وقتله سبب القِصَاص، وإتلافه سبب الضَّمان "كقتل الطفل وإتلافه"، فإنه سببٌ للضمان والغَرَامَةِ.
ولك أن تقول: لو كان كالطِّفْل لما وجب عليه قِصَاصٌ، ولاختلف في أن عمده عمد، أو خطأ.
بل قال القَفَّال ومن تابعه كالبَغَوِيّ
(2)
: إنه لا خلاف في الطفل الذي لا تَمْييز له أن عمده ليس بعمد بل خطأ، وإنما الخلاف في صبي يعقل عقل مثله.
الشرح: "قالوا": قوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [سورة النساء: الآية 43] دليل على خطاب الغافل إذا وجه النهي نحوه حالة السكر.
"قلنا: يجب تأويله، إما" بأن يقال: وقع النَّهي عن السّكر عند إرادة الصلاة تشبيهًا "بمثل" ما يقال: "لا تَمُتْ وأنت ظالم"، وعلى عكسه قوله تعالى:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران: الآية 102]. "وأما على أن المراد الثَّمل"، وهو الذي تَدبُّ فيه أوائل الطَّرب دون الطَّافح الخارج عن قضية التَّمييز، ونهى عن الصَّلاة حينئذٍ مع حضور عقله، لأن مبادئ الطَّرب "تمنع"
(3)
الخشوع "والتثبت كالغضب" ويؤيده قوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [سورة النساء: الآية 43].
ولو قال المصنّف: النّشْوَان بدل الثَّمل كان أولى، فإن الثملَ والطَّافحَ سواءٌ، وهو من أخذ منه الشراب.
(1)
في ب: وطلاقه.
(2)
الحسين بن مسعود بن محمد، العلامة محيي السنة، أبو محمد البغوي، يعرف بـ"الفراء" أحد الأئمة، تفقه على القاضي الحسين، وكان دينًا، عالمًا، عاملًا على طريقه السلف، قال الذهبي: كان إمامًا في التفسير، إمامًا في الحديث، إمامًا في الفقه. بورك له في تصانيفه، ورزق القبول لحسن قصده وصدق نيته. ومن تصانيفه التهذيب، وشرح المختصر، وتفسير معالم التنزيل. وغيرها. مات سنة 516. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 281، ووفيات الأعيان 1/ 402، وتذكرة الحفاظ 4/ 1258، والأعلام 2/ 284، وشذرات الذهب 4/ 48، والنجوم الزاهرة 5/ 224.
(3)
في أ، ت، ح: يمنع.
قُلْنَا: يَجِبُ تَأْوِيلُه، إِمَّا بِمِثْلِ: لا تَمُتْ، وَأنْتَ ظَالِمٌ، وَإِمَّا عَلَى أَن المُرَادَ الثَّمِلُ؛ لِمَنْعِهِ التَّثبُّتَ كَالْغَضَبِ.
وفي الحديث الصحيح. لما دخل النَّبي صلى الله عليه وسلم على حمزة، وجعل حمزة يُصَعّد نظره ثم قال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثَمِلٌ
…
الحديث أي [أنه]
(1)
سَكْران شديد السّكر.
ولقائل أن يقول: هذا صريح في تحريم الصلاة على المنتشي مع حضور عقله بمجرد عدم التثبت، ولا نعلم من قال به.
والحقُّ الذي نرتضيه مذهبًا ونرى ارتداد الخلاف إليه - أن من لا يفهم إن كان لا قابلية له كالبَهَائِمِ، فامتناع تكليفه مجمع
(2)
عليه، سواء خطاب التكليف، وخطاب الوضع.
نعم قد يكلف صاحبها في أبواب خطاب الوضع بما يفعله مع ما يفضله الفقيه.
وإن كانت له قابلية، فإما أن يكون معذورًا في امتناع فهمه كالطفل والنائم، ومن أكره حتى شرب ما أسكره، فلا يكلف إلا بالوضع.
وأما أن يكون غير معذور كالعاصي
(3)
بسُكْره فيكلف، تغليظًا عليه، وقد نصَّ الشَّافعي على هذا.
وقول الغَزالِيِّ: السكران أسوأ حالًا من النَّائم الذي يمكن تنبيهه.
وكذلك
(4)
دول القاضي في "التقريب": السكران الطَّافح لا يكلف كسائر من لا يفهم مما لا [نوافقهما]
(5)
عليه - بل هو مكلف، ولا حاجة إلى الجواب بأنه من خطاب الوضع، فإنه يلزم عليه ألا يأثم ونحن نُؤثّمه؛ إذ هو الذي وَرَّط نفسه بتسببه إلى زوال عقله بالسُّكر. وأيضًا فخطاب الوضع عندنا راجع إلى الاقتضاء خلافًا للمصنف.
ويشهد لتفرقتنا بين من له قَابِلِيَّة، ومن لا قابلية له إيجاب الضمان على الأطفال دون الميت.
فإن أصحابنا قالوا بنفخ
(6)
مَيّت، وتكسرت قارورة بسبب انتفاخه لم يجب ضمانها.
(1)
سقط في ت، ح.
(2)
في ت، ح: مجموع.
(3)
في ب كالقاضي، وهو تحريف.
(4)
في ب: ولذلك.
(5)
في ب، ح: يوافقها.
(6)
في ح: بنضج.
مَسْألَةٌ كلامِيَّةٌ فِي الحُكْمِ عَلَى الْمَعْدُومِ
مَسْأَلةٌ:
قَوْلُهُمُ: الأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ، وَلَمْ يُرَدْ تنجِيزُ التَّكْلِيفِ، وَإنَّمَا ..........
الشرح: ولا أقول خطاب المعدوم كما ترجم بعضهم المسألة به؛ إذ في تسمية الكلام في الأزل خطابًا خلاف؛ لأن الخطاب يستدعي مُوَاجهة، وهي لا تمكن من المعدوم كما فعل المصنّف؛ إذ لا يلزم من الحكم على المعدوم تسمية الكلام أمرًا أو نهيًا، فمنا من قال بالحكم على المعدوم وامتنع من تسمية الكلام في الأزل أمرًا، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.
وإذا عرفت هذا فأصحابنا قائلون بالحكم على المعدوم
(1)
، والمعتزلة ينكرونه، وإمام الحَرَمَيْنِ منا عنده وقفة في المسألة من أجلها توقف ضَعَفَةُ الأشاعرة عن الجزم وأخذوا في تقرير
(2)
مذهبنا، فقال فيهم
(3)
المصنّف: "قولهم" - يعني أصحابه الأشعرية -: "الأمر يتعلق بالمعدوم، لم يرد تنجيز التكليف" أي: إتيان المعدوم بالمأمور به حالة عدمه؛ لأن الصبي والمجنون الدَّاخلين في الموجودات غير مأمورين في الباطن بالمعدوم.
"وإنما أريد" بتعلّق الحكم به "التعلق العقلي" وهو قيام الطلب بذات الله - تعالى - من المعدوم للفعل إذا وجد واتصف بصفات المكلفين فإنه حينئذ يصير مكلفًا بذلك الطلب القديم من غير تجدد طلب آخر
(4)
.
(1)
ينظر: المحصول 1/ 2/ 433، والإحكام للآمدي 1/ 141، والمستصفى 1/ 85، وشرح الكوكب المنير 3/ 511، وشرح العضد 5/ 12، والمعتمد 1/ 177، وتيسير التحرير 2/ 131، السرخسي 2/ 334، وفواتح الرحموت 1/ 146، وإرشاد الفحول ص (11)، والمعتمد 2/ 15، ونهاية السول 1/ 298، والإبهاج 1/ 151.
(2)
في ب: تقريب.
(3)
في أ، ب، ت: منهم.
(4)
هذه المسألة في بيان معنى قولهم: "الأمر يتعلق بالمعدوم"، فنقول: لما اشتهر من مذهب أصحابنا جواز تكليف الصبي والمجنون والغافل والسكران؛ لعدم الفهم للتكليف؛ إذ المعدوم أسوأ حالًا من هؤلاء؛ لوجود أصل الفهم من حقه وعدمه بالكلية في حق المعدوم، حتى أنكر ذلك جميع الطوائف - أراد كشف الغطاء عنه، فقال: ليس المراد من قولهم - يعني قول أصحابا: الأمر يتعلق بالمعدوم تنجيز التكليف، وهو كون المعدوم مكلفًا بالإتيان بالفعل حالة عدمه؛ لاستحالته لما مر آنفًا، بل المراد التعلق العقلي، وهو كون المعدوم مأمورًا ومكلفًا على تقدير وجوده وتهيئته لفهم الخطاب=
أُرِيدَ التَّعَلُّقُ الْعَقْلِيُّ. لَنَا: لَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ، لَمْ يَكُنْ أَزَليًّا؛ لأِنَّ مِنْ حَقِيقَتِهِ التَّعَلُّقَ، وَهُوَ أزَلِيٌّ.
واعلم أن شيخنا إنما أراد التنجيز، والتعلّق عنده قديم، ولا يلزم من التنجيز تكليف المعدوم بأن يوجد الفعل في حال عدمه، بل تعلّق التكليف به على صفة، وهي أنه لا يوقعه إلا بعد وجوده، واسْتِجْمَاع الشرائط، وذلك لا يوجب عدم التَّنجيز، بل التنجيز واقع وهذا معناه.
ومن ظن أنه [كان]
(1)
يلزم من كونه كل أمورًا في القدم
(2)
أن يوجد في العدم فقد زَلّ، فإن إتيانه في العدم كما يستدعي الإمكان كذلك يستدعي أنْ يؤمر به على هذا الوجه، والأمر لم يقع كذلك، بل على صفة أن الفعل يكون بعد استجماع شرائطه التي منها الوجود، [وأقرب]
(3)
مثال لذلك الوكَالَة، فإن تعليقها باطلٌ على المذهب، ولو نَجّز الوكالة وعلق التصرُّف على شرط صح، وهو الآن وكيل وكالة منجزة، ولكنه لا يتصرف إلَّا على مقتضاها، وهو وجدان الشرط.
هذا كلام نفيس لأبي رحمه الله فيه رسوخ القَدَم
(4)
، فإنه كان يقرره وينادي عليه بأوضح البَرَاهين، وبه يتضح أن التعلق
(5)
قديم، على خلاف ما ذكره جماهير المتأخرين منهم الإمام في أول "المحصول" من حدوث التعلّق فَارِّين من أمر لا يحوجهم إلى ذلك. وقد فَاهَ الإمام في مكان آخره من "المحصول" بِقِدَمِ التعلُّق كما كان أبي - رحمه الله تعالى - يختاره.
وعندي [أَنا أنَّ التعلق]
(6)
نسبة بين منتسبين لا يوصف بحدوث ولا قِدَمٍ.
"لنا": على تعلّق الأمر بالمعدوم، "لو لم يتعلّق به لم يكن أزليًا؛ لأن من" لوازم "حقيقة
= بالأمر الأزلي، وهو قيام الطلب القديم بذات الله للفعل من المعدوم إذا انخرط في سلك المكلفين.
ولا يعد فيه بعد تحقيق كلام النفس، وأن التكليف بمعنى الطلب، بل هو جائز عقلًا، كما جاز قيام طلب العلم من الولد قبل وجوده بذات الأب، وصيرورة الولد مكلفًا بذلك الطلب على تقدير وجوده وتهيئته لفهم الخطاب، ولهذا فإن الوالد لو أوصى عند موته لمن سيوجد بعده من أولاده بوصيته، فإن الولد بتقدير وجوده وفهمه يصير مكلفًا بتلك الوصية، ولهذا أيضًا نحن موصوفون بكوننا مأمورين بأمور النبي عليه السلام الموجودة حالة وجوده، وإن كنا معدومين حينئذ. ينظر: الشيرازي 154 أ/ خ.
(1)
سقط في أ، ب، ت.
(2)
في أ، ت، ح: العدم.
(3)
في أ، ح: أقرر.
(4)
في أ، ت: العدم.
(5)
في ت، ح: التعليق.
(6)
في ت: أما أن التعليق.
قَالُوا: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ مِنْ غَيْرِ مُتَعَلَّقٍ مُحَالٌ. قُلْنَا: مَحَل النِّزَاعِ، ...........
التعلق" بالغير وهو المأمور، فلو لم يكن التعلُّق أزليًّا لم يكن الأمر أزليَّا، "وهو أزلي" قطعًا، لما ثبت من قِدَمِ كلام الرَّبِّ جلَّ وعلا، وكان تعلقه أزليًّا.
وأنت إذا وقفت
(1)
على هذه الحُجَّة علمت أنها لا تنهض على من ينكر قدم الكلام، وهم الخصوم في المسألة - أعني المعتزلة - وأنه لا ينبغي الاكنفاء به، فإن منع الحكم على المعدوم هو أحد شُبَهِ المعتزلة في القول بِخَلْقِ القرآن.
الشرح: "قالوا": لا يتعلّق الحكم بالمعدوم؛ إذ كيف يوجد "أمر، ونهي، وخبر من غير متعلّق" موجود هو المأمور المنهي المخبر، هذا "مُحَال".
ونظيره من جلس وحده ينادي: يا زيد افْعَلْ كذا، ويا عمرو اترك كذا، وذلك عين الاختلال والسَّفه، فيستحيل على الباري تَعَالى.
"قلنا": استحالة هذا "مَحَل النزاع وهو استبعاد" مجرد، فلا يلزم منه الامتناع، وإنما بَعُدَ عِنْدَكُم [لأنكم قِسْتُمْ]
(2)
الغائب بالشاهد، واللفظي بالنَّفسي. وأنَّى يستويان، فإن من أحب أن يحيط علمًا بوَرَقِ الأشجار
(3)
، وقَطْر البحار من أَسْفه الخلق، بخلاف الرَّب تعالى.
والحاصل: أن المعدوم بالنسبة إليه - تعالى - متوقّف وجوده على أمره، وقد قدر وجوده في وقت معلوم لا يتخلّف عنه على صفة مَعْلُومة لا انْفِكَاكَ لها دون أمره، وهو نازل عنده منزلة الموجود يأمره وينهاه بخلاف المخلوق.
"ومن ثم" أي: ومن أجل هذا الاستبعاد - "قال" عبد اللّه "بن سَعِيدِ" بن كلاب القَطَان
(4)
وهو أحد أئمة أهل السُّنَّة، وبطريقته
(5)
وطريقة الحارث بن
(1)
في ت، ح: وفعت.
(2)
في ت: لا نسلم قسمة.
(3)
في ب: الشجر.
(4)
عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب، أبو محمد القطان: متكلم من العلماء. يقال له "ابن كُلاب". قال - السبكي: وكلاب بضم الكاف وتشديد اللام، وقيل: لقب بها؛ لأنَّهُ كان يجتذب الناس إلى معتقده إذا ناظر عليه كما يجتذب الكُلاب الشيء. له كتب، منها "الصفات" و"خلق الأفعال" و"الرد على المعتزلة" توفي سنة 245 هـ. ينظر: فضل الاعتزال 286، والطبقات الصغرى للسبكي، وابن النديم 180، والأعلام 4/ 90.
(5)
في ب: ولطريقته.
وَهُوَ اسْتِبْعَادٌ؛ وَمِنْ ثَمَّةَ، قَالَ ابْنُ سَعِيدٍ: إِنَّمَا يَتَّصِفُ بِذلِكَ فِيمَا لا يَزَالُ. وَقَالَ: الْقَدِيمُ الْأَمْرُ
أسد
(1)
المُحَاسبي
(2)
اقتدى شيخنا أبو الحسن أن كلامه - تعالى - لا يتصف بالأمر والنهي والخبر في الأزل، لحدوثه وقِدَمِ الكلام النَّفسي، "وإنما يتصف بذلك فيما لا يزال.
وقال": الكلام "القديم" هو "الأمر المشترك" بين الأمر والنهي والخبر وتابعه أبو العباس القَلانسي من قدماء الأشاعرة، وقد [راما]
(3)
بهذا المَرْكب الصَّعب التخلص من إلزام المعتزلة بحدوث الكلام؛ فإن المعتزلة لما أحالوا وجود أمر ولا مأمور قالوا: لم يكن مع الله - سبحانه - في الأزل أحد فيأمره وينهاه.
وإذا لم يكن معه أحد استحال حُصُول الأمر لانتفاء المأمور، وإذا استحال حصول الأمر استحال حصول الكلام، فتسببت بدعتهم الشَّنعاء في القول بخَلْقِ القرآن
(4)
، وهذه الشُّبهة من
(1)
الحارث بن أسد أبو عبد الله المحاسبي، قال ابن الصلاح: ذكره أبو منصور التميمي في الطبقة الأولى من الشافعية فيمن صحب الشافعي. قال ابن قاضي شهبة: أحد مشايخ الصوفية. توفي سنة 243 هـ. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 59، وطبقات الفقهاء للعبادي ص 27، وميزان الاعتدال 1/ 199.
(2)
في أ، ت، ح: المحاسني، وهو تحريف.
(3)
في ب، ح: رأينا.
(4)
وقبل الخوض في هذه (الفرية) يجدر بنا أن نقص طرفًا من هذه القضية الغابرة فنقول: ومسألة خلق القرآن لصيقة بالمعتزلة، فكلما أثيرت لها غبرة ذكرنا المعتزلة، وذلك لأنهم الذين أشاعوها بين الناس، وروعوهم بها، وقد تبعهم الخلفاء في ذلك فحملوا العلماء والمحدثين على القول بها رغبة ورهبة. وقد اشتغل بهذا من الخلفاء ثلاثة من بني العباس المأمون والمعتصم، والواثق. وقد رُوِّعَ الناس أشد ترويع وضيق عليهم، وحملوا قسرًا على القول بخلقه، وكأني بقوله تعالى:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} قد حق في الأمراء على العلماء.
والمتتبع لنشأة الفرق الإسلامية؟ يجد أن الخلاف يرجع إلى اختلافهم في صفات الله تعالى. فالمعتزلة يقولون: إن الله تعالى متنزه عن ثبوت صفات قائمة بذاته كالسمع، والبصر، والحياة، والقدرة، والكلام أدَّاهم إلى ذلك خوف تعدد القدماء. ويقول الجمهور: إن هذه الصفات من السمع والبصر
…
قديمة قائمة بذاته تعالى ليست عين الذات ولا غيرها. وبهذا علم أن هذه المسألة سابقة في الوجود لعصر الثلاثة الخلفاء العباسيين. فقد تفوه بها قَدِيمًا الجعد بن درهم - قبحه الله - حتى قتله والي الكوفة خالد بن عبد الله القَسرِيُّ، فضحى به بين الأملاء ونادى في الناس "أيُّها الناس من كان مضحيًا فليضح فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، فقد زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا ولم يتخذ إبراهيم خليلًا
…
". =
الْمُشْتَرَك، وَأُورِدَ أَنَّهَا أَنْوَاعُه، فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقد كان المعتزلة يقتادون العقل في كل ملم، فغلبوه ونصبوه حاكمًا حتى على شرع الله، وقد تواترت أقوالهم بهذا تأليدًا وتحبيذًا، وقد ردت النصوص لذلك ما لم يجدوا لها تأويلًا يقبله العقل ويقره، وقد خشوا إظهار قالاتهم جهادًا خوفًا من العامة أن تعصف بهم. حتى تولى المأمون مقاليد الأمور (198 - 218 هـ) وقد كان مناصرًا لحرية البحث والمناظرة، وكان ميالًا للعلم به شغوفًا عالمًا بالكتاب والسنة مع ذكاء ونباهة عظيمة، فعقد الحلق والمجالس والمناظرات والمحاورات. فنتج عن ذلك بروز رأيه في بعض المسائل الخلافية، وأنه انحاز في بعضها لرأي المعتزلة، لا في كلها، وكان مما وافقهم فيه القول بخلق القرآن الكريم وقد صرح برأيه في سنة 212 هـ بزعم أنه إن ظهر رأيه للعلماء. فسيتبع فيه، غير أن الأمر قُلِبَ عليه، فتكلم الناس فيه حتى رمي بالابتداع واشتط بعضهم فسربله الكفر وكذا كل من يقول بخلق القرآن، وحينذاك اشتد وطأة النزاع بين معاشر المتكلمين والفقهاء والمحدثين، حتى حلَّ عام 218 هـ فضرب المأمون بعصى من حديد على يد من ينازعه القول؛ لِئلا يظهر ضعيفا أو يستخف به أمام الرعية وكذا كان الحال. وفي عام (218) بينما كان المأمون يغزو بلاد الروم كنب إلى عامله على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي كتابًا يقول فيه: "
…
وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر لهم ولا روية ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه أهل الجهالة بالله وعمي عنه وضلالة عن حقيقة دينه وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويحرفوا حق كنه صرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، وذلك أنهم ساووا بين الحق وخلقه وبين ما أنزل الله من القرآن، فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله، ولم يخترعه، وقد قال الله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وكل ما جعله الله فقد خلقه، كما قال تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وقال: {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} فأخبر أنه قص لأمور أحدثه بعدها وقال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} والله محكم كتابه ومفصله، فهو خالقه ومبتدعه، ثم انتسبوا إلى السنة وأنهم على أهل الحق والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر، فاستطالوا بذلك وغروا به الجهال حتى قال قوم من أهل السمت الكاذب في التخشع لغير الله إلى موافقتهم، فنزعوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دين الله وليجة إلى ضلالهم - ثم أخذ يصفهم بأنهم شر الأمة وإخوان إبليس - ثم قال لعامله: فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا وامتحنهم فيما يقولون، واكشفهم عما يعتقدون في خلقه وإحداثه، وأعلمهم أني غير مستعين في عملي ولا أوثق من لا يوثق بدينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا، فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوف، واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك. ثم وردت من المأمون عدة كتب إلى عامله يأمره فيها بامتحان أهل الحديث=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عهدهم
(1)
العظيمة عندهم فتخلص عنها هذان الرَّجلان، وقالا: إذا نفينا الأمر في الأزل لم تجد المعتزلة سبيلًا إلى الطعن علينا في قِدَمِ القرآن بهذه الشبهة.
وقالا: يثبت للرب - تَعَالى - صفة موجودة ويثبت لها مع وجودها وصفًا آخر أخص من وصف الوجود، وهو كونها كلامًا في الأزل، ويصرف الوصف الآخر الذي هو أخص من وصفها بالكلام، وهو الأمر والنهي إلى صفة فعل، هو خلق الله - سبحانه - في قَلْب من تعلّق إدراكه بها عند إدراكه لها العلم بأنه - سبحانه - طلب منا، فعلًا أو زَجَرَهُ عن فعل وتخلّص من إثبات أمر، ولا مأمور.
"وأورد" عليهما "أنهما" فَرَّا من مستبعدٍ إلى أبْعَدَ منه، وذلك أنهما - أي: الأمر والنهي والخبر ونحوها "أنواعه" أي: أنواع الكلام، "فيستحيل وجوده" بدون واحد منها؛ لاستحالة وجود الجنس إلَّا في أحد أنواعه، فما ذكره مؤدٍ إلي نفي الكلام.
ولئن جاز ثبوت صفة وهي الكلام عَارِيَّةٌ من حقائقها النفسية، ولوازمها العقلية جاز إثباتها عاريةً من حقيقة أخرى من حقائقها، وهى كونها كلامًا حتى يقال: هذه الصفة حاصلة لله -
= في مسألة خلق القرآن وفي بعضها يقول له:" فمن لم يجب أنه مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية". وكذلك بعث لعامله بقتل من لم يقل بخلق القرآن، وكذلك أوصى أخاه المعتصم! بأن يسير سيرته، فأُنفذها، وكان المعتصم دون المأمون علمًا، فجعل يمتحن الناس ويقتل منهم عددًا عظيمًا وأمرا المعلمين أن يعلموا الصبيان أن القرآن مخلوق، وأهان عظام علماء أهل الحديث لا سيما أحمد بن حنبل الذي ثبت على قوله وما تزعزع. واستمرت المحنة حتى بعد تولي الواثق ابنه وقد أقام سوق المحنة سنة 231 هـ إذ أمر أمير البصرة بامتحان الأئمة والمؤذنين، وأظهر الغلظة لمن خالفه بل قتل بعض أهل الحديث. وقد حدث في الأمور أمورٌ؛ إذْ اختلط الحابل بالنابل، وانقلب القول بالحق من الباطل، وقلبت المحنة إلى منحة وفرجة؛ إذ رجع الواثق عن صنيعه الأول، وضاق برأس الفتنة أحمد بن داود وصبَّ عليه سخطه.
ولما ولي المتوكل بعد أخيه الواثق سنة 232 هـ أظهر ميلًا عظيمًا إلى السنة المشرفة، فرفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، فعظمت به السنة وأهلها، وانكشفت الفتنة ومحقت "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
ينظر: البداية والنهاية لابن كثير 10/ 272، وتاريخ الخلفاء للسيوطي 24، وتاريخ الأمم الإسلامية للخضري 279.
(1)
في ت: عهدتهم.
قَالُوا: يَلْزَمُ التَّعَدُّدُ. قُلْنَا: التَّعَدُّدُ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَلِّقَاتِ لا يُوجِبُ تَعَدُّدًا وُجُودِيًّا.
التَّكلِيفُ بما عَلِمَ الآمِرُ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ
مَسْأَلةٌ:
يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِمَا عَلِمَ الآمِرُ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ، .........
سبحانه - في الأزل، وليست كلامًا في الأزل، وإنما تصير كلامًا عند خلق المتكلمين السَّامعين، وهذا لا يقوله أحد.
الشرح: ولئن "قالوا": وجود الأمر والنهي والأخبار في الأزل "يلزم" منه "التعدد" باعتبار أنواعه وأفراده؛ فإن المتعلق بـ "زيد" غير المتعلق بـ "عمرو".
"قلنا: التعدد" إنما هو "باعتبار المتعلِّقات" التي هي الأمر والنهي والخبر والاستخبار والتعجُّب والتمنِّي والترجِّي والقَسَم والنِّدَاء
(1)
.
والتعدّد بهذا الاعتبار "لا يوجب تعددًا وجوديًّا"، فهو
(2)
بمنزلة تعدُّد المعلومات، فإنها متعدّدة باعتبار تعلّق العلم بها، لا أنها موجودة في نفس الأمر متعددة، والمحال هو التعدد الوجودي.
الشرح: "يَصِحُّ التَّكليفُ بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته"
(3)
- فيجوز أن يكلف الله زيدًا بصلاة يوم الخميس فإما مع علمه بِعَجْزِهِ عن القيام، إذ ذاك "فلذلك يعلم" المأمور "قبل الوقت" أنه مأمور مع عدم علمه بأنه هل يتمكن أو لا؟.
"وخالف الإمام والمعتزلة" في ذلك.
"ويصحّ من جهل الأمر" تقدم وقوع الشرط "اتفاقًا".
وقد عَصَت هذه المسألةُ على أفهام قوم من المتكلمين على هذا المختصر.
(1)
في ت: والندب.
(2)
في ب: وهو.
(3)
ينظر: الإحكام 1/ 143، والبرهان 1/ 280، وشرح العضد 2/ 16، والمسودة ص (52)، وشرح الكوكب المنير 1/ 496، والمعتمد 1/ 177، وحاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 218، والقواعد والفوائد ص (189)، تيسير التحرير 2/ 240، وإرشاد الفحول ص (10).
فَلِذلِكَ يُعْلَمُ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَخَالَفَ الإِمَامُ وَالْمُعْتَزِلَة، وَيَصِحُّ مَعَ جَهْلِ الآمِرِ اتِّفَاقًا.
قالوا: لا فارق بينها وبين ما حكي فيها الإجماع من مسألة تكليف ما لا يُطَاق حيث قال: والإجماع على صحَّة التكليف بما علم الله أنه لا يقع.
وقالوا: قد كرر مسألة وادّعى فيها الإجماع، ثم نقل فيها الخلاف.
وأنا أقول: ما لوقوعه شرط إن علم الآمر الشرط واقعًا، فلا إشكال في صحَّة التكليف به، وإن جهله، ويفرض في السيد يأمر عبده فكذالك
(1)
.
ونقل المصنّف عليه الاتفاق، وفيه نظر.
وإن علم انتفاءه فهو على قسمين:
أحدهما: ما يتبادر الذِّهن إلى فهمه حين إطلاق التكليف كالحياة والتمييز، فإن السَّامع متى سمع التكليف تبادر ذِهْنُهُ إلى أنه يستدعي حيًّا مميزًا، وهذا هو الذي خالف فيه إمام الحَرَمَيْنِ.
والثاني: خلافه، وهو ما كان خارجيًّا
(2)
لا يتبادر إليه الذهن، وهو تعلّق علم الله مثلًا بأن زيدًا لا يؤمن، فإن انتفاء هذا التعلُّق شراط في وجود إيمانه، ولكن السَّامع يقضي بإمكان [إيمان]
(3)
زيد غير ناظر إلى هذا الشرط، وهذا لا يُخَالف فيه الإمام ولا غيره، وهو ما سبق نقل الإجماع عليه.
وسمعت من يقول: موضع الإجماع أَولًا هو هذه المسألة، ولكنه نسب المخالفين فيها إلى خرق إجماع سابق عليهم، وهذا ليس بشيء، فإنه مع لزومه تكرير مسألة واحدة من غير عرض
(4)
، فيه نسبة إمام الحرمين إلى خرق الإجْمَاع، ولن يجترئ المصنّف ولا أجَلّ منه على ذلك.
وإنما الصَّوابُ ما ذكرناه، على أن هذه المسألة لا يترجمها أئمتنا بما ترجمها المصنّف، وإنما هي مترجمة عندهم بما جعله المصنّف فائدة لها، وهو أنه هل يعلم المأمور كونه مأمورًا في أول الوقت توجّه
(5)
الخطاب إليه، أو لا يعلم ذلك حتى يمضي عليه زمن الإمكان؛ لأن
(1)
في ب: فلذلك.
(2)
في ب: خارجًا.
(3)
سقط في ب.
(4)
في ب: عرض.
(5)
في أ، ت، ح: بوجه.
لَنَا: لَوْ لَمْ يَصِحَّ، لَمْ يَعْصِ أَحَدٌ أَبَدًا؛ لأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ وُقُوعِهِ مِنْ إِرَادَةِ قدِيمَةٍ أَوْ حَادِثَةٍ، وَأَيْضًا، لَوْ لَمْ يَصِحَّ، لَمْ يُعْلَمْ تكلِيفٌ؛ لأَنَّهُ بَعْدَهُ وَمَعَهُ .........
الإمكان شرط التكليف، والجاهل بوقوع الشرط جاهل بالمشروط لا محالة .. قال أصحابنا: بالأول.
وقال المعتزلة: بالثاني، واختاره إمام الحرمين.
فهي في الحقيقة اختلاف في زَمَن تحقُّق الوجوب على المكلّف لا في صحة التكليف وعدمه. ولكن عبارة الكتاب قاصرة، فالفعل الممكن بذاته إذا أمر اللهُ - تعالى - به عبده فسمع الأمر في زمن، ثم فهمه في زمن يليه هل يعلم العبد إذ ذاك أنه مأمور مع أن من المحتملات أن يقطعه عن الفعل قاطع عَجْز أو موتٍ أو نحوهما، أو يكون شاكًّا في ذلك؛ لأن التكليف مشروطٌ بالسلامة في العاقبة، وهو لا يتحققها أصحابنا على الأول، فيرون تحققًا مستفادًا من صيغة الأمر، وإنما الشَّك في رافع يرفع المستقر
(1)
، والقوم على العَكس.
وربما أثر هذا الخلاف في النِّيَّة، فيلزم القوم ألا توجد نيَّة جازمة، لحصول الشك فلا يصح لهم عمل.
الشرح: "لنا: لو لم يصحّ" التكليف بما علم الآمر انتفاء شرطه، وصيرورة
(2)
المأمور مكلفًا "لم يعص أحد أبدًا؛ لأنه لم يحصل" للفعل "شرط وقوعه من إرادة قديمة" عند الأشاعرة؛ لأن الله - تعالى - لم يرده، ضرورة أنه لو أراده لوقع، "أو حادثة" للعبد عند المعتزلة؛ لأن العاصي لم يرده عندهم، وقد علم الله الإرَادَتَيْنِ، فيكون عالمًا بعدم الشرط، فلو لم يكن مأمورًا بالطاعة حال عدم الشرط لم يَعْصِ حال عدم الإرادة، وهي حال لا ينفك عنها عاصٍ فلا يوجد عَاصٍ.
"وأيضًا لو لم يصح لم يُعْلم التكليف" أصلًا، "لأنه "إذا أمر العبد بصوم هذا اليوم فإما أن يعلم بهذا الأمر بعد اليوم أو قبله أو معه، فإن علم به "بعده ومعه" لم يُفِدْ؛ لأنه "ينقطع" التكليف حينئذ على ما تقدم.
"وقبله لا يعلم"؛ لأن صومه موقوف على بقائه وهو غير معلوم له قبل اليوم، فيكون شاكًّا في شرط التَّكْليف الذي هو البقاء، فيلزم الشك في المشروط فلا يعلم التكليف بالصوم أصلًا ..
"فإن فرضه" - أي: فرض الخصم زمان التكليف - "متسعًا" بحيث إذا مضى أحد جزئيه علم
(1)
في ب: المسعر.
(2)
في ب: وضرورة.
يَنْقَطِع، وَقَبْلَهُ لا يُعْلَم، وإنْ فَرَضَهُ مُتَّسِعًا، فَرَضْنَاهُ زَمَنًا زَمَنًا، فَلا يُعْلَمُ أَبَدًا. وَذلِكَ بَاطِلٌ، وَأَيْضًا، لَوْ لَمْ يَصِحَّ، لَمْ يَعْلَمْ إِبْرَاهِيمُ وُجُوبَ الذَّبح، وَالمُنْكِرُ مُعَانِدٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي: الإجْمَاعُ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ قَبْلَ ....................
المكلف أنه متمكن - بخلاف المضيق فإنه لا يعلم أنه مكلّف إلا بعد الانقضاء - نقلنا الكلام إلى أجزاء ذلك الزمان، ثم "فرضنا زمنًا زمنًا"، وتردّد في كل جزء، فإنه مع الفعل فيه أو بعده ينقطع.
وقيل: الفعل يجوز ألَّا يبقى بصفة التكليف في الجزء الآخر، فلا يأثم بالترك "فلا يعلم" تكليف "أبدًا، وذلك باطلٌ.
وأيضًا لو لم يصح لم يعلم إبراهيم عليه السلام وجوب الذّبح"، لكونه - تعالى - عالمًا بانتفاء شرطه لوقوع النَّسْخ قبل الفعل، "والمنكر" لعلم إبراهيم بوجوب ذَبْحِ ولده مع علمه باشتغاله بمقدماته "مُعَاندٌ".
الشرح: "وقال القاضي" مستدلًّا على صحة التكليف بما علم الآمر انْتِفَاء شرط وقوعه "الإجماع" قائم قبل ظهور المُعْتزلة "على تحقُّق الوجوب والتحريم" على كُلّ بالغ عاقل "قبل التمكُّن" من فعل ما خوطب به.
ويقال: هذا مأمورٌ بكذا، ومَنْهِيٌّ عن كذا.
ومن أبَى ذلك، والتزم إطلاق القول بأنه ليس على البَسِيطَةِ مَنْ يعلم كونه مأمورًا فقد بَاهَت الشريعة، ورَاغَمَ أهل الإجماع.
وقد رَدَّ إمامُ الحرمين هذا الدليل على القاضي، وقال: لا تحصيلَ وراءه، فإن الإطلاقاتِ الشرعية لا تعرض على مأخذ الحقائق، [وأجرى إطلاقهم]
(1)
: هذا مأمور، وهذا مَنْهِي مجرى إطلاقهم
(2)
الخمر محرمة، والمراد تحريم شربها فالإطلاقاتُ مجازٌ.
ولقائل أن يقول: الأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا يلزم من التجوز في قولهم: الخمر محرمة - مع قيام القرينة - التجوز هنا.
وقد استدلَّ الإمام على أن التكليف يتوجّه قبل المُبَاشرة بالإجماع، على أن القاعد مأمور بالقيام، فما باله يستدلّ بإطلاقاتهم على ما يرتضيه، ويَذَرُهَا عندما يوهنه.
(1)
في ب: وأحرى إطلاقاتهم.
(2)
في ب: إطلاقاتهم.
التَّمَكُّنِ. الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ صَحَّ، لَمْ يَكُنِ الإمْكَانُ شَرْطًا فِيهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الإمْكَانَ الْمَشْرُوطَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَأَتَى فِعْلُهُ عَادَةً عِنْدَ وَقْتِهِ وَاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ، وَالإمْكَانُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْوُقُوعِ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَلَّا يَصِحَّ مَعَ جَهْلِ الآمِرِ.
قَالُوا: لَوْ صَحَّ، لَصَحَّ مَعَ عِلْمِ الْمَأْمُور. وَأُجِيبَ بِانْتِفَاءِ فَائِدَةِ .......
واستدلّ "المعتزلة" بأنه "لو صح لم يكن الإمكان شرطًا فيه"، أي: في الفعل - لكنه شرط كما تقدم في مسألة التكليف بما لا يُطَاقُ.
"وأجيب بأن الإمكان المشروط" في صحَّة التكليف، هو "أن يكون" المكلف به "مما يتأتى فعله عادة عند" حُضُور "وَقْتِهِ، وَاسْتِجْمَاع شرائطه، والإمكان الذي هو شرط الوقوع" غيره، وهو النزاع، فإن عنيت بقولك: لم يكن الإمكان شرطًا - الأول، منعناه، فإن عدم الشرط لا ينافيه.
والثاني التزمناه؛ لأنه "محل النزاع".
وأيضًا "يلزم ألَّا يصحّ مع جهل الآمر" تعيّن ما ذكرت، لكنه مجمع عليه كما تقدم.
الشرح: "قالوا: لو صَحَّ لصح مع علم المأمور" بعدم وجود الشَّرط أيضًا، والجامع كونه غير متصور الحصول منه.
"وأجيب" بالفرق "بانْتِفَاء فائدة التكليف" هنا، بخلاف الأول، "وهذا" يعني الذي لا يعلم عدم
(1)
وجود الشَّرْط "يطيع ويعصي بالعَزْمِ" على الطَّاعة، "والبِشْرِ" بها "والكراهة" لها، بخلاف العالم بانتفاء الشرط، وهذا على تقدير تسليم انْتِفَاء اللَّازم.
ولقائل أن يقول: لم قلتم: إنه لا يصحّ مع علم المأمور بانتفاء الشرط، بل نقول: إنه يصح، ولذلك أن مَنْ عَلِمَتْ أنها تحيضُ في أثناء النهار يجب عليها افتتاح اليوم بالصوم.
ويقرب منه - وهو على عكسه - من نَذَرَ الصيام يوم قُدُوم زيد، وتبيّن له أنه يقدم غدًا فَنَوى الصوم من الليل أجزأه عن نَذْرِهِ على الصحيح، ولم يقولوا: إنه يجب عليه، بل اختلفوا في الإجزاء كما رأيت - ونظير عدم الوجوب فيه الوجوب في الحَائِضِ.
ولا يعكّر على هذا أن الصحيح فيمن نَذَرَ الصِّيَام يوم يقدم زيد أنه يلزمه الصَّوم من أول اليوم، ويقال: كما تبين بقُدُومِ زيد في أثناء النَّهار وجوب اليوم من أوله، كذلك بطريان الحَيْضِ
(1)
سقط في - أ، ت، ح.
التَّكْلِيفِ وَهذَا يُطِيعُ وَيَعْصِي بِالْعَزْمِ وَالْبِشْرِ وَالمكَرَاهَةِ.
الأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ
الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ: الْكِتَاب، وَالسُّنَّة، وَالإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، ............
تحريمه من أوله، لأنا نقول: هذا التَّبيين إنما هو بعد ظهور المقتضى في مسألة النذر، والمانع في مسألة الحَيْضِ، وقبل: ظهورهما لا أثر لهما، سواء تحقق أنهما يظهران أم لا، فقد تبيّن تحقُّق التكليف علمًا، وإن أمكن الاحترام قبل ذلك، ثم إذا ورد العَجْز أو الموت أو النَّسْخ لم [يتبين أنه لم]
(1)
يكن مأمورًا، بل نقول: انقطع التكليف.
وعلى هذا تسبب قولنا: من أفسد صومه بجماع
(2)
، ثم أَنْشأَ سفرًا طويلًا في يومه، لا تسقط عنه الكفارة على المَذْهب، وكذا لو مرض على أصح القولين.
والصحيح في طَرَيَانِ الجُنُون والموت والحَيْضِ: السقوط؛ لمأخذ فِقْهِيٍّ لا يتعلّق بما نحن فيه.
الشرح: "الأدلة الشرعية: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والقِيَاس، والاسْتِدْلالُ"
(3)
؛ لأن الدليل: إما وَحْي
(4)
أو غيره، والوَحْي: إما مَتلُو وهو .....................
(1)
سقط في ح.
(2)
في ح: بجامع.
(3)
قد ذكر في صدر الكتاب أن هذا المختصر ينحصر في المبادئ والأدلة السمعية والاجتهاد والترجيح ولما فرغ من المبادئ شرع في الأدلة الشرعية، وقدمها على الاجتهاد والترجيح؛ لأنه ما لم يعرف الأدلة وأقسامها وأحكامها لم يتمكن من معرفة كيفية استثمارها، ولا معرفة ترجيح بعضها على بعض. قاله الأصفهاني في شرح المختصر. وينظر: الإحكام للآمدي 1/ 147.
(4)
للوحي معنى في اللغة؛ ومعنى في الاصطلاح؛ أما في اللغة .. فإليك ما قاله العلماء في هذا: قال في "الأساس": "أوحى إليه؛ وأومى إليه بمعنى. ووحيت إليه؛ وأوحيت: إذا كلمته بما تخفيه عن غيره. وأوحى الله إلى أنبيائه؛ "وأوحى ربك إلى النحل".
وفي "القاموس المحيط": "الوحي: الإشارة والكتابة؛ والمكتوب "والرسالة؛ والإلهام" والكلام الخفي؛ وكل ما ألقيته لغيرك".
وقال الراغب: "أصل الوحي: الإشارة السريعة؛ ولتضمن السرعة قيل: أمر وحي. يعني: سريع.
وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعويض؛ وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب؛ وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة؛ وقد حمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا عليه السلام: {فَخَرَجَ عَلَى =
وَالاِسْتِدْلال، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكَلامِ النَّفْسِيِّ، وَهِيَ نِسْبَةٌ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ، قَائِمَةٌ بِالْمُتَكَلِّمِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أي أشار إليهم ولم يتكلم. ومنه: الإلهام الغريزي؛ كالوحي إلى النحل قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ؛ وإلهام الخواطر بما يلقيه الله في روع الإنسان السليم الفطرة؛ الطاهر الروح؛ كالوحي إلى "أم موسى"؛ ومنه ضده؛ وهو وسوسة الشيطان قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} . فالخلاصة في معنى الوحي اللغوي: أنه الإعلام الخفي السريع؛ وهو أعم من أن يكون بإشارة أو كتابة أو رسالة؛ أو إلهام غريزي؛ أو غير غريزي، وهو بهذا المعنى لا يختص بالأنبياء؛ ولا بكونه من عند الله سبحانه.
وأما في الشرع: فيطلق ويراد به: المعنى المصدري، ويطلق ويراد به: المعنى الحاصل بالمصدر، ويطلق ويراد به: الموحى به.
ويعرف من الجهة الأولى: بأنه "إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب بواسطة أو غير واسطة" فهو أخص من المعنى اللغوي؛ لخصوص مصدره ومورده. فقد خص المصدر بالله سبحانه؛ وخص المورد بالأنبياء.
ويعرف من الجهة الثانية: بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من عند الله؛ سواء كان الوحي بواسطة أم بغير واسطة.
ويعرف من الجهة الثالثة: بأنه ما أنزله الله على أنبيائه؛ وعرفهم به من أنباء الغيب والشرائع والحكم، ومنهم من أعطاه كتابًا، ومنهم من لم يعطه. ينقسم الوحي باعتبار معناه المصدري إلى:
1 -
تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب؛ إما في اليقظة: وذلك مثل ما حدث لموسى عليه السلام قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ؛ ومثل ما حدث لنبينا "محمد" - صلوات الله وسلامه عليه - ليلة الإسراء والمعراج. ولأهل السنة قولان في الكلام المسموع، فقيل: هو الكلام النفسي القديم المجرد عن الحروف والأصوات، وقيل: هو كلام لفظي يخلقه الله، بحيث يعلم سامعه: أنه موجه إليه من قبل الله، والقائلون بهذا لا ينكرون صفة "الكلام" لله سبحانه، وهذا فرق ما بينهم وبين المعتزلة الذين لا يقولون بصفة الكلام. أما الثاني، فواضح، وأما الأول فلا استحالة فيه؛ لأن الثابت أن النبي قد خص بمزايا وخصائص لم توجد في غيره من أفراد نوعه، وأن نفسه بأصل فطرتها مستعدة لما لم تستعد له نفوس غيره، فلا مانع إذًا أن يسمع الكلام النفسي بطريقة غير مألوفة، ولا معروفة لنا، ويكون ذلك من خوارق النواميس العادية المعروفة لنا. وأما في المنام: كما في حديث "معاذ" مرفوعًا: "أتاني ربي، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟. " الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه وقال: حسن صحيح. =
وَالْعِلْمُ بِالنِّسْبَةِ ضَرُورِيٌّ، وَلَوْ لَمْ تَقُمْ بِهِ، لَكَانَتِ النِّسْبَةَ الْخَارِجِيَّةَ؛ إِذ لا غَيْرَهُمَا،
القرآن
(1)
، أو لا وهو السُّنة، وغيره إن كانْ قَوْلَ كل الأمة: فالإجماع، وإن كان مُشَاركة فَرْع
= 2 - الإلهام أو القذف في القلب: بأن يلقى الله أو الملك الموكل بالوحي في قلب نبيه ما يريد، مع تيقنه: أن ما ألقى إليه من قبل الله تعالى، وذلك مثل ما ورد في حديث:"إن روح القدس نفث في روعي: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". رواه الحاكم وصححه عن ابن مسعود.
3 -
الرؤيا في المنام: ورؤيا الأنبياء وحي؛ وذلك مثل: رؤية إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أن يذبح ابنه، ورؤية نبينا محمد - صلوات الله وسلامه عليه - في منامه. أنهم سيدخلون البلد الحرام، وقد كان. وفي الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري:"أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .. ".
4 -
تعليم الله أنبياءه بوساطة ملك، والمختص بذلك من ملائكة الله هو أمين الوحي "جبريل" عليه السلام، وهذا القسم يعرف بـ "الوحي الجلي". وقد بين الله - سبحانه - هذه الأقسام بقوله:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} إذ المراد بالوحي في الآية: الإلهام أو المنام؛ لمقابلته للقسمين الآخرين: التكليم من وراء حجاب أو بواسطة رسول. والوحي الذي بواسطة جبريل له حالات ثلاث:
(أ) أن يأتي جبريل في صورته التي خلقه الله عليها، وهذه الحالة نادرة، وقليلة، وقد ورد عن السيدة عائشة:"أن النبي لم ير "جبريل" على هذه الحالة إلا مرتين: مرة في الأرض، وهو نازل من غار "حراء"، ومرة أخرى في السماء، عند "سدرة المنتهى" ليلة المعراج". رواه أحمد.
(ب) أن يأتي جبريل في صورة رجل كدحية الكلبي، أو أعرابي مثلًا، ويراه الحاضرون ويسمعون قوله، ولا يعرفون هويته، ولكن النبي يعلم علم اليقين أنه جبريل، وذلك كما في حديث جبريل الطويل في الصحيحين وحديث أم سلمة، ورؤيتها رجلًا على صورة دحية الكلبي، فظنته هو، حتى بين النبي لها أنه جبريل.
(ج) أن يأتي على صورته الملكية، وفي هذه الحالة لا يرى، ولكن يصحب مجيئه صوت كصلصلة الجرس، أو دويٍّ كدوي النحل، وقد دل على هاتين الحالتين حديث سؤال" الحارث بن هشام" النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كيفية مجيء الوحي إليه؟ وهو في صحيح البخاري كما تقدم. والوحي بجميع أنواعه يصحبه علم يقيني ضروري من الموحى إليه بأن ما ألقى إليه حق من عند الله ليس من خطرات النفس ولا نزعات الشيطان، وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مقدمات، وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية، كالجوع والعطش والحب والبغض. والله أعلم.
(1)
لفظ "قرآن" قد اختلف فيه العلماء من جهة الاشتقاق أو عدمه، ومن جهة كونه مهموزًا أو غير =
وَالْخَارِجِيَّةُ لا يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا عَلَى تَعَقَّلِ الْمُفْرَدَيْنِ وَهذِهِ مُتَوَقِّفَةٌ.
لأصل في عِلَّة الحكم، فالقياس، وإلا فالاستدلالُ.
= مهموز، ومن جهة كونه مصدرًا أو وصفًا على أقوال نجملها فيما يأتي: أما القائلون: بأنه "مهموز" فقد اختلفوا على رأيين:
الأول: قال جماعة منهم اللحياني: القرآن: مصدر "قرأ" بمعنى: تلا، كالرجحان والغفران، ثم نقل من هذا المعنى المصدري، وجعل اسمًا للكلام المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من باب "تسمية المفعول بالمصدر"، ويشهد لهذا الرأي ورود القرآن مصدرًا بمعنى: القراءة في الكتاب الكريم، قال تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي قراءته. وقول حسان، بن ثابت يرثي ذا النورين عثمان رضي الله عنه:[البسيط]
ضَحُّوا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ
…
يُقطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرآنًا
أي قراءة.
الثاني: قال جماعة منهم الزجاج: إنه وصف على فعلان مشتق من "القرء" بمعنى الجمع، يقال في اللغة: "قرأت الماء في الحوض، أي جمعته، ثم سمي به: الكلام المنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم لجمع السور والآيات فيه، أو القصص والأوامر والنواهي، أو لجمعه ثمرات الكتب السابقة. وهو على هذين الرأيين مهموز، فإذا تركت الهمزة، فذلك للتخفيف، ونقل حركتها إلى الساكن قبلها، والألف واللام فيه ليست للتعريف، وإنما للمح الأصل. والقائلون بأنه غير مهموز اختلفوا في أصل اشتقاقه:
1 -
فقال قوم منهم الأشعري: هو مشتق من "قرنت الشيء بالشيء، إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، وسمى به "القرآن" لقران السور والآيات والحروف فيه.
2 -
وقال الفراء: هو مشتق من "القرائن" لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضًا، ويشابه بعضها بعضًا، وهي قرائن. أي أشباه ونظائر. وعلى هذين القولين: فنونه أصلية، بخلافه على القولين الأولين، فنونه زائدة. رأي خامس مقابل للأقوال السابقة. وهو أنه اسم علم غير منقول، وضع من أول الأمر علمًا على الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو غير مهموز. وهذا القول مروي عن الإمام الشافعي، أخرج البيهقي والخطيب وغيرهما عنه. أنه كان يهمز قراءة، ولا يهمز " القرآن"، ويقول، "القران" اسم وليس بمهموز ولم يؤخذ من قراءة، ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل. وبالتخفيف فرأ ابن كثير وحده؛ أما بقية السبعة فقرأوا بالهمزة، وأرجح الآراء وأخلقها بالقبول "الأول" ويليه الرأي الثاني.
ومما يقوي مذهب القائلين بالهمز. أنهم خرجوا التخفيف تخريجًا علميًا صحيحًا، ولا أدري ماذا يقول القائلون بالرأي الأخير في توجيه قراءة لفظ "القرآن" بالهمز، مع أن عليها معظم القراء السبعة، كما ذكرنا آنفًا؟!. ويرى بعضهم أن "قرآن" مأخوذ من "قرأ" بمعنى "تلا" وهذا الفعل أصله في اللغة=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"وهي" - أي: الأدلة غير الكتاب - "راجعة إلى الكلام النَّفسي"، وإلا لم يكن حُجَّة.
قال علماؤنا: وقد اشتمل الكتاب على جميع الأحكام؛ لقوله - تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: الآية 89]، وقوله:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام: الآية 38].
وقال الشَّافعي رضي الله عنه: "وليست تنزل بأحد في الدِّين نَازِلَةٌ إلَّا في كتاب الله الدليل على سبيل الهُدَى فيها".
فإن قيل: في الأحكام ما ثبت ابتداء بالسُّنَّةِ.
فلنا: ذلك مأخوذ من كتاب الله - تعالى - في الحقيقة؛ لأن كتاب الله أوجب علينا اتّباع الرسول عليه الصلاة والسلام، وفرض علينا الأخذ بقوله.
قال الشَّافعي رضي الله عنه: [فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله - تعالى - قَبِل]
(1)
.
= الآرامية، ثم دخل العربية قبل الإسلام بزمن طويل، ولو صح هذا، فلا ضير فيه؛ لأن هذه الكلمة وأمثالها - وإن كانت في الأصل أعجمية - فقد صارت بعد التعريب عربية بالاستعمال، وبإخضاعها لأصول العرب في نطقهم ولغتهم، واندمجت فيها حتى صارت جزءًا منها، فنزل القرآن بها، وهي على هذا الحال. والقرآن عند الأصوليين، والفقهاء، وأهل العربية هو كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم المعجز بلفظه، المتعبد بتلاوته، المنقول بالواتر، المكتوب في المصاحف، من أول سورة "الفاتحة" إلى آخر سورة "الناس". وذهب المحققون من الأصوليين، والفقهاء، وأهل العربية: إلى أن لفظ القرآن" علم شخصي" مدلوله: الكلام المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من أول سورة "الفاتحة" إلى آخر سورة "الناس" وعلميته: باعتبار وضعه للنظم المخصوص، الذي يختلف باختلاف المتلفظين، ولا عبرة بتعدد القارئين والمحال.
وعلى هذا فما ذكره "الأصوليون" وغيرهم من تعاريف للقرآن، ليس تعريفًا حقيقيًا؛ لأن التعريف الحقيقي لا يكون إلا للأمور الكلية، وإنما أرادوا بتعريفه: تمييزه عما عداه مما لا يسمى باسمه، كالتوراة والإنجيل، والأحاديث القدسية، وما نسخت تلاوته.
ويرى بعض العلماء: أن لفظ القرآن موضوع للقدر المشترك بين الكل وأجزائه، فمسماه: كلي. كالمشترك المعنوي. ويرى فريق ثالث أنه مشترك لفظي بين الكل وبين أجزائه، فهو موضوع لكل منهما بوضع. والحق: أنه علم شخصي، مشترك لفظي بين الكل وأجزائه، فيقال لمن قرأ اللفظ المنزل كله: قرأ قرآنًا. ويقال لمن قرأ بعضه: قرأ قرآنًا. وهو ما يفهم من كلام الفقهاء حينما قالوا: "يحرم على الجنب قراءة القرآن" فإنهم يقصدون: قراءة كله أو بعضه على السواء.
(1)
في هامش ح: لعل العبارة فممن نقل عن النبي فعن الله نقل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإن قيل: هيأت القبوض في [البياعَاتِ]
(1)
، وكيفية الإحراز في السرقة، وغالب النقود في المُعَاملات ليس لها أصل في الكتاب ولا في السُّنَّةِ.
قلنا: قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأعراف: الآية 199].
والعرف: ما يعرفه الناس، ويتعارفونه فيما بينهم معاملة، فصار ما ذكرتم معتبرًا بالكتاب.
وروي أن الشافعي كان بـ "مكة" يقول: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله، فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور
(2)
، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. قال الله - تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر: الآية 7].
[وحدثنا]
(3)
سفيان بن عُيَيْنَة
(4)
عن عبد الملك بن .......................
(1)
في أ: التبعات.
(2)
الزنبور: الدبر، وهي تؤنث، والزنابير لغة فيها، وربما سميت النحلة زنبورًا، والجمع الزنابير قال ابن خالويه في كتاب ليس: "ليس أحد سمعته يذكر كنية الزنبور إلا أبا عمر والزاهد، فإنه قال: كنيته أبو عليّ، وهو صنفان جبليّ وسهلي، فالجبلي يأوي الجبال، ويعشش في الشجر ولونه إلى السواد وبدء خلقه دود ثم يصير كذلك ويتخذ بيوتًا من تراب كبيوت النحل، ويجعل لبيته أربعة أبواب لمهاب الرياح الأربع، وله حمة يلسع بها، وغذاؤه من الثمار والأزهار ويتميز ذكورها من إناثها بكبر الجثة، والسهليّ لونه أحمر، ويتخذ عشه تحت الأرض ويخرج منه التراب كما يفعل النمل ويختفي في الشتاء؛ لأنه متى ظهر فيه هلك، فهو ينام من البرد طول الشتاء كالميتة ولا يدّخر القوت للشتاء بخلاف النمل، فإذا جاء الربيع وقد صارت الزنابير من البرد وعدم القوت كالخشب اليابس نفخ الله تعالى في تلك الجثت الحياة فتعيش مثل العام الأول، وذلك دأبها، ومن هذا النوع صنف مختلف اللون مستطيل الجسد في طبعه الحرص والشره يطلب المطابخ ويأكل ما فيها من اللحوم، ويطير منفردًا، ويسكن بطن الأرض والجدران. حياة الحيوان للدميري 2/ 10 - 11.
(3)
في أ، ح: حديث.
(4)
سفيان بن عيينة بن أبي عمر بن الهلالي مولاهم أبو محمد الأعور الكوفي، أحد أئمة الإسلام. روى عن عمرو بن دينار والزُّهري، وزيد بن أسلم وغيرهم، كان حديثه نحو سبعة آلاف. قال ابن وهب: ما رأيت أعلم بكتاب الله من ابن عيينة. وقال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، ولد سنة 107 هـ وتوفي سنة 198 هـ. ينظر: الخلاصة 1/ 397 (2590) الحلية 7/ 270 - 318، والمعارف ص 506 - 507، والوفيات 2/ 391 - 393.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عُمَيرة
(1)
عن ربعي بن خِرَاش
(2)
عن حذيفة بن اليَمَانِ
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي "أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ"
(4)
.
وحدثنا سفيان بن عُيَيْنة عن مسعر بن كدام
(5)
عن قيس بن ..............
(1)
في ح: عمرة.
(2)
رِبعي بن حرَاش العَبْسِيُّ أبو مريم الكوفي عن: عمر وعلي وأبي مسعود عقبة وأبي ذر وأبي موسى.
وعنه: منصور وعبد الملك بن عمير وأبو مالك الأشجعي ونعيم بن أبي هند.
قال العجلي: من خيار الناس؛ لم يكذب كذبة قط. قال أبو عبيد: مات سنة مائة، وقال ابن معين: سنة أربع. ينظر: تهذيب الكمال 1/ 401، وتهذيب التهذيب 3/ 236، خلاصة تهذيب الكمال 1/ 317، والكاشف 1/ 302، والجرح والتعديل 3/ 2307، والبداية والنهاية 9/ 220.
(3)
حذيفة بن اليمان واسمه حُسَيْل مصغر العَبْسي أبو عبد الله الكوفي حليف بني عبد الأشهل، صحابي جليل من السابقين. أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة من الفتن والحوادث، روى عنه أبو الطفيل والأسود بن يزيد وزيد بن وهب وربعي بن حِرَاش. مات سنة ست وثلاثين.
وقال عمرو بن علي: بعد قتل عثمان بأربعين ليلة. ينظر: الخلاصة 1/ 201، وتاريخ خليفة 182، والتاريخ الكبير 3/ 95، والجرح والتعديل 3/ 256، وسير أعلام النبلاء 2/ 361.
(4)
من حديث حذيفة أخرجه أحمد في المسند 5/ 399، والترمذي في السنن 5/ 610 في كتاب المناقب (50) باب في مناقب أبي بكر وعمر (16) حديث (3663)، وأخرجه ابن ماجه في السنن 2/ 37، المقدمة باب حذيفة في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (11) الحديث (97)، وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 75 كتاب معرفة الصحابة؛ باب: أحاديث فضائل الشيخين وصححه ووافقه الذهبي واللفظ له، وأخرجه ابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص (538 - 539) كتاب المناقب (36) باب: فيما اشترك فيه أبو بكر وعمر .. (3) الحديث (2193)، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 2/ 98، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 98، والخطيب في التاريخ 4/ 337، 7/ 403، 12/ 20.
(5)
مسعَر بن كِدَام بن ظُهَيْر بن عُبيَدة بن الحارث هلال بن عامر بن صَعْصَعَة الهلالي الرُّوَّاسِي، أبو سلمة الكوفي أحد الأعلام. عن: عطاء وسعيد بن أبي بردة والحكم وخلق. وعنه: سليمان التيمي وابن إسحاق وشعبة والثوري. قال محمد بن بشر: كان عنده ألف حديث. وقال القطان: ما رأيت مثله، كان من أثبت الناس. وقال شعبة: كان يسمى (المُصْحف) لإتقانه.
قال الفلاس: مات سنة ثلاث وخمسين ومائة. ينظر: تهذيب الكمال 3/ 1321، وتهذيب التهذيب =
مَبْحَثُ الْكِتَابِ
الكِتَابُ: القُرْآن، وَهُوَ الْكَلامُ الْمُنَزَّلُ لِلإعْجَازِ بِسُورَةٍ مِنْه، ............
مسلم
(1)
عن طارق بن شهاب
(2)
عن عمر بن الخَطَّاب أنه أمر بقتل المحرم الزُّنبور
(3)
.
والكلام نفسه صفة لله - تعالى - "وهي" أي: صفة الكلام - "نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلّم".
"والعلم بالنسبة" - أي: تصور الكلام النَّفسي -، والعلم بكونه نسبة "ضروري".
وأما أنها النسبة القائمة بالنَّفس؛ فلأنها "لو لم تقم به لكانت النسبة الخارجية"؛ لأنها نسبة، ولا مخرج لها عنهما، فإن الثابت ثابت إما في النفس، أو خارج النفس، فإذا انتفى أحدهما تعيَّن الآخر؛ "إذ لا غيرهما"، واللَّازم منتفٍ؛ إذ "الخارجية لا يتوقف حصولها على تعلق
(4)
المفردين"؛ لأن نسبة القياس إلى زيد إذا ثبت
(5)
في الخارج، ثبت سواء عقل زيد والقيام أم لا، "وهذه" النسبة "موقوفة" على تعقُّل المفردين، فلم تكن هي الخارجية.
الشرح: "الكتاب: القرآن - وهو: الكلام المُنَزّل؛ للإعجاز بسورة منه"
(6)
، وقد خرج بِقَيْدِ
= 10/ 113 (209)، والكاشف 3/ 137، وتاريخ البخاري الكبير 8/ 13، والجرح والتعديل 8/ 1685، وطبقات ابن سعد 6/ 400.
(1)
قيس بن مسلم الجدلي أبو عمرو الكوفي. عن طارق بن شهاب والحسن بن محمد بن علي. وعنه: الأعمش ومسعر وشعبة؛ موثق. مات سنة عشرين ومائة. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 1138، وتهذيب التهذيب 8/ 403 (721)، وتقريب التهذيب 2/ 130، والكاشف 2/ 406، وتاريخ البخاري الكبير 7/ 154، والجرح والتعديل 7/ 588، والثقات 5/ 309، وتراجم الأحبار 3/ 274.
(2)
طارق بن شهاب الأحمسي؛ كوفي مخضرم، وله رؤية؛ قاله أبو داود. وعن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى. وعنه: قيس بن مسلم وعَلْقَمَة بن مَرْثَد. وثقه ابن معين. قال خليفة: مات سنة اثنتين وثمانين، وقال محمد بن نُمَيْر: سنة أربع. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 622، وتهذيب التهذيب 5/ 3 (5)، وتقريب التهذيب 1/ 376 (5)، والكاشف 2/ 40، والبداية والنهاية 9/ 51، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 274، وسير الأعلام 3/ 486، وخلاصة التهذيب 2/ 8.
(3)
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث سويد بن غفلة (5/ 211).
(4)
في ت، ح: تعقل.
(5)
في ب: ثبتت.
(6)
ينظر: الإحكام للآمدي 1/ 147، وشرح العضد 2/ 19، والمستصفى 1/ 101، وجمع الجوامع بشرح المحلى 1/ 294، وتيسير التحرير 3/ 8، وكشف الأسرار 1/ 22، وإرشاد الفحول ص (29)،=
وَقَوْلُهُمْ: مَا نُقِلَ بَيْنَ دَفَّتَي المُصْحَفِ تَوَاتُرًا - حَدٌّ لِلشَّيْء بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ؛ لأِنَ وُجُودَ الْمُصْحَفِ وَنَقْلَهُ فرْعُ تَصَوُّرِ القُرْآنِ.
مَسْأَلةٌ:
مَا نُقِلَ آحَادًا فَلَيْسَ بِقُرْآنٍ؛ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ العَادَةَ تَقْضِي بِالتَّوَاتُرِ فِي ............
الإعجاز ما أنزل لا للإعجاز، وقيد
(1)
السورة مخرج بعض السورة والآية، فإن التحدي إنما وقع بالسورة؛ وهذا الحدُّ من صنيع المصنّف.
والآمدي عرَّفه بأنه القُرآن المُنَزّل.
وقد أخذ هو والمصنف المنزل قيدًا في التعريف؛ لأن الحد للفظ فأراد إخراج النفساني بذلك.
ولقائل أن يقول: الألفاظ عَرَض، ولا تقبل حقيقة النزول، وإذا انتفت الحقيقة فيصح وصف النَّفْسَاني بالنزول مجازًا أيضًا؛ إذ لا نعني بنزوله إلا التعبير عنه في العالم السفلي "وقولهم" - في تعريف القرآن - "ما نقل بين دَفَّتي المُصحف تواترًا" لا يستقيم؛ إذ هو حد "للشيء بما يتوقّف" معرفته "عليه؛ لأن وجود المُصْحف، ونقله فرع تصوّر القرآن"، فلا يعرف القرآن بهما، وإلَّا يلزم الدَّور.
"مسألة"
الشرح: لا بد من تواتر القرآن جملة وتفصيلًا، فكلّ "ما نقل آحادًا، فليس بقرآن؛ للقطع بأن العادة تقضي بالتَّوَاتر في تفاصيل مثله"؛ إذ هذا المعجز العظيم مما تتوفَّر
(2)
الدواعي على نقل جُمَلِهِ وتفاصيله.
"وقوة الشُّبهة في {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} منعت من التكفير
(3)
من الجانبين": جانب الشافعية حيث يجعلونها آية من كُلّ سورة على الأصح عندهم، فيما عدا "الفاتحة" و"براءة"، فإنها
= والبحر المحيط 1/ 441، والإبهاج 1/ 189، ونهاية السول 2/ 3، وأصول السرخسي 1/ 279، والمغني للخبازي ص (185)، وفواتح الرحموت 2/ 7، ومختصر ابن اللحام ص (7)، وروضة الناظر ص (34).
(1)
في ب: وصح.
(2)
في أ، ح: يتوفر.
(3)
في ب: التفكير.
تَفَاصِيلِ مِثْلِهِ. وَقُوَّةُ الشُّبْهَةِ فِي {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَنَعَتْ مِنَ التَّكْفِيرِ مِنَ الجَانِبَيْنِ،
آية من "الفاتحة" بلا خلاف، وغير آية من "براءة" بلا خلاف، وجانب المالكية والقاضي أبو بكر، حيث زعموا أنها ليست من القرآن.
وليس الخلاف [فيها]
(1)
في قوله - تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة النمل: الآية 30]، بل هي هناك من القرآن بإجماع المسلمين، فلا يكفر أحد من الفريقين ولا يفسّق.
وهذا ما يتعلّق بالأصول، ثم دخل المصنّف في ما لا يعنيه، وألقى بنفسه في لُجَّة لا تنجيه فأخذ يتعصّب
(2)
لقومه، ويقيم على أن البَسْمَلَةَ ليست من القُرْآن دليلًا بزعمه فورَّط نفسه في عظيم، وفوت
(3)
نحوها سهام [راسفين]
(4)
يبلغون الصميم، فقال:"والقطع أنها لم تَتَوَاتر في أول السّور قرآنًا فليست بقرآن فيها قطعًا كغيرها"، - أي: كغير التَّسْمية؛ لما ذكر من أن ما نقل آحادًا، فليس بقرآن، "وتواترت بعض آية في "النَّمل" فلا مخالف فيها" في "النمل".
ولقائل أن يقول: لم قلت يا بن الحاجب: إنها لم تتواتر في أوائل السور، وقد تضمنتها مصاحف الصحابة
(5)
فمن بعدهم، وصحَّ عن أمِّ سَلَمَة
(6)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "البسملة" في أول "الفاتحة" وعدّها آية؟
وعن ابن عَبَّاس رضي الله عنه في قوله - تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [سورة الحجر: الآية 87] قال: وهي فاتحة الكتاب.
قال: فأين السَّابعة؛ قال: بسم الله الرحمن الرحيم. أخرجهما ابن خُزَيْمَةَ وغيره.
وعن ابن عبَّاس قال: كان النبي (3) صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن
(1)
سقط في أ، ت، ح.
(2)
في ت: لتعصب.
(3)
في أ، ب، ت، ح: فوق.
(4)
في أ، ح: واسعين، في ب: راسغين، وهو تحريف.
(5)
في أ، ح: للصحابة.
(6)
هند بنت أبي أميَّة بن المُغِيرة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم القرشية المخزومية: أم سلمة وأم المؤمنين. لها ثلاثمائة وثمانية وسبعون حديثًا. وعنها: نافع وابن المُسَيِّب وأبو عثمان النَّهْدِي وخلق. قال الواقدي: توفيت سنة تسع وخمسين. قال الذهبي: هي آخر أمهات المؤمنين وفاة. ينظر: الثقات 3/ 439، وأسد الغابة 7/ 289، وأعلام النساء 5/ 221، والدر المنثورة 531، والكاشف 3/ 483، وتهذيب الكمال 3/ 1699، والخلاصة 3/ 394.
وَالقَطْعُ أَنَّهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ قُرْانًا، فَلَيْسَتْ بِقُرْآنٍ فِيهَا قَطعًا كَغَيْرِهَا، وَتَوَاتَرَتْ بَعْضُ آيَةٍ فِي "النَّمْلِ" فَلا مُخَالِفَ.
الرحيم
(1)
. رواه أبو دَاوُدَ والحاكم
(2)
، وصحَّحه وقال: على شرط الشَّيخين.
وعن علي وأبي هريرة
(3)
وابن عباس وغيرهم: أن الفاتحة هي السبع المثاني
(4)
، وهي
(1)
أخرجه أبو داود 1/ 269 في الصلاة، ياب: من جهر بها حديث - (788)، والحميدي برقم (528)، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان 2/ 256، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 42، والطحاوي في مشكل الآثار 2/ 253، وذكره السيوطي في الدر المنثور 1/ 26، وعزاه لأبي داود والبزار والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في المعرفة من حديث ابن عباس.
(2)
محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم، الضبي، الطهماني، الحافظ أبو عبد الله، الحاكم النيسابوري المعروف بابن البيع، صاحب المستدرك، وغيره من الكتب المشهورة، كان مولده سنة 321، ورحل في طب الحديث، وسمع الكثير على شيوخ يزيدون على ألفين، وتفقه على أبي علي بن أبي هريرة وأبي الوليد اليسابوري وأبي سهل الصعلوكي وغيرهم، أخذ عنه أبو بكر البيهقي، وصنف المصنفات الكثيرة. مات سنة 405. انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 193، ولسان الميزان 5/ 232.
(3)
أبو هريرة، اسمه: عبد الرحمن بن صخر الدوسي الحافظ، له خمسة آلاف وثلائمائة وأربعة وسبعون حديثًا؛ اتفقا على ثلاثمائة وخمسة وعشرين. وعنه: إبراهيم بن حنين، وأنس وبُسْر بن سعيد وسالم وابن المسيب وتمام ثمانمائة نفس ثقات. قال ابن سعد: كان يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة. قال الواقدي: مات سنة تسع وخمسين عن ثمان وسبعين سنة. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 795، وتهذيب التهذيب 6/ 199، وتهذيب تهذيب الكمال 2/ 397، والكاشف 2/ 169، والجرح والتعديل 5/ 246، وطبقات ابن سعد 4/ 52، وأسد الغابة 6/ 318، وديوان الإسلام ت (2145)، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 397.
(4)
ذكره السيوطي في الدر 4/ 104 وعزاه لابن جرير وابن المنذر والطبراني، وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في "سننه" وروى مرفوعًا من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (4474) و (5006) ومن طريق آخر أخرجه الترمذي 5/ 143 في كتاب فضائل القرآن، باب فضل فاتحة الكتاب حديث (2875) ومن حديث أبي سعيد بن المعلى أخرجه النسائي في المجتبي 2/ 139 في الافتتاح، باب "ولقد آتيناك سبعًا من المثاني" وأحمد في المسند 2/ 357، 132، 5/ 114 والحاكم في المستدرك 2/ 191 وروى موقوفًا من كلام عمر بن الخطاب أخرجه ابن جرير وابن المنذر كما في الدر المنثور 4/ 104. ومن كلام علي كما في المصدر السابق أخرجه الفريابي وسعيد بن منصور وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني وابن مردويه والبيهقي في "شعب =
قَوْلُهُمْ: مَكْتُوبَةٌ بِخَطِّ المُصْحَفِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:"سَرَقَ الشَّيْطَانُ مِنَ النَّاسِ آيَةً" لا يُفِيدُ؛ لأِنَّ القَاطِعَ يُقَابِلُهُ.
سبع آيات و"البسملة" السابعة، وفي بعض الروايات عن أبى هريرة رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البيهقي
(1)
.
وفي الدَّارقطني
(2)
عن أبي هريرة نحوه، والروايات كثيرة فلا نطيل.
ولا يظنّ الظَّانّ أنا ندَّعي تواتر ما ذكرناه الآن، فإنا نحن لم نثبت البسملة، إنما المثبت لها إمامنا الشافعي، فلعلَّها تواتر عنده، وربّ متواتر
(3)
عند قوم دون آخرين، وفي وقت دون آخر.
وهذه طريقة جَدَلِيَّة ذكرناها في مقابلة دعوى ابن الحاجب القطع، وهي [تنهض]
(4)
بإفساد كلامه فَأَنى ينهض
(5)
القطع مع كونها مَسْطُورَةً في المصاحف ومع ما سطَّرناه من الروايات.
ومن العجب دعواه القَطْع بعد أن اعترف بأن الشُّبْهة موجودة من الجانبين، فإذا كان جانبه ذا شبْهة، فكيف يكون ذا دليل قاطع؟
= الإيمان" من طرق. ومن كلام عبد الله بن مسعود كما في المصدر السابق أخرجه ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه.
(1)
أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، الإمام الحافظ الكبير، أبو بكر البيهقي، سمع الكثير ورحل وجمع وصنف، مولده سنة 384، تفقه على ناصر العمري، وأخذ علم الحديث عن أبي عبد الله الحاكم، وكان كثير التحقيق والإنصاف، قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي، فإن له على الشافعي منة لتصانيفه في نصرة مذهبه. ومن تصانيفه السنن الكبير، والسنن الصغير، ودلائل النبوة وغيرها. مات سنة 458، ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 220، والأعلام 1/ 113.
(2)
أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان، البغدادي الدارقطني، الحافظ الكبير، ولد سنة 306، تفقه بأبي سعيد الإصطخري، صنف المصنفات المفيدة، منها السنن والعلل وغيرهما، قال الحاكم: صار أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع، وإمامًا في النحو، والقراءة، وأشهد أنه لم يخلق على أديم الأرض مثله. مات سنة 385. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 161، وتاريخ بغداد 12/ 34، ووفيات الأعيان 2/ 459.
(3)
في أ، ح: تواتر.
(4)
في أ: تنهض.
(5)
في أ، ح: تنتهض.
قَوْلُهُمْ: لَا يُشْتَرَط التَّوَاتُرُ فِي المَحَلِّ بَعْدَ ثُبُوتِ مِثْلِهِ - ضعِيفٌ يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ سُقُوطِ
[ثم]
(1)
قال: "قولهم: مكتوبة بخط المصحف، وقول ابن عباس: سرق الشَّيْطان من النَّاس آية" يعني: البسملة
(2)
"لا يفيد؛ لأن القاطع يقابله"، ومراده أن هذين الدليلين ظنيَّان، ونحن نمنع
(3)
ذلك كما عرفت.
ونقول: وضعها في المَصَاحف بخطّ المصحف من جميع الأمة مع إيهام أنها من القرآن بذلك دليل قاطع، وبرهان ساطع على أنها من القُرْآن مع ما انضم إلى ذلك مِمَّا رويناه.
ولو سلَّمنا القَطْع بعدم التوَاتر فلم قال: لا يفيد الآحاد فيما نحن فيه وقد أشار لهذا بقوله: "قولهم": لا يشترط القطع بتَوَاتُرِهَا في أوائل السور بعد تواترها في "النمل"، بل يكتفي به؛ إذ "لا يشترط التَّوَاتر في المَحَلّ بعد ثبوت مثله".
وهذا شيء ذكره الغَزَّالي - وهو الحَقّ عند الإنصاف - فهي من القرآن قطعًا.
وأما كونها من أوائل السور أوآية مستقلة إلى غير ذلك من التفاصيل، فأمر اجتهادي.
وذكر المصنّف أنه "ضعيف"، قال: لأنه "يستلزم سقوط كثير من القرآن المكرر"؛ لأنه يقال: يكتفي بأصله عن تَوَاتره في المحل.
قال: وكذلك يستلزم "جواز إثبات ما ليس بقرآن"، مثل:" {وَيْلٌ" يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [سورة المرسلات: الآية 15]، " {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [سورة الرحمن: الآية 13]؛ لجواز أن يكون الثابت بالتواتر بعض المكررات، ويكون البعض الآخر ثابتًا بالآحاد بناء على عدم اشتراط التواتر في المحل بعد ثبوت مثله.
"لا يقال: يجوز" سقوط ما ذكرتم بالنَّظَر إلى الأصل، "ولكنه اتفق تواتر ذلك" بخلاف التسيمة؛ "لأنا نقول": لو فرضنا أنه قطع "النَّظر عن ذلك الأصل" - وهو اتفاق تواتر المكرر - "لم يقطع بانتفاء السقوط"، ولا بانتفاء الإثبات أيضًا؛ لكون القَطْع بها مستفادًا من تواتر المكرر،
(1)
سقط في ح.
(2)
أحرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 50 وقال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، لكنه منقطع بن ذر بن عبد الله المرهبي وابن عباس؛ فإن بينهما سعيد بن جبير، ثم قال: أخرجه ابن خزيمة في كتابه في "البسملة" هكذا، وأخرجه من وجه أصح منه من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه، وكذا ابن المنذر في "الأوسط" وأخرجه سعيد بن منصور من وجه ثالث عن ابن عباس.
(3)
في ب: فمنعه.
كَثِيرٍ مِنَ القُرآنِ المُكَرَّرِ، وَجَوَازَ إِثْبَاتِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ مِنْهُ مِثْلُ {وَيْلٌ} [سورة المرسلات:
"ونحن" - مع قطع النظر عن ذلك الأَصْلِ - "نقطع بأنه لا يجوز" كلّ واحد من السّقوط والإثبات "والدليل" على اشْتِرَاطِ التَّواتر في القرآن "نَاهِض" على عدم السقوط والإثبات؛ "ولأنه يلزم" من قولكم: إن تواتر المكرر وقع اتفاقيًّا، وعدم اشتراط التَّوَاتر فيه "جواز ذلك" - أعني: السقوط، والإثبات "في المستقبل" - وهو باطك، فيصير التواتر آحادًا بموت المخبرين، أو غير ذلك.
ونقول إذ ذاك: بعض المجتهدين يردّه؛ لأن القرآن لا يثبت بالآحَادِ.
هذا كلام ابن الحَاجِبِ، وهو في غاية السقوط؛ فإن ما ذكره ليس بلازم لوجوه: أحدها: أن المكرر ليس منه واحد وقع الاتِّفَاق على أنه بعينه من القرآن، فلو جاز السقوط فيه لكان إما معينًا في واحد، وهو ترجيح من غير مرجّح.
وإمَّا الكُلّ وهو يستلزم سقوط بعض القرآن، وهذا بخلاف التَّسْمية، فإنها في "النمل" محققة، فجواز السقوط يتطرَّقُ إليها في غير "النمل".
والحاصل: أن البَسْمَلَةَ من القرآن قطعًا، ومن كل سورة ظنًّا، وما ذكره قوله - تعالى:{فَوَيْلٌ} ، {فَبِأَيِّ} لا يجيء فيه ذلك.
والثَّاني: أن ما ذكره من المكرر ليس تكريرًا إلَّا في اللَّفظ فقط، وكل واحد متعقّب
(1)
؛ لأنه يختص بها، ومراد به معنى ليس هو الأول، بخلاف البَسْمَلَةِ في السورة فإنها للتبرك في الجميع.
والثالث: ما ذكره ابنُ الحَاجِبِ من وقوع التَّوَاتر اتفاقًا، وما دفعه به ضعيف.
قوله: يلزم جواز ذلك في المُسْتقبل.
[قلنا]
(2)
: الجواز العَقْلِي ملتزم، وأما الشرعي، فمن تواتر عنده لا يتصور بغير الحال عنده لحصول العلم [له]
(3)
.
وأما من لم يتَّصل به التواتر، فلم قلتم: إنه لا يجتهد وهو لم يبلغْه إلا بخبر واحد، وقد قلتم: إن خبر الواحد لا يثبت به القرآن، ومع هذا فالأمة آمنة من وقوع ذلك لقوله - تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: الآية 9].
(1)
في ح: متعصب.
(2)
سقط في أ، ت، ح.
(3)
سقط في أ، ت، ح.
الآية 19]، وَ {فَبِأَيِّ} [سورة الرحمن: الآية 16]. لَا يُقَالُ: يَجُوزُ وَلكِنَّهُ اتَّفَقَ تَواتُرُ ذلِكَ؛ لأَنَّا
واعلم: أن ذكر هذه المسألة في الأصول - فضولٌ، وذهاب القاضي أبي بكر إلى أنها قطعية - ضعيف.
والإنصاف أنها ظنية، وإن كنا قد قدّمناه، فذلك على سبيل المُعَارضة والمقابلة، ولا يستراب في حكمنا بأنها من القُرْآن دون حكمنا على آية الكرسي ونحوها.
وأما الاشتغالُ بأن الحق فيها ما هو فمن وظائف الفقيه، والذي ندين به رَبّ العالمين أن الحق في جانب الشَّافعي
(1)
.
وقول القاضي أبي بكر: أَسْتخير الله، وأقطع بخطأ الشافعي معترض
(2)
بأنا نبادر إلى القول بتخطئة القاضي من غير تَوَقُّفٍ ولا تَلَعْثُمٍ؛ لأن الإقدام على ذلك خيرٌ مَحْضٌ، وعبادة بَتَّة لا يحتاج قبلها إلى الاستخارة.
وما بالُ ابن البَاقِلَّاني - وإن كان أستاذ المتكلمين - ينادي بهذا المَقَال الذي لا يسلم لأبي حنيفة ومالك، وعصبة الحَقّ ساكتون.
وقد وقع في "شرح القطب الشِّيرازي" أن القاضي قال: إن الخطأ فيها إن لم يبلغ إلى حَدّ التكفير، فلا أقل من التَّفْسِيقِ، وهذا مختلق على القاضي وإن ذكره الإمام فخر الدِّين في "تفسيره".
معاذ الله أن يقول ذلك، ولقد بحثت عن كلماته، ووقفت على كتابه "الانْتِصَار لنقل القرآن" - وهو من نَفَائس كتبه - فوجدته قد أشبع القول فيه، ولم يتعرض لفسق، وَسُبْحَان الله القاضي أجلُّ من ذلك.
ومن طالع كلامه وجده أشد الخَلْق تعظيمًا للشَّافعي، بل ما أعرفه يعظِّم أحدًا من الأئمة مثل تعظيمه للشَّافعي.
(1)
هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه، ويوافقه على كونها [البسملة] آية برأسها من أوائل السور من القراء: ابن كثير، وعاصم، والكسائي، ووافقهم حمزة على الفاتحة خاصة، والقرآن كله بعد ذلك عنده في حكم السورة الواحدة، ولذلك يصل بين السورتين، ويترك التسمية. ينظر الشيرازي 162 ب/ خ.
(2)
في أ، ت، ح: معارض.
نَقُولُ: لَوْ قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ ذلِكَ الأَصْلِ، لَمْ يُقْطَعْ بِانْتِفَاءِ السُّقوطِ، وَنَحْنُ نَقْطعُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوز، وَالدَّلِيلُ نَاهِضٌ؛ وَلأَنَّهُ يَلْزَمُ جَوَازُ ذلِكَ فِي المُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وقد قال جَمَاعَةٌ: إنه كان شافعيَّ المذهب مع أن مَنْ ذاق مذاقًا من الشَّريعة يعلم أن التفسيق هُنَا لا وجه له في الجانبين، ولكن هؤلاء الذين شرحوا هذا المختصر بعيدون عن الشريعة عَارُونَ عن ثَبَاتِ
(1)
الفقه.
ولقد أعجبُ لهم وكلهم شافعية يمرّون بأمثال هذه المسألة، [ولا]
(2)
يزيد أكثرهم فيها على حلّ لفظ الكتاب، وأقسم بالله يمينًا برَّة لو تذزعوا لباس
(3)
الفقه ما حملت أخفسهم السكوت عن هذه العظائم.
وأحسن ما يُقال في الاعتراض على القاضي شيئان:
أحدهما: ما عارضه حُجَّة الإسلام في كتاب: حقيقة القولين وغيره في مقابلة قوله: لو كانت من القرآن لبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إلى اخر ما ذكره مع الاحتياج إلى ذلك، فإن كونها مكتوبة بخطّ القرآن في كلّ سورة منزلة على النبي صلى الله عليه وسلم مما يوهم أنها من القرآن، فيلزم بيان ذلك.
لا يقال: كلّ ما هو من القرآن مُنْحصر يمكن بيانه، بخلاف ما ليس من القرآن فإنه غير منحصر، فلا يمكن بيان أنه ليس من القُرْآن؛ لأنَّا نقول أولًا: لم قلتم: إنه لا يجب بيان ما ليس من القرآن قولكم: غير منحصر.
قلنا: نبيّنه على سبيل الإجمال بأن يقول: ما كان خارجًا عَن كيت وكيت، فهو غير قرآن.
سلَّمنا أن ذلك لا يجب على الجملة، ولكن ما الذي لا يجب أن نبيّن أنه ليس بقرآن كل ما عداه، أو ما وقع فيه الشَّك الأول مسلم.
والثاني: وهو محل النزاع - ممنوع وهو منحصر قليل ممكن.
والثَّاني: أنا ندعو القاضي أبا بكر إلى المُبَاهَلَةِ، هل قطْعُه بأن البسملة ليست من القرآن، كقطعه بأن التعوّذ ليس من القرآن؟!، ونحن نُجلُ مقداره عن أن يدَّعي ذلك.
وإن هو فاه بالحَقّ - وهو الظَّن به - وقال بالقَطْع فيهما متفاوت.
نقول: فأنت ممن لا يرى التفاوت بين العلوم.
(1)
في أ، ح: ثياب.
(2)
سقط في ت.
(3)
في أ، ب، ح: تدرعوا إلباس.
الْقِرَاءَاتُ
مَسْأَلَةٌ:
الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ
فِيمَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ، كَالْمَدِّ، وَالإِمَالَةِ، وَتَخْفِيفِ الهَمْزِ، وَنَحْوِهَا.
والتفاوت دليل الظن فما عندك غير ظَنّ غالب وأنت لا تجوِّز [القضاء به]
(1)
فلم حكمت به؟
لا يقال: فنحن ندعوكم أيضًا إلى المباهلة هل قَطَعتم بأنها من القرآن، كقطعكم بأن آية الكرسي من القرآن إلى آخر ما ذكرتموه؟ لأنا نقول: نحن عند الإنصاف لا نَدَّعي القَطْع فيها كما عرفت، ثم لو ادعينا القطع فما ندري ما رأي الشَّافعي رضي الله عنه في العلوم هل تقبل التفاوت أم لا؟.
«مسألة»
الشرح: "القِرَاءَات
(2)
السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ"
(3)
.
(1)
في أ، ت، ح: العصابة.
(2)
القراءات جمع قراءة، وهي في اللغة مصدر سماعي لـ"قرأ". وفي الاصطلاح مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القراء مخالفًا به غيره في النطق بالقرآن الكريم، مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها، قال السيوطي عند كلامه على تقسيم الإسناد إلى عالٍ ونازل ما نصه: ومما يشبه هذا التقسيم الذي لأهل الحديث، تقسيم القراء أحوال الإسناد إلى قراءة ورواية وعريق ووجه. فالخلاف إن كان لأحد الأئمة السبعة أو العشرة أو نحوهم، واتفقت عليه الروايات والطرق عنه، فهو قراءة. وإن كان للراوي عنه، فرواية. أو لمن بعده فنازلا، فطريق. أو لا على هذه الصفة ما هو راجع إلى تخيير القارئ فيه، فوجه. اهـ.
وفي "منجد المقرئين" لابن الجزري ما نصُّه: "القراءة علم بكيفيات أداء كلمات القرآن واختلافها بعَزْو النَّاقِلة
…
والمُقْرئ: العالم بها رواها مشافهة، فلو حفظ التيسير مثلًا ليس له أن يُقرئ بما فيه إن لم يُشافهه من شُوفِهَ به مسلسلًا؛ لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة. والقارئ المبتدئ من شرع في الإفراد إلى أن يفرد ثلاثًا من القراءات. والمنتهى مَنْ نقل من القراءات أكثرها وأشهرها.
(3)
هذه المسألة في بيان أن القراءات السبع متواترة، والمراد منها القراءات المنسوبة إلى القراء السبعة، وهم نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بشرط صحة إسنادها =
لَنَا: لَوْ لَمْ تَكُنْ لَكَانَ بَعْضُ الْقُرآنِ غَيْرَ مُتَوَاتِرٍ كـ"مَلِكٍ" وَ"مَالِكٍ" وَنَحْوِهِمَا،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إليهم، واستقامة وجهها في العربية، وموافقة لفظها خط المصحف المنسوب إلى صاحبها كـ"مالك" - بالألف - و"ملك" - بغير الألف - في مثالنا: المنسوب أولها إلى الكسائي وعاصم بإسناد صحيح مع كونه مكتوبًا بالألف في مصحفهما، واستقامة وجهه في العربية.
وثانيهما: إلى نافع وابن كثير وأبي عمرو، وابن عامر، وحمزة بإسناد صحيح أيضًا، وكونه مكتوبًا بغير الألف في مصحفهم. واستقامة وجهه في العربية، والمراد مما هي من قبيل الأداء هي القرآن التى صحت روايتها. ووجهها في العربية مع موافقة لفظها خطوط المصاحف أجمع على معنى أن يكون لها صورة واحدة في جميع المصاحف، ومع عدم اختلافها معنى، وإن اختلفت في الحركات الإعرابية والبنائية، والإظهار، والإدغام، والروم، والإشمام، والتفخيم والترقيق، والفتح والإمالة والقصر والمد والهمز وتخفيفه إلى غير ذلك مما هو من قبيل المذكورات: قال صاحب الطيبة: [الرجز]
وَكُلُّ مَا وَافَقَ وَجْهَ النَّحْو
…
وَكَانَ لِلرَّسْمِ احْتِمَالًا يَحْوِي
وَصَحَّ إِسْنَادًا هُوَ الْقُرْآنُ
…
فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الأَرْكَانُ
وَحَيْثُمَا يَخْتَلُّ رُكْنٌ أَثْبِتِ
…
شُذُوذَهُ لَوْ أَنَّهُ فِي السَّبْعَةِ
وأنت تعرف مما ذكرنا أن القراءات التي هي من قبيل الأداء هي في القراءات السبع؛ لانطباق حدها على ما نقلنا عنهم عليها، وليس كل ما هو في السبعة من قبيل الأداء كـ"ملك" و"مالك" فإنه من السبعة، وليس من قبيل الأداء، و"الضحى" بالفتح والإمالة من قبيل الأداء، وهو من السبعة، وكذا جميع نظائره، وكأنه إنما استثنى ما هو من قبيل الأداء، ولم يحكم عليه بالتواتر؛ لأن الحكم عليه به يتوقف على كونه بعض القرآن، وفيه بعد بخلاف الحكم على الكلمات بكونها بعضه؛ فإنها أبعاض بالضرورة، وهذا الفرق ضعيف، فإذن الأولى ما في النسخ المشهورة، والحكم على أن القراءات السبع مطلقًا كانت من قبيل الأداء أولًا متواترة؛ إذ كما أن الكلمات أبعاض القرآن كذلك الحركات والسكنات، وفيه نظر بعد.
والدليل على أن السبعة متواترة هو أنها لو لم تكن متواترة لكان بعض القرآن غير متواتر، والتالي باطل، فالمقدم مثله، أما الملازمة فلأن القراءات السبع أبعاض القرآن، وإلا لزم التخصيص من غير مخصص لو حكم ببعضية البعض دون الباقي، وهو تحكم باطل، وذلك لاستوائهما في صحة الإسناد، واستقامة وجهها في العربية، وموافقة لفظها خط المصحف المنسوب إلى صاحبها لا في كل شيء؛ لجواز أن يكون بعضها أولى فأحسن من البعض كما في مثالنا؛ فإن بعضهم ذهبوا إلى أن مالكًا أولى من "ملك"، وذلك لكونه أعم من حيث المعنى، ولذلك تصح إضافته إلى كل شيء =
وَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا تَحَكُّمٌ بَاطِلٌ؛ لاِسْتِوَائِهِمَا.
قال أبو شامة
(1)
: ولا يلتزم التَّوَاتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء فَبَيَّنَ المصنف في كتب القراءات اختلافًا كثيرًا.
وإنما التواتر فيما أجمعت
(2)
الطرق على نقله في السبعة، فذلك متواتر.
= كقولهم: فلان مالك الدبنار والدرهم، ولا يقال: ملك الدينار والدرهم، ولتضمنه معنى الفعل وجريانه عليه، ولذلك يعمل عمله، ولوصفه تعالى نفسه به في قوله:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} ، وبعضهم ذهبوا إلى أن "ملكًا" أولى من "مالك" لأن كل ملك مالك من غير العكس، ولمعاضة الإجماع على الضم في قوله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} يعني يوم الدين إياه؛ لأن الملك إنما يكون للملك لا للمالك، ولأن الرب هو المالك، فإذا قال: رب العالمين، ثم قال: مالك يوم الدين صار كأنه تكرار بخلاف ما لو قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لمخالفتها معنى، والإتيان بكلمتين مختلفتي المعنى أو بكلمتين لا تستلزم إحداهما الأخرى كالرب للمالك أبلغ في النظم، وأحسن في المدح. ولا يخفى أن التخصيص من غير مخصمى إنما يلزم من الحكم ببعضية "ملك" دون "مالك" أو بالعكس لو لم يجز ترجيح كون البعض قرآنًا دون البعض بكونه أولى وأحسن بل يتعين الترجيح بإحدى الثلاثة، وهي صحة الإسناد، واستقامة وجهها في العربية، وموافقة لفظها خط المصحف المنسوب إلي صاحبها.
أما لو جاز الترجيح بغير هذه الثلاثة لم يلزم الترجيح من غير مرجح، وهو واضح غاية الوضوح. وأما بطلان التالي فظاهر؛ لأن كل ما هو قران متواتر على ما سبق. ينظر: الشيرازي 173 أ، ب/ خ، والبرهان للزركشي 1/ 318، الإتقان 1/ 258، وشرح الكوكب المنير 2/ 127، جمع الجوامع 1/ 228، وتيسير التحرير 3/ 11، وفواتح الرحموت 2/ 15، وشرح لب الأصول ص (34) تقريب النشر ص (34).
(1)
عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر، شهاب الدين أبو القاسم المقدسي ثم الدمشقي، الفقيه، المقرئ، النحوي، المحدث، المعروف بأبي شامة، ولد سنة 599، وأتقن فن القراءة على السخاوي، وأخذ عن الشيخين عز الدين بن عبد السلام، وابن الصلاح، وكان يقال: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، قال الذهبي: وكتب الكثير من العلوم، وأتقن الفقه، ودرس وأفتى، وبرع في فن العربية .. " ومن تصانيفه: شرح الشاطبية، وكاب الروضتين وهو مطبوع وغيرهما. مات سنة 665.
ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 133، والأعلام 4/ 70، وطبقات السبكي 5/ 61.
(2)
في أ، ت، ح: اجتمعت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال المصنف: "فيما ليس من قبيل الأداء كالمَدّ
(1)
، والإمالة
(2)
، وتخفيف الهمزة، ونحوه
(3)
.
لنا: لو لم تكن"
(4)
السَّبع متواترة "لَكَان بعض القرآن غير متواتر، كـ"مالك"
(5)
، و"ملك، ونحوهما. وتخصيص أحدهما" بالتَّوَاتر دون الآخر "تحكم مَحْض؛ لاستوائهما" في النقل، فلم يَبْق إلا القول بتواترهما، وهو المدعي.
(1)
المد من اللغة: الزيادة، بقال: مد البحر مدًا: زاد، وفي اصطلاح القراء: إطالة الصوت بحرف مدى من حروف العلة. ينظر: المصباح المنير 2/ 566، النشر 1/ 313.
(2)
الإمالة في اللغة: الانحراف والعدول عن الشيء. وفي الاصطلاح: أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة؛ وبالألف نحو الياء. ينظر: المصباح المنير 2/ 588، النشر 2/ 30، والبرهان للزركشي 1/ 320.
(3)
ينظر: المختصر لابن اللحام ص (72)، التحرير لابن الهمام ص (300)، مسلم الثبوت 2/ 15.
(4)
في أ، ت: يكن.
(5)
وقرئ: "مالك" بالألف قال الأخفش: يقال: ملك بين الملك بضم الميم، ومالك بين الملك بفتح الميم وكسرها، وروي ضمها أيضًا بهذا المعنى. وروي عن العرب:"لي في هذا الوادي مَلْك ومُلْك ومِلْك" مثلثة الفاء، ولكن المعروف الفرق بين الألفاظ الثلاثة، فالمفتوح الشد والربط، والمضموم هو القهر والتسلط على من يتأتى منه الطاعة، ويكون باستحقاق وغيره، والمكسور هو التسلط على من يتأتى منه الطاعة ومن لا يتأتى منه، ولا يكون إلا باستحقاق فيكون بين المكسور والمضموم عموم وخصوص من وجه. وقال الراغب:"والمِلك - أي بالكسر - كالجنس للملك - أي: بالضم - فكل ملك - ملك، وليس كل ملك ملكًا" فعلى هذا يكون بينهما عموم وخصوص مطلق، وبهذا يعرف الفرق بين ملك ومالك؛ فإن مَلِكًا مأخوذ من الملك - بالضم - ومَالكا مأخوذ من المِلْك - بالكسر -. وقيل: الفرق بينهما أن المَلِك اسم لكل من يملك السياسة: إما في نفسه بالتمكن من زمام قواه وصرفها عن هواها، وإما في نفسه وفي غيره، سواء تولى ذلك أم لم يتول.
وقد رجح كل فريق إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحًا يكاد يسقط القراءة الأخرى، وهذا غير مرضي؛ لأن كلتيهما متواترة، ويدل على ذلك ما روي عن ثعلب أنه قال:"إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة لم أفضل إعرابًا على إعراب في القرآن، فإذا خرجت إلى الكلام كلام الناس فضلت الأقوى". نقله أبو عمر الزاهد في "اليواقيت" وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: "وقد أكثر المصنفون في القراءات والتفاسير من الترجيح بين هاتين القراءتين، حتى إن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، وليس هذا بمحمود بعد ثبوت القراءتين وصحة اتصاف =
الْعَمَلُ بالشَّاذِّ
مَسْأَلَةٌ:
الْعَمَلُ بِالشَّاذِّ
غَيْرُ جَائِزٍ مِثلُ: "فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابعَاتٍ"، وَاحْتَجَّ بهِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله.
«مسألة»
(1)
الشرح: "العمل بالشَّاذ" من القراءات، وهو ما نقل آحادًا "غير جائز، مثل": ما نقله ابن مسعود في مُصْحفه: ""فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ""
(2)
، "وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ"
(3)
.
"واحتج به أبو حنيفة رحمه الله " وأوجب التتابع في صوم كَفَّارة اليمين.
وما ذكره المصنّف من أنه لا يجوز العمل بها، ولا تجري مجرى خبر الآحاد هو ما ذكره الإمامُ في "البرهان": أنه ظاهر مذهب الشَّافعي، وتبعه أبو نصر القشيري.
ولكن ذكر القُضَاة: أبو الطيب، والحسين، والرُّوياني. في "التَّعليقتين" و"البحر" والرافعي في "الشرح": أنها تنزل منزلة أخبار الآحاد.
= الرب تعالى بهما، ثم قال:"حتى إني أصلي بهذه في ركعة، وبهذه في ركعة" ذكر ذلك عند قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . ينظر: الدر المصون للسمين الحلبي 1/ 69.
ينظر: البرهان للزركشي 1/ 319، والإتقان للسيوطي 1/ 273، وجمع الجوامع 1/ 228 وشرح لب الأصول ص (35)، وقد شدد النكير على ابن الحاجب العلامة ابن الجزري، فذكر أن المد بنوعيه الطبيعي والعرضي متواتران. ينظر: تقريب النشر ص (36).
(1)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين 1/ 666 (613)، والمنخول ص (281)، والمستصفى 1/ 102، وشرح الكوكب المنير 2/ 140، والإحكام للآمدي 1/ 148، وروضة الناظر 1/ 180، ومنتهى السول والأمل ص (45 - 46)، أصول السرخسي 1/ 281، وفواتح الرحموت 2/ 7 - 9، 16، وإرشاد الفحول ص (29 - 30).
(2)
قرأ بها أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي. ينظر: الكشاف 1/ 673، والمحرر الوجيز 2/ 232، والبحر المحيط 4/ 14.
(3)
قرأ عبد الله بن مسعود وابراهم النخعي: "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم". ينظر: الكشاف 1/ 632، والمحرر الوجيز 2/ 188، والبحر المحيط 3/ 488، والدر المصون 2/ 523.
لَنَا: لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَلَا خَبَرٍ يَصِحُّ العَمَلُ بِهِ.
قَالُوا: يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا فَيَجِبُ.
وبقراءة ابن مسعود احتج الأصحاب على قطع اليَمِينِ.
وقال المَازِرِيّ
(1)
: إن أضافها القارئ إلى التنزيل، أو إلى سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، أجريت مجرى خبر الوَاحِدِ، وإلَّا فهي جارية مجرى التأويل.
فإن قلت: فكيف لم توجبوا التتابع
(2)
لقراءة ابن مسعود؟
قلت: لعلَّه لمعارضة ذلك بما قالته عائشة رضي الله عنها: نزلت: "فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَتتَابِعَاتِ" فسقطت متتابعات. أخرجه الدَّارقطني، وقال: إسناد صحيح
(3)
.
قال: "لنا" إن الحُجَّةَ منحصرةٌ في الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس وغيرها
(4)
من الأدلَّة المعروفة.
وهذا قال راويه
(5)
: إنه قرآن وهو معترف بأنه ليس سُنَّة ولا إجماعًا ولا شيئًا يغاير القرآن، ثم لم يثبت مَقَالته، فنقول:"ليس بقرآن"؛ لأنه خبر واحد، "ولا خبر يصحّ العمل به"؛ لأن راويه معترفٌ بذلك.
الشرح: "قالوا": - وهم الحنفية ومن ذكرناه من أصحابنا: إنه متردّدٌ بين أن يكون قرآنًا أو خبرًا، وحينئذ "يتعيَّن أحدهما، فيجب" العمل به.
"قلنا": لم
(6)
قلتم بتعيين أحدهما، ولم لا "يجوز أن يكون مذهبًا" لناقله.
"وإن سلم" لزوم أحد الأمرين "بالخبر المقطوع بخطئه"، فهذا الخبر "لا يعمل به"، وإنما قطعنا بخطئه؛ لأن ناقله نقله قرآنًا، "ونقلَه قرآنًا خطأ"؛ وإلا لتواتر.
ولقائل أن يقول: المقطوع بخطئه جعله من القُرْآن لا كونه خبرًا، والذي لا يصح العمل به هو ذلك لا لكونه خبرًا.
والذي يظهر لي أن الجواب واحد وهو الأول.
(1)
في أ، ب، ت، ح: الماوردي.
(2)
في أ، ت، ح: السابع.
(3)
أخرجه الدارقطني في السنن (2/ 192) في كتاب الصيام، باب: القبلة للصائم.
(4)
في أ، ت، ح: غيرهما.
(5)
في ح: رواية.
(6)
في ب: لو.
قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا، وَإنْ سُلِّمَ فَالْخَبَرُ المَقْطُوعُ بِخَطَئِهِ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَنَقْلُهُ قُرْآنًا خَطَأٌ.
الْمُحْكَمُ والمُتَشَابِهُ
الْمُحْكَمُ: المُتَّضِحُ الْمَعْنَى، وَالْمُتَشَابِهُ: مُقَابِلُهُ؛ إِمَّا لاِشْتِرَاكٍ،
وتقريره: أن جعله من القرآن خطأ قطعًا، فلم يَبْقَ إلا كونه خبرًا أو مذهبًا، وإنما يعمل به إذا كان متحقق الخبرية، أما ما تردد الحال فيه بين أن يكون خبرًا أو لا فلا يعمل به، وعلى ذكر هذا اقتصر الغزالي في "المستصفى".
"فرع"
تصح الصَّلاة بالقراءات الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى، ولا زيادة حرف ولا نقصانه، جزم به في "الروضة"
(1)
.
وقال النَّووي في "فتاويه": لا تحلّ القراءة بها في الصَّلاة ولا في غيرها، فإن قرأ بها في الصلاة، وغيَّرت المعنى بطلت الصَّلاة إن كان عامدًا عالمًا.
الشرح: "المحكم: المتضح المعنى، والمتشابه مقابله"
(2)
، وهو ما
(1)
قال في شرح المهذب: قال أصحابنا وغيرهم: لا تجوز القراءة في الصلاة ولا في غيرها بالقراءة الشاذة لأنها ليست قرآنًا؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وكل واحدة من السغ متواترة. هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه، ومن قال غيره فغالط أو جاهل. وأما الشاذة فليست متواترة، فلو خالف وقرأ بالشاذة أنكر عليه قراءتها في الصلاة أو غيرها. وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ. ونقل الإمام الحافظ ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ، وأنه لا يصلى خلف من يقرأ بها. قال العلماء: فمن قرأ بالشاذ إن كان جاهلًا به أو بتحريمه عرف ذلك، فإن عاد إليه بعد ذلك أو كان عالمًا به عُزر تعزيرًا فظيعًا إلى أن ينتهى عن ذلك، ويجب على كل مكلف قادر على الإنكار أن ينكر عليه؛ فإن قرأ الفاتحة في الصلاة بالشاذ
…
وذكر عبارة الروضة. قال: وإذا قرأ بقراءة من السبع استحب أن يتم القراءة بها فلو قرأ بعض الآيات بها وبعضها بغيرها من السبع جاز بشرط ألا يكون ما قرأه بالثانية مرتبطًا بالأول. ينظر: روضة الطالبين 1/ 348.
(2)
أحكم الشيء: أتقنه، يقال: بناء محكم؛ أي متقن. ولفظ محكم لا احتمال فيه. وأحكمت فلانًا: منعته. وآية محكمة: غير منسوخة. فهو اسم للشيء المتقن، مأخوذ من إحكام البناء. وعند علماء الأصول: المحكم هو اللفظ الذي لا يحتمل النسخ والتبديل كآيات الصفات. ينظر: الصحاح =
أَوْ إِجْمَالٍ، أَوْ ظُهُورِ تَشْبِيهٍ، وَالظَّاهِرُ: الوَقْفُ عَلَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [سورة آل عمران:
[لم]
(1)
يتَّضح معناه.
وهذه العبارة ظاهرةٌ في أن الظَّاهر محكم، ويكون على هذا المحكم اسمًا شاملًا للنص وبالظاهر، وكذا ذكره جماعة.
وقد اختلف المفسّرون في قوله - تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [سورة آل عمران: الآية 7] اختلافًا كثيرًا.
والمنقول عن ابن عبَّاس رضي الله عنه أن المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ
(2)
.
وعن الشَّافعي - كما حكاه المَاوَرْدِيّ - في "التفسير" أن المحكم
(3)
: ما لا يحتمل من التأويل إلَّا وجهًا واحدًا.
والمتشابه: ما احتمل أوجهًا، وهذا ما جرى عليه الأصوليون.
وقيل: المحكم: ما لم تتكرر ألفاظه، ومقابله المُتَشَابه.
وقيل: المُحْكم: الفرائض، والوعد، والوعيد، والمتشابه: القصص، والأمْثَال.
وقال ابن السَّمْعَاني: أحسن الأقاويل أن المُتَشَابه: ما استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه، وكلفهم الإيمان به.
= للجوهري 5/ 1101، ومعجم مقاييس اللغة 2/ 91، ولسان العرب 2/ 952، وكشاف اصطلاحات الفنون 2/ 144، وأصول السرخسي 1/ 165، والإحكام 1/ 153، وكشف الأسرار 1/ 51، وإرشاد الفحول ص (31)، المستصفى 1/ 106، وحاشية البناني على جمع الجوامع 1/ 268، تيسير التحرير 1/ 209، وشرح العضد 2/ 21، وميزان الأصول 1/ 508، ومختصر ابن اللحام ص (73)، وشرح الكوكب المنير 2/ 140، والبحر المحيط 1/ 450.
والتشابه: التماثل؛ يقال: أشبه الشيء الشيء: ماثله، واشتبه عليه الأمر: أشكل عليه: فهو يحتاج في معرفته إلى إمعان نظر وفكر بنظر. وعند علماء الأصول: ما تعارض فيه الاحتمال كأوائل السور، أو ما حفي بنفس اللفظ ولا يرجى دركه أصلًا. ينظر: الإحكام 1/ 153، والمستصفى 1/ 106، والتلويح على التوضيح 1/ 414، والمسودة ص (161)، وأصول السرخسي 1/ 169، والعدة 1/ 152، وأصول البدائع للفناري ص (86)، والإتقان 3/ 14 - 21، وميزان الأصول 1/ 514، ولسان العرب 3/ 2189، ومعجم مقاييس اللغة 3/ 243، وترتيب القاموس 2/ 670.
(1)
سقط في أ، ت، ح.
(2)
ذكره الماوردي في النكت والعيون 1/ 369.
(3)
ينظر: النكت والعيون (1/ 369).
الآية 7]؛ لأَنَّ الخِطَابَ بِمَا لَا يُفْهَمُ بَعِيدٌ.
والمحكم: ما أطلعهم عليه.
قال: هذا هو المُخْتَار على طريقة السُّنة
(1)
.
وقال المَاوَرْدِيّ: ويحتمل أن يقال: المحكم: ما كانت معاني أحكامه معقولة. بخلاف المُتَشَابه كأعداد الصلوات، واختصاص الصِّيام بـ"رمضان" دون شَعْبَان
(2)
.
وهذا منه ميل إلى أن ما يسميه بالتَّعَدِّي من الأحكام له معنى، ولكنا لم نطلع عليه وهي مقالة تُنَاسب المعتزلة.
ومنهم من لا يشترط ذلك في التعبُّدي، ويقول: يجوز ألّا يكون له في نفس الأمر معنى بالكلية.
وهذا هو الصواب، فالرَّبُ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وعدم [اتضاح]
(3)
المعنى؛ "إما لاشتراك" مثل: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [سورة البقرة: الآية 228]؛ "أو إجمال" مثل: {أَوْ لَامَسْتُمُ} [سورة النساء: [الآية 43]- عند من يجعل اللَّمس مترددًا بين الوَطْء واللَّمس باليد؛ "أو "لأجل "ظهور تشبيه" مثل: {يَدُ اللَّهِ} [سورة الفتح: الآية 10]، {وَجَاءَ رَبُّكَ} [سورة الفجر: الآية 22]، ونحو ذلك.
ولقائلٍ أن يقول: قد قلت: المُتَشَابه: ما لم يتضح.
ثم قلت: سبب عدم الإيضاح إما اشتراك، أو إجمال، أو ظهور تَشْبيه، والإجمال قد عرفته في باب المُجْمَل فقلت: ما لم [تتضح]
(4)
دَلَالَتُه، فكأنك قلت: السَّبب في كونه غير متَّضح المعنى، أنه غير متضح المعنى فجعلت نفس الشيء سببًا فيه، وهو واضحُ الفَسَادِ.
(1)
قال الشيخ أبو إسحاق: ليس في القرآن شيء استأثره الله بعلمه، بل وقف العلماء عليه؛ لأن الله - تعالى - أورد هذا مدحًا للعلماء، فلو كانوا لا يعرفون معناه لشاركوا العامة، وبطل مدحهم. وكذلك صححه سليم الرازي في "التقريب" واستدل بقوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [سورة هود: الآية 1] قال: فأخبر أن الكتاب كله فصلت آياته وبيّنت، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"وبينهما متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس" فدل على أن القليل من الناس يعلمها، وهم الراسخون، وقال ابن الحاجب: والظاهر الوقف على "والراسخون في العلم"؛ لأن الخطاب بما لا يفهم بعيد. ينظر: البحر المحيط 1/ 453.
(2)
ينظر: النكت والعيون (1/ 370).
(3)
في ج: اتضاح.
(4)
في ت، ح: يتضح.
الأَنْبِيَاءُ وَالْمَعْصِيَةُ
مَسْأَلَةٌ:
الْأَكْثَرُ: عَلَى أَنَّهُ: لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ
"والظَّاهر الوَقْف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، من قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [سورة آل عمران: الآية 7] لا على الله، لئلا يلزم خطابه العِبَاد بما لا يفهمونه وهو غير جائِزٍ إلَّا عند شذوذ؛ "لأن الخطاب بما لا يُفهم بعيد" عن العقول.
وقيل: الوَقْف على "الله"، و"الراسخون" مُبْتدأ، وهو المنقول عن جماعة من الصَّحابة منهم عائشة، وابن عُمَرَ، وابن عئاس، وابن مسعود، ومالك بن أنس، وابن كثير، ونافع والكسائي، ويعقوب الحَضْرَمِيّ، والأخفش، والفرَّاء، وأبو حاتم السّجستاني، وابن كيسان، وأبو عبيدة.
وما ذكره المصنف. قال ابن السَّمعاني: لم يذهب إليه إلا شرْذمةٌ قليلة من النَّاس واختاره القتبي.
أقال: وقد كان يعتقد مذهب السُّنة، ولكنه سها في هذه المسألة]
(1)
قال: ولا غَرْوَ فإن لكل جواد كَبْوَةً ولكل عالم هَفْوَة
(2)
.
قال: ونقل عن مجاهد. ولا أعلم تحققه، وقد أطلت الكلام على ذلك في كتاب "منهاج أهل السُّنة".
قلت: هو يعظم الأمر في ذلك؛ لأنه يجر الكلام فيه إلى الآيات والأحاديث الواردة في الصِّفات.
"مسألة"
الشرح: "أكثر على أنه لا يمتنع عقلًا على الأنبياء
(3)
عليهم السلام" - قبل الرِّسَالة - "معصية"، كبيرة
(4)
كانت أو صغيرة.
(1)
سقط في ت.
(2)
في ح: صفوة، وهو تحريف.
(3)
ينظر: المحصول 1/ 3/ 342، والإحكام للآمدي 1/ 156، والمنخول ص (23)، وتيسير التحرير 3/ 20، والعضد 2/ 22، وحاشية البناني 2/ 95، والإرشاد لأبي المعالي ص 385، وفواتح الرحموت 2/ 97، وشرح الكوكب المنير 1/ 169، والمعتمد 2/ 546.
(4)
أحسن ما قيل في تعريف الكبيرة أنها ما توعد عليه الشارع بخصوص أو نص على أنه كبيرة. ينظر: التعليقات على شرح الجوهرة ص 157.
عَلَيْهِمْ - مَعْصِيَةٌ، وَخَالَفَ الرَّوَافِض، وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَّا فِي الصَّغَائِرِ وَمُعْتَمَدُهُمُ: التَّقْبِيحُ الْعَقْلِيُّ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ الرِّسَالَةِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِدِلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي غَلَطًا.
"وخالف الرَّوَافض" فذهبوا إلى امتناعهما.
"وخالف المعتزلة إلا في الصَّغائر"، وشبهة الفَرِيقَيْنِ "ومعتمدهم: التقبيحُ العَقْليُّ". قالوا: فإن صدور المَعْصية منهم ينفّر الطبع عنهم، فكان قبيحًا.
"والإجماعُ منعقدٌ، على عصمتهم
(1)
بعد الرِّسَالة من تعمّد الكذيب في الأحكام؛ لدلالة المعجزة على الصِّدق" فيها، وكذلك يمتنع على وجه السهو.
"وجوَّزه القاضي غلطًا وقال": إنما "دلَّت المعجزة على الصدق الصَّادر اعتقادًا"، لا على ما يفوهون به؛ لأن الغلط والنسيان غير داخلين تحت التَّصْديق المقصود بالمعجزة.
هذا في الكذب في الأحكام غلطًا.
"وأما غيره من المَعَاصي، فالإجماع" منعقد "على عِصْمتهم من الكبائر، وصغائر" المعاصي الدَّالة على "الخِسَّة، وَدَنَاءَةِ الهِمَّة، كسرقة لُقْمة، والتَّطفيف بِحَبَّةٍ.
والأكثر على جواز غيرها" أي: غير الكبائر وصغائر الخِسَّة.
والمختار عندنا: امتناع الكُلِّ على [كل]
(2)
وجه من العَمْدِ والسهو، وهو رأي الأستاذ أبي إسْحاق والقَاضي عِيَاض، وأبي الفتح الشَّهْرَستاني، وأبي رضي الله عنه وغيرهم من أصحابنا ومن المخالفين.
فإن قلت: لا يلزم من تجويز الصَّغائر سهوًا نَقْص من رتبتهم ولا حَطّ من مقاديرهم؛ إذ حالة السهو مغفورة لا ذنب فيها، والحِلّ والحُرْمة على أصلكم لَيْسَا من صفات الأعيان، فلا فرق في حالة الغَفْلَةِ بين صدور الطَّاعات والمعاصي.
قلت: نحن لا ننكر أنه لا ذَنْبَ في تلك الحال، ولكن الفِعْلَ من حيث هو منهي عنه، فربما تخيل
(3)
رائيه النَّقْصَ في فاعله غير متأمل أنه فعله عمدًا أو سهوًا.
(1)
والعصمة لغة: المنع، واصطلاحًا: ألَّا يخلق الله في المكلف الذنب مع بقاء قدرته واختياره. ينظر: التعليقات على شرح الجوهرة ص 116.
(2)
سقط في ح.
(3)
في ب: يختل.
وَقَالَ: دَلَّتْ عَلَى الصِّدْقِ اعْتِقَادًا. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْمَعَاصِي، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ الْخِسَّةِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى جَوَازِ غَيْرِهِمَا.
فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-
مَسْأَلَةٌ:
فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم مَا وَضَحَ فِيهِ أَمْرُ الْجِبِلَّةِ، كَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَألْأَكْلِ،
وهو أيضًا مكروه للشارع، وإنما لم يؤاخذ عليه لعذر الغَفْلة، ورتبتهم أجَلّ من الإقدام على مكروه الباري سبحانه وتعالى، وهو أيضًا ربما سمي بالحَرَامِ.
وكذا اختلف أصحابنا في وَطْء الشبهة، هل يوصف بالحلال أو الحرمة أو لا يوصف بواحد منهما؟ وهو أرفع مقادير من فعل ما يوصف، ويسمى بالحَرَامِ.
فإن قلت: فهل يمنعون النِّسْيَان لأنه نقص؟
قلت: قد منعه من أصحابنا الأستاذ أبو إسحاق أيضًا، وفي الحديث الصحيح:"إنِّي لَا أَنْسَى وَلكِنْ مِمَّنْ أَنْسَى".
وادَّعى الإمام في "المحصول"
(1)
: الاتفاق على جواز السَّهو والنسيان - وهي دعوى ممنوعة؛ لما حكيناه عن الأستاذ، ثم الفرق بين النِّسْيَان وغيره على تَقْدِير تجويز النِّسْيَان - أن النِّسْيَان طبيعةٌ بشرية لا تستلزم نقصًا في البشر.
فإن قلت: فالحنفية يجوزون الزلَّة مع منعهم الصَّغيرة، فماذا ترون؟
قلت: منعهما جميعًا إن صدق تغايرهما، وإلا فنحن لا نعني بالزلَّة إلا الصغيرة وهم يفسرونها بما لا [نوافقهم]
(2)
؛ عليه، لأنهم يجنحون إلى أن الحل والحرمة من صفات الأعيان.
"مسألة"
الشرح: "فعله صلى الله عليه وسلم "
(3)
لا يكون محرمًا - كما عرفت - ولا مكروهًا؛ لِنُدْرَةِ صدور المكروه
(1)
ينظر: المحصول 1/ 3/ 343.
(2)
في ت، ح: يوافقهم.
(3)
ينظر: البرهان لإمام الحرمين 1/ 383، والبحر المحيط للزركشي 4/ 169، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 158، وسلاسل الذهب للزركشي ص 316، والتمهيد للأسنوي ص 419، ونهاية السول له 3/ 64، وزوائد الأصول له ص 319، ومنهاج العقول للبدخشي ص 270،=
وَالشُّرْبِ، أَوْ تَخْصِيصُهُ: كَالضُّحَى، وَالْوَتْرِ، وَالتَّهَجُّدِ، وَالْمُشَاوَرَةِ، وَالتَّخْيِيرِ، وَالْوِصَالِ،
عن آحَادِ المكلّفين، فكيف بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؟!، فانحصر الأمر فيما عداها فنقول:
"ما وضح فيه أمر الجِبِلَّة" من الأفعال، "كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب أو" وضح فيه "تخصيصه، كالضُّحى، والوَتْر
(1)
، والتَّهجُّد"
(2)
كذا قال: والصَّحيح الذي نصَّ عليه الشَّافعي أنه نسخ وجوب التهجُّد عن النبي صلى الله عليه وسلم "والمُشَاورة
(3)
، والتخيير"
(4)
لنسائه عليه السلام في النِّكاح.
= والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 433، والمنخول للغزالي ص 53، وحاشية البناني 2/ 94، والإبهاج لابن السبكي 2/ 263، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 168، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 128، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 353، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 109، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 14، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 205، وتقريب الوصول لابن جُزَيّ ص 116، وشرح مختصر المنار للكوراني ص 77، ونشر البنود للشنقيطي 2/ 3، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص 215.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 231 والحاكم في المستدرك 1/ 300 في كتاب الوتر وسكت عنه، وقال الذهبي: غريب منكر، ويحيى ضعفه النسائي والدارقطني، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 468. وفي إسناده أبو خباب ضعفه القطان وابن معين والجوزجاني والدارمي وابن سعد والعجلي وقال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال أبو حاتم: لا يكتب حديثه، لبس بقوي، وقال النسائي: ليس بثقة، ووثقه أبو نعيم الفضل بن دكين. إلا أنه قال: كان يدلس، وذكره ابن حبان في "الثقات" وفي "المجروحين". ينظر: الجرح والتعديل 9/ 38، وتهذيب التهذيب 11/ 202، والثقات 7/ 597، والمجروحين 1113.
(2)
فلقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: الآية 79].
(3)
فلقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: الآية 159].
(4)
روي أن عائشة زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم أخبرتهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءَها حين أمَرَ الله عز وجل أن يُخَيِّرَ أزواجهُ قالت: فبدَأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنِّي ذاكِرٌ لَكِ أمرًا، فلا عليكِ أنْ تستعجلي حتَّى تستَأْمِري أبَوَيْكِ" وقد علم أن أَبَوَيَّ لم يكونا يَأْمُرَانِي بفراقِهِ، قالت: ثُمَّ قال: "إن الله سبحانه وتعالى قَالَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى تَمامِ الآيتين، فقلت له: ففي أي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟! فإنِّي أُرِيدُ إله، ورسوله، والدَّارَ الآخِرة. هذا حديث متفق على صحته. أخرجه البخاري 8/ 379، كتاب التفسير: باب: "قل لأزواجك" (4785)، وطرفه في (4786)، ومسلم 2/ 1103، كتاب الطلاق: باب بيان أن تخيير
…
(22 - 1475).
وَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَع - فَوَاضِحٌ، وَمَا سِوَاهُمَا إِنْ وَضَحَ أَنَّهُ بيَانٌ بِقَوْلٍ، أَوْ قَرِينَةِ مِثْلُ:"صَلُّوا"
"والوِصَال
(1)
والزِّيَادة على
(1)
الوصال هو: استدامة أوصاف الصائمين يومين فأكثر عمدًا من غير عذر، ولا يتناول في الليل شيئًا، لا مأكولًا، ولا مشروبًا، فإن أكل شيئًا يسيرًا أو شرب، فليس وصالًا، وقد أجمع العلماء على كراهته بلا خلاف. وإنما الخلاف في أنه هل كراهته كراهة تحريم أم تنزيه؟ وجهان:
المشهور منهما: أنها للتحريم؛ لما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إيَّاكم والوِصَالَ"، قالوا: فإنَّك تُوَاصِلُ يا رسول الله. قال: "إنَّكم لستم في ذلك مثلي، فإنِّي أبيتُ يُطعمني ربِّي ويسقيني فاكلفوا من الأعمال ما تطيقونَ" وعنه في رواية أخرى أنه قال: (نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم - عن الوصال في الصوم، فقال رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله. قال عليه السىلام: "وَأيُّكمْ مثلي إنِّي أبيْتُ يطعمني ربِّي ويسقيني". فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم، يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال، فقال عليه السلام:"لو تأخَّر لَزِدْتُكُمْ" كَالتنْكِيل لهم حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا"، فهذان الحديثان، وما ماثلهما مما ورد في هذا الباب يدلان دلالة صريحة على أن الوصال منهى عنه، وهو من الخصائص التي أبيحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتنعت على أمته.
والثاني: أن الوصال منهى عنه، ومكروه كراهة تنزيه؛ لأنه إنما نهى عنه حتى لا يضعف عن الصوم، وذلك أمر غير محقق، فلم يتعلق به إثم. وقد اتفق الكل من الشافعية على أن الوصال لا يبطل الصوم؛ لأن النهي لا يرجع إلى الصوم، فلا يوجب بطلانه.
قال إمام الحرمين: إنه قربة في حق الرسول، وقد نبه عليه الصلاة والسلام على الفرق بيننا وبينه في ذلك، حيث قال:"إِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلِي إِنِّي أَبِيْتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي". واختلف أصحابنا في تأويل هذا الحديث على وجهين:
أحدهما - وهو الأصح - أن معناه أنه أعطى قوة الطاعم والشارب، وليس المراد الأكل حقيقة؛ إذ لو أكل حقيقة لم يبق وصالًا، ولقال: ما أنا مواصل، ويؤيد هذا التأويل مما روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنِّي أظلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِيني" ولا يقال: ظل إلّا في النهار، فدل على أنه لم يأكل.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى له بطعام وشراب من الجنة كرامةً له، لا تشاركه فيها الأمة.
وذكر صاحب العدة والبيان تأويلًا ثالثًا، وهو معناه: أن محبة الله تشغلني عن الطعام والشراب والحب البالغ يشغل عنهما. والحكمة في النهي عن الوصال ظاهرة واضحة؛ لا خفاء فيها؛ لأن الشارع الحكيم أمرنا بالمحافظة التامة على صحتنا، وعدم تعريضها للهلاك، فقال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ولا شك أن الجسم الَّذي يحرم، ويمنع من الطعام والشراب يومين فأكثر تضعف قوته، وتعتل صحته؛ لقلة المواد الغذائية، ولا يخفى ما يترتب على ضعف الجسم من عدم القيام بسائر الواجبات المتنوعة الدينية =
و"خُذُوا"، وَكَالْقَطْعِ مِنَ الْكُوعِ وَالْغَسْلِ إِلَى الْمَرَافِقِ - اعْتُبِرَ اتفِّاقًا. وَمَا سِوَاهُ إِنْ عُلِمَتْ
أربع
(1)
فَوَاضِحٌ" أن فعله في هذين القسمين ليس بيانًا لنا، ولسنا متعبدين به.
ولا يشرع الاتباع في الجِبِلِّي؛ لأنه [لو كان]
(2)
كالواقع عن غير قصد، بل إن اتبع فيه فلا بأس وإن ترك فلا بأس
(3)
ما لم يكن الترك رَغْبَةً عما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم استنكافًا، فمن رغب عن سُنَّتِهِ وطريقته فليس منه.
وأنا أقول: مع ذلك يستحب التأسِّي كما سأذكره في آخر المسألة، ولكن ذلك الاستحباب لا يوجب وصف الفعل بأنه مستحبّ، بل إنما ذلك من قبيل التأسِّي والتبرُّك.
ونقل القاضي أبو بكر عن قوم: أنه مندوب بخصوصه، وكذلك حكاه الغَزَّالي في "المنخول".
وحكى بعضهم قولًا: إنه يجب علينا أن نفعل مثل ما فَعَله حكاية على الإطلاق، وهذا زَلَلٌ.
وأما ما وضح أنه مخصص به، فقد توقف إمام الحرمين في أنه هل يشرع التأسِّي فيه؟ وقال: ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصَّحَابة رضي الله عنهم كانوا يقتدون به صلى الله عليه وسلم في هذا النَّوع.
ولم يتحقق عندنا نقيض ذلك، فهذا محلُّ الوَقْفِ.
وتابعه على ذلك أبو نصر بن القُشَيري، وأبو عبد الله المَازِرِيّ.
وذهب الشيخ شِهَابُ الدِّين أبو شامة في كتابه المحقق في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم: إلى أنه ليس
= والدنيوية، وربما وصل الحال بمن يواصل الصيام أن يمل العبادة، وينفر من الطاعة، وهنا الخطر العظيم. فيا له من مشرِّع حكيم وآمر عليم. وفقنا الله وقوانا على دوام الطاعة، وعمل ما فيه رضاه.
(1)
وأما الزيادة على أربع: ففي كتب السير، والتواريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عَقْدَهُ على خمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة، وجمع بين إحدى عشرة، ومات عن تسع بلا خلاف، كذا قال سيف بن عمر، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، وابن عباس. وأجمع المسلمون قاطبة على أن الزيادة على أربع كان من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا عبرة بمخالفة الشيعة في ذلك. ينظر: تاريخ الطبري في ذكر الخبر عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم 3/ 160 وما بعدها، والبداية والنهاية 5/ 291 و 292، وتهذيب الأسماء واللغات 1/ 27، والخصائص الكبرى للسيوطي 3/ 298.
(2)
سقط في ب، ح.
(3)
سقط في ب.
صِفَتُهُ فَأُمَّتُهُ مِثْلُه، وَقِيلَ فِي الْعِبَادَاتِ، وَقِيلَ كَمَا لَمْ تُعْلَمْ. وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ فَالْوُجُوب،
لأحد التشبُّه به في المُبَاح في خصائصه، كالزِّيَادة على أربع، ويستحب التشبُّه به في الواجب عليه كالضُّحى، والتنزُّه عن المحرم عليه، كأكل كلّ ما له رائحة كريهة، وطلاق من يكره صحبته، وقال: هذا تفصيل حسن لا نِزَاعَ فيه لمن فهم الفِقْه، وقواعده قال: وقد ذكرت أدلَّة منفصلة، ولعلَّ الإمام ومَنْ وافقه عُنوا بذلك أنه لم ينقل أن الصحابة فعلوا ذلك بمجرد الاقتداء، والتأسِّي؛ بل لأدلة منفصلة
(1)
.
قلت: الأمر كذلك فليس كلام الإمام فيما عليه دليل منفصل
(2)
.
"وما سواه إن وضح أنه بيان بقول أو قرينة، مثل" ما في "الصحيحين" من قوله صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"
(3)
، فإنه مبين لقوله - تعالى:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [سورة البقرة: الآية 83]، وقوله صلى الله عليه وسلم وهو على رَاحِلَتِهِ يوم النَّحر:"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هذِهِ"
(4)
رواه مُسْلم.
"وكالقطع من الكوع" المبين لآية السرقة.
روي بإسناد حسن
(5)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارقًا من المَفْصِلِ.
(1)
في أ، ح: مفصلة.
(2)
في أ، ح: مفصل.
(3)
أخرجه البخاري 2/ 110 كتاب الأذان، باب: من قال: ليؤذن في السفر واحد (628) 2/ 111 باب: الأذان للمسافر (630، 631) و 1/ 53 كتاب الجهاد، باب: سفر الإثنين (2848) ومسلم 1/ 466 كتاب المساجد، باب: من أحق بالإمامة (293/ 674).
(4)
أخرجه مسلم كتاب الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا حديث (310) وأبو داود (1970) والنسائي (2/ 50) والترمذي (1/ 168) وابن ماجه (3023) وأحمد (3/ 301، 318، 332) والبيهقي (5/ 130) من طريق أبي الزبير عن جابر. ولفظ النسائي: خذوا مناسككم. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(5)
الحُسْن: في اللغة الجمال، والحَسَن الجميل:
وفي الاصطلاح: لهم فيه عبارات كثيرة لعدم ضبط الأقدمين له حتى قال البلقيني: الحسن لما توسط بين الصحيح والضعيف عند الناظر كان شيئًا ينقدح في نفس الحافظ، وقد تقصر عبارته عنه كما قيل في الاستحسان، فلهذا صعب تعريفه، لكن استقر الرأي أخيرًا على أنه هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط الذي قصر به حفظه وإتقانه عن درجة رجال الصحيح غير شاذ ولا معل.
والحسن لغيره: هو الحديث الذي يكون في أصله غير حسن، ثم يرتقي بالجابر حتى يكون في درجة =
وَالنَّدْب، وَالْإِبَاحَة، وَالْوَقْف، وَالْمُخْتَارُ: إِنْ ظَهَرَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، فنَدْبٌ، وَإلَّا فَمُبَاحٌ.
ونقل عن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما قالا: إذا سرق السَّارق، فاقطعوا يده من كُوعهِ. أخرجه البيهقي
(1)
، "والغسل إلى المِرْفَقِ المبين" لآية الغسل في "صحيح مسلم": أن أبا
= الحسن، وذلك أن الحديث إذا فقد أحد الشروط الخمسة المعتبر في الصحيح لذاته والحسن لذاته ينزل إلى درجة الضعيف، لكن الضعيف منه ما يقبل الجبر، ومنه ما لا يقبل الجبر بحال، فتوقفت معرفة الحسن لغيره على معرفة ما يقبل الجبر من الضعيف، ويسمى عندهم ما يعتبر به، أي حديث يكتب للاعتبار به في المتابعات والشواهد، ومعرفة ما لا يقبل الجبر منه، ويسمى عندهم ما لا يعتبر به. وما يقبل الجبر ويعتبر به هو ما كان ضعفه:
1 -
بسبب الستر، وهو جهل الحال في الراوي، فلا يعرف بعدالة ولا يعرف بتجريح، أو استوى فيه التعديل والتجريح. ويشترط فيه أن يكون غير مغفل كثير الخطإ؛ لئلا يجمع بين النقيصتين الجهل به، والتغفيل، فيقوى الضعف ويتقاعد الجابر عن جبره.
2 -
أو بسبب ضعف حفظ راويه. ويشترط فيه أن يكون من أهل الصدق والديانة - أي يكون عدلًا - والعلة فيه هي العلة في سابقه. ويشمل هذا ما كان ضعف حفظه بسبب سوء الحفظ، أو بسبب كونه موصوفا بالغلط أو الخطإ أو الاختلاط إذا حدّث بعد اختلاطه.
3 -
أو بسبب ضعف ناشيء عن عدم الاتصال، وهو ما عبر عنه بالإرسال واشترط فيه ابن الصلاح أن يرسله إمام حافظ، وعبر عنه ابن حجر بما في إسناده انقطاع خفيف، وأن يكون إسناده خاليًا من متهم بالكذب، فلا يظهر منه تعمد الكذب في الحديث، ولا سبب آخر مفسق؛ فإن الضعيف بسبب من هذه الأسباب الثلاثة بشرطها يمكن أن يكون صالحًا للاعتبار به فيجبر غيره، ويجبره غيره الصالح للاعتبار أيضًا بشرط أن يكون خاليًا من الشذوذ والنكارة، فيرتقي إلى الحسن؛ فيكون حسنًا لغيره، ومن هنا نستطيع أن نعرف الحسن لغيره بأنه: الحديث الضعيف بسبب كون راويه مستورًا غير مغفل كثير الخطإ، أو بسبب كون راويه سيئ الحفظ، أو موصوفًا بالغلط أو الخطإ أو الاختلاط مع الصدق والأمانة، أو بسبب كون سنده غير متصل، أو كان فيه مدلس روى بالعنعنة، مع كونه ليس فيه من يتهم بالكذب، وفي كل ذلك لا يكون الحديث شاذًا ويروى من غير وجه مثله أو نحوه.
قال السخاوي: أن يكون الراوي فوقه أو مثله لا دونه ليترجح أحد الاحتمالين؛ لأن سيئ الحفظ مثلًا حيث يروي يحتمل أن يكون ضبط المروي، ويحتمل ألا يكون ضبطه، فإذا ورد مثل ما رواه أو معناه من وجه آخر غلب على الظن أنه ضبطه، وكلما كثر التابع قوي الظن. اهـ. ذكره شيخنا الشيِخ السماحي في الغيث ص (34)، وينظر: التقييد والإيضاح (44)، وتدريب الراوي 1/ 153، والتبصرة 1/ 85، وفتح المغيث للسخاوي 1/ 63 وما بعدها، وتنقيح الأنظار 1/ 155، واختصار علوم الحديث ص (37)، وتوجيه النظر (145)، ومحاسن الاصطلاح (103).
(1)
ذكره ابن كثير في "تحفة الطالب" ص 132 وقال: ولا يمكن الاحتجاج هنا بالإجماع كما ادعاه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هريرة توضأ فغسل يده اليُمْنَى حتى شرع في العَضُدِ ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم "اعتبر" كونه دليلًا في حَقِّنا وبيانًا لنا "اتفاقًا وما سواه" وهو ما لم يتضح أنه بيان لنا "إن علمت صفته" في حقه صلى الله عليه وسلم من وجوب أو ندب أو إباحة "فأمته مثله.
وقيل": مثله إن كان "في العِبَادَاتِ" دون غيرها.
"وقيل": هو "كما لم [تعلم] "
(1)
صفته، وإليه ذهب القَاضي أبو بكر، فإنه إذا علمنا الوجه الذي وقع عليه الفعل لم يكن لنا إيقاعه عليه إلا أن يؤمر.
فأما أن يكتفى في إيجاب مثل ما وجب عليه علينا، أو ندبنا إلى مثل ما ندب إليه لعلمنا أنه فعله واجبًا أو ندَبًا فبعيدٌ.
قال أبو شَامَة: هذه المسألة لم يصورها القاضي، ولا الإمام، ولا الغَزَّالي، ولا ابن القشيري، ولا معظم المصنّفين في ذلك فيما علمت، ثم إن الإمام فخر الدين الرَّازي اختار الوقف فيها.
وأنا أقول: الفعل الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وعلمنا أنه فعله على طريق الوجوب، إن علمناه واجبًا عليه وعلينا، فلا حَاجَةَ إلى الاستدلال بفعله على أنه واجب علينا، بل مرجعنا إلى الدليل الدال على عدم خصوصيته.
وإن علمناه مختصًّا به، فقد تقدم الكلام فيما هو من خواصّه.
وإن شككنا، فلا دليل على الوجوب إلا أدلة القائلين بالوجوب فيما لم يعلم صفته، فلا حَاجَةَ إلى فرض هذه المسألة، وهي أنه معلوم الصفة، أو لا، وإن علمناه أوقعه ندبًا فهو على اختيارنا النَّدْب في مجهول الصِّفة، أو مباحًا، فهو
(2)
الذي لم يظهر فيه قَصْد القُرْبَةِ وسيأتي، انتهى مختصرًا.
قلت: والمراد ما إذا شككنا بالنِّسْبة إلينا، وعلمناه بالنسبة إليه، وليس كمجهول الصفة؛ إذ لا يلزم من عدم الاقتداء، ثم عدمه هاهنا.
= بعضهم؛ لأن المسألة فيها خلاف قديم، قال في الإبانة: وقالت الخوارج: تقطع يد السارق من منكبه، وقال في المستظهري: وحكي عن قوم من السلف. ذكره الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"(4/ 71) وقال: لم أجده عنهما.
(1)
في أ، ح: يعلم.
(2)
في ب: وهو.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"وإن لم تعلم" صفته "فالوجوب" حكمه في حَقّه وحقّنا عند ابن سُرَيْج
(1)
، والإصْطَخْرِيّ
(2)
، وابن خَيْرَان، وابن أبي هريرة
(3)
، وبعض الحنفية، وهو الصحيح عن مالك.
"والندب" عند أكثر الحنفية والمعتزلة، [والصَّيْرَفي]
(4)
والقَفَّال الكبير، وإمام الحرمين
(5)
.
ونسب إلى الشافعي رضي الله عنه وأطنب الشيخ أبو شَامَةَ في نُصْرَتِهِ
(6)
،
والإباحة عند آخرين، ونقل عن مالك رضي الله عنه
(7)
، "والوقف" عند ابن كَجّ
(8)
، وأبي بكر الدقاق
(9)
،
(1)
في ب: شريح، وهو تحريف.
(2)
أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى، الإصطخري، ولد سنة 244، أخذ عن أبي القاسم الأنماطي، قال القاضي أبو الطيب: حكي عن الداركي أنه قال: ما كان أبو إسحاق المروزي يفتى بحضرة الإصطخرى إلا بإذنه .. وله مصنفات عديدة. مات سنة 328. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 109، وتاريع بغداد 7/ 268، والمنتظم 6/ 302 والأعلام 2/ 192، والنجوم الزاهرة 3/ 267، والبداية والنهاية 11/ 193، والأنساب 1/ 286، وشذرات الذهب 2/ 312.
(3)
ينظر: شرح الكوكب المنير 2/ 187، والمعتمد 1/ 377، والفصول ص (310).
(4)
في أ، ح: الضرير.
(5)
ينظر: البرهان 1/ 491.
(6)
ينظر: البرهان 1/ 489، والتبصرة ص (242)، وتيسير التحرير 3/ 123.
(7)
حكى الباجي في الفصول ص (310): إنها على الندب عن ابن المنتاب وغيره. ينظر: الإحكام 1/ 160.
(8)
يوسف بن أحمد بن كج، القاضي أبو القاسم، الدينوري، أحد الأئمة المشهورين، وحفاظ المذهب المصنفين، وأصحاب الوجوه المتقنين، تفقه بأبي الحسين بن القطان، وحضر مجلس الداركي ومجلس القاضي أبي حامد المروزي، ورحل الناس إليه رغبة في علمه وجوده، وكان يضرب به المثل في حفظ المذهب، مات سنة 405. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 198، والبداية والنهاية 11/ 355، وشذرات الذهب 3/ 177 والأعلام 8/ 284، ووفيات الأعيان 6/ 63، والأنساب 475/ ب.
(9)
محمد بن محمد بن جعفر البغدادي، أبو بكر الدقاق، ولد سنة 306، كان فقيهًا، أصوليًا، شرح المختصر، وولي القضاء بكرخ بغداد، قال الخطيب: كان فاضلًا، عالمًا بعلوم كثيرة، وله كتاب في الأصول على مذهب الشافعي. مات سنة 392. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 167، والنجوم الزاهرة 4/ 206، والمنتظم 7/ 222.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والبندجي
(1)
، وأبي بكر الصَّيرفي، والقاضي أبي الطيب، والغزالي، والإمام، وأتباعه
(2)
، في قولٍ خامسٍ أنه يدل على الحظر.
ووقع للآمدي في حكايته شيء غريب
(3)
، فقال: هو قول من جَوَّز على الأنبياء عليهم السلام المعاصي، كأنه فهم
(4)
عن قائله أنه يحمل الأمر على ارتكاب فاعله صلى الله عليه وسلم محرمًا، وهو سوء فهم؛ فإن من جَوَّز المعاصي لا يقول: إنها دَيْدَنُ الأنبياء عليهم السلام حتى يجعل فعلهم المجرد محمولًا عليها، وإنما مستند القائل بهذه المقالة، أن الأحكام قبل ورود الشَّرْع عنده على الحظر.
وفعل صلى الله عليه وسلم لا يغيّر هذا الأمر في حقنا، فيبقى الحَظْرُ كما كان، كذا صرح به القاضي أبو بكر والغزالي وغيرهما.
والحاصل: أن هذا القائل على ضَعْفِ مَقَالَتِهِ يقول بحُرْمَةِ الاتباع، لا أن ما وقع حظر، وهو من قول من يجعل الأحكام على الحَظْرِ قبل الشرع، سواء قالوا بتجويز المَعَاصي أم لا.
"والمختار: إن ظهر في فعله قصد القُرْبة" إلى الله - تعالى - "فندبٌ، وإلا فمباحٌ".
وهذا التَّفصيلُ صريح في جَرَيَانِ قول الإباحة مع ظهور قَصْدِ القُرْبَةِ.
وقد سبقه إليه الآمدي، وتبعه الشيخ شهاب الدين أبو شامة نقلًا واختيارًا في كتابه:"المحقق من علم الأصول فيما يتعلَّق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم"، ولم يَحْكِهِ ابن السَّمعاني، ولا غيره في هذا القِسْمِ.
وقد يقال عليه: كيف يجامع الترجح استواء الطرفين؟
(1)
محمد بن هبة الله بن ثابت، الإمام أبو نصر البندنيجي، نزيل مكة، يعرف بـ"فقيه الحرم"، ولد سنة 407، سمع الحديث من كبار الأئمة، وحدث به، وكان من كبار أصحاب الشيخ أبي بكر الشيرازي، قال السلفي: سمعت حمد بن أبي الفتح الأصبهاني الشيخ الصالح بمكة يقول: كان الفقيه أبو نصر البندنيجي يقرأ في كل أسبوع ستة آلاف مرة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . صنف المعتمد في الفقه.
ومات سنة 495. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 272، والبداية والنهاية 12/ 162، والأعلام 7/ 355.
(2)
ينظر: الفصول ص (310)، والمستصفى 2/ 314.
(3)
ينظر الإحكام 1/ 160.
(4)
في ب: وهم.
لَنَا الْقَطْعُ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - كَانُوا يَرْجِعُونَ
ويمكن الجواب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقدم
(1)
على ما هو مستوى الطرفين ليبيّن للأمة جواز الإقدام عليه.
وبيان
(2)
النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القَصْدِ - وهو الفعل - وإن كان مستوى الطرفين.
الشرح: "قال لنا"
(3)
- أي: على وجوب التأسِّي في معلوم الصفة - "القَطْع - بأن الصَّحابة
(1)
في ب: تقدم.
(2)
في أ، ح: ويثاب.
(3)
لما فرغ من تحرير المذاهب شرع في الاحتجاج عليها؛ فبدأ بإثبات المذهب المختار عنده في القسمين، وتمسك بوجهين في إثبات أن ما علم صفته فأمته مثله.
أحدهما: الإجماع، وببانه أنا نقطع بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته من الوجوب والندب والإباحة عند كل حادثة، ويقتدون بالرسول عليه السلام في ذلك الفعل من غير نكير أحد منهم، كرجوعهم إلى تقبيله عليه السلام الحجر الأسود وإلى تقبيله عليه السلام لنسائه وهو صائم، وذلك دليل لإجماعهم على أن حكم الأمة حكمه عليه السلام في الفعل الذي علم صفته، وإلا لم تفد المراجعة لهم.
الثاني: الآية، وهو قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} . ووجه التمسك بها أن الله سبحانه وتعالى علل نفي الحرج عن المؤمنين في نكاح أزواج أدعيائهم بتزويج الرسول عليه السلام زوجة دعيه زيد، فلو لم يكن حكم الأمة حكمه عليه السلام في الفعل المعلوم صفته لم يكن للتعليل في الآية معنى؛ لأنه حينئذٍ لم يلزم من نفي الحرج عنه نفي الحرج عن المؤمنين. ولما فرغ من إثبات المذهب المختار في القسم الأول شرع في المذهب المختار في القسم الثاني، وهو أن ما لا تعلم صفته إن كان عبادة فندب وإلا فمباح؛ لأن الفعل الذي لم تعلم صفته إما أن يظهر منه أنه قصد حال إتيانه بذلك الفعل القربة أو لم يظهر، فإن كان الأول فندب؛ لأنه لما قصد القربة به دل على رجحان فعله على الترك؛ لأنه لو لم يكن الفعل راجحًا لم يقصد به قربة، فلزم الوقف عند الرجحان، وهو القدر المشترك بين الواجب والمندوب، وخصوصية الوجوب، وهو الذم على الترك زيادة لم تثبت؛ لأن الأصل عدم الذم بترك الفعل؛ لأن البراءة الأصلية ثابتة، وإذا كان الفعل راجحًا ولم يكن واجبًا تعين أن يكون مندوبًا؛ لأن المباح لا يكون فعله راجحًا، وإن كان الثاني وهو الذي لم يظهر منه أنه قصد به القربة فمباح؛ لأن الجواز ثابت؛ إذ الأصل عدم الذنب في فعله عليه السلام لأن وقوع الذنب في فعله نادر مغلوب، والنادر المغلوب خلاف الأصل، وخصوصية الوجوب والندب زيادة لم تثبت؛ إذ لا وجوب ولا ندب إلا بدليل، ولم يثبت دليل الجواز وانتفى الوجوب والندب تعين الإباحة، وأيضًا لو لم تكن الإباحة راجحة في سورة ثبوت الجواز مع عدم قصد القربة لما فهم الإباحة من قوله تعالى: =
إِلَى فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام الْمَعْلُومِ صِفَتُه، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى:{فَلَمَّا قَضَى} [سورة الأحزاب: الآية 37] إِلَى آخِرِ الآيَةِ. وَإِذَا لَمْ تُعْلَمْ، وَظَهَرَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ ثَبَتَ الرُّجْحَانُ فَيَلْزَمُ الْوُقُوفُ عِنْدَه، وَالوُجُوبُ زِيَادَةٌ لَمْ تَثْبُتْ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ، فَالْجَوَازُ وَالْوُجُوب، وَالنَّدْبُ زِيَادَةٌ لَمْ تَثْبُتْ، وَأَيْضًا لَمَّا نفى الْحَرَجَ بَعْدَ قَوْلهِ:{زَوَّجْنَاكَهَا} [سورة الأحزاب: الآية 37]، فُهِمَتِ الإِبَاحَةُ مَعَ احْتِمَالِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ.
قَالَ الْمُوجِبُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} [سورة الحشر: الآية 7].
- رضي الله عنهم كانوا يرجعون إلى فعله صلى الله عليه وسلم المعلوم صِفَتُهُ"، ويبادرون إلى اتباعه، كما في الغسل من الْتِقَاءِ الخِتَانَيْنِ وقُبْلَة الصَّائم وغيرهما.
ولقائل أن يقول: لا شك في رجوعهم، ولكن لم قلتم: إن حكمهم فيه الوجوب فربما رجعوا، وذلك الرجوع ندبًا في حقّهم أو وجوبًا.
"وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} إلى آخرها، وهو:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [سورة الأحزاب: الآية 37].
فإنه لولا وجوب التأسي، لم يكن للآية معنى، لإشعارها بأنه ما زوّجها منه إلا ليكون حكم أمته في ذلك كحكمه.
"وإذا لم يعلم" صفته، "وظهر قَصْد القُرْبَة"، فالدليل على نُدْبِيَّته أنه "ثبت" بقصد القربة "الرَّجحان، فيلزم الوُقُوف عنده، والوجوب زيادة لم تَثْبُتْ"؛ لعدم الدليل.
"وإذا لم يظهر، فالجواز" فقط؛ لأنه المتحقّق، "والوجوب والندب زيادة لم تَثْبُتْ"؛ لعدم دليلها.
"وأيضًا": دليل الإباحة أنه "لما نفى الحَرَج بعد قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا} بقوله: {لِكَيْ لَا} "فهمت" منه "الإباحة مع احتمال" اللفظ لكل من "الوجوب والندب".
الشرح: واحتج "الموجب" للتأسِّي مطلقًا بقوله - تعالى: " {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} " أي: افعلوه من جملة ما أتى به، فوجب اتباعه؛ لأن الأمر للوجوب.
= {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} لامتناعِ ترجح المرجوح أو المساوي، لكن فهمت الإباحة، فتكون الإباحة راجحة، فتعين أن تكون مباحًا. قاله الأصفهاني في شرح المختصر.
أُجِيبَ بأَنَّ الْمَعْنَى: "مَا أَمَرَكُمْ"؛ لِمُقَابَلَةِ "وَمَا نَهَاكُمْ".
قَالُوا: {فَاتَّبِعُوهُ} [سورة الأنعام: الآية 153].
"وأجيب بأن المعنى": بـ {مَا آتَاكُمْ} : "ما أمركم" به قولًا "لمقابلة" ذلك بقوله: " {وَمَا نَهَاكُمْ} " فإن مقابل النهي هو الأمر.
وهذا الجواب مأثور عن الشيخ أبي الحَسَنِ الأشعري رحمه الله.
ولقائل أن يقول: المراد: امتثلوا ما آتاكم به قولًا وفعلًا، واتركوا النهي
(1)
؛ إذ النهي بالفعل لا يتصور.
"قالوا": ثانيًا: قوله تعالى: " {فَاتَّبَعُوهُ} " أمر باتباعه عام في الأقوال والأفعال "أجيب": بشموله للفعل، ولكن "في الفعل" المعلوم الصِّفة، وإيقاعه "على الوجه الذي فعله"، وذلك الوَجْه غير معلوم هل هو. للوجوب أو الندب أو الإباحة؟؛ لأن هذا هو الفرض.
أو يقال: ليس المراد الفعل، بل القول، والمعنى: فاتبعوه في القول.
"أو" يقال بعمومه فيهما أي: "في القول" والفعل.
وذلك أن يقول المستدلّ: لم ندعِ تخصيص قوله: {فَاتَّبِعُوهُ} بالفعل، فالضرب الأول من الجواب لا وجه له.
وعلى كلِّ حالٍ تقييدُ الفعل بمعلوم الصفة خلاف الظاهر.
وقد اعترف الشيخ شهاب الدِّين أبو شَامَة بعد أن ذكر الأجوبة، عن هذه الآية بضعف الأجوبة ثم قال: ينبغي حمل قوله - تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} على الندب، لئلا يلزم التخصيص بأشياء كثيرة
(2)
.
ولقائل أن يقول: الخروج عن ظاهر اللَّفظ لا دليل عليه، وكما يلزمنا التخصيص بأشياء لا يجب علينا فعلها - وإن كان هو الذي قد فعلها - كذلك يلزمك بأشياء لا يندب لنا فعلها، وإن كان هو قد فعلها، وليس كلامنا وكلامك إلا فيما تجرّد من الأفعال، فلم خرجت عن ظاهر الأمر؟
"قالوا": ثالثا: قوله - تعالى: " {لَقَدْ كَانَ
…
} إلى آخرها"، أي: {لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
(1)
في أ: المنهى.
(2)
المراد "فاتبعوه" في الفعل على الوجه الذي فعله، أي اتبعوه على سبيل الوجوب إن كان ما أتى به واجبًا، وعلى طريق الندب أو الإباحة إن كان المأتى به مندوبًا أو مباحًا، أو في القول على الوجه الذي ذكرنا، أو فيهما يعني في الفعل مع القول. ينظر الشيرازي 179 أ/ خ.
أُجِيبَ: فِي الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَه، أَوْ فِي الْقَوْلِ أَوْ فِيهِمَا.
قَالُوا: {لَقَدْ كَانَ
…
} [سورة الأحزاب: الآية 21] إِلَى آخِرِهَا، أَيْ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ فَلَهُ فِيهِ أُسْوَةٌ [حَسَنَةٌ].
قُلْنَا: مَعْنَى التَّأَسِّي: إِيقَاعُ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ.
حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب: الآية 21]، "أي: من كان يؤمن "فهو يرجو، ومن يرج "فله فيه أسوة حسنة"، وهو ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا: ومن لم يكن له فيه أسوة لم يكن راجيًا فلا يكون مؤمنًا، وذلك على وجوب الاتباع.
"قلنا": وجوب التأسِّي مسلم، ولكن "معنى التأسِّي": تأسِّي المرء بغيره "إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله"؛ لكونه فعله.
وقولنا: لكونه فعله، فصل ثان يخرج الموافقة، وأهمه المصنّف؛ إذ حاجته هنا إنما هي للفصل الأول، وإذا كانت على الوجه الذي فعله، فلا بد من عِرْفَانه ليقع التأسي به، والفرض أنه مجهول.
ولقائل أن يقول: لم قلتم: إن هذا معنى التأسِّي، والمفهوم من التأسِّي في اللغة إنما هو الاقتداء المُطْلق فلم شرطتم فيه ما ذكرتم؟
وقد قال الشيخ أبو شامة: لم أر أحدًا ممن وقفت على مصنفه في اللغة ذكر في معنى الائتساء والاتباع ما ذكروا، وإنما يفسرون الائتساء: بالاقتداء، والاتباع مطلقًا، وذكر كلام أبي عبيدة، وابن فارس، والجوهرى
(1)
، والرَّاغب
(2)
، وأطنب في دفع هذا الشرط.
(1)
إسماعيل بن حماد الجوهري، أبو نصر: أول من حاول "الطيران" ومات في سبيله. لغويّ، من الأئمة، وخطه يذكر مع خط ابن مقلة. أصله من فاراب، ودخل العراق صغيرًا، وسافر إلى الحجاز فطاف بالبادية، وعاد إلى خراسان، ثُمَّ أقام في نيسابور. وصنع جناحين من خشب، وصعد داره، فخانه اختراعه فسقط إلى الأرض قتيلًا، من أشهر كتبه "الصحاح"، وله كتاب في "العروض" وكتب أخرى. توفي سنة 393 هـ. ينظر: معجم الأدباء 2/ 269، والنجوم الزاهرة 4/ 207، ونزهة الألبا 418، والأعلام 1/ 313.
(2)
الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني (أو الأصبهاني) المعروف بـ"الراغب": أديب، من الحكماء العلماء، من أهل "أصبهان" سكن بغداد، واشتهر حتى كان يقرن بالشيخ الغزالي. من كتبه: محاضرات الأدباء، والذريعة إلى مكارم الشريعة، وجامع التفاسير، والمفردات من غريب القرآن، وحل متشابهات القرآن، وأفانين البلاغة. توفي سنة 502 هـ. ينظر: كشف الظنون 1/ 36، وتاريخ حكماء الإسلام (112)، وآداب اللغة 3/ 44، والأعلام 2/ 255.
قَالُوا: خَلَعَ نَعْلَه، فَخَلَعُوا، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى اسْتِدْلَالِهِمْ وَبَيَّنَ الْعِلَّةَ.
قُلْنَا: لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "صَلُّوا" أَوْ لِفَهْمِ الْقُرْبَةِ.
الشرح: "قالوا": رابعًا: خلع النبي صلى الله عليه وسلم " وهو في الصَّلاة "نَعْلَهُ فخلعوا" نعالهم، "فأقرهم على استدلالهم" بمجرّد خلعه نَعْلَهُ.
"وبيّن العلة" التي تقضي اختصاصه حيث قال لهم لمَّا انصرف: "لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟، قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: "إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبثًا رواه أبو داود بإسناد صحيح
(1)
، وابن خزيمة
(2)
في "صحيحه"، وابن حِبَّان
(3)
، والحاكم في "مستدركه"، وقال: على شرط مسلم.
"قلنا": خلعهم النِّعال لم يكن لمجرّد خلعه؛ بل "لقوله عليه الصلاة والسلام: صَلُّوا" كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"
(4)
.
ولك أن تقول: ذلك أمر بفعل الصلاة كما فعل.
فلم قلتم: إن منه خلع النعل فليس خلع النعلين من الصَّلاة في شيء.
(1)
أخرجه أحمد (3/ 20) وأبو داود (1/ 426) كتاب الصلاة، باب: الصلاة في النعل حديث (650) وابن خزيمة (2/ 107) رقم (1017) وابن حبان (360 - موارد) والحاكم (1/ 260) والدارمي (1/ 320) كتاب الصلاة، باب: الصلاة في النعلين.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وأخرجه مرسلًا الحارث بن أبي أسامة كما في "المطالب العالية" رقم (382) عن بكر بن عبد الله المزني.
(2)
أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة، النيسابوري، إمام الأئمة، ولد سنة 223، أخذ عن المزني والربيع، وقال فيه الربيع: استفدنا منه أكثر مما استفاد منا، وقال ابن سريج: كان ابن خزيمة يستخرج النكت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنقاش، وقال الحاكم: ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتابًا"، وله الصحيح المشهور. مات سنة 311. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 99، وطبقات الشافعية للسبكي 2/ 134، والأعلام 6/ 253.
(3)
أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان، التميمي البستي، أحد الأئمة الحفاظ، رحل الكثير، وسمع من أكثر من ألفي شيخ، أخذ علم الحديث عن ابن خزيمة، وكان من فقهاء الدين، وحفاظ الآثار، له الأنواع والتقاسيم، وصنف في الجرح والتعديل والتاريخ والضعفاء. مات سنة 354.
ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 131، والأعلام 6/ 306، ولسان الميزان 5/ 112.
(4)
تقدم.
قَالُوا: لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالتَّمَتُّعِ تَمَسَّكُوا بِفِعْلِهِ.
قُلْنَا: لِقَوْلهِ عليه الصلاة والسلام "خُذُوا" أَوْ لِفَهْمِ الْقُرْبَةِ.
قَالُوا: لَمَّا اخْتُلِفَ فِي الْغُسْلِ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ سَأَلَ عُمَرُ عَائِشَةَ رضي الله عنهما فَقَالَتْ فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاغْتَسَلْنَا.
وأيضًا فلم قلتم: إن هذا كان بعد قوله: "صلوا".
قال بعضهم: لو كان الاقتداء واجبًا لما قال: "لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ "؛ لعلمه بوجوب المتابعة، ولكن هذا ضعيف؛ لأن مثله يقال في الندب.
وأما قول المصنّف: "أو لفهم القرينة".
ولك أن تقول: أين القرينة؟ وما ذكر دليلًا لها من قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف: الآية 31] ليس بدليل؛ إذ خلع النَّعْل ليس من الزِّينة.
ولو احتج به آخرًا لاحتجّ به قبل الدخول في الصَّلاة، وأيضًا كان يجب أن يستمر حكمه؛ إذ حكم الآية باقٍ.
"قالوا": خامسًا: "لمَّا أمرهم بالتمتُّع"، ولم يتمتع "تمسَّكوا بفعله"؛ إذ استعظموا فعله بخلاف ما أمرهم به أولًا.
ففي "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع أمر من لم يكن له هَدْيٌ إذا طَافَ بالبَيْتِ وبالصَّفا والمَرْوة: أن يحل من إحرامه، وأن يجعل حَجَّتَهُ
(1)
عُمْرَةً.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت على إحرامه، وأن النَّاس استعظموا ذلك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَوْلَا أَن مَعِيَ الهَدْيَ لْأَحْلَلْتُ"
(2)
، وهي مسألة فسخ الحَجّ إلى العُمْرَةِ.
"قلنا": الاستعظام "لقوله عليه الصلاة والسلام: "خُذُوا" عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"، "أو لفهم القرينة".
الشرح: "قالوا": سادسًا: "لمَّا اختلفوا في "وجوب "الغُسْل بغير إنزال سأل عمر عائشة رضي الله عنهما. فقالت: فَعَلْتُهُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم[فاغتسلنا] "
(3)
.
(1)
في ح: حجه.
(2)
أخرجه البخاري (1/ 394) ومسلم (4/ 59) والبيهقي (5/ 15) وأحمد (3/ 185) من حديث سليم بن حيان: سمعت مروان الأصفر عن أنس بن مالك به.
(3)
سقط في أ.
قُلْنَا: إِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنْ "إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ"، أَوْ لأَنَّهُ بَيَانُ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} [سورة المائدة: الآية 6]؛ أَوْ لأَنَّهُ شَرْطُ الصَّلَاةِ أَوْ لِفَهْمِ الْوُجُوبِ.
وجاء في "صحيح مسلم": أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع امرأته، ثم يكسل، وعائشة جالسةٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي لأَفْعَلُ ذلِكَ أَنَا وَهذِهِ ثُمَّ نَغْتَسِلُ"
(1)
.
"قلنا: إنما استفيد الوجوب من "إِذَا الْتَقَى الخِتَانَانِ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ""
(2)
. وذلك فيما روى "مسلم" أنهم ذكروا ما يوجب الغُسْل، فقام أبو موسى
(3)
إلى عائشة رضي الله عنها فسلَّم ثم قال: ما يوجب الغُسْل؟ فقالت: على الخَبِيرِ سَقَطْتَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ
(1)
أخرجه مسْلم (1/ 272) كتاب الحيض، باب: نسخ الماء من الماء رقم (89) والبيهقي (1/ 164) من طريق ابن وهب: أخبرني عياض بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن أم كلثوم عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت:
…
(2)
أخرجه الشافعي في المسند كما في ترتيب السندي 1/ 37 في كتاب الطهارة حديث (101)، وفي الأم 1/ 31، وأحمد في المسند 6/ 97، 239، وأخرجه البخاري في التاريخ 6/ 182، وابن ماجه بنحوه 1/ 200 حديث (611)، وضعفه البوصيري في الزوائد، والرازي في علل الحديث (86)، والبيهقي من حديث أبي هريرة في السنن الكبرى 1/ 163 في الطهارة، باب وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وينظر: نصب الراية 1/ 84.
تنبيه: قال النووي في التنقيح: هذا الحديث أصله صحيح، إلا أن فيه تغييرًا وتبع في ذلك ابن الصلاح؛ فإنه قال في مشكل الوسيط: هو ثابت من حديث عائشة بغير هذا اللفظ، وأما بهذا اللفظ فغير مذكور؛ انتهى. وقد عرف من رواية الشافعي ومن تابعه أنه مذكور باللفظ المذكور وأصله في مسلم بلفظ:"إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل". والختان: موضع القطع من ذكر الغلام ونواة الجارية، وقيل: سميت المصاهرة مخاتنة لالتقاء الختانين. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم أن من جامع امرأته فغيب الحشفة وجب الغسل عليهما وإن لم ينزل، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وغيرهم.
(3)
عبد الله بن قيس بن سليم بن حَضَّار الأشعري: أبو موسى، هاجر إلى الحبشة، وعمل على "زبيد" و"عدن" وولي "الكوفة" لعمر و"البصرة" وفتح على يده "تُسْتُر" وعدة أمصار. له ثلاثمائة وستون حديثًا. وعنه ابن المسيب وأبو وائل وأبو عثمان النهدي وخلق. قال الهيثم: توفي سنة اثنتين وأربعين، وقيل غير ذلك. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 724، وتهذيب التهذيب 5/ 362 (625)، وتقريب التهذيب 1/ 441 (551)، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 89، والكاشف 2/ 119، وتاريخ البخاري الكبير 5/ 22، والثقات 3/ 221، وسير الأعلام 2/ 380.
قَالُوا: أَحْوَط، كَصَلَاةٍ، وَمُطَلَّقَةٍ لَمْ تتعَيَّنَا وَالْحَقُّ أَنَّ الاِحْتِيَاطَ
(1)
فِيمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ أَوْ كَانَ الْأَصْلَ كَالثَّلَاثِينَ، فَأَمَّا مَا احْتَمَلَ بَعْضَ ذلِكَ فَلَا.
شُعَبِهَا الأَرْبَعِ وَمَسَّ الخِتَان، الخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ"
(2)
.
وروى أحمد بن حنبل: أن عمر رضي الله عنه بعث يسألها فقالت: "إذا جَاوَزَ الخِتَان، الخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ".
أو [لأنه]
(3)
يسلم ما رَوَيْتُم من قولها: فعلتُه.
قال الترمذي: روي بإسناد جَيّد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إذا جاوز الخِتَانُ الخِتَانَ فقد وجب الغُسْل، فَعَلْتُهُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا".
["و "نقول]
(4)
: إنما استفيد الوجوب؛ "لأنه بيان" قوله - تعالى: " {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [سورة المائدة: الآية 6] " والبيان يجب المُتَابعة فيه؛ "أو لأنه شرط الصَّلاة"، فإنه نوع من الطَّهَارة ففهم أتباعه بقوله عليه السلام:"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي".
"أو لفهم الوجوب" من فعله بقرينة.
وأنا أقول: لعلَّ القرينة اغتسال عائشة رضي الله عنها معه، ويكون الاحتجاج بفعلها هي، فإنها لا خصوصية لها، بل حكمها وحكمنا سواء، بخلافه هو صلى الله عليه وسلم.
الشرح: "قالوا": سابعًا: الأخذ بالوجوب "أحوط"
(5)
؛ حذرًا من الإثْمِ بالترك على تقدير
(1)
في الحاشية: قلنا: الاحتياط في ما لا يحتمل التحريم ورد بوجوب صوم يوم الثلاثين من رمضان إذا غم.
(2)
أخرجه مسلم (1/ 271 - 272) كتاب الحيض، باب نسخ (الماء من الماء) ووجوب الغسل بالتقاء الختانين رقم (88) وأحمد (6/ 67) بنحوه، وعبد الرزاق (939، 954) من حديث عائشة مرفوعًا.
(3)
سقط في أ.
(4)
في أ، ح: يقول.
(5)
هذا دليل مأخوذ من القياس، توجيهه أن يقال: فعله الذي لم تعلم صفته دار بين كونه للوجوب ولغيره، فالأحوط أن يحمل على الوجوب قياسًا على وجوب قضاء الصلوات الخمس على من ترك واحدة منها ونسيها، فإنه لما لم يتعين الواحد الذي تركها حكم بوجوب قضاء الجميع؛ لأنه أحوط، وعلى وجوب الكف في المطلقة التي لم تتعين؛ فإنه إذا طلق الرجل واحدة من نسائه أو اشتبهت المطلقة بغيرها بأن نسيها فإنه يجب الكف عنهن جميعًا؛ لأنه أحوط أيضًا. أجاب المصنف عنه =
النَّدْبُ: الْوُجُوبُ يَسْتَلْزِمُ التَّبْلِيغَ، وَالْإِبَاحَةُ مُنْتَفِيَةٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ} [سورة الأحزاب: الآية 21]، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
الوُجُوبِ، "كصلاة ومُطَلَّقة لم يتعيَّنا"، فَإن تَارِكَ صلاةٍ لا [يعيّنها]
(1)
من الخمس يجب عليه الخَمْس، ومطلق إحدى زوجتيه يجب عليه الكَفُّ عنهما.
"والحَقُّ أن الاحتياط" إنَّما يكون "فيما ثبت وجوبه"، كالصَّلاة [المَنْسِيَّة]
(2)
، وترك الحرام في المطلقة.
"أو كان" الوجوب فيه "الأصل كالثلاثين" إذا غُمَّ الهلال يفطر بناء على أصل شعبان، ومن رمضان بناء على أصل رمضان مع احتمال كون الأول من رمضان، والثاني من شَوَّال.
"فأما ما احتمل" أصل الوجوب وعدمه" [لغير]
(3)
ذلك" - أي: بغير أن يكون واجبًا أو يكون الأصل وجوبه -، "فلا" يجب فيه الاحتياط.
بل قد يقال: لا يجوز؛ لاحتمال التحريم في حقنا، وهو هنا كذلك؛ لأن فعله صلى الله عليه وسلم ثبت وجوبه، والأصل الوجوب.
الشرح: واحتج من قال: "النَّدْب" هو الثابت، فقال:"الوجوب يستلزمُ التبليغَ"؛ لقوله تعالى: {بَلِّغْ} والتقدير أنه لم يبلغ.
"والإباحةُ منفيةٌ بقوله - تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب: الآية 21] "؛ لأن أقل درجات الحَسَنَةِ الندب، وإذا انتفى الوجوب والإباحة، ثبت النَّدْب.
"وهو ضعيف"؛ لأن الفعل إن لم يكن تبليغًا فنسبة الوجوب والندب إليه سواء، لوجوب التَّبليغ عليه فيهما.
= بالفرق بين المقيس والمقيس عليه بتحقق الاحتياط في الأول دون الثاني؛ فإن الاحتياط إنما يتحقق فيما ثبت وجوبه كالصلاة الفائتة والكف عن المطلقة، أو كان الوجوب هو الأصل كيوم ثلاثين من رمضان، فإنه إذا غم ليلة ثلاثين من رمضان يحتمل أن يكون يوم ثلاثين من رمضان؛ فيحكم بوجوب صومه، بناء على أنه الأصل؛ لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه، والوجوب لما ثبت في المقيس عليه عملنا فيه بطريق الاحتياط، ولم يثبت في المقيس، ولم يكن الوجوب فيه أصلًا؛ فلم نعمل فيه بطريق الاحتياط. قاله الأصفهاني في شرح المختصر.
(1)
في ب: بعينها.
(2)
في ح: المنشية.
(3)
في أ، ح: بغير.
الْإِبَاحَةُ: هُو الْمُتَحَقَّقُ فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ.
أُجِيبَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ قَصْدُ الْقُرْبَةِ.
وأيضًا فلم قلتم: إن الإباحة ليست أسوة حسنة، وقد تقدم أن المباح حسن.
وأيضًا فقد يقال: قوله: لكم في الآية يدلّ على الندب؛ إذ لم يقل: عليكم، فانتفى الوجوب، والمُبَاح منتفٍ؛ لأن اللازم للاختصاص بجهة النفع، والظَّاهر من الشَّرع: اعتبار النَّفع الأخروي.
والحَقُّ عندي أن هذه الآية لا تدلُّ لوجوب، ولا ندبٍ، ولا إباحةٍ كما قررته في "شرح المنهاج".
الشرح: واحتجّ من قال: "للإباحة" بأن المباح "هو المتحقق"، والأصل عدم قيد زائدٍ عليه، فوجب الوقوف عنده
(1)
.
أجيب": إنما يكون هو المتحقق "إذا لم يظهر قصد القرينة".
أما إذا ظهرت، فالمحقق الترجيحُ.
واعلم: أن الإمام أبا المُظَفّر بن السمعاني نَصَرَ القَوْلَ بالوجوب نصرًا مؤزّرًا وقال: إنه الأشبه بمذهب الشافعي، ولكنه لم يتكلَّم إلا فيما ظهر فيه قصد القرينة؛ ولذلك لم يَحْك قول الإباحة.
وأن ما تقدم من أن ما وضح فيه أمر الجِبِلَّةِ لا دليل فيه له عندي صور:
أحدها: ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية، كتصرُّف الأعضاء، وحركات الجسد.
قال ابنُ السَّمعاني: فلا يتعلّق بذلك أمر باتباع ولا نَهْي عن مخالفة.
قلت: مع القطع بأنه مشروع له صلى الله عليه وسلم على ما عُرف في مسألة العصمة من أنه على الصَّواب في الحركات والسَّكنات عليه أفضَل الصَّلاة والسَّلام.
(1)
هذه شبهة للقائلين بالإباحة، وتقريرها أن يقال: الأصل في الأفعال كلها - إنما هو الإباحة ورفع الحرج عن الفعل والترك إلا ما دل الدليل على تغييره، والأصل عدم التغيير، فوجب الوقوف عند ما هو المتحقق، وهو مساواة الفعل والترك؛ إذ الأصل أيضًا عدم ترجيح أحدهما على الآخر، ولهذا يخرج المندوب عن هذه الشبهة إلى أنه لا تدل عليه على ما ظن بعض الناظرين. وتوجيه الجواب أن يقال: نحن نقول بالإباحة في كل فعل لم يظهر من النبي عليه السلام قصد التقرب به إلى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والصورة الثانية: ما لا يتعلّق بالعبادات وليس مما تقدم، كأحواله في مَأْكَلِهِ ومشربه وملبسه، ونومه ويقظته.
قال ابنُ السَّمعاني: فيدل ذلك على الإباحة دون الوجوب.
قلت: وعندي أنه مع ذلك مستحبّ التأسِّي، فقد كان ابن عمر رضي الله عنه لما حج يَجُرُّ خطَامَ ناقته حتى [يبركها]
(1)
حيث بَرَكَتْ ناقة النبي صلى الله عليه وسلم تبرُّكًا بآثاره [الطَّاهرة]
(2)
.
وفي الصحيح عن عبيد بن جريج
(3)
أنه سأل ابن عمر
(4)
: رأيناك تصنع أربعًا وفيها تلبس
= الله تعالى، وأما ما ظهر منه فصد التقرب به فيمتنع أن يكون مباحًا بمعنى نفي الحرج عن فعله وتركه مع عدم ترجح الفعل على الترك؛ فإن مثل ذلك لا يتقرب به، وذلك مما يجب حمله على ترجح جانب الفعل على الترك على ما مر، وإنما ترك شبهة القائلين بالوقف، وهي أن فعله يحتمل أن يكون مخصوصًا به، وألا يكون، وحينئذ إما أن يكون واجبًا أو مندوبًا، ولا صيغة للفعل تدل على البعض، وليس البعض أولى؛ فيلزم الوقف إلى أن يقوم الدليل على التعيين.
وجوابها وهو أنهم إن أرادوا بالوقف عدم الحكم بالإيجاب والندب والإباحة إلى أن يقوم الدليل على تعين ذلك فهو الحق، وهو عين ما قررناه، وإن أرادوا به الإحجام عن الحكم بأحد هذه الأمور الثابت في نفس الأمر؛ لتعارض الأدلة المنقولة عن القائلين بالوجوب والندب والإباحة ففاسد؛ لبطلان تلك الأدلة، وكون المبني على الفاسد فاسدًا. ومما يختص بالرد على الواقفية ههنا أنه لا يلزم سن انتفاء صيغة الفعل انتفاء دلالته، وليس كل ما يدل يدل بالصيغة بل وبغيرها، كدلالة الفعل مع ظهور قصد القربة على الندب، ودونه على الإباحة على ما مر بيانه. وقد يرد على الواقفية بهذا الوجه أيضًا، وهو أنهم إن أرادوا بالوقف أنا لا نحكم بأحد هذه الأمور إلا أن يقوم الدليل عليه فهو حق، وإن أرادوا به أن الثابت في نفس الأمر أحد هذه الثلاثة لكنا لا نعرفه بعينه فهو فاسد؛ لأن ذلك يستدعي دليلًا، ولا دلالة للفعل على شيء سوى ترجيح الفعل على الترك عند ظهور قصد القربة، ونفي الحرج مطلقًا عند عدمه، والأصل عدم دليل سوى الفعل. ينظر: الشيرازي 182 ب/خ.
(1)
في أ، ب، ح: يتركها.
(2)
في ح: الظاهرة.
(3)
عبيد بن جريج التيمي؛ مولاهم المدني. عن ابن عمر فرد حديث عندهم. وعن أبي هريرة. وعنه المقْبُرِي وزيد بن أسلم. وثقه النسائي. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 894، وتهذيب التهذيب 7/ 62، (125)، وتقريب التهذيب 1/ 542، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 201، والكاشف 2/ 236، وتاريخ البخاري الكبير 5/ 444، الجرح والتعديل 5/ 1868، والثقات 5/ 133.
(4)
عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن المكي، هاجر مع أبيه وشهد الخندق وبيعة الرضوان. له ألف وستمائة وثلاثون حديثًا. قال شمس الدين بن الذهبي: كان إمامًا متينًا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النِّعَال السَّبْتِيَّة، فأجابه بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، وآثار
(1)
الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في ذلك - كثيرة.
وقذ ذكر البُخَاري
(2)
في "باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم " حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من ذهب فاتَّخذ النَّاس خواتيمَ من ذَهَبٍ فنبذه وقال:"إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا"
(3)
، فنبذ النَّاسُ خواتيمهم.
وقول الغَزَّالي: يحتمل أن يكون استدلالهم بذلك - مع قرائن حسمت بقيةَ الاحتمالاتِ،
= واسع العلم غير الاتباع وافر النسك كبير القدر متين الديانة عظيم الحرمة. ذكر للخلافة يوم التحيكم وخوطب في ذلك، فقال: على ألَّا يجري فيها دم. قال أبو نعيم: مات سنة أربع وسبعين. وينظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 5/ 328 (565)، وتقريب التهذيب 1/ 435 (491)، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 81، والكاشف 2/ 112، وناريخ البخاري الكبير 5/ 2، 145، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 154، 157، والجرح والتعديل 5/ 107، وأسد الغابة 3/ 340، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 325، والإصابة 4/ 181، والاستيعاب (3 - 4)950.
(1)
آثار جمع أثر، والأثر: محركة - بقية الشيء، وجمعة آثار وأثور والخبر، وأثر فيه تأثيرًا ترك فيه أثرًا، والآثار الأعلام، والأثر نقل الحديث وروايته.
في الاصطلاح كالحديث والخبر عند الجمهور، يطلق على المرفوع والموقوف والمقطوع، وقال شيخ الإسلام ابن حجر: ويقال للموقوف والمقطوع: الأثر.
وقال النووي: وعند المحدثين كل هذا يسمى أثرًا. أما فقهاء خراسان: فإنهم يخصون الأثر بالموقوف. ينظر: غيث المستغيث 7، 8.
(2)
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري صاحب الصحيح ولد سنة 194 أخذ عن أصحاب الشافعي: الحميدي والزعفراني والكرابيسي وأبي ثور حدث عنه الترمذي وصالح جزرة، وابن خزيمة وابن صاعد في كثيرين قال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري، مات سنة 256. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 83، وتذكرة الحفاظ 2/ 555، وطبقات السبكي 2/ 2، ووفيات الأعيان 3/ 329، وتهذيب التهذيب 9/ 47، والنجوم الزاهرة 3/ 25، ومعجم البلدان 1/ 531، والوافي بالوفيات 2/ 206.
(3)
أخرجه البخاري 10/ 328، في اللباس، باب: خواتيم الذهب (5865)، (5866)، (5867)، (6651)، (7298)، وأخرجه مسلم 3/ 1655، في كتاب اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال (53/ 2091).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكلامنا في الفعل المجرد دون القَرِينَةِ صحيح، ولكنه لا يدفع الظهور، فإن الأصلَ عدم القرائن، فَلْيَسَعْنَا ما وَسَعَ الصَّحابة من الاقتداء والتأسِّي.
قلت: وأنا أستحسن أن يستدل بما في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ العَمَلَ وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمله الناس فيفرض عليهم" ففي هذا دليل على أمرين:
أحدهما: أن الفرض عليهم لم يكن بنفس فعله، بل بفرض من الله - تعالى - إذا اقتدوا بما فيه.
الثَّاني: أن الناس كانوا يتأسَّوْن وإن لم يفهموا الصّفة.
والثالث: ما احتمل أن يخرج عن الجِبِلَّةِ للتشريع بمواظبة على وَجْهٍ خاص ونحوها، وهو دون ما ظهر فيه قَصْد القرينة [القُرْبَةِ]، وفوق ما ظهر [فيه]
(1)
الجِبِلِّي، ولم يذكره الأصوليون، وربما ترقَّى القولُ فيه في بعض أفراده إلى الوجوب.
فقد رأى الشَّافعي رضي الله عنه فساد الصَّلاة بترك الجلوس بين الخُطْبَتَيْنِ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس بين الخُطْبَتَيْنِ
(2)
.
أو إلى الجَزْمِ بالندب، فقد استحب أصحابنا الاضطجاع على الجانب الأيمن بين ركعتي الفجر وصلاته، سواء اكان للمرء تهجّد أم لا؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا
(1)
سقط في ح.
(2)
الشافعية يرون على سبيل الوجوب الجلوس بينهما، وخالف في هذا أبو حنيفة ومالك وأحمد حيث قالوا: إنه سنة وليس بشرط. يدل للشافعية ما ثبت من مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده عليه، وتجب الطمأنينة فيه كما في الجلوس بين السجدتين، ولو خطب قاعدًا لعجزه عن القيام لم يضطجع بينهما للفصل لكن يفصل بينهما بسكتة خفيفة. وهل يسكت في الجلوس. أو يقرأ، أو يذكر؟ في صحيح ابن حبان "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيه" أفاد ذلك الأذرعي.
وقال ابن حجر: يسن قراءة الإخلاص، فإن قيل: لم عد القيام والقعود هنا من الشروط، ولم يعدا ركنين كما في الصلاة؟ أجاب إمام الحرمين بأنه لا حجر على من يعدهما ركنين، ويمكن الفرق بأن الخطبة ليست إلا الذكر والوعظ، ولا ريب أن القيام والجلوس ليسا بجزءين منها بخلاف الصلاة؛ فإنها جملة أعمال؛ فكانا جزءين فكانا ركنين.
دِلالَةُ سُكُوتِهِ صلى الله عليه وسلم
-
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا عَلِمَ بِفِعْلٍ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ قَادِرًا، فَإِنْ كَانَ كَمُضِيِّ كَافِرٍ إِلَى
صَلَّى رَكْعَتَي الفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ"
(1)
.
أو وقعٍ خلاف، كدخوله صلى الله عليه وسلم "مكة" من ثَنيَّة "كَدَاء"، [أو]
(2)
خروجه من ثنية وحجه راكبًا، وطوافه راكبًا، وذهابه إلى العيد في طريق وإيابِهِ في آخر.
وقد اختلف الأصحاب في كل هذا، هل يحمل على الجِبِلَّةِ فلا يستحب، أو على التشريع [فيستحب]
(3)
؟، والله الموفق.
"تنبيه"
(4)
إذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم حدًّا على إنسان أفاد الوجوب، وإن لم يكن هناك قرينة أصلًا بالاتفاق.
ومن قال: إن الفعل المجرّد للندب أو للإباحة.
نقول: هنا قرينة، وهي أنه لا يجوز إدخال الألم على بَدَنِ الإنسان إلا أن يكون واجبًا عليه، ذكره سليم الرَّازي في "التقريب".
"مسألة"
الشرح: في دلالة سكوته صلى الله عليه وسلم عمن فعل فعلًا.
"إذا علم" النبي صلى الله عليه وسلم "بفعل ولم ينكره"، مع كونه عليه السلام "قادرًا" على الإنكار
(5)
.
"فإن كان" الفعل مما تقدَّم منه عليه الصلاة والسلام بيان قُبْحِهِ، وتقرير فاعله مع ذلك بوجه شرعي، "كمضي كافر إلى كَنِيسَةٍ"
(6)
، فإنه مقر على ذلك بعد بَذْلِ الجزية "فلا أثر للسكوت
(1)
أخرجه البخاري 3/ 54، كتاب التهجد: باب الحديث بعد ركعتي الفجر (1162).
(2)
في أ، ح: و.
(3)
في ح: فتستحب.
(4)
التنبيه هو إعلام ما في ضمير المتكلم المخاطب أو إعلام أن الآتي مهم. ينظر: قواعد الفقه (238).
(5)
ينظر: شرح العضد 2/ 25، والإحكام للآمدي 1/ 173، وشرح الكوكب المنير 2/ 194، والبرهان 1/ 498 (407)، وحاشية البناني 2/ 95، والتلويح على التوضيح 1/ 41 تيسير التحرير 3/ 128، وفواتح الرحموت 2/ 183، وإرشاد الفحول ص 41.
(6)
الكنيسة: متعبد اليهود أو النصارى أو الكفار أو موضع صلاة اليهود فقط، وتطلق الآن على متعبد النصارى. ينظر: قواعد الفقه 449.
كَنِيسَةٍ، فَلا أَثَرَ لِلسُّكُوتِ اتِّفَاقًا، وَإِلَّا دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ سَبَقَ تَحْرِيمُه، فَنَسْخٌ، وَإلَّا لَزِمَ
ولا دلالة [له]
(1)
على جواز" الفعل.
قلت: وكان ينبغي التمثيل بغير مُضِيِّهِ إلى الكنيسة فإن ذلك بمجرده غير حرام لا على الكافر ولا المسلم، ولعلَّ المراد المُضِيّ على وجه التعبُّد بمعتقد الكافر.
وإلا - أي: وإن لم يكن قد بين قُبحه، دلَّ سكوته على الجواز - جواز ذلك الفِعْلِ ويستثنى ما إذا كان قد أقدم على ذلك الفِعْلِ ممن علم أنه لا ينفع فيه الإنكار.
قال الإمام: التقرير دالّ على رفغ الحَرَجِ إلا في موضع "واحد وهو ألَّا يبعد أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم آتيًا عليه ممتنعًا عن القَبُولِ لا سيَّما وقد أخبره الله - تعالى - أنه لا يؤمن، سواء أنذر أم لا ينذر.
فإذا رآه يسجد لِصَنَمٍ بعدما أنكر عليه مرارًا، وأمكن حمل سكوته على يأس من القَبُول، فلا يدل على تقدير شرع، نقل هذا الكلام عن الإمام تلميذُه أبو نصر بن القُشَيري.
[ومَثَّلَ]
(2)
الإمام في "البرهان" لما نحن فيه بالمنافق والكافر، ووافقه المَازِرِيّ على التمثيل بالكافر قال: وأما المُنَافق فإنا نقيم عليه الحَدّ؛ لجريان الأحكام على المنافقين ظاهرًا.
وحكى الغزالي في "المنخول" في [تَعْزِيرِ]
(3)
المُنَافقين خلافًا
(4)
.
ومال إلكيا الهراسي إلى ما قاله إمامه قال: لأنه عليه السلام كان كثيرًا ما يسكت عن المنافقين علمًا فنه أن العِظَةَ لا تنفع فيهم، وأن كلمة العذاب حقَّتْ عليهم.
قلت: هو مستمدٌّ من قول الإمام فيما حكاه عن المحقّقين في باب التَّعْزِير فيمن علم أن التأديب لا يحصل إلا بالضَّرْب المبرح؛ أنه ليس له - الضرب، لا المبرح، لأنه مهلك ولا غيره؛ لعدم إفادته.
قلت: والمختار عندنا قول المَاوَرْدِيّ، فإن الحدود والتَّعْزِيرَات لا ينبغي أن تترك لمثل هذا.
وقد رَدَّ الرافعي رحمه الله ما نقله الإمام، وقال: يشبه أن [الضرب]
(5)
يضرب ضربًا غير
(1)
سقط في ح.
(2)
في ب: وقيل.
(3)
في ب، ح: تقرير.
(4)
ينظر: المنخول (230).
(5)
سقط في أ، ح.
ارْتِكَابُ مُحَرَّمٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنِ اسْتَبْشَرَ بِهِ فَأَوْضَح، وَتَمَسُّكَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه
مبرح إقامة لصورة الواجب، وهذا هو الحق.
"وإن" كان قد "سبق تحريمه فنسخ" - أي: فسكوته نسخ للتحريم السَّابق - "وإلا لزم" أن يقع منه صلى الله عليه وسلم "ارتكاب محرم، وهو باطل"، فلا يقر على باطل وقد وصفه الله - تعالى - بقوله:{النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة الأعراف: الآية 157] فهو عليه السلام ينكر المنكر، ولو عرف أن مرتكبه لا يرجع، كما أنه يجب علينا الإنكار، وإن [علمنا]
(1)
أنه لا يفيد.
فإن عُلِمَ من حال مرتكب المنكر أن الإنكار يزيده إغراء على مثله.
قال ابن السمعاني: فإن كان العالم غير النبي صلى الله عليه وسلم لم يجب الإنكار، وإلا فوجهان:
أحدهما: لا يجب، وهو قول المعتزلة.
والثَّاني: الوجوب، ليزول بالإنكار توهُّم الإباحة، وهو قول الأشعرية وهو أظهر.
هذا كلام ابن السَّمْعَانيِّ، وهو [منازع]
(2)
فيما أسلفناه عن الإمام.
واعلم: أن ما ذكره المصنّف من اشتراط كون النبي صلى الله عليه وسلم قادرًا على الإنكار عندي غير محتاج إليه، فقد ذكر الفقهاء أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم عدم سقوط وجوب تغيير المنكر بالخَوْفِ على نفسه بعد إخبار ربه - تعالى - بعصمته في قوله:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [سورة المائدة: الآية 67].
وما ذكر من دلالة السكوت على أن الفعل غير محرم حقّ.
وأما الاستدلال به على خصوص الإباحة، فكان أبي رحمه الله أولًا يقف فيه ويقول: غاية دلالة السكوت أنه لا حَرَجَ في الفِعْلِ، فمن أين أنشأ الإباحة؟.
وذكر أنه سأل الشيخ صدر الدين بن المُرَحّل قديمًا هذا السؤال، ولم يحصل جواب، ثم كان آخرًا يقول: جوابه أنهم نقلوا أنه لا يجوز الإقدام على فعل حتى يعرف حكمه، فالفعل الذي أقدم عليه لو لم يكن مباحًا لحرم الإقدام عليه، بلا علم بحكمه. فمن هنا التقرير على الإباحة بخلاف السكوت عند السُّؤال.
قولهم: لا يجوز الإقدام حتى يعرف حكمه في غاية الإشكال، وإن كان الشافعي ادَّعى الإجماع فيها، وكذا الغزالي في "المستصفى"، فإنهم قد صَرَّحُوا بالبراءة الأصليَّة، وأنه لا حرج في الإقدام إذ ذاك؛ إذ لا حكم.
(1)
في أ، ب، ح: عرفنا.
(2)
في ب، ح: ينازع.
فِي الْقِيَافَةِ بِالاِسْتِبْشَارِ، وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ لِقَوْلِ المُدْلِجِيِّ، وَقَدْ بَدَتْ لَهُ أَقْدَامُ زَيْدٍ وَأُسَامَةَ رضي الله عنهما:"إِنَّ هذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ".
وسمعت أبي رضي الله عنه يقول: محلّ الإجماع محمول على ما إذا أقدم بلا سبب ومحل عدم الحرج، ما إذا أقدم مستندًا إلى البراءة الأصليَّة.
وهذا أيضًا عندي فيه نظر، فإن ما لا حرَجَ في فعله لا يستدعي من فاعله أن يستند فيه إلى سبب، نعم يستدعي ألا يقدم عليه ظانًّا أن فيه حرجًا، كما يحرم إقدام الرجل على وطء زوجته ظانًا أنها أجنبية.
والذي يظهر لي في هذه القاعدة: أن المنفي في كلامهم هو الجواز الشرعي وهو [حق]
(1)
؛ إذ الفرض أن لا حكم فلا جواز، ولكنه إذا قدم فلا يعاقب؛ إذ لا حكم أيضًا.
وحينئذ أقول: قول أبي رحمه الله فالذي أقدم عليه لو لم يكن مباحًا لكان حرامًا - ممنوع، بل هو لا حرام ولا مُبَاح؛ لأن الحرام والمباح حكمان شرعيَّان مندرجان تحت مطلق الحكم، ولا حكم، فانتفيا بانتفاء الأعم منهما.
نعم قد يجاب عن السؤال من أصله بأن تقريره على الفعل يوهم الإباحة فلو لم يحكم الشرع فيه بالحل لما جاز السُّكوت؛ لما فيه من [الإيهام]
(2)
، وهذا بخلاف حالة ترك الجواب عند السؤال؛ إذ لا فعل هناك واقع، والسَّائل محقق أنه ينتظر الجواب، فلا محذور في ترك الجواب، بل السكوت محمول على عدم نزول الوحي قطعًا.
فإن قلت: إذا كان لا يقر على باطل فكيف سكت عن أبي سفيان
(3)
وهو يقول له في بيَت أُم
(1)
في ب: جواز.
(2)
في أ، ب: الإبهام.
(3)
صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموي أبو سفيان من مُسلمة الفتح، وشهد حنينًا، وأعطي من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقية، وشهد الطائف واليرموك، وأبلى فيه بلاءً حسنًا، وذهبت عينه في ذلك اليوم، له أحاديث. قال ابن سعد: مات سنة اثنتين وثلاثين. وقال المدائني: سنة أربع وثلاثين.
ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 2/ 602، وتهذيب التهذيب 4/ 411، وتقريب التهذيب 1/ 365، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 466، والكاشف 2/ 26، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 310، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 44، 69، 70، 112، والجرح والتعديل 4/ 1869، والوافي بالوفيات 16/ 284، وأسد الغابة 3/ 10، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 263، والإصابة 3/ 412، والاستيعاب 2/ 714، والثقات 3/ 193.
وَأُورِدَ أَنَّ تَرْكَ الإِنْكَارِ لِمُوَافَقَةِ الْحَقِّ، وَالْاِسْتِبْشَارَ مَعًا بِمَا يُلْزِمُ الْخَصْمَ عَلَى أَصْلِهِ؛ لأَنَّ الْمَنَافِقِينَ تَعَرَّضُوا لِذلِكَ.
حبيبة
(1)
: تركتك فتركتك العرب، ولا ينتطح فيها جَمَّاءُ ولا قَرْنَاءُ. وهو صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول:"أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا حَنْظَلَةَ؟! " وكان أبو سفيان مبطلًا فيما قاله، فإن العرب لم تترك النبي صلى الله عليه وسلم بل كان معه صناديدُهم.
قلت: لم يقر صلى الله عليه وسلم حيث قال: "أَنْتَ تَقُولُ يَا أَبَا حَنْظَلَةَ؟! "، وهي عبارة يفهم منها الرد؛ لأن الحصر مفهوم منه. فكأنه قال: لا يقول أحد غيرك هذا. والصدق لا يختص أنت تقول يا أبا حنظلة"
(2)
وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: ولم لا صرح بالإنكار؟
قلت: لأنه كان في وقت استجلاب خاطر أبي سُفْيَانَ لمصلحة المسلمين، وكان أيضًا حكمه إذ ذاك، كما روى الزبير بن بَكَّار
(3)
- ويكنيه أبا حَنْظَلَة - فما أقر على باطل، ولا نهر بالإنكار صلى الله عليه وسلم.
"فإن" كان الفعل مما "استبشر" النبي صلى الله عليه وسلم "به، فأوضح" في الاستدلال على الجواز.
"وتمسّك الشافعي رضي الله عنه في "إثبات "القِيَافَة"
(4)
، وإلحاق النسب بها
(1)
رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب الأموية، أم حبيبة وأم المؤمنين. لها خمسة وستون حديثًا. اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بمثلها. وعنها ابنتها حبيبة وأخواها معاوية وعنبسة، قال أبو عبيد: توفيت سنة أربع وأربعين. ينظر ترجمتها في: تهذيب 12/ 419 ت 2794، وتقريب 2/ 598، والثقات 3/ 131، وأسد الغابة 7/ 115، والاستيعاب 4/ 1843، 1929، والإصابة 7/ 651، وتجريد أسماء الصحابة 2/ 268، وتهذيب الكمال 3/ 1683، والخلاصة 3/ 382، 405.
(2)
أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة"(5/ 11) والزبير بن بكار وابن عساكر كما في "كنز العمال"(18645).
(3)
الزبير بن بكار بن عبد الله القرشي الأسدي المكي، من أحفاد الزببر بن العوام أبو عبد الله؛ عالم بالأنساب وأخبار العرب، راوية، ولد بالمدينة سنة 172 هـ، وولي قضاء مكة فتوفي فيها سنة 256 هـ، من تصانيفه: أخبار العرب وأيامها، نسب قريش وأخبارها، جمهرة نسب قريش، والأوس والخزرج، ووفود النعمان على كسرى، وله مجموع في الأخبار ونوادر التاريخ سماه "الموفقيات".
ينظر: الأعلام 3/ 42، وتاريخ بغداد 8/ 467، وآداب اللغة 2/ 193.
(4)
القائف: هو الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود، والقيافة بالكسر تتبع الأثر. ينظر: قواعد الفقه 420.
وَأُجِيبَ بأَنَّ مُوَافَقَةَ الْحَقِّ لَا تَمْنَعُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُنْكَرًا، وَإلْزَامُ الْخَصْمِ حَصَلَ بِالْقِيَافَةِ، فَلَا يَصْلُحُ مَانِعًا.
"بالاستبشار" الصَّادر من النبي صلى الله عليه وسلم "وترك الإنكار لقول" مُجَزِّز
(1)
- بضم الميم، وفتح الجيم، ثم الزاي المكسورة ثم زاي أخرى - "المدّلجِيّ، وقد بدت له أقدام زيد وأسامة: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض"".
ففي "الصحيحين"
(2)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورًا فقال: "يَا عَائِشَة، أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا المُدّلجِيّ دخل عَلَيَّ فرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا روءسهما وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا" فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض"، زاد أبو داود: وكان أسامة أسود شديد السواد وزيد أبيض شديد البياض.
"وأورد" على تمسُّك الشَّافعي، فقيل: لا نسلم "أن ترك الإنكار" منه صلى الله عليه وسلم كان لجواز إلحاق النَّسَبِ بِالقِيَافَةِ، بل "لموافقة الحق" في نفس الأمر، "والاستبشار" وإنما كان لحكمها "بما يلزم الخصم" - أعني:"المنافقين"
(3)
- "على أصله" - وهو إثبات النسب - بالقِيَافَةِ؛ "لأن [المنافقين]
(4)
تعرَّضوا لذلك" وزعموا لسواد أسامة، وبياض زيد أنه ليس ابنه، فلمَّا كذبهم أصلهم استبشر به.
"وأجيب: بأن موافقة الحَقّ لا تمنع" من الإنكار "إذا كان الطريق" المؤدّي إلى الحق
(1)
مُجَزِّز المدلجي وهو ابن الأعور بن جعدة بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مدلج الكناني مذكور في الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال:"ألم تر أن مجززًا المدلجي نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن بعض هذه الأقدام من بعض" وفي رواية ابن قتيبة: مر على زيد وأسامة وقد غطيا رءوسهما، وبدت أقدامهما". وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل عن موسى بن هارون بن مصعب الزبيري أنه لم يكن اسمه مجززًا، وإنما قيل له ذلك، لأنه كان إذا أسر أسيرًا جز ناصيته وأطلقه، وذكره ابن يونس في تاريخ مصر.
(2)
أخرجه البخاري (4/ 213) كتاب فضائل أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، باب مناقب زيد بن حارثة، ومسلم (2/ 1081 - 1082) كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد حديث (38، 39، 40).
وأبو داود (2/ 698 - 699) كتاب الطلاق (2267 - 2268) والترمذي، (4/ 40) في أبواب الولاء والهبة (2129) والنسائي (6/ 184 - 185) وابن ماجه (2/ 787) وأحمد (6/ 82، 226) من حديث عائشة.
(3)
في أ، ب، ح: المناقضين.
(4)
في أ، ح: المناقضين.
حُكْمُ الفِعْلَيْنِ الصَّادِرينِ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَاقَةُ القَوْلِ بِالفِعْلِ
مَسْأَلَةٌ:
الْفِعْلَانِ لَا يَتَعَارَضَانِ
كَـ"ـــصَوْمٍ"، وَ"أَكْلٍ" لِجَوَازِ [تَحْرِيمِ الْأَكْلِ] فِي وَقْتِ، وَالْإِبَاحَةِ فِي آخَرَ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ تَكْرِيرِ الْأَوَّلِ لَه، أَوْ لأُمَّتِهِ، فَيَكُونُ الثَّانِي نَاسِخًا.
فَإِنْ كَانَ مَعَهُ قَوْلٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى تَكَرُّرٍ وَلَا تَأَسٍ بِهِ، وَالْقَوْلُ خَاصٌّ بِهِ وَتَأَخَّرَ فَلَا تَعَارُضَ.
"منكرًا" وإلا لأوهم ترك الإنكار؛ لأنه حاصل بها سواء ثبت النسبة بها أم لم يثبت.
"تنبيه"
إذا دلَّ التقريرُ على انتفاء الحرجِ، فهل يختص بمن قرر أو يعم سائر المكلفين؟
وذهب القاضي إلى الأول، والإمام إلى الثَّاني، وهو الأظهر.
"مسألة"
الشرح: "الفعلان" الصادران عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يتعارضان"
(1)
؛ لأنهما إما متماثلان، كالظهر يصليها في وَقْتَيْن، أو مختلفان غير مُتَضَادّين، "كصوم" وصلاة فلا تعارض، أو متضادان كصوم في يوم "وأكل" في آخر، فلا تعارض أيضًا؛ "لجواز" الأمر بالصوم "في وقت والإباحة في آخر"؛ إذ الأفعال لا عموم لها، فلا يرتفع أحد الفعلين [بالآخر]
(2)
"إلا أن يدلَّ دليل" من خارج "على وجوب تكرير" الفعل "الأول له، أو لأمته، فيكون" حينئذٍ الفعل "الثَّاني ناسخًا" للأول - وهذا حكم الأفعال المتضادّة.
الشرح: "فإن كان معه" مع الفعل "قول" يعارضه، "ولا دليل على تَكَرُّر" في حقّه، "ولا" على "تأسٍّ" لنا "به" في الفعل، "والقول" قد علم أنه "خاصّ به"، "وتأخّر" عن الفعل "فلا تَعَارُضَ" بينهما؛ لجواز أن يفعل في وقت، ويقول في آخر: لا يجوز.
(1)
والتعارض بين الأمرين تقابلهما على وجه يمنع كل واحد منهما مقتضى صاحبه. وينظر: شرح العضد 2/ 26، والإحكام للآمدي 1/ 174 - 175، والمنخول 227، والمعتمد 1/ 288، وحاشية البناني 2/ 99، وتيسير التحرير 3/ 136، وفواتح الرحموت 2/ 202.
(2)
في ح: الآخر.
فَإِنْ تَقَدَّمَ فَالْفِعْلُ نَاسِخٌ قَبْلَ التَّمَكُّنِ عِنْدَنَا فَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِنَا فَلَا تَعَارُضَ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، فَإِنْ كَانَ عَامًّا لَنَا وَلَهُ فتَقَدُّمُ الْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ لَهُ وَللأُمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ العَامُّ ظَاهِرًا فِيهِ، فَالْفِعْلُ تَخْصِيصٌ كَمَا سَيَأْتي.
فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَكَرُّرٍ وَتَأَسٍّ وَالْقَوْلُ خَاصٌّ بِهِ، فَلَا مُعَارَضَةَ فِي الْأُمَّةِ، وَفِي حَقِّهِ المُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، فَإِنْ جُهِلَ، فَثَالِثُهَا المُخْتَارُ الْوَقْفُ لِلتَّحَكُّمِ، فَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِنَا، فَلَا مُعَارَضَةَ فِيهِ وَفِي الأُمَّةِ المُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، فَإِنْ جُهِلَ، فَثَالِثهَا الْمُخْتَارُ يُعْمَلُ بالْقَوْلِ؛ لأَنَّهُ أَقْوَى لِوَضْعِهِ لِذلِكَ، وَلخُصُوصِ الْفِعْلِ بِالْمَحْسُوسِ؛ وَللْخِلافِ فِيهِ؛ وَلإِبْطَالِ الْقَوْلِ بِهِ جُمْلَةٌ. وَالْجَمْعُ وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى.
ولا يكون هذا القول بحكم الماضي [ليصرمه]
(1)
وعدم تعرض هذا القول له، ولا للمستقبل؛ لأن الفعل لا عمومَ له.
فإن "تقدم" القول على الفعل مثل: يجب صوم غد، ثم يصبح مفطرًا، فالفعل ناسخ للقول وهو نسخ قبل التمكُّن، وهر جائز عندنا.
فإن كان القول خاصًّا بنا فلا تعارض، سواء تقدَّم القول "أو تأخر"؛ لعدم توارد الفعل والقول على محلٍّ واحد.
"فإن كان" القول "عامًّا لنا وله، فيقدم الفعل، أو القول له [وللأمة]
(2)
كما تقدم" فاعتبره "إلا" في شيء واحد، وهو "أن يكون العامُّ ظاهرًا" دخول النبي صلى الله عليه وسلم "فيه" وهو متقدم، "فالفعل تخصيص كما سيأتي" في باب العموم والخُصُوص - إن شاء الله - تعالى وقد كان في القسم الأول ناسخًا.
الشرح: "فإن دلَّ دليل على تَكَرُّرٍ" للفعل في حقّه "وتأسٍّ" لنا به، "والقول خاص به، فلا معارضةَ في" حقّ "الأمة"؛ لجواز اختصاصه بما دلَّ عليه القول دون الفعل، "وفي حقه المتأخر ناسخ" قولًا كان أو فعلًا.
[للكلام فيه - ولكن خالفه سائر أصحابنا -
ولك أن تضايقه وتقول: قد ظهر فساد دعواك أن تقديم أحدهما تحكُّمٌ؛ لأن القول أطلق فلا يكون تقديمه تحكُّمًا]
(3)
.
(1)
في ب: لتصرمه.
(2)
في ح: ولأمة.
(3)
سقط في أ، ب، ح.
قَالُوا: الْفِعْلُ أقوَى؛ لأَنَّهُ يُتَبَيَّنُ بِهِ الْقَوْلُ مِثْلُ "صَلُّوا" وَ"خُذُوا عَنِّي" وَكَخُطُوطِ الْهَنْدَسَةِ وَغَيْرِهَا.
قُلْنَا: الْقَوْلُ أَكْثَرُ، وَلَوْ سُلِّمَ التَّسَاوِي يُرَجَّحُ بِمَا ذَكَرْنَاه، وَالْوَقْفُ ضَعِيفٌ؛ لِلتَّعَبُّدِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ عَامًّا فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، فَإِنْ جُهِلَ فَالثَّلاثَةُ.
"فإن جهل" المتأخر، فلا تعارض بينهما بالنسبة إلى أمّته؛ لعدم تناول القول لهم. وأما بالنسبة إليه عليه السلام، "فثالثها المختار الوَقْف" حتى يقوم دليل التَّاريخ دفعًا "للتحكم" اللازم من القول بتقديم الفِعْلِ وعكسه؛ إذ هو ترجيح بلا مُرَجّح.
"وإن كان" القول "خاصًّا بنا، فلا معارضة فيه" صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر. "وفي الأمة المتأخِّر ناسخٌ" قولًا كان أو فعلًا.
"فإن جهل" المتأخّر، "فثالثها المختار يعمل بالقول؛ لأنه أقوى" دلالة من الفِعْلِ؛ "لوضعه لذلك"، فهو يدلُّ بغير واسطة؛ "ولخصوص الفِعْل بالمحسوس"، وشمول القول فيكون أكثر فائدة، فيكون أولى؛ "وللخلاف" الواقع "فيه" أي؛ في الفعل هل هو دليل؟؛ ولا خلاف في أن القول دليلٌ؛ "ولإبطال القول به"، أي: بالفعل "جملة" إذا علمنا به.
أما في حقه؛ فلعدم شموله.
وأما في حقنا فظاهر، والعمل بالقول يقتضي إبطال الفعل في حقّنا دونه "والجمع" بين الدليلين "ولو بوجه أولى" من إلغاء أحدهما، وهذا عندي أوجه الأوجُه.
"قالوا: الفعل أقوى؛ لأنهَ يُبيّن به القول، مثل: "صَلُّوا"، وَ"خذُوا عَنِّي"، وكخطوط الهندسة وغيرها"، فإن الحكم فيها إنما يظهر بالعمل.
"قلنا: القول أكثر" من الفعل، والأكثرية دليلُ الرُّجحان، "ولو سلّم التَّساوي" من حيث هما، "رجّح" القول من خارج "بما ذكرناه" من الأوجه الأربعة.
"و "لئن سأل سائل، ما بالكم ترجّحون القول هنا، وتقفون في القسم السابق، وهو ما إذا كان [القول]
(1)
خاصًّا به، وقلتم ثَمَّ: إن ترجيح أحدهما تحكّم؟!.
فنقول: "الوَقْفُ" هنا "ضعيف"، وليس كذلك في الأول؛ "للتعبُّد" بالقول هنا؛ إذ نحن متعبّدون بوجوب العمل بأحدهما، ولا يمكن العمل بهما، والقول أرجح بما ذكرناه، ولكن
(1)
سقط في ب.
فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَكَرُّرٍ فِي حَقِّهِ لَا تَأَسٍّ وَالْقَوْلُ خَاصٌّ بِهِ أَوْ عَامٌّ، فَلا مُعَارَضَةَ فِي الْأُمَّةِ، وَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ جُهِلَ، فَالثَّلَاثَةُ فَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ، فَلَا مُعَارَضَةَ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ دُونَ تَكَرُّرهِ فِي حَقِّهِ، وَالْقَوْلُ خَاصٌّ بِهِ، وَتَأَخَّرَ، فَلَا مُعَارَضَةَ، فَإِنْ تَقَدَّمَ، فَالْفِعْلُ نَاسِخٌ فِي حَقِّهِ فَإِنْ جُهِلَ، فَالثَّلَاثَة، فَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ، فَلَا مُعَارَضَةَ فِي حَقِّهِ، وَالمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ فِي الْأُمَّةِ، فَإِنْ جُهِلَ، فَالثَّلَاثَةُ
راجحيَّتُهُ ليست قطعيةً حتى يقضى بها في كل مَوْضِعٍ، فيقضى بها هنا؛ للضرورة إلى العمل "بخلاف الأول"؛ إذ لسنا متعبدين في حقه بشيء، ولا ضرورة إلى الحكم على أفعاله عليه السلام فيما لا يتعلّق بنا.
ولقد منع ابن خيران - من - أصحابنا الكلام في "الخصائص" قال: لأنه أمر تقضّى، فلا معنى للكلام فيه، ولكن خالفه سائر أصحابنا، ولك أن تضايقه وتقول: قد ظهر فساد دعواك أن تقديم أحدهما تحكم؛ لأن القول أظهر، فلا يكون تقديمه تحكيمًا.
وكان الصَّواب أن يقول: ولا ضرورة إلى تقديم أحدهما لمجرّد الظّهور.
"فإن كان" القول "عامًّا" لنا وله، "فالمتأخر ناسخ" إن علم، "فإن جهل فالثلاثة" المحكية آنفًا آتية هنا، والمختار منها في حقّه عليه السلام الوقف، وفي حقّنا القول.
الشرح: "فإن دلَّ دليلٌ على تكرر" الفعل "في حقه"، "لا" على "تأسٍّ" لنا به، "والقول خاص [به]
(1)
أو عام" له ولأمته "فلا معارضة في الأمة" مطلقًا تقدم الفعل أو تأخر؛ لعدم تعبدهم به "والمتأخر ناسخ في حقه" قولًا كان أو فعلًا.
"فإن جهل" المتأخر "فالثلاثة" آتية [هنا]
(2)
، والمختار منها الوقف كما مَرّ.
"فإن كان خاصًّا بالأمة، فلا مُعَارضة"؛ لعدم التوارد على محلّ واحد
(3)
.
(1)
سقط في ب.
(2)
سقط في ح.
(3)
إن كان القول خاصًا بنا فلا معارضة في حقه عليه السلام؛ لعدم تناول القول له عليه السلام، وأما في حق الأمة فالمتأخر ناسخ إن علم، وإن جهل ففيه المذاهب، والمختار ههنا العمل بالقول؛ لوجوه أربعة:
الأول: أن القول أقوى من الفعل؛ لأن القول يدل بلا واسطة لوضعه لذلك، بخلاف الفعل؛ فإنه إنما يدل على الجواز بواسطة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل المحرم، وهو ما يتوقف على الأدلة الغامضة، والحاصل أن القول يستغنى في دلالته عند الفعل بخلاف العكس. =
مَعًا، فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ عَامًّا، فَكَمَا تَقَدَّمَ.
"فإن دلَّ الدليلُ على تأسّي الأمة به دون تكرّره في حَقّه، والقول خاص به وتأخر، فلا معارضة.
فإن تقدّم، فالفعل ناسخ في حقه، فإن جُهِلَ، فالثلاثة، فإن كان القول عامًّا فكما تقدّم" فاعتبره.
"فائدة"
التعارض بين القول والفعل يبلغ ستِّين صورة أكثرها لا وجود لمثاله في الشرع؛ فلذلك لم يعيّن بعدها.
ووجهها: أنه إما أن يتقدّم القولُ، أو الفعلُ، أو يجهل.
فإن تقدّم القول، فإما أن يتعقّبه
(1)
الفعل، أو يتراخى عنه بمهلة، وإن تقدم الفعل فكذلك، ثم القول تقدم أو تأخر أو جهل، إما أن يعم، أو يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالأمة، والفعل تقدم أو تأخر أو جهل إما يلابسه دليل على وجوب تكرُّره في حقه، وتأسي الأمة به، أو لا يلابسه دليل واحد منهما، أو دليل التَّكْرار دون التأسِّي أو عكسه، فهذه ستون صورة فتأملها. ولم يذكر المصنف تبعًا للآمدي غير ستة وثلاثين؛ لأنهما أهملا التعقب والتراخي.
والإمام الرَّازي ذكر التعقيب والتَّرَاخي، ولكن أهمل انقسام الفعل إلى مدلول فيه على التكرار والتَّأسي، أو أحدهما، أو لا على شيء منهما فجاءت الأقسام على ما ذكر خمس عشرة صورة.
وإذا جمعت بين كلام الإمام والآمدي اجتمعت لك سِتُّون سورة كما عَرَّفناك بيانه أنه إذا جهل التاريخ، فالصور اثنتا عشرة؛ لأن القول إما أن يخصه أو أمته أو يعمهما، فهذه ثلاثة أقسام مضروبة في الأربعة التي ينقسم عليها الفعل صارت الصور اثنتي عشرة وإن تقدم
(2)
، فالفعل إما
= الثاني: أن دلالة القول أتم وأكثر من دلالة الفعل؛ لخصوص الفعل بالمحسوس؛ لأنه لا ينبئ إلا عنه، والقول ينبئ عن المحسوس وغيره كالمعقولات الصرفة، واعتبار الأقوى أولى من اعتبار الأضعف.
الثالث: أن القول متفق على دلالته، والفعل مختلف فيه، فيكون أولى.
الرابع: إبطاله أي إبطال من عمل بالفعل أو إبطال العمل بالفعل القول به، أي بسبب العمل بالفعل جملة أي بالكلية بخلاف العكس؛ لأن العمل بالقول ههنا يفضي إلى نسخ مقتضى الفعل في حق الأمة دون النبي عليه السلام، وبالفعل إلى إبطال مقتضى القول بالكلية، والجمع بينهما ولو من وجه أولى من ترك أحدهما بالكلية. ينظر: الشيرازي 186 ب، 187 أ/ خ.
(1)
في ح: يتبعه.
(2)
في ب: تقدمنا.
مَبَاحِثُ الْإِجْمَاعِ
(1)
مَسْأَلَةٌ:
الْإِجْمَاعُ: الْعَزْمُ وَالاِتِّفَاق، وفِي الاِصْطِلَاحِ: اتِّفَاقُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ. وَمَنْ يَرَى انْقِرَاضَ الْعَصْرِ يَزِيدُ إِلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ.
أن يتعقّب، أو يتأخر، فهذان قسمان كل واحد منهما مضروب في ثلاثة، وهي التي ينقسم القول عليها، فهذه ستة أقسام تضرب في أربعة الفعل، فيصير المجموع أربعًا وعشرين، وإن تقدم الفعل، فكذلك أربع وعشرون صورة صار المجموع من تقدم القول، وتقدم الفعل ثمانيًا وأربعين، ولمجهول التاريخ اثنتا عشرة، فهذه ستون.
"تعريفه"
الشرح: "الإجماع" - لغةً -: "العزم والاتِّفاق وفي الاصطلاح" قال المصنّف:
(1)
يطلق الإجماع في اللغة على معنيين: أحدهما: العزم يقال: أجمعت المسير والأمر، وأجمعت عليه أي عزمت، فهو يتعدى بنفسه وبالحرف، وقد جاء بهذا المعنى في الكتاب والسنة قال تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} أي اعزموا، وقال صلى الله عليه وسلم:"من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له". أي لم يعزم عليه فينويه.
ثانيهما: الاتفاق، ومنه يقال: أجمع القوم على كذا إذا اتفقوا، قال في القاموس: الإجماع الاتفاق والعزم على الأمر، وقال ابن برهان وابن السمعاني: العزم أشبه باللغة، والاتفاق أشبه بالشرع، ويجاب عنه بأن الاتفاق وإن كان أشبه بالشرع فذاك لا ينافي كونه معنى لغويًا، وكون اللفظ مشتركًا بينه وبين العزم، قال أبو علي الفارسي: يقال: أجمع القوم إذا صاروا ذوي جمع، كما يقال: ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر.
والظاهر في تحرير المعنى اللغوي أن بين العزم والاتفاق عمومًا وخصوصًا وجهيًا يجتمعان في اتفاق الجماعة في إرادة شيء، وينفرد العزم في إرادة الواجد وينفرد الاتفاق في اتفاق الجماعة في قول أو فعل بدون إرادة وعزم.
ولا ريب في أن المعنى الثاني بالاصطلاحي أنسب؛ فإن الاتفاق مطلق يشمل اتفاق جمع ما، ولو كفارًا على أمر ما ولو معصية، والاصطلاحي اتفاق مقيد .. وقال صاحب التقرير: كون المعنى الثاني أنسب مبني على أنه إذا لم يبق من المجتهدين إلا واحد لا يكون قوله حجة كما هو أحد القولين ا. هـ. أي وأما على رأي من يقول أنه حجة يكون المعنى الأول أنسب فمن قال: إنه حجة لا يقول إنه إجماع؛ لأنه لا يصدق عليه
 تعريف الإجماع
؛ فلا يكون المعنى الأول أنسب، ويكون المعنى الثاني هو الأنسب. =
وَمَنْ يَرَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ مَعَ سَبْقِ خِلَافٍ مُسْتَقِرٍّ مِنْ مَيِّتٍ، أَوْ حَيٍّ وَجَوَّزَ وُقوعَهُ - يَزِيدُ لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافُ مُجْتَهِدٍ مُسْتَقِرٌّ.
"" اتفاق المجتهدين
(1)
من هذه الأمة في عصر على أمر" من الأمور".
وقد خرج بإضافة الاتِّفاق إلى المجتهدين اتفاق العامَّة، وإلى هذه الأمة اتفاق الأمم السَّالفة، فلا حُجَّة فيهما
(2)
.
أراد بقوله: في "عَصْر"، أي عصر كان
(3)
، ليعلم أن إجماع كلّ عصر حُجَّة.
= ينظر: البرهان لإمام الحرمين 1/ 670، والبحر المحيط للزركشي 4/ 435، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 179، وسلاسل الذهب للزركشي ص 337، والتمهيد للإسنوي ص 451، ونهاية السول له 3/ 237، زوائد الأصول له ص 362، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 377، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 209، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 37، والمنخول للغزالي ص 303، والمستصفى له 1/ 173، وحاشية البناني 2/ 176، والإبهاج لابن السبكي 2/ 349، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 287، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 209، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 3، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 435، والتحرير لابن الهمام ص 399، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 224، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 80، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 709، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 180، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 34، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 41، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 209، وشرح المنار لابن ملك ص 99، والوجيز للكراماستي ص 61، وتقريب الوصول لابن جُزَيّ ص 129، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 71، وشرح مختصر المنار للكوراني ص 99، والكوكب المنير للفتوحي ص 225.
(1)
"أل" فيه للاستغراق، فيقضي أنه لا بد من الكل، فخرج به أمران: اتفاق العوام؛ إذ لا عبرة به على التحقيق، واتفاق بعض المجتهدين مع مخالفة الآخرين. فمجتهد قيد أول، وهو من له ملكة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من أدلتها، ولا يكون كذلك إلا إذا كان صحيح الإيمان عارفًا ما له نعلق بالأحكام من الكتاب والسنة والأسانيد وحال الرواة والناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع والعربية، ذا حظ وافر مما تصدى له علم الأصول من قياس واستصحاب وكيفية نظر وغيرها. والصحيح أن العدالة ليست شرطًا في الاتجهاد، وإنما هي شرط في قبوله الفتوى.
(2)
في ح: فيها.
(3)
قل أو كثر وهو نكرة، فالمراد الاتفاق في أي عصر كان، وقيل: لولاه لم يدخل إلا اتفاق كل المؤمنين إلى يوم القيامة، ولكن الحق أن الأمة تطلق على الموجودين في عصر كما تطلق على كل =
[قَالَ] الْغُزالِيُّ رحمه الله: اتِّفَاقُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَمْرٍ مِنَ ...........
وقوله: "على أمر" يعم القول والفعل والنفي والإيجاب سواء [أكان]
(1)
دينيًّا أو عقليًّا أو عرفيًّا.
"ومن يرى" انقراض العصر شرطًا في انعقاده يزيد على الحد المذكور.
قوله: "انقراض العصر" يعني: يستمر الاتِّفَاق إلى الانقراض.
"ومن يرى [أن]
(2)
الإجماع لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر من حي أو ميت"، و"جوز وقوعه" أي: وقوع الإجماع بعد سَبْقِ الخلاف، "يزيد لم يسبقه خلاف مجتهد مستقرّ".
قال: من جَوّز وقوعه؛ لأن بعضهم لم يجوز وقوع مل هذا الإجماع.
قلت: ومن يرى أن الإجماع لا يختص بهذه الأمة ينقص قوله: من هذه الأمة.
ومن يرى دخول العَوامّ يبدل قوله: المجتهدين بأهل العصر.
ومن يرى اختصاصه بالدِّينيات يزيد شرعي.
ولقائل أن ياقول: ينبغي أن يزاد في غير زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فالإجماع لا ينعقد في زمانه عليه السلام كما ذكر القاضي أبو بكر والأكثرون منهم الإمام الرَّازي في أثناء الأدلَّة على الإجماع
(3)
؛ لأن قولهم: "دونه" لا يصحّ، وإن كان معهم، فالحُجَّة في قوله.
ولم أر أحدًا ذكر هذا القَيْد، ولا بد منه، ويزيد على المصنّف إجماع المدينة فإنه يحتج به، وليس فيه قول جميع المجتهدين، [فهذا]
(4)
التعريف لا يطّردُ ولا ينعكسُ.
الشرح: و"قال الغزالي: "اتِّفاق أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم على أمرٍ من الأمور الدينية"
(5)
.
= المؤمنين من لدن البعثة إلى يوم القيامة، والمتبادر هو الأول؛ فيصح الاستغناء عنه، ولذا قال في التلويح: ولا يخفى أن من تركه - أي قيد في عصر - إنما تركه لوضوحه، لكن التصريح به أنسب بالتعريفات ا. هـ. أي لاحتمال لفظ الأمة المعنى الثاني، وهو كل المؤمنين.
(1)
في ب: كان.
(2)
سقط في ب، ح.
(3)
ينظر: المحصول 2/ 16.
(4)
في ب: وهذا.
(5)
وأوضح هذه الاعتراضات التي اعترض بها على هذا التعريف فأقول:
الأول: أن ما ذكره يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى يوم القيامة، فإن أمة محمد جملة من اتبعه من =
الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لا يُوجَدُ وَلا يَطَرِدْ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلا يَنْعَكِسُ بِتَقْدِيرِ اتِّفَافِهِمْ عَلَى عَقْلِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ.
قال المصنّف: "ويرد عليه أنه لا يوجد" الإجماع على هذا التقدير؛ لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم من
= بعثته إلى يوم القيامة، فقبل القيامة لا إجماع وبعدها لا حجيةٍ، وليس ذلك مذهبًا له ولا لمن اعترف بوجود الإجماع فيكون التعريف مباينًا للمعرف، وليس جامعًا لشيء من أفراده.
الثاني: سلمنا أن الموجود من الأمة يقال له أمة، وأنه يصدق على الموجودين في بعض الأعصار أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم غير أنه يلزم مما ذكره أنه لو خلا عصر من الأعصار من أهل الحل والعَقْد، وكان كل من فيه عاميًا، واتفقوا على أمر ديني أن يكون إجماعًا شرعيًا وليس كذلك، وحينئذ يصدق التعريف على تلك الصورة ولا يصدق عليها المعرف؛ فيكون التعريف غير مانع؛ فيكون باطلًا. وأجيب عنه بأن مادة النقص يجب تحققها، وتحققها هنا ممنوع؛ فإن خلو كل عصر عن المجتهد مما هو خلاف الواسع. يعني أنا لا نسلم أن التعريف صادق على مادة محققة لم يصدق عليها المعرف. فهذا الجواب منع لصغرى دليل النقص القائل هذا التعريف صادق على مادة محققة لم يصدق عليها المعرف، وهي اتفاق الأمة في عصر خال عن المجتهد، وكل تعريف هذا حاله فهو باطل .. وأجيب عن الإيرادين بأنه يسبق إلى فهم المتشرعة إرادة المجتهدين في عصر من اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما يسبق. هذا المراد من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجتمع أمتي على ضلالة" وإنما اختار هذا التجوز إحرازًا لحسن الاقتباس.
وقال الغزالي في المستصفى في بيان أركان الإجماع: الركن الأول المجمعون، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وظاهر هذا يتناول كل مسلم لكن لكل ظاهر طرفان واضحان في النفي والإثبات وأوساط مشابهة. أما الواضح في الإثبات فهو كل مجتهد مقبول الفتوى فهو أهل الحل والعقد قطعًا ولا بد من موافقته في الإجماع، وأما الواضح في النفي فالأطفال والمجانين والأجنة، فإنهم وإن كانوا من الأمة فنعلم أنه عليه السلام ما أراد بقوله: لا تجتمع أمتي على الخطإ: إلا من يتصور منه الوفاق والخلاف في المسألة بعد فهمها، فلا يدخل فيه من لا يفهمها، وبين الدرجتين العوام المكلفون والفقيه الذي ليس بأصولي، والأصولي الذي ليس بفقيه، والمجتهد الفاسق والمبتدع والناشئ من التابعين مثلًا إذا قارب رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة ا. هـ كلامه. ومنه يؤخذ أن المتبادر من اتفاق الأمة اتفاق من يتصور منه الوفاق والخلاف في المسألة بعد فهمها.
الثالث: أنه يلزم من تقييده الاتفاق بكونه على أمر من الأمور الدينية ألا يكون إجماع الأمة على أمر عقلي أو عرفي حجة شرعية وليس كذلك، فيكون التعريف غير جامع لصدق المعرف مع عدم صدق التعريف. والجواب أن الأمر العقلي والعرفي إن تعلق به عمل أو اعتقاد فهو أمر ديني، وإلا فيلتزم خروجه؛ فإن الإجماع عليه ليس من الإجماع المتكلم فيه، وهو ما كان دليلًا من أدلة الشرع موجبًا لاعتبار ما يتعلق به. وحاصله أنا لا نسلم أنه غير جامع؛ لأنه إن أريد ما يتعلق به عمل أو اعتقاد من =
وَخَالَفَ النَّظَّامُ وَبَعْضُ الرَّوَافِضِ فِي ثُبُوتِهِ.
قَالُوا: انْتِشَارُهُمْ يَمْنَعُ نَقْلَ الْحُكْمِ إِلَيْهِمْ عَادَةً.
وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ لِجِدِّهِمْ وَبَحْثِهِمْ.
تبعه إلى يوم القيامة "ولا يَطّرد"؛ لاستلزامه أن يكون اتفاق الأمة
(1)
"بتقدير عدم المجتهدين" إجماعًا، "ولا ينعكس تقدير اتفاقهم على عقلي أو عرفي ".
ولقائل أن يقول: على الأول: الأمة مختصَّة بالموجودين.
وعلى الثاني: أنه غير متصوّر، لأن إجماع الخَصْم العظيم على شيء واحد لا أصل له يعود إليه، مستحيل عادة كاتفاقهم على مأكول واحد في وقت واحد، وأنظاره.
وليس كالاتفاق على أمر شرعيٍّ، فإن عدم استحالته إنما هو؛ لأن له قواعد يستمد منها، فجاز اتفاق القَرَائح والظُّنون بالنسة إليها، وإن لم يجز بالنسبة إلى مأكول واحد.
واتفاق العَوَامّ على أمر ديني لا يكون إلا كاتفاق أهل العصر على مأكول واحد؛ إذ هم يقولون لا عن دليل [فاصل]، فالعادة قاضية باختلافهم، فإذن اتفاقهم في الديني غير متصوّر، وإنما يتصوّر تبعًا، وضميمة للمجهدين، كما سمعرفه - إن شاء الله - في مسألة دخولهم في الإجماع.
وعلى الثالث: أنه ساقط بالكليَّة؛ لأنه لا يحتج بالإجماع إلا في الشَّرعيَّات.
الشرح: "وخالف النَّظَّام
(2)
، وبعض الرَّوافض في ثبوته" - أي: في تصوّره - فإن الدليل الآتي - إن شاء الله - تعالى يدلّ لذلك.
واعلم أن هذا قول لبعض أصحاب النَّظَّام.
ومن أصحابه من قال: يتصوّر، ولكن لا يتصوّر نقله على وجهه.
= الأمرين، فالتعريف صادق على الاتفاق عليه، وإن أريد ما لا يتعلق به عمل ولا اعتقاد فلا تتصور حجيته، فالمعرف غير صادق عليه.
(1)
في ت، ح: العامة.
(2)
إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري، أبو إسحاق النظام من أئمة المعتزلة وفي لسان الميزان أنه متهم بالزندقة، وكان شاعرًا أديبًا بليغًا، وذكروا أن له كتبًا كثيرة في الفلسفة والاعتزال ولمحمد عبد الهادي أبي ريدة كتاب "إبراهيم بن سيار النظام" توفي 231 هـ. ينظر: تاريخ بغداد 6/ 97، وأمالي المرتضى 1/ 132، واللباب 3/ 230، وخطط المقريزي 1/ 346، والأعلام 1/ 43.
قَالُوا: إِنْ كَانَ عَنْ قَاطِعٍ، فَالعَادَةُ تُحِيلُ عَدَمَ نَقْلِهِ، وَالظَّنِّيُّ يَمْتَنِعُ الاِتِّفَاقُ فِيهِ عَادَةً؛ لاِخْتِلافِ الْقَرَائِحِ.
وَأُجِيبَ: بِالْمَنْع فِيهِمَا، فَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ نَقْلِ الْقَاطِعِ [بِحُصُولِ الإجْمَاعِ]، وَقَدْ يَكُونُ الظَّنِّيُّ جَلِيًّا.
ومنهم من قال: يتصوّر، ولكن لا حُجَّةَ فيه، وهذا رأي النَّظَّام
(1)
نفسِيما كما نقله القاضي والشيخ أبو إسحاق الشِّيرَازي وابن السَّمْعَاني.
وهي طريقة الإمام الرَّازي وأتباعه في النَّقْل عنه.
والقولان الأولان لبعض أصحابه كما صرَّح به القاضي.
وأصحاب القوَل الأول "قالوا": أولًا، و"انتشارهم" في مَشَارق الأرض ومغاربها وقفار الفيافي وسَبَاسبها "يمنع من نقل الحكم إليها عادة"، فلا يحصل الاتفاقُ.
"وأجيب بالمَنْعِ" منع أن العادةَ تقضي بذلك بل العادةُ قاضيةٌ بالنَّقْل (لجِدهم) وغاية تفحُّصهم "وبحثهم".
ثم "قالوا" ثانيًا: "إن كان "صادرًا "عن قاطع، فالعادة تحيل عدم نقله" أي: نقل القاطع وتقضي بنقل الدَّلائل القطعية، ودليل حكم الإجماع غير مَنْقُول، فدلَّ أنه غير قاطع، فلم يبق إلا أن يكون عن ظَنّ.
"والظني يمنع الاتفاق فيه عادة لاختلاف القرائح" والأذهان ومواد الاستنباط عن
(2)
المستنبطين، وذلك كالاتِّفاق على مكول واحدٍ في وقتٍ واحدٍ.
"وأجيب بالمنع فيهما"، أما الأول، "فقد يستغنى عن نَقْلِ القاطع بحصول الإجماع"، فلم قلتم: إنَّ العادة تقضي بنقل القَاطِعِ؟.
(1)
وعرف النظام الإجماع بأنه كل قول قامت حجته حتى قول الواحد، وقصد بذلك الجمع بين إنكاره كون إجماع أهل الحل والعقد حجة وبين موافقته لما اشتهر بين العلماء من تحريم مخالفة الإجماع فسير الإجماع على مذهبه، وعرفه بأنه كل قول قامت حجته وإن كان قول واحد، وهو على خلاف اللغة والعرف الأصولي. قال الآمدي: والنزاع معه في إطلاق اسم الإجماع على ما ذكر مع كونه مخالفًا للموضع اللغوي والعرف الأصولي آيل إلى اللفظ ا. هـ.
(2)
في ح: على.
قَالُوا: يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهُ عَنْهُمْ عَادَةً، لِخَفَاءٍ بَعْضِهِم، أَوِ انْقِطَاعِهِ، أَوْ ...........
وأما الثَّاني: فإنه "قد يكون الظَّني جليًّا"، فلا تختلف فيه القرائح.
وهذا من المصنّف يقتضي تسليم أنه لا يكون إجماع عن خَفِيّ.
والحقُّ أنه قد يكون، واختلاف القرائح فيه، وإن سلمت فإنما هي في الطريق إليه فقط. الشرح:"قالوا" ثالثًا: "يستحيل ثبوته عنهم" - أي: عن المجتهدين - "عادة"؛ إما "لخفاء بعضهم" بحيث لا يعرف وجوده، "أو انقطاعه" وعُزْلته بحيث يفقد أثره، "أو أسره" بحيث يخفى حاله، "أو خموله" بحيث [يجهل]
(1)
كونه من المجتهدين، "أو كذبه" في فتواه لداعٍ دعاه إلى ذلك، "أو رجوعه" عن الفُتيا
(2)
"قبل قول الآخر"، فلا يحصلُ الاتفاقُ.
(1)
سقط في ت.
(2)
قال الراغب: الفتيا والفتوى. الجواب عما يشكل من الأحكام. ويقال: استفتيته فأفتاني بكذا. قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وقال: "فاستفتهم" و"أفتوني في رؤياي" وفي النهاية: يقال: أفتاه في المسألة يفتيه إذا أجابه. والاسم الفتوى. وفي الحديث: أن أربعة تفاتوا إليه عليه السلام أي تحاكموا من الفتوى. ومنه الحديث: "الإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك الناس عنه وأفتوك" أي وإن جعلوا لك فيه رخصة وجوازًا.
وفي المصباح: الفتوى. بالواو. بفتح الفاء وبالياء. فتضم اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم ويقال: أصله من الفتى، وهو الشاب القوي، والجمع الفتاوي بكسر الواو على الأصل. وقيل: يجوز الفتح للتخفيف. ويفهم منه أن الفتوى بالواو ليس فيها إلا الفتح، لكن خالفه صاحب القاموس، فجوز الفتح والضم فيها، وقد ناقشه شارحه الفاسي، فقال: المصرح به في أمهات اللغة وسائر مصنفات الصرف أن الفتيا بالياء ليس فيها إلا الضم أو الفتوى بالواو ليس فيها إلا الفتح. وفي أساس البلاغة: وفلان من أهل الفتيا والفتوى. وتعالوا ففاتونا، وتفاتوا إليه أي تحاكموا. قال الطرماح:[الوافر]
هَلُمَّ إلَى قُضَاةِ الغَوْثِ فَاسْأَلْ
…
بِرَهْطِكَ والبيَانُ لَدَى القُضَاةِ
أَنِخْ بِفِنَاءِ أشْدَقَ مِنْ عَدِيٍّ
…
وَمِنْ جرمٍ وَهُمْ أَهْلُ التَّفَاني
وقال عمر بن ربيعة: [الطويل]
فَبِتُّ أُفَاتِيَها فَلا هِيَ تَرْعَرِي
…
بِجُودٍ وَلا تُبْدِي إِباءً فتَبْخلا
يقع التمييز بين القضاء والإفتاء في الإلزام بالحكم وعدمه. فالقاضي إذا جلس للحكومة وأصدر حكمه كان به ملزمًا ولا مناص من تنفيذه؛ وذلك لأنه مقلد من السلطان ونائب عنه، فهو يستمد الولاية منه. وأما المفتي فإنه لا يلزم بفتواه، وإنما يخبر بها من استفتاه فحسب، فإن شاء قبل قوله وعمل به، وإن شاء تركه؛ لأنه نائب عن الشارع الذي أنار الطريق لمن يريد الهدى، ولم يأخذ الناس=
أَسْرِهِ، أَوْ خُمُولهِ، أَوْ كَذِبهِ، أَوْ رُجُوعِهِ قَبْلَ قَوْلِ الآخَرِ، وَلَوْ سُلِّمَ فنَقْلُهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً؛ لأنَّ الآحَادَ لا تُفِيد، وَالتَّوَاتُرُ بَعِيدٌ.
وأما أصحاب القول الثَّاني فإنهم قالوا: "لو سلّم" تصور الإجماع في نفسه لم يضرنا، فإنا
= بأحكامه قسرًا، ولكنه وكلهم إلى الشريعة والعقل - وأما تقلد المفتي من السلطان ونحوه فلا يستلزم الإلزام بالفتوى اللهم إلا إذا التزم المستفتى العمل بها. ويرى الأصوليون أنه لا فرق بين المفتي والفقيه والعالم والمجتهد، وأن هذه الألفاظ مترادفة كل منها يؤدي ما يؤديه الآخر.
قال الشهاب ابن قاسم العبادي في شرح قول إمام الحرمين: "وصفة المفتي إلخ": والمفتي والمجتهد واحد - وقال في شرح قوله: "وليس للعالم أن يقلد": أي المجتهد المطلق؛ فإن المراد من العالم كالمفتي حيث أطلق، وقال أيضًا في شرح قول المحلى:"والمفتي هو المجتهد" يحتمل إرادة اتحادهما مقهومًا وإرادة اتحادهما في الماصدق. ولعل الثاني أقرب. ا. هـ.
وقال السبكي في جمع الجوامع: "والمجتهد الفقيه". قال المحلى: والفقيه المجتهد؛ لأن كلًا منهما يصدق على ما يصدق عليه الآخر. قال العطار: أي فليس هو من قبيل التعريف بل من قبيل بيان الماصدق، فتساوى الأفراد واختلف المفهوم. وفي فتح القدير لابن الهمام: قد استقر رأى الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية، وبه عرف أن فتوى أهل زماننا ليست بفتوى، بل هي نقل كلام المفتين. وطريق نقله لذلك عن المجتهد أحد أمرين: إما أن يكون له فيه سند إليه، أو يأخذه عن كتاب معروف تداولته الأيدي، مثل كتب محمد بن الحسن ونحوها؛ لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور، ولما كان المفتي هو القائم للناس بأمر دينهم، وكان الناس مأمورين بطاعته والعمل بفتواه. وجب أن يكون عالمًا بكتاب الله تعالى وما فيه من عموم وخصوص وناسخ ومنسوخ، ذا ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام، حافظًا للسنن خبيرًا بأسانيدها، بصيرًا بمتونها، فمن بلغ هذه المرتبة سمي مفتيًا وكان حقيقًا بالإفتاء لمن استفتى. ويجب مع هذا أن يكون عدلًا عفيفًا معرضًا عن الترخيص والتساهل، سالكًا بالناس طريقًا وسطًا فيما يليق بهم، فلا يذهب مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. ولا شك أن مقصد الشارع هو حمل المكلف على التوسط حتى لا يكون خارجًا عن طاقته، فيعجز عن أدائه. كما لا يخفى أن خير الأمور أوساطها، وكل فضيلة تتحقق بين طرفي الإفراط والتفريط - ومن استقرأ نصوص الشريعة وقف على أن الحد الوسط هو الذي عرف من صفة رسول الله في قوله وفعله وكذا صحابته من بعده. فقد رد عليه السلام التبتل، وقال لمعاذ حين أطال في الصلاة بالناس:"أفتّان أنت با معاذ" وقال: "يأَيُّها الناس إن منكم منفرين .. الحديث" وقال: "عليكم بما تطيقون" وعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا مخالفًا لقصد الشارع كما أن التشديد مضاد لسلوك التوسط.
فما بال قوم ينتمون إلى العلم يتعلق الواحد منهم بالخلاف في المسائل العلمية، ويتحرى القول الذي=
وَأُجِيبَ عَنْهُمَا بِالْوُقُوعِ فَإِنَّا قَاطِعُونَ بِتَوَاتُرِ النَّقْلِ بِتَقْدِيمِ النَّصِّ الْقَاطِعِ عَلَى المَظْنُونِ.
لا نمنع ذلك، وإنما نمنع تصوّر نقله، "فنقله مستحيلٌ عادة؛ لأن الآحاد لا تفيد
(1)
"العلم بوقوعه، "والتواتر بعيد".
"وأجيب عنهما" - أي: عن الدليلين الصَّادرين من القائلين: "الدالُّ أحدهما على استحالة الثبوت، والثاني على اسْتِحَالَةِ النقل" - "بالوقوع" وقوعِ الإجْمَاع - وهو نقض إجمالي - وتقريره: لو كان ما ذكرتم صحيحًا لما وقع؛ لكنه واقع، "فإنا قاطعون بتواتر النَّقل بتقديم النَّص القاطع على المَظْنُون" من جميع الأمة؛ فاندفع ما تَخَيَّلتموه.
= يوافق هوى المستفتى، ويزجيه إليه زاعمًا أن الفتيا بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف بين الأئمة قديمًا وحديثًا إنما فصد به الرحمة والتيسير لهذه الأمة. ولعتقد أنه لا واسطة بين التشديد والتخفيف، وهذا قلب للمعنى المقصود للشريعة، وإبطال للحقائق التي تنجلي في نصوصها؛ فإن الإعراض عن الهوى في الفتيا ليس من المشقة التي يترخص بسببها، والخلاف إنما جعل رحمة من المشقة التي تخرج عن طوق البشر فينقطع عن العمل بسببها؛ فإن أفضل العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل، ولن يكون ذلك إلا بالتوسط. وجملة القول أن الشارع سلك بنا ما يحقق مقصوده، فلا هو أثقلنا بما يرهقنا؛ لأنه أقرب إلى الانقطاع عن العمل منه إلى المداومة عليه، ولا هو تدلى بنا إلى مطلق التخفيف؛ لأن الثواب على قدر المشقة. ولا ريب أن كل عمل لا يخلو من أصل المشقة، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف؛ لأن فيه حرجًا ومشقة.
قال بعض الأصوليين: وينبغي أن يكون عارفًا من اللغة والنحو ما يفهم به مراد الله تعالى ورسوله في خطابهما، ويعرف كذلك أحكام أفعال رسول الله وما تتضمن، وأن يكون عالمًا بإجماع السلف وخلافهم وما يعتد به من ذلك وما لا يعتد به، ويعرف القياس والاجتهاد والأصول التي يجوز تعليلها، وما لا يجوز الأوصاف التي يعلل بها وما لا يعلل بها، وكيفية انتزاع العلل وترتيب الأدلة بتقديم الأولى منها؛ ووجوه الترجيح وغير ذلك. كما يجب أن يكون ثقة مأمونا على الدين.
قال الإمام النووي: وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع مشهورًا بالديانة الظاهرة والصيانة الباهرة. ثم قال: وشرطه كذلك أن يكون ثقة مأمونًا منزهًا عن الفسق وخوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن رصين الفكر صحيح النظر، والاستنباط متيقظًا، وسواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى، والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته.
وقال ابن الصلاح: وينبغي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة أو عداوة ولا جر نفع أو دفع ضر، لا كالشاهد؛ لأنه مخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص؛ فكان كالراوي لا كالشاهد.
(1)
في ب، ح: يفيد.
وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلا يُعْتَدُّ بِالنَّظَّامِ وَبَعْضِ الْخَوَارجِ وَالشِّيعَةِ.
وَقَوْلُ أَحْمَدَ رحمه الله: مَنِ ادَّعَى الإجْمَاعَ، فَهُوَ كَاذِبٌ اسْتِبْعَادٌ لِوُجُودِهِ.
الشرح: "وهو حُجَّةٌ عند الجميع، ولا يعتد بالنَّظَّام"، حيث أنكر كونه حُجَّة على ما صح عنه. أو حيث أحاله على ما نقله المصنّفُ.
وكذا "بعض الخوارج والشيعة"، وإن وقع من الشِّيعة احتجاج به [فاشتماله على قول الإمام المعصوم على ما يهزؤن به]
(1)
كما سيأتي.
ولقائل أن يقول: الحكم بكونه حُجَّة غبر متوقّف على وقوعه، ولا جواز وقوعه، فعلى ما نقل المصنف عن النَّظَّام من الاستحالة لا يتجه أن ينقل عنه ما ذكرناه أنه غير حجة إلا بعد ثبتٍ في ذلك.
والصَّحيحُ عنه ما ذكرناه، وأنه يقول: الإجماع حجّة أيضًا، ثم يفسره بكل قول قامث حُجَّته وإن كان قول واحد، وتبقى
(2)
الحُجّية عن الإجماع الذي نفسره نحن بما نفسره.
وهذا الشَّيخ المسكين لما أضمر في نفسه أن الإجماعَ في اصطلاحنا غير حُجَّة وتواتر عنده تحريم مخالفة الإجماع - خشي سهام الكَلامِ ففسّره بما ذكرناه عنه، كذا قال الغزالي وغيره.
"وقول أحمد رحمه الله: من ادَّعى الإجماع"، في مسألة "فهو كاذبٌ"
(3)
، ليس إنكارًا للإجماع، وإنما هو "استبعاد لوجوده"؛ لعسر الاطّلاع عليه.
(1)
سقط في ت.
(2)
في ب: ينفي.
(3)
من طريق عبد الله عن أبيه. ينظر: الإحكام لابن حزم 4/ 542، والمحلى له 9/ 365، ولإبطال تمسكهم بهذه العبارة نقول: إن الإمام أحمد أطلق القول بصحة الإجماع في مواضع كثيرة، منها ما روى البيهقي عنه أنه قال: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة يعني: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} فلو لم ير ثبوت الإجماع وثبوت العلم به ما أطلق القول بصحته؛ فمن المحتم أن تؤول عبارته تأويلًا يتفق وقوله هذا، وقد ذكروا له عدة تأويلات. منها ما قاله شارح المختصر، وتبعه صاحب التحرير المسَلّم أنه محمول على استبعاد انفراد ناقله به، فمعناه من ادعى الإجماع حيث لم يطلع عليه سواه فهو كاذب؛ إذ لو كان صادقًا لاطلع عليه غيره. ومنها ما نقله صاحب التقرير عن أصحاب الإمام أحمد أنه قاله على جهة الورع؛ لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه،=
أَدِلَّةُ الإجْمَاعِ
الْأَدِلَّةُ: مِنْهَا: أَجْمَعُوا عَلَى الْقَطْع بِتَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ، وَالْعَادَةُ ...........
الشرح: الأدلة على أن الإجماع حجة كثيرة
(1)
.
= فمعناه من ادعى الإجماع جازمًا به مع احتمال وجود خلاف لم يبلغه فهو كاذب، ويشهد لهذا لفظه في رواية ابنه عبد الله وهو: من ادعى الإجماع فقد كذب؛ لعل الناس قد اختلفوا، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه. ومنها ما نقله في التقرير أيضًا عن ابن رجب أنه قاله إنكارًا على فقهاء المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولون، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين، وأحمد لا يكاد يوجد في كلامه احتجاج بإجماع بعد التابعين أو بعد القرون الثلاثة، فمعناه: من ادعى الإجماع من هؤلاء المعتزلة على رأيه الذي انفرد به فهو كاذب. ومنها أنه محمول على حدوثه الآن، فمعناه: من ادعى حدوث إجماع الآن فهو كاذب؛ لعدم إمكانه أو إمكان الاطلاع عليه؛ وبهذا بطل تأييد دعواهم بها، ولم يبق لهم متمسك.
(1)
ومعنى الحجية أنه دليل من أدلة الشرع مفيد للحكم، وأما وجوب العمل فلازم للحجية لا أنه عينها، ولم يخالف في حجيته إلا النظام وبعض الشيعة، وهم الإمامية منهم كما في إرشاد الفحول للشوكاني وبعض الخوارج؛ فإنه وإن نقل عنهم ما يقتضي الموافقة لكنهم عند التحقيق مخالفون. (أما النظام) فإنه لم يفسر الإجماع باتفاق المجتهدين كما فسر به الجمهور بل قال كما نقله عنه الغزالي والآمدي أنه كل قول قامت حجته وإن كان قول واحد، أي كل قول قام برهانه من الكتاب والسنة، وذلك صادق على الإجماع؛ فإنه قامت حجته ودل عليه الدليل، وهذا يقتضي أنه موافق للجمهور لكنه عند التحقيق مخالف؛ لأن العبرة عنده بالحجة، سواء أكانت كتابًا أم سنة، وأما بعض الشيعة، فإنهم يقولون: إن إجماع المجمعين حجة إذا كان فيهم الإمام المعصوم. وهذا يقتضي أنهم يوافقون الجمهور في حجية الإجماع لكنهم عند التحقيق مخالفون؛ لأنهم لا يقولون بحجيته لكونه إجماعًا؛ بل لاشتماله على قول الإمام المعصوم، وقوله بانفراده عندهم حجة، وأما بعض الخوارج، فقالوا كما نقله القرافي عنهم في الملخص: إن إجماع الصحابة حجة. وهذا يقتضي الموافقة لكنهم عند التحقيق مخالفون؛ لأنهم إنما يقولون بحجيته قبل حدوث الفرقة، وأما بعدها فالحجة عندهم في إجماع طائفتهم لا غير، لأن العبرة بقول المؤمنين، ولا مؤمن عندهم إلا من كان على مذهبهم. فإن قيل: حيث ثبت أن النظام والإمامية من الشيعة وبعض الخوارج مخالفون في حجية الإجماع لا يكون هناك اتفاق على الحجية.
قلنا: لا عبرة بمخالفتهم؛ لأنهم قليلون من أهل البدع والأهواء قد نشأوا بعد الاتفاق يشككون في ضروريات الدين مثل السوفسطائية في الضروريات العقلية (ولا يؤيدهم قول الإمام أحمد رحمه الله: من ادعى الإجماع فهو كاذب؛ فقد مر تأويله).
تُحِيلُ إِجْمَاعَ هذَا الْعَدَدِ الْكَثيرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى قَطْعٍ فِي شَرْعِيٍّ مِنْ غَيْرِ قَاطِعٍ فَوَجَبَ تَقْدِيرُ نَصٍّ فِيهِ.
واعلم أن المصنّف انفرد بدليلين رآهما قاطعين، وسلك فيهما غير طريق الآمدي، ونحن لا نرتضيهما.
= والصحيح وعليه الجمهور أن حجية الإجماع قطعية، أي أن إفادته للحكم قطعية، وذلك يتوقف على قطعية الأدلة الدالة على حجية الإجماع وعلى قطعية ثبوت الإجماع. وقال الإمام الرازي والآمدي: إن حجية الإجماع ظنية. قال السبكي في جمع الجوامع والجلال المحلى شارحه: والصحيح أنه قطعي فيها حيث اتفق المعتبرون على أنه إجماع كأن صرح كل المجمعين بالحكم الذي أجمعوا عليه من غير أن يشذ منهم أحد؛ لإحالة العادة خطأهم جملة، لا حيث اختلفوا في كونه إجماعًا كالسكوتي المجرد عن القرائن التي تدل على الرضا، وما ندر مخالفه فهو على القول بأنه إجماع محتج به ظني للخلاف فيه. وقال الإمام الرازي والآمدي: إنه ظني مطلقًا؛ لأن المجمعين عن ظن لا يستحيل خطؤهم، والإجماع عن قطع غير متحقق ا. هـ. وعبارة الجلال في الاستدلال لمذهب الرازي والآمدي تفيد أن الظنية مبنية على احتمال أن سند المجتهدين ظني. وتوضيح الاستدلال أنه يحتمل أن كل واحد من المجتهدين بظن الحكم؛ لأن دليله ظني، ويحتمل أن يقطع به؛ لأن دليله قطعي، فإذا علم الإجماع علم إفادة الحكم على ما هو عليه، وهو كونه محتملًا للقطع والظن، وهذا يؤول إلى أنه مظنون
…
واعترض الشربيني على هذا البناء بما يفيد أن الدليل الدال على حجية الإجماع يدل على أن الحكم حق مطابق للواقع، سواء أكان مظنونًا لكل مجتهد قبل علمه بالإجماع أو مقطوعًا، فالإجماع يصير معلومًا ومجزومًا به. فالحق أن قولهما بالظنية مبني على ظنية الأدلة الدالة على حجية الإجماع، وهذا يفهم من كلام الرازي والآمدي وكثير من المصنفين.
ومما تقدم يعلم أن ما أفاده صاحب التحرير وصاحب المسلم من أن كون حجية الإجماع قطعية لم ينازع فيها أحد من أهل القبلة مخالف لما ذكره السبكي. وجعل بعض الحنفية الإجماع بالنسبة لجاحده (أربع مراتب): إجماع الصحابة نصًا؛ لأنه لا خلاف فيه بين الأمة؛ لأن العترة وأهل المدينة يكونون فيهم، ثم الذي ثبت بنص البعض وسكوت الباقين؛ لأن السكوت في الدلالة على التقرير دون النص .. ثم إجماع من بعدهم على حكم لم يظهر فيه خلاف من سبقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب القرون في الخيرية فقال:"خير القرون قرنى" الحديث. وحجية الإجماع مبنية على الخيرية؛ فتكون حجية إجماع غير الصحابة بعد حجية إجماع الصحابة .. ثم على ما ظهر فهه خلاف من سبقهم؛ لأن فيه خلافًا بين الفقهاء. وعلى هذا الترتيب درج غير واحد من الحنفية، وحكوه عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى
…
وجرى بعض الحنفية على جعل الإجماع مراتب ثلاثة: إجماع الصحابة نصًا إذا لم يعتبر فيه خلاف منكره، فصار قطعيًا. والثانية: إجماع من بعدهم؛ إذ فيه خلاف ضعيف؛ فنزل=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والرَّأي عندنا: أن نُخِلَّ كلامه ثم نتعقّبه، ثم نشير إلى ما نرتضيه نحن، وربَّما أطلنا النَّفَسَ قليلًا؛ لأن الإجماعَ عمادُ الأمة وعصامها، وملاذ الملة وقوامها، فالذَّبُّ عنه، وكشف الحجب عن براهينه ممَّا يتعيَّين الاحتفال به.
قال: "منها أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف" للإجماع، "والعادة تحيل اجتماع هذا العدد الكثير من العلماء المحققين على قطع في" حكم "شرعي من غير" اطِّلاع على دليل "قاطع،
= من القطعية إلى قربها من الطمأنينة ومثله السكوتي. والثالثة: الإجماع المسبوق بخلاف؛ إذ فيه خلاف قوي؛ فصار ظنيًا، ومثله المنقول آحادًا. وخالف شارح المسلم في الترتيب والتوجيه، فجعل السكوت في المرتبة الأخيرة، ووجه الترتيب بأن إجماع الصحابة مقطوع بثبوته لقلتهم، فصار مقطوعًا بحجيته، وإجماع من بعدهم في ثبوته شبهة بعيدة لكثرتهم؛ فصار مفيدًا للطمأنينة القريبة من اليقين، والإجماع المسبوق بخلاف والسكوتي والمنقول آحادًا حجيتها ظنية؛ لوجود احتمالات فيها .. وما قاله الحنفية لا يخالف قول الجمهور؛ بدليل ما قاله صاحب الفواتح في آخر الإجماع أن ترتيب الحنفية المذكور مبني على قطعية الثبوت وظنيته.
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول: اختلف الفائلون بحجية الإجماع هل هو حجة قطعية أو ظنية؛ فذهب جماعة منهم إلى أنه حجة قطعية، وبه قال الصيرفي وابن برهان، وجزم به من الحنفية الدبوسي وشمس الأئمة. وقال الأصفهاني: إن هذا القول هو المشهور وأنه يقدم الإجماع على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلًا، ونسبه إلى الأكثرين، قال: بحيث يكفر مخالفه أو يضلل ويبدع وقال جماعة منهم الرازي والآمدي: إنه لا يفيد إلا الظن. وقال جماعة بالتفصيل بين ما اتفق عليه المعتبرون؛ فيكون حجة قطعية وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتي وما ندر مخالفه؛ فيكون حجة ظنية. وقال البزدوي وجماعة من الحنفية: الإجماع مراتب، فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر، وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث. والإجماع الذي سبق فيه الخلاف في العصر السابق بمنزلة خبر الواحد، فهذه أربعة مذاهب ا. هـ. قد علم مما مر أن قطعية الإجماع متوقفة على قطعية ثبوته، فالقائلون بالقطعية لا يتصور عقلًا أن يقولوا: إنه قطعي الحجية حتى ولو كان ظني الثبوت؛ إذ يلزم من ظنية الثبوت ظنية الحجية، فكلامهم مقيد بما إذا ثبت قطعًا، وحينئذ يكون هذا القول موافقًا للقول الثالث الذي هو قول الجمهور، وهو القول بالتفصيل بين قطعي الثبوت فيكون قطعيًا، وبين ظني الثبوت فيكون ظنيًا. وعلم أيضًا أن الحنفية الذين قسموا الإجماع إلى مراتب لا يخالفون الجمهور كما تقدم، وحينئذ يرجع هذا الخلاف الرباعي الذي ذكره الشوكاني إلى خلاف ثنائي حاصله أن حجية الإجماع قطعية عند الأكثر، ظنية عند الرازي والآمدي، والقائلون بالقطعية يقيدون ذلك بما إذا كان الثبوت قطعيًا. والله علم.
وَإِجْمَاعُ الْفَلاسِفَةِ، وَإِجْمَاعُ الْيَهُودِ، وَإِجْمَاعُ النَّصَارَى غَيْرُ وَارِدٍ.
فوجب" في كلّ إجماع "تقدير نص" قاطع "فيه" دال على القطع بتخطئة المُخَالف
(1)
.
ولكن لم قلتم: إن ذلك يستدعي قاطعًا يدلّ عليه؟ ولم لا [يكفي]
(2)
أمارة؟
لا يقال: لو كانت أمارة لما قطعوا؛ لأنها إنما تفيد الظَّن؛ لأنا نقول: الأمارة إذا عضدها إجماع هذا الجمع الكثير من المحققين أفادت القطع؛ لأن المسألةَ الاجتهاديةَ تنقلبُ بالإجماع قطعية.
وإذا
(3)
كان كذلك، فأين القاطع الدال على تخطئة مخالف الإجماع؟ فإنما دلَّ على القطع بتخطئة المُخَالف إجُماعهم مع الأمارة.
والأمارة لا تفيد القَطْع، والإجماع المنضم إليها لا يستدل به، وألَّا يكون إثباتًا للإجماع بالإجماع، وهذا غير سؤاله الذي أورده وأجاب عنه حيث قال: لا يقال: أثبتُّم
(4)
الإجماعَ بالإجماعِ.
الشرح: "وإجماع الفلاسفة، وإجماع اليهود، وإجماع النَّصَارَى" على القطع بأمور باطلة "غير وارد" على قولنا: العادة تحيل اجتماع العدد الكثير
(5)
من العلماء على القَطْعِ بلا قاطعٍ.
ولم يبيّن المصنّف [سبب]
(6)
عدم وروده، وقد اختبط الشَّارحون في هذا المكان؛ لأنه ارتكب طريقًا لم يسلكها الآمدي فلم يجدوا له أصلًا يستضيئون بنوره، ولا لكلامه وجهًا يظهر الفكر من تجوزه.
وقد قيل فيه: إن الفَلاسِفَةَ لم يكونوا في عصر من الأعصار علماء العصر، بل بعضهم والعادة لا تحيل إجماع
(7)
البعض.
(1)
المراد من المخطإ المخالف من تقدَّر مخالفته من مجتهد وافق أو مجتهد طرأ بعد تحقق إجماع قبله، فإن قيل: كيف يكون المخالف المحتهد مخطئًا مع أن كل مجتهد مصيب؟. قلنا: الإصابة ممنوعة على تقدير مخالفة الإجماع - كما سيأتي بيانه - وإنما قال: "في شرعي" لجواز القطع في العرفي والعقلي من غير نص قاطع. ينظر: الشيرازي 192 أ / خ.
(2)
في ب: تكفي.
(3)
في ت: وإنما.
(4)
في ت، ح: اسم.
(5)
في أ، ت، ح: الكبير.
(6)
سقط في ت، ج.
(7)
في ت، ح: اجتماع.
لا يقَالُ: أثْبتُّمُ الإِجْمَاعَ بِالإِجْمَاعِ [أَوْ] أثْبتُّمُ الإِجْمَاعَ بِنَصٍّ يَتَوَقفُ عَلَيْهِ؛ لأَنَّ الْمُثْبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً ثُبُوتُ نَصٍّ عَنْ وُجُودِ صُورَةٍ مِنْهُ بِطَرِيقِ عَادِيٍّ لا يَتَوَقَّفُ .........
وأما اليهود والنَّصَارى، فالخطأ نشأ لهم من نَقْل أوائلهم، وكانوا آحادًا. والعادةُ لا تحيل
(1)
اجتماع الآحاد على الخطأ، وهذا مع كونه أمثل ما ذكر فيه ضعيف؛ لأن ما ذكر من الفلاسفة يستدعي نقل التاريخ فيه، وأيضًا فالسَّائلُ سُئِلَ عن فلاسفة جميع الأعصار وهم جمع كثير يفوقون
(2)
جمع العَصْرِ الواحد من علماء الأمة [في العدد]
(3)
بآلاف مؤلّفة وقد اتفقوا على ضلالات، وكذا القول في اليهود والنَّصَارى.
والحقُّ أن السُّؤَالَ واردٌ، وقد أورده شيخ الجماعة القاضي أبو بكر على من زعم حُجِيَّةَ الإجماع تدرك بالعقل.
الشرح: نعم "لا" يرد عليه ما قد "يقال" من أنه يستلزم الدور.
وبيانه أنكم "أثبتم" أن "الإجماع" حُجَّة "بالإجماع" من العدد الكثير من العلماء، "أو أثبتم الاجتماع بنص يتوقف" ثبوته "عليه" - أي: على كون الإجماع حُجَّة -؛ لأنكم قلتم: إجماع الكثيرين على تَخْطِئَةِ المخالف لا يقع، إلَّا عن نصٍّ، فيكون ثبوت النص مستفادًا من كون الإجماع الثَّاني حُجَّةً الذي هو دليل على كون مطلق الإجماع حُجَّة؛ لأنا نقول: الدورُ غيرُ لازمٍ؛ "لأن المثبت كونه" - أي كون الإجماع "حجَّة" - ليس الإجماع ولا نصًّا يتوقف على حُجِيَّته، وإنما هو "ثبوت نصّ" دالّ عليه، وثبوت ذلك النَّص مستفاد "عن وجود صورة" جزئية "منه"، وهي الإجماع الثاني.
وإنما أفاد هذا الإجماع وجود النَّص "بطريق عادي"، وتلك الصورة الجزئية وهي الإجماع الثَّاني"لا يتوقَّف وجودها، ولا دلالتها على" النَّص على "ثبوت كونه حُجَّة فلا دورَ".
"ومنها: أجمعوا على تقديمه على" الدليل "القاطع فدلَّ" ذلك "على أنه" في نفسه "قاطع وإلَّا" فلو لم يدلّ على ذلك "تعارض الإجماعان" - الإجماع على تقديمه علي القاطع [والإجماع على أن غير القاطع]
(4)
لا يقدم عليه؛ - وذلك "لأن القاطع مقدّم" بالإجماع، وتعارض الإجماعين باطل؛ لأن العادة تقضي بامتناع وقوع التَّعَارض بين أقوال مثل هذا العدد من العلماء المحققين.
(1)
سقط في ت، ح.
(2)
في ت، ح: يعرفون.
(3)
في ح: بالإجماع.
(4)
سقط في ح.
وُجُودُهَا وَلا دِلالتهَا عَلَى ثُبُوتِ كَوْنِهِ حُجَّةً فَلا دَوْرَ. وَمِنْهَا أَجْمَعُوا عَلَى تَقْدِيمِهِ عَلَى الْقَاطِعِ، فَدَلَّ [عَلَى] أَنَّهُ قَاطِعٌ وَإلَّا تَعَارَضَ الإِجْمَاعَانِ؛ لأِنَّ الْقَاطِعَ مُقَدَّمٌ.
فَإنْ قِيلَ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَجُّ عَلَيْهِ عَدَدَ التَّوَاتُرِ؛ لِتَضَمُّن الدَّلِيلَيْنِ ذلِكَ.
ولقائل أن يقول: إجماعُهم على تقديمه على القاطع ممنوع؛ وذلك لأنه فرع تُصُوِّرَ معارضته للقاطع، والقاطعان لا يَتَعَارضان.
وكان مراده بالقَاطِعِ الذي أجمعوا على تقديم الإجماع عليه ما كان قاطعًا في أصله دون دلالته، أو دوامه، أو غير ذلك، وإلا فهو لا ينكر أن القاطعيْن لا [يتعارضان]
(1)
.
وإذا كان هذا مراده فلقائلٍ أن يقول: قولك: أجمعوا على تقديمه على القاطع بهذا المعنى مسلم، ولكن لا يفيد كونه قاطعًا، بل يحتمل أن يكون الظَّن المستفاد منه أقوى من الظَّن المستفاد من القَاطِعِ في صورة الإجماع، فيكون ذلك ترجيحًا لأقوى الظَّنَّين مثاله: إذا رأينا نصًّا قاطعًا دالًّا على أن زيدًا يجب عليه كذا، ثم رأينا أن الأمة مجمعة على أنه غير واجب عليه، فالأوَّلُ قاطع في أصل الوجوب عليه دون دوامه
(2)
فيعمل بالإجماع؛ لأنه يدلّ على النسخ، أو زوال الحكم بزوال علَّة كان معللًا بها، أو نحو ذلك، لا لأنه عارَض قاطعًا، فإن لم يعارضه في مَحَلّ قطعه، بل ذلك لا يمكن كما عرفت.
ونظيره العامُّ والخاصُّ إذا كان العامُّ قرآنًا، والخاصُّ خبر واحد، فإن العامل مقطوع المتن مظنون الدلالة، والخاص بالعكس، فتعادلا ولم يتعارضا في موضع قطع، فكذلك ما نحن فيه لم يترجح إلا أقوى الظَّنين وقت التعارض بينهما، وإن كان أصل أحدهما قطعيًا، فافهم ذلك.
الشرح: "فإن قيل": على الدليلين المذكورين، "يلزم أن يكون" الإجماع "المحتج عليه" - أي: الذي أقيم الدليلان على كونه حُجَّةً - قد تضمن "عدد التواتر" من المجمعين
(3)
ليستحيل عليهم التواطؤ على الكذب؛ "لتضمن الدليلين ذلك".
أما الأول: فلأن العادة إنما تحيل اجتماع العدد الكثير إذا بلغوا عدد التواتر.
(1)
في ح: يعارضان.
(2)
في ت، ح: دولته.
(3)
في ت: المجتمعين.
قُلْنَا: إِنْ سُلِّمَ فَلا يَضُرَّ.
وأما الثاني: فلأنها إنما تقضي بامتناع التعارض بين أقوال مثل هذا العدد إذا انتهوا إلى عدد التواتر.
وإذا كان كذلك فلا يكون اتفاق من نقص
(1)
عددهم عن عدد التَّواتر حُجَّة، ثم لا اختصاص لكونه حجة بكونهم مجتهدين، بل يكون ذلك دائرًا مع اتِّصَافهم بعدد التواتر وجودًا وعدمًا، وهو سؤال قوي.
واعلم أن سالكي الطرق المعنوية على كون الإجماع حُجَّة وإن تَبَايَنَتْ بهم الأَنْحَاء يلتزمون هذا السؤال.
كذا قاله الآمديُّ في غير موضع.
قال: ويلزمهم ألا يكون الإجماع المحتج به خصيصًا بإجماع
(2)
أهل الحَلّ والعقد من المسلمين، بل هو عام في إجماع كل من بلغ عددهم التَّوَاتر، وإن لم يكونوا مسلمين.
وأما المصنّف، فإنه سلك سبيلهم في الاحتجاج بالمَعْنَى، ثم لم يلتزم هذا السؤال فوقع في معضل أرب فقال:"قلنا": لا نسلّم لزوم ذلك؛ إذ العادة تحيلُ اجتماع المحققين بالقَطْعِ في شرعي من غير قاطعٍ، سواء بلغ عددهم عدد التواتر، أم لا.
وكذا يمنع من التَّعَارض بين أقوال جمع من العلماء، وإن لم يبلغوا عدد التواتر.
ثم "إن سلم" لزوم ذلك "فلا يضر"؛ لأن اللَّازم حينئذ كون القاطعين بِتَخْطِئَةِ مخالف الإجماع والقاطعين على تقديم الإجماع على النَّص القاطع عددهم [عدد التواتر، لا كون أهل الإجماع عددهم]
(3)
هذا فلا ينتهض نقضًا.
ولقائل أن يقول: دعواكم أن العادة تحيلُ إجماع
(4)
المحققين، وإن لم يبلغوا عدد التواتر قد يمنعها الخَصْم.
وأما قولكم: إنما عَدَدُ التواتر في القاطعين بتخطئة مخالف الإجماع، وبتقديم الإجماع على النص القاطع، فلقائل أن يقول: أيّ إجماع يقطعون بتخطئة مخالفه، وتقديمه على النص القاطع؟ الإجماع الموجود فيه عدد التواتر، أو غيره؟ الأول: مسلَّمٌ، لكنه لا ينفعكم؛ لأن دعواكم أن كل
(1)
في ب: بعض.
(2)
في ح: بالإجماع.
(3)
سقط في ت.
(4)
في ت، ح: اجتماع.
[اسْتَدَلَّ] الشَّافِعِيُّ رحمه الله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ..........
إجماع حجَّة، وهذا لا يفيد إلا حجية إجماع خاص فلا ينتهض على المدعي بجملته.
فإن قلت: هَبْ أنه لا ينتهض على ذلك، أليس ينتهض ردًّا على من يمنع الإجماع بجملته؟ فيقال: قد ثبت بهذا [بعض الإجماعات فلا يصح قولك: الإجماع ليس]
(1)
بِحجَّةٍ.
قلت: لو كنا هنا في مقام المنع، والرد على من نفى حُجية الإجماع صح هذا، ولكنا مستدلون على نفس
(2)
الإجماع، فلا بد أن يشتمل دليلنا على كُلّ المدعي، وإلا لم يكن محيطًا بالدعوى.
والثاني: ممنوع فلم يقطعِ الجمْع الذين بلغوا عدد التواتر إلا بتقديم الإجماع المُشْتمل على عدد التواتر دون غيره، وهو منع متجه، ومنكرُ حجية الإجماع لا يتحاشى من مثله.
ثم هب أنه خلاف الظاهر إلا أنه احتمال يمنع القطع، فلا ينتهض ما ذكره المصنّف قاطعًا في الدلالة على حجّية الإجماع، وهو لا يكتفي بالظُّهور كما سبقوه به في غير موضع.
فإن قلت: إذا بلغ عدد المُجْمعين عدد التَّوَاتر فهل قولهم إذ ذاك حُجَّة لكونهم بالغين عدد التواتر، ولكونهم مجتهدين؟.
قلت: مجموع الأمرين، وبهذا يندفع قول الآمدي: إن هذا القائل يلزمه ألَّا يختص الإجماع بالمجتهدين المسْلِمين؛ لأنه إنما يلزمه أن لو جعل كونهم بالغين عدد التواتر علَّة مستقلَّة في حُجّية إجماعهم، وليس كذلك، وإنما العلَّةُ عنده مجموع الوصفين.
فالحاصلُ: أنَّ من سلك طريق المعنى في الدلالة على كون الإجماع حجة، إن أخذ عدد التَّوَاتُر ناظرًا إليه بخصوصه لزمه ألا يتقيَّد بأهل الحلّ والعقد، ولكن هذا المسلك لم نر أحدًا سلكه، فلا يرد ما قاله الآمدي.
وإن أخذ خصوص كونهم مجتهدين، وادَّعى أن العادة تحيل اجتماع المجتهدين، وإن لم يبلغوا عدد التَّواتر على قاطع إلا عن قاطعٍ وهذا صنيع المصنف فليس من التحقيق
(3)
في شيء، وخَصْمه يمنعه كما قرَّرنا الرد على الجوابين اللَّذين ذكرهما في الكتاب.
الشرح: و "استدلّ الشافعي" رضي الله عنه على حُجِيَّة الإجماع بدليل استنبطه من القرآن
(1)
سقط في ح.
(2)
في ت: نفى.
(3)
في ح: المحققين.
[سورة النساء: الآية 115] وَلَيْسَ بِقَاطِعٍ؛ لاِحْتِمَالٍ فِي مُتَابَعَتِهِ، أَوْ مُنَاصَرَتِهِ، أَوِ الاِقْتِدَاءِ بِهِ، أَوْ
في غاية الوضوح، ولم يسبق إليه، وحكي أنه تلا القُرْآن ثلاث مرات حتى استخرجه .. روى ذلك البيهقي في "المدخل" وساق فيه حكايةً طويلةً غريبةً بسنده، ولم يدع - أعني: الشافعي - القطع فيه فاعرف ذلك، وهو قوله - تعالى -:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سورة النساء: الآية 115].
ووافقه على الاحتجاج بهذه الآية القاضي رضي الله عنه مع كونه من مُنْكري الصيغ، وقال: إني إنما أنكر اقتضاء الصيغ للوجوب عند تجرُّدها.
أما إذا احتفت بها القرائن فأقول بها، ومن أوضحها الوعيد والتهديد الشديد، والآية مُنْطوية على ذلك.
وتقريره: أنه - تعالى - جمع بين مُشَاقّة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد في قوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} ، فيلزم تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين؛ لأنه لو لم يكن محرمًا لما جمع بينه وبين المحرم الذي هو مُشَاقَّة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ الجمع بين حَرَامٍ ونقيضه لا يحسن في وعيد؛ ولأجله يستقبح إن زنيت، وشربت الماء عاقبتك، فدلَّ على حرمة اتباع
(1)
غير سبيلهم، وإذا وجب اتباع سبيلهم انتهض كون الإجماع حجة؛ لأن سبيل الشَّخص ما يختار من قول أو فعل أو اعتقاد
(2)
.
(1)
في أ، ت، ح: امتناع.
(2)
واعترض على هذا الدليل بوجوه: الأول: لا نسلم أن "من" للعموم حتى يتناول كل من اتبع غير سبيل المؤمنين؛ فإنه يجوز أنه يراد بها بعض المكلفين؛ وحينئذ لا يكون الإجماع حجة يجب العمل به على كل مكلف، بل يكون شأنه شأن اجتهاد الواحد الذي يجب العمل به عليه وعلى من قلده فقط. وسند هذا المنع أنه قد خالف جمع في أن العموم له صيغة تخصه فقال بعضهم: إن الصيغ المفيدة للعموم حقيقة في الخصوص مجاز في العموم. وقال بعضهم: حقيقة فيهما، وقال بعضهم: لا يدري أهي حقيقة في العموم أم مجاز، وقال بعضهم: هي حقيقة في العموم لكن ورودها على السبب الخاص قرينة على إرادة الخصوص بها؛ فبناء على المذاهب الثلاثة الأولى محقق دلالتها على البعض، وتحتاج في تحقق عمومها إلى القرينة، وبناء على المذهب الأخير مراد بها من نزلت فيه، وهو طعمة بن أبيرق حين سرق وزنى وارتد ولحق بالمشركين. والجواب: أنها موضوعة للعموم، وورودها على السبب الخاص لا يصرفها إلى الخصوص كما هو مذكور في مباحث العموم. وعلى فرض أنها ليست موضوعة للعموم فههنا قرينة عليه، وهي تعليق الجزاء على شرطين: أولهما:=
فِي الإِيمَانِ فَيَصِيرُ دَوْرًا؛ لأِنَّ التَّمَسُّكَ بِالظَّاهِرِ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالإِجْمَاعِ بِخِلافِ التَّمَسُّكِ بِمِثْلِهِ فِي الْقِيَاسِ.
قال: "وليس" هذا الاستدلال "بقاطع؛ لاحتمال" أن يكون اتباع غير سبيلهم "في متابعته أو مُنَاصرته أو الاقتداء به أو في الإيمان"، وهذه الاحتمالات
(1)
إما أن تكون مساوية
(2)
لما ذكرتم، أو مرجوحة، ولسنا
(3)
نضطر إلى دعوى رُجْحَانها، وأيًّا ما كان لم يَبْقَ الدليل قطعيًّا "فيصير" الاستدلال به "دورًا" لأنَّ التمسُّك بالظَّاهر إنما يثبت بالإجماع"، فلو أثبتنا كون الإجماع حُجَّة به لزم الدور، وهذا "بخلاف التمسُّك بمثله في "إثبات "القياس" بالظَّواهر [نحو]
(4)
: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: الآية 2] حيث يصح، لأن ثبوت العمل بالظواهر ليس بالقياس حتى يلزم الدور كما لزم في الإجماع.
ولقائل أن يقول: إنما يلزم الدور لو لم يكن غير الإجماع دليلًا على أن الظَّاهر حجة وهو ممنوع، بل الأدلة عليه كثيرة أدناها: العمل بالرَّاجح الذي هو قضيةُ العقل وأحاديث كثيرة كقوله عليه السلام: "إِنَّمَا أَقضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ"
(5)
.
وقد أطلنا في "التَّعليقة"[الرد] على المصنّف وألجأناه إلى دعوى القطع في الآية، فلينظره مَنْ أراده
(6)
.
= مناسب للحكم بالاتفاق وهو المشاقة، وثانيهما: محل النزاع وهو اتباع غير سبيل المؤمنين، فمناسبة الشرط الأول تدل عقلًا على أن "من" للعموم والشرط الثاني لا يدفع هذا العموم.
(1)
في أ، ت، ح: الإجماعات.
(2)
في أ، ت، ح: متساوية.
(3)
في ت: لنا.
(4)
سقط في ت.
(5)
أخرجه البخاري (12/ 355) كتاب الحيل: باب (10) حديث (6967) ومسلم (3/ 1337) كتاب الأقضية: باب الحكم بالظاهر رقم (4) وأبو داود (3583) والترمذي (1339) والنسائي (8/ 233) وابن ماجه (2/ 777) رقم (2317) من حديث أم سلمة، وقال الترمذي: حديث أم سلمة حسن صحيح.
(6)
وما يستدل به على حجية الإجماع من الكتاب قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} والاحتجاج بها من وجهين: الأول: لو لم يكن الإجماع حجة لما كانت الأمة معصومة عن الخطإ قولًا وفعلًا صغيرة وكبيرة، لكنها معصومة عن الخطإ؛ إذ لو لم تكن معصومة=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عن الخطأ لما جعلها العليم الخبير عدلًا، لكنه جعلها عدلًا حيث وصفها بكونها وسطًا، والوسط العدل، ويدل عليه النص واللغة (أما النص) فقوله تعالى:{قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أي أعدلهم وقوله عليه السلام: "خير الأمور أوساطها"(وأما اللغة) فقد قال الشاعر:
هُمُو وسط يرضى الأنام بحكمهم
أي عدول، وقال الجوهري: الوسط من كل شيء أعدله قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي عدولًا ا. هـ. وإذا ثبت وصفهم بالعدالة وجبت عصمتهم عن الخطإ قولًا وفعلًا، صغيرة وكبيرة؛ لأن الله تعالى يعلم السر والعلانية، فلا يعدلهم مع ارتكابهم بعض المعاصي، بخلاف تعديلنا؛ فإنه قد لا يكون كذلك؛ لعدم اطلاعنا على الباطن، وإذا كانوا معصومين عن الخطإ كان إجماعهم حجة؛ وهو المطلوب.
الوجه الثاني: لو لم يكن إجماع الأمة حجة لما كانوا صادقين فيما أخبروا لكنهم صادقون إذ لو لم يكونوا صادقين ما حكم العليم الخبير بأنهم صادقون، لكنه حكم بذلك حيث وصفهم بكونهم شهداء، والشاهد اسم لما يخبر بالصدق حقيقة، والكاذب لا يسمى شاهدًا على الحقيقة؛ فدل على أنهم عند الاجتماع صادقون فيما أخبروا؛ فإن الحكيم لا يحكم بكونهم شهداء وهو عالم بأنهم يقدمون على الكذب فيما يشهدون؛ فثبت أنهم لا يقدمون إلا على الحق حيث وصفهم بما؛ وصفهم فيكون إجماعهم حجة؛ وهو المطلوب.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ووجه الاحتجاج بها أن يقال: مخالفة الإجماع تفرق، وكل تفرق منهي عنه: فتكون مخالفة الإجماع منهيًا عنها، ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهي عن مخالفته. قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقد جعل الإمام الرازي محل الاستدلال قوله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فقال: اعلم أن قوله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولى الأمر على سبيل الجزم والقطع في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصومًا عن الخطإ؛ إذ لو لم يكن معصومًا عن الخطإ كان بتقدير إقدامه على الخطإ يكون قد أمر الله بطاعته، فيكون ذلك أمرًا بفعل ذلك الخطإ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه؛ فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنه محال. فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم؛ وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصومًا عن الخطإ؛ فثبت قطعًا أن أولي الأمر المذكورين في هذه الآية لا بد وأن يكونوا معصومين، ثم نقول: أولئك المعصومون إما مجموع الأمة أو بعض الأمة لا جائز أن يكونوا يعض الأمة؛ لأنا بينا=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أن الله تعالى أوجب طاعة أولى الأمر في هذه الآية قطعًا، وإيجاب طاعتهم قطعًا مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين.
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} . وقد استدل بها صاحب التوضيح فقال في وجه الاستدلال: الآية تدل على وجوب اتباع كل قوم طائفة المتفقهة، فإن اتفق الطوائف على حكم لم يوجد فيه وحي صريح، وأمروا أقوامهم به يجب قبوله، فاتفاقهم صار بينة على الحكم، فلا يجوز المخالفة بعد ذلك لما ذكرنا ا. هـ. وحاصله أنه لو لم يكن إجماع الطوائف حجة لجازت مخالفته لمن بعدهم لكنها لا تجوز؛ إذ لو جازت لم يكن إجماعهم بينة على الحكم، لكنه بينة على الحكم؛ إذا لو لم يكن بيِّنة لجاز لكل قوم مخالفة طائفته المتفقهة لكن جواز المخالفة باطل للآية.
وأورد عليه صاحب التلويح إيرادين: الأول: أن هذا الدليل لا ينتج المطلوب؛ إذ المطلوب كونه حجة على المجتهدين حتى لا يسعهم مخالفته؛ والدليل لا يفيد إلا أن ما اتفق عليه طوائف الفقهاء حجة على غير الفقهاء. وأجاب عنه بعض الكاتبين على التلويح بأن كونه حجة علي المجتهدين ثابت بما أشار إليه صاحب التوضيح بقوله: فلا تجوز المخالفة بعد ذلك؛ لما ذكرنا.
الثاني: سلمنا أنه ينتج الحجية إلكن لا ينتج القطع بها؛ فإنه استدل بوجوب العمل، وهو لا يستلزم القطع. واستدلوا أيضًا بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وقد استدل بها صاحب التوضيح فقال في وجه الاستدلال: لا شك أن الأحكام التي ثبتت بصريح الوحي بالنسبة إلى الحوادث قليلة غاية القلة، فلو لم يعلم أحكام تلك الحوادث من الوحي الصريح وبقيت أحكامها مهملة لا يكون الدين كاملًا، فلا بد من أن يكون للمجتهدين ولاية استنباط أحكامها من الوحي؛ فإن استنبط المجتهدون في عصر حكمًا واتفقوا عليه يجب على أهل ذلك العصر قبوله، فاتفاقهم صار بيِّنة على ذلك الحكم؛ فلا يجوز بعد ذلك مخالفتهم؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ا. هـ.
قال صاحب التلويح: حاصله أن الله تعالى حكم بإكمال دين الإسلام، فيجب ألا يكون شيء من أحكامه مهملًا، ولا شك أن كثيرًا من الحوادث مما لم يبين بصريح الوحي؛ فيجب أن يكون مندرجًا تحت الوحي بحيث لا يصل إليه كل أحد، وحينئذ إما ألا يمكن للأمة استنباطه وهو باطل؛ إذ لا فائدة في الإدراج أو يمكن لغير المجتهدين منهم خاصة وهو باطل بالضرورة؛ فتعين استنباطه للمجتهدين، وحينئذ إما أن يستنبطه قطعًا ويقينًا كل مجتهد وهو باطل؛ لما بينهم من الاختلاف، أو جميع المجتهدين إلى يوم القيامة وهو أيضًا باطل؛ لعدم الفائدة؛ فتعين استنباط جمع من=
الْغَزَّالِيُّ رحمه الله بِقَوْلِهِ: "لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي
…
" مِنْ وَجْهَيْنِ:
الشرح: واستدل "الغزاليُّ رحمه الله بقوله" صلى الله عليه وسلم: ""لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي
…
" من وجهين":
"أحدهما: تواتر المعنى؛ لكثرتها، كشجاعة عَلِيّ
(1)
، وَجُودِ خَاتِمٍ"
(2)
، روى أبو مالك
= المجتهدين، ولا دلالة على تعيين عدد معين من الأعصار، فيجب أن يعتبر عصر واحد. وحينئذ لا ترجيح للبعض على البعض؛ فتعين اعتبار جميع المجتهدين في عصر واحد، فيكون اتفاقهم بيانًا للحكم وبيِّنة عليه، فيجب اتباعه للآيات الدالة على وجوب اتباع البينة. هذا غاية تقرير هذا الكلام، ولقائل أن يقول: وجوب الاتباع لا يستلزم القطع، وأيضًا مما ذكر لا يدل على حجة إجماع مجتهدي كل عصر؛ لجواز أن يكون الحكم المندرج في الوحي مما يطلع عليه واحد أو جماعة من المجتهدين في عصر آخر قبله أو بعده، وأيضًا إكمال الدين هو التنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد لا إدراج حكم كل حادثة في القرآن ا. هـ.
وأجاب بعض الكاتبين على التلويح عن الأول بأن صاحب التوضيح لم يدع أن وجوب الاتباع يستلزم القطع، بل ادعى أنه اتفاق جميع المجتهدين في عصر بحيث لا يتصور إجماعهم على الضلالة يستلزم القطع، وعن الثاني بأن اتفاق المجتهدين في عصر على حكم لما كان حجة بينة على الحكم قطعًا كان حجة قطعًا على حجية إجماع مجتهدي كل عصر، وعن الثالث أن المصير إلى التخصيص بلا دليل خلاف الأصل؛ فلا يصار إليه، ثم قال: ويرد على الأول أن كون اتفاقهم مستلزمًا للقطع ليس ببديهي، بل استدل عليه بوجوب الاتباع فورد الاعتراض، وعلى الثاني منع الملازمة المذكورة؛ فإن الدليل الذي ذكره صاحب التوضيح لا يفيدها كما لا يخفى. وعلى الثالث أنه لا يفيد القطعية.
(1)
علي بن أبي طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، أبو الحسن ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وَخَتَنه على بنته، أمير المؤمنين، يكنى أبا تُراب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت هاشميًا. له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثًا. شهد بدرًا والمشاهد كلها. قال أبو جعفر: كان شديد الأُدْمة رَبْعَة إلى القِصَر، وهو أول من أسلم من الصبيان جمعًا بين الأقوال. قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، وفضائله كثيرة. استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت أو خلت من رمضان سنة أربعين، وهو حينئذٍ أفضل من على وجه الأرض. ينظر: الخلاصة 2/ 250، وطبقات ابن سعد 2/ 337، 3/ 19، 6/ 12، وغاية النهاية 546، والتقريب 2/ 39، وشذرات الذهب 1/ 9، وتهذيب الكمال 20/ 472.
(2)
حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني، أبو عدي، فارس شاعر جواد جاهلي يضرب المثل بجوده، كان من أهل نجد، له ديوان شعر ضاع معظمه توفي 46 ق. هـ بعد مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بثمانية أعوام. ينظر: تهذيب ابن عساكر 3/ 420، والشعر والشعراء 70، ونزهة الجليس 1/ 284، والشريشي 2/ 332، والأعلام 2/ 151.
أَحَدُهُمَا: تَوَاتُرُ الْمَعْنَى؛ لِكَثْرَتِهَا كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ، وَجُودِ حَاتِمٍ، وَهُوَ حَسَنٌ.
الأشعري
(1)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلاثِ خِصَالٍ
…
"
(2)
وفيها: "وَأَلَّا تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلالَةٍ". رواه أبو داود، وفي إسناده محمد بن إسماعيل بن عبَّاس عن أبيه، وهو على ضعفه.
(1)
الحارث بن الحارث الأشعري، أبو مالك الشامي، صحابي، له حديث قدسي طويل، جمع أنواعًا من العلم. تفرد عنه أبو سلام الأسود. ينظر: تهذيب الكمال 1/ 212، وتهذيب التهذيب 2/ 137، وتقريب التهذيب 1/ 139، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 182، الكاشف 1/ 193، وتاريخ البخاري الكبير 1/ 260، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 97، وأسد الغابة 1/ 319، والإصابة 1/ 274، والاستيعاب 1/ 284.
(2)
أخرجه أبو داود (4/ 452) كتاب الفتن والملاحم، باب: في ذكر الفتن ودلائلها، حديث (4253). وذكره ابن كثير في "تحفة الطالب" ص 146 وقال: وفي إسناد هذا الحديث نظر. وفي إسناده محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي، حدث عن أبيه بغير سماع، وقد رواه هنا عن أبيه، وفيه شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري، ولم يسمع منه. ومحمد بن إسماعيل بن عياش قال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه شيئًا، وقال الآجري: سئل أبو داود عنه فقال: لم يكن بذاك.
وقال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب": وقد أخرج أبو داود عن محمد بن عوف عنه عن أبيه عدة أحاديث لكن يروونها بأن محمد بن عوف رآها في أصل محمد بن إسماعيل. ينظر: تهذيب التهذيب (6/ 60)، والميزان (3/ 481)، ولسان الميزان (7/ 352)، والجرح والتعديل (7/ 1078)، والمغني (5297)، والكاشف (3/ 21)، والخلاصة (3/ 381) وحديث:"إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة".
أخرجه الترمذي (4/ 466) أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة رقم (2167). وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه. وذكره ابن كثير في "تحفة الطالب" ص 146، وقال: وفي إسناده سليمان بن سفيان، وقد ضعفه الأكثرون. ا. هـ.
قال الدوري عن ابن معين: ليس بثقة، وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن المديني: روى أحاديث منكرة. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث يروي عن الثقات أحاديث مناكير. وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وقال الدولابي: ليس بثقة. وقال يعقوب بن شيبة: - له أحاديث مناكير. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: ضعيف. ينظر: تهذيب التهذيب (4/ 195)، وتقريب التهذيب (1/ 325)، والخلاصة (1/ 412)، والكاشف (1/ 395)، وتعجيل المنفعة (411)، والتاريخ الكبير (4/ 17)، والجرح والتعديل (4/ 523).
وأخرجه الحاكم في كتاب العلم (1/ 115) من حديث خالد بن يزيد ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا، وقال الحاكم: ولو حفظه خالد لحكمنا بصحته.
وَالثَّانِي: تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهَا بِالْقَبُولِ، وَذلِكَ لا يُخْرِجُهَا عَنِ الْآحَادِ.
قال أبو حاتم
(1)
: لم يسمع من أبيه
(2)
شيئًا.
وروي من طريق أخرى منقطعة، وروى الدارقطنيُّ معنى الحديث بسند ضعيف.
وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللَّهَ لا يجمَعُ أُمَّتِي"، أو قال:"أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ" رواه الترمذي واستغربه. وفي سنده سليمان بن سفيان المدني
(3)
ضعيف.
ورواه الحاكم وفي سنده خالد بن يزيد
(4)
، ثم علَّله.
وعن مُعَانِ بن رِفَاعَة
(5)
عن أبي خلف الأعمى
(6)
- وهما ضعيفان - عن أنس، سمعت
(1)
محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي، أبو حاتم؛ حافظ للحديث، من أقران البخاري ومسلم، ولد في "الري" سنة 195 هـ. وإليها نسبته، وتنقل في الشام والعراق ومصر وبلاد الروم. من مصنفاته: طبقات التابعين، وكتاب "الزينة"، وتفسير القرآن العظيم. وتوفي ببغداد سنة 277 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب 9/ 31، وتاريخ بغداد 2/ 73، وطبقات السبكي 1/ 299، وطبقات ابن أبي يعلى 1/ 284، والأعلام 6/ 27.
(2)
في ت، ح: ابنه.
(3)
في ب: المزي.
(4)
خالد بن يزيد القرني، قال الخطيب في التاريخ: الصواب ابن أبي يزيد، واسمه بهذان بن يزيد بن بهذان، وكان فارسيًا، وهو خالد المزرفي، والقطربلي، القرني - بسكون الراء - قال ابن معين: لم يكن به بأس. ينظر: تاريخ بغداد 8/ 304، وتهذيب الكمال 1/ 369.
(5)
معان بن رفاعة السلامي أبو محمد الدمشقي، ويقال: الحمصي. روى عن: إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، وعبد الوهاب بن بخت، وعطاء الخراساني وغيرهم. روى عنه: إسماعيل بن عياش، وبشر بن إسماعيل الحلبي، والوليد، وبقية، وبشر بن بكر وآخرون.
قال محمد بن عوف عن أحمد: لم يكن به بأس، وقال علي بن المديني: ثقة، قد روى عنه الناس. وقال عثمان الدارمي عن دحيم: ثقة، وقال أبو حاتم: شيخ حمصي يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال ابن حبان: منكر الحديث يروى مراسيل كثيرة ويحدث عن أقوام مجاهيل. قال ابن حجر: قرأت بخط الذهبي: مات مع الأوزاعي تقريبًا. ينظر: تهذيب الكمال 3/ 1342، وتهذيب التهذيب 1/ 201 (374)، وتقريب التهذيب 2/ 258، والكاشف 3/ 155، وتاريخ البخاري الكبير 8/ 70، وتاريخ الإسلام 6/ 391.
(6)
أبو خَلف الأعمى البَصْري. روى عن: أنس. وروى عنه: مُعَان بن رفاعة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ". رواه ابنُ مَاجَةَ.
وروى الحاكم في "المستدرك": "لا يَجْمَعُ اللَّهُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلالَةِ أَبَدًا".
والحافظ الضياء
(1)
في "المختارة": "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَارَ أُمَّتِي أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلالَةٍ"، وقد ذكرت في "التعليقة" أحاديث كثيرة، وتكلمت عليها
(2)
.
= قال أبو حاتم: منكر الحديث. ينظر: تهذيب التهذيب 12/ 87 (380)، وتقريب (7/ 412، 418)، والمجمع 1/ 62، والمغني (7435)، (7436)، والميزان 4/ 736.
(1)
محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور، الشيخ الإمام الحافظ القدوة المحقق المجود الحجة بقية السلف ضياء الدين أبو عبد الله السعدي المقدسي الجماعيلي، ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي صاحب التصانيف والرحلة الواسعة. ولد سنة تسع وستين وخمسمائة بالدير المبارك بـ"قاسيون". وأجاز له الحافظ السلفي وشهدة الكاتبة وعبد الحق اليوسفي وخلق كثير.
من تصانيفه المشهورة كتاب "فضائل الأعمال" مجلد، وكتاب "الأحكام" ولم يتم في ثلاث مجلدات، و"الأحاديث المختارة" وعمل نصفها في ست مجلدات، و"الموافقات" في نحو من ستين جزءًا، و"مناقب المحدثين" ثلاثة أجزاء، و "فضائل الشام" جزءان. وقال عمر بن الحاجب: شيخنا الضياء شيخ وقته، ونسيج وحده علمًا وحفظًا وثقةً ودينًا، من العلماء الربانيين. توفي يوم الإثنين الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة. بنظر: سير أعلام النبلاء 23/ 126، وتذكرة الحفاظ 4/ 1405 - 1406، والنجوم الزاهرة 6/ 354، وشذرات الذهب 5/ 224.
(2)
ومنها ما رواه الحاكم أيضًا بلفظ: "إن الله لا يجمع جماعة محمد على ضلالة" ثم قال: صحيح على شرط مسلم، (ومنها) ما رواه أحمد والطبراني عن أبي هانئ الخولاني عمن أخبره عن أبي نضرة الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي أربعًا: فأعطاني ثلاثًا، ومنعني واحدة: سألت ربي: ألا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها
…
الحديث" قال صاحب التقرير: قال شيخنا الحافظ: ورجاله رجال الصحيح إلا التابعي المبهم، وله شاهد مرسل رجاله رجال الصحيح أيضًا أخرجه الطبراني في تفسير سورة الأنعام. (ومنها) "لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطإ" (ومنها) ما رواه البخاري ومسلم من حديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون"، (ومنها) "من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" رواه أحمد وأبو داود والحاكم. (ومنها) "من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن دعوتهم لتحيط من ورائهم"، (ومنها) "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يظهر أمر الله" (ومنها) "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم خلاف من خالفهم" (ومنها) "من خرج عن الجماعة وفارق الجماعة قيد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"وهو" - يعني هذا الوجه - "حسن".
ولقائل أن يقول: لا نسلّم بلوغ القدْر المُشْترك منها إلى التواتر.
وقد تكلّمت في "التعليقة" على الأحاديث بما يسند هذا المنع.
سلمناه، ولكن لم قلتم: إن القدر المشترك منها هو عِصْمَةُ الأمة عن الخطأ وليس ذلك في كل أحاديثها، وإنما هو تعظيم أمر الأمة فقط، فغاية الأمر أن تكون ظاهرة فيما ذكرتم، فليت شعري من أين حَسُن عند المصنّف الاستدلال بالأحاديث على ضعف أكثرها وعدم دلالة الباقي عند التأمل، وضعفٍ بالآية، وكلاهما تمسّك بالظاهر، وفي الآية تواتر لفظي لا يدفع.
على أن الغزالي نفسَه لم يصل إلى هذا الحد في الدعوى، بل جعل بين الآية والأحاديث عمومًا وخصوصًا، فقال: الحديث أدل من حيث لفظُه، وليس بمتواتر، والكتاب بالعكس.
ولقد سبق القاضي أبو بكر الغَزَّاليَّ إلى هذا التقرير، وعزاه إلى أصحابنا، ثم قال: الأولى أن يتمسّك به، ثم قول الغَزَّالي:"الحديث أدلّ على المقصود" - ممَّا قد ينازع فيه.
ويقال: هو وإن كان أدلّ على عِصْمتها عن الخَطَأ إلا أنه ليس فيه ما يدلُّ على تحريم المُخَالفة والتوعُّد عليها كما في الآية، فبينهما في الدّلالة على المقصود أيضًا عموم وخصوصٌ.
"والثاني": من الوجهين اللذين قررهما الغَزَالي في طريق الاستدلال من الحديث أنَّا لا ندعي الاطراد
(1)
، بل علم الاستدلال وقرره من وجهين:
أحدهما: شهرة الأحاديث بين الصحابة والتَّابعين وتمسّكهم بها من غير نكير ولم يظهر أحدٌ خلافًا إلى زمن النَّظَّام، ويستحيل عادةً توافق الأمم في أعصار متكرّرة على التسليم بما لم تقم الحجة لصحّته مع اختلاف الطباع، وتفاوت المذاهب في الرد والقبول.
قلت: وهذا الوجه ذكره القاضي، وارتضاه.
= شبر فقد خلع ربقة - الإسلام من عنقه" (منها) "من فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية) (ومنها)"تفترق أمتي نيفًا وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة قيل: يا رسول الله ومات تلك الفرفة؟ قال: "هي الجماعة" إلى غير ذلك من الأحاديث التي لا تحصى كثرة.
وتقرير الاستدلال بها أن يقال: لو لم يكن الإجماع حجة لما كانت الأمة معصومة عن الخطإ لكنها معصومة عن الخطإ، للأحاديث السابقة.
(1)
في ب: الاضطرار.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والثاني: أن المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا بها أصلًا مقطوعًا، وهو الإجماع، ويستحيل عادة التسليم بخبر رفع المقطوع إلا إذا استند إلى مقطوع به.
قلت: وهذا ما ذكره المصنّف بقوله: "تلقى الأمة لها بالقَبُولِ".
واعترض
(1)
بأن "ذلك لا يخرجها عن الآحاد"، فلا يكون مقطوعًا، فلا يُسْتدل على الإجماع به؛ إما للزوم الذور على ما ادعاه؛ أو لأنه لا بد في الدليل على حُجِيَّة الإجماع من قاطع
(2)
.
(1)
في ب: واعترضه.
(2)
والجواب على هذا من وجهين: الأول: أن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان خبر واحد يجوز تطرق الكذب إليه، إلا أن القدر المشترك وهو عصمه الأمة عن الخطإ متواتر، فيفيد العلم الضروري لكل عاقل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد تعظيم هذه الأمة وعصمتها عن الخطإ، كما علم ضرورة سخاوة حاتم، وشجاعة علي، وفقه الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، وخطابة الحجاج، وميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة دون باقي نسائه من الأخبار المشتركة في أمر متواتر وإن كان كل خبر آحادًا، واعترض الإمام الرازي على هذا الجواب بأنا لا نسلم بلوغ مجموع هذه الآحاد حد التواتر المعنوي؛ فإن الرواة العشرين أو الألف لا تبلغ حد التواتر، ولا تكفي للتواتر المعنوي؛ فإنه ليس بمستبعد في العرف إقدام عشرين على الكذب في واقعة معينة بعبارات مختلفة، ولو سلم فتواتره بالمعنى غير مسلم، فإن القدر المشترك هو أن الإجماع حجة أو ما يلزم هو منه، فإن ادعيتم أن القدر المشترك هو حجية الإجماع فقد ادعيتم أن حجية الإجماع متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلزم أن يكون كغزوة بدر، وهو باطل فإنه؛ لو كان كذلك لم يقع الخلاف فيه، وأنكم بعد تصحيح المتن توردون على دلالته على حجية الإجماع الأسئلة والأجوبة، ولو كان متواترًا لأفاد العلم ولغت نلك الأسئلة والأجوبة، وإن ادعيتم أن هذه الأخبار تدل على عصمة الأمة فهي بعينها حجية الإجماع. وأجاب عنه شارح المسلم بأن القدر المشترك من هذه الأخبار قطعًا هو عصمة الأمة عن الخطإ، ولا شك فيه، ودعوى أنها بعينها حجية الإجماع غير صحيحة، بل هي ملزومة للحجية. وبأن اجتماع عشرين من العدول الخيار بل أزيد على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يتوهم. وأما قوله: لو كان لكان كغزوة بدر، قلنا: إنه كغزوة بدر كيف وقد سبق أنه قد تواتر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الآن تخطئة المخالف للإجماع، وهل هذا إلا تواتر الحجية؟ وأيضًا يجوز أن تكون المتواترات مختلفة بحسب قوم دون قوم، فهذا متواتر عند من طالع كثرة الوقائع والأخبار. وأما قوله: لو كان متواترًا لما وقع الخلاف فيه، قلنا: التواتر لا يوجب أن يكون الكل عالمين به؛ ألا ترى أن أكثر العوام لا يعلمون غزوة بدر أصلًا، بل المتواتر إنما يكون متواترًا عند من وصل إليه أخبار تلك الجماعة، وذلك بمطالعة الوقائع=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولقائل أن يقول: تلقى الأمة للخبر بالقَبُول وإن لم يخرجه عن الآحاد، فلا يلزم أن يكون مظنونًا؛ لأن خبر الواحد قد تعضُده قرينة تصيِّره مقطوعًا، وجاز أن تكون القرينة هي تلقيهم بالقَبُول فيُسْتَدَلُّ به على الإجماع.
= والأخبار، والمخالفون لم يطالعوا، وأيضًا الحق أن مخالفتهم كمخالفة السوفسطائية في القضايا الضرورية الأولية، فكما أن مخالفتنهم لا تضر كونها أولية، فكذا مخالفة المخالفين لا تضر التواتر. وأما إيراد الأسئلة والأجوبة فعلى بعض المتون لا على القدر المشترك المستفاد من الأخبار.
الوجه الثاني: أن هذه الأحاديث لم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة ومن بعدهم متمسكًا بها فيما بينهم في إثبات الإجماع من غير خلاف فيها ولا نكير إلى زمان وجود المخالفين، والعادة جارية بإحالة اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير مع تكرر الأزمان واختلاف هممهم ودواعيهم ومذاهبهم على الاحتجاج بما لا أصل له في إثبات أصل من أصول الشريعة، وهو الإجماع المحكوم به على الكتاب والسنة من غير أن ينبه أحد على فساده وإبطاله وإظهار النكير فيه .. واعترض عليه بأمور:
الأمر الأول: لا تسلما أن تلك الأحاديث لم يقع خلاف فيها ولا نكير؛ لجواز أن يكون أحد أنكر هذه الأخبار ولم ينقل إلينا، ومع هذا الجواز لا قطع بعدم الاختلاف وعدم النكير. والجواب: أن العادة تجعل عدم نقله؛ إذ الإجماع من أعظم أصول الدين، فلو خالف فيه مخالف اشتهر؛ إذ لم يندرس خلاف الصحابة في دية الجنين وحد الشرب ومسائل الجد والإخوة إلى غير ذلك، فكيف اندرس في أصل عظيم يلزم منه "التضليل والتبديع لمن أخطأ في نفيه أو إثباته وقد اشتهر خلاف النظام مع سقوط قدره وقلة الاعتبار به فكيف يخفى خلاف الصحابة والتابعين؟
الأمر الثاني: سلمنا أنها لم تنكر لكن لا نسلم أن الصحابة والتابعين استدلوا بها على الإجماع، ولم لا يجوز أن يكون استدلالهم بغير تلك الأحاديث لا بها؟. والجواب: أن تمسك الصحابة والتابعين رضي الله عنهم بها في معرض التهديد لمخالف الجماعة يدل على أن الإثبات إنما كان بها
…
الأمر الثالث: سلمنا استدلالهم بها لكن في الدليل دور؛ لما فيه من الاستدلال بالأحاديث على الإجماع والاستدلال على صحة الأحاديث بالإجماع. والجواب أن الاستدلال على صحة الأحاديث ليس بالإجماع بل بالعادة المحيلة لعدم الإنكار على الاستدلال بما لا صحة له فيما هو من أعظم أصول الدين، والعادة أصل يستفاد منها معارف بها يعرف بطلان دعوى معارضة القرآن وبطلان دعوى نص الإمامة وغير ذلك، والاستدلال بها غير الاستدلال بالإجماع؛ فاندفع الدور.
الأمر الرابع: سلمنا أن الدليل على صحة الأحاديث هو العادة المحيلة لعدم الإنكار بما لا صحة له فيما هو من أعظم أصول الدين، لكن هذا الدليل معارض بما يدل على عدم صحتها، وهو أنها لو كانت معلومة الصحة مع أن الحاجة داعية إلى معرفتها لبناء هذا الأصل العظيم عليها لعرفت الصحابة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولم يدَّع الغَزَّالي غير هذا، فتأمّل هذا فقد صرح في الوجهين الأخيرين باستفادة القطع منه،
= التابعين طرق صحتها، لإحالة العادة ألا تعرف الصحابة التابعين طريق صحتها دفعًا للشك والارتياب واللازم باطل فكذا الملزوم؛ فثبت أنها غير معلومة الصحة .. والجواب مغ الملازمة؛ لاحتمال أن تكون الصحابة قد علمت صحة الأخبار المذكورة وكونها مفيدة للعلم بعصمة الأمة لا بصريح مقال بل بقرائن أحوال وأمارات دالة على ذلك لا سبيل إلى نقلها؛ لأنها لو نقلت لتطرق إليها التأويل والاحتمال، فاكتفوا بما يعلمه التابعون من أن العادة تحيل الاعتماد على ما لا أصل له فيما هو من أعظم أصول الدين.
الاعتراض الثاني: سلمنا أنها تفيد اليقين لكن يحتمل أنه أراد بنفي الضلالة عن الأمة عصمة جميعهم عن الكفر، وقوله: على الخطإ لم يتواتر، وعلى فرض أنه متواتر فالخطأ عام يمكن حمله على الكفر، ويحتمل أنه أراد بذلك عصمتهم عن الخطإ فيما يوافق النص المتواتر أو دليل العقل؛ دون ما يكون بالاجتهاد أو عصمتهم عن الخطإ في الشهادة في الآخرة .. والجواب أنه لا يصح أن يراد بنفي الضلالة والخطإ عن الأمة عصمتهم عن الكف أو عصمتهم فيما يوافق النص المتواتر أو دليل العقل لأن هذه الأخبار إنما وردت في معرض الامتنان على الأمة والإنعام عليها، فعلم بالضرورة تعظيم شأنها وتخصيصها بهذه الفضيلة، وفي حملها على ما ذكر إبطال فائدة اختصاصهم بذلك؛ لمشاركة بعض آحاد الناس للأمة في ذلك؛ فلم يصح حملها على العصمة مما ذكر، ووجب حملها على ما لا يعصم عنه الآحاد من سهو وخطإ وكذب، ولا يصح أن يراد بنفي الضلالة والخطإ عن الأمة عصمتهم عن الخطإ في الشهادة في الآخرة لأن هذه الأخبار إنما وردت لإيجاب متابعة الأمة والحث عليها والزجر عن المخالفة، فكان المقصود وجوب العمل، فلم يصح الحمل على الخطأ في الشهادة في الآخرة؛ إذ لا عمل فيها.
الاعتراض الثالث: سلمنا دلالة هذه الأخبار على عصمتهم عن كل خطإ وضلال، لكن يحتمل أنه أراد بالأمة كل من آمن بالله إلى يوم القيامة، وأهل كل عصر ليسوا كل الأمة؛ فلا يلزم امتناع الخطإ والضلال عليهم .. والجواب ما سبق في الآيات المتقدمة، وهو أنه لما كان المقصود هو الزجر عن مخالفة الأمة والحث على متابعتها لم يتصور حمل الأمة على كل من آمن بالله إلى يوم القيامة؛ إذ لا زجر ولا حث فيها.
الاعتراض الرابع: سلمنا انتفاء الخطإ والضلال عن الإجماع في كل عصر من الأعصار، ولكن لا نسلم أنه يكون حجة على المجتهدين؛ فإنه على القول بأن كل مجتهد مصيب لا يجب على أحد المصيبين اتباع المصيب الآخر، وحاصله منع الملازمة في الدليل المتقدم، وهي لو لم يكن الإجماع حجة لما كانت الأمة معصومة عن الخطإ. والجواب أنه إذا ثبت انتفاء الخطإ عن أهل الإجماع فيما ذهبوا إليه كان ذلك إجماعًا على وجوب اتباعهم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فحاصل كلامه: دعوى القَطْع من هذه الأخبار بطريقين:
أحدهما: علم الاضطرار، وهذا التَّوَاتر المعنوي الذي استحسنه المُصَنّف، وهو ضعيف عند القاضي وعندنا كما عرفت.
والثاني: علم الاستدلال بالوَجْهَيْنِ اللذين ذكرهما.
وهما راجعان إلى إحالة العادة استدلال الأمة به، وانتشاره ما بينهم من دون قاطع فاشترك الطريقان في أن يفيد العلم.
فمن فَهِم عن الغزالي أنه أراد خبر واحد مجرد عما يعضده [وهو]
(1)
يصيّره مفيدًا للعلم، فقد فهم ما صرَّح بخلافه.
ثم نقول: هذا الطريق الثاني هو الذي اعتمده صاحب الكتاب، وركَّب منه دليليه
(2)
السَّابقين فافهمه، وبهذا يتضح لك أن ما رده هنا هو ما استدلّ به ثَمَّ، فتأمل هذا.
وإمام الحرمين في "البرهان" قال
(3)
: ولا حاصل لمن يقول: هذه الأحاديث متلقاة بالقبول فإن المُعَضِّد من ذلك يؤول إلى أن الحديث مجمع عليه، وقُصَاراه إثبات الإجماع بالإجماع على أنه لا تستب
(4)
هذه الدعوى مع اختلاف النَّاس في الإجماع اهـ.
ودفع دليل تلقي الأمة بالقَبُول بهذا الوَجْهِ، وأوضح من دفعه بأن ذلك لا يخرجه عن الآحاد.
وقد ذكر القاضي، والإمام في مختصره "التقريب" هذا السؤال وقالا: إنه من أهم الأسئلة ثم أجابا عنه بما حاصله أنا لم نثبت الإجماع بالإجماع على تَلَقِّيهِ بالقَبُولِ؛ بل لإحالة العادة.
وهذا السؤال والجواب هو نفس سؤال المصنف وجوابه السَّابقين في قوله: لا يقال: أثبتم الإجماع بالإجماع إلخ - وهو جواب صحيح -.
وأما قول الإمام: لا تستتبّ هذه الدعوى مع اختلاف النَّاس في الإجماع.
فجوابه: أن الاختلاف طارئ لم يسبق النّظَّام إليه أحدٌ، وذلك معروف من قضية العَادَةِ، ووجوب استمرارها لتوفّر الدواعي على نقل خلاف من خالف في هذا الأصل العظيم، فلقد
(1)
سقط في أ، ب، ت.
(2)
في ب، ح: دليله.
(3)
ينظر: البرهان 1/ 678.
(4)
في ت: لا تسبب.
وَاسْتُدِلَّ إِجْمَاعُهُمْ يَدُلُّ عَلَى قَاطِع فِي الْحُكْمِ؛ لأِن الْعَادَةَ امْتِنَاعُ اجْتِمَاعِ مِثْلِهِمْ عَلَى مَظْنُونٍ.
توفرت على نقل مسائل جزئية، فما ظنّك بالإجماع، فلو سبق النَّظَّامَ أحدٌ إلى مَقَالَتِهِ لنقل هذا.
وقد نقل خلاف النَّظَّام إلينا.
قال القاضي رضي الله عنه: مع خموله وقلَّة خطره في النفوس، وكونه معدودًا في أحزاب الفُسَّاق.
الشرح: "واسْتُدِلّ" على حجيَّة الإجماع أيضًا بما تقريره "إجماعهم" على الحكم "يدلّ على" وجود "قاطع في الحكم؛ لأن العادة" مقتضاها: "امتناع اجتماع مثلهم على" أَمْرٍ "مَظْنُون"؛ لاختلاف الآراء والقرائح في المظنونات.
"وأجيب": عن امتناع اجتماعهم على المَظْنُون "بمنعه في "القياس "الجَلِيّ، وأخبار الآحاد" فإنه لا مانع من
(1)
إجماعهم على الحكم تعويلًا على قياس جَلِيّ، أو خبر واحد "بعد العلم" الحاصل لهم "بوجوب العمل بالظاهر"، فلا يلزم أن يكون دليل الحكم مقطوعًا به.
ولقائل أن يقول: علمهم بوجوب العمل بالظاهر، إن كان مستنده الإجماع ففاسد للزوم الدَّوْرِ، وإن كان غيره فسد ما اعتُرض به على الشَّافعي رضي الله عنه من لزوم الدور؛ لأنه حينئذ قد سلم أنه ليس مدرك العمل بالظاهر بالإجماع
(2)
.
واعلم أن إمام الحرمين استدلّ على الإجماع بدليل معنوي فقال: الطريق القاطع في ذلك أنا نقول: للإجماع صورتان، وذكر ما تقريره اتفاق الجمع العظيم المختلفين في الدواعي والمهم على الحكم الواحد.
إما أن يكون لدليل أو أمارة، أو لا دليل ولا أمارة، وهذا الثالث مُسْتحيل عادة.
فإن كان الأول كان الإجماع كاشفًا عن ذلك الدَّليل، وحينئذ يجب الاتباع له، وإلا لكان ذلك تجويزًا لمخالفة الدَّليل، وهو ممتنع.
وإن كان الثاني: فمثل هذا الحكم، وإن كان يسوغ
(3)
مخالفته لأمارة أخرى، لكن لمَّا
(1)
في ب: عن.
(2)
في أ، ب، ت، ح: الإجماع.
(3)
في ب: سوغ.
وَأُجِيبَ بِمَنْعِهِ فِي القِيَاسِ الْجَلِيِّ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ.
رأينا التابعين قاطعين بالمنع من مخالقة الإجماع أعلمنا اطلاعهم على دلالة قاطعةٍ مانعةٍ من مخالفة الإجماع،
(1)
؛ إذ لو كان المانع منه أيضًا الأمارة لما قطعوا بالمنع منه.
لا يُقَال: ما ذكرتموه إخراجٌ للإجماع عن كونه حُجَّة، فإنه لا مَطْمَعَ في كون قول النَّاس حجة لعينه، وإنما المطلوب المكتفى به إسناده إلى حُجَّة، وهو حاصل.
هذا دليل إمام الحرمين، وهو الذي ذكره المصنّف آخرًا.
وقد اعترضه الإمام بأنا لا نسلّم انحصار التَّقسيم؛ فإنه يجوز أن يكون اتفاقهم على الحكم لشُبْهَةٍ، فكم من المبطلين مع كثرتهم قد اتفقوا على حكم واحد لشُبْهة اعترضت لهم.
سلّمنا الحصر، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك لأمارة؟
ولا نسلّم إجماع الصحابة والتَّابعين على المَنْعِ، سلمنا ذلك، لكن لما جوزت حصول الإجماع على الحكم لأمارة، فلم لا يجوز حصول الإجماع على المَنْع من مخالفة الإجماع لأمارة أيضًا؟.
فإن قلت: لو كان عن أمارة لما تعصَّبوا.
قلت: إذا سلمت أنه إذا كان عن أمارة لا يتعصَّبون له، فقد بطل قولك: إنهم منعوا من مخالفة هذا الإجماع.
هذا اعتراضُ الإمام، وزاد الشيخ الهِنْدِيّ اعتراضين آخرين، فقال: هذه الدلالة لو صحت لاقتضت أن يكون إجماع الخَلْق العظيم من كل أمة حجَّة، وألَّا يكون الإجماع حُجَّة إلا إذا كان المجمعون عدد التَّوَاتر.
فهذه جملة الاعتراضات على إمام الحرمين.
وأنا أقول: أما الأول: وهو منع الحَصْر بالاتِّفَاق على الشُّبهة - وهو أقواها - فقد يقال فيه: إن كل اتفاق وقع عن شُبْهَةٍ فهناك قاطع يُصَادمه، وإنما تسكن النفس للإجماع إذا لم يكن ثَمَّ قاطع معارض، فحيث وجدنا إجماعًا ولا قَاطِعَ يصادمه، وهو الذي إما أن يكون لدليل، أو أمارة فاتَّجَه الحصرُ في القِسْمَيْنِ، وخرج إجماع المبطلين، فإنه أبدًا مستصحب لقاطع مصادم.
(1)
سقط في ت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما الثَّاني: فساقطٌ؛ لأن من استقرأ أحوال الصَّحابة والتَّابعين كاد علمه باتِّفاقهم على المَنْعِ من مخالفته يكون ضروريًّا.
وأما الثالث: فجوابه أنَّ المعلوم من عادتهم أنهم ما كانوا يَقْطَعُونَ بالمَنْعِ من مخالفة الحكم الصَّادر عن الأمارة إذا لم يعضدهم إجماع.
ورأيناهم قاطعين بالمَنْعِ من مخالفة الإجماع سواء أصدر
(1)
عن أمارة أو لا، وينسبون مخالفه إلى المُرُوقِ والمُحَادَّة والعُقُوق، ولا يعدون ذلك أمرًا هينًا، بل يرون الاستجراء عليه ضلالًا بيّنًا، فلو لم يَقُمِ القاطع على المَنْعِ من مخالفة الإجماع في الصُّورتين لما قطعوا في صورة الأمارة؛ لأنهم لم يكونوا يقطعون بالمَنْعِ من مخالفة الأمارة لمجردها.
قال إمامُ الحرمين
(2)
: ولا يبعد أن يكون القاطع بعض الأخبار التي ذكرناها
(3)
، وتلقَّاها مَنْ تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم بقرائن الأحوال قصد النبي صلى الله عليه وسلم في انْتِصَاب الإجماع حُجَّة، ثم علموا بذلك، واستجروا على القَطْع بموجبه ولم يتَّهموا بنقل سبب قطعهم.
وأما الرابع والخامس: فساقطان؛ لأن إمام الحَرَمَيْنِ لم يلتزمهما، وصرَّحَ بذلك من بعد.
وقد بان بهذا حسن طريقة إمام الحرمين في الاستدلال على الإجماع، والذي وضح لي أن أقوى دليل عليه الآية التي أبداها الشَّافعي والسُّنة، وهو حديث:"لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي"، فالمعنى بالطريقة التي ذكرها، لا بما ذكره المصنّف فهو أضعف الطرق.
فإن قلت: هل يقولون بإفادة كل واحد من هذه الأدلَّة القطع؟
قلت: أما الآية، فالإنصاف أنها لا تفيد القَطْع، ولكن ظنًّا راجحًا.
وأما الحديثُ فلا شَكَّ أنه اليوم غير متواتر، بل ولا صحيح، أعني: لم يصح منه طريق على السبيل الذي يرتصُيه جَهَابِذَةُ الحُفَّاظ، ولكني أعتقد صحة القَدرِ المشترك في كل طرقه، والأغلب على الظن أنه عدم اجتماعها على الخطأ، وأقول مع ذلك: جاز أن يكون متواترًا في سالف الأزمان ثم انقلب آحادًا، فالمتواتر لمَّا اندرس بالكليَّة فَضلًا عن انقلابه آحادًا، ويغلب على ظنِّي أن ذلك هو الواقع، فمن نظر كتب الأقدمين وجدها مَشْحُونَةً بِدَعْوَى انتشار الحديث المذكور بين سلف الأمة، وإنكارهم به على مُخَالفي الإجماع كما عرفت.
(1)
في ب: صدر.
(2)
ينظر: البرهان 1/ 682.
(3)
في ح: ذكرها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويعضد هذا أن من أنكر الإجماع لم يطعن في صحة الحديث، بل عدل إلى تأويله.
وأمور أخر كثيرة تضمّنتها المبسوطاتُ فالنَّاس فيه بين مُعْتمد عليه، ومؤول له، فلولا صحَّته عند الجميع لما افترقوا كذلك.
ولو توهّم النَّظَّام ومُتَابعوه في سَنَدِهِ مقالًا لَمَا عَدَلَوا به.
والظَّنُّ أنهم بحثوا عن ذلك أشد البحث، كيف وهو مما يقْصِمُ ظهورهم.
وأما المعنى فإنه لَعَمْرُ الله شديدٌ بالغ ولكنه مختصّ بما إذا بلغ المجمعون عددًا يمتنع تواطؤهم على الكذب.
وحيث انتهى في الكلام إلى هذا أقول: الإجماع عندي صورتان:
إحداهما: أن يقع من جمع يمتنع منهم التَّوَاطؤ على الكذب، وهذا قاطع، والدليل عليه قاطع.
والثانية: ألَّا يبلغوا ذلك، فهذا حُجَّة عدنا، ولكنها ظَنِّيةٌ، ولا ينتهض دليله إلى القطع.
وبلوغ المجتهدين عددًا يمتنع تواطؤهم على الكَذِبِ يختلف اختلافًا شديدًا، فرب جمع قليل، ولكن قرينة افتراقهم في أقاصي الأرض تحيل عادة اجتماعهم، فينتفي محذور احتمال الكذب، فتأمل ذلك.
وأقول مع ذلك: لو اتفق إجماع
(1)
علماء العصر الذين لم يبلغوا عدد التواتر، بأن كانوا قليلين جدًّا على مسألة، ثم انقرضوا، ومضت عُصُرٌ كثيرة على هذا اجتمع فيها على القول بالمسألة من يمتنع تَوَاطؤهم على الكَذِبِ، فهذا حُجَّة قطعية، وهو داخل في الصورة الأولى، ولعلَّك تجد ذلك في مسائل كثيرة من الفروع اجتمع عليها أهل عَصْر بكماله، وهم يبلغون عدد التواتر، ثم جاء بعدهم مثلهم، وبحثوا أشَدّ البحث، وقالوا بمقالة الأولين فلا شَكّ أن النفس يزيد انشراحها بتوافق العَصْرَين على ما هو في مضطرب الظُّنون، وتوافراتها لو لم تستند
(2)
إلى ما يوجب ذلك لما توافقت.
وكلما ازداد عصر عصرًا ازداد اليقين يقينًا، فيكون إجماع الأولين حُجَّة ظَنِّية، وينقلب بموافقة الآخرين قطعية.
والظني قد ينقلب قطعيًّا بانضمام ما يوجبه.
(1)
في ح: اجتماع.
(2)
في أ، ت، ح: تسند.
الْمُخَالِفُ: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: الآية 89]، {فَرُدُّوهُ} [سورة النساء: الآية 59]، وَنَحْوُهُ؛ وَغَايَتُهُ الظُّهُور، وَبِحَدِيثِ مُعَاذٍ -؛ رضي الله عنه حَيْثُ لَمْ يَذْكُرهُ.
والمدار في كونه قطعيًّا على عدد التواتر، وليس لكونهم في عصر واحد خصوصية.
فإن قلتَ: فماذا ترضونه دليلًا على الإجماع؟
قلتُ: مجموع ما ذكر من الأدلة، وقد تعاضدت كلّها على ما فيه عدد التَّواتر. وشمل بعضها كل إجماع.
وينبغي أن يقرر الدَّليل المعنوي بالضَّمِيمَةِ التي ذكرناها، فيقال: اتفاق الخلق العظيم على الحكم الواحد، إما أن يكون لدليل أو أمارة أو شُبْهَةٍ أوْ لا.
والرابع: مستحيل عادة.
والثالث: أن يقدم بالاستقراء التام قاطعًا يُصَادمه
(1)
معتضدًا اجماع الجَمِّ الغفير فانحصر في الأولين ووجب الرجوع إليه على ما سبق، وفي الباب آيات كثيرة ومباحثُ جليلة ذكرناها في "التعليقة".
الشرح: واحتج "المُخَالفُ" بمثل قوله - تعالى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} " [سورة النحل: الآية 89]، فلا مَرْجِعَ في تبْيَانِ الأحكام إلا إليه.
وقوله - تعالى -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء: الآية 59] فلا يرد إلى غيرهما، "ونحوه"
(2)
.
(1)
في ب: يصدمه.
(2)
استدل المخالف على أن الإجماع ليس حجة بالكتاب والسنة، أما الكتاب فبآيات منها قوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} لا ينافي كون غيره تبيانًا لبعض الأشياء أو لكله.
وثانيها: أنه يلزم ألا تكون السنة دليلًا بعين ما ذكرتم، والخصم لا يقول به.
وثالثها: أنه حجة عليهم لا لهم؛ لأنه إذا كان تبيانا لكل شيء كان تبيانًا لكون الإجماع حجة؛ لأنه شيء من الأشياء، ولا يقال: المراد كل شيء من الأمور الشرعية، والإجماع ليس منها عند الخصم؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا يعارض بلزوم كونه تبيانًا لعدم كون الإجماع حجة لانبنائه على أن العدم شيء من الأشياء، وهو ممنوع عند قوم. ومنها قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ=
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ حُجَّةً.
والجواب: أن قُصارى مُسْتَمْسككم، "وغايته الظهور" في مطلوبكم، فلا يقابل القاطع الذي ذكرناه، والحق أنه لا ظهور له فيما ذكرتم أيضًا.
واحتج المُخَالفُ أيضًا "بحديث معاذ رضي الله عنه حيث لم يذكره"، وإنما ذكر الكتاب والسُّنَّةَ والاجتهادَ، فلو كان الإجماع دليلًا لذكره.
"وجوابه: أنه لم يكن إذ ذاك حُجَّة"، فقد قدمنا أنه لا إجماع في عصر النَّبي صلى الله عليه وسلم، ثم هو حديث رواه أبو داود والترمذي، ولكنه لا يصح كما قال البُخَاري، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في "القياس".
= إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} إذ اقتصاره على الكتاب والسنة يدل على عدم مرجع آخر، ولا يذكره، وهو دليل عليهم؛ لأنا نازعناهم في الإجماع، ورددناه إلى الله والرسول حيث أثبتناه بالكتاب والسنة، ثم من الجائز اختصاص الآية بالصحابة، وإذ ذاك فيكون ترك ذكر الإجماع؛ لأنه لم يكن مرجعًا حينئذ.
ومنها وإليه أشار بقوله: "ونحوه" - قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فإنه نهى كل الأمة عن هاتين المعصيتين، وذلك يدل على تصورهما منهم؛ لأن النهي عن الممتنع أي عما لا يتصور عمن نهى عنه ممتنع، ومن يتصور منه المعصية لا يكون فعله ولا قوله موجبًا للقطع.
والجواب: أن النهي راجع إلى كل واحد لا إلى المجموع، ولا يلزم من جواز المعصية على كل واحد جوازها على الكل، ثم النهي لا يقتضي إمكان المنهي عنه، وهو كونه متصور الوقوع ممن نهى عنه؛ فإنه تعالى نهى المؤمن عن الكفر مع علمه بأنه لا يكفر، وخلاف علمه محال، وأنت قد عرفت في غير موضع أن مثله محال لغيره، فيكون متصور الوقوع، فالأولى الاقتصار على المنع الأول، وأشار المصنّف إلى هذه الأجوبة بقوله: وغايته الظهور، أي غاية ما تمسكتم به بعد تسليم ما فيه من الممنوع ظهورها في المطلوب، لكنه لا تقابل القاطع على ما أسلفناك من الأدلة العقلية.
وأما بالسنة فبحديث معاذ رضي الله عنه حيث أقر النبي عليه السلام إياه لما سأله عن الأدلة المعمول بها على إهماله ذكر الإجماع، ولو كان الإجماع دليلًا لما سامح ذلك مع دعوى الحجة إليه، واليه أشار بقوله:"حيث لم يذكره"، أي حيث لم يذكر معاذ الإجماع. وأجيب بأن الإجماع حينئذ لم يكن حجة، فلذلك لم يذكره، وقصة معاذ مشهورة، فلذلك لم يذكرها. ينظر: الشيرازي 198 أ/ خ.
حُكْمُ وِفَاقِ مَنْ سَيُوجَدُ وَالمُقَلِّدِ
مَسْأَلة:
وِفَاقُ مَنْ سَيُوجدُ لا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقًا، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُقَلَّدَ كَذلِكَ، ..........
«مسألة»
الشرح: "وفاق من سيوجد لا يعتبر اتفاقًا"
(1)
، وليكن محل الاتفاق في عصر طرأ بعد انقراض المجمعين، فإن حدث قبل انقراضهم مجتهد لم يكن موجودًا اتَّجه تخريجه على اشتراط انقراض العصر، وكذا إن كان، ولكن كان عاميًّا، ويزداد الخلاف في اعتبار العامي.
(1)
هذه المسألة في بيان الخلاف في أهل الإجماع، واختيار ما هو الحق منه، فنقول: قد علمت مما سلف أنه إنما امتنع الخطأ على أمتنا للدلالة السمعية الواردة بلفظ العموم المتناول ظاهرًا لكل مسلم كالمؤمنين والأمة، فعلى هذا لا عبرة بقول الخارج عن الملة؛ إذ لا يتناولهم لفظ المؤمنين والأمة في عرف شرعنا، وكذلك لا تتناولهم الأدلة العقلية لما مر، ولهذا لم يتعرض المصنّف لعدم اعتبارهم، وتعرض لعدم اعتبار كل الأمة، ولا بقول الكل إلى يوم القيامة وإن كان اللفظ ظاهرًا فيه؛ إذ لكل ظاهر مثله طرف ظاهر في النفس كالكل في مثالنا؛ لأن ما دل على الإجماع دل على وجوب التمسك به، ولا يمكن التمسك بقول الكل، أما قبل يوم القيامة فلعدم كمال المجمعين، وأما في يوم القيامة وبعده؛ فلأنه لا تكليف؛ فلا استدلال ولا تمسك، وكالصبي والمجنون والأجنة وإن كانوا من الأمة؛ لعدم تصور الوفاق والخلاف منهم مع علمنا بأن المراد من قوله عليه السلام:"لا تجتمع أمتي على الضلالة" من يتصور منه الوفاق والخلاف بعد الفهم، وطرف ظاهر في الإثبات، وهو كل مجتهد مقبول الفتوى، وأوساط متشابهة كالعوام المكلفين والفقيه الذي ليس بأصولي، وقد عبر عنه بـ"الفروعي"، والأصولي الذي ليس بفقيه، وقد عبر عنه بـ"الأصولي"، وكالمجتهد الذي لم يشتهر بالفتوى مثل واصل بن عطاء، والمجتهد المبتدع والفاسق، وكالناشيء من التابعين مثلًا إذا قارب رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة، وقس عليه المقارب لتلك الرتبة في كل عصر، ويحتمل أن يكون المراد ممن سيوجد باقي الأمة إلى يوم القيامة، وهو الأظهر؛ لأنه المتفق على عدم اعتباره لا عدم اعتبار الناشئ، لأنه غير متفق عليه، إلا عند من لا يرى انقراض العصر شرطًا؛ لأن من يراه شرطًا لا يوافق الغير على عدم اعتباره مطلقًا. ينظر: الشيرازي 198 ب/ خ. والمستصفى 1/ 183، والمنخول 310، والمحصول 2/ 1/ 282، وشرح العضد 2/ 33، وشرح الكوكب المنير 2/ 225، والتبصرة 371، والبرهان 1/ 685، وكشف الأسرار 3/ 237، وتيسير التحرير 3/ 223، وأصول السرخسي 1/ 311، وفواتح الرحموت 2/ 217، وإرشاد الفحول 87، والتقرير والتحبير 2/ 80، والإحكام للآمدي 1/ 204، وحاشية البناني 2/ 177.
وَمَيْلُ الْقَاضِي إِلَى اعْتِبَارِهِ وَقِيلَ: يُعْتبَرُ الْأُصُوليُّ وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ الْفُرُوعِيُّ.
فإن نشأ تابعيٌّ مجتهد بعد صدور إجماع الصحابة، فالخلاف فيه مشهور والأصحُّ: اعتبار خلافه "والمختار: أن المقلد كذلك" أي: لا يعتبر
(1)
.
"وميل القاضي إلى اعتباره"
(2)
، واختاره الآمديُّ وذكر أن معناه: افتقار كونه حُجَّة إلى موافقة العَوَامّ
(3)
.
(1)
وهو قول جماهير علماء الأمة، ينظر: الكوكب المنير 2/ 224.
(2)
ينظر: الإحكام 1/ 204.
(3)
قال العضد حين حكايته هذا الخلاف في المقلد: الأثر على أنه لا يعتبر وإن حصل طرفًا صالحًا من العلوم التي لها مدخل في الاجتهاد، وميل القاضي إلى اعتباره. قال شارحه: أي اعتبار المقلد عاميًا كان أو أصوليًا أو فروعيًا، ولم يتعرض الشارح لهذا المذهب لبعد اعتبار العامي، وأشار إلى أن المقلد المختلف في اعتباره هو الذي حصل طرفًا من العلوم التي لها مدخل في الاجتهاد، وهو لا محالة يكون أصوليًا أو فروعيًا، فينبغي أن يكون ميل القاضي إلى اعتبار الأصولي والفروعي جميعًا ا. هـ. فأنت ترى أن العضد في شرحه على المختصر لابن الحاجب لم يعتبر المقلد العامي، ولم يحمل عليه رأي القاضي، بل حمله على ما إذا حصل طرفًا صالحًا من العلوم التي لها مدخل في الاجتهاد، ولله دره؛ فإن اعتبار هذا خطل كبير؛ وإنَّنا نربأ بالقاضي أبي بكر عن القول بأن الباعة والسوقة وأرباب الحرف لا بد من اعتبارهم في الإجماع خصوصًا أن لو حملناه على أن قيام الحجة مفتقد إلى ذلك كما قال الآمدي، ومما يؤيد فهم الشارح في كلام القاضي قول الآمدي أن قيام الحجة مفتقر إلى اعتبار المقلد؛ فإنه يتعين حمله على المقلد الذي حصل طرفًا من العلوم إلخ وإلا فلا عاقل يقول بتوقف الحجية على قول جميع العوام.
احتج الجمهور بدليلين: الأول: أنه لو اعتبر وفاق المقلدين لم يتصور إجماع؛ لأن العادة تمنع اتفاق المقلدين عامة، وكذا اتفاق الأصوليين أو الفروعيين خاصة؛ لكثرتهم وانتشارهم، والتالي باطل بالضرورة. الثاني: أن المقلد تحرم عليه مخالفة إجماع المجتهدين قولًا وفعلًا، فيكون قوله المخالف معصية مهدرة شرعًا؛ فلا تضر الإجماع. واعترض عليه أولًا بأن من قال باعتباره يمنع الحرمة؛ إذ كيف تحرم مخالفة ما ليس بإجماع؟. وجوابه أن هذا مكابرة؛ فإنه من الواضح أن المقلد أفتى لا عن دليل وذلك حرام بالنص. فإن قلت: هذا إنما يتم في مخالفة إجماع الصحابة، وأما إجماع من بعدهم بعد تقرر خلاف سابق من الصحابة لا يكون حرامًا؛ فإن المقلد له أن يقلد قول أي مجتهد شاء. قلت: إن كانت مخالفة هذا المقلد لمجتهدي زمانه بمجرد رأيه فهي حرام قطعًا، وإن كانت تقليدًا لمجتهد سابق على مجتهدي عصره فاعتبار قوله لأن قول مجتهد سابق بالحقيقة فهو اعتبار لقول ذلك المجتهد؛ فقد آل الحال إلى أن الإجماع اللاحق هل هو حجة مع مخالفة المجتهد السابق أولًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذه هي المسألة المَعْرُوفة بأنَّ العاميَّ هل يعتبر؟
وحكى فيها القاضي عبد الوَهَّاب مذهبًا ثالثًا: أنه يعتبر في الإجماع العام، وهو ما ليس بمقصورٍ
(1)
على العُلَمَاء وأهل النظر، كالعلم بوجوب التَّحريم بالطَّلاق، وأن الحَدَث ينقض الطهارة، وأن الحَيْضَ يمنع أداء الصلاة ووجوبها، دون الخاص، كدقائق الفِقهِ.
ولي أنا في المسألة تحقيق طويل ذكرته في "التعليقة"، حاصله: أنني أدعي أن الخلاف في أن العوامَّ هل يعتبرون؛ ليس معناه إلا أنَّا هل نطلق القول بأن الأمة أجمعت، وأنه لا خلاف في المشهور.
إنما نطلقُ هذا القولَ فنقول: مثلًا أجمعت الأمَّة على وجوب الصَّلاة وإنما الخلاف فيما قد يشذّ عن العَوَامّ ففيه مذهبان:
أحدهما: أنهم مُدْخلون في حكم الإجماع؛ فإنهم وإن لم يعرفوا تفصيل الأحكام فقد عرفوا في الجملة أن ما أجمع عليه علماء الأمة حق، وهذا منهم مساهمة في الإجماع.
الثاني: أنهم لا يكونون مُسَاهمين في الإجماع؛ لأنهم غير عالمين فكيف ينسب إليهم القول، وقد بنى الأستاذ أبو إسحاق على هذا الخلافِ الاختلافَ في تكفير من أنكر مجمعًا عليه غير معلوم بالضرورة، حكاه عنه أبي - رحمه الله تعالى - في "شرح المنهاج".
وأقول: إن ما أقوله هو قضيَّة كلام القاضي أبي بكر، بل صريحه، وقد حكيت كلامه في "التعليقة"، وذكرت أنه صريح في غير موضع بأن خلاف العوام لا يعتبر به.
ونقلنا الإجماع على ذلك، وإنما حُكي الخلاف على الوجه الذي قلته.
وجميع ما قلناه في العامي الصِرف.
أما من سند أشياء من العلوم ولم يترقَّ عن مراتب التَّقليد، فالصحيحُ: أنه لا يعتبر أيضًا.
"وقيل: يعتبر الأصوليُّ" المَاهرُ المتصرّفُ في الفِقْهِ، وإن كان من أهل التَّقليد في الفقه، وهذا هو رأي القاضي.
"وقيل: الفروعي".
(1)
في أ: بمقصود.
لَنَا: لَوِ اعْتُبِرَ لَمْ يُتَصَوَّرْ، وَأَيْضًا المُخَالَفَةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ فَغَايَتُهُ مُجْتَهِدٌ خَالَفَ وَعُلِمَ عِصْيَانُهُ".
الشرح: "لنا: لو اعتبر" خلاف الجاهل بشيء فيه "لم يتصور"؛ لأن قولهم لا يكون لدليل فلا يعتبر، فإذًا لو اعتبر لم يعتبر هذا خلف [غير]
(1)
متصور.
"وأيضًا: المخالفة عليهم حرامٌ"، فإن التقليدَ واجبٌ عليه؛ إذ الفرض أنه إما عامي صرف، وإما أصولي ماهر له تصرف في الفِقْهِ لا يخرجه عن مرتبة التَّقْليد، "فغايته" عند المخالفة "مجتهد خالف" المجمعين، و"عُلِمَ عصيانه"، فلا يُلتفت إليه.
ولقائلٍ أن يقول على الأول: كلامكم في العَامي الصرف مبني على ما تصورتموه من أن القائل باعتباره يجعله بمنزلة آحاد المجتهدين، وليس كذلك، بل إنما [يعتبره]
(2)
ليطلق لفظ الإجماع كما مضى، وفيمن سند شيئًا من الأصول [لا يتضح]
(3)
؛ لأنه قد يسوقه إلى المخالفة أدنى نظر، وإن لم يكن النَّظر التَّام الذي يترفّع
(4)
به عن حضيض التَّقليد.
وعلى الثَّاني: المجتهد المعلوم عصيانه بالمخالفة، إن طرأ بعد الإجماع، فالفارق بينه وبين العامي أنه لم يكن في زمن المجتهدين، فانتهض الإجماع قبله، فكان عاصيًا؛ لخرقه الإجماع؛ إذ الإجماع عنده غير متحقق
(5)
إلا به فلم يخرق الإجماع.
وإن كان المجتهد موجودًا في زمن المُجْمعين، وخالف لا لدليل ساقه؛ بل عنادًا ومُكَابرة، وهذا لم قلتم: إنه لا يعتبر، وغاية ما في الباب أنه يفسق، والفسق لا يخرجه عن أهليَّة الاجتهاد.
وإن قلتم: العدالة رُكْن في الاجتهاد خَرَجتم عما نحن فيه؛ لأن كلامنا في مجتهد خَالفَ، وهو الآن على ما يقولون ليس بمجتهد.
وقد يقال في جواب هذا: المجتهدُ لا يمكن أن يخالف لا لدليل يعم، فيقول بلسانه إنه مخالف، وهو بقلبه مُوَافق؛ إذ الفرض أن الدليل لم يسبقه، وهو من أهل النَّظر، ولا اعتبار بكذبه في قوله: أنا مخالف
(6)
.
(1)
سقط في ح.
(2)
في ج: تعتبره.
(3)
في أ، ت، ح: ينصح.
(4)
في ح: يرتفع.
(5)
في ح: محقق.
(6)
إذا تحققت ذلك علمت أن المذاهب لا تزيد على أربعة: أحدها: عدم اعتبار العامي والأصولي =
حُكْمُ المُبْتَدِعِ
مَسْأَلَةٌ:
الْمُبْتَدِعُ بِمَا يَتَضَمَّنُ كُفْرًا كَالْكَافِرِ عِنْدَ الْمُكَفِّرِ، إلَّا فَكَغَيْرِهِ وَبِغَيْرِهِ. ثَالِثها: يُعْتبَرُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَقَط.
«مسألة»
الشرح: "المبتدع بما يتضمن كفرًا
(1)
كافر
(2)
عند المكفِّر" له، فلا يعتبر قوله في الإجماع "وإلا فكغيره".
"وبغيره" أي: والمبتدع بغير ما يتضمن كفرًا.
"وثالثها: يعتبرُ" قوله: "في حق نفسه فقط".
= والفروعي، وهو مذهب الأكثر واختيار المصنّف، وإليه أشار بقوله: والمختار أن المقلد كذلك أي والمختار أن وفاق المقلد، ونعني به الثلاثة المذكورة لا تعتبر.
وثانيها: اعتبار الثلاثة، وهو مذهب الأقلين والقاضي، وإليه أشار بقوله: وميل القاضي إلى اعتبار المقلد، وهو عبارة عن الثلاثة.
وثالثها: اعتبار الأصولي دون الفروعي.
ورابعها: عكسه. وإليها أشار بقوله: "وقيل: يعتبر الأصولي، وقيل: الفروعي، وصريحٍ لفظ المنتهى يدل على ما حملنا كلامه عليه؛ لأنه قال: الأكثر على أن المقلد لا اعتداد به موافقًا ولا مخالفًا، وميل القاضي إلى اعتباره.
وثالثها: يعتبر منه - يعني من المقلد الأصولي خاصة، ورابعها الفروعي. ينظر: الشيرازي 199 أ، ب/ خ.
(1)
كالمجسمة، فإن قلنا بتكفيره فهو كالكافر لا تعتبر موافقته ولا مخالفته، وإن لم نقل بتكفيره فهو كغيره من أصحاب البدع الظاهرة، كالخوارج والروافض، وهؤلاء قد اختلف العلماء فيهم.
(2)
وأما ماذا يكفر به، فقد ذكر الغزالي رحمه الله أنه ثلاثة أقسام:
الأول: ما يكون نفس اعتقاده كفرا، كإنكار الصانع ونحوه.
الثاني: ما يمنعه اعتقاده من الاعتراف بالصانع ونحوه من حيث التناقض.
الثالث: ما ورد فيه التوقيف بأنه لا يصدر إلا من كافر، كعبادة النيران، وجحده سورة من القرآن.
وبالجملة إنكار ما عرف أنه من الشرع تواترًا. ينظر: الشيرازي 200 أ/ خ، والبرهان 1/ 688، واللمع (50)، والإحكام 1/ 207، وشرح العضد 2/ 33، والمستصفى 1/ 183، والمنخول 310، =
لَنَا أَنَّ الْأَدِلَّةَ لا تَنْهَضُ دُونَهُ.
قَالُوا: فَاسِقٌ فَيُرَدُّ قَوْلُهُ: كَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ.
[لا غيره، فله مخالفة الإجماع المنعقد، وليس ذلك لغيره]
(1)
.
الشرح: ["لنا: أن الأدلَّة"]
(2)
السَّمعيةَ "لا تنهض دونه"، إذ ليس من عداه كل الأمة.
الشرح: "قالوا: فاسقٌ" والفسق مانع كالصّبا والكفر، "فيرد قوله: كالكافر والصَّبي".
"وأجيب": بالفَرْق "بأن الكافر ليس من الأمة"، والعصمة إنما ثبتت
(3)
للأمة، "والصبي رَدّ لقصوره" عن الاستنباط، "ولو سلم" أن فِسْقَهُ مانعٌ من قبوله في حَقّ الغير، "فيقبل على نفسه"، كما يقبل إقرار الفاسق، وهذا هو المذهب الثالث
(4)
.
وفي الفاسق مذاهب:
أحدها: عدم اعتباره مطلقًا، وعليه الجمهور
(5)
.
والثاني: اعتباره مطلقًا، وهو رأي الشيخ أبي إسْحَاقَ الشِّيرَازي.
والثالث: يعتبر في حق نفسه دون غيره، وهو رأي إمام الحرمين.
= وحاشية البناني 2/ 177، وكشف الأسرار 3/ 237، وأصول السرخسي 1/ 311، وتيسير التحرير 3/ 238، فواتح الرحموت 2/ 218.
(1)
سقط في ح.
(2)
سقط في ح.
(3)
في ت: تثبت.
(4)
ولو اعتبر قول الفاسق في الإجماع لزم تكريمه وهو منتف، وقد يقال: نمنع أن الفسق يسقط أهلية التكريم؛ فإن من مات مؤمنًا مصرًا على فسقه لا يخلد في النار، فإذا كان أهلًا للكرامة في الآخرة بدخول الجنة فلأن يكون أهلًا للكرامة في الدنيا باعتبار قوله في الإجماع من باب أولى. وأجيب عنه بأنه لما وجب التوقف في إخباره بقوله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا} لم يعتبر قوله في الدنيا؛ فلا يكون أهلًا للتكريم باعتبار قوله، وهذا لا ينافي ثبوت التكريم في الآخرة بدخول الجنة بعد إذلاله. واحتج القائلون باعتباره في حق نفسه؛ بأنه قبل إقراره بالمال والجنايات في حق نفسه فيقبل قوله في الإجماع كذلك. وأورد عليه أنه لو قبل قوله كان له لا عليه، وإقراره إنما يقبل فيما عليه لا فيما له. ويجاب عنه بأن كل ما أدى إليه اجتهاده فيما لا قاطع فيه فهو عليه إجماعًا؛ لأنه يجب عليه العمل به أولًا ولو كان له.
(5)
ينظر مصادر مسألة المبتدع.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنَ الْأُمَّةِ (وَالصَّبِيَّ)؛ لِقُصُورِهِ، وَلَوْ سُلَّمَ فَيُقْبَلُ عَلَى نَفْسِهِ.
هَلْ يَخْتَصُّ الإجْمَاعُ بِالصَّحَابَةِ؟
مَسْأَلَةٌ:
لا يَخْتَصُّ الإجْمَاعُ بِالصَّحَابَةِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رحمه الله قَوْلانِ: لَنَا الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ.
والرَّابع: يسأل
(1)
عن مأخذه؛ لجواز أن يحمله فسقه على الفُتْيَا من غير دليل، فإن ذكر ما يجوز أن يكون محتملًا اعتُبِر، وإلا فلا، وهو اختيار ابن السَّمْعَاني
(2)
.
"مسألة"
الشرح: "لا يختصّ الإجماع بالصَّحَابة"
(3)
.
(1)
في ت، ح: سأل.
(2)
إن قلت: ما بال أكثر الشافعية لم يعتبروا المبتدع في الإجماع وقد قبلوا رواية المبتدع الذي يرى الكذب حرامًا فما الفرق؟ قلنا: عدم قبول الرواية كان لريبة الكذب لا غير، وهم يحرمون الكذب، فلا يجترئون عليه؛ لذلك قبلوا روايته. وأما الإجماع فعماده صحة الرأي، وهؤلاء قد أفسدوه لاختيار مكابرة الهوى على العقل؛ لذلك كان الصحيح رأي الجمهور، وهو عدم اعتبارهم في الإجماع. وإن قلت: يرد على بعض الشافعية القائلين باعتبار المبتدع أنه يلزم عدم انعقاد الإجماع على خلافة أبي بكر وعلي لخلاف الروافض في الأول والخوارج في الثاني. قلنا: خلاف الروافض في خلافة أبي بكر حصل بعد الإجماع؛ فإن الإجماع انعقد زمن الصحابة، وهم حدثوا بعدهم بكثير، وخلاف الخوارج ليس في الإجماع؛ لأن معاوية مجتهد، وهو لم يبايع عليًّا فما انعقد الإجماع، وأما ثبوت الخلاف فلكفاية بيعة الأكثر من المعتبرين، وكونه أهلًا لها في نفسه من غير ارتياب أو لدليل آخر لاح لهم.
(3)
إذا ذهب واحد من الصحابة إلى حكم في مسألة ثم مات، وأجمع التابعون على خلافه في تلك المسألة، فقد قال بعض الأصوليين: إنه ينعقد إجماعهم بعين ما ذكروه من العلة، وهو محال مخالف لإجماع القائلين بالإجماع، والحق فيه أن يقال: إذا حكم واحد من الصحابة بحكم ثم حكم التابعون بخلافه، فإنه لا يكون إجماعًا؛ لأن حكمهم ليس هو حكم جميع الأمة في تلك المسألة، بخلاف ما لو حكموا بحكم لم يتقدم فيه خلاف بعض الصحابة، فإنه يكون إجماعًا؛ لأن حكمهم حينئذ يكون حكم جميع الأمة في تلك المسألة.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"وعن أحمدَ رحمه الله قولان":
أصحهما: عند أصحابه موافقة الجمهور.
والثاني: - وهو رأي الظاهرية
(1)
- الاختصاص.
= فإن قيل: إن كان التابعون كل الأمة، فيجب أن يكون خلافهم حرامًا، وإن قال صحابي بخلاف ما أجمعوا عليه وإن لم يكونوا كلهم، فلا يحرم خلافهم، فأما كونهم كل الأمة في شيء دون شيء فمتناقض.
قلنا: لا تناقض فيه، فإن الكلية إنما تثبت بالإضافة إلى المسألة التي خاضوا فيها، فإذا نزلت واقعة بعد الصحابة فالتابعون فيها كل الأمة إذا أجمعوا عليها، بخلاف ما لو أجمعوا على خلاف فتوى الصحابي إذ فتواه ومذهبه لا تنقطع بموته، فلا يكون قولهم قول كل الأمة، وهذا كما لو أفتى الصحابي بحكم ثم مات، وأجمع باقي الصحابة على خلافه، فإنه لا ينعقد إجماعهم، وإن انعقد إجماعهم إذا مات من غير مخالفة! لأن حكمهم في الأول ليس هو حكم كل الأمة في المسألة التي خاضوا فيها - لصح إجماع بعض مجتهدي العصر على واقعة حادثة إذا لم يكن للباقين فتوى فيها، ولا خبر عنها؛ لأنهم كل الأمة بالنسبة إليها.
قلنا: نحن ما نذهب إلى أن الكلية بالإضافة تكفى، بل إلى أن الكلية باعتبار كون المجمعين جميع مجتهدي العصر لا يكفي، بل يحتاج مع ذلك إلى أن يكون قول جميع الأمة في تلك المسألة هو ما أجمعوا عليه، وذلك بألا يكون لغيرهم فيها قول مخالف لما أجمعوا عليه، سواء كان انقضاء القول المخالف بانتفاء أصل القول أو بانتفاء المخالفة، فاندفع الشكان. ينظر: الشيرازي 202 أ/ خ. والبحر المحيط للزركشي 4/ 482، وسلاسل الذهب له 3048، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 208، ونهاية السول للإسنوي 3/ 247، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 383، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 73، والمستصفى للغزالي 1/ 185، وحاشية البناني 2/ 179، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 291، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 212، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 492، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/ 539، والتحرير لابن الهمام 405، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 240، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 184، وحاشية الفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 35، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 46، وإرشاد الفحول للشوكاني 81، والكوكب المنير للفتوحي 230، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 97.
(1)
وعليه ابن العربي وابن حبان، وللإمام أحمد روايتان أصحهما عند أصحابه أنه لا يختص بالصحابة.
استدل الجمهور بأن الأدلة الدالة على حجية الإجماع عامة في إجماع الصحابة فمن بعدهم، ولا موجب لتخصيصها بإجماعهم، وهذا ظاهر في الأدلة السمعية نحو:"ويتبع غير سبيل المؤمنين". "لا تجتمع أمتي على الخطأ". فإن سبيل المؤمنين والأمة يتناولان أهل كل عصر، وليست مختصة=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"لنا: الأدلة السَّمعية" لا تختصّ بالصَّحابة.
فإن قلت: كيف استدلّ المصنّف بالسمع هنا؟
وهو إنما يستند في الإجماع إلى المعنى.
قلت: إستناده
(1)
إلى المعنى من أجل كون الإجماع حُجَّة؛ لأن ذلك أصل قاطع، فيتطلب له دليلًا قاطعًا، وإلى السّمع في أنه هل يختص بالصَّحابة؟، وهي مسألةٌ ظنِّية يكفي فيها دليل ظني.
= بالحاضرين وقت الخطاب، وإلا لما شملت الصحابي الآتي بعده، وهو باطل اتفاقًا. وأما الأدلة
العقلية فقيل: لا تنتهض حجة على الظاهرية لأنهم لا يسلمون الإجماع على القطع بتخطئة المخالف
مطلقًا، بل في إجماع الصحابة. قال صاحب المسلم: الحق الاتفاق على التخطئة مطلقًا؛ لكن لا
ينتهض ههنا لأن الخصم ينكر إمكان وقوعه، وهو لا ينافي التخطئة على تقدير وقوعه (أي أن
الخصم ينكر إمكان وقوع إجماع غير الصحابة، وإنكار وقوعه لا ينافي القول بتخطئة المخالف على تقدير وقوعه) فافهم؛ فإنه دقيق - وقال في حاشيته: اعلم أن الدقة هو الفرق بين انتهاض السمعية وعدم انتهاض العقلية مع أن الظاهر أنهما سواء، ووجه الفرق أن مقتضى السمعية أن الحجية لازمة لوقوع الاتفاق مطلقًا، ومقتضى العقلية ليس كذلك، بل مقتضاها أنه إذا وجد الاتفاق، وصار حجة صح تخطئة مخالفه، فلو وقع الاتفاق ولا عبرة به كما قال الخصم لا ينافي ذلك، نعم ينافي السمعية؛ لأنه اجتماع على ما ليس بحق ا. هـ. وفي هذا الفرق نظر؛ فإن صحة التخطئة غير متوقفة من حيث العلم بها على وجود الإجماع واعتباره وإن توقفت في الخارج، فإذا ما علمنا صحة تخطئة المخالف للإجماع في كل عصر علمنا أن حجيته مركوزة في أذهانهم، ولا يكون ذلك إلا عن نص قاطع دال على حجيته في كل عصر، ومن لوازم ذلك كونه حقًّا، فعدم اعتبار الخصم إياه فناف لهذا كما هو مناف للسمعي، فقد نهض العقلي كما نهض السمعي على إثبات حجية إجماع من بعد الصحابة، ولو سلمنا جدلًا أن عدم اعتبار إجماع التابعين فمن بعدهم لا يتنافى مع الدليل العقلي لزم ألا ينهض الدليل العقلي على النظَّام وتابعيه في إثبات حجية إجماع الصحابة؛ إذ لهم أن يقولوا: صحة تخطئة المخالف لإجماع الصحابة إنما هي على تقدير وجوده واعتباره، فعدم اعتبارنا إياه لا يتنافى مع هذا الدليل، فالحق أنه على تسليم الظاهرية الإجماع على تخطئة المخالف مطلقًا لا يبقى فرق بين الأدلة السمعية والعقلية، ولم يبق لهم إلا أن ينكروا تحقق اتفاق التابعين فمن بعدهم. والجواب حينئذ بإثبات وقوع اتفاق التابعين في واقعة، ولم يثبت إنكار الخصم إلا عند استقرار الخلاف وتقرر المذاهب لا عند سكوت الصحابة؛ لعدم وقوع هذه الحادثة في زمنهم، ومحل الخلاف ههنا هو هذا لا ذاك؛ فإنه مسألة أخرى؛ والله أعلم.
(1)
في ب: إسناده.
قَالُوا: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ قَبْلَ مَجِيءِ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا لا قَطْعَ فِيهِ سَائِغٌ فِيهِ الاِجْتِهَاد، فَلَوِ اعْتُبِرَ غَيْرُهُمْ خُولفَ إِجْمَاعُهُمْ وَتَعَارَضَ الإجْمَاعَانِ.
وَأُجِيبَ: بِأنَّهُ لازِمٌ فِي الصَّحَابَةِ قَبْلَ تَحَقُّقِ إِجْمَاعِهِمْ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الإجْمَاعِ.
الشرح: "قالوا: إجماع الصَّحابة قبل مجيء التَّابعين
(1)
وغيرهم" منعقد "على أن ما لا قَطْعَ فيه سائغ
(2)
فيه الاجتهاد، فلو اعتبر غيرهم" لكانوا إذا أجمعوا في مسألة اجتهادية على تحريم مخالفتهم
(3)
فيها؛ لأن هذا شأن الإجماع.
وقد وقع إجماعُ الصحابةِ على جواز الاجتهاد فيها، وإذا اتفق ذلك "خولف إجماعهم، وتعارض الإجماعان" من الصَّحَابة ومن بعدهم.
"وأجيب: بأنه لازم في الصَّحابة قبل تحقق إجماعهم" على الحكم، فإنهم مجمعون
(4)
على أن الاجتهاد سائغ، ثم يرتفع ذلك بالإجماع، "فوجب أن يكون ذلك" الإجماع الأول على أن ما لا قطع فيه اجتهادي "مشروطًا بعدم الإجماع" على الحكم، فمتى حصل زال شرط الإجماع الأول.
(1)
وقال الخطيب: التابعي من صحب صحابيًا، ولا يكتفي فيه بمجرد اللقي، بخلاف الصحابي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكتفي فيه بذلك، لشرف النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وعلو منزلته فالاجتماع به يؤثر في النور القلبي أضعاف ما يؤثره الاجتماع الطويل بالصحابي وغيره من الأخيار. وقال أكثر المحدثين: هو من لقي صحابيًا وإن لم يصحبه، ولذلك ذكر مسلم وابن حبان "الأعمش" في طبقة التابعين؛ لأن له لقيًا وحفظًا، رأى أنس بن مالك وإن لم يصح له سماعٍ المسند عنه. وعد الحافظ عبد الغني فيهم "يحيى بن أبي كثير" لكونه لقي أنسًا، وعد فيهم أيضًا "موسى بن أبي عائشة" لكونه لقي عمرو بن حريث. واشترط ابن حبان التمييز عند اللقي، فإن كان صغيرًا لم يضبط فلا عبرة برؤيته، كخلف بن خليفة عده من أتباع التابعين وإن رأى عمرو بن حريث؛ لكونه كان صغيرًا لا يميز. قال العراقي:"وما اختاره ابن حبان له وجه كما اشترط في الصحابي رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مميز". قال: "وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة والتابعين بقوله: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني .. الحديث". فاكتفى فيهما بمجرد الرؤية".
(2)
في أ، ت، ح: شائع.
(3)
في ب: مخالفيهم.
(4)
في ح: يجمعون.
قَالُوا: لَوِ اعْتُبِرَ لاعْتُبِرَ مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَأُجِيبَ: بِفَقْدِ الإجْمَاعِ مَعَ تَقَدُّمِ الْمُخَالَفَةِ عِنْدَ مُعْتَبِرِهَا.
حُكْمُ مُخَالَفَةِ البَعْضِ فِي الإجْمَاع
(1)
مَسْأَلة:
لَوْ نَدَرَ الْمُخَالِفُ مَعَ كَثْرَةِ الْمُجْمِعِينَ، كَإِجْمَاعِ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ - ..........
الشرح: "قالوا: لو اعتبر لاعتبر مع مخالفة بعض الصَّحابة رضي الله عنهم"، لأنه إذا جاز اعتباره مع عدم قول الصَّحابة فليجز مع مخالفة بعضهم.
ولكنَّ اللازمَ منتفٍ؛ لاشتراطكم عدم المخالفة.
"وأجيب: بعَقْدِ
(2)
الإجماع مع تقدم المخالفة عند معتبرها"، فإنه يشترط في الإجماع ألَّا يسبقه خلاف مستقرّ.
وأما من لا يعتبر مُخَالفة بعض الصَّحابة، فيمنع من بطلان اللَّازم.
"مسألة"
الشرح: "لو ندر المخالف" للإجماع "مع كثرة المُجْمعين، كإجماع غير ابن عبَّاس رضي الله عنهما على العَوْلِ
(3)
، وغير أبي موسى على أن النوم ينقضُ الوضوءَ لم يكن إجماعًا قطعًا" - كذا بخط المصنّف -، وفي بعض النسخ قطعيًّا؛ "لأن الأدلة لا تتناوله"، فإنها مختصَّة بجميع المؤمنين، وليسوا عند مخالفة من ندر كلّ المؤمنين.
(1)
اختلف العلماء في انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل، فالجمهور على أنه لا ينعقد مع وجود مخالف وإن كان نادرًا، وقيل: ينعقد إن كان المخالف نادرًا كواحِد أو اثنين ينظر: البرهان 1/ 721، والإحكام للآمدي 1/ 213، والمعتمد 2/ 486، والتبصرة 361، والمستصفى 1/ 186، والمنخول 312، وشرح العضد 2/ 34، وحاشية البناني 2/ 178، وأصول السرخسي 1/ 316، وكشف الأسرار 3/ 245، وتيسير التحرير 3/ 236، وفواتح الرحموت 2/ 222، والتقرير والتحبير 3/ 94، وإرشاد الفحول 88.
(2)
في أ، ح: يفقد.
(3)
في أ، ح: القول.
رضي الله عنهما عَلَى الْعَوْلِ، وَغَيْرِ أَبِي مُوسَى عَلَى أَن النَّوْمَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَمْ يَكُنْ
"والظَّاهر: أنه حجَّة؛ لتعذر أن يكون الراجح متمسك المخالف".
ولقائل أن يقول: إذا كان الإجماع عند المصنّف مستندًا إلى اطِّراد العادة، فلا ينبغي له اعتبار خلاف النَّادر، بل العادر قاضيةٌ بأن الجمع الكثير لا يجتمعون على باطل. خالفهم نادرٌ أم لم يخالف ثم [إن]
(1)
قوله: إنه حُجَّة؛ لتعذر أن يكون الراجح متمسّك المخالف مما قد يمنع، ويقال: الصَّواب أن النظر ليس إلى العدد فقط، بل تارة إليه، وتارة إلى الفِئَتَيْنِ أيهما أمتن
(2)
علمًا، فالأعلم أولى بالاعتبار، وإن عُورِضَ بالكثرة.
ولقد كان أبو بكر رضي الله عنه وحده على قِتَالِ مانعي الزَّكاة وكان على الحق
(3)
، ومن هنا يمكنك منع أن العادَةَ قاضيةٌ بأن الأكثرين على الصَّواب؛ لانخرامها بقصَّة أبي بكر رضي الله عنه.
واعلم: أن في مسألة ندور
(4)
المخالف مذاهب:
أحدها: - وعليه الجمهور
(5)
- لا ينعقد وهو مذهب ظاهر على رَأْي من يستند إلى السمع
(1)
سقط في ب.
(2)
في أ، ح: أميز.
(3)
قال شارح مسلم الثبوت في هذا التمثيل نظر؛ فإنه لم يثبت أن غير الصديق اتفقوا على عدم جواز قتال مانع الزكاة، وهو خالفهم فقط، بل الذي ثبت أنه لما هم بقتالهم اشتبه ذلك على أمير المؤمنين عمر؛ لحديث:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" فكشف شبهته بأن منع الزكاة داخل في الاستثناء، فوافقه وأجمع عليه الصحابة كافة، وقاتلوا معه، فليس هذا من الباب في شيء.
(4)
في أ: نذور.
(5)
قيل: لا يكون حجة أصلًا، وقيل: يكون حجة ظنية. القائلون بأنه لا يكون إجماعًا ولا حجة قالوا: الأدلة التي أفادت حجية الإجماع إنما أفادت حجية اتفاق كل الأمة لا حجية اتفاق الأكثر. والقائلون بأنه لا ينعقد ويكون حجة ظنية احتجوا بأن اتفاق الأكثر يدل ظاهرًا على وجود راجح أو قاطع؛ لأنه يبعد كل البعد أن يكون متمسك المخالف النادر راجحًا أو مساويًا ولا يطلع عليه الأكثر أو يطلعون عليه ويخالفونه غلطًا أو عمدًا، وما هذا شأنه يكون حجة ظنية، وقد اعترض عليه بأنه ربما كان الحق مع الأقل، وليس ببعيد أن يطلع الأقل على ما لم يطلع عليه الأكثر؛ ألا ترى الفرقة الناجية واحدة من ثلاث وسبعين وقد ارتد أكثر الناس بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وكان المؤمنون أقلين؟ والجواب أن هذا المنع مكابرة فلا يسمع، ولما كان الاشتباه قد تطرق للمانع من حيث السند وجب أن نبطله فنقول: كثرة الفرق لا توجب كثرة الأشخاص، بل يجوز أن تكون أشخاص الفرقة الواحدة أكثر من أشخاص سائر الفرق، ولو سلم فكثرة الأشخاص لا توجب كثرة العدول والمجتهدين، فرب أناس كثيرين لا يوجد =
إِجْمَاعًا قَطْعًا؛ لأَنَّ الْأَدِلَّةَ لا تَتَنَاوَلُه، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حُجَّةٌ؛ لِبُعْدِ أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ مُتَمَسَّكَ الْمُخَالِفِ.
في تثبت الإجماع، وهي طريقة أكثر الفقهاء، وارتضاها أبي رحمه الله وليست [على طريقة]
(1)
المصنّف.
والثاني: يكون إجماعًا يجب على المخالف الرجوع إليه، ونقل عن أحمد بن حنبل، وعن ابن جرير
(2)
من أصحابنا، وأبي بكر الرَّازي
(3)
من الحنفية، وابن خويز مِنْداد، من المالكية وأبي الحسين الخَيَّاط
(4)
من المعتزلة.
= فيهم عدل، ورب أقلين كلهم أو جلهم عدول، والنزاع إنما هو في اتفاق أكثر المجتهدين العدول في عصر، والظاهر إصابتهم الحق.
(1)
في ب، ح: طريق.
(2)
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، الإمام العلم صاحب التفسير المشهور، مولده سنة 224، أخذ الفقه عن الزعفراني والربيع المرادي، وذكر الفرغاني عند عد مصنفاته كتاب:"لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام"، وهو مذهبه الذي اختاره، وجوّده، واحتج له، وهو ثلاثة وثمانون كتابًا. مات سنة 310. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 100، وتاريخ بغداد 2/ 162، وتذكرة الحفاظ 2/ 610.
(3)
أحمد بن علي، المكنى بأبي بكر الرازي الحنفي، الملقب بـ "الجصاص" - بفتح الجيم وتشديد الصاد المهملة، في آخره صاد أخرى - نسبة إلى العمل بالجص. والرازي - نسبة إلى الري - على غير قياس. ولد الجصاص سنة خمس وثلاثمائة، ودخل بغداد في شبيبته. درس الفقه على أبي الحسن الكرخي، وتخرج عليه، وانتفع بعلمه، كما تفقه على أبي سهل الزجاج، وأبي سعيد البردعي وموسى بن نصر الرازي، وأخذ الحديث عن أبي العباس الأصم النيسابوري، وعبد الله بن جعفر بن فارس الأصبهاني، وسليمان بن أحمد الطبراني، وعبد الباقي بن قانع، وأكثر عنه من الرواية في كتابه أحكام القرآن. له من التصانيف: أصول الجصاص، وهو كتاب يشتمل على ما يحتاج إليه المستنبط للأحكام من القرآن الكريم، وقد جعله مقدمة لكتابه: أحكام القرآن، وكتاب أحكام القرآن، وشرح مختصر الكرخي في الفقه، وشرح مختصر الطحاوي، وشرح الجامع الصغير والكبير. توفي في يوم الأحد السابع من ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة عن خمس وستين سنة، وصلى عليه صاحبه أبو بكر الخوارزمي. ينظر: طبقات الأصوليين 1/ 214 - 216.
(4)
شيخ المعتزلة البغداديين، له الذكاء المفرط، والتصانيف المهذبة، وكان قد طلب الحديث وكتب عن يوسف بن موسى القطان وطبقته، وهو أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان، وكان من بحور العلم، له جلالة عجيبة عند المعتزلة، وهو من نظراء الجُبّائي. صنف كتاب "الاستدلال" =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والثالث: أنه إن خالف أكثر من اثنين اعتبر، وإلّا فلا، وهو الذي نقله عن ابن جرير أبو إسحاق الشِّيرازي، وإمام الحرمين، والغَزالي في "المنخول".
والرَّابع: إن خالف أكثر من ثلاثة اعتبر، وإلا فلا، وهو الذي نقله عن ابن جرير سليمٌ الرَّازي في كتابه "التقريب" في أصول الفقه، ولا وجه له، بخلاف الذين قبله، فإنه قد يحتج له بقوله صلى الله عليه وسلم:"إِن الشَّيْطَانَ يَهِمُّ بِالوَاحِدِ وَيَهِمُّ بِالاثنَيْنِ فَإِذَا كَانُوا ثَلاثَةً لَمْ يَهِمّ بِهِمْ"
(1)
صحيح مروي في "مسند ابن وهب"
(2)
من مرسلات سعيد بن المسيب
(3)
.
وقوله عليه السلام: "الوَاحِدُ شَّيْطَانٌ وَالاِثنانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلاثَةُ رَكْبٌ"
(4)
رواه أبو داود والنسائي على أن هذين لا دليل فيهما على التحقيق، ولكن الأول أبعد.
= ونقض كتاب ابن الراوندي في فضائح المعتزلة، وكتاب "نقض نعت الحكمة" وكتاب "الرد على من قال بالأسباب" وغير ذلك. ينظر: سير أعلام النبلاء 14/ 220، وتاريخ بغداد 11/ 87.
(1)
أخرجه البيهقي (5/ 257) مرسلًا عن سعيد بن المسيب. وأخرجه البزار (1698 - كشف) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن ابن حرملة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا. قال البزار: حديث ابن حرملة لا نعلم رواه إلا ابن أبي الزناد، ولم نسمعه بهذا الإسناد إلا من ابن أبي الحنين، وقد رواه غير ابن أبي الزناد عن ابن حرملة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 358) وقال: وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو ضعيف، وقد وثق.
(2)
عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري بالولاء، المصري، أبو محمد، فقيه من الأئمة، من أصحاب الإمام مالك، جمع بين الفقه والحديث والعبادة، وكان حافظًا ثقة مجتهدًا عرض عليه القضاء فخبأ نفسه ولزم منزله. من كتبه: الجامع (في الحديث)، والموطأ (في الحديث أيضًا). ولد سنة 125 هـ بـ"مصر" وتوفي بها سنة 197 هـ. ينظر: تذكرة الحفاظ 1/ 279، وتهذيب التهذيب 6/ 71، والوفيات 1/ 249، والأعلام 4/ 144.
(3)
سعيد بن المسيِّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن مخزوم المخزومي أبو محمد المدني الأعور، رأس علماء التابعين وفردهم وفاضلهم وفقيههم. ولد سنة خمس عشرة. قال ابن عمر: هو والله أحد المقتدين به. قال قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه. وقال أحمد: مرسلات سعيد صحاح. قال أبو نعيم: مات سنة ثلاث وتسعين. وقال الواقدي: سنة أربع. ينظر: الخلاصة 1/ 390، وطبقات خليفة ت 2096، وتاريخ البخاري 3/ 510، وتاريخ الإسلام 4/ 4، والعبر 1/ 110، وسير أعلام النبلاء 4/ 217.
(4)
أخرجه مالك في الموطإ 2/ 978، في كتاب الاستئذان: باب ما جاء في الوحدة في السفر للرجال والنساء (35)، وأخرجه أحمد في المسند 2/ 186، وأخرجه أبو داود 3/ 80، كتاب الجهاد: باب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والخامس: إن بلغ الأقل عدد التواتر لم يُعْتَدَّ بالإجماع، وإلا اعتُدَّ به.
قال القاضي أبو بكر: وهذا الذي يصح عن ابن جرير.
والسادس: إن سوغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المُخَالف، فخلافه معتدّ به، كخلاف ابن عباس في "مسألة العَوْل"، فإنها محلّ اجتهاد، وإلا فلا، كخلافه في مسألة رِبَا الفَضلِ
(1)
، ومسألة المتعة، وخلاف أبي طلحة في قوله: إنَّ آكل البَرَد لا يفطر
(2)
، وهو قول أبي عبد الله الجرجاني ونقل عن أبي بكر الرازي وشمس الأئمة السَّرَخْسِيّ
(3)
.
قال أبي رحمه الله: وهو ضعيف، لأن قول
(4)
غير المُخَالف: إن لم يكن حجة فلا
= في الرجل يسافر وحده (2607)، والترمذي 4/ 193، كتاب فضائل الجهاد. باب ما جاء في كراهة أن يسافر الرجل وحده (1674)، وذكره المنذري في مختصر سنن أبي داود 3/ 413، 2495، وعزاه للنسائي.
(1)
لا خلاف بين العلماء في أن الربا يكون في البيع أو السلم أو القرض غير أن جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار يرون أن الربا نوعان: أحدهما: ربا النسيئة، كبيع ذهب بفضة إلى أجل، أو بيع إردب قمح بمثله إلى أجل كذلك.
وثانيهما: ربا الفضل، وهو ما يسمى ربا النقد، كبيع إردب من البر بإردب ونصف منه يدًا بيد. وخالف في ذلك ابن عباس وأسامة بن زيد من الصحابة، وكذلك ابن عمر حيث قالوا: إنه لا ربا إلا في النسيئة، فيحل عندهم أخذ درهم بدرهمين إذا كان يدًا بيد، وليس التفاضل عندهم بمحرم حينئذ. هكذا كانوا يقولون، ثم صح عنهم أنهم رجعوا عن ذلك إلى قول الجمهور.
(2)
خرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(2/ 347) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أنس .. فذكره. وهذا سند ضعيف، وعلته علي بن زيد ضعيف. قاله الحافظ في "التقريب".
(3)
محمد بن أحمد بن أبي سهل، المعروف بشمس الأئمة السرخسي، الفقيه، الحنفي الأصولي، وكنيته أبو بكر، والسرخسي نسبة إلى سرخس - بفتح السين، والراء المهملتين، وسكون الخاء المعجمة - بلدة قديمة من بلاد خراسان، سميت باسم رجل سكنها وعمرها. تتلمذ لشمس الأئمة: عبد العزيز الحلواني، حتى تخرج على يديه فذاع صيته واشتهر اسمه.
وتفقه عليه أبو بكر محمد بن إبراهيم الحصري، وأبو عمر وعثمان بن علي بن محمد البيكندي، وأبو حفص عمر بن حبيب جد صاحب الهداية من جهة أمه. ألف في الفقه والأصول، فقد أملى وهو سجين في الجب كتاب المبسوط في الفقه، وهو ثلاثون جزءًا. ينظر: طبقات الأصوليين 1/ 277.
(4)
في ت: قوله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أثر للتسويغ وعدمه، وإلا فهو محلّ النزاع، فليس إنكارهم عليه بأولى من إنكارهم عليهم.
والسَّابع: أن اتباع الأكثر أولى، وإن جاز خلافه، وهو ساقط.
والثَّامن: الفَرْق بين أصول الدين فلا يَضُرّ، والفروع فيضر.
والتَّاسع: أن قول الأكثر حُجَّة، لا إجماع.
قال الغَزَّالي في "المستصفى": وهو تحكم لا دليلَ عليه.
قال أبي رحمه الله: وذلك ظاهر؛ لأنَّهُ إذا لم يكن إجماعًا فبماذا يكون حُجَّة؟
إذا عرفت هذا فنقول: قول المصنّف لم يكن إجماعًا قطعًا
(1)
- أي: لا نقطع بكونه إجماعًا -، ومن كتب قطعيًّا أراد أنَّا نجزم بكونه
(2)
إجماعًا قطعيًا.
وهذه النسخة عندي أولى مما كتبه المصنف بيده، ولعلَّها أصلحت؛ لأن فيها فائدةَ التَّنبيه على أن من قال بأنه إجماع فإنما يجعله ظنيًّا لا قطعيًّا، وهذا هو الظَّاهر، وبه يشُعر إيراد الآمدي.
وأما قطعيًّا، فليس فيها كثير فائدة؛ لأن كلّ ذي نظر يعرف أنه إذا وقع الخلاف في أنه هل هو إجماع لم يقع القطع بأنه إجماع؟
فإن قلت: فما معنى قول المصنّف: والظَّاهر أنه حجة هل يريد به أنه إجماعٌ ظني، أو أنه ليس بإجماع أصلًا ولكنه حجة؟
قلت: يحتمل أنه يريد أنه ليس بإجماع أصلًا، ولكن حجة لأمرين:
أحدهما: أنه عرف الإجماع باتِّفاق المجتهدين، فلو كان اتفاق الأكثر إجماعًا، سواء أكان
(3)
قطعيًّا أم ظنيًّا لورد على الحد؛ لأنَّهُ ليس اتفاق جميع المجتهدين.
وثانيهما: أنه لو أراد أنه يكون إجماعًا ظنيًّا لكان هو المذهب الصَّائر إلى أن خلاف الأول
(4)
غير معتبر؛ لأنا قد قلنا: إن من قال: لا يعتبر بالأقل لا يجعل الإجماع - والحالة هذه - قطعيًّا.
أما
(5)
أنه لم يقطع بكونه إجماعًا؛ فلوقوع الاختلاف فيه، ولا قطع مع الخلاف في مثل هذا.
(1)
في ب: قطعيًا.
(2)
في أ: بنفي كونه.
(3)
في ب، ت: كان.
(4)
في ب: الأقل.
(5)
في حاشية ج: قوله: إما أنه
…
إلخ يريد البيان على نسختي قطعًا وقطعيًا. تدبر.
مَكَانَةُ التَّابِعِيِّ المُجْتَهِدِ مَعَ الصَّحَابَةِ
(1)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإنما قلت: في مثل هذا؛ لأني أجوز القطع مع الخلاف، وذلك شأن [أكثر]
(2)
مسائل الأصول، ولكن هذا المكان دلائله كلها ظنيةٌ.
وأما أنه لا يقول: هو قَطْعِيّ؛ فلأنه أيضًا في محل الاجتهاد.
وقد فُهم عنه أنه قال: ليس بإجماع أصلًا أبي رحمه الله ونقله كذلك عنه في "شرح المهذب"، وناهيك بفهمه.
ويحتمل أن يريد أنه إجماعٌ ظنيٌّ، وإياه فهِم بعض الشَّارحين، ويكون ذهابًا منه إلى أن خلاف الأقل [غير]
(3)
معتبر في انتهاض الإجماع، وإن اعتبر في كونه غير قَطْعي كما قلنا: إن من قال: خلاف الأول غير معتبر لم يجعله إجماعًا قطعًا، وحينئذ لا يتَّجه قول الشيخ الإمام أبي رحمه الله.
ثم ذا يكون حجة؛ لأنا نقول: هو حجة؛ لكونه إجماعًا، ولكن الشيخ الإمام رضي الله عنه إنما رد عليه؛ لأنَّهُ فهم عنه الاحتمال الأول، وهو أنه ليس بإجماع أصلًا، ولعلَّه أظهر الاحتمالين وهو المذهب المصرّح بحكايته في "المستصفى"، و"الإحكام"، وغيرهما، والرد حينئذ صحيح؛ لأنَّهُ ليس بكتاب ولا سُنَّة ولا إجماع ولا قِيَاس ولا اسْتِصْحَاب، إلى غير ذلك من الأدلَّة المعروفة بين الأئمة، وليس لأحد أن يحدث في دين الله أمرًا وينصبه دليلًا يحتج به.
(1)
اعلم أنهم اختلفوا في صحة انعقاد إجماع الصحابة مع مخالفة التابعين إذا كان من أهل الاجتهاد وفي عصرهم، فذهب أحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، وبعض المتكلمين إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلًا، ولم يشر المصنف إلى هذا المذهب، لكنه يعلم من سياق كلامه. ورد الباقون وأحمد في روايته الأخرى وغيره من القائلين باشتراط الانقراض إلى اعتبار مخالفته إن كان من أهل الاجتهاد حالة إجماعهم، وهو الذي اختار المصنف، واستدل عليه، وإليه أشار بقوله:"التابعي المجتهد معتبر مع الصحابة" على معنى أنه لا يعتد بإجماعهم مع مخالفته وإن كان مجتهدًا حالة إجماعهم. ينظر شرح المختصر للقطب (4 - 2/ ب) وينظر: المحصول 2/ 1/ 251، والإحكام للآمدي 1/ 218، والمستصفى 2/ 185، والتبصرة 384، وشرح الكوكب 2/ 232، وإرشاد الفحول 81، وشرح العضد 2/ 35، وجمع الجوامع 2/ 179، وفواتح الرحموت 2/ 221.
(2)
سقط في ت.
(3)
سقط في ت.
مَسْأَلَةٌ:
التَّابِعِيُّ الْمُجْتَهِدُ مُعْتَبَرٌ مَعَ الصَّحَابَةِ،
فَإِنْ نَشَأَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ فَعَلَى، انْقِرَاضِ الْعَصْرِ.
لَنَا مَا تَقَدَّمَ.
وَاسْتُدِلَّ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ لَمْ يُسَوِّغُوا اجْتِهَادَهُ مَعَهُمْ، كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٍ، وَالحَسَنِ، وَمَسْرُوقٍ، وأَبِي وَائِلٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْ ...........
«مسألة»
الشرح: "التابعي المجتهد" إذا كان في عصر الصَّحابة، فقوله:"معتبر مع الصَّحابة" بحيث لا ينعقد إجماعهم دونه:
وقيل: لا، وهذا إذا كان مجتهدًا حالة الاختلاف.
"فإن نشأ
(1)
بعد" انعقاد "إجماعهم" على الحكم، "فعلى" الخلاف في "انقراض العَصْرِ".
هل يشترط؟.
"لنا" - على عدم الانْعِقَادِ في الصورة الأولى - "ما تقدم" من أنهم دونه بعض المؤمنين فلا تثبت
(2)
لهم العِصْمَةُ الثابتة للكلّ.
الشرح: "واستدلّ: لو لم يعتبر" قول التَّابعين المجتهدين مع الصَّحابة "لم يسوغوا اجتهادهم معهم"؛ لعدم الفائدة فيه على تَقْدِيرَي المُوَافقة والمُخَالفة، واللَّازم منتفٍ، فقد سوغوه لمجتهديهم جميعًا، كـ""سعيد بن المسيّب"، و"شريح"
(3)
، ....................
(1)
في أ، ح: يشأ.
(2)
في ت، ح: يثبت.
(3)
شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية الكندي أبو أمية الكوفي، مخضرم، ولى لعمر الكوفة، فقضى بها ستين سنة، وكان من جلة العلماء، وأذكى العالم، روى عن علي وابن مسعود. وعنه الشعبي، وأبو وائل، وثقه ابن معين، قال الشعبي: كان أعلم الناس بالقضاء، وقال ابن حصين: اختصم إليه رجلان فحكم على أحدهما، فقال: قد علمت من حيث أتيت، فقال شريح: لعن الله الراشي والمرتشي والكاذب. قال محمد بن نمير: مات سنة ثمانين على الأصح عن مائة وعشر سنين، وقيل: عشرين سنة. وينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 2/ 577، وتهذيب "التهذيب" =
أَبِي سَلَمَةَ: تَذَاكَرْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ لِلْوَفَاةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَبْعَدُ
و"مسروق"
(1)
، و"أبي وائل"
(2)
، و"الشعبي"، و"ابن جبير"
(3)
وغيرهم" فكانوا
(4)
يفتون بآرائهم في زمن الصَّحابة رضي الله عنهم من غير نظر إلى أنهم هل أجمعوا؟ وقد ملأ شُرَيح "الكوفة" أقضية
(5)
وعليٌّ بها لا ينكر عليه، وملأ ابن المسيّب "المدينة" فتاوى، وهي مشحونة
= 4/ 326، وتقريب "التهذيب" 1/ 349، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 447، والكاشف 2/ 9. وتاريخ البخاري الكبير 4/ 228، 229، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 149، 154، 167، 168 والجرح والتعديل 4/ ص 332، وأسد الغابة 2/ 517، وتجريد أسماء الصحابة: 1/ 256 والاستيعاب 2/ 701، والإصابة 3/ 396، والوافي بالوفيات 16/ 140، والبداية والنهاية 9/ 22.
(1)
مسروق بن الأجدع الهمداني أبو عائشة الكوفي الإمام القدوة. عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وطائفة. وعنه: زوجته قمير وأبو وائل والشعبي وخلق. قال أبو إسحاق: حج مسروق، فما نام إلا ساجدًا على وجهه، وقال ابن المديني: صلى خلف أبي بكر، وقال ابن معين: ثقة، لا يسأل عن مثله. قال ابن سعد: توفي سنة ثلاث وستين. ينظر: طبقات ابن سعد 4/ 113، وسير الأعلام 4/ 63، وتاريخ بغداد 13/ 232، ومعرفة الثقات (1709)، وتراجم الأحبار 3/ 330، وتهذيب الكمال 3/ 1320، وتهذيب "التهذيب" 10/ 110 (205)، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 21.
(2)
شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي، أحد سادة التابعين، مخضرم روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وطائفة. وعنه: الثعبي وعمرو بن مُرَّة ومغيرة بن مِقْسَم ومنصور وزبيد، تعلم القرآن في سنتين. قال عاصم بن بَهْدَلة. ما سمعته سب إنسانًا قط. وقال ابن معين: ثقة، لا يسأل عن مثله. قال خليفة: مات بعد الجماجم، وقال الواقدي: في خلافة عمر بن عبد العزيز. ينظر: تاريخ البخاري الكبير 4/ 245، والجرح والتعديل 4/ 161 والوافي بالوفيات 16/ 172، وطبقات ابن سعد 6/ 101، والثقات 4/ 354، ونهذيب الكمال 2/ 587.
(3)
سعيد بن جبير الوالبي، مولاهم الكوفي الفقيه أحد الأعلام، قال اللالكائي: ثقة إمام حجة. قال عبد الملك بن أبي سليمان: كان يختم كل ليلتين، قال ميمون بن مهران: مات سعيد وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. قتل سنة خمس وتسعين كهلًا؛ قتله الحجاج فما أُمهل بعده. قال خلف بن خليفة عن أبيه: شهدت مقتل ابن جبير؛ فلما بان الرأس قال: لا إله إلا الله لا إله إلا الله، فلما قالها الثالثة لم يتمها رضي الله عنه. ينظر: تهذيب الكمال 1/ 479، وتهذيب "التهذيب" 4/ 11، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 374 والكاشف 1/ 356، والثقات 4/ 275، وتاريخ البخاري الكبير 3/ 461، والحلية 4/ 272.
(4)
في ت،: وكانوا.
(5)
جمع قضاء، والقضاء له في اللغة معان كثيرة ترجع كلها إلى انقضاء الشيء وتمامه، فمن تلك =
الْأَجَلَيْنِ، وَقُلْتُ أَنَا بِالْوَضْعِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي.
بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا عطاء بـ"مكة"، والحسن وجابر بن زيد بـ"البصرة".
"وعن أبي
(1)
سلمة" بن عبد الرحمن
(2)
- كما رواه مُسْلم - "تذاكرت مع ابن عبَّاس وأبي
= المعاني: الأمر، نحو قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . أي أمر بذلك، ولا يصح أن يكون معنى قضى هنا حكم؛ أي قدر وعلم، وإلا لما تخلف أحد عن عبادته؛ لأن ما قدره تعالى وعلمه لا يتخلف. ومنها الأداء، نحو: قضيت الدين أي أديته. ومنها الفراغ نحو: قضى فلان الأمر، أي فرغ منه. ومنها الفعل نحو قوله تعالى:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} . أي افعل ما تريده. ومنها الإرادة نحو: فإذا قضى الله أمرًا. ومنها الموت نحو: قصى نحبه. ومنها العلم نحو: قضيت إليك كذا أي أعلمتك به. ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} . ومن هنا صح تسمية المفتي والقاضي قاضيًا؛ لأنهما معلمان بالحكم. ومنها الفصل نحو: قضى بينهما بالحق. ومنها الخلق نحو: قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} . أي خلقهن. ومنها الحكم نحو: قضيت عليك بكذا؛ أي حكمت عليك به. وهذا المعنى الأخير متلائم مع المعنى الاصطلاحي، فالقضاء في اللغة مشترك لفظي بين تلك المعاني السابقة، ومن يتأمل يدرك أن هذه المعاني متقاربة بعضها آيل إلى الآخَر، ويجمعها كلها انقضاء الشيء وتمامه.
واصطلاحًا:
عرفه الشافعية: بأنه فصل الخصومة بين خصمين بحكم الله تعالى.
وعرفه المالكية: بأنه صفة حكمية توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو تخريج لا في عموم مصالح المسلمين.
وعرفه الحنفية: بأنه إلزام على الغير بنية أو إقرار.
وعرفه الحنابلة: بأنه إلزام بالحكم الشرعي وفصل الخصومات. ينظر: تاج العروس 10/ 296، والمصباح المنير 2/ 781، وحاشية الباجوري 2/ 335، والدرر 2/ 404، وحاشية الخرشي 7/ 138، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/ 129، والفقهاء ص (228)، وكشاف القناع 6/ 285.
(1)
في حاشية ج: قوله: وعن أبي سلمة هو تابعي، وقوله: مع اختلافهم أي كما في هذه المسألة.
(2)
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني أحد الأعلام. قال عمرو بن علي: ليس له اسم. عن أبيه وأسامة بن زيد وأبي أيوب وخلق. وعنه ابنه عمر وعروة والأعرج والشعبي والزهري وخلق. قال ابن سعد: كان ثقة فقيهًا كثير الحديث، ونقل الحاكم أبو عبد الله أنه أحد الفقهاء السبعة عن أكثر أهل الأخبار. مات سنة أربع وتسعين. وقال الفلاس: سنة أربع ومائة. ينظر: الخلاصة 3/ 221 (240).
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَوَّغُوهُ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ.
هريرة في عدَّة الحامل للوفاة
(1)
، فقال ابن عباس": عدتها أبعد الأجلين.
(1)
اعلم أن المرأة إذا توفي عنها زوجها المسلم وكانت معه في نكاح صحيح متفق على صحته بل وإن كان مختلفًا فيه، فلا يخلو إما أن تكون حرة أو أمة، فإن كانت حرة وهي غير حامل فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام أو كان الزوج حرًّا أو عبدًا صغيرًا أو كبيرًا، دخل بها أو لا، صغيرة كانت أو كبيرة، مسلمة أو كتابية، مات عنها وهي في عصمته أو كانت مطلقة طلاقًا رجعيًا ومات في أثناء عدتها، فإنها تنتقل لعدة الوفاة لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وإنما جعلت العدة هذه المدة لتحرك الجنين غالبًا في الأشهر الأربعة؛ وزيدت العشر لأنها قد تتأخر حركة الجنين عنها.
وتكتفي المتوفى عنها بأربعة أشهر وعشر إن لم يدخل بها من غير تفصيل، أو دخل بها وكانت مأمونة الحمل إما من جهته كما إذا كان صغيرًا أو مجبوبًا ونحو ذلك، ولا تنتظر حيضًا لأنها إنما تنتظر الحيض خشية الحمل ولا حمل هنا، وإمّا من جهتها كما إذا كانت صغيرة أو يائسة. أما إذا كانت مدخولًا بها ولم تكن مأمونة الحمل بأن كبرت وزوجها بالغ غير مجبوب ونحوه فتكتفي بهذه المدة بشرطين: الأول إن تمت الأربعة الأشهر والعشر قبل زمن حيضتها بأن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة، وتوفى عنها زوجها عقب طهرها، أولم تتم الأربعة الأشهر والعشر قبل مجيئها، وأتاها الحيض فيها أو تأخر لرضاع كما إذا كانت عادتها أن يأتيها الحيض أثناء المدة المذكورة إلا أنه تأخر لرضاع سابق على الموت.
الثاني: أن تقول النساء إذا رأينها بعد تمام الأربعة الأشهر والعشر قبل زمن حيضتها أنه لا ريبة حمل بها، فإذا تحقق هذان الشرطان فإنها تحق للأزواج في هذه المسائل المذكورة بمضي هذه المدة. ولا تنتظر حيضة إلا أنه في المرضع لا يحتاج لسؤال النساء أنه لا ريبة بها. أما إذانت مدخولًا بها لم يؤمن حملها ولم تتم الأربعة الأشهر والعشر قبل زمن حيضتها بأن كانت عادتها أن تحيض في أثنائها، وتأخر عن عادته بلا سبب أو بسبب كمرض أو استحيضت ولم تميز، وكانت عادتها قبل الاستحاضة أن يأتيها الحيض قبل زمن عدتها، أنا إذا كانت عادتها قبل الاستحاضة إتيانه بعد مضي زمن العدة، فإنها تعتد بأربعة أشهر وعشر كما هو ظاهر كلامهم، وذلك أنهم جعلوا من عادتها تأخر زمن حيضها عن زمن العدة تعتد بأربعة أشهر وعشر، وظاهره سواء كانت مستحاضة مميزة أم لا أو غير مستحاضة أو تمت المدة المذكورة قبل زمن حيضها لكن قال النساء عند رؤيتهن لها: بها ريبة حمل أو ارتابت من نفسها فلا تكتفي بأربعة أشهر وعشرة أيام بل تنتظر الحيضة أو تمام تسعة أشهر؛ لأنها مدة الحمل غالبًا؛ فتحل بالسابق منهما، وذلك أن تأخير الحيضة عن وقتها ولولمرض أو استحاضة مع عدم التمييز وقول النساء: بها ريبة أوجب الشك في حملها؛ فلا تحل إلا بالحيضة أو =
إِجْمَاعُ أَهْلِ المَدِينَةِ
مَسْألَةٌ:
إِجْمَاعُ "الْمَدِينَةِ" مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكِ.
وقلت: أنا بالوضع. فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي"، يعني: أبا سلمة.
والآثار في هذا كثيرة.
"وأجيب: بأنهم إنما سَوَّغوه مع اختلافهم"، لا مع اتفاقهم الذي هو مَحَلّ النزاع.
وفيه نظر: فإن اتفاقهم لو منعهم الاجتهاد لسألوا عنه قبل إقدامهم، وكانوا لا يسألون قطعًا.
وما روي من أَنَّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنكرت على أبي سلمة دخوله بين الصَّحابة، ومنازعته لابن عباس، وقولها له: أراك كالفَرُّوج تصيح مع الدِّيَكَةِ.
ومن أن عليًّا رضي الله عنه نقض حكم شُرَيح حين قضى بين ابني عم أحدهما أخ لأم أن المال للأخ من الأم، فالأول محمول على أنه لم يبلغ منزلتهم، فأحبت له الاحتياط.
وهذا أبو هريرة قد [نقلنا عنه ما]
(1)
نقلناه.
والثَّاني: لم يصح، وإن ثبت فلعلّه كان مسبوقًا بإجماع.
«مسألة»
الشرح: "إجماع "المدينة" من الصَّحابة والتابعين حُجَّة عند مالك"
(2)
.
= تسعة أشهر. فإن لم تزد الريبة حلت بالسابق منهما، وإن زادت انتظرت رفعها أو أقصى أمد الحمل إن لم ترتفع، فإن جزم بالحمل فلا تحل للأزواج إلا بعد وضعه ثم زمن الانتظار عدة.
(1)
سقط في ت.
(2)
هذه المسألة في أن إجماع أهل المدينة هل هو حجة أم لا؟ اختلفوا فيه، فذهب الأكثرون إلى أن إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجة، ونقل أصحاب المقالات عن مالك أنه كان يرى اتفاق أهل المدينة - يعني علماءها أو الصحابة أو الصحابة والتابعين على ما قال المصنف - حجة، ولما كان الظن بمالك أنه لا يقول بما تصله النقلة عنه؛ لأن أدلة الإجماع لا تنهض بهم وحدهم؛ لكونهم بعض الأمة لا كلهم على ما مر غير مرة، وهذا هو حجة الأكثر على فساد مذهبه، لكن قد علمت مما أسلفناك أن هذا إنما يتم أن لو انحصرت أدلة الإجماع في السعي، ولم يكن عليه دليلٌ عقلي على ما سيقوله المصنف - اعتذر عنه بعض أصحابه بأن هذا النقل ليس محمولًا على ظاهره، بل هو =
وَقِيلَ: مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ رِوَايَتهُمْ مُتَقَدِّمَةٌ.
وَقِيلَ: عَلَى الْمَنْقُولَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَالْأَذَانِ وَالإِقَامَةِ، وَالصَّحِيحُ التَّعْمِيمُ.
وقد أنكره من أصحابه: أبو بكر، وأبو يعقوب الرَّازي، وأبو بكر بن المنتاب
(1)
، والطَّيالسيُّ والقاضي أبو الفرج
(2)
، والقاضي أبو بكر، وقالوا: ليس مذهبًا له.
"وقيل": قول مالك حُجَّة "محمول على أن روايتهم متقدِّمة" على غيرهم.
ونقل ابنُ السَّمْعَاني وغيره: أن للشَّافعي في القديم ما يدلّ على هذا.
"وقيل: على المَنْقُولات المستمرّة، كالأذان والإقامة.
والصَّحيح التعميم" في الصُّورتين المذكورتين وغيرهما مما طريقه الاجتهاد والاستدلال، وهو رأي أكثر المَغَاربة من أصحابه، وتبعهم المصنّف.
= محمول على أن روايتهم متقدمة على رواية غيرهم؛ لكونهم أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى بالحفظ، وأخبر من غيرهم بمواقع الأخبار وتواريخها، وفبه بعد لأن اللفظ لا ينبئ عنه، ولذلك قال آخرون من أصحابه: هو محمول على ظاهره، لكن ليس المراد - أن إجماعهم على كل شيء حجة؛ بل على المنقولات المستمرة كالأذان والإقامة والصاع، والمدعى أنهم لو أجمعوا على كون الإقامة فرادى يجب على الكل اتباعهم، بخلاف ما لو أجمعوا على ما لا يتكرر وجوده كثيرًا، فإن إجماعهم في مثله لا يكون حجة. ينظر: الشيرازي 206 أ/ خ. وينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 483، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 720، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 720، ونهاية السول للإسنوي 3/ 263، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 397، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 68، والمنخول للغزالي 314، والمستصفى له 1/ 187، وحاشية البناني 2/ 179، والإبهاج لابن السبكي 2/ 364، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 291، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 212 وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 480، والتحرير لابن الهمام 407، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 244 وكشف الأسرار للنسفي 2/ 185، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 35، وإرشاد الفحول للشوكاني 82، والكوكب المنير للفتوحي 232، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 100.
(1)
في أ: منتان.
(2)
أبو الفرج عمرو بن محمد بن عمرو الليثي القاضي، ويقال: ابن محمد بن عبد الله البغدادي هذا صحيح اسمه، ووهم من سمَّاه محمدًا. نشا ببغداد، وأصله من البصرة، صحب إسماعيل، وتفقه معه، وصحب غيره من المالكيين، وولي قضاء بعض البلاد، كان لغويًا فقيهًا متقدّمًا. وله الكتاب المعروف "بالحاوي" في مذهب مالك، روى عنه كثير توفي سنة - 331 هـ. ينظر: الديباج 2/ 127.
وَاسْتُدِلَّ بِنَحْوِ: "إِنَّ الْمَدِينَةَ طَيِّبَةٌ تَنْفِي خَبَثَهَا، [كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ"]، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَبِتَشْبِيهِ عَمَلِهِمْ بِرِوَايَتِهِمْ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ تَمْثِيلٌ لَا دَلِيلٌ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ تُرَجَّحُ بِالكَثْرَةِ بِخِلَافِ الاجْتِهَادِ.
قالوا: وفي رسالة مالك إلى الليث بن سعد
(1)
ما يدلّ عليه، قالوا: وليس قطعيّا، بل ظني يقدم
(2)
على خبر الواحد والقياس.
وذهب القاضي عبد الوَهَّاب إلى أن اجتهادهم ليس بِحُجَّة، ولكن يقدم على اجتهاد غيره، والحق عندنا ما عليه جماهير الأمة من أن البِقَاعَ لا تعصم ساكنيها، وأنه لا فرق بين "المدينة"، وغيرها. وبالجملة من ادَّعى أن إجماع المدينة حجة فقد استمر على لجاج ظاهر.
الشرح: "واستدل بنحو: إن "المدينة" طيبة تنفي خبثها"، والخطأ خبث فيكون منفيًا عنها، والحديث في "الصحيحين" ولفظه:"إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِينُهَا"
(3)
، وأما نحوه فمثل:"إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا" رواه مسلم "وهو بعيد"، فإنَّ الباطلَ قد يوجد فيها بلا ريب، فلو اطّلع مطلعٌ على ما يجري بين لابَّتَّيْهَا من المخازي قضى
(1)
ليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْمي مولاهم الإمام، عالم مصر، وفقيهها ورئيسها. عن سعيد المقبري وعطاء ونافع وقتادة والزهري وصفوان بن سليم وخلائق. وعنه ابن عَجْلان وابن لهيعة وهشيم وابن المبارك والوليد بن مسلم وابن وَهْب وأمم. قال ابن بكير: هو أفقه من مالك. وقال محمد بن رمح: كان دخل الليث ثمانين الف دينار ما وجبت عليه زكاة قط. وثقه أحمد وابن معين والناس قال ابن بكير: ولد سنة أربع وتسعين، وتوفي سنة خمس وسبعين ومائة. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 3/ 1152، وتهذيب "التهذيب" 8/ 459 (832)، وتقريب "التهذيب" 2/ 138، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 371، والكاشف 2/ 13، وتاريخ البخاري الكبير 7/ 246، وتاريخ البحاري الصغير 2/ 209 والجرح والتعديل 7/ 1015، وميزان الاعتدال 3/ 423، ولسان الميزان 7/ 347، وسير الأعلام 8/ 136، والحلية 7/ 318، والثقات 7/ 36، وتراجم الأحبار 3/ 307، 311، وطبقات ابن سعد 7/ 316، 338، 340، 342، 379، 518، وتاريخ بغداد 3/ 13، ومعرفة الثقات 1565، ونسيم الرياض 2/ 127.
(2)
في. ت، ح: تقدم.
(3)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 886، وكتاب الجامع: باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها (4)، والبخاري 13/ 213، كتاب الأحكام: باب من بايع ثم استقال البيعة (7211)، ومسلم (2/ 1006) كتاب الحج: باب المدينة تنفي شرارها (489 - 1383).
مَسْأَلَةٌ:
لَا يَنْعَقِدُ الإجْمَاعُ بِأَهْلِ الْبيَتِ وَحْدَهُمْ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ، وَلَا بِالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ خِلَافًا لأِحْمَدَ، وَلَا بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.
العجب، فيجب حمله على أنها في نفسها فاضلة مباركة، واستدل أيضًا "بتشبيه عملهم بروايتهم" فإنها مقدمة، فليكن العلم كذلك، "ورد بأنه تمثيل" وتشبيه شيء بشيء "لا دليلٌ مع أن" الفارق أن "الرواية ترجح بالكثرة بخلاف الاجتهاد"، وهو أكثر علمًا، وهذا على تقدير أن روايتهم مقدمة، ومن ذا يسلمه، والأكثرية ممنوعة.
«مسألة»
الشرح: "لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم خلافًا للشيعة
(1)
، ولا بالأئمة الأربعة عند الأكثرين خلافًا لأحمد، ولا بأبي بكر وعمر، وعند الأكثرين" خلافًا للقاضي أبي خازم الحنفي بالخاء والزاي المعجمتين
(2)
، "قالوا": استدلالًا على إجماع الأربعة. قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ""عَلَيْكُمْ بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي""
(3)
، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي
(1)
الجمهور على أنه لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم؛ خلافًا للزيدية وللإمامية من الشيعة وأهل البيت علي وفاطمة والحسنان والخلفاء كذلك ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 490، وسلاسل الذهب للزركشي 349، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 223، ونهاية السول للإسنوي 3/ 265، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 401، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 70، وحاشية البناني 2/ 179، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 292، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 213، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/ 584، والتحرير لابن الهمام 406، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 242، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 184، والكوكب المنير للفتوحي 232، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 98.
(2)
حتَّى إنه رد على ذوي الأرحام أموالًا بعد القضاء بها لبيت المال متمسكًا بإجماع الخلفاء على توريث ذوي الأرحام عند عدم ذوي الفروض والعصبات، وذلك في خلافة المعتضد بالله.
(3)
من حديث العرباض بن سارية أخرجه أبو داود 4/ 200، 201 في كتاب السنة، باب في لزوم السنة حديث (4607)، وأخرجه الترمذي 5/ 43 في العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع حديث (2676) وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجة 1/ 15 - 17 في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين حديث (42، 43، 44)، وأحمد في المسند 4/ 126، 127، والدارمي =
قَالُوا: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي""اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي". قُلْنَا: يَدُلُّ عَلَى أَهْلِيَّةِ اتِّبَاعِ المُقَلّدِ، وَمُعَارَضٌ بِمِثْلِ:"أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ [بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ] "، وَخُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنْ [هذِهِ] الْحُمَيْرَاءِ.
لَنَا أَنَّ الْعَادَةَ تَقْضِي بِأَنَّ مِثْلَ هذَا الْجَمْعِ الْمُنْحَصِرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ اللَّاحِقِينَ بِالاِجْتِهَادِ لَا يُجْمِعُونَ إِلَّا عَنْ رَاجِحٍ.
وصححه والحاكم على شرط الشيخين، وليس في لفظه "مِنْ بَعْدِي" كما وقع في الكتاب واستدلالًا على إجماع الشيخين
(1)
.
قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ""اقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي" أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ"
(2)
رواه أحمدُ والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن
(3)
.
الشرح: قال: "لنا أن العَادَةَ تقضي في مثل هذا الجمع المُنْحصر من العلماء اللاحقين" من غيرهم "بالاجتهاد" بسُكْنَاهم في مهبط الوَحْي، ومشاهدتهم معاهد التنزيل، "لا يجمعون إلا عن راجح"، فيكون دليلًا شرعيًّا.
وقال: مثل هذا الجمع، لينبّه على أن "المدينة" لا خصوصيةَ لها، وإنما اتفق فيها ذلك، ولو اتفق مثله في غيرها قِيلَ به.
وقال: المُنْحَصِرُ؛ لأنهم لو تفرقت بهم النَّواحي، ولم يجتمعوا في مكان واحد لم يطلعوا على الرَّاجح؛ لأنَّهُ لا سَبِيلَ لهم مع التفرُّق إلى الاجتماع والتَّشَاور والاتفاق.
"فإن قيل": هَبْ أنهم لا يجمعون عن رَاجِحٍ، ولكن "يجوز أن يكون مستمسك غيرهم أرجح، ولم يطلع عليه بعضهم".
= 1/ 44، 45، في المقدمة باب اتباع السنة، والحاكم في المستدرك 1/ 96 في كتاب العلم، وأبو نعيم في الحلية 5/ 220 و 10/ 115، وقال الحافظ ابن كثير في "تحفة الطالب" ص (163): صححه الحافظ أبو نعيم والدغولي، وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه.
(1)
وتقريره: أنه يفيد وجوب اتباع طريقتهم وحرمة مخالفتهم.
(2)
تقريره: أنه يفيد وجوب اتباعهم وحرمة مخالفتهم، والجواب عنهما أنهما يدلان على أهلية الأربعة أو الاثنين لقليد المقلد لهم، لا على حجية قولهم على المجتهد.
(3)
تقدم.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَمَسَّكُ غَيْرِهِمْ أَرْجَحَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ.
"قلنا: العادة تقضي باطِّلاع الأكثر" - وأهل"المدينة" أكثر -، "والأكثر كافٍ فيما تقدّم" من كون إجماعهم حُجَّة.
ولقائل أن يقول: كان العلماء في "الكوفة" و"البصرة" أكثر، وهذا ظاهر، فيلزمكم أن يكون قولهم حجَّة، وأن هذا الجمع المنحصر إذا حصلوا ببلدة أخرى كانت أقاويلهم حجَّة، ودليلك وإن اقتضى التزامه لأنا لا نعرفه صرحًا به عن مالك.
وقولك أولًا: إنه أحق - ممنوع -، فقد كان فيمن هو ناء عن "المدينة" بعد موت عثمان رضي الله عنه من [هو]
(1)
أفضل من ساكنيها، كَعَلِيّ، وجماعة كانوا بـ"مكة"، و"البصرة"، و "الكوفة"، وغيرها.
وقولكم: مهبط الوحي ومُشَاهدة التنزيل هذا إنما الاعتبارية بالمشاهدة، لإمكان المشاهدة، فإن الجدران لا تخبرنا ولا تحدثنا، والمشاهدون لم ينحصروا في "المدينة"، بل كان الخارج عنها أكثر بلا ريبٍ، وكذلك
(2)
من أدركهم من التابعين وهلمَّ جَرّا.
قلنا: إنما يدلُّ ما رويتم على أهلية اتباع المقلد - أي: أهلية الأربعة في الحديث الأول، والشيخين في الثاني -؛ لاتباع المقلّد لهم أو لهما.
ومعارَض أيضًا بمثل ما روى ابن مَنْدَه في "أماليه" من قوله صلى الله عليه وسلم: "أصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُم"
(3)
وفي سنده مجاهيل.
(1)
سقط في ح.
(2)
في ت، ح: ولذلك.
(3)
أخرجه عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة النصيبي عن نافع عن ابن عمر، وحمزة ضعيف جدًّا، ورواه الدارقطني في "غرائب مالك" من طريق جميل بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، وجميل لا يعرف، ولا أصل له في حديث مالك ولا من فوقه، وذكره البزار من رواية عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر وعبد الرحيم كذاب، ومن حديث أنس أيضًا وإسناده واهٍ، ورواه القضاعي في مسند الشهاب له من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، وهو كذاب. ورواه أبو ذر الهروي في كتاب السنة من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعًا، وهو في غاية الضعف، قال أبو بكر البزار: هذا الكلام لم يصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال ابن حزم: هذا خبر مكذوب موضوع باطل، وقال البيهقي في الاعتقاد عقب حديث أبي موسى الأشعري الذي أخرجه مسلم في =
قُلْنَا: الْعَادَةُ تَقْضِي بِاطِّلَاعِ الْأَكْثَرِ، وَالْأَكْثَرُ كَافٍ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وروى نُعَيْمٍ بن حَمَّاد الخُزَاعي
(1)
عن عبد الرَّحيم
(2)
بن زيد العَمِيّ
(3)
- وهو ضعيف - عن
= فضائل الصحابة (207) بلفظ: "النجوم أمنة أهل السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" قال البيهقي: روى في حديث موصول بإسناد غير قوي - يعني حديث عبد الرحيم العمي وفي حديث منقطع - بعني حديث الضحاك بن مزاحم: "مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء، من أخذ بنجم منها اهتدى" قال: والذي رويناه ههنا من الحديث الصحيح يؤدي بعض معناه، قلت: صدق البيهقي، هو يؤدي صحة الله للصحابة بالنجوم خاصة، أما في الاقتداء فلا يظهر في حديث أبي موسى، نعم يمكن أن يتلمح لك من معنى الاهتداء بالنجوم، وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة، من طمس السنن وظهور البدع، وفشو الفجور في أقطار الأرض، والله المستعان. وقال الحافظ ابن كثير في تحفة الطالب ص 166:"وهذا الحديث لم يروه أحد من أهل الكتب الستة، وهو ضعيف". ينظر: ميزان الذهبي (1511، 2299)، ولسان الميزان للحافظ ابن حجر 2/ 488، والتلخيص له 4/ 190.
(1)
نُعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخزاعي، أبو عبد الله المَرْوَزي، الحافظ صاحب التصانيف. عن: أبي حمزة السكري وإبراهيم بن طهمان وابن المبارك وخلق. وعنه: البخاري تعليقًا وابن معين والذهلي وطائفة. وثقه أحمد ويحيى والعجلي، وذكره ابن عدي في الكامل، وذكر له أحاديث منكرة ثم قال: وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيمًا. قال ابن سعد: مات في السجن سنة ثمان وعشرين ومائتين. ينظر: تهذيب الكمال 3/ 1419، وتهذيب التهذيب 10/ 458 (831)، والكاشف 3/ 207، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 97، وتاريخ البخاري الكبير 8/ 100، والجرح والتعديل 8/ 2125، وضعفاء ابن الجوزي 3/ 164 وتاريخ بغداد 13/ 306، والبداية والنهاية 10/ 302.
(2)
عبد الرحيم بن زيد العَمِّي. عن أبيه. وعنه: مَرْحُوم العَطَّار. قال البخاري: تركوه. ينظر: تاريخ البخاري الكبير 6/ 104، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 160، وتقريب "التهذيب" 1/ 504 (1174)، والجرح والتعديل 5/ 1603، وسير الأعلام 8/ 351.
(3)
زيد بن الحَوَارِيِّ العَمِّي، أبو الحواري البصري، قاضي "هراة"؛ روى عن: أنس وابن المسيب. وروى عنه: شعبة والثوري ومسعر ضعفه أبو حاتم والنسائي وابن عدي، وقال أحمد والدارقطني: صالح. ينظر: الجرح والتعديل 3/ 2535، وتهذيب الكمال 1/ 452 وتهذيب "التهذيب" 3/ 407، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 351، والكاشف 1/ 338 وتاريخ البخاري الكبير 3/ 392 وتقريب التهذيب 1/ 274.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أبيه - وفيه نظر عن سعيد بن المُسَيَّب عن عمرو
(1)
- وهو منقطع، فإن سعيدًا لم يدرك عَمْرًا أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"سَأَلْتُ رَبِّي فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابِي مِنْ بَعْدِي فقال: يا محمد، إِنَّ أَصْحَابَكَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاء بَعْضُهَا أَضْوَأُ مِنْ بَعْضٍ"
(2)
فَمَنْ أخذ بشيء مما هم عليه على اختلافهم عندي على هذا.
وروى الدَّارمي
(3)
وابن عَدِيّ
(4)
من رواية حمزة الجريري عن .................
(1)
عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعيد بن سَهم بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَيّ السهمي، أبو محمد الأمير. له تسعة وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثلاثة. وعنه: ابنه عبد الله وقيس بن أبي حازم. أسلم عند النجاشي وقدم مهاجرًا في صفر سنة ثمان، فأمره النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل. عن طلحة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"عمرو بن العاص من صالحي قريش". قال جماعة: مات سنة ثلاث وأربعين، ودفن بالمُقَطَّم وخلف أموالًا جزيلة. ينظر: البدابة والنهاية 8/ 25، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 288، والجرح والتعديل 6/ 242، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 411، وطبقات ابن سعد 9/ 140.
(2)
هذا الحديث لم يروه أحد من أهل الكتب الستة، وهو ضعيف، قال يحيى بن معين: عبد الرحيم بن زيد العمي كذاب، وقال مرة: ليس بشيء، وقال البخاري: تركوه. وقال أبو حاتم: ترك حديثه، وقال أبو زرعة: واهي الحديث، وقال أبو داود: ضعيف الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال ابن عدي: أحاديثه لا يتابعه الثقات عليها، قلت: وأبوه ضعيف أيضًا ومع هذا كله فهو منقطع؛ لأن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر شيئًا، وقد روى هذا الحديث من غير طريق، من رواية ابن عمر، وابن عباس، وجابر، ولا يصح شيء منها، وقد يفهم من كتاب عثمان بن سعيد الدارمي في أول كتابه الرد على الجمهية تقويته. ذكره الحافظ ابن حجر في الموافقة بإسناده إلى نعيم بن حماد به وقال: رواه البيهقي من طريق نعيم بن حماد أيضًا، وقال الزركشي في المعتبر: ورواه الدارمي في مسنده وابن عدي في كامله، قال الحافظ في الموافقة: وهو حديث غريب، وقد سئل البزار عن هذا الحديث فقال: لا يصح هذا الكلام عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
(3)
عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام التميمي الدارمي السمرقندي، أبو محمد من حفاظ الحديث، سمع بالحجاز والشام ومصر والعراق وخراسان من خلق كثير، واستقضى على سمرقند، فقضى قضية واحدة، واستعفى فأعفى، كان عاقلًا فاضلًا مفسرًا فقيهًا أظهر علم الحديث والآثار بـ"سمرقند". من تصانيفه: المسند الجامع الصحيح، ويسمى "سنن الدارمي"، الثلاثيات. ولد سنة 181 هـ، وتوفي سنة 255 هـ. ينظر: تذكرة الحفاظ 2/ 105، وتهذيب "التهذيب" 5/ 294، والأعلام 4/ 95.
(4)
أبو أحمد عبد الله بن عدي بن محمد بن المبارك، الجرجاني، الحافظ، ويعرف بـ "ابن القطان"، أحد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نافع
(1)
عن ابن عمر مرفوعًا: "أَصحَابِي مِثْلُ النُّجُومِ فَأَيُّهُمْ أَخَذْتُمْ بِقَوْلهِ اهْتَدَيْتُمْ"، وحمزة ضعيف، وقد أشار الدَّارمي إلى تقوية الحديث.
ووجه معارضته: أنه يقتضي على مَسَاق قولهم: أن يكون قول كل واحد منهم حجة، ولما يقولوا به.
وكذا حديث: "خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الحُمَيْرَاءِ"
(2)
- يعني: عائشة - يقتضي أن يكون قولها حُجَّة بالطريقة التي ذكروها، ولم يقولوا به، وهذا الحديث لا يُعْرَف.
وكان شيخنا أبو الحَجَّاج المزّي
(3)
رحمه الله يقول: كل حديث فيه لفظ "الحُمَيْراء" لا أصل له إِلَّا حديثًا واحدًا في "النَّسَائي".
= الأئمة الأعلام، طوف البلاد في طلب العلم، وسمع الكبار، له كتاب "الكامل في ضعفاء الرجال"، وله كتاب "الانتصار" على مختصر المزني، قال الذهبي: وأما في العلل والرجال فحافظ لا يجاري. ولد سنة 277، ومات سنة 365. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 140، وطبقات السبكي 2/ 223، وتذكرة الحفاظ 3/ 140.
(1)
نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو سهيل المدني، عن ابن عمر وأنس وعنه ابن أخيه مالك بن أنس والزهري. وثقه أبو حاتم وغيره. قال الواقدي: هلك في إمارة أبي العباس. ينظر: تاريخ الإسلام 5/ 307، والثقات 5/ 471، وتراجم الأحبار 4/ 139، وتاريخ أسماء الثقات (1473)، وسير الأعلام 5/ 283، وتهذيب الكمال 3/ 1404، وتهذيب "التهذيب" 10/ 409 (737)، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 89، والكاشف 3/ 197.
(2)
قال ابن كثير في "تحفة الطالب": حديث غريب جدًّا بل هو منكر، سألت عنه شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي فلم يعرفه، وقال: لم أقف له على سند إلى الآن، وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها إسناد. "الحديث ذكره السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص (198) وقال: قال شيخنا - أي ابن حجر -: لا أعرف له إسنادًا، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ذكره في مادة ح م ر ولم يذكر من خرجه، ورأيته أيضًا في كتاب الفردوس لكن بغير لفظه، وذكره من حديث أنس بغير إسناد أيضًا، ولفظه: "خذوا ثلث دينكم من الحميراء" وبيض له صاحب مسند الفردوس، فلم يخرج له إسنادًا.
(3)
يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين بن الزكي، أبي محمد القضاعي الكلبي المزي. محدث الديار الشامية في عصره، ولد بظاهر حلب سنة 654 هـ، ونشأ بـ"المزة"(من ضواحي دمشق)، مهر في اللغة ثم في الحديث ومعرفة رجاله. قال ابن ناصر الدين: قال =
الْكَلَامُ فِي عَدَدِ التَّوَاتُرِ
مَسْأَلَةٌ:
لَا يُشْتَرَطُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.
«مسألة»
الشرح: "لا يشترط [عدد]
(1)
التَّواتر عند الأكثر"
(2)
.
وهو قول كل من استدلّ على حجّية الإجماع بالسمع، دون من استدلّ بالعادة، كإمام الحرمين.
وأما المصنّف فاختاره هنا مع استدلاله بالعَادَةِ، ثم ادَّعى أنها قاضية بذلك، وإن لم يبلغ المجمعون
(3)
عدد التَّوَاتر كما تقدّم منه على ما فيه.
وقال هنا: "لنا دليلٌ
(4)
السَّمع"، وقد كان يكفيه دليلٌ العادة لو تَّم له.
= الحافظ الذهبي: أحفظ من رأيت أربعة: ابن دقيق العيد، والدمياطي، وابن تيمية، والمزي. من تصانيفه:"تهذيب الكمال في أسماء الرجال"، و"تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" و"المنتقى من الأحاديث". وتوفي بدمشق سنة 742 هـ. ينظر: الأعلام 8/ 236، وفهرس الفهارس 1/ 107، والدرر الكامنة 4/ 457، والنجوم الزاهرة 10/ 76، ومفتاح السعادة 2/ 224، ومفتاح الكنوز 1/ 41.
(1)
سقط في ح.
(2)
اختار الأكثر أنه لا يشترط في حجية الإجماع بلوغ المجمعين عدد التواتر، وليس المراد بعدد التواتر عددًا معينًا محصورًا، بل المراد عدد لو أخبروا في محسوس وقع العلم الضروري. ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 231، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 566، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 14، ونهاية السول للإسنوي 3/ 54، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 296، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 95، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 95، والمنخول للغزالي 231، والمستصفى له 1/ 132 وحاشية البناني 2/ 119، والإبهاج لابن السبكي 2/ 263، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 206، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 147، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 86، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 101، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 32، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 4، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 3، وشرح المنار لابن ملك 78، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 627، وتقريب الوصول لابن جزي 119، وإرشاد الفحول للشوكاني 46.
(3)
في ت، ح: المحققون.
(4)
في ت، ح: ويل.
لَنَا: دَلِيلُ السَّمْعِ، فَلَوْ لَمْ يَبْقَ إِلّا وَاحِدٌ، فَقِيلَ: حُجَّةٌ؛ لِمَضْمُونِ السَّمْعِيِّ، وَقِيل: لَا؛ لِمَعْنَى الاِجْتِمَاعِ.
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا أَفْتَى وَاحِدٌ وَعَرَفُوا بِهِ،
وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ، ...........
وأنا أقول: إنه لا يمنع انتهاض السَّمع إلا على القَطْعِ، وهذه مسألة ظنية فأكتفي فيها بدليل السمع، بخلاف أصل كون الإجماع حُجَّة، ونحن لا نشترط عدد التواتر إلا في انتهاض [كون]
(1)
الإجماع قطعيًّا دون انتهاضه ظنيًّا، وهذا كله إذا صدق اتفق أهل العصر.
"فلو لم يَبْقَ إلا واحد فقيل: حجة؛ لمضمون" الدليل "السَّمعي"، فإنه دلَّ على أن قول الأمة حُجَّة، والأمة كما تطلق على الجَمَاعَةِ تطلق على الواحد قال - تعالى -:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} .
"وقيل: لا" يكون قوله حُجَّة؛ "لمعنى الاجتماع" الذي يقتضيه لفظ الإجماع، فإنه لا بد أن يكون من اثنين فصاعدًا، وصدق الأمة على الواحد مجاز، وإلا يلزم الاشتراك لصدقه بالحقيقة على الجماعة.
الشرح: "إذا أفتى واحدٌ" في المَسَائل التكليفية
(2)
، "وعرفوا به، ولم ينكره أحد" بل سكتوا
(1)
سقط في ت، ح.
(2)
هذه المسألة في أنه إذا ذهب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم في مسألة قبل استقرار المذهب على حكم تلك المسألة بنحو إجماع وغيره، وعرف به أهل عصره، ولم ينكر عليه منكر، فهل يكون إجماعًا أم لا؟ اختلفوا فيه. ولقد أطال الإمام رحمه الله النفس في تقرير محل النزاع في هذه المسألة، كما ستراه مبسوطًا من خلال كلامه. ينظر: الشيرازي 209 خ، والبحر المحيط للزركشي 4/ 503، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 697، وسلاسل الذهب للزركشي 360، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 228 - 229، ونهاية السول للإسنوي 3/ 297، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 420، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 108، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 66، والمنخول للغزالي 318، والمستصفى له 1/ 191، وحاشية البناني 2/ 187، والإبهاج لابن السبكي 2/ 379 والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 297، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 221، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 194، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 739، وإرشاد الفحول للشوكاني 84، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 101.
فإجْمَاعٌ أَوْ حُجَّةٌ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه لَيْسَ إِجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً، وَعَنْهُ خِلَافُهُ.
عنه سكوتًا مجردًا غير مستصحب فعلًا ولا أمارة رضى ولا سخط، ومضى قدر مهلة النظر عادة في تلك الحادثة، ولم يتكرر ذلك مع طول الزَّمان، وكان ذلك القول واقعًا في محل الاجتهاد "قبل استقرار المَذَاهب فإجماع" قطعي، "أو حُجَّة" ظنية، فيحتج به على التقديرين.
ونحن مترددون في أيِّهما أرجح، وفي تسميته إجماعًا على القول بأنه حُجَّة ظنّية لا إجماع قطعي خلاف لفظي - حكاه الأستاذ أبو إسْحَاق والبندنيجي -، ذهب الصَّيرفّي إلى أنه لا يسمى، وخصَّ اسم الإجماع بما كان قطعيًّا، وخالفه غيره.
"وعن الشَّافعي رضي الله عنه ليس إجماعًا ولا حُجَّة"، وهو رأي القاضي، "وعنه خلافه" وهو [أنه]
(1)
إجماع، وسنتكلّم على ذلك إن شاء الله تعالى.
"وقال الجُبَّائيُّ: إجماع بشرط انقراض العَصْر" - وهو رأي البندنيجي من أصحابنا - وقال "ابن أبي هريرة": يكون إجماعًا "إن كان فُتْيا
(2)
لا" [إن كان "حكمًا".
وعبارة الإمام الرازيِّ في الحكاية عنه: لا]
(3)
إن كان من حَاكِمٍ.
والفرقُ بين العبارتين واضحٌ؛ إذ لا يلزم من صُدوره عن الحاكم أن يكون قاله على وجه [الحكم]
(4)
، فقد يفتي الحاكم في بعض الأحايين.
وقال أبو إسْحَاق المَرْوَزِي: عكسه.
وقيل: إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم، أو استباحة فَرْجٍ، كان إجماعًا، وإلَّا فلا.
وقيل: إن كان في عصر الصَّحابة كان إجماعًا، وإلا فلا.
وقيل: يكون إجماعًا إن كان السَّاكتون أقل.
وهنا أمور مهمة لا يليق إهمالها وإن كنا بذكرها نخرج عن أسلوب الاختصار، فإن مسألة الإجماع السُّكوتي من قواعد الأمهات، وإلى الشَّافعية مرجعها، وقد ذكرنا فيها في "التعليقة" أوراقًا تعسر على أبناء الزَّمان، فليقع تلخيصها هنا:
الأول في سؤالين يوردان:
(1)
سقط في ت.
(2)
في أ، ح: فينا.
(3)
سقط في ت.
(4)
سقط في ت.
وَقَالَ الجُبَّائِيُّ: إِجْمَاعٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ.
أحدهما: إن جعلكم الحجة في مُقَابلة الإجماع يقتضي أنها قسيمة
(1)
له، وألَّا يكون ذلك [ترديدًا بين الشيء ونفسه، وإذا كان كذلك]
(2)
فما هي؟.
لا يقال: هي قول بعض سكت عنه البَاقون، وسكوتهم دليلٌ رضاهم إلا أن نسبة ارضا إليهم يستدعي قولهم، ولم يحصل تحقُّقه، بل ظنّه، وظننا أن حكم الله ما قاله القائل؛ لأنا نقول: إذا حصل ظَنّ أنهم قالوا: فقد حصل ظن أنهم أجمعوا، ورجع الحال إلى أنكم قابلتم الإجماعَ بالإجماع.
وثانيهما: أن الأكثرين من الأصوليين نقلوا أن الشَّافعي يقول: إن السكوتي ليس بإجماع.
وذكر القاضي: أن ذلك آخر أقواله، وإمام الحَرَمَيْنِ: أنه ظاهر مذهبه، وزاد الإمام والآمدي فقالا
(3)
: إنَّ الشافعي يقول: ليس بإجماع ولا حُجَّة أيضًا.
وحكى المصنّف ذلك، وزاد أن عنه خلافه، وخلافه محتمل لأن يكون حُجَّة، وليس بإجماع، ولم أجد ذلك محكيًّا عن الشَّافعي، ولعله مراد المصنف.
إذا عرَفت هذا فقد قال الرَّافعي في الشرح المشهور عند الأصحاب: إن الإجماع السّكوتي حجة، وهل هو إجماع؟ فيه وجهان.
وقال الشَّيخ أبو إسحاق في "اللَّمع": إنه إجماع على المذهب
(4)
.
فقول الرَّافعي: إنه حجة، وهل هو إجماع؟ يقتضي أن الحُجَّةَ قسيمة للإجماع، وهو صنيع ابن الحاجب، وإياه أراد الرَّافعي قطعًا، وإلا فلو أراد بكونه حجة أنه إجماع لما صح دعواه اشتهار كونه حجَّة، والتردد على وجهين في كونه إجماعًا، ولمعارضه
(5)
نقل إمام الحرمين ظاهر مذهب الشافعي أن ليس بإجماع.
ونقل القاضي وغيره، وقول الشيخ أبي إسحاق: إنه إجماع على المذهب فيعارض نقل إمام الحَرَمَيْنِ عن ظاهر المذهب.
والجواب: أنَّا جعلنا الحُجَّة في مُقَابلة الإجماع، وهي قسيمة كما ذكرتم، ومرادنا بالإجماع
(1)
في أ، ت، ح: قسمة.
(2)
سقط في ت.
(3)
في ت، ح: نقلًا.
(4)
ينظر: التبصرة (391).
(5)
في أ، ب، ت، ح: ولعارضه.
ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنْ كَانَ فُتْيَا لَا حُكْمًا.
المنفي: الإجماع القطعي، وبالحجة المُثْبتة: الإجماع الظني، وهما قسمان داخلان تحت مطلق الإجماع، كالرجل والمرأة داخلان تحت مطلق الإنسان.
وصاحب الكتاب مترددٌ بين كونه إجماعًا قطعيًا، وإليه أشار بقوله: إجماعًا أو ظنيًّا وإليه أشار بقوله: حجة، وعليه دلَّ قول "المختصر الكبير": هو حُجَّة، وليس بإجماع قطعي، ونحوه قول الآمدي في آخر المسألة؛ الإجماع السُّكوتي ظنِّيٌّ، والاحتجاج به ظاهر لا قطعي.
وبهذا يظهر لك أن الإجماع المنفي في كلام القاضي وإمام الحرمين: هو القطعي وهما لا يتكلّمان في غيره.
فمذهبُ الشَّافعيِّ: أنه ليس بإجماع قطعي، والمثبت في كلام الرافعي هو الظَّني الذي عبر عنه بقوله: حُجَّة، وهو الذي عبر عنه الشيخ أبو إسحاق بأنه: إجماع على المذهب
(1)
.
وأما متقدمو الأصوليين فلا يطلقون لفظ الإجماع إِلَّا على القطعي.
فإن قلتَ: كما تقول: بأن السُّكوتي إجماع هل تقول بأنه قطعي مع وقوع هذا الاختلاف المتجاذب الأطراف؟
قلتُ: هذا مكانُ التَّحْقيق فنقول: هل السُّكوت غير دالّ على الموافقة أو دالّ؟ وإذا كان دليلًا فهل هو قطعي أو ظني؟ وإذا لم يكن قطعيًّا، وكان ظنيًّا فهل هو حجة؟ وإذا كان حجة، فهل هي قطعية أو ظنية، فهذه احتمالات ذهب إلى كل منها ذاهبٌ.
والقاضي أبو بكر وغيره ممن لا يكتفي بالظّنون في مسائل أصول الفقه لا يمنع إثارته الظن، ولكن يقول: الظَّن لا تقوم به الحُجَّة؛ فلذلك ينفي
(2)
عنه لفظ الإجماع.
والمشهور عند أصحابنا - كما ذكر الرَّافعيُّ - أنه حُجَّة.
فإن قلت: فلم لا يصرح بتسميته إجماعًا؟
قلت: قد سماه أبو إسحاق الشِّيرازي إجماعًا، وعُذْرُ من لم يسمه
(3)
قائمٌ من أوجه:
أحدها: أنه لا غرض في هذه التَّسمية، إنما الغرض قيام الاحتجاج به.
(1)
في ح: المذاهب.
(2)
في ح: ينبغي.
(3)
في ت: يسمعه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والثَّاني: أن المتقدمين لا يطلقون لفظ الإجماع إلا على القَطْعِيّ، وهو اصطلاح لهم مجرد ناشئ عن عدم اكتفائهم في مَسَائل الأصول بالظنون.
والثالث: سِرّ دقيق، وهو المعتمد وهو أن لنا خلافًا لفظيًّا في تسميته بالإجماع، وصرَّح بحكايته الأستاذ أبو إسحاق في "تعليقته" والبندنيجيُّ في "الذخيرة" - كما قدمناه - وصرَّحا بأنه: خلاف في العبارة فقط.
والقائلون بانتهاضه حُجَّة مع كونه مثيرًا للظّن فقط، لهم خلاف في أنه قطعي أو ظني، فقال الأستاذ أبو إسحاق والبندنيجي: إنه مقطوع به.
وليس مرادهم بكونه مقطوعًا به القطع بأن الإجماع حاصل، إذ لا سبيل إلى ذلك مع أن الشُكوت يحتمل أوجهًا سوى الرضا، بل إن حكم الله قطعًا ما ظنناه، وقد أشار إلى هذا البندنيجي.
وقال آخرون: بل ظني - واختاره ابنُ السَّمْعَاني في أثناء المسألة -.
الأمر الثَّاني: في اختيار المصنّف.
قد قلنا: إنه متردّد بين كونه قطعيًّا، فهو
(1)
المراد بقوله: إجماع، أو ظنيًّا، وهو المُرَاد بقوله: حُجَّة، ولم يطلق على الحجة لفظ الإجماع؛ للأعذار التي قَدَّمنا، فكلٌّ من القَطْعي والظَّنِّي يحتج به، وليس المراد من كونه قطعيًّا أنا نقطع بأن الأمة أجمعت
(2)
فإن ذلك لا سبيل إليه مع قيام الاحتمال، بل إنا نقطع بأن حكم الله ما ظنناه، وعليه دَلَّ كلامه في "المختصر الكبير" و"الإحكام" كما عرفت.
وقال بعضُ الشَّارحين: إجماع قطعي إن علم أن سكوتهم عن رضا، وإلا فحجَّة، وهو فاسد من وجهين:
أحدهما: أنه إذا علم أن سكوتهم عق رضا لم يكن من صور الإجماع السكوتي - كما قدمنا -، وبه صرَّح من سيذكر اسمه عند الكلام على هذا القيد إن شاء الله تعالى.
والثاني: أن سكوتهم إذا لم يعلم أنه عن رضا فوراءه حالتان:
إحداهما: أنه يعلم أنه عن سخط، وليس بحُجَّة بلا نظر، وكذا إذا ظَنّ.
(1)
في ب: وهو.
(2)
في ح: اجتمعت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والثانية: أن يجهل الحال، فيكون حُجَّة بمعنى أنه إجماع، ولا يلزم من كونه - حجة، وأنه إجماع ألَّا يكون قطعيًّا حتَّى يجعل قسمًا مقابلًا للقطعي، بل جاز كونه مظنونًا، ونقطعُ مع ذلك بكونه حجَّة كما سلف.
الأمر الثَّالث: في القُيُودِ.
أولها: كونه في مسائل التَّكليف ولا بُدَّ منه، ولا يغني عنه لفظ الفُتْيَا، فإن مثل قول القائل: عَمَّار أفضل من حُذَيفةَ، وبالعكس لا يدلّ السكوتُ فيه على شيء، إذ لا تكليف على الناس فيه.
وثانيها: أن يعلم أنه بلَغ جميع أهل العصر ولم ينكروا؛ وإلا فلا يكون الإجماعَ السكوتي ووراءه حالتان:
إحداهما: أن يغلب على الظَّن أنه بلغهم؛ لانتشاره، وشهرته، فهل يكون إجماعًا أيضًا؟
لم أرَ أحدًا صرَّح بذكر هذا غير الأستاذ أبي إسحاق فذكر: أنه إجماع على مذهب الشافعي، واختاره أيضًا وجعله درجة دون الأول.
والثانية: ألَّا يغلب على إلظن، بل يكون في مجاري الاحتمال، وسيذكرها المصنف في دلائل المسألة.
وثالثها: كون السكوت مجردًا. أما إذا كان معه أمارة رضا فقال الرّوياني من أصحابنا: يكون إجماعًا بلا خلاف.
وكذا قال القاضي عبد الوَهَّاب المالكي فيما نقله بعضهم: وقضية ذلك أنه إن ظهرت أمارات السّخط، وأما إذا استصحب فعلًا يوافق الفُتْيَا، فالأمة حينئذ منقسمة إلى قائل به وعامل وذلك إجماع بلا نزاع، نصّ عليه القاضي عبد الوَهَّاب في "الملخص".
ورابعها: مضى زمان يسع قدر مُهْلة النظر عادة في تلك المسألة، ولا بد منه ليندفع احتمال أن السَّاكتين كانوا في مُهْلَةِ النظر.
وخامسها: ألَّا يتكرر ذلك مع طول الزمان.
وأنا أقول: لا بد منه، وذلك أنه إذا تكررت الفُتْيا، وطالت المدة مع عدم المخالفة، فإن ظن مخالفتهم يترجح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بل أقول: إنه يفضي
(1)
إلى القطع، ويختلف ذلك باختلاف طول الزمان وقصره، وقد صرَّح ابنُ التِّلْمَساني في "شرح المعالم" بذلك، وأنه ليس من محل الخلاف، وذلك هو مقتضى كلام إمام الحرمين، فإنه جعل صورة المسألة ما لم يطل الزمان مع تكرار الواقعة.
وأما إذا تكرر مع طول الزمان فلا أنكر جريان خلاف، وقد اقتضاه كلام القاضي أبي بكر، ولكنه ليس الخلاف في السُّكُوتي، بل أضعف منه.
وسادسها: أن يكون في محلّ الاجتهاد، فلو أفتى واحد بخلاف الثَّابت قطعًا فليس سكوتهم دليلًا على شيء؛ ولعلَّهم إنما سَكَتُوا للعلم بأنه على منكر، وأن الإنكار لا يفيد.
فإن قلت: إنكار المنكر واجب، وإن علِم المنكر أنه لا يفيد.
قلت: ليس بواجب على الكُلّ، بل هو فرض كِفَايَةٍ، ثم في غير الشَّافعية من لا يوجبه والحالة هذه.
وسابعها: أن يكون قبل اسْتِقْرَارِ المذاهب، ليخرج إفتاء مقلّد سكت عنه المخالفون؛ للعلم بمذهبهم ومَذْهبه، كشافعي يُفْتِي بنقض الوضوء بِمَسِّ الذَّكَرِ، فلا يدلّ سكوت الحنفي عنه على موافقته؛ للعلم باستقرار المَذَاهب والخلاف.
وقد أهمل المصنّف بعض هذه القيود كما رأيت.
الأمر الرابع: سبب ما وقع من الاضطراب في النَّقْل عن الشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة - أن بعضهم رأى منقولًا عنه أنه ليس بإجماع، وفي ذهنه أن الإجماع أعم من القطعي والظني، والنكرة في سياق النَّفي تعمّ، وإذا انتفى الأمران فإذا يكون حجة؟ فنسب إليه أنه نيس بإجماع ولا حُجَّة، وبعضهم رأى منقولًا عنه: أنه حجة في ذكره - أنه إذا كان حُجَّة لزم أن يكون إجماعًا - وأن كل إجماع فهو قطعي؛ فاضطربت النُّقول.
والصَّوابُ في النقل ما حررناه، وحاصله: أن أحدًا من أصحابنا لم يقل بأنا نقطع بأنه إجماع قطعي، ولا يتَّجه القول بذلك من ذي لُبّ، وإنما يفهم اختلاف في أنّ ظن الإجماع هل حصل؟ والأصح عندهم؛ حصوله، خلافًا للإمام الرَّازي وأتباعه، ثم بعد حصوله هل ينتهض حجة؟ الأصحُّ: انتهاضه خلافًا لإمام الحرمين، وكلامه محتمل؛ لمنع انْتِهَاضِ الظّن أيضًا.
(1)
في أ، ت: يقضي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لكن الأظهر أنه لا يمتنع ذلك، وقد قال في أثناء المسألة: لا قطعَ مع الاحتمال، وذلك [لو صح]
(1)
أنه يتطلب القطع في المسألة، والإجماع الذي نفاه، وعزى نفيه إلى ظاهر مذهب الشَّافعي هو القَطْعي دون الظَّني، وذلك ظاهر من كلامه، وكلام القاضي قبله والغَزَالي بعده، ويخطر لي أن للشافعية أوجهًا:
أحدها: أنا لا نظن بالسُّكوت انتهاض الإجماع؛ لأن له مَحَامِلَ كثيرةً.
والثاني: أنا نظنّه، ونقطع إذ ذاك بكونه حُجَّة، وهو رأي الأستاذ.
والثالث: هذا، ولكن بشرط انقراض العَصْرِ، وهو رأي البَنْدَنِيجي.
والرَّابع: أنا نظنّه، ونظن أنه حُجَّة من غير قاطع، وهو اختيار الآمدي.
وإذا ضممنا هذه الأوجه إلى الوجهين في تَسْميته بالإجماع صارت الوجوه خمسة، والحنفية مصرحون: بأن الإجماع السُّكوتي قاطع، فإذا أرادوا أنا نقطع أن الأمة أجمعت
(2)
، فهم مُكَابرون، كيف ولا قَطْعَ مع الاحتمال، وإن كان مرجوحًا إلى غاية - وما أظنهم يقولون هذا - وإن أرادوا حصول ظَنّ غالب مستلزم القَطْع بأنه حُجَّة، فذلك هو أحد آرائنا، وهو أظهرها عندنا.
الأمر الخامس: في العبارة المَشْهورة عن الشَّافعي، وهي قوله: لا ينسب إلى ساكت قول
(3)
.
قال إمام الحرمين: إنها من عبارات الشَّافعي الشريفة.
قلت: وقد فهم الحُذَّاق منها أن السُّكوتي ليس بإجماع، منهم القاضي، وإمام الحرمين، وغيرهما.
وأنا أقول: إنها لا تقتضي ذلك، فإنها لم تفصح إلا بأن السَّاكت لا ينسب إليه قول ولا يلزم من أنا لا ننسب إليه قولًا، أنا لا ننسب إليه موافقة، فالمُوَافقة أمر باطن والقول ظاهر، والفرض أنه ساكت، فلو نسبنا القول إليه لكنا كاذبين؛ إذ لا دليلٌ عليه بخلاف المُوَافقة، فإن السكوت دليلها، ألا ترى أن إذن البِكْرِ صمَاتُها فنقول: إذنها صماتُهَا كما قال المُصْطفى صلى الله عليه وسلم تسليمًا.
ولا نقول: قالت البكر: أذِنْتُ؛ لأنها لم تقل ذلك، فلذلك
(4)
قال أصحابنا: لو سكت الوَلِيّ وقد طلب منه التزويج بين يدي الحاكم كان عَضْلًا، ولم يقولوا: كان لافظًا بالامتناع.
(1)
في ب: يوضح.
(2)
في ح: اتجمعت.
(3)
ينظر المنخول ص 318
(4)
في أ، ت: وكذلك، وفي ب، ولذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإذا شرطنا رضا المَضْمون له، فلا نشترط نُطْقَهُ على خلاف فيه.
ومسائل الاعتبار بالسُّكوت كثيرة، وفيها من الأصول مسألة التقرير، ومسألة إخبار
(1)
واحد بِحَضْرَةِ جمعٍ لم يكذبوه.
سلّمنا أن مراده بالقول: الفُتْيَا، واعتقاد ما قاله الناطق، إلا أن نهاية ما ذكره أنه لا ينسب إليه قول بخصوصه، وهو كذلك؛ لأنا لا نقول: قال الساكتون، وإنَّما نقول
(2)
: قالت الأمَّة، فلم قلتم: إن الشافعي يمنعه؟
سلمنا أن مراده: أن الساكت لا ينسب إليه قول أصلًا، لا بمفرده ولا مع انضمامه إلى غيره، ولكن لِمَ قلتم: إن الإجماع لا ينتهض وإن لم نُسَمّ ذلك إجماعًا؛ فالنطق بالشيء غيره، فقد يكون الإجماع
(3)
موجودًا، ولكنا لا نطلق القول بأن الأمة أجمعت.
وسر ذلك أن الأصل امتناع نِسْبَةِ قولٍ إلى مَنْ لا يتحقق أنه قال: ولكنا خالفناه في السَّاكتين وظننا
(4)
موافقتهم، وعملنا
(5)
بِمُقْتَضَاها؛ للاحتياج إلى ذلك في المسائل التكليفية فأيُّ حاجة بنا إلى تسميته بالإجماع؟
وهذا هو أحد الوجهين السَّابقين عن حكاية الأستاذ والبَنْدَنِيجي، وهو ظاهر نقل الشَّيخ أبي إسحاق عن أبي بَكْرٍ الصَّيرفي الذي كان يقال: إنه أعلم الناس بالأصول [بعد الشَّافعي، وكان أيضًا أكثر الشَّافعية إلمامًا بكلام الشَّافعي في الأصول]
(6)
.
الأمر السَّادس: إذا تقرر أن السُّكوتي حُجَّةٌ، فلا يخفى عليك إذا تأملت ما سطّرناه أنه مراتب:
أحدها: أن يعلم أنه بلغ الجميع، وافترقوا ما بين مُفْتٍ وعامل، وهو كالقولي فيما نقله القاضي عبد الوَهَّاب.
(1)
في ب: إخطار.
(2)
في أ: يقول.
(3)
في حاشية ج: قوله: "فقد يكون الإجماع موجودًا .. إلخ" الظاهر أنه مراد الشافعي رحمه الله في مثل ما نحن فيه أنه لا ينسب إليه قول على التحقيق حتَّى يكون إجماعًا قطعيًا، وهو لا ينافي أنه ينسب إليه ظنًا، فيكون إجماعًا ظنيًا، تأمل.
(4)
في أ، ت، ح: قطننا.
(5)
في أ، ح: علمنا.
(6)
سقط في ب.
لَنَا: سُكُوتُهُمْ ظَاهِرٌ فِي مُوَافَقَتِهِمْ فَكَانَ كَقَوْلهِمْ: "الظَّاهِرُ مُنْتَهِضٌ"؛ فَيَنْتَهِضُ دَلِيلُ السَّمْع.
الْمُخَالِفُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ، أَوْ وَقَفَ، أَوْ خَالَفَ فتَرَوَّى، أَوْ وَقَّرَ، أَوْ هَابَ؛ فَلَا إِجْمَاعَ وَلَا حُجَّة.
وثانيها: أن يعلم الجميع، ويكون سكوتهم مع طول الزمان، وتذكّر الواقعة.
وثالثها: أن يبلغ الجميع وتظهر أمارات الرِّضا.
ورابعها: أن ينقرض العَصْر.
وخامسها: ألَّا ينقرض العَصْر.
وسادسها: الَّا يعلم أنه بلغ الكُلّ ولكن يظن.
وسابعها: ألَّا يظن، ولكن يكون محتملًا.
وثامنها: الأقوال المفرقة بين الصَّحَابة وغيرهم، وبين ما يمكن، استدراكه، وما لا يمكن وبين مما إذا كان القائلون أكثر من السَّاكتين، وبالعكس.
وتزايدت المراتب، ولا يخفى مواضعها، ولنعَدُ إلى الحل.
الشرح: "لنا: سكوتهم
(1)
ظاهر في موافقتهم"؛ إذ يبعد عادة سكوت الكُلّ مع المخالفة "فكان كقولهم الظَّاهر، منتهضٌ؛ فينتهض
(2)
دليلٌ السَّمع" الدَّال على حجية الإجماع.
الشرح: "المخالف يحتمل أنه لم يجتهد"، "أو "اجتهد و"وقف"؛ لأنَّهُ لم يظهر له شيء، "أو خالف فتروَّى" عند سماع الخلاف ليكون على بَصِيرَةٍ، "أو وقَّر" المُفْتي
(3)
فلم يصرح بمخالفته تعظيمًا، "أو هاب"، وقد قال ابن عبَّاس في حَقّ عمر رضي الله عنه في مسألة العَوْلِ: كان مهيبًا فهبته.
"قلنا": قولكم: لم يجتهد، أو اجتهد ووقف، أجاب البندنيجي عنه فقال: من سكت؛ للارتياب لم يَتَعَلَّق به حكم؛ لأن من لا يَعْرف الحكم في تلك الحادثة لا يلتفت إليه، ومتى كان مخالفًا، فسكوته "خلاف الظَّاهر؛ لأن عادتهم ترك السُّكوت
(4)
"، ولو كانوا
(5)
كذلك لكانوا
(1)
في حاشية ج: قوله: "سكوتهم ظاهر
…
إلخ" الظهور لا يكفي في كونه إجماعًا قطعيًا، بل في كونه حجة ونقول به. عضد.
(2)
في أ، ح: فنهض.
(3)
في أ: المعنى، وهو تحريف.
(4)
في أ: المسكوت.
(5)
الظاهر أن هذا من باب الإنكار ينظر فيه لعقيدة القائل.
قُلْنَا: خِلَافُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ عَادَتَهُمْ تَرْكُ السُّكُوتِ.
الْآخَرُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
الجُبَّائِيُّ: انْقِرَاضُ الْعَصْرِ يُضْعِفُ الاِحْتِمَالَ.
ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْعَادَةُ فِي الْفُتْيَا لَا فِي الْحُكْمِ.
كاتمين لما يعتقدونه حَقًّا مع ظهور ما هو بَاطِلٌ عندهم، والتَّعْليق بالهَيْبَةِ [والتَّقية]
(1)
باطل، فقد كانوا يظهرون الحَقّ، ولا يخافون أحدًا، ولهذا ردت امرأة على عمر رضي الله عنه في المقالات في الصَّداق حتَّى قال عمر: امرأة خاصمت رجلًا فخصمته
(2)
، وقال عَبِيدَةُ السّلْمَاني
(3)
لعليّ رضي الله عنه: رأيك في الجَمَاعة أحب إلينا من رأيك وَحْدَكَ.
وأما ما يروى من قصّة ابن عباس في العَوْلِ فكان صغيرًا في زمن عمر، وعلى أنه قد أظهر خلافه من بعد، وكلامنا فيمن سكت ولم يظهر.
الشرح: واحتج "الآخر" القائل بكونه حجَّة لا إجماعيًا، بأن السُّكوت "دليل ظاهر، لما ذكرناه" من كونه حُجَّة، ولكن لا يسمى إجماعًا للاحتمالات، وهذا هو القول الأظهر عندنا.
الشرح: واحتج "الجُبَّائِيّ": بأن "انقراض العصر يضعف الاحتمالَ"
(4)
.
الشرح: "وابن أبي هريرة": بأن "العَادَةَ" ترك السُّكوت "في الفُتْيَا، لا في الحكم"؛ لأن
(1)
في ت، ح: البقية.
(2)
أخرجه البيهقي (7/ 233) وأبو يعلى كما في "مجمع الزوائد"(4/ 284) وسعيد بن منصور (598) من طريق مجالد عن الشعبي قال: خطب عمر بن الخطاب
…
فذكره. قال الهيثمي: فيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، وقد وثق. وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/ 237) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر عن أبي عبد الرحمن السلمي. وعزاه أيضًا الزبير بن بكار في "الموفقيات" عن عبد الله بن مصعب.
(3)
عبيدة السلماني بن عمرو، وقيل: عبيدة بن قيس الكوفي، أحد الأئمة أسلم في حياة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، روى عن علي، وابن مسعود، وعنه إبراهيم وابن سيرين وأبو إسحاق. قال ابن عيينة: كان يوازي شريحًا في العلم والقضاء، مات سنة 72 هـ، وقيل: سنة 73 هـ. ينظر: الكاشف 2/ 242.
(4)
قال الجبائي: هذه الاحتمالات التي ذكرها القائلون بكونه ليس إجماعًا ولا حجة، فين كانت قوية لكن شرط انقراض عصر المجتهدين يضعفها، فيكون عند انقراض العصر احتمال الموافقة راجحًا فيتحقق الإجماع، وفيه نظر؛ فإنه يجوز أن يبقى بعض الاحتمالات إلى انقراض العصر.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْفَرْضَ قَبْلَ اسْتِقرَارِ الْمَذَاهِبِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَنْتَشِرْ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.
حكم الحاكم يُسقط الاعْتِرَاضَ ورفع الخلاف، بخلاف قول المفتي.
وهذا منه يقتضي أنه إنما يقول: لا يكون حجة إذا كان الصَّادر من الحاكم حكمًا كما نقل المصنّف.
وأما إذا صدرت منه فُتْيا، فهو كبقية المجتهدين.
قال: ولأن؛ في الإنكار على القاضي افْتِيَاتًا.
قال: ونحن نحضر مجالس [الحاكم] ونراهم
(1)
يفتون بخلاف مذهبنا، ولا ننكر.
وهذا الوجه يقتضي أنه لا يكون حُجَّة، وإن كان الصَّادر من القاضي فُتْيا لا قضاء كما نقله الإمام الرازي.
الشرح: "وأجيب بأن الفرض" أنَّ ترك الإنكار إنما هو "قبل استقرار المَذَاهب"، وهناك
(2)
يجب إنكار الحكم كما يجب إنكار الفُتْيَا، وما ذكرت من الافْتيَاتِ وأن الحاكم يهاب، فجوابه: أن من ترك الإنكار مُرَاعاة وتقية
(3)
لا عِبْرَةَ [به]
(4)
؛ لأن من تسامح في الدِّين ولو بمسألة واحدة يخرج عن الأهلية.
وإن فُرض أن القاضي ظالم يتعيَّن على من أنكر عليه في مسائل الاجتهاد ومواضع الإنكار، فهو غير أهلي فلا يعتبر قوله فضلًا عن أن يَصِيرَ إجماعًا، ولا وجه حينئذٍ لتفصيل ابن أبي هريرة إلا إذا كان فيما أتى به الحاكم حكمًا، كما هو ظاهر نقل المصنف، وكذا ذكره ابن السَّمْعَاني وغيره - وجوابه ما ذكر المصنّف - وقد عكسه أبو إسحاق المَرْوَزِيّ كما عرفت معللًا
(5)
بأن الأغلب بأن الصادر من الحاكم يكون عن تشاور.
فإن قلت: حكاية هذين المَذْهَبَينِ ترديد في الواقع؛ لأنكم صدَّرتم المسألة بقولكم: إذا أفتى واحدٌ، فالترديدُ يعد في الفُتْيَا والحكم ترديد في الوَاقِعِ.
(1)
في ح: ولا نراهم.
(2)
في حاشية ج: قوله: "وهناك يجب
…
إلخ" يقيد بهذا قولهم: إنما ينكر المنكر ما خالف عقيدة المنكر عليه.
(3)
في أ، ح: وبغية.
(4)
سقط في ح.
(5)
في ت، ح: معتلًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلت: الفُتْيَا أعمُّ من الحكم؛ لأن الحاكم في أمرٍ فَشَا مفتٍ بما حكم به، فالتفصيلُ في الحقيقة واقعٌ بين الفُتْيَا على وجه الحكم والفُتيَا لا على وجُهه.
وقد انتهت مسألة الإجماع السّكوتي المشروط فيها الانتشار بحيث يبلغ الكلّ.
"وأما إذا انتشر"، ولكن كان بلوغه لأهل العَصْرِ أمرًا محتملًا
(1)
"فليس بحُجَّةٍ عند الأكثر" وقيل: حجَّة.
وقال الإمام الرَّازي وأتباعه: إن القول إن كان فيما تَعمّ
(2)
به البَلْوَى كنقض الوضوء بمَسِّ الذَّكَرِ كان كالسُّكوتي، وإلا لم يكن حُجَّة، وهنا كلامان:
أحدهما: قد يقول القائل: إذا لم يعرف أنه بلغ الجميع فما تَمّ غير قول بعض الأمة فكيف يكون حجة؟
وجوابه بعد تقديم مقدمة فأقول: إن المتكلمين لمَّا تكلّموا في الإجماع السكوتي صوروا المسألة بعصر الصَّحابة منهم القاضي، وأبو إسحاق الشِّيرَازي، والغزالي والقاضي عبد الوَهَّاب.
وأما ابن السَّمعاني، فصدّرها بعصر الصحابة، ثم حكى في أثنائها أن بعض أصحابنا خصَّصها بعصر الصَّحابة.
وأما التابعون ومن بعدهم فلا. قال: ولا يعرف فرق بين الموضعين، والأولى التسوية بين الجَمِيعِ.
وأما إمامُ الحَرَمَيْنِ، فأطلق الكلام إطلاقًا من غير تخصيص، وتبعه الآمدي والمتأخرون لكن إمام الحَرَمَيْنِ لم يذكر هذا الفَرْع - أعني: إذا لم يعرف أنه بلغ الجميع -.
وأما الإمام الرَّازي، فأطلق صدر مسألة السّكوتي، ثم لمَّا اتتهى إلى هذا الفرع خصَّهُ بالصَّحابة، وتوهّم بعض أصحابه أن هذا التقييد لا حاجة به إليه، وأن الفرع لا يختص بالصَّحابة كالأصل، وعلى هذا جرى البَيْضَاويُّ في "منهاجه".
وأنا أقول: الصَّوابُ صنيع الإمام، وأن الصُّورة الأولى - وهي ما إذا بلغ الجميع [لا
(1)
في ب: مجملًا.
(2)
في ت، ح: يعم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يختص]
(1)
ببعض الصَّحابة - ويدلّ عليه نقل ابن السَّمْعَاني صريحًا، والمعنى وهو أن السُّكوتي دليلٌ الرِّضا فانتهض الإجماع.
والثانية: وهي هذا الفرع مختصَّة، ويدلّ عليه أيضًا النقل والحجاج، وذلك أن قول البعض ليس حُجَّة علي البعض، فلا وجه لهذا القول إلا إن كان القائل صحابيًّا، فيقع الخلاف ناشئًا عن أن أقوالَ الصَّحابة هل هي حجة؟
ولذلك أن الجماهير منهم القاضي أبو بكر، والشيخ أبو إسحاق، وغيرهما أشاروا إلى أن هذا الفرع هو نفس الكلام في أن قول الصحابي هل هو حجة؟ وأخَّروا الكلام فيه إلى موضعه.
وقد وضح لك بهذا أنه إن
(2)
عرف بُلُوغه الجَمِيع؛ فمسألة السُّكوتي، وإن ظُنّ فيها خلاف مفرع على مسألة السُّكوتي، كما قدمناه عن الأستاذ.
وإن كان محتملًا
(3)
وهي هذه المسألة ولا وجه للقول فيها بالحُجّية إلا أن يكون من صَحَابي بِناء على أن قوله حجّة.
ومن عمم القول فيها
(4)
، [لم يصب، وإن لم يكن محتملًا أصلًا، فلا حجة فيه أيضًا]
(5)
.
وقد قدمنا هذا إلا أن يكون صحابيًّا عند من يحتج بقوله.
وقد توهّم بعض الشَّارحين أن هذه الحالة هي مقصود المصنّف، وليس بجيد.
الثاني: أن المصنّف يفسّر الانتشار بما إذا بلغ الجميع، وذلك مفهوم من قوله هنا: أما إذا لم ينتشر مع ما سبق منه من أن الإجماع السُّكوتي هو ما بلغ الجميع، فدلّ أن المنتشر هو ما بلغ الجميع.
وهذا هو صنيعُ الآمدي، وهو قضية كلام القاضي أي بَكْرٍ، وابن السَّمْعاني وغيرهما.
وظاهر كلام الإمام الرَّازي: أن الانتشار أعَمُّ من أن يعلم أنه بلغ الجميع، أو لا، وبذلك صرَّح الشيخُ الهِنْدِيُّ من أتباعه.
(1)
في ب: تختص.
(2)
في ح: إذا.
(3)
في ب: مجملًا.
(4)
في ح: فيه.
(5)
سقط في ح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولقد أطلنا في "التعليقة" في مسألة السُّكوتي، وذكرنا: ما لو رحل ذو الهمة لسماعة من بلد إلى بلد يحمد مَسْعَاه، وقد أوردنا هنا طرفًا صالحًا منه.
فإن قلت: إذا تمهّد من أصولكم أن السُّكوتي دليلٌ يحتج به، فما بالكم تُنكرون مسألتين قام فيهما الإجماع السكوتي؟
إحداهما: مسألة المبتوتة بالثلاث في المَرَضِ، فإن أصحّ القولين عندكم أنها لا ترث، وقد وَرّث عثمان رضي الله عنه تَمَاضُر بنت الإصبغ من عبد الرَّحمن بن عوف، وقد طلَّقها آخر تطليقاتها الثلاث، وتوفي وهي في العِدَّة.
والثانية: إذا وجب القصاص لصغير وكبير، فإنكم تقولون: لا يجوز للكبير أن يستوفي حتَّى يبلغ الصَّغير، ويجتمعا على طلب الاستيفاء.
والحسن بن علي رضي الله عنه قتل ابن ملجم قاتل علي - كرّم الله وجهه - ولم ينتظر بلوغ الصِّغار.
ولا عُرِفَ لعثمان مخالف في الأولى، ولا للحسن في الثانية فما صحتكم في المخالفة؟.
قلت: أما مسألة المَبْتُوتة
(1)
، فلم يقع إجماع سُكوتي، ولقد قال ابن الزبير: إذ ذاك لو كان الأمر إليَّ لما ورثتها.
وكان رأي عبد الرحمن بن عوف: أنها لا ترث.
فالمسألةُ خلافيةٌ بين الصَّحابة رضي الله عنهم، فأين السكوتي؟ وعلى تقدير التنزل
(1)
اتفق أهل العلم على أنه لو طلق امرأته طلاقًا رجعيًا، ثم مات أحدُهما قبل انقضاء العدَّة يرثُه الآخَر، أما إذا أبانها في مرضه، فإن ماتت المرأة قبله، فلا ميراث له، وإن مات الزوج، فاختلف أهل العلم في توريثها، فذهب جماعة إلى أنه لا ميراث لها؛ لأنَّ الميراث بسبب النكاح، وقد ارتفع كما لو أبانها في حالة الصحة ينقطع الميراث، وهو قول عبد الرحمن بن عوف، وابن الزُّبير، وإليه ذهبَ الشَّافعي في أظهر قوليه. وذهب جماعة إلى أنها ترثه، وهو قول عثمان وعلي، وبه قال الزهري ومالك، وابن أبي ليلى، وأصحاب الرأي، ثم عند مالك ترث، وإن كان بعد انقضاء عدتها، ونكاح زوج آخر، وعند ابن أبي ليلى ترث ما لم تنكح، وعند أصحاب الرأي ترث ما دامت في العدة. وإن مات الزوج بعد انقضاء عدتها، فلا ميراث لها، وقال الشعبي: ترثه، فقال ابن شبرمة: تزوج إذا انقضت عدَّتها؟ قال: نعم، قال: أرأيت إن مات الزَّوج الآخَر، فرجع عن ذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وتسليم أن أحدًا لم ينكر فمن أين لنا أنه بلغ الجميع، ونحن نشرطُ في السكوتي بلوغَ الكلِّ؟
سلمنا: أنه بلغهم، ولكن الصَّادر من عثمان كان حكمًا، والحكم لا إنكار فيه. والمنقول عدم الإنكار في الحكم، ونحن نقول به؛ لأن من حكم في رمضان بالاجتهاد لم يعترض عليه.
أما إنكار الاجتهاد والقول بأنه غير صواب، فلم قلتم: إنه لم يقع؟ وقد نقلنا عن ابن الزبير ما نقلناه.
واعلم: أن هذا السُّؤال هو الذي أوجب لابن أبي هريرة أن يفرق بين الفُتْيا والحكم واستحسنه ابن السَّمعاني لذلك، وقد ظهر اندفاعه، فلا حاجةَ إلى التفرقة.
وأما مسألة استيفاء البالغ القصاص إذا كان مشتركًا بينه وبين الصبي، فجوابه من أوجه:
أحدها: أن أهل الأرض وإن عرفوا مَقْتل ابن ملجم
(1)
، ولكن لا نسلم أنهم عرفوا أن من الورثة صغارًا.
والثاني: - وهو المُعْتمد - أن ابن ملجم إنما قتل؛ لكفره، ولا يرتاب المصنّف في ذلك فأقل ما فيه اسْتحلاله قتل علي رضي الله عنه، ولو استحلّ قَتْلَ واحد من المسلمين
(2)
لكفر، فضلًا عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه.
ولا رَيْبَ في أنه كان يستحلّ ذلك، وقد قال شيطانه في هذيانه: إنه ما قتله إلا ليبلغ عند الله رضوانًا - أخزاه الله وقبّحه.
والثالث: أن عليًّا - كرم الله وجهه - كان إمام المسلمين.
ولنا وجه في [المذهب
(3)
: أن قاتل الإمام الأعظم يقتلُ حدًّا - حكاه المَاوَرْدِيُّ - وابن
(1)
عبد الرحمن بن مُلْجَم المرادي التدؤلي الحميري. فاتك ثائر، من أشداء الفرسان أدرك الجاهلية، وهاجر في خلافة عمر، وقرأ على معاذ بن جبل، فكان من القراء وأهل الفقه والعبادة، ثم شهد فتح مصر وسكنها، فكان فيها فارس بني تدؤل، وكان من شيعة علي بن أبي طالب، وشهد معه صفين، ثم خرج عليه فاتفق مع البرك على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فقتل هو عليًّا بضربة أصابت مقدم رأسه توفي على أثرها، فلما مات علي أحضر ابن ملجم إلى الحسين ثم قطعوا يديه ورجليه ولسانه، ثم أجهزوا عليه، وذلك سنة 40 هـ بـ"الكوفة". ينظر: طبقات ابن سعد 3/ 23، ولسان الميزان 3/ 439، والنجوم الزاهرة 1/ 120 والأعلام 3/ 339.
(2)
في أ، ح: المسلم، وهو خطأ.
(3)
في ب: المذاهب.
الْكَلَامُ فِي انْقِرَاضِ العَصْرِ
(1)
مَسْأَلَةٌ:
انْقِرَاضُ الْعَصْرِ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ فُورَكَ: يُشْتَرَط، وَقِيلَ: فِي السُّكُوتِيِّ.
الفضل الفراوي]
(2)
من أصحابنا قال: وعلى الحد لا عَفْو.
قلت: وعلى عدم العَفْو، لا انتظار؛ إذ لا فائدة فيه.
«مسألة»
الشرح: "انقراضُ العصرِ" - عصر المجمعين - "غير مَشْرُوط" في انعقاد الإجماع "عند المحققين"، بل يكون اتِّفاقهم حُجَّةً، وإن لم ينقرضوا
(3)
.
"وقال أحمد، وابن فورك"، وسليم الرَّازي:"يشترط".
"وقيل": يشترط "في السُّكوتي"؛ لضعفه، دون القولي - وهو رأي البَنْدَنيجي، واختاره الآمدي.
(1)
هذه المسألة في بيان أن انقراض العصر هل هو شرط في انعقاد. الإجماع أم لا؟ اختلفوا فيه. ينظر: الشيرازي 214 خ.
(2)
محمد بن الفضل بن أحمد بن محمد بن أبي العباس، أبو عبد الله الصاعدي النيسابوري الفراوي، ويعرف بـ"فقيه الحرم"، أخذ الأصول والتفسير عن أبي القاسم القشيري، واختلف إلى مجلس إمام الحرمين، وتفقه عليه، وعلق عنه الأصول، وصار من جملة المذكورين من أصحابه، وتفرد بصحيح مسلم وغيره. قال ابن السمعاني: هو إمام مفت، مناظر، واعظ، حسن الأخلاق والمعاشرة
…
ما رأيت في شيوخنا مثله". وله تصنيف، قال الذهبي: وقد أملى أكثر عن الف مجلس. مات سنة 530. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 312، وطبقات السبكي 4/ 92، ولب اللباب 193. وفي ب: الغراوي، وهو تحريف.
(3)
البرهان 1/ 696، والمحصول 2/ 1/ 206، والإحكام للآمدي 1/ 231، والمستصفى 1/ 192، والمنخول 317، والمعتمد 2/ 502، والتبصرة (375)، وشرح العضد 2/ 38، وشرح الكوكب المنير 2/ 246، والمعتمد 2/ 502، وإرشاد الفحول 85، وفصول البدائع 2/ 269، وكشف الأسرار 3/ 243، وأصول السرخسي 1/ 315، وتيسير التحرير 3/ 230، وفواتح الرحموت 2/ 224، والتقرير والتحبير 3/ 86.
وَقَالَ الإِمَامُ: إِنْ كَانَ عَنْ قِيَاسٍ.
"وقال إمام الحَرَمَين: إن كان" الإجماعُ صادرًا "عن قياس" اشترط، وإلا فلا.
كذا وقع في الكتاب، وهو وهْم، فإمام الحرمين لا يعتبر الانقراض ألبتة، بل يفرق بين المستند إلى قاطع - وإن كان في مظنّة الظَّن، فلا يشترط فيه تَمَادي زمان، وينتهض حجة على الفور.
والظني فيشترط تَمَادي الزمان، حتَّى لو خَرَّ على المجمعين سقفٌ عَقِيبَ الاتفاق، أو عمهم الهلاكُ بوجه من الوجوه.
قال: فلسنا نرى ذلك إجماعًا.
ثم هو مصرّح بأن ما ذكره في الظَّني متعذّر، أو محال؛ لأن الظنون لا تستقيم على مِنْوَالٍ واحد مع التَّمادي.
قال: إلا أن يتكلّف [المتكلّفُ] وجهًا فيقول: قد يعمُّهم ظهور وجه من الظن.
قال: وللفَطِنِ أن يقول: ما انتهى إلى هذا المنتهى، فقد اعتزى إلى القطع.
وقد حكينا كلام الإمام في "التعليقة" - وهو المختار عندنا -، إلا أنا لا نوافقه على تعذّر الاستمرار على الظَّني، ونقول: إن ذلك يمكن.
وقد رَدّ ابنُ السَّمْعَاني في القواطع على الإمام: بأن التفرقة بين المقطوع والمظنون لا تصح؛ لأنَّهُ لا يعرف إلى أي شيء استناد المجمعين، ولو عرف استنادهم إلى المقطوع لكان هو الحجة، دون الإجماع.
ولقائلٍ أن يقول: نحن إذا حكمنا على الظَّني باشتراط الزَّمن لم يلزمنا أن نعرف عينه.
وأيضًا فإنا لما تطاول الزَّمن نحكم
(1)
بانتهاض الإجماع؛ لأنَّهُ إن كان عن ظن فقط حصل التمادي، وإلا فهو قائم [من قبل]
(2)
وما لم يتطاول لا يحكم بقيامه إلا إذا لاح لنا أنه [عن]
(3)
قاطع.
وأيضًا: فلم قلتم: إنا لا ندري إلى أي شيء استند الإجماع، وكم من إجماع قائم وسنده معروف.
وقوله: والمقطوع هو الدَّليل، يقال عليه: لا يلزم من كونه دليلًا ألَّا ينعقد الإجماع، فقد
(1)
في أ، ت، ح: يحكم.
(2)
سقط في ح.
(3)
سقط في ت.
لنَا: دَلِيلُ السَّمْعِ.
وَاسْتُدِلَّ: بِأَنَّهُ يُؤدِّي إِلَى عَدَمِ الإِجْمَاع لِلتَّلَاحُقِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ عَصْرُ الْمُجْمِعِينَ الْأَوَّلِينَ، أَوْ لَا مَدْخَلَ لِلَّاحِقِ.
ينعقد، ويجتمع دليلان على مدلول واحد، ولولا ذلك لما وقع إجماع عن قاطع، ثم إن الحجة أبدًا هي سند الإجماع، لا نفسه، والإجماع دليلٌ الحُجَّة لا نفسها.
وفي المَسْألة مذهب خامس حكاه ابن السَّمْعَاني: إنه ينعقد قبل الانقراض فيما لا مُهلةَ فيه، ولا يمكن استدراكه من قَتْل نفس أو استباحة فَرْجٍ، دون غيره، وسبق له نظيره في السَّكوتي.
وسادس: حكاه القاضي: أنه [إن]
(1)
لم يَبْق من المجمعين إلا عدد ينقصون عن أقل عدد التواتر، فلا يكترث ببقائهم، ويحكم بانعقاد الإجماع.
الشرح: قال: "لنا دليلٌ السَّمع" الدَّال على أن الإجماع حجة، فإنه ليس فيه تعرض للانقراض، وهذا وجه احتج به القاضي.
وللخَصم أن يقول: الإجماع هو اتفاق العَصْرِ مع الانقراض لا مجرد اتفاق العصر، فالاستدلالُ بدليل السَّمع حينئذٍ مصادرةٌ على المطلوب.
ولقد ردّ إمام الحرمين في "مختصر التقريب" على القاضي بهذا.
ولو استدلّ المصنّف بالعادة القاضية أن الجمع الكثير لا يجتمعون إلا عن حق كان أولى، وكان جاريًا على أصله أيضًا.
الشرح: "واستدل [بأنه] " لو اشترط لم يوجد إجماع؛ لأنَّهُ "يؤدي إلى عدم" تحقق "الإجماع"؛ إذ ما من عصر يتَّفق أهله على قول إِلَّا ويوجد قوم آخرون قبل انقراضهم.
فلو
(2)
جوَّزنا المخالفة لم يحصل إجماع أصلًا "للتلاحق" المذكور، وهذا أيضًا ذكره القاضي.
"وأجيب: بأن المراد" بالعَصْرِ المشروط انقراضه "عصر المجمعين" عند حدوث الواقعة "أو "يقال: إنه "لا مدخل للاحق".
فالأول: بناء على أن للَّاحقين مدخلًا في الإجماع.
والثاني: على أنه لا مدخل لهم.
(1)
سقط في ت، ح.
(2)
في ح: فلم.
قَالُوا: يَسْتَلْزِمُ إِلْغَاءَ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ بِتَقْدِيرِ الاِطِّلَاعِ عَلَيْهِ.
قُلْنَا: بَعِيدٌ، وَبِتَقْدِيرِهِ، فَلَا أثَرَ لَهُ مَعَ القَاطِعِ كَمَا لَوِ انْقَرَضُوا.
قَالُوا: لَوْ لَمْ يشتَرَطْ لَمُنِعَ الْمُجْتَهِدُ مِنَ الرُّجُوعِ عَنِ اجْتِهَادِهِ.
قُلْنَا: وَاجِبٌ؛ لِقِيَامِ الإجْمَاعِ.
والحاصل أن القائلين بالانقراض اختلفوا في إدخال من أدرك المجمعين من التابعين، فمنهم من قال: لا مدخل للتَّابعي، وفائدة اشتراط الانقراض إمكان رجوع المجمعين أو بعضهم عما حكموا به أولًا، لا جواز مجتهد آخر.
وبتقدير تسليم دخول التابع لهم في إجماعهم، فلا يمتنع أن يكون الشَّرط هو انقراض عصر المجمعين عند حدوث الحَادِثَةِ، واعتبار مُوَافقة من أدرك ذلك العَصْر من المجتهدين لا عَصْر من أدرك عصرهم، وإلى هذا أشار إمامُ الحرمين، إذ قال: وهؤلاء - يعني: المشترطين - يقولون: لو أجمع العلماء في عصر، ثم لحقهم لاحقون، وبلغوا رتبة المجتهدين، فلا يعتبر انقراضهم؛ إذ يلحقهم آخرون.
وهذا يفضي إلى عسر تصوّر الانقراض، والمرعى إذًا اعتبار الذين أجمعوا أولًا.
الشرح: ومشترطو الانقراض "قالوا": عدم الاشتراط "يستلزم إلغاء الخبر الصَّحيح بتقدير الاطّلاع عليه" بعد الإجماع، وذلك يؤدي إلى إبطال النّص بالاجتهاد.
"قلنا": وجوده بعد الإجماع "بعيد"، فإنهم إنما يجمعون بعده ففسد البحث، "وبتقديره فلا أثر له مع القاطع" الدَّال على خلافه، وهو الإجماع "كما لو انقرضوا"، فإنه لا أثر له إجماعًا.
الشرح: "قالوا": ثانيًا "لو لم يشترط" الانقراض "لمنع المجتهد من الرجوع عن اجتهاده"، واللازم باطل، إذ يجوز له أن يرجع عن اجتهاده بما يطرأ له من الاجتهاد، بل يجب عليه.
وبيان المُلَازمة: أنه إذا تغير اجهاده بما يطرأ له من الاجتهاد، بل يجب عليه، وبيان الملازمة أنه إذا تغير اجتهاد بعض المجمعين، وقد انعقد الإجماع باجتهاده فيحكم باجتهاده الأول، ولا يمكن من العمل باجتهاده الثاني؛ لمخالفته الإجماع.
(1)
في ت، ح: شدة.
قَالُوا: لَوْ لَمْ تُعْتبَرْ مُخَالفتُهُ لَمْ تُعْتَبَرْ مُخَالَفَةُ مَنْ مَاتَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ كُلُّ الأُمَّةِ.
قُلْنَا: قَدِ الْتَزَمَهُ بَعْضٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ هذَا قَوْلُ مَنْ وُجِدَ مِنَ الْأُمَّةِ فَلَا إِجْمَاعَ.
مُسْتَنَدُ الإجْمَاعِ
(1)
مَسْأَلَةٌ:
لَا إِجْمَاعَ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْخَطَأَ، وَلِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً.
"قلنا": منع المجتهد
(2)
من الرجوع عن اجتهاده "واجب؛ لقيام الإجماع"، فإن الرجوعَ عن المجتهدات إنما يكون حيث لا يطرأ إجماع.
الشرح: "قالوا" ثالثًا: المجتهد اللاحق "لو لم تعتبر
(3)
مُخَالفته لم تعتبر مخالفة من مات"، فيكون اتفاق الباقين بعد موت المُخَالفين إحماعًا؛ "لأن الثاني كل الأمة".
"قلنا: قد التزمه بعض"، وقال: بذهاب الأقوال بموت قائليها
(4)
.
"والفرق"
(5)
على تقدير عدم الالتزام" أَنَّ هذا قول من وجد من الأمة" حال الإجماع "فلا إجماع"، بخلاف ما نحن فيه إذا وجد فيه قول كل الأمة حين لم يوجد قول يخالفه، فإذا انعقد فلا عِبْرَةَ بما يحدث بعده.
«مسألة»
الشرح: قال بعضهم: قد يكون الإجماع عن توفيق من الله هو من غير مستندٍ.
(1)
هذه المسألة في بيان أن الكل اتفقوا على أن الأمة لا تجمع على الحكم إلا من مأخذ ومستند؛ خلافًا لشرذمة شاذة جوزوا انعقاد الإجماع لا عن دلالة وأمارة، بل هو بتوفيق الله تعالى إياهم في اختيار الصواب. ينظر: الشيرازي 216 أ/ خ. والمحصول 2/ 1/ 265، والإحكام للآمدي 1/ 236، ونهاية السول 2/ 311، والتحصيل 2/ 78 والمعتمد 2/ 520 وشرح العضد 2/ 39، وحاشية البناني 2/ 204 وشرح الكوكب 2/ 259، والمستصفى 1/ 196، والآيات البينات 3/ 308، وتيسير التحرير 3/ 255، وفواتح الرحموت 2/ 238، والتلويح 2/ 51، والتقرير والتحبير 3/ 109، وكشف الأسرار 3/ 263 وميزان الأصول 1/ 77 وإرشاد الفحول (79).
(2)
في ت، ح: المجتهدين.
(3)
في أ، ح: يعتبر.
(4)
في ت: قائلها.
(5)
في ت: وتفرق.
قَالُوا: لَوْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ.
قُلْنَا: فَائِدَتُهُ سُقُوطُ الْبَحْثِ، وَحُرْمَةُ الْمُخَالَفَةِ، وَأَيْضًا فَإنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا قَائِلَ بِهِ.
والصَّواب: أنه "لا إجماعَ إِلَّا عن مستندٍ؛ لأنَّهُ" بدون المستند "يستلزم الخطأ" فإن القول في الدين بلا دليلٌ خطأ؛ "ولأنه مستحيل عادة".
ولقائل أن يقول على الأول: إنما يكون القول بلا دليلٍ خطأَ إذا لم يكن من جميع الأمة، أما إذا قاله الأمة طرأ، فذلك محل النزاع.
وعلى الثاني: أن العادة لا تفيد إن كان الكلام في الجواز العَقْلي على ما سنبحث عنه إن شاء الله تعالى.
الشرح: "قالوا: لو كان عن دَلِيل لم [يكن]
(1)
له فائدة"، للاستغناء بدليله عنه.
"قلنا: فائدته: سقوط البحث وحُرْمة المخالفة" بعد قيام الإجماع، "وأيضًا، فإنه" أي: ما استدللتم به "يوجب أن يكون عن غير دليلٌ، ولا قائل به"، إذ لم يقل أحد: إن الإجماع يجب أن يصدر عن غير دَلِيلٍ.
واعلم: أن الآمدي زعم أن الخلاف إنما هو في الجواز، لا الوقوع.
وهذا يدرؤه استدلال الخصوم بصور ذكروها، وقالوا: وقع إجماع فيها عن غير مستند، سواء أصحَّت لهم تلك الصور أم لا؟ لأنهم حيث ادعوا الوقوع كان ذلك مذهبًا مقولًا به، صح ما اعتصم به قائله أم فسد.
(1)
في ب: تكن.
حُكْمُ الإجْمَاعِ عَنْ قِيَاسٍ
(1)
مَسْأَلَةٌ:
يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ عَنْ قِيَاسٍ، وَمَنَعَتِ الظَّاهِرِيَّةُ الْجَوَازَ، وَبَعْضُهُمْ الْوُقُوعَ.
«مسألة»
الشرح: "يجوز أن يُجْمَعَ عن قياس" جليًّا كان، أو خفيًّا.
(1)
إن القائلين بافتقار انعقاد الإجماع إلى مستند اختلفوا في جواز انعقاده عن الرأي والاجتهاد، وجوزه الأكثرون، لكن اختلفوا في وقوعه نفيًا وإثباتًا، والقائلون بوقوعه اختلفوا في جواز مخالفته، فذهب الأكثرون منهم إلى عدم جوازها، والأقلون إلى جوازها؛ بناءً على أن القول بالاجتهاد في ذلك يفتح باب الاجتهاد، ولا يحرمه. فإن قيل: ما ذكرتم من دليلٌ الجواز معارض بما يدل على عدمه، وهو أن الإجماع قطعي، وبفسق مخالفه، فيكون بسند الظني لا بفسق مخالفه. وأيضًا أن الناس مع اختلاف طبائعهم، وتباين دعاويهم مما يستحيل اتفاقهم على رأي واحد، كاتفاقهم على أكل طعام واحد في وقت واحد. وأيضًا الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد فيما اجتهد، فلو انعقد الإجماع عن اجتهاد لحرمت المخالفة الجائزة بالاتفاق - وأيضًا الإجماع أصل من أصول الأدلة، ومعصوم عن الخطإ!، فيمتنع إسناده إلى ما هو فرع له، وعرضة للخطإ، وهو القياس. وأيضًا ما من عصر إلا وفيه جماعة من نفاة القياس، وذلك يمنع من انعقاد الإجماع مستندًا إلى القياس. ثم لا نسلم أن انعقاد الإجماع في الصور المذكورة إنما كان عن قياس، بل عن نصوص ظهرت لهم، واكتفوا بإجماعهم عن نقلها، منها ما ظهر لنا كتمسك أبي بكر رضي الله عنه بقوله تعالى:{أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ، وباستثناء النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وهو قوله:"إلا بحقها" من قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" وباستدلال الصحابة بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: نطيب نفسًا أن نقدم قدمين قدمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها ما لم يطهر.
قلنا: الجواب عن الأول: لا نسلم أن القياس المتفق على ثبوت حكمه ظني لا يفسق مخالفه بأن إجماعهم على صحة ذلك القياس يخرجه من كونه ظنيًا، ويجعله قطعيًا بالاتفاق، فإن قيل: لا نسلم أن القياس الذي قدر الله تعالى إجماع الأمة على مقتضاه ظني، ولا أنه عندما يكون ظنيًا، وهو قبل تحقق الإجماع لا يكون مستنده؛ إذ المعدوم لا يفتقر إلى مستنده، وكونه مستنده - وهو بعد تحقق الإجماع لا يبقى ظنيًا - سلمناه، لكنه منقوض بما وافقتمونا عليه من صحة إسناد الإجماع القطعي إلى خبر الواحد مع كونه ظنيًا بالاتفاق، فما هو الجواب في محل الإلزام هر الجواب في محل النزاع.
وعن الثاني: منع استحالة اتفاقهم على مظنون؛ لجواز كونه جليًا على ما سبق، أو لأنَّهُ وإن استحال الاتفاق في وقت واحد؛ لتفاوت أفهامهم وحدتهم في النظر والاجتهاد، فلا يستحيل في أزمنة =
لَنَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ كَغَيْرِهِ، وَالظَّاهِرُ الْوُقُوعُ كَإِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَتَحْرِيمِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَإِرَاقَةِ نَحْوِ الشَّيْرَجِ.
"ومنعت الظَّاهرية الجواز" بناء على أصلهم في منع القياس، ووافقهم الإمام محمد بن جرير [الطَّبري]
(1)
من أئمتنا، وهو غريب عنه؛ لأنَّهُ من القائلين بالقياس.
"وبعضهم" منع "الوقوع".
[وقيل]
(2)
: واقع، ولكن لا يحرم مُخَالفته.
وقيل: يجوز عن الجَلِيّ دون الخَفِيّ.
ونقل جماعة: الاتِّفاق على جواز الإجماع عن دلالة.
ورأيت - في كتاب "الميزان"من كتب الحنفية
(3)
- أن بعض مشايخهم ذهب إلى: أنه لا يجوز القياس إِلَّا عن أمارة، ولا يجوز عن دلالة؛ للاستغناء بها عنه، وهو غريبٌ.
"لنا: القَطْع بالجواز كغيره" من أنواع الإجماع؛ إذ لا يلزم من وقوعه مُحَال لذاته.
= متطاولة، كما لا يستحيل اتفاقهم على العمل بخبر الواحد الموقوف على عدالة الراوي مع كونها مظنونة بما يظهر عليه من الأمارات الدالة عليها؛ إذ لا يلزم من أحكام اطلاعهم على عدالة الراوي إمكان اطلاعهم على القياس الخفي، وهذا يخالف اتفاق الكافة على أكل طعام واحد في وقت واحد فإن اختلاف أمزجتهم لأصناف شهواتهم لا داعي لهم إلى الإجماع عليه، كما وجد الداعي لهم عند ظهور القياس إلى الحكم بمقتضاه.
وعن الثالث: أن الإجماع لم ينعقد على جواز مخالفة المجتهد مطلقًا، بل إذا لم يوافقه مجتهدو عصره.
وعن الرابع: جميع كون القياس الذي هو مستند الإجماع فرعًا له لما قيل من أنه فرع، يعني من الكتاب والسنة؛ إذ لا يندفع الدور، ويكون القياس فرع الكتاب والسنة بعد تسليم كونه فرع الإجماع أيضًا، بل لتغاير الإجماعين؛ لأن فردًا من أفراد الإجماع فرع قياس ما، ومطلق القياس فرع إجماع آخر. وأما قولهم: هو عرضة للخطإ، فالجواب عنه ما مر في الجواب الأول.
وعن الخامس: أن الخلاف في القياس لم يكن في العصر الأول، بل هو حادث، وإذن لا يمنع عن انعقاد الإجماع عن القياس مطلقًا، بل بعد وقوع الخلاف فيه، وهو مسلم، ثم هو منقوض بخبر الواحد خالفوا فيه، وفي أسباب تركيبه، ووافقوا في انعقاد الإجماع بناءً عليه
…
ينظر: الشيرازي 216 ب/ 217 أ/ خ.
(1)
سقط في ت، ح.
(2)
سقط في ب.
(3)
ينظر: الميزان 1/ 773.
حُكْمُ الإجْمَاعِ عَلَى قَوْلَيْن
(1)
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا أُجْمِعَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَأُحْدِثَ قَوْلٌ ثَالِثٌ مَنَعَهُ الْأَكْثَرُ كَوَطْءِ الْبِكْرِ.
قِيل: يَمْنَعُ الرَّدَّ، وَقِيلَ: مَعَ الأَرْشِ، فَالرَّدُّ مَجَّانًا ثَالِثٌ، وَكَالجَدِّ مَعَ الْأَخ. قِيلَ:
"والظاهر: الوقوع كإمامة أبي بَكْرٍ رضي الله عنه " أجمع عليها بالقياس على الصَّلاة؛ إذ قال عمر رضي الله عنه: رضيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ "وتحريم شَحْمِ الخِنْزِيرِ" قياسًا على لَحْمِهِ، "وإراقة نحو الشَّيرَج" إذا وقعت فيه فأرة قياسًا على السمن.
«مسألة»
الشرح: "إذا أُجمع على قولين" - بأن افترقت الأمة إلى فرقتين قالت فرقة بالنفي، وأخرى بالإثبات - "وأُحدث قول ثالث" فهل يجوز
(2)
؟.
"منعه الأكثر كَوَطْء البكر.
قيل: يمنع"
(3)
المشتري "الرد" إذا علم بعد ذلك بِعَيْبِهَا، "وقيل": بجوازه، ولكن "مع الأَرْشِ
(4)
، فالرد" قهرًا "مجانًا" بغير أَرْشِ البِكَارَةِ قول "ثالث".
(1)
هذه المسألة في أنه إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين، فهل يجوز أن يقدمهم إحداث قول ثالث أم لا؟ اختلفوا فيه، فذهب الجمهور إلى المنع من ذلك؛ خلافًا لبعض الشيعة، وبعض الحنفية، وبعض أهل الظاهر.
(2)
ينظر: البرهان 1/ 706، والمحصول 2/ 1/ 180، والمعتمد 2/ 505، والمستصفى 1/ 198، والمنخول (320)، والتبصرة 387، والآيات البينات 3/ 296، وشرح العضد 2/ 39، وحاشية البناني 2/ 197، والمسودة 326، والإحكام للآمدي 1/ 242، والتحصيل 2/ 59، وشرح الكوكب المنير 2/ 264 وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 200، وكشف الأسرار 3/ 234، وتيسير التحرير 3/ 250، وفواتح الرحموت 2/ 235، والتقرير والتحبير 3/ 88، وإرشاد الفحول 86.
(3)
في أ، ح: تمنع.
(4)
الأَرْش: اسم للواجب على ما دون النفس. وفي المغرب: الأَرْش دِيَةُ الجراحات، والجمع أُرُوش وإرَاشٌ بوزن فِرَاسِ اسم موضع. ينظر: الكليات ص (30) والتعريفات ص (9)، والمغرب 1/ 35، والصحاح 3/ 995، والقاموس المحيط 2/ 271، وأنيس الفقهاء (295).
الْمَالُ كُلُّه، وَقِيلَ: الْمُقَاسَمَةُ فَالْحِرْمَانُ ثَالِثٌ، وَكَالنِّيَّةِ فِي الطَّهَارَاتِ، قِيلَ: تُعْتَبَر، وَقِيلَ: فِي الْبَعْضِ، فَالتَّعْمِيمُ بِالنَّفْيِ ثَالِثٌ، وَكَالْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ، قِيلَ: يُفْسَخُ بِهَا، وَقِيلَ: لَا فَالْفَرْقُ ثَالِثٌ، وَكَأُمٍّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبٍ، قِيلَ: الثُّلُث، وَقِيلَ: ثُلُثُ مَا بَقِيَ فَالْفَرْقُ
ومذهبنا: جواز الرد، وبدل الأرش، والبقاء وأخذ الأرش. فإن تَشَاحّا فالصحيح: يجاب من يدعو إلى الإمساك، والرجوع بأَرْشِ العَيبِ القديم.
والآمدي مثَّلَ بوطء الثَّيِّب.
وفيه نظر، فإن أصحابنا ذهبوا فيها إلى الرد مجانًا، وقالوا لم يثبت تكلم جميع الصَّحابة في المسألة، ونقلوا عن ريد بن ثابت مثل قولنا.
"وكالجد مع الأخ
(1)
.
قيل: المال كله" للجد.
"وقيل: المقاسمة" بينهما، "فالحرمانُ" حرمان الجد، وهو قول ابن حَزْم "ثالث".
"وكالنِّيَّة في الطهارات
(2)
.
قيل: تعتبر" في جميعها، وهو قول ابن سريج.
"وقيل": يعتبر "في البعض"، كرفع الحدث دون إزالة الخبث وهو الصحيح، "فالتعميم بالنفي ثالث".
"وكالفَسْخ بالعيوب الخمسة" الجُنُون، والجُذَام
(3)
، والبَرَص
(4)
، والجَبّ
(5)
، والعُنَّة
(6)
،
(1)
سقط في أ، ب.
(2)
في أ، ت، ح: الطهارة.
(3)
الجُذَام: داءٌ معروف يأكل اللحم ويتناثر، قال الجوهريّ: وقد جُذِمَ الرّجل بضم الجيم، فهو مَجْذُوم، ولا يُقال: أَجْذَم. ينظر: تحرير التنبيه 282.
(4)
البَرَصُ بالفتح، بيِاض، داءٌ معروف، وغلامَته أن يعصر اللّحم فلا يحمرّ، وقد بَرِصَ بفتح الباء وكسر الرّاء، فهو أَبْرَصُ. ينظر: تحرير التنبيه 282.
(5)
المجْبُوب: من جبَّ ذكره، مشتق من الجَبِّ، وهو القطع. ينظر: تحرير التنيه 284، وأنيس الفقهاء 166.
(6)
العِنّين بكسرِ العَين والنون المشدّدة، وهو العاجِزُ عن الوَطْء. وربّما اشتهاه، ولا يُمكنه، مشتقٌّ من عَن الشَّيءُ إذا اعْتَرض؛ لأَنّ ذكره يَعِنُّ أي يَعْتَرضُ عن يَمين الفَرْج وشِماله. وِقيل: من عِنانِ الدّابَّة لِلِيْنهِ. قالوا: يقال: عَنّ يعِنُّ ويعُنُّ عَنًّا وعُنونًا. واعتنَّ اعترض، قال ابن الأعرابي: جمع العِنّين =
ثَالِثٌ، وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ إِنْ كَانَ الثَّالِثُ يَرْفَعُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فَمَمْنُوعٌ كَالْبِكْرِ وَكَالْجَدِّ وَالطَّهَارَاتِ، وَإلَّا فَجَائِزٌ، كَفَسْخِ النِّكَاحِ بِبَعْضٍ، وَكَالْأُمِّ فَإِنَّهُ يُوَافِقُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مَذْهَبًا.
والرَّتَق
(1)
، والقرن
(2)
"قيل: يفسخ بها" وهو مذهبنا.
"وقيل: لا"، وهو مأثور عن علي كرم الله وجهه.
"فالفرق ثالث" وبه قال أبو حنيفة حيث ذهب إلى الفَسْخ ببعضها دون بعض، والحسن البصري حيث ذهب أن للمرأة الفسخ بها دون الزوج؛ لتمكّنه من الفَسْخِ بالطلاق.
"وكأم مع زوج" وأب، "أو" مع "زوجة وأب.
قيل": للأم "ثُلُث" من الأصل في المسألتين، وهو مذهب ابن عباس.
"وقيل: ثلث ما بقي" بعد نصيب الزَّوج أو الزوجة، "فالفرق" أن يقال: لها ثلث الأصل في إحدى المسألتين دون الأخرى "ثالث".
"والصَّحيحُ" في هذه المسألة - وعليه الإمام الرَّازي وأتباعه والآمدي وطائفة - "التفصيل" بأن يقال: "إن كان الثالث يرفع" من مَدْلول القولين "ما اتَّفَقَا عليه، فممنوع" إحداثه؛ لخرقه الإجماع -
= والمعنون عُنُنٌ. قال: يُقال: عُنَّ الرَّجل، وعُنِّن، وعُنِنَ، واعْتنَّ، فهو عِنِّين، مَعْنونٌ، مُعَنٌّ، مُعَنَّن.
قال صاحب المحكم: هو عِنِّين بيِّن العَنَانة والعِنِّينة، والعيِّنيَّة. ينظر: تحرير التنبيه 283، وأنيس الفقهاء 165.
(1)
الرَتَقُ بفتحِ الرّاء والتّاء، وهو التحامُ الفَرج بحيث لا يمكن دُخول الذَّكر، وإن وجد الرّجل بالمرأةِ رتَقًا، أَو قَرَنًا هو بفتح الراء وإسكانها. ينظر: تحرير التنبيه 282، وأنيس الفقهاء 151.
(2)
قال أهل اللغة: القَرْن بإسكان الراء هو العَفَلة بالعين المهملة والفاء المفتوحتين، وهي لحمةٌ تكونُ في فمِ فرج المرأة. وقيل: عظم، والمَشْهُور لحمة، قالوا: والقَرَنُ بفتح الراء مصدرُ قَرِنَتْ تقرَن قرَنًا كبَرِصَتْ تَبْرَصُ برصًا. فيجوزُ أَن يقرأ كلام المصنّف بالفتح والإِسكان، فالفتحِ غلى إرادة المصدر، والإِسكان على إرادةِ الاسم. ونفس العَفَلة إلا أنّ الفتح أرْجَح؛ لكونه مُوافِقًا لباقي العُيوب؛ فإنها كلها مصادر، وعطفُ مصدرٍ على مَصدر أحسنُ من عَطف اسم على اسم، فثبَت أنَّ الراجحَ الفتحُ مع جوازِ الإسكان، هذا هُو الصَّواب. وأما إنكارُ بعضِهم على الفُقهاء فَتْحَه، وتلحينُهُ إيّاهم فغلطٌ منه فاحشٌ، وهو مردودٌ بما نقلته عن أَعلامِ أئمة اللغة. ولقد أحسنَ الإمام العلَّامة أبو محمد عبد الله بن برّي فقال: قال الفرَّاء: القَرَنُ بالفتح العَيب، وهو من قولك: امرأةٌ قَرْناء بَيِّنَةُ القَرن. والقَرْن بالإِسكان العَفَلة. ينظر: تحرير التنبيه 282، أنيس الفقهاء 151.
لَنَا: أَنَّ الأَوَّلَ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ فَمُنِعَ بِخلَافِ الثَّانِي، كَمَا لَوْ قِيلَ:"لَا يُقْتلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ" وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْغَائِبِ، وَقِيلَ: يُقْتَلُ وَيَصِحُّ لَمْ يُمْنَعْ يُقْتَل، وَلَا يَصِحُّ
"كالبِكْرِ"؛ لاجتماع القولين على امتناع الرَّد قهرًا مجانًا، والثالث برفعه.
"وكالجد"؛ للاتفاق على أن له حظًّا من المال.
"وكالطهارات"؛ للاتِّفاق على أن [له]
(1)
بعض الظهارة [في النِّيَّة]
(2)
.
"وإلا" - أي: وإن لم يرفع متفقًا، بل خالف كلا بوجه ووافق بوجه -، "فجائز كفسخ النكاح ببعض"
(3)
.
"وكالأم فإنه يوافق في كل صورة مذهبًا"
(4)
، فلا يخرق الإجماع.
الشرح: "لنا: أن الأول مخالفة الإجماع فمنع، بخلاف الثاني"، فإنه لا مخالفة فيه "كما لو قيل: لا يقتل مسلم بذمّي
(5)
، ولا يصح بيع
(6)
الغَائِب".
(1)
سقط في أ، ب، ت، ح.
(2)
في أ، ب، ت، ح: بالنية.
(3)
في أ، ت، ح: بنقص.
(4)
في ب: مذهبنا.
(5)
لا يُقتل المسلم بالكافر، سواء كان الكافر ذميًا له عهد مؤبد، أو مُستأمنًا وعهده إلى مدة، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وبه قال عطاء، وعكرمة، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب مالك، وسفيان الثوري، وابن شبرُمة، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وذهب جماعة إلى أن المسلم يُقتل بالذمي، وهو قول الشعبي، والنخعي، وإليه ذهب أصحاب الرأي، وتأولوا قوله:"لا يقتل مؤمن بكافر" أي: بكافر حربي؛ بدليل أنه عطف عليه، ولا ذو عهد في عهده، وذو العهد يُقتل بذي العهد، إنما لا يُقتل بالحربي، وقالوا: تقدير الكلام: لا يقتل مؤمن، ولا ذو عهد في عهده بكافر، واحتجوا بحديث منقطع، وهو ما روي عن عبد الرحمن بن البيلماني أن رجلًا من المسلمين قتل رجلًا من أهل الذمة، فرفع ذلك إلى رسول ابنه صلى الله عليه وسلم فقال:"أنا أحق من أوفى بذمته" ثم أمر به فقتل. فيقال لهم: قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" كلام تام مستقل بنفسه، فلا وجه لضمه إلى ما بعده، وإبطال حكم ظاهره؛ وقد روينا عن صحيفة علي:"لا يقتل مؤمن بكافر" من غير ذكر ذي العهد، فهو عام في حق جميع الكفار ألا يقتل به مؤمن، كما قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكْافر، ولا الكافر المسلم؛ فكان الذمي، والمستأمن، والحربي فيه سواء.
(6)
في أ، ت، ح: مع.
وَعَكْسُهُ بِاتِّفَاقٍ. قَالُوا: فَصَّلَ وَلَمْ يُفَصِّلْ أَحَدٌ فَقَدْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ قُلْنَا: عَدَمُ الْقَوْلِ بِهِ لَيْسَ قَوْلًا بِنَفْيِهِ، وَإلَّا امْتَنَعَ الْقَوْلُ فِي وَاقِعَةٍ تتَجَدَّدُ وَيَتَحَقَّقُ بِمَسْأَلَتَيِ الذِّمِّيِّ وَالْغَائِبِ.
قَالُوا: يَسْتَلْزِمُ تَخْطِئَةَ كُلِّ فَرِيقٍ وَهُمْ كُل الْأُمَّةِ.
"وقيل: يقتل، ويصح لم يمنع، يقتل
(1)
، ولا يصح وعكسه باتفاق"؛ وإنما ذلك لكونه لم يرفع مجمعًا عليه.
فإن قلت: ما الفارق بين مسألتي "العيوب" و"الأم"، و"مسألة قتل المسلم بالذِّمي" و"صحة بيع الغائب"، حيث اتفقوا على جواز العضل
(2)
في هذه، واختلفوا في الأولييْن.
قلت: اشتراكُ الأوليين في قدر مشترك، فالخمسُ اشتركن في فسخ بعيب، والأم في الصورتين موجودة، ولكن تارة معها زوجها وأب، وطورًا [زوجة وأب]
(3)
، وعدم الاشتراك في الأخيرة، فإنه لا رابط بين قتل المُسْلِمِ بالذّمي، وصحة بيع الغائب.
والمانعون للقول الثَّالث مطلقًا زعموه رافعًا للمجمع عليه مطلقًا، فلذلك تبعوه وإلا لم يكن لمنعهم وجهٌ.
"قالوا": أولًا إن القائل به "فصّل" ففرّق مثلًا في العيوب الخمسة، "ولم يفصّلْ أحد" من السابقين، "فقد خالف الإجماع" في عدم الفصْلِ.
"قلنا: عدم القول به ليس قولًا بنفيه" حتَّى يمتنع، ففرق بين القول بعدم الشَّيء، وعدم القول بالشيء؛ إذ لا حكم في الثاني دون الأول، "وإلا امتنع القول في واقعة تتجدَّد"، ولم يطلع عليها أهل العَصْرِ الأول بشيء من الأشياء؛ لصدق أنهم لم يقولوا فيها بشيء ولا قائلَ بذلك، وسره ما ذكرناه من عدم الحكم فيه.
"ويتحقّق" جواز الفَصْل "بمسألتي الذِّمِّي والغائب".
الشرح: "قالوا": ثانيًا: "يستلزم تَخْطِئة كلّ فريق" في مسألة، "وهم
(4)
كل الأمة" فيصدق أخطأت الأمة.
"قلنا: الممتنع: تخطئة كل الأمة فيما اتفقوا عليه" - أما ما لم يتفقوا عليه بأن تخطئ فرقة في مسألة وأخرى في أخرى، فلا يمتنع.
(1)
في أ، ب، ت، ح: شك.
(2)
في أ، ب، ح: الفصل.
(3)
في ب: زوج وأم في الحاشية: كذا وقع بخط المصنف، وإنما قال: مع زوجة وأب.
(4)
في أ، ت: فهم.
قُلْنَا: الْمُمْتَنِعُ تَخْطِئَةُ كُلِّ الْأُمَّةِ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ.
وقد نظر البَيْضَاوي هذا الجواب ووجهه: أنه إذا أخطأت الأمة في شيئين كلّ شطر في شيء دخل تحت عموم "لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى خَطَإٍ".
ومن خطَّأ كلّ فريق في قول فقد خطأ كلّ الأمة.
وهذا
(1)
النظر له أصل مختلف فيه، وهو أنه هل يجوز انقسام الأمَّة إلى شطرين كل شطر يخطئ
(2)
في مسألة؟ - والأكثر على أنه لا يجوز - واختار الآمدي خلافه، فتبعه المصنّف.
وله عندي اتجاه ظاهر، فإن المحذور حصول الاجتماع منها، وإذا انفرد كلّ واحد بخطأ غير خطأ صاحبه، فأين الاجتماع؟
ولو صدق الاجتماع لاقتضى اجتماع جمع عظيم أكثر من عدد المجمعين بأضعاف مضاعفة على الخطأ.
بيانه: أن العصر الماضي لم يَخْلُ عن معاصي صدرت من سفهائه، واللاحق كمثله، ولاحق اللاحق نظيره، وهكذا إذ ليس كل فرد من الأمة
(3)
بمعصوم، والمجاري فيما بينهم طافحة، فإن صدق على مثل هذا أنه إجماع، فقد لاح اجتماع الجَمْعِ العظيم على الخطأ، فالوجه حمل الاجتماع على ما ذكرناه.
والإمامُ الرَّازي لم يذكر هذا الجَوَاب المذكور في الكتاب، بل قال: هذا الإشكال غير واردٍ على القول بأن كل مجتهد مصيبٌ، فإنه لا يلزم من حقيقة واحد من الأقسام فساد الباقي.
سَلَّمنا، ولكن لا يلزم من الذِّهَاب إلى الثالث كونه حقًّا؛ لأن المجتهد يعمل بمقتضى اجتهاده، وإن كان خطأ في نفس الأمر.
ولقائل أن يقول: [على الأول]
(4)
قد اعترفتم أولًا بوروده على المَذْهَبِ الحَقّ الذي يرويه وهو أن المصيب واحد، ثم لم قلتم: إنه لا يلزم من حقيَّة أحد الأقسام فساد الباقي إذا وقع الإجماع على ذلك القسم.
وعلى الثاني: أن الذَّاهب إلى الثالث إذا كان يعلم انقسام [الأمة]
(5)
إلى شَطْرَيْنِ، والفرض علمه أن الثالث يستلزم التَّخْطئة، فقد علم أن الذهاب [إليه]
(6)
خطأ فيحرم عليه الذهاب إليه.
(1)
في أ، ت، ح: فهذا.
(2)
في ب، ت: مخطئ.
(3)
في أ، ب، ت: الأئمة.
(4)
سقط في ب.
(5)
سقط في ح.
(6)
سقط في ت.
الآخَرُ اخْتِلَافُهُمْ دَلِيلُ أنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ.
قُلْنَا: مَا مَنَعْنَاهُ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَهُوَ دَلِيلٌ قَبْلَ تَقَرُّرِ إِجْمَاعٍ مَانِعٍ مِنْهُ.
قَالُوا: لَوْ كَانَ لأُنْكِرَ لمَّا وَقَعَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ فِي مَسْأَلةِ الْأُمِّ ..........
الشرح: واحتج "الآخر" وهو مجوّز الذهاب إلى الثالث مطلقًا - فقال: "اختلافهم" فيها "دليلٌ أنها اجتهادية"، فيكون اختلافهم فيها سائغًا، والثالث حادث عن اجتهاد فلا يُمْنَعُ.
"قلنا: ما مَنَعْنَاهُ لم يختلفوا فيه" حتى يقال: إنه اجتهادي.
"ولو سلم" أن الاختلاف دليلُ تسويغ الاجتهاد، "فهو دليلٌ قبل تقرر إجماع مانع منه" لا مطلقًا، والأمة لما اتَّفقت على القولين حصل الإجماع المانع من الثالث.
الشرح: "قالوا: لو كان" إحداث الثَّالث ممنوعًا "لأنكر لمَّا وقعَ"، ولكنه لم ينكر بدليل أنه "قد قال ابن سِيرِين"
(1)
؛ بإحداث ثالث "في مسألة الأم مع زوج وأب"؛ لأنَّهُ قال فيها "يقول ابن عباس"، وجعل [له] ثلث الأصل، ولم يقل به إذا كان معها زوجة، "وعكس" مجتهد "آخر" فقال: يقول ابن عباس: إذا كان معها زوجة، لا إذا كان معها زوج، ولم ينكر ذلك أحد.
هكذا ذكر ذلك الآمدي، وجرى عليه الشارحون والعقل والنقل يدرآنه، لأنَّهُ إذا أعطاها في مسألة الزوج الثلث كاملًا مع أنها تأخذ ضعف الأب، لزمه أن يعطيها
(2)
الثلث كاملًا في زوجة وأبوين بطريق أولى، فإنها إذا أعطيت الثلث كاملًا في زوجة وأبوين لم تأخذ ضعفه ولا مثله، بل أنقص منه بسهم، فإذا جاز أن تأخذ
(3)
ضعف الأب
(4)
؛ رِعَايَةً لظاهر قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] كَامِلًا إذا كان ذلك أنقص مما أخذه الأب أولى وأحرى.
(1)
محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم، أبو بكر الأنصاري إمام وقته، روى عن مولاه أنس وزيد بن ثابت وعمران بن حصير وأبي هريرة وعائشة وطائفة من كبار التابعين، وعنه الشعبي وثابت وقتادة وأيوب ومالك بن دينار وسليمان التيمي وخالد الحذاء والأوزاعي وخلق كثير، وقال بكر المزني: والله ما أدركنا من هو أورع منه، قال حماد بن زيد: مات سنة عشر ومائة. ينظر: الخلاصة 2/ 412، وتقريب "التهذيب" 2/ 169، وتهذيب الكمال 3/ 1208، والكاشف 3/ 51، والوافي بالوفيات 3/ 146، والثقات لابن حبان 5/ 349، وتاريخ بغداد 5/ 331.
(2)
في أ: يعطى لها.
(3)
في أ، ب، ت: يأخذ.
(4)
في ب: الإرث.
مَعَ زَوْجٍ وَأَبٍ (4) بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَكَسَ آخَر، قُلْنَا: لأَنَّهَا كَالْعُيُوبِ الخَمْسَةِ فَلَا مُخَالَفَةَ لإِجْمَاعٍ.
ثم ما ذكرناه هو المنقول عن ابن [سِيرِينَ، فاعرف ذلك، والذي عكس مقالته هو القاضي]
(1)
شريح من التابعين أيضًا، كما نقله صاحب "الكافي" في الفَرَائِضِ.
"قلنا": إنما فعل ابن سِيرِينَ، وشريح ذلك؛ "لأنها كالعيوب الخمسة، فلا مخالفة لإجماع" فلم يمنع.
واعلم: أن مَدارَ الخلاف في هذه المسألة على أن الثَّالث هل يرفع مجمعًا عليه أو لا، أو فيه تفصيل؟
فمن نَفَاهُ مطلقًا ادَّعاه رافعًا مطلقًا، وعلى عكسه من أثبته، ومن فصّل ادَّعى التفصيل كذلك، فلو وقع اتّفاق على أنه رافع، أو غير رافع، لوقع على أنه جائز؛ أو غير جائز إذ لا مَحْذُورَ غير رفع المجمع عليه.
وهذا شأن مسائل لا يَتَنَاهَى عَدَدُهَا في الشريعة يقع [على]
(2)
الخلاف فيها بعد الاتِّفَاق على أصولها، مثل النزاع بَيْنَنَا وبين الحَنَفِيَّة في أن الزيادة هل هي نسخ؟ فإنه آيِلٌ إلى أنها ترفع حكمًا شرعيًّا، فيكون نسخًا، أو لا فلا.
وأَنَا أضرب لذلك أمثلة فقهيَّة، منها:
المذهب: صحة الوقف المنقطع الآخَر، وأنه يبقى وقفًا عند انقراض المذكورين، ثم الأصحّ، أنه والحالة هذه يصرف إلى أقرب النَّاس إلى الواقف.
وقيل: إلى المساكين وقيل: في المَصَالح العامَّة.
وقيل: إلى مستحقّي الزَّكاة، وكل صاحب وجه من هذه الأربعة يعلّل مقالته بأن ما ذكره أهم الخيرات فاتَّفَقُوا على أن جهة المصرف - والحالة هذه - أهم الخيرات، ثم اختلف الرأي في أن الأهم ماذا؟
ومنها: الماء المطلق متعيّن للطهورية
(3)
عند أصحابنا، إما تعبُّدًا؛ وإما لاختصاصه بنوع من النّظَافَةِ، ولا يشاركه فيه سائر المَائِعَات، وعلى كل من الأمرين المناط الاسم، فإذا وقع
(1)
سقط في ح.
(2)
سقط في أ، ب، ح.
(3)
في ب: للطهور.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خلاف في متغيّر بِتُرَاب طُرحَ قصدًا، أو بأوراق مُتَفَتِّتَة، أو غير ذلك فهو اختلاف في أن الاسم سلب، أو لا.
ومنها: الضرر مجتنب في البَيْعِ للحديث، فإذا اختلف في بيع الغائب المَذْكُور صفته، وأثبت خيار الرُّؤية على الفَوْرِ
(1)
لصحّته آل إلى أن مثل هذا هل ينفي الغَرَر؟
وكذا بيع السَّمك في الماء والطَّيْر في الهواء لا يصح؛ للغَرَرِ
(2)
، فلو كان السمك في بِرْكة
(1)
هو من إضافة الشيء إلى شرطه، وأما سببه، فهو عدم الرؤية، وأصله في مبيع معين غير مرئي عند العقد عليه، وأما كونه غير مرئي؛ فلأنه موضوع هذا الخيار؛ لأن سببه كما قَدَّمْنَا هو عدم رؤية المبيع، وأما شرط كونه معينًا؛ فلأن الثابت في الذمة إن جاء على الوصف الذي وصف به، فقد لزم المشتري قبوله، ولا يجوز له رده، وإن جاء على غير ما وصف، فله رَدُّهُ لا لثبوت خيار الرؤية فيه، ولكن لأنه غير المبيع. ويعرف خيار الرؤية: بأنه حق المشتري في فسخ البيع وإمضائه عند رؤيته المبيع المعين الذي لم يره عند العقد. مثاله: أن يقول البائع للمشتري: بعتك محصول أرض بجهة كذا من القمح هذا العام على أن يكون ثمن الإردب كذا، فيقبل المشتري، وهو لم يسبق له أَنْ رأى هذا القمح. وخيار الرؤية يجعل البيع قبل الرؤية غير لازم؛ وذلك لعدم تمام الرضا بالبيع من المشتري، وهو يلزم عدم لزوم البيع، كخيار الشرط، ويكون غير لازم من جهة المشتري، وفي قول عند المالكية من جهتهما معًا، ولكنه ضعيف، فللمشتري أن يفسخ البيع إن أراد بمقتضى عدم اللزوم لا بمقتضى خيار الرؤية؛ فإنه معلق بالرؤية، ولم توجد بعد. ويستمر له هذا الحق ما دامت لم توجد الرؤية، حَتّى ولو أجاز البيع؛ لأن هذه الإجازة غير معتبرة شرعًا؛ لأن الرضى لا يتحقق قبل الرؤية. وقد أورد الكمال في "فتح القدير" إشكالًا على ثبوت حق الفسخ للمشتري قبل الرؤية حاصله: أن إثبات قدرة الفسخ والإجازة التي هي عبارة عن الخيار - معلق بالرؤية، ولما كان البيع في الأصل يقتضي اللزوم، فقبل الرؤية يلزم مقتضاه، وهو اللزوم، حتَّى توجد الرؤية، وعندها تثبت قدرة الفسخ والإجازة معًا. وهذا الكلام مقبول لدى العقل، وبالنسبة لقواعد المذهب غير مقبول؛ لأن هذا الخيار يمنع تمام الحكم عتد الحنغمية، فلو لزم البيع قبل الرؤية لاستلزم تمام الحكم؛ لأنه لا معنى للزوم شيء لم يتم حكمه بعد. هذا، وأما حكم البيع قبل الرؤية عند الحنابلة في الغائب الموصوف، فهو اللزوم، فليس للمشتري أن يفسخ قبل الرؤية، بل ولا بعدها ما دام المبيع قد جاء على الوصف؛ لتمام البيع قبل الرؤية وبعدها بالرضا الناشيء عن العلم بالمبيع بواسطة وصفه. وإنما ثبت له الخيار إذا رآه متخلفًا وصفه بالقياس على ما لو ظهر المبيع معيبًا بعيب عند البائع.
(2)
والغرر: التردد بين أمرين أحدهما على الفرض والثاني على خلافه، كبيع السلعة بقيمتها التي ستظهر في السّوق أو التي يقولها أهل الخبرة، وإنما نهى عنه للجهل بالعوض وقت العقد، فيفضي إلى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صغيرة يتأتى أخذه منها من غير عُسْرٍ صح، ولو كانت كبيرة تحتاج إلى تعب ومشقّة فوجهان، منشؤهما أن هذا هل هو غَرَرٌ؟.
ويتّضح لك أيها الشَّافعيُّ أنك لا تقدر تحتج على الحَنَفِيّ في إبطال بيع الغائب بحديث: "نهى عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ"
(1)
إلا بعد أن تقيم الدلالة على أنه غَرَر، وإلا فهو يمنعك حصول الغرر في الحالة التي تصححه فيها.
ومنها: من شروط المأموم إلا يتقدّم على إمَامِهِ في الموقف
(2)
على الجديد، والاعتبار في المساواة والتقدم بالعقب، [فلو تقدم]
(3)
عقب المأموم لم يصح، وإن كانت أصابعه متأخرة أو محاذية.
وفي "التتمة" وجه أنه يصح، نظرًا إلى الأصابع.
ومنشأ الخلاف: أن مثل هذا هل هو تقدم؟
وفي الفروع كثرة، ويكفي ما أوردنا منها على أمثاله، ونافعًا في أنظار ما نحن فيه بحيث لا يفيد ذكره.
= المنازعة؛ لعدم الاتفاق على الثمن، وقد جعل العقد لقطعها، وكذلك إن باع بما يحكم به، أو بما يحكم به المشتري أو الأجنبي من الثمن، أو بما يرضى به، وإنما يفسد العقد في هذه الصورة ونحوها إن عقداه على صفة اللزوم لهما أو لأحدهما، فإن كان على الخيار صح؛ إذ لا يفضي إلى المنازعة في هذا الوقت.
(1)
أخرجه مسلم 3/ 1153، في كتاب اليبوع: باب بطلان بيع الحصاة (4/ 1513)، وأخرجه أبو داود 3/ 254، في البيوع: باب في بيع الغرر (3376)، والترمذي 3/ 532، في البيوع: باب ما جاء في كراهية بيع الغرر (1230)، وقال: حسن صحيح، والنسائي 7/ 262، في البيوع، باب: بيع الحصاة، وابن ماجة 2/ 739، في التجارات: باب النهي عن بيع الحصاة وبيع الغرر (2194)، وأحمد في المسند 2/ 251 - 376 - 436 - 439 - 496.
(2)
في ت، ح: الوقف.
(3)
في أ، ت، ح:(فلو لم يقدم) وهو خطأ.
إحْدَاث الدَّلِيلِ وَالتَّأْوِيلِ
(1)
مَسْألةٌ:
يَجُوزُ إِحْدَاثُ دَلِيل آخَرَ، أَوْ تَأْوِيل آخَرَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.
لَنَا: لا مُخَالفةَ لَهُمْ فَجَازَ، وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَجُزْ لأُنْكِرَ، وَلَم يَزَلِ المُتَأَخِّرُونَ يَسْتَخْرِجُونَ الأَدِلَّةَ وَالتَّأْوِيلاتِ.
«مسألة»
الشرح: أهل العصر إذا استدلوا بدليل على حكم، أو استنبطوا منه وجه دلالة قال الإمام الرَّازي وأتباعه والآمدي والمصنف وتأولوا تأويلات، فإنه "يجوز" لمن بعدهم "إحداث دليل آخر أو" استنباط آخر، قال هؤلاء: أو "تأويل آخر عند أكثر".
والحَقُّ معهم إلا في التأويل، فإنه صرف اللفظ عن ظاهره إلى مرجوح بدليل، فالتأويل لا بُدَّ وأن يكون مغايرًا له، فيلزم منه إبطال ما أجمعوا عليه، فلا يجوز إحداثه.
وبذلك صرَّح القاضي عبد الوهَّاب المالكي - وهو واضح - إلا أن تأول
(2)
كلامهم بأنهم أرادوا تأويلًا لا ينافي تأويل الأولين.
والحاصل: أن ما يفعله أهل العصر الثاني لا يمنع إلا إذا نافى فعل الأولين.
"لنا: لا مُخَالفة لهم فجاز" إحداثه.
"وأيضًا: لو لم يجز لأنكر"؛ لأن العلماء لا يقرون على باطل كما علم من عَوَائدهم، "و"
(1)
هذه المسألة في أنه إذا استدل أهل العصر - أعني أهل الإجماع - في مسألة بدليل، أو تأولوا تأويلًا، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر؟. اختلفوا فيه لا فيما نصوا على إبطاله؛ فإنه غير جائز اتفاقًا، لما فيه من تخطئه الأمة، ولا فيما نصوا على صحته؛ فإنه جائز اتفاقًا؛ إذ لا تخطئة فيه، بل فيما شكوا فيه عن الأمرين، وعن التعرض لتجويز التأويل والمنع منه أيضًا، فذهب الجمهور إلى جوازه، ومنع منه الأقلون، والمختار مذهب أكثرين إلا إذا لزم منه القدح فيما أجمع عليه أهل العصر، وإنما ترك المصنف هذا القيد لظهوره، ويدل على اعتباره إياه قوله:"لا مخالفة لهم" .. ينظر: الشيرازي 222 أ/ خ. والمحصول 2/ 1/ 225، والإحكام للآمدي 1/ 246، والمعتمد 2/ 514، وشرح العضد 2/ 40، وحاشية البناني 2/ 198، والمسودة 328، وفواتح الرحموت 2/ 237، وتيسير التحرير 3/ 253، والتقرير والتحبير 3/ 79، وإرشاد الفحُول 87.
(2)
في ت، ح: يؤول.
وقَالُوا: اتَّبعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.
قُلنا: مُؤَوَّل فِيمَا اتَّفَقُوا، وَإلَّا لَزِمَ الْمَنْعُ فِي كُلِّ مُتَجَدِّدٍ.
قَالُوا: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة آل عمران: الآية 110]. قُلْنَا. مُعَارَضٌ بِقَوْلهِ: {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة ال عمران: الآية 110]. فَلَوْ كَانَ مُنْكَرًا لنُهُوا عَنْهُ.
لم ينكر ذلك أحد، بل "لم يزل المتأخرون يستخرجون الأدلة والتأويلات" المغايرة لدلائل الأوائل، ويعد ذلك تمامًا في النظر وضربًا من المحاسن.
الشرح: "قالوا": المحدث لذلك "اتبع غير سبيل المؤمنين"؛ لأنهم [لم]
(1)
يفعلوا ذلك.
"قلنا": اتّباع سبيلهم "مؤول" باتباعهم "فيما اتَّفقوا" عليه، والمعنى: ذم اتباع غير سبيل المؤمنين فيما اتَّفقوا عليه بأن يسلك ما خالفوه، لا ما لم يتعرضوا له، "وإلا لزم المنع" عن الحكم "في كل متجدّد" من الوَقَائِع
(2)
.
"قالوا": قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة آل عمران: الآية 110] وَالمعروف عام
(3)
، فيأمرون بكل معروف، فلو كان ما أحدث معروفًا، لأمروا به، وإن لم يكن معروفًا فلا يصار إليه.
"قلنا: معارض بقوله: {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فلو كان منكرًا لنهوا عنه" بغير ما ذكَرتم.
"فائدتان"
الأولى: إذا اعتلّوا بعلَّة، فالقولُ في إحداث علَّة أخرى، كالقول في إحداث دليل آخر إن جوَّزنا اجتماع علَّتين، ذكره القاضي عبد الوهَّاب المالكي، والشيخ أبو عمر وعثمان بن عيسى المَارَانِيُّ
(4)
صاحب "الاستقصاء" في كتابه: "شرح اللُّمع"، وهو ظاهر.
والثانية: هذا إذا لم يقولوا لا دليل أو لا علة إلّا ما ذكرناه.
(1)
سقط في ح.
(2)
في أ، ت، ح: الواقع.
(3)
في ت: علم.
(4)
عثمان بن عيسى بن درباس، ضياء الدين، أبو عمرو الكردي الهذباني، الماراني ثم المصري، تفقه على أبي العباس الخضر بن عقيل وعلى أبي سعد بن أبي عصرون وغيرهما، وساد وتقدم وبرع في المذهب الشافعي، وشرح المهذب في عشرين مجلدًا إلى كتاب الشهادات، وشرح اللمع في مجلدين، قال ابن خلكان: كان من أعلم الفقهاء في وقته بمذهب الشافعي، ماهرًا في أصول الفقه. توفي سنة 602. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 60، والأعلام 4/ 375، ووفيات الأعيان 2/ 406.
حُكْمُ اتِّفاقِ العَصْرِ الثانِي
(1)
مَسْألة:
اتِّفَاقُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ قَوْلَي الْعَصْرِ الْأَوَّل بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ خِلافُهُمْ. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ، وأَحْمَد، وَالإِمَامُ وَالغَزَّالِيُّ رحمهم الله: مُمْتَنِعٌ.
فإن قالوا: قال أبو عمرو الماراني: لا يجوز الإحداث قولًا واحدًا.
وقال القاضي عبد الوهَّاب: إن كان الدليل الثَّاني مما يتعيَّن دلالته، فإجماعهم على منع كونه دليلًا صحيح مثل الخصوص والمجاز والنَّسخ، وإن لم يتعيَّن دلالته فلا يصحّ هذا الإجماع، ذكره في "الملخص".
«مسألة»
الشرح: "اتفاق العَصْر الثَّاني" إن كان على ما سبق الاتفاق "على" خلافه، فممتنع عند الأكثرين، وإلا يتصادم الإجماعان.
وقال أبو عبد الله البَصْرِي
(2)
؛ يجوز.
(1)
هذه المسألة في أنه إذا اختلف أهل عصر في مسألة من المسائل على قولين، واستقر خلافهم في ذلك، أي لا يكون خلافهم على طريق البحث عن المأخذ كما مرت به عادة النظار قبل اعتقاد بواحد من الناظرين في المسألة حقيقة شيء من طرفيها، أو يكون بعض أهل العصر في مهلة النظر، أو لم يحضر بعد في المسألة ونظائرها، بل يكون خلافهم على طريق اعتقاد كل واحد من القائلين حقيقة ما ذهب إليه ولم يوجد نكيرهم، فهل يتصور انعقاد إجماع من بعدهم على أحد القولين أم لا؟ اختلفوا فيه. ينظر: الشيرازي 223 أ/ خ، والبرهان 1/ 814، والمعتمد 2/ 498، 517، والإحكام للآمدي 1/ 248، وشرح العضد 2/ 41، والمنخول 320، والمستصفى 1/ 243، والتبصرة 371، وحاشية البناني 2/ 186، وشرح الكوكب 2/ 272، ومختصر ابن اللحام 79، وكشف الأسرار 3/ 347، وأصول السرخسي 1/ 319، وفواتح الرحموت 2/ 226، وتيسير التحرير 3/ 232، وإرشاد الفحول 86.
(2)
الحسين بن علي بن إبراهيم، أبو عبد الله، الملقب بـ "الجُعَل"، ولد بالبصرة سنة 288 هـ فقيه، من شيوخ المعتزلة، كان رفيع القدر، انتشرت شهرته في الأصقاع ولا سيما "خراسان". قال أبو حيان فيما وصفه به:"ملتهب الخاطر، واسع أطراف الكلام، يرجع إلى قوة عجيبة في التدريس، وطول نفس في الإملاء مع ضيق صدر عند لقاء الخصم .. ". من تصانيفه: "الإيمان" و"الإقرار" و"المعرفة" =
وَقَالَ بَعْضُ الْمُجَوِّزِينَ: حُجَّةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ بَعِيدٌ إِلَّا فِي الْقَلِيلِ، كَالاِخْتِلافِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ، ثُمَّ زَالَ.
قال الإمام الرَّازي: وهو الأولى.
قلت: واتفقوا على أنه غير واقعٍ، وما ذكر من قول الإمام الشَّافعي: أجمعوا على شهادة العبد، وما روي عن أنس أجمعوا على قَبُولهم، فالذي نقل عن أنس لم يصح عنه.
وبالجملة هو اختلاف في نقل الإجماع.
وإن كان "أحد قولي العَصْر الأول"، فإن كان قبل استقرار الخِلافِ، فالجمهور على جوازه.
وخالف أبو بكر الصَّيْرفي، - كما اقتضاه إطلاق الإمام الرازي وأتباعه - وينبغي التوقف فيه، فقد أجمعوا على دَفْنِ النبي صلى الله عليه وسلم في [بيت]
(1)
عائشة وأمور أخَّرها رجوعهم إلى أبي بكر رضي الله عنه في قتال مَانِعِي الزَّكاة بعد سبق الخلاف الذي لم يستقر في الكل.
وإن كان "بعد أن استقرّ خلافهم"، ومضوا عليه مدَّة، فله صورتان:
إحداهما: أن يقع الاتفاق من أهل العَصر بعينهم بعد اختلافهم، وقد أخر في الكتاب، ذكرها، وكان تقديمها على أختها أولى.
والثانية: أن ينقرضوا على خلافهم، فهل لمن بعدهم الإجماع على أحد ذَيْنك القولين؟
أصح الوجهين عند أصحابنا، وذكر الشيخ أبو إسحاق أنه قول عامَّة أصحابنا.
وقال سليم الرازي: قول أكثر أصحابنا وأكثر الأشعرية هكذا
(2)
.
قال ابنُ السَّمعاني؛ وقال إمام الحَرَمَيْنِ: إليه ميلُ الشافعي.
وقال ابن برهان: ذهب الشَّافعي إلى: أن حكم الخلاف لا يرتفع.
ونقله القاضي في "التقريب" عن جمهور المتكلمين والفقهاء، وبه "قال الأشعري وأحمد" ومن أصحابنا: أبو بكر الصَّيرفي، وابن أبي هريرة، وأبو علي الطَّبري، والقاضي أبو حامد "والإمام والغزالي رحمهم الله: أنه "ممتنع".
والثَّاني: - وعليه أكثر الحنفية - أنه جائز، وعليه من أصحابنا: الحارث المحاسبي،
= و"الرد على الراوندي" و"الرد على الرازي". وتوفي بـ "بغداد" سنة 369 هـ. ينظر: شذرات الذهب 3/ 68، والمنتظم 7/ 101، والإمتاع والمؤانسة 1/ 140، والأعلام 2/ 244.
(1)
سقط في ح.
(2)
في ت، ح: وكذا.
وَفي الصَّحيحِ: أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: ثُمَّ صَارَ إِجْمَاعًا.
والإصْطَخْرِيّ، وابن خَيْرَان
(1)
، والقَفَّال الكبير، والقاضي أبو الطّيب، وابن الصَّباغ، ومن متأخريهم: الإمام الرَّازي وأتباعه.
"وقال بعض المجوّزين": إنه "حجَّة" ويرتفع الخلاف المتقدم، وتصير المسألة إجماعية، وهو رأي أكثرهم.
وقال شرذمةٌ منهم: لا يكون حُجَّة.
"والحق" - عند صاحب الكتاب، - في مثل هذا الإجماع "أنه بعيد" وقوعه؛ لأنه غالبًا لا يكون "إلا" عن جَلِيّ، وتبعد غفلة المخالف عنه إلَّا "في القليل".
وهذا استثناء منقطع أي: لكن وقع قليلًا، والوقوع قليلًا لا ينافي البعد، "كالاختلاف في" بيع "أم الولد"، فإنه وقع بين الصَّحابة "ثم زَالَ"، فروى حماد بن زيد عن أنس بن سِيرِينَ عن عَبِيدَةَ السَّلْمَاني قال: كَتَب إِلَيَّ عليٌّ وإلى شريح يقول: إنِّي أبغض الاختلاف فاقضوا كما كنتم تقضون - يعني: في أم الولد - حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات صاحباي، وروى البخاري مثله من رواية عبيدة عن علي، وليس فيه ذكر "أم الولد".
ولقائل أن يقول: لا نسلّم وقوع الاتِّفَاق، فقد ذهب بعض العلماء إلى بيعهنّ. سلمناه، ولكن المجمعين هنا أهل العصر بعينهم، لا أهل العصر الثَّاني بدليل علي رضي الله عنه وهو من الصّدر الأول، فليس ذلك صورة مسألتنا.
"والصَّحيحُ": أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ينهى عن المُتْعَةِ" - متعة الحج - وذلك ثابت في صحيح مسلم
(2)
.
"قال البغوي" في "شرح السُّنة"
(3)
: "ثم صار إجماعًا" أي: صار إجماعًا أنها جائزة.
(1)
أبو علي الحسين بن صالح بن خيران، كان من أئمة مذهب الشافعي. قال الخطيب: كان من أفاضِل الشيوخ وأماثل الفقهاء مع حسن المذهب، وقوة الورع، وأراد السلطان أن يوليه القضاء فامتنع واستتر، وسمر بابه لامتناعه. مات سنة 310. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 92، وتاريخ بغداد 8/ 53، وشذرات الذهب 2/ 287.
(2)
أخرجه البخاري حديث (1563)، وطرفه في (1569)، ومسلم 3/ 897، كتاب الحج: باب، جواز التمتع (159/ 1223).
(3)
وهو بتحقيقنا، وقامت بنشره دار الكتب العلمية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعبارته في "شرح السنة"
(1)
: هذا اختلاف محكي، وأكثر الصحابة على جَوَازها، واتَّفقت عليه. انتهى.
وقيل: المُرَاد: فسخ الحَجّ إلى العمرة، وإن نهىَ عثمان عن المُتْعَةِ يحمل على ذلك، ثم تحريمها إجماعًا.
وفيه نظر؛ لأنه لم يَصِرْ إجماعًا، بدليل أن أحمد وداود قائلان بجواز ذلك.
وقيل: مُتْعة النِّكَاح، ثم صار تحريمها إجماعًا، فإن ذلك لا يُعرف عن عثمان وإنما هو في "صحيح مسلم" عن عمر رضي الله عنه وأنه قال: ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلَّا غَيَّبْتُهُ في الحِجَارَة.
ثم النهي عن مُتْعَةِ النكاح
(2)
كان عليه جماعة الصحابة، فلا يحسُن نسبته إلى واحد فقط،
(1)
ينظر: شرح السنة 4/ 41 في كتاب الحج: باب التمتع بالعمرة إلى الحج.
(2)
أصل المتعة في اللغة: الانتفاع، يقال: تمنعت بكذا، واستمتعت بمعنى، والاسم المتعة. قال الجوهري: ومنه متعة النكاح، ومتعة الطلاق، ومتعة الحج؛ لأنه انتفاع، والمراد بالمتعة هنا أن يتزوج الرجل المرأة مدة من الزمن، سواء أكانت المدة معلومة، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي مثلًا شهرًا، أو مجهولة مثل أن يقول: زوجتك ابنتي إلى قدوم زيد الغائب، فإذا انقضت المدة، فقد بطل حكم النكاح، وإنما سمي النكاح لأجل بذلك لانتفاعها بما يعطيها وانتفاعه بقضاء شهوته، فكان الغرض منها مجرد التمتع دون التوالد وغيره من أغراض النكاح. وقد كانت المتعة منتشرة عند العرب في الجاهلية، فكان الرجل يتزوج المرأة مدة ثم يتركها من غير أن يرى الجرب في ذلك غضاضة، فلما جاء الإسلام أقرهم على ذلك في أول الأمر، ولم نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة إلا في غزوة خيبر في السنة السابعة من الهجرة، فقد روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية" واستمر الأمر على ذلك حتى فتح مكة حيث ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أباحها ثلاثة أيام، وفي بعض الروايات أنه أباحها يوم أوطاس. ولكن الحقيقة أن ذلك كان في يوم الفتح، ومن قال يوم أوطاس فذلك لاتصالها بها، ثم حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى يوم القيامة. فيعلم من هذا أن المتعة كانت مباحة قبل خيبر ثم حرمت في خيبر، ثم أبيحت يوم الفتح، ثم حرمت بعد ذلك إلى يوم القيامة، فتكون المتعة مما تناولها التحريم والإباحة مرتين. وقد نشأ من هذا الاختلاف في المتعة بين الصحابة، فمنهم من يرى أن إباحة المتعة قبل خيبر كانت للصررة وللحاجة ثم لما ارتفعت الحاجة في خيبر نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما تجددت الحاجة عام الفتح أذن فيها، ولما ارتفعت الحاجة نهى عنها. وعليه فتكون المتعة مباحة عند الحاجة، وبهذا=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم الذي قال فيه البغوي ما قال إنما هو مُتْعَةُ الحج.
= كان يقول ابن عباس: رضي الله عنه: - إلا أنه رجع عنه كما سيأتي بيانه. ومنهم من يرى أن نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المتعة يوم خيبر كان نسخًا لها، ثم رفع النسخ في يوم الفتح ثلاثة أيام، ثم نسخت بعد ذلك إلى يوم القيامة، وإلى هذا ذهب جمهور الصحابة. وقد اختلف الفقهاء بعد ذلك في المتعة هل هي محرمة، فتكون من الأنكحة الفاسدة أو مباحة؛ فتكون من الأنكحة الصحيحة. فذهب الجمهور إلى القول بتحريمها وأنها من الأنكحة الفاسدة التي تفسخ مطلقًا قبل الدخول وبعده، وهو مذهب الأئمة الأربعة. وذهب الإمامية من الشيعة إلى القول بإباحة نكاح المتعة إلى يوم القيامة، بل منهم من تغالى في ذلك وقال: إنها قربة. وعليه فالخلاف في المتعة بين الجمهور والإمامية. ولما لم أجد كتابًا من كتب الإمامية أثق به لأستطيع استيفاء الكلام على مذهبهم في المتعة رأيت أن أكتفي بما قاله شرف الدين الصنعاني وهو من علماء الشيعة، فإنه بعد أن ذكر الحديث عن علي قال ما نصه: والحديث يدل على تحريم نكاح المتعة للنهي عنه، وهو النكاح المؤقت إلى أمد مجهول أو معلوم، وغايته إلى خمسة وأربعين يومًا، ويرتفع النكاح بانقضاء الوقت المذكور في المتقطعة الحيض والحائض بحيضتين والمتوفى عنها بأربعة أشهر وعشر، ولا يثبت لها مهر ولا نفقة ولا توارث ولا عدة إلا الاستبراء بما ذكر، ولا نسب يثبت به إلا أن يشترط، وتحرم المصاهرة بسببه. هكذا ذكره في بعض كتب الإمامية. استدل الإمامية على القول بإباحه المتعة بالكتاب والأثر والمعقول والإجماع.
أما الكتاب فقول الله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فإنهم حملوا الاستمتاع في الآية على المتعة، وقالوا: المراد بقوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أجر المتعة. ومما يؤيد أن الآية في المتعة قراءة أبي وابن عباس {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلى أجل} فهي صريحة في المتعة.
وأما الأثر: - فأولًا ما روي أن ابن عباس كان يفتي بالمتعة - ووجه الدلالة من هذا أنهم قالوا: لو لم تكن المتعة مباحة لما أفتى بها ابن عباس؛ إذ لا يليق بمثله أن يفتي بها مع أنها محرمة.
وثانيًا: - بما روي عن جابر رضي الله عنه قال: تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم نهانا عمر - ووجه الدلالة من هذا أن جابرًا رضي الله عنه أخبر أنهم استمتعوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر وفي صدر من خلافة عمر، وهذا يدل على أن المتعة تباح، وإنما نهى عنها عمر من باب السياسة الشرعية.
وأما المعقول: - فقد قالوا: إنها منفعة خالية من جهات القبح، ولا نعلم فيها ضررا عاجلًا ولا آجلًا، وكل ما هذا شأنه فهو مباح. فالمتعة مباحة.
وأما الإجماع: - فإنهم قالوا: أجمع أهل البيت على إباحتها. وتناقش هذه الأدلة التي تمسك بها الإمامية بما يأتي: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم إن الخصم لا يسلم قيام الإجماع على تحريم متعة النِّكَاح، فقد قال أبو محمد بن حزم:
= أما الآية فيقال لهم فيها: إنها بمعزل عن الدلالة لكم؛ إذ هي محمولة على النكاح الدائم وما يجب للمرأة من المهر كاملًا إذا استمتع بها الزوج، ويؤيد هذا أنها وردت في سياق الكلام على النكاح بالعقد المعروف بعد الكلام على أجناس يحرم التزوج بها، وتسمية المهر أجرًا لا يدل على أنه أجر المتعة، فقد سمي المهر أجرًا في غبر هذا الموضع، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن، وكقوله تعالى:{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن. وأما قراءة أبي وابن عباس فهي شاذة، والقراءة الشاذة لا تعارض القطعي، وهي الآية الدالة على التحريم، وهي قوله تعالى:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مع أن الدليلين إن تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما، ويقال لهم فيما روي عن ابن عباس: إنه ثبت رجوعه عنه. وقد كان يقي بها أولًا لأنه فهم من نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها يوم خيبر ثم إباحتها يوم الفتح ثم نهى عنها بعد ذلك. أن الإباحة كانت للضرورة والنهي عند ارتفاعها، يؤيد ذلك ما روي عن شعبة عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس سئل عن متعة النساء فرخص فيها فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة، فقال ابن عباس: نعم؛ فإنه يعلم من هذا أن ابن عباس كان يتأول في إباحة نكاح المتعة المضطر إليه ثم توقف بعد ذلك لما ثبت له النسخ.
ومما يؤيد رجوع ابن عباس ما أخرجه الترمذي أن ابن عباس قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه حتى نزلت:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فقال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام.
وقد روى رجوعه أيضًا البيهقي وأبو عوانة في صحيحه. وروي عنه أنه قال عند موته: اللهم إني أتوب إليك من قولي في المتعة والصرف. وعليه فلا يصح الاحتجاج بفتوى ابن عباس وقد رجع عنها. ويقال لهم في أثر جابر: إن قوله: "تمتعنا .. ، إلخ" يحمل على أن من تمتع لم يبلغه النسخ حتى نهى عنها عمر. أو يكون جابر رضي الله عنه قال ذلك لفعلهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يبلغه النسخ حتى نهى عنها عمر، فاعتقد أن الناس باقون على ذلك لعدم الناقل عنده. والقول بأن عمر هو الذي نهى عنها وأن ذلك من قبيل السياسة الشرعية غير مسلم؛ فإن عمر إنما قصد الإخبار عن تحريم النبيّ صلى الله عليه وسلم ونهيه عنها؛ إذ لا يجوز أن ينهي عما كان النبي صلى الله عليه وسلم أباحه وبقي على إباحته، ومما يؤيد أن نهيه عنها ليس من قبيل السياسة الشرعية بل إنه نهى عنها لما علم نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم ما روي من طريق سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر قال: صعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها إلا أوتي بأحد نكحها إلا رجمته".
ويقال لهم في المعقول: لا نسلم أنها منفعة خالية من جهات القبح ولا ضرر فيها في الآجل ولا في العاجل، بل الضرر متحقق فيها؛ فإن فيها امتهان المرأة وضياع الأنساب؛ فإنه مما لا شك في أن المرأة التي تنصب نفسها ليستمتع بها كل من يريد تصبح محتقرة في أعين الناس، وأيضًا فهو معقول في مقابلة النص، وهو باطل.
ويقال لهم في الإجماع أولًا: إن إجماع أهل البيت على فرض إجماعهم ليس بحجة، فما بالك والإجماع لم يصح عنهم. فهذا زيد بن علي وهو من أعلمهم يوافق الجمهور، ثم إن الإمام عليًا رضي الله عنه وهو رأس الأئمة عندهم يقول بتحريمها، فقد روي من طريق جويرية عن مالك بن أنس عن الزهري أن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب والحسن بن محمد حدثاه عن أبيهما أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس: إنك رجل تائه - أي مائل - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة.
وأما الجمهور: فقد استدلوا على تحريم نكاح المتعة بالكتاب والسنة والمعقول والإجماع أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أنها أفادت أن الوطء لا يحل إلا في الزوجة والمملوكة، وامرأة المتعة لا شك أنها ليست مملوكة ولا زوجة. أما أنها ليست مملوكة فواضح. وأما أنها ليست زوجة؛ فلأنها لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما؛ لقوله تعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} الآية وبالاتفاق لا توارث بينهما.
وثانيًا: لثبت النسب لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وبالاتفاق لا يثبت النسب.
وثالثًا: لوجبت العدة عليها؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية.
وأما السنة فأولًا: ما روى مالك عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أبيهما عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية" ووجه الدلالة من الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، فيكون نكاح المتعة فاسدًا. والحديث يدل على نسخ ما تقدم من إباحتها.
ثانيًا: ما روي عن سبرة الجهني أنه غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فتح مكة: قال فأقمنا بها خمسة عشر، فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء، وذكر الحديث إلى أن قال: فلم أخرج منها حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: أنه كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "يأيها الناس كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليمنع سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" رواه أحمد ومسلم. ووجه الدلالة من الحديث أنه يدل برواياته على =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تحريم نكاح المتعة، وقد جاء في الرواية الثانية التصريح بتحريمها إلى يوم القيامة، فيكون ذلك نسخًا لإباحتها، وإذا ثبت ذلك فهي من الأنكحة الفاسدة.
وأما المعقول: فقد قالوا: إن النكاح لم يشرع لقضاء الشهوة، بل شرع لأغراض ومقاصد يتوسل به إليها، واقتضاء الشهوة بالمتعة لا يقع وسيلة إلى المقاصد التي من أجلها شرع النكاح، فلا يكون مشروعًا.
وأما الإجماع: فقد قالوا: إن الأمة امتنعت عن العمل بالمتعة مع ظهور الحاجة إلى ذلك، وما ذلك إلا لعلمهم بنسخها. وقد نوقشت أدلة الجمهور بما يأتي:
أما حديث علي فقد قيل لهم فيه إنه وقع فيه كلام حتى زعم ابن عبد البر أن ذكر النهي يوم خيبر غلط. وقال السهيلي: ويتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال؛ لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أهل السير ورواة الآثار، والذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزهري. وقد أشار ابن القيم إلى تقرير هذا التقديم والتأخير فقال: وأما نكاح المتعة فثبت عنه أنه أحلها عام الفتح، وثبت عنه أنه نهى عنها عام الفتح، واختلف هل نهى عنها يوم خيبر على قولين، والصحيح أن النهي إنما كان عام الفتح، وأن النهي يوم خيبر إنما كان عن الحمر الأهلية، وإنما قال عني لابن عباس. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن متعة النساء، ونهى عن الحمر الأهلية؛ محتجًا عليه في المسألتين، فظن بعض الرواة أن التقييد بيوم خيبر راجع إلى الفعلين، فرواه بالمعنى، ثم أفرد بعضهم أحد الفعلين وقيده بيوم خيبر.
وترد هذه المناقشة بأن أصحاب الزهري قد اتفقوا على نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المتعة يوم خيبر؛ وهم حفاظ ثقات، وزيادة الحافظ الثقة تقبل. ولهذا قال عياض: تحريمها يوم خيبر صحيح ولا شك فيه، والقول بأنه وقع في لفظ الزهري تقديم وتأخير يخالفه ظاهر الحديث؛ فإن ظاهره أن عام خيبر ظرف لتحريم نكاح المتعة.
ومما يؤيد هذا الظاهر حديث ابن عمر الذي أخرجه البيهقي بإسناد قوي أن رجلًا سأل عبد الله بن عمر عن المتعة فقال: حرام، فقال: فإن فلانًا يقول فيها، فقال: والله لقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر، وما كنا مسافحين، والذي يظهر لي أن القائلين بأن النهي يوم خيبر إنما كان عن لحوم الحمر الأهلية يحاولون بذلك استبعاد أن تكون المتعة قد نسخت مرتين؛ لأنه ثبت النهي عنها يوم الفتح، ومعلوم أن يوم الفتح بعد خيبر؛ إذ إن خيبر في السنة السابعة من الهجرة، وغزوة الفتح في السنة الثامنة؛ فيلزم من ذلك نسخها مرتين. ونحن نرى ألا داعي لهذه المحاولة ما دام الحديث ظاهرًا في أن يوم خيبر ظرف لتحريم نكاح المتعة، ولا مانع من نسخها مرتين، ولها نظير في الشريعة الإسلامية، وهو مسألة القبلة فقد نسخت مرتين، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثبت على تحليلها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من السَّلف، منهم: أسماء بنت أبي بكر
(1)
الصدِّيق رضي الله عنه، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود، وابن عبَّاس، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن حريث
(2)
.......................................
= أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفًا لليهود وامتحانًا للمسلمين الذين اتبعوه بمكة، ثم حول إلى الكعبة ثانيًا.
وقيل لهم في حديث سبرة الجهني: إن القول بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرمها إلى يوم القيامة معارض بما روي عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة في حجة الوداع كما عند أبي داود.
وترد هذه المناقشة بأن هذا اختلف فيه عن سبرة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصح؛ لأنهم في فتح مكة شكوا للنبي صلى الله عليه وسلم العزوبة، فرخص لهم فيها مدة ثم نسخها، وعلى تسليم صحة النهي عنها في حجة الوداع، فنقول: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعاد النهي في حجة الوداع ليسمعه من لم يكن سمعه قبل، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة لأحد يدعى تحليلها.
ويقال لهم في الإجماع: إنه غير مسلم؛ فقد ثبت الجواز عن ابن عباس كما ثبت عن جماعة من التابعين.
ويجاب عن هذا بأن ابن عباس صح عنه أنه رجع عن القول بحل المتعة كما قدمنا؛ فانعقد الإجماع على تحريمها. وأما خلاف بعض التابعين، فإنه إن صح عنهم لم يضر بعد تقرر التحريم قبل حدوثهم. يتبين لنا من بيان الأدلة ومناقشاتها رجحان مذهب الجمهور من أن المتعة حرام، وهي من الأنكحة الفاسدة لقوة أدلتهم، وأنه لا عبرة بمخالفة الإمامية؛ لما تبين من بطلان ما تمسكوا به من الأدلة، ولقد أطلنا النفس فيها مع أن المقام مقام "أصول" لا "فقه" حتى نرد كيد المعتدين الآثمين في هذا العصر القائلين بالإباحة.
(1)
أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، مهاجرية، جليلة، لها ستة وخمسون حديثًا. اتفقا على أربعة عشر، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بمثلها. روى عنها ابناها عبد الله وعروة ومولاها عبد الله بن كيسان وابن عباس وجماعة، وكانت تسمى ذات النطاقين. قال ابن إسحاق: أسلمت بعد سبعة عشر إنسانًا. قالت فاطمة بنت المندر: كانت أسماء تمرض المرضة، فتعتق كل مملوك لها. قال ابن إسحاق: توفيت بـ "مكة" سنة ثلاث وسبعين قال الذهبي: هي آخر المهاجرات وفاة. ينظر ترجمتها في: تهذيب (12/ 397 رقم 2721)، وتقريب: 2/ 589، والثقات 3/ 23، وأسد الغابة 7/ 9، وأعلام النساء 1/ 36، والسمط الثمين 202، والدر المنثور 33، والاستيعاب 4/ 1781، والإصابة 2/ 244، والكاشف 3/ 464، وتهذيب الكمال 1677، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 156، 192، والخلاصة 3/ 374، 407، وحلية الأولياء 2/ 55.
(2)
عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبيد الله بن عمر بن مخزوم، أبو سعيد الكوفي، صحابي له=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأبو سعيد الخدري
(1)
، وسلمة
(2)
، ومغيرة
(3)
ابنا أُمَيَّة بن خلف.
قال: وقال بإباحتها من التَّابعين: طاوس
(4)
، وعطاء، وسعيد بن جُبَير وفقهاء "مكَّة" انتهى.
فأين الإجماع؟ وحيث انتهينا إلى هذا فليحرّر موضع قول أصحابنا: إنه لا يتصوّر، فإنه
= ثمانية عشر حديثًا. وعنه: ابنه جعفر والحسن العُرَني. قال البخاري: توفي سنة خمس وثمانين. ينظر: تاريخ البخاري الكبير 6/ 305، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 189، والجرح والتعديل 6/ 225، والثقات 3/ 272، وتهذيب الكمال 2/ 1029، وتهذيب التهذيب 8/ 17 (26)، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 282، والكاشف (326)، وطبقات ابن سعد 3/ 39 و 6/ 23، وسير الأعلام 3/ 417.
(1)
سعد بن مالك بن سنان - بنونين - بن عبد بن ثعلبة بن عبيد بن خدرة - بضم المعجمة - الخدري أبو سعيد، بايع تحت الشجرة، وشهد ما بعد أحد، وكان من علماء الصحابة، له ألف ومائة حديث وسبعون حديثًا، اتفقا على ثلاثة وأربعين، وانفرد البخاري بستة وعشرين ومسلم باثنين وخمسين، وعنه طارق بن شهاب وابن المسيب والشعبي ونافع وخلق. قال الواقدي: مات سنة أربع وسبعين. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 1/ 473، ونهذيب التهذيب 3/ 479، وتقريب التهذيب 1/ 289، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 371، والكاشف 1/ 353، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 44، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 103، 135، 139، 161، 167، والاستيغاب 2/ 602، والحلية 1/ 369.
(2)
سلمة بن أمية بن خلف الجمحي، ذكره خليفة بن خياط فيمن سكن مكة من الصحابة، وروى عمر بن شبة في أخبار المدينة من طريق سماك بن حرب عن رجل أن سلمة بن أمية تزوج مولاة له بشهادة أمها وأختها، فرفع ذلك إلى عمر فقال: أبجهل فعلت ذلك، قال: نعم قال: فأشهد ذوي عدل وإلا فرقت بينكما، قال عمر بن شبة: واستمتع سلمة بن أمية من سلمة مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي، فولدت له فجحد ولدها، قال ابن حجر: وذكر ذلك ابن الكلبي وزاد: فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة، وروى أيضًا أن سلمة استمتع بامرأة فبلغ عمر، فتوعده، وقال ابن حزم في المحلى: ثبت على تحليل المتعة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصحابة ابن مسعود وابن عباس وجابر وسلمة ومغيرة ابنا أمية بن خلف، وذكر آخرين. ينظر: الإصابة 3/ 114 ت (3356).
(3)
ثبت في الأصل سعد والصواب ما أثبتناه.
(4)
طاوس بن كيسان اليماني الجندي - بفتح الجيم والنون - قيل: من الأبناء وقيل: مولى همدان الإمام العلم - قيل: اسمه ذكوان. قاله ابن الجوزي. روى عن: أبي هريرة وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم، وروى عنه: مجاهد وعمرو بن شعيب وحبيب. قال ابن عباس: إني لأظن طاوسًا من أهل الجنة. مات سنة 106. ينظر: خلاصة تهذيب الكمال 2/ 15.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مذهب مستشكل جدًّا، وقد حاد عنه طَوَائف من متقدّميهم ومتأخريهم كما عرفت.
فنقول: اعلم أن أصحابنا قائلون بأنه لا يتصوّر انعقاد الإجماع بعد تقدم خلاف مضى عليه أصحابه مُدَّة غير كافلين عن الحادثة، بل باحثين عنها، وقد مضت مدة تقضي العادة بالاطّلاع في مثلها مع ذلك البَحْث على أنه لو كان ثَمّ دليل يوجب رجوع الجَمِيع إلى أحد ذَيْنك القولين لظهر فلمَّا مضت هذه المُدَّة مع شِدَّة التفحُّص كانت العادة مانعة من إجماع بعد.
وهذا هو المختار عندي، بيد أني أقول: لا اعتبار عندي في ذلك بانقراض العصر، حتى أجوِّز رجوع إحدى الطَّائفتين إلى الأخرى مطلقًا، وامتنع انعقاد إجماع العصر الثَّاني مطلقًا.
ولا أظن ذلك مذهبنا، بل المختار الذي أعتقده رأيًا، وأظنه مذهب أئمتنا: أن الاعتبار في ذلك بمضي مثل هذه المُدَّة مع تَذْكار الواقعة وتَرْدَاد البَحْث، فمتى حصل امتنع الإجماع بعده عادة سواء [أكان]
(1)
المختلفون أولًا، هم أهل عصر مضى عليهم وطرأ عصر آخر - وذلك هو الأغلب في [مثل]
(2)
هذه المدَّة - أم كانوا هم بأعيانهم - وذلك نادر - إذ مثل هذه المدَّة لا تقع إلا وقد انقرض عادة أهل العصر أو غالبهم.
وهذا - والله أعلم - هو السَّبب في التفرقة بين المسألتين؛ حيث قيل في هذه إنها دون التي بعدها.
والذي يظهر: أنه لا فَرْقَ بين العصرين، وإنما النظر في المُدَّة.
فإذًا مختارنا: أن هذه المدَّة متى حصلت على خلاف استقرّ عليه أصحابه امتنع عادة انعقاد الإجماع على أحد القولين.
ونقول: لو وقع لكان حُجَّة، ولكن الشأن
(3)
في وقوعه فإن القواعد
(4)
تمنعه.
وأيضًا فالأقوال لا تموت بموت قائلها، فكأن الخلاف باقٍ وإن ذهب أهله، ولو مات القول بموت قائله مات قول المجمعين جميعًا بموتهم، وجاز أن يتعقّب إجماعٌ إجماعًا ويتصادمان، فهذان مأخذنا فيما ذهبنا إليه.
وهذا الذي قلته هو مقتضى كلام إمام الحرمين، أو صريح قوله حيث قال: الرَّأي الحق
(1)
في ب: كان.
(2)
سقط في ح.
(3)
في ح: النسيان، وهو تحريف.
(4)
في ح: العوائد، وهو تحريف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عندنا، ما نبديه الآن فنقول: إن قرب عَهْد المختلفين، ثم اتفقوا على قول فلا أثر
(1)
للاختلاف المتقدّم، وهو نازل مَنْزِلة تردّد ناظر واحد أولًا مع استقراره آخرًا. وإن تمادى الاختلافُ في زمن مُتَطَاول بحيث يقضي العرف، فإنه لو كان ينقدح وجه في سقوط أحد القولين
(2)
مع طول المُبَاحثة لظهر ذلك للباحثين.
وإذا انتهى الأمر إلى هذا المُنْتَهَى، فلا حكم للوفاق على أحد القولين، ثم قال: وشفاء الغَلِيلِ في ذلك أن رجوع قوم، وهم جَمّ
(3)
غَفِير إلى قول أصحابهم حتى لا يبقى على ذلك المذهب المُتَمَادَى أحد ممن كان ينتحله لا يقع في مستقر العادة، فإن الخلاف إذا رَسَخَ وتناهى الباحثون، ثم لم يتجدَّد بلوغ خبر أو أثر يجب الحكم لمثله، فلا يقع في العُرْف دروس مذهب طال الذَّبُّ عنه.
فإن فرض فارضٌ ذلك، فالإجماعُ فيه محمول على أنه بلغ الرَّاجعين أمر سوى ما كانوا يخوضون
(4)
فيه من مَجَالِ الظُّنون، ثم غاية الأمر إن انتهى الأمر إلى أنهم قطعوا بذلك، فوفاقهم إجماع حملًا على هذا.
وعليه ثمّ انبنى أصل الإجماع، فإن فرض فارض عدم القَطْع مع الرجوع عن المَذْهَبِ القديم، فهذا بعيد في التصور وإن تصور ذلك على تكلف فما أرى
(5)
ذلك بالغًا مبلغ الإجماع، فإنه لا ينقدح فيه دعوى سكت من يتعقق بالقول المرجوع
(6)
عنه حيث انقدح ذلك في مواقع القَطْع، ثم قال: أما إذا انقرض عصر مع طول الزَّمان، فإن المعتمد عندنا طول الزَّمَان على الخلاف، ثم اجتمع علماء العصر الثَّاني على أحد المذاهب، فالوجه ألا يجعل ذلك إجماعًا. انتهى.
وقوله: ثم غاية الأمر
…
إلخ ممَّا لا تنازعَ فيه، فإن دعوانا أن العادة تحيل، والقول الفصلُ: إنه إن وقع كان إجماعًا.
وإمام الحرمين يقول: إنه فيما إذا وقع مع عدم القَطْعِ لا يبلغ مَبْلَغ الإجماع.
وهو صحيح، ومراده بالإجماع المقطوع، وهذا إجماع مظنون، ومراتب الإجماع متقاربة.
(1)
في ح: إرث.
(2)
في ب: القول.
(3)
سقط في ح.
(4)
في ت، ح: يخرصون.
(5)
في ت، ح: أدري.
(6)
في ت، ح: المرجوح.
الْأَشْعَرِيُّ: الْعَادَةُ تَقْضِي بِامْتِنَاعِهِ.
وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْعَادَة وَبِالْوُقُوع.
قَالُوا: لَوْ وَقَعَ لَكَانَ حُجَّة فَيتَعَارَضُ الإجْمَاعَانِ؛ لأِنَّ اسْتِقْرَارَ اخْتِلافِهِمْ دَلِيلُ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
وقد صرَّح الحنفية
(1)
: بأنه إجماع بأنه من أدنى مراتب الإجماع، ولذلك قال محمد بن الحسن فيمن قال لامرأته: أنت خَلِيَّة ونوى ثلاثًا، ثم جامعها في العِدَّة وقال: علمت أنها حرام، لا يُحَدُّ؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يراها واحدةً رجعيةً، وقد أجمعنا بخلافه. ونيَّة الثلاث صحيحة بلا خلاف أهو حجة، أو لا؟ فلا يصير موجبًا علمًا بلا شُبْهَة، هكذا قال أبو زيد الدّبوسي في "التقويم" من كتبهم.
وصورةُ المسألة عند الغَزَّالي - ما إذا لم يصرح المَانعون بتحريم القَوْل الآخر. وإن صرَّحوا بتحريمه فقد تردّد - أعني: الغَزَّالي - هل يمنع ذلك أو لا؟ ولا يجب اتباعهم فيه.
الشرح: إذا عرفت هذا فقول المصنّف: احتج "الأشْعَرِيّ" فقال: "العادةُ تقضي بامتناعه" إشارة إلى ما أبديناه.
ولا نعرف هذا من كلام الأشعري نفسه، وإنما هو من كلام إمام الحَرَمَيْنِ سيِّد الأشاعر.
وقوله في جوابه: "وأجيب بمنع العادة، وبالوقوع" ضعيف.
أما منع العادة، فيظهر ضعفه فيما تقدم عند الإنصاف، ولو أن كل من ادعى عادةً اتَّجه منعه منع المصنّف في دعواه العادة على أصل الإجماع، وأما الوقوع، وهو أشكل ما يورد علينا فإنَّا نمنعه، وكل صورة تورد فلا نسلّم طول الزمان فيها طولًا تقضي العادة بأنه لو كان أمر يوجب سقوط أحد القولين لظهر.
ثم ما ذكره في الكتاب من الصُّورتين لا يحتاج فيه إلى هذه الطريق بعد الإحاطة بما قدمناه فيهما، ومن وافق أصْحَابنا في الحكم فرقة.
و"قالوا: لو وقع" إجماع بعد خلاف مستقرّ "لكان حجَّة"؛ إذ كل إجماع حُجّة، "فيتعارض الإجماعان؛ لأن استقرار خلافهم دليل إجماعهم على تَسْويغِ كل منهما" - أي: من القولين - والإجماع الثَّاني يصادمه.
(1)
ينظر: تيسير التحرير 3/ 232، والتقرير والتحبير 3/ 88.
وَأجِيبَ بِمَنْعِ إِجْمَاعِ الْأَوَّل، وَلَوْ سُلِّمَ فَمَشْرُوطٌ بِانْتِفَاءِ الْقَاطِعِ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ خِلافُهُمْ.
الْمُجَوِّزُ: وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَتعَارَضَ الإِجْمَاعَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قَالُوا: لَمْ يَحْصُلِ الاِتِّفَاقُ.
وَأجِيبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ إِذَا لَمْ يَسْتَقِرَّ خِلافُهُمْ.
قَالُوا: لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ مَوْتُ الصَّحَابِيِّ المُخَالِفِ يُوجِبُ ذلِكَ.
لأِنَّ البَاقِيَ كُلُّ الأُمَّةِ الأَحْيَاءُ.
"وأجيب بمنع الإجماع الأول" على التَّسْويغ.
"ولو سلِّم فمشروط بانتفاء القاطع"، وهو انعقاد الإجماع الثَّاني على أحد القولين فإذا وجد زوال الأول لزوال شرطه، فكان "كما لو لم يستقرّ خلافهم".
الشرح: واحتج "المجوز" - أي: القائل بأنه جائز، "وليس بحجة" أنه "لو كان حُجَّة لتعارض الإجماعان وقد تقدم" هو وجوابه.
"قالوا" ثانيًا: "لم يَحْصُلِ الاتفاق"؛ لأن فيه قولًا مخالفًا، فإن القولَ لا يموت بموت صاحبه.
"وأجيب: بأنه يلزم إذا لم يستقر خلافهم"، فيقال: لا يحدث إجماع عقيب اختلاف غير مستقر بعين
(1)
ما ذكرتم.
ولقائل أن يقول: ما لم يستقر عليه الرَّأي فليس قولًا لأحد.
"قالوا" ثالثًا: "لو كان حُجَّة لكان موت الصَّحابي المخالف" - إذا لم يَبْقَ مخالف
(2)
غيره "يوجب ذلك" - أي: يوجب كون قول البَاقين
(3)
حُجَّة.
الشرح: "لأن الباقي
(4)
كل الأمة الأحياء.
(1)
في ب: بغير.
(2)
ينظر: شرح العضد 2/ 41، وإرشاد الفحول (86)، والمعتمد 2/ 501.
(3)
في أ، ت، ح: النافين.
(4)
في أ، ت، ح: النافي.
وَأُجِيبَ بِالاِلْتِزَامِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى خِلافِهِ.
الآخَرُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لأَدَّى إِلَى أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ الْأَحْيَاءُ عَلَى الْخَطَأِ، وَالسَّمْعِيُّ يَأْبَاهُ.
وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ، وَالْمَاضِي ظَاهِرُ الدُّخُولِ لِتَحَقُّقِ قَوْلهِ بِخِلافِ مَنْ لَمْ يَأْتِ.
وأجيب بالالتزام"، وتسليم أن موت الصحابي يصير قول الباقي حجة، "والأكثر على خلافه".
فالجوابُ على آرائهم بالفارق، وهو أن قول الباقين
(1)
قول من قَدْ خُولفوا في عصرهم بخلاف صورة النزاع.
والمخالف "الآخر" - وهم القائلون بأنه حُجَّة - احتج بأنه "لو لم يكن لأدَّى إلى أن تجتمع الأمة الأحياء على خطأ، والسَّمعيُّ يأباه.
وأجيب بالمَنْعِ" مع انتفاء اللازم، فلا نسلِّم أن السمعي يأباه؛ لأنه لم يدل على انتفاء اجتماع الأحياء على الخطأ بل على انتفاء اجتماع الأمة، والأحياء ليسوا كل الأمة.
والماضي المثبت
(2)
"ظاهر الدخول" في الأمة؛ "لتحقق قوله"، ووجدانه في الخارج.
فإن قلت: فليدخل "من لم يَأْت".
قلت: الماضى متحقق، بخلاف من لم يَأْتِ، فإنه ليس بمتحقق لا هو، ولا قوله؛ فلذلك لم يدخل.
"فرع"
إذا وطئ في نكاح المُتْعَةِ عالمًا بتحريمه انبنى على الخلاف في الاتفاق بعد الاختلاف إن جعلناه إجماعًا وجب الحَدّ، وإلا فوجهان:
الأصحُّ: لا يجب.
وحكى ابن السَّمْعَاني في تفسيق الوَاطِئ في نكاح المُتْعة وجهين.
(1)
في أ، ت، ح: النافين.
(2)
في ب: الميت.
اتِّفاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ بِأَعْيَانِهِمْ
(1)
مَسْأَلةٌ:
اتِّفَاقُ الْعَصْرِ عَقِيبَ الاِخْتِلافِ إِجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، وَأَمَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ فَقِيلَ مُمْتَنِعٌ.
«مسألة»
الشرح: "اتفاقُ أهل العصر" بأعيانهم "عَقيب الاختلاف" - أي: قبل استقراره - "إجماع وحجة".
وإِنَّما جمع بين الإجماع والحُجَّة؛ لأن بعضهم قال: إن بعض هذه الإجماعات إجماع لا حُجَّة نحن أيضا قَدَّمنا عن الدّبوسي عن محمد بن الحَسَنِ قوله: اختلفوا في هذا الإجماع أهو حجَّة فلذلك قال: إجماع وحجة.
"وليس" وقوعه "ببعيد"، فإن الزمان لم يَتَمَاد، فالعادةُ لا تبعد اطلاعهم على مُسْتَنَدٍ جَلِيّ بعد الاختلاف يجتمعون عليه.
"وأما بعد استقراره، فقيل: ممتنع" - واختاره الإمام الرَّازي.
وقيل: جائز - واختاره الآمدي، وإليه ميل المصنّف.
وقيل: يجوز إلا أن يكون مستندهم قاطعًا.
"وقال بعض المُجَوّزين: حجة".
وقال بعضهم: ليس بحُجَّة.
"وكل من اشترط انْقِرَاض العَصْر" في انعقاد الإجماع "قال": بأنه "إجماع".
والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها: أن المُجْمعين في تلك غير المختلفين، بخلاف هذه، "وهي كالتي قبلها" انتحالًا وحجاجًا "إلا أن كونه حُجَّة" هنا "أظهر" منه، ثم؛ "لأنه" قول كل "الأمة؛ إذ "لا قول لغيرهم خلافه"، بخلاف الأول، فإنه إذا اعتبر من خالفهم من المَوْتَى كانوا بعض الأمة لا كلها.
(1)
هذه المسألة في أنه إذا اختلفت الصحابة أو أهل أي عصر كان في المسألة على قولين، فهل يجوز اتفاقهم على أحد القولين والمنع من الاختلاف أي المصير إلى الآخر؟ اختلفوا فيه لا قبل استقرار الخلاف؛ فإنه لم يختلف فيه إلا شرذمة قليلة استبعدوا. ينظر الشيرازي 226 أ/خ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُجَوِّزِينَ: حُجَّةٌ وَكُلُّ مَنِ اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قَالَ: إِجْمَاعٌ وَهِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُ حُجَّةً أَظْهَرُ؛ لأِنَّهُ لا قَوْلَ لِغَيْرِهِمْ عَلَى خِلافِهِ.
ومن هذه الكلمة أخذنا ميل المصنّف إلى التجويز.
وللخَصْمِ أن يقول: لا فرقَ بين موت القَائِلِ، وتغير اجتهاده؛ وهذا لأن تغير الاجتهاد لا لخرج الأول عن كونه قولًا لبعض المجتهدين، ولو رجع المجتهد عن فَتْوَاهُ في مسألة جاز للعامي تقليده في المرجوع عنه ما لم يتيقّن الخطأ؛ لأنه يتبع أقوال المجتهدين في مواطن الاجتهاد لا قائليها
(1)
، وهذه أقوال الشَّافعي في القديم لم تخرج بكونها مرجوعًا عنها عن أن تكون قول مجتهد للعامي انتحاله.
ولذلك لا ينتقض الاجتهاد بالاجتهاد، بل يبقى حكمه ما لم يقطع بالخطأ.
فإن قلت: فقد قالوا فيما إذا علم المستفتي برجوع المفتي، ولم يكن عمل لم يجز له العمل، وأنه لو نكح بِفَتْوَاهُ أو استمر على نكاح بفتواه، ثم رجع لزمه فراقها لنظيره في القبْلَةِ.
قلت: هذا مذهبنا، ولكن لا نَدْرِي ماذا يقول الخصم فيه؟ ولعله يقول: لعل ذلك إمَّا أنه لو عمل به؛ لأنه قول مجتهد لم يجمع على خلافه، ولم يقم قاطعّ على فساده فلا أرى
(2)
ذلك ممتنعًا.
وإما؛ لأنه بتقليده؛ أو لالتزام تقليده، فلا بعد عنه بناء على أن من قلَّدَ مجتهدًا في مسألة وجب عليه الانقياد له في سائر المَسَائل.
فإن قلت: فقد حكوا وجهين فيما إذا استفتى العَامّي فأجيب، ثم حدثت له تلك الحادثة ثانيًا، وعرف استناد المُفْتي إلى الرأي والقياس، أو شَك وهو هي أصحهما، يلزمه السؤال ثانيًا.
قلت: قد يقال: لأنه لم يَبْقَ ببقاء المسألة من المجتهدات؛ لاحتمال طَرَيَان
(3)
إجماع على خلاف ما أفتى به المفتي فيها؛ أو لأنه مقلّد للمفتي، ولعلَّه رجع.
والحاصلُ: أن من يقول: المَوْتُ لا يذهب قول القائلين قد يقول ذلك في تغيَّر الاجتهاد، فإن قيل له: طرأ إجماع
(4)
قاطع. يقول: إن صلح قاطعًا للاجتهاد السَّابق، فليقطع قول الميت.
وقد يفرق - وهو الحق - بأن الميت يعطي حكم المصمم
(5)
على مَقَالته؛ لأنه آخر الأمرين منه، بخلاف من أقرَّ على نفسه بالرُّجُوع.
(1)
في ت، ح: قائلها.
(2)
في ح: أدري.
(3)
في ت، ح: جريان.
(4)
في ت، ح: اجتماع.
(5)
في ت: التصميم.
الاِخْتِلاف فِي جَوَازِ عَدَمِ عِلْمِ الْأُمَّةِ بِخَبَرٍ أَوْ دَلِيلٍ رَاجِحٍ
(1)
مَسْألةٌ:
اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ عَدَمِ عِلْمِ الْأُمَّةِ بِخَبَرٍ، أَوْ دَلِيل رَاجِحٍ إِذَا عُمِلَ عَلَى وَفْقِهِ.
الْمُجَوِّزُ لَيْسَ إِجْمَاعًا كَمَا لَوْ لَمْ يَحْكُمُوا فِي وَاقِعَةٍ.
النَّافِي: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} .
«مسألة»
الشرح: "اختلفوا في جواز عدم علم الأمة بخبرٍ، أو دليلٍ راجحٍ" على حكم "إذا عمل وَفْقِهِ"
(2)
مُصيبين في الحكم
(3)
.
أما إذا لم يعملوا
(4)
على وَفْقِهِ؛ لعارض، فلا ريب في امتناعه؛ لأنه إجماعٌ على الخطأ.
واحتج "المجوز" بأنه: "ليس إجماعًا" على عدمه حتى يكون خطأ، فإن عدم العلم غير العلم بالعدم، فيكون "كما لو لم يحكموا في واقعة" بحكم، فإنه لا يكون قولًا بعدم الحكم فيها قال ولا يلزم الخطأ؛ فإن الخطأ من فعل المكلّف، وعدم العلم ليس من فعله، وهذا هو اختيار
(5)
الآمدي.
واحتج "النَّافي" فقال: لو اشتركوا في عدم العلم به، لكان سبيلًا لهم، فيجب اتباعهم فيه.
وامتناع تحصيل العلم به مع أنه لا يمتنع إحداث دليل يحدثه اللَّاحقون، ولو أحدثوه كانوا
(1)
هذه المسألة في أنهم اختلفوا في إمكان وجود دليل أو خبر بلا معارض، وهو المراد من الراجح مع اشتراك الأمة في عدم العلم به، فمنهم من جوزه مطلقًا، ومنهم من أحاله مطلقًا، ومنهم من فصل، وقال: إن كان عملهم على وفق ذلك الدليل أو الخبر فيجوز اشتراكهم في عدم العلم به؛ لما يأتي من دليل المجوز مطلقًا، وإن عملهم على خلافه فهو محال لا دليل النافي؛ لبطلانه على ما يجيء، بل لما فيه من إجماع الأمة على الخطإ المنفى بالأدلة السمعية. ينظر الشيرازي: 226 أ، ب/ خ.
(2)
في ب: وقعه.
(3)
ينظر: المحصول 2/ 1/ 295، وشرح الكوكب 2/ 285، وحاشية البناني 2/ 200، والإحكام للآمدي 1/ 252، وشرح العضد 2/ 43، وإرشاد الفحول (87)، وتيسير التحرير 3/ 257.
(4)
في ب، ح: يعلموا.
(5)
في ب: مختار.
حُكْمُ ارْتِدَادِ الأُمَّةِ سَمْعًا
مَسْأَلةٌ:
المُخْتَارُ امْتِنَاعُ ارْتِدَادِ [كُلِّ] الْأُمَّةِ سَمْعًا.
لَنا: دَلِيلُ السَّمْعِ، وَأعْتُرِضَ بِأَنَّ الاِرْتِدَادَ يُخْرِجُهُمْ. وَرُدَّ بأَنَّهُ يَصْدُقُ أَنَّ الأُمَّةَ ارْتَدَّتْ وَهُوَ أَعْظَمُ الْخَطَأِ.
"{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} " - هذا تقرير كلام المصنّف فاعتمده - وعليه ينطبق كلام الآمدي، وأجاب عن الآية بأن: سبيلهم من كان من أفعالهم، وعدم العلم ليس من فعلهم.
«مسألة»
الشرح: "المختار: امتناع ارْتِدَادِ الأمة سمعًا
(1)
.
لنا: دليل السَّمع" - وهو عند المصنّف والآمدي وغيرهما قوله عليه السلام: "لا تَجْتَمِعُ أُمَّتي عَلَى خَطَأ" ونظائره مما تقدَّم.
"واعترض بأن الارتداد يخرجهم" من كونهم أمة، فلا يصدق عليهم اسم الأمة، فلا يتناولهم الحديث، بخلاف غير الارتداد من خطأ لا يخرجهم عن ذلك.
"ورد بأنه يصدق" - إذا ارتدوا - "أن الأمة ارتدت، وهو أعظمُ الخطأ".
فإن قلت: صدق أن الأمة ارتدت لا نسلّمه بطريق الحقيقة، بل هو مجازٌ باعتبار ما كان.
قلت: ذلك إذا أطلق بعد وقوع الرّدة.
أما إذا أطلق في حال الرِّدة، فالظاهرُ أنه حقيقةٌ.
ويؤيده: أن العبد لو قال لزوجته: إذا مات سيدي فأنت طالق طلقتين وقال السيد: إذا مت فأنت حر، واحتمله
(2)
الثلث، يُعْتق.
قلت: ولولا صدق أنه سيده حال العِتْقِ والموت لم توجد الصّفة المعلّق عليها، وهي موت السيد، فلم يُعْتق.
والحاصل: أن البائع والمطلِّق والمُعْتق ونحوهم في حال صدور ما ذكرناه منهم مالكون،
(1)
ينظر: الإحكام للآمدي 1/ 253.
(2)
في ت، ح: واحمله.
الأخْذ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ
(1)
فما صدر منهم صادق
(2)
عليهم بالحقيقة اسم البائع، والمطلق، والمعتق، والمالك، والزوج، فكذلك الأمة حال الارْتِدَادِ، صادق عليها بالحقيقة أنها الأمة.
ويمكن التفات ذلك إلى أن العلَّة مع المعلول أو سابقة، فإن الارتداد علَّة خروجهم عن كونهم أمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن كان سابقًا على خروجهم صدق معه لفظ الأمة عليهم، وإلَّا فلا.
ولو أن المصنّف استدلّ على مَطْلُوبه بنحو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَزالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقّ
…
"
(3)
لكان أوضح، فإنه نصٌّ في أن هذه الأمة لا تخلو عن قائم بالحق، ويستحيل معه ردة الكلِّ.
(1)
هذه المسألة: بيانها أن بعض الضعفاء ظن أن الأخذ بالأقل إذا كان قولًا لكل الأمة مثل قول الشافعي رضي الله عنه: "إن دية اليهودي الثلث" أي ثلث دية المسلم - يصح التمسك فيه بالإجماع؛ بناءً على أن غيره قائل بالثلث أيضًا؛ لأن غيره قائل بالكامل، وهو دية المسلم أو النصف أي نصف دية المسلم، وهما مشتملان على الثلث، فيكون الثلث مجمعًا عليه، وليس بمستقيم؛ لأن مذهب الشافعي رضي الله عنه ليس الثلث مطلقًا، بل الثلث فقط، وهو مشتمل على قيدين: وجوب الثلث، وهو متفق عليه، ونفي الزيادة، وفيه الخلاف، فلا يكون مجمعا عليه
…
ينظر: الشيرازي 227 أ، ب/ خ، وشرح العضد 2/ 43، والإحكام للآمدي 1/ 254، والمستصفى 1/ 216، وتيسير التحرير 3/ 258، وفواتح الرحموت 2/ 241، وحاشية البناني 2/ 187.
(2)
سقط في ت.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 429، وأخرجه أبو داود في السنن 3/ 11 كتاب الجهاد (9) باب في دوام الجهاد (4) الحديث (2484)، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 71 كتاب الجهاد، باب: أي المؤمنين أكمل إيمانًا، واللفظ لهما، وقال:(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي. وأخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في الصحيح 1/ 137 كتاب الإيمان (1) باب نزول عيسى بن مريم حاكمًا بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (71) الحديث (247/ 156)، وهذا الباب خال عن الأحاديث الحسان .. ومن "حديث المغيرة بن شعبة أخرجه البخاري 13/ 306 في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (10) قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي .. " (7311)، ومسلم 3/ 1523 في كتاب الإمارة باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي .. " (71/ 1921)، والدارمي 2/ 213 في كتاب الجهاد، باب لا تزال طائفة من هذه الأمة يقاتلون على الحق، وأخرجه أحمد في المسند، 2/ 244، 248، ومن حديث ثوبان مسلم 3/ 1523 (170/ 1920).
مَسْأَلةٌ:
مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه: "إِنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ الثُّلُثُ" - لا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالإِجْمَاعِ فِيهِ.
«مسألة»
الشرح: "مثل قول الشافعي: إن دية اليهودي الثلث، لا يصح التمسُّك بالإجماع فيه"، وإن ظنَّه بعضُ الفقهاءِ.
"قالوا: اشتمل الكامل والنصف عليه"؛ لأن الثلث بعضها، فمن أوجب الكلِّ، أو النصف، فقد أوجبه فكان مجمعًا عليه.
"قلنا": وجوب الثلث فقط اشتمل على حكمين: ثبوته، ونفي الزائد، "فأين نفي الزيادة" في القولين؟
"فإن أبدي مانع" عن إثبات الزيادة كالكفر، "أو انتفاء شرط"، كما يقال: شرط تمام الدية الإسلام، "أو اسْتِصْحَاب" الحال
(1)
، كما يقال: الأصل عدم الوجوب، خالفناه في الثلث للإجماع، "فليس" ذلك "من الإجماع في شيء"، بل هي أمور خارجة عنه.
واعلم أن هذه المسألة هي المُلَقَّبة بـ "الأخذ بأقلّ ما قيل"، وهي مأثورة عن إمامنا الشَّافعي رضي الله عنه.
ووافقه عليها القاضي أبو بكر، وخالفه قوم، فيحق لنا أن نرخي عِنَانَ الكلام فيها ليتوضّح لناظريها فنقول:
قال الإمام أبو المُظَفّر السَّمعاني: أقل ما قيل: هو أن يختلف المختلفون في مقدِّرٍ بالاجتهاد على أقاويل، فيؤخذ بأقلها عند إعْوَاز الحكم، فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يكون فيما أصله براءة الذمة، فإن كان الاختلاف في وجوب الحق، وسقوطه كان سقوطه أولى من وجوبه؛ لموافقة براءة الذِّمَّة ما لم يقم دَلِيلُ الوجوب، فإن كان الاختلاف [في وجوب الحق وسقوطه]
(2)
في قدره بعد الاتفاق على وجوبه كدية الذِّمِّي إذا وجبت على قاتله.
(1)
في ت، ح: سقط.
(2)
سقط في ت، ب، ح.
قَالُوا: اشْتَمَلَ الْكَامِلُ وَالنِّصْفُ عَلَيْهِ.
قيل: كدية المسلم. وقيل: نصفها. وقيل: ثلثها، وهو مذهب الشَّافعي، وهل يكون الأخذ بالأقل دليلًا؟ اختلف أصحاب الشَّافعي فيه على وجهين.
والضربُ الثَّاني: أن يكون فيما هو ثَابِتٌ في الذِّمَّة، كالجمعة الثابت فرضها، اختلف العلماءُ في عدد انعقادها، فلا يكون الأخذ بالأقلّ دليلًا لارْتِهَان الذِّمة بها، فلا تَبرأ الذِّمة بالشَّك، وهل يكون الأخذ بالأكثر دليلًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون دليلًا، ولا ينتقل عنه إلا بدليل؛ لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعًا، وبالأقل خلافًا، ولذلك جعلها الشَّافعي منعقدةً بأربعين؛ لأن هذا العدد أكثر ما قيل.
والثاني: لا يكون دليلًا؛ لأنه لا ينعقدُ من الخلاف دليلٌ في حكم، والشافعي إنما اعتبر الأربعين بدليل آخر.
وذكر ابنُ السَّمْعَاني: إنَّ هذا كلَّه كلام بعض أصحابنا، وأنه ليس فيه كبير معنى قالوا: والوجوه ضعيفة، لكن تغلب
(1)
على ما ذكر. انتهى.
وأنا أقول: الأخذ بالأقل عبارة عن الأخذ بالمتحقّق، وطرح المشكوك فيما أصله البراءة، والأخذ بما لم يخرج عن العُهْدَة يتعيَّن فيما أصله اشتغال الذّمة، هذا حقيقته فافهمه، ولذلك جعل الأخذ بالأكثر في الضرب الثَّاني - وهو ما أصله شغل الذّمة - بمنزلة الأخذ بالأقل في الأول.
وقد وهم بعض الضَّعفة فأورد عدد الجمعة سؤالًا على الشَّافعيين، ولم يعلم أن الأخذ فيه بالأكثر بمنزلة الأخذ في دية اليَهُودِي بالأقلِّ.
فإن قلت: حقق لي هذا الفرق، فإن شغل الذِّمّة بصلاة الجُمُعَةِ متحقق، وشغلها بِدِيَةِ اليهودي متحقّق، وبراءتها بعدد الأربعين متحققة، وبمقدار دِيَةِ المسلم متحقّقة، والخروج عن العُهْدَةِ بالأقل من دية المسلم بمنزلة الخروج بالأقل من عدد الأربعين، وحينئذ يتوجه السّؤال، ولا يتجه الانقسام إلى ضربين.
قلت: هذا تشكيك معضل، فينبغي التمهُّل في استماع
(2)
جوابه، فنقول: المركّب من أجزاء على قسمين:
(1)
في ب: يغلب.
(2)
في ت، ح: إسماع.
قُلْنَا: فَأَيْنَ نَفْيُ الزِّيَادَةِ، فَإنْ أُبْدِيَ مَانِعٌ أَوْ نَفْيُ شَرْطٍ أَوِ اسْتِصْحَابٌ - فَلَيْسَ مِنَ الإِجْمَاعِ في شَيْءٍ.
أحدهما: أن يكون بعضها مرتبطًا ببعض، فلا يعتد به إلا مع صاحبه، كصيام شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ في كَفَّارة الظِّهَار مثلًا، فكل يوم منها لا يعتد به إلا مع انضمامه إلى صواحبه على الوجه المعتبر عند الفقهاء.
والثَّاني: ألا يرتبط، فمن وجبت عليه لزيد عشرون درهمًا، فهو مأمور بتأدية كل درهم بخصوصه، ولا تعلّق لدرهم منها بصوم مسمى شهرين متتابعين، وشككنا هل جاءا ناقصين أو كاملين؟ لم يخرج عن العُهْدَةِ إلا بستين يومًا، فإن وقع الشَّك بعد صومه اليوم الموفى عدد الستين وجب تدارك شهرين لا يشك فيهما.
وإذا ارتهنت بإطعام عشرة مساكين، فأطعم وشكّ هل أطعم عشرة أو تسعة؟ وجب إطعام واحد فقط، إذ لا تعلّق لبعض العشرة ببعض، بخلاف الأول.
ونظير هذا دية اليَهُودِيّ فإنَّ أبعاض الدِّيَةِ من حيث هي لا تعلّق لبعضها ببعض، فمن وجب عليه مائة من الإبل وجب كلّ واحد منها من غير تعلّق له بصاحبه، فإذا أخرج ثلثها برئ منه قطعًا وبقي ما وراءه، والأصل عدمه، فلم نوجبه جَرْيًا على الأصل.
ونظير الأول الجمعة، فإن أبعاض عددها متعلّق ببعض، فمن صَلَّاها في ثلاثة لم يخرج عن العُهْدَةِ بيقين، ولم يأت بما أسقط عنه شيئًا، ويظهر أثر هذا إذا تبيّن الحال، فلو صح بالآخرة أن الواجب أربعون لتبين أنه لم يأت بالجمعة، أو أن الواجب دِيَةُ المسلم كاملة في اليهودي لما خرج ما تقدّم عن الاعتبار، بل وقع موقعه، وزِيد عليه الثّلثان، فنحن نأخذ ببراءة الذِّمَةِ في نَفْي الزائد إذا لم نشكّ فيما وقع الإجماع على وجوبه، هل وقع موقعه كدية اليهودي؟
أما إذا شككنا كالجمعة فإنما نشك فيمن صلَّاها في ثلاثة [هل صلاها]
(1)
، أو لا؟ والأصل العدم، فجرينا عليه وأوجبنا أكثر، فأخذنا بالأصل في الموضعين، وهما في الحقيقة شيء واحد.
ولذلك قلنا: الأخذ بأقل ما قيل على ضربين، فموضوع المسألة الأخذ بأقلّ ما قيل، وهو قدر مشترك بين الضَّربين.
(1)
سقط في ح.
الْعَمَلُ بِالإجْمَاعِ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ
مَسْأَلةٌ:
يَجِبُ الْعَمَلُ بِالإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ وَأَنْكَرَهُ الْغَزَّالِيُّ.
وحاصله: إيجاب الاحتياط فيما أصله الوجوب دون غيره، والورع في الموضعين لا يخفى.
فإن قلت: فالصلواتُ الخمسُ لا تعلّق لواحدة منها بالأخرى، ولو نسي واحدة مجهولة العين لأوجبتم الخمس.
قلت: لأنه لا يتيقّن الخروج عن المنسي إلا بالإتيان بالخمس، وهو نظير الجمعة، فافهم هذا، واعرض عليه جميع الفروع، تجدْه موافقًا، وبه تبين لك أن الأخذ بأقل ما قيل مركّب من الإجماع ومن البراءة الأصليَّة، فلا يتَّجه من القائل بهما المخالفة فيه.
وما ذكره المصنّف من أنه لا يصحّ التمسُّك فيه بالإجماع - يعني: وحده - صحيح، وقد ذكره كذلك القاضي، والغَزَّاليّ، وغيرهما، وبالله التوفيق.
«مسألة»
الشرح: "يجب العمل بالإجماع المنقول بنقل الواحد" - عند المصنّف، والشيخ الهندي، وجماعة من أصحابنا - "وأنكره الغزالي"
(1)
.
قال الهِنْدِيُّ: وكل من قال: خبر الواحد يقبل في القطعيات، أو أن أصل الإجماع حجَّة ظنية، أو أنه ينقسم إلى قطعي وظني، وأن الظني منها مقبول حجَّة، فإنه يلزمه أن يقول بحُجية هذا الإجماع.
(1)
هذه المسألة في اختلافهم في وجوب العمل بالإجماع المنقول بلسان الآحاد، فذهب إليه الحنابلة ومعظم الشافعية وبعض أصحاب أبي حنيفة، وأنكره جمع من أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحابنا كالغزالي مع اتفاق الكل على أن ما يثبت بخبر الواحد لا يكون إلا ظنيًا في سنده وإن كان قطعيًا في متنه. ينظر: الشيرازي 227 ب/ خ. والمستصفى 1/ 215، والمعتمد 2/ 531، والمحصول 2/ 1/ 214، وكشف الأسرار 3/ 265، وتيسير التحرير 3/ 361، وأصول السرخسي 1/ 302، والإحكام للآمدي 1/ 254، وإرشاد الفحول 73، 89.
لَنا: نَقْلُ الظَّنِّيِّ مُوجِبٌ؛ فَالْقَطعِيُّ أَوْلَى، وَأَيْضًا نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ.
وأما من لم يقل بشيء من ذلك، بل يقول: هو حجَّة قطعية، وليس منه شيء ظني ظنيًّا، فإنه يلزمه أن يرده ولا يقبله. انتهى.
وسبقه الآمديُّ حيث قال: المسألة دائرةٌ على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعًا به إلى آخر كلامه، وسيذكر المصنّف نحوه.
ولقائلٍ أن يقول: يجوز أن يستدل بالإجماع على حادثة إذا ظن وقوعه بخبر الواحد، وإن كان الأصل حجّية الإجماع لا تثبت إلا بالقطع، فخبر الواحد فيما نحن فيه مخبر عن وقوع الإجماع لا عن حُجّيته.
ولم قلتم: إنه لا يعتمد عليه حينئذٍ؟ وبهذا أسقط قولهم من قال: إن دليله قَطْعِيّ لا يقبل فيه خبر الواحد.
والحق أن هنا مسألتين:
إحداهما: أن الأصل الإجماع - أعني: كونه حُجَّة لا يثبت بخبر الواحد - وهذا هو الصحيح وهو ما صرح الغزالي باختياره، وثبت قوله فيه، وحكى المُخَالفة فيه عن بعض الفُقَهاء.
والثانية: - وهي مسألة الكتاب - وفيها تكلّم الآمدي، والهندي أن الإجماع إذا نقل بخبر الواحد، هل ينهض دليلًا معمولًا به؟
قال الجماعة: نعم، وحكوا عن الغَزالي المُخَالفة، وهي حكاية صحيحة، فإن الغزالي قال: إنه الأظهر وإن لم يقطع بمقابله، وذكر دليلًا حسنًا، ذكره الآمدي أيضًا وأهمله المصنّف، وهو أن العمل بخبر الواحد إنما تثبت مشروعيته بإجماع الصَّحابة.
وإنما أجمعوا عليه فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما ما روي عن الأمة من اتفاق، وإجماع فلم يثبت فيه [نقل وإجماع، ولو أثبتناه لكان ذلك بالقياس، فلم يثبت لنا]
(1)
صحة القياس في إثبات أصول الشرع. انتهى.
قوله: "لنا نقل الظَّني" بخبر الواحد "موجب" للعمل به، "فالقَطعيُّ" المنقول به "أولى" أن يكون معمولًا به.
(1)
سقط في ح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والآمدي لم يذكر هذا الدَّليل هكذا، بل قال: خبر الواحد عن الإجماع مفيد للظَّن، فكان حجة كخبره عن نصّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدرؤه ما ذكره الغزالي: من أنه لا دليل هنا على العمل بخبر الواحد إلا القياس، ولم يثبت أنه يفيد
(1)
هنا كما علمت.
وقد ذكره الآمدي من بعد، والآمدي لم يصرح في المسألة باختيار شيء.
والمصنّف اختار العمل، فاحتاج إلى تقوية هذا الدليل، فأورده على الوجه الَّذي علمته ليجعله من باب قياس الأولى.
فورد عليه ما ورد على هذا الدَّليل من أن القياس لم يثبت العمل به هنا، وزيادة وهي: أن دعوى الأولوية لا وجه لها، وقد يعكسها الخصم، فلو اقتصر على ما فعل الآمدي لكان أولى، وكان أقصى ما يرد عليه ما ذكره الغَزَالِيّ، ويمكن المُنَازعة فيه بأن يقال: العمل بالظَّن في العمليات مطلقًا واجب.
قوله: "وأيضًا" قوله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ"، واللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ"
(2)
.
(1)
في ب: بعيد.
(2)
ذكره السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 91، وقال: اشتهر بين الأصوليين والفقهاء، بل وقع في شرح مسلم للنووي في قوله صلى الله عليه وسلم:"إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" ما نصه: معناه إني أمرت أن أحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر كما قال صلى الله عليه وسلم اهـ. قال السخاوي: ولا وجود له في كتب الحديث المشهورة ولا الأجزاء المنثورة، وجزم العراقي بأنه لا أصل له، وكذا أنكره المزي وغيره.
وذكره الحافظ ابن كثير في "تحفة الطالب" ص (174) وقال: وهذا الحديث كثيرًا ما يلهج به أهل الأصول، ولم أقف له على سند، وسألت عنه الحافظ أبا الحجاج المزي فلم يعرفه. لكن له معنى في الصحيح: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إنما أقضي بنحو مما أسمع.
وقال البخاري في كتاب الشهادات: قال عمر: إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.
قَالُوا: إِثْبَاتُ أَصْلٍ بِالظَّاهِرِ.
قال الآمدي: ذكر الظَّاهر بالألف واللام المستغرقة، فدخل فيه الإجماع الثَّابت بخبر الواحد لكونه ظاهرًا ظنيًّا. انتهى.
فإن قلت: لا يلزم من حكمه هو صلى الله عليه وسلم بالظاهر أنا نحن نحكم.
قلت: إذا حكم عليه السلام به كان هو الحق، ضرورة أنه لا يحكم إلا بالحق، ثم الأصل عدم التخصيص.
ولقائل أن يقول: دلالة الحديث على الحُكْمِ لكل مظنون مظنونة، أو غايته
(1)
: العموم، ودلالته على أفراده ظنية، ثم إنه عام مخصوص قطعًا؛ إذ من الأشياء ما لا يحكم فيه الظاهر إذا كانت مظنونة، فلم قلتم: إنه يعمل بها هنا، فذلك دور، وحديث نحن نحكم بالظَّاهر لا يعرفه المحدثون، لكنَّ معناه ممَّا لا خلاف فيه.
وفي الصحيح: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ".
وروي أن العَبَّاس قال: يا رسول الله كنت مكرهًا
(2)
يوم "بدر"، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا ظَاهِرُكَ فَكَانَ عَلَيْنَا، وَأَمَّا سَريرَتُكَ فإِلَى الله".
الشرح: والمانعون "قالوا": هذا "إثبات أصل" من أصول الشَّريعة "بالظاهر"، فلا يجوز.
"قلنا: المتمسّك الأول" - وهو قياس الأولى - "قاطع"، "والثاني" - وهو حديث "نَحْنُ نَحْكمُ بِالظَّاهِرِ" - "ينبني على اشتراط القَطْعِ" في أدلَّة الأصول.
ولك أن ترتب الجواب هكذا: لا نسلّم أن هذا إثبات أصل، إنما الأصل انتهاض الإجماع من حيث هو دليل، لا أنه هل وقع إجماع في المسألة الفلانية، وهذا لم يذكره في الكتاب، وهو أوجه مما بعد.
سلمنا: أنه أصل ولكن لم قلتم: إن الأصل لا يثبت بالظَّواهر إذا كان يقتضي عملًا.
وهذا الجواب الثَّاني في الكتاب.
سلمنا ولكن معنا دليل قَطْعي، وهو قياس الأولى، وهذا الأولى فيه وقد علمت ما فيه.
ثم ذكر الآمدي عبارة ناشئة عن عدم اختياره في المسألة شيئًا فقال: والظُّهور في هذه المسألة للمعترض من الجانبين دون المستدلّ فيها.
(1)
في ت، ح: غائبة.
(2)
في ح: مكروهًا.
قُلْنَا: الْمُتَمَسَّكُ الْأَوَّلُ قَاطِعٌ، وَالثَّانِي يُبْتَنَى عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ، وَالْمُعْتَرِض مُسْتَظْهِرٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
الْكَلامُ فِي إِنْكَارِ حُكْمِ الإجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ
(1)
مَسْأَلَةٌ:
إِنْكَارُ حُكْمِ الإِجمَاعِ الْقَطْعِيِّ، ثَالِثُهَا: الْمُخْتَارُ أَنَّ نَحْوَ الْعِبَادَاتِ ..........
أي: من انتهض مستدلًا فيها لنفي، أو إثبات ظهر عليه المعترض؛ وذلك لتجاذب أطرافها.
وقد نَبَا القَلَمُ بالمصنّف فتبعه، وقال:"والمعترض مستظهر من الجانبين"
(2)
فيمنع دليل المثبت، ويقول: لا أسلم أن كل دليل ظَنِّي يجب العمل به، ودليل النَّافي، ويقول: لا أسلم امتناع إثبات الأصول العملية بالظَّواهر، ونحو ذلك من المسوغ، وهذا لا ينبغي للمصنّف، فإنه اختار أحد القولين، فكيف يعترف باستظهار المعترض؟.
"مسألة"
الشرح: "إنكار حكم الإجماع القَطْعي.
(1)
هذه المسألة في حكم إنكار الإجماع، واعلم أنهم اتفقوا على أن إنكار حكم الإجماع الظني كالسكوتي والمنقول بلسان الآحاد غير موجب للتكفير، وأما القطعي يكفّر به بعضهم مطلقًا، وفصله آخرون، وهو المختار، والضابط أن المجمع عليه بالإجماع القطعي إن كان داخلًا في مسمى الإسلام - يعني إن كان ما علم بالضرورة أنه مما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم وإليه أشار بقوله:"نحو العبادات الخمس" كفر منكره بمزايلة الإسلام عنه، وإن لم يكن كذلك كمسائل الإجارة ونحوها، فلا يكفر منكرها. ينظر: الشيرازي 228 ب/ خ. والإحكام 1/ 255، والمحصول 2/ 1/ 297، والمعتمد 2/ 528، والبُرهان 1/ 724، والمنخول 309، وأصول السرخسي 1/ 318، وشرح التنقيح ص 337، والمسودة ص 344، وكشف الأسرار 3/ 261، وحاشية البناني 2/ 197، وتيسير التحرير 3/ 258، وفواتح الرحموت 2/ 243، وإرشاد الفحول (78)، والمنتهى لابن الحاجب ص 46، وغاية الوصول ص 110، ونشر البنود 2/ 102، والمدخل (132).
(2)
هذا الاستظهار لا اختصاص له بهذه المسألة؛ فإنه عام في أكثر المسائل على ما لا يخفى، اللهم إلا أن يقال: المراد أن المعترض مستظهر في الاعتراض على الدليل الثَّاني من الجانبين، أي سواء شرط القطع في أدلة الأصول أم لا؛ لأنه إن شرط منع اعتباره فيه، وإن لم يشرط مع دلالته يمنع العموم، وعلى هذا يختص الاستظهار بالمسألة. ينظر: الشيرازي 1/ 228 أ/ خ.
الْخَمْسِ يُكَفَّرُ.
ثالثها: المختار أن نحو العبادات الخمس يكفر".
وأنا أقول: الكلام في التَّكفير معضل عظيم، وعبارة المصنّف هنا قلقة عاصية، وأنا أبدي ما عندي ثم أتكلم عليها وأعرضها على الحَقّ فإن وافقته، وإلا طرحتها، فالحَق: عرض الأقوال على الحَقّ، لا عرض الحق على الأقوال، والتَّمَحُّل لها بغاية التعسُّف، ونهاية الفساد
(1)
، فأقول: إنكار الإجماع يفرض على وجهين:
أحدهما: أن [ينكر المرء أن الإجماع]
(2)
حجة - ولم يتكلم المصّنف في هذا - ولا ريب في أنا لا نكفر من أنكر الإجماع السكوتي، والإجماع الذي لم ينقرض أهل عصره، ونحو ذلك من الإجماعات التي اختلف العلماء المعتبرون في انتهاضها حُجَّة، إنما الكلام فيمن أنكر أصل الإجماع، وهدم قاعدته، وزعم أن الله لم يشرع الاحتجاج به لخلقه، ولا شَكّ في بدعة هذا، والقول في تكفيره كالقول في تكفير أهل البِدَعِ والأهواء.
الوجه الثَّاني: أن ننكر حكم الإجماع، وفيه تكلّم المصنّف - فيقول مثلًا: ليس لبنت الابن السّدس مع بنت الصُّلب، أو ليست الصَّلاة واجبةً، وهذا على أقسام:
أحدها: منكر بَلَغَهُ الإجماع وَلَجَّ في عِنَادِهِ، واستمر على إنكاره، فالوجه عندي هنا أن يقال: إن كان ذلك المجمع عليه خفيًّا كمسألة بنت الابن، فتكفيره في موضع التردُّد، وإن كان ظاهرًا يشترك في معرفته الخَاصَّة والعامَّة، كالصَّلاة فيكفر بلا نَظَرٍ.
القسم الثَّاني: أن ينكر وقوع الإجماع بعد أن يبلغه، فيقول: لم يقع، ولو وقع لقلت به، فإن كان المخبر عن وقوعه الخَاصَّة دون العَامَّة، كمسألة بنت الابن، وهنا خلاف الأظهر عدم التكفير، وإن كان المخبر الخَاصَّة والعامَّة جميعًا كالصَّلاة، كفر ولم يُعذر.
والثالث: ألَّا يبلغه، فيعذر في الخَفِيّ دون الجَلِيّ إن لم يكن قريب عهد بالإسلام، وهذا في حكم الظاهر.
أما في نفس الأمر، فلا كُفْرَ، حيث لا يبلغه، وهو عند الله - تعالى - معذور
(3)
.
إذا عرف هذا فلنذكر كلام أئمَّتنا، ثم ننعطف على كلام صاحب الكتاب.
(1)
في أ، ح: الخيار.
(2)
في أ، ح: ننكر المرار الإجماع.
(3)
في أ، ت: مقدور.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الأستاذ أبو منصور البَغْدَادِي في كتاب "معيار الجدل" بعد أن ذكر الفرق بين المسائل الأصولية والفروعية من وجوه عَدّها: وكل ما ذكرناه من الفروق بين مسائل طفروع والأصول، فإنما اعتبرناه من فروع لا نَصّ ولا إجماعَ فيها.
فأما ما أجمعت الأمة [عليه]
(1)
، أو ورد فيه خبر يوجب العلم، فإنه يكون بعد استقرار الشَّريعة أصلًا بنفسه يأثم المخالف فيه، وينقضي عليه حكمه، ولا يعتبر في مثله خلاف أهل الأهواء، وربما أورثهم خلافهم الكُفْر كخلاف المَيْمُونِيَّة من الخوارج في تحريم بَنَاتِ البنات وبنات أولاد الإخوة والأخوات.
وخلاف الخوارج في سقوط الرّجم، وخلاف من أسقط منهم حَدّ الخمر، ونحو ذلك.
قال البَغَوِيّ في أوائل "التهذيب": الإجماع نوعان:
أحدهما: خاص.
والثاني: عام.
فالعام: إجماع الأمة على ما يعرفه الخاصُّ والعامّ، كإجماعهم على أعداد الصلوات والركعات، ووجوب الزكاة والصَّوم والحج، يكفر جَاحِدُه، وإن كان أمرًا لا يعرفه إلا الخَواصّ كإجماعهم على بطلان نكاح المُتْعة، وأن لبنت الابن السُّدس مع البنت الواحدة من الصّلب، فلا يكفر جاحده، ويُبَيَّن له الحقُّ.
ومن الإجماع الخاص: أن يجمع العلماء من أهل عصر على حكم حادثة. إما قولًا، وإما فعلًا، فهو حجة لكن لا يكفر جاحده، بل يخطأ ويدعي إلى الحق ولا مساغ فيه لاجتهاد. انتهى.
وما ذكره آخرًا ظاهر؛ لأن هذا الإجماع، وانتهاضه حُجَّة إذا قيل به ظني، فلا يكفر قطعًا.
والمسألة مصوّرة بمنكر حكم الإجماع القطعي، ولكن حكى الإمام الأستاذ أبو إسحاق فيه خلافًا قَدَّمناه فيمن جحد مجمعًا عليه غير معلوم بالضرورة، هل يكفر؟
فقال: فيه وجهان مبنيان
(2)
على أن ما أجمع عليه الخاصَّةُ والعامة، هل العامة مقصودة فيه أو تابعة؟ فيه وجهان.
(1)
سقط في أ، ح.
(2)
في أ، ح: مثبتان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فعلى الأول: لا يكفر؛ لأنه لم يخالف جميع المقصودين في الإجماع، وعلى الثَّاني يكفر، وهو اختيار الأستاذ أبى إسْحاق.
قلت: وفيه نظر، والظاهر أن مراده ما أجمع عليه الخاصَّة، وهو مشهور، ولكن لم ينته إلى درجة المَعْلُوم بالضرورة، وهذا بخلاف الذي سنذكر عن النَّووي حكايته، أما غير المشهور فلا وجه إلا عدم التكفير جزمًا.
قال الرَّافعيُّ فيمن ترك الصَّلاة جاحدًا لوجوبها: إنه مرتد إلَّا أن يكون قَرِيبَ عهد بالإسلام يجوز أن يخفى عليه ذلك، قال: وهذا لا يختصّ بالصَّلاة، بل يجري في جحود كل حكم مجمع عليه.
قال النَّوَوي: وليس على إطلاقه، بل من جحد مجمعًا عليه فيه نصُّ وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخَاصّ والعام، كالصلاة، والزكاة، والحج، والزِّنا
(1)
والخَمْر فهو كافرٌ، ومن جحد مجمعًا عليه لا يعرفه إلا الخواصّ فليس بكافر، ومن جحد مجمعًا عليه ظاهرًا لا نصّ فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف، وصحَّح في باب الرِّدَّة من الخلاف القول بالتكفير.
وقال ابن السَّمْعَاني: الإجماع على ضربين:
أحدهما: يكفر مخالفه متعمدًا، وهو الإجماع على الشَّيء الذي يشترك الخَاصَّةُ والعَامَّةُ في معرفته، كأعداد الصَّلوات وركعاتها، والحج والصّيام وزمانهما، وتحريم الخَمْرِ والزِّنا
(2)
والسرقة،
(1)
في أ، ح: الربا.
(2)
الزنا يُمَدُّ ويقصر: مصدر زَنَى الرَّجُلْ يَزني زِنًا وزِنَاءً: فَجَر، وزنت المرأةُ تزني زنًا وزِنَاءً: فَجَرَتْ. وزاني مُزَانَاةً وَزِنَاءً، والمرأةُ تُزانِي مُزَانَاةً وَزِنَاءً أَي: تُبَاغِي وهو بالقصر لغة أهلِ الحجاز. قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} بالقصر، ولِوُقُوع الألف ثالثة قُلِبَتْ يَاءً، والنسبة إليه زِنوِيٌّ. وبالمدّ لغة أهل نجد، وبني تميم، وأنشد:[البسيط]
أَمَّا الزِّنَاءُ فَإِنِّي لَسْتُ قَارِبهُ
…
وَالمَالُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْخَمْرِ نِصْفَانِ
وقال الفَرَزْدَقُ: [الطويل]
أَبَا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِنَاؤُهُ
…
وَمَنْ يشرَبِ الْخُرْطُوْمَ يُصْبِحُ مُسْكِرًا
والنسبة إليه زِنَائِيٌّ، وزنَّاه: نسبه إلى الزنا. وهو ابنُ زِنية بالفتح، والكسر أي ابْنُ زِنَا. ومعناه في كل ما تقدم الفجور. وأما زَنَى الموضع زُنُوًّا فمعناه ضاق. ووعاء زَنِيٌّ أي ضيق. والاسم منه الزَّناءُ بفتح=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإن اعتقد في شيء من ذلك خلاف ما انعقد عليه الإجماع فهو كافر؛ لأنه صار بخلافه جاحدًا لما قطع به دين الرسول صلى الله عليه وسلم وصار كالجاحد لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
والضرب الثَّاني: ما يضلّ مخالفه إذا تعمّد، ولا يصير كافرًا، وهو إجماع الخاصَّة، وذلك ما ينفرد بمعرفته العلماء، كتحريم المرأة على عَمّتها وخالتها
(1)
، وإفساد الحَجّ بالوَطْء قبل الوقوف
= الزاي وفي لسان الشرع: هو إيلاج حشفة أو قدرها في فرج محرم لعينه مشتهى طبعًا بلا شبهة.
ينظر: الجمل على المنهج 5/ 128، ومغني المحتاج 4/ 143.
(1)
وقد اختلف العلماء في الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها. فذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء إلى القول بحرمة الجمع بينهما، وعلى ذلك فمن كان تحته امرأة وعقد على عمتها أو خالتها كان النكاح فاسدًا يجب فسخه مطلقًا. وذهبت الرافضة، والخوارج، وبعض الشيعة، وعثمان البتِّي إلى القول بجواز الجمع بين المرأة، وعمتها، أو خالتها، وعليه فمن كان عنده امرأة، ثم عقد على عمتها، أو خالتها كان النكاح صحيحًا.
استدل الخوارج والروافض بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ووجه الدلالة من الآية الكريمة، أنهم قالوا: إن الله سبحانه وتعالى لم يذكر في التحريم بالجمع إلا الجمع بين الأختين، ثم قال:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فدخلت المرأة وعمتها أو خالتها فيما أحل الله، وإذا حلت المرأة على عمتها، أو خالتها، فيكون نكاحها عليها صحيحًا. يقال لهم في هذا الدليل: إن قولكم بأن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} عام يشمل المرأة على عمتها، أو خالتها غير صحيح؛ لأن العموم في الآية مخصص بالأحاديث الصحيحة المشهورة التي تلقتها الأمة بالقبول. وأما الجمهور فقد استدلوا بالسنة والمعقول.
أما السنة: فأولًا: ما روى عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلا بَيْن الْمَرْأةِ وَخَالَتِهَا" ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين المرأة، وعمتها، وبين المرأة، وخالتها بقوله:"لا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا" الحديث، وهو خبر لفظًا نهيٌ معنى، فيكون الجمع بينهما حرامًا، حيث حرم الجمع، فلو نكحهما معًا بَطَلَ نكاحهما، وإن نكحهما مرتبًا بطل نكاح الثانية؛ لأن الجمع حصل بها.
ثانيًا: ما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلا عَلَى خَالَتِهَا وَلا عَلَى بنتِ أَخِيهَا وَلا عَلَى بنتِ أُخْتِهَا" وفي بعض الروايات: "لا الصُّغرَى عَلَى الكُبْرَى وَلا الكُبرَى عَلَىَ الصُّغرَى" فهذه الأحاديث بلغت حد الشهرة، وتلقتها الأمة بالقبول، وهي من الأخبار الموجبة للعلم والعمل؛ فوجب استعمال حكمها مع الآية، فيكون قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مستعملًا فيما عدا الأختين، وعدا من بيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم تحريم الجمع بينهن، ولما كانت الأحاديث لا يعلم تاريخ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بـ "عرفة"، وتوريث الجدَّة السدس، وحجب بني الأم بالجد، ومنع توريث القاتل
(1)
، ومنع
= ورودها، وجب أن تحمل على المقارنة؛ فتكون مخصصة لعموم الآية، ويكون الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها حرامًا.
وأما المعقول، فقد قالوا: إن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها يفضى إلى القطيعة والقرابة المحرمة للنكاح، وإنما كانت محرمة لإفضائها إلى القطيعة فيكون حرامًا؛ لأن المفضى إلى الحرام حرام.
وحيث بَطَلَ دليل المخالفين، وثبتت أدلة الجمهور ترجح لنا مذهبهم، وهو حرمة نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وأنه إذا وقع، فالنكاح فاسد واجب الفسخ.
(1)
واختلف في القتل المانع من الإرث، فعندنا معاشر الشافعية: لا يرث من له مدخل في القتل ولو كان بحق، كمقتص، وإمام، وقاض، وجلاد بأمرهما أو أحدهما، سواء أكان مباشرًا أم متسببًا، بالاختيار أم بالإكراه، لكنهم رجحوا في صورة: من حفر بئرًا في ملكه فقتل فيه مورثه، وكذا من وضع حجرًا أو نصب ميزابًا في ملكه أو بنى حائطًا في ملكه، فمات المورث بسببها - رجحوا في هذه الصورة الإرث؛ لأنه لم يتعد فيها. أما إذا تعدى بأن حفر بئرًا في الطريق فإنه لا يرث إذا مات بها مورثه - هذا إذا كان التسبب قريبًا، بخلاف ما إذا كان بعيدًا كان أحبل الزوج زوجته فماتت بالولادة فإنه يرث. وإن كان له تسبب في موتها بالإحبال - لكنه بعيد - ولأن الوطء من باب الاستمتاع، ومن شأنه ألا يتسبب إليه قتل. هذا والقتل يشمل المقصود كما تقدم وغير المقصود كقتل النائم والمجنون والصبي وغيرهم؛ فلا يرث واحد منهم من قتله. وأما حديث "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" فلا يرد علينا؛ لأن المرفوع هنا إنما هو قلم التكليف، ولا تعلق له بالإرث. وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال بإرث القاتل إذا كان صبيًا أو مجنونًا؛ لارتفاع القلم عنهما. وعندنا: لا إرث لمن له دخل في القتل، سواء أقصد به مصلحة كضرب الأب ابنه للتأديب فيموت بسببه وربطه الجرح للمعالجة أم لا.
قال صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء" أي ليس لمن له مدخل في القتل شيء من الإرث. وأما السادة الحنفية فيقولون: إن القتل المانع من الإرث هو ما يتعلق به وجوب القصاص أو الكفارة، فالذي يوجب القصاص هو العمد. وما يوجب الكفارة إما شبه العمد وإما الخطأ - وموجبهما الكفارة والدية على العاقلة، ولا إثم فيه، ويحرم القاتل الميراث في هذه الصور كلها. هذا إذا كان القتل بغير حق - أما لو قتل مورثه قصاصًا أو حدًا أو دفعًا عن نفسه فلا يحرم الميراث، وكذا إذا تسبب في القتل ولم يباشره مطلقًا، سواء أكان في تسببه متعديًا أم لا. واعترض على الحنفية في قصر المانع على القتل الموجب للقصاص أو الكفارة بما إذا قتل الأب ابنه عمدًا، فإنه لم يثبت به قصاص ولا كفارة مع أنه محروم اتفاقًا. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الوصية للوارث، فإذا اعتقد المعتقد في شيء من هذا خلاف ما عليه إجماع العلماء لم يكفَّر، لكن يحكم بضلاله
(1)
وخطئه. انتهى ملخصًا.
فحصلنا من نقلهم على أن المشهور، وفيه نص كالصَّلوات، يكفر منكره، وكذا ما لا نَصّ فيه على الأصح، بخلاف الخَفِيّ فليس التكفير أبدًا لخصوص الإجماع، بل لانضمام الشُّهرة إلى الإجماع.
وفي وجه: يشترط مع الشُّهرة نص.
والسِّر في التكفير أن الجاحد والحالة هذه آيِلٌ إلى تكذيب الصَّادق، وقد حكى المصنِّف ثلاثة آراء:
أحدها: التكفير مطلقًا.
والثاني: عكسه.
والثالث: أنه إن كان نحو العبادات الخمس يكفر، وإلا فلا.
وقيل: أراد بالعبادات الخمس: الصلوات.
وقيل: كلمة الإسلام، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج.
واستشكل كلامه من جهة اقتضائه أن لنا قائلًا يقول: بالتكفير في الأمر الخَفِيّ، ولا يعرف هذا، وآخر يقول: بعدم التكفير مطلقًا ليدخل فيه منكر العبادات الخمس، ولا يعرف فيه إلا التكفير.
وقد يتعصّب لكلامه، فيقال: أراد منكر حكم الإجماع هل يكفر بجهة الإجماع؟ فقائل يقول بالتكفير مطلقًا وإن كان خفيًّا إذا قيل له: قد أجمعت الأمة وخالف، ولا يستبعد هذا وآخر يقول بعدم التّكفير، ولا ترد العبادات الخمس؛ لأن النَّصَّ قائمٌ فيها، فمنكرها منكر للنص المعتضد بالإجماع والشُّهرة.
= وأجيب بأنه موجب للقصاص بحسب أصله، إلا أنه سقط بقوله عليه الصلاة والسلام:"لا يقتل الوالد بولده ولا السيد بعبده".
وعند السادة الحنابلة: كل قتل مضمون بدية أو قصاص أو كفارة مانع، وما لا فلا، أما القتل بحق فلا يمنع الميراث.
وعند السادة المالكية: يرث القاتل خطأ من المال دون الدية، ولا يرث القاتل عمدًا وعدوانًا.
(1)
في أ: بضلالته.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكلامنا إنما هو في تكفير المجمع عليه.
والثالث: الفصل.
والحاصل: أن المنصوصات المشهورة لا كلام فيها إنَّما الكلام فيما لا يعرف له سند إلا الإجماع، فالقائل الثَّاني لا يكفر منكره، وإن اشتهر حتى صارت شُهرته كالعِبَادَات الخمس.
وإنما شبه بالعِبَادَاتِ الخمس في الشُّهرة لا في غيرها، وإلا فهي منصوصات.
وهذا في الحقيقة أحد الوجهين اللَّذين حكاهما النَّوَوِيُّ كما تقدم، ويعرف من هذا أن الصَّلوات
(1)
الخمس لا تدخل فيما نحن فيه، وإنما يدخل نحوها، فلو اشتهر شيء شهرتها، ولا سَنَدَ له تعرفه الأمة غير الإجماع لقال هذا القائل: بأن منكره لا يكفر، وهو واضح؛ لأن منكر أصل الإجماع على أصولنا في المُبْتدعة لا يكفر، فكيف يكفر هذا؟
وبهذا يتَّضح لك أن التكفير ليس إلا
(2)
للشُّهرة، فإن المنكر إذ ذاك كأنه مكذب، أو للشهرة مع النَّص، فلا يقال: كيف لا يكفرون من أنكر أن الإجماع حُجَّة، ويكفرون من أنكر المشهور؟؛ لأنا نقول: إنما كفرناه والحالة هذه؛ لأنه مكذب فهو خارج عن أهل القِبْلَةِ.
وأما من نازع في حجية الإجماع فلم يكذب الشَّارع فلم يخرج عن أهل القِبْلَةِ، ونحن لا نكفر أحدا من أهل القِبْلَةِ.
وبهذا تبيّن لك صحَّة قول الإمام في "المحصول"
(3)
: جاحد الحكم المجمع عليه لا يكفر خلافًا لبعض الفقهاء، واستدلّ بأن أدلَّة أصل الإجماع لا تفيد العِلْمَ، فما تفرع عنه أولى، ومنكر المظنون لا يكفر بالإجماع.
فعلم من هذا الدليل أن مراده: ما استفيد من الإجماع دون غيره، وإلا فالمشهورُ مستفادٌ معلوم من الدين، فليس من هذا القبيل.
وقوله: منكر المظنون لا يكفر بالإجماع، يعني: إذا لم يعتضد بإجماع.
أما إذا اعتضد به ففيه خلاف، ثم قال: وأيضًا فتقدير أن الإجماع قَطْعي، فليس العلم به داخلًا في ماهية الإسلام فلا يكون العلم بتفاريعه داخلًا فيه.
(1)
في ت، ح:. العبادات.
(2)
في ح: لا.
(3)
ينظر: المحصول 2/ 1/ 297.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا الدَّليلُ فيه نظر لا غرض لنا هنا في ذكره.
ومن هنا أخذ الآمدي التَّفصيل الذي اختاره، فقال
(1)
: اختلفوا في تكفير جاحد الحكم المجمع عليه، فأثبته الفقهاء، وأنكره الباقون مع اتفاقهم على أن إنكار حكم الإجماع الطني غير موجب كفرًا.
والمختار: إنما هو التفصيل، وهو أن اعتقاد الإجماع.
إما أن يكون داخلًا في مفهوم اسم الإسلام كالعبادات الخمس ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة، أو لا يكون كذلك كالحكم بحِلّ البَيْعِ وصحَّة الإجارة ونحوه، فإن كان الأول فجاحده كافر؛ لمزايلة حقيقة الإسلام له، وإن كان الثَّاني فلا. انتهى.
وهذا التفصيل ليس قولًا ثالثًا كما فهمه بعض شارحي "المختصر"، وإلا كأن تخرج من كلامه أن لنا قائلًا يقول: وجوب اعتقاد التَّوحيد والرِّسَالة لا يكفر منكره، وإنما الأمر على ما قررناه من أن المجمع عليه، إن اشتهر وعضد نصّ فليس من المسألة التي نحن فيها في شيء، ويكفر منكره بإجماع المسلمين، كمنكر العِبَادَاتِ الخمس، ونحوها.
وإن لم يعضده نصّ، بل كان مشتهرًا، فقط ففيه خلاف، الأصح: التَّكفير.
ويخرج من كلام الآمدي: أنه يختار هنا عدم التَّكفير، بل هو صريح كلامه، والحق خلافه، بل أقول: قضيَّة كلامه أنه يختار أن منكر المجمع عليه، وإن اشتهر واعتضد بنص لا يكفي ما لم يكن داخلًا في حقيقة الإسلام كحِل البيع فإنه مشتهر بنصّ.
وقد فَاهَ بعدم التَّكفير فيه، وهذا لا يعرف لأحد، فالاعتراض على الآمدي أزيد من الاعتراض على ابن الحَاجِبِ، وإن اختص ابن الحاجب بتصريحه بثلاثة مَذَاهب، والآمدي لم يصرِّح بها، ولم يَفُهْ بأن مكان اختياره من مواقع الخلاف.
ولو أن ابن الحاجب قال: منكر حكم [ما]
(2)
علم من الإجماع القَطْعي.
ثالثها: إنْ وصل في الشُّهرة إلى ما اشتهر، وهو ذو نَصّ كالعبادات الخَمْس كفر منكره، وإن لم يكن فيه نصّ، وإلا فلا، وصح كلامه.
وحاصله: أن العبادات الخمس مشبه بها، وليست داخلةً في أماكن الخلاف، والمشبه دون
(1)
ينظر: الإحكام 1/ 255.
(2)
سقط في ح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المشبّه به، فالمشبّه مشتهر لا نَصّ فيه، والمشبه به مشتهر ذو نَصّ، والتكفير فيه قائم بلا نظر، وليس الإجماع فيه العلَّة [في التَّكفير]
(1)
، بل الشُّهرة مع النَّص فهما اللَّذان صَيَّرا منكره كالمكذب للصادق فيما جاء به، فالمراتب ثلاث:
منكر إجماع ذي شهرة، وفيه نص ولا ريب في كفره؛ لتكذيبه الصادق.
ومنكر إجماع ذي شُهْرة لا نَصّ فيه.
قيل: لا يكفر؛ لأنه لم يصرح بتكذيبه الصادق؛ إذ الغرض أن لا نَصّ، وإنما كذب المجمعين.
والأصح: يكفر؛ لأنَّ تكذيبهم يتضمَّن تكذيب الصَّادق.
ومنكر إجماع ليس بذي شُهْرة.
والأصح: لا يكفر.
وقال بعض الفقهاء: يكفر؛ لتكذيبه الأمة.
وجوابه: أنه لم يكذب الأمة صريحًا؛ إذ الفرض أنه ليس مشهورًا، فهو مما يخفى على مثله.
وأنت أيها الفَهِمُ إذا نظرت شروح هذا المختصر في هذا المكان، وجدتها مشتملةً على تخبيط عظيمٍ منشؤه من أمرين لا ثالث لهما:
أحدهما: الجمود على كلام المختصر.
والثاني: الجهل بالشريعة.
فصريحُ كلام بعضهم: أن في جملة الأقوال قولًا بأن إنكار التَّوحيد والعِبَادات الخمس لا يكفر، وكفى بتخيّل ذلك سُبَّة
(2)
.
وعلى الجملة كلام الآمدي، والمصنّف في هذه المسألة قلقٌ مدخول، والمعصوم من عصمه الله.
ما أحسن افتتاح الشَّيخ الهندي المسألة في "النهاية" وهذه عبارته: جاحد الحكم المجمع عليه من حيث إنه مجمع عليه بإجماع قطعي، لا يكفر عند الجماهير، خلافًا لبعض الفقهاء، وإنما قَيَّدنا بقولنا: من حيث إنه مجمع عليه؛ لأنَّ من أنكر وجوب الصَّلوات
(3)
الخمس، وما يجري
(1)
سقط في ح.
(2)
في أ، ت، ح: شبه.
(3)
في أ، ح: الصلاة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مجراها يكفر، وهو مجمع عليه؛ لكن لا لأنه مجمع عليه؛ بل لأنه معلوم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما قيدنا بالإجماع القطعي؛ لأنَّ جاحد حكم الإجماع الظني، لا يكفر وفاقًا. انتهى.
وهي عبارة سديدةٌ مُنْبِئَةٌ عن الغرض
(1)
، ولم يحك إلا مذهبين كما هو المعروف.
وعندي أن أمْتَنَ كلام في المسألة، وأقربه إلى ما مهدناه - كلام إمام الحرمين في "البرهان"، حيث قال: من اعترف بالإجماع، وأقر بصدق المجمعين في النقل، ثم أنكر ما أجمعوا عليه كان هذا التكذيب آيلًا إلى تكذيب الشَّارع.
ومن كذب الشَّارع كَفَرَ، والقول الضَّابط فبه: أن من أنكر طريقًا في ثبوت الشَّرع لم يكفر، ومن اعترف بكون الشَّيء من الشرع، ثم جحده كان منكرًا للشرع، وإنكار بعضه، كإنكار كله. انتهى.
وهو جامع لما اخترناه، ونختم المسألة لإشكال واحد، فنقول: قد عرف أن منكر المجمع عليه لا يكفر.
من حيث إنه مجمع عليه، وأن بعضهم قال: يكفر إذا عرف أنه مجمع عليه، وكان معترفًا بأن المجمعين لا يجمعون على باطلٍ؛ لأنه آيِلٌ إلى تكذيب الشَّارع.
ولقائل أن يقول: إذا أقرّ بصدق المجمعين في النَّقل، وكان ذلك عقده ومضمره، فكيف يتصوّر منه إنكار ما أجمعوا عليه، وأنى يجتمعان؟ فإن أريد لإنكاره بعد ذلك إنكار أصل أن الإجماع حجة، فذلك لا يقتضي التَّكفير كما سلف، ولعله كان يذهب إلى أنه حجة، ثم تغير رأيه، وطريان البِدْعَةِ، والضلالة لا يوجب كفرًا.
وإن أريد أن قوله: ليس هذا من الشرع مع اعتقاده أنه من الشرع إساءة على الشرع توجب تكفيره، وإن لم يكن معها اعتقاد، كمن يلقي المصحف في القَاذُورَاتِ فذلك بعيد؛ إذ [لا]
(2)
إساءة
(3)
في هذا، بخلاف ملقي المصحف.
(1)
في ح: المفروض.
(2)
سقط في أ، ح.
(3)
في حاشية ج: قوله "إذ لا إساءة
…
إلخ" قد يقال: إن تصديقه مع الإنكار لا يعتد به، كمن اعترف بوجود الإله وأنكره عنادًا، كمن قال الله فيهم:(يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) لأن الحاصل عنده حينئذٍ ليس بتصديق، بل هو نوع من التصور يقال له: المعرفة كما بينه عبد الحكيم في حواشي القطب. تأمل!.
حُكْمُ الإجْمَاعِ فِيمَا لا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الإجْمَاعِ
(1)
مَسْأَلةٌ:
التَّمَسُّكُ بِالإِجْمَاعِ فِيمَا لا تتوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، كَرُؤْيَةِ الْبَارِي - تَعَالَى -، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ، وَلعَبْدِ الْجَبَّارِ فِي الدُّنْيَوِيَّةِ قَوْلانِ.
لَنا: دَلِيلُ السَّمْعِ.
وإنما هذا كاذب على نفسه؛ إذ الفرض أن عقيدته حُجّية الإجماع، وأنهم أجمعوا، ومتى حَصَلت له هاتان المُقَدِّمتان، لم يرتب ضميره في أن هذا من الشرع، فإن هو كذب على نفسه، فليس كذبه على نفسه موجبًا كفرًا، والله المستعان.
"مسألة"
الشرح: فيما يتمسَّك فيه بالإجماع، وما لا يتمسك. "التمسك بالإجماع فيما لا يتوقّف""عليه" صحة الإجماع من العقليات والشَّرعيات، والدّنيويات "صحيح، كرؤية البَارِي، ونفي الشَّريك" وحِلّ البيع، وتدبير الجُيُوش ونحوه، بخلاف ما يتوقف عليه صحَّة الإجماع، كإثبات الصَّانع، للزوم الدور.
"ولعبد الجبار في "الأمور "الدّنيوية قولان":
أحدهما: كالمختار.
والثاني: أنه ليس بحجة.
"لنا: دليل السّمع"، فإنه قام على التمسّك بالإجماع مطلقًا من غير تقييد.
وهذا منتهى الكلام فيما يختصّ بكل واحد من الكتاب، ومن السُّنَّة، ومن الإجماع، فلنأخذ فيما اشتركت فيه.
(1)
هذه المسألة في بيان ما يكون الإجماع منه حجة وما لا يكون، فنقول: لا يصح التمسك بالإجماع على ما يتوقف صحة الإجماع عليه، كوجود البارئ تعالى، وصحة الرسالة؛ لاستلزامه الدور؛ لتوقف صحة الإجماع على وجوب الرب، وصحة النبوة، فلو توقفنا عليه لزم الدور، وأما ما لا يتوقف صحة الإجماع عليه، فلا يخلو إما أن يكون دينيًا أو دنيويًا، فإن كان الأول صح اتفاقًا
…
ينظر: الشيرازي 228 ب/ خ، والإحكام 1/ 266، والمعتمد 2/ 494، والمستصفى 1/ 173، والمحصول 2/ 1/ 292، وتيسير التحرير 3/ 363، وشرح العضد 2/ 44، وشرح التنقيح 344، وفواتح الرحموت 2/ 246، وكشف الأسرار 3/ 251، وحاشية البناني 2/ 194.
مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الأَدِلَّةُ الثَّلاثَةُ - الْكِتَابُ - السُّنَّةُ - الإِجْمَاعُ
(1)
وَيَشْتَرِكُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ.
فالسَّنَدُ الإِخْبَارُ عَنْ طَرِيقِ الْمَتْنِ.
وَالْخَبر قَوْلٌ مَخْصُوصٌ لِلصِّيغَةِ وَالْمَعْنَى.
الشرح: "ويشترك الكتاب، والسُّنة، والإجماع في السّنَدِ والمَتْنِ".
"السَّند"
"فالسَّند: الإخبار عن طريق المَتْنِ"، بأن يبيّن بماذا أثبت كل واحد من الثلاثة، أتواترًا، أو آحادًا
(2)
؟.
وعندي: لو قال: السّند طرِيق المَتْن كان أولى.
الشرح: "والخبر
(3)
: قول مخصوص، موضوع "للصيغة"، نحو: زيد قائم، "والمعنى" القائم بالنَّفس الذي مدلول هذا اللَّفظ مثلًا بالاشتراك اللفظي بينهما على أحد قولي الأشعري.
(1)
لما فرغ من الأبحاث المخصوصة بكل واحد من الأدلة الثلاثة شرع في الأبحاث المشتركة بين الثلاثة، فقال: ويشترك الكتاب والسنة والإجماع في السند والمتن، فالسند إخبار عن طريق المتن، أي السند المعنى به هنا الإخبار عن طريق المتن، والمراد بالإخبار عن طريق المتن أن نبين أن متن كل واحد ثبت تواترًا أو آحادًا - أعني بيان أن كل واحد من الثلاثة طريق ثبوته إما التواتر أو الآحاد.
(2)
ينبغي الإتقان والضبط فيما يكتب مطلقًا لا سيما هذا الفن؛ لأنه بين إسناد ومتن، والمتن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغييره يؤدي إلى أن يقال عنه ما لم يقل أو يثبت حكم من الأحكام الشرعية بغير طريقه، وأما الإسناد ففيه أسماء الرواة الذي لا يدخله القياس، ولا يستدل عليه بسياق الكلام، ولا بالمعنى الذي يدل عليه باللفظ. ينظر: الاقتراح ص 285.
(3)
هذا الباب في الكلام في حقيقة الخبر وأقسامه. أما حقيقة الخبر، فاعلم أولًا أن الخبر قد يطلق مجازًا من حيث اللغة على الإشارات الحالية، والدلائل المعنوية، كما تقول: أخبرتني عيناك: وبذاك خبرنا الغراب الأسود، ومنه قول المتنبي:[الطويل]
وكم لظلام الليل عندك من يد
…
تخبر أن المانوية تكذب
ويطلق حقيقة على قول مخصوص من بين الأقوال؛ وإنما كان حقيقة في هذا دون الأول لتبادر الفهم من إطلاق لفظ الخبر دون ما تقدم من الإشارات. ينظر: الشيرازي 229 أ/ خ.
فَقِيلَ: لا يُحَدُّ؛ لِعُسْرِهِ.
والقول الآخر: أنه حقيقة في النَّفْسَاني، مجازٌ في اللِّساني، وعكسه المخالفون، وهي الأقوال في أن الكلام حقيقة في ماذا؟
وأظهر قولي شيخنا - وهو المختار عندي - الثاني، وأنه إن أطلق على العبارة فمجاز، وقد قال الله - تعالى -:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة المجادلة: الآية 8] فأطلق القول على ما في النفس، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وقال - تعالى -:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [سورة تبارك: الآية 13] فدل على أن السّر والجَهْر صفتان للقول الكامن في النَّفس، ولسنا نقول.
وكان الشَّيخ الإمام رحمه الله يَتْلُو هنا قوله - تعالى - حكاية عن يوسف عليه السلام: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} [سورة يوسف: الآية 77]، وهو لطيف.
وقال عمر رضي الله عنه يوم "السَّقيفة"
(1)
: كنت زوَّرتُ في نفسي كلامًا.
(1)
اجتمع المسلمون قبل دَفْنِ الرسول صلى الله عليه وسلم في "سقيفة بني ساعدة". وهي ظلَّة كانت بالقرب من دار سعد بن عبادة، وتشاوروا في أمر الخلافة وفيمن يقوم بها. وتعتبر "سقيفة بني ساعدة" حدثًا تاريخيًا من أبرز المعالم على طريق التاريخ المبكر للإسلام، ويرى جم غفير من أهل الفكر أنها نقطة تحول خطير، ومنعطف شديد الالتواء، لا في التاريخ الإسلامي وحده، بل في التاريخ الإنساني كله من لحظة أن حولتْ أولهما - عن مجراه، وخرجت على خلاف المنتظر أو المظنون بتراث رسول الله من حَوْزَةِ الأعزة الكرام من آل بيته الأطهار، إلى حوزة رفيق الغار! ..
وما من أحد يعلم ما كان سيبلغه الإسلام من سعة الانتشار، وقوة الرسوخ، ولا ما كانت ستبلغه الدولة الإسلامية من شَأْوِ العظمة، وسطوة السلطان لو سارت الأمور على خلاف ما سارت عليه نتيجة لذلك التحول الكبير. وهذا بعض ما حدث في "سقيفة بني ساعدة":
قال ابن إسحاق في السيرة: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران - فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجالٍ وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات. وروى محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في "صحيحه" عن أبي سلمة: أن عائشة - زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرته قالت: أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسُّنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكَبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال، بأبي أنت يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين أبدًا، أما الموتةُ التي كتبت عليك فقد مُتَّها. =
وَقِيلَ: لأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال أبو سلمة: فأخبرني ابن عباس: أن أبا بكر خرج - وعمر يكلم الناس - فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فتشهد أبو بكر، فمال إليه الناس، وتركوا عمر، فقال: أما بعد من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حَيٌّ لا يموت، قال الله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} .
قال: والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس، فما يُسْمع بشر إلا وهو يتلوها.
قال ابن إسحاق: ولَمَّا قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم انحاز هذا الحيُّ من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل، فأتى آتٍ أبا بكر وعمر فقال: إن هذا الحَيَّ من الأنصار مع سعد بن عبادة في "سقيفة بني ساعدة" قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته لم يُفْرَغْ من أمره، قد أغلق دونه الباب أهله - قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه، فانطلقنا نَؤمُّهُمْ، حتى لَقِيَنا منهم رجلان صالحان، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم، وقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ أفضوا أمركم، قال: فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في "سقيفة بني ساعدة"، فإذا بين ظهرانيهم رجل مُزَمَّل فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ فقالوا: وجع، فلما جلسنا تشهَّد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد نحن أنصار الله وكتيبة الإسلام؛ وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دَفَّت دَافَّةٌ من قومكم قال: وإذا هم يريدون أن يجتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم وقد زورتُ مقالة في نفسي قد أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أُداري منه بعض الحد.
فقال أبو بكر: على رسْلك يا عُمر، فكرهت أن أغضبه، فتكلم - وهو كان أعلم مني وأوقر - فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهة أو مثلها أفضل منها حتى سكت، قال: أَمَّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إِلَّا لهذا الحي من قريش، أوسط العرب نسبا ودارًا، قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، ولم أكره شيئًا مما قال غيرها، كان والله أن أُقَدَّم فتضرب عنقي لا يقرِبني ذلك من إثم أحبَّ إليَّ من أن أتأمَّرَ على قوم فيهم أبو بكر، قال: فقال قائل من الأنصار: أنا جُذَيلُهَا المُحَكَّك، وعُذيقُها الْمُرَجَّب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، قال: فكثر اللَّغَط،=
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أنَّهُ مَوْجُودٌ ضَرُورَةً، فَالْمُطْلَقُ أَوْلَى، وَالاِسْتِدْلالُ عَلَى أَنَّ المعِلْمَ ضَرُورِيٌّ لا يُنَافِي كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا بِخِلافِ الاِسْتِدْلالِ عَلَى حُصُولِهِ ضَرُورَةً.
وقال الأخطل
(1)
: [الكامل]
إِنَّ الكَلامَ لفِي الفُؤَادِ وَإنَّمَا
…
جُعِلَ الكَلامُ عَلَى اللِّسَانِ دَلِيلًا
(2)
وما أجهل من قال: كيف يستدلّون بقول الأَخْطَل - وهو نَصْراني - على أصلكم الممهّد في
= وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزَوْنا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، قال: فقلت: قتل الله سعد بن عبادة.
ومما ينبغي أن نقوله هاهنا إن التهديد الذي حكته كتب التاريخ والسير من تهديد عمر وأبي بكر لم يقع على وجه التحقيق. فما كان الخِبُّ الذي يُمَوِّهُ على الناس بهذا الأسلوب الفج المكشوف، أو الذي يتظاهر بالبيعة لابن الجرَّاح ليغطى ميله لأبي بكر، وميله كتاب مفتوح، واضح العبارة منقوط الأحرف لا يمكن أن يخفيه عن نظرة معاصريه مخادعة ولا تمويه. ولم يقع أيضًا أبي بكر ما يُحْملُ كبرهان على وقوع هذا التهديد، سواء أتم لحظة اجتماع السقيفة أم قبله في نفس النهار، ولا عبرة هنا بالاحتجاج بما أورده رواة الأخبار من خروجه إلى الناس من حجرة الرسول وردعه عمر عن وعيده المقول.
والحق أن ما نسب إلى أبي بكر من قول في ذلك المقام لا يمكن بحال من الأحوال اعتباره برهانًا على وقوفه في وَجْه التهديد، ورفضه انتفاء الوفاة، إنما هو أدنى إلى أن يفسر لنا تأثُّرَه الشديد بما كانت جزيرة العرب قد أخذت تموج به من انتفاضات الرِّدَّة، وحركات الامتناع عن أداء الزكاة، إذ انتهزت القبائل عندئذ مرض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم خُلُوَّ الميدان السياسي من شخصيته الآسرة لتتحرر من سلطان "المدينة"، أو الحكومة المركزية، ولتتحلل من حياة التوحُّد عَوْدةً إلى حياة الانقسام، والفوضى والانفلات التي كانت تعيشها قبل الإسلام. فكان ما أراد الله عز وجل بتولي الصديق رفيق النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة بن عمرو، صديق تغلب، أبو مالك: شاعر، مصقول الألفاظ، حسن الديباجة، في شعره إبداع. اشتهر في عصر بني أمية بالشام، وأكثر من مدح ملوكهم، وهو أحد الثلاثة المتفق على أنهم أشعر أهل عصرهم (جرير والفرزدق والأخطل). نشأ على المسيحية، في أطراف الحيرة "العراق"، وتهاجى مع جرير والفرزدق. كان معجبًا بأدبه، تيَّاهًا، كثير العناية بشعره. ولد سنة 19 هـ وتوفي سنة 90 هـ. ينظر: الشعر والشعراء 189، وشرح شواهد المغني 46، والأعلام 5/ 123.
(2)
البيت ليس في ديوانه، ينظر: ابن يعيش 1/ 22، والشذور 28.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ ضَرُورَةً وَلا نَتَصَوَّرُه، أَوْ تَقَدَّمَ تَصَوُّرُه، وَالْمَعْلوُمُ ضَرُورَةً
إثبات كلام النَّفس، وأبعده عن فَهْمِ الحقائق، وإنما هنا مسألتان.
الأولى: حقيقية، وهي إثبات كلام النفس للرب تعالى، وعليها البَرَاهين المقررة في علم الكلام.
والثانية: أن كلام النَّفس هل يُطلق عليه أنه كلام لغة، وهي مسألة لُغوية مُنْبِئة عن مدلولات الألفاظ استدللنا عليها بالآي التي تَلَوْنَاهَا، وقول عمر رضي الله عنه، وقول الأخطل، والأخطلُ أعْرَابي، منطقه طَبْعُه، ويصح التمسُّك بمنظومه ومنثوره، ويقول: كل أعرابي وإن كان جِلْفًا بوَّالًا على عَقِبَيْهِ.
ثم اختلف في الخَبَرِ "فقيل: لا يحد لعسره.
وقيل": بل "لأنه ضروري" - وهو قول الإمام الرازي - وبيانه "من وجهين":
"أحدهما: أن كل أحد يعلم" بالضَّرورة مَعْنَى قول القائل: "إنه موجود ضرورة"، وهذا خبر خاص، والمطلق جزء من الخاص، وإذا كان الخاص، ضروريًا، "فالمطلق أولى".
"و" لا يقال: إذا كان ضروريًّا فلم يستدلون عليه؛ لأنا نقول: "الاستدلال على أن العلم" بالخبر "ضروري لا يُنَافي كونه" - أي: كون الخبر - "ضروريًا"؛ لجواز أن يكون تصور الخبر ضروريًّا؛ ويكون العلم بكونه ضروريًّا نظريًّا، لاختلاف متعلّقهما.
فإن قلنا: الكلُّ أعظم من الجزء، وضروري مع أن العلم بكونه ضروريًّا نظري؛ لاستدلالنا عليه بأن تصوّر الطَّرفين كافٍ في الجَزْمِ بالنسبة بينهما، وهذا "بخلاف الاستدلال على حصوله" - أي: حصول العلم بالخَبَرِ - "ضرورة"، [فإنه ينافي]
(1)
كون الخبر ضروريًّا؛ لاتحاد متعلّقهما.
فالحاصلُ: أنه يجوز كون الشَّيء ضروريًّا، وضروريّته نظرية، والاستدلالُ على الثَّاني لا ينافي دعوى ضروريته
(2)
.
"ورُدَّ" هذا الوجه "بأنه يجوز أن يحصل" العلم بوجود الخَبَرِ "ضرورة، ولا يتصّور" العلم به، "أو" يجوز أن يكون قد "تقدّم تصوّره" على حصوله.
والحاصلُ: أنَّا لا نسلّم أن العلم بحصول الخبر الخاصّ يستلزم تصوّره معه، أو قبله،
(1)
في أ، ت، ح: فإنه ما في.
(2)
في ب: ضرورته.
ثُبُوثُها أَوْ نَفْيُهَا، وَثُبُوتُهَا غَيْرُ تَصَوُّرِهَا. الثَّانِي: التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ضَرُورَة، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ.
"والمعلوم" من القضيَّة الخاصَّة "ضرورة": إنما [هو]
(1)
"ثبوتها
(2)
أو نفيها" لا تصوّرها، "وثبوتها غير تصوّرها"، وغير مستلزم له.
وأوضح من هذا الرَّد لفظًا مع تأدية معناه، وزيادة أن نقول: لا نسلّم بَدَاهَةً من حيث نصوص الخبريَّة، بل من حيث الحصول والانتفاء لا غير، بدليل أنه يمكننا تعقُّله مع الذهول عن خصوص ماهيَّة الخبرية، ويؤكد هذا اختلاف العُقَلاء في الوجود، هل هو عين الماهيَّة، أو أزيد؟، فلو كان تعقُّل تلك القضيَّة بديهيًّا من حيث الخَبَرِيَّة بوجب أن يعلم بالبديهة كونه غير المَاهِيَّة ضرورة أن تعقّل الخبرية يتوقّف على تعقُّل المخبر عنه، والمخبر به، والنِّسبة.
سلمنا، لكن لا يلزم من بداهته من حيث خصوصيته خبريته بَدَاهَةً مطلق الخبرية؛ لأن أجزاء القضية البَدِيهِيَّة لا يجب أن تكون بديهيَّة؛ لاحتمال أن تكون بَدَاهَة تلك القضية بعد تعقل أجزاء ذلك الخبر، ولو بالكَسْبِ وهو غير قَادِحٍ في بَدَاهَتِهَا.
"الثَّاني" من الوجهَيْنِ لو لم يكن ضروري التصوّر لم تحصل "التفرقة بينه وبين غيره"، كالأمر والنهي ونحوهما "ضرورة"، لكن التفرقة حاصلة، "وقد تقدم مثله" تقريرًا وجوابًا.
قال القطب الشيرازي وغيره: وهذا سهو من المصنف، فإنه لم يتقدم مثله إلا في المنتهى الذي هذا المختصر مختصر منه.
قلت: ويحتمل أن يشير به إلى ما تقدّم في العلم؛ إذ قيل: إنه ضروريّ من وجهين، وهو مثل هذا من هذا الوَجْهِ، وهو أنه ضروريّ لوجهين.
ثم قيل في جوابه: إن التَّفرقةَ بين شيئين غير مسبوقةٍ بتصوّرهما بطريق الحقيقة، ثم التمييز بين الأمر والخبر مثلًا، إنما هو بعد معرفتها لا مطلقًا، فلا يدلّ ذلك على أن معرفته بديهيةٌ، وإلا لزم أن يكون معرفة الأمر أيضًا بديهية، ولم يقل به أحد، وقد ساعدنا الإمام رحمه الله على أن الأمر يحدّ.
(1)
سقط في ح.
(2)
في حاشية ح: قوله: ثبوتها
…
إلخ فالمعلوم ضرورة نسبة الوجود إليه إثباتًا، وهو غير تصور النية التي هي ماهية الخبر، فلا يلزم أن تكون ماهية الخبر ضرورية.
قَالَ الْقَاضِي وَالْمُعْتَزِلَةُ: الْخَبَرُ الْكَلامُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَاعْتُرِضَ بِأنهُ يَسْتَلْزِمُ إِجْمَاعَهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ لا سِيَّمَا فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى - أَجَابَ الْقَاضِي بِصِحَّةِ دُخُولِهِ لُغَةً فَوَرَدَ أَنَّ الصِّدْقَ الْمُوَافِقُ لِلْخَبَرِ، وَالْكَذِبَ نَقيضُه، فتَعْرِيفُهُ بِهِ دَوْرٌ وَلا جَوَابَ عَنْهُ.
الشرح: و"قال القاضي" عبد الجَبَّار، "والمعتزلة، إلا شرذمةً منهم: "الخبر: الكلام الذي يدخله الصدقُ والكذبُ"
(1)
.
"واعترض بأنه يستلزم اجتماعهما" في كل خبر؛ لأن "الواو" تقتضي الجمع، "وهو" - أي: اجتماعهما - "محال"؛ لأنهما متقابلان، ويمتنع اجتماع المتقابلين، "لا سيَّما" خصوص هذين المُتَقَابلين "في خبر الله"، فإنه صدق قطعًا أبدًا فأنَّى يجامعه الكذبُ؟
وفي مثل قول القائل: الثلاثة زوج، والاثنان فرد، فإنه كذب قطعًا، فأنى يجامع الصدق؟
وهذا الاعتراض ذكره القاضي أبو بكر رضي الله عنه لكنه لم يقل: يستلزم، بل قال: يوهم، أي: فالتحريف وُضِع لإزالة [الإيهَام]
(2)
، وبلوغ النِّهاية في الإيضاح، فينبغي أن يُصَان عما يوقع في التَّشكيك، واعترف مع ذلك بصحّته، لكن الأحسن أن يقال: ما يتَّصف بكونه صدقًا أو كذبًا.
وكذا فهم عنه إمامُ الحرمين في "البرهان"، والغزاليُّ في "المستصفى" ولم يقل أحدٌ منهم: يستلزم.
وعلى تقدير الاستلزام - كما ذكر المصنّف - "أجاب القاضي" عبد الجَبَّار "بصحة دخوله لغة"، أي: أن الخبر الصَّادق يصحّ دخول الكذب عليه من حيث مفهومه لغة من غير اعتبار خصوص المادة، وعلى عكسه الكاذب.
"فورد" على عبد الجَبَّار أنَّ حاصل جوابه، "أنَّ" الخبر هو الذي يحتمل الصِّدق والكذب،
(1)
وينظر: تهذيب اللغة 7/ 364، ولسان العرب 2/ 1090، وينظر المعتمد 2/ 544، والإحكام للآمدي 2/ 3 - 7، والمسودة 232، وشرح العضد 2/ 50، وفواتح الرحموت 2/ 107، وشرح الكوكب 2/ 309، وتيسير التحرير 3/ 28، وحاشية البناني 2/ 110، وإرشاد الفحول 44، وشرح تنقيح الفصول 347، والبرهان 1/ 564 (488)، والمحصول 2/ 1/ 307، وتقريب الوصول (119).
(2)
في ت، ح: الإبهام.
وَقِيلَ: التَّصْدِيقُ أَوِ التَّكْذِيبُ فَيَرِدُ الدَّوْرُ وَأَنَّ الْحَدَّ يَأْبَى "أَوْ".
وهما لا يعرفان إلا بالخبر؛ لأنَّهما نوعان، فإن "الصِّدق المُوَافق للخبر، والكذب نقيضه، فتعريفه به دَوْر"، وهو مثل قولك في حَدّ الحيوان، المنقسم إلى إنسان وفرس، وهو مُنْقدح، "ولا جواب عنه" يصح، ولقد ذكرت أجوبة لا تُرْتضى.
الشرح: "وقيل: التصديق، أو التكذيب، فيرد الدّور" أيضًا، وزيادة شيئين:
أحدهما
(1)
: أن التصديق، أو التكذيب عبارة عن الإخبار بكون الخبر صدقًا أو كذبًا، فقولنا: الخبر ما يحتمل التَّصديق والتكذيب، يجري مجرى قولنا: الخبر: هو الذي يخبر عنه بأنه صدق أو كذب.
والثَّاني: "أن الحَدّ يأبى" لفظ، "أو"؛ لأنه للتَّرديد المنافي للتَّحْدِيد.
"وأجيب" عن هذا الثَّاني "بأن المراد قَبُوله" الحَدّ دخول "أحدهما" لا بعينه.
والقاضي أبو بكر رضي الله عنه صرَّح بأنه إنما أتى بـ "أو" لذلك.
ولكنا
(2)
نقول: لا حاجة إليها، وهي أكثر إيهامًا من "الواو" التي ردها، وقد تقرر اندفاع أن "الواو" تستلزم الجمع بالجواب السَّابق الذي ذكره عبد الجَبَّار، وإليه أشار إمام الحرمين، وابن السَّمعاني وغيرهما.
والحاصلُ من كلام الجماعة: الاعتراف بتوافُقِ الحَدّين، ولكن ادعوا أن لفظ "أو" أوضح، وقد يقال: عكسه، لما عرفت من إيهام التَّرديد، والإيهام لا تدفعه الإرادة.
وأيضًا فـ "أو" وإن كانت للتقسيم، فمقتضاها: ألَّا يدخل الصِّدق والكذب في حالة واحدة، والمرادُ بالدخول: صلاحية الخبر للأمرين.
وقوله: لهما، وهو في حالة واحدةٍ يقبل الصِّدق والكذب، وإن لم يجتمع نفس الصِّدق والكذب، فالتَّنَافي بين الصِّدْق والكذب لا بَين قَبُولهما.
وبهذا يخرج الجَوَاب عن دَعْوَاهم أن "الواو" تُوهِمُ الاجتماع، فنقول: إنّما يتوهم اجتماع القبولين، ونحن به قائلون، وإياه مدعون، كقَبُولِ زيد للحركة والسّكون والقيام
(3)
والقعود في
(1)
في حاشية ح: قوله: أحدهما .... إلخ يلزم هذا أنه عرفه بنفسه وهو غير الدور.
(2)
في ت: ولكننا.
(3)
في أ، ح: فالقيام.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَبُولُ أَحَدِهِمَا.
حالة واحدة؛ لاجتماع المَقْبُولين اللَّذين هما نفس الصّدق والكذب، فتعين الإتيان بـ "الواو" دون "أو"، وإلا يلزم أن يكون قابلًا لأحدهما فقط، وليس كذلك؛ لأن القَبُول بالنسبة إليهما على وَتيرةٍ واحدة.
فمن قال: الجسم قابلٌ للحركة، أو السّكون على قَصْدِ التنويع، فالتقسيمُ أوهم أنه منقسم إلى ما يقبل الحركة دون السكون وعكسه، كما تقول: الحكم إما اقتضاء، أو تخيير، فإنه يقتضي انقسامه إلى أمرين كلّ منهما يُنَافي صاحبه، وليس ما نحن فيه، كذلك إذ هو في حال الحَرَكَةِ قابل للسُّكون وعكسه.
وإنما الذي لا يقبل الحَرَكَة السُّكون بخصوصه لا الجسم، كما أن الواجب الحُرْمة بخصوصه، وإن قبله أصل الحكم.
والقرَافيُّ قد أطْنَبَ في هذا وظنّ أنه اشتبه على إمام الحرمين تنافي القَبُولَيْنِ بتنافي المقبولين - وليس كذلك، وهذا لم يشتبه على الإمام، ولا القاضي من قبله؛ لأنهما - كما عرفت - لم يقولا: إن الحد يستلزم اجتماع الصِّدق والكذب المقبولين، وإنما قالا: يوهم ذلك، وهما لم يتحدثا إلا في المَقْبُولين، ولا حديث لهما في القَبُولين، [ولذلك]
(1)
قال إمام الحرمين: ورأى القاضي ذكر الصدق والكذب على التَّنويع بلفظ "أو" - أمثل من الإتيان بهما بـ "الواو".
فإن من قال: ما يدخله الصّدق والكذب أوهم إمكان اتصالهما بخبر واحد، فإذا ردد ونوع وقال: ما يدخله الصِّدق والكذب فقد تحرّز. انتهى.
والصّدقُ والكذبُ الذي يوهم اتِّصالهما هما المَقْبُولان، لا القَبُولان، نعم إنما اشتبه تنافي القَبُولين بتنافي المَقْبولين على مَنْ قال:"لفظ الاستلزام" كالمصنّف فاعرف ذلك.
والحاصل: أن قولنا: الخَبَر محتمل الصِّدق والكذب كلام صحيح، فإن احتماله لهما موجود في حالةٍ واحدة.
وبهذا يظهر لك ضعف قول بعضهم في الرَّد: المُتَقَابلان يمتنع اجتماعهما في زمان واحد، أما في زمانين فلا.
(1)
سقط في أ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"والواو" لا تقتضي اجتماع المعطوف والمعطوف عليه في زمان واحد، بل يقتضي اجتماعهما مطلقًا.
وبيان ضعفه أنه فهم أن المراد اجتماع المتقابلين، وقد بيَّنَّا أنه ليس المراد إلا اجتماع القبولين، وذلك هو الذي يستلزمه قولنا: الخبر ما يحتمل الصِّدق والكذب.
أما المقبولان، فلا يستلزمهما كما وضح، ثم قوله: يمتنع اجتماعهما في زمان واحد، أما في زمانين فلا.
قلنا: قد يقال: إذا وجد هذا في زمان، وذلك
(1)
في زمان غيره، فلا اجتماع أصلًا، وإنما تقرير الكلام وتحسينه وإجراؤه على أسلوب الحق الذي تقبله الفِطْرة
(2)
السليمة وتَنْبُو عنه الأذهان السَّقيمة فـ "الواو" ما أحرره قائلًا:
إذا قلت: قام زيد وعمرو فـ "الواو "تقتضي مطلق الجَمْعِ، لا ترتيب في ذلك ولا مَعِيَّة، ونسبة الترتيب والمعية إليها على حد سواء كما سبق في موضعه، ثم الجمع ضم شيء إلى شيء، ولا يعقل ذلك إلا حالة التركيب، وإلا فلا انضمام، ولكن الانضمام في قولك: قام زيد وعمرو يصدق إما بحصول قيامهما في الوجود من غير نظر إلى صفته ووقته كما تقول: وجد الشافعي والغزالي، فإنك تشرك بينهما في أصل الوجود مع تَبَايُنِ زمانهما.
وإما بحصول قيامهما على وَجْهٍ خاص من مَعِيَّة أو غيرها؛ وأمر "الواو" أعم من ذلك كله، فقد لاح بهذا حُصُول معنى الجمع مع عدم الدّلالة على الجَمْعِ الخاصّ الذي هو المَعِيَّة بخصوصه، وبه يخرج الجواب عن قولنا: لا يصدق الجَمْع إلا في زمان واحدٍ، فإنه يقال: أي جمع؟ أصل الجمع أو الجمع الخَاصّ الذي هو المَعِيَّة؟
إن أريد الأول فمسلّم وقد حصل اجتماع الصِّدق والكذب في الحكم بقَبُولِ الخبر إياهما وأصل وجدانهما في الخارج، كما حصل اجتماع قيام زيد وعمرو في حكمك بقيامهما، وأصل وقوع قيامهما في الخارج، وحصل وجود الشَّافِعِيّ والغزالي في حكمك به وأصل وقوعه.
وإن أريد الثَّاني فممنوع؛ إذ "الواو" لا تقتضي ترتيبًا ولا مَعِيَّة.
(1)
في ب: وذاك.
(2)
في ب: النظر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأنت أيها النَّاظر إذا انتهى بك التَّفهُّم فيما ألقيته إليك إلى هنا علمت أن الأكثرين حَدُّوا الخبر بما يحتمل الصِّدق والكذب، أو ما يدخله الصِّدق والكذب، ومرادهم: قبوله لهما معًا والقَبُول في حالة واحدة، وهو ملازم لكونه خبرًا، فحيث وجد احتمال الصدق والكذب من حيث هو خبر.
وقد تعرض له ما يعيّن أحد محتمليه من وقوعه في كلام الصادق، أو غير ذلك، وعلمت أن القاضي قال: هذا صحيح، ولكن ربما أوهمت لفظة "الواو" اجتماع نفس الصدق والكذب، لا قَبُولهما، وذلك مجرد إيهام، ولا يصل إلى حد اللزوم.
وإنما الحدود مراد بها الإيضاح، فينبغي إزالة هذا الإيهام، والإتيان بلفظ "أو".
وأن إمام الحرمين قال: الأمر في هذا قريب، فإن إرادة القَبُول دون المقبول فيه ظاهرة، وكذلك ابن السَّمعاني.
وأنَّا قُلْنا: بل الإتيان بلفظ "أو" قد يقال: إنها تفسد الحدّ بما أسلفناه. وأن المتأخرين فهموا أن الذي اعترض على هذا التعريف بهذا الاعتراض - وهو القاضي - ذكر أنه يستلزم اجتماع الصدق والكذب - ومنهم
(1)
المصنّف وليس كذلك، وإنما قُصَارى ما ذكره أنه يوهم ولا شكّ فيه، وإنما عارض إيهامه إيهام "أو" أيضًا فاستويا، وتترجّح "الواو" بما سبق.
ويعلم بهذا أن جواب عبد الجَبَّار، وقوله: يصح دخولهما لُغَةً، غير محتاج إليه؛ لأن المراد قبول دخولهما إلا نفس دخولهما.
ونحن في "شرح المنهاج" جرينا على كلام القَرَافِيّ وقلنا: اشتبه على إمام الحرمين تنافي القَبُولين بتنافي المَقْبُولين، وليس كذلك، والصَّوابُ ما ذكرناه هنا.
ومن إمام الحرمين أخذنا أن تنافي القَبُولين غير تنافي المَقْبُولين - كما رأيت ذلك في كلامه - وبالله العصمة.
واعلم أن قولنا: "المقبولين": عبارة تبعنا فيها القرافي، والصواب في التعبير أن يقال: قبول الشَّيئين، فالقبول واحد متعلّق بشيئين، والمقبول شيئان.
(1)
في أ، ح: وفيهم.
وَأَقْرَبُهَا قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ: كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ نِسْبَةً.
قَالَ: "بِنَفْسِهِ" لَيَخْرُجَ نَحْوُ: "قَائِمٌ"؛ لأَنَّ الْكَلِمَةَ عِنْدَهُ: كَلَامٌ وَهِيَ تُفِيدُ نِسْبَةً مَعَ الْمَوْضُوعِ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ بَابُ "قُمْ" وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ نِسْبَةً؛ إِمَّا لِأَنَّ الْقِيَامَ مَنْسُوبٌ؛ وَإِمَّا لِأَنَّ الطَّلَبَ مَنْسُوبٌ.
وَالْأَوْلَى الْكَلَامُ الْمَحْكُومُ فِيهِ بِنِسْبَةٍ خَارِجِيَّةٍ، وَنَعْنِي: الْخَارِجَ ............
"فائدة"
إطلاق المصنّف هنا لفظ القاضي على عبد الجَبَّار أراه وقع سهوًا، فإن أصحابنا الأصوليين لا يطلقون هذه اللفظة إلا على ابن البَاقِلَّاني، وإنما يطلقها على عبد الجَبَّار المعتزلة، وقد عطف عليه المعتزلة، فأوهم أنه ابن البَاقِلَّاني من وجهين. عادة الأشاعرة، واقتضاء العطف المغايرة.
"فائدة أخرى"
الشرح: قد عرفت أنه لا يردّ على تعريف عبد الجَبَّار إلا الدور، "و" ذكرت تعاريف أخر للخبر "أقربها" إلى الصَّواب عند المصنّف "قول أبي الحسين: كلام يفيد بنفسه نسبة".
"قال بنفسه، ليخرج نحو قائم"، فإنه كلام عنده؛ "لأنَّ الكلمة عنده كلام"، فإنه عرف الكلام بالمنتظم من الحروف المتميّزة المتواضع عليها، وذلك يشمل الكلمة وغيرها.
"ويرد عليه باب "قم" ونحوه" من أقسام الطلب، "فإنه كلام" بلا خلاف، و"يفيد بنفسه" من غير ضَمِيمَةٍ؛ لكونه جملة "نسبة" ما بأحد اعتبارين:
"إما لأن القيام منسوب" إلى المخاطب؛ لأنه المطلوب منه، فيكون هو المنسوب إليه، لا مطلق القيام.
"وإما لأن الطَّلب منسوب" إلى القائل؛ لأنه يدلّ على طلب مَنْسوب إليه دون مُطْلق الطَّلب، ولأبي الحسين أن يقول: أردت نسبة علم وقوعها منه، وبنفسه - أي: يكون هو مدلوله الذي وضع له، لا أن يكون لازمًا عقلًا - وقد صرَّح بالثَّاني في "المعتمد"، فخرج نحو "قم" إما باعتبار نسبة القيام إلى زيد؛ فلأنه لم يعلم وقوعها منه.
وإما باعتبار نسبة الطلب إلى القائل؛ فلأنه عقلي ومراده الطلب.
الشرح: "والأولى" - عند المصنّف - في تحديده أن يقال: "الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية" مطابقة للواقع، أو غير مطابقة، ليشمل الصَّادق والكاذب.
عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ، فَنَحْوُ طَلَبْتُ الْقِيَامَ حُكْمٌ بِنِسْبَةٍ لَهَا خَارِجِيٌّ بِخِلَافِ "قُمْ".
وَيُسَمَّى غَيْرُ الْخَبَرِ إِنْشَاءً وَتَنْبِيهًا. وَمِنْهُ: الْأَمْر، وَالنَّهْي، وَالْاِسْتِفْهَام، وَالتَّمَنِّي، وَالتَّرَجِّي، وَالْقَسَم، وَالنِّدَاءُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ نَحْوَ "بِعْتُ"، "وَاشْتَرَيْتُ"، وَ"طَلَّقْتُ" الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْوُقُوعُ - إِنْشَاءٌ، لِأَنَّهَا لَا خَارِجَ لَهَا، وَلِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا، وَلَوْ كَانَ خَبَرًا لَكَانَ
"ويعني" بالخارج: ما هو "خارج عن كلام النَّفس" المدلول عليه بذلك اللَّفظ، فيخرج باب الأمر، وأنه كلام محكوم فيه بِنِسْبَةٍ، ولكن ليست خارجيةً؛ إذ لا وجود له خارج نفس المتكلّم، [بل الشيء]
(1)
القائم بالنفس.
وهذا بخلاف "طلبت القِيَامَ"؛ لأنه يدل على "الحُكْمِ بنسبة" الطَّلب إلى القائل، و"له" مطابق "خارجي" هو قيام الطلب بِذَاتِهِ.
"ويسمى غير الخبر" - وهو ما لا يشعر بأن لمدلوله متعلّقًا خارجيًّا من الكلام "إنشاء""أو [تنبيهًا] "
(2)
.
"ومنه: الأمر" نحو: "قم"، "والنهي": لا تَقُم، "والاستفهام": هل قمت؟ "والتَّمنِّي": [الوافر].
لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ ........
…
................
"والترجي": ليت لي مالًا، "والقَسَم": والله لأفعلن، "والنداء": يا زيد، والعرض: ألا تنزل عندنا، فتصيب خيرًا، والتَّحضيض وصيغة هَلَّا. وألَّا ولو ولولا ولوما، فكل هذه ليست إخبارات - وهذه طريقة المصنّف، ولغيره طريقة أخرى الأمر فيها سهل
(3)
.
الشرح: "والصَّحيح: أن نحو: بعت، واشتريت، وطلّقت
(4)
التي يقصد بها الوقوع" واستحداث حكم "إنشاء"، لا إخبار - خلافًا للحنفيَّة - "لأنها لا خارج لها"، إذ لا يوجد البيع خارجًا عن قول القائل: بعت، فذهب عنها خاصيَّة الخبر، "ولو كان" معناها "خبرًا لكان ماضيًا" لاستحالة كونه مستقبلًا، "ولم يقبل التعليق" - لو كان ماضيًا، لاستحالة التعليقات فيه، لكنه يقبله
(1)
سقط في ت.
(2)
سقط في ت.
(3)
في ب: يسهل.
(4)
في ح: طلعت.
مَاضِيًا، وَلَمْ يَقْبَلِ التَّعْلِيقَ، وَلِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَلِذلِكَ لَوْ قَالَ لِلرَّجْعِيَّة:"طَلَّقْتُكِ" - سُئِلَ.
أَقْسَامُ الْخَبَرِ
الْخَبَرُ صِدْقٌ وَكَذِبٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِمَّا مُطَابِقٌ لِلْخَارِجِيِّ، أَوْ لَا.
في العِتْقِ والطلاق، وبثبوت التَّعليق فيه ينتفي أيضًا كونه حالًا؛ إذ لا تعليق فيه،" [ولأنا نقطع] "
(1)
في الإنشاء والخبر "بالفَرْقِ بينهما".
"وكذلك لو قال للرَّجعية: طلقتك، سئل" هل أردت الإخبار، أو الإنشاء؟
واحترزنا بالرَّجعية عن البَائِنِ إذا أوقع عليها - وإن أراد الإنشاء - لأنها ليست [محلًا له]
(2)
.
واعلم أن الذي قال: بأنه إخبار قال: إخبار عما في الذهن، ومعنى قولك: بعت، الإخبار عن اشتمال ضميرك على التَّرَاخي الذي وضعت "بعت" للدلالة عليه، فيقدر للضرورة وجودها قبل اللَّفظ.
قالوا: وغاية ذلك أن يكون مجازًا، وهو أولى من النقل.
ولا يخفى عليك أن كلامنا في "بعت" و"اشتريت" المستعملة لإحداث أحكام لم يكن قبلها، وإلا فهي إخبارات بلا نَظَرٍ، وإن وضعها اللّغوي مع ذلك الخبر، ولكن الكلام في النَّقْل الشرعي.
ومن الإنشاءات الشَّرعية "الظّهار".
ودعوى القرافي: أنه إخبار مسبوق إليها، فإن الرَّافعي نقله عن بعض أصحابنا في الفصل الثَّاني في التعليق بالمَشِيئَةِ من "كتاب الطلاق".
ولكنه شيء ضعيف، وقد تكلمنا عليه في "شرح المنهاج"
(3)
.
الشرح: "الخبر"
(4)
: قسمان: "صدق وكذب، لأن الحكم إما مطابقٌ للخارج، أو لا".
(1)
في ب: ولا بالقطع.
(2)
في ح: مجاله.
(3)
ينظر: الإبهاج 1/ 219، باب تقسيم الألفاظ، والمحصول 1/ 2/ 440، وشرح الكوكب 2/ 301، وحاشية البناني 2/ 163، وتيسير التحرير 3/ 26، وفواتح الرحموت 2/ 103، والتقرير والتحبير 2/ 288.
(4)
لما فرغ من تعريف الخبر شرع في تقسيمه فقال:
…
ينظر: الإحكام للآمدي (2/ 10)، والمعتمد =
الْجَاحِظُ: إمَّا مُطَابِقٌ مَعَ الاِعْتِقَادِ وَنفيِهِ، أَوْ لَا مُطَابِقَ مَعَ الاِعْتِقَادِ وَنَفْيهِ: فَالثانِي فِيهِمَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ، لِقَوْلهِ تَعَالَى:{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8]، وَالْمُرَادُ الْحَصْر، فَلَا يَكُونُ صِدْقًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَهُ.
الأول: الصدق.
والثَّاني: الكذب.
وادَّعى "الجاحظ"
(1)
: أنه ثلاثة أقسام: صدق، وكذب، وما ليس بصدق ولا كذب فقال:"إما مطابق مع الاعتقاد"، [لكونه مطابقًا، "ونفيه" - أي: نفي الاعتقاد، لكونه مطابقًا، "أو لا مُطَابق مع الاعتقاد] "
(2)
لعدم المُطَابقة "ونفيه، فالثاني فيهما" - هو ما لا اعتقاد معه سواء أكان
(3)
مطابقًا
(4)
، أم لا، "ليس بصدق ولا كذب"، محتجًّا مستندًا "لقوله تعالى:{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8].
"والمراد: الحَصْر" في الافتراء والجنون، ضرورة عدم اعترافهم بصدقه، فعلى تقدير كونه كلام مجنون "لا يكون صدقًا؛ لأنهم لا يعتقدون" صدقه ولا كذبه؛ لأنه قسيم الكذب على ما زعموا، فثبتت الوَاسِطَةُ بين الصّدق والكذب.
"وأجيب: بأن المعنى: افترى" على الله كذبًا، "أم لم يفتر فيكون مجنونًا؛ لأن المجنون لا
= 2/ 544، وشرح العضد 2/ 50، وشرح الكوكب 2/ 309، والمحصول 2/ 1/ 318، وشرح التنقيح 347، وحاشية البناني 2/ 110، والمسودة (232)، وإرشاد الفحول (44)، وتيسير التحرير 3/ 28، وفواتح الرحموت 2/ 7.
(1)
عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ، ولد بـ "البصرة" سنة 163 هـ، كبير أئمة الأدب، ورئيس الفرفة الجاحظية من المعتزلة فلج في آخر عمره، وكان مشوّه الخلقة، له تصانيف كثيرة منها:"الحيوان" و"البيان والتبيين" و"ذم القواد" وغيرها. مات سنة 255 هـ بـ "البصرة" والكتاب على صدره، قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه. ينظر: إرشاد الأريب 6/ 56 - 80، والوفيات 1/ 388، وأمراء البيان 311 - 487، وآداب اللغة 2/ 167، ولسان الميزان 4/ 355، وتاريخ بغداد 12/ 212، والأعلام 5/ 74.
(2)
سقط في ت.
(3)
في ب، ت: كان.
(4)
في حاشية ج: قوله: سواء كان مطابقًا أو لا، سواء كان مع اعتقاد اللامطابقة أو لا، فهي أربعة أقسام مع الاثنين الأوليين، فأقسامه ستة.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَعْنَى افْتَرَى أَوْ لَمْ يَفْتَرِ، فَيَكُونُ مَجْنُونًا؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا افْتِرَاءَ لَه، سَوَاءٌ أَقصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ لِلْجُنُونِ.
قَالُوا: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "مَا كَذَبَ وَلكِنَّهُ وَهِمَ".
وَأُجِيبَ بِتَأْوِيلِ: "مَا كَذَبَ عَمْدًا.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا فَصِدْقٌ، وَإِلَّا فَكَذِبٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
افتراءَ له"، فلا يكون ما ذكره إخبارًا - وإن اتَّصف بصفة الإخبار كما في كلام السَّاهي والنائم، أو يكون المعنى "أقصد" الإخبار، "أو لم يقصد، للجنون" فلا يكون ما أتى به خبرًا، لعدم القَصْد الذي هو شرط الإخبار.
والحاصل: أن الافتراء أخصّ من الكذب، ومُقَابله قد يكون كذبًا، وإن سلم فقد لا يكون خبرًا.
"قالوا": في "الصَّحيحين": "قالت عائشة: "ما كذب" - يعني عبد الله بن عمر - إذ روى أن الميّت ليعذّب ببكاء أهْلِهِ "ولكنه وهم"" إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"
(1)
.
فالموهوم واسطة بين الصادق والكاذب.
"وأجيب: بتأويل" قولها: ما كذب على أنه "ما كذب عمدًا. فلا يكون الموهم مقابلًا للكذب المطلق، بل الكذب المقيّد بالعمدية.
الشرح: "وقيل": لَا وَاسِطَةَ بين الصِّدق والكذب
(2)
، لكن [لا]
(3)
نعني المذهب الأول، بل "إن كان" المخبر بالوَاقِعِ "معتقدًا" لصدق ما أخبر به، وقد طابق "فصدق، وإلا فكذب"، سواء كان غير مطابق مع اعْتِقَادِ المطابقة، أو اعتقاد عدمها، أو لا اعتقاد رأسًا، أو مطابقًا ولا اعتقاد لشكّ أو غيره - هذا هو معنى هذا القول على ما فهم الشُرَّاحُ.
(1)
أخرجه البخاري 3/ 180 في الجنائز: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"(1286)، وأخرجه مسلم 2/ 640 في الجنائز: باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (22/ 928).
(2)
وإلى هذا ذهب النظام، ينظر:"إرشاد الفحول" 44 - 45.
(3)
سقط في ح.
وَأُجِيبَ: "لَكَاذِبُونَ فِي شَهَادَتِهِمْ"؛ وَهِيَ لَفْظِيَّةٌ.
"وَيَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُعْلَمُ صِدْقُه، [وَإلَى مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ]، وَإِلَى مَا لَا يُعْلَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا:
وقيل: - وهو
(1)
الأظهر - معناه: الصدق، مطابقة الخبر لاعتقاد المخبر، وإن كان غير مُطَابق لما في الخارج، وكذبه عدمها، وإن طابق الواقع؛ "لقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]". سَمَّاهم كاذبين في قولهم: "إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ" مع المطابقة للواقع؛ لأنهم لم يكونوا معتقدين.
"وأجيب": بأن المعنى: أن المنافقين "لكاذبون في شهادتهم"، لا في إخبارهم.
ولك أن تقول: الشهادة: إنشاء فكيف يكذبون فيها؟ فليكن المعنى: لكاذبون في إخبارهم عن أنفسهم أنهم يشهدون، فإنهم لا يَشْهَدون؛ إذ الشهادة لا بد معها من الاعتقاد، وهم لا يعتقدون.
وفيه بحث طويل ذكرناه في مكان آخر.
"وهي" - أي: المنازعة فيما نحن فيه - "لفظية"، ولا مُشَاحَّة في الاصطلاح.
وذهب الرَّاغب إلى أن الصدق: المُطَابقة مع الاعتقاد، فإن فقدا لم يتمخض صدقًا بل إما ألَّا يكون صدقًا، أو يوصف بالصدق والكذب بنظرين مختلفين إذا كان مطابقًا للخارج غير مطابق للاعتقاد؛ كقول المُنَافقين:"نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ".
اعلم أن المصنّف لما ذكر أن الخلاف لَفْظِيّ هوَّن المسألة، فلذلك لم يذكر دليله على المذهب المُخْتَار.
ومن الأدلة فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا" لدلالته على انقسام الكذب إلى العَمْدِ وغيره، وقول ابن عباس: كذب نوف - حين قال نوف البكالي - ليس صاحب الخضر موسى بني إسرائيل.
وذكر أخي الإمام أبو حامد - تَغَمَّدَه الله برحمته - في "شرح التلخيص": قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا [أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ]} [سورة النحل: الآية 39]، وهو حسن مذكر.
الشرح: "وينقسم" الخبر بالنَّظر إلى علم الصّدق، وكذبه أقسامًا ثلاثة: "إلى ما يعلم
(1)
في ت، ح: فهو.
فَالأَوَّلُ: ضَرُورِيٌّ بِنَفْسِهِ؛ كَالْمُتَوَاتِرِ، وَبِغَيْرِهِ؛ كَالْمُوَافِقِ لِلضَّرُورِيِّ، وَنَظَرِيٌّ؛ كَخَبَرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم والْإِجْمَاعِ وَالْمُوَافِقِ للنَّظَرِ.
وَالثَّانِي: الْمُخَالِفُ لِمَا عُلِمَ صِدْقُهُ.
وَالثَّالِثُ: قَدْ يُظَنُّ صِدْقُهُ؛ كَخَبَرِ الْعَدْلِ، وَقَدْ يُظَنُّ كَذِبُه، كَخَبَر الْكَذَّابِ، وَقَدْ يُشَكُّ؛ كَالْمَجْهُولِ، وَمَنْ قَالَ: "كُلُّ خَبَرٍ لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ فَكَذِبٌ قَطْعًا؛ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَادِقًا
صدقه، وإلى ما يعلم كذبه، وإلى ما لا يعلم واحدٌ منهما"
(1)
.
"فالأول" قِسْمَانِ: "ضروري"، ونظري.
والضروري؛ إما ضروري "بنفسه" - أي: بنفس الخبر، فيفيد العلم الضروري بمضمونه من [غير التفات إلى شيء آخر "كالمتواتر"، "أو "ضروري "بغيره" - أي: استفيد العلم بمضمونه] من أمر وراء الخبر - وهو الموافق للعلم الضَّروري "كالموافق" من الأخبار "للضروري" - أي: للعلم الضروري مثل: الكُلّ أعظم من الجزء.
"ونظريٌّ: كخبر الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم"، "و "خبر أهل "الإجماع"، "و" الخبر "الموافق للنَّظر" الصَّحيح في القَطْعِيَّات، كخبر مَنْ وافق خبره خبر الصَّادق.
"والثاني": وهو ما علم كذبه، هو الخبر "المُخَالف لما علم صدقه" من الأقسام المذكورة.
"والثالث": وهو ما لم يعلم صدقه ولا كذبه، ثلاثة أقسام؛ لأنه "قد يظن صدقه؛ كخبر العدل، وقد يظن كذبه؛ كخبر الكَذَّاب، وقد يشكّ؛ كالمجهول".
"و" اعلم أن "من قال: كلّ خبر لم يعلم صدقه [فكذب]
(2)
قطعًا؛ لأنه لو كان صدقًا لنصب عليه دليل" - يدلنا على صدقه - "كخبر مدعي الرِّسالة" - إذا كان كاذبًا في دعواه -، فإنه إذا لم يعلم صدقه يكون كاذبًا [قطعًا]
(3)
، فقوله "فاسد"؛ لأنه معارض "بمثله في النقيض" - بأن يقول: كلّ خبر لم يعلم كذبه، فصادق قطعًا، وإلا لنصب على كذبه دليل قياسًا على دعوى المُتَنَبِّي، أو لجريان مثله في نقيض ما أخبر به إذا أخبر به آخر، فيلزم اجتماع النقيضين، ويعلم بالضرورة وقوع الخبر بهما.
"و" فاسد أيضًا من جهة "لزوم كذب كلّ شاهد" - أي: يلزم منه العلم بكذب كلّ شاهد لم
(1)
في ح: منها.
(2)
سقط في ب.
(3)
سقط في ت، ح.
لَنُصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؛ كَخَبَرِ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ" - فَاسِدٌ بِمِثْلِهِ فِي النَّقِيضِ، وَلُزُومِ كَذِبِ كُلِّ شَاهِدٍ، وَكُفْرِ كُلِّ مُسْلِمٍ؛ وَإنَّمَا كُذِّبَ الْمُدَّعِي لِلْعَادَةِ.
وَيَنْقَسِمُ إَلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ.
فَالْمُتَوَاتِرُ: خَبَرُ جَمَاعَةٍ مُفِيدٌ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ، وَقِيلَ: بِنَفْسِهِ ..........
يعلم صدقه؛ لعدم الدَّليل عليه، "و" لزوم "كُفْر كلّ مسلم" في دعوى إسلامه؛ إذ لا دليل على ما في بَاطِنِهِ.
"و" أمَّا القياس على مُدَّعي خبر الرسالة فلا يصحُّ؛ لأنه "إنما كذب مدعي" الرِّسالة، إذا لم تظهر
(1)
المُعْجِزَةُ على يديه "لِلْعَادَةِ" - أي: لم يكذب لعدم العلم بصدقه، بل للعلم بكذبه؛ لأنه بخلاف العادة؛ إذ العادة فيما خالفها أن يصدق بالمعجزة، ويكذب بفقدها.
الشرح: "وينقسم" الخبرُ باعتبار آخر "إلى مُتَوَاتر، وآحاد".
وذكر كثير من أئمتنا؛ كالمَاوَرْدِيّ - في "الحاوي" - والأستاذ أبي إسحاق، وغيرهما "المستفيض"، والمتأخرون على خلافه.
الشرح: "فالمتواتر
(2)
: خبر جماعة يفيد بنفسه العِلْمَ بصدقه.
(1)
في ت، ح: يظهر.
(2)
هذا الباب في المتواتر، وهو مشتمل على مقدمة في حده وأنه هل يفيد العلم به أو لا؟ بأن العلم الحاصل منه ضروري أم لا، وفي شروطه، وعلى مسألة أما المتواتر في اللغة عبارة عن تتابع أمور واحد بعد واحد من الوتر، وفيه قوله تعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} أي واحدًا بعد واحد، وأصله وترى، وألفه للإلحاق فيمن نون، وللتأنيث في الآخر.
وفي الاصطلاح عبارة عن خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه، وقيل بنفسه؛ ليخرج الخبر الذي علم صدق القائلين به بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك المتواتر عنه عادة وغير عادة .. ينظر: لسان العرب (6/ 4758)، والشيرازي 236 ب، 237 أ/ خ، والكليات 2/ 96، والبحر المحيط للزركشي 4/ 231، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 566، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 14، ونهاية السول للإسنوي 3/ 54، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 296، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 95، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 95، والمنخول للغزالي 231، والمستصفى له 1/ 132، وحاشية البناني 2/ 119، والإبهاج لابن السبكي 2/ 263، والآيات البينات لابن قاسم =
لِيَخْرُجَ مَا عُلِمَ صِدْقُهُمْ فِيهِ بِالْقَرَائِنِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ عَادَةً - وَغَيْرِهَا.
وَخَالَفَتِ السُّمَنِيَّةُ فِي إِفَادَةِ الْمُتَوَاتِرِ، وَهُوَ بَهْتٌ؛ فَإِنَّا نَجِدُ الْعِلْمَ ضَرُورَةً بِالْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْخُلَفَاءِ، بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ، وَمَا يُورِدُونَهُ ........
وقيل: بنفسه؛ ليخرج ما علم - أي: الخبر الذي علم - "صدقهم فيه بالقَرَائِنِ الزَّائدة على ما لا ينفكُّ عنه عادة".
وقيد القَرَائِن بالزَّائدة؛ لأن من القرائن ما يلزم الخبر من أحوال الخَبَرِ، والمخبر عنه، والمخبر، والمخبر به، ولذلك يتفاوت عدد المتواتر.
ومنها ما يزيد على ذلك من الأمور المنفصلة وهو المقصود.
"وغيرها" أي: أو علم صدقهم فيه بغيرها كالعلم بمخبره ضرورة أو نظرًا.
والحاصلُ: أنه قد يقع العلم لا بنفس الخَبَرِ، بل إما بقرائن زائدة، أو غيرهما، والمتواتر ليس ذاك.
الشرح: "وخالف السُّمَنِيَّةُ في
 إفادة المُتَوَاتر" العلم،
"وهو بهت، فإنا نجد العلم ضرورة بالبلاد النَّائية
(1)
، والأمم الخَالِية، والأنبياء" صلوات الله عليهم "والخلفاء بمجرد الأخبار" المتواترة
(2)
؛ كما نجد العلم بالمَحْسُوسَات، لا فرق فيما يعود إلى الجَزْمِ
(3)
، فلو لم يفد المتواتر [العلم]
(4)
، لم نجد هذه الأشياء، والمنكر للوجدان مُبَاهِتٌ.
"وما يوردونه" - أي: السُّمَنِيَّة من شُبَهِهِمْ على المتواتر "من أنه" لم يُفِدْ؛ لأن اجتماع الخلق العظيم على الإخبار بشيء معيّن "كأكل طَعَام واحد" في وقت واحد.
"و" من "أن الجملة مركبة من الواحد" بعد الواحد، وكلّ واحد من المخبرين يجوز عليه
= العبادي 3/ 206، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 147، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 86، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 101، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 32، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 4، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 3، وشرح المنار لابن ملك 78، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 627، وتقريب الوصول لابن جزي 119، وإرشاد الفحول للشوكاني 46.
(1)
في ت، ح: الثابتة.
(2)
في ت: المتواتر.
(3)
في ت: الحرام، وفي ح: الجرم.
(4)
سقط في ت، ح.
مِنْ "أَنَّهُ كَأَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ؛ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْوَاحِدِ، وَيُؤَدِّي إِلَى تَنَاقُضِ الْمَعْلُومَيْنِ، وَإِلَى تَصْدِيقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فِي "لَا نَبِيَّ بَعْدِي"، وَبِأَنَّا نَفْرُقُ بَيْنَ الضَّرُورِيِّ وَبَيْنَهُ ضَرُورَةً، وَبِأَنَّ الضَّرُورِيَّ يَسْتَلْزِمُ الْوِفَاقَ" - مَرْدُودٌ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ.
وَالْكَعْبِيُّ وَالْبَصْرِيُّ: نَظَرِيٌّ.
الكَذِبُ حالة الانفراد فليستمرّ حالة الاجتماع، وإلا انقلب الجائز ممتنعًا، ومن أنه "يؤدي" - لو أفاد العِلْم - "إلى تناقض المعلومين" بتقدير أن يجتمع من يمنع تواطؤهم على الكذب على الإخبار بحياة زيد، ومثلهم على الإخبار بموته، ومن أنه يؤدي إلى "تصديق اليهود والنَّصارى في" نقلهما عن موسى وعيسى أن كلًّا منهما قال:"لا نبيّ بعدي، وبأنا نفرق بين الضَّروري" كاعتقادنا أن الواحد نصف الاثنين - "وبينه" - كاعتقادنا البلاد النائية
(1)
"ضرورة" - ونجد هذا دون ذلك، والتفاوت في الضروريات باطلٌ فلم يكن ضروريًّا، "وبأن الضروري يستلزم الوفاق"، واشتراك العقلاء فيه، وهذا نحن فيه مخالفون - "مردود"، أي: جميع ما أوردوه من هذه الاعتراضات مردود.
ولما كان وجه ردّه واضحًا، لم نطل
(2)
بذكره.
ثم اختلف القائلون بإفادة المُتَواتر العلم، هل هو ضروري، أو نظري؟
الشرح: "والجمهور على أنه ضروري"
(3)
.
"والكعبي والبَصْري" على أنه "نظري"
(4)
، واختاره إمام الحرمين، إلا أنه نزله على مجمل
(5)
لا يصير في المسألة نزاعًا فقال: الذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين، على النظر في ثبوت إحالة جامعة
(6)
، وانتفائها، فلم يغن الرجل نظرًا عقليًّا، وفكرًا سَبْريًّا على مقدمات ونتائج.
(1)
في ت، ح: الثابتة.
(2)
في ب: بطل.
(3)
ينظر: اللمع 39، وكشف الأسرار 2/ 361، وأصول السرخسي 1/ 283.
(4)
ينظر: المعتمد 2/ 522، والمحصول 2/ 1/ 328، والمستصفى 1/ 85، التبصرة 393، وشرح العضد 2/ 53، والعدة 2/ 726، والبرهان 1/ 579، وتيسير التحرير 3/ 32.
(5)
في ح: محل.
(6)
في ت، ح: إنالة.
وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ.
لَنا: لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا - لَافْتَقَرَ إِلَى تَوَسُّطِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَلَسَاغَ الْخِلَافُ فِيهِ عَقْلًا.
وَأَبُو الْحُسَيْنِ: لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا - لَمَا افْتَقَرَ، وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِ أَنَّهُ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ، وَأَنَّهُمْ عَدَدٌ لَا حَامِلَ لَهُمْ، وَأَنَّ مَا كَانَ كَذلِكَ لَيْسَ بِكَذِبٍ: فَيَلْزَمُ النَّقِيضُ.
وقال الغزالي: إنه ضروري بمعنى أنه لا يحتاج في حصوله إلى الشعور
(1)
بتوسُّط واسطة مُفْضِية إليه، مع أن الواسطة حاضرةٌ في الذهن، وليس ضروريًّا، بمعنى أنه حاصل من غير واسطة
(2)
.
وهذا هو الذي اختاره الإمام الرَّازي وأتباعه - وأراه رأى إمام الحرمين والجمهور، فلا خلاف.
"وقيل بالوَقْفِ" - واختاره المرتضى والآمدي
(3)
.
"لنا: لو كان نظريًّا لافتقر إلى توسُّط المقدّمتين"، وليس مفتقرًا؛ لأنا نعلم قطعًا علمًا بما ذكرنا من المُتَوَاتر مع انتفاء ذلك.
ولك أن تقول: إن أردت بتوسطها حضورها في الذِّهْنِ فهما حاضرتان، وإن أردت توقُّف الذِّهن على العلم حتى يرتبها
(4)
فلا يلزم، وهذا هو ما قدمناه عن الغَزَاليّ.
"و" أيضًا: لو كان نظريًّا "لساغ
(5)
الخِلَافُ فيه عقلًا"، ولم يعد الخلاف مباهتًا مكابرًا.
الشرح: "و" استدلّ ["أبو الحسين"
(6)
على أنه نظري فقال]
(7)
: "لو كان ضروريًّا لما افتقر" إلى توسط المقدمتين، "و" لكنه مفتقر؛ إذ "لا يحصل إلا بعد علم أنه من المحسوسات، وأنهم عدد لا حامل لهم، وأن ما كان كذلك، فليس بكذب فلزم النقيض" - وهو أنه صدق.
"وأجيب: بالمنع" منع
(8)
احتياجه إلى سبق العلم بذلك - "بل إذا حصل" العلم بمدلول
(1)
في ح: الشور.
(2)
نظر: المستصفى 1/ 85.
(3)
ينظر: الإحكام 2/ 18.
(4)
في ت، ح: يرتبهما.
(5)
في ت، ح: لشاع.
(6)
ينظر: المعتمد 2/ 522، والمنخول (237)، والإحكام للآمدي 1/ 18.
(7)
سقط في ت.
(8)
في ح: مع.
وَأُجِيبَ: بِالْمَنْع؛ بَلْ إِذَا حَصَلَ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا حَامِلَ لَهُمْ، لَا أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى سَبْقِ عِلْمِ ذلِكَ، فَالْعِلْمُ بِالصِّدْقِ ضَرُورِيٌّ، وَصُورةُ التَّرْتِيبِ مُمْكِنَةٌ فِي كُلِّ ضَرُورِيٍّ.
قَالُوا: لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا، لَعُلِمَ أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ ضَرُورَةً.
قُلْنَا: مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الشُّعُورِ بِالْعِلْمِ ضَرُورَةً الشُّعُورُ بِصِفَتِهِ.
الخبر "علم" من حال المُخْبرين؛ "أنهم لا حامل لهم" على الكَذِب؛ "لأنه مفتقرٌ إلى سبق علم ذلك، فالعلم بالصدق" في المُتَواتر "ضروري"، لا نظري.
وأما صورة التَّرْتيب في المقدّمتين، فإنها ممكنةٌ في كل ضروري، ولا يلزم من ذلك كونه نظريًّا.
وذلك كقولنا: الاثنان نصف الأربعة؛ لانقسام الأربعة إليهما وإلى ما يساويهما، وكل عدد انقسم إلى عدد آخر وإلى ما يساويه، وكل واحد من ذينك القسمين نصف ذلك العدد، وقس عليه فلا تتخيلن أن وجدان صورة الترتيب يستلزم النَّظر؛ لأنا أريناكها حيث يتضح الضروري.
والحاصل: أن العلم بالصدق ضروري يحصل بالعادة لا بالمقدمتين، فاستغنى عن الترتيب، وإلا تنافيه صورة الترتيب.
والحقُّ: أن المقدمتين لا بُدَّ منهما بالمعنى الذي ذكره الغَزَالي، فإن أراد أبو الحسين بالافتقار ما ذكره فحق، وإلا فواضح البطلان.
"قالوا: لو كان ضروريًّا لعلم أنه ضروري ضرورة"؛ لأن حصول العلم الضروري للعالم
(1)
مع عدم شعوره به محال.
"قلنا": الجواب بالمعارضة وبالحل فنقول: "معارض بمثله"، وبأن يقال: لو كان نظريًّا لعلم أنه نظري ضرورة؛ لأن حصول العِلم النَّظري مع انتفاء الشعور به محال.
"و" الحل: أنه "لا يلزم منه الشُّعور بالعلم" بالشَّيء "ضرورة" العلم "بصفته" - أي: بصفة العلم به، وكون العلم ضروريًّا صفة له كما أن كونه نظريًّا صفة له، فلا يلزم من العلم بالمتواتر العلم بكونه ضروريًّا؛ إذ لا يلزم من العلم بالشيء العلم بصفته.
(1)
في ب: للعام.
شَرْطُ الْمُتَوَاتِرِ
وَشَرْطُ الْمُتَوَاتِرِ: تَعَدُّدُ الْمُخْبِرِينَ، تَعَدُّدًا يَمْنَعُ الاِتِّفَاقَ وَالتَّوَاطُؤَ، مُسْتَنِدِينَ إِلَى الْحِسِّ، مُسْتَوِينَ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ، "وَعَالِمِينَ": غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ الْجَمِيعُ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بَعْضٌ فَلَازِمٌ مِمَّا قُيِّدَ.
الشرح: "وشرطُ المتواتر" أمور:
الأول: "تعدُّد المخبرين تعددًا يمنع الاتفاق" على الكذب، "والتواطؤ" فيه
(1)
.
والثَّاني: أن يكون المخبرون
(2)
"مستندين" في إخبارهم "إلى الحس"، لا إلى دليل عقلي، وهذا قد ذكره جماعة معتلّين بقولهم، [إن العقلي قد يثبته على الجمع الكثير كحدوث العالم على الفلاسفة]، ولم يشترط القاضي، وإمام الحرمين، وابن السّمعاني، والإمام، والمَازِرِيّ - الحس، بل اكتفوا بالعلم الضروري.
ووجَّهَهُ إمام الحرمين بأنهم قد يخبرون عما علموه بالقَرَائِنِ كإخبارهم عن الخَجَلِ الذي علموه من قرائن الحال، فهذا العلم وإن استند إلى الحس على وجه ما، فمجرد المحسوس لا يكفي في وقوع العلم؛ لأن الحمرة إنما يدرك بالحس ذاتها، وحمرة الخجل كحمرة الغضب، وإنما يفرق بينهما بأمر تدقُّ عن ضبطه العبارة.
ولك أن تقول: القَرَائِنُ تستند إلى المحسوس؛ ضرورة أنها لا تخرج عن كونها حالية أو مقالية، وهما محسوسان وإن كان فيها أمور دقيقة يعسر التعبير عنها.
قال أبو الحسن بن الأنباري: والإنسان يحس الفرق بين حُمْرة الخَجَلِ والغضب، وإن تعذّر عليه التعبير.
فإن قلت: لم يشترطون الحسّ أو العلم الضروري، ولم لا يقولون
(3)
بالإفادة إذا وقع عن علم نظري؟.
قلت: المسلمون والنَّصارى واليهود يبلغون من الكَثْرَةِ ما يفوت الإحصاء، ويخبرون عن حدوث
(4)
العالم، ولا يقع العلم الضروري بخبرهم.
(1)
ينظر: الإحكام 1/ 25، والمستصفى 1/ 138، والبرهان 1/ 580، والتبصرة 295، وتيسير التحرير 3/ 34، وفواتح الرحموت 2/ 18.
(2)
في ب: المخبرين.
(3)
في ب: تقولون.
(4)
في ب: حدث.
وَضَابِطُ الْعِلْمِ بِحُصُولِهَا حُصُولُ الْعِلْمِ لَا أَنَّ ضَابِطَ حُصُولِ الْعِلْمِ، سَبْقُ الْعِلْمِ بِهَا.
وَقَطَعَ الْقَاضِي بِنَقْصِ الْأَرْبَعَةِ وَتَرَدَّدَ فِي الْخَمْسَةِ. وَقِيلَ: اثْنَا ..........
والسّر فيه: أنهم أسندوا ذلك إلى دليل، فكيف يكونون هم لا يعلمون ما يخبرون عنه بالضرورة، وهم أصل في هذا الخبر، ثم يعلمه ضرورة من سمعه منهم وهو كالفرع عنه، فيصير الفرع أقوى من أصله.
والثالث: أن يكونوا "مستوين في الطرفين والواسطة" تعددًا يمنع التواطؤ على الكذب، واستنادًا إلى الحس، "و" كونهم "عالمين" بما أخبروه لا ظانين أو مُجَازفين - صرح باشتراطه القاضي في "مختصر التقريب" وغيره.
قال المصنّف: إنه "غير محتاجٍ إليه؛ لأنه إن أريد" علم "الجميع فباطل"؛ لجواز أن يكون بعضهم ظانًّا، ومع ذلك يحصل العلم.
وعندي هنا وَقْفَة، فقد يقال: إن العلم لا يحصل إلا إذا علم الكُلّ.
"وإن أريد علم بعض فلازم مما
(1)
قيل" في الشرط الثاني؛ لأنَّ الاستناد إلى الحس يوجب أن يكون المحسون عالمين به.
"وضابط العلم بحصولها" - أي: حصول هذه الأمور المشترطة - "حصول العلم" بصدق الخبر المتواتر، وإذا حصل العلم بصدقه علم اجتماع الشَّرائط، "ألا إن ضابط حصول العلم" بصدق المتواتر، "سبق العلم بها"، فقد يحصل العلم بصدق المتواتر وإن لم يتقدمه حصول العلم بهذه الأمور.
الشرح: "وقطع القاضي بنقص الأربعة" عن حد التواتر - ونصّ على ذلك في "مختصر التقريب" - وهو رأي أكثر أصحابنا؛ كما نقله ابن السَّمعاني، "وتردد في الخمسة"، هل تصلح لإفادة العلم؟
وأكثر أصحابنا لم يترددوا، بل قالوا: إنها صالحة، ثم لا يقول أصحابنا: كل خمسة تفيد، بل يقولون: باختلاف الوقائع والأحوال.
(1)
في حاشية ج: قوله: "مما قيل" قال العضد: أي بما ذكرنا من القيود الثلاثة عادة؛ لأنها لا تجتمع إلا والبعض عالم قطعًا.
عَشَرَ. وَقِيلَ: عِشْرُونَ. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ. وَقِيلَ: سَبْعُونَ. وَالصَّحِيحُ يَخْتَلِفُ. وَضَابِطُهُ مَا حَصَلَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ لَا مُتَقَدِّمًا وَلَا مُتَأَخِّرًا
وهنا يفارق رأيهم رأي القاضي؛ إذ من أصله أن الكثرة الذين يقع بهم العلم - لا يصح تبدُّل حالهم حتى يقع بهم مرة دون أخرى.
وقد تكلّمنا معه في "التعليقة" بما لا نطيل بإعادته.
وما نقلناه عن أكثر أصحابنا من القَطْعِ بأن الأربعة لا تفيد، وأن الخمسة فصاعدًا صالحة، نقله ابن السَّمْعاني، ودليله: العادة، فإنها اطَّردت في عدم إفادة الأربعة، واختلف فيما فوقها حسب اختلاف الوقائع والأحوال.
والذي صرح به القاضي في "مختصر التقريب": أن أقل عدد التواتر مما لا ينضبط.
ومقتضى كلامه: أن الخمسة كالعشرة، وأنَّ الضبط بها متعذّر، فلا يصح نقل من نقل عنه أن السِّتة صالحة، بل السِّتة والخمسة عنده سواء، وتوقّفه في الخمسة كتوقفه في السِّتَّة.
وقال الإصْطَخْرِي من أصحابنا: لا يجوز أن يتواتر بأقلّ من عشرة؛ لأن ما دون العشرة جمع الآحاد، فاختص بأخبار الآحاد، والعشرة فما زاد جمع الكثرة.
"وقيل: اثنا عشر"؛ لأنهم عدد النقباء لبني إسرائيل.
"وقيل: عشرون"، لذكر الله سبحانه هذا العدد في عدد الصابرين في القتال، قال تعالى:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [سورة الأنفال: الآية 65].
"وقيل: أربعون"؛ لأنهم عدد نصاب الجمعة.
"وقيل: سبعون"؛ لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [سورة الأعراف: الآية 155].
وذكرت
(1)
أقاويل أخر مثل هذه الأقاويل في السَّخَافة والنُّكر.
"والصحيح": أن العدد "يختلف" بحسب المخبرين، والوقائع، وغير ذلك.
"وضابطه: ما حصل العلم عنده"، وكل خبر حصل عنده العلم - كان هو العدد المتواتر بالنِّسْبة إلى ذلك الخبر.
(1)
في ت، ح: وذكر.
وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَرَائِنِ التَّعْرِيفِ وَأَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ وَالاِطِّلَاعِ عَلَيْهِمَا وَإِدْرَاكِ الْمُسْتَمِعِينَ وَالْوَقَائِعِ.
وَشَرَطَ قَوْمٌ الْإِسْلَامَ وَالْعَدَالَةَ؛ لإِخْبَارِ النَّصَارَى بِقَتْلِ الْمَسِيحِ.
ثم أكثر الشَّافعية - كما قدمنا - يقولون: لا يتصوّر حصول العلم بالأربعة، والمتأخرون سكتوا عن هذا.
وقضيةُ إطلاقهم وردّهم على القاضي تجويز حصول العلم بالأربعة - والأمر هنا سهل، فإن المدار فيه على حصول العلم، وإنما جعل المتأخرون ضابطه حصول العلم من غير نظر إلى عدد مخصوص؛ "لأنّا نقطع بالعلم من غير علم بعدد مخصوص"؛ كالعلم بوجود البلاد النَّائية
(1)
، والأشخاص الماضية؛ إذ لا نعلم فيه عددًا مخصوصًا "لا متقدمًا" على العلم بصدق الخبر المتواتر، "ولا متأخرًا" عنه.
فلو أوجب وجب عدد مخصوص العلم لم يحصل إلَّا بعد تحقق وجود ذلك العدد - وهذا واضح في الرد على من يدعي حصول العلم بعدد مخصوص، ونحن معاشر الشَّافعية لا نقول بذلك، وإنما ننفي حصول العلم بقول الأربعة، وكلما نذكر مما
(2)
حصل العلم فيه، فإن الخمسةَ فيما زاد عليها موجود فيها، ولن يجد أحد سبيلًا إلى إيراد خبر كان المخبرون فيه أربعة فأقل، وحصل العلم به بمجرد ذلك.
"ويختلف" عدد التَّوَاتر "باختلاف قَرَائِنِ التعريف" - أي: القرائن المقترنة بالخبر المفيدة للعلم بالمخبر عنه، "وأحوال المخبرين" صلاحًا، وصدق قول، وغير ذلك.
"و" يختلف أيضًا باختلاف "الاطِّلاع عليهما" - أي: القرائن وأحوال المخبرين.
"و" باختلاف "إدراك المستمعين"؛ لاختلافهم في الأفهام والقرائح.
وباختلاف "الوقائع" - من عظم الواقعة وحَقَارتها؛ فإن حصول العلم مختلف باختلاف ما ذكرناه، فلو كان ضابط حصول العلم هو العدد المخصوص؛ لما اختلف عند حصوله.
الشرح: "وشرط قوم الإسلام"
(3)
، "و" آخرون "العدالة؛ لإخبار النَّصَارى بقتل المسيح"،
(1)
في أ، ت، ح: الثابتة.
(2)
في ت: ما.
(3)
هذه هي الشرائط التي اعتبرها قوم دون قوم، شرط قوم الإسلام والعدالة في المخبرين؛ لأن الكفر والفسق عرضة للكذب والتحريف، والإسلام والعدالة يمنعانه، ولهذا لم يحصل العلم بإخبار =
وَجَوَابُهُ اخْتِلَالٌ فِي الْأَصْلِ وَالْوَسَطِ.
وَشَرَطَ قَوْمٌ أَلَّا يَحْوِيَهُمْ بَلَدٌ. وَقَوْمٌ: اخْتِلَافَ النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْوَطَنِ. وَالشِّيعَةُ: الْمَعْصُومَ دَفْعًا لِلْكَذِبِ. وَالْيَهُودُ: أَهْلَ الذِّلَّةِ فِيهِمْ دَفْعًا لِلتَّوَاطُؤِ لِخَوْفِهِمْ وَهُوَ فَاسِدٌ.
فإنه
(1)
لم يحصل العلم، وما ذاك إلا لكفرهم؛ فإن الكفر عُرْضَةُ الكَذِبِ والتَّحريف.
وكذلك إخبار الإمامية عن نصِّ علي رضي الله عنه، وما ذلك إلا لِفِسْقِهِمْ، والفسق عُرْضَة الكذب أيضًا.
"وجوابه": أنه ليس لما ذكر، بل حصل "اختلال
(2)
في الأصل والوسط"، لأن الطبقة الأولى فيه لم يبلغوا عدد التواتر - وكذلك بعض طبقات الوسط.
وقضية "بُخْتَنَصَّر" وقتله النَّصَارى بحيث لم يَبْقَ منهم قدر عدد التَّوَاتر - معروفة.
وعبارة الآمدي ربما أوهمت أن مشترط الإسلام هو مشترط العَدَالة - وعليها جرى شارحو هذا المختصر.
وليس كذلك، فلنا قائلان:
أحدهما: مشترط الإسلام بمفرده.
والآخر: مشترط العدالة التي هي أخص منه؛ ولذلك ذكر المصنّف لفظي الإسلام والعدالة، وإلا فلو كان المشترط واحدًا وشرطهما جميعًا، لأغنى ذكر العدالة عن ذكر الإسلام؛ لأنها أخَصّ [منه]
(3)
.
"وشرط قوم ألا يحويهم بلد"؛ لاحتمال اتِّفَاق أهل بلد، وهو باطل، فإن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط الخَطِيبِ، لأفاد خبرهم العلم فضلًا عن أهل بلد.
"وقوم: اختلاف النسب والدِّين والوطن".
"والشِّيعة: المعصوم، دفعًا للكذب".
وفسادهما واضح، وتزداد الشِّيعة أن العِصْمَةَ إذا حصلت، فأي حاجة إلى شيء آخر معها؟
= النصارى بقتل المسيح عليه السلام وهذا الشرط غير معتبر عند جماهير العلماء. وينظر: المستصفى 1/ 140، والإحكام للآمدي 2/ 27، والتبصرة 297، تيسير التحرير 2/ 35، وكشف الأسرار 2/ 361، وفواتح الرحموت 2/ 118، وإرشاد الفحول 48.
(1)
في ت: فإن.
(2)
في ت، ح: اختلاف.
(3)
سقط في ب.
وَقَوْلُ الْقَاضِي وَأَبِي الْحُسَيْنِ: كُلُّ عَدَدٍ أَفَادَ خَبَرُهُمْ عِلْمًا بِوَاقِعَةٍ لِشَخْصٍ فَمِثْلُهُ يُفِيدُ بِغَيْرِهَا لِشَخْصٍ - صَحِيحٌ بشَرْطِ أَنْ يَتَسَاوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذلِكَ بَعِيدٌ عَادَةً.
اخْتِلَافُ التَّوَاتُرِ فِي الْوَقَائِعِ
(1)
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا اخْتَلَفَ المُتَوَاتِرُ فِي الْوَقَائِعِ، فَالْمَعْلُومُ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِتَضَمُّنٍ أَوِ الْتِزَامٍ؛ كَوَقَائِعِ حَاتِمٍ، وَعَلِيٍّ رضي الله عنه.
"واليهود أهل الذِّلَّة فيهم، دفعًا للتواطؤ؛ لخوفهم".
"وهو فاسد"؛ لأنا نريهم أن ذوي الشَّرف والعِصْمَة ينقلون ما يعلم صدقهم فيه ضرورة، وربما كان الشَّرفُ مانعًا من الكذب، ونقول لهم: لم تكونوا في أول أمر فِي ذِلَّة وصَغَار، فيجب ألَّا يقع لكم العلم بنقل أسلافكم الذين لم يكونوا في ذِلَّة وصَغَار.
الشرح: "وقول القاضي وأبي الحسين
(2)
: كل عدد أفاد خبرهم علمًا بواقعة لشخص فمثله" من العدد "يفيد" خبرهم في "غير" تلك الواقعة علمًا لذلك الشَّخص، أو "لشخص" آخر - "صحيح"، "إن تساويا" - أعني العددين - "من كل وجه وذلك بعيد"
(3)
أن يقع
(4)
.
«مسألة»
الشرح: "إذا اختلف المتواترُ في الوقائع، فالمعلوم" منه "ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام؛ كوقائع حاتم وعليٍّ رضي الله عنه " في السَّخَاء والشجاعة، وهذا هو التواتر المعنوي.
(1)
هذه المسألة في بيان التواتر بحسب المعنى وإفادته العلم، فنقول: اعلم أن المخبرين إذا بلغ عددهم إلى حد التواتر لكن اختلف إخبارهم بالوقائع التي أخبروها مع اشتراك جميع أخبارهم في معنى كل مشترك بين مخبراتهم، فالكل مخبرون عن ذلك المعنى المشترك ضرورة إخبارهم عن جزئياته إما بجهة التضمن، وذلك إذا كان ما اتفقوا عليه من الأمر المشترك داخلًا في الوقائع، وإما بجهة الإلزام، وذلك إذا كان المشترك خارجًا جازمًا .. ينظر: الشيرازي (241 ب، 242 أ/ خ).
(2)
ينظر: المستصفى 1/ 135.
(3)
في حاشية ج: قوله: وذلك بعيد أي: التساوي من كل وجه.
(4)
ينظر: الإحكام للآمدي 2/ 26، تيسير التحرير 3/ 35، وفواتح الرحموت 2/ 117.
خَبَرُ الْوَاحِدِ
خَبَرُ الْوَاحِدِ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى التَّوَاتُرِ. وَقِيلَ: مَا أَفَادَ الظَّنَّ وَيَبْطُلُ ...........
الشرح: "خبر الواحد [ما]
(1)
لم يَنْتَهِ إلى التواتر"؛ إما بانْحِطَاطِ مخبريه عن عدد التواتر؛ أو حصول العلم فيه من انضمام قرينة، لا من العدد، أو غير ذلك
(2)
.
ويدخل فيه خبر يعلم صدقه غير متواتر، كالمُحْتَفّ
(3)
بالقَرَائن، وكذبه، ويظن صدقه وكذبه، ويستوي فيه الأمران، ويدخل فيه المستفيض أيضًا.
ولا يقال: معرفة هذا التعريف تتوقّف على معرفة التواتر؛ لأنَّ تعريف التواتر فلذلك لم يضر المصنّف أخذه قيدًا هنا.
"وقيل" في تعريفه: "ما أفاد الظّن، ويبطل عكسه بخبر لا يفيد الظَّن"، فإنه خبر، وقد يقتصر
(4)
صاحب هذا التَّعْرِيف لنفسه، ويقول: ليس ذلك خبر واحد في اصطلاحي.
وأبطل الآمدي طَرْدَهُ بالقياس، وغيره من أمارات الشَّيء المفيدة للظَّن.
وجوابه: أنها ليست بخبر، والمراد خبر يفيد الظَّن.
(1)
سقط في ح.
(2)
ينظر مباحث خبر الواحد في: البحر المحيط للزركشي 4/ 257، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 599، وسلاسل الذهب للزركشي 318، والأحكام في أصول الإحكام للآمدي 2/ 30، ونهاية السول للإسنوي 3/ 97، وزوائد الأصول له 336، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 317، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 97، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 130، والمنخول للغزالي 245، والمستصفى له 1/ 145، وحاشية البناني 2/ 131، والإبهاج لابن السبكي 2/ 299، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 215، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 157، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 92، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 112، والتحرير لابن الهمام 331، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 37، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 19، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 55، 58، وشرح المنار لابن ملك 78، ميزان الأصول للسمرقندي 2/ 629، وتقريب الوصول للشنقيطي 121، وإرشاد الفحول للشوكاني 46، والكوكب المنير للفتوحي 263، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 271.
(3)
في ت، ح: المختلف.
(4)
في ت: يفتقر.
عَكْسُهُ بِخَبَرٍ لَا يُفِيدُ الظَّنَّ. وَالْمُسْتَفِيضُ مَا زَادَ نَقَلَتُهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ.
"المُسْتَفِيضُ"
(1)
"والمُسْتفيض
(2)
: ما زاد نَقَلَتُهُ على ثلاثة" - أي: ولم يَنْتَهِ إلى التواتر
(3)
.
وعبارة الآمدي: جماعة تزيد على الثَّلاثة والأربعة.
وعبارة شرف شاه بن ملكداد في "الغُنْيَة"
(4)
: تزيد على الاثنين والثلاثة والأربع.
وعبارة صاحب "التنبيه": وأقلّ ما تثبت
(5)
به الاستفاضة اثنان.
والمختار عندنا: أن المستفيض ما يعده الناس شائعًا، وقد صدر عن أصل، ليخرج ما شاع - لا عن أصل - وربما حصلت الاستفاضة باثنين.
وإطلاق
(6)
صاحب الكتاب يقتضي أن المستفيض قد يفيد العلم إلا أن يقال: إن عدد المستفيض لا ينتهي إلى التواتر، فلا يفيد العلم بمجرده أبدًا - وإن انضمت قرينة - والعلم إذًا ليس منه بمجرده، ثم المستفيض داخلٌ في خبر الواحد؛ فلذلك لم يذكر المصنّف حكمه.
وجعله الأستاذ واسطةً بين التواتر والآحاد، وزعم أنه يقتضي العلم نظرًا، والتواتر يقتضيه ضرورةً، ومثّل له بما يتَّفق
(7)
عليه أئمة الحديث.
وردَّه إمام الحرمين؛ بأن العُرْفَ لا يقتضي القَطْعَ بالصدق فيه، وإنما قصاراه ظن غالب.
(1)
ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 249، ونهاية السول للأسنوي 3/ 103، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 97، وحاشية البناني 2/ 129، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 215.
(2)
في ت: المستفيد، وهو تحريف.
(3)
قف على الفرق بين المستفيض والمتواتر.
(4)
في أ، ت، ح: الفنية.
(5)
في أ: ثبتت.
(6)
سقط في ت.
(7)
في ح: اتفق.
الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
(1)
مَسْأَلَةٌ:
قدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ بِالْقَرَائِنِ لِغَيْرِ التَّعْرِيفِ.
«مسألة»
الشرح: "قد يحصل العلم بخبر الواحد العدل"، وذلك "بالقرائن لغير التعريف"؛ كبُكَاءِ رجل عظيم الشَّأن معروف بالمُحَافظة
(2)
على رعاية المُرُوءات، وشقّه
(3)
جَيْبَه، وَمُنَاداته بالوَيْل والثُّبُور، وارتكابه من ذلك كله ما يأنف مثله منه عند استقامة حاله مع تقدم العلم بمرض ولده وإخباره إذ ذاك بموته.
وذلك مطّرد في خبر كلّ واحد عدل اجتمعت فيه القَرَائن، وسيصرح المصنّف به من بعد حيث يقول: مطّرد في مثله، ولا يتَّجه غيره، وإلا يلزم التَّرْجيح من غير مرجّح، ولفظة "قد" في كلام المصنّف لا تنافي ذلك؛ فإن موضوع المسألة خبر العدل الواحد، وقد يحصله العلم بخبره، وذلك عند القَرَائن، وقد لا يحصل، وذلك عند انتفائها.
وأما ما يكون للتَّعريف، فهو أن يكون مضمون الخَبَرِ معلومًا بالبديهة، أو موافقًا للدَّليل العَقْلي، أو قول الصَّادق؛ فإن هذا الخبر لا أثر له في إفادة العلم بنفسه، إنَّما المفيد البديهة، أو دليل العَقْل، أو قول الصَّادق.
وكلام المصنّف صريح في أن شرط إفادة الخبر المحفوف بالقَرَائن العلم - أن يكون المخبرُ فيه عدلًا؛ حيث قال: الواحد العَدْلُ - ولم أرَ من صرح بذلك، فإطلاق الأكثرين ينفيه وهو الأوجه، فإن الاعتماد فيه على القَرِينَةِ، وهي تفيد صدق المخبر في ذلك وإن كان غير عدل؛ كما يفيد العلم.
(1)
هذه المسألة في بيان أن خبر الواحد العدل هل يفيد العلم أم لا؟ اختلفوا، فذهبت طائفة إلى أنه يفيد العلم بمعنى اليقين، ثم اختلف فيما بينهم، فقال بعضهم: إنما يفيد اليقين إذا احتف بالقرائن كائنة لغير التعريف، وهي الأمارات الدالة على صدق الخبر كالبكاء وانتهاك الحريم
…
ينظر: الشيرازي (242 ب/ خ).
(2)
في ح: بالمحاصة.
(3)
في ب: سعة.
وَقِيلَ: وَبِغَيْرِ قَرِينَةٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: وَيَطَّرِدُ وَالْأَكْثَرُ: لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا.
"وقيل: وبغير قرينة" - أي: قد يحصل العلم بخبر العدل، وإن لم يكن ثمَّ قرينة، ولكن هذا لا يطرد، بل يكون في وقت ما.
ونقله الآمدي عن بعض أصحاب الحديث
(1)
.
وهو ساقط؛ فإن ذلك الوقت الذي يحصل فيه العلم؛ إما أن يكون
(2)
فيه زيادة على الوقت الذي [لم]
(3)
تحصل فيه، فالزيادة قرينة فلا وجه لقوله: بغير قرينة، أو لا يكون فيه زيادة، فيكون ترجيحًا من غير مرجّح، وأنه محالٌ.
لا يقال: إذا كان العلم الحاصل عند الخبر، من الله فلا تَرْجِيحَ من غير مرجّح؛ لأنه فاعل مختار.
لأنَّا نقول: عادة الله عز وجل في خَلْقِهِ الاطّراد فيما يَحْصُل عند خبر الواحد، ولم تختلف عادته في ذلك حتى أفاد شخصًا العلم، وآخر الظن مع استوائهما.
"وقال أحمد
(4)
: ويطرد"، فيحصل العلم في كل وقت بخبر
(5)
كل عدل، وإن لم تكن ثمَّ قرينة، وهو رأي ابن خويز منداد، وعزاه إلى مالك، لكنه يرى الأخبار متفاوتةً.
ولعلَّه يرى تفاوت العلوم، وهو الظن، فكل من ذهب إلى إفادة خبر الواحد العلم أو لا يظن بذي لُبّ أن يساويه بالمتواتر.
وهذا المذهب على سقوطه أوجه من المذاهب قبله؛ إذ لا ترجيح فيه بدون مرجّح.
قال: "والأكثر لا بقرينة ولا بغيرها"، وهو الحَقّ.
والمصنّف تبع في اختياره إفَادَة الخبر المَحْفُوف بالقَرَائن العلم، إمام الحرمين والغزالي والإمام والآمدي
(6)
.
(1)
ينظر: الإحكام 2/ 32.
(2)
في ب: تكون.
(3)
سقط في ت.
(4)
ينظر الإحكام 2/ 32.
(5)
في ت: بمخبر.
(6)
ينظر: الإحكام 2/ 32.
لَنَا: لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ لَكَانَ عَادِيًّا فَيَطَّرِد، وَلأَدَّى إِلَى تَنَاقُضِ الْمَعْلُومَيْنِ، وَلَوَجَبَ تَخْطِئَةُ الْمُخَالِفِ وَأَمَّا حُصُولُهُ بِقَرِينَةٍ فَلَوْ أَخْبَرَ مَلِكٌ بِمَوْتِ وَلَدٍ مُشرِفٍ مَعَ صُرَاخٍ وَجَنَازَةٍ وَانْتِهَاكِ حَرِيمٍ وَنَحْوِهِ - لَقَطَعْنَا بِصِحَّتِهِ.
الشرح: وهو رأي مأثور عن النَّظَّام، واحتج له فقال:"لنا لو حصل لكان عاديًّا، فيطّرد"، ويحصل العلم بخبر كل عدل.
وفيه نظر؛ إذ لِلْخصم أن يلتزم اطّراده.
قال: "ولأدَّى إلى تناقض المعلومين"؛ إذ لو أخبر عدل عن ثبوت شيء، وآخر عن نَقِيضِهِ - يلزم العلم بكلّ واحد من النقيضين.
وفيه نظر، فإن القائل بأن خبر العدل يفيد العِلْم، إنما يقوله إذا لم تكن قرينةُ الكذب موجودةً؛ لأنه يحكم على خبر العدل مجردًا عن القرائن، وقد يقال: انضمام خبر عَدْلٍ آخر إليه منافٍ له قرينة كذب أحدهما، فلا يفيد والحالة هذه خبر واحد منهما علمًا.
قال: "ولوجب تَخْطئة المخالف" فيه؛ لوجوب تَخْطِئَةِ مخالف اليقين. وفيه نظر؛ إذ قد يلتزم، والمُخْتار في الدليل أنا نجد من أنفسنا احتمال النقيض عند خبر الواحد، ولا نجده عند التَّوَاتُرِ، والمُعَاند في ذلك مكابر.
قال: "وأمَّا حصوله بقرينة، فلو أخبر ملك بموت ولده مشرف
(1)
مع صُراخٍ وجنازة وانتهاك حريم ونحوه - لقطعنا بصحّته".
وأنا أجيب عن هذا بأنه رُبّ غرض في ذلك، وإن كان احتمالًا ضعيفًا، فهو يمنع القطع.
قال القاضي أبو الطيب: وقد وقع مثل هذا بـ "خوارزم" مع القاضي الكعبي، قال: ووقع بـ "البصرة" أيضًا.
قال: "واعترض بأنه حصل به القرائن" - أي: ولم يحصل بخبر الملك.
"وردّ بأنه لولا الخبر لجوّزنا موت آخر".
ولك أن تقول: القرينة أفادت القَطْع بأصل الموت، لا بتعيين الميت، والخبر أفاد بعينه ظنًّا لا قطعًا.
(1)
في ت: مسرف.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ حَصَلَ بِالْقَرَائِنِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْلَا الْخَبَرُ لَجَوَّزْنَا مَوْتَ آخَرَ.
ونحن لا ننكر ذلك، وهذا كما تقول في المودع - إذا ادَّعى تلف الوَدِيعَةِ
(1)
بسبب ظاهر جهل - أنه يطالب بالبَيِّنة على أصل السبب، ثم يحلف على التلف به؛ لأن البيّنة
(2)
أفادت أصل السبب، والحلف تعين التلف به.
(1)
الوديعة لغة: فعيلة بمعنى مفعولة، من الودع، وهو: الترك، قال ابن القطاع: ودعت الشيء ودعًا: تركته. وابن السكيت، وجماعة غيره ينكرون المصدر والماضي من "يدع" وقد ثبت في "صحيح مسلم":"لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات" وفي "سنن النسائي" من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتركوا الترك ما تركوكم، ودعوا الحبشة ما ودعوكم" فكأنها سميت وديعة، أي: متروكة عند المودع، وأودعتك الشيء: جعلته عندك وديعة، وقبلته منك وديعة، فهو من الأضداد.
واصطلاحًا:
عرفها الحنفية بأنها: توكيل لحفظ مال غيره تبرعًا بغير تصرف.
وعرفها الشافعية بأنها: العقد المقتضى للاستحفاظ أو العين المستحقة به حقيقة فيها، وبتعريف آخر: توكيل في حفظ مملوك أو محترم مختص على وجه مخصوص.
وعرفها المالكية بأنها: مال وكل على مجرد حفظه.
وعرفها الحنابلة بأنها: اسم للمال المودع المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض. ينظر: الصحاح 3/ 1296، والمغرب 479، والمطلع 279، والإنصاف 6/ 316، والشرقاوي على التحرير 2/ 96، ومغني المحتاج 3/ 79، وحاشية الدسوقي 3/ 419، وكشاف القناع 4/ 166، مجمع الأنهر 2/ 337، والفواكه الدواني 2/ 237.
(2)
البينة: الحجة فَيْعِلَة من البينونة، وهي الانقطاع والانفصال أو من البيان: هي اسم لكل ما يُبَيِّنُ الحق ويظهره، سواء أكان أمارات، أم قرائن، أم شهودا. ونحن إذا استقرينا الشرع وجدناه قد اعتبر الأمارات والقرائن، وأَقامَهَا مقام الشهود. يدل على ذلك: ما رواه ابن ماجه وغيره عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. قال: أَرَدْتُ السفر إلَى خيبر فَأَتَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إِنِّي أُرِيدُ الخروج إلى خيبر، فقال: إذَا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وَسَقًا، فإذا طلب منك آية فَضَعْ يدك على تَرْقُوتِهِ. فهذا اعتماد في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة وَإِقَامَةٌ لها مقام الشاهد. وجعل صلى الله عليه وسلم معرفة الْعِفَاصِ وَالوِكَاءِ قائمة مقام البينة.
وورد في الصحيح: قوله صلى الله عليه وسلم في غزوة حُنَيْنٍ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة فَلَهُ سَلَبُهُ" قال أَبُو قتَادَة.
فقمت فقلت: مَنْ يشهد لي بذلك؟ ثم جلست، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بيِّنة فَلَهُ سَلَبُهُ". فقمت، فقلت: من يشهد لي ثم جلست. ثم قال ذلك الثالثة، فقمت. فقال صلى الله عليه وسلم:"مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ "، فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ. فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله وسلب ذلك =
قَالُوا: أَدِلَّتُكُمْ تَأْبَاهُ.
قُلْنَا: انْتَفَى الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مُطَّرِدٌ فِي مِثْلِهِ، وَانْتَفَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ حُصُولُ مِثْلِهِ فِي النَّقِيضِ، وَانْتَفَى الثَّالِثُ؛ لِأَنَّا نُخَطِّئُ الْمُخَالِفَ لَوْ وَقَعَ.
قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ} [سورة الإسراء: الآية 36]{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [سورة النجم: الآية 23] فَنَهَى وَذَمَّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فَلَوْ لَمْ يُفِدِ الْعِلْمَ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ لاِمْتِنَاعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا ذَمَّ الشَّارعُ.
الشرح: قال: "قالوا: أدلّتكم تأباه" - يعني التي ذكرناها - على أنه لا تفيد مع عدم القرينة علمًا؛ فإن الأدلَّة بعينها قائمةٌ مع القرينة.
قال: "قلنا: انتفى الأول؛ لأنه مطرد في مثله"، فإنا نقول: خبر كلّ عدل مع القرينة يوجب
(1)
العلم، بخلاف ما إذا لم تكن قرينة؛ إذ لا اطّراد، "وانتفى الثَّاني؛ لأنه يستحيل
(2)
حصول مثله في النَّقِيض" - ولا يتصوّر تعارض خبرين مَحْفُوفين بالقرائن، بخلاف غير المحفوفين "وانتفى الثالث؛ لأنَّا نخطئ المُخَالف لو وقع"، و [لا]
(3)
كذلك ثمّ.
الشرح: قالوا في الاحْتِجَاج على أن خبر الواحد مطلقًا مفيدٌ للعلم: " {وَلَا تَقْفُ" مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء: الآية 36]، " {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [سورة النجم: الآية 23] "نهى" في الآية الأولى عن اتباع ما لا يعلم، ومن جملته الظن، "وذَمّ" على اتباع الظَّن في الثانية، "فدلَّ على أنه ممنوع"، والإجماع منعقد على العمل بخبر الواحد؛ فدلَّ على أنه مفيد للعلم.
والمُرَاد بالإجماع هنا الاتفاق بين الخَصْمَيْنِ القائل بأنه يفيد العلم، وأنه يفيد الظن، وإلا ففي الأمّة من يمنع العمل بخبر الواحد، ويقال: إن خلاف ذلك لا يعتدّ به.
= القتيل عندي فارضه منه يا رسول الله. فقال أَبُو بَكْر: لاهَا الله إِذًا. لا يعمد إلى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صدق فأعطه إِيَّاهُ"، فأعطانيه، فبعت الدرع فاشتريت به مخرفًا في بني سَلَمَة، فَإِنَّه لأَوَّلُ مال تَأَثَّلْتُه في الإسْلامِ.
يُسْتَدَلُّ بهذا على أنه تقبل شهادة الشاهد الواحد متى ظهر صدقه، وغير ذلك من الأمثلة كثير، مَنْ نَظَرَ فيها علم أَنَّ الشريعة لا تعول إِلَّا على ظهور الحق، فمتى استبان وأسفرت طريق العدل، فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ. ينظر: المغرب 1/ 98.
(1)
في ب: أوجب.
(2)
في ب: مستحيل.
(3)
سقط في ح.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ المُتَّبَعَ الْإِجْمَاع، وَبِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ فِيمَا الْمَطْلُوبُ فِيهِ الْعِلْمُ مِنَ الدِّينِ.
إِخْبَارُ الْوَاحِدِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُنْكِرْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا.
"وأجيب بأن الممتنع الإجماع" القائم على جواز العَمَلِ بخبر الواحد، والإجماع قاطعٌ فأين اتباع الظن؟ "وبأنه مؤول فيما المطلوب فيه العلم من الدين"، إذ قد ثبت جواز العمل بالظَّن في الفروع.
وقد اختلف حملةُ الشريعة في أنه هل الأصل العمل بالظَّن إلا ما قام الدَّليل على إهماله وإهمال الظَّن، إلا ما قام الدَّليل على إعماله؟
«مسألة»
الشرح: "إذا أخبر واحدٌ بحضرته صلى الله عليه وسلم ولم ينكر" - مع سماعه كلامه، وفهمه إياه - هو صورة المسألة - "لم يدلّ على صدقه قطعًا"
(1)
.
وقال قوم: يدلّ - وهو المختار عندي
(2)
.
(1)
هذه المسألة في بيان أنه إذا أخبر واحد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بخبر ولم ينكر النبيّ صلى الله عليه وسلم هل يعلم كونه صادقًا أم لا؟ منهم من قال: إنه يدل قطعًا على صدقه فيما أخبر به محتجًا عليه بأنه لو كان كاذبًا لأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم وإلا لكان مقرًا له على الكذب مع كونه محرمًا في حق النبي عليه السلام. هذا خلف.
ومنهم من قال: إنه لا يدل قطعًا على صدقه، لاحتمال أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما سمع كلامه أو سمع ولم يفهمه، أو فهم وبينه مرة، وأنكر عليه، وعلم أن إنكاره ثانيًا لا يفيد أو لم يبينه، ولم ينكر عليه، لكنه رأى المصلحة في تأخر الإنكار. هذا إن كان ما أخبر به أمرًا دينيًا، وإن كان دنيويًا فيحتمل مع ذلك أنه علمه، وإليه أشار بقوله:"أو ما علمه" أو ما علم النبيّ صلى الله عليه وسلم كذب المخبر فيما أخبر به لكونه دنيويًا، فلهذا لم ينكر، أو لاحتمال أن يكون كذبة صغيرة، فيكون ترك الإنكار من النبيّ صلى الله عليه وسلم صغيرة، لكن انتفاء الصغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مقطوع به، على ما تكفل ببيانه صاحب علم الكلام. ينظر: الشيرازي 244 ب/ خ.
(2)
ينظر: المستصفى 1/ 141، وشرح العضد 2/ 57، وحاشية البناني 2/ 127، وتيسير التحرير 3/ 71، وفواتح الرحموت 2/ 125.
لَنَا: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَا سَمِعَهُ أَوْ مَا فَهِمَهُ أَوْ كَانَ بَيَّنَهُ أَوْ رَأَى تَأْخِيرَه، أَوْ مَا عَلِمَهُ أَوْ صَغِيرَةً.
إِخْبَارُ الْوَاحِدِ بِحَضْرَةِ الْجَمْعِ
مَسْأَلةٌ:
إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ وَلَمْ يُكَذِّبُوهُ
وَعُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَعَلِمُوهُ وَلَا حَامِلَ عَلَى السُّكُوتِ فَهُوَ صَادِقٌ قَطْعًا لِلْعَادَةِ.
وقال آخرون بالفَرْقِ بين أن يكون أخبر عن أمر ديني فيدلّ فيه، أو دنيوي فلا.
وصوَّر ابن السَّمعاني المسألة، بما إذا ادَّعَى المخبر علم النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر به، واختار أنه يقطع بصدقه إذ ذاك.
واحتجَّ المصنّفُ لما اختاره من عدم الدّلالة مطلقًا، فقال:"لنا يحتمل أنه ما سمعه، أو ما فهمه"، وليس هذا صورة المسألة كما عرفت.
قال: "أو كان بَيَّنَه".
ولك أن تقول: سبق البيان لا يتبع
(1)
السّكوت عند وقوع المنكر، "أو رأى تأخيره".
وأنا أقول: المعصية لا بُدّ من إنكارها في وقتها، وإلَّا يلزم التقرير على الباطل، ولو تم ذلك لقيل مثله في مسألة التقرير.
قال: "أو ما علمه" كذبًا.
قال: "أو صغيرةً"
(2)
، وهذا ضعيف؛ لأن الصَّغائر تنكر كالكَبَائر.
«مسألة»
الشرح: "إذا أخبر واحد بحضرة جمع [كبير]
(3)
، ولم يكذبوه، وعلم" بطريق ما من الطُّرق؛ إما كثرة الجمع، أو غيرها؛ "أنه لو كان كذبًا لعلموه، ولا حامل" لهم "على السكوت"
(1)
في حاشية ج: قوله: لا يبيع. . . إلخ وإن علم أنه لا يفيد كما مَرَّ.
(2)
في حاشية ج: قوله: أو صغيرة" أي: أو علمه كذبًا ولم ينكره لكونه صغيرة.
(3)
سقط في ت.
انْفِرَادُ الْوَاحِدِ
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ فِيمَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَقَدْ شَارَكَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِقَتْلِ خَطِيبٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي مَدِينَةٍ فَهُوَ كَاذِبٌ قَطْعًا؛ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ.
لَنَا الْعِلْمُ عَادَةً وَلِذلِكَ نَقْطَعُ بِكَذِبِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْقُرْآنَ عُورِضَ.
من رَغْبَة، أو رَهْبَة أو غيرهما، "فهو صادق قطعًا؛ للعادة"
(1)
.
وخالف قوم - والمُخْتَار ما ذهب إليه ابن السَّمْعَاني من اشتراط تَمَادي الزَّمن الطويل في ذلك.
«مسألة»
الشرح: "إذا انفرد واحد" - والمراد بالواحد ما لم ينته إلى التواتر
(2)
، فلو قال: إذا انفرد الواحد بالألف واللَّام كان أوضح - "فيما تتوفَّر الدَّوَاعي على نقله"؛ إما لتعلق الدين به كقواعد الشَّرْع، أو لقَرَابَتِهِ
(3)
، "وقد شَارَكَهُ خلقٌ كثير" في مُشَاهدة ذلك الشيء؛ "كما لو انفرد واحدٌ بقَتْلِ الخطيب على المِنْبَرِ في مدينة"، أو للأمرين جميعًا - القرابة
(4)
وتعلّق الدين به - كالمعجزة "فهو كاذب قطعًا - خلافًا للشِّيعة".
"لنا: العلم" يكذب ذلك المخبر "عادة"؛ فإن العَادَةَ تمنع السُّكوت عن نقل ذلك لو وقع، ولا يمتري ذو لُبّ أن الطَّبَائع مع اختلافها، والرِّجَال مع تَبَايُنِ أهوائها لا يسكتون عن مثل ذلك؛ "ولذلك يقطع بكذب من ادَّعى أن القرآن عورض".
فوضح بهذا: أن العادة إذا اقتضت في شيء؛ أنه إذا وقع ينقل تواترًا، ورأيناه غير مُتَوَاتر - علمنا أنه لم يكن.
(1)
ينظر: اللمع ص (40)، والإحكام 2/ 39، وشرح الكوكب المنير 2/ 354، وشرح العضد 2/ 57، والمستصفى 1/ 141، وحاشية البناني 2/ 127، وتيسير التحرير 3/ 80، وفواتح الرحموت 2/ 25، وإرشاد الفحول ص 50.
(2)
ينظر: المعتمد 2/ 547، واللمع 46، وشرح العضد 2/ 57، والمستصفى 1/ 142، وشرح التنقيح (355)، وشرح الكوكب المنير 2/ 356، وتيسير التحرير 3/ 115، وفواتح الرحموت 2/ 126، والمسودة 268.
(3)
في أ، ب: لغرابته.
(4)
في ب: الغرابة، وهو تحريف.
قَالُوا: الْحَوَامِلُ المُقَدَّرَةُ كَثِيرَةٌ، وَلِذلِكَ لَمْ يَنْقُلِ النَّصَارَى كَلَامَ المَسِيحِ فِي الْمَهْدِ.
وَنُقِلَ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَتَسْبِيحُ الْحَصَى، وَحَنِينُ الْجِذْعِ وَتَسْلِيمُ الْغَزَالَةِ، ........
الشرح: "قالوا: الحوامل المقدّرة" التي سببها قد لا يقع نقل مثل ذلك "كثيرة"، فَرُبّ غرض
(1)
يحمل على كِتْمَان ما جرى؛ "ولذلك لم ينقل النَّصَارى كلام المَسِيح في المَهْدِ" مع غَرَابَتِهِ، وتوفر الدواعي على نقل مثله، "ونقل انْشِقَاقِ
(2)
القمر
(3)
، وتسبيح ..........
(1)
في ب: عرض.
(2)
في ب: اشتقاق، وهو تحريف.
(3)
قال الله سبحانه وتعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [سورة القمر: الآية 1] أي وقَع انشقاقُه، ويؤيده قول الله سبحانه وتعالى بعد ذلك بآية:{يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [سورة القمر: الآية 2]؛ فإنَّ ذلك ظاهر في أن المراد وقوعُ انشقاقه؛ لأنَّ الكفار لا يقُولون ذلك يَوْم القيامة، وإذا تبيَّن أَنَّ قَوْلَهُمْ ذلك إِنَّما هو في الدُّنْيا يتبيَّن وقوع الانشقاق، وأنه المراد بالآية التي زعموا أَنَّها سِحْرٌ.
وفي صحيح البخَاريِّ عَنْ عَبْد الله بن مَسْعُود، وكان يقول: خمْسٌ قد مضين: الروم، واللزوم، والبطشة، والدُّخَان، والقَمر، وقد وَرَدتْ قِصَّةُ انشقاق القمر من حديث ابن مسعود، رواه الإمام أحمد والشيخان والبيهقي وأبو نُعيم من طرق عن ابن عُمَر، ورواه الشيخان والبيهقي عن جُبَيْر بن مُطْعم، ورواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والحاكم والبيهقي عن حذيفة بن اليمان، ورواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم ببعض هذه القصة عن ابن عباس، ورواه الإمام أحمد والشيخان وابن جرير وأبو نعيم من طرق عن أنس بن مالك، ورواه الإمام أحمد والشيخان وأبو نعيم من طرق متقاربة المعنى أدخلت بعضها في بعض عن أهل مكة قال ابن عباس رضي الله عنهما كما عنْد أبي نُعيم: اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاصي بن وائل والأَسْود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب والنضر بن الحرث ونظراؤهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرِيَهُمْ آيَةً، وقَالُوا: إِنْ كُنْت صَادِقًا فَشُقَّ لَنَا القَمر فرْقَتَين نِصْفًا على أبي قُبَيْس ونصْفًا على قعيقعان وفي لفظ: حتى رَاوَحوا من بينهما قَدْرَ ما بين العَصْر إلى اللَّيْل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشْهَدُوا"، فنظر الكفَّارُ ثم مالوا بأبْصارهم فمحوها، ثم أَعَادوا النَّظر فنظروا ثم مَسَحوا أعْيُنهم ثم نَظَروا فقالوا: سَحَر محمدٌ أعيننا، فقال بعضُهم لبَعْضٍ: لَئن كان سَحَرَنا، فإنه لا يستطيع أَنْ يَسْحَرَ النَّاس كُلَّهم، فانظروا إلىٍ السُفَّار، فإنْ أخبروكم أَنَّهم رأَوْا مِثل ما رأيتم، فقد صَدَق، فكانوا يَلْتَقُون الرَّكْب فيخبرونهم أَنَّهم رَأَوْا مثْل ما رأَوْا فيكذبونهم، فَأَنْزَلَ الله عز وجل {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} .
تنبيهان: الأول: لم ينشقَّ القمر لأَحَدٍ غير نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.
الثاني: وقع في بعض الروايات عن أنس: فأراهم انشقاق القمر بـ "مكة" مَرَّتَيْن. رواه الإمام أحمد ومسلم. =
وَإِفْرَادُ الْإِقَامَةِ، وَإِفْرَادُ الْحَجِّ، وَتَرْكُ الْبَسْمَلَةِ آحَادًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال الحافظ ابن كثير: في ذلك نَظَرٌ، والظَّاهرُ أَنَّه أراد فرقتين. وتكلم ابن القيم على هذه الرواية فقال: المرات يراد بها الأفعال تارةً والأَعْيَان أُخْرى، والأَوَّل أَكْثر، ومن الثَّاني "انْشَقَّ القَمَرُ مَرَّتَيْنِ" أي شقَّتين وفِرْقَتَيْن، وقد خَفِيَ على بعْض النَّاس فادَّعَى أَنَّ انشِقاق القمر وقع مَرَّتَيْن، وهذا مما يَعْلَمُ أهْلُ الحديث والسِّير أنه غَلَطٌ؛ لأنه لم يقعْ إلَّا مَرَّةً واحدةً، وقال البيهقي: قدْ حفظ ثلاثة مِنْ أصْحاب قتادة، وهم سعيد بن أبي عَرُوبَة ومعمر بن راشد، وشعبة لكن اختلف عن كُلٍّ مِنْهُم في هذه اللَّفْظَةِ، ولم يختلف على شعبة، وهو أحفظهم، ولم يقعْ في شيء منْ طُرُق حديث ابن مسعود بلفظ مرتين، إنَّما فيه "فِرْقتين أو فَلْقتَيْن" بالراء أو اللام، وكذا في حديث ابن عمر "فَلْقتَيْن" وفي حديث جُبَيْر بن مُطْعم "فِرْقَتَيْن" وفي لفظ عَنْهُ "فانشقَّ باثْنَتَيْن" وفي رواية عن ابن عبَّاس عن أبي نُعَيْم في "الدَّلَائل" "فَصَارَ قَمَرَيْن" وفي لفظ:"شقَّتَيْن" وعنْد الطبراني من حديثه "حتَّى رَأَوْا شقَّيْن" قال: ووقع في النَّظْم لشيخنا الحافظ أبي الفضل: وانْشَقَّ مَرَّتَيْن بالإِجْمَاع، ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم يتعرض لذلك أحد من شُرّاح الصحيحين. ثم ذكر كلام ابن القيم وابن كثير قال: وهذا لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات، قال: ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور ولفظه:
فَصَارَ فرقتين فرقة علت
…
وفرقة للطود منهُ نزلت
وذاك مرتين بالإجماع
…
والنص والتواتر السَّماع
فجمع بين قوله: "فرقتين" وبين قوله: "مرتين" فيمكن أن يتعلق قوله: بالإجماع بأصل الانشقاق، لا بالتعدد، ووقع في بعض الروايات عن ابن مسعود "وانشَقَّ القَمَر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى جزءين" وهذا لا يعارض قول أنس أنَّه كان بمكة؛ لأنَّه لم يصرح بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ليلته بمكة، وعلى تقدير تصريحه فـ "منى" من جملة مكة، فلا تعارض وقد وقع عند الطبراني من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"فرأيته فرقتين".
قال الحافظ: وإنما قال: انشق القمر بـ "مكة" يعني أن الانشقاق كان وهم بـ "مكة" قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وقول ابن مسعود:"انشق القمر نصفين نصفًا على جبل أبي قبيس ونصفًا على قعيقعان".
قال الحافظ: وهو محمول على ما ذكرت، وكذا ما وقع في غير هذه الرواية، ومثله روايته عن عبد الله بن مسعود وقد وقع عنْد ابن مردويه بَيَان المراد، فأخرجَ من وجه آخر عن ابن مسعود وقال:"انشقَّ القمر على عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بـ "مكة" قبل أن نصير إلى المدينة، فوضح أنّ مُرَاده بذكر مكة الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ونحرر أن ذلك وقع وهم ليلتئذ بـ "منى". =
وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَ عِيسَى عليه السلام إِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ خَلْقٍ فَقَدْ نُقِلَ قَطْعًا، وَكَذلِكَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال في موضع آخر في الكلام على الجمع بين روايتي ابن مسعود والجمع بين قول ابن مسعود: تارة بـ "منى" وتارة بـ "مكة" إمَّا باعتبار التعدد إن ثبت، وإمّا بالحمل على أنه كان بمنى ومن قال: كان بمكة لا ينافيه؛ لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمنى قال فيها:"ونحن بـ "منى"، والرواية التي فيها "مكة" لم يقل فيها: ونحن، وإنما قال: "انشق بمكة" يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: انشق القمر نصفين نصفًا على أبي قبيس ونصفًا على قعيقعان وأن لفظ السويد قال الحافظ: كان ليلتئذ بمكة، وعلى تقدير تصريحه فمنى من جملة مكة فلا تعارض، وقد وقع عند الطبراني من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: "انشق القمر بـ "مكة" فرأيته فرقتين"، وفي لفظ "السويداء" قال الحافظ: يحتمل أن يكون رآه كذلك وهو بـ "منى" كأن يكون على جبل مرتفع بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، قال: ويحتمل أن يكون القمر استمر منشقًا حتى رجع ابن مسعود من منى إلى مكة فرآه كذلك، وفيه بُعْد، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، يؤيد ذلك إسنادهم الرواية إلى جهة الجبل. ثم قال الحافظ: ويحتمل أن يكون الانشقاق وقع أول طلوعه؛ فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر، أو التعبير بأبي قبيس من تغيير الرواة؛ لأن الفرض ثبوت رؤيته منشقًا إحدى الشقتين على جبل، والأخرى على جبل آخر، ولا يغير ذلك قول الراوي الآخر: "رأيْتُ الجبل بينهما" أي بين الفرقتين؛ لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل وفرقة عن يساره مثلًا صدق أن بينهما أي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنَّها عليه أيضًا.
قال: وقد أنكر جمهور الفلاسفة انشقاق القمر متمسكين أن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام، وكذا قالوا في فتح أبواب السّماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوير الشمس وغير ذلك، وجواب هؤلاء إنْ كانوا كفارًا أن يناظروا أولًا على ثبوت دين الإسلام ثم يشركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض ألزم التناقض، ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في القيامة، فيستلزم جواز وقوع ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أجاب القدماء عن ذلك فقال أبو إسحاق الزجاج في المعاني: أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه؛ لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه. وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواترًا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة، فصوابه أن ذلك وقع ليلًا وأكثر الناس نيام، وقل من يراصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكشف القمر وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل، ولا يشاهدها إلا الآحاد؛ فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا، فلم يتأهب غيرهم لها. قال: ذهب بعض أهل العلم من القدماء إلى أن =
غَيْرُهُ مِمَّا ذُكِرَ وَاسْتُغْنِيَ عَنِ الاِسْتِمْرَارِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَشْهَرُهَا. وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَلَيْسَ مِنْ ذلِكَ
الحَصَى
(1)
، وَحَنِين .....................................
= المراد بقوله تعالى: "وانشق القمر" أي سينشق. كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أي سيأتي، والنكتة في ذلك إرادة المبالغة في تحقق وقوع ذلك، فنزل منزلة الواقع، والذي ذهب إليه الجمهور أصح، كما جزم به ابن مسعود وحذيفة وغيرهما، ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك:{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [سورة القمر: الآية: 2] كما تقدم تقريره، في أول الباب وذكر الإمام الحليمي أن القمر انْشَقَّ في عَصْرِه، وأنَّه شاهد الهلال في الليلة الثالثة منشقًا نصفين عرض كل واحد كعرض القمر ليلة أربع أو خمس ثم اتَّصَل فصار في شكل أُترجة إلى أن غاب. ينظر: سبل الهدى والرشاد بتحقيقنا 9/ 430.
(1)
أخرج البزار والطبراني في (الأوسط)، وأبو نعيم والبيهقي، عن أبي ذر قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسًا وحده فجئت حتى جلست إليه، فجاء أبو بكر فسلم ثم جلس، ثم جاء عمر، ثم عثمان، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حصيات، فأخذهن فوضعهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر فسبحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذه خلافة نبوة" ولكن هذا حديث ليس إسناده بذاك. وقال الحافظ ابن كثير في تحفة الطالب 183: لكن له طرق أخرى.
وأخرج ابن عساكر، عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ حصيات في يده فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد أبي بكر فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عمر فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في أيدينا رجلًا رجلًا فما سبحت حصاة منهن.
وأخرج أبو نعيم من طريق السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس قال: قدم ملوك حضرموت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم الأشعث بن قيس، فقالوا: إنا قد خبأنا لك خبأ، فما هو؟ فقال: سبحان الله إنما يفعل ذلك بالكاهن، وإن الكاهن والكهانة في النار، فقالوا: كيف نعلم أنك رسول الله؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفًا من حصى، فقال:"هذا يشهد أني رسول الله، فسبح الحصى في يده" قالوا: نشهد أنك رسول الله.
وأخرج أبو الشيخ في (كتاب العظمة)، عن أنس بن مالك قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام ثريد، فقال:"إن هذا الطعام يسبح" قالوا: يا رسول الله: وتفقه تسبيحه" قال: نعم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: أن هذه القصعة من هذا الرجل فأدناها، فقال: نعم يا رسول الله هذا الطعام يسبح، ثم أدناها من آخر ثم آخر فقالا مثل ذلك، ثم ردها فقال رجل: يا رسول الله لو أمرت على القوم جميعًا =
[وَإِنْ سُلِّمَ فَإِنَّمَا يُنْقَلُ مِثْلُهُ لِيَعْلَمَ مَنْ لَا يَعْلَم، وَذلِكَ فِيمَا لَا يَكُونُ مُسْتَمِرًّا مُسْتَغْنًى عَنْ نَقْلِهِ]
الجِذْع
(1)
وتسليم الغَزَالة
(2)
، وإفراد الإقَامة، وإفراد الحج، وترك البَسْمَلَة آحادًا"، مع أنها من الوقائع التي تتوفَّر الدَّواعي على نقلها.
= فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لو سكتت عند رجل لقالوا من ذنب، ردها فردها.
وأخرج أبو الشيخ عن خيثمة قال: كان أبو الدرداء يطبخ قدرًا فوقعت على وجهها، فجعلت تسبح. ينظر: الخصائص 2/ 124 - 125.
(1)
أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: كان جذع يقوم إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار حتى نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت.
وأخرج البخاري عن جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوم إلى نخلة فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، فنزل فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن. قال:"كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها".
وأخرج الدارمي من طريق عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فاتخذ له منبر، فلما فارق الجذع، وعمد إلى المنبر الذي صنع له جزع الجذع، فحن كما تحن الناقة، فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه وقال:"اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها وعيونها فيحسن نبتك وتثمر فيأكل أولياء الله من ثمرتك، فسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: نعم قد فعلت مرتين، فسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: اختار أن أغرسه في الجنة" وأخرجه الطبراني في "الأوسط" وأبو نعيم مثله من طريق عبد الله بن بريدة، عن عائشة به.
وأخرج البغوي وأبو نعيم وابن عساكر عن أبي بن كعب قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فصنع له منبر، فلما قام عليه حن الجذع، فقال له:"اسكن إن تشأ أغرسك في الجنة فيأكل منك الصالحون وإن تشأ أن أعيدك رطبًا كما كنت" فاختار الآخرة على الدنيا.
وأخرج ابن أبي شيبة والدارمي وأبو نعيم، عن أبي سعيد الخدري قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فصنع له منبر، فلما قام عليه حن الجذع حنين الناقة إلى ولدها، فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه إليه فسكن". الخصائص 2/ 126، 127.
(2)
قال الحافظ ابن كثير في تحفة الطالب (186): هو حديث مشهور عند الناس، وليس هو في شيء من الكتب الستة. وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني من حديث عمرو بن علي الفلاس، ثنا يعلى بن إبراهيم الغزال، ثنا الهيثم بن جَمَّاز، عن أبي كثير، عن زيد بن أرقم، قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض سكك المدينة فمررنا بخباء أعرابي فإذا ظبية مشدودة إلى الخباء فقالت: يا رسول الله إن هذا الأعرابي صادني، ولي خشفان في البرية وقد تعقد هذا اللبن في أخلافي، فلا هو يذبحني فأستريح، ولا =
وَإِنْ سُلِّمَ فَاسْتَغْنَى لِكَوْنِهِ مُسْتَمِرًّا أَوْ كَانَ الْأَمْرَانِ سَائِغَيْنِ.
أما المعجزات فلغرابتها، وأما الإقامة والحَجّ [والبَسْمَلَةُ؛ فلأنه تشريع في أمر عظيم، وقد كانت الإقامة]
(1)
والبَسْمَلَةُ تتكرّر في اليوم واللَّيلة خمس مرات.
"وأجيب بأن كلام عيسى عليه السلام، إن كان بحَضْرَة خلق" كثير، "فقد نقل
(2)
قطعًا"، وإن لم يكن فلا [يرد نقضًا]
(3)
، "وكذلك غيره مما ذكر" من المُعْجزات، "واستغنى عن الاستمرار" في نقله تواترًا "بالقرآن الذي هو أشهرها".
فلما كان القُرْآن كافيًا في الإعجاز، لم تتوفّر الدواعي بعده على نقل غيره.
"وأما الفروع" الَّتي هي إفراد الإقامة، وإفراد الحج، وترك البَسْمَلة "فليس من ذلك"؛ إذ الدواعي إنما تتوفّر فيما يستغرق، أو يكون قاعدة كلّية لا مسألة فروعية.
"وإن سلم" توفّر الدَّوَاعي على نقلها أيضًا، "فاستغنى" عن نقلها بالتواتر؛ "لكونه مستمرًّا" في الأيام والأعوام، "أو كان الأمران [سائغين] "
(4)
فلم يتواتر لذلك، وهذا أوجه، وإلا فاستمرارها في الأيام والأعوام لعلَّة السَّبب في طلب نقلها متواترًا.
والصَّحيح عندي في الجواب: الالتزام أن الانشقاق والحَنِين متواتر.
وأما الانشقاق فمنصوص في القرآن مرويّ في "الصحيحين"، وغيرهما من طرق من حديث
= يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن تركتك ترجعين؟ " قالت: نعم. وإلا عذبني الله عذاب العَشَّار. فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم تلبث أن جاءت تلمظ، فشدّها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخباء وأقبل الأعرابي ومعه قربة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتبيعها مني؟ فقال: هي لك يا رسول الله قال: فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال زيد بن أرقم: وأنا والله رأيتها تسيح في البر وهي تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. هذا الحديث متنه فيه نكارة، وسنده ضعيف؛ فإن شيخ الفلاس يعلى بن إبراهيم الغزال لا يعرف، وشيخه الهيثم بن جماز قال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال مرة: ضعيف.
وقال أحمد بن حنبل والنسائي: متروك الحديث.
وقد روى حديث الغزالة من حديث عطية عن أبي سعيد، ومن حديث رجل من الأنصار. وذكره عياض في الشفاء 1/ 441 عن أم سلمة بلا إسناد.
(1)
سقط في ح.
(2)
في حاشية ج: قوله: فقد نقل قطعًا. أي فقد وجب أن ينقلوه.
(3)
في ب: يراد نقصًا.
(4)
في ب: شائعين، وفي ح: سابقين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
شعبة
(1)
عن سليمان
(2)
عن إبراهيم
(3)
عن أبي معمر
(4)
عن أبي مسعود.
ومن رواية [عراك]
(5)
بن مالك
(6)
عن ..................
(1)
شعبة بن الحجَّاج بن الورد العَتَكِي، مولاهم، أبو بسْطام الحافظ، أحد أئمة الإسلام نزيل البصرة، ولد سنة ثمانين. روى عن معاوية بن قرة وأنس بن سيرين وثابت البناني وغيرهم، وعنه: أيوب وابن إسحاق من شيوخه والثوري وابن المبارك وأبو الوليد وخلائق. قال ابن المديني: له نحو ألفي حديث. وقال أحمد: شعبة أمة وحده. وقال ابن معين: إمام المتقين. وقال الحاكم: شعبة إمام الأئمة. ومات سنة ستين ومائة. ينظر: البداية والنهاية 10/ 132، وسير الأعلام 7/ 202، وتهذيب الكمال 2/ 581، وتهذيب التهذيب 4/ 338، والكاشف 2/ 11، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 449، والوافي بالوفيات 16/ 155، وديوان الإسلام (1233)، والثقات 6/ 446.
(2)
سليمان بن مهران الكاهلي، مولاهم، أبو محمد الكوفي الأعمش، أحد الأعلام الحفاظ والقراء. قال ابن المديني: له نحو ألف وثلاثمائة حديث. وقال ابن عيينة: كان أقرأهم وأحفظهم وأعلمهم. وقال عمرو بن علي: كان يسمى المُصْحَف لصدقه. وقال العجلي: ثقة ثبت، يقال: ظهر له أربعة آلاف حديث ولم يكن له كتاب، وكان فصيحًا، وقال النسائي: ثقة ثبت، وعدّه من المدلِّسين. قال أبو نُعَيم: مات سنة ثمان وأربعين ومائة، عن أربع وثمانين سنة. ينظر: الثقات 4/ 302، وتهذيب التهذيب 4/ 222، وتقريب التهذيب 1/ 331، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 37، والجرح والتعديل 4/ 630، وسير الأعلام 6/ 226.
(3)
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد وقاضيها، وأحد الأعلام. روى عن أبيه والزهري وصالح بن كيسان وابن إسحاق وخلق. وعنه: ابنه يعقوب وعبد الصمد بن عبد الوارث وخلق. وثقه أحمد ويحيى بن معين وأبو حاتم والعجلي. مات سنة ثلاث وثمانين ومائة. ينظر: تهذيب الكمال 1/ 54، وتهذيب التهذيب 1/ 121، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 45، والكاشف 1/ 80، وتاريخ البخاري الكبير 1/ 288، وتذكرة الحفاظ 1/ 252، وطبقات الحفاظ (107)، وتاريخ بغداد 6/ 81.
(4)
إسماعيل بن إبراهيم بن مَعْمَر الهُذَلي، أبو مَعْمر الهَرَوِي، ثم البَغْدادي القَطيعي. روى عن: إبراهيم بن سعد وابن المبارك وهشيم. وعنه: البخاري ومسلم ومحمد بن يحيى. قال ابن سعد: ثقة ثبت صاحب سنة وفضل وخير. قال ابن معين: ثقة مأمون: قال عبد الخالق بن منصور عنه: مات سنة ست وثلاثين ومائتين ينظر الخلاصة 1/ 82 تهذيب التهذيب 1/ 273.
(5)
في أ، ح: غزال.
(6)
عراك بن مالك الغفاري المدني. فقيه أهل دهلك (جزيرة قريبة من أرض الحبشة من ناحية اليمن)، عن أبي هريرة وحفصة وعائشة وابن عمر. وعنه: مكحول والحكم بن عتيبة وجعفر بن ربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري، قال أبو الغُصْن، كان يصوم الدهر، قال الواقدي: توفى بالمدينة في زمن يزيد بن معاوية. وقال أبو حاتم وغيره: ثقة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عبيد الله
(1)
بن عبد الله عن ابن عَبَّاس.
ومن رواية
(2)
شعبة، سفيان، عن قتادة
(3)
عن أنس.
ورواه مسلم من رواية شعبة؛ عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر.
ورواه أحمد بن حَنْبَلٍ، والترمذي، والطّبراني
(4)
، وأبو حاتم بن [حبان]
(5)
من حديث جُبير بن مُطْعم
(6)
.
= ينظر: سير الأعلام 5/ 63، الثقات 5/ 281، المغني (4088)، لسان الميزان 7/ 304، ميزان الاعتدال 3/ 63، الجرح والتعديل 7/ 204، تاريخ البخاري الكبير 7/ 88، الكاشف 2/ 260، خلاصة تهذيب الكمال 2/ 225، تهذيب الكمال 2/ 925.
(1)
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله المدني الأعمى الفقيه أحد السبعة. روى عن: عمرو وابن مسعود مرسلًا، وعن أبيه وعائشة. وعنه: أخوه عون وعراك بن مالك والزهري وأبو الزناد وخلق. قال أبو زرعة: ثقة مأمون إمام، وقال العجلي: كان جامعًا للعلم. قال البخاري: مات سنة أربع وتسعين. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 880، وتهذيب التهذيب 7/ 23، (50)، وتقريب التهذيب 1/ 535، وتاريخ البخاري الكبير 5/ 385، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 194، والجرح والتعديل 5/ 1517، والحلية 2/ 188، وطبقات ابن سعد 2/ 382، والبداية والنهاية 9/ 177.
(2)
سقط في ت.
(3)
قَتادة بن دعامة السّدُوسِي، أبو الخَطَّاب البصري الأكْمَه، أحد الأئمة الأعلام، حافظ مدلس. قال ابن المسيِّب: ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة. وقال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس. وقال ابن مَهْدِي: قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد. وقال حماد بن زيد: توفي سنة سبع عشرة ومائة، وقد احتج به أرباب الصحاح. ينظر: طبقات ابن سعد 9/ 156، ومعرفة الثقات 1513، وسير الأعلام 5/ 269، والثقات 5/ 322، وتراجم الأحبار 3/ 264، والحلية 2/ 333، ولسان الميزان 7/ 341، وميزان الاعتدال 3/ 385، وتهذيب الكمال 2/ 112، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 350.
(4)
سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم، ولد بـ "عكا" سنة 260 هـ. من كبار المحدثين، أصله من طبرية الشام، وإليها نسبته، رحل إلى الحجاز واليمن ومصر والعراق وفارس والجزيرة، وتوفي سنة 360 هـ. بـ "أصبهان". له ثلاثة معاجم في الحديث منها:"المعجم الصغير" وله كتب في "التفسير" و"الأوائل" و"دلائل النبوة" وغير ذلك. ينظر: وفيات الأعيان 1/ 215، والنجوم الزاهرة 4/ 59، وتهذيب ابن عساكر 6/ 240، والأعلام 3/ 121.
(5)
في ت: حيان.
(6)
جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف النوفلي، أبو محمد أو أبو عدي المدني، أسلم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواه أبو بكر بن مَرْدويه من حديث مردويه، وله طرق أخر شتّى لا يمترى في تَوَاتُرِهِ مُحْدث.
وأما "الحَنِينُ" ففي البُخَاري من طرق.
منها: من رواية عبد الواحد بن أيمن
(1)
عن أبيه
(2)
. عن جابر
(3)
.
= قبل حنين أو يوم الفتح، له ستون حديثًا، اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر، روى عنه ابناه محمد ونافع وسليمان بن صرد وابن المسيب وطائفة. وكان حليمًا وقورًا عارفًا بالنسب، وذكر ابن إسحاق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه مائة من الإبل. توفي سنة تسع أو ثمان وخمسين بـ "المدينة". ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 1/ 185، وتهذيب التهذيب 2/ 63، تقريب التهذيب 1/ 126، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 161، والكاشف 1/ 180، وتاريخ البخاري الكبير 2/ 223، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 6، 10، 105، والجرح والتعديل 2/ 2112، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 78، وأسد الغابة 1/ 322، والإصابة 1/ 462، والاستيعاب 1/ 432، وشذرات الذهب 1/ 59، 64.
(1)
عبد الواحد بن أيمن المخزومي، مولاهم، أبو القاسم المكي. عن ابن أبي مليكة. وعنه: حفص بن غياث ووكيع. وثقه ابن معين. ينظر: الثقات 7/ 124، والجرح والتعديل 6/ 104، وتاريخ البخاري الكبير 5/ 59، والكاشف 2/ 217، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 183، وتهذيب الكمال 2/ 865، وتهذيب التهذيب 6/ 433.
(2)
أيمن الحبشي المخزومي، مولاهم المكي. عن جابر وعائشة، وعنه ابنه عبد الواحد، موثق. ينظر: تهذيب الكمال 1/ 133، وتهذيب التهذيب 1/ 394، وتقريب التهذيب 1/ 88، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 109، والثقات 4/ 47، والجرح والتعديل 2/ 318، وميزان الاعتدال 1/ 284، ولسان الميزان 7/ 181.
(3)
جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بفتح، المهملة الأنصاري؛ السلمي بفتحتين، أبو عبد الرحمن، وأبو عبد الله، أو أبو محمد المدني، صحابي مشهور له ألف وخمسمائة حديث وأربعون حديثًا، اتفقا على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين، وشهد العقبة، وغزا تسع عشرة غزوة وعنه بنوه وطاوس والشعبي وعطاء وخلق، قال جابر: استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسًا وعشرين مرة، قال الفلاس: مات سنة ثمان وسبعين بالمدينة عن أربع وسبعين سنة. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 1/ 179، وتهذيب التهذيب 2/ 42، وتقريب التهذيب 1/ 122، وخلاصة تهذيب الكمال =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
من رواية حفص بِن عُبَيْد الله بن مَالِك بِن أنس
(1)
عن جابر.
ورواه أحمد من رواية أبي الزبير عن جابر.
ورواه البُخَاري والتِّرْمذي من رواية نافع عن ابن عمر.
ورواه أحمد من رواية أبي حبّاب عن أبيه عن ابن عمر ورواه أحمد وابن منيع
(2)
، وابن مَاجَه، وأبو يَعْلَى المَوصلي
(3)
وغيرهم من رواية حَمَّاد بن سلمة
(4)
..............
= 1/ 156، وتاريخ البخاري الكبير 2/ 207، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 21، 115، 161، 190، والجرح والتعديل 2/ 2019، وأسد الغابة 13/ 305، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 73، والاستيعاب 1/ 219، وطبقات ابن سعد 3/ 561، وشذرات الذهب 1/ 84.
(1)
حفص بن عبيد الله بن أنس الأنصاري البصري، عن جده وجابر في البخاري وأبي هريرة.
وعنه: يحيى بن أبي كثير وابن إسحاق، قال ابن المديني: لا يثبت له السماع من جابر.
ينظر: تهذيب الكمال 1/ 303، وتهذيب التهذيب 2/ 405، وتقريب التهذيب 1/ 186، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 238، والكاشف 1/ 241، وتاريخ البخاري الكبير 2/ 360، والجرح والتعديل 3/ 754، والثقات 4/ 151.
(2)
أحمد بن منيع بن عبد الرحمن البغوي، نزيل بغداد، أبو جعفر: حافظ ثقة، ولد سنة 160 هـ له "مسند" في الحديث كان بعد من أقران أحمد بن حنبل في العلم. مات فقيرًا، فبيع جميع ما يملك سوى كتبه بأربعة وعشرين درهمًا سنة 244 هـ. ينظر: الأعلام 1/ 260، وتهذيب التهذيب 1/ 84، وتذكرة الحفاظ 2/ 60.
(3)
أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي، أبو يعلى، حافظ، من علماء الحديث، ثقة مشهور، نعته الذهبي بـ "محدث الموصل"، عمر طويلًا حتى ناهز المائة، وتفرد ورحل الناس إليه، وتوفي سنة 307 هـ بـ "الموصل". له كتب منها:"المعجم" في الحديث و"مسندان" كبير وصغير. ينظر: دول الإسلام 1/ 146، والأعلام 1/ 171، وتذكرة النوادر (39).
(4)
حماد بن سلمة بن دينار الربعي أو التيمي أو القرشي مولاهم، أبو سلمة البصري، أحد الأعلام، عن ثابت وسماك وسلمة بن كهيل وابن أبي مليكة وقتادة وحميد وخلق، وعنه ابن جريج وابن إسحاق شيخاه وشعبة ومالك وحبان بن هلال والقعنبي وأمم، توفي سنة سبع وستين ومائة. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 1/ 325، وتهذيب التهذيب 3/ 11، وتقريب التهذيب 1/ 197، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 252، والكاشف 1/ 51، وتاريخ البخاري =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عن ثابت
(1)
عن أنس، وإسناده على شرط مسلم.
ورواه التِّرمذي وصححه، وأبو يَعْلَى، وابن خزيمة، والطبراني في السُّنَّة وصححه، وقال: على شرط مسلم يلزمه إخراجه من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة
(2)
عن أنس.
ورواه الطبراني، من رواية الحسن عن أنس.
ورواه أحمد، وابن منيع، والطبراني، وغيرهم من رواية حماد بن سلمة عن عَمَّار بن أبي عَمَّار
(3)
عن ابن عباس.
= الكبير 3/ 22، والجرح والتعديل 3/ 623، وميزان الاعتدال 1/ 590، ولسان الميزان 7/ 203، والثقات 6/ 216، وطبقات ابن سعد 9/ 53، ومقدمة الفتح 399، والبداية والنهاية 10/ 150، والحلية 6/ 249، والثقات 6/ 216، والوافي بالوفيات 13/ 145، ت 153.
(1)
ثابت بن أسلم البُنَانِي، مولاهم، أبو محمد البصري، أحد الأعلام.
قال ابن المديني: له نحو مائتين وخمسين حديثًا. وقال حماد بن زيد: ما رأيت أعبد من ثابت. وقال شعبة: كان يختم في كل يوم وليلة، ويصوم الدهر. وثقه النسائي وأحمد والعجلي. قال ابن عُلَيَّة: مات سنة سبع وعشرين ومائة عن ست وثمانين سنة. ينظر: طبقات ابن سعد 1/ 478، 7/ 231، والوافي بالوفيات 10/ 461، والحلية 2/ 318، وسير الأعلام 5/ 220، وتذكرة الحفاظ (1125)، ولسان الميزان 7/ 187، وميزان الاعتدال 1/ 362، وتهذيب الكمال 1/ 170، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 147.
(2)
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري، أبو يحيى المدني. عن أبيه وأنس والطُّفَيْل بن أُبَيِّ بن كَعْب. وعنه: حماد بن سلمة وابن عُيَيْنة ومالك، قال ابن معين: ثقة حجة. قال ابن سعد: توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ينظر: تهذيب الكمال 1/ 85، وتهذيب التهذيب 1/ 239، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 74، والكاشف 1/ 111، وتاريخ البخاري الكبير 1/ 393، والجرح والتعديل 2/ 226، والثقات 4/ 23، والوافي بالوفيات 8/ 416، وشذرات الذهب 1/ 189، وسير النبلاء 6/ 33، ومشكاة المصابيح 3/ 608.
(3)
عمار بن أبي عمار، مولى بني هاشم، أبو عمرو المكي. عن أبي قتادة وأبي هريرة وابن عباس. وعنه: عطاء ونافع وشعبة ومعمر وخلق. وثقه أبو حاتم. مات في ولاية خالد القسري على العراق. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 996، وتهذيب التهذيب 7/ 404 (656)، وتاريخ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواه أحمد والدَّارمي وأبو يعلى وابن مَاجَة، وغيرهم من رواية الطّفيل بن أبي كعب
(1)
[عن أَبيه]
(2)
.
ورواه الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدَّارمي من رواية أبي حازم
(3)
عن سهل بن سَعْد
(4)
.
= الإسلام 5/ 112، والثقات 5/ 267، وتراجم الأحبار 3/ 71، وتاريخ البخاري الكبير 7/ 26، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 261، والكاشف 2/ 300.
(1)
الطفيل بن أبي بن كعب الأنصاري، أبو بطن المدني، كانت بطنه عظيمة. عن أبيه، وعنه أبو فاختة وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وثقه ابن سعد. ينظر: الثقات 4/ 397، والجرح والتعديل 4/ 2151، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 364، والكاشف 2/ 42، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 10، وتهذيب الكمال 2/ 126، وتهذيب التهذيب 5/ 14 (24)، وتقريب التهذيب 1/ 378 (24).
(2)
سقط في ت.
(3)
سلمة بن دينار، مولى الأسود بن سفيان، أبو حازم الأعرج التَّمَّار المدني القاص الزاهد، أحد الأعلام. قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: ثقة لم يكن في زمانه مثله. وقال أبو حازم: لا تكون عالمًا حتى تكون فيك ثلاث خصال: لا تبغي على من فوقك، ولا تحقر من دونك، ولا تأخذ على علمك دنيا. قال خليفة: مات سنة خمس وثلاثين ومائة. ينظر: طبقات ابن سعد 5/ 424، والوافي بالوفيات 15/ 319، وسير الأعلام 6/ 96، والحلية 3/ 229، والجرح والتعديل 4/ 701، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 78، وتهذيب الكمال 1/ 523، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 402 (2627).
(4)
سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري، أبو العباس المدني له مائة حديث وثمانية وثمانون حديثًا. اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر. وعنه الزهري، وأبو حاتم. وأبو سهل الأصبحي. قال أبو نعيم: مات سنة إحدى وتسعين عن مائة سنة. قال ابن سعد: وهو آخر من مات بالمدينة. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 1/ 555، وتهذيب التهذيب 4/ 252، وتقريب التهذيب 1/ 336، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 426، والكاشف 1/ 407، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 97، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 209، 253، والجرح والتعديل 4/ 853، وأسماء الصحابة الرواة ت 19، وأسد الغابة 2/ 472، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 244، والاستيعاب 2/ 664، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواه أبو محمد الجَوْهَرِي من رواية عبد العزيز بن أبي رَوّاد
(1)
عن نافع عن تميم الدَّاري
(2)
.
ولست أدعى أن التواتر حاصلٌ مما عددت من الطرق، بل من طرق أخرى كثيرة يجدها المحدث ضِمْن المسانيد والأجزاء وغيرها، وإنما ذكرت ما في المَشَاهير منها، أو بعضه، وربّ مُتَوَاتر عند قوم غير متواتر عند آخرين.
سلمنا أنه الآن ليس بمتواترٍ، ولكن لم قلتم: إنه لم يكن متواترًا وقت وقوعه؟ وهذا لأن الدواعي إنما تتوفّر على نَقْل الغريب، والغريب إنما يتعجّب منه عند وقوعه. فإذا وقع [وشاع]
(3)
لم [يضرّ] ذكره عجبًا، فلا تتوفّر الدَّواعي على نقله للعلم بوقوعه، وقد كان متواترًا وقت وقوعه، وإن لم يكن اليوم متواترًا، فالمتواتر قد ينقلب آحادًا، والسبب فيه ما ذكرناه.
وتسبيح الحَصَا.
= والإصابة 3/ 200، وطبقات ابن سعد 3/ 625، 5/ 43، ونفعة الصديان ت 225، والاستبصار 105 و 106، والثقات 3/ 168.
(1)
عبد العزيز بن أبي رَوَّاد العتكي، مولى المهَلّب بن أبي صَفرَة. عن عكرمة وسالم. وعنه ابنه عبد المجيد ويحيى القطَّان، وقال: ثقة لا يترك الرأي أخطأ فيه. وقال يحيى بن سُليم الطائفي: كان يرى الإرجاء. وقال ابن المبارك: كان يتكلم ودموعه تسيل. وثقه ابن معين وأبو حاتم. وقال ابن عدي: في بعض أحاديثه ما لا يتابع عليه. قال ابن قانع: مات سنة تسع وخمسين ومائة. ينظر: البداية والنهاية 10/ 131، وطبقات ابن سعد 4/ 168، والحلية 8/ 191، ولسان الميزان 7/ 288، والجرح والتعديل 5/ 1830، والكاشف 2/ 198، وتاريخ البخاري الكبير 6/ 22، وتهذيب الكمال 2/ 837، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 166.
(2)
تميم بن أوس بن خارجة الداري، أبو رقية، أسلم سنة تسع، وسكن بيت المقدس، له ثمانية عشر حديثًا. روى عنه سيد البشر صلى الله عليه وسلم خبر الجساسة، وذلك في البخاري ومسلم، وناهيك بهذه المنقبة الشريفة، قال ابن سيرين: جمع القرآن، وكان يختم في ركعة. قال أبو نعيم: أول من سرج في المساجد تميم، توفي سنة أربعين. ينظر: الثقات 3/ 39، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 58، وصفة الصفوة 1/ 737، والوافي بالوفيات 10/ 4908، وتهذيب الكمال 1/ 168، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 145.
(3)
في ب: وساغ.
التَّعَبُّدُ بِخَبَرِ الوَاحِدِ
مَسْأَلَةٌ:
التَّعَبُّدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ جَائِزٌ عَقْلًا؛ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ.
رواه الطَّبراني، وابن أبي عَاصِمٍ
(1)
من حديث أبي ذَرّ. وتسليم الغَزَالة.
رواه الحافظ أبو نُعَيْم الأَصْفهاني، والبَيْهَقِيّ في "دلائل النبوة".
ونحن نقول فيهما: إنهما وإن لم يكونا اليوم متواترين، فلعلّهما تواترا إذ ذاك، فإن ذلك بهت عظيم؛ إذ كان أمر الإمامة أهم ما وقع للصَّحابة رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا يوم "السقيفة"، ولم يذكر أحد منهم ذلك، ولا بحديث امرأة على مغزلها به، وكان الأمر إذ ذاك محتاجًا إلى التلويح من النبي صلى الله عليه وسلم فضلًا عن التصريح، ولم ينقله من رواة الحديث [محدّث]
(2)
واحد.
وأما الإقامة والحَجّ [فهوَّن]
(3)
الصَّحابة أمرهما؛ لجواز الأمرين فيهما.
وأما أصل البَسْمَلَةِ فلا سبيل إلى تركها عند أصحابنا، ولكن جوابنا أنها أمر خفى [فلعلّه]
(4)
أسر بها، فإن الجَهْرَ بها غير واجب عندنا؛ فلذلك نقل آحادًا.
«مسألة»
الشرح: "التعبُّد بخبر الواحد العدل جائز" عندنا "عقلًا"
(5)
.
(1)
أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، أبو بكر بن أبي عاصم، ويقال له: ابن النبيل، ولد سنة 206 هـ. عالم بالحديث، زاهد رحالة، من أهل البصرة، ولي قضاء أصبهان سنة 269 - 282 هـ له نحو 300 مصنف منها:"المسند الكبير" و"الآحاد والمثاني" و"الديات" و"الأوائل". توفي سنة 287 هـ. ينظر: تاريخ بغداد 4/ 334، وتذكرة الحفاظ 2/ 204، وشذرات الذهب 2/ 209، وميزان الاعتدال 1/ 59، والأعلام 1/ 189.
(2)
في ح: محد.
(3)
في أ: فهو.
(4)
في ح: فله.
(5)
هذه المسألة في أنه هل يجوز عقلًا التعبد بخبر الواحد العدل إذا غلب على الظن صدقه، على معنى أنه هل يجوز عقلًا أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أخبركم عني بحديث، وظننتم صدقه، فاعملوا بقوله، اختلفوا فيه. ينظر: الشيرازي 246 خ. والبرهان 1/ 607، والمستصفى 1/ 146، والمنخول 1/ 146، والإحكام 2/ 44، (6)، وشرح العضد 2/ 58،
لَنَا: الْقَطْعُ بِذَلِكَ.
قَالُوا: يُؤَدِّي إِلَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَعَكْسِهِ.
قُلْنَا إِنْ كَانَ المُصِيبُ وَاحِدًا فَالْمُخَالِفُ سَاقِطٌ كَالتَّعَبُّدِ بِالْمُفْتِي وَالشَّهَادَةِ وَإِلَّا فَلَا يَرِدُ وَإِنْ تَسَاوَيَا فَالْوَقْفُ أَوِ التَّخْيِيرُ يَدْفَعُهُ.
ومنعه جمهور القَدَرِيّة، ومن تابعهم من أهل الظَّاهر [كالقَاشانِي]
(1)
وغيره.
ونقله المصنّف تبعًا للآمدي، عن أبي على الجُبّائي أحد رءوس القَدَرِيّة؛ حيث قال:"خلافًا للجُبّائي".
والصّحيح في النقل عنه: تفصيل في المسألة، نقله عنه القاضي في "مختصر التقريب" وغيره، وسيحكيه عنه على الوجه الذي فصّله.
"لنا: القَطْع بذلك"، وذلك أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال عقلًا، ولا معنى للجائز العقلى إلا ذلك، فكان جوازه عقلًا مقطوعًا به.
ولا يقال: دَعْوَى القطع مُعَارضة بمثلها؛ لأن البُرْهان قائمٌ فيها، وهو أنه لا يلزم من فرض وقوعه مُحَال.
الشرح: "قالوا: يؤدي إلى تحليل الحرام وعكسه"؛ لأنه إذا روى خبر يدلّ على التحريم، وآخر على الحلِّ، وجاز التعبّد بخبر الواحد - جاز التعبُّد بها، فيلزم تحليل الحرام، وتحريم الحلال.
وهذا إذا كان أحدهما راجحًا، فإن تساويا، فالعمل بهما يؤدي إلى اجتماع النقيضين، وبأحدهما [ترجيح]
(2)
من غير مرجّح.
"قلنا": لا نسلّم التأدية إلى تحريم الحلال وعكسه؛ لأنه "إن كان المُصِيب" من المجتهدين "واحدًا، فالمخالف" له "ساقط".
والحق [مع]
(3)
من وقع على ما في نفس الأمر، ومخالفه على خطأ.
= والتبصرة 301، وشرح الكوكب 2/ 359، وحاشية البناني 2/ 132، والمسودة 237، وتيسير التحرير 3/ 81، وكشف الأسرار 2/ 370، وفواتح الرحموت 2/ 132، وإرشاد الفحول (49).
(1)
في ب: القاساني، وكلاهما صواب.
(2)
سقط في ح.
(3)
سقط في ح.
قَالُوا: لَوْ جَازَ لَجَازَ التَّعَبُّدُ بهِ فِي الإِخْبَارِ عَنِ الْبَارِي.
قُلْنَا: لِلْعِلْمِ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ كَاذِبٌ.
غايةُ ما في الباب أنه يجب عليه العَمَلُ بما عنده؛ لأنه الغالب على ظنّه، وذلك "كالتعبُّد [بالمفتى]
(1)
والشَّهَادة"، فإن العمل بهما واجبٌ مع احتمال خطئهما، ولا يلزم من العَمَلِ بهما تحليل حرام، وبالعكس؛ لأنّ حكمهما ليس هو حكم الله - تعالى - على تقدير كونه خطأ، "وإلا فلا يرد"؛ لأنه إذا كان كل مجتهد مصيبًا، فكلّ واحد من الحَكَمَيْن ثابت في علم الله، فأين تحريم الحلال وعكسه؟.
"وإن تساويَا، فالوَقْف" إلى أن يتبيّن الرّجحان عند طائفة، "أو التخيير" بينهما على رأى آخرين، وكلاهما "يدفعه" - أي: يدفع لزوم اجتماع الحكمين المتنافيين.
الشرح: "قالوا: لو جاز" التعبُّد بخبر الواحد من حيث هو "لَجَازَ التعبّد به في الإخبار عن الباري" سبحانه بالرِّسَالة، واللازم منتفٍ بالإجماع، وبيان المُلَازمة أن الموجب للتعبُّد به ظنّ الصدق، وهو موجود في الصُّورتين.
"قلنا: العلم بالعادة" القَاضِيَةِ فيمن أخبر عن الله بالرِّسَالة؛ "أنه كاذب" إذا لم يأت بمعجزة تصدقه.
فقد لاح الفَرْقُ بين الإخبار عن الرسالة وغيرها.
وإن كان المخبرُ عن الرِّسالة هو مدعيها، فهو مع قضاء العادات يكذبه، إذا لم يأت بِبُرْهَان مدّع لنفسه مرتبة عظيمة، وتلك تُهْمةٌ طاعنةٌ في خبره.
قال ابن السَّمْعَاني: والحرف المُشْكل لهم أنّ الشرعيات مصالح، والواحد يجوز كذبه، فلا يؤمن أن يكون ما تضمّنه خبره مفسدة، فإذا لم [يؤمن]
(2)
الكذب لم [تؤمن]
(3)
المفسدة، والعقل يمنع من العمل بما يجوز أن يكون مفسدة احتياطًا.
وجوابه: أنه لما قام القَاطِعُ عليه علمنا أنه مصلحة، وأيضًا فالعمل به عمل بالراجح، وأيضًا ينتقض عليهم [بالمُفْتى]
(4)
والشَّاهدين، وغير ذلك من المواضع التي اجتمعت الأمّة على الاعتماد فيها على قَوْلِ الواحد، ثم ما ذكروه مبنّى على قاعدة التَّحْسِين والتقبيح.
(1)
في ب: بالمعنى.
(2)
في ب: يأمن.
(3)
في ح: يأمن.
(4)
في ب: بالمعنى.
العَمَلُ بخبر الوَاحِدِ
مَسْأَلَةٌ:
"يَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ [الْعَدْلِ خِلَافًا لِلْقَاسَانِيِّ وَابْنِ دَاوُدَ وَالرَّافِضَةِ. وَالْجُمْهورُ بِالسَّمْعِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَالْقَفَّالُ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَالْبَصْرِيُّ بِالْعَقْلِ.
«مسألة»
الشرح: "يجب العمل بخبر الوَاحِدِ [العدل]
(1)
، خلافًا للقَاساني وابن دَاوُد والرَّافضة".
وقد سبق عن القَاسَانِي
(2)
؛ أنه [يمنعه]
(3)
عقلًا، فلا وجه لذكره هنا؛ إذ الكلام هنا مع القائلين بجواز التعبُّد به.
"والجمهور" من القائلين بوجوب العَمَلِ به. قالوا: إن ذلك "بالسمع".
"وقال أحمد، والقَفَّال، وابن [سُرَيْج]
(4)
والبَصْرى: بالعَقْل" أيضًا
(5)
، والبصرى معتزلى، فلا يتعجّب منه في ذلك، إنما العجب من أحمد، والقَفّال، وابن سُرَيْج - إن صحَّ النقل عنهم، وهم أئمّة الشَّريعة - وهم من أئمّة السُّنة.
وقد قيل: إن القَفَّال كان أول أمره معتزليًّا فلعلّ هذه المَقَالة قالها وقت اعتزاله، وابن [سُرَيج]
(6)
كان يناظر ابن دَاوُدَ، فلعله بالغ في الرَّد عليه، فتوّهمت فيه هذه المقالة.
ومنهم من اشْترط ثَلَاثة عن ثلاثة إلى أن ينتهي الإِسناد.
منهم من اشترط أربعة عن أربعة.
(1)
سقط في أ، ب، ت، ح.
(2)
في حاشية ج: قوله: "القاساني" قاسان بالسين المهملة من بلاد الترك. سعد الدين.
(3)
في أ، ت، ح: منعه.
(4)
في ب: شريح.
(5)
ينظر: المحصول 2/ 1/ 507، والمعتمد 2/ 583، والعضد 2/ 59، والإحكام للآمدي 2/ 48.
(6)
في ب: شريح.
لَنَا: تَكَرَّرَ الْعَمَلُ بِهِ كَثِيرًا فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ شَائِعًا ذَائِعًا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَذَلِكَ يَقْضِي بِالاِتِّفَاقِ عَادَةً كَالْقَوْلِ قَطْعًا.
وقال قوم: خمسة عن خمسة.
وقال قوم: سبعة عن سبعة، حكى ذلك الأستاذ أبو منصور البَغْدَادي.
الشرح: "لنا: تكرَّر العمل به كثيرًا في الصَّحابة، والتَّابعين شائعًا ذائعًا من غير نَكِيرٍ، وذلك يقضى بالاتِّفَاق" منهم على وجوب العَمَلِ به "عادة كالقَوْل" الصَّريح "قطعًا".
ولا ندعى التَّواتُر في خبر بعينه، وإنما وقع التَّواتُر من أخبار كثيرة في القدر المشترك منها، وهو رجوع الصَّحابة إليه، وعلمهم به.
"قولهم: لعلّ العمل بغيرها" بهت عظيم.
وأجاب عنه المصنّف بقوله: " [قلنا]
(1)
: علم قطعًا من سياقها أن العمل بها"، وهذا ما لا يمترى فيه ذو حاصل.
"قولهم: فقد أنكر أبو بكر رضي الله عنه خبر المغيرة في مِيرَاث الجدّة"
(2)
وقال
(1)
سقط في ت، ح.
(2)
أخرجه أبو داود 3/ 316، 317، كتاب الفرائض: باب في الجدة (2894)، وأخرجه الترمذي 4/ 419، 420، كتاب الفرائض: باب ما جاء في ميراث الجدة (2100)، وأخرجه ابن ماجه 2/ 909، 910، كتاب الفرائض: باب ميراث الجدة (2724)، وأخرجه مالك في الموطأ 2/ 513، كتاب الفرائض: باب ميراث الجدة (4)، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف 10/ 274، 275، كتاب الفرائض: باب فرض الجدات (19083)، وأخرجه سعيد بن منصور في السنن 1/ 54، 55، باب الجدات (80)، وأخرجه ابن الجارود في المنتقى ص 320، باب ما جاء في المواريث (959)، وأخرجه ابن حبان، وذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص 300، كتاب الفرائض: باب في الجدة (1224).
وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 338، 339، كتاب الفرائض: باب قضاء أبي بكر في الجدة وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 234، كتاب الفرائض: باب فرض الجدة والجدتين، وأخرجه الدارمي من رواية الزهري قال: (جاءت الجدة إلى أبي بكر
…
) ولم يذكر قبيصة 2/ 359، كتاب الفرائض: باب قول أبي بكر في الجدات.
قَوْلُهُمْ: لَعَلَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِهَا.
قُلْنَا: عُلِمَ قَطْعًا مِنْ سِيَاقِهَا أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا.
قَوْلُهُمْ: فَقَدْ أَنْكرَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه خَبَرَ الْمُغِيرَةِ [فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ] حَتَّى رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأنْكَرَ عُمَرُ رضي الله عنه خَبَرَ أَبِي مُوسَى فِي الاِسْتِئْذَانِ حَتَّى
له: هل معك غيرك "حتى رواه محمد بن مَسْلمة"
(1)
كما رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح.
وأنكر عمر رضي الله عنه خبر أبى مُوسَى في الاسْتِئْذَان"
(2)
؛ حيث قال: إنَّا كنا نؤمر بهذا، فقال:[لتقيمنّ]
(3)
على هذا بيّنة، أو لأفعلنّ "حتى رواه أبو سعيدٍ" رواه الشَّيخان في صحيحهما، "وأنكر" عمر رضي الله عنه "خبر فاطمة بنت قيس"
(4)
؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي الحارثي، أبو عبد الله، من أكابر الصحابة، شهد بدرًا والمشاهد كلها. له ستة عشر حديثًا، انفرد له البخاري بحديث، كذا ذكره الحميدي. وعنه المغيرة بن شعبة، وسهل بن أبي حثمة وجابر، استوطن المدينة واعتزل الفتنة. قال المدائني: مات سنة سبع وسبعين. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 3/ 1272، وتهذيب التهذيب 9/ 454، وتقريب التهذيب 2/ 208، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 457، وتاريخ البخاري الكبير 1/ 11، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 80، والثقات 3/ 362، وأسد الغابة 5/ 112، والإصابة 6/ 33، والاستيعاب 3/ 1377، وطبقات ابن سعد 9/ 177، وشذرات 1/ 45، 53، وتجريد أسماء الصحابة 2/ 61، وسير الأعلام 2/ 369، وأسماء الصحابة الرواة ت 140.
(2)
أخرجه البخاري (8/ 157) كتاب الاعتصام: باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (3/ 6)، كتاب البيوع: باب الخروج في التجارة، ومسلم في كتاب الاستئذان (3/ 1694 - 1696) حديث (33 - 37)، وأبو داود في كتاب الأدب: باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان حديث (5180 - 5184) وأحمد (4/ 400) من حديث أبي موسى الأشعري.
(3)
في أ، ت: ليقيمن.
(4)
أخرجه مسلم (2/ 1118) كتاب الطلاق: باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، وأبو داود (2/ 715)، كتاب الطلاق: باب في نفقة المبتوتة حديث (18/ 22)، والترمذي (3/ 475)، في أبواب الطلاق واللعان: باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة (1180)، والنسائي (6/ 209)، كتاب الطلاق: باب الرخصة في خروج المبتوتة وابن ماجه (1/ 565)، كتاب الطلاق: باب المطلقة ثلاثًا هل لها سكنى أو نفقة (2036)، وأحمد (6/ 415).
رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ [الْخُدْرِيُّ] وَأَنْكَرَ خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ.
لم يجعل لها سُكنى ولا نَفَقَة، وقال:"لا نترك كتابَ ربّنا وسُنّة نَبِيّنا لقول امرأة، لا ندري حفظت أو نسيت" رواه مسلم.
"وأنكرت عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر": "إِن المَيِّت ليعذّب ببكاء أهله"؛ كما رواه الشَّيْخَان.
"وأجيب: إنما أنكروا عند الارتياب".
وأنا أقول: الحديثان الأولان من أقوى أدلّتنا؛ إذ انضمام محمد بن مسلمة إلى المغيرة، وأبى سعيد إلى أبي موسى، لا يخرج الخبر عن كونه خبر آحَادٍ، ولقد قبل عمر رضي الله عنه خبر عبد الرحمن بن عَوْف، عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخذ الجزية من المَجُوس
(1)
، ولم يرْوِه غيره.
قال الخطيب
(2)
في كتاب "شرف أصحاب الحديث": ولم يتهم عمر أبا موسى؛ إنما كان يشدّد في الحديث حفظًا للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فقد من يروى مع أبي موسى لاقتصر عليه وعمل بخبره.
وخبر فاطمة قد صرح
(3)
فيه رضي الله عنه بالشَّك، وقضي بأن الكتاب والسُّنة في مقابله، وخبر ابن عمر ظنت عائشة الوهم فيه؛ إذ قَالَت: ما كذب ولكنه وَهِم.
(1)
أخرجه البخاري 6/ 257 في كتاب الجزية والموادعة: باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب (3156، 3157)، وبجالة تابعي مشهور، وهو ابن عبدة، وما له في البخاري سوى هذا الموضع، وأخرجه ابن الجارود (1105)، وأحمد 1/ 190، 194، والدارمي 2/ 234، والبيهقي 9/ 189.
(2)
أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، أحد حفاظ الحديث وضابطيه المتقنين. ولد سنة 392، وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر بن الصباغ، وشهرته في الحديث تغني عن الإطناب. قال ابن ماكولا: ولم يكن للبغدادين بعد الدارقطني مثله. وقال الشيرازي: كان أبو بكر يشبه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه. مات 463. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 240، وطبقات السبكي 3/ 12، ووفيات الأعيان 1/ 76.
(3)
في حاشية ج: قوله: قد صرح. . . . إلخ يفيد أن وجوب العمل به ما لم يقع فيه شك.
وَأَجِيبَ: إِنَّمَا أَنكَرُوا عِنْدَ الاِرْتِيَابِ.
قَالُوا: لَعَلَّهَا أَخْبَارٌ مَخْصُوصَةٌ.
"قالوا: لعلَّها" أي: الأخبار التي عملوا بها "أخبار مخصوصة"، ولا يلزم من قَبُولها قَبُول خبر الواحد مطلقًا.
"قلنا: نقطع بأنهم عملوا لظهورها، لا لخصوصها".
ونرى ذلك أوضح من النهار، فقد انتهض الإجماع قاطعًا على خبر الواحد، فلن يمتري [فيه]
(1)
، [ثم]
(2)
إنه انقرض عصر الصحابة رضي الله عنهم الَّذِين هم عصابة الحَق على العمل بخبر الواحد، وأنهم كانوا ما بين عامل به، وراضٍ بالعمل مسلم له، وأنت متى حَدّقت النظر في كتب المُحَدّثين والفقهاء - حصلت من ذلك على يقين عظيم، وانشرح صدرك لذلك.
وكما انقرض عَصْرهم عليه، ولم يشبه خلاف انقرض عليه أيضًا عصر السَّلف الصَّالح التَّابعين، ومن لحق بهم.
قال الشَّافعي رضي الله عنه: وجدنا علي بن الحُسَين يعوّل على أخبار الآحاد
(3)
.
وكذلك محمد بن علي، ونافع بن جُبَير، وحارثة بن زيد، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يَسار.
ولذلك كان حال طاوس، ومجاهد، وابن المسيب، وفقهاء الأَمْصَار في جميع الأَعْصَار إلى زمان ظهور خارق الإِجماع
(4)
لمخالفته، ومبدى العقوق [بمُشَاققته]
(5)
.
"وأيضًا": السُّنة، فقد قام "التَّواتُر؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان ينفذ الآحاد إلى النواحي لتبليغ الأحكام"، فلو لم يقبل خبرهم لم يكن لإرسالهم معنى.
(1)
بياض في ب، ت، وفي هامش أ: لعله أحد.
(2)
سقط في ح.
(3)
ينظر: الرسالة ص 455، وما بعدها.
(4)
في حاشية ج: قوله: خارق الإجماع
…
إلخ يفيد الإجماع على العمل به كما أنه متواتر تواترًا معنويًا كما تقدم.
(5)
في ح ت مشافقته، وهو تحريف.
قُلْنَا: نَقْطَعُ بأَنَّهُمْ عَمِلُوا لِظُهُورِهَا لا لِخُصُوصِهَا، وَأَيْضًا التَّوَاتُرُ أَنّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُنْفِذُ الآحَادَ إِلَى النَّوَاحِي، لِتبلِيغِ الأَحْكَامِ.
واسْتُدِلَّ بِظَوَاهِرِ مِثْلِ: {فَلَوْلَا نَفَرَ} إلَى قَوْلِهِ: {لَعَلَّهُمْ
…
وهذا الدليل نبَّه عليه الشافعيُّ رضي الله عنه.
واعترض الآمدي بأنا [لا]
(1)
نسلّم أنه عليه السلام كان ينفذ الآحاد، ولكن لم قلتم: إن ذلك لتبليغ الأخبار التي هي مَدَارك الأحكام؛ وإنما كان من ذلك لأخذ [الزّكوات]
(2)
، والفُتْيا ونحوهما.
سَلّمنا: أنه لما ذكرتم، ولكن جاز أنه يكون ثَمَّ قرينة تصيّر الخبر قطعًا، فليس العمل إذ ذاك بمجرد خبر الواحد.
وهذا تشكيك مدفوع، فلا يشك ناقل أن الرسل كانت تذهب لتبليغ الأحكام وغيرها، وأنّ سامع أخبارهم كان يتلقَّاها بالقَبُول غير ملتفتٍ إلى ما يعضد الخبر من قرينة، أو غيرها، ولقد أجاد المصنف في اعتماده على السُّنة والإجماع، فهي طريقة الحُذَّاق: الشَّافعي، والقاضي، وإمام الحرمين، والغزالي، وغيرهم رضي الله عنهم، ونحن نراها مسلكًا قاطعًا وبرهانًا [نيرًا]
(3)
.
واعتمد ابن السَّمعاني على مسلك ادّعى فيه القطع؛ وهو قوله تعالى: {(66) يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67].
وكان عليه السلام رسولًا إلى جميع الخلائق، ويجب عليه تبليغهم بما تنتهي إليه القدرة، ولو لم يقبل خبر الوَاحِد لتعذَّر إبلاغ الشريعة إلى كل الخَلْقِ، ضرورة خطاب جميع أهل الأرض شفاهًا، وإرسالك عدد التَّوَاتر إليهم.
وللآمدي على هذا أيضًا اعتراض فيه نظر.
والمسلك حسن، ولكنه عندى غير بالغ مبلغ القَوَاطع.
الشرح: "واستدلّ بظواهر مثل: {فَلَوْلَا نَفَرَ} [التوبة: 122]، لقوله:
(1)
سقط في ب، ت.
(2)
في ب: الزكاة.
(3)
في أ، ت: تبرأ، وهو تحريف.
{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} {التوبة: 122]، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة: 159]، {إِنَّ
{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة: الآية 122]، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [سورة البقرة: الآية 174]، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ} [سورة الحجرات: الآية 6] ".
"وفيه" أي: في الاستدلال بهذه الآيات "بعد"؛ أن قصاراها إفادة الظَّن، وهو لا يفيد في هذه المسألة.
ولك أن تقول: أما أن كُلّ آية على حدتها لا تنتهي إلى أكثر من الظَّن فمسلّم، ولكن لم قلتم: إنه لا يحصل القَطْع من المجموع، والآيات المذكورة في هذا كثيرة؟ اقتصر المصنّف منها على ما أورده، فنقول: أما بقوله تعالى:
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة: الآية 122]- فوجه الحُجّة منه أنه أوجب الحَذَرَ بإنذار طائفة من كلّ فرقة، وأقلّ الفرقة ثلاثة على أعلى القولين، فهي إما واحد أو اثنان.
والإنذار: الخبر المخوف، فحيث [أخبرت]
(1)
طائفة بخبرٍ مخوف، وجب به الحَذَرُ.
وإنما قُلْنا: إن أوجب الحذر لقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة: الآية 122]؛ فإن لفظ "لعل" للترجى، وهو مستحيل في حق الله - تعالى - فحصل
(2)
على الطَّلب الذي هو لازم التَّرجى.
فإن قلت: هذا مبنى على أن المتفقّهين هم الطائفة النَّافرة حتى يكون الضَّمير في قوله: " {لِيَتَفَقَّهُوا} "، " {وَلِيُنْذِرُوا} " - راجعًا إليها، وهو قول بعض المفسّرين.
وأظهر القولين في التّفسير: أنَّ المتفقّهين هم المُقِيمون لينذروا [النَّافرين]
(3)
إذا عادوا إليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزل الوعيد الشَّديد في حَقّ المتخلفين عن غزوة "تَبُوك" - كان إذا بعث جيشًا أسرع المؤمنون إلى النَّفِيرِ، فأمرهم الله - تعالى - أن ينفر من كلّ فرقة طائفة، ويتخلّف بعضها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع الشرع منه ونقله إلى إخوانهم إذا رجعوا من سفرهم إليهم، وتقدير الآية حينئذ - والله أعلم - {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [سورة
(1)
في أ: أخرت.
(2)
في حاشية ج: قوله: فحمل على الطلب
…
إلخ وهو لطف من الله تعالى حيث طلب بما أصله الترجي. تدبر.
(3)
سقط في ت.
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [سورة الحجرات: الآية 6] وَفِيهِ بُعْدٌ.
التوبة: الآية 122]، خشية ألّا يبقى عند النبي صلى الله عليه وسلم أحد؛ فيفوت المقصود من نقل الشَّرع عنه، فهلا نفرت من كل فرقة منهم ليحصل [المقصدان]
(1)
: غزو النّافرين، وتَفَقُّه الحاضرين.
وإذا كان هذا معنى الآية فلا دليلَ فيها؛ إذ المعنى: ليتفقه الحاضرون، وهم عدد كثير يحصل العلم بخبرهم.
قلت: كذا أوردناه في "شرح المِنْهَاج"
(2)
ولكنّى أقول هنا: قضيّة قولك: لينذر الحاضرون المسافرين أن كلّ حاضر يُنْذر كلّ مسافر؛ لأنّ هذا معنى العموم الذي مَدْلوله كُلّية، لا كُلّ، على ما تقرّر في مكانه.
وإذًا يجب الحَذَرُ بإنذار كلّ حاضر، وإن لم يصاحبه غيره.
فإن قلت: غاية الأمر أنه - تعالى - أمر كل واحد بالإخبار، وهذا لا يتضمّن وجوب قبول المنذرين خبره والعمل به، وكم في الشَّريعة من حكم يختلف في مثل هذا، والشَّاهد إذا تعيَّنت عليه شَهَادة يجب أداؤها، ولم يجز للحاكم قبولها منه حتى ينضم إليه آخر، والمحارب إذا طلب المال، وخاف المطلوب من القَتْلِ - وجب بَذْلُ المال عليه، ويحرم على المحارب قبوله منه.
والرشوة إذا كانت للوصول إلى الحق حَرَام على المُرْتشِي دون الرَّاشي
(3)
.
(1)
في ب: القصدان.
(2)
ينظر: الإبهاج 2/ 301 - 302.
(3)
وأما مذهب السادة الحنفية قال في فتاوى قاضيخان: وإذا ارتشى ولد القاضي أو كاتبه أو بعض أعوانه ليعين الراشي عند القاضي ففعل إن لم يعلم القاضي بذلك نفذ قضاؤه، وكان على المرتشي رد ما قبض، وإن علم بذلك القاضي كان قضاؤه مردودًا. وإذا تقلد القضاء بالرشوة لا يصير قاضيًا، وتكون الرشوة حرامًا على الراشي وعلى الآخذ. ثم الرشوة على وجوه أربع منها: ما هو حرام من الجانبين أحدها هذه.
والثاني: إذا دفع الرشوة إلى القاضي ليقضي له، وهذه الرشوة حرام من الجانبين سواء كان القضاء بحق أو بغير حق.
ومنها: إذا دفع الرشوة لخوف على نفسه أو ماله فهذه الرشوة حرام على الآخذ وغير حرام على الدافع، وكذا إذا طمع في ماله فرشاه ببعض ماله.
ومنها: إذا دفع الرشوة ليسوي أمره عند السلطان، فأحل له الدفع، ولا يحل للآخذ أن يأخذها، فإن أراد أن يحل للآخذ يستأجر الآخذ يومًا إلى الليل بما يريد أن يدفع؛ فإنه تجوز =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هذه الإجارة، ثم المستأجر إن شاء استعمله في هذا العمل وإن شاء استعمله في عمل غيره. هذا إذا أعطي الرشوة أوّلا ليسوي أمره عند السلطان، وإن طلب منه أن يسوي أمره ولم يذكر الرشوة، ثم أعطاه بعدما سوى اختلفوا فيه، قال بعضهم: لا يحل له أن يأخذ. وقال بعضهم: يحل. وهو الصحيح؛ لأنه يراه مجازاة الإحسان فيحل له كما لو جمعوا للإمام والمؤذن شيئًا وأعطوه من غير شرط كان حسنًا.
وقال في الفتاوى البزازية: القاضي لا يقبل هدية الأجنبي والقريب إلا من كان يهدي قبله، وإن زاد يرد الزيادة، إلا أن تكون خصومة فلا يقبل منه أيضًا، فإن قبل وأمكنه الرد رد، وإلا وضع في بيت المال، وكذا في كل موضع ليس له القبول، وإن كان يتأذى به المعطى أخذه ورد عليه قيمته، فإن قضي ثم ارتشى أو عكس لا ينفذ، وإن تاب ورد المأخوذ فهو على قضائه؛ لأنه بالفسق لا ينعزل.
والهدايا ثلاث: حلال من الجانبين للتودد وحرام منهما، وهو الإهداء للإعانة على الظلم، وحرام من جانب، وهو الإهداء لكشف الظلم عنه، فهو حرام على الآخذ حلال للمعطي.
وأما مذهب السادة الشافعية، فقال ابن الرفعة في كفاية النبيه شرح التنبيه عند قوله: ولا يجوز للقاضي أن يرتشي؛ لما روى أبو بكر بن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي)، أخرجه ابن ماجة، وروى ثوبان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:(لعن اللّه الراشي والرائش الذي يمشى بينهما) وروى أنس نحوه. ولأنه إن أخذ ليحكم بغير الحق حرام، والأخذ عليه حرام.
وإن أخذ على إيقاف الحكم فهو يلزمه الحكم لمن وجب له، فتركه حرام، وإن أخذ على أن يحكم بالحق فليس له أن يأخذ الرزق على ذلك من الإمام، فليس له أن يأخذ عليه عوضًا آخر.
أما دفع الرشا فهل يجوز؟ قال الأصحاب كما حكاه أبو الطيب الماوردي وابن الصباغ: إن كان يطلب بها دفع الحكم بغير الحق أو إيقاف الحكم بالحق حرم عليه، وإن كان يطلب بها وصولًا إلى حقه لم يحرم عليه وإن كان حرامًا على غيره، كما لا يحرم أن يفك الأسير بماله قال في المرشد: ويحمل لعنة الراشي والمرتشي على ما إذا قصد بها إيقاف الحكم بالباطل؛ ولذلك قال الله تعالى: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} والمتوسط بينهما هو تابع لموكله منهما، فإن توكل عنهما كان فعله حرامًا. وهذا الكلام من الأصحاب يدل على أن الرشوة تكون لطلب حق ولطلب باطل، وقد حكى عن ابن كج أنه قال: الرشوة عطية بشرط أن يحكم له بغير حق، والهدية عطية مطلقة، وكلام الماوردي يخالفه؛ فإنه قال: الرشوة ما تقدمت الحاجة، والهدية ما تأخرت، والذي حكاه الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء منطبق =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= على الأول؛ فإنه قال: المال إن بذل لغرض آجل فهو قربة وصدقة، وإن بذل لغرض عاجل، فإن كان لغرض مال في مقابلته فهو هبة بثواب مشروط أو متوقع، وإن كان لغرض عمل محرم أو واجب متعين فهو رشوة، وإن كان مباحًا فإجارة أو جعالة، وإن كان للتقرب والتودد للمبذول له، فإن كان لمجرد نفسه فهدية، وإن كان ليتوسل بجاهه إلى أغراض ومقاصد، فإن كان جاهه بعلم أو صلاح أو نسب فهدية، وإن كان بالقضاء والعمل بولاية فرشوة.
قال القاضي أبو الطيب رحمه الله تعالى في تعليقه، وكذا الشيخ أبو حامد: إن تحريم أخذ الرشوة على الحاكم إذا كان له رزق من بيت المال، فأما إذا لم يكن له رزق - أي وكان ممن يجوز أن يفرض فقال للمتحاكمين: لست أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقًا عليه، فإنه حينئذ يحل له ذلك، وعلى ذلك جرى الجرجاني رحمه الله في التحرير. قال ابن الصباغ: ويجوز مثل ذلك؛ لأنه لم يذكر أنه طلبه من أحدهما.
وأما مذهب السادة المالكية فقال في مختصر خليل وشرحه لتلميذه بهرام: (وحرم) يعني طلب القضاء لجاهل وقاصد دنيا؛ لأن الجاهل ربما أداه جهله إلى مخالفة ما هو متفق عليه، والوقوع في الأمور المعضلة، وطالب الدنيا ربما أداه ذلك إلى الحيف لتحصيل غرضه الفاسد.
قال: ولا يحضر يعني القاضي من الولائم إلا وليمة النكاح خاصة ثم إن شاء أكل أو ترك من غير كراهة، وإن كانت الوليمة لغير النكاح فأجيز له الحضور، وكره إلا ما كان من جهة ولده أو والده ونحو ذلك.
وفي النوادر عن أشهب: لا بأس أن يجيب الدعوة العامة وليمة أو صنيعًا عامًا لفرح، فأما أن يدعى مع عامة لغير فرح فلا يجيب وكأنه دعي خاصة؛ إذ لعله إنما صنع ذلك لأجل القاضي، وكذا ليس له قبول هدية ولو كافأ عليها أضعافها، وحمل الأشياخ قول ابن حبيب:"لم يختلف العلماء في كراهة قبول الهدية وهو مذهب مالك وأهل السنة" على المنع، وسواء كان المهدي ممن له عند القاضي خصومة أو لا. وقاله مطرف وابن الماجشون، وقال ابن عبد الحكم: له أن يقبل ممن لا خصومة له عنده، وقال أشهب: لا يقبلها من غير من يخاصم عنده إلا أن يكافأه عليها من قريب كولده ووالده وأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه وخاله وخالته وعمته وبنتها، ومن لا يدخل عليه به ظنه الشدة الداخلة والمنافية بينهما وكذلك ذكر محمد بن سحنون عن أبيه، ونحوه في الموازنة، وفي هدية من اعتادها قبل الولاية قولان: يريد جواز قبول القاضي الهدية ممن كانت عادته ذلك قبل الولاية وعدم جوازه، والجواز لابن عبد الحكم، وقال مطرف وعبد الملك: لا ينبغي ذلك، وهو محتمل للمنع والكراهة.
وقال العلامة جلال الدين عبد الله بن شاش في كتابه عقد الجواهر الثمينة في آداب القاضي: ولا يقبل الهدية ممن له خصومة ولا ممن ليس له خصومة، ولو كان ممن يقبلها منه قبل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلت: هذا [يدفعه]
(1)
قوله: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة: الآية 122]؛ فإنه يدلّ على طلب الحذرية، ولو كان كما ذكر لم يجب الإصغاء إلى قوله وتصديقه حتى يحذروا.
وفي الآية مباحث أُخر يطول ذكرها.
وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} ؛ فلأنه - تعالى - تواعد على كِتْمَان ما أنزل من البَيِّنات والهدى، وما يسمعه الوَاحِدُ من النبي صلى الله عليه وسلم من جملة البَيّنات والهدى، فيجب العمل به، وإلا لم يكن لإخباره فائدة.
= الحكم أو كافأ عليها أضعافها إلا من ولده أو والده ومن أشبههم من خاصة القرابة؛ فإن قبلها فهو سحت. انتهى.
وأما مذهب السادة الحنابلة فقال في شرح الإقناع العلامة الشيخ منصور البهوتي رحمه الله تعالى: ويحرم على القاضي قبول رشوة - بتثليث الراء - لحديث ابن عمر - رضي الله تعالى - عنهما: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي. قال الترمذي: حسن صحيح. ورواه أبو بكر في زاد المسافر، وزاد: الرائش: وهو السفير بينهما، وهي أي الرشوة ما يعطي بعد طلبه لها، ويحرم بذلها من الراشي ليحكم له بباطل، أو يدفع عنه حقه. وإن رشاه ليدفع عنه ظلمه ويجريه على واجبه فلا بأس به في حقه، قال عطاء وجابر بن زيد والحسن: لا بأس أن يصانع عن نفسه؛ ولأنه يستفيد ماله كما يستفيد الرجل أسيره، ويحرم قبوله أي القاضي هدية؛ لما روى أبو سعيد قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فقال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي؟ ألا جلس في بيت أبيه فينظر أهدي إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا نبعث أحدًا منكم فيأخذ شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه فقال: اللهم بلغت .. ثلاثًا. وقال كعب الأحبار: قرأت فيما أنزل الله تعالى على أنبيائه: الهدية تفقأ عين الحكم. بخلاف مفت فلا يحرم عليه قبول الهدية، وهي - أي الهدية - الدفع إليه ابتداء من غير طلب، وظاهره أنه يحرم على القاضي قبول الهدية ولو كان القاضي في غير عمله؛ لعموم الخبر، إلا ممن كان يهدى إليه قبل ولايته، إن لم يكن له أي المهدى حكومة لأن التهمة منتقية لأن المنع إنما كان من أجل الاستمالة أو من أجل الحكومة، وكلاهما منتف أو كانت الهدية من ذي رحم محرم منه أي من الحاكم؛ لأنه لا يصح أن يحكم له. هذا واضح في عمودي نسبه، دون من عداهم من أقاربه، مع أنه يحتمل أن يهدى لئلا يحكم عليه.
(1)
في ح: لا يدفعه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولك أن تقول: فائدة وجوب الإخبار أنه [ينضمّ]
(1)
خبر الآحاد بعضها إلى بعض، فيحصل جمع عظيم يوجب خبرهم العلم الموجب للعمل، لا أنه يعمل بخبر كلّ واحد بمفرده، ونحن إنما دفعنا هذا السّؤال في الآية؛ لقوله:{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة: الآية 122].
وأما هنا فإنه متجه.
وأما قوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [سورة الحجرات: الآية 6]، فدلالتها واضحة من مفهومي [الصّفة]
(2)
والشرط، وعليها اعتمد شيخنا أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه كما ذكر القاضي.
ولعلّ الشيخ ضَمَّها إلى غيرها ليحصل القطع له، وإلّا فهي بمجرّدها لا تقيد القطع لا سِيَّما، وهو من منكرى المفاهيم.
ومن الآيات: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [سورة البقرة: الآية 143]، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة الأنبياء: الآية 7]، {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [سورة النساء: الآية 135]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران: الآية 110].
وممن ذكر هذه الآيات كلّها، وافتتح بقوله:{فَلَوْلَا نَفَرَ} أبو بكر الصَّيرفيّ، في كتاب "خبر الواحد".
وحكى المَازِرِيّ استدلال بعضهم بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [سورة التوبة: الآية 61] والأُذُن: هو الذي يَسْمَعُ كل ما يقال له، وقد جعل الله ذلك خيرًا لنا.
والأحاديث كثيرة، ومن أوضحها قوله صلى الله عليه وسلم لأم سَلَمَةَ:"أَلا أَخْبَرْتِيهِ أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمُ؟ "
(3)
، وكان الرجل بعث زوجته إلى أم سلمة لتسألها، فلولا أن قبوله لخبر زوجته،
(1)
في ب: يتضمن.
(2)
في ب: الصيغة.
(3)
أخرجه مسلم (3/ 137)، والبيهقي (4/ 234) من حديث عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل هذه - لأم سلمة - فأخبرته أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك. =
قَالوا: {وَلَا تَقْفُ} [سورة الإسراء: الآية 36]{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [سورة النجم: الآية 23] وَقَدْ تَقَدَّمَ وَيَلْزَمُهُمْ أَلَّا يَمْنَعُوهُ إِلَّا بِقَاطِعٍ.
وتعويله على خبر الوَاحِدِ كان مشهورًا عندهم - لما بعث زوجته، ولما قال عليه السلام:"أَلا أَخْبَرْتِيهِ؟ ".
وكذلك حديث علي في المَذْي
(1)
، وإرساله المِقْدَاد
(2)
ليسأل له النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من أحاديث يفيد مجموعها [القَطْع]
(3)
.
ومنها: أحاديث كثيرة في "الصحيحين"، وَكُلُّ ما في "الصحيحين" مقطوع عندنا بصحّته، فما ظنك به إذا تعددت طُرُقه؟.
الشرح: "قالوا: {وَلَا تَقْفُ} [سورة الإسراء: الآية 36]، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [سورة النجم: الآية 23] ".
= وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 345) وأحمد (6/ 291، 320)، عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني وهو صائم. وللحديث شاهد عن عائشة بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم.
أخرجه البخاري (1/ 480)، ومسلم (3/ 135)، وأبو داود (2382)، والترمذي (1/ 141)، وابن ماجه (1687)، والطحاوي (1/ 346)، والشافعي في مسنده (1/ 261)، وابن خزيمة (1998)، والبيهقي (4/ 230)، وأحمد (6/ 42، 216، 230).
(1)
أخرجه البخاري 1/ 277، كتاب العلم: باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال (132)، وباب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين (178)، وفي (1/ 450)، كتاب الغسل: باب غسل المذي (269)، ومسلم المصدر السابق (17/ 303).
(2)
المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود، البهراني الكندي، أبو الأسود الزهري، المعروف بالمقداد بن الأسود، أسلم قديمًا، وشهد بدرًا والمشاهد، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه: علي وأنس وسليمان بن يسار وغيرهم. ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين عبد الله بن رواحة. وعن عبد اللّه بن مسعود: أول من أظهر إسلامه سبعة، فذكره فيهم. قال خليفة بن خياط وغير واحد: مات سنة ثلاث وثلاثين وهو ابن سبعين سنة بـ "الجرف".
ينظر: طبقات ابن سعد 9/ 188، والعبر 1/ 34، وسير الأعلام 1/ 385، وشذرات الذهب 1/ 39، وتجريد أسماء الصحابة 2/ 92، وتهذيب الكمال 3/ 1368، والثقات 3/ 371.
(3)
سقط في ت.
قَالُوا: تَوَقَّفَ عليه الصلاة والسلام فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ حَتَّى أَخْبَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما.
"وقد تقدم" الجواب عنه في المسألة المتقدّمة، "ويلزمهم" من التمسُّك بالآيتين "ألّا يمنعوه إلا لقاطع"؛ لأن الآيتين دلّتا على نَفْى التمسُّك بما لا يفيد العلم، فلا يمنع العلم بخبر الواحد بهما؛ إذ هما لا يفيدان القطع، كذا ذكره المصنّف.
والحقّ: أنه لا يلزمهم؛ لأن الأصل أنه لا يثبت حكم إلا بحجّة، والحُجّة لا تثبت إلا من ناحية العلم فهم متمسّكون بالأصل، ما لم ينقل عنه دليل يصحّ به الحُجّة، وهذا ذكره ابنُ السَّمعاني في "باب المَرَاسيل" جوابًا فنقلته أنا إلى هنا.
"قالوا: توقّف" رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر ذي اليَدَيْنِ"
(1)
؛ حيث قال: "أَقُصِرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ؟، وقال: أَكَمَا يَقُولُ ذُو اليَدَيْنِ؟ "؛ "حتى أخبره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما" - وهذا متفق على صحته.
"قلنا: غير ما نحن فيه"، كذا بخط المصنّف.
ووجه المُغَايرة: أنه ليس كلامنا فيما إذا أخبر واحد عن نَجَاسَةِ ثوبه، أو عدد الركعات التي صَلَّاها، ونحو ذلك، فإن هذا لا أثر لخبر الواحد فيه.
وعندنا: لو أخبر المصلّى بأنه لم يصلّ أربعًا، وأن ثوبه متنجّس، ونحو ذلك - لم يلتفت إلى خبر المخبر ما لم يتذكر.
قال أصحابنا: ولو وصل عدد المخبرين إلى عدد التواتر.
وما ذكرته في توجيه المغايرة شئ أنا أرْتضيه، ولم أجده لغيري، فاعتمد عليه.
"وإن سلّم" أنه مما نحن فيه، "فإنما توقّف" - عليه - "السَّلام - في خبر ذي اليَدَيْنِ "للريبة بالانفراد، فإنه ظاهر في الغَلَطِ"، فإن انفراد ذي اليَدَيْنِ بمعرفة [ذلك]
(2)
دون الحاضرين بعيد، ولم يخبر به ابتداء غيره، وكان في القوم الشَّيخان وغيرهما، وذلك يوهم
(1)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 94، كتاب المساجد: باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيًا، وأخرجه البخاري 3/ 166، كتاب السهو: باب إذا سلم في ركعتين (1227)، ومسلم 1/ 403 - 404، كتاب المساجد: باب السهو في الصلاة والسجود له (99/ 573).
(2)
سقط في ت.
قُلْنَا: غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَإنْ سُلِّمَ فَإنَّمَا تَوَقَّفَ لِلرِّيبةِ بِالاِنْفِرَادِ فَمِالَّهُ ظَاهِر فِي الْغَلَطِ، وَيَجبُ التَّوَقُّفُ في مِثْلِه.
[قَالَ] أبُو الْحُسَيْنِ: الْعَمَلُ بِالظَّنِّ فِي تَفَاصِيلِ الْمَعْلُومِ ....
أنه غالط، وخبر الواحد إذا ظهرت فيه أمارات الوَهْمِ - لم يعمل به، "ويجب التوقف في مثله".
كيف وعمله عليه السلام بخبر أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما مع ذي اليدين عمل - بخبر لم ينته إلى التواتر، وهو محل النزاع، وفي تسليمه تسليم المَطْلُوب.
ومنهاج أصحابنا لا يقتضي تَسْلِيمَ، أنه عليه السلام عمل في هذه القضيّة بالخبر ألبتة، وإنما يحملون القضية على أنه عليه السلام تذكَّر.
نعم ابن الحاجب مالكى، ومن أصله رجوع المصلّى [إلى المخبرين، فلا يتعجب منه في دعواه الرجوع]
(1)
- إلى الخبر؛ إنما العَجَبُ من غيره من شافعية الأصوليين.
الشرح: واحتج "أبو الحسين" على وجوب العمل بخبر الواحد عقلًا، فقال: "العمل بالظَّن في تفاصيل [المعلوم]
(2)
الأصل واجب عقلًا" أي إذا علم أصل كلّي؛ كدفع المَضَارّ، وَجَلْبِ المَنَافع - وجب عقلًا العمل بالظَّن في تفاصيل ذلك الأصل المعلوم؛ "كالعدل" بخبر "في مضرّة شيء" مخصوص، "وضعف حائطِ"، ويجب عقلًا الاحتراز عن ذلك، "وخبر الواحد كذلك؛ لأن الرّسول" صلى الله عليه وسلم "بعث للمصالح" يبينها، "فخبر الواحد تفصيل لها" كذا بخطّه تفصيل فيجب العمل به عقلًا، "وهو مبنيٌّ على التحسين".
"سلّمنا": قاعدة التَّحْسِين والتقبيح تنزيلًا، "لكنه لم يجب في العَمْلِيّات، بل أولى"؛ لأننا إذ ظننا صِدْقَ المخبر فيما ذكر كان العمل بخبره أولى؛ كالثِّقَةِ بخبر المسافر بأن أحد الطريقين مخوف، فالعدول عن المخوف أولى، أما أنه واجب فلا.
"سلّمنا" وجوبه في العقليات، "ولا نسلِّمه في الشرعيات"؛ وذلك لجواز أن يكون خصوصية إحدى الصورتين معتبرة في العلّة، أو مانعة.
(1)
سقط في ح.
(2)
في ح: العلوم.
الأَصْلُ وَاجِبٌ عَقلًا كَالْعَدْلِ فِي مَضَرَّةِ شَيْءٍ وَضعْفِ حَائِطٍ. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ كَذَلِكَ لأِنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ لِلْمَصَالِحِ فَخَبَرُ الْوَاحِدِ تَفْصِيلٌ لَهَا وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحسِينِ.
سَلَّمْنَا لَكِنَّهُ لَمْ يَجِبْ فِي الْعَقلِيَّاتِ بَلْ أَوْلَى.
سَلَّمْنَا وَلا نُسَلِّمُهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ.
سَلَّمْنَا وَغَايَتُهُ قِيَاسٌ ظَنِّيٌّ فِي الْأُصُولِ.
ويوضح ذلك أن الفاسق والصَّبي قد يظن
(1)
صدقهما، ومع ذلك لا يعمل بخبر هما في الشَّرعيات مع وجدان الوصف الجامع فيه.
"سلمنا: وغايته قياس ظَنِّي في" إثبات أصل من "الأصول" - وهو وجوب العمل بخبر الواحد عقلًا في الشرعيات، والظَّني لا يثبت به الأصول.
وهذه الأجوبة ذكرها الآمدي بحثًا، وهي تتّجه بعد تسليم التَّحسين.
أما الأول: فإنه متى سلّم وجب سلوك الطريق الآمن عقلًا.
وقد قال أبو الحسين: العقلاء يذمّون من استمر جالسًا تحت حائط أخبر باستهدامه، ولا ذَمَّ إلَّا على واجبٍ.
وأما الثاني: فالأصلُ عدم النَّظر إلى الخصوصية - وإن احتملت - ولذلك لا ينظر إليها في الشَّرعيات مع قيام الاحتمال، فإنه إذا قيل: الخمر محرّمة؛ [لإسكارها احتمل أن يكون العلَّة]
(2)
إسكارها الخاصّ، ولا نظر إليه.
وأما الفاسقُ والصَّبي إذا ظن صدقهما، فقد يلتزمهما المعتزلي، ويوجب العمل بخبرهما، إذا صحبه الظَّنُّ بطريق من الطرق، أو يفرق بأن الفِسْقَ والصّبا مانعان.
وأما الثالث: فهو وإن كان قياسًا ظنّيًّا إلا أنه الرَّاجح، والعمل بالراجح واجبٌ بالتقرير المعروف.
والأوجه عندي في الجواب - بعد تسليم التَّحسين - أنَّ خبر [الواحد]
(3)
إنما يعمل به فيما ذكر من الجُلُوس تحت حائطٍ مستهدم ونحوه؛ لأن الجلوس مع ظَنّ صدق المخبر
(1)
في حاشية ج: قوله: قد يظن
…
إلخ. تأمله؛ فإن في الفروع ما يخالفه.
(2)
سقط في ح.
(3)
في ح: الواجب.
قَالُوا: صِدْقُهُ مُمْكِنٌ فَيَجِبُ احْتِيَاطًا.
يحتمل المفسدة احتمالًا مظنونًا، وعدم الجلوس خالٍ عن ذلك يفينًا؛ فكان سلوكه متعينًا.
أما خبر الواحد من الشَّرعيات فإن العملَ به قد لا يخلو عن المَفْسدة؛ لاحتمال كذبه، ومع كذبه فالعمل بمضمون خبره مفسدة؛ وذلك لأن الشَّرع عندهم يبين المصالح [والمفاسد]
(1)
، فالمخبر به إنما يكون مصلحةً على تقدير صدق المخبر، وقد عارض صدقه احتمال كذبه، وإن كان مرجوحًا، وهو يمنع عمله خوفًا من الوقوع في المَفْسَدَةِ، ولا يلزم ذلك في الجلوس تحت الحائط، وسلوك الطَّريق المخوف ونحوهما؛ إذ ليس في الخلوّ عنهما شيء من احتمال المفاسد.
الشرح: "قالوا" - أي: المعتزلة أيضًا في الاستدلال على خبر الواحد - "صدقه ممكن، فيجب" العملُ به "احتياطًا".
قلنا: لا نسلّم أن الاحتياط العمل به؛ وهذا لأن [احتمال]
(2)
الكذب قائم، والعمل به مع ذلك خطر.
[وتقريره]
(3)
: ولو تَمّ لكم الاحتياط، لوجب العمل بخبر الفاسق والكافر.
وهذا جواب جيد نصّ عليه القاضي في كتاب "التقريب"، وقال: لا جواب عنه.
ولم يذكره الآمدي ولا المصنّف [وسلَّمَا]
(4)
الاحتياط، وقالا ما [تقريره]
(5)
: إن الاحتياط وإنْ كان مناسبًا، ولكن لا بد له من شَاهِدٍ بالاعتبار يكون أصلًا له، ولا شاهد له سوى خبر التواتر، وقول الواحد في الفتوى والشَّهَادة.
"[قلنا]: إن كان أصله المتواتر فضعيف"؛ لأن المتواتر يفيد العلم، فلا يلزم من إفادته لوجوب العمل إفادة الخبر الظَّني له.
وقد اعترض أبو الحُسَين في "المعتمد" بكلام ضعيف فقال: نفسده بإقامة القاطع على وجوب العمل بخبر الواحد.
(1)
في أ، ت: المقاصد.
(2)
في ت: الاحتمال.
(3)
في ب: وتقدير.
(4)
في ح: وسلمنا.
(5)
في أ، ت، ح: تقديره، وهو تحريف.
قُلْنَا: إِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْمُتَوَاتِرَ، فَضَعِيفٌ، وَإنْ كَان الْمُفْتِيَ، فَالْمُفْتِي خاصٌّ، وَهَذَا عَامٌّ. سَلَّمْنَا لَكِنَّهُ قِيَاسٌ شَرْعِيٌّ.
ولك أن تقول: فإذن أنت يا أبا الحسين مسلّم أن هذا لا ينتهض دليلًا على مطلوبك، وهو مفتقر إلى قاطع، والقاطع إذا انتهض، كنا في [غُنْيَةٍ]
(1)
عن هذا.
"وإن كان" أصله "المفتي" أو الشَّاهد، "فالمفتي" أو الشَّاهد "خاصّ وهذا عام؛ لأن العمل بهما في المستفتي والمشهود عليه فقط، ولا يتعدّى إلى كلّ واحد، بخلاف الرواية؛ فإنها تشمل جميع الخلق.
لا يقال: فأصل شرعية الفتوى والشَّهادة أيضًا يقتضي شرعًا عامًا؛ لأنا نقول: الرِّواية تشملُ جميع المكلّفين، والفتوى ليست حجة على المجتهدين، فكان عمومها أقلّ من الرواية، وقد قاس كثيرون خبر الواحد على الفَتْوَى والشَّهادة.
وهو قياسٌ مع إيضاح الفرق، وسأبدي في دلائل المسألة فرقًا لائحًا غير هذا.
وقال القاضي في "التقريب": لا أختار لك التمسُّك به، إذ الفتوى والشَّهادة ثبتا بقاطع - أي: وقياس الرواية عليهما قصاراه - إن صح وبطل الفارق - أمارة الظن فلا يصح.
أما أولًا: فلأنه لا يكتفي بالظَّن في مسائل الأصول.
وأما ثانيًا: فلأن الفَرْعَ حينئذ غير مساوٍ للأصل؛ إذ هو مظنون، والأصل مقطوع، فلا ينهض القياس.
هذا ما خطر لي في تقرير كلام القَاضِي - وإلى الأول أشار بقوله:
"سلّمنا"، ولكنه قياس ظَنِّي - أي: والظَّن لا ينفع هنا
وعلى ذلك قرره بعض الشَّارحين، وهو الذي ذكره الآمِدِيّ.
وفي نسخة المصنّف "قياس شرعي"، وعليها اعتماد أكثر الشارحين.
وذكروا في تقريره: أن المقيس عليه، وهو المتواتر [والمُفتى]
(2)
- حكم شرعي ثبت بدليل شرعي، ومطلوب المستدلّ إثبات حجية خبر الوَاحِدِ بالعقل، فلا يتأتى له القياسُ.
(1)
في أ: غيبة، وهو تحريف.
(2)
في ب: المعنى.
قَالُوا: لَوْ لَمْ يَجِبْ لَخَلَتْ وَقَائِعُ.
وفيه نظر؛ لأن القائل بالعَقْلِ يوجب الاعتماد على المفتى بالعقل أيضًا، فلم يقس إلا عقليًّا على عقلي في معتقده.
الشرح: "قالوا": في الاستدلال على وجوب العمل بخبر الواحد أيضًا
(1)
: "لو لم يجب لخلت وقائع" عن حكم الله تعالى؛ لأنَّ القطعيات غير وَافِيَةٍ بضبط الحادثات، وخلوّ واقعة عن حكم الله - تعالى - لا سبيل إلى القول به.
"ورد بمنع الثَّانية"، وتجويز خلوّ بعض الوقائع عن حكم.
قال الآمدي: وذلك عند فقد الدَّليل بعد تطلُّبه.
وقد يستشهد لخلوّ بعض الوقائع بما ذهب إليه إمام الحرمين، من أنه لا حكم على من توسّط جمعًا من الجَرْحَى، وعلم أنه لو بقي على صَدْرِ واحد منهم لهلك، ولو انتقل عنه لم يجد موضع قدم إلا بدن رجل.
ونظائرُ هذا كثيرة، نجدها في كل مفسدتين تَسَاوَيَا من كل وجه - وربما ذكر الأصحاب فيها لفظ التَّخيير، وهو ما ذكره الغَزَالي في الولى لا يجد من اللَّبَن إلا [ما]
(2)
يسدّ رمق أحد رضيعيه، ولو قسم عليهما ماتا، وإن أطعم أحدهما مات الآخر.
والمرادُ بالتَّخيير: أنه لا حكم أيضًا؛ إذ لا تكليف؛ لأن الله شرع التخيير بخصوصه.
واعلم أن هذا المَنعْ لا ينقدح، والصَّواب عندي أن لله سبحانه وتعالى في كلّ واقعة حكمًا معينًا، وكل ما يورد من الصّور، فنحن نقول لله - تعالى - فيه حكم، ونحن لم نطّلع عليه، ومن توسَّط جمعًا من الجَرْحَى لم يطّلع على الراجح منهم من المرجوح، وإن كان اللّه - تعالى - حكم في نفس الأمر بذلك.
(1)
وليس لقائل أن يقول: غاية ما ذكرتموه إنما يدل على جواز العمل بخبر الواحد لا الوجوب الذي هو محل النزاع؛ لأنه وإن سلم أنه لا يدل إلا على الجواز فيلزم المطلوب أيضًا؛ لعدم القائل بالفصل؛ إذ كل من قال بالجواز قال بالوجوب سمعًا، وإن اختلفوا في وجوبه عقلًا كما تقدم، أو لأن كل من قال بالجواز العقلي قال إما بوجوب العمل به، وإما بحرمته، وإذا انتفت الحرمة للجواز تعين الوجوب. ينظر: الشيرازي 250 أ/ خ.
(2)
سقط في أ، ت.
وَرُدَّ بِمَنْع الثَّانِيَةِ، سَلَّمْنَا لَكِنَّ الْحُكْمَ الْنَّفْيُ وَهُوَ مَدْرَكٌ شَرْعِيٌّ بَعْدَ الشَّرْعِ.
شُرُوطُ العَمَلِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ
الشَّرَائِطُ: مِنْهَا: الْبُلُوغُ لاِحْتِمَالِ كَذِبِهِ؛ لِعِلْمِهِ بِعَدْمِ .............
ولو قال قائل: إن حكم الله - تعالى - في المتوسّط التخيير، أو أنه يستمرّ على من وقع عليه، ولا يتعدّاه - لكان في محلّ الاجتهاد.
ولولا أنّ الآمدي قرر الدَّليل على الوجه الذي أبديناه من لزوم خلوّ الواقعة عن حكم الله - تعالى - فاحتجنا أن ننزل كلام المصنّف عليه - لقررته أنا على أنه يلزم خلو الواقعة عن أن يفتى فيها بشيء.
وإن كانت محكومًا فيها في نفس الأمر لعدم الاطلاع على ما هو المحكوم به، فربّ محكوم فيه لم يطلع النَّاظر بعد شدة الفَحْصِ عليه.
نعم لو اجتمعت الأمة على تطلُّب حكم الباري - سبحانه - في مسألة، فالذي نراه أنه لا يخفى عليهم؛ إذ على كل مسألة أمارة، والأمّة لا تجتمع في الخطأ في إصابتها.
وإذا قرر الدَّليل على هذا الوجه، يجاب فيه بالمَنْع، فرب مسألة لا يفتى فيها بشيء لازدحام الآراء.
"سلّمنا" أنه لا يجوز خلوّ واقعة عن حكم، "لكن الحكم" - والحالة هذه - "النفي".
وقوله: "وهو مدرك شرعي بعد الشَّرع" - جواب عن سؤال تقديره: أن يقال: عدم الحكم ليس حكمًا شرعيًا؛ لاستناده إلى عدم الدَّليل، فأجاب بأنه بعد ورود الشَّرع صار شرعيًّا؛ إذ حكم الشَّرع في مثله عدم الحكم.
وعندي في هذا الجواب وَقْفَةٌ.
(1)
الشرح: "الشَّرَائطُ" لوجوب العمل بخبر الوَاحِدِ - "منها".
(1)
في حاشية ج: قوله: "وقفة" لعلها بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} مع ضميمة {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
…
} الآية.
التَّكلِيفِ، وَإجْمَاعُ الْمَدِينَةِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الدِّمَاءِ قَبْلَ
"البلوغ"
- اشترطه الأكثرون - "لاحتمال كذبه
(1)
، لعلمه بعدم التكليف"، فإنه إذا عرف أنه غير مؤاخذ بالكذب، لم يَزَعْهُ عن ارتكابه وَازعٌ؛ ولأن الصَّحابة - رضي الله تعالى عنهم - لم يقبلوا إلا خبر بالغ؛ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجهز من رسله إلّا بالغًا.
وقد قلنا: إنّ المعتمد في ثبت خبر الواحد على هذين المسلكين، والذاهب إلى قَبُول خبر الصّبي [متجرّئ]
(2)
على الإجماع قبله.
وذهب القاضي إلى أن المسألة ظنية - وخالفه إمام الحرمين إلى أنها قطعية.
وقول المصنّف: لعلمه بعدم التكليف يؤخذ منه اشْتِرَاط التَّكليف، فيخرج المجنون، ومن يَفِيقُ يومًا ويجنُّ يومًا، لا يقبل أن أثر الجنون في زمان إفاقته.
وأما "إجماعُ "المدينة" على قَبُول شَهَادَة الصِّبيان بعضهم على بعض في الدّماء قبل تفرقهم" فإنه عند ابن الحاجب "مستثنى لكثرة الجِنَايَةِ بينهم منفردين"، فمسّت الحاجة إلى ذلك، وابن الحاجب مالكي، فجرى في هذا على أصله، واحتاج إلى دعوى الاستثناء.
وأما نحن فلا موقع عندنا لهذا السؤال؛ لأنا لا نقبل شَهَادَةَ الصِّبيان أبدًا.
وما يقال: من إجماع أهل "المدين" لا أصل له.
ونظرت بعض كتب المالكية، فلم أجد فيها ادعاء إجماع "المدينة".
وغاية ما نقلوه عن عليّ ومُعَاوية، وعروة بن الزبير
(3)
، وشريح، وعمر بن
(1)
ينظر: البرهان 1/ 612، والمستصفى 1/ 156، والمعتمد 2/ 379، والإحكام 2/ 64، وأصول السرخسي 1/ 346، وتيسير التحرير 3/ 41، وفواتح الرحموت 2/ 39، والتمهيد للإسنوي (3)، وحاشية البناني 3/ 146، ونشر البنود 2/ 46، ومنتهى السول 76، وشرح التنقيح (358)، وشرح الكوكب 2/ 379، وإرشاد الفحول 2/ 379 والمختصر لابن اللحام (84)، والإبهاج 2/ 311، وإحكام الفصول 362.
(2)
في ح: مجترئ.
(3)
عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، أبو عبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة وأحد علماء التابعين، وقال الزهري: عروة بحر لا تدركه الدلاء، مات سنة اثنتين وتسعين، وقيل غير ذلك. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 2/ 927، وتهذيب التهذيب 7/ 180، (357)، وتقريب التقريب 2/ 19، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 226، والكاشف 2/ 262، وتاريخ=
تَفَرُّقِهِمْ مُسْتَثْنى؛ لِكَثْرَةِ الْجِنَايَةِ بَيْنَهُمْ مُنْفَرِدِينَ، وَالرِّوَايَةُ بَعْدَهُ وَالسَّمَاعُ قَبْلَهُ مَقْبُولَةٌ
عبد العزيز
(1)
، وهَيْهَات أن يثبت ذلك.
وقد قال ابن حَزْمٍ: ما نعلم أحدًا قبل مالك قال بمقالته، ولو سلم إجماع "المدينة"، فهو عندنا غير حُجّة.
واختلف أصحابنا في قبول الصَّبي في هلال "رمضان"، وإخباره بنجاسة أحد الإناءين، وصحّة [بيع]
(2)
الاختيار
(3)
، ووصيّته، ................................
= البخاري الكبير 7/ 31، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 2/ 434، والجرح والتعديل 6/ 2207، والبداية والنهاية 9/ 101، وطبقات ابن سعد 9/ 132 والحلية 2/ 176.
(1)
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي، أبو حفص، الحافظ أمير المؤمنين، روى عن أنس وعبد الله بن جعفر وابن المسيب، وعنه أيوب وحميد والزهري وخلق. قال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذة ولي في سنة تسع وتسعين. ومات سنة إحدى ومائة. قال هشام بن حسان: لما جاء نعي عمر قال الحسن البصري: مات خير الناس. فضائله كثيرة رضي الله عنه. ينظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 7/ 475، (790)، وتقريب التهذيب 2/ 59، 60، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 274، والجرح والتعديل 1/ 663، وثقات 5/ 151، وطبقات الحفاظ 46، الحلية 5/ 254، وتراجم الأحبار 2/ 536، والبداية 9/ 192، وطبقات ابن سعد 5/ 330، 9/ 142.
(2)
سقط في ب.
(3)
في حاشية ج: أي اختيار وليه له هل يحسن البيع أو لا. قلت: العاقد يشمل البائع والمشتري، ويعتبر فيهما لصحة البيع التكليف، فلا ينعقد بعبارة الصبي والمجنون لا لنفسهما، ولا لغيرهما، سواء كان الصبي مميزًا أو غير مميز، وسواء باشر العقد بإذن الولي أو بدون إذن الولي، ولا فرق بين بيع الاختبار وغيره على ظاهر المذهب وبيع الاختبار هو الذي يمتحنه به الولي ليستبين رشده عند مناهزة الحلم، وعن بعض الأصحاب تصحيح بيع الاختبار.
وقال أبو حنيفة: إن كان مميزًا وباع واشترى بغير إذن الولي انعقد موقوفًا على إجازته، وإن باع بإذنه نفذ. ووافقه أحمد على أنه ينعقد إذا كان بإذنه.
لنا: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ عن الصَّبي حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَن النَّائِمَ حَتَّى يَسْتَيْقِظ وَعِن المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ". وجه الدلالة من هذا الحديث أنه لو صح البيع منه لزم منه وجوب التسليم على الصبي، والمجنون، وقد صرح الحديث أنه لا يجب عليهما شيء، وقيل: وجه الدلالة إسقاط أقوالهما وأفعالهما.
كَالشَّهَادَةِ، وَلقَبُولِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهما فِي مِثْلِهِ، وَلإِسْمَاعِ الصِّبْيَانِ.
وتَدْبِيره
(1)
، وأمانه، وإسلامه، ووجوب رَدّ السَّلام عليه إذا أسلم، وإذنه في دخول الدار، وسقوط حق الشَّفيع إذا أخبره بالبيع
(2)
، فسكت عن الطَّلب، وشهادة الصبيان بأن فلانًا قتل فلانًا.
(1)
لغة: الإعتاق عن دبر، وهو ما بعد الموت، وشرعًا: تعليق العتق بالموت، والمطلق منه ما علقه بمطلق موته، والمقيد أن يعلق بصفة على خطر الوجود، وأيضًا التدبير: استعمال الرأي بفعل شاقّ، وقيل: النظر في العواقب بمعرفة الخير. ينظر: المغرب 1/ 381، والمطلع (315)، ومغني المحتاج 4/ 509.
(2)
الشفعة بمعني طلبها على الفور، بعد علم الشفيع بالبيع، ولو بإخبار ثقةٍ حرٍ، أو عبدٍ، أو امرأةٍ؛ لأن خبر الثقة مقبول وإن تأخر التملك؛ لأنها حق ثبت لدفع الضرر، فكان فوريًّا كالرد بالعيب، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ" أي تفوت بترك المبادرة، كما يفوت البعير الشرود عند حلّ العقال، إذا لم يبادر إليه صاحبه.
وقيل: تمتد ثلاثة أيام، فإنها قد تحتاج إلى نظر وتأمل، فتقدر بثلاث، كخيار الشرط؛ لأن التأبيد يضر بالمشتري، والمبادرة تضر بالشفيع؛ لعدم تمكنه من النظر في الأحظ، فينظر بالثلاثة. وقيل: تمتد مدة تسع التأمل في مثل ذلك الشقص .. وقيل: على التأبيد ما لم يصرّح بإسقاطها، أو يعرض به، كـ"بعه" لمن شئت، فيبادر وجوبًا بعد علمه بالبيع، من غير فاصل على العادة بالطلب أو بالرفع إلى الحاكم، ولا يكلّف المبادرة على خلافها بعدد ونحوه، بل يرجع فيه إلى العرف، فما عدّه توانيًا وتقصيرًا كان مسقطًا، وما لا فلا. فإن لم يعلم كان على شفعته وإن مضى سنون، فإن أخر طلب الشفعة بلا عذر بطلت شفعته لتقصيره، فإن كان مريضًا أو محبوسًا ولو بحق، وعجز عن الطلب بنفسه، أو غائبًا عن بلد المشتري، بحيث تعدّ غيبته حائلًا بينه وبين مباشرة الطلب، أو خائفًا من عدو، أو إفراط برد أو حرّ، وجب عليه التوكيل في الطلب إن قدر عليه؛ لأنه الممكن، وإن عجز عنه وجب عليه أْن يشهد على الطلب رجلين أو رجلًا وامرأتين، أو واحدًا ليحلف معه، قياسًا. على الرد بالعيب. فإن عجز عن الإشهاد لم يجب التلفظ بالتملك، كما في الردّ بالعيب، فلو قال: "أشهدت فلانًا وفلانًا، فأنكرا لم يسقط حقُّه، فإن ترك ما قدر عليه من التوكيل والإشهاد، بطل حقُّه؛ لتقصيره المشعر بالرضا، فإن حضر الشفيع، وغاب المشتري غيبة تحول بين الشفيع وبين مباشرة الطلب، جاز للشفيع أن يرفع أمره إلى القاضي، ويأخذ بالشفعة، وله ذلك مع حضوره، كنظيره في الردّ بالعيب. فإن فقد القاضي من بلده خرج لطلبها هو أو وكيله عند بلوغه الخبر، إلا إن كان الطريق مخوفًا، ولم يجد رفقة تعتمد، أو كان الوقت وقت حرّ أو برد مفرطين، فلا يلزمه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقول الإصْطَخْرِيّ: فيمن يعرف نسب امرأة، ولا يعرف عينها، فدخل دارها، واستخبر عنها ابنها الصّغير، فقال: هي هذه - تقبل.
= الخروج، ويجب عليه الإشهاد، ويجوز للقادر التوكيل كما في الردّ بالعيب؛ لأن وكيل الإنسان قائم مقامه.
وقال بعضهم: لا يجوز التوكيل للقادر؛ لأن الشفعة على الفور، والتوكيل مع القدرة يعدُّ تقصيرًا. ولو سار عقب العلم بنفسه، أو وكّل، لم يتعين عليه الإشهاد على الطلب حينئذ، بخلاف الردّ بالعيب، والفرق أن نسلط الشفيع على الأخذ بالشفعة أقوى من تسلط المشتري على الردّ بالعيب؛ بدليل أن الشفيع له نقض تصرف المشتري في الشقص وأخذه، بخلاف الردّ بالعيب؛ ولأن الإشهاد في الردّ بالعيب على المقصود، وهو الفسخ، وهنا على الطلب، وهو وسيلة، فيغتفر فيها ما لا يغتفر في المقصود. فإذا علم بالبيع وكان في صلاة، أو حمّام، أو طعام، أو قضاء حاجة فله الإتمام على المعادة، ولا يكلّف الاقتصار على أقل مجزئ، ولو دخل وقت هذه الأمور قبل شروعه فيها فله الشروع، ولو نوى نقلًا مطلقًا فله الزيادة على ركعتين مطلقًا، نوى قدرًا أم لا، ما لم يزد على العادة في ذلك، فلو لم يكن عادة اقتصر على ركعتين، فإن زاد عليهما بطل حقُّه، وله التأخير ليلًا حتى يصبح، ما لم يتمكن من الذّهاب إليه ليلًا من غير ضرر، كأن جمعتهما محلة، أو مسجد بعد الغروب، أو في صلاة العشاء، أو كان البائع، أو الحاكم، أو الشهود جيرانه، وسهل عليه الاجتماع بأحدهم كما في النهار. ولو أخَّر ثم اعتذر بمرض، أو حبس، أو غيبة، وأنكر المشتري، فإن علم به العارض الذي يدّعيه صدق الشفيع، وإلا فالمشتري، ولو لقي الشفيع المشتري في غير بلد الشقص، فأخّر الأخذ إلى حضوره إليه، بطلت شفعته؛ لاستغناء الأخذ عن الحضور عند الشقص، ما لم يلزم على ذلك الرفع إلى حاكم يأخذ منه دراهم وإن قلت، أو مشقة لا تحتمل عادة في مثل ذلك. وقد لا يحب الفور في الطلب كالبيع بمؤجل، أو البيع وأحد الشريكين غائب، وكأن أخبر بنحو زيادة فترك، ثم بأن خلافه، وكالتأخير لانتظار إدراك زرع وحصاده، وإذا كان في الشقص شجر عليه ثمرة لا تستحق بالشفعة، ففي جواز التأخير إلى جذاذ الثمرة وجهان:
الأرجح منهما المنع، والفرق إمكان الانتفاع مع بناء الثمرة، وكالتأخير ليعلم قدر الثمن، أو ليخلص نصيبه المغصوب، ومحلّه إذا لم يقدر على نزعه إلا بمشقة، أو لجهله بأن له الشفعة، أو بأنها على الفور، وهو ممن يخفى عليه ذلك، أو لخلاص الشقص المبيع، إذا كان مغصوبًا، وكتأخير الولي أو عفوه والمصلحة في الأخذ، فللولي الأخذ بعد تأخيره، وللمولى الأخذ إذا كمل قبل أخذ الولي، ولا يمنع تأخير الولي، وإن لم يعذر في التأخير؛ لأن الحقَّ=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقول الرافعي يتخرج توكيله في الإذن في دخول الدَّار، وحمله الهدية، على الخلاف في أن الوكيل هل يوكل إذ هو وكيل؟
= لغيره، فلا يسقط بتأخيره وتقصيره. أما إذا كانت المصلحة في الترك، امتنع على المولى الأخذ بعد كماله، ومثل الشفعة للمولى الشفعة المتعلقة بالمسجد وبيت المال؛ فلو ترك متولى المسجد أو بيت المال الأخذ، أو عفا عنه، لم يكن مسقطًا لثبوت الشفعة، فله الأخذ بعد ذلك، وإن سبق العفو منه؛ إذ لا حقَّ له فيه، ولو لم يأخذ، ثم عزل وتولى غيره، كان لغيره الأخذ. ولو كانت المصلحة في الترك فعفا، امتنع عليه وعلى غيره الأخذ بعد ذلك؛ لإسقاطها بانتفاء المصلحة وقت البيع. ولو لقي الشفيع المشتري، فسلم عليه أولًا، وكان ممن يشرع عليه السلام، لم يكن مقصرًا، فلا تبطل الشفعة؛ لأن السلام قبل الكلام سنة. وإن كان ممن لا يندب عليه السلام، كفاسق، بطل حقُّه إن علم بماله، ولو وجد المشتري بحالة لا يطلب معها السلام عليه، كأن كان يقضي حاجته، أو يجامع زوجته، فله تأخير الطلب إلى فراغه، ولو سلم عليه بطل حقُّه؛ لأن السلام لا يندب عليه حينئذ، وكذا لو سأله ابتداء عن الثمن، كأن قال له: بكم اشتريت؛ لأنه إن جهله فلا بد من البحث عنه، وإن علمه فقد يريد تحصيل إقرار المشتري؛ لئلا ينازعه فيه، أو قال له: بارك اللّه لك في صفقتك؛ لأنه قد يدعو بالبركة ليأخذ صفقته مباركة، وكذا لو جمع بين السلام والدعاء. وفي الدعاء له وجه أنه يبطل به حق الشفعة؛ لإشعاره بتقرير الشقص في يده، ومحل هذا الوجه إن كان فيه خطاب، وإلا كبارك الله فيه، لم يضر قطعًا.
ولو قال له: هنأك الله بهذه الصفقة سقط حقُّه، ويوجه بأنه يشعر بالرضا ببقاء المبيع.
ولو قال له: اشتريت رخيصًا ونحوه، كقوله: بعه، أو هبه مني، أو من فلان - بطلت شفعته؛ لأنه في الأولى فضول لا غرض فيه، وفيما عداها رضي بتقرير الشقص في يد المشتري. ولو طلب الشفعة وأعوزه الثمن لم تبطل شفعته على الأصح، لكن للحاكم إبطالها عند الإعواز، وإن توكل في شرائه لم تبطل، وكذا إن توكل في البيع وعفو الشفيع عن الشفعة قبل البيع، كأن قال لشريكه: بع نصيبك، وقد عفوت عن الشفعة، أو لغيره: اشتر فلا أطلبك بالشفعة، لا يسقط الشفعة؛ إذ لم يصدر منه ما يقتضي سقوطها؛ ولأن العفو قبل ثبوت الحق لغو، وكذا شرط الخيار للشفيع، وضمانه العهدة للمشتري، بأن يقول المشتري للبائع: بعنا هذا بكذا، بشرط أن يضمن لي فلان العهدة، وهو حاضر، فيقول: بعتك، ويقول الشفيع: ضمنتها وأخذت المبيع بالشفعة؛ لأن تمام العقد بمحصول الإيجاب والقبول والضمان؛ لأنه شرط فيه. ولو اتفق الشفيع والمشتري على الطلب، لكن قال المشتري: إنه لم يبادر فسقط حقه، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال الشفيع: بل بادرت، فينبغي تصديق الشفيع؛ لأن الظاهر صحة الأخذ، فلو أقاما بينتين فالوجه تقديم بينة الشفيع؛ لأنها مثبتة، ومعها زيادة علم بالفور.
قال مالك: "وقت وجوبها متسع"، وروى عنه في ذلك روايتان: إحداهما: أنه لا حدّ لذلك الوقت.
والثانية: أن له حدًّا. وجه الرواية الأولى: "الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ" فإنه عام في الأوقات والأحوال، ومن جهة المعنى أن هذا حقّ متعلق بالمال، وكان المشتري عالمًا به، وقادرًا على إزالته عن نفسه بتوقيفه الشفيع أمام القاضي، فإذا لم ينقطع حق المشتري، وهو التوقيف بمضي المدة، لم ينقطع حقُّ الشَّفيع أيضًا بمضيها.
ووجه الرواية الثانية: أن في ترك الشفيع على شفعته إضرارًا بالمشتري، ومنعًا له من التصرف في ملكه بالعمارة والزراعة، فكان له حدّ ينتهى إلبه. والقول بالتحديد هو الأصح. ثم اختلف في حدّها فقيل: سنتان، وقيل: سنة، وهو قول الأكثر، وما قارب السنة داخل في حكمها، وهو مذهب المدونة، وهو المعول عليه. والحنفية طلبات الشفعة عندهم على ثلاث:
الأول: طلب مواثبة.
الثاني: طلب إشهاد وتقرير.
الثالث: طلب أخذ وتملك.
وشرط طلب المواثبة أن يطلب في مجلس علمه بالبيع، بسماعه من رجلين، أو رجل وامرأتين، أو واحد عدل، وإن امتد المجلس، فلو قال بعد ما بلغه البيع:"الحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله" لا تبطل شفعته؛ لأن الأول حمدٌ لله على الخلاص من جوار البائع، والأمن من ضرر الدخيل، والثاني تعجب منه بقصد إضراره. وسمي طلب مواثبة؛ لأنه يدل على غاية التعجيل، كأن الشفيع يثب ويطلب الشفعة.
وطلب الإشهاد هو أن يذهب إلى الدار المبيعة مثلًا؛ لأن الحق متعلق بها، أو البائع إذا كان المبيع في يده، أو المشتري مطلقًا، وإن لم يكن زايد؛ لأنه مالك، ومعه رجلان، أو رجل وامرأتان، ويقول: "اشترى فلان هذه الدار، وأنا شفيعها، وكنت طلبت الشفعة، وأطلبها الآن، فاشهدوا عليه. وهذا الطلب واجب، حتى إذا تمكن من الإشهاد ولم يشهد بطلت شفعته، وإذا أشهد في طلب المواثبة عند أحد هذه الأمور، كفى عن الإشهاد في الثاني؛ لقيامه مقام الطلبين ..
وطلب التملك؛ ويسمى طلب الخصومة، هو الذي يخاصم به الشفيع المشتري، طالبًا تسليم العقار المشفوع إليه، وبتأخيره عن الثاني شهرًا أو أكثر لا تبطل شفعته عند أبي حنيفة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال محمد: إذا تركه شهرًا بلا عذر بعد الإشهاد بطلت؛ لأنها لو لم تسقط به تضرر المشتري، إذ لا يمكن التصرف، خوفًا من نقضه من جهة الشفيع.
لو أخر الطلب ثم قال: تم أصدق المخبر" وقد أخبره رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان بصفة العدالة، أو واحد مقبول الرواية ولو عبدًا، أو امرأة، أو جمع كثير لا يمكن تواطؤهم على الكذب عادة ولو كفَّارًا، بطلت شفعته؛ لأن شهادة الشاهدين مقبولة، وخبر مقبول الرواية مقبول في الأخبار، وخبر الجمع المذكور مفيد للعلم، فكان من حقه أن يعتمدهم.
وقبل: يعذر في عدم قبول خبر الواحد؛ لأن البيع لا يثبت بواحد ولو عدلًا، إلا منضمًا إلى اليمين، فلو قال في الأولين: جهلت ثبوت العدالة، وكان مثله يجوز أن يخفى عليه لم يبعد قبول قوله؛ لأن رواية المجهول لا تسمع. قاله ابن الرفعة.
ولو قال: "أخبرني رجلان، وليسا عدلين عندي، وهما عدلان، لم تبطل شفعته؛ لأن قوله محتمل، ولو كانا عدلين عنده دون الحاكم، بأن علم أنهما غير عدلين عنده، ولم يقع في قلبه صدقهما، عذر في عدم تعويله على إخبارهما. قاله السبكي؛ لأنه ربما احتاج إلى إثبات الشراء عند الحاكم، وذلك لا يحصل بغير العدلبن عنده، واعترض بأنه بعد كونهما عدلين عنده كيف لا يقع في قلبه صدقهما؟. والجواب: أن مجرد العدالة لا يمنع من جواز الإخبار بخلاف الواقع، فذلك مجرد كذب، والكذبة الواحدة لا توجب فسقًا. قاله الرملي، فلا تنافي العدالة. وخرج بمقبول الرواية غيره، كصبي ومجنون وفاسق، إلا أن يصدقه، فتسقط شفعته؛ لأن ما يتعلق بالمعاملات يستوي فيه خبر الفاسق وغيره، إذا وقع في النفس صدقه، وهذا كله في الظاهر، أما في الباطن فالعبرة بما يقع في نفسه، من صدق وضده، ولو من فاسق وغيره. قاله الماوردي. ولو تردد في ظاهر العدالة فترك، لم يسقط حقُّه، ولو أخبر مستوران ولم يصدقهما عذر، ولو كذب عليه المخبر في جنس الثمن، كان قال له: "إنه دراهم" فبان دنانير، أو في نوعه، كأن قال له: "إنه مصري" فبان إنكليزيًا، أو في قدره كان قال له: "إنه ألف" فبان خمسمائة، أو في حلوله كأن قال: إنه حال، فبان مؤجلًا، أو في قدر المبيع كأن قال: "باع كلَّ حصَّته" فبان أنه باع بعضها، أو عكسه، أو في أن المشتري زيد، فبان عمرًا، أو قال المشتري: "اشتريته لنفسي" فبان وكيلًا؛ أو في أن المشتري اثنان، فبان واحدًا، أو عكسه بأن قال: إن المشتري واحد، فبان اثنين، أو في قدر الأجل كان قال: باع بمؤجل إلى شهر فبان إلى شهرين، فعفا أو توانى قبل بيان ما ذكر، لم تبطل شفعته؛ لأنه تركه لغرض بان خلافه، ولم يتركه رغبة عنه.
ولو أخبره أنه بألف، فترك، فبان بأكثر بطل حقّه؛ لأنه إذا لم يرغب فيه بالأقل فبالأكثر أولى، وكذا لو أخبره بمؤجل فعفا عنه، فبان حالًا؛ لأن عفوه يدل على عدم رغبته؛ لما مر أن له التأخير إلى الحلول. والحاصل أنه إذا أخبره بما هو الأنفع له فترك الأخذ بطل حقُّه، وإلا فلا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقول الزهري
(1)
: يجوز توكيل الصَّبي في طَلاقِ زوجته، والخلافُ فيما إذا أعتق في مرض موته منجزًا.
"والرواية بعده" - أي: بعد الصّبا - "والسماع قبله - مقبولة"، كذا بخطّه - مقبولة عند الجمهور "كالشهادة"؛ إذ يقبل من تحمل قبل البلوغ، وأدّى بعده.
"ولقبول" الصَّحابة، ما رواه "ابن عَبَّاس وابن الزبير وغيرهما" - كالنعمان بن بشير
(2)
والحسن بن علي
(3)
"في مثله" - أي: فيما تحمّلوه في الصِّغَرِ؛ فإنهم أجمعوا على قَبُولِ
(1)
محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة، القرشي الزهري، أبو بكر المدني، أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام: عن ابن عمر وسهل بن سعد، وأنس ومحمود بن الربيع وابن المسيِّب وخلق. وعنه أبان بن صالح وأيوب وإبراهيم بن أبي عيلة وجعفر بن برقان وابن عيينة وابن جريج والليث ومالك وأمم. قال ابن المديني: له نحو ألفي حديث. قال ابن شهاب: ما استودعت قلبي شيئًا فنسيته. وقال الليث: ما رأيت عالمًا قط أجمع من ابن شهاب وقال أيوب: ما رأيت أعلم من الزهري. وقال مالك: كان ابن شهاب من أذكى الناس وتقيًّا، ما له في الناس نظير. قال إبراهيم بن سعد: مات سنة أربع وعشرين ومائة. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 3/ 1269، وتهذيب التهذيب 9/ 445، وتقريب التهذيب 2/ 207، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 457، والكاشف 3/ 96، وتاريخ البخاري الكبير 1/ 220، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 56. 320 والجرح التعديل 8/ 318 وميزان الاعتدال 4/ 40 وتاريخ الثقات 412، وتراجم الأحبار 4/ 13، والحلية 3/ 360، وطبقات ابن سعد 4/ 126، وسير الأعلام 5/ 326.
(2)
النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي، أول مولود أنصاري في الهجرة. له مائة وأربعة وعشرون حديثًا، اتفقا على خمسة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة، وعنه ابنه محمد ومولاه حبيب بن سالم والشعبي وطائفة. وكان فصيحًا. ولي الكوفة ودمشق، وقتل بالشام سنة أربع وستين. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 3/ 1414، وتهذيب التهذيب 10/ 447، (816) وتقريب التهذيب 2/ 803 وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 95 والكاشف 3/ 205، وتاريخ البخاري الكبير 8/ 75، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 108، 114، 641، والجرح والتعديل 8/ 444، والثقات 3/ 409، وأسد الغابة 5/ 326، والاستيعاب 1496، وتجريد أسماء الصحابة 2/ 107، والإصابة 6/ 440، والاستبصار 112، 114، 122، 123، والتاريخ لابن معين 2/ 151، 230، وطبقات ابن سعد 2/ 376، وأسماء الصحابة الرواة ت:36.
(3)
الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو محمد المدني، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته=
وَمِنْهَا:
 الإسْلامُ
لِلإجْمَاعِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَإنْ
…
روايتهم فيما حدثوا به عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما توفّي النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد منهم بلغ إلا ابن عباس على قول؛ "ولا سماع" في "الصبيان" الحديث.
والخلاف في الراوي يتحمل صغيرًا، ويروى كبيرًا، يحكى في "التقريب"، "وشرح اللمع". وغيرهما، وهو جَارٍ في الكافر إذا تحمل في كفره وأسلم، فأدى - ذكره القاضي في "التقريب".
الشرح: "ومنها: الإسلام، للإجماع"
(1)
.
"وأبو حنيفة رحمه الله وإن قبل شهادة بعضهم على بعض لم يقبل روايتهم"، فلا يقدح في الإجماع.
"ولقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6]، وهو "- أي الكافر - "فاسق بالعرف المتقدم" في الزمان السابق.
وأما تخصيص الفاسق بالمسلم ذي المعاصي الزَّائلة للعدالة - فعرف متجدّد، وللنزاع هنا مجال.
"واستدلّ بأنه لا يوثق به كالفاسق".
"وضعف بأنه قد يوثق ببعضهم؛ لتدينه في ذلك".
و"المُبْتَدِع بنا يتضمّن التكفير" - كذا بخطّه، وفي بعض النسخ الكفر، وهو أحسن "كالكافر عند المكفر".
"وأما غير الكفر فكالبِدَعِ الواضحة".
= - عن جدِّه صلى الله عليه وسلم له ثلاثة عشر حديثًا، قال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الحسن والحسين سيِّدَا شباب أهل الجنة" توفي رضي الله عنه مسمومًا سنة تسع وأربعين أو سنة خمسين أو بعدها. ينظر: الخلاصة 1/ 216 (1361)، والإصابة 2/ 68 - 74، والاستيعاب 1/ 383 - 392، والحلية 2/ 35 - 39.
(1)
ينظر: الإحكام 2/ 65، والإبهاج 2/ 313، وأصول السرخسي 1/ 346، وتيسير التحرير 3/ 41، وكشف الأسرار 2/ 393، وفواتح الرحموت 2/ 139، وشرح التنقيح 359 - 361، والمختصر لابن اللحام 84 - 85، وروضة الناظر 2/ 300، والمستصفى 1/ 56.
قَبِلَ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَقْبَلْ رِوَايَتَهُمْ، وَلقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] وَهُوَ فَاسِق بِالْعُرْفِ المُتقَدِّمِ.
"وما لا يتضمّن التكفير، إن كان واضحًا كَفِسْقِ الخوارج ونحوه، فردّه قوم، وقبله قوم".
وهذا ترتيب لا أعرفه لغير المصنّف، والمعروف أنّ المبتدع إذا كَفَّرْنَاه، وكان يعتقد حُرْمَةَ الكذب، ففيه مذهبان:
قال الأكثرون - منهم القاضي، والغَزَالي، والآمدي، وغيرهم -: لا يقبل
(1)
.
وقال أبو الحسين البَصْري، والإمام الرازي، وأتباعه: تقبل.
وإن لم يعتقد حرمة الكَذب، فادعى مُدَّعون الاتفاق على رده.
(1)
قال ابن حجر: إما أن تكون البدعة بمكفر أو بمفسق.
فالأول: لا يقبل صاحبها الجمهور، وقيل: يقبل مطلقًا، وقبل: إن كان لا يعتقد حل الكذب لنصرة مقالته قبل. والتحقيق أنه لا يُرَدُّ كلُّ مكفَّر ببدعته؛ لأن كل طائفة تدعى أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها؛ فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف. فالمعتمد أن الذي ترد روايته هو من أنكر أمرًا متواترًا من الشرع معلومًا من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه. فأما من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه، فلا مانع من قبوله.
والثاني: وهو من لا تقتضي بدعته التكفير أصلًا، قد اختلف أيضًا في قبوله ورده. وقيل: يرد مطلقًا - وهو بعيد - وأكثر ما علل به أن في الرواية عنه ترويجًا لأمره وتنويهًا بذكره. وعلى هذا ينبغي ألا يروى عن مبتدع شيء من الحديث حتى يشاركه فيه خبر مبتدع. وقيل: يقبل مطلقًا إلا إن اعتقد حل الكذب كالكرامية. وقيل: يقبل من لم يكن داعية إلى بدعته؛ لأن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه.
قال ابن الصلاح: وهذا أعدل المذاهب وأولاها، وهو قول الأكثرين من العلماء.
وقال ابن حجر: الأكثر على قبول غير الداعية إلا أن يروى ما يقوى بدعته فيرد على المذهب المختار: ينظر: غيث المستغيث 83، 84، والمحصول 2/ 1/ 567، والمستصفى 1/ 157، وشرح التنقيح 359 والمعتمد 2/ 618، والإحكام 2/ 66، وحاشية البناني 2/ 147، وتيسير التحرير 3/ 41، وكشف الأسرار 3/ 25، وفواتح الرحموت 2/ 140، وأصول السرخسي 1/ 373، والمختصر لابن اللحام (85)، وشرح الكوكب 2/ 402، وإرشاد الفحول (50).
وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ لا يُوثَقُ بِهِ كَالْفَاسِقِ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ قَدْ يُوثَقُ بِبَعْضِهِمْ لِتَدَيُّنِهِ فِي ذَلِكَ.
وأرى أن موضع الاتفاق فيمن اعتقد حلّه مطلقًا، وتلك رَذِيلَةٌ لا نعلم أحدًا ذهب إليها.
أمّا من اعتقد حلّه في أمر خاصّ - كالكذب في نُصْرَةِ عقيدة، ونحو ذلك - فيختصّ موضع الاتفاق بموضع اعتقاده، الخلاف في الخَوَارج هل يكفرون؟ هو نفس الخلاف في تكفير المُبْتدعة، وكلام المصنّف مصرّح بخلاف هذا، وجميع هذا في مبتدع لا يدعو إلى بِدْعَتِهِ.
أما الدَّاعية، فقال أبو حاتم بن حبان البستي: لا يجوز الاحتجاج به عند أئمّتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلاف.
"و" احتج "الرَّاد" لخبرهم بقوله تعالى: " {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] وهو فاسق".
وجعل المبتدع فاسقًا إذا لم يكفر هو الظاهر، ولكن الأصح عند أصحابنا قَبُول روايته إذا لم يكفر، ولا رَيْبَ عندهم أن الفِسْقَ مانع من القبول، فليتطلّب جمع بين الكلامين.
واحتجّ "القائل" بقوله عليه السلام: "نَحْنُ نَحْكُمُ بالظَّاهر"، فإن الظاهر من حال هذا الصدق؛ لأنه يعتقد حُرْمَةَ الكذب، ولا يعتقد فِسْقَ نفسه، فله وَازِعُ يمنعه عنه، بخلاف من يعتقد [حُرْمَةَ الكذب، ولا يعتقد]
(2)
فسق نفسه.
"والآية أولى لتواترها"، بخلاف هذا الحديث، فإنه غير مُتَواترٍ، [بل]
(3)
ولا معروف كما سبق في "كتاب الإجماع"، "وخصوصها بالفاسق وعدم تخصيصها، وهذا" الحديث "مخصوص بالكافر والفَاسِق المظنون صدقهما"، فإن روايتهما غير مَقْبُولة "باتفاق".
"قالوا: أجمعوا على قَبُول قَتَلَةِ عثمان
(4)
رضي الله عنه ".
(1)
في حاشية ج: قوله: "فليطلب جمع
…
إلخ الظاهر أن المبتدع لا يفسق ببدعته؛ لاشتراطهم في قبوله أن يكون محتاطًا في دينه، والبدعة صغيرة، والإصرار على الصغيرة لا يبطل العدالة إن غلبت طاعاته على معاصيه.
(2)
سقط في ت.
(3)
سقط في ت.
(4)
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي، أبو عمرو المدني ذو النورين،=
وَالْمُبْتَدِعُ بِمَا يَتَضَمَّنُ التَّكفِيرَ كَالْكَافِرِ عِنْدَ الْمُكَفِّرِ، وَأَمَّا [عِنْدَ] غَيْرِ الْمُكَفِّرِ فكَالْبِدَعِ الْوَاضِحَةِ.
وَمَا لا يَتَضَمَّنُ الْتَّكفِيرَ إِنْ كَانَ وَاضِحًا كَفِسْقِ الْخَوَارجِ وَنَحْوِهِ فَرَدَّهُ قَوْمٌ وَقَبِلَهُ قَوْمٌ.
وَالرَّادُّ {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ [بِنَبَإٍ]} [الحجرات: 6] وَهُوَ فَاسِقٌ.
"وردّ بالمنع" - أي: لا نسلم قيام الإجماع على قبول روايتهم، بل الإجماع قائم على رَدِّ روايتهم.
وهذا الوجه في غاية الوضوح، فإن قَتَلَةَ عثمان رضي الله عنه، إن كانوا مستحلّين لقتله، فلا ريبَ في كفرهم، والكافر مردود بالإجماع، وإن كانوا غير مستحلّين فلا رَيْبَ في فسقهم بفسق ظاهر، [فترد]
(1)
روايتهم.
وبهذا يعرف أن [ذكر]
(2)
قَتَلَة عثمان رضي الله عنه هنا لا معنى له، فإن كلامنا في الفسق بأمرٍ خفي، وقتلة عثمان إن لم يكفروا، ففسقهم بأمرٍ ظاهر أظهر من [الزّنا]
(3)
والخمر، "أو بأنه مذهب بعض" - أي: وإن سلم قَبُولهم خبر قَتَلَة عثمان، فلعل من قَتَلَهُ كان يرى أن هذه بِدْعة خفية غير واضحة، فقبل خبر مرتكبها.
"وأما نحو خلاف البَسْمَلَة وبعض الأصول" - وهو ما لا يعود بالإبطال على أصل ممهد في الدّين؛ كالمَسَائل التي اختلف فيها الأشاعرة والحَنَفِيّة، فإنه لا بدعةَ فيها من الجَانِبَيْنِ، ولنا قصيدة نظمنا فيها تلك المسائل.
= وأمير المؤمنين، ومجهز جيش العسرة أحد العشرة وأحد الستة، هاجر الهجرتين. له مائة وستة وأربعون حديثًا، وعنه أبناؤه أبان وسعيد وعمرو، وأنس ومروان بن الحكم وخلق، وقال ابن سيرين: كان يحيي الليل كله، قتل في سابع ذي الحجة يوم الجمعة سنة خمس وثلاثين - قال عبد الله بن سلام: لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا يغلق إلى يوم القيامة. رضي الله عنه. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال: 7/ 139 (289)، وتقريب التهذيب 2/ 12، وتاريخ البخاري الكبير 6/ 208، والجرح والتعديل 6/ 160، وتاريخ الثقات 1109، وشذرات الذهب 1/ 10، 25، 30، 33، 43، 45، ونسب قريش (110)، وجمهرة أنساب العرب 83، وأنساب الأشراف 44، 45، وأسماء الصحابة الرواة ت 28.
(1)
في ب: فنرد.
(2)
سقط في ب.
(3)
في أ، ت، ح: الربا.
الْقَابِلُ: نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَالآيَةُ أَوْلَى؛ لِتَوَاتُرِهَا، وَخُصُوصِهَا بِالْفَاسِقِ، وَعَدَمِ تَخْصِيصِهَا؛ وَهَذَا مُخَصَّصٌ بِالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ الْمَظْنُونِ صِدْقُهُمَا بِاتِّفَاقٍ.
قَالُوا: أَجْمَعُوا عَلَى قَبُول قَتَلَةِ عُثْمَانَ رضي الله عنه.
وَرُدَّ بِالْمَنع، أَوْ بِأَنَّهُ مَذْهَبُ بَعْضِ.
وَأَمَّا نَحْوُ خِلافِ الْبَسْمَلَةِ وَبَعْضِ الأُصُول وَإنِ ادُّعِيَ الْقَطْعُ فَلَيْسَ مِنْ ذَلكَ لِقُوَّةِ
"وإن ادَّعى" كل واحد من الخَصْمَيْن فيها "القطع، فليس من ذلك"، بل تقبل فيه الرواية؛ لأنه لا تبديع فيها، و"لقوّة الشُّبْهَة من الجانبين" كما تقدم.
"وأما من يشرب النَّبِيذ، ويلعب الشِّطْرَنج" - إذا قلنا بتحريم الشِّطْرنج - وهو وجه في مذهبنا - "ونحوه" - من المسائل الاجتهادية، سواء صدر "من مجتهد أو مقلّد، فالقطعُ أنه ليس بفاسق.
وإن قُلْنَا: المصيب واحد؛ لأنه يؤدي إلى تفسيق بواجب" - وذلك فيما يكون واجبًا [عند]
(1)
مجتهد حرامًا عند غير؛ كالقراءة خلف الإمام واجبة عندنا، حرام عند أبي حنيفة
(2)
.
(1)
سقط في ح.
(2)
قد اختلف أهلُ العلمِ منَ الصحابةِ والتابعين، فَمَنْ بعدَهم في القراءةِ خلفَ الإمام، فذهب جماعةٌ إلى إيجابها سواءٌ جَهَرَ الإمامُ أو أسَرَّ، يُروى ذلك عن عمَر، وعثمانَ، وعلي، وابنِ عباسٍ، ومُعاذٍ، وأبيِّ بن كعْبٍ، وبه قال مكحول، وهو قول الأوزاعي والشافعي، وأبي ثورٍ، فإن أمكنه أن يقرأ في سكتة الإمام، وإلا قرأ معه. وذهب قومٌ إلى أنه يقرأ فيما أسَرَّ الإمامُ فيه القراءة، ولا يقرأ فيما جَهَرَ، يُقالُ: هو قول عبد الله بن عمرَ، ويُروى ذلك عن عروة بنِ الزبير، والقاسم بن محمد، ونافعِ بنِ جُبير، وبه قال الزُّهري، ومالكٌ، وابنُ المبارك، وأحمد، وإسحاق، وهو قولٌ للشافعي. وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ أحدٌ خلفَ الإمام سواء أسَرَّ الإمامُ أو جَهَرَ، يُروى ذلك عن زيد بن ثابتٍ وجابر. ويُروى عن ابن عمر: إذا صَلَّى أحدُكم خلفَ الإمامِ فحَسْبُهُ قرَاءةُ الإمام، وبه قال سفيان الثوريُّ، وأصحاب الرأي، واحتجوا بحديث أبي هريرة "ما لي أُنازَعُ القرآن"، قلت: وذلك محمولٌ عند الأكثرين على أن يجهرَ على الإمام بحيثُ ينازِعه القراءة، والدليل عليه ما رُويَ عن عمران بن حُصين أن نبي اللّه صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهرَ، فلما انفتَلَ قال: أيُّكُمْ قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ؟ فقال رجل: أنا، فقال: "عَلِمْت=
الشُّبْهَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَأَمَّا مَنْ يَشْرَبُ النَّبِيذَ وَيَلْعَبُ بِالشَّطْرَنْجِ وَنَحْوِهِ مِنْ مُجْتَهِدٍ وَمُقَلِّدٍ فَالْقَطْعُ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاسِقٍ وَإنْ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لأِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَفْسِيقٍ بِوَاجِبٍ.
وَإيجَابُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله الْحَدَّ لِظُهُورِ أَمْرِ التَّحْرِيمِ عِنْدَهُ.
ولك أن تقول: إنما يؤدّي إلى تفسيق بواجب في ظَن فاعله.
أمّا من يفسقه فقد يقوي الظَّن عنده.
نعم التفسيق في المَظْنُونات لا وجه له.
ولنا وجه: أن الشهادة ترد به، [ولا بُدّ من جريانه في الرِّوَاية، ووجه آخر: أنه لا يرد به]
(1)
شهادة معتقد تحريمه لشُبهَةِ الخلاف.
"و" أما "إيجابُ الشَّافعي رضي الله عنه الحَدّ" على شارب النَّبِيذِ حيث قال: أَحُدُّ الحنفيَّ إذا شرب النَّبِيذ؛ وأقبل شَهَادته - فإنه "لظهور أمر التحريم عنده"، فنهض عنده الدَّليل موجبًا للحَدّ متقاعدًا عن الفِسْقِ.
والأصحابُ وَجّهوه بأن الحد للزَّجر، وشرب النبيذ يحتاج إلى الزجر، وردّ الشهادة؛ لسقوط الثِّقَةِ بقول الشاهد، وإذا لم يعتقد التحريم لم تسقط الثِّقة، وأيضًا فالحَدّ إلى الإمام، فيعتبر فيه اعتقاده، وردّ الشَّهادة يعتمد عقيدة الشاهد.
واستدلّ ابن الصَّلاح لوجوب الحد بإقامة عمر رضي الله عنه الحَدّ على قُدَامة بن مَظْعُون
(2)
في شربه الخَمْرَ مع استحلاله لها؛ قبل انعقاد إجماع الخاصّة والعامة على تحريمها، والخمر إذ ذاك كالنَّبِيذِ الآن في ذلك، وانتشر ذلك بين الصَّحابة من غير نكير، فكان إجماعًا.
= إنَّ بعضَكُم خالجنيها". والمخالجة: المَجاذَبةُ وهي قريبٌ من قوله: نازَعَنيها، وأصلُ الخلج: الجَذبُ والنَّزْع، كأنه يَنزِعُ من لسانه.
(1)
سقط في ت.
(2)
قدامة بن مظعون بن حبيب الجمحي القرشي، صحابي وال، من مهاجرة الحبشة، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمله عمر على البحرين ثم عزله لشربه الخمر، وأقام عليه الحد في المدينة. توفي سنة 36 هـ. ينظر: الأعلام 5/ 191، والنووي 2/ 60، والإصابة ت (7090).
وَمِنْهَا: رُجْحَانُ ضَبْطِهِ عَلَى سَهْوِهِ لِعَدَمِ حُصُولِ الظَّنِّ.
وَمِنْهَا
 الْعَدَالَةُ
وَهِيَ مُحَافَظَةٌ دِينيةٌ تَحْمِلُ عَلَى مُلازَمَةِ التَّقْوَى
…
الشرح: "ومنها: رجحان ضبطه على سَهْو؛ لعدم حُصُول الظَّن" بصدقه، إذا لم يترجّح جانب ضبطه
(1)
.
الشرح: "ومنها: العَدَالَة
(2)
، وهي محافظة دينيّة تحمل على مُلازمة التقوى،
(1)
هذا أحد الشروط المعتبرة، وهو أن يكون ضبط الراوي لما سمعه أرجح من سهوه؛ لعدم حصول الظن بصدقه على تقدير رجحان السهو على الضبط بكون التصديق مرجوحًا حينئذ، وكذلك على تقدير تعادلهما ضرورة التساوي، فأن جهل حال الراوي في ذلك كان الاعتماد على الأغلب من حال الراوي، وإن لم يعلم الأغلب فلا بد من الامتحان والاعتبار.
لا يقال: الظاهر من العاقل العدل أنه لا يروى إلا ما يذكره، وإن غلب السهو على الضبط أو لا، ولذلك فإن الصحابة رضي الله عنهم مع إنكارهم على أبي هريرة كثرة روايته لعدم الضبط واختلاله حتى قالت عائشة رضي الله عنهم في حديث المهراس: رحم الله أبا هريرة كان رجلًا مهذارًا - قبلوا أخباره لما كان الظاهر منه أنه لا يروى إلا ما يذكره؛ ولأن الخبر دليل، والأصل فيه الصحة، فلا يترك للاحتمال كشك الحدث بعد الطهارة.
لأنا نقول عن الأول: لا نسلم أن الظاهر من حاله ما ذكرتم لكن لغلبته يظن أن ما يذكره هو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون كذلك، فلا يحصل الظن بصحة روايته.
وعن الثاني: أن إنكار الصحابة على أبي هريرة ما كان لاختلال ضبطه، بل لأن الإكثار مما لا يؤمن معه اختلال الضبط الذي لا يعرض لمن قلت روايته.
وعن الثالث: أن الخبر إنما يكون دليلًا لو كان متغلبًا على الظن، ومع عدم ترجيح ذكر الراوي على نسيانه لا يكون مغلبًا، ولا دليلًا.
وهذا بخلاف شك الطهارة، فإن سبق الطهارة يرجحها، حتى لو انفرد الشك عن سبق الطهارة لم يحكم بها. ينظر الشيرازي.
(2)
المراد بالعدالة هنا عدل الرواية، والراوي العدل. هو المسلم البالغ العاقل السليم من ارتكاب كبيرة. أو إصرار على صغيرة، وبما يخل بالمروءة كالأكل في السوق والمشي حافيًا، أو عاري الرأس والتبول في الطريق العام، واللعب مع الصبيان. وهذا الشرط لا بد منه عند الأداء للحديث أما عند التحمل فلا يشترط. وخرج بهذا الشرط الفاسق والمجهول عينًا أو حالًا؛ لانتفاء العدالة في هؤلاء. وتثبت العدالة بالاستفاضة وشهرة صاحبها بالصلاح والخير والثناء الجميل بحيث يعرف بالتوثيق، والاحتجاج به لدى أهل العلم الذين يعرفونه بالثقة والأمانة،=
وَالْمروءَةِ لَيْسَ مَعَهَا بِدْعَةٌ وَتَتَحَقَّق بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَتَركِ الإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ وَبَعْضِ الصَّغَائِرِ وَبَعْضِ الْمبَاحِ.
والمروءة ليس معها بدعة"
(1)
.
= فيستغني بهذا عن بينة تشهد بعدالته. قال ابن الصلاح: وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في فن الأصول. وممن ذكر ذلك من أهل الحديث أبو بكر الخطيب الحافظ، ومثل ذلك بمالك وشعبة والسفيانين والأوزاعي والليث وابن مبارك ووكيع وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر؛ فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم، وإنما يسأل عن عدالة من خفي أمره على الطالبين.
وتوسع ابن عبد البر الحافظ في هذا فقال: كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدًا على العدالة حتى يتبين جرحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يجعل هذا العلم من كل خلف عدوله .. " وفيما قاله اتساع غير مرضى اهـ.
والحقيقة أن من استفاضت شهرته بالعدالة والتوثيق، والصلاح والأمانة ثبتت عدالته دون أن يسأل عنه. وقد سئل ابن حنبل عن إسحاق بن راهويه فقال: مثل إسحاق يسأل عنه؟ وسئل ابن معين عن أبي عبيد، فقال: مثلي يسأل عن أبي عبيد؟ أبو عبيد يسأل عن الناس. أما من ليس له هذه الشهرة بالعدالة والرضا، فيحتاج في ثبوت عدالته إلى تعديل أئمة الحديث له، أو اثنين منهم، أو واحد على الصحيح.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية إذا لم يكونا مشهورين بالعدالة والرضا، وكان أمرهما مشكلًا ملتبسًا ومجوزًا فيهما العدالة وغيرها. وإلا فلا
…
والدليل على ذلك أن العلم بظهور سيرهما وإشتهار عدالتهما أقوى في النفوس من تعديل واحد واثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة. ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 273، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 611، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 68، والتمهيد للإسنوي 446، ونهاية السول له 3/ 129، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 99، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 132، والمستصفى للغزالي 1/ 157، وحاشية البناني 2/ 148، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 174، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 133، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 362، والتحرير لابن الهمام 317، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 49، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 247.
(1)
هذا الشرط دليل اشتراطه الإجماع، لا أنه التثبت على ما قيل؛ لأن انتفاء الفسق لا يستلزم العدالة بالتفسير المذكور، اللهم إلا إذا فسر الفسق بمقابلات ما فسر به العدالة. وأما معناه فهو في اللغة عبارة عن التوسط في الأمور من غير إفراط إلى طرفي الزيادة والنقصان، ومنه قوله عز=
وَقَدِ اضْطُرِبَ فِي الْكَبَائِرِ؛ فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه: "الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتلُ
وقوله: " [ليس]
(1)
معها بِدْعة" - قيد يذكره من يردُّ رواية المبتدع - وقد عرفت ما فيه، وأراد بالتقوى: ألَّا يرتكب كبيرةً.
"وتتحقّق" العدالة "باجتناب الكَبَائر، وترك الإصرار على الصَّغائر"، ولعمري إنه لداخل في الكبائر
(2)
، والإصرار
(3)
كبيرة.
وحكى الدبيلي
(4)
من أصحابنا في "أدب القضاء"
(5)
وجهًا: أنه ليس بكبيرة - وهو غريب -
= من قائل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي عدولًا، وعن ضد الجور، وهو اتصاف الغير بفعل ما يجب له وتركه ما يجب له تركه، وعن الأفعال الحسنة المتعدية من الفاعل إلى غيره، ومنه يقال للملك المحسن إلى رعيته:"عادل".
وفي اصطلاح المتشوعة: عبارة عن أهلية قبول الشهادة أو الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الغزالي رحمه الله في معناها: إنها عبارة عن استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه. والمصنف اختار ما ذكره الغزالي إلا أنه أبدل هيئة النفس بالمحافظة الدينية، وزاد عليه:"ما ليس معها بدعة" وفي هذه الزيادة نظر؛ لأن ملازمة التقوى تغني عنه، اللهم إلا إذا قيل: البدعة لا تنافي ملازمة التقوى، وهذا التقدير إنما يزيده من لا يقبل رواية المبتدع أصلًا. ينظر: الشيرازي.
(1)
سقط في ح.
(2)
ينظر الكلام على حد الكبيرة في: البحر المحيط للزركشي 4/ 279، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 344، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 100، وحاشية البناني 2/ 152، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 249، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 175، وأعلام الموقعين لابن القيم 4/ 305؛ وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 45.
(3)
في حاشية ج: قوله: "والإصرار كبيرة" المعروف أن الإصرار يجعلها في حكم الكبيرة.
(4)
علي بن أحمد بن محمد، أبو الحسن الدبيلي، صاحب "أدب القضاء"، أكثر ابن الرفعة عنه النقل، ويعبر عنه بالزَّبيلي، وهكذا أقره السبكي قال: إنه الذي اشتهر على الألسنة، وقاله الإسنوي: إن الذين أدركناهم من المصريين هكذا ينطقون به. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 268، وطبقات السبكي 3/ 290، وطبقات الإسنوي 187، وهدية العارفين 1/ 680.
(5)
والأدبُ أَدَبُ النفس والدرس، وقد أَدُبَ فهو أَدِيب، وَأَدَّبَهُ غيره، فَتَأَدَّبَ وَاسْتأدَبَ. وتركيبه يدل على الجمع والدعاء، ومنه الأدبُ بسكون الدال، وهو أن تجمع الناس إلى طعامك=
النَّفس، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالزِّنَا، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَالسِّحْرُ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيم
"و" اجتناب "بعض الصَّغائر وبعض المباح"؛ لإخلالها بالمروءة، "وقد اضطرب في
= وتدعوهم، ومنه الأَدَبُ بالتحريك؛ لأنه يَأْدِبُ الناس إلى المحامد أي يدعوهم إليها.
وعن أبي زيد: الأدَبُ اسم يقع على كل رياضة محمودة يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل. كذا في المغرب.
وفي النهاية: والمراد من أدب القاضي هنا هو الخصال الحميدة المندوبة والمدعو إليها، فالأدب للقاضي ما يذكر له من شرائط الشهادة.
وأما الآداب التي تطلب من القاضي فهي كثيرة جمة، وقد بسط علماء الإسلام القول فيها. ونحن نكتفي بذكر المهم منها، ومن أراد استيفاءها فليرجع إلى الكتب التي أشبعت القول في ذلك كتبصرة ابن فرحون وغيرها. وهذه الآداب منها ما هو مندوب، ومنها ما هو واجب، وسنذكر حكم كل منها، فأقول:
من تلك الآداب أنه يندب له ترك البطانة التي يظن فيها السوء؛ لأن ذلك يؤدي إلى سوء الظن به. وأما إن كانت محققة السوء فتركها واجب، ويندب له منع الراكبين معه والمصاحبين له في المشي وغيره؛ لأن كثرة الناس حوله والتفافهم به يدعو إلى الاغترار والعجب، واتهام الناس له بأنه لا يجري الأحكام على أصحابه طبق الحق، ويندب تخفيف الأعوان بقدر الإمكان؛ لأنهم لكثرة اتصالهم يه يموهون على الناس، ويأكلون أموالهم بالباطل، ويعلمونهم طرق الغش والخداع في التخاصم إلى القاضي.
كذلك يندب اتخاذ من يخبره من أهل الأمانة والصلاح بما يقال فيه من مدح وذم؛ ليتسنى له إدراك عيوبه فيتحاشاها، وبما يقال في شهوده وأعوانه؛ ليبنى منهم من كان صالحًا ويعزل غيره. ويندب له ترك البيع والشراء ونحوه في مجلس قضائه، سواء كان بنفسه أو وكيله خوف المحاباة، أو شغل باله. ويندب ترك حضور الولائم إلا وليمة النكاح؛ فتجب عليه الإجابة لها إذا توفرت شروطها، وقيل: تجوز الإجابة لا تجب، ورجحه بعضهم، ويندب أيضًا إحضار العلماء في مجلس الحكلم ومشاورتهم ولو كان مجتهدا؛ لأن ذلك يعينه على الوصول إلى الحق، ويجب عليه ألّا يقبل الهدايا، ولو كافأ عليها بأكثر منها؛ لميل النفوس لصاحب الهدية في الغالب إلا إذا كانت من قريب لا يجوز أن يحكم له كأبيه وعمه، فيجوز قبولها. واختلفوا في جواز قبول هدية ممن اعتاد الإهداء إليه قبل توليه، فقيل: تكره، وقيل: تجوز، كما اختلفوا في حكمه وهو ماش أو متكئ؛ فقيل: يكره لأنه مظنة الاستخفاف بالحكم الشرعي، وقيل يجوز، وفي حديثه بمجلس الحكم لضجر ونحوه، فقيل: يكره؛ لأنه يصان عن الابتذال بالكلام، وقيل: يجوز لأنه يروح القلب، ويعيد النشاط والفهم. ونظام الاستراحة الموجود =
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَالإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ". وَزَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أكْلَ الرِّبَا".
الكَبَائر"، "فروى ابن عمر رضي الله عنه: "الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَذْفُ
= الآن يخلص من هذا الخلاف. ويجب عليه ألا يحكم مع وجود ما يدهش العقل، ويمنعه من
التفكير الصحيح، كالغضب والجوع الشديد، والخوف، وضيق الصدر؛ لأن ذلك يمنع من
الوصول إلى الحق غالبًا، والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقضي حكم بين اثنين وهو غضبان".
كما في البخاري، وكذا يجب عليه التسوية بين الخصوم في الكلام والاستماع، والنظر إليهما ونحو ذلك، ولو كان أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا. واتخاذ كاتب عالم بطرق الكتابة عدل؛ ليؤتمن على كتابة الحق، وقيل: لا يشترط كونه عدلًا، واتخاذ مترجم عدل يترجم له ما لا يعرفه من لغات المتخاصمين، وإحضار شهود ليحفظوا الإقرارات التي تقع من الخصوم خشية جحدها، وليشهدوا على ما يحكم به؛ لأن حكمه لا يتم بلا شهود. ويجوز له اتخاذ حاجب وساع، وقد بندب هذا إذا كان في وجوده مصلحة؛ أو يجب. ويكره له الإفتاء فيما شأنه التخاصم فيه كالبيوع والجنايات؛ لأنه يؤدي إلى سوء الظن به والتكلم في شأنه؛ لأنه إن حكم بما أفتى به ربما قيل: حكم بذلك لتأييد فتواه، وإن حكم بخلاف ذلك لتجدد نظر، قيل: حكم بما لم يفت به. ويستحب له أن يأمر ذوي الفضل من أهل العلم والصلاح، والأقارب بالصلح فيما يتأتى فيه الصلح، لا في طلاق ونحوه؛ لأن الفصل في القضايا قد يتولد عنه حقد في النفوس، والأقارب. وذوو الفضل ينبغي إزالة الحقد من بينهم أكثر من غيرهم لشدة اتصالهم، وتأدية الحقد بينهم إلى مضار شديدة، كما يستحب له أن يفرد يومًا أو وقتًا للنساء، وأن يجعل مواعيد جلوسه للحكم معلومة؛ ليسهل الأمر علي الناس. وقد ذكر الفقهاء آدابًا تطلب منه في بدء ولايته، ومعظمها الآن لا يطالب به القاضي، وذلك كقولهم: يندب له أن يبدأ بعد توليه بالنظر في الشهود، ويثنى بالنظر في المحبوسين في الدعاوى للتحقيق، ويثبت بالنظر في الأوصياء، وبعده يكلف مناديًا ينادي بعدم معاملة المحجور عليهم. ثم بعد هذا ينظر في الضوال واللقطة، وبعد التفرغ منها ينظر في الخصومات العامة. فمن ينظر في هذه الأمور يجد أنها لا تتحقق إلا في قضاة العصور التي كان القاضي فيها ينظر في كل الشؤون، أما في هذه العصور التي وزعت فيها الأعمال على موطفين متعددين، فإن طلب هذه الآداب موجه إلى غير القضاة، فالنظر في الشهود المقامين لحفظ الإقرارات من اختصاص وزارة الحقانية. والنظر في المحبوسين للتحقيق من اختصاص النيابة وقضاة التحقيق والإحالة. والنظر في الأوصياء من اختصاص المجالس الحسبية، وتكليف المنادين أو النشر في الجرائد من عمل الوزارة، والنظر في اللقطة والضوال من أعمال الإدارة.
وبالجملة فإنهم ذكروها من آداب القاضي؛ لأن عصرهم كان القاضي فيه ينظر في كل هذه=
وزَادَ عَلِيٌّ رضي الله عنه "السَّرقَةَ، وَشُرْبَ الْخَمْرِ".
= الشؤون. أما في عصرنا فإن المطالب بها من هي داخلة في عمله، وقد رسموا للقاضي الخطة التي ينبغي أن يسير عليها في سماع دعاوى المتخاصمين، فقالوا: يجب عليه تقديم المسافر على الحاضر، إلا لضرورة. وتقديم ما يخشى فواته لو قدم غيره عليه. ثم يقدم السابق، وإن لم يعرف أقرع بينهم إن لم يرضوا بما يراه. وعند سماع الدعاوى يجب عليه أن يأمر المدعي بالكلام، وهو من تجرد قوله عن أصل أو معهود عرفًا يصدقه حين دعواه كطالب دين على آخر، فإن الأصل والمعهود عدم ما ذكر. فإن لم يعلم المدعي، فالجالب لصاحبه إلى القاضي هو الذي يؤمر بالكلام، فإن لم يكن جالب أقرع بينهما، فإن ادعى معلومًا محققًا من مال أو غيره، وبين في دعوى المال السبب سمع دعواه. أما إذا لم يدع معلومًا محققًا، كان ادعى بمجهول أو بمعلوم غير محقق، أو لم يبين السبب في دعوى المال لم يسمع دعواه، ثم بعد أن يسمع دعوى المدعي يأمر المدعى عليه، وهو من ترجح قوله بمعهود شرعي كالأمانة بالنسبة للوديع، أو أصل كالمدين، فإن الأصل عدم الدين بالجواب إما بالإقرار أو الإنكار، فإن أقر شهدوا عليه وثبت الحق، وإن أنكر قال للمدعي: ألك بينة؟ فإن نفاها كان له أن يحلفه، سواء ثبتت بينهما خلطة أو لا. فإن حلف برئ، ولا يقبل للمدعي بعد ذلك بينة إلا لعذر كنسيان لها عند تحليف المدعى عليه. ويحلف إن أراد القيام بها أنه نسيها. وإن أقام البينة ولم ينفها أعذر القاضي إلى المدعى عليه بأن يقول له بعد سماع بينة المدعي: أبقيت لك حجة وعذر في هذه البينة؟ فإن قال: نعم لي مطعن فيها أنظره القاضي بالاجتهاد للإتيان بذلك المطعن، فإن لم يأت به في مدة الإنظار حكم عليه بمقتضى الدعوى، كما إذا نفى أن له مطعنًا فيها، وبعد الحكم عليه يعجزه ويسجل ذلك التعجيز، فلا يقبل منه مطعن في البينة بعد ذلك. وكذا إذا طلب المدعى من القاضي أن ينظره لإحضار البينة، ولم يأت بها في مدة الإنظار؛ فإن القاضي يعجزه ويسجل ذلك. فلا تقبل منه بينة بعد ذلك إلا في دعوى القتل، والعتق، والطلاق، والوقف، والنسب؛ فإن هذه الأمور الخمسة لا تعجيز فيها؛ بل يكون باقيًا على حجته متى أقامها حكم له بمقتضى دعواه؛ لعظم أمر هذه الأشياء وإن سكت المدعى عليه ولم يجب لا بإقرار ولا إنكار حبسه وضربه ليجيب، ثم حكم عليه بلا يمين من المدعي، لأن اليمين فرع الجواب، وهو لم يجب.
هذه هي الطريقة التي تسلك في معظم الدعاوى. وهنالك طرق خاصة تسلك في بعض الوقائع لم نذكرها لضيق الوقت؛ فمن أحب الوقوف عليها. فليطلبها في مظانها.
وأما مكان جلوسه للحكم فقد اختلفوا فيه، فقيل: يندب أن يكون برحاب المسجد؛ ليسهل وصول جميع المتخاصمين إليه، ولبعده عن التكلف والإسراف ومظاهر الترف، وقيل يكره=
وَقِيلَ: مَا تَوَعَّدَ الشَّارعُ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ.
[المُحْصَنَاتِ]
(1)
، وَالزِّنَا، والفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ
(2)
،
…
= الجلوس بالمسجد؛ لأنه يؤدي إلى امتهانه بكثرة لغط الخصوم، وقيل: يكره الجلوس بمنزله؛ فقد أنكره عمر على أبي موسى الأشعرى وأمر بإضرام داره عليه نارًا، وقيل: لا بأس بالجلوس فيها متى جعلها مباحة، ونقلوا عن مالك أنه قال:"لا بأس أن يقضي القاضي بمنزله، وحيث أحب" ولكل من هذه الأقوال أدلة مذكورة في محالها. ومن يتأمل في كلامهم يجد أنهم متفقون على أن المطلوب هو الجلوس للحكم بمكان لا يترنب عليه محرم، ولا يمنع من الوصول إلى الحق وإقامة العدل، وعلى هذا فاتخاذ دور مخصوصة لإقامة الأحكام فيها كدور المحاكم الحاضرة، لا مانع منه على كل الأقوال. وقالوا: يكره له الجلوس للحكم في المواسم كالعيد وقدوم الحاج، وفي الأوقات التي يشق على الناس الحضور فيها كوقت نزول المطر والعواصف الشديدة. ويندب له تأديب من أساء عليه في مجلسه، وإن لزم منه الحكم لنفسه خشية انتهاك حرمته، إلا في مثل: اتق الله في أمري فيرفق به، ولا يجوز له تأديبه؛ لأن هذا ليس فيه إهانة، وكذا من أساء على خصمه أو شهوده بحضرته كأن قال له: يا فاجر أو يا ظالم. لا إن قال: شهدت بباطل أو ظلمتني؛ فإن هذا ليس فيه إساءة، وأما بغير حضرته فلا يؤدبه إلا إذا ثبت ذلك ببينة أو إقرار.
وذكروا كيفية جلبه للخصوم فقالوا: يجلب الخصوم إما برسول، أو خاتم، أو أمارة أو ورقة إن كان على مسافة القصر فأقل بمجرد الدعوى، وإن كان على أكثر منها فلا يجلبه إلا إذا شهد شاهد بالحق خشية أن يكون الغرض التشفي من المدعى عليه، وإنما يجلبه إذا كان بمحل ولايته. وقالوا: إن سماع الدعوى يكون حيث يوجد المدعى عليه على الأرجح.
هذا بعض ما ذكروه من آداب القاضي وكيفية سيره في الدعاوى. ومن ينظر فيه وفي غيره مما ذكروه في ذلك يتبين له أن الدين الإسلامي قد أرشد إلى أنظمة الحكم أحسن إرشاد، ورسم للقاضي أحسن الخطط التي لو سار عليها ما عرف الجور إلى حكمه سبيلًا. وأن ما أرشد إليه ورسمه يفوق المذكور في لوائح المحاكم الحديثة في شرف الغاية ومساعدته على إقامة العدل على خير الوجوه. ولا ينقصه إلا الترتيب والتنظيم، وهو أمر يسير لا يتوقف الوصول إلى المقصود عليه.
(1)
في ت، ح: المحصنة.
(2)
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، في هذه الآية ينهى الله المؤمنين عن الفرار من الكفار إذا التقوا بهم في القتال،=
وَأَمَّا بَعْضُ الصَّغَائِرِ فَمَا يَدُلُّ عَلَى الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وحكمة ذلك أن الفرار كبير المفسدة وخيم العاقبة؛ لأن الفارّ يكون كالحجر يسقط من البناء فيتداعى ويختل نظامه؛ لهذا عدّ الشارع الحكيم الفرار من الزحف من أكبر الجنايات، وقد توعد الله المقاتلين الذي يولون العدوّ ظهورهم فقال:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الآية.
وفي الفرار من العدو عار يجعل الحياة بغيضة عند النفوس الأبيّة قال يزيد بن المهلّب: "واللّه إني لأكره الحياة بعد الهزيمة".
قال بعض العلماء: إن هذا النهي خاصّ بوقعة بدر، وبه قال نافع، والحسن، وقتادة، ويزيد بن أبي حبيب، والضحاك، ونسب إلى أبي حنيفة كما حكاه القرطبي.
وقال الجمهور - وهو المروى عن ابن عبّاس -: إن تحريم الفرار من الصف عند الزحف باقٍ إلى يوم القيامة في كل قتال يلتقى فيه المسلمون والكفار.
استدل الأوّلون بقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فقالوا: إن الإشارة في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} إلى يوم بدر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} .
وقد ردّ الجمهور عليه بأن الإشارة فيه إلى يوم الزحف الذي تضمنه قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} أي كل مرة تلقون فيها الكفار يحرم عليكم الفرار منهم، وحكم الآية باقٍ بشرط الضِّعف الذي بينه الله تعالى في قوله:{فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية - والذي يؤيد أن الإشارة عامة في كل زحف أن الآية نزلت بعد انقضاءِ الحرب وذهاب اليوم بما فيه.
واستدل الجمهور بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقالوا: إن الآيات عامّة في كل زحف، وليست خاصّة بغزوة بدر دل على ذلك ما صَحَّ في مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ" وَعَدَّ منها الفرار يوم الزحف؛ فدلّ على حرمته في كل زحف وزمان، غير أن هذه الحرمة مقيدة بأمرين:
أحدهما: ما دل عليه قوله تعالى: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} فإنه متى قصد أحد هذين الأمرين من الفرار لم يكن محرمًا، بل قد يكون واجبًا إذا اقتضته المصلحة كضمّ قوة المسلمين بعضها إلى بعض - ثانيهما - عدم زيادة الكفار على ضعف عدد المسلمين، أما إذا زادوا على الضعف فاختلف الفقهاء في حكمه:
فذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز الفرار مطلقًا. =
وَبَعْضُ الْمُبَاحِ كَاللَّعِبِ بِالْحَمَامِ وَالاِجْتِمَاعِ مَعَ الأَرْذَالِ وَالْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ مِمَّنْ لا تَلِيقُ بِهِ وَلا ضَرُورَةَ.
والسِّحْرُ
(1)
، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيْمِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ المُسْلِمَيْنِ، والإِلْحَادُ فِي الحَرَمِ".
= وذهب المالكية إلى جوازه ما لم يبلغ جيش المسلمين اثني عشر ألفًا غير مختلفين على أنفسهم، فإن بلغ هذا العدد مع الاتحاد حرم الفرار، ونسبه الجصاص إلى الحنفية، ورأى صاحب البدائع منهم أن العبرة بالقوة والاستعداد دون العدد فقال: والغزاة إذا جاءهم جمع من المشركين ما لا طاقة لهم به وخافوهم أن يقتلوهم، فلا بأس لهم أن ينحازوا إلى بعض أمصار المسلمين أو إلى بعض جيوشهم، والحكم في هذا الباب لغالب الرأي، وأكبر الظن دون العدد، فإن غلب على ظن الغزاة أنهم يقاومونهم يلزمهم الثبات، وإن كانوا أقل عددًا منهم، وإن كان غالب ظنهم أنهم يغلبون فلا بأس أن ينحازوا إلى المسلمين؛ ليستعينوا بهم وإن كانوا أكثر عددًا من الكفرة" وذهب ابن حزم إلى تحريم الفرار مهما بلغ العدد.
"الأدِلَّة":
استدل الشافعية والحنابلة بقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} الآية - وجه الاستدلال: أنها دلت على وجوب ثبات المائة للمائتين بعد أن كان الواجب أن تثبت المائة للألف، وذلك تخفيف من الله ورحمة. وعلى ذلك فإذا زاد الكفار على هذه النسبة جاز للمسلمين الفرار.
واستدل المالكية بما رواه الزهريّ عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث فيه طول: "وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ" وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما معناه: إِذَا بَلَغَ جَيْشُكُمْ هَذَا الْعَدَدَ فَلا تأتِيهِ الْهَزِيمَةُ مِنْ جِهَةِ عَدَدِهِ، وإنَّمَا تَأتِيهِ مِنْ وُقُوعِ الْخُلْفِ بَيْنكم، وإذَا كَانَتْ الْهَزِيْمَةُ لا تَأتِي مِنَ الْعَدَدِ فَلا يَجُوزُ الفِرَارُ.
وتمسّك ابن حزم بظاهر قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} فإنها تدل بظاهرها على وجوب الثبات مهما بلغ عدد العدوّ.
يرد على الحديث الذي استدل به المالكية أنه غير صحيح، فقد قال العلّامة القرطبي: رواه بشر وأبو سلمة العاملي، وهو الحكم بن عبد الله بن خطاف، وهو متروك. وعلى فرض صحته فالمراد منه أن الغالب على هذا العدد النصر والظفر، ولا تعرض فيه لحرمة الفرار أو عدمها، وبهذا يرد على المالكية والحنفية فيما نسبه الجصّاص إليهم. ويرد على ابن حزم أن الأمر بعدم الفرار في الآية مخصص بالّا يزيد العدد على ضعف عدد المسلمين.
(1)
السحر أصله التمويه والتخاييل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيخيَّل للمسحور أنها بخلاف ما هي به؛ كالذي يرى السراب من بعيد فيُخيّل إليه أنه ماء، وكراكب السفينة السائرة=
وَأَمَّا الْحُرِّيَةُ وَالذُّكُورَةُ وَعَدَمُ الْقَرَابَةِ وَالْعَدَاوَةِ فَمُخْتَصٌّ بِالشَّهَادَةِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= سيرًا حثيثًا يُخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه. وقيل: هو مشتقّ من سَحرتُ الصبيَّ إذا خدعته، وكذلك إذا علَّلته، والتسحير مثله؛ قال لَبيد:
فإنْ تسألينا فِيم نحن فإنَّنا
…
عصافيرُ من هذا الأنام المُسَحَّرِ
وقال آخر: [الوافر]
أرانا مُوضِعِين لأمرِ غَيْبٍ
…
ونُسْحَرُ بالطعام وبالشَّرابِ
عصافيرٌ وذِبّانٌ ودُودٌ
…
وأَجْرأ مِن مُجَلِّحَة الذئاب
وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153] يقال: المسحر الذي خلق ذا سحر؛ ويقال من المعلَّلين؛ أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب. وقيل: أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله في خفية. وقيل أصله الصرف؛ يقال: ما سحرك عن كذا، أي ما صرفك عنه؛ فالسحر مصروف عن جهته. وقيل؛ أصله الاستمالة؛ وكل من استمالك فقد سحرك. وقيل في قوله تعالى:{بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 15] أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا. وقال الجوهري: السحر الأخذة؛ وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر؛ وقد سحره يسحره سحرًا. والساحر: العالم، وسحره أيضًا بمعنى خدعه؛ وقد ذكرناه. وقال ابن مسعود: كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه. والعضه عند العرب: شدة البهت وتمويه الكذب؛ قال الشاعر:
أعوذ بربِّي من النّافثا
…
تِ في عِضهِ العاضه المعضه
[واختلف هل له حقيقة أم لا؛ فذكر الغَزْنَوِيّ الحنفي في عيون المعاني له: أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له، وعند الشافعي وسوسة وأمراض. قال: وعندنا أصله طِلسْم يُبنى على تأثير خصائص الكواكب؛ كتأثير الشمس في زئبق عِصِيّ فرعون، أو تعظيم الشياطين ليسهّلوا له ما عَسُر.
قلت: وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء. ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشَّعْوَذة. والشَّعْوَذّي: البريد لخفَّة سيره. قال ابن فارس في المُجْمَل: الشعوذة ليست من كلام أهل البادية، وهي خفة في اليدين وأُخْذَةٌ كالسحر؛ ومنه ما يكون كلاهمًا يُحفظ، ورُقى من أسماء الله تعالى. وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك.
ومن السِّحر ما يكون كُفْرًا من فاعله؛ مثل ما يدّعون من تغيير صُوَر الناس، وإخراجهم في هيئة بهيمة، وقطع مسافة شهر في ليلة، والطيران في الهواء؛ فكل مَن فعل هذا ليُوهِم الناس أنه محق فذلك كفر منه؛ قاله أبو نصر عبد الرحيم القُشَيري. قال أبو عمرو: من زعم أن الساحر=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يقلب الحيوان من صورة إلى صورة، فيجعل الإِنسان حمارًا أو نحوه، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها؛ فهذا يرى قتل الساحر؛ لأنه كافر بالأنبياء، يدّعي مثل آياتهم ومعجزاتهم، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوّة؛ إذ قد يحصل مثلها بالحيلة. وأما من زعم أن السحر خُدَع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر، إلا أن يقتل بفعله أحدًا فيُقتل به.
ذهب أهل السُّنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة. وذهب عامّة المعتزلة وأبو إسحاق الاستراباذي - من أصحاب الشافعي - إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرْب من الخفّة والشعْوذة؛ كما قال تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] ولم يقل تسعى على الحقيقة، ولكن قال:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} . وقال أيضًا: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]. وهذا لا حجة فيه؛ لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوّزها العقل ووَرَد بها السمع؛ فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه، ولا أخبر تعالى أنهم يعلّمونه الناس، فدلّ على أن له حقيقة. وقوله تعالى في قصة سَحَرة فرعون:{وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وسورة "الفلق"؛ مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعْصَم، وهو مما خرّجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَحر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يهوديٌّ من يهود بني زُرَيق يقال له: لَبيد بن الأعصم؛ الحديث. وفيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لما حُلّ السّحر: "إن اللّه شفاني". والشفاء إنما يكون برفع العِلّة وزوال المرض؛ فدل على أن له حقًّا وحقيقة، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه. وعلى هذا أهل الحلّ والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحُثَالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق. ولقد شاع السِّحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه، ولم يَبْدُ من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله. وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال: عُلِّم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها: "الفَرَما" فمن كذّب به فهو كافر، مكذب لله ورسوله، منكرٌ لما عُلم مشاهدةً وعِيانًا.
واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذِّميّ، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرًا يُقتل ولا يُسْتَتاب، ولا تُقبل توبته؛ لأنه أَمْرٌ يستَسِر به كالزنديق والزاني، ولأن الله تعالى سَمَّى السحر كفرًا بقوله:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة. وروى قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين. ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: (حَدُّ الساحر ضَرْبُه بالسيف) خرّجه الترمذي، وليس بالقوِيّ؛ انفرد به=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحديث ابن عمر روى موقوفًا
(1)
ومرفوعًا
(2)
. ولفظ الكتاب لم أره مجموعًا في رواية.
وإنما الذي رواه الحافظ أبو بكر البرزنجي عن ابن عمر "الكَبَائِرُ سَبْعٌ: الشِّرْكُ باللَّهِ وعُقُوقُ الوَالِدَيْن، [وَالزِّنَا]
(3)
، وَالسِّحْر، وَالفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكلُ الرِّبَا، وَأكْلُ مَالِ
= إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف عندهم، رواه ابن المنذر. وقد رَوَينا عن عائشة أنها باعت ساحرة كانت سحرتها، وجعلت ثمنها في الرِّقاب. قال ابن المنذر: وإذا أقرّ الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرًا وجب قتله إن لم يَتُب، وكذلك لو ثبتت به عليه بيّنة، ووصفت البينة كلامًا يكون كفرًا. وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سَحَر به ليس بكفر لم يجز قتله، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتُصّ منه إن كان محمد ذلك؛ وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دِيَة ذلك. قال ابن المنذر: وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسُّنة؛ وقد يجوز أن يكون السِّحر الذي أمرَ من أمر منهم بقتل الساحر سحرًا يكون كفرًا، فيكون ذلك موافقًا لسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفرًا. فإن احتجّ محتجّ بحديث جُنْدَب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:(حدُّ الساحر ضربه بالسيف) فلو صحّ لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفرًا، فيكون ذلك موافقًا للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا يحل دمُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)
…
قلت: وهذا صحيح، ودماء المسلمين محظورة لا تُستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف. والله تعالى أعلم.
(1)
الموقوف: ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم وأفعالهم ونحوها، فيوقف عليهم، ولا يتجاوز به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو أيضًا يعم المتصل وغيره، غير أن الحاكم شرط فيه عدم الانقطاع، وشذ في ذلك.
وقد يستعمل مقيدًا في غير الصحابي، فيقال: حديثُ كذا وقفه فلان على عطاء، وحديث كذا وقفه فلان على طاوس، وحديث كذا وقفه فلان على الزهري ونحو ذلك من التابعين.
وقد يستعمل مقيدًا أيضًا فيمن بعدهم، فيقال: موقوف على مالك، موقوف على الثوري، موقوف على الأوزاعي، موقوف على الشافعي، ونحو ذلك. ينظر: غيث المستغيث ص 10.
(2)
المرفوع: ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لا يقع مطلقه على غير ذلك من نحو الموقوف على الصحابة وغيرهم، وهو أعم من المتصل وغيره في رأي الجمهور، ولكن إذا ذكر المرفوع في مقابلة المرسل فإنهم يعنون به المتصل مثل أن يقال في حديث: رفعه فلان، وأرسله فلان.
ينظر: غيث المستغيث ص 10.
(3)
في أ، ح: الربا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اليَتِيمِ" ورواه أبو القاسم البَغَوِي، ولم يذكر الزّنا، وزاد "وقَذْفُ المُحْصَنَةِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ المُؤمِنَةِ، وَالإِلْحَادُ بِالبَيْتِ الحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحياءً وَأَمْوَاتًا"، وقال: "وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ المُسْلِمَيْنِ".
ومَدَارُ الحديث على أيوب بن عتبة
(1)
قاضي "اليمامة، وقد تكلّم فيه غير واحد من الأئمة منهم أحمد، وابن معين
(2)
، وابن المَدِينِي
(3)
، والبخاري، ومسلم، والنَّسَائي، والدَّارَقُطْني، وابن، عدي.
"وزاد أبو هريرة رضي الله عنه: أكل الربا".
وحديث أبي هريرة في الكَبَائر متّفق عليه، ولفظه "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْر، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ
(1)
أيوب بن عتبة اليمامي قاضيها أبو يحيى. عن عطاء ويحيى بن أبي كثير. وعنه آدم ومحمود بن محمد، ضعفه أحمد في حديث يحيى بن أبي كثير، قال خليفة: توفي سنة ستين ومائة، ينظر: تهذيب الكمال 1/ 135، وتهذيب التهذيب 1/ 408، وتقريب التهذيب 1/ 90، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 112، والكاشف 1/ 147، وتاريخ البخاري الكبير 1/ 420، والجرح والتعديل 2/ 253، وميزان الاعتدال 1/ 290، ولسان الميزان 7/ 182.
(2)
يحيى بن معين بن عون الغطفاني، أبو زكريا البغدادي: الحافظ الإمام العلم عن ابن عيينة وإسماعيل بن عياش وعباد بن عباد ويحيى القطان، وعنه أحمد وداود بن رشيد وعباس بن محمد بن يحيى وصالح البغوي. قال أحمد: كل حديث لا يعرفه يحيى فليس بحديث. قال ابن أبي خيثمة: مات بالمدينة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وحمل على أعواد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونودي بين يديه: هذا الذي يذب الكذب عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ينظر: خلاصة الخزرجي 3/ 161 (8054).
(3)
علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح التميمي السعدي: مولاهم أبو الحسن البصري الحافظ، إمام أهل الحديث. عن أبيه وحماد بن زيد ومعاوية بن عبد الكريم وابن عيينة والقطان وخلائق، وعنه: البخاري وأبو داود ومحمد بن عبد الرحيم ومحمد بن يحيى، وكان ابن عيينة يسميه: حية الوادي. وقال القطان: كنا نستفيد منه أكثر مما يستفيد منا. قال البخاري: مات سنة أربع وثلاثين ومائتين. ينظر: خلاصة الخزرجي 2/ 251 ت (5008).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المُؤْمِنَاتِ"
(1)
، وأنت ترى لفظ الحديث ليس فيه أنها الكبائر، بل إنها السبع الموبقات، والمُوبقات أخصُّ من الكبائر.
"وزاد عليٌّ "السَّرِقَة، وَشُرْبُ الخَمْرِ"" - والسّرقة لا يُعْرَف لها إسناد عنه - كرَّم الله وجهه - والخمر، روى عنه أن مُدمِنَهُ كَعَابِدِ وَثَنٍ
(2)
.
"وقيل: ما توعد عليه بخصوصه".
قال الرَّافعي: وهو أكثر ما يوجد للأصحاب.
وقيل: ما يوجب الحَدّ - قال الرَّافعي: وهم إلى ترجيحه أميل.
وقال القاضي أبو سعيد الهروي: الكبيرة كل فعل نَصَّ الكتابُ على تحريمه، وكل معصية توجب إلى جنسها حدًّا، وترك كل فريضة مأمور بها على الفَوْرِ، والكذب في الشَّهادة، والرواية، [واليمين]
(3)
.
والأصحُّ عندي - وبه قال إمام الحرمين - كُلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدين، ورقّة الدِّيَانة؛ كالقَتْلِ، والزِّنَا، واللِّوَاط، وَشُرْب الخَمْر - قليله وكثيره - والسَّرقة،
(1)
أخرجه البخاري (5/ 462) كتاب الوصايا: باب قول الله تعالى: "إن الذين يأكلون ...... "(2766) وفي (10/ 243) كتاب الطب: باب الشرك والسحر من الموبقات (5764) وفي (12/ 188) كتاب الحدود: باب رمي المحصنات (6857).
ومسلم (1/ 92) كتاب الإيمان: باب بيان الكبائر حديث (145/ 89).
(2)
أخرجه ابن ماجه (3375) وابن أبي شيبة (8/ 6) وابن عدي (6/ 2234) وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 182).
قال الحافظ البوصيري في زوائد ابن ماجة. (3/ 102): وهذا إسناد فيه مقال، محمد بن سليمان ضعفه النسائي وابن عدي، وقواه ابن حبان، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، وباقي رجال الإسناد ثقات. وله شاهد من حديث ابن عباس بلفظ:"من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن" أخرجه ابن حبان (1379 - موارد) وابن عدي في "الكامل"(4/ 1525)، والبزار (3/ 356) رقم (2934) وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 253) من طريق حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا.
(3)
في ت: واليمنى، وهو خطأ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والغصب، والقَذْف، وشَهَادة الزُّور، وشرب المُسْكر وإن لم يكن خمرًا، واليمين الفَاجِرة، وقطيعة الرّحم، والعُقُوق، والفِرَار من الزَّحْفِ، وأكل مال اليتيم، والخِيَانة في الكَيْل والوَزْن، وتقديم الصَّلاة على وَقْتها، وتأخيرها عن وقتها، وضرب المسلم بغير حقّ، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الشيخ أبو محمد يكفر فيه - وسبّ الصحابة
(1)
وكِتْمَان الشَّهادة بلا عُذْرٍ، وأخذ الرّشوة، والدِّيَاثة، والقِيَادة، والسّعَايَة عند السُّلطان، ومنع الزَّكاة، واليأس من رحمة الله - تعالى - والأمن من مَكْرِهِ، والظّهار، وأكل [لحم]
(2)
الخِنْزِير، والميتة من غير ضرورة.
قلت: وكذلك إفطار رَمَضَان، والغُلُول
(3)
، والمُحَاربة، والسِّحْر، والزِّنَا.
(1)
قال أبو زرعة الرازي: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة. وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فالجرح بهم أولى. قال ابن الصلاح: "ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع؛ إحسانًا للظن بهم ونظرًا إلى ما تمهد إليهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك؛ لكونهم نقلة الشريعة.
(2)
سقط في ت.
(3)
والغل الخيانة يُقَالُ: غَلَّ في المَغْنَمِ، يَغُلُّ غُلُولًا إِذَا سَرَقَ مِنَ الغَنِيمَةِ، وَمَنْ قَرَأ "يُغُلَّ" بِضَمَ اليَاءِ وفتح الغَيْنِ، أَي: يُخَانَ وَنَهَى أصْحَابَهُ أَنْ يَخُونُوه، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ يُخَوَّنَ - أيْ: يُنسَبَ إلَى الخِيَانَةِ، وَسُمِّيَتِ الخِيَانَةُ غُلُولًا؛ لأَنَّ الأيْدِي مَغْلُولَةٌ مِنْهَا، أَيْ مَمنُوعَةٌ مِنْهَا.
وقد رُوي في عقوبة الغال عن عمَر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا وجدتم الرجل قد غَلَّ، فأحرقوا متاعه، واضربوه" وهذا حديث غريب.
وذهب بعض أهل العلم إلى ظاهر هذا الحديث، منهم الحسن البصري، قال: يُحرق ماله إلا أن يكون حيوانًا، أو مصحفًا، وكذلك قال أحمد وإسحاق. قالوا: "ولا يُحرق ما غلَّ؛ لأنه حقُّ الغانمين يُردُّ عليهم، فإن استهلكه، غَرِمَ قيمته، وقال الأوزاعي: يحرق متاعه الذي غزا به، وسرجه وإكافه، ولا تُحرق دابته، ولا نفقته، ولا سلاحه، ولا ثيابه التي عليه.
وذهب آخرون إلى أنه لا يُحرق رحلُه، لكنه يُعزَّرُ على سوء صنيعه، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وحملوا الحديث على الزجر والوعيد دون الإيجاب، قال محمد بن إسماعيل: قد رُوي في غير حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الغالِّ، ولم يَأمر بحرق متاعه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"وأما بعض الصَّغَائر مما يدلّ على الخسّة كسرقة لُقْمَةٍ، والتطفيف بحبّة".
وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: لا صَغِيرَةَ في الذنوب، بل والكل كبائر.
"وبعض المباح كاللّعب بالحَمَام"، كذا قال، ومراده ما لا إِثْمَ فيه، وإلا فهو مكروه وليس مستوى الطَّرفين، ثم إنه لا يُرَدُّ به الشَّهَادة بمجرّده.
نعم، إن انضم إليه قِمَار وما في معناه، رُدّت.
"والاجتماع مع الأراذل والحِرَف الدَّنِيَّة ممن لا يَلِيقُ به ولا ضرورة"، على ما هو مفصّل في الفروع.
وتقييد المصنّف بمن لا يليق به حسن، فإن أصحابنا مختلفون في قَبُول شهَادَةِ ذي الحرف الدَّنيّة، على وجهين:
أصحهما: القَبُول.
قال الغَزَالِيّ: وموضع الوجهين ممن تليق به هذه الحِرَف، وكان ذلك من صِنْعَةِ آبائه، أما غيره فتسقط مروءته بها لا مَحَالَةَ.
وعَدَّ المصنّف الحرف الدَّنيئة التي لا تليق من المُبَاح هو المجزوم به في "النهاية" و"البسيط".
وكان القاضي ابن رزين ينقل أوجهًا في تعاطي المُبَاح الذي تُرَدُّ به الشَّهادة؛ لإخلاله بالمروءة.
ثالثها: إن [تعلّق
(1)
بمرتكبه شهادة حرم عليه، وإلّا فلا.
وكلام المصنّف صريح في أن المروءة أحد قيدي العَدَالَةِ، وهو صنيع بعض أصحابنا.
والأشهر عندهم عدّ المُروءة [صفة]
(2)
برأسها مشترطة في قبول الشهادة - وهو الأحسن.
"وأما الحُريّة، والذكورة، وعدم القَرَابة، والعداوة فمختصّ بالشهادة".
وكذلك جرّ الإنسان إلى نفسه نفعًا لا يمنع قَبُول الرواية، بخلاف الشهادة؛ لاشتراك النّاس في الرواية، صرَّح به ابن السَّمعاني.
(1)
في ح: تعلقت.
(2)
سقط في ت.
حُكْمُ خَبَرِ مَجْهُولِ الحَالِ
مَسْأَلَةٌ:
مَجْهُولُ الْحَالِ لا يُقْبَلُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَبُولُهُ.
لَنَا الأَدِلَّةُ تَمْنَعُ مِنَ الظَّنِّ فَخُولفَ فِي الْعَدْلِ فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ وَأَيْضًا الْفِسْقُ مَانِعٌ فَوَجَبَ تَحَقُقُ ظَنِّ عَدَمِهِ كَالصِّبَا وَالكُفْرِ.
ونقل القَرَافِي في "الفرق" عن بعض شيوخه: أنه رأى منقولًا فيما إذا روى العبد حديثًا يتضمن عتقه أن تقبل روايته؛ لأن العموم موجب لعدم التهمة في الخصوص مع وازع العدالة.
قلت: ويتجه ألا تقبل إذا تضمّنت عتقه [هو]
(1)
وحده، وسيأتي في هذا كلام يعضُده عند ذكرنا الفرق بين الرِّوَاية والشهادة.
«مسألة»
الشرح: "مجهول الحال لا يقبل"
(2)
.
وعن أبي حنيفة رحمه الله: قبوله".
قيّده بعض أصحابه بالمجهول في صدر الإسلام.
أما في هذه الأعصر المشحونة بالفساد، فلا يقبل.
ثم المجهول؛ إما مجهول العين، أو معروف العين، ولكنه مجهول العدالة ظاهرًا،
(1)
سقط في ح.
(2)
ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 280، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 614، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 100، والمنخول للغزالي 258، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 246، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 175، 178، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 387، والتحرير لابن الهمام 316، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 48، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 28، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 64، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 247.
قَالُوا: الْفِسْقُ سَبَبُ التَّثبُّتِ فَإِذَا انْتَفَى انْتَفَى.
وباطنًا -[وهذان]
(1)
لم يقل أحد من أصحابنا بقبول روايتها - أو مجهول العدالة باطنًا، ولكن ظاهره لا ينافي العَدَالة، وهو مستور [فهذا]
(2)
فيه خلاف بين أئمتنا.
قال الأستاذ أبو بكر بن فورك، وسليم بن أيّوب [الرازي]
(3)
: يحتج بروايته - وعزاه بعضهم إلى الشافعي [نفسه]
(4)
، وهو زَلَل عليه، والمذهب خلافه.
"لنا: الأدّلة تمنع من الظَّن فخولف في العدل"، وعمل فيه بالظَّن للدليل القائم عليه، فبقى ما عداه".
وإن شئت قل: لولا السُّنة وإجماع الصحابة لما علمنا بخبر الواحد، ولسنا على يقين من إجماعهم إلا حيث كان الواحد عدلًا، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجهّز في رسله إلا عدلًا، فلو قبلنا المستور لقبلناه بلا دليل، وهذا دليل معتمد.
"وأيضًا: الفسق مانعٌ، فوجب تحقّقُ ظنّ عدمه كالصّبا والكفر".
ولك أن تقول: إذا كان مانعًا فالأصل في المانع إذا شك [فيه]
(5)
عدمه.
الشرح: "قالوا: الفِسْق سبب للتثبُّت، فإذا انتفى انتفى".
"قلنا: لا ينتفي إلا بالخبرة، أو التزكية".
"قالوا: نحن نَحكم بالظَّاهر".
"وردّ بمنع الظَّاهر"، فإنا لا نسلّم أن ظاهر المستور العدالة، بل الأمران فيه مستويان، "ويتحقق {وَلَا تَقْفُ} [الإسراء: 36] ".
"قالوا: ظاهر الصدق كإخباره بالزكاة، وطهارة الماء، ونَجَاسته ورقّ جاريته".
ورُدَّ بأن ذلك" ليس مما نحن فيه في شيء؛ فإنه ليس محل الخلاف، كما [قدمنا]
(6)
، بل هو "مَقْبول مع" تحقّق "الفسق"، "والرواية أعلى رتبة".
(1)
في ت: وهذا إن.
(2)
سقط في ت.
(3)
في أ، ح: الراوي، وهو خطأ.
(4)
سقط في ت.
(5)
سقط في ب.
(6)
في ح: قدمناه.
قُلْنَا: لا يَنْتَفي إِلَّا بِالْخِبْرَةِ أَوِ التَّزْكِيَةِ.
ومن آثار الخلاف في المسألة قَبُول المخالفين رواية أبي سَهْل عن مسة الأزدية - وهما مجهولان - عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: كانت النُّفَسَاءُ تقعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا.
فإن قلت: كيف قال الشافعي بانعقاد النكاح بحضور مستورين.
قلت: هذا هو الذي به وقع الزَّلل لمن نقل عن الشَّافعي العمل بخبر المَسْتُور، واعلم أن لأصحابنا أوجهًا في ذلك:
أحدها: لا ينعقد إلَّا بعدلين.
قال إمام الحرمين في "الأساليب": وهو الوجه.
والثاني: ينعقد بهما، وهو ظاهر النص والصحيح
(1)
أيضًا.
والثالث: إن كانا غريبين لم ينعقد النكاح بشهادتهما أصلًا، وإن كان الظّاهر العدالة، وقد عرفناهما وظننا بهما العدالة، ولم نبحث عن البَاطِنِ، فينعقد النِّكاح حينئذ.
فعلى عدم الانعقاد لا سؤال، وعلى الانعقاد نقول: قبول الرواية.
وإنما يتنزّل منزلة القضاء بالنِّكَاح، لا منزلة انعقاد النِّكَاح، والنكاح لا يقضى فيه التَّجاحد إلَّا بِعَدْلَيْنِ، فكذا الرواية.
وأما انعقاده فلأن من أحضر المستورين لم يترك الاحتياط والحزم؛ لأنه يعدلهما عند الاحتياج إليهما، إذا آل الأمر إلى الترافع، بخلاف المنتصر على فاسقيْن، ولو بَانَ الشَّاهدان فاسقين حال العقد، فالنكاح باطل على المذهب.
وقد ذهب إمام الحَرَمين في المستور إلى مقالة: أنا أحكيها، ثم أذكر ما عندي فيها.
قال: رواية العدل مقبولة، ورواية الفاسق مردودةٌ، ورواية المستور موقوفة إلى اسْتِبَانة حالته، فلو كُنا على اعتقاد في حل شيء، فروى لنا مستور تحريمه، فالذي أراه وجوب
(1)
في حاشية ج: قوله: والصحيح أيضًا، أي: هو الصحيح أيضًا؛ لأن مقابل الأصح صحيح؛ فليس شديد الضعف.
قَالُوا: نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ.
الانكفَاف عما كنا نستحلّه إلى تمام البحث عن حال الرّاوي، قال: وليس ذلك حكمًا بالحظر [المترتب]
(1)
على الرواية، وإنما هو توقّف في الأمر، والتوقّف في الإباحة يتضمّن الإعجاز وهو في معنى الحَظْر، فهو إذن حظر مأخوذ من قاعدة في الشَّريعة ممهّدة، وهي التوقُّف عند بدوّ ظواهر الأمور إلى استبانتها، فإذا ثبتت العَدَالة، فالحكم بالرواية إذ ذاك، انتهى.
فأما قوله بالوقف في رواية المستور، فليس في الحقيقة إلّا نفس مذهبنا؛ فإنا لا نضرب صَفْحًا إذا روى لنا المستور خبرًا، ونتركه بالوراء نبحث عنه، والوقفة قائمة إلى استتمام البَحْثِ.
وأمّا قوله: "لو كُنَّا على اعتقاد في حلّ شيء" إلخ.
فقال ابن الأنباري في "شرح البرهان": هذا مجمع عليه.
وأنا أقول: هذا في غاية من الإشكال، والوجه عندي. أنا إن كنا باقين على البراءة الأصلية وروى المستور التحريم، فلما قال الإمام: اتجاه ظاهر - وإن كان للمتعنّت أن يُنَازع فيه - وإن كان الحلّ مستندًا إلى دليل شرعي، فلا وجه للإحجام، كيف واليقين لا يرفع بالشّك؟
ويشهد لهذه التَّفرقة أنَّ أصحّ الوجهين أن من قال لامرأته: إن كنت حاملًا فأنت طالق؛ [أنه]
(2)
لا يحرم عليه وطؤها إلى أن يظهر الحمل؛ لأن الأصل عدمه، ولو قال: إن كنت حائلًا فالأصح: التحريم؛ لأن الأصل الحيال.
وما ادّعاه ابن الأنباري من الإجماع لا أعرفه.
وقد يستشهد لما نحن فيه بأن الصحيح فيمن ادّعى عينًا على رجل، وشهد له بها اثنان، وطلب الحَيْلُولة بينها، وبين المدّعى عليه إلى أن يزكى الشَّاهدان أنه يجاب، وإن ادعى دينًا حبس على أحد الوجهين، وصححه البغوي.
ولو شهد اثنان لعبد بأن سيده أعتقه، وطلب العبد الحَيْلُولةَ قبل التزكية، أجابه القاضي، وكذا إن لم يطلب، ورآها الحاكم على الأصح.
(1)
في ح: المرتب.
(2)
في ح: لأنه.
وَرُدَّ بِمَنع الظَّاهِرِ، وَبِنَحْوِ {وَلَا تَقْفُ} [سورة الإسراء: الآية 36].
قَالُوا: ظَاهِرُ الصِّدْقِ كَإِخْبَارِهِ بِالذَّكَاةِ وَطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَرِقِّ جَارِيَتِهِ.
وَرُدَّ بِأنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مَعَ الْفِسْقِ، وَالرِّوَايَةُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ ذَلِكَ.
وفي الأَمَةِ يتحتم الحَيْلُولة للبضغ، وكذا لو ادّعت المرأة الطَّلاق، يفرق الحاكم قبل التَّزكية.
[وقال المَازِرِيّ
(1)
: فيما ذكره الإمام]
(2)
: الأظهرُ عندي أن يناط الحكم فيه باجتهاد سامع الخبر، وما يتوسم من حال المخبر، وينقدح في نفسه من صدقه أو كذبه، وحال الفعل ومشقّة الكف عنه، أو سهولته وقوّة التحريم الذي رواه أو ضعفه، وما لاحظه من أصول الشَّرْع بخبره من قوّة أو ضعف إلى غير ذلك مما يعلمه المجتهدون.
قلت: وهذا كلام مبني على قواعد المالكية، لا على أصولنا، ولا اتجاه له أيضًا على قواعدهم، وقدمنا معناه في "التعليقة".
ثم قال الإمام: لو فرض [فارض]
(3)
اليأس من حال الرَّاوي واليأس من البحث عنها، بأن يروي مجهول لم ينغمس في غِمَارِ النَّاس، ويعسر [العثور]
(4)
عليه، فهذه مسألة اجتهادية عندي، قال: والظاهر أنه لا تنقلب الإباحة تحت الانكفاف وتنقلب الإباحة كراهة.
وقد وافقه المَازِرِيّ على ذلك.
ولك أن تقول: الحكم بالكَرَاهَةِ من دون دليل لا سبيل إليه، ثم إن المصير إليها مخالف لمقتضى الرواية؛ إذ مقتضاها، التحريم [و]
(5)
للدَّليل السَّابق؛ إذ قضيته استواء الطرفين، فإلى أي شيء يسند الكراهة؟
(1)
في ب: الماوردي.
(2)
سقط في ت.
(3)
سقط في ح.
(4)
في ت: العبور.
(5)
سقط في أ، ب، ح.
" الجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ"
مَسْأَلَةٌ:
الْأَكْثَرُ: أَنَّ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الرِّوَايَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ وَقِيلَ: لَا فِيهِمَا. وَقِيلَ: نَعَمْ فِيهِمَا الأَوَّلُ شَرْطٌ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَشْرُوطِهِ كَغَيْرِهِ.
«مسألة»
الشرح: "الأكثرون أن الجرح والتعديل يثبت بالواحد في الرواية دون الشَّهَادة".
"وقيل: لا فيهما"، وهو رأي القاضي
(1)
.
"وقيل: نعم فيهما".
احتج "الأوّل" بأن كلا من وجود التعديل، وانتفاء الجرح "شرط، فلا يزيد على [مشروطه]
(2)
لغيره".
"قالوا": الجَرْحُ والتعديل "شهادة، فيتعدّد" الجارح والمعدل كما في سائر الشهادات.
"وأجيب بأنه خبر"، ولا يشترط التعدُّد في الأخبار.
(1)
هذه المسألة في بيان أن الجرح والتعديل هل يثبت بواحد أم لا؟ اختلفوا فيه، فالأكثرون على أنهما يثبتان بواحد في الرواية دون الشهادة، وقال قوم: لا يثبت بواحد فيهما، بل لا بد من اعتبار العدد، وقال قوم: يثبت بواحد فيهما، وهو اختيار القاضي أبي بكر، والأشبه مذهب الأكثر؛ إذ لا نص ولا إجماع في هذه المسألة يدل على يقين أحد المذاهب، فلم يبق غير التشبيه والقياس، ولما كانت العدالة شرطًا في قبول الشهادة والرواية، فلا تزيد في إثباتها على مشروطها؛ إذ الشرط لا يزيد على مشروطه كما في غير محل النزاع، بل ينقض؛ فإن الإحصان يثبت بشاهدين دون الرجم، وإذا لم يزد كان إلحاقها بالمشروط في طريق إثباتها أولى من إلحاقها بغيره، وقد اعتبر العدد في قبول الشهادة دون الرواية، فكان الحكم في شرط كل واحد منهما ما هو الحكم في مشروطه. ينظر: الشيرازي 263 ب/ خ، والرازي 2/ 1/ 585، والمستصفى 1/ 162، والبرهان 1/ 562، والإحكام للآمدي 2/ 77، وشرح العضد 2/ 64، وتيسير التحرير 3/ 58، وفواتح الرحموت 2/ 150، وحاشية البناني 2/ 163، وإرشاد الفحول 66، والمسودة 271.
(2)
في ح: مشرطه.
قَالُوا: شَهَادَةٌ فَيَتَعَدَّدُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ.
قَالُوا: أَحْوَطُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الآخَرَ أَحْوَطُ وَالثَّالِثُ ظَاهِرٌ.
وقد [يؤخذ]
(1)
من هذا أن الشهادة عنده ليست خبرًا، بل إنشاء - وفيه كلام لسنا له الآن.
والحق عندنا: أن الشهادة ذات شَائبتين من الخبر والإنشاء.
"قالوا": اعتبار العَدَد فيهما "أحوط".
و "أجيب: بأن الآخر" - أي: اعتبار عدم العدد - "أحوط"؛ لاحتمال تضييع الأمر والنهي عند عدم اعتبار قَوْلِ الواحد، وذلك حيث لا يكون في القضية غير راوٍ واحد.
"و" المذهب "الثَّالث" دليله "ظاهر" من المذهبين.
وهنا نذكر لك حَقِيْقَةَ الفرق بين الشَّهادة والرواية، فإنه مهم.
وقد نقل القَرَافِي في "الفروق" أن المَازِرِيّ قال في "شرح البرهان": هما خبران غير أن المخبر عنه إن كان [عامًّا]
(2)
لا يختص بمعين، ولا ترافع فيه إلى الحكام فهو الرواية.
وإن كان خاصًّا بمعين، والترافع فيه ممكن فهو الشهادة - ورأيت أنا كلام المَازِرِي - وبهذا فرق، غير أنه لم يذكر أنّ الشهادة خبر.
وإذا وضح لك وجه الفَرْق بين الشَّهادة والرواية - لاح مناسبة اعتبار العدد في الشهادة استظهارًا، دون الرواية، [وثبتت]
(3)
على الأصلين التَّزكية فيهما.
ويحقق المُنَاسبة وجوه ذكرها شيخ الإسلام أبو محمد بن عبد السَّلام.
أحدها: أن الغالب من المسلمين مهابة الكَذِبِ على وسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف شهادة الزُّور، فاحتيج إلى الاستظهار فيها.
(1)
في أ، ح: يوجد.
(2)
في ت، ح: عالمًا.
(3)
في ح: وثبت.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْقَاضِي: يَكْفِي الْإِطْلَاقُ فِيهِمَا.
وَقِيلَ: لَا فِيْهِمَا.
والثاني: أنه قد ينفرد بالحديث النبوي شاهد واحد، فلو لم يقبل لفات على أهل الإسلام تلك المَصْلحة العامة، بخلاف فوات حق واحد على شخص واحد في المُحَاكمات.
وبهذا يظهر لك أن العمل بِتَزْكية الواحد في الرواية أحوط كما تقدم.
والثالث: أن بين كثير من المسلمين إحَنًا وَعَداوَات قد تحملهم على شهادة الزور، بخلاف الأخبار النبوية.
وربما اضطرب النَّظر في فروع؛ لتردّدها بين الشهادة والرواية، فنشأ عنه خلاف في اشتراط العدد؛ كهلال رَمَضَان [والقَائِف]
(1)
، والقَاسِم، وتُرْجُمَان القاضي، ونحو ذلك.
ومن فروع الفرق ما ذكره البَغَوِيّ، أنه لو أشكلت الحادثة على القاضي رجلًا، ثم رجع الراوي وقال: تعضدت الكذب ينبغي أن يجب القصاص؛ كالشّاهد إذا رجع، والذي ذكره القَفَّال في "الفتاوى"، والإمام: أنه لا قِصَاص، بخلاف الشَّهادة، فإنها تتعلّق بالحادثة، والخبر لا يختصّ بها.
«مسألة»
الشرح: هل يكفي الإطلاق في الجرح والتعديل، أم لا بد من ذكر سببهما؟
"قال القاضي: يكفي الإطلاق فيهما" - كذا نصّ عليه في "التقريب" و "مختصره".
"وقيل: لا فيهما".
"وقال الشَّافعي رضي الله عنه": يكفي الإطلاق "في التَّعديل" دون الجَرْحِ.
"وقيل: بالعكس" - ونقله الإمام في "البرهان" عن القاضي، وقال: إنه أوقع في مأخذ الأصول - ولا أعرف مستنده في عَزْوِه إلى القاضي.
"وقال الإمام: إن كان عالمًا" بأسباب الجَرْح والتعديل، "كفى" الإطلاق "فيهما، وإلا لم يكف" - وتبعه الغَزَالي، والإمام الرازي وغيره.
(1)
في ب: والعايف وهو تحريف.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: فِي التَّعْدِيلِ.
وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ كَانَ عَالِمًا كَفَى فِيهِمَا وَإلَّا لَمْ يَكْفِ.
الْقَاضِي: وَإنْ شَهِدَ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَفِي مَحَلِّ الْخِلَافِ مُدَلِّسٌ.
وعندي: أن هذا ليس مذهبًا خامسًا، فإنه لا يذهب محصل إلى قَبُول ذلك مطلقًا من رجل [غمر]
(1)
جاهل لا يعرف ما يجرح به، ولا ما يعدل به - وقد أشار إلى هذا القاضي، وإنما موضع الخلاف إذا وقع ذلك من عالم.
وإذا عرفت موضع الخلاف، فالمختار عندي في الشَّهادة، الفرق الذي ذهب إليه الشّافعي رضي الله عنه، وفي الرواية الاكتفاء بالإِطلاق في الجرح والتَّعديل جميعًا، إذا عرف هذا الجارح فيما يجرح به.
الشرح: "القاضي إن شهد من غير بَصِيرةٍ لم يكن عدلًا"، وإن شهد بالعَدَالة "و" الفِسق "في محل الخلاف" - أي: في الموضع المختلف في أنه هل هو سبب الجرح، فهو "مدلّس" فلا يكون عدلًا؟
"وأجيب: بأنه قد يبنى على اعتقاده، ولا يرف الحال"، فلا يكون مُدَلِّسًا.
فإن قلت: سيقول: إن التَّدليس
(2)
لا يوجب الجرح على الأصح؛ وقضية كلامه هنا موافقة القاضي على أن التدليس جارح.
(1)
في ت: عمر.
(2)
التدليس لغة: كتم العيب في المبيع ونحوه، أصله من الدلس بالفتح، وهو الظلمة أو اختلاط الظلام.
وفي الاصطلاح: ينقسم إلى قسمين: تدليس الإسناد، وتدليس وصف الرجال: الأول: تدليس الإسناد، وفيه آراء:
الأول: هو ما يرويه الراوي عمن عاصره مع إثبات اللقي أو إثبات اللقي والسماع مما لم يسمعه منه بصيغة "عن" وما شابهها.
وهو المعتمد. =
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ يَبْنِي عَلَى اعْتقَادِهِ أَوْ لَا يَعْرِفُ الْخِلَافَ.
قلت: المراد بالتَّدْليس ثَمَّ غير المراد به هنا، فإن التَّدليس هنا وقع في موضع الحاجة لإيضاح، وهو الأماكن المختلف فيها، ولا كذلك ثَمَّ.
= فقوله: (مع إثبات اللقي أو إثبات اللقي والسماع) خرج به المرسل الخفي.
الثاني: هو أن يروى عمن سمع منه ما لم يسمع منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه.
وإليه ذهب الحافظ أبو بكر البزار وأبو الحسن القطان، فاشترطا مع ثبوت اللقاء ثبوت السماع.
الثالث: هو ما يرويه الراوي عمن عاصره سواء لقيه أم لا، سمع منه أم لا، بصيغة (عن) وما شابهها.
فيكون هو والمرسل الخفي سواء على الرأي الأول الذي ذكرناه للمرسل الخفي، فيشمل كل منهما الصور الثلاث.
أما على الرأي الثاني للمرسل الخفي، فيكون هو الأعم، والمرسل الخفي هو الأخص.
قال العراقي:
تَدْلِيسُ الإسْنَادِ كَمَنْ يَسْقُطُ مِنْ
…
حَدِيثِهِ وَيَرْتَقِي بعَنْ وَأَنْ
وَقَالَ يُوهِمُ اتِّصَالًا ....
والمعتمد أنهما متباينان، فالمرسل الخفي فيما إذا لم يثبت سماع ولا لقي، والتدليس فيما إذا ثبت اللقي أو اللقي أو السماع.
وتدليس الإسناد أنواع:
ما يعرف بتدليس الإسناد فقط - وهو ما علمت.
ما يعرف بتدليس القطع، وهو كالأول غير أنه لا يذكر أداة بل يسمى الشيخ فقط فيقول: فلان.
ما يعرف بتدليس التَّسْوِية أو التجويد، وهو أن يذكر شيخه ويعمد لشيخ شيخه أو أعلى منه فيسقطه؛ لكونه ضعيفًا أو صغيرًا، ويرويه عن شيخ المحذوف الثقة بلفظ محتمل تحسينًا للحديث.
ما يعرف بتدليس العطف، وهو أن يعطف ما لم يسمع منه على شيخ سمع منه الحديث.
ما يعرف بتدليس السكوت، يقول: حدثنا، وسمعت، ويسكت ثم يقول: فلان.
تدليس التورية كأن يقول: سمعته، يريد حديثًا آخر.
تدليس الاستدراك كأن يقول: ليس فلان ذكره لكن فلان.
الثاني: تدليس وصف الرجال، وهو ما يعرف بتدليس الشيوخ، وهو أن يروى عن شيخ حديثًا سمعه منه، فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كيلا يعرف.
قال العراقي: [الرجز] =
الثَّانِي: لَوِ اكَتَفَى لأُثْبِتَ مَعَ الشَّكِّ لِلالْتِبَاسِ فِيهِمَا.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا شَكَّ مَعَ إِخْبَارِ الْعَدْلِ.
الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اكْتَفَى فِي الْجَرْحِ لأَدَّى إِلى التَّقْلِيدِ لِلاخْتِلَافِ فِيهِ.
الْعَكْسُ: الْعَدَالَةُ مُلْتَبِسَةٌ لِكَثْرَةِ التَّصَنُّعِ بِخِلَافِ الْجَرْحِ.
الشرح: "الثاني: لو اكتفى لا يثبت مع الشَّك؛ للالتباس فيهما".
و "أجيب: بأنه مع إخبار العدالة.
وبهذا يعرف أن الكلام في العدل [العارف]
(1)
، وإلا فالشَّك قائم عند الجهل.
الشرح: الشَّافعية: لو اكتفى بالجرح لأدى إلى التقليد؛ للاختلاف فيه"، فكم من صفةِ جارحة عند قوم غير جارحة عند آخرين.
وبهذا فرقت [أنا]
(2)
بين مَنْ يَعْلم ماذا [يجرح]
(3)
به؟ ممن لا يعلم، وأرى أنه رأى الشَّافعي، فإنه إذا عرف رأي الجارح في الجرح لم يعد إلى التقليد.
الشرح: "العكس العدالة مُلْتَبِسَة لكثرة التصنع، بخلاف الجرح"
(4)
.
= أَنْ يَصِفَ الشَّيْخَ بمَا لَا يُعْرَفُ
…
وَذَا بِمَقْصِدٍ يَخْتَلِفُ
فَشَرُّهُ لِلضَّعْفِ وَاسْتِصْغَارَا
…
وَكالْخَطِيبِ يُوهِمُ اسْتِكْثَارا
ينظر: محاسن الاصطلاح 167، والتقييد والإيضاح (95)، وفتح المغيث للسخاوي 1/ 169، والباعث الحثيث (53)، وتدريب الراوي 1/ 223، وفتح الباقي 1/ 179، والقارئ على النخبة (115) وتوضيح الأفكار 1/ 346، ونزهة النظر ص (45).
(1)
في ب: الغارق، وهو تحريف.
(2)
في ت، ح: أما.
(3)
في أ: يخرج.
(4)
هذه حجة عكس مذهب الشافعي، وهو أنه يكتفي بالإطلاق في الجرح دون التعديل، تقريرها أن العدالة ملتبسة يتعسر الاطلاع عليها لكثرة التصنع، فرب رجل أظهر صلاحية بالتصنع بخلاف الجرح؛ فإنه لا يمكن التصنع فيه، فلا بد في العدالة من ذكر سببها لرفع الالتباس، =
الْإِمَامُ: غَيْرُ الْعَالِمِ يُوجِبُ الشَّكَّ.
مَسْأَلَةٌ:
الْجَرْحُ مُقَدَّمٌ. وَقِيلَ: التَّرْجِيحُ.
وجوابه: أن العدالة تحتاج إلى أمور يتعذر ضبطها وذكرها، أو يتعسّر، بخلاف الجرح، فاعتمد على العدل، ومَنْ يلتبس عليه، ولا يختبر فَلَيْسَ بصالح للتزكية، ولا كلام فيه.
الشرح: "الإمام: غير العالم يوجب الشَّك"، وهو صحيح، لكنه ليس في مَحَلّ الخلاف كما عرفت
(1)
.
«مسألة»
الشرح: "الجرح مقدَّمٌ" - عند التعارض على التّعديل
(2)
.
= ولا يجب ذكره في الجرح؛ لعدم الالتباس، واحتج الإمام بأن المعدل والجارح إن كان غير عالم ولم يذكر السبب فيهما يكون قوله موجبًا للشك؛ لأنه إذا كان غير عالم احتمل أن يجعل ما هو موجب للجرح موجبًا للعدالة وبالعكس؛ فلم يحصل الجزم بتعديله ولا بجرحه. قاله الأصفهاني في شرحه على المختصر.
(1)
الأمر يختلف بالمعدل والجارح، فإن كان إمامًا مرموقًا بالصناعة لا يليق به إطلاق القول بالتعديل إلا عند الثقة الظاهرة، فمطلق ذلك كاف منه؛ فإنا نعلم أنه لا يطلقه إلا عن بحث واستفراغ وسعة في النظر، فأما من لم يكن من أهل هذا الشأن وإن كان عدلًا، فلا بد من البحث في الأسباب، وإبداء المباحثات التامة، والجرح أيضًا يختلف باختلاف أحوال من يجرح، فالعامى الخالي عن التحصيل إذا جرح ولم يفصل، فلا يكترث بقوله، فأما من تبين أن جرحه المطلق يخرم الثقة، فمطلق جرحه كاف في اقتضاء التوقف. هذا لفظه، والغرض من إيراده أن المصنف عبر عن هذا المذهب - أعني عن دليله - بأن إطلاق غير العالم يوجب الشك، فعليك تنزيله عليه. ينظر الشيرازي 265 أ/ خ. وينظر: المحصول (2/ 87/1)، والبرهان 1/ 621، والمستصفى 1/ 163، وتيسير التحرير 3/ 61، والمسودة 269، وفواتح الرحموت 2/ 151، وأصول السرخسي 2/ 9.
(2)
قال صاحب التحرير. إذا تعارض الجرح والتعديل فالمعروف مذهبان: تقديم الجرح مطلقًا، سواء أكان المعدلون أقل من الجارحين أم مثلهم أم أكثر منهم. نقله الخطيب عن جمهور العلماء، وصححه الرازي والآمدي وابن الصلاح وغيرهم، وهو المختار. والتفصيل بين =
لَنَا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَوَجَبَ، أَمَّا عَنْدَ إِثْبَاتِ مُعَيَّنٍ وَنَفْيهِ بِالْيَقِينِ فَالتَّرْجِيحُ.
"وقيل": يطلب "الترجيح".
= تساوي المعدلين والجارحين، فكذلك يقدم الجرح والتفاوت بين الجارحين والمعدلين في المقدار، فيترجح الأكثر من الفريقين على الأقل منهما، فأما وجوب الترجيح لأحدهما على الآخر بمرجح مطلقًا أي سواء تساويا أو كان أحدهما أكثر كنقل ابن الحاجب فقد أنكر بناء على حكاية القاضي أبي بكر الباقلاني الإجماع على تقديم الجرح عند التساوي لولا تعقب المازري الإجماع بنقله عن عالم مالكي يشهر بـ "ابن شعبان" أنه يطلب الترجيح في سورة التساوي، ولا يقدم الجرح فيها مطلقًا. لولا هذا التعقيب لحكمنا ببطلان ما نقله ابن الحاجب قطعًا، لكن ابن شعبان غير مشهور، ولا يعرف له تابع فضلًا عن الاتباع؛ فلا ينفى قول ابن شعبان الإجماع.
وأما قول شارح ابن الحاجب، وهو القاضي عضد الدين أن التعديل مقدم، فغير مسلم؛ إذ لا يعرف قائل بتقديم العديل مطلقًا.
ومحل الخلاف عند إطلاق الجرح والتعديل بلا تعيين سبب أو عند تعيين الجارح سببًا لم ينفه المعدل، أو نفاه بطريق غير يقيني. أما إذا عين الجارح سبب الجرح بأن قال: قتل فلانًا يوم كذا مثلًا، ونفاه المعدل يقينًا بأن قال: رأيته حيًا بعد ذلك اليوم، فالتعديل مقدم على الجرح اتفاقًا. وكذا يقدم التعديل على الجرح لو قال المعدل: علمت ما جرح به الشاعر أو الراوي وإن المجروح تاب عنه. اهـ.
وفي الفقه: إذا جرح الشهود واحد من المزكين وعدلهم اثنان منهم قدم التعديل على الجرح؛ لقيام نصاب الشهادة فيه، وإن عدلهم أكثر من اثنين وجرحهم اثنان قدم الجرح لبلوغ كل نصاب الشهادة، ولا عبرة بالزائد. والجرح مقدم لإثباته خلاف الأصل، وإن جرحهم واحد وعدلهم واحد فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: الجرح أولى؛ لاعتماده خلاف الظاهر. وقال محمد بالتوقف حتى يعدلهم أو يجرحهم آخر، فيترجح أحد الجانبين. هذا كله على مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وعند المالكية: لو عدل شاهدان رجلا وجرحه آخران ففي ذلك قولان؛ قيل: يقضي بأعدلهما: لاستحالة الجمع ينهما. وقيل: يقضي بشهود الجرح؛ لأنهم زادوا على شهود التعديل؛ إذ الجرح مما يبطن فلا يطلع عليه كل الناس. ينظر: المحصول 2/ 589/1، وإرشاد الفحول 168، والإحكام للآمدي 2/ 79، والمستصفى 1/ 163، وشرح العضد 2/ 65، والمسودة 272، وشرح الكوكب 2/ 430، وحاشية البناني 2/ 164، وفواتح الرحموت 2/ 54.
مَسْأَلَةٌ:
وحُكْمُ الْحَاكِمِ الْمُشْتَرِطِ العَدَالَةَ [في الشَّهَادَةِ] بالشَّهَادَةِ: تعْدِيلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَعَمَلُ الْعَالِمِ مِثْلُهُ.
وهذا الخلاف جار فيما إذا كثر عدد المعدّلين، [وقل]
(1)
عدد الجارحين بلا ريب، وجار أيضًا عند تساويهما؛ كما حكاه المَازِرِيّ عن ابن شعبان من المالكية.
ولكن القاضي نقل في "التقريب" الإجماع على تقديم الجرح هنا، وتعقبه المَازِرِيّ بما حكاه عن ابن شعبان.
ولا جريان للخلاف فيما: إذا كان عدد الجارحين أكثر، بل يقدم الجرح بلا رَيْبٍ "لنا أنه".
أي: العمل بالجرح - "جمع بينهما، فوجب" المصير إليه.
والدليل على "أنه جمع بينهم"؛ أنه إذا لم يعيّن الجارح سبب الجرح.
وقلنا: يقبل الجرح مطلقًا أو عينه ولم ينفه المعدل أو نفي بطريق غير يقيني، فالأخذ بالجرح لا ينفي سبق العَدَالة، فكان العمل به جمعًا بينهما فوجب، وأما إن نفاه المعدل بطريق يقيني، فالعَمَل بالجرح لا جمع فيه، وإذا لم يكن الجمع فيه فلا بد من الترجيح، وإليه أشار بقوله:"إما عند إثبات"، "معيّن ونفيه باليَقِينِ فالتَّرْجيح" وكان عنده أن هذه الصورة ليست من محل الخلاف، وإلَّا فكان يجعل ما اختاره مذهبًا ثالثًا، والأظهر أنها من مواقع الخلاف.
«مسألة»
الشرح: "حكم الحاكم المشترط العدالة في الشهادة بالشهادة. تعديل باتفاق وعمل العالم". المشترط العدالة في الرواية بالرّواية "مثله"
(2)
.
(1)
في ح: وقد.
(2)
هذه المسألة في بيان أن الطرق الظنية للجرح والتعديل، وإنما ترك الطرق الصريحة لظهورها.
وينظر: البرهان 1/ 624، والمحصول 2/ 1/ 590، وشرح العضد 2/ 66، والمستصفى 1/ 163، والمنخول 264، والإحكام 2/ 79، والمسودة 272، وتيسير التحرير 3/ 50، وفواتح الرحموت 2/ 149، وإرشاد الفحول (67)، وحاشية البناني 2/ 164.
وَرِوَايَةُ الْعَدْلِ: ثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ تَعْدِيلٌ إِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ
"ورواية العدالة" - عن شخص، هل يكون تعديلًا لذلك الشخص؛ فيه مذاهب:
"ثالثها المختار: تعديل إن كان عادته أنه لا يروي إلا عن عدل"؛ كالبُخَاري ومسلم، وابن خزيمة، والحاكم في المستدرك، "وليس من الجرح ترك العمل في شهادة ولا رواية، لجواز معارض" - من أجله ترك التارك العمل بالشهادة، أو الرواية [لا]
(1)
لأن الشَّاهد أو الراويِ مجروح.
فإن فرض ارتفاع المَوانع بأسرها، وكان مضمون الخبر وجوبًا، فتركه يكون حينئذ جرحًا قاله القاضي في "التقريب"، وهو واضح.
"ولا" يعد من الجرح "الحد" - أي: حدّ الشاهد - "في شهادة الزِّنا
(2)
، لعدم
(1)
سقط من ب.
(2)
يثبت الزنا بأحد أمور: الأول: الإقرار.
إذا أقر الزاني على نفسه بالزنا، ولو مرة أقيم الحدُّ عليه، والدليل على ذلك ما في حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد رضي الله عنهما من قوله صلى الله عليه وسلم:"واغْدُ يَا أَنِيسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْترَفَتْ فَارْجُمْهَا قَالَ: فَغَدَا عَلَيهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ" رواه الجَماعة.
وبما أخرجه "مسلم"، و "الترمذي"، و"أبو داود"، و"النسائي"، و "ابن ماجة" من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم رَجَمَ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ وَلَمْ تُقِرّ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وبحديث الغامِدِيَّةِ حيث قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أَتُرِيدُ أنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا. وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهَا.
فلو كان تربيع الإقرار شرطًا كما يقوله الحنفية لقال لها: إنما رددته لكون لم يقر أربعًا، وهذه الواقعة ثبتت بعد واقعة ماعز.
والحنفية، والحنابلة يشترطون أن يكون الإقرار أربع مرات، وأن تكون في مجالس متفرقة.
ثانيًا: البينة:
وكما يثبتُ الزِّنا بإقرار الزاني، واعترافه كذلك يثبت بالبينة، ولها شروط:
1 -
أن تكون بشهادة أربعة، بخلاف سائر الحقوق؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} فإن شهد ثلاثة بالزنا، وقال الرابع: رأيته بين فخذيها حد الثلاثة حد القذف، وأدب الرابع.
2 -
وأن تكون شهادتهم بصريح اللفظ. =
وَلَيْسَ مِنَ الْجَرْحِ تَرْكُ الْعَمَلِ فِي شَهَادَةٍ وَلَا رِوَايَةٍ لِجَوَازِ مُعَارِضٍ وَلَا الْحَدُّ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا لِعَدَمِ النِّصَابِ وَلَا بِمَسَائِلِ الاِجْتِهَادِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ وَلَا بِالتَّدْلِيسِ عَلَى الْأَصَحِّ كَقَوْلِ مَنْ لَحِقَ الزُّهْرِيُّ قَالَ الزُّهْرِيُّ مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ. وَمِثْلُ وَرَاء النَّهْرِ يَعْنِي غَيْرَ "جَيْحَان".
النِّصَاب"، فَرُبَّ عدل يحد إذا شهد بالزنا، وذلك إذا لم يكمل النصاب، ولا يخرجه الحد عن العدالة.
"ولا بمسائل الاجتهاد ونحوها مما تقدّم"؛ كالحنفي بشرب النَّبِيذِ.
"ولا" يرد "بالتدليس على الأصح، كقول من لحق الزّهري قال الزهري موهمًا أنه سمعه".
"ومثل وراء النهر يعني جيحان".
ولا يشترط في الآخر اللقي، بل يكفي المُعَاصرة؛ لأن احتمال السماع قائم معها، ثم ما رواه بلفظ محتمل لم يبين فيه السَّماع، والإيصال حكمه حكم المرسل، وما بينه يقبل منه؛ لأن التدليس غير قادح.
=3 - أن يكونوا رجالًا.
4 -
وأن يكونوا عدولًا.
5 -
أن يرونه كالمرود في المكحلة، وكالرشاء في البئر.
6 -
ألا يختلف مكان، ولا زمان الرؤية.
خلافًا "لأبي حنيفة" حيث قال: يكفي أن يشهد كل من الأربعة أنه رآها في زاوية من البيت.
ثالثًا: بظهور الحمل في المرأة التي لا يعرف لها زوج يلحق به الولد، بأن لم يكن لها زوج أصلًا، أو كان لها زوج لكن لا يلحق به الولد كما لو كان صبيًا أو مجنونًا، وفي الأمة التي لا سيد لها يقر بوطئها بأن أنكر وطأها.
وإذا ثبت الزنا بظهور الحمل وجب إقامة الحد على هذه المرأة أو هذه الأمة. وإذا عقد الرجل على امرأة أو على أمة ثم أتت بولد لستة أشهر فلا حد عليها؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فالحمل يكون ستة أشهر، وهو أقله.
فإذا أتت به لدون ستة أشهر وجب عليها الحد. والله أعلم.
" عَدَالَةُ الصَّحَابَةِ"
مَسْأَلَةٌ:
الأَكْثَرُ: عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ.
ومن التدليس نوع أخف من هذا، وهو أن يروى عن شيخ حديثًا سمعه منه، فيسميه أو يكتبه أو يصفه بما لا يعرف كي لا يعرف، وهذا إن كان بحيث لو سُئِل عنه بينه، فلا خلاف في أنه لا يقدح، وإلا فذكر ابن السمعاني: أنه يقدح.
وكل هذا في مدلس الإسناد.
أما من يدلس في المُتُون، فذاك مَطْرُوح مجروح بلا خلاف، وهو ممن يحرف الكلم عن مواضعه.
«مسألة»
الشرح: "الأكثر على عدالة الصَّحابة.
وقيل: كغيرهم.
وقيل: إلى حين الفِتَنِ"، "فلا يُقبل الداخلون؛ لأن الفاسق غير معين"
(1)
(1)
هذه المسألة في بيان عدالة الصحابة، وقد اختلفوا فيها، فالذي عليه أكثر أئمة السلف وجماهير الخلف أنهم عدول، وقال قوم: حكمهم في العدالة حكم غيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية منهم، وقال قوم آخرون: إنهم لم يزالوا عدولًا إلى حين ما وقع الاختلاف والفتن فيما ينهم، وهو آخر عهد عثمان رضي الله عنه، فلا يقبل قول الداخلين.
فالصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، وذلك أمر مسلم به عند العلماء؛ لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة. قال الله تبارك وتعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} .
وفي نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة، منها حديث أبي سعيد المتفق على صحته أن =
وَقِيلَ: كَغَيْرِهِمْ.
وَقِيلَ: إِلَى حِينِ الْفِتَنِ، فَلَا يُقْبَلُ الدَّاخِلُونَ؛ لأَنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: عُدُولٌ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًا رضي الله عنه.
"قالت المعتزلة عدول إلا من [قاتل]
(1)
عليًا رضي الله عنه".
"لنا: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [سورة الفتح: الآية 29].
منحهم الله تعالى على فضلهم.
وما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: "أَصْحَابِي كالنُّجُومِ" بأيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ"، وقد سبق كلامنا على هذا الحديث، "وما تحقق التواتر عنهم في الجِدّ من الامتثال" للمأمورات والمنهيات.
"وأما الفتن، فتعمل على اجتهادهم".
"ولا إشكال بعد ذلك" كل واحد من "قول المُصَوّبة وغيرهم".
أما على قول التَّصويب؛ فلأن كلًا مصيب، وأما على أن المصيب واحد؛ فلأن الآخر مأجور غير مأثوم.
والقول الفصل، أمّا نقطع بعدالتهم من غير الْتِفَاتٍ إلى هذيان الهاذين، وزيغ المبطلين، وقد سلف اكتفاؤنا في العدالة بتزكية الوَاحِدِ منا، فكيف بمن زَكّاهم علام الغيوب
= رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) ومنها حديث عبد الله بن مغفل عند الترمذي وابن حبان في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه). ينظر: الشيرازي 267 ب/ خ، والبحر المحيط للزركشي 4/ 293، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 626، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 81، ونهاية السول للأسنوي 3/ 176، وزوائد الأصول له 331، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 104، والمنخول للغزالي 266، والتحرير لابن الهمام 325، وتيسير التحرير لأمبر بادشاه 3/ 64.
(1)
في أ: قابل، وهو تحريف.
لَنَا {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [سورة الأعراف: الآية 64]"أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ". وَمَا تحَقَّقَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْهُمْ مِنَ الْجِدِّ فِي الاِمْتِثَالِ. وَأَمَّا الْفِتَنُ فَتُحْمَلُ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ وَلَا إِشْكَالَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَي الْمُصَوِّبَةِ وَغَيْرِهِمْ.
الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض، ولا في السماء في غير آية، وأَفضل خلق الله الذي عصمه الله عن الخطأ في الحركات والسكنات - محمد صلى الله عليه وسلم في غير حديث، ونحن نسلم أمرهم، فيما جرى بينهم إلى ربهم جَل وعلا، ونبرأ إلى الملك - سبحانه - ممن يطعن فيهم ونعتقد الطاعن علي ضَلَالٍ مهين، وخسران مبين، مع اعتقادنا أن الإمام الحَقّ كان عثمان رضي الله عنه، وأنه قتل مظلومًا، وحمى الله الصَّحابة من مُبَاشرة قتله، فالمتولي قتله كان شيطانًا مريدًا، ثم لا يحفظ عن أحد منهم الرِّضا بقتله، إنما المحفوظ الثابت عن [كل]
(1)
منهم إنكار ذلك.
مسألة الأخذ بالثأر اجتهادية، رأى علي - كرم الله وجهه - التأخير مصلحة، ورأت عائشة رضي الله عنها البدار مصلحة، وكل جرى على وفق اجتهاده، وهو مأجور - إن شاء الله تعالى.
ثم كان الإمام الحق بعد ذي النورين عثمان رضي الله عنه علي كرم الله وجهه، وكان معاوية رضي الله عنه متأولًا هو وجماعة.
[وفيهم]
(2)
من قعد عن الفريقين، وأحجم عن الطائفتين لما أشكل الأمر، وكل عمل بما أداه إليه اجتهاده، والكُلّ عدول رضي الله عنهم وهم نقلة هذا الدين، وحملته الذين بأسيافهم ظهر وبألسنتهم انتشر، ولو تلونا الآسى وقصصنا الأحاديث في تفضيلهم - لطال الخِطَابُ.
هذه كلمات، من اعتقد خلافها كان على زَلَلٍ وبدعة، فَلْيُضْمر ذو الدين هذه الكلمات، عقدًا، ثم ليكف عما جرى بينهم، فتلك دماء طهّر الله منها أيدينا، فلا نلوّث بها ألسنتنا.
(1)
في ت: كثيرًا.
(2)
في أ، ت: فهم، وهو تحريف.
" التَّعْرِيفُ بِالصَّحَابِيِّ وَحُكْمُ مَرْوِيَّاتِهِ"
مَسْأَلَةٌ:
الصَّحَابِيُّ: مَنْ رَأَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَإِنْ لَمْ يَرْوِ وَلَمْ تَطَلْ.
«مسألة»
الشرح: "الصّحابي
(1)
: من رآه عليه السلام وإن لم يَرْو عنه، ولم تَطُلْ" صحبته.
(1)
هذه المسألة في بيان معنى "الصحابي"، مذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم أي: من صحبه لحظة، وإن لم يختص به اختصاص المصحوب، وطالت مدة صحبته، وإن لم يرو عنه. وذهب عمر بن يحيى إلى أن الصحابي من اجتمع فيه مع الصحبة الطويلة المفيدة اختصاص الرواية عنه.
والمحققون من أهل الحديث، كالبخاري وأحمد بن حنبل على أن الصحابي من لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مميز مؤمنًا به، ومات على الإسلام، طالت مجالسته له أو قصرت، روى عنه أو لم يرو، غزا معه أو لم يغز. قال البخاري في صحيحه: من صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه اهـ. وقال أبو المظفر السمعاني: أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابي على كل من روى عنه صلى الله عليه وسلم حديثًا أو كلمة، ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من الصحابة. وهذا لشرف منزلة النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطوا كل من رآه حكم الصحبة. وذكر أن اسم الصحابي من حيث اللغة والظاهر يقع على من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وكثرت مجالسته له على طريق التبع له والأخذ عنه قال: وهذا طريق الأصوليين اهـ.
وقال ابن الصلاح في مقدمته: روينا عن شعبة عن موسى السيلاني - وأثنى عليه خيرًا - قال: أتيت أنس بن مالك فقلت: هل بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد غيرك، قال: بقي ناس من الأعراب قد رأوه، فأما من صحبه فلا. إسناده جيد حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة اهـ. وهذا القول قريب من قول الأصوليين.
ويعرف كون الراوي صحابيًا: أولًا بالتواتر كما في الخلفاء الأربعة، أو بالاستفاضة والشهرة القاصرة عن التواتر، كما في ضمام بن ثعلبة وعكاشة بن محصن.
أو بأن يروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، كما في حممة بن أبي حممة الدوسي الذي مات بـ"أصبهان" مبطونًا؛ فإن أبا موسى الأشعري شهد له أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
أو بقوله وإخباره عن نفسه بأنه صحابي بعد ثبوت عدالته ومعاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك تعرف الصحبة بإخبار أحد التابعين أن فلانًا من الصحابة؛ بناء على قبول التزكية من =
وَقِيلَ: إِنْ طَالَتْ.
وَقِيلَ: إِنِ اجْتَمَعَا.
وَهِيَ لَفْظيَّةٌ وَإِنِ انْبَنى عَلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ.
والضمير في "رآه"، يحتمل أن يكون عائدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذه العبارة محتملة؛ لأن يريد [بها]
(1)
أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ويلزم على هذا أن من كان أعمى لا يصحّ له صحبة، ولا رَيْبَ في صحّة صحبة ابن أم مكتوم
(2)
وغيره من الأضراء، وليس المراد بالرُّؤية إلا رؤية البَصَرِ، فيحتاج حينئذ إلى اعتذار عن ذَوِي العَمَى؛ لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فاعل رأى، أي: من رآه محمد صلى الله عليه وسلم مسلمًا فهو صحابي.
ويلزم على هذا أن مسلمًا لو وقع بَصَرُهُ على طَلْعَةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم من غير أن ينظره النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون صحابيًّا، وكلامهم يقتضي خلافه.
وما ذهب إليه من أن الصَّحابي من رأى وإن لم يَرْو ولم تَطُل، هو رأى ذوي الحق من الشافعية وغيرهم.
"وقيل: إن طالت".
"وقيل: إن اجتمعا" - أي: اجتمع الطول [والرؤية]
(3)
، أو اجتمع الرجل بالنبي صلى الله عليه وسلم
= الواحد العدل، وهو الراجح. ينظر: الشيرازي 298 أ/ خ، والإحكام للآمدي 2/ 82، والمستصفى 2/ 65، والمسودة 292، وشرح الكوكب المنير 2/ 465، وحاشية البناني 2/ 165، وجمع الجوامع 2/ 165، ونهاية السول 3/ 178، وتيسير التحرير 3/ 66، وكشف الأسرار 2/ 384، وفواتح الرحموت 2/ 158، وشرح العضد 2/ 67، والمعتمد 2/ 666، وإرشاد الفحول 70، وينظر: مقدمتنا على الإصابة، والاستيعاب وأسد الغابة.
(1)
سقط في ح.
(2)
عمرو بن أم مكتوم، زائدة بن جُنْدُب بن هَرِم بن رَوَاحة بن حُجْر بن عبد بن مُعَيْص بن عامر بن لُؤَي العامري، الأعمش المؤذن. هاجر إلى المدينة، واستخلف على المدينة ثلاث عشرة نوبة. وعنه أنس وَزِرّ بن حُبَيْش. استشهد يوم القادسية وكان اللواء بيده. ينظر: تجريد أسماء الصحابة 1/ 406، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 26، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 285، وتقريب التهذيب 2/ 79، وتهذيب التهذيب 8/ 106 (172)، وتهذيب الكمال 2/ 1033.
(3)
في ح: الرواية.
لَنَا: يَقْبَلُ التَّقْيِيدَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثيرِ فكَانَ لِلْمُشْتَرَكِ كَالزِّيَادَةِ وَالْحَدِيثِ، وَلَوْ حَلَفَ أَلَّا يَصْحَبَهُ حَنِثَ بِلَحْظَةٍ.
قَالُوا: "أَصْحَابُ الْجَنَّةِ"، [و]"أَصْحَابُ الْحَدِيثِ" لِلْمُلَازِمِ.
وهذا عندي أوجهُ وأصحُّ.
فلو قيل: الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم لكان تعريفًا حسنًا، والاجتماع أعمّ من الرِّوَاية والمُجَالسة والمحادثة، ولا يرد على هذا الأعمى؛ لحصول الاجتماع له.
"وهي" مسألة "لفظية، وإن ابتنى عليها ما تقدّم" في عدالة الصَّحَابة، وفي كونها لفظيّة مع ابتناء ما مضى عليها نظر ظاهر.
"لنا: الصُّحبة "تقبل التقييد بالقليل والكثير، فكَانَ" وضعها "للمشترك" بينهما كالزيادة والحديث".
تقول: زُرْته وحدثته، وإن لم تزره إلا مرة [واحدة]
(1)
، ولم تحدثه إلا كلمة.
ولقائل أن يقول: سلّمنا انقسام الصُّحبة إلى القليل والكثير، ولكن لم قلتم: إن [الرؤيا صحبة؟.
وأيضًا "لو حلف لا يصحبه حَنِث بلحظة" - كذا قال المصنف، وما أظن]
(2)
أصحابنا يسمحون بذلك.
وقضية مذهبهم رَدّ الأمر في اليمين إلى العرف، وذلك شيء غير ما نحن فيه، ثم إن هذا لا يُجْديه نفعًا؛ لأن من حلف ألا يصحبه بحيث يلحظه؛ لتحقّق الصحبة، لا لحصول
(3)
الرواية.
فأول ما ينبغي له أن يثبت أن الرؤية صحبة، ثم لا يحتاج إلى شيء، وذلك لم يثبت بعد.
الشرح: "قالوا": يقال: "أَصْحَاب الجَنَّة"، "و" يقال:"أصحاب الحديث للملازم" الجنّة، والحديث دون غيره، وحينئذ فالصُّحبة لخصوص المُلَازمة.
(1)
سقط في ب.
(2)
سقط في ت، ح.
(3)
في ب، ت: بحصول.
قُلْنَا: عُرْفٌ فِي ذَلِكَ.
قَالُوا: يَصِحُّ نَفْيُهُ عَنِ الْوَافِدِ وَالرَّائِي.
قُلْنَا: نَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الأَعَمِّ.
مَسْأَلَةٌ:
لَوْ قَالَ الْمُعَاصِرُ الْعَدْلُ: أَنا صَحَابِيٌّ
- احْتَمَلَ الْخِلَافَ.
مَسْأَلَةٌ:
الْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ؛ فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ خَبَرًا آخَرَ أَوْ
وحينئذ "قلنا: عرفٌ في ذلك" - وإلا فالحقيقة لأعمَّ من ذلك.
"قالوا: يصحّ نفيه عن الوَافِدِ والرَّائي" لحظة، فيقال لمن وفد، أو رأى ليس بصاحب.
"قلنا: نفي الأخصّ" - وهو الصحبة الطويلة - "لا تستلزم نفي الأعمِّ" - وهو مطلق [الصحبة]
(1)
.
وفي هذا إشارة إلى أنه إنما يصح نفي الصُّحبة الخاصة، لا مطلق الصُّحبة، فلو منع، وقال: قلنا: ممنوع لكان أوجه وأَخْصَرَ؛ لأن الكلام إنما هو في مُطْلق الصُّحبة.
«مسألة»
الشرح: "لو قال المعاصر العدل: "أنا صحابي"، احتمل الخلاف" فيتجه قبول قوله؛ لأن وازع العدالة يمنعه من الكذب - وهو ما ذكره القاضي في "التقريب" وغيره، ويحتمل رده؛ لأنه يَدَّعي لنفسه رتبة عُظْمى، وهي الصحبة فيتهم
(2)
.
«مسألة»
الشرح: "العدد ليس بشرط" في الرواية "خلافًا للجُبّائي، فإنه اشترط خبرًا آخر أو
(1)
في ح: الصحابة.
(2)
ينظر: نهاية السول 3/ 179، وشرح الكوكب 2/ 479، والمستصفى 1/ 165، وروضة الناظر ص (60)، والمعتمد 2/ 667، والمسودة 293، وفواتح الرحموت 2/ 60، ونزهة النظر ص 58، وتوضيح الأفكار 2/ 428، وإرشاد الفحول ص 71.
ظَاهِرًا أَوِ انْتِشَارَهُ فِي الصَّحَابَةِ أَوْ عَمَلَ بَعْضِهِمْ وَفِي خَبَرِ الزِّنَا أَرْبَعَةً.
وَالدَّلِيلُ وَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَلَا الذُّكُورَة، وَلَا الْبَصَرُ، وَلَا عَدَمُ الْقَرَابَةِ، وَلَا عَدَمُ الْعَدَاوَةِ، وَلَا الْإِكْثَار، وَلَا مَعْرِفَة نَسَبِهِ، وَلَا الْعِلْمُ بِفِقْهٍ أَوْ عَرَبِيَّةٍ أَوْ مَعْنَى الْحَدِيثِ؛ لِقَوْلِهِ. عليه الصلاة والسلام:"نَضَّرَ اللهُ امْرَأً"، وَلَا مُوَافَقَةُ الْقِيَاسِ؛ خِلَافًا لأِبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.
ظاهرًا، أو انتشاره في الصحابة، أو عمل بعضهم، وفي خبر الزنا أربعة"
(1)
.
وقد اختلف عن الجُبَّائي في كيفية تفصيل مذهبه مع اتفاق الكُلّ قاطبة، على أنه يشترط اثنين فيما عدا الزنا، ويشترط الأربعة في الزِّنا - ثم نقل قوم ما نقله المصنف.
وقال المَارِزِيّ: رأى الجُبّائي أنه على نسق الشَّهَادة فلا يقبل إلا عبر عَدليْن، أو رجل وامرأتين، أو أربع نسوة، وإن كان الخبر في الرنا، فلا يقبل [إلا خبر أربعة رجال، واشْترط في النَّقل تَضَاعيف العدد، فلا يقبل]
(2)
من التابعين إلَّا أربعة عن اثنين من الصَّحابة، ومن تابعي التَّابعين إلا ثمانية، وهكذا.
وغباوة هذا المَذْهَب عندي مُغْنِيَةٌ عن الرَّدِّ عليه.
والمصنف قال: "والدليل والجواب ما تقدم في خبر الوَاحِدِ".
وهنا يعلم أن الجُبّائي لا ينكر خبر الواحد، على خلاف ما نقله عنه المصنّف، وقد نَبَّهْنَاك عليه ثَمَّ.
ولا يشترط "الذُّكُورة ولا البصر ولا عدم القَرَابة المشترطة في الشَّهادة، ولا عدم العَدَاوة، ولا الإكثار" من سماع الحديث
(3)
، بل يقبل المُقِلّ ولو لم يَرْوِ إلا خبرًا واحدًا. "ولا معرفة نَسَبِه، ولا العلم بِفِقْهٍ، أو عربية، أو معنى الحديث؛ لقوله عليه السلام:
(1)
ينظر: المستصفى 1/ 165، والمعتمد 2/ 667، والمسودة 293، وتيسير التحرير 3/ 67، وفواتح الرحموت 2/ 161، وحاشية البناني 2/ 167، وإرشاد الفحول 71، وشرح العضد 2/ 67.
(2)
سقط في ت.
(3)
ينظر: كشف الأسرار 2/ 377، والإحكام للآمدي (2/ 84 - 85)، وأصول السرخسي 1/ 339، وتيسير التحرير 3/ 52.
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: "قَالَ صلى الله عليه وسلم"
- حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: مُتَرَدِّدٌ فَيُبْنَى عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ.
"نَضَّرَ اللهُ امْرَأً" سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَها؛ فَإِنَّهُ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحَسّنه، والنسائي والطبراني، وابن حبّان في "صحيحه"
(1)
"ولا موافقة القياس خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله" حيث اشترط فِقْه الرَّاوي إذا خالف القِيَاس.
«مسألة»
الشرح: "إذا قال الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حُمِلَ على أنه سمعه
(2)
منه".
"قال القاضي: متردد بين أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو سمعه من غيره عنه صلى الله عليه وسلم، "فيبنى على عَدَالة الصّحابة".
فإن قلنا: الكل عدول كان مقبولًا، وإلا كان حكمه حكم مرسل التَّابعي.
ولك أن تقول: إنما يظهر وجه البناء، أن لو تعيّن على الاحتمال الثاني أن يكون ذلك الغير صحابيًّا، وليس كذلك، فيحتمل أن يكون سمعه من تابعي عن صحابي، والتابعي يبحث عن عدالته بلا شَكّ.
(1)
أخرجه الشافعي في ترتيب المسند 1/ 16 كتاب العلم، والترمذي في السنن 5/ 3534، كتاب العلم: باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2658) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأحمد في المسند 5/ 183، في مسند زيد بن ثابت رضي الله عنه، والدارقطني في السنن، 1/ 175، المقدمة باب: الاقتداء بالعلماء، وأبو داود في السنن 4/ 68 - 69، كتاب العلم: باب فضل نشر العلم (3660)، والترمذي في السنن 5/ 33 - 34 كتاب العلم: باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2656)، وقال: حديث حسن، وابن ماجة في السنن 1/ 84 المقدمة باب من بلغ علمًا (430).
(2)
وينظر: المستصفى 1/ 129، والمحصول (2/ 1/ 638)، والإحكام للآمدي 2/ 86، وشرح العضد 2/ 68، وتيسير التحرير 3/ 68، وفواتح الرحموت 2/ 161، وإرشاد الفحول 60، شرح الكوكب 2/ 481.
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا قَالَ: سَمِعْتُهُ أَمَرَ أَوْ نَهَى،
فَالأَكْثَرُ حُجُّةٌ؛ لِظُهُورِهِ فِي تَحَقُّقِهِ لِذَلِكَ.
قَالُوا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ اعْتَقَدَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ.
قُلْنَا: بَعِيدٌ.
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا قَالَ: أُمِرْنَا، أَوْ نُهِينَا، أَوْ أُوجِبَ، أَوْ حُرِّمَ،
فَالأَكْثَر: حُجَّةٌ؛ لِظُهُورِهِ فِي أَنَّهُ الآمِرُ.
ولعلهم رأوا أن سماع الصَّحابي من التابعي أمر نادر، فلا يحمل عليه.
واعلم أن هذا الذي نقله المصنّف عن القاضي تبع فيه الآمدي، ولا نعرفه.
والذي نَصّ عليه القاضي في "التقريب" حمل "قال"[على]
(1)
السَّماع، ولم يَحْكِ فيها خلافا، بل ولا أحفظ عن أحد فيها خلافًا.
«مسألة»
الشرح: "إذا قال سمعته أمَرَ، أو نَهَى، فالأكثر حُجّة"
(2)
، وبه قال القاضي كما نَصّ عليه في "التقريب"؛ "لظهوره في تحقّقه في ذلك".
"قالوا: يحتمل" على "أنه اعتقد" شيئًا من الصّيغ أمرًا أو نهيًا "وليس كذلك عند غيره".
"قلنا: بعيد"؛ لمعرفته بأوضاع اللُّغَةِ، ولعدالته المقتضية لتحرُّزه في مَوَاقِعِ الاحتمال.
«مسألة»
الشرح: "إذا قال: أُمِرْنا، أو نُهِينَا، أو أُوجبَ، أو حُرِّمَ" - ببناء الصّيغة للمفعول في الكُلّ - "فالأكثر حجّة؛ لظهوره في أنه" صلى الله عليه وسلم "الآمر
(3)
.
(1)
سقط في ت.
(2)
ينظر: الإحكام 2/ 87.
(3)
هذه المسألة في أنه إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو أوجب علينا كذا، أو =
قَالُوا: يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَمْرُ الْكِتَابِ أَوْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، أَوْ عَنِ اسْتِنْبَاطٍ.
وخالف الصَّيرفي، والإمام أبو بكر الإسماعيلي منا، والكرخي من الحنفية، وغيرهم.
= حرم علينا كذا، فهل يجب إضافة ذلك إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه أم لا، فذهب الشافعي رضي الله عنه وأكثر الأئمة إلى أنه يجب إضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون حجة حينئذ، وذهب جماعة من الأصوليين، وأبو الحسن الكرخي من أصحاب أبي حنيفة إلى المنع من ذلك. هذا هو موضع الخلاف قال الشيرازي في شرحه على المختصر: قلت: قول الصحابي أمرنا أو نهينا أو من السنة:
الصحابة هم الذين تلقوا السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مباشرة فإذا أخبر أحدهم بأنهم أُمروا أو نُهوا أو من السنة كذا، فإما أن يصرح بالآمر والناهي وصاحب السنة، وحينئذ فلا إشكال ولا خفاء.
مثاله في الأمر: ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح مر الظهران، فآذننا بلقاء العدو، فأمرنا بالفطر، فأفطرنا أجمعون .... " قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ومثاله في النهي: ما أخرجه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: نهاني النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب، وعن لباس القَسيِّي، وعن القراءة في الركوع والسجود، وعن لبس المعصفر .... قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ومثاله في السنة: قول ابن عباس في متعة الحج: سنة أبي القاسم، وقول عمرو بن العاص في عدة أم الولد: لا تلبسوا علينا سنة نبينا
…
رواه أبو داود، وقول عمر في المسح: أصبت السنة
…
صحجه الدارقطني في سننه.
وهذه مراتب متفاوتة في قربها من الرفع - بعضها من بعض - فأقربها: سنة أبي القاسم، ويليها: سنة نبينا، ويليها: أصبت السنة.
غاية الأمر أنه اختلف في الأمر والنهي - إذا صرح بأنه أمر الرسول ونهيه - هل يكون حجة أو لا؟ فقال الجمهور: نعم، وحكي عن داود وبعض المتكلمين أنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظه.
وحجة الجمهور: أنّ الصحابي عدل عارف باللسان، فلا يطلِق الأمرَ والنّهيَ إلا بعد التحقق منه.
وقال المانعون: إنه يتطرق إليه احتمالات ثلاثة:
الأول: في سماعه كما في قوله (قال): والرد عليه أن مرسل الصحابي حجة كسماعه.
الثاني: في الأمر والنهي؛ إذ ربما يرى ما ليس بأمر أمْرًا، وما لبس بنهي نهيًا. والجواب أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم تحقيقًا أنه أمر بذلك أو نهى عنه، وينضم إليه من القرائن ما يعرف كونه أمرًا أو نهيًا، ويدرك ضرورة قصده إلى الأمر والنهي. =
قُلْنَا: بَعِيدٌ.
"قالوا: يحتمل ذلك"، ويحتمل "أنه أمر الكتاب، أو بعض الأئمة"، "أو" أنه قاله "عن استنباط"؛ كما يقول المجتهد: الشَّرْع كذا، ويكون اجتهاده هو الذي أدّاه إلى ذلك.
= أما احتمال بنائه على الغلط والوهم فلا يصح أن يتطرق إلى الصحابة بغير ضرورة، بل يحمل قولهم وفعلهم على السلامة ما أمكن.
الثالث: في المأمور والمنهى: هل هو فرد بعينه أو طائفة بعينها أو سائر الأمة؟ والجواب أن ذلك لا يخفى على الصحابي، وذكره في مقام الاحتجاج يرفع الاحتمال، أما إذا لم يصرح الصحابي بالآمر والناهي ولا بصاحب السنة فهناك يأتي الاحتمال الرابع وهو: هل الآمر والناهي أو صاحب السنة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعًا، أو غيره فلا يكون مرفوعًا؟.
فقال الجمهور: هو مرفوع، وقال فريق - منهم أبو بكر الإسماعيلي -: ليس بمرفوع، وقيل، محل الخلاف إذا لم يكن القائل هو الخليفة الأول (أبو بكر رضي الله عنه.
حجة الجمهور: مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من إليه الأمر والنهي ومن يقتدى به في الحلال والحرام، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: الآمر والناهي إما أن يكون القرآن، أو الإجماع، أو بعض الخلفاء، أو الاستنباط، أو الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا يصح أن يريد الصحابي أمر القرآن؛ لكونه معروفًا يعرفه الناس، ولا الإجماع؛ لأن المتكلم به من أهل الإجماع، ويستحيل أمره بنفسه، ولا يريد الاستنباط بالقياس؛ إذ لا أمر فيه، ولا أمر الخلفاء؛ إذ لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعين أنه أمر الرسول أو نهيه أو سنته.
ووجه من خص الخلاف بغير الخليفة الأول: أنه لم يكن إمام فوفه حتى يأمره.
حجة المخالفين:
أولًا: احتمال أن يكون الآمر أو الناهي أو صاحب السنة غيره صلى الله عليه وسلم، ومتى احتمل لا يكون حجة؛ فلا يصح الحكم عليه بالرفع.
وقد ظاهر هذا الاحتمال ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن حنظلة السدوسي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته، ثم يدق بين حجرين، ثم يضرب به، فقلت لأنس: في زمان من كان هذا؟ قال في زمان عمر بن الخطاب.
فهذا أنس بن مالك، وهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر، وأراد به أمرًا غير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا حنظلة السدوسي لم يفهم عن أنس أن الآمر كان هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"قلنا: بعيد".
= نقول إنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أطلقه الصحابي؟.
ثانيًا: إن كان مرفوعًا، فلم لا يقولون فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
والجواب عن الأول: أننا لم نمنع الاحتمال، ولكن نقول: إنه الظاهر؛ فينصرف إليه ما لم تقم قرينة على غيره، أو يكون هناك بيان، وإذا قاله الصحابي في معرض الاحتجاج تعين الظاهر، وارتفع الاحتمال؛ إذ لا حجة في غير أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونفيه وسنته، وأنس لم يقل ما قاله في مقام الاحتجاج، وحنظلة أراد رفع الاحتمال.
ويؤيده ما رواه البخاري في صحيحه في حديث ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له: إن كنت تريد السنة فهجِّر بالصلاة: قال ابن شهاب: فقلت لسالم: أفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: وهل يعنون بذلك إلا سنته.
فهذا عبد الله بن عمر يحتج على الحجاج بقوله: إن كنت تريد السنة فهجِّر بالصلاة. فقد قاله في مقام الاحتجاج، فلما سأل ابن شهاب سالمًا: أفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكان الجواب: وهل يعنون بذلك إلا سنته؟ وسكت ابن شهاب ولم يقل إن الاحتمال قائم.
والجواب عن الثاني: أنهم تركوا الجزم بذلك تورعًا واحتياطًا.
ويؤيد ذلك ما أخرجه الصحيحان عن أبي قلابة عن أنس: (من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا) قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. يريد لو قلت لم أكذب؛ لأن قوله: من السنة - معناه الرفع، لكن إيراده بالصيغة التي ذكرها الصحابي أولى.
وقال الحنفية: إن قول الصحابة: من السنة كذا تعم سنة الخلفاء الراشدين. وحجتهم أن السنة لغة الطريقة، وعرفًا الطريقة الحسنة، ثم طريان النقل بتخصيصها بسنة الرسول لم يثبت، بل هو خلاف الأصل، فيبقى إطلاقهم على العرف العام.
وأيدوه بقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة) رواه مسلم.
والحل أن سنة الخلفاء لما لم تكن حجة عند غير الحنفية لم يحملوا لفظ السنة في معرض الحجة على سنة الخلفاء الراشدين، ولما كانت حجة عند الحنفية عمموا لفظ السنة حتى شملت سنة الخلفاء الراشدين.
وهذا إذا لم تكن قرينة أو بيان كما علمت من قبل. ينظر: غيث المستغيث 11 - 14. وينظر شرح القطب، المختصر (271/ أ). ينظر: إحكام الفصول (386)، والمستصفى 1/ 129، والمحصول 2/ 1/ 637، وروضة الناظر 1/ 237، وتيسير التحرير 3/ 69، وفواتح الرحموت 2/ 161، وإرشاد الفحول 60.
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا،
فَالْأَكْثَرُ: حُجَّةٌ؛ لِظُهُورِهِ فِي تَحَقُّقِهَا عَنْهُ؛ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ.
«مسألة»
الشرح: "إذا قال: من السّنة كذا، فالأكثر حجّة؛ لظهوره في تحقّقها عنه، خلافًا للكَرْخي" والصَّيرفي، والمحققين؛ كما قال إمام الحرمين
(1)
.
وذكر المَازِرِيّ: أنه القول الجديد للشَّافعي؛ حيث قال: اختلف قول الشَّافعي فيه، فقال في القديم: الظّاهر من هذا أن المراد به سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال في الجديد: هو مجمل ولم يره مسندًا.
قلت: والمعروف عندنا خلافه، وقد قال الشَّافعي في القديم: المرأة تُعَاقل الرجل إلى ثلث الدية - أي: تساويه في العقل - فإن زاد الواجب على الثلث سارت على النِّصف، وذكر أن هذا القول القديم مرجوع عنه، وأن الشافعي قال: كان مالك يذكر أنه السُّنة، وكنت أتابعه عليه، وفي نفسي منه شيء، حتى علمت أنه يريد سُنة أهل "المدينة"، فرجعت عنه، وقال: وقد روى عن سفيان عن أبي الزِّنَاد قال: سألت سعيد بن المسيّب عن الرجل لا يجد ما يُنْفِقُ على امرأته قال: يفرق بينهما
(2)
.
قال أبو الزناد: قلت: سُنّة؟ فقال سعيد: سُنّة.
قال الشَّافعي: والذي يشبه قول سعيد أن يكون سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذان من الشافعي يدلَّان على أن قول ربيعة ومالك من السُّنة ظاهر في أنَّ المراد به سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لم يقم دليل على أن المراد به سُنّة البلد، أو غير ذلك، ويدلّ أيضًا على أنه لا يختصّ بالصَّحابي، بل يعم كل متكلم على لسان الشرع؛ كسعيد، ومالك، وغيرهما.
(1)
البرهان 1/ 649 (594).
(2)
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن معمر قال: سألت الزهري عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته يفرق بينهما؟ قال: يستأني له، ولا يفرق بينهما، وتلا:"لا يكلف الله نفسًا إلّا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرًا"[الطلاق: 7] قال معمر: وبلغني أن عمر بن عبد العزيز قال مثل قول الزهري.
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا قَالَ: كُنَّا نَفْعَلُ أَوْ كَانُوا،
فَالْأَكْثَرُ: حُجَّةٌ، لِظُهُورِهِ فِي عَمَلِ الْجَمَاعَةِ.
قَالُوا: لَوْ كَانَ، لَمَا سَاغَتِ الْمُخَالَفَةُ.
قُلْنَا: لأَنَّ الطَّريقَ ظَنِّيٌّ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ النَّصِّ.
«مسألة»
الشرح: "إذا قال: كنا نفعل، أو كانوا" يفعلون، "فالأكثر حجّة" - سواء قيد ذلك بمهده صلى الله عليه وسلم أم أطلق؛ "لظهوره في عمل الجَمَاعَةِ".
وأنا أقول: لهذه الصيغة ألفاظ، أعلاها أن يقول: كنا مَعَاشِرَ الناس، أو كان الناس يفعلون في عَهْدِهِ عسفه، وهذا ما لا يتّجه في كونه حجة خلاف.
والثانية: أن يقول: كُنَّا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم وهي دون ما قبلها، لاحتمال عودة الضَّمير في "كُنَّا" على طائفة مخصوصة، لا جميع النَّاس.
والثالثة: أن يقول: كان النَّاس يفعلون، ولا يصرح بعهد النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهذه دون الثانية من جهة عدم التَّصْريح بعهده صلى الله عليه وسلم، وفوقها من جهة تصريحه بجميع النَّاس.
والأظهر: رُجْحَان تلك؛ لأن التَّقييد بعهده صلى الله عليه وسلم ظاهر في تقريره عليه.
وتقريره: تشريع سواء كان لواحد أم لجماعة، وغاية تلك أنها ظاهرة في نَقْلِ الإجماع، وفي نقل الإجماع بخبر الوَاحد خلاف، وبتقدير ثبوته هو إجماع في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم فلا يعتبر.
والرَّابعة: أن يقول: كنا نفعل أو كانوا يفعلون؛ مثل قول عائشة - رضي الله تعالى عنها -: "كانوا لا يَقْطَعُونَ فِي الشَّيء التَّافِهِ"، وهي دون الكل؛ ولذلك - والله أعلم - اقتصر المصنف على ذكرها هنا؛ لأنه إذا ثبت أنها حجّة، فما فوقها يثبت بطريق أوْلَى.
ومقتضى كلام القاضي في "التقريب": أنه لا يحتجّ بهذا اللَّفظ إلا إذا ظهرت إضافته إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الإجماع.
"قالوا: لو كان" ظاهرًا في عمل الجماعة "لما شاعت المُخَالفة" فيه؛ لأَنَّ مخالفة الإجماع لا تجوز.
مُسْتَنَدُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ
مَسْأَلَةٌ:
وَمُسْتَنَدُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ قِرَاءَةُ الشَّيْخِ، أَوْ قِرَاءَتُهُ عَلَيْهِ، أَوْ قِرَاءَةُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، أَوْ إِجَازَتُهُ أَوْ مُنَاوَلَتُهُ أَوْ كِتَابَتُهُ بِمَا يَرْوِيهِ، فَالْأَوَّلُ أَعْلَاهَا عَلَى الْأَصَحِّ ..........
"قلنا: لأن الطريق ظَنّي كخبر الوَاحِدِ النّص"، فإن مَتْنَهُ يكون قطعيًّا، ومع ذلك قد يخالفه مخالف.
ثُمّ هذه الألفاظ التي ذكرها المصنّف متفاعلةٌ مع الاشتراك في الظُّهور، فقال: أظهر من أمر، وأمر أظهر من بناء الصيغة للمفعول كَأُمِرْنَا، وبناء الصيغة للمفعول في أُمِرْنَا أظهر من بنائها مع عدم عود الضَّمير على القائل؛ نحو: أوجب، أو حرم. وبنائها مع ذلك أظهر من قوله: من السُّنة.
وقوله: من السُّنة أظهر من: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون.
«مسألة»
الشرح: "مستند غير الصّحابي" في الرواية "قراءة الشَّيخ، أو عليه، أو قراءة غيره، أو إجازته، أو مُنَاوَلته، أو كتابته بما يرويه"، أو إعلامه، أو وصيته أو الوِجَادة
(1)
.
"فالأول: أعلاها على الأصح" - سواء كان بإملاء من الشَّيخ، أو بحديث من غير إملاء، وسواء كان من حفظه أم من كتابته "إلا إذا لم يقصد إسماعه قال" في التحديث عنه "قال: وحدّث وأخبر وسمعته"، ولا يقول: حَدّثني وأخبرني، وإلا لكان كاذبًا
(2)
.
"و" الثاني: "قراءته عليه من غير نَكِيرٍ" من الشيخ، "وما لا يوجب سكوتًا من إكراه،
(1)
ينظر: المحصول 2/ 1/ 643، والمستصفى 1/ 165، والمعتمد 2/ 663، وشرح العضد 2/ 69، وإرشاد الفحول 61، شرح الكوكب 2/ 90، كشف الأسرار 3/ 39، وشرح التنقيح 367، وتيسير التحرير 3/ 91، وأصول السرخسي 1/ 375.
(2)
ينظر: والإبهاج 2/ 368، ونهاية السول 3/ 193، والمحصول 2/ 1/ 644، وشرح الكوكب 2/ 491 - 492، وإرشاد الفحول 62، وشرح العضد 2/ 69، والإحكام للآمدي 2/ 90، والتحرير 339، وكشف الأسرار 3/ 39.
إِلَّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِسْمَاعَهُ قَالَ: "قَالَ"، "وَحَدَّثَ"، "وَأَخْبَرَ"، "وَسَمِعْتُهُ". وَقِرَاءَتُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مَا يُوجِبُ سُكُوتًا مِنْ إِكْرَاهٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَعْمُولٌ بِهِ خِلَافًا
أو غفلة، أو غيرها"، وذلك "معمول به خلافًا لبعض الظَّاهرية"؛ حيث اشترطوا إقرار الشيخ نطقًا
(1)
.
والصحيح: قولنا: "لأن العرف" يقضي بأنَّ السكوت "تقريره؛ ولأن فيه إيهام الصحة"، فلو لم يكن كذلك لم يَجُزْ "فيقول: حدثنا، أو أخبرنا مقيّدًا" بقوله: بقراءتي عليه، "ومطلقًا" بدون هذا القيد "على الأصح".
"ونقله الحاكم" أبو عبد الله بن البَيّع الحافظ النَّيْسَابوري "عن الأئمة الأربعة"
(2)
.
وذهب ابن المُبَارك
(3)
، ويحيى بن يحيى
(4)
، وأحمد بن حنجل، والنَّيْسَابوري إلى المَنع من إطلاقها جميعًا
(5)
.
(1)
ينظر: المعتمد 2/ 664، والمحصول 2/ 1/ 645، وكشف الأسرار 3/ 42، واللمع ص 45، وتوضيح الأفكار 2/ 306 - 307.
(2)
ينظر: فواتح الرحموت 2/ 165، وتوضيح الأفكار 2/ 307.
(3)
عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي، أحد الأئمة الأعلام وشيوخ الإسلام. قال ابن المبارك: كتبت عن أربعة آلاف شيخ، فرويت عن ألف. عن حُميد وإسماعيل بن أبي خالد وحسين المعلم وخلق. وعنه السفيانان من شيوخه ومعتمر وبقية وسعيد بن منصور وخلائق. قال ابن معين: ثقة، صحيح الحديث. وقال ابن مهدي: كان نسيج وحده. ولد ابن المبارك سنة ثمان عشرة ومائة، وتوفي سنة إحدى وثمانين ومائة. وينظر: البداية والنهاية 10/ 177، وتهذيب الكمال 2/ 730، وتهذيب التهذيب 5/ 382 (657)، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 93، والحلية 8/ 162، والثقات 7/ 8.
(4)
يحيى بن يحيى بن بكو بن عبد الرحمن بن يحيى الحنظلي التيمي، مولاهم. عن حماد بن سلمة ومالك والليث وسليمان بن بلال وخلق. وعنه البخاري ومسلم وأحمد بن الأزهر وسلمة بن شبيب وخلق. قال إسحاق: ما رأيت مثله، ولا رأي مثل نفسه، وهو أثبت من ابن مهدي، ومات يوم مات وهو إمام الدنيا. وقال النسائي: مات الثقة المأمون يحيى بن يحيى ستة ست وعشرين ومائتين - وينظر: ديوان الإسلام ت (2200)، ورجال الصحيحين (2196)، والعبر 1/ 274، وتهذيب الكمال 3/ 1524، وتهذيب التهذيب 11/ 296 (578)، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 163.
(5)
ينظر: فواتح الرحموت 2/ 165.
لِبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ؛ لأَنَّ الْعُرْفَ تَقْرِيرُه، وَلأِنَّ فِيهِ إِيهَامَ الصِّحَّةِ فَيَقُولُ:"حَدَّثنا"، أَوْ "أَخْبَرَنَا" مُقَيَّدًا أَوْ مُطْلَقًا عَلَى الأَصَحِّ. وَنَقَلَهُ الْحَاكِمُ عَنِ الأَئمَّةِ الْأَربَعَةِ. وَقِرَاءَةُ غَيْرِهِ كَقِرَاءَتِهِ.
وَأَمَّا الْإِجَازَةُ لِلْمَوْجُودِ المُعَيَّنِ، فَالأَكْثَرُ عَلَى تَجْوِيزِهَا
والمختار عندنا منع إطلاق "حَدَّثنا"، وتجويز "أخبرنا"، وهو قول الشَّافعي، ومسلم بن الحَجّاج، وجماهير أهل المَشْرِق، وعليه العَمَل
(1)
.
وذهب سليم الرَّازي، وأبو إسحاق الشِّيرَازي، وابن الصَّباغ، وابن السَّمْعَانيِّ إلى أنه لا يقول شيئًا من ذلك ما لم يقرأ الشيخ نطقًا، وإنما يقول: قرأت عليه، أو قرئ عليه وهو يسمع؛ كما إذا قرأ على إنسان كتابًا فيه حكاية أنه أقر بِدَيْنٍ، أو بيع، أو نحوه فلم يقرّ به - لا يجوز له أن يشهد عليه.
"وقراءة غيره" - أي: الراوي - "كقراءته".
الشرح: "وأما الإجازة"، فذهب الجماهير إلى وجوب العمل بها، وكذا الرواية بها على الجملة، ومنع من الرواية بها أبو إبراهيم بن إسْحَاق [الحربي]
(2)
، وأبو الشَّيخ الأصبهاني، وهو رواية عن الشَّافعي.
واختاره القاضي حسين، والمَاوَرْديّ من أصحابنا، وقالا: لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة
(3)
.
ومن أقسام الإجازة: الإجازة "للموجود المعيّن" في الشَّيء المعين، "فالأكثر على تجويزها".
(1)
ينظر: المستصفى 1/ 165، وروضة الناظر ص 61، وكشف الأسرار 3/ 42، وتيسير التحرير 3/ 93، وفواتح الرحموت 3/ 165، والكفاية ص 427 - 428، ومقدمة ابن الصلاح ص 123، والإلماع ص 124 - 125، والمسودة ص 283، وتوضيح الأفكار 2/ 305، وإرشاد الفحول للشوكاني (62).
(2)
في أ: الحرثي.
(3)
ينظر: البرهان 1/ 645، والمعتمد 2/ 665، والمحصول 2/ 1/ 649، وكشف الأسرار 3/ 44، والتحرير 341، والمسودة ص 288، والكفاية ص 4460، ومقدمة ابن الصلاح ص 134، والإلماع ص 127.
وَالأَكثَرُ عَلَى مَنْعِ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي مُطْلقًا. وَبَعْضُهُمْ: وَمُقَيَّدًا، وَأَنْبَأَنِي اتِّفَاقٌ لِلْعُرْفِ،
وزعم بعضهم. أنه لا خلاف في هذا القسم، والصوابُ أنّ الخلاف يطرقه.
"والأكثر على منع" أن يقال فيها: ""حَدَّثني وأخبرني مطلقًا" غير منبّه فيه على أن الطريق الإجازة.
"وبعضهم ومقيدًا".
"وأنبأني اتفاق" - أي: منقول على جواز قوله فيها، "للعرف".
"و" ممن "منعها" - أي: الإجازة - "أبو حنيفة
(1)
، وأبو يوسف
(2)
- رحمهما الله"
(3)
.
(1)
النعمان بن ثابت، التيمي بالولاء، الكوفي، أبو حنيفة: إمام الحنفية، الفقيه المجتهد، المحقق، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. قيل: أصله من أبناء فارس. ولد ونشأ بـ"الكوفة" سنة 80 هـ. وكان يبيع الخز، ويطلب العلم في صباه، ثم انقطع للتدريس والإفتاء. وأراده عمر بن هبيرة (أمير العراقين) على القضاء، فامتنع ورعا. وإراده المنصور العباسي بعد ذلك على قضاء "بغداد" فأبى، فحلف عليه ليفعلن، فحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل، فحبسه إلى أن مات. وكان قوي الحجة، من أحسن الناس منطقًا، قال الإمام مالك، يصفه: رأيت رجلًا لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته. وكان كريمًا في أخلاقه، جوادًا، حسن المنطق والصورة، جهوري الصوت، إذا حدّث انطلق في القول وكان لكلامه دويّ، وعن الإمام الشَّافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. له مسند في الحديث جمعه تلاميذه، والمخارج في الفقه، صغير. توفي بـ"بغداد" سنة 150 هـ. وينظر: الأعلام 8/ 36، وتاريخ بغداد 13/ 323 - 423، وابن خلكان 2/ 163، والنجوم الزاهرة 2/ 12، والبداية والنهاية 10/ 107، والجواهر المضية 1/ 26.
(2)
يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي، أبو يوسف، صاحب الإمام أبي حنيفة، ولد 113 هـ كان فقيهًا علامة، من حفاظ الحديث، ولد بـ"الكوفة" لزم أبا حنيفة ونشر مذهبه، ولى القضاء بـ"بغداد" أيام المهدي والهادي والرشيد، أول من دعى قاضي القضاة، له كتب عديدة منها الآثار، الفرائض، الوصايا غيرها توفي 182 هـ. وينظر: مفتاح السعادة 2/ 100 - 107، وابن النديم (203)، والبداية والنهاية 10/ 180، وتاريخ بغداد 14/ 242، والأعلام 8/ 193.
(3)
ينظر: كشف الأسرار 3/ 44، والكفاية ص 472.
وَمَنَعَها أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمِهُمَا اللهُ - وَلجَمِيع الأُمَّةِ الْمَوْجُودِينَ الظَّاهِرُ
"و" منها: الإجازة "لجميع الأُمّة الموجودين، الظاهر قَبُولها؛ لأنها مثلها"، وبه قال الخطيب، وخالف فيه قوم
(1)
.
ومنها: ما أشار إليه بقوله: "وفي نَسْل فلان، أو من يوجد من بني فلان ونحوه خلاف واضح"، وهو صورتان.
إحداهما: الإجازة للمعدوم عطفًا على الموجود، مثل: أجزت لك ولولدك وعَقِبِك ما تَنَاسَلُوا، أو أجزت لنسلك - وفيهم موجود وفيه خلاف وهو أعلى من الصورة بعده.
والصورة الثانية: الإجازة للمعدوم ابتداء؛ مثل: أَجَزْتُ لمن يوجد لفلان.
وقد أجازها الخَطِيبُ من أصحابنا
(2)
، وابن عُمْرُوس
(3)
من المالكية، وأبو يعلى
(4)
من الحَنَابلة والصحيح - وهو الذي استقرّ عليه رأي القاضي أبي الطيب - أنها لا تصح، وللإجازة أنواع أخر، ذكرتها في "شرح المنهاج"
(5)
.
وأما المُنَاوَلَةُ
(6)
فنقول: إذا أشار الشيخ إلى كتاب فقال: سمعت ما في هذا الكتاب
(1)
الكفاية ص (472).
(2)
الكفاية ص (473).
(3)
محمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن عمروس، البغدادي المالكي، مولده سنة 372 هـ، الإمام العلامة، شيخ المالكية، أبو الفضل. روى عنه أبو بكر الخطيب وقال: انتهت إليه الفتوى ببغداد، قال أبو إسحاق: كان فقيهًا، أصوليًا صالحًا. وقال أبو الغنائم التَّرسي: كان رجلًا صالحًا ممن انتهى إليه معرفة مذهب مالك بـ"بغداد". وذكر ابن عساكر أنه توفي أول سنة 452 هـ. ينظر: تاريخ بغداد 2/ 339، وطبقات الشيرازي (169)، والأنساب 9/ 54، والعبر 3/ 228، وشذرات الذهب 3/ 290، وتاج العروس 4/ 196، والمنتظم 8/ 218، والكامل لابن الأثير 10/ 13، وسير أعلام النبلاء 18/ 73، والبداية والنهاية 12/ 86.
(4)
محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء، أبو يعلى، عالم عصره، ولد في 380 هـ ارتفعت مكانته عند القادر والقائم العباسيين، له تصانيف كثيرة منها مخطوط (الإيمان)، والأحكام السلطانية مطبوع، وأحكام القرآن، وعيون المسائل، والعدة مقدمة في الأدب، وكتاب الطب، وكتاب اللباس، المجرد، وكان شيخ الحنابلة. توفي سنة 458 هـ. ينظر: تاريخ بغداد 2/ 256، والبداية النهاية، (12/ 94 - 95) والأعلام 6/ 99.
(5)
ينظر: الإبهاج (2/ 336 - 337).
(6)
وهي في اللغة مفاعلة من النوال، وهو العطاء. =
قَبُولُهَا لأَنَّهَا مِثْلُهَا وَفِي نَسْلِ فُلَانٍ أَوْ مَنْ يُوجَدُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَنَحْوِهِ خِلَافٌ وَاضِحٌ.
من فلان، فلسامعه أن يعمل بقوله، وله أن يرويه عنه إن قرن المُنَاولة بالإجازة بأن قال: وأجزت لك أن ترويه عنى، أو فاروه عني، ويكون حينئذ أعلى من الإجازة بمجردها.
وذهب مجاهد، وأبو الزبير، والزهري، وربيعة الرأي، ويحيى بن سعيد، ومالك،
= وفي الإصطلاح: أن يدفع الشيخ سماعه أو فرعًا مقابلًا به للطالب.
وهي قسمان:
الأول: المناولة المقرونة بالإجازة، وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق، ونقل القاضي عياض الاتفاق على صحتها؟ وصورها أربع:
أولًا: أن يدفع الشيخ للطالب أصل سماعه أو فرعًا مقابلًا به، ويقول: هذا سماعي، أو روايتي عن فلان، فاروه عني، أو أجزت لك روايته عني، ثم يملكه إياه، ونحو هذا.
الثاني: أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضه عليه، فيتأمله الشيخ وهو عارف متيقظ، ثم يعيده إليه، ويقول له: وقفت على ما فيه، وهو حديثي عن فلان، أو روايتي عن شيوخي فيه، فاروه عني، أو أجزت لك روايته عني.
وهذا العرض يقال له: عرض المناولة، أما ما سبق في القراءة على الشيخ فهو عرض القراءة.
وهاتان الصورتان حالتان محل السماع عند مالك وجماعة من أئمة أصحاب الحديث.
الثالث: أن يناول الشيخ الطالب كتابه، ويجيز له روايته عنه، ثم يمسكه الشيخ عنده، ولا يمكّنه منه.
وحكم هذه حكم الإجازة للشيء المعين، غير أن بعضهم يرى لها مزية معتبرة.
أن يأتي الطالب الشيخ بكتاب أو جزء فيقول: هذا روايتك فناولنيه، وأجز لى روايته، فيجيبه إلى ذلك من غير أن ينظر فيه، ويتحقق روايته بجميعه.
وهذه الصورة لا تجوز، ولا تصح إلا إذا كان الطالب موثوقًا بخبره ومعرفته.
القسم الثاني: المناولة المجردة عن الإجازة بأن يناوله الكتاب سماعه أو فرعًا مقابلًا على سماعه ويقتصر على قوله: هذا حديثي، أو هذه سماعاتي يقول: اروه عنى أو: أجزت لك روايته عني، ونحو ذلك.
واختلف في صحتها: فأجازها قوم، ومنعها آخرون.
قال ابن الصلاح: وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها.
وقال العراقي: قال جماعة من أهل الأصول منهم الرازي: إنه لا يشترط الإذن بل ولا =
لَنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَدْلَ لا يَرْوِي إِلَّا بَعْدَ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ.
وسفيان بن عيينة، وقتادة، وأبو العَالِيَةِ
(1)
وابن وَهْب، وغيرهم إلى أن ذلك حال محل السماع، والصحيح أنه منحطّ عنه، ونقله الحَاكِم عن فقهاء الإسلام، منهم: سفيان الثوري، وأبو حنيفة، والشّافعي، والأوزاعي، والبويطي، والمزني، وابن المُبَارك. وأحمد، ويحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه.
وإن لم يقرن المُنَاولة بالإجازة، فليس له الرواية بها على الصَّحيح، خلافًا لِشِرْذِمَةٍ من المحدثين؛ ولذلك لم يعد المصنّف ذكرها، وجعلها داخلة في غِمَار الإجازة؛ لأن المعتبر عنده من المُنَاولة، ما اقترنت به الإجازة.
وأما الكتابةُ فنقول: إذا كتب الشيخ إلى شخص، سمعت كذا من فلان، عمل به إذا علم خطّ الشيخ، أو ظنه، وله أن يروى به إذا اقترنت الكتابة بالإجازة، وإن لم تقترن، فقال قوم: لا يروى بها
(2)
.
= المناولة، بل إذا أشار إلى الكتاب وقال: هذا سماعي من فلان، جاز لمن سمعه أن يرويه عنه، سمواء ناوله أم لا، وسواء قال له:
(اروه عني) أم لا:
قال العراقي:
وإن خلت من إذن المناولة
…
قيل: تصح، والأصح باطلة
(1)
رفيع بن مهران، أبو العالية الرياحي البصري، أحد الأعلام، الإمام المقرئ الحافظ المفسر. أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاب، وأسلم من خلافة أبي بكر الصديق، ودخل عليه، وحفظ القرآن، وقرأه على أبي بن كعب، وتصدر لإفادة العلم. قال أبو بكر بن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية. وقد وثق أبا العالية الحافظان أبو زرعة وأبو حاتم.
قال البخاري وغيره: مات سنة ثلاث وتسعين.
ينظر: طبقات ابن سعد 7/ 112، وطبقات خليفة ت (1634)، وتاريخ البخاري 3/ 326، والحلية 2/ 217، وتاريخ أصبهان 1/ 314، والعبر 1/ 108، وسير أعلام النبلاء 4/ 207.
(2)
وهي أن يكتب الشيخ مسموعه، أو شيئًا من حديثه لحاضر عنده، أو غائب عنه، سواء كتب بخطه، أو كتب عنه بأمره.
وهي ضربان:
الضرب الأول: أن تتجرد المكاتبة عن الإجازة.
وأجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين. =
وَقَدْ أُذِنَ لَه، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرْسِلُ كُتبهُ مَعَ الآحَادِ وَإنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهَا.
وقال أيوب السَّختياني
(1)
، ومنصور، والليث: يروى بها، ووافقهم جَمْعٌ من أصحابنا منهم: أبو المُظَفّر بن السمعاني، كما نص عليه في "القَوَاطع" وبالغ، فقال:[إنها]
(2)
أقوى من الإجازة.
وأما الإعلام: فأنْ يعلم الشيخ الرَّاوي بأن هذا سماعي، مقتصرًا على ذلك.
وقد جوَّز الرواية به قوم، منهم ابن الصَّبّاغ من أصحابنا، وهو محكي عن ابن جُرَيج.
وأما الوصيّة: فإن يوصي الشَّيخ الرَّاوي بكتاب يرويه عند موته، أو سفره.
وجوّز الرواية بها بعض السَّلف، والصحيح أنه لا يجوز.
وأما الوجَادَةُ: فأن يَجِدَ خَطَّ شيخ، أو خَطّ من لقيه عنه، فلك أن تقول: وجدت كذا من غير زيادة.
[وحكى]
(3)
عن الشَّافعي وطائفة من أَصحَابنا: جواز العَمَل بها إذا حصلت الثقة.
"لنا: أن الظاهر أن العدل لا يروى إلا بعد علم أو ظَنّ" بصحة ما أجاز به، "وقد أذن له" أن يروى فليصح.
= الضرب الثاني: أن تقترن بالإجازة بأن يكتب إليه ويقول: أجزت لك ما كتبته لك، أو ما كتبت به إليك، أو نحو ذلك من عبارات الإجازة، وهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة. ينظر المستصفى: 1/ 166، والبرهان 1/ 648، والمسودة 279، وشرح الكوكب المنير 2/ 517، وكشف الأسرار 3/ 42، وفواتح الرحموت 2/ 164، روضة الناظر 61، والمحصول 2/ 1/ 596، والمعتمد 2/ 628، والتحرير 341، توضيح الأفكار 2/ 348، والإلماع 544، وعلوم الحديث (160)، والمحدث الفاضل (505).
(1)
أيوب بن أبي تميمة كيسان السَّخْتياني البصري، أبو بكر ولد سنة 66 هـ، سيد فقهاء عصره، تابعي، من النساك الزهاد، من حفاظ الحديث، كان ثبتًا ثقة؛ رُوي عنه نحو 800 حديث.
توفي سنة 131 هـ، ينظر: تهذيب التهذيب 1/ 297، وحلية الأولياء 3/ 3، واللباب 1/ 536، والأعلام 2/ 38.
(2)
سقط من ب.
(3)
في ب: ويحكى.
قَالُوا: كَذِبٌ لأَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْهُ.
قُلْنَا: حَدَّثَهُ ضِمْنًا كَمَا لَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ.
قَالُوا: ظَنٌّ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ كَالشَّهَادَةِ.
قُلْنَا: الشَّهَادَةُ آكَدُ.
"حُكْمُ نَقْلِ الحَدِيثِ بِالْمَعْنَى"
مَسْأَلَةٌ:
الأَكْثَرُ: عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى لِلْعَارِفِ.
"وأيضًا: فإنه عليه السلام كان يرسل كتبه مع الآحاد، وإن لم يعلموا [ما]
(1)
فيها"، فدلّ على الاعتماد على الكتابة، والإجازة أقوى من الكتابة، فدلّ على الأقوى بطريق أولى.
"قالوا": إذا قال: حَدّثني "كذب؛ لأنه لم يحدثه".
"قلنا: هو وإن لم يحدثه صريحًا، فقد "حدثه ضمنًا كما لو قرأ عليه"، فإنه [يحدث]
(2)
عنه وإن كان ساكتًا كما عرفت.
ثم إن المجاز لا يطلق حَدّثني في الإجازة حتى يقال: كذب.
"قالوا: ظنّ فلا يجوز الحكم به كالشّهادة" بجامع أن كلًّا حكم شرعي.
"قلنا: الشهادة آكد".
ولم يذكر المصنّف المُنَاولة، والكتابة ثانيًا؛ لأن ألإجازة شرط فيها كما عرفت على المختار، فإذا جازت الإجازة مجردة، جازت مع أحدهما بطريق أولى.
«مسألة»
الشرح: "الأكثر على جواز نقل الحديث بالمَعْنَى للعارف"
(3)
.
(1)
سقط في ت، ح.
(2)
في ب: يحدثه.
(3)
الأصل أن يتحمل المتحمل ما تحمله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يؤديه على وفق ما تحمل في اللفظ =
وَقِيلَ: بِلَفْظٍ مُرَادِفٍ.
"وقيل: بلفظ مُرَادف".
= والأسلوب، لا يغير ولا يبدل؛ ثم يؤديه من تحمله عنه هكذا إلى أن يصل إلينا من غير تغيير ولا تبديل.
وجاء تأييدًا لهذا الأصل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع).
وجاءت رواية القرآن على ذلك، فكُتب كما تحمّل، وأذى كما سُمع، وكتب وتَواتَر حتى لم يبق فيه ريبة ولا شك.
أما رواية الحديث فدخلها الأداء بالمعنى، ووقع فيها التقديم والتأخير، والزيادة والنقص، فهل هو جائز أو غير جائز؟.
قالوا: غير جائز في أمور:
(1)
فيما إذا لم يكن الراوي عالمًا عارفًا بالألفاظ ومقاصدها، ولم يكن خبيرًا بما يحيل معانيها، ولا بصيرًا بمقادير التفاوت بينها.
(2)
فيما تضمنته بطون الكتب المصنفة والجامعة وغيرها.
(3)
صرح الزركشي: إن كان مما تعبد بلفظه، فإنه تجب الرواية باللفظ، كقوله في الحديث:(ونبيك الذي أرسلت).
(4)
قال السيوطي: وعندي إذا كان من جوامع الكلم، فإنه يجب روايته بلفظه أما ما عدا ذلك فإنهم اختلفوا فيه على مذاهب:
(1)
قالت طائفة من أصحاب الحديث والفقه والأصول: لا يجوز إلا بلفظه.
(2)
قيل: يمنع في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز في غيره.
(3)
قيل: إن نسي اللفظ جاز، وإلا منع.
(4)
جوازه لمن يحفظ اللفظ، ومنعه لمن نسيه.
(5)
قيل: يجوز ذلك للصحابة دون غيرهم، وبهذا جزم ابن العربي في (أحكام القرآن).
(6)
قيل: يجوز بإزاء مرادف.
(7)
قيل: إن كان موجبه علمًا جاز، وإن كان موجبه عملًا لم يجز.
(8)
قول جمهور السلف والخلف من الطوائف - منهم الأئمة الأربعة - وهو الجواز في جميعه إذا قطع بأداء المعنى.
قال ابن الصلاح: والأصح جواز ذلك في الجميع إذا كان عالمًا بما وصفناه، قاطعًا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه؛ لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأولين، وكثيرًا =
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ: مَنْعُهُ.
"وعن ابن سيرين منعه"، وهو المَرْوِيّ عن عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنه، وجماعة من التابعين، واختاره أحمد بن يَحْيَى ثعلب، وأبو بكر الرَّازي، ونقله إمام الحرمين عن معظم المُحْدثين وشِرْذِمَةٍ من الأصوليين.
"وعن مالك: أنه كان يشدّد في الباء والتاء" - مثل بالله وتالله فقيل: كان ذهابًا منه إلى منع نقل الحديث بالمعنى، وأنه كان يقول: لا ينقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى، بخلاف حديث النَّاس.
وقيل: بل كان يجوّزه [وحمل]
(1)
هذا التَّشديد "على المُبَالغة في الأَوْلَى"، فإن الأولى نقل اللّفظ بصورته بلا نزاع.
= ما كانوا ينقلون معنى واحدًا في أمر واحد بألفاظ مختلفة، وما ذلك إلا لأن معمولهم كان على المعنى دون اللفظ اهـ.
قال في (مسلم الثبوت) وشرحه: ولم ينكر عليه من أحد، بل قبله الكل في كل عصر .. اهـ.
ماذا يقول المؤدى بالمعنى؟
ينبغي لمن أدى بالمعنى أن يقول عقيبه: أو كما قال، أو نحوه، أو شبهه أو ما أشبه ذلك من الألفاظ.
قال السيوطي: وقد كان قوم من الصحابة يفعلون ذلك، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام؛ خوفًا من الزلل؛ لمعرفتهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر.
ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 361، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 655، وسلاسل الذهب للزركشي 332، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 93، ونهاية السول للأسنوى 3/ 211، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 373، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 105، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 150، والمنخول للغزالي 279، والمستصفى له 1/ 168، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 279، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 204، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 141، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 384، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 70. وينظر الرسالة ص 370، والتبصرة ص 346، والعضد 2/ 70، والمسودة ص 281، وروضة الناظر ص 63، وتنقيح الفصول ص 380، والمنتهى لابن الحاجب ص 60، والتبصرة (46)، والعدة 3/ 968، وحاشية البناني 2/ 171، كشف الأسرار 3/ 55.
(1)
في ب: ويحمل.
وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يُشَدِّدُ فِي "البَاءِ"وَ"التَّاءِ"، وَحُمِلَ عَلَى المُبَالَغَةِ فِي [الأَوْلَى].
وقال بعض أصحابنا: إن كان موجب الخبر علمًا جاز النَّقل بالمعنى، وإن كان موجبه عملًا ففيه ما لا يجوز الإخلال باللَّفظ فيه؛ كقوله عليه السلام:"تَحْرِيمُهَا التَّكبِيْرُ وَتَحْلِيْلُهَا التَّسْلِيمُ"
(1)
، وكقوله عليه السلام:"خَمْسٌ يقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ"
(2)
، وما أشبه ذلك، وفيه ما يجوز بالمعنى، نقله ابن السَّمعاني.
(1)
أخرجه الشافعي (1/ 70) رقم (206) وابن أبي شيبة (1/ 229)، وأحمد (1/ 129)، والدارمي (1/ 175)، وأبو داود (618)، والترمذي (1/ 8 - 9) رقم (3)، وابن ماجه (1/ 101) رقم (275)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 273)، والدارقطني (1/ 379)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 372)، والبيهقي (2/ 173) من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي مرفوعًا قال الترمذي: إنه أصح شيء في هذا الباب وأحسن.
وللحديث شواهد عن أبي سعيد وابن عباس وعبد الله بن زيد.
حديث أبي سعيد:
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 229)، والترمذي (1/ 8 - 9) وابن ماجة (1/ 101) رقم (276) والدارقطني (1/ 359)، والحاكم (1/ 132).
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
حديث ابن عباس:
أخرجه الطبراني في "الكبير"(11/ 163) رقم (11369).
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 229) موقوفًا عليه.
حديث عبد الله بن زيد:
أخرجه الدارقطني (1/ 361).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح 6/ 355، كتاب بدء الخلق (59)، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه
…
(16)، الحديث (3314)، ومسلم في (الصحيح 2/ 856)، كتاب الحج (15)، وباب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (9)، الحديث (67/ 1198)، وأخرجه مالك في الموطأ 1/ 356 - 357، باب: ما يقتل المحرم من الدواب، وأخرجه النسائي 5/ 208، في باب: ما يقتل في الحرم من الدواب (2881)، وفي قتل الحية في الحرم (2882)، أخرجه ابن ماجه 2/ 1031 في المناسك. باب ما يقتل المحرم (3087)، وأحمد في المسند 6/ 97، 122، والبيهقي في السنن الكبرى =
لَنَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْهُ أَحَادِيثَ فِي وَقَائِعَ مُتَّحِدَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ شَائِعَةٍ ذَائِعَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.
الشرح: "لنا: القَطْع بأنهم نقلوا عنه أحاديث في وَقَائع متّحدة"، ولفظه عليه السلام فيها واحد قطعًا "بألفاظ مختلفة شائعة ذائعة، ولم ينكره أحد"، وكان إجماعًا.
ومن الأحاديث "نَهَىَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ"
(1)
، "وَعَنِ المُحَاقَلَةِ
(2)
................
= 5/ 209، 9/ 316، والطحاوي في معاني الآثار 2/ 166، وانظر: تلخيص الحبير 2/ 274، ونصب الراية 3/ 136.
(1)
أخرجه الترمذي 3/ 533، في البيوع: باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة (1231)، وقال: حسن صحيح، والنسائي 7/ 295 - 296، في البيوع: باب بيعتين في بيعة، وأبو داود في السنن 3/ 274، بلفظ: من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا في كتاب البيوع، باب: فيمن باع بيعتين في بيعة (3461)، وابن حبان، كما في موارد الظمآن ص 272، في كتاب البيوع: باب ما نهى عنه في البيع من الشروط وغيرها (1119)، وبلفظ أبي داود (1110)، وأخرجه أحمد في المسند 2/ 432، 475 - 503، وابن الجارود في المنتقى (600)، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 343، ومالك في الموطأ بلاغًا 2/ 663، في البيوع، باب النهي عن بيعتين في بيعة.
(2)
المحاقلة لغة: بيع الطعام في سنبله، وقيل: اشتراء الزرع بالحنطة. وقيل: بيع الزرع قبل صلاحه من الحقل، وهو الزرع، وقيل: المزارعة بالثلث والربع وغيرهما، وقيل: كراء الأرض بالحنطة: كذا في المغرب.
انظر: المصباح المنير 1/ 225، والقاموس المحيط 3/ 369، والمطلع (240)، والمغرب 1/ 217.
واصطلاحًا:
عرفها الأحناف بأنها: بيع الحنطة في سنبلها مثل كيلها خرصًا، وزاد الكاساني: لا يدري أيهما أكثر.
وعرفها، الشافعية بأنها: اشتراء الزرع بالحنطة، واستكراء الأرض بالحنطة، وفسرها الإمام الشافعي في الأم "أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق حنطة".
وعرفها المالكية بأنها: شراء الزرع بالحنطة، وتطلق أيضًا على استكراء الأرض بالحنطة.
وعرفها الحنابلة بأنها: بيع الحب في سنبله بجنسه.
انظر: الهداية 3/ 44، والبحر 6/ 82، وبدائع الصنائع 5/ 194، وفتح القدير 5/ 195، =
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَذا"، أَوْ نَحْوَه، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.
والمُزَابَنَةِ
(1)
"
(2)
، "وَقَضَى بِاليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ
(3)
= والمجموع 9/ 339، والأم 3/ 62، ومغنى المحتاج 2/ 93، ونهاية المحتاج 4/ 156، والموطأ 4/ 446، وأوضح المسالك 112، 141 والمنتقى 4/ 245، والمغنى 4/ 152، وغاية المنتهى 3/ 164.
(1)
المزابنة لغة: أي الدفع، والحرب تزبن الناس: أي تدفعهم، والمزابنة: بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر كيلًا، وكذلك على كل مثمر على شجره بثمر كيلا. انظر: تاج العروس 9/ 334، ولسان العرب 17/ 54.
واصطلاحًا:
عرفها الأحناف بأنها: بيع التمر على النخل بتمر مجذوذ مثل كيله خرصًا، وزاد الكاساني: "لا يدري أيهما أكثر والزبيب بالعنب لا يدرى أيهما أكثر.
وعرفها الشافعية بأنها: أن تنظر كل ما عقدت بيعه مما الفضل بعضه على بعض يدًا بيد ربا لا يجوز فيه شيء يعرف كيله بشيء منه جزاف لا يعرف كيله، ولا جزاف منه بجزاف.
وعرفها المالكية بأنها: كل شيء من الجزاف الذي لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده ابتيع بشيء مسمى من الكيل أو الوزن أو العدد، وهي غير مقصورة على النخل.
وعرفها الحنابلة بأنها: بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر.
انظر: الهداية 3/ 44، والحجة على أهل المدينة 2/ 552، وحاشية ابن عابدين 5/ 65، والبحر الرائق 6/ 82، وبدائع الصنائع 5/ 194، ونهاية المحتاج 4/ 156، والأم 3/ 63، والموطأ 4/ 446، وأوضح المسالك 11/ 141، والمبدع في شرح المقنع 4/ 139، وكشاف القناع 3/ 258، ومغنى المحتاج 2/ 93.
(2)
أخرجه مسلم 3/ 1174 - 1175، في البيوع: باب النهي عن المحاقلة والمزابنة (81 - 84/ 1536)، والشافعي في المسند 2/ 152، في البيوع: باب فيما نهى عنه من البيوع (525 ترتيب).
(3)
اختلف الفقهاء في الحكم بشاهد واحد مع يمين المدعى: فذهب الشافعي، ومالك، وأحمد وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وشريح، والفقهاء السبعة إلى جواز الحكم بشاهد ويمين في الأموال خاصة. وروى هذا عن أبي بكر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم.
وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والأوزاعي، والشَّعْبِي، والنخعي، وزيد بن علي، وابن شبرمة، والإمامُ يحيى إلى عدم جواز الحكم بشاهد ويمين. وقال محمد بن الحسن: من قضى بشاهد ويمين نقضت حكمه. وقال الحكم: القضاء بشاهد ويمين بدعة، وأول من حكم به معاوية.
الأدلة: استدل المجوزون بما يأتي: =
وَأَيْضًا: أُجْمِعَ عَلَى تَفْسِيرِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ؛ فَالْعَرَبِيَّةُ أَوْلَى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= 1 - عن سيف بن سليمان عن قيس بن سعدٍ عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. رواه أحْمَد، وأبو داود، وابن ماجة. وفي رواية لأحمد: إِنَّما كان ذلك في الأموال.
2 -
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه؛ أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق، وقضى به أمير المؤمنين علي بالعراق. رواه أحمد والدارقطني. وذكره الترمذي.
3 -
عن ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد. رواه ابن حاجه والترمذي، وأبو داود. قال عبد العزيز الدَّرَاوَرْدِيُّ: فذكرت ذلك لسهيل. فقال: أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدثته إِيَّاه، ولا أحفظه. قال عبد العزيز: كان أصاب سهيلًا علة أذهبت بعض عقله، ونسي بعض حديثه. فكان سهيل بعد يحدث عن ربيعة عنه عن أبيه.
واحتج المانعون بما يأتي:
1 -
بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} الآية قد انتظمت شيئين من أمر الشهود: أحدهما العدد، والآخر الصفة، وهي العدالة المأخوذة من قوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} .
وحيث إنْ لم يجز إِسْقَاط العدالة، والاقتصار على ما دونها، لم يجزْ إِسقاط العدد؛ لأن الآية مقتضية استيفاء الأمرين في تنفيذ الحكم بها؛ فغَيْرُ جائزٍ إِسقاطُ واحدٍ منهما.
وأيضًا فلما أراد الله الاحتياط في إجازة شهادة النساء، أوجب شهادة المرأتين، وقال:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} فلو أجيز الحكم بشاهد ويمين، لما كان هناك حاجة لأن تذكر إحدى المرأتين الأخرى إذا ما ضلت؛ لأن الشاهد وحده مع اليمين كاف، ثم قوله تعالى:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} ينفى قبول الشاهد واليمين؛ لما فيه من الحكم بغير ما أمر الله من الاحتياط، والاستظهار، "ونفي الريبة والشك، وفي قبول يمين الطالب أعظم الريب والشك وأكبر التهمة؛ وذلك خلاف مقتضى الآية.
وأيضًا، لو قبلت شهادة شاهد واحد مع يمين الطالب، لكان زيادةً على ما جاء به القرآن، والزيادة نسخ، وأخبار الآحادِ لا تنسخ المتواتر.
2 -
بما روى عن ابن عباس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المُدَّعَى عليه، وأخرجه =
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى قَطْعًا وَهُو حَاصِلٌ.
........... ".
(1)
ونحو ذلك مما يعلم قطعًا أن الراوي لم يقصد فيه اللفظ.
"وأيضًا: ما روى ابن مسعود، وغيره أنه قال صلى الله عليه وسلم: كذا"، ثم يقولون:"أو نحوه"، وذلك تصريح بعدم ذكر اللّفظ بعينه، "ولم ينكره أحد"، فكان إجماعًا.
= الطبراني من رواية سفيان عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "البينةُ علَى المُدَّعي، واليَمِينُ علَى مَنْ أَنْكَرَ" وأخرجه البيهقيُّ من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن جريج وعثمان بن الأسود عن أبي مُلَيْكة قال: كنتُ قاضيًا لابن الزبير على الطائف، فذكر قصة المرأتين اللتين ادعت إحداهما على الأخرى أنها جرحتها، فكتبت إلى ابن عباس، فكتب إليَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَوْ يُعطَى النَّاسُ بدَعْوَاهُمْ لادَّعى رِجالٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِن البَيِّنةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنكَرَ" يدل قول النبي صلى الله عليه وسلم "البينة على من ادَّعى، واليمينُ على من أنكر" على التفريق بين البينه اليمين، وغير جائز أن تكون اليمين بينة؛ إذ لو حاز، لكان لمنزلة قول القائل: "البينة على المدعى، والبينة على المدعى عليه وحيث إنَّ اليمين خلافُ البينة. وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين الخصمين، فجعَلَ عَلَى المُدَّعي البينة، وعلى المنكر اليمين؛ فلا يجوز الحكم بشاهد ويمين؛ لأن القسمة تنافي الشركة.
وأيضًا جعل النبي صلى الله عليه وسلم جنس البينة على المدعى، وجنس الأيمان على المنكر، وحينئذ تكون جميع أفراد البينة على المدعين، وجميع أفراد اليمين على المنكرين، فلو حلف المدعى مع الشاهد كان مخالفًا للنص.
وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدعوَاهُمْ إلخ". يدل على بطلان القول بالشاهد واليمين؛ إذ إِنَّ اليمين هي دعواه؛ لأن مخبرها ومخبر دعواه واحد، فلو استحق بيمينه كان مستحقًا بدعواه، وقد منع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك.
3 -
بما روى عن علقمة بن حجر عن أبيه في الحضرمي الذي خاصم الكندي في أرض ادَّعَاهَا في يده وجحد الكندي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام للحصرمي:"شَاهِدَاكَ أوْ يَمِين، لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ". نفى النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يستحق شيئًا بغير شاهدين، وأخبر أنه لا شيء له غير ذلك.
(1)
أخرجه من طريق وائل الحضرمي مسلم في الصحيح 3/ 1474 - 1475، كتاب الإمارة (33)، باب في طاعة الأمراء .. (12)، الحديث (49/ 1856).
قَالَوا: قَالَ عليه الصلاة والسلام: "نَضَّرَ اللهُ امْرَأً".
قُلْنَا: دَعَا لَهُ لأَنَّهُ الْأَوْلَى، وَلَمْ يَمْنَعْهُ.
قَالُوا: يُؤَدِّى إِلَى الإِخْلَالِ؛ لاِخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَعَانِي وَتَفَاوُتِهِمْ، فإِذَا قُدِّرَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، اخْتَلَّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأُجِيبَ بأَنَّ الْكَلامَ فِيمَنْ نَقَلَ بالْمَعْنَى سواءٌ.
وقد سمع عمرو بن ميمون
(11)
يومًا عبد الله بن مسعود يحدث عن النّبي صلى الله عليه وسلم وقد علاه كَرْبٌ وجعل العَرَقُ يَنْحَدرُ عن جَبِينِهِ وهو يقول: إما فوق ذلك، وإما دون ذلك، وإما قريب من ذلك.
"وأيضًا: أجمع على تفسيره بالعَجَمِيّة، والعربية أولى".
"وأيضًا: فإن المقصود المعنى قطعًا، وهو حاصل" عند نقله بلفظ آخر.
الشرح: "قالوا: قال صلى الله عليه وسلم: "نَضَّرَ اللهُ امْرَأً" سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا".
"قلنا": أولًا النَّاقل بالمعنى مؤدّ كما سمع.
سلّمنا: ولكن "دعا له؛ لأنه الأولى"؛ إذ لا ريب في أنّ الأولى نقل اللَّفظ على صورته، "ولم يمنعه" أن ينقل بالمعنى.
"قالوا: يؤدّي إلى الإخلال؛ لاختلاف العلماء في المعاني وتفاوتهم، فإذا قدر ذلك" النقل مع الاختلاف "مرتين أو ثلاثًا - اختلّ" المعنى "بالكلية".
وزاد ثَعْلبٌ فقال: عامّة الألفاظ التي لها نظائر في اللُّغة إذا تَحَقَّقْتَهَا وجدت كلّ لفظة منها مختصّة بشيء لا يُشَاركها صاحبها فيه، فمن رأى شيئًا يقوم مقام شيء لم يسلم من
(11)
عمرو بن ميمون الأودي، أبو يحيى الكوفي، عن عمر ومعاذ، وله إدراك، وعنه: الشعبي وسعيد بن جبير وأبو إسحاق، وقال: حج ستين ما بين حجة وعمرة، وروى إسرائيل عن أبي إسحاق: حج مائة حجة وعمرة، وثقه ابن معين، قال أبو نعيم: مات سنة أربع وسبعين.
ينظر: تهذيب الكمال 2/ 1052، وتهذيب التهذيب 8/ 109 (180)، وتقريب التهذيب 2/ 80، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 297، وسير الأعلام 4/ 158، والثقات 5/ 166، والكاشف 2/ 344، وتاريخ البخاري الكبير 6/ 367، والحلية 4/ 148.
" تَكْذِيبُ الأَصْلِ الفَرْعَ"
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا كَذَّبَ الأَصْلُ الْفَرْعَ سَقَطَ؛ لِكَذِبِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلَا يَقْدَحُ
الزَّيغ، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم أوتى جوامع الكلم، فمن [ذا]
(1)
يقدر على الإتيان بلفظ يوازي لفظه مع الوَفَاء بالمعنى الذي أراده.
"وأجيب بأنَّ الكلام فيمن نقل بالمعنى سواء"، وكلام ثعلب يحيل صورة المسألة.
«مسألة»
الشرح: "إذا كذب الأصلُ الفرعَ، سقط" المروي عن درجة الاعتبار والقبول
(2)
؛ "لكذب واحد غير معيّن" منهما، "ولا يقدح في عَدَالتهما"؛ لأن عدالة كلّ واحد منهما على التعيين منتفية، وكذبه مشكوك، واليقين لا يرفع بالشَّك، [فهما]
(3)
كالبيِّنَتَيْنِ، يتكاذبان يتعارضان، ولا يقدح في عدالتهما، وكرجل قال لامرأته: إن كان هذا الطائر غُرَابًا فأنت طالق، وعكس آخر، ولم يعرف الطائر لا يمنع واحد منهما من غِشْيَانِ امرأته مع أن إحدى المرأتين طالق.
هذا ما قاله الأصحاب.
ورأى ابن السَّمْعَاني: أن الحديث لا يسقط.
قال: لأن الرَّاوي قاله بحسب ظنه، ولعل شيخه نسى، ومع احتمال نسيانه كيف يسقط، وما رواه هو الذي يختاره. [ويلزم]
(4)
قول الأصحاب، لو اجتمع الفَرْع والأصل في شهادة ترد؛ لأَنَّ أحدهما غير عدل، فلم يتم النِّصاب، وما أراهم يقولون بهذا.
وقد حكوا قَوْلَيْن فيما إذا ادّعى رجلٌ على رجلين أنهما رهناه عبدهما، فزعم كُلّ
(1)
سقط في ح.
(2)
ينظر: كشف الأسرار 3/ 59، والمستصفى 1/ 167، والتبصرة 241، وفواتح الرحموت 2/ 70، وشرح الكوكب 2/ 537، والمسودة 278، والإحكام للآمدي 1/ 96، وتيسير التحرير 3/ 107، وشرح العضد 2/ 71، وشرح التنقيح (369)، وأصول السرخسي 2/ 3، والمختصر لابن اللحام (93).
(3)
في ح: فيهما.
(4)
في ب: وملزم.
فِي عَدَالَتِهِمَا. فَإِنْ قَالَ: لَا أَدْرِي فَالأَكْثَرُ يُعْمَلُ بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلأَحْمَدَ رِوَايتَانِ.
لنَا: عَدْلٌ غَيْرُ مُكَذَّبٍ كَالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ.
واحد منهما أنه ما رهن نصيبه، وأن شريكه رهن، وشهد عليه أحدهما، لا يقبل الطَّعن كل واحد منهما في صاحبه، وأصحهما يقبل، وبه قال الأكثرون؛ لأنهما ربما نسيًا.
وهذا الصَّحيح شاهد لما رواه ابن السَّمعاني، واخترناه.
"فإن" لم يجزم الأصل بتكذيب الفَرْعِ، ولكن "قال: لا أدري" صحّة ما عزاه إليّ، "فالأكثر يعمل به خلافًا لبعض الحنفية، ولأحمد روايتان"
(1)
.
الشرح: "لنا": الرَّاوي "عدلٌ غير مكذب"، فإن شيخه لم يفصح بتكذيبه، فوجب العمل بروايته، "كالموت والجنون" يعرضان للأصل، فلا يرد خبر الفَرْعِ.
"واستدلّ أن سهيل بن أبي صَالح"
(2)
- هذا هو الصواب ووقع في [بعض]
(3)
خطِّ المصنّف - سهيل بن صَالح وهو وهم - "روى عن أبيه عن أبي هريرة؛ أنه صلى الله عليه وسلم قضى باليَمِيْنِ مع الشاهد، ثم قال" سهيل "لربيعة" - وهو الرَّاوي عنه: "لا أدري، وكان يقول حَدّثني ربيعة عني" أني حدثته، رواه هكذا أبو داود، ورواه الترمذي، وابن ماجه، ولم يذكر قول سهيل لربيعة: لا أدرى.
ووجه الحجّة: أن سهيلًا قال: لا أدري، ثم حدث عن ربيعة عن نفسه، واشتهر
(1)
ينظر: الرسالة ص 370، والتبصرة ص 346، والمنخول ص 279 - 280، وغيرها من المصادر
…
(2)
سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان، أبو يزيد المدني. وثقه ابن عيينة والعجلي. وقال النسائي: هو خير من فليح وحسين المعلم، وعدّ جماعة يعترض على البخاري في احتجاجه بهم وعدم احتجاجه بسهيل، قال الذهبي: مرض سهيل فتغير حفظه. مات في خلافة المنصور سنة 138 هـ.
ينظر: طبقات ابن سعد 1/ 339، وتهذيب الكمال 1/ 558، وتهذيب التهذيب 4/ 263، وتقريب التهذيب 1/ 338، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 429، والكاشف 1/ 409، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 104، والجرح والتعديل 4/ 1063، وميزان الاعتدال 2/ 243.
(3)
سقط في ح.
وَاسْتُدِلَّ! بِأَنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ رَوَى عَن أَبِيهِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَضَي بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، ثُمَّ قَالَ لِرَبِيعَةَ: لَا أَدْرِي، فكَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي.
قُلْنَا: صَحِيحٌ، فَأَيْنَ وُجُوبُ الْعَمَل؟!.
ذلك، ولم ينكره أحد، وصارت هذه سبيلًا للمحدثين.
ومن [طريف]
(1)
ما اتَّفق فيها أن أبا القَاسِمِ بن عَسَاكر - وهو أستاذ زمانه حفظًا وإتقانًا وورعًا - حدَّث قال: سمعت سعيد بن مُبَارك [الدّهان]
(2)
بـ"بغداد" يقول: رأيت في النوم شخصًا أعرفه وهو ينشد صاحبًا له: [مجزوء الرمل]
أَيُّهَا الْمَاطِلُ دَيْنِي
…
أَمَلِيٌّ وَتُمَاطِلْ؟!
عَلِّلِ الْقَلْبَ فَإِنِّي
…
قَانِعٌ مِنْكَ بِبَاطِلْ
وحدَّث ابن عساكر بهذا صاحبه الحافظ [أبا سعيد بن
(3)
المُبَارك]
(4)
[قال: ابن السَّمعاني، فرأيت سعيد بن المُبَارك]
(5)
وعرضت عليه هذه الحكاية فقال: ما أعرفها.
قال ابن السمعاني، وابن عساكر من أوثق من رأيت، جُمِعَ له الحفظ والمعرفة والإتقان، ولعلّ ابن الدّهان نسى.
قلت: كذا هو، وقد كان ابن الدَّهَّان بعد ذلك يروي هذه الحِكَاية عن [أبي سعيد]
(6)
عن أبي القاسم عن نفسه.
(1)
في ت، ح: ظريف.
(2)
سقط في ت.
(3)
سعيد بن المبارك بن الدهان البغدادي النحوي، العلامة، أبو محمد صاحب التصانيف، ولد سنة 494 هـ، قال العماد الكاتب: هو سيبويه عصره، ووحيد دهره، لقيته، وكان حينئذ يقال: نُحاة بغداد أربعة: ابن الجواليقي، وابن الشجري، وابن الخشّاب، وابن الدهان، وقد غرقت كتبه بـ"بغداد" في غيبته، ثم نقلت إليه إلى الموصل، فشرع في تبخيرها باللَّاذن ليقطع ريحها الرديء، فطلع ذلك إلى رأسه، وأحدث له العمي. من كتبه:"سرقات المتنبي" و"التذكرة" وغيرها. توفي سنة 569 هـ.
ينظر: معجم الأدباء 11/ 219 - 223، وإنباه الرواة 2/ 47، ووفيات الأعيان 2/ 382، والعبر 4/ 207، ومرآة الجنان 3/ 390، وشذرات الذهب 4/ 233، وسير الأعلام 20/ 581.
(4)
في أ، ح: أبا سعيد بن السمعاني، وفي ب: أبا سعد.
(5)
سقط في ت.
(6)
في ت، ح: أبي سعد.
قَالُوا: لَوْ جَازَ لَجَازَ فِي الشَّهَادَةِ.
قُلْنَا: الشَّهَادَاتُ أَضْيَقُ.
قَالُوا: لَوْ عُمِلَ بِهِ لَعَمِلَ الْحَاكِمُ بِحُكْمِهِ ذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ وَنَسِيَ.
قُلْنَا: يَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللهُ - وَإنَّمَا يَلْزَمُ الشَّافِعِيَّةَ.
"قلنا": وقوع قصة سهيل على هذا الوَجْهِ "صحيح"، ولكن ليس فيه ما يدل على وجوب العمل به، "فأين وجوب العمل"؟ ..
ولك أن تقول: قد عمل به سهيل، وصار يحدث عن ربيعة عن نفسه، ولو لم يكن العمل به جائزًا لما عمل به، وإذا جاز وجب؛ لعدم القائل بالفَصْل.
الشرح: "قالوا: لو جاز" العَمَل برواية الفَرْعِ مع نسيان الرواية "لجاز في الشَّهَادة".
"قلنا: الشهادة أضيق" من الرواية.
"قالوا: لو عمل به لعمل الحاكم بحكمه إذا شهد [الشاهدان]
(1)
ونسى".
"قلنا: يجب ذلك عند مالك، وأحمد، وأبي يوسف".
"وإنما يلزم الشَّافعية"، كذا قال، وابن القاص خَرّج قولًا للشَّافعي كمذهب القوم، فعلى هذا لا كلام، وعلى المذهب لَيْتَ شِعْرِي كيف يصح له إلزام الشَّافعية بالإلحاق بعد دعواه وِجْدَان الفارق؛ حيث يقول: الشَّهادة أضيق.
وبهذا فرق الأصحاب، ولهم التفرقة أيضًا بأن الَّذيْن يشهدان عند الحاكم على حكمه بخبر أنه عن فعل نفسه.
وسيأتي أن المراد لا يعمل بخبر الوَاحِدِ عن فعل نفسه؛ لأنه أدرى بها.
فإن قلت: فكيف يعمل الشيخ برواية الراوي عنه عند الشك وهو مخبر له عن فعل نفسه؟
(1)
في ت: الشاهد.
" انْفِرَادُ العَدْلِ بِالزِّيَادَةِ"
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا انْفَرَدَ الْعَدْلُ بِزِيَادَةٍ، وَالْمَجْلِسُ وَاحِدٌ: فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ لَا يَغْفُلُ مِثْلُهُمْ عَنْ مِثْلِهَا عَادَةً، لَمْ يُقْبَلْ، وَإلَّا فَالْجُمْهورُ: تُقْبَلُ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ.
لنَا: عَدْلٌ جَازِمٌ فَوَجَبَ قَبُولُهُ.
قَالُوا: ظَاهِرُ الْوَهْمِ فَوَجَبَ رَدُّهُ.
قُلْنَا سَهْوُ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ سَمِعَ وَلَمْ يَسْمَعْ بَعِيدٌ بِخِلَافِ سَهْوِهِ عَمَّا سَمعَ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ، فَإِنْ تَعَدَّدَ الْمَجْلِسُ قُبِلَ بِاتِّفَاقٍ، فَإِنْ جُهِلَ فَأَوْلَى بِالْقَبُولِ.
وَلَوْ رَوَاهَا مَرَّةً وَتَرَكَهَا مَرَّةً فكَرِوَايَتَيْنِ، وَإذْا أَسْنَدَ وَأَرْسَلُوه، أَوْ رَفَعَهُ وَوَقَفُوه، أَوْ وَصَلَهُ وَقَطَعُوهُ فَكَالزِّيَادَةِ".
قلت: حكى ابن كَجّ وجهًا: أنه هو لا يعمل، وعلى هذا لا كلام.
وأما على المذهب فإن موضع الفائدة من الرواية نسبة القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وللشيخ [وراويه]
(1)
ومن بعدهما كلهم وسائط، والقول في الحقيقة ليس لهم، وإنما هو للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يخبره في الحقيقة إلا عن قول النبي صلى الله عليه وسلم.
غاية ما في الباب أنه كان واسطة فيه.
«مسألة»
الشرح: "إذا انفرد العَدْل" من بين جماعة عدول رووا حديثًا "بزيادة" على ذلك الحديث "والمجلس واحد، فإن كان غيره [لا يغفل]
(2)
مثلهم عن مثلها عادةً، لم يقبل" منه الزيادة
(3)
.
(1)
في أ، ت: ورواية.
(2)
في ب: لا يفعل.
(3)
ينظر: المسودة 299، والمنخول 283، وشرح التنقيح 381، وفواتح الرحموت 2/ 172، والتبصرة 321، واللمع ص 46، وتوضيح الأفكار 2/ 17، وحاشية البناني 2/ 140، وفتح المغيث للعراقي 1/ 199، وروضة الناظر ص 63، والمنتهى ص 61، والإحكام لابن حزم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال ابن السَّمْعَاني: يُقبل إلا أن يقولوا: إنهم لم يسمعوا؛ لجواز روايتهم بعض الحديث.
وهذا هو المختار إلا أن تكون تلك الزيادة مما تتوفّر الدواعي على نقلها.
"وإلا" أي كان غيره ممن يجوز أن يغفل عن مثلها عادة، "فالجمهور تقبل".
"وعن أحمد روايتان".
"لنا: عدل جازم" بما رواه لا مُعَارض له؛ لأن التارك لرواية الزِّيادة لم ينفها لفظًا ولا معنى.
أما لفظًا فواضح، وأما معنى، فلأنه ليس إلا أنه لم يروها، وذلك لا يجب أن يكون لنفيه إياها، فلعلّه كان ساهيًا، حين تكلّم بها النبي صلى الله عليه وسلم أو مشغولًا، "فوجب قبوله"؛ كما لو برواية الحديث، ولم يروه غيره معه.
"قالوا: ظاهر الوَهْم"؛ [لوحدته]
(1)
وتعدّدهم، "فوجب ردّه".
"قلنا: [سهو الإنسان]
(2)
بأنه سمع ولم يسمع بعيد، بخلاف سهوه عما سمع فإنه كثير".
وإذًا حمل الذين لم يرووا الزيادة على السهو أقرب من حَمْلِ راويها - "فإن تعدّد المجلس قبل باتفاق"، وهو واضح، "فإن جهل
(3)
فأولى بالقَبُولِ، من المعلوم اتحاده؛ لاحتمال التعدُّد.
"ولو" أن راوي الزيادة "رواها مَرّة، وتركها أخرى فكروايتين"، كذا بخطّ المصنّف، أي: حكمه حكم الروايتين، وفي بعض النسخ فكذا.
قال الإمام: إن روى الزيادة مرة، ولم يروها أخرى، فالاعتبار بكثرة المرات، وإن تساويا قُبِلَتْ.
= 1/ 264، وغاية الوصول ص 98، والبحر المحيط للزركشي 4/ 329، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 71.
(1)
في أ، لوجدته.
(2)
في ب: سهو لا نسيان، وهو تحريف.
(3)
في ح: فإن تعدد المجلس جهل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"وإذا أسند وأرسلوه، أو وقفه ورفعوه، أو وصله وقطعوه، فكالزيادة".
مثال زيادة الرَّاوي حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدي، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. يَقُولُ اللهُ حَمِدَنِي عَبْدِي"
(1)
وهو خبر صحيح.
ثم روى عُبَيْدُ الله بن زياد بن سمعان، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة الخبر، وذكر فيه "فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ذَكَرَنِي عَبْدِي" تفرّد بالزيادة [عبيد الله]
(2)
بن زياد
(3)
، وفيه مقال.
وذكرنا في "شرح المنهاج": أمثلة أخرى كزيادة الراوي.
مثال زيادة الراوي مرة وتركه مرارًا، أن سفيان بن عيينة روى عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله
(4)
، إليه بسنده، عن عائشة قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا خبّأنا لك حَيْسًا، فقال: "أَما إِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ [الصَّوْمَ]
(5)
، وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ"
(6)
، أسنده الشَّافعي هكذا.
(1)
أخرجه مسلم 1/ 296 في كتاب الصلاة: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث (38/ 395)، ومالك في الموطأ 1/ 84 في كتاب الصلاة: باب القراءة، خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة حديث (39).
(2)
في أ، ب، ت، ح: عبد الله.
(3)
عبيد الله بن أبي زياد المكي، أبو الحصين القَدَّاح. عن أبي الطُّفيل وسعيد بن جبير. وعنه: الثوري ويحيى القطان. وقال: كان وسطًا. وقال أبو حاتم والحاكم: أبو أحمد ليس بالقوي. وقال ابن عدي: لم أر له حديثًا منكرًا.
ينظر: خلاصة تهذيب الكمال 2/ 191، وتهذيب الكمال 2/ 877، وتهذيب التهذيب 7/ 14 (27)، وتقريب التهذيب 1/ 533، والكاشف 2/ 266، وتاريخ البخاري الكبير 5/ 382، والجرح والتعديل 5/ 1500، وميزان الاعتدال 3/ 8.
(4)
طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي الكوفي. عن أبيه وأعمامه ومجاهد. وعنه السفيانان وأبو الأحوص سلام ووكيع. وثقه العجلي وابن معين. وقال أبو زرعة والنسائي: صالح. وقال البخاري: منكر الحديث. قال الواقدي: مات سنة ثمان وأربعين ومائة.
ينظر: الثقات 6/ 487، وميزان الاعتدال 2/ 343، والجرح والتعديل 4/ 477، تقريب التهذيب 1/ 380 (43)، وتهذيب التهذيب 5/ 27 (45)، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 13.
(5)
سقط في ت.
(6)
في أ، ح: قرنته.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواه عن سفيان شيخ باهلي، وزاد فيه "وَأَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ". قال الشَّافعي: سمعت سفيان عامة مَجَالسه لا يذكر فيه "وَأَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ"، ثم عرضه عليه قبل موته بِسَنَةٍ فذكر هذه الزيادة.
مثال من أسند وأرسلوه إسناد إسرائيل بن يونس
(1)
، عن جَدّه أبي إسحاق السّبيعي، عن أبي بردة، عن أبيه [إلى]
(2)
أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ".
ورواته: سفيان الثوري، وشعبة بن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.
وحكم البُخَاري لمن وصله، وقال: زيادة الثِّقة مَقْبُولة، مع أن المرسل له شعبة وسفيان، وهما من هما حفظًا وإتقانًا.
مثال من وقف ورفعوه.
روى مالك في "الموطأ" عن أبي [النضرِ]
(3)
، عن بُسْرِ بن سَعِيدٍ
(4)
، عن زَيْدِ بن
(1)
إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني، من أهل الكوفة، ولد سنة مائة، يروى عن: أبي إسحاق وسماك. يروى عنه أهل العراق. كنيته أبو يوسف. قال عيسى بن يونس: قال إسرائيل: كنت أحفظ حديث يونس بن أبي إسحاق كما أحفظ السورة من القرآن. ومات سنة ستين ومائة.
ينظر: طبقات ابن سعد 6/ 260، ونسيم الرياض 3/ 65، وسير الأعلام 7/ 355، والوافي بالوفيات 8/ 11، ولسان الميزان 7/ 176، وميزان الاعتدال 1/ 208، والجرح والتعديل 2/ 330، وتهذيب الكمال 1/ 92، والخلاصة 1/ 80، والثقات 6/ 79.
(2)
سقط في أ، ب، ت، ح.
(3)
سالم بن أبي أمية التيمي، مولاهم، أبو النضر المدني، عن أنس وسليمان بن يسار وبُسر بن سعيد وطائفة. وعنه: موسى بن عقبة وابن إسحاق وعمرو بن الحارث والليث. قال ابن المديني: له نحو خمسين حديثًا. وثقه يحيى بن معين والنسائي.
ينظر: الثقات 6/ 407، والجرح والتعديل 4/ 779، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 111، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 359، والكاشف 1/ 343، وتقريب التهذيب 1/ 279، وتهذيب التهذيب 3/ 431، وتهذيب الكمال 1/ 459.
(4)
بُسر بن سعيد، مولى ابن الحضرمي، المدني العابد. عن سعد بن مالك وزيد بن ثابت وأبي =
" حُكْمُ حَذْفِ بَعْضِ الخَبَرِ"
مَسْأَلَةٌ:
حَذْفُ بَعْضِ الْخَبَرِ جَائِزٌ
عِنْدَ الْأَكْثَرِ إِلَّا فِي الْغَايَةِ وَالاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِ مِثْلُ: "حَتَّى تُزْهِيَ" وَ "إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ" فَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ.
ثابتٍ رضي الله عنه موقوفًا عليه: "أَفْضَلُ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ"
(1)
. وخالفه موسى بن عُقْبة، وعبد الله بن سعد بن أبي هند وغيرهما، فرووه عن أبي النصْر مرفوعًا.
ومثل هذا كثير في حديث مالك رضي الله عنه، فمتى اتفق اثنان فأكثر على رفع ما وقفه، أو إسناد ما أرسله لم يعلل [بصنيعه]
(2)
مع جلالته علمًا ودينًا.
وذكروا أنّ من عادة مالك - لشدّة ورعه واحتياطه في الرواية - التقصير في كثير من الحديث بالإرسال، أو الوَقْف، أو الانقطاع، لِيَسْتَتِرَ من الشّك يعرض له.
قالوا: وهذا معنى قول الشَّافعي رضي الله عنه: الناس إذا شكّوا في الحديث ارتفعوا، ومالك إذا شَكَّ فيه انخفض، يعني. أنه إذا حصل عنده أدنى شَكّ في الرفع، أو الإسناد، أو الوَصْل - وقف، وأرسل وقطع؛ أخذًا بالتَّحري والاحتياط، وإن كان يظن خلافه، بخلاف غيره من الرواة.
"مسألة"
الشرح: "حذف بَعْض الخَبَرِ جائز عند الأكثر
(3)
إلّا في الغاية، والاسْتِثْنَاء ونحوه"،
= هريرة وأبي سعيد. وعنه عثمان وأبو سلمة وزيد بن أسلم ومحمد بن إبراهيم التَّيْمي. قال ابن معين: ثقة. قال ابن سعد: كان من العباد المنقطعين وأهل الزهد في الدنيا والورع. قال الواقدي: مات سنة مائة. ينظر: سير الأعلام 4/ 594، والثقات 79، والجرح والتعديل 2/ 1680، وتاريخ البخاري الكبير 2/ 123، والكاشف 1/ 153، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 122، وتهذيب التهذيب 1/ 437، وتهذيب الكمال 1/ 142.
(1)
أخرجه الترمذي 2/ 32، كتاب الصلاة: باب ما جاء في فضل صلاة التطوع في البيت (450)، وذكره المتقي الهندي في الكنز (21351).
(2)
في ب: بصيغة، وهو خطأ.
(3)
ينظر: الإحكام للآمدي 2/ 101، والمستصفى 1/ 168، ونهاية السول 3/ 230، وجمع الجوامع 2/ 144، وشرح الكوكب المنير 2/ 555، والمعتمد 2/ 626، والمسودة ص 304، وغاية الوصول ص 98، والتحرير ص 330، وتيسير التحرير 3/ 75، وفواتح الرحموت =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مما يخل بالحُكْم الذي تضمّنه الباقي، فإن ذلك لا يجوز بالإجماع؛ "مثل": أن يحذف "حتى تزهي" من حديث "نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتّى تُزْهِي"
(1)
متفق عليه، "و "إلا" سَوَاء بِسَوَاءٍ" من حديث "لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ، وَلَا الوَرِقَ بِالوَرِقِ، إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ"
(2)
رواه مسلم؛ "فإنه" - أي: الحذف - "ممتنع"، يمتنع، لأنه يعم ما تقدم لمورد المُغَيّا والمستثنى وهو إخلال.
وأما ما لا يخلّ فلا وجه لمنعه.
وقد جاء الحديث الطّويل في صفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقه جابر
(3)
ابن عبد الله رضي الله عنه، وذكره على سِيَاقِهِ مسلم وأبو داود، [وجزأه] شيخ الصِّنَاعَةِ محمد بن إسماعيل على الأبواب - كذا ذكره أبو الحَسَنِ الأبياري في شرح "البرهان".
واعلم أن البخاري لم يفرق حديث جابر بكماله، بل فيه ما لم يذكره في الجامع بالكُلّية، فإن مسلمًا تفرد عن البخاري فيه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، وأنه أذن في النَّاس، وأنه عليه السلام حَجّ في العاشرة، وبقصة أسماء بنت عُمَيْس، وبقراءة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون: الآية 1]، وباستقبال القِبْلَةِ، وبالذكر على الصَّفا والمروة، كذلك، وبذكر فاطمة، وخطبة النبي صلى الله عليه وسلم بـ"عرفة" إلى قوله:"اللَّهُمَّ اشْهَدْ"، وبموضع الوقوف بـ"عرفة" ومدته، وبالوقوف بالمَشْعَر الحَرَام، والذِّكر فيه، وبنحر النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين بَدَنَة بيده.
= 2/ 169، وشرح العضد 2/ 72، وحاشية البناني 2/ 144، وإرشاد الفحول (58).
(1)
البخاري 4/ 465، في البيوع: باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (2198)، ومسلم (3/ 1190)، في المساقاة: باب وضع الجوائح (15/ 1555).
(2)
أخرجه مسلم 3/ 1210، في كتاب المساقاة: باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا (80/ 1587)، وأبو داود في السنن 3/ 248، في البيوع: باب في الصرف (3349)، والترمذي 3/ 541، وفي البيوع: باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل (1240)، قال: وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وبلال وأنس، وقال: حديث عبادة حديث حسن صحيح، والنسائي 7/ 274 - 275، في البيوع: باب بيع البر بالبر، وابن ماجة 2/ 757 في التجارات: باب الصرف (2254).
(3)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 372، كتاب الحج: باب البدء بالضعاف في السعي (126 - 127)، ومسلم (2/ 886) في حديث طويل، كتاب الحج (147 - 1218)، وأبو داود =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وذكر البخاري: من حديث أنس، أنه صلى الله عليه وسلم نَحَرَ سبعة بُدْن بيده.
وتفرد مسلم أيضًا بأكل النبي صلى الله عليه وسلم من لحوم البُدْن وشربه من مَرَقِهَا، وبذكر السِّقَاية، وسائره ذكره البُخَاري في مواضع متفرّقة من كتابه من حديث جابر، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود وغيرهم، وكذلك مسلم أيضًا.
والسِّرُّ عندنا في ذلك: أنه على السِّيَاق المَرْوِي في مسلم، وأبي داود من رواية جعفر بن محمد [بن]
(1)
علي، وهو جعفر الصَّادق الإِمام الجليل، والبُخَاري لم يَرْوِ له.
وللكلام في هذا موضع غير هذا العلم، وإن كنا نصغي إلى كلام من تكلّم في حفظ جَعْفر. والذي نقطع به أنه من سادات المسلمين علمًا ودينًا وإتقانًا.
وغرضنا هنا أن البُخَاري لم [يفرق]
(2)
الحديث، وإنما ذكر منه ما روى له مفردًا.
ولو استشهد ابن الأنباري بغير حديث الحَجّ، لوجد أحاديث كثيرة فرقها المحدثون، لعدم ارتباط أحد [المفرقين]
(3)
فيها بالآخر، وجابر نفسه فرق، إذ رواه مجموعًا، كما في مسلم.
ومفرقًا كما في غيره - ومنهم من منع منه -، وقربه إمام الحرمين والغزالي من مذهب مانع الرواية بالمعنى.
قال ابن الأَنْبَاري: وهو أبعد؛ إذ قد يتخيّل أن النَّاقل بالمعنى، لم يرو كما سمع.
أما ناقل بعض الأحكام باللفظ، فقد أتى بالمَسْمُوع من كل وجه.
قلت: ومن أحاديث الباب، قال الشَّافعي رضي الله عنه: نقل بعض النقلة عن ابن مسعود؛ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحَجَرَيْن ورَوْثَة يستنجي بهما، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرَّوثة، وقال:"ابْغِ لِي ثَالِثًا"، فالسكوت عن الثالث ليس يخلّ بنقل الرمي بالرَّوْثَة، وبيان أنها رجس، ولكن قد يُوهِمُ النَّقل على هذا الوجه - جواز الاكتفاء بحَجَرَيْن، فلا يجوز مع هذا الإيهام الاقتصارُ على بعض الحَدِيْثِ.
= 2/ 182 كتاب الحج: باب صفة حجة النبي (1905)، وابن ماجه 2/ 1022 كتاب المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3074)، والبيهقي في السنن 5/ 907.
(1)
سقط في ت.
(2)
في ت، ح: يعرف، وهو تحريف.
(3)
في ت: الفرقيين.
مَسْأَلَةٌ:
خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى
(1)
، كَابْنِ مَسْعُودٍ فِي مَسِّ الذَّكَرِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ - مَقْبُولٌ عِنْدُ الْأَكْثَرِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
لَنَا: قَبُولُ الأُمَّةِ لَهُ فِي تَفَاصِيلِ الصَّلَاةِ، وَفِي نَحْوِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَقَبُولِ الْقِيَاسِ وَهُوَ أَضْعَفُ.
قَالُوا: الْعَادَةُ تَقْضِي بِنَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا.
[وَ] رُدَّ بِالْمَنْعِ، وَتَوَاتُرُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ - اتِّفَاقٌ، أَوْ كَانَ مُكَلَّفًا بِإِشَاعَتِهِ.
واختار إمام الحَرَمَيْن في ذلك التفصيل بين أنْ يكون مقصد الرَّاوي منع استعمال الرَّوَث فيجوز، أو لا، فلا يجوز.
قلت: والحق مع الشَّافعي؛ فإن [الإيهام]
(2)
حاصل، وإن قصد الرَّاوي منع الروث.
"مسألة"
الشرح: قدمنا أَنَّ خبر الواحد حجّة كالشهادات، وشرطها العدالة، وغيرها مما عرف في الفروع والمُعَاملات، ولا يشترط فيها العَدَالة؛ فإِذا قال: هذه هَدِيّة فلان إليك، أو هذه الجَارِيَة التي أمرت فلانًا بشرائها لك قد اشْتَرَاها - جاز للمخبر [قبول]
(3)
، خبره إذا وقع في نفسه صدق، ويحل الاستمتاع بالجَارِيَة، والتصرُّف في الهدية.
قاله ابن السمعاني وغيره، ولم يَحْكِ أحدٌ فيه الخلاف المحكي في خبر الواحد
(4)
.
ونظيره: إذا طلق امرأته ثلاثًا، وغاب عنها، فادَّعت أنها تزوّجت بزوج أحلها له،
(1)
والمراد بعموم البلوى إحساس الحاجة إليه في عموم الأحوال.
(2)
في ب: الإبهام.
(3)
في ت: قول.
(4)
ينظر: البرهان 1/ 665، واللمع ص (40)، والتبصرة ص 314، والمستصفى 1/ 171، والمنخول 284، والمحصول 2/ 1/ 633، والإحكام للآمدي 2/ 101، والوصول إلى الأصول 2/ 192، وشرح التنقيح ص 372، والمعتمد 2/ 659، وأصول السرخسي 1/ 368، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ووقع في قلبه صِدْقُهَا، فله التعويل على قولها من غير كراهة.
قال الأصحاب: وإن لم يقع في قلبه صدقها، كره مع الحلّ.
قال إِمام الحَرَمَيْنِ: وهي في مقام بائع لَحْم يجوز أن يكون من مُذَكَّى ومن مَيْتَة.
واستحبّ أبو إسحاق المَرْوَزِي البحث عن الحال.
وقال الرُّويَانيّ: يجب في هذا الزمان، [والمجلى] من فقهائنا، احتمال فيما إذا [أمكنت]
(1)
إقامة البَيّنة على النِّكَاح، والحالة هذه أنه لا بد من إقامتها البَيّنة، وشبهه بالمودع يدعي تلف الوديعة بسبب ظَاهِرٍ يكلف البيّنة على السَّبب، ولكن المذهب خلافه، والفرق أن إثبات النِّكَاح من غير خصومة، تقام متعذر والخصومةُ في الوديعة قائمةٌ، فأمكن معها إقامة البينة.
ومنها: ما لا يحتجّ فيه كالإخبار في القَطْعِيّات، وغيرها مما تقدم ذكر بعضه.
ومن ذلك: أنْ يخبر الإنسان عن عمل نفسه، فلا يعتمده، وإنما يرجع إلى ذكره؛ لأنه أعرف بنفسه، ولهذا لا يرجع إلى قول القائل: إنما صلّيت ثلاثًا، ونحو ذلك.
ولا يَرْجِعُ الحاكم إلى من شهدا عليه؛ أنك حكمت بكذا ما لم يتذكّر، كما قدمناه، ولا الشاهد إلى من شهد عنده؛ أنك تحمّلت الشهادة في واقعة كذا.
وفي الرافعي عن [أبي]
(2)
العَبّاس الروياني فيمن حلف بالطَّلاق لا يفعل كذا، فشهد عنده شاهدان أنه فعله، وتيقّن صدقهما، أو غلب على ظنه، لزمه أن يأخذ بالطَّلاق.
وفيه في صورة الظّن نظر.
وأما صورة التيقن، فقد ينظر أيضًا لقول الأصحاب لا يرجع لمن قال له: لم [تصل]
(3)
إلَّا ثلاثًا، ولو بلغوا حَدّ التواتر.
= وكشف الأسرار 3/ 16، والتحرير 350، وتيسير التحرير 3/ 112، وفواتح الرحموت 1/ 128، وإرشاد الفحول ص 56، وشرح الكوكب 2/ 367، ونهاية السول 3/ 170، وجمع الجوامع 2/ 135، وحاشية البناني 2/ 135، والمسودة 238، وروضة الناظر (65).
(1)
في ح: مكنت.
(2)
في ح: ابن.
(3)
سقط في ح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولكني أقول: ذلك مُشْكل إن أجرى على ظاهره، فإنه لا يتّجه عند حصول اليقين، والعلم الضَّروري كالمُتَوَاتر إلا العمل بمضمونه.
وأنا أحمل كلام الأصحاب في ذلك؛ إما على المبالغة أو على أن المرجع عند حصول اليقين ليس إلى خبر المخبرين، بل إلى العلم الذي حصل لهم، وإن كانوا هم أصلًا فيه.
وكلّ ما ذكرناه في المَرْء ويخبر عن غيره.
أما من أخبر عن نفسه، فإنه بقبل فيما عليه أبدًا عند إمكان صدقه، ويقبل قوله أبدًا فيما لا يعلم إلا من جهته.
وأنا أقول: فيما لا يعلم إلا من جهة الشخص إخبار المجتهد، عما أداه إليه اجتهاده في الواقعة الحادثة؛ فلذلك تقبل فتوى المفتي إجماعًا، وإن تضمّنت الإخبار عن حكم الله تعالى.
وبهذا يتّضح لك فَسَاد قياس خبر الواحد المتنازع في أنه هل هو حُجّة على [اليقين]
(1)
، كما أسلفناه في مكانه.
وكلّ هذه الأماكن ليست في خبر الواحد الذي فيه نِزَاع الأصوليين في شيء.
فإن قلت ففيم يتكلم الأصوليون؟.
قلت: في خبر الواحد في [السير]
(2)
والديانات التي يُكْتَفَى في مثلها بالظنون، وحينئذ نقول: إذا ثبت حجّيته، فهو حجة فيها [إجماعًا]
(3)
، سواء أكان في عبادة مبتدأة، أو ركن من أركانها، وفي ابتداء نصاب أو تقدير نِصَاب.
وخالف قوم في مواضع:
منها: قال بعض الحنفيّة: لا يقبل في ابتداء النّصب، ويقبل في ثوانيها؛ ولذلك قبلوا خبر الوَاحِدِ في النّصَاب الزائد على خمس أَوَاقٍ؛ لأنه فرع، ولم يقبلوا في ابتداء نصاب [الفِصْلَان]
(4)
والعَجَاجِيل؛ لأنه أصل، ذكره ابن السَّمْعَاني. قال: والأكثر من الحنفية على ما ذهبنا إليه، وروى أيضًا عن أبي يوسف.
(1)
في أ، ت، ح: الفتيا.
(2)
في ب: السنن.
(3)
في ب: جميعًا.
(4)
في أ، ت: العضلات.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنها: أنه مَقْبُول وإن خالف أصُول سائر الأحكام - خلافًا لأصحاب أبي حَنِيفَةَ.
ومنها: "خبر الوَاحِدِ فيما تعمُّ به البَلْوَى؛ كابن مَسْعُودٍ في مَسّ الذَّكَرِ".
كذا قال المصنّف، ولا يحفظ لابن مَسْعُودٍ رواية في مسّ الذَّكر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إنما روى البيهقي موقوفًا:"لا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ"
(1)
.
وحديث الوضوء من مَسّ الذكر، روى عن جمع من الصَّحابة مرفوعًا أشهره بسرة بنت صفوان.
"و "خبره "أبي هريرة" المتّفق على صحّته "في غسل اليدين" عند القيام من النوم.
"و "خبره الذي رواه أحمد، وأبو داود، والنَّسَائي في "رفع اليدين" عند الركوع، والرفع منه. واعلم أن رفع اليدين مَرْوِيّ عن خلق من الصَّحابة رفعوه، وهو صحيح ادّعى قوم فيه التواتر، فلا معنى لذكره هنا.
وما كان من هذا القَبِيل "مقبول عند الأكثر، خلافًا لبعض الحنفية".
"لنا: قَبُول الأمّة له" - أي: لخبر الواحد الواقع فيما نحن فيه - "في تفاصيل الصلاة، وفي نحو الفَصْدِ وَالحِجَامَةِ".
(1)
قال الحافظ ابن كثير في "التحفة" ص 219: لا يعرف لابن مسعود رواية في مس الذكر، بل نقل عنه "أن مسه لا ينقض".
قال أبو عيسى الترمذي عقب حديث بسرة بنت صفوان: وفي الباب عن أم حبيبة، وأبي أيوب، وأبي هريرة، وأروى بنة أنيس، وعائشة، وجابر، وزيد بن خالد، وعبد الله بن عمرو. قلت: وليس فيهم ابن مسعود.
وقال القاضي أبو الطيب: روى مس الذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر صحابيًا.
وقال الحافظ ابن حجر: ولم يأت عن ابن مسعود في النقض ولا عدمه شيء مرفوع.
قلت: أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" 1/ 118 عن زيد بن أرقم قال: "حككت جسدي وأنا في الصلاة، وأفضيت إلى ذكرى، فقلت لعبد الله بن مسعود، فضحك، وقال: اقطعه، أين تعزله؟! إنما هو بضعة منك" وذكره الهيثمي في المجمع 1/ 244.
وقال: رجاله موثقون.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولقد قبل الخصوم أخبار الفَصْد والحِجّامة على ضعفها مع كونها فيما تعم به بَلْوَى البَرِيّة.
"و "أيضًا" اتفقنا على "قَبُول القياس" فيما تعمّ به البَلْوَى، "وهو أضعف" من خبر الواحد.
"قالوا: العادةُ تقضى بِنَقْلِهِ متواترًا"؛ فإن ما تعمّ به البَلْوَى يكثر السُّؤال عنه، وما يكثر السُّؤال عنه يكثر بيانه، وما يكثر بيانه يكثر نقله، فحين قلّ النقلُ فيه دلّ أنه لم يثبت في الأصل؛ كما قيل في الخَبَرِ الذي تتوفّر الدواعي على نقله.
"وردّ بالمنع"، فإنه ليس ممّا تتوفّر الدَّوَاعي على نقله، وقد قبلت الصحابة خبر الواحد في الغُسْل من الْتِقَاءِ الخِتَانَيْنِ، وهو مما تعمّ به البلوى، فإذن دعوى العادة ممنوعة.
"و "أما "تواتر البَيْع، والنكاح، والطلاق، والعِتْق"، فإنه "اتفاق" - أي: وقع على سبيل الاتفاق دون الفَصْد لإيقاع تَوَاتره.
"أو "قد يقال: "كان" النبي صلى الله عليه وسلم "مكلفًا بإشاعته"، بخلاف ما نحن فيه، فليس كلّ ما تعمّ به البلوى يُشَاع.
قال الغَزَالِيّ
(1)
: وقد استقرينا الأفعال الوَاقِعَة منه - عليه أفضل الصلاة والسلام - فوجدناها أربعة أقسام:
أولها: القرآن.
وثانيها: مباني الإسلام، الشَّهادتان، والصَّلاة، والصَّوم، والزكاة، والحج، وقد علمنا اعتناءه عليه الصلاة والسلام بإشَاعَةِ هذين.
وثالثها: أصول المُعَاملات؛ كالبَيْع، والطَّلاق، والعِتَاق ونحوها، وقد وقع تواترها إما اتفاقًا، لحاجة النَّاس إليها، أو لوقوع أمر الله - تعالى -[بعد]
(1)
نبيّه عليه الصلاة والسلام بإشَاعتها.
ورابعها: تفاصيل هذه الأصول ممّا [يفسد]
(2)
الصَّلاة، والعبادات من القَيْءِ، والمَسّ، واللَّمْس، ونحو ذلك، وهذا الجنس لم يشع، ومنه ما تعمّ به البَلْوَى وما لا تعمّ؛ وحكمه إنما يتعلّق بمن بلغه.
(1)
سقط في أ، ت، ح.
(2)
في ح: يفد، وهو خطأ.
مَسْأَلَةٌ:
خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْحَدِّ مَقْبُولٌ
خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَالْبَصْرِيِّ.
لَنَا: مَا تَقَدَّمَ.
قَالُوا: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ"؛ وَالاحْتِمَالُ شُبْهَةٌ.
قُلْنَا: لَا شُبْهَةَ كَالشَّهَادَةِ وَظَاهِرِ الْكِتَابِ.
«مسألة»
الشرح: ومنها: مسألة "خبر الواحد في الحَدّ مقبول، خلافا للكَرْخِي والبَصْري"
(1)
.
"لنا: ما تقدم" من أنه عَدْل جازم في حكم ظَنّي، فوجب قبوله.
"قالوا": روى أبو محمد البُخَاري في "مسند أبي حَنِيفة": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادْرَءُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ"
(2)
، وذكره البيهقي في "الخِلَافِيّات".
(1)
ينظر: المستصفى 1/ 155، والمعتمد 1/ 570، و 622، والإحكام للآمدي 2/ 106، والكوكب المنير 2/ 364، وحاشية البناني 2/ 133، وكشف الأسرار 3/ 28، والتحرير (337)، وتيسير التحرير 3/ 88، وفواتح الرحموت 2/ 136، والمسودة ص 239، وأصول السرخسي 1/ 333، وروضة الناظر 66، وشرح العضد 2/ 72، وإرشاد الفحول 56.
(2)
قال الحافظ ابن كثير في "تحفة الطالب" ص 226: لم أر هذا الحديث بهذا اللفظ، وقال الحافظ ابن حجر في "الموافقة": هذا الحديث مشهور بين الفقهاء وأهل أصول الفقه، ولم يقع لي مرفوعًا بهذا اللفظ. قلت: هو بهذا اللفظ عند الإمام النعمان أبي حنيفة في مسنده برواية الحصكفي ص 114، وهو أيضًا في جامع المسانيد 2/ 83، وأخرجه الدارقطني 3/ 84 في كتاب "الحدود والديات" حديث (9) بلفظ:"ادرءوا الحدود"، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 238، في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحد بالشبهات 8/ 238.
ويغنى عنه: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله؛ فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". أخرجه الترمذي في السنن 4/ 33، وكتاب الحدود (15)، باب ما جاء في درء الحدود (2) الحديث (1424) واللفظ له، وقال:(ورواه وكيع عن يزيد بن زياد نحوه، ولم يرفعه؛ ورواية وكيع أصح)، وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 384 كتاب الحدود، باب: إن وجدتم لمسلم مخرجًا
…
، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 238، =
" حُكْمُ حَمْلِ الصَّحَابِيِّ مَرْوِيَّهُ عَلَى أَحَدِ مَحْمَلَيْهِ"
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا حَمَلَ الصَّحَابِيُّ مَا رَوَاهُ عَلَى أَحَدِ مَحْمَلَيْهِ
فَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ. . . . . . . . . . . . . . . . . .
وروى الترمذي "ادْرَءُوا الحُدُودَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
"الاحتمال" - أي: احتمال كذب الراوي "شبهة"، [فيسقط]
(1)
الحد:
"قلنا: لا شبهة" - فإن مجرد احتمال الكذب لا ينتهض شُبْهة دَارِئة، وهذا "كالشَّهَادة"، فإن احتمال الكذب موجود فيها، "وظاهر الكتاب"؛ فإن احتمال إرادة غير الظَّاهر موجود فيه، ومع هذا لا ينتهض الاحتمال المذكور شُبْهَة.
فإن قلت: الشَّهادة، وظاهر الكتاب [بَيَّنَتْ]
(2)
كونهما حجّة بالقطع.
قلت: وكذلك خبر الواحد؛ لانتهاض الإجماع عليه كما تَقَدّم.
قال ابن السَّمْعَاني: ولا نَدْري أنّ أحدًا ممن ذهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد - ذكر أن دليله ظَنّي، بل عامّة الأصوليين على أنه دليل قطعي.
ومما يرد به عليهم القِصَاص، وهو مما يُدْرَأُ بالشُّبهات، ومع هذا استدلوا عليه بخبر الواحد؛ كما استدلّوا بخبر مُرْسَل في قتل المسلم بالذِّمي، واستدلوا بأثر عمر في قتل الجماعة بالواحد، واستدلُّوا في القِصَاصِ بالأَقْيسَة، وهي أضعف من خبر الواحد.
"مسألة"
الشرح: "إذا حمل الصَّحابي ما رواه على أحد محمليه" - كالقُرْء يحمله على الطَّهْرِ أو الحَيْض - "فالظَّاهر حمله عليه"؛ لأن الظَّاهر أنه إنما حمله عليه "بقرينة"
(3)
.
= كتاب الحدود؛ باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات.
فيه يزيد بن زياد منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، ينظر: التاريخ الصغير للبخاري 2/ 89، والجرح والتعديل 9/ 213، وانظر: نصب الراية 3/ 309، 310، وتلخيص الحبير 4/ 56.
(1)
في أ، ت: فلنسقط.
(2)
في ب: يثبت.
(3)
ينظر: الإحكام للآمدي 2/ 104، وشرح الكوكب المنير 2/ 557، وشرح العضد 2/ 72، =
عَلَيْهِ بِقَرِينَةٍ، فَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ فَالأَكْثَرُ عَلَي الظُّهُورِ، وَفِيهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: كَيْفَ أَتْرُكُ الْحَدِيثَ بِقَولِ مَنْ لَوْ عَاصَرْتُهُ لَحَجَجْتُهُ فَلَوْ كَانَ نَصًّا فَيَتَعَيَّنُ نَسْخُهُ عِنْدَه، وَفِي الْعَمَلِ نَظَرٌ وَإِنْ عَمِلَ بِخِلَافِ خَبَرِ أَكْثَرِ الأُمَّةِ فَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ إِلَّا إِجْمَاعَ الْمَدِينَةِ.
قال الشيخ أبو إِسْحَاق الشِّيرَازي: وعندي فيه نظر.
قلت: ثم هذا إذا كان المحملان مُتَنَافيين، أما إذا لم يتنافيا فالظَّاهر، أنّ من يحمل المشترك على مَعْنييه يحمل عليهما جميعًا.
"فإن حمله على غير ظاهره، فالأكثر" أنه يبقى "على الظُّهور"، ولا يلتفت إلى صنيع [الرَّاوي]
(1)
.
"وفيه قال الشَّافعي: كيف أَتْرك الحديث لمن لو عاصرته لَحَجَجَتُهُ" - أي: قطعته وظهرت عليه بإقامتي الحجة عليه.
وعبارة الآمِدِيّ هنا: ولهذا قال الشَّافعي: كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتهم لَحَجَجْتُهُمْ.
وهي أحسن، فإن الشافعي لم يقل ذلك في المسألة التي نحن فيها، وإنما قاله في قول الصَّحابي المخالف للحديث، سواء كان هو [راويه]
(2)
أم غيره.
نعم هذا الكلام من الشافعي ينزل على المَسْألة التي نحن فيها؛ كما ينزل على غيرها، ولكنَّ تنزله عليها لا يوجب أن تكون هي التي لاقاها كلامه.
"فلو كان" الخبر "نصًّا" في المدلول، وقد خالفه الرَّاوي "فيتعين" حمل المُخَالفة على أنه وجد "نسخة عنده" - يعني: أنه اعتقد ذلك، وإلا لقدح فيه.
"وفي العمل نظر" - فيمكن أن يُقَال: يعمل بالخبر؛ إذ ربّما ظنّ شيئًا ناسخًا، ولم يكن، وهذا هو الأرجح.
= وحاشية البناني 2/ 145، والمعتمد 2/ 670، وكشف الأسرار 3/ 65، وتيسير التحرير 3/ 71، وفواتح الرحموت 2/ 161، وإرشاد الفحول 59 أصول السرخسي 2/ 310.
(1)
في ب: الرازي، وهو تحريف.
(2)
في ح: رواية، وهو تحريف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعليه أيضًا يتنزل ما روى من قول الشَّافعي رضي الله عنه: كيف يتنزّل كلام المعصوم إلى مَنْ ليس بمعصوم.
وأن يقال: يعمل بفعل الرَّاوي؛ لأن خطأه في الناسخ بعيد، وذهب أكثر الحنفية إلى أن الاعتماد على عمل الراوي مطلقًا، دون الخبر.
وفي المسألة تفاصيل أخر لأقوام، ليس في حكايتها كثير فائدة؛ فلذلك تركها. وقد جعل المصنّف - تبعًا للآمدي - موضوع المسألة في الصَّحابي يعمل بخلاف ما رواه، لا في راوي الخبر مطلقًا، وهذا ما نصره القَرَافي.
وأما الإمام الرازي وغيره، فذكروا أن الخلاف في المسألة واقع على الرَّاوي يعمل بخلاف خبره، سواء كان صحابيًّا، أم لا إذا كان من الأئمة، وهو الصحيح، وبه صرح إمام الحرمين.
"وإن عمل بخلاف خبر أكثر الأُمّة، فالعمل بالخبر" على الصَّحيح؛ لأن أكثر الأُمّة ليسوا كل الأمة، فلا تقوم الحُجّة باتفاقهم.
قال: "إلا إجماع" أهل المَدِينة - وهذا منه بناء على أصل المالكية في أن إجماع المدينة حُجّة.
في حرف الاستثناء من كلامه مُبَاحثة، وهي: أنه كان استثناء من العمل بخبر المخالف للأكثر، والمعنى: يعمل بالخبر وإن خالفه الأكثر إلا أن يكونوا أهل "المدينة"، فمقتضاه أنّ العمل بإجماع "المدينة"، والحالة هذه مشروطة بكونهم أكثر الأمة، ولا قائل بذلك، فإن القائل [قائلان]
(1)
:
[قائل]
(2)
بأن إجماع "المدينة" حُجّة، وهذا لا يشترط فيهم كونهم الأكثر، بل يحتج بهم وإن كانوا الأقل.
وقائل: إنه غير حُجّة، وهذا لا يقدم عملهم على الخبر، وإنما يرجّح بهم معارض الخبر. على خلاف في ذلك أيضًا يأتي - إن شاء الله تعالى - ذكره في باب التَّرَاجِيح، مع أن المصنّف لم يَبْنِ على هذا، بل على أن إجماعهم حُجّة.
(1)
سقط في أ، ت، ح.
(2)
سقط في ت.
" حُكْمُ مُخَالَفَةِ الخَبَرِ لِلْقِيَاسِ"
مَسْأَلَةٌ:
الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ الْمُخَالِفَ لِلْقِيَاسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُقَدَّمٌ.
وَقِيلَ بِالْعَكْسِ.
أَبُو الْحُسَيْنِ: إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ بِقَطْعِيٍّ فَالْقِيَاسُ. وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مَقْطُوعًا بِهِ، فالاجْتِهَادُ.
وَالْمُخْتَارُ: إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ بِنَصٍّ رَاجِح عَلَى الْخَبَرِ، وَوُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ قَطْعِيٌّ فَالْقِيَاس، وَإِنْ [كَانَ] وُجُودُهَا ظَنِّيًّا فَالْوَقْف، وَإِلَّا فَالْخَبَرُ.
أما القول بأنه لا يقدم على الخبر إلا إذا كان المجمعون فيه أكثر الأمة.
فنقول: لم يقل به أحد، وإن كان استثناء من مطلق العَمَلِ، بخلاف الخبر؛ حيث يقدم الخبر عند المصنف، سواء كان العامل الرَّاوي أم غيره، وسواء كان الخبر نصًّا، أم لا، فيكون مع بعده مقتضاه أن إجماع "المدينة" يقدم على الخبر بشرط كون المجمعين رواته؛ لأنّ المسألة معقودة لعمل الرَّاوي، بخلاف مرويه، فلا ينبغي أن يستثني فيها إلا ما هو من الجنس، والكلام فيها كالأول، فإن من يحتجّ بإجماعهم لا يشترط كونهم رواة الخبر، ولا غير رواته، بل يجعله حجّة منتهضة في نفسه كإجماع الأمة، وإن كان من أكثر الأمة.
والمعنى وإن عمل الأكثر إلا أهل "المدينة"، بخلاف الخبر، فالعمل بالخبر، [فيلزم]
(1)
منه ما لزم مما قبله من اشتراط الأكثرية في أهل "المدينة"، وكونهم الرواة وإن كان المعنى هنا كذا يعمل بالخبر المُخَالف للأكثر، لا المخالف لإجماع "المدينة"، فهو استثناء منقطع.
"مسألة"
الشرح: "الأكثر على أنّ الخبر المخالف للقياس من كل وجه مقدم" وهو قول الشَّافعي وأصحابه، واختاره الإمام في "المحصول"
(2)
.
(1)
في ح: فلزم.
(2)
ينظر: المحصول 2/ 1/ 621، والإحكام للآمدي 2/ 107، والرسالة (599)، وشرح الكوكب 2/ 564، واللمع ص 10، وأعلام الموقعين 1/ 31، والإبهاج 3/ 324، وشرح العضد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"وقيل بالعكس" - وعُزِيَ إلى مالك.
قال ابنُ السَّمْعَاني: وهذا القول بإطلاقه سَمِجٌ مستقبح عظيم، وأنا أُجِلّ منزلة مالك عنه.
قلت: ويؤيده نقل القاضي عبد الوَهّاب المالكي في "الملخّص" أن متقدّميهم على ما رأيناه من تقديم الخبر، فإنه يقدح في صحّة المنقول عن مالك.
وقال أبو زيد الدّبوسي: إن كان راوي الخبر فقيهًا، فخبره مقدّم على القياس، وإلا فلا.
وهو قول عِيسَى بن أَبَان.
وتوقف قوم هذه المذاهب في المسألة.
وفَصَّلَ قوم، فقال:"أبو الحسين: "إن كانت العلّة" منصوصةً "بقطعي، فالقياس" مقدّم.
"وإن" لم تكن منصوصة بنصّ قطعى، فإن "كان الأصل مقطوعًا به" - أي بثبوت الحكم فيه.
ويمكن أن يقال: المُرَاد بالأصل هنا حكم الحكم المشبه به إلا نفس ذلك المحل وهو رأي قوم حيث ذهبوا إلى أن الأصل هو حكم المحلّ المقيس عليه،، لا نفسه، وحينئذ فالضمير في "به" عائد على الأصل، وهو حكم المَحَلّ.
والحاصل: أن حكم المحلّ إن كان مقطوعًا به، "فالاجتهاد" هو المعتمد، فيقدم أحدهما على الآخر بالاجتهاد، والترجيح.
كذا نقله المصنّف، وقد اختصر مذهب أبي الحسين، فإن الذي قاله في "المعتمد" إن العلة إن كانت منصوصةً بقَطْعِيّ فالقياس، أو بظني ولم يكن حكمها في الأصل ثابتًا بقطعي فالخبر.
= 2/ 73، والمسودة 239، وأصول السرخسي 1/ 339، تيسير التحرير 3/ 116، وفواتح الرحموت 2/ 177، وكشف الأسرار 3/ 380، وإرشاد الفحول (55)، والمعتمد 2/ 655، وروضة الناظر (66).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإن كان ثابتًا بقطعي وهو موضع اجتهاد.
وإن كانت مستنبطةً، وكان حكم الأصل ثابتًا بخبر واحد، فالخبر أولى.
وإن كان ثابتًا بمقطوع، [فينتفي]
(1)
أن يكون الناس اختلفوا في هذا الموضع.
وإن كان الأصوليون ذكروا الخلاف فيه مطلقًا، ثم قال: والأولى أن ترجّح أحدهما على الآخر بالاجتهاد عند قوة الظن، وقد نقله عنه الآمدي، ونقل عنه ابن السّمعاني قريبًا منه.
وأنت تراه كيف لم يجعل اختياره مذهبًا مستقلًّا برأسه، بل أشار إلى موضع الخلاف، [وينحو] اختياره إلى اتباع أقوى الظنين، وهذا أيضًا لا ينازعه فيه أحد، وإنما النزاع في أن أقوى الظنين ما هو؟
فمن رجّح الخبر قال: إن الظن المُسْتَفَاد منه أقوى، وبالعكس، ثم تخصيص أبي الحُسَين الخلاف بالمحل الذي ذكره.
قال ابن السَّمْعَاني: لا يعرف له فيه متقدم.
قلت: وإن فرض أبو الحسين صورة يكون القطع موجودًا فيها، فهذا ما لا تنازع فيه؛ إذ القاطع مرجّح على الظن، وكذا أرجح الظَّنين، فليس في تفصيله عند التَّحقيق [كبير]
(2)
أمر.
وقد سلك قريبًا من طريقه الآمدي، ونَحَا المصنّف نحوه.
"والمختار: إن كانت الصلّة" ثابتةً "بنصّ راجح على الخبر" في الدّلالة، "ووجودها في الفرع قطعي فالقياس".
وأبو الحسين لا يرى هذا ممّا ينبغي أن يدخل في محلّ النزاع كما عرفت.
ولقائل أن يقول: لا يلزم من ثبوت العلّية براجح، والقطع بوجودها أن يكون ظنّ الحكم المُسْتفاد منها في الفرع أقوى من الظَّن المستفاد من الخبر؛ وهذا لأن العلّة عندكم لا يلزمها الإطراد، بل ربما تخلَّف الحكم عنها لمانعٍ، فلم قلتم: إنه لم يتخلَّف في هذا الفرع لمانع الخبر لا سيّما، إذا كانت العلّة عامّة تشمل فروعًا كثيرة، والخبر يختص بهذا الفرع
(1)
في ت، ح: فينبغي.
(2)
في ت، ح: كثير.
لَنَا: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه تَرَكَ الْقِيَاسَ فِي الْجَنِينِ؛ لِلْخَبَرِ، وَقَالَ:"لَوْلَا هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْينَا"، وَفِي دِيَةِ الأَصَابِع بِاعْتِبَارِ مَنَافِعِهَا بِقَوْلِهِ:"فِي كُلِّ إصْبَع عَشْرٌ"، وَفِي مِيرَاثِ الزَّوْجَةِ مِنَ الدِّيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَشَاعَ وَذَاعَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.
المتنازع فيه؟ وهذا ما لا يعتقد أنّ الظن المستفاد من الخبر فيه أضعف من القياس أبدًا.
قال: "وإن كان وجودها ظنيًّا فالوقف".
ولقائل أن يقول: إنما يكون عن تساوي الأقدام، فينبغي أن يقال: إن كان وجودها ظنيًّا [والظَّنان]
(1)
متساويان، ونحن نمنع ذلك، فإنَّا نعتقد أن ظن الخبر أرجح.
قال: "وإلا" - أي وإن لم يكن ذلك - "فالخبر" هو المقدم.
الشرح: "لنا: أن عمر رضي الله عنه ترك القِيَاس في الجَنِينِ للخبر، وقال: لولا هذا لقضينا فيه برأينا"، فروي الشَّيْخَان في "الصحيحين" من حديث المُغِيرَة بن شُعْبة، عن عمر بن الخَطّاب رضي الله عنه أنه اسْتَشَارهم في إِمْلَاصِ المرأة، فقال المغيرة: قضى النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالغُرَّة، عبدًا أو أمةً، فشهد [محمد بن مَسْلَمَةَ]
(2)
، أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضي به
(3)
.
وعند أبي داود أن عمر رضي الله عنه قال: الله أكبر، لو لم أسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، وما كان يقضي فيه لو لم يسمع هذا إلا بالرأي، فدلّ على أن الرَّأي يترك بخبر الواحد.
(1)
سقط في أ، ح.
(2)
في ت: محمد بن سلمة.
(3)
إملاص المرأة: هي التي تضرب على بطنها فتلقى جنينها، وأملصت المرأة بولدها: أي أسقطت. ينظر: الصحاح للجوهري 3/ 1057، ولسان العرب (ملص)، والحديث أخرجه البخاري 12/ 257 في كتاب الديات، باب جنين المرأة حديث (6905)،/ 6906، 6907، 6908، 7317، وأخرجه مسلم 3/ 1311 في كتاب القسامة: باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ
…
حديث (39).
وأخرجه أبو داود في الديات، 4/ 697 حديث (4570، 4571).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"و "ترك عمر رضي الله عنه القضاء "في دِيَةِ الأصابع باعتبار مَنَافعها"، وقد كان يراه، وإنما تركه؛ "لقوله عليه السلام:"فِي كُلّ إصْبَعٍ عَشْرٌ"
(1)
.
كذا ذكر المصنّف، والمحفوظ في ذلك كتاب عمرو بن حَزْمٍ، وهو حديث يشتمل على أحكام كثيرة رواه أحمد وأبو داود في "المَرَاسيل"، والنسائي، والطبراني، وصحّحه جماعة من الأئمة، وفيه أن رسول الله قال:"وفِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ".
قال يعقوب بن سُفْيَان: ولا أعلم في جميع الكتب كتابًا أصحّ من كتاب عمرو بن حَزْمٍ
(2)
. كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون يرجعون إليه، ويدعون آراءهم. وأما أن عمر رضي الله عنه كان يرى أن دِيَةَ الأصابع باعتبار مَنَافعها - فصحيح، رواه الشّافعي رضي الله عنه
(3)
.
وأما رجوعه لكتاب عمرو بن حزم، فحكاه الخَطَّابي، ولم يثبت؛ لأنه لم يثبت عندنا أن كتاب عمرو بن حزم بلغ عمر، وقد قال الشَّافعي: لو بلغه لصار إليه، وفي هذا القول دلالة على أنه لم يبلغه.
(1)
أخرجه الترمذي (1/ 261)، وابن الجارود في "المنتقى" (780) من طريق الفضل بن موسى: أنا الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: دية أصابع اليدين والرجلين عشرة من الإبل لكل أصبع.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وله شاهد من حديث أبي موسى بلفظ: الأصابع سواء عشرًا. أخرجه أبو داود (4557) والنسائي (2/ 251 - 252)، والدارمي (2/ 194) وابن حبان (1527 - موارد) والبيهقي (8/ 92) والطيالسي (511) وأحمد (4/ 397، 498).
وشاهد آخر عن عبد الله بن عمرو:
أخرجه أبو داود (4562)، والنسائي (2/ 252)، وابن ماجه (2653) وله شاهد عن عمرو بن حزم بلفظ: وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل. أخرجه النسائي (2/ 252) والدارمي (2/ 194).
(2)
عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري، أبو الضحاك وال، من الصحابة، شهد الخندق وما بعدها، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على "نجران" وكتب له عهدًا مطوَّلًا فيه توجيه وتشريع. توفي سنة 53 هـ.
ينظر: الإصابة ت (5812)، والكامل لابن الأثير 3/ 196، والأعلام 5/ 76.
(3)
أخرجه الشافعي في المسند [ترتيب](2/ 110/ 373).
وَأَمَّا مُخَالَفَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما "تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ فَاسْتِبْعَادٌ لِظُهُورِهِ وَكَذَلِكَ هُوَ، وَعَائِشَةً فِي "إِذَا اسْتَيْقَظَ"؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: فَكيْفَ نَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ.
"و" ترك عمر أيضًا رأيه "في ميراث الزَّوْجة من الدِّيَةِ"، فإنه كان يقول: الدية للعَاقِلَةِ، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا، حتى كتب إليه الضَّحَّاك بن سفيان الكلابي
(1)
، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَّث امرأَةَ [أَشْيَم]
(2)
الضِّبَابِي من دية زوجها
(3)
، رواه الأربعة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
"وغير ذلك" كنَقْضِ أبي بكر رضي الله عنه حكمًا حكمه برأيه سمعه من بلال، وترك ابن عمر رأيه في المُزَارَعَةِ؛ لحديث رواه رافع بن خَدِيجٍ
(4)
، وأمثال ذلك يكثر، "وشَاعَ وذاع، ولم ينكره أحد" فكان إجماعًا.
(1)
الضحاك بن سفيان الكلابي، أبو سعد، والي نجْدٍ، صحابي له أربعة أحاديث، وعندهم حديثه في توريث امرأة أشيم الضِّبَابي. وعنه ابن المسيِّب والحسن البصري.
ينظر: الوافي بالوفيات 16/ 352، والثقات 3/ 198، والاستيعاب 2/ 742، والإصابة 3/ 476، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 270، والجرح والتعديل 4/ 2018، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 331، والكاشف 2/ 35، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 3، وتهذيب الكمال 2/ 615.
(2)
في أ، ت، ح: أتيم.
(3)
أخرجه أبو داود 3/ 129، في الفرائض: باب في المرأة ترث من دية زوجها (2927)، والترمذي 4/ 425، في الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها (2110)، وهذا حديث حسن صحيح، وعزاه المزي في التحفة للنسائي 4/ 202 (4973)، وابن ماجة 2/ 883، في الديات: باب الميراث من الدية (2642)، ومالك في الموطأ 2/ 866 - 867، في العقول: باب ما جاء في ميراث العقل (9)، والشافعي في المسند 2/ 106، في الديات (360)، وأحمد في المسند ضمن مسند الضحاك بن سفيان 3/ 452، (32)، والدارقطني في السنن 4/ 77.
(4)
رافع بن خديج بن رافع بن عدي بن يزيد بن جشم بن حارثة الأوسي، صحابي شهد أحدًا وما بعدها، له ثمانية وسبعون حديثًا، اتفق على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة. وعنه ابنه رفاعة، وبشير بن يسار وسليمان بن يسار وطاوس. قال خليفة: مات سنة أربع وسبعين. ينظر ترجمته في تهذيب: التهذيب 3/ 229، وتقريب التهذيب 1/ 241، وخلاصة تهذيب الكمال =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الشرح: "وأما مخالفة ابن عَبّاس خبر أبي هريرة رضي الله عنه: "تَوَضّأ مِمّا مَسَّتِ النَّارُ"
(1)
أي: أن أبا هريرة روى توضَّأ مما مَسّت النار، رواه مسلم في صحيحه.
وعن عطاء عن ابن عباس ["لا وُضُوءَ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ" رواه البَيْهَقِي
(2)
- هذا ما يحفظ - وفي كتب الأصوليين أن ابن عَبَّاس]
(3)
ردّ خبر أبي هريرة بالقِيَاس؛ وقال: أَلَسْنَا نتوضَّأ بالحميم؟ فكيف نتوضأ بما منه يتوضأ، وهذا لا يحفظه.
نعم في التِّرْمذي أن ابن عَبَّاس قال لأبي هريرة: أنتوضَّأ من الدّهن؟ أنتوضّأ من الحميم؟ فقال أبو هريرة: يا بن أخي، إذا سمعت حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له مثلًا
(4)
، وليس في هذا تَصْريح من أن ابن عَبَّاس يرد خبر أبي هريرة، وإذن لا يستحق الإيراد جوابًا.
= 1/ 314، والكاشف 1/ 300، وتاريخ البخاري الكبير 3/ 299، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 105، 106، والجرح والتعديل 3/ 2172، وأسد الغابة 2/ 190، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 173، والإصابة 2/ 436، والبداية والنهاية 9/ 3، والجمع بين رجال الصحيحين 545، والاستيعاب 2/ 479، وشذرات 1/ 82، وطبقات ابن سعد 9/ 65.
والحديث أخرجه البخاري 5/ 19، في المزارعة: باب ما يكره من الشروط في المزارعة (2332)، ومسلم 3/ 1183، في البيوع: مات كراء الأرض بالذهب والورق (117/ 1547).
(1)
أخرجه مسلم 1/ 272، كتاب الحيض: باب الوضوء مما مست النار (90/ 352) من طريق عمر بن عبد العزيز أن عبد الله أخبره أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد فقال: إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: توضؤوا مما مست النار وأخرجه الترمذي 1/ 114، وأبواب الطهارة (79).
(2)
أخرجه البيهقي (1/ 158) كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما مست النار.
(3)
سقط في أ، ح.
(4)
أخرجه مسلم (1/ 114 - 115) كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار والترمذي (1/ 114) رقم (79) وأبو داود (1/ 134) رقم (194) والنسائي كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيرت النار (1/ 105) وابن ماجة (1/ 163) كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيرت النار رقم (485) وأحمد (2/ 265، 271، 470، 503، 529) من حديث أبي هريرة.
وعند الترمذي: قال ابن عباس لأبي هريرة: أنتوضأ من الدهن
…
إلخ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعلى تقدير ثبوته فقد دفع المصنّف السؤال بقوله: "فاستبعاد لظهوره" - أي: لا نسلّم أن إنكار ابن عَبَّاس لترجيح القِيَاس على الخبر، بل استبعد الحديث المذكور؛ لظهور الأمر على خلافه.
والآمدي أجاب بأن ابن عَبّاس ترك، ولكن لا بالقياس، بل بما روى أنه عليه السلام أكل كَتِفَ شاةٍ مَصْلية، وصلّى ولم يتوضّأ، فقدم الخبر الموافق للقياس.
"وكذلك هو" - أي: ابن عباس - "وعائشة" ردَّا خبر أبي هريرة "في"إِذَا اسْتَيْقَظ" أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ ..... "
(1)
الحديث؛ "لذلك قالا: كيف نصنع بالْمِهْرَاسِ" - كذا ذكر المصنّف. والمِهْرَاسُ: حجر عظيم يصبّ فيه الماء لأجل الوضوء، فيصعب صَبّ الماء منه على اليَدِ.
وهذا لا نحفظه ولا يثبت، أعني: رد ابن عباس وعائشة لهذا الخبر، وقولهما: فكيف تصنع بالمهراس؟
وإنما روى البيهقي من حديث الأَعْمَشِ عن إبراهيم؛ أن أصحاب عبد الله قالوا: كيف يصنع أبو هريرة بالمِهْرَاس؟ ولا يصح ذلك عنهم أيضًا.
وعلى تقدير الصحة، فقد أجاب المصنّف بأن ذلك استبعاد، للأخذ به كما عرفت.
(1)
متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 263 كتاب الوضوء (4) باب: الاستجمار وترًا (26) الحديث (162)، ومسلم في الصحيح 1/ 233 كتاب الطهارة (2) باب: كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا (26)، الحديث (87/ 278) واللفظ له، وأخرجه الترمذي 1/ 36 في أبواب الطهارة، حديث (114) باب في الرجل يدخل بده في الإناء حديث (24)، وأخرجه أبو داود 1/ 25، 26 في الطهارة باب في الرجل يدخل يده في الإناء، حديث (105) والنسائي في المجتبي من السنن 1/ 7 في كتاب الطهارة حديث (1) وابن ماجة 1/ 139 في الطهارة، باب: الرجل يستيقظ من منامه. . (394) وأخرجه أحمد 2/ 241 و 455 و 471 و 507، وأخرجه ابن خزيمة في الصحيح 1/ 74 باب: الأمر بغسل اليدين ثلاثًا عند الاستيقاظ من النوم قبل إدخالهما الإناء حديث (145، 146)، والطيالسي كما في المنحة 1/ 51 باب: التسمية عند إرادة الوضوء .. حديث (170)، وأخرجه الدارقطني في السنن 1/ 49، 50 في كتاب الطهارة باب: غسل اليدين لمن استيقظ من نومه (1، 2، 3، 4)، وأخرجه الحميدي في مسنده 2/ 422 (951)، وذكره الهيثمي في =
وَأَيْضًا: أَخَّرَ مُعَاذٌ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ، وَأَقَرَّهُ صلى الله عليه وسلم.
وَأَيْضًا لَوْ قُدِّمَ لَقُدِّمَ الْأَضْعَفُ.
وَالثَّانِيَةُ: إِجْمَاعٌ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يُجْتَهَدُ فِيهِ فِي الْعَدَالَةِ وَالدَّلَالَةِ، [وَالْقِيَاسُ] فِي سِتَّهٍ: حُكْمِ الأَصْلِ، وَتَعْلِيلِهِ، وَوَصْفِ التَّعْلِيلِ، وَوُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ، وَنَفْيِ الْمُعَارَضِ فِيهِمَا، وَإِلَى الْأَمْرَيْنِ أَيْضًا [إِنْ] كَانَ الْأَصْلُ خَبَرًا.
الشرح: "و "لنا "أيضًا في الاحتجاج على تقديم الخبر ما تقريره"[أخَّر مُعَاذ العمل بالقِيَاس]
(1)
، وأقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك"؛ كما تقدم في "باب الإجماع"، فدلّ أنه مقدم.
ولك أن تقول: إن تمّ الاستدلال بهذا اقتضى تقديم الخبر على القِيَاسِ مطلقًا، فلا يصحّ للمصنّف التَّفصيل الذي ذهب إليه.
الشرح: "وأيضًا لو قدم لقدم الأضعف، والثانية" - تقديم الأضعف - "إجماع" - أي: ممتنعة بالإجماع.
وإنما قلنا: إن القياس أضعف؛ "لأنّ الخبر يجتهد فيه في العَدَالة والدّلالة" على المطلوب فقط، "والقياس" يجتهد فيه "في ستَّةٍ حكم الأصل، وتعليله"، لإجماع ثبوته غير معلل، "ووصف التَّعليل"
(2)
؛ لاحتمال أنّ العلّة غيره، "ووجوده في الفَرْعِ، ونفي [المعارض]
(3)
فيهما" أعني: الأصل والفرع.
= المجمع 1/ 220، وانظر نصب الراية 1/ 2 وتلخيص الحبير 1/ 73 و 344. والظاهر أن المقصود من الحديث إذا شك أحدكم في يديه مطلقًا، سواء كان لأجل الاستيقاظ من النوم أو لأمر آخر، إلا أنه فرض الكلام في جزئي واقع بينهم على كثرة، ليكون بيان الحكم فيه بيانًا في الكلى بدلالة العقل، ففيه إحالة للإحكام إلى الاستنباط ونوطه بالعلل؛ فقالوا في بيان سبب الحديث: إن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن حالة النوم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس، فنهاهم عن إدخال يده في الماء.
(1)
سقط في أ.
(2)
في حاشية ج: قوله: ووصف التعليل أي تعيينه.
(3)
في أ: العارض.
قَالُوا: الْخَبَرُ مُحْتَمِلٌ لِلْكَذِبِ وَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالْخَطَأِ والتَّجّوُّزِ وَالنَّسْخِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ، وَأَيْضًا فَمُتَطَرِّقٌ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ خَبَرًا.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ مَا تَقَدَّمَ؛ فلأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى تَعَارُضِ خَبَرَيْنِ عُمِلَ بِالرَّاجِحِ مِنْهُمَا.
والمُرَاد [بالمعارض]
(1)
هنا: المنافي، فلا يناقض قوله في كتاب "القياس": ولا يشترط نفي [المعارض]
(2)
في الأصل والفرع؛ إذ مراده [بالمُعَارض]
(3)
ثَمّ وصف صالح للعلّية لا ينافي الوَصْف المدعي علّته؛ كما سأحرره عند الانتهاء إليه - إن شاء الله تعالى.
"وإلى الأمرين أيضًا" - العدالة والدّلالة - "إن كان" دليل "الأصل خبرًا".
ولا ريب في أنّ ما يجتهد فيه في أمور كثيرة يكون احتمال الخَطَأ فيه أكثر، والظَّن الحاصل منه أضعف.
الشرح: "قالوا: الخبر" أيضًا "محتمل" باعتبار العَدَالة، "للكذب والكفر والفِسْقِ"، "و" يقرب منها احتمال "الخطأ"، "و "باعتبار الدّلالة "التجوّز"، "و "باعتبار حكمه "النسخ"، والقياس لا يحتمل شيئًا من ذلك.
"وأجيب: بأنه بعيد" - أي: احتمالات بعيدة، فلا يمنع الظَّهور.
"وأيضًا فمتطرّق" - أي: تأتي مثلها في القِيَاسِ "إذا كان الأصل خبرًا".
هذا من تمام القَوْل فيما تقدّم فيه الخبر عند المصنّف.
الشرح: "وأما تقديم ما تقدم" من القياس على الخبر، وهو القياس إذا كانت العلّة ثابتة فيه بنصّ راجح، وكان وجودها في الفَرْعِ قطعًا؛ "فلأنه يرجع إلى تعارض خبرين عمل بالرَّاجح منهما".
(1)
في أ، ح: بالعارض.
(2)
في أ، ح: العارض.
(3)
في أ، ح: العارض.
وَالْوَقْفُ لِتَعَارُضِ التَّرْجِيحَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ، خُصَّ بِالآخَرِ، وَسَيَأْتِي.
هذا كلام المصنّف، وللمعترض أن يقول: لو ثبتت راجِحِيّته لم يقع فيه تَرَاخٍ كما عرفت. ولقد أشار إليه المصنّف بقوله: والثانية إجماع - أي: أن تقديم الأضعف يمتنع بالإجماع.
وذكر ابنُ السَّمعاني في رَدّ طريقة أبي الحسين المتقدمة: أن الخبر الواحدي في العمل بمنزلة الخَبَرِ المتواتر، فليقدم أيضًا على القياس، وهذا منه ادّعاء [الراجحيّة]
(1)
الخبر، والحالة هذه، وفيه نظر.
الشرح: "و" أما "الوقف" أي: فيما توقّفنا فيه، وهي ما إذا كانت العلّة بنصّ راجح ووجودها في الفرع ظنيًّا فإنما ذهبنا إليه، "لتعارض التَّرجيحين" - ترجيح خبر القياس بما ذكرنا من كونه راجحًا، وترجيح الخبر الآخر، لعلّة المقدّمات؛ لعدم انضمام القياس إليه.
وجميع ما سلف في الخبر المُعَارض للقياس من كلّ وجه، ويقلّ وجود نظير له في الأَحْكَام الفرعية، وليس منه حديث بَرْوَع بنت وَاشِقٍ
(2)
، حيث نكحت بلا مَهْرٍ، فمات عنها زوجها قبل الفرض والمسيس، فقضى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَهْرِ نسائها؛ لأن من أوجب المَهْرَ يقول: الموت مقرّر كالدّخول، فلا ينافي القياس، ولا حديث "مَنْ مَسّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ".
(1)
في أ، ب: لراجحيته.
(2)
بروع بنت واشق. الرواسية الكلابية أو الأشجعية، زوج هلال بن مرة. لها ذكر في حديث معقل الأشجعي وغيره، وأخرج حديثها ابن أبي عاصم من روايتها، فساق من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن بروع بنت واشق أنها نكحت رجلًا، وفوضت إليه، فتوفى قبل أن يجامعها، ففض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق نسائها. وحديث معقل مخرج في السنن، وأكثر النسائي من تخريج طرقه وبيان الاختلاف من رواته في قصة عبد الله بن مسعود، وعند أحمد من طريق زائدة عن منصور عن إبراهيم عن علقمة والأسود الحديث، وفيه: فقام رجل من أشجع أراه سلمة بن يزيد، فقال: تزوج رجل منا امرأة من بني رواس يقال لها: بروع الحديث. ينظر الإصابة 8/ 29.
والحديث أخرجه أبو داود 2/ 237، كتاب النكاح: باب فيمن تزوج ولم يسم (2114 - 2116)، والترمذي 3/ 450، كتاب النكاح: باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت (1145)، والنسائي 6/ 122 - 123، وكتاب النكاح: باب إباحة التزوج بغير صداق =
" المُرْسَلُ وَالمُنْقَطِعُ"
مَسْأَلَةٌ:
الْمُرْسَلُ قَوْلُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ: قَالَ صلى الله عليه وسلم.
ثَالِثُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: إِنْ أَسْنَدَهُ غَيْرُهُ أَوْ أَرْسَلَهُ وَشُيُوخُهُما مُخْتَلِفَةُ أَوْ عَضَدَهُ.
وإذ لا مدخل للقياس في باب نواقض الوضوء، ولو دخل لعدم [حديث]
(1)
"إِنَّمَا هُوَ بُضْعَةٌ مِنْكَ"
(2)
، لموافقته، ولم يكن مما نحن فيه؛ لأنه حديث موافق مع حديث مُخَالف، فيقدم الموافق، والذي فيه كلامنا حديث مخالف لقياس لا يعضده حديث.
"فإن كان أحدهما أعمّ خصّ بالآخر، وسيأتي" في "التَّخْصيص" إن شاء الله تعالى.
"مسألة"
الشرح: "المرسل
(3)
قول غير الصَّحابي: قال عليه الصلاة والسلام" في اصطلاح الأصوليين والشافعي رضي الله عنه يطلق عليه المُنْقطع أيضًا.
= (3356 - 3358)، وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد ص 308، كتاب النكاح باب فيمن تزوج، ولم يعين الصداق (1263)، والحاكم في المستدرك 2/ 180 وصححه، وأقره الذهبي.
(1)
سقط في أ، ح.
(2)
أخرجه مسلم 4/ 22 - 23، وأبو داود (1/ 46)، كتابط الطهارة: باب الرخصة في ذلك (182)، والترمذي 1/ 131 أبواب الطهارة: باب ما جاء في ترك الوضوء (85) وابن ماجة 1/ 163، كتاب الطهارة: باب الرخصة في عدم الوضوء من مس الذكر (483).
(3)
هو في اللغة من الإرسال، وهو يقابل الإمساك، وتقول: أرسلت. الطائر من يدي إذا أطلقته.
وفي الاصطلاح: فيه آراء.
المشهور عند المحدثين: ما أضافه التابعي الذي لم يلق النبيّ صلى الله عليه وسلم صغيرًا كان أو كبيرًا للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الواسطة.
[وقال بعض المحدثين: ما أضافه التابعي الكبير إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير مع حذف الواسطة.]. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي اصطلاح متأخّري المحدثين هو قول التَّابعي، فإن كان من تابعي التَّابعين، فمنقطعٌ، وإن كان ممن بعدهم فمُعْضَل.
وفي المُرْسَل مذاهب:
أحدها: قَبُوله وهو رأى مالك، وأبي حنيفة، وأشهر الرِّوَايتين عن أحمد، وعليه جمهور المعتزلة، واختاره الآمدي، ثم غَلَا بعض هؤلاء فزعم أنه أقوى من المسند.
والثاني: ردّه، وبه قال الشَّافعي والقاضي، وهو الذي استقر عليه آراء جَهَابِذَة الحُفّاظ، ونقله مسلم بن الحَجّاج في صدر الصَّحيح عن قول أهل العلم بالأخبار.
وقال الخَطِيب: هو قول أكثر الأئمّة من حفّاظ الحديث، ونقّاد الأثر.
"وثالثها: قال الشَّافعي رضي الله عنه: إن أسنده غيره، أو أرسله، وشيوخهما مختلفة، أو عضّده".
= وقال بعض الأصوليين: هو الحديث الذي لم يتصل سنده، سواء سقط منه واحد أو أكثر في أحد طرفيه أو وسطه.
قال العراقي: [الرجز]
مَرْفُوع تَابِع عَلَى الْمَشْهُورِ
…
مُرسَلٌ أَوْ قَيِّدْهُ بِالْكَبِيرِ
أَوْ سَقْطَ رَاوٍ مِنْهُ ذُو أَقْوَالِ
…
وَالأَوَّلُ الأَكْثَرُ فِي الاسْتعمال
ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 402، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 632، وسلاسل الذهب للزركشي 330، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 112، ونهاية السول للأسنوي 3/ 197، وزوائد الأصول له 340، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 361، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 105، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 147، والمنخول للغزالي 272، والمستصفى له 1/ 169، وحاشية البناني 2/ 168، الإبهاج لابن السبكي 2/ 339، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 275، وحاشية الحطار على جمع الجوامع 2/ 202، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 143، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 143، وأعلام الموقعين لابن القيم 1/ 25، والتحرير لابن الهمام 343، وتيسير التحرير لأميربادشاه 3/ 102، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 42، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 74، وشرح المنار لابن ملك 78، والكوكب المنير للفتوحي 316، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 1/ 288. وينظر: حاشية الفنرى (2/ 257)، الترياق النافع 2/ 11 - 14، والرسالة =
قَوْلُ صَحَابِيٍّ أَوْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَوْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إِلَّا عَنْ عَدْلٍ قُبِلَ.
وَرَابِعُهَا: إِنْ كَانَ مِنَ أَئِمَّةِ النَّقْلِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
لَنَا: أَنَّ إِرْسَالَ الْأَئِمَّةِ مِنَ التَّابِعِينَ كَانَ مَشْهُورًا مَقْبُولًا وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ كَابْنِ المُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ المُخَالِفُ خَارِقًا للإِجْمَاعِ.
قُلْنَا: خَرْقُ الإِجْمَاعِ الْاسْتِدْلَالِيِّ أَوِ الظَّنِّيِّ لَا يَقْدَحُ.
وَأَيْضًا: لَوْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا عِنْدَهُ لَكَانَ مُدَلِّسًا فِي الْحَدِيثِ.
الشرح: "قول صحابي، أو أكثر العلماء، أو عرف أنه لا يرسل إلَّا عن عدل قبل"، كذا حكاه المصنّف عن الشَّافعي تبعًا للآمدي.
"ورابعها: إن كان من أئمّة النقل قُبِل، وإلا فلا، وهو المختار" عند المصنّف سواء كان من التَّابعين، أو من غيرهم على خلاف ما فَهِمَ بعض الشَّارحين، وأراه مذهب عيسى بن أبان؛ حيث قبل مراسيل الصَّحابة والتابعين، وتابعي التابعين، ومن هو من أئمّة النقل مطلقًا، فاختصره المصنّف، وإلا فيلزم أن يكون اختار مذهبًا لم يسبق إليه.
وكأن عيسى اعتقد أن التابعين وتابعيهم كلّهم من أئمة النقل، وإلا فيلزمه أن يقبل التابعين وتابعيهم مطلقًا، وردّ من عداهم إن لم يكن من أئمة النقل، وليس الأمر كما أعتقد، وسنذكر ذلك أيضًا.
والصَّحيحُ عندنا: مذهب قُدْوتنا الذي هو سيّد المنكرين للمراسيل وهو أي: الإمام وأتباعه.
وهنا نحن نَسْلك مع المصنّف مسلك الشَّارحين مع المُنَاضلة عن الحق المبين.
وأول ما نُفَاتحه به أن نقول: لا حاصل لتفصيلك؛ إذ ليس الكلام إلا فيمن هو من أئمّة
= 465، وشرح تنقيح الفصول 379، والمسودة 250، والمدخل ص 43، والحدود للباجي 63، وفواتح الرحموت 2/ 174، والكافية في الجدل (56)، وتدريب الراوي 1/ 195، والسخاوي في فتح المغيب 1/ 128، وتوضيح الأفكار 1/ 283، ومحاسن الاصطلاح 130، وفتح الباقي 1/ 144.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النَّقْل، والمراد بأئمّة النقل من لهم أهليّة الجَرْح والتعديل.
وأما من ليس منهم فما نظنُّ بذي مُسْكَةٍ قبول مراسيله.
وما نقله عن الشَّافعي ستعرف أنه ليس على وجهه، ولا نعرف أحدًا كذلك حكاه، بل المشهور عنه الرد رأسًا.
ولإمام الحرمين نقل ستعرف ما فيه، وليس هو ما نقله المصنّف.
وللشافعي نصوص سَنَحْكيها ليست دالّةً على ذلك.
قال المصنّف: "لنا: إرسال الأمة من التابعين كان مشهورًا مقبولًا، ولم ينكره أحد؛ كابن المسيّب، والنَّخعي، والشَّعبي، وغيرهم".
"فإن قيل: يلزم أن يكون المخالف خارقًا للإجماع".
"قلنا: خَرْق الإجماع الاستدلالي
(1)
، والظني لا يقدح"، والإجماع الذي ادّعيناه من ذلك، فلا يقدح خَرْقه في خارقه.
هذا كلام المصنّف، وخرق الإجماع حرام مطلقًا، ولكنا لا نسلّم وقوع الإجماع على قَبُول المراسيل، وهيهات ومن سَمّاهم كانوا يرسلون، ولكن لم قال: إن إرسالهم كان حجة؟ وإن أتى بصورة، فتلك قد عرف أنها مسندةٌ من وجه، وإذًا الحُجّة عليه لا له؛ لأنهم احتجوا بالمسند.
فإن قلت: قال الإمام محمد بن جرير: إنكار المرسل بدعة حدثت بعد المائتين.
إنما قلت: إن ثبت هذا عنه، فَمُرَاده حدث القَوْل به لما احتيج إليه؛ لأنّ أحدًا قبل ذلك لم يكن يعمل بالمَرَاسيل، فلما تطاول إلى العمل به احْتِيج إلى إنكاره، فكانت بدعة واجبةً، وهذا [ككثير]
(2)
من الكلام في الصِّفات وأصول الديات.
(1)
في حاشية ج: أي الثابت بالاستدلال دون الضرورة.
(2)
في أ، ت: كثير.
قَالُوا: لَوْ قُبِلَ لَقُبِلَ مَعَ الشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سُئِلَ، لَجَازَ أَلَّا يَعْدِلَ.
قُلْنَا: فِي غَيْرِ الأَئِمَّةِ.
إنما احتاج الأئمّة إلى إنكاره وقت وقوع قوم فيه، وذلك بعد صدر الإسلام، ويوضح هذا أن ابن جرير مع إمامته في الفِقْهِ والحديث كان من أجلاء الشافغية، فيبعد عليه نسبة إمامه الذي هو أدرى بمواقع الإجماع، والاختلاف من أمثاله إلى خرق الإجماع.
وإن أراد ابن جرير ما فهم عنه فهو كلام رديء، محجوج بكلام مسلم بن الحَجَّاج الذي قدمناه، والخطيب، وغيرهما.
والذي نعرف ذكره قديمًا للقائلين بالمراسيل، دعواهم الإجماع على قبول مرسل الصحابي.
أما مرسل التابعي، فلا نعرفه عن إمام من أئمّة النقل ممن يقبل المرسل دعوى الإجماع فيه.
ونحن نقول بمرسل الصَّحابي، ولا نسمّيه مرسلًا أيضًا، خلافًا للقاضي أبي بكر؛ حيث ردّه كما عرفت.
قال: "وأيضًا مما يدلّ على قبول المرسل أن الأصل الذي سكت مرسل الحديث عن ذكره، "لو لم يكن عدلًا عنده لكان" الرَّاوي بسكوته عنه "مدلّسًا في الحديث"، وهو قادح، وهذا أضعف من الأول، فإن التدليس إنّما يحصل لو أوهم عَدَالته، ولم يجر منه غير ترك ذكره، وترك ذكره سكوت عنه لا يَدُلّ على شيء.
وإن دلّ على عدالته عنده، فلم يلزم من عدالته عنده أن يكون عدلًا.
الشرح: ولذلك إن علماءنا "قالوا: لو قُبل لقبل مع الشّك" في عدالة الرَّاوي؛ "لأنه لو سُئِلَ جاز ألا يعدل"، وقد جرى هذا لطوائف من الأئمة، منهم الزهري أرسل حديثًا ثم سُئِلَ من حَدَّثك به قال: رجل على باب عبد الملك بن مروان.
ولو عدل فلم قلت: إن من هو عدل في نظره عدل عندنا؟
قالوا لَوْ قُبِلَ لَقُبِلَ فِي عَصْرِنَا.
قُلْنَا: لِغَلَبَةِ الْخِلَافِ فِيهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ وَلَا رِيبَةَ تَمْنَع، قُبِلَ.
والمصنّف أجاب عما ذكره علماؤنا بقوله: "قلنا في غير الأئمة"؛ لأن الأئمة لا يروون إلا عن عَدْلٍ، ولا يسكتون إلا عنه.
وهذا جوابٌ سَاقِطٌ، فإن الإمام قد يروي، ويسكت عن غير العدل، وقد ذكرنا ابن شهاب وهو من هو.
ولقد روى شعبة، وسفيان عن جَابِرٍ الجعفي
(1)
مع ظهور أمره في الكذب، وسكوتهم في بعض الروايات عن جرحه.
ثم أكثر المراسيل عن الحَسَن، والنّخعي، وعطاء، ومكحول
(2)
، وابن المسيّب، والشعبي، والزهري، ولقد أكثروا الرواية عن المَجَاهيل، ثم غاية الأمر أن يسلم لهم أن الأئمة لا يروون إلا عن عدل.
ونقول: رُبّ عدل في اجتهاد الرَّاوي مُتّهم، غير عَدْل في اجتهادنا كما عرفناك، وهذا لأن أسباب الجرح والتَّعْديل مختلف فيها، فليبح باسمه ليعلم أهو عدل عندنا أم لا؟
الشرح: ثم إن علماءنا "قالوا" ثانيًا: "لو قُبِلَ لَقُبِلَ في عصرنا" لكان التَّالي منتفيًا
(1)
جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي: أحد كبار علماء الشيعة. عن عامر بن وائلة والشعبي. وعنه: شعبة والسفيانان وغيرهم. وثقه الثوري وغيره، وقال النسائي: متروك. مات سنة ثمان وعشرين ومائة. وينظر: خلاصة الخزرجي 1/ 157 ت (981) ميزان الاعتدال 1/ 379، ولسان الميزان 7/ 188، والكاشف 1/ 177، والتقريب 1/ 123، والتاريخ الصغير للبخاري 2/ 9، 10 والكبير 2/ 210.
(2)
مكحول الدمشقي. عن كثير من الصحابة مرسلًا. قال النسائي: لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان. روى عن وائلة وأنس وخلق. وعنه: أيوب بن موسى وزيد بن واقد والأوزاعي وخلق. قال أبو حاتم: ما أعلم بالشام أفقه منه. وقال سليمان بن عبد الرحمن: مات سنة ثلاث عشرة ومائة. وينظر: ضعفاء ابن الجوزي 3/ 138، والأنساب 8/ 37، ومعجم المؤلفين 12/ 319، سير الأعلام 5/ 155، وتراجم الأحبار 3/ 367، والحلية 5/ 177، والجرح والتعديل 8/ 1867، وتهذيب الكمال 3/ 1369، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 54، والبداية والنهاية 9/ 305.
قَالُوا: لَا يَكُونُ لِلإِسْنَادِ مَعْنًى.
قُلْنَا: فَائِدَتُهُ فِي أَئِمَّةِ النَّقْلِ تَفَاوُتُهُمْ وَرَفْعُ الْخِلَافِ.
لموافقة هذا الخصم فالمقدم مثله، والمُلَازمة واضحة؛ لأن علّة قبول المرسل [مع]
(1)
ظهور عدالة المُرْسل، وأنه على ما زعمتم لا يروى إلا عن عَدْل، وذلك معنى لا يختص بغير عَصْرنا.
ودفع المصنّف هذا بقوله: "قلنا: لعلّ الخلاف فيه" - أي: الفرق أن غلبة الخلاف في عصرنا تمنع قَبُوله، وهذا الفرق ضعيف؛ لأن غلبة الخِلَاف لا تُصَيّر المقبول مردودًا.
ثم قال: "أما إن كان من أئمة النّقل، ولا رِيبةَ تمنع قُبِلَ".
ولك أن تقول: قد يوجد في عَصْرنا مَنْ هو من أئمة النقل، ثم انتفاء الرّيبة إن حصل لكونه من أئمّة النقل، فقولكم: ولا رِيبَة تمنع حَشْوه، وإلا فيعود على مذهبكم بالتَّخصيص؛ لأنكم: قلتم: مرسل أئمة النقل، ولم تشترطوا انتفاء الرِّيبَة.
الشرح: ثم إن علماءنا "قالوا" ثالثًا: "لا يكون للإسناد معنى" لو قبل المُرْسل، بل يكون الإسناد تطويلًا بلا فائدة.
وهذا من معتمدات أصحابنا وهو حسن؛ فإن هذه الأمة خَصّها الله - تعالى - بالأسانيد وهو من محاسنها.
وما زال سلف الأمة يَتَطَلَّبونه، ويركبون القِفَارَ في تحصيله، ويسمون الأحاديث العارية عن الإسناد بَتْرًا.
ولقد جعل إسحاق بن أبي فَرْوَةَ يومًا يرسل ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده الزهري، فقال: قاتلك الله يا بن أبي فَرْوَةَ ما أَجْرَأَكَ على الله، ألا تُسْند حديثك؟!
قال حملة الشَّريعة: وترك الإسناد يذهب رُوَاء الحديث، وطَلَاوته وحَلَاوته.
وقال عبد اللَّهِ بن المُبَارك، وغيره من العلماء: الإسناد يزيّن الحديث.
وقال غيره الإسناد من الدِّين، لولا الإسناد لقال مَنْ شَاءَ ما شَاءَ.
(1)
سقط في ب، ت.
الْقَائِلُ مُطْلَقًا: تَمَسَّكُوا بِمَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ وَلَا يُفِيدُهُمْ تَعْمِيمًا.
قَالُوا: إِرْسَالُ الْعَدْلِ يَدُلُّ عَلَى تَعْدِيلِهِ.
قُلْنَا: نَقْطَعُ بأَنَّ الْجَاهِلَ يُرْسِلُ وَلَا يَدْرِي مَنْ رَوَاهُ.
والمصنف دفع هذا الدليل بقوله: "قلنا: فائدته في أئمة النقل تفاوتهم"
…
أي: إنما يذكرون ليعرف تفاوت دَرَجاتهم، "ورفع الخلاف" الواقع في المرسل.
ولك أن تقول: كان التابعون يُسْندون قبل الخلاف في المُرْسل بالاتّفاق منا ومنك. أما منك فلدعواك أن القَبُول كان مجمعًا عليه.
وأما منّا فلدعوانا أن الرد كان مجمعًا عليه.
وهذا جواب جَدَلِيّ، والإنصاف، أنا على قطع بأنهم كانوا يسندون لَا لِوَاحِدٍ من هذين الأمرين، بل لمجرّد تصريح المرء بذكر شَيْخِهِ الذي حَدّثه.
الشرح: واحتجّ "القائل" بالمَرَاسيل "مطلقًا" بأنّ العلماء "تمسّكوا بمراسيل التَّابعين"، فإنها قبلت كما مَرّ تقريره.
قال المصنّف: "ولا يفيدهم تعميمًا"؛ فإنه يجوز اختصاص التَّابعين بمعنى يوجب قَبُول مراسيلهم، وهو كونهم من أئمّة الحديث.
وهذا ضعيف؛ فإنه ليس كلّ تابعي من أئمّة النقل، بل فيهم الجاهل وغيره، والمصنف إنما أجاب بهذا؛ ليتمشّى له تفصيله الذي ذهب إليه، ونحن جوابنا عن هذا قدمناه، وهو المَنْع.
ومن جواب المصنّف هذا أخذ بعض الشَّارحين أنَّ مراده بأئمّة النقل التابعون وهو عجيب، فإن في أئمة النقل من ليس بتابعي، وفي التَّابعين من ليس من أئمّة النقل.
وأي معنى يوجب اخْتِصَاص التابعي، وإن كان عاميًّا، فالمأخذ إن كان كونه من أئمّة النقل لا اختصاص له بالتَّابعي، وإن كان كونه تابعيًّا لا وجه له، ثم لا نعرف أن أحدًا قال به، وإنما المصنف ظن أن جميع التابعين من أئمة النَّقْل، فقال: من احتج بهم لم يستفد تعميمًا، أي: في أئمة النقل وغيرهم؛ لأنّ غيرهم ليس في مَعْنَاهم.
وهذا حينئذ واضح، وقد عرفت ما فيه.
وَقَدْ أُخِذَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَقِيْلَ: إِنْ أُسْنِدَ، فَالْعَمَلُ بِالْمُسْنَدِ؛ وَهُوَ وَارِدٌ، وَإِنْ لَمْ يُسْنَدْ، فَقَدِ انْضَمَّ غَيْرُ مَقْبُولٍ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَا يَرِدُ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ قَدْ يَحْصُلُ أَوْ يَقْوَى بِالانْضِمَامِ.
ثم إن [الرَّاوين]
(1)
"قالوا: إرسال العَدْل يدلّ على تعديله".
"قلنا: نقطع بأن الجَاهِلَ يرسل، ولا يدري من رواه"؛ فضلًا عن معرفته بعَدَالته.
كذا أجاب المصنّف، ولك أن تقول: إذا كان المرسل بهذه المَثَابة، فما نرى أحدًا من الأئمة يقبل إرساله.
وأما العالم، فمن أين لكم أن إرساله دالّ على تعديله؟
وهل جرى منه إلا السكوت؟ وللعدالة شرائط لا تحصل بمجرّد الرواية.
وقد ذكرنا أن طوائف من الأمّة كانوا يروون عن المَجَاهيل، ولا أحفظ عن أحد ممن له بَصِيرَة بالحديث احتجر على العالم، وقال: لا يروى إلا عن العَدْل، ولو سلّم ذلك فالعَدْل عنده لا يلزم أن يكون عدلًا عندنا كما عرفت.
الشرح: "وقد أخذ على الشَّافعي رحمه الله " في قوله: إن أرسل ما أسنده غيره قُبل، "فقيل: إن أسنده"، "فالعمل بالمسند وهو وارد.
وإن
(2)
[لم]
(3)
يُسْند فقد انضمّ غير مقبول إلى [مثله]
(4)
ولا يرد، فإن الظَّن قد يحصل، أو يقوى بالانضمام".
والآخذ على الشَّافعي هو القاضي أبو بَكْر، فأما اعتراضه فيما إذا أرسله راوٍ آخر، فقد أجاب عنه المصنّف.
وأما فيما إذا أسنده آخر، وقول المصنف: إنه وارد فغير مقبول، وما الشَّافعي ممن ينال كلامه بالهُوَيني.
ولقد وقف سلطان الكلام أبو المَعَالي وَقْفَة حائر، إذ استعظم اقتحام الأهوال، بمخالفة [الشَّافعي]
(5)
، وتوقى منه بأن ذلك الخبر لا يرد إلا رأيًا مرذولًا فقال: مخالفة
(1)
في أ، ت: الرادّين.
(2)
في حاشية ج: قوله: وإن لم يسند) أي ووجد أحد الأربعة الباقية من قول الشافعي فيما مَرَّ.
(3)
سقط في أ، ت.
(4)
في ت: مثل.
(5)
سقط في أ، ت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الشَّافعي في الأصول شديدة، وهو ابن بَجْدَتها، وملازم أَرُومتها، ثم قال: الذي لاح لي أن الشَّافعي لا يرد المراسيل، ولكن يبقى فيها مزيد تأكيد يغلب الظن.
قال: وقد عثرت من كلامه على أنه إذا لم يجد إلا المرسل مع الاقتران بالتَّعديل على الإجمال عمل به.
قال: [فكان]
(1)
إضرابه عن المَرَاسيل في حكم تقديم المَسَانيد عليها.
قلت: وهذا لا نعرفه عن الشَّافعي، والثابت عنه ردّ المراسيل رأسًا، وإنما هذا شيء ضعيف ذكره المَاوَردِيّ، وسنتكلّم عليه.
ولقد تباهى ابنُ السَّمْعاني في التَّغليظ على إمام الحرمين، وقال: أجمع كل من نقل عن الشَّافعي من العراقيين والخراسانيين؛ أنّ أصله ردّ المراسيل، وأنها لا تقبل بنفسها بحال.
وذكر الشَّيخ الإمام الوالد رحمه الله في "باب الرّبا"، من "شرح المهذب" بعد أن حكى هذه الأماكن التي ادّعى قوم أن المُرْسل يقبل فيها في الرد عليها ما هو بليغ، ولكنه [لم]
(2)
يَنُحُ نحو المصنف، فإنه يدعي أن الشَّافعي لا يقبله رأسًا، فإذا رد على هذه الأماكن لم يكن رادًّا على الشافعي في زعمه.
وأنا سأحكي كلام الشَّيخ الإمام في الموضع المُنَاسب له، وذلك بعد مجادلة القاضي، فأقول: قبول المرسل إذا اعتضد بِمُسْند لا يعترض بما ذكر القَاضِي، فإنه غير وارد؛ لأن الاحتجاج إنما يكون بالمُسْند لو نهض بنفسه حُجّة.
ولعلّ الشافعي أراد بالمُسْند المنضمّ إلى المرسل مسندًا لا ينهض بنفسه حُجّة، وإذا ضمّ إلى المرسل قام المرسل حجة، وهذا ليس عملًا بالمسند، بل بالمرسل إذا زالت التُّهمة عنه؛ وهذا لأنه لم يرد المراسيل بالتَّشَهِّي، بل للتُّهمة.
فإذا زالت وجب قبوله، ولا يكون ذلك منه قبولًا لشيء من المراسيل؛ لأن المرسل بقيد انضمامه غير المُرْسل من حيث هو، والذي ردّه المرسل من حيث هو.
وقد اتّفق العلماء قاطبةً على أنَّ الحجيج لو وقفوا يوم العَاشِرِ غلطًا أجزأهم، واستندوا
(1)
في ب: وكان.
(2)
سقط في ب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلى ما روى مرسلًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَرَفَةُ الذي يعرف الناس فيه"؛
(1)
؛ لأنه روى مسندًا "عَرَفَةُ يَوْمَ يُعْرَفُ الإمَامُ"
(2)
وفي سنده محمد بن إسماعيل قاضي "فارس" تفرد به عن سفيان.
ولئن سلمنا أنه أراد المسند المنضمّ مسندًا يحتج به، فلم قلتم: إن الاحتجاج؛ إذ ذاك إنما هو بالمسند، بل الإسناد يعرفنا أن الإرسال وقع عن عدل يحتج به؛ ويوجب لنا الاحتجاج [بكل منهما، ويصير هذا المرسل الذي عرف بالإسناد عدالة المتروك ذكره فيه دليلًا]
(3)
؛ كالمسند المناظر الاحتجاج بما شاء منهما.
وهذا قبول للمرسل أيضًا [بشريطة]
(4)
، وليس هو من مذاهب القوم في شيء، ولأن العمل أيضًا بالمراسيل.
ويحتمل أن يقال: إن الشافعي لم يرد بالمسند: أن يقع للحديث إسناد من وَجْه آخر.
وإنما أراد أن عدلًا يخبرنا باسم الذي أهمل المُرْسل ذكره، فيصير كالمسند لمعرفتنا
(5)
بالمتروك اسمه.
ولذلك قال - كما نقله عنه القاضي -: المرسل إذا أسنده حافظ مأمونٌ - أي: أن الحافظ المأمون سمى لنا الرجل المتروك - فإذًا الإسناد واحد، ولنا: تسميته مرسلًا باعتبار رواية المرسل، ومسندًا باعتبار إسناد المسند، فإذا قبلناه.
قلنا: المسند الذي هو مرسل، هذا غير ما تقدّم فافهمه، وهو مثل مرسل سعيد، وأبي
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الحج (149)، وأبو داود في المناسك، باب (165)، والترمذي برقم (885).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5/ 175، في كتاب الحج، باب خطأ الناس يوم عرفة.
(3)
سقط في أ، ت.
(4)
في ب: لشريطة.
(5)
في ب: لمعرفاتنا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سلمة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ؛ فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ"
(1)
رواه الشَّافعي عن مالك عن سعيد، وأبي سلمة، واحتج به؛ لأنه روى بهذا الإسناد مسندًا، فروى أبو عاصم الضَّحاك
(2)
بن [مخلد] الشَّيْبَاني، وابن أبي فتيلة، وعبد الملك بن المَاجِشُون
(3)
عن مالك عن الزّهري عن سعيد، وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وما هذا شأنه مرسل، مسند باعتبارين، وليس كما في مراسيل أبي داود بسند جَيّد إلى سعيد بن المسيّب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دِيَةُ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ"
(4)
، فإنه لم يعتضد بأن صرح لنا باسم المَتْروك، بل عارضه أن سعيدًا نفسه قال فيما رواه الدَّارَقُطني: كان
(1)
أخرجه البخاري 4/ 407، في البيوع: باب بيع الشريك من شريكه (2213)، وفي 4/ 408، باب بيع الأرض والدور، وفي 4/ 436، في الشفعة فيما لم يقسم (2257)، ومسلم 3/ 1229، في المساقاة: باب الشفعة (134).
(2)
الضحاك بن مخلد بن الضحاك الشيباني، أبو عاصم النبيل البصري الحافظ. قال ابن شيبة: والله ما رأيت مثله، قال أبو عاصم: من طلب الحديث، فقد طلب أعلى الأمور، فيجب أن يكون خير الناس. ولد سنة 122 هـ. قال ابن سعد: مات سنة أربع عشرة ومائتين. قال الخطيب: روى عنه جرير بن حازم، ومحمد بن حبان، وبين وفاتيهما مائة وإحدى وثلاثون سنة. ينظر: سير الأعلام 9/ 480، وميزان الاعتدال 2/ 325، والجرح والتعديل 4/ 2042، والكاشف 2/ 36، وتهذيب الكمال 2/ 617، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 4.
(3)
عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله التيمي بالولاء، أبو مروان، ابن الماجشون، فقيه مالكي فصيح، دارت كليه الفتيا في زمانه، وعلى أبيه قبله. أضر في آخر عمره، وكان مولعًا بسماع الغناء في إقامته وارتحاله. ينظر: ميزان الاعتدال 2/ 150، وابن خلكان 1/ 287، والأعلام 4/ 160.
(4)
أخرجه أبو داود ص (215) برقم (264) من مراسيله.
قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" 8/ 103: وقد تأيد هذا المرسل بمرسلين صحيحين، وبعدة أحاديث مسندة، وإن كان فيها كلام، وبمذاهب جماعة كثيرة من الصحابة ومن بعدهم، فوجب أن يعمل به الشافعي! كما عرف من مذهبه. وفي "التمهيد" روى ابنُ إسحاق عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس في قضية بني قريظة والنضير أنه عليه السلام جعل ديتهم سواء دية كاملة، وعمر وعثمان قد اختلف عنهما، وقد تقدم عن عثمان على موافقة هذه الأحاديث من وجوه عديدة بعضها في غاية الصحة، كما قدمنا عن ابن حزم، وهو الذي دلّ عليه ظاهر كتاب الله تعالى؛ لأنه قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عمر رضي الله عنه يجعل دِيَة اليَهُودي، والنصراني أربعة آلاف درهم، والمجوسي ثَمَانمائة درهم
(1)
.
وهذا وإن كان عند قوم منقطعًا؛ لأنّ ابن المسيّب لم يسمع من عمر، لكنه ينتهض معارضًا لمرسله؛ لأن المرسل في نفسه ليس بحجّة، فإذا لم ينضم إليه ما يقويه، ولكن بما يضعّفه كان أضعف.
فإن قلت: ألستم تقبلون مراسيل سعيد بن المسيّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن؟.
قلت: ستعرف ما عندنا في ذلك، والحاصل أنا لا نقبلها إلّا عند اعتقاد أنها مُسْندة، وليس ما أوردنا منها.
= مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ثم قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} ، والظاهر أن هذه الدية هي الدية الأولى، وكذا فهم جماعة من السلف. قال ابن أبي شيبة: حدّثنا عبد الرحيم - هو ابن سليمان - عن أشعث - هو ابن سوار - عن الشعبي، وعن الحكم، وحماد، عن إبراهيم قالا: دية اليهودي والنصراني والحربي المعاهد مثل دية المسلم، ونساؤهم عن النصف من دية الرجال، وكان عامر الشعبي يتلو هذه الآية:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} . وأشعث: وإن تكلموا فيه يسيرًا، فقد روى له مسلم متابعة، وأخرج له ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك". وقال ابن أبي شيبة أيضًا: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن الزهري سمعته يقول: دية المعاهد دية المسلم، وتلا الآية السابقة. وهذا السند في غاية الصحة. وينظر سنن البيهقي 8/ 103، نصب الراية 4/ 366.
(1)
أخرجه الدارقطني 3/ 146 (195)، وقال:
والحديث رواه الشافعي في مسنده: أخبرنا فضيل بن عياض، عن منصور عن ثابت عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب أنه قضى في اليهودي الحديث، ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في المعرفة. كذا في الزيلعي، وأخرج ابن حزم في الإيصال من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دية المجوسي ثمانمائة درهم. وأخرجه أيضًا الطحاوي وابن عدي والبيهقي وإسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة، وروى البيهقي، عن ابن مسعود وعلى أنهما كانا يقولان: في دية المجوسي ثمانمائة درهم، وفي إسناده ابن لهيعة أيضًا، وأخرج البيهقي أيضًا عن عقبة بن عامر، وفيه أيضًا ابن لهيعة، وروى نحو ذلك ابن عدي والبيهقي والطحاوي عن عثمان، وفيه أيضًا ابن لهيعة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَلْنَحْكِ نَصّ الشَّافعي رضي الله عنه على صُورته، قال رضي الله عنه في "الرسالة
(1)
: المنقطع مختلف، فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التّابعين، فحدّث حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور.
منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه فيه الحُفَّاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما أرادوا - كانت هذه دلالة على صحة من قُبِلَ عنه وحفظه، انتهى.
ومشاركتهم له فيه ظاهرها، أن يكون أسند السّند لا يمتاز عنه بالتصريح باسم المتروك.
وقد وقع للقاضي في "التقريب" أنه نقل عن الشَّافعي؛ أنه قال في المواضع التي يقبلها من المراسيل: استحبّ قبولنا، ولا أستطيع أن أقول: إن الحجة [تثبت]
(2)
بها ثبوتها بالمتصل، انتهى.
قلت: وهذا النص مَسْطُور في "الرسالة".
قال القاضي: فقد نصّ بذلك على أن القَبُول عند تلك الشروط مستحبّ لا واجب.
قلت: وهذا كلامٌ ضعيف، فلم يُرِد الشَّافعي بالاستحباب قسيم الوجوب، ولا في الأدلّة ما يكون الأخذ به مستحبًّا؛ لأنه لا تخيير في إثبات الأحكام، بل إما أن يظهر موجبها فيجب، أو لا فيحرم.
فإن كان المرسل عند الاقتران بشيء من ذلك حُجّة - وجب الأخذ به، وإلا حرم، ولا تعلّق للاستحباب بما نحن فيه.
وإنما مراده: أن الحجة فيها ضعيفة ليست كحجة المتصل. وإذا انتهضت الحُجّة وجب الأخذ لا مَحَالة، لكن الحُجَج متفاوتة، وينفعك ذلك [عند]
(3)
التَّعَارض، فإذا عارضه مُتَّصل كان المتصل مقدمًا عليه.
وقال الشيخ الإمام رحمه الله: يحتمل أن يكون مراد الشَّافعي. أنه لا يجب العمل به بمجرّد اقترانه بمرسل آخر، وقول صحابي أو فُتْيا الأكثر، ولا يرد معها، ويطلب دليل آخر
(1)
ينظر الرسالة (465).
(2)
في ب، ثبتت.
(3)
سقط في ب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مجرد كما لو يرد أصلًا، بل يجب النَّظر في ذلك وفيما يعارضه، أو يوافقه من بقيّة الأدّلة كالقياس وشبهه، فالعمل بما يترجّح من الظن. والله أعلم.
وأما قبول الشافعي المرسل إذا عضده صحابي، فلو صح عنه لم يوجب قولًا بالمرسل كما عرفت.
وأما إذا عضَده أكثر العلماء، فقد اعترضه القاضي بأنه إن أراد بالأكثر الأمة فهو الإجماع، والحجّة حينئذ فيه لا في المرسل، وإن أراد بعض الأمة، فقولها ليس بحُجّة، والكلام فيه كالكلام في اعتراضه الأوّل من التزام كلّ من الأمرين، ولا يرد ما ذكره.
وعبارة الشَّافعي في "الرسالة"، ولذلك
(1)
إن وُجد عَوَامّ من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا عرف أنه لا يروى إلا عن عَدْلٍ، فلا يتجه إلا قبوله.
وقد نصّ عليه في "الرسالة"، ومرسلاته حينئذ مَسَانيد، فلا وَجْه لردّها، وهو كمن قال: إذا قلت لكم: قام زيدٌ فاعلموا أن عمرًا أخبرني، ثم قال: قام زيد، فهو ثانيًا مسند عن عمر، ومعنى بما مَهّده أولًا مسند لفظًا.
ولكنّا نقول: ينبغي أن يكون هذا فيمن عرف منه أن الذي يطوى ذكره ممن لا رَيْبَ في عدالته كالصّحابي، أو أنه رجل معروف في نفسه حيث طوى ذكره، فلا يقال علينا: جاز أن يكون عدلًا عنده غير عَدْل عندنا.
ومن هذا القَبِيل: سعيد بن المسيّب على ما ذكره طائفة من أئمّتنا، ذكروا أنه لا يرسل عن غير أبي هريرة، وأبو هريرة صَحَابي عَدْل رضا، فتكون مرسلات سعيد مَسَانيد وهذا في الغالب من حالة فإنَّ الخطيبَ الحافظَ أبا بكر وغيره من النقّادِ ذكروا أن له مَرَاسيل لم توجد مسندةً بحال من وجه يصح. ونحن قد قدمنا مرسله في دية الذمي، ورددناه بمثل هذا.
ومن هنا نتنبه لدقيقة، وهي أن الشَّافعي على القول بقَبُول مرسلات سعيد، لم يقبلها لكونه اعتبرها فوجدها مسانيد - كما يظنّه بعض الضعفاء، فإن ذلك يوهم أن الإسناد حاصل عنده في المُرْسل بعينه، ويكون حينئذ الاحتجاج به احتجاجًا بالمسند كما تقدم، بل لما كان
(1)
في حاشية ج: قوله: وكذلك أي يتقوى مرسله بما ذكر، كما تقوى بما ذكره قبل في الرسالة. فانظره.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حال صاحبها أنه لا يروى إلا مسندًا عن ثِقَةٍ حمل هذا المرسل على ما عرف من عادته، فيحتج به لذلك، نبّه على هذا الشيخ الإمام رحمه الله.
قلت: ولذلك ما ظهر فيه أنه على خلاف العادة كَمُرْسَله في دِيَةِ الذِّمِّي لا يقبله.
ويؤيد هذا: أنا نقبل مَرَاسيل الصَّحابي، وإن احتمل روايته عن تابعي؛ لأن الغالب أنه لا يروى إلا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا سيما حالة الإطلاق فحمل حالة الإطلاق على الغالب المألوف من عادته.
ويحتمل أن يقال: إن ثبت عن الشَّافعي؛ أنه قال: اعتبرت مراسيل سعيد، فوجدتها مسانيد، فأنا أحتج بها.
فمراده المَرَاسيل التي سَاقَهَا في مذهبه، واحتج بها كمرسله في بيع اللَّحم بالحيوان
(1)
، ونحوه على أن ذلك لم يثبت عن الشَّافعي في الجديد.
قال المَاوَرْدِيّ: حكى عن الشَّافعي؛ أنه أخذ بمراسيل سعيد في القديم، وجعلها بانفرادها حُجّة؛ لأنه لم يرسل حديثًا إلا وجد مسندًا، ولا يروي أخبار الآحاد فلا [يحدث] إلا بما سمعه من جَمَاعة، أو عضَده قول الصحابة، أو رآه منتشرًا عند الكافة، أو وافق فعل أهل العَصْر.
(1)
مالك في الموطأ 2/ 655، في البيوع: باب بيع الحيوان باللحم (64، 65)، قال ابن عبد البر: لا أعلمه يتصل من وجه ثابت.
وأخرج الدارقطني في سننه عن يزيد بن مروان ثنا مالك بن أنس عن الزهري عن سهل بن سعد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان، انتهى. قال الدارقطني: تفرد به يزيد بن مروان عن مالك، والصواب فيه عن ابن المسيب مرسلًا، انتهى. قال ابن الجوزي في التحقيق: قال ابن معين يزيد بن مروان كذاب، وقال ابن حبان: يروى الموضوعات عن الأثبات، لا يحل الاحتجاج به بحال، انتهى.
وقال ابن خزيمة: حدثنا أحمد بن حفص السلمي حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن الحسن عن سمرة نحوه - قال البيهقي: إسناده صحيح، ومن أثبت سماع الحسن من سمرة عده موصولًا، ومن لم يثبته فهو مرسل جيد، وأخرجه البزار في "مسنده" عن ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر نحوه، وأبو داود في "المراسيل" عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب نحوه، وفي لفظ: نهى عن بيع الحي بالميت".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكونه إنما أخذ عن أَكَابر الصحابة، ومراسيله سبرت، وكانت مأخوذة عن أبي هريرة، ومذهب الشَّافعي في الجديد أنّ مرسل سعيد، وغيره ليس بحجّة.
قال الشيخ الإمام رحمه الله: وهذه الأمور التي ذكرها المَاوَرْدِي في حقّ سعيد أمور ضعيفةٌ، لم يثبت شيء منها ولا يعرف، بل قد روى سعيد في "الصّحيحين" عن أبيه المسيّب، فالصَّحيح ما قاله الخطيب، وهو الذي نسبه المَاوَرْدِي إلى الجديد.
قلت: والذي قاله الخطيب بعد أن ذكر قول الشَّافعي في "المختصر" في مسألة بيع اللَّحم بالحيوان: وإرسال ابن المسيّب عندنا حسن، اختلف أصحابنا في [قوله]
(1)
هذا بيع.
فمنهم من قال: أراد أن مرسله حجّة، لا أن مراسيله تتبعت فوجدت مسانيد عن الصحابة من جهة غيره.
ومنهم من قال: لا فرق بين مرسل سعيد وغيره من التابعين، وإنما رجّح الشافعي، والترجيح بالمرسل صحيح وإن لم يكن حجّة بمفرده، وهذا هو الصّحيح؛ لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندًا بحال من وجه يصح. ا. هـ كلام الخطيب ذكره في "الكفاية".
قال الشيخ الإمام: وإنما يفعل الشَّافعي ذلك في كبار التابعين، وأما غيرهم فلا يقبل مرسله، لا منفردًا ولا مضمومًا.
قلت: وأما في "الرسالة": وكل حديث كَتبْتُهُ منقطعًا، فقد سمعته متصلًا أو مشهورًا عمن روى عنه بنقل عامّة من أهل العلم يعرفونه عن عامّة، ولكن كرهت وضع حديث لا أتقنه حفظًا خفت طول [الكتاب]
(2)
، وغاب عني بعض كتبي. انتهى.
فَرَضِيَ الله عنه قد نبّه على أن كل ما يورده من المنقطعات فهو متّصل، سواء ابن المسيّب وغيره، فإذًا ما في كتبه من المَرَاسيل كلّها مسانيد، وقد انكشف عنَّا بهذه الفائدة الجليلة غمة، وهي: أنه ربّما رأينا في كتبه الاحتجاج بمرسل، فيحسبه من لم يحفظ هذه الفائدة مدخولًا؛ لأنه لا يحتجّ بالمراسيل، وقد أبانت هذه الفائدة عن أن ذلك الذي شاهدناه مرسلًا عنده متصل؛ فلذلك احتج به.
(1)
في ب: قول.
(2)
في حاشية ج: قوله: "وغاب عني بعض كتبي" تمامه: وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم ساق الشَّيخ الإمام كلام "الرسالة" الذي قدمنا بعضه، وهو قول الشافعي: المنقطع مختلف، فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين، فحدّث حديثًا منقطعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور.
أن يسنده غيره من الحُفّاظ المأمونين بمثل معنى ما روى، أو مُوَافقة مرسل غيره، وهي أضعف من الأول، أو موافقة قول صَحَابي، أو عوامّ من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى. فإذا وجدت الدلالة لصحة حديث بما وصفت، أحببت أن يقبل مرسله، ولا نستطيع أن نَزعم أن الحجة [تثبت]
(1)
به ثبوتها بالمتّصل.
وأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلا أعلم منهم واحدًا يقبل مرسله. انتهى.
ثم قال الشيخ الإمام علي قول المَاوَرْدِي: إن المرجّحات للمرسل التي إذا اعتضد به واحد منها صار معها حُجّة على الجديد أحد سبعة أشياء: قياس، أو قول صحابي، أو الأكثر، أو الانتشار بلا رافع، أو عمل أهل العصر، أو ألا يوجد دليل سواه.
قلت: وهذا السَّابع الذي قدّمناه عن إمام الحرمين.
قال الشيخ الإمام: وفي كلام الشَّافعي المنقول عن "الرسالة" اعتضاده بمرسل أو مسند آخر، وليس في كلام المَاوَرْدِي، فإذا جمعت بين الكلامين كانت المرجحات [تِسْعة]
(2)
، ثم في بعضها أو أكثرها مشاحَّة.
منها: قول المَاوَرْدِي: ألا يوجد دليل سواه، فإن المرسل إذا لم يكن في نفسه دليلًا، ولم يوجد دليل سواه كانت المسألة لا دليل فيها أصلًا، ولا يجوز إثبات حكم بشيء لا نعتقده دليلًا؛ لأنا لم نجد غيره.
وإن قيل: إنه [في]
(3)
هذه الحالة دليل دون غيرها، فنقول: في غير هذه الحالة إذا كان هناك دليل موافق الحكم ثابت بلا إشكال، ولا غرض في إسناده، أو مخالف راجح - قدم على المرسل مع القول بأنه حُجّة، وإن كان مرجوحًا لم يقدم عليه.
= حفظت، فاختصرته خوف طول الكتاب، فأتيت ببعض ما فيه الكفاية دون تقصي العلم في كل أمره. في الرسالة.
(1)
في ب: ثبتت.
(2)
في أ، ت: سبعة.
(3)
سقط في ت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحينئذ ينبغي لمن يعمل به عند فَقْد الدليل مطلقًا أن يعمل به هنا لِرُجْحَانه، وهو مصير إلى أن المرسل حجّة، والتفريع على خلافه، ولا ينفع التعليل بأنه حُجّة ضعيفة، فجاز أن يدفع بأَدْنَى معارض، وإن كان مرجوحًا؛ لأن ذلك بحث جَدَلِيّ لا طَائِل تَحْته. انتهى.
قلت: قد يقال: إذا لم يوجد دليل سواه فيكون فائدته ألا يرد، ولا يكون الحال كحال لا دليل فيها أصلًا، بل ينظر كما قدمناه عن الشيخ الإمام في مراسيل من علم أن مراسيله غالبًا مسانيد.
وتظهر فائدة ذلك فيما إذا روى شيئًا على خلاف البراءة الأصلية.
فقد يقال: يجب الانْكِفَاف إلى اسْتِتْمَام البحث، ولا يحدث إثبات حكم، ولكن الوقف هناك من باب الاحتياط، وهذا كما قال إمام الحرمين في المجهول إذا روى خبرًا: إنه يجب الانْكِفَاف ويبحث عن حاله.
وبهذا يندفع قول الشيخ الإمام: لا يجوز إثبات حكم بما لا نعتقده دليلًا.
فنقول: نحن لا نثبت حكمًا، وإنما نكفّ عما كُنّا عاملين به إلى اسْتِتْمَام البحث، فإن أراد الماوردي، وإمام الحرمين بالعَمَلِ بالمرسلِ، إذا لم يوجد دليل غيره هذا، فلا بأس به، وإلا فالحق ما قاله الشيخ الإمام.
وقوله: في غير هذه الحالة إن الحكم ثابت [بلا إشكال]
(1)
، ولا غرض في إسناده.
صحيح، ولكن اجتماع دليلين حَسَن.
وقوله: في المخالف المرجوح ينبغي العمل بالمرسل حينئذ، والتفريع على خلافه.
قد يقال عليه: ليس التفريع على خلافه؛ لأن المَاوَرْدِي يدعي أن الشافعي يستثنى هذا الموضع من رد المراسيل.
وأما كونه حجّة ضعيفة على القول به، فلا بد من ذلك، فإن الحجج مُتَفَاوتة. ثم قال الشيخ الإمام: وأما اعْتِضَاده بمسند، فإذا كان المسند صحيحًا، كان العمل به لا بالمرسل.
وأما بمرسل آخر، فإذا لم يكن المرسل حجّة، لم يفد اقترانه بما ليس بحجّة، وكذلك قول الصَّحابي وفعله، وقول الأكثرين والانتشار.
(1)
سقط في ب، ت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما القياس فإن كان قياسًا صحيحًا فهو حُجّة في نَفْسِهِ غير مفتقر إلى المرسل، ولا يصير المرسل حجّة.
كما لو اقترن بالقياس الصَّحيح قياس فاسد، وإن كان القياس لا يجوز التمسُّك به لو انفرد، فقد انضم ما ليس بحُجّة إلى ما ليس بحُجّة.
وغاية ما يتخيل أنَّ الشافعي لم يلاحظ في ذلك إلا قوّة الظَّن، فإن المرسل يثير ظنًّا ضعيفًا، وليس كالقياس الفاسد. وما لا يثير ظنًّا أَصلًا، فإذا اقترن المرسل المثير للظَّن - بأمر مقوّ للظَّن جاز أن ينتهي إلى حد يتمسّك به.
ثم ذلك الحدّ ليس مما يضبط بعبارة شاملةٍ، بل هو موكول إلى نظر المجتهد.
وها هنا تتفاوت رتب العُلَماء، ويفارق المجتهدون من سواهم من الجامدين على أمور كلّية يطردونها في كل وِرْد وصَدْر.
وإنما [جمد] على ذلك أكثر المتأخّرين؛ لبعدهم عن التكيُّف بِفَهْمِ نفس الشَّريعة، أو التمييز بين مَراتب الظُّنون، وما يقتضي نفس الشَّارع في اعتباره وإلغائه.
وهذه رُتْبة عزيزة سبق إليها المتقدمون، ولو حاول محاول ضبط ما يحصل من اجتماع تلك الأمور بالموازنة بينه وبين الظّن المستفاد من قياس صَحِيح من أوّل درجات القياس، أو خبر واحد فما سَاوَاه كذلك اعتبر، وما نقص ألغى لم يكن مبعدًا، لكنه ليس كمال المَعْنَى المشار إليه، بل هو غاية ما تحيط به العِبَارة لمن يَبْغى ضبط ذلك بقواعد كلية، ويؤتى الله - تعالى - وراء ذاك لبعض عباده ما يقصر عنه الوَهْم.
ومن جَدّ وجد، ومن ذَاقَ اعتقد، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور: 40]. انتهى كلام الشيخ الإمام رحمه الله.
ولقد كان رضي الله عنه كما وصف وأزيد، وقد تضمّن كلامه ما أشرت إليه من تأييد العمل بالمُرْسل في هذا الموضع؛ لانضمام ظنّ إلى ظنّ حصل بهما ظن متهيأ مثله في العمل بأوائل الأقيسة الصَّحيحة وخبر الواحد، وإياه أراد الشَّافعي إن شاء الله.
وما قدمناه عن المَاوَرْدِي والخطيب من [قول]
(1)
الشَّافعي في الجديد في "كتاب
(1)
سقط في ب، ت.
" الحَدِيثُ المُنْقَطِعُ وَالمَوْقُوفُ"
وَالْمُنْقَطِعُ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ؛ وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَالْمَوْقُوفُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ صَحَابِيٍّ أَوْ مَنْ دُونَهُ.
الرهن" الصَّغير: إنه حجة، ويؤيد ذلك عبارة "المختصر": إنه حسن.
قال الشيخ الإمام: ونظرت كتاب الرهن الصَّغير من "الأم"، فوجدت فيه ما يدلّ على ذلك دلالة قويّة، ثمّ ساق لفظ الشَّافعي. وفيه في حديث ابن المسيّب لا يغلق الرهن من صاحب الدين له غنمه وعليه غُرْمه، كيف قبلتم عن ابن المسيّب منقطعا، ولم تقبلوه عن غيره؟
قال الشَّافعي: لا نحفظ أن ابن المسيّب روى منقطعًا إلا وجدنا ما يدلّ على مسنده، فمن كان بمثل حاله قبل منقطعه، ثم قال مشيرًا إلى التابعين: ففرقنا بينهم لافتراق أحاديثهم ولم [نحابي]
(1)
أحدًا، ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفناه.
قال الشيخ الإمام: وأشار شيخنا ابن الرِّفْعَة إلى أن الرّهن الصغير من القديم، وإن كان من كتب [الأم]
(2)
قال: ولذلك نسب المَاوَرْدِي قبول رواية ابن المسيّب إلى القديم.
قلت: فإن ثبت هذا لم يكن كلام الروياني مخالفًا لكلام المَاوَرْدِي، ولكنه لم يثبت، ولا يثبت أيضًا ما ادّعاه إمام الحرمين في كتاب الخُلْع من أن "الأم" كلها من القديم.
ولقد أتى الشَّافعي رضي الله عنه في دفع المَرَاسيل بلطيفة، وهي اعتبار الرّواية بالشَّهادة، فإنا أجمعنا على رَدّ الشَّهادة المرسلة، وهي إذا لم يذكر شهد على شهادة، ووجهه: أنّ الشَّاهدين إذا كانا عَدْلين، لم يجز أن يشهدا على شَهَادة شاهدين يخفيان ذكرهما، وهما غير عدلين مثل الرِّواية سواء، ومع ذلك لا يصير تركهما لذكرهما دليلًا على تعديلهما، بل لا بُدّ من ذكرهما مع الشَّهَادة على الشهادة، فكذا في الرواية لا بد من ذكر المَرْوِي عنه، ولا فرق بين الشَّهَادة والرواية فيما يرجع إلى العدالة، والخلاف في قبول المرسل وردّه راجع إلى العدالة.
هذا تَمَام الكلام على المرسل، وبسطناه لاحتياج الشَّافعية إليه.
الشرح: "والمنقطع: أن يكون بينهما" - أي: بين الروايتين - "رجل" لم يذكر، ولم
(1)
في أ، ت: نجاري.
(2)
في ت: الإمام.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يعرف
(1)
. "وفيه" - أي: في قبوله - "نَظَر" يعرف من الكلام في المُرْسل.
"والموقوف: أن يكون قول صحابي، أو مَنْ دونه".
ولا حُجّة فيه إذا لم يكن قول صحابي، وكذا إن كان [عند]
(2)
علمائنا.
"فائدة"
حديث عُرْوَة البَارِقِي
(3)
الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارًا ليشتري به شاةً، فاشترى شَاتَيْنِ،
(1)
المنقطع:
هو في اللغة مأخوذ من القطع، وهو فصل الشيء مدركًا بالبصر كالأجسام، أو مدركًا بالبصيرة كالأشياء المعقولة، وهو مطاوع للقطع تقول: قطعته فانقطع.
وفي الاصطلاح فيه مذاهب:
الأول: ما سقط من رواته راو واحد قبل الصحابي في الموضع الواحد، وهذا هو المشهور، الثاني: ما لم يتصل إسناده، وهو الأقرب إلى معناه اللغوي.
قال صاحب البيقونية:
وكل ما لم يتصل بحال
…
إسناده منقطع الأوصال
وقال العراقي:
وسم بالمنقطع الذي سقط
…
قبل الصحابي به راو فقط
وقيل ما لم يتصل وقالا
…
بأنه الأقرب لا استعمالًا
وأراد بقوله: (وقالا) ابن الصلاح والنووي.
الثالث: قال التبريزي: ما سقط مما ليس في أول الإسناد من رواته: راو واحد قبل الصحابي في الموضع الواحد، فخرج بقوله: مما ليس في أول الإسناد - المعلق. ينظر: غيث المستغيث ص 72 - 73.
والمقدمة لابن الصلاح (144)، والكفاية (58)، وفتح الباقي 1/ 158، ومعرفة علوم الحديث ص (27)، وتوضيح الأفكار 1/ 323، وفتح المغيث للسخاوي 1/ 149.
(2)
سقط في أ، ت.
(3)
عرْوَة بن أبي الجَعْد الأسَدِي، البارقي، صحابي نزل الكوفة، له ثلاثة عشر حديثًا. عنه: قيس بن أبي حازم والشَّعبي وسِمَاك بن حرب. ولى قضاء الكوفة لعمر. قال الشعبي: وهو أول من قضى بها. ينظر: أسماء الصحابة الرواة ت (159)، والثقات 3/ 314، وتاريخ البخاري الكبير 7/ 33، والأنساب 2/ 29، وتقريب التهذيب 2/ 18، وتهذيب التهذيب 7/ 178 (348)، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 226.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فباع إحديهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبَرَكَةِ في بيعه، في البخاري [من]
(1)
حديث سُفْيَان عن [شبيب بن غرقدة]
(2)
قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة، ولكنه كما تراه بجَهَالَةِ الحَيِّ.
فإن قلت: فلم احتجّ به الشَّافعي على أن [من]
(3)
وُكِّل في شراء شَاةٍ بدينارين له أن يشتري شَاتَيْن بدينار، ولم يحتج به في جواز بيع الفضولي؟
قلت: لأنه في تلك موافق للقياس، وهو يحتج بالمرسل إذا وافق القِيَاس، وهو في بيع الفُضُولي مخالف للقياس، فلم يحتج به.
ونظير احتجاجه به هنا لمُوَافقته القياس احتجاجه على المُسَافر لا يجب عليه قضاء صلاة صلّاها بالتيمُّم لِفَقْدِ الماء؛ لحديث عطاء بن يسار مرسلًا "خَرَجَ رَجُلَانِ في سفر فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء فتيمَّما صعيدًا طيِّبًا وصلَّيا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: "أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ"، وقال للذي توضّأ وأعاد: "لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ"
(4)
رواه أبو داود - فإنما احتجّ الشَّافعي بهذا المرسل لاعتضاده بالقياس على المَرِيضِ، وبإجماع الفقهاء السَّبعة والجمهور.
(1)
سقط في ب.
(2)
شبيب بن غرقدة السلمي. عن عروة البارقي. وعنه: شعبة والسفيانان وأبو الأحوص. وثقه أحمد بن حنبل، له حديث في الجامع. وينظر: الثقات 4/ 359، والجرح والتعديل 4/ 1563، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 231، والكاشف 2/ 4، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 442، وتقريب التهذيب 1/ 346، وتهذيب التهذيب 4/ 309، وتهذيب الكمال 2/ 572.
(3)
سقط في ت.
(4)
أخرجه أبو داود (1/ 146)، وكتاب الطهارة: باب في المتيمم بجد الماء بعدما يصلى في الوقت، حديث (338)، والنسائي (1/ 213)، والدارمي (1/ 190)، والحاكم (1/ 178)، والبيهقي (1/ 231) من حديث أبي سعيد الخدري.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
" الكَلَامُ فِي الأَمْرِ"
(1)
الْأَمْرُ (أَ - مَ - رَ): حَقِيقَةٌ فِي القَوْلِ الْمَخْصُوصِ اتِّفَاقًا، وَفِي الْفِعْلِ: مَجَازٌ.
وَقِيلَ: مُشْتَرَكٌ.
وَقِيلَ: مُتَوَاطِئٌ.
الشرح: "الأمر"
(2)
- ولا نعني به مُسَمّاه؛ كما هو المتعارفُ في الألفاظ يلفظ بها، والمراد مسمياتها بل لفظة الأمر، وهو "أ""م""ر" حقيقة في القول المخصوص" - وهو صيغة افعل - "اتفاقًا".
(1)
لما فرغ من الكلام على النوع الأول، وهو النظر فيما يتعلق بالسند شرع في الكلام على النوع الثاني، وهو فيما يتعلق بالنظر في المتن. ينظر الشيرازي 289 خ.
(2)
ينظر مباحث الأمر في: البرهان لإمام الحرمين 1/ 203، والبحر المحيط للزركشي 2/ 342، ص 120، 201، والتمهيد للأسنوي وسلاسل الذهب له ص 264، ونهاية السول له 2/ 226، وزوائد الأصول له ص 238، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 3، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 63، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 261، والمنخول للغزالي ص 98، والمستصفى له 1/ 81، وحاشية البناني 1/ 366، والإبهاج لابن السبكي 2/ 3، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 203، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 464، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 37، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 190، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 3/ 269، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 334، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 193 - 198، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 44، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 77، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 150، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 24، وشرح المنار لابن ملك ص 27، والموافقات للشاطبي 3/ 119، وتقريب الوصول لابن جزيّ ص 93، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 91، وشرح مختصر المنار للكوراني ص 27، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 41، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص 327، وروضة الناظر ص 98، ومفتاح الوصول ص 21، المدخل 223، والحدود للباجي 52، واللمع ص 7، والتبصرة ص 17، ومنتهى السول للآمدي 2/ 3، والمنتهى لابن الحاجب 65، والعدة لابن يعلى 1/ 214، وفواتح الرحموت 1/ 367.
لَنَا: سَبْقُهُ إِلَى الْفَهْمِ، وَلَوْ كَانَ مُتَوَاطِئًا، لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ الأَخَصٌّ كَـ"حَيَوَانٍ" فِي "إِنْسَانٍ".
"وفي الفعل مجاز" - ومنه قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [سورة آل عمران: الآية 159] أي: الفعل الذي يعزم عليه.
"وقيل: مشترك" بين القَوْل والفعل، وهو رأي طوائف.
"وقيل: متواطئ" - أي: موضوع للقَدْرِ المشترك بين القول والفعل - وهو رأي الآمدي
(1)
.
فإن قلت: كيف ادّعى الاتفاق على أنه حقيقةٌ في القول المخصوص، ثم حكى القول بالتواطؤ، وهو يقتضي ألا يكون حقيقةً في القول المخصوص؛ وذلك لأن الوضع في التواطؤ للأعم، والقول المخصوص أخص منه، واستعمال الأعم في الأخص مجاز.
قلت: لعلّه رأى قول التواطؤ حادثًا لا يَدْرأ الاتفاق؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقيل: مشتركٌ بين القول المخصوص والفعل والشَّأن؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [سورة النحل: الآية 40] أي: شأننا وطريقنا.
والصفة: مثل: لأمر ما يسود من يسود، أي: بصفة، والشيء مثل: لأمر ما جَدَع قصيرٌ أَنْفَه - أي: لشيء.
وقال أبو الحسين في "المعتمد"
(2)
: مشترك بين الشيء والصِّفة، وبين جملة الشأن والطريق، وبين القول المخصوص.
هذا كلامه وإذن لا يطلق عنده على الفِعْلِ إلا من حَيْث دخوله في الشَّأن؛ لا لأنه موضوع له بخصوصه على خلاف ما نقل عنه.
الشرح: "لنا: سبقه" - أي سبق: القول - "إلى الفهم، ولو كان متواطئًا لم يفهم منه الأخص"؛ لأن القول حينئذ أخص من مَدْلوله "كحيوان في "عدم فهم "إنسان" منه، وهذا الدليل يذفع التواطؤ بما ذكرناه.
(1)
ينظر: الإحكام 2/ 120.
(2)
ينظر: المعتمد 1/ 45.
وَاسْتُدِلَّ: لَوْ كَانَ حَقِيقَةً، لَزِمَ الاشتِرَاك، فَيُخِلُّ بِالتَّفَاهُمِ، فَعُورِضَ بِأنَّ الْمَجَازَ خِلافُ الْأصْلِ، فَيُخِلُّ بِالتَّفَاهُمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثلُهُ.
وَالتَّوَاطُؤُ: مُشْتَرِكَانِ فِي عَامٍّ، فَيُجْعَلُ اللَّفْظُ لَه، دَفْعًا لِلمَحْذُورَيْنِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى رَفْعِهِمَا أبَدًا؛ فَإنَّ مِثْلَهُ لَا يَتَعَذَّرُ وَإلَى صِحَّةِ دَلَالَةِ الأَعَمِّ لِلْأخَصِّ. وَأَيْضًا: فَإنَّهُ قَوْلٌ حَادِثٌ هُنَا.
الشرح: "واستدلّ لو كان حقيقة" في الفعل "لزم الاشتراك"، ضرورة كونه حقيقة في القول أيضًا، "فيخلّ بالتفاهم".
"فعورض بأن المجاز خلاف الأصل فيخلّ بالتفاهم، وقد تقدّم مثله" في مسألة تعارض الاشتراك والمجاز.
وتقدم أن المجاز التواطؤ خبر، فإذًا المعارضة ضعيفة.
الشرح: "و "احتج قائل" [التواطؤ] " بأن القول والفعل "مشتركان في "أمر، "عام"، وهو الشَّيء والشَّأن، "فيجعل الَّلفظ له، دفعًا للمحذورين": الاشتراك والمجاز اللَّذين هما على خلاف الأصل.
وقد كثر مثل هذا الدَّليل في أصول الفِقْه، واعترضه النَّقشواني وغيره من أئمّة المتأخَرين بأنه فرار من مجاز، ووقوع في مَجَازين، وذلك أن الوضع إذا كان للأعم فمتى استعمل في الأخصّ - كان استعمالًا للفظ في غير موضوعه، وهو مجاز.
ثم إنه استعمل في الأخصّين، فيكون مجازًا بالنسبة إليهما.
وأيضًا فالألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الذِّهنية على رأي الإمام وأتباعه، فإذا استعمل فيما تشخّص منها في الخارج كان مجازًا، والبحث منقدح.
فإن قلت هذا إنما هو إذا استعمل في الأخصّ باعتبار خصوصه.
أما إذا استعمل فيه باعتبار ما فيه من القَدْر الأعم [وهو] حقيقة، وحينئذ يستعمل في الأخصّين بالحقيقة، ولا يلزم اشتراك ولا مجاز.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلت: استعماله في الأخصِّ باعتبار ما فيه من القَدْر الأعم لا يخرج
(1)
عن استعمال العام في الخاص.
وقوله: باعتبار سبب في الاستعمال، وهو كاستعمال الأَسَدِ في الشّجَاع باعتبار الشجاعة، وإن أراد بقوله: باعتبار [الشَّجاعة]
(2)
؛ أنه لم يستعمل إلا في الأعمّ، فذلك إحالة لصورة المسألة؛ فإن صورتها أنه استعمل في
(3)
الأخص.
والمصنف قال في دفع التواطؤ: "وأجيب بأنه يؤدي إلى رفعهما أبدًا، فإن مثله لا يتعذّر"؛ إذ ما من شيئين إلا وبينهما قَدْر مشترك، فيجعل الوضع له دفعًا للاشتراك والمجاز، فلا يكون في اللغة مشترك ولا مجاز.
قلت: إنما يلزم رفعهما عند نَقْد نصّ أهل اللغة، أما عند النص فلا.
قلت: كلامنا حيث لا نَصّ من أهل اللغة.
فإن قلت: فلا نسلّم حينئذ استحالة رفعهما.
قلت: هذا المنع غير مسموعٍ بعد تقدّم الاتفاق على أنه حقيقة في القَوْل المخصوص، فلو سمع هذا المعنى، لأدّى إلى رفعهما أبدًا في مثله، وذلك حيث تعارضا في موضع وقع الاتفاق فيه على أحدهما والاختلاف في الآخر، ورفعهما في مثل هذه الحالة مستحيل؛ لأن رفعهما مع الاتِّفَاق على ثبوت أحدهما ممّا لا يجتمعان [عليه]
(4)
.
وعبارته في "المختصر الكبير"، إنَّما يستقيم أن لو لم يدل دليل على خلافه، وإلا لزم رفع الاشتراك والمجاز أصلًا، فإنه لا يتعذر في كل موضع مثله.
"و "أجيب بأنه يؤدي أيضًا" [إلى]
(5)
صحّة دلالة الأعم للأخص" - أي: على الأخصّ، و"اللام" تستعمل بمعنى "على" كما في قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [سورة الإسراء: الآية 109].
وإنما قلنا: يؤدي إلى ذلك، لسَبْق القول المخصوص إلى الفهم.
(1)
في حاشية ج: قوله لا يخرج
…
إلخ تأمله.
(2)
سقط في ب، ت.
(3)
في حاشية ج: قد يقال: استعمل فيه بأن أريد منه لا من جهة خصوصه، بل من جهة صدق الأعم عليه.
(4)
سقط في ب، ت.
(5)
في ب: لا.
حَدُّ الأمْرِ: اقْتِضَاءُ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ؛ عَلَى جِهَةِ الاِسْتِعْلاءِ [فَقَطْ].
وَ: قَالَ الْقَاضِي وَالإمَامُ: الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَرُدَّ: أَنَّ الْمَأْمُورَ مُشَتَقٌّ مِنْه، وَأَنَّ الطَّاعَةَ: مُوَافَقَةُ الأمْرِ، فَيَجِيءُ الدَّوْرُ فِيهِمَا.
وَقِيلَ: خَبَرٌ عَنِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ.
وَقيلَ: عَنِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ.
وَرُدَّ: بِأنَّ الْخَبَرَ يَسْتَلْزِمُ الصِّدْقَ أَوِ الْكَذِبَ، وَالأمْرُ يَأبَاهُمَا.
"وأيضًا: فإنه قول حادث هنا"، مسبوق بالإجماع على الأقوال التي قدمناها، فيكون باطلًا.
فإن قلت: قد قال الآمدي
(1)
: إن القَدْر المشترك بين القول والفعل هو الشّأن والضفة. وقال أبو الحسين: إن الأمر حقيقة فيهما، فليس قول الآمدي حادثًا.
وقلت: لم يقل أبو الحسين: إنه حقيقة فيهما دون غيرهما؛ كما قال الآمدي، نعم قد يقال: إنه لا يلزم من قول الآمدي رفع مجمع عليه.
الشرح: "حدّ الأمر: اقتضاء فعل غير كَف على جهة الاسْتِعْلَاءِ".
فـ "الْاقْتِضَاء" جنس، "وغير كَف" مخرج للنهي؛ لاقتضائه الكَفّ، والكفُّ فعل.
وقوله: "على سبيل الاستعلاء": يخرج ما على سبيل التسفُّل والتساوي.
وقد وافق في اعتبار الاستعلاء أبا الحُسَين والآمدي، وهو رأي الإمام في "المحصول" - وشرط جمهور المعتزلة العلو.
وتابعهم من أصحابنا أبو إسحاق الشِّيرَازي، وأبو نصر بن الصَّبَّاغ، وأبو المظفّر بن السَّمعاني.
والعلو من صفاتِ النَّاطق، فيكون في نفس الأمر عاليًا، وقد لا يتعالى، والاسْتعلاء
(1)
ينظر: الإحكام 2/ 120 - 121.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
من صفات فعله، فيجعل نفسه عاليًا بكبرياء، أو غيره.
ولم يعتبر أكثر أصحابنا علوًّا ولا استعلاء، وقالوا: مجرد الطّلب أمر، وهو المختار.
واعلم أن التعريف للأمر النَّفساني، لا للساني، يدلّ عليه قوله: اقتضاء، والاقتضاء هو الطلب، والطلب أمر قائم بالنفس، وهو أعنى الطلب قدر مشترك بين الجازم وغيره، فيدخل فيه الواجب والمندوب، وقد قدَّم هذا؛ حيث قال: المندوب مأمور به خلافًا للكَرْخي والرَّازي.
والكلام عند أصحابنا يطلق على اللساني والنَّفْسَاني، [ثم هو حقيقة فيهما عند الجمهور.
وقيل في النَّفساني]
(1)
فقط، وهو أحد قولي الشَّيخ وإياه يختار.
وقيل: في اللساني فقط.
وقول الإمام في "المحصول"
(2)
: هنا إنه حقيقة في الّلسانى فقط، [لا يُغاير]
(3)
المختار ولا رأي الجمهور؛ لأن كلامه هنا على ما ذكر في أول اللغات، إنما هو في اللساني.
وقال: فقط، لينبِّه على أنه ليس حقيقة في الشيء والشأن على خلاف قول أبى الحسين، وأورد على قول المصنف: اقتضاء فعل غير كفّ.
قولنا: كُفَّ نفسك؛ فإنه أمر وهو يكف وهو مُنْقدح
(4)
.
وعلى طرده - قولنا: أنا طالب منك كذا، أو أَوْجبت عليك كذا، ولا يرد؛ لأن هذا خبر عن الإنشاء القائم بالنّفس لا نفس الإنشاء.
و"قال القَاضي والإمام: القول المقتضى" بنفسه "طاعة المأمور بفعل المأمور به".
وحذف المصنف لفظ "بنفسه"، وقد ذكراها، ليتبيّن أن المحدود الأمر النفسي.
(1)
سقط في ت.
(2)
ينظر: المحصول 1/ 2/ 8.
(3)
في أ، ت: يغار.
(4)
في حاشية ج: قوله: "وهو منقدح" قد أجبنا عنه فيما كتبناه على شرح جمع الجوامع، فانظره.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الإمام في "البرهان": فإن العبارة لا تقتضي بنفسها، وإنما تشعر بمعناها.
"ورد" هذا التعريف بـ "أن المأمور مشتقّ منه" - أي: من الأمر، فيتوقف معرفته على معرفته؛ لأن معنى المشتقّ منه موجود في المشتقّ مع زيادة.
"وأن الطاعة موافقة الأمر" - والمضاف من حيث هو مضاف لا يعرف إلا بمعرفة المضاف إليه، "فيجيء الدور فيهما" - بحسب لفظ المَأمور والطَّاعة.
وأجاب النَّقْشَوَاني. بأن المراد بالمأمور، والمأمور به المخاطب والمخاطب به، وبالطاعة الموافقة.
وأما كون ذلك موافقة الأمر الوارد، فذاك أخص من هذا.
قال: على أن الدور مندفع، لأن ماهية الأمر وإن كانت مجهولة، واحتاجت إلى تعريف حَدّي مشتمل على الجنس والفصل - لكنها معلومة لهم من حيث يمكن أن [يشتق]
(1)
منه المأمور، والمأمور به، فإن الأمر معروف لكل أحد علمًا ضروريًا بوجه ما.
وهذا القدر كافٍ في معرفة المأمور والمأمور به. فتعرف بهما الماهية رسميًّا ولا دور.
واعترضه الشيخ الأصبهاني في "شرح المحصول" فقال: قوله: المأمور المخاطب. قلنا: إن عني بلفظه ما ذكرت، فالإشكال وارد على أنَّه، والعناية لا تدفع الورود وإن لم يعنه، بل عني به ظاهر ما يشعر به لفظه، فورود الإشكال أظهر.
وأيضًا فاستعمال المأمور وإرادة المخاطب مجاز؛ لأن المخاطب أعم.
وقوله: المراد بالطَّاعة الموافقة التي هي أعم من موافقة الأمر.
قلنا: صاحب الحد قد فسّر الطاعة بموافقة الأمر، فالإشكال يتوجّه عليه.
قوله: الأمر معلوم علمًا ضروريًا بوجه ما.
قلنا: ذلك الوجه هو تميزه عن النهي، وسائر أقسام الكلام، وهو مجهول التفصيل لا محالة للجهل بجنسه وفصله إن كان مركبًا منهما.
(1)
في أ: يسبق.
الْمُعْتَزِلَةُ: لَمَّا أَنْكَرُوا كَلَامَ النَّفْسِ قَالُوا: قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ: "افْعَلْ" وَنَحْوَهُ.
وَيَرِدُ التَّهْدِيدُ وَغَيْرُهُ وَالمُبَلِّغُ وَالْحَاكِي وَالْأدْنَي.
وَقَالَ قَوْمٌ: صِيغَةُ "افْعَلْ" بِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ عَنِ الأَمْرِ، وَفِيهِ تَعْرِيفُ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ، وَإنْ أَسْقَطَهُ بَقِيَتْ صِيغَةُ "أفْعَلْ" مُجَرَّدَةً. وَقَالَ قَوْمٌ: صِيغَةُ "افْعَلْ" بِإِرَادَاتٍ ثَلَاثٍ: وَجُودِ اللَّفْظِ، وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْأَمْرِ، وَالاِمْتِثَالِ: فَالْأَوَّلُ: عَنِ النَّائِمِ، وَالثَّانِي: عَنِ التَّهْدِيدِ وَنَحْوِهِ، وَالثَّالِثُ: عَنِ المُبَلِّغِ، وَفِيهِ تَهَافُتٌ؛ لأِنَّ المُرَادَ: إِنْ كَانَ اللَّفْظَ - فَسَدَ؛ لِقَوْلِهِ: "وَإرَادَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْأمْرِ"، وَإنْ كَانَ الْمَعْنَى فَسَدَ؛ لِقَوْلِهِ:"الْأمْرُ صِيغَةُ "أفْعَلْ".
وَقَالَ قَوْمٌ: الأَمْرُ إِرَادَةُ الْفِعْلِ.
وَرُدَّ: بِأَنَّ السُّلْطَانَ لَوْ أَنْكَرَ - مُتَوَعِّدًا بِالإهْلَاكِ - ضَرْبَ سَيِّدٍ لِعَبْدِهِ، فَادَّعَى مُخَالفَتَه، فَطَلَبَ تَمْهِيدَ عُذْرِهِ بِمُشَاهَدَتِهِ - فَإنَّهُ يَأْمُرُ وَلَا يُرِيدُ؛ لأِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُرِيدُ هَلَاكَ
أو بماهيّته البسيطة إن لم يكن كذلك. والمأمور والمأمور به أيضًا متميّزان إجمالًا، [ومجهولان]
(1)
تفصيلًا؛ ضرورة أن معرفتهما تابعة لمعرفة الأمر إجمالًا، وتفصيلًا، فتعريف الأمر بالمأمور والمأمور به حينئذ؛ إِمَّا أن يكون إجماليًّا، أو تفصيليًّا.
فإن كان الأول كان ذلك تعريفًا للمعرّف؛ ضرورة أنه تعريف للأمر من الوجه الضَّروري معرفته منه.
وإن كان الثاني: فالمأمور والمأمور به لا يفيدان ذلك التفصيل؛ لتقدم العلم بالأمر تفصيلًا على العلم بالمأمور والمأمور به كذلك، ضرورة كونهما مركبين منه ومن غيره، وتوقف الحلم بالمركّب تفصيلًا على العلم بأجزائه تفصيلًا فيجيء الدور حينئذٍ.
"وقيل": في حد الأمر: "خبر عن الثَّوَاب على الفعل".
"وقيل": بل "عن استحقاق الثواب"؛ لأنه قد يقع العَفْو، فيلزم الخُلْف.
"وردّا" جميعًا "بأن الخبر يستلزم الصدق أو الكذب، والأمر يأباهما".
(1)
سقط في ب.
نَفْسِهِ، وَأُورِدَ مِثْلُهُ عَلَى الطَّلَبِ؛ لأِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَطْلُبُ هَلَاكَ نَفْسِهِ، وَهُوَ لَازِمٌ. والأَوْلَى لَوْ كَانَ إِرَادَة، لَوَقَعَتِ الْمَأمُورَاتُ كُلُّهَا؛ لأَنَّ مَعْنَى الإرَادَةِ تَخْصِيصُهُ بِحَالِ حُدُوثِهِ، فَإذَا لَمْ يُوجَدْ، لَمْ يَتَخَصَّصْ.
الشرح: وأما "المعتزلة" فإنهم "لما أنكروا كلام النَّفس"، وكان الطَّلب نوعًا منه لم يمكنهم أن يحدّوه به، فتارةً حدوه باعتبار اللفظ، وتارةً باقتران صفة الإرادة، وتارة جعلوه صفة الإرادة.
أما باعتبار اللفظ فإنهم "قالوا": الأمر "قول القائل لمن دونه: افعل ونحوه"، فقولهم: افعل لتبيّنوا أن المحدود عندهم اللساني.
وقولهم: ونحوه، ليتناول حَدَّ الأمر كسائر اللُّغَات.
"ويرد التّهديد وغيره" - كالتعجيز، والتسخير، وغيرهما - "المبلغ، والحاكي" - أمر غيره - "والأدنى" للأعلى؛ إذ لا يصدق عليه قول القائل لمن دونه.
والاعتراض الأول مُنْقدحٌ.
وقول من دفعه: المراد: افعل مرادًا به ما يتبادر منه عند الإطلاق [اعتبار]
(1)
لا يدفع الإيراد.
وأيضًا: فالخَصْمُ يمنع تبَادر الوجوب والندب وغيرهما على الاختلاف في أنه حقيقة في ماذا؟
وقد تَجَوَّز عنه الزَّمخشري في "الكشاف"
(2)
؛ حيث قال في الكلام على قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [سورة البقرة: الآية 27]: إنه طلب الفعل ممّن هو دونه وبعثه عليه.
فإن قوله: وبعثه عليه يخرج التهديد، ويدل على اعتباره إرادة الامتثال، فلقد وَفَّى بقواعد أشياخه.
وأما المبلغ فقد يمنع وروده؛ إذ هو عليه السلام أمر؛ كما قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة الأعراف: الآية 157].
(1)
في ب: اعتناء.
(2)
ينظر: الكشاف (1/ 127).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما الحاكي فلا يرد [به]
(1)
؛ إذ لا يصدق عليه قول القائل لمن دونه؛ لأنه ليس القائل، إنما القائل المحكي عنه.
وأما إيراد الأدنى، فليس بشيء؛ إذ أمر الأدنى للأعلى ليس بأمر عندهم؛ فإنهم يعتبرون العلو؛ كما قدمناه عنهم.
"وقال قوم: صيغة "افعل" بتجرّدها عن القَرَائن الصَّارفة عن الأمر".
"وفيه تعريف الأمر بالأمر، فإن أسقطه" - أي: أسقط قَيْد القرائن الصَّارفة من التعريف "بقي صيغة "افعل" مجردة".
كذا قال، ويمكن تقريره
(2)
على وجهين:
أحدهما: أن صيغة "افعل" تكون مجردة عما بعدها، أي: خالية عن قَيْد التجرُّد؛ فكأنه قال الأمر صيغة "افعل" ويرد التهديد، ونحوه مما فيه صيغة "افعل"، وليس بأمر.
والثاني: أنه يبقي صيغة "افعل" مجردة، أي: بقيد التجرُّد؛ فكأنه قال: الأمر صيغة "افعل" بتجردها عن القرائن، فيلزم التجرّد مطلقًا حتى عما يؤكّده فيه كونه أمرًا.
وأما تعريفهم الأمر باعتبار ما يقترن بالصِّيغة من الإرادة - فإليه الإشارة بقوله: وقال "قوم: صيغة "افعل" بإرادات ثلاثة".
إرادة "وجود اللَّفظ"، وإرادة "دلالته على الأمر"، "و "إرادة "الامتثال".
الأول: احتراز "عن النَّائم.
والثاني: عن التهديد ونحوه.
والثالث: عن المبلِّغ".
"وفيه تهافت؛ لأن المراد" بالأمر في قوله: دلالتها على الأمر، "إن كان اللفظ فسد لقوله"، "وإرادة دلالتها على الأمر"، واللفظ غير مَدْلول عليه فكأنه اشترط دلالة الشيء على نفسه، "وقال هكذا: الأمر صيغة "افعل" بشرط دلالتها على صيغة "افعل".
(1)
سقط في ت.
(2)
في حاشية ج: قوله: تقريره. أي: تقرير قوله: بقي صيغة افعل مجردة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"وإن كان المعنى" - أي: معنى الصيغة - "فسد" لقوله: الأمر صيغة "افعل".
وهم يقولون: الأمر الصيغة، والأمر على تقدير إرادة المعنى يكون غير صيغة "افعل".
ولقائل أن يقول: المراد بالأمر أولًا: اللفظ؛ لأنهم يحدُّون اللساني، وبالثاني المعنى؛ وهذا لأن صيغة "افعل" لا بد لها من مدلول لكنهم يقولون: مدلولها: إرادة وقوع ذلك الشرح، وتلك الإرادة أمر؛ لأن الأمر عندهم الإرادة.
ونحن نقول: مدلولها: طلب الفعل، وكأنه قيل: إرادة دلالة الصيغة على إرادة وقوع الفعل.
وأما باعتبار نفس الإرادة، وإليه أشار بقوله:"وقال قوم": الأمر "إرادة الفِعْلِ".
"ورد بأن السلطان لو أنكر متوعدًا بالإهلاك ضرب سيّد لعبده" - أي: كان السيد يضرب عبده، فتوعّد السلطان السيد بالإهلاك بضربه العبد - "فادّعى" السيّد "مُخَالفته" فيما يأمره، "فطلب تمهيد عُذْره لمشاهدته، فإنه يأمر" عبده بأمر "ولا يريد؛ لأن العاقل لا يريد هَلاك نفسه"، فانفكَّ الأمر عن الإرادة.
ولك أن تقول: الموجود هنا صيغة الأمبر، لا نفس الأمر فأين انفكاك حقيقة الأمر عن الإرادة؟
والتجربة حاصلة بما يوهم الأمر، ولا يفتقر إلى وجدان نفس الأمر.
"وأورد مثل" ذلك - أي: مثل الدليل المذكور - "على الطلب؛ لأن العاقل" كما لا يريد كذلك "لا يطلب هلاك نفسه"، وهذا أورده الآمدي.
قال المصنف: "وهو لازم".
ولك أن تقول: لا نسلّم وجود الطلب، وإنما الموجود الصِّيغة كما ذكرناه، سلمنا ولكن قولكم: العاقل لا يطلب هلاك نفسه - إن عنيتم به طلبًا مقرونًا بإرادة فمسلَّم، ولا نسلّم أنه موجود هنا.
وإن عنيتم طلبًا عاريًا عن الإرادة فممنوع، وهو الموجود هنا والحاصل: أن طلب
الْقَائِلُونَ بِالنَّفْسِيِّ: اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الأَمْرِ لَهُ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ.
وَالْخِلَافُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي صِيغَةِ "افْعَلْ".
المضرّة لا ينافي [الفَرْض]
(1)
إذا عُرّى عن الإرادة، بخلاف الإرادة فإنها توجب وقع المضرّة؛ ضرورة أن الإرادة صفة تقتضي وقوع المُرَاد، ذكر [هذا]
(2)
الشيخ الهندي.
"الأولى" في الرد عليهم في دعوى أن الأمر الإرادة - وجه ذكره الآمدي فقال: "لو كان إرادة [لوقعت]
(3)
المأمورات كلها؛ لأن [معنى]
(4)
الإرادة تخصيصه" - أي: تخصيص الفعل "بحال حدوثه فإذا لم يوجد" الفعل "لم يتخصّص".
ولك أن تقول: لو أنهم يفسرون الإرادة بما ذكر [وضح]
(5)
هذا، ولكنهم لا يفسرونها بذلك، بل قال البَلْخي منهم: معنى كونه مريدًا لأفعال نفسه كونه موجدًا لها ولأفعال غيره - كونه آمرًا بها.
وقال أبو الحسين: معنى كونه مريدًا لأفعال نفسه؛ أنه دعاه الداعي إلى إيجادها، ولأفعال غيره ودعا به الداعي إلى الحث عليها.
ومعنى الداعي: أن المرء إذا علم أو اعتقد أو ظن أن له في الفعل مصلحة راجحة فعند حصول إحدى هذه الثلاث يحصل في قلبه مَيْل جَازِم إلى الفعل، فإن كانت أعضاؤه سليمة صدر عنه الفعل إذ ذاك.
الشرح: "القائلون بالنفس اختلفوا في كون الأمر له صيغة تخصّه".
فالمنقول عن شيخنا أبي الحسن رضي الله عنه؛ أنه لا صيغة له تخصّه.
وأن قول القائل: افعل متردّد بين الأمر والنَّهي، وجميع المحتملات.
ثم اختلف أصحابه في تنزيل مذهبه.
فقيل: اللَّفْظُ صالح لجميع المحامل صلاحية المشترك لمعانيه.
(1)
في ب: الغرض.
(2)
في ب: ذلك.
(3)
في أ، ت: لوقفت.
(4)
سقط في أ، ت.
(5)
في أ، ت: وصح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل: إنه واقف بمعنى أنه لا يدري موضوع قول القائل: افعل.
ثم نقل ناقلون استمراره على القول بالوَقفِ مع القرائن.
قال إمام الحرمين: هو زَلَل وْإن ترقّى النَّاقل إلى القرائن الحالية فهي مُكَابرة.
ثم قال: والذي أراه قاطعًا به أن أبا الحَسَن لا ينكر صيغة مُشْعرة بالوجوب نحو: أَوْجَبْت وألزمت، وإنما الذي يتردّد فيه مجرّد صيغة "افعل" من حيث [أَلْفَاه]
(1)
في وضع اللسان مترددًا.
ثم قال: وهذا هو التَّنبيه على سرّ مذهب أبي الحسن والقاضي وطبقة الوَاقِفِيّة.
وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: "والخلاف عند المحقّقين في صيغة "افعل"".
واعلم أنها ترد لِمَعَانٍ:
الأول: الوجوب: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [سورة البقرة: الآية 43].
الثاني: مطلق الندب: {فَكَاتِبُوهُمْ} [سورة النور: الآية 33].
الثالث: التّأديب؛ كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة
(2)
: "كُلْ مِمّا يَلِيكَ"
(3)
وهذا المثال صحيح، وإن كان الشَّافعي نصّ على أن الآكل ممّا لا يليه مع علمه بالنهي عاص؛ وهذا لأن النَّص إنما هو في المكلّفين، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما خاطب بهذا غلامًا دون البُلوغ، وهو تأديب مَحْضٌ.
الرَّابع: الإرشاد: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [سورة البقرة: الآية 282].
(1)
في ب: ألقاه.
(2)
عمر بن أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي، صحابي له اثنا عشر حديثًا، اتفقا على حديثين. وعنه: ابنه محمد وعُرْوة. ولد بـ"الحبشة"، ومات سنة ثلاث وثمانين.
ينظر: تهذيب التهذيب 7/ 455 (758)، والكاشف 312، تاريخ البخاري الكبير 139، والجرح والتعديل 6/ 632، وأسد الغابة 4/ 183، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 398، وسير الأعلام 3/ 406، وطبقات ابن سعد 3/ 297، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 271.
(3)
أخرجه البخاري 9/ 521، وكتاب الأطعمة: باب التسمية على الطعام والأكل باليمين (5376)، ومسلم (3/ 1599)، وكتاب الأشربة: باب آداب الطعام والشراب (108/ 2022).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الخامس: الإباحة: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [سورة المؤمنون. الآية 51].
السَّادس: التهديد: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [سورة فصلت: الآية 40].
السَّابع: الإنذار: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [سورة إبراهيم: الآية 30].
الثامن: الامتنان: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [سورة المائدة: الآية 88].
التاسع: الإكرام: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} [سورة الحجر: الآية 46].
العاشر: "التسخير - وسماه الشيخ أبو إسحاق، وإمام الحرمين بالتكوين. {كُونُوا قِرَدَةً} [سورة الأعراف: الآية 166].
الحادي عشر: التكوين - وسمّاه الغزالي والآمدي - كمال القُدْرة: {كُنْ فَيَكُونُ} [سورة يس: الآية 82].
الثَّاني عشر: التَّعْجيز: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [سورة البقرة: الآية 23].
الثالث عشر: الإهانة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [سورة الدخان: الآية 49].
الرابع عشر: التّسوية: {اصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [سورة الطور: الآية 16].
الخامس عشر: الدُّعَاءِ: {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} الأعراف: [سورة الأعراف: الآية 89].
السادس عشر: التمني: [الطويل]
أَلَا أَيُهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا أنْجَلِ
…
.......................
السّابع عشر: الاحتقار: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} الشعراء: [سورة الشعراء: الآية 43].
الثامن عشر: الخبر؛ مثل قوله عليه السلام: "إِذَا لَمْ تَسْتَحي فَاصنَعْ مَا شِئْتَ"
(1)
أي: صنعت.
التاسع عشر: الإنعام: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [سورة القرة: الآية 172]- ذكره إمام الحرمين - ولعله قسيم الامتنان.
(1)
أخرجه البخاري 10/ 523، كتاب الأدب: باب إذا لم تستح فاصنع ما تشاء (6120)، وأبو داود 4/ 252، كتاب الأدب: باب في الحياء (4797)، وابن. ماجه 2/ 1400، كتاب الزهد: باب الحياء (4183).
والْجُمْهُورُ: حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ.
أَبُو هَاشِمٍ: فِي النَّدْبِ.
وَقِيلَ: لِلطَّلَبِ المُشْتَرَكِ.
وَقِيلَ: مُشْتَرَكٌ.
الأَشْعَرِيُّ وَالْقاضِي: بِالْوَقْفِ فِيهِمَا.
وَقِيلَ: مُشْتَرَكٌ فِيهِمَا، وَفِي الإبَاحَةِ.
وَقِيلَ: لِلإذْنِ الْمُشْتَرَكِ فِي الثَّلاثَةِ.
الشِّيعَةُ: مُشْتَرَكٌ فِي الثَّلاثَةِ وَالتَّهْدِيدِ.
العشرون: التفويض: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [سورة طه: الآية 72]، ذكره إمام الحرمين أيضًا.
الحادي والعشرون: التعجب: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [سورة الإسراء: الآية 48].
الثاني والعشرون: التكذيب: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة آل عمران: الآية 93].
الثالث والعشرون: المَشُورة: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [سورة الصافات: الآية 102].
الرابع والعشرون: الاعتبار: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [سورة الأنعام: الآية 99].
والتعجّب والتكذيب والمشورة والاعتبار، ذكرها أبو عاصم العَبّادي في "طبقاته".
وأنت إذا تأمّلت الأقسام تَأَمُّل مُحَقّق، نقصت وتداخل أكثرها.
الشرح: و"الجمهور" على أنها "حقيقة في الوجوب".
(1)
وهو المحكي عن الشَّافعى، وحكى عنه الندب، والوَقْف، وغيرهما ولكن الوجوب هو الأظهر عنه.
(1)
يلزم أن يكون هناك قاعدة ننطلق منها في فهم الأوامر الواردة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام لو فرض أن الأوامر فيهما وردت خالية عن القرائن التي تبين المراد منها؛ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وذكر أبو إسحاق الشِّيرَازي؛ أنه الذي أملاه شيخنا أبو الحَسَن على أصحاب أبي إسحاق - يعني [المَرْوَزِي]
(1)
بـ "بغداد".
ثم اختلف القائلون بالوجوب في أن اقتضاء الصِّيغة [لذلك]
(2)
، هل هو بالوضع أم بالشرع، أم بالعَقْل؟ على مذاهب حكاها القاضي في "التقريب".
وقال "أبو هاشم: في النَّدْب".
والقول بالنَّدب مذهب محقّق.
وأما عَزْوه إلى أبي هَاشِمٍ ففيه نظر؛ فإن الذي تحققناه عن أبي هاشم أنه لا يقول بأنها موضوعة للنَّدب بخصوصه، ولكن يقول: إنها تقتضي الإرادة.
وإذا كان القائل حكيمًا وجب كون الفعل على صفة زائدةٍ على حُسْنه يستحق لأجلها المَدْح.
وإذا كان المَقُول له في دار التَّكليف احتملت الصِّيغة الوجوب والندب، ثمّ خصوص الوجوب لا دليل عليه، فيثبت المحقق، وهو الندب.
"وقيل: للطَّلب المشترك" بين الوجوب والندب.
= لأن من يتتبع الأدلة يدرك أن وضع الأمر في اللغة إنما هو لطلب الإتيان بالمأمور به على وجه الحتم واللزوم، فإذا كان الطالب أعلى منزلة وسيادة على من توجه إليه الأمر وأتى بالمأمور به كان مستحقًا للجزاء الحسن، وإن لم يأت بما أمر به كان مستحقًا للذم والعقاب. وهذا هو معنى الوجوب في اصطلاح العلماء. ينظر: البرهان 1/ 212، والمحصول 1/ 2/ 62، والإحكام للآمدي 1/ 122، والمستصفى 1/ 420، والتمهيد للإسنوي 269، والمنخول 105، وشرح العضد 2/ 79، وشرح الكوكب 2/ 41، والمعتمد 1/ 57، والتبصرة 27، وكشف الأسرار 7/ 101، وحاشية البناني 1/ 316، وفواتح الرحموت 1/ 373، وتيسير التحرير 1/ 351، وأصول السرخسي 1/ 15، والوصول إلى الأصول 1/ 133، وتقريب الوصول (93)، وميزان الأصول 1/ 217.
(1)
في أ، ت: المروى، وهو تحريف.
(2)
في ب: كذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهو رأي أبي منصور المَاترِيدي، ولَيْسَ هو عند التَّحقيق المذهب الذي حَققناه عن أبي هاشم، فليعد مذهبًا رابعًا.
"وقيل: مشترك" بين الوجوب والندب بالاشتراك اللفظي - وحكى عن الشَّافعي -.
وقال "الأشعري والقاضي: بالوقف فيهما" بمعنى أن الصِّيغة متردّدة بين أن تكون حقيقة في الوجوب فقط أو الندب، أو فيهما بالاشتراك اللَّفظي، لكنّنا لا ندري ما هو؟ وهذا [هو]
(1)
اختيار الغزالي والآمدي، وكلام القَاضِي في "التقريب" يدل له.
ولعلّك تقول: قد سبق عن الشَّيخ والوَاقِفِيّة ما يقتضي خلاف هذا.
والذي تحرّر لي أن الواقفيّة لا يقطعون بأن العرب وضعت صيغة خاصّة، وعلى تقدير الوضع لا يقطعون هل هو الوجوب أو الندب أو بالاشتراك [بينهما]
(2)
؟
وقول الشيخ الذي قدمناه عن بعض أصحابه أن اللفظ صالح للمحامل يجب أن يحمل على مَحْمَلي الوجوب والندب.
"وقيل: مشترك فيهما، وفي الإباحة".
"وقيل: للإذن" - وهو القدر "المشترك بين الثلاثة - ولا نعرفه منقولًا في غير هذا المختصر.
وقالت "الشِّيعة: مشترك في الثلاثة والتهديد"
(3)
.
وقيل: حقيقةٌ في الإباحة فقط.
وقال القاضي عبد الجَبَّار
(4)
: مقتضى الصِّيغة إرادة [لامتثال]
(5)
، والإرادة تتضمّن طاعة الممتثل، ولا إشعار لها بشيء زائد.
وقال أبو بكر الأبهري
(6)
من المالكية في أحد قوليه: أمر الله - تعالى - للوجوب، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم للندب إلا أن يكون بيانًا لمُجْمل، أو ما في معناه.
(1)
سقط في ت.
(2)
في ب: فيهما.
(3)
ينظر المصادر السابقة للمسألة.
(4)
ينظر المصادر السابقة.
(5)
في ب: الإمساك.
(6)
محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح، أبو بكر التميمي الأبهري: شيخ المالكية في العراق.
سكن بغداد وسئل أن يلي القضاء فامتنع. له تصانيف في شرح مذهب مالك والردّ على =
لَنَا: ثبوتُ الاِسْتِدْلَالِ بِمُطْلَقِهَا عَلَى الْوُجُوبِ شَائِعًا مُتَكَرِّرًا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ كَالعَمَلِ بِالأَخْبَارِ.
وَأعْتُرِضَ: بِأَنَّهُ ظَنٌّ.
وقيل: مشترك بين الوجوب، والندب، والإباحة، والإرشاد، والتهديد.
[وقيل: بين الوجوب والتهديد]
(1)
.
وقيل: بين الوجوب، والنَّدب، والإباحة، والكراهة، والتحريم.
وقال الشيخ أبو حامد الإِسْفِرَايِيني، وإمام الحرمين: إن موضوعها الطَّلب الجازم وحصر المأمور على الفعل.
وأما ثبوت الوجوب فيقع بِوَاسِطَةِ صُدور هذا الطلب من الشارع فيستفاد، الوجوب بهذا التَّرْكيب بين اللغة والشرع.
وهذا ما نختاره، ولا يبعد أن يكون هو رأي الشَّافعي رضي الله عنه.
وليس هذا هو مذهب القَائلين بأن الصِّيغة للوجوب بالشّرع، بل غيره؛ لأن ذلك يجعل جزم الطلب شرعًا.
ونحن نقول: جزم الطَّلب لغوي، ثم هو إن ورد على لسان من له الإيجاب، وهو الشارع - أفاد الوجوب بهذه الضَّمِيمَةِ.
ولا مذهب من قال: إنه بوضع اللغة أو العقل، وذلك ظاهر.
الشرح: "لنا: ثبوت الاستدلال بمطلقها على الوجوب شائعًا متكررًا من غير نكير"، وذلك في أخبار لا تنحصر؛ مثل: إيجابهم غسل الإناء من وُلُوغ الكَلْب سبعًا؛ لقوله عليه السلام: "إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ"
(2)
، والغُسْل بالْتِقَاءِ الخِتَانَيْن من "إِذَا الْتَقَى
= مخالفيه منها: "الرد على المزني". ومن كتبه: "الأصول" و"إجماع أهل المدنية" وغيرها في كتب الحديث العوالي والأمالي. ولد سنة 289 هـ، وتوفي سنة 375 هـ.
انظر: الوافي بالوفيات 3/ 308، واللباب 1/ 30، والأعلام 6/ 225.
(1)
سقط في أ، ب.
(2)
أخرجه مسلم 1/ 234، في الموضع السابق (279/ 91)، والشافعي في مسنده 1/ 23 - 24، =
وَأُجِيبَ: بِالْمَنْعِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَكْفِي الظُّهُورُ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَإلَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِأَكْثَرِ الظَّوَاهِرِ.
وَأَيْضًا: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [سورة الأعراف الآية 12]، وَالْمُرَادُ قَوْلُهُ:"اسْجُدُوا".
وَأَيْضًا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} [سورة المرسلات: الآية 48] ذَمٌّ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ.
وَأَيْضًا: تَارِكُ المَأْمُورِ به عَاصٍ؛ بِدَلِيلِ {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [سورة طه. الآية 93].
وَأَيْضًا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [سورة النور. الآية 163] وَالتَّهْدِيدُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ.
وَاعْتُرِضَ بِأنَّ المُخَالَفَةَ حَمْلُهُ عَلَى مُخَالَقَةٍ مِنْ إِيجَابٍ، وَنَدْبٍ: وَهُوَ بَعِيدٌ.
قَوْلُهُمْ: مُطْلَقٌ.
قُلْنَا: بَلْ عَامٌّ.
وَأَيْضًا: نَقْطَعُ بِأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: خِطْ هَذَا الثَّوْبَ وَلَوْ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ فَلَمْ يَفْعَلْ - عُدَّ عَاصِيًا.
= الخِتَانَانِ"، فكان "كالعمل بالأخبار" - أي: أخبار الآحاد، فقد ثبت العمل بها بهذه الطريقة.
"واشترط بأنه ظن".
"وأجيب بالمنع"، فإنا لا نسلّم أنه لا بفيد إلا الظَّن، بل هو مفيد للقَطْعِ.
"ولو سلَّم" أنه إنما يفيد الظَّن، "فيكفي الظَّهور في مدلول الّلفظ، وإلا تعذّر العمل بأكثر الظواهر"؛ إذ المَقْدُور فيهما إنما هو تَحْصيل الطَّن.
وقيل: بل عدم وِجْدَان قاطع فيها.
وأعلم أن هذه المسألة مختلف في أنها قطعية أو ظنية، وهذا الجواب بناء على أنها
= كتاب الطهارة: باب في الأنجاس وتطهيرها (45)، وأبو داود 1/ 19، كتاب الطهارة: باب الوضوء بسؤر الكلب (72، 73)، والترمذي 1/ 151، في أبواب الطهارة: باب ما جاء في سؤر الكلب (91).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ظنية، والأول بناء على القطع، ولكنه ضعيف، فإن قُصَارى الإجماع السُّكوتي إفادة الظن
…
على أن الغَزَالي منع انعقاد الإجماع - ولا دفاع لهذا المَنَعِ.
ولباحث أن يُعَارض الدَّليل من أصله قائلًا: قد وجدت أوامر غير مستعملة في الوجوب، فلو اقتضى مجرّد الأمر الإيجاب لزم؛ [إما]
(1)
التعارض بين الموجب، والمانع في بعض الصور؛ وإما الترك بالموجب السَّالم عن المانع؛ وإما ثبوت الوجوب في صور عدم الوجوب. وبيان المُلَازمة: أن اقتضاء الإبجاب؛ إما أن يترتب في تلك الصور المقول فيها بعدم الوجوب، فيلزم ثبوت الوجوب في صور عدم الوجوب، أو لا، فإن لم يكن لمانع لزم الترك بالموجب السَّالم عن المانع.
فإن كان لمانع لزم التعارض بين الموجب والمانع، واللوازم منتفية.
الأول بالإجماع.
والثاني والثالث؛ لأن الأصل عدم كل واحد منهما.
ولا جواب لهذا الاعتراض إلا بيان التَّعارض بين المقتضى والمانع، فيحتاج المستدلّ حينئذ إلى إثبات اقتضاء الصِّيغة للوجوب بدليل آخر غير الدَّليل الذي عورض، وإلى إبداء المانع من ترتّب الإيجاب في الصّور التي [يختلف]
(2)
فيها، وهو متعذّرٌ.
لا يقال: نحن نُعَارض هذه المُعَارضة، فنقول: الدَّليل دلّ على أن الصِّيغة للإيجاب، فإما أن يترتّب عليها الإيجاب فظاهرٌ، أو لا، فإما أن يكون لمانع، فيتعارض المقتضى والمانع، أو لا، فيلزم التَّرك بالمقتضى السَّالم.
لأنا نقول: ماذا تعني بالدليل الدّال على أن الصيغة للإيجاب دليلًا غير هذا الذي عارضناه أو هو نفسه؟
فإن عَنَيت الأول، فلا يجديك نفعًا، وحاصله التمسك بدليل آخر ليقرّر به هذا الدَّليل المُعَارض، ولا يخفى فَسَاده؛ لأن التمسُّك بدليل تام في نفسه ليقرر به دليل آخر لا تعلّق له به - جليّ البطلان، ثم حاصله معارضة المعارض بدليل آخر، ونحن لا ننازع في هذا.
وإن عنيت الثاني، فإما أن تعني بالدَّليل ما هو سَالِم عن المُعَارض، وما ذكرتموه ليس كذلك؛ لما ذكرناه من المُعَارضة، فلا يكون ذلك الدَّليل دليلًا لاعتراض المعارضة له، وإن
(1)
في ب: إن.
(2)
في أ: تخلف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عنيت به دليلًا يفيد النَّظر في مُقَدّماته [غَلَبَة الظن]
(1)
بالمدلول، فحينئذ يقول: هذا القدر معارض بالمثل، وسبيله أن تقول: الدليل دلّ على أن الصِّيغة ليست للإيجاب، فإما أن يترتب عليها حينئذ ذلك وهو ظاهر، أو لا، فإما أن يكون المانع، أو لا، وأيًّا ما كان لزم أحد الأمرين كما مَرّ.
"وأيضًا: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [سورة الأعراف: الآية 12]، والمراد" بقوله: إذ أمرتك ما خاطب به الملائكة، وهو "قوله:{اسْجُدُوا} " - قدم إبليس على ترك المأمور به؛ إذ ليس المراد من قوله: ما مَنَعَك؟ الاستفهام، فيكون للذَّم، وإنما يقع الذَّم على ترك الواجب فدلّ أن اسجدوا للوجوب.
"وأيضًا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا" لَا يَرْكَعُونَ} [سورة المريلات: الآية 48]، "ذم على مُخَالفة أمره" بصيغة "افعل" وهي {ارْكَعُوا} .
"وأيضًا: تارك المأمور به عاص؛ بدليل {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} ". والعاصي يستحق النَّار؛ بقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ} [سورة الجن: الآية 23].
ولك أن تقول: لو تم هذا لكان مخالف كل أمر عاصيًا، ويدخل فيه مخالفة المَنْدُوب؛ إذ هو مأمور به عند المصنّف والجمهور.
"وأيضًا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ" أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [سورة النور: الآية 63]، هدّد على مخالفة الأمر "والتهديد دليل الوجوب".
وفيه [النظر]
(2)
المُشَار إليه من لزوم أن الأمر للوجوب، وهو أعم من الوُجُوب والندب "واعترض" أيضًا:"بأن المخالفة" ليست ترك المأمور به، بل "حمله" - أي: حمل المأمور به - "على مخالفته من إيجاب وندب" - أي: حمل مخالفة الأمر على خلاف ما هو عليه فإن كان للوجوب، فيحمل على النَّدب، وبالعكس "وهو بعيد"، فإن [الظَّاهر]
(3)
المتبادر إلى الفهم من قولنا: خالف فلان أمر فلان - أنه ترك المأمور به.
واعترض أيضًا بأن قوله: عن أمره مطلق فلا يعم، وإليه أشار بقوله: "قولهم مطلق.
قلنا: بل عام"، فإنه مفرد مضاف فيعم، وآيته صحَّة الاستثناء.
(1)
في ب: علته الظن.
(2)
في أ، ت: نظر.
(3)
في أ، ت: الظن.
وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّ الاِشْتِرَاكَ خِلَافُ الأَصْلِ، فَثَبَتَ ظُهُورُهُ فِي أَحَدِ الأرْبَعَةِ، وَالتَّهْدِيدُ وَالإبَاحَةُ بَعِيدٌ، وَالْقَطْعُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ:"نَدَبْتُكَ إِلَى أَنْ تَسْقِيَني"، وَبَيْنَ:"اسْقِنِي"، وَلَا فَرْقَ إِلَّا اللَّوْم، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لأِنَّهمْ إِن سَلَّمُوا الْفَرْقَ؛ فَلِأَنَّ "نَدَبْتُكَ" نَصٌّ وَ"اسْقِنِي": مُحْتَمِلٌ.
"و" لنا "أيضًا أنا "نقطع بأن السَّيد إذا قال لعبده: خِطْ هذا الثوب ولو بِكِتَابة، أو إشارة فلم يفعل عُدّ عاصيًا"، فدل على أن الأمر بصيغة "افعل" للوجوب.
"ولو" هذه التي في كلام المصنف هي الدَّالة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصًا على الحالة التي نظن أنها لا تندرج فيما قبلها؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحَرَّقٍ"
(1)
.
واعلم أن كلًّا من هذه الأدلة التي أوردها المصنّف قُصَارى إفادته على حدثه الظَّن لغة؛ فلذلك لم يشتغل بذكر الشّبه عليه؛ لأن الظّن مع الاحتمالات المَرْجُوحة قائم، وقد اكتفى المصنّف في المسألة بالطن، وما أتى به فيه مَقْنع وبَلَاغ.
الشرح: "واستدلّ بأن الاشتراك خلاف الأصل فثبت ظهوره" - أي: كونه حقيقة - "في أحد الأربعة" التي هي الوجوب، والندب، والإباحة، والتهديد، "والتهديد، والإباحة بعيد" إذ يقتضي الأمر ترجيح الفعل قطعًا.
"والقطع بالفرق بين "نَدَبْتُك إلى أن تسقني"، وبين "اسقني"، ولا فرق إلا اللَّوم" في "اسقني"، وعدمه في نَدَبتك، "وهو ضعيف".
أما أولًا: فلأن من يجعلها حقيقةً في الندب لا يسلّم الفرق، كذا قال وفيه نظر، فقد قدّم هو أنا نقطع بأن السَّيد إذا قال لعبده:"خِطْ" ولم يفعل عُدّ عاصيًا، فليس استدلاله بقطعه ثَم أولى منه هنا.
وأما ثانيًا: وإليه أشار بقوله: "لأنهم إن سلموا الفرق فلأن نَدَبتُك نصّ" في النَّدْبِ، "واسقني محتمل" للندب والوجوب.
(1)
أخرجها مالك في الموطأ 2/ 923، كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (49)، باب ما جاء في المسكين، وأخرجه أحمد في - المسند 6/ 435، ضمن مسند حواء جدة عمرو بن معاذ رضي الله عنهما، والنسائي (5/ 81)، كتاب الزكاة: باب رد السائل (2565)، وأبو داود 2/ 126، كتاب =
النَّدْبُ: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطعْتُمْ"، فَرَدَّهُ إِلَى مَشِيئَتِنَا.
وَرُدَّ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ إِلَى اسْتِطَاعَتِنَا، وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ.
مُطْلَقُ الطَّلَبِ يُثْبِتُ الرُّجْحَانَ، وَلا دَلِيلَ مُقَيِّدٌ؛ فَوَجَبَ جَعْلُهُ لِلْمُشْتَرَكِ؛ دَفْعًا لِلاشْتِرَاكِ.
قُلْنَا: بَلْ يُثْبِتُ التَّقْيِيدَ، ثُمَّ فِيهِ إِثْبَاتُ اللُّغَةِ بِلَوَازِمِ المَاهِيَّاتِ.
الشرح: واحتج قائل "الندب" بقوله عليه السلام: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ رواه البُخَاري ومسلم ولفظهما.
"وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"
(1)
"فردّه إلى مشيئتنا".
"ورد بأنه إنما [رده]
(2)
إلى استطاعتنا، وهو معنى الوجوب"، وقد نصّ القاضي في "التقريب" على هذا الجواب.
الشرح: واحتج من قال: حقيقةٌ في "مطلق الطَّلب"، بأنه "يثبت الرُجْحَان، ولا دليل مقيّد" بخصوص وجوب أو ندب، "فوجب جعله للمشترك" بينهما، "دفعًا للاشتراك".
"قلنا: بل يثبت التقييد" بخصوص الوجوب والتحكُّم، فإنه إن جعل حقيقة فيهما، كان مشتركًا، أو في أحدهما مع أنه لا دليل مقيّد لزم التحكّم، فاعتمد على هذا التقرير، ولا تَظُنّن المصنّف أهمل المجاز، [كما ظنه الشَّارحون، فإن المصنّف لا حاجة به إلى ذكره، لأنه لم يجعل الّلازم الثاني لزوم المجاز]
(3)
وإلا كان قوله: ولا دليل مقيّد ضائعًا؛ لأن المجاز كما يلزم التَّقييد بمعنى عدم الدليل، كذلك يلزم عند وجوده، ولهذا حيث يجعل اللَّازم الثَّاني لزوم المجاز لا يذكر، بقي دليل التقييد؛ كما قال في أول الأمر يشتركان في عام، فيجعل اللفظ لهما دفعًا للمحذورين.
قلنا: بل يثبت التقييد بخصوص الوجوب بما قدمناه من الأدلّة.
= الزكاة، باب حق السائل (1667)، والحاكم 1/ 417، وأخرجه ابن حبان ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص 211، كتاب الزكاة: باب إعطاء السائل ولو ظلفًا محرقًا 825.
(1)
أخرجه البخاري (13/ 264)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم (4/ 1831)، كتاب الفضائل: باب توقيره صلى الله عليه وسلم حديث (131/ 1337) من حديث أبي هريرة.
(2)
في أ، ب: ردّ.
(3)
سقط في أ، ت.
الاِشْتِرَاكُ: ثَبَتَ الإطْلَاق، وَالأصْلُ الْحَقِيقَةُ.
الْقَاضِي: لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ بِدَلِيلٍ إِلَى آخِرِهِ.
قُلْنَا: بِالاِسْتِقْرَاءَاتِ المُتقَدِّمَةِ.
الإِذْنُ: المُشْتَرَكُ؛ كَمُطْلَقِ الطَّلَبِ.
"ثم فيه إثبات اللغة بلوازم الماهيات" - أي: غاية ما أثبتم التواطؤ بما يلزم على غيره من التحكم، أو الاشتراك، واللغة لا تثبث بلوازم المَاهِيّات، وإنما تثبت بالنقل عن أهلها، فاعتمد [على]
(1)
هذا التقرير.
ومنهم من قال: إنما يمتنع إثبات اللُّغة بلوازم المَاهِيّات؛ لأنه يوجب
(2)
دفع المشترك؛ إذ ما من مشترك إلا ويشترك مفهوماته في لازم، فيجعل اللَّفظ لهما، دفعًا للاشتراك.
وفيه نظر؛ إذ إنما يلزم دَفع الاشتراك
(3)
حيث لا يوجد نَصّ من الواضع عليه، وكل مكان لا يوجد فيه نَص نقول بهذا الَّلازم فيه.
ومنهم من قال: بل لأنه طريق عقل، ولا مجال له في إثبات اللغة.
وفيه نظر، فقد يكون في الاستدلال بلوازم المَاهِيَّات مقدمة نقلية، ولا يكون عقليًّا صرفًا، وتثبت اللغة بالمركب من العقل والنقل.
الشرح: واحتج قائل "الاشتراك" اللّفظي؛ بأنه "ثبت الإطلاق، والأصل الحقيقة".
ولم يذكر المصنف جوابه لوضوحه؛ فإن المجاز أولى من الاشتراك.
ولقد ذكرنا لصيغة "افعل" مَحَامل لم يقل أحد بأنها حقيقة فيها، فلو نظر إلى أصل الإطلاق، لجعلت حقيقة في كلّ منها.
الشرح: واحتجّ "القاضي" على الوَقْف، بأنه "لو ثبت" كون الأمر لواحد من المعاني المذكورة - "لثبت بدليل إلى آخره" - أي: والدليل، إما العقل، ولا مدخل له، والنقل وهو إما مُتَوَاتر ولا وجود له هنا، أو آحاد أو هي لا تفيد العلم.
(1)
سقط في ب، ت.
(2)
في ح: لا يوجب.
(3)
في أ، ت: المشترك.
مَسْألَةٌ:
صِيغَةُ الأَمْرِ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَدُلُّ عَلَى تَكرَارٍ وَلَا عَلَى مَرَّةٍ؛ وَهُو مختار الإمام.
الأُسْتَاذُ: لِلتّكْرَارِ مُدَّةَ الْعُمْرِ مَعَ الإمْكَانِ.
وَقَالَ كَثِيرٌ: لِلْمَرَّةِ، وَلَا يُحْتَمَلُ التَّكرَارُ.
وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ.
"قلنا": ثَمَّ قسم آخر، وهو الثبوت بالاستقراءات المتقدمة"، ومرجعها تتبع مَظَانّ [استعمال]
(1)
اللفظ.
والقاضى يقول هنا: هذا الاسْتِقْراء لا يفيد إلّا الظَّن، وهو لا يكتفى به، والمصنّف يقنع به كما عرفت.
وأما قائل "الإذن" الذي هو القدر "المُشْترك" فحجتة "كمطلق الطلب"، والجواب كالجواب.
«مسألة»
الشرح:
 صيغة الأمر لا "تدل على تكرار ولا مرة
(2)
".
(1)
في ب: استعماله.
(2)
هذه المسألة في بيان أن مقتضى الأمر العريّ عن القرائن المشعرة بالمرة، أو التكرار باعتبار التكرار والمرة، فنقول: اختلف الأصوليون في ذلك، فذهب طائفة إلى أن الأمر المجرد لا يدل على شيء منهما، وهو اختيار إمام الحرمين، وذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وجماعة من الفقهاء إلى أن الأمر المجرد للتكرار مدة العمر مع الإمكان.
ومنهم من قال: إنه للمرة الواحدة، ولا يحتمل التكرار، وهو اختيار أبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين، ومنهم من توقف في الكل إما لدعوى الاشتراك، أو لعدم العلم بالواقع. ينظر الشيرازي 297 ب/ خ، والمحصول 1/ 2/ 163، والإحكام للآمدي 2/ 143، والبرهان 1/ 224، والمنخول 108، والمستصفى 2/ 2، وشرح الكوكب 3/ 43، والمعتمد 1/ 108، وشرح العضد 2/ 81، والمسودة 20 - 21، ونهاية السول 2/ 274، وأصول السرخسي 1/ 20، وتيسير التحرير 1/ 350، وفواتح الرحموت 1/ 380، والوصول لابن برهان 1/ 141، ومفتاح الوصول 27، ومنتهى السول والأمل 92، وروضة الناظر 2/ 78، والمدخل ص 102، وفتح الغفار 1/ 36، والميزان 1/ 230.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإنما تفيد طلب الماهيّة من غير إِشْعَار بالوحدة والكثرة، ثم لا يمكن إدخال الماهيّة في الوجود بأقلّ من مرّة، فوقعت المرة ضرورية، وأراه رأي أكثر أصحابنا.
وإن صرح أحد منهم باقتضائه المَرّة، فهذا مراده، ويظهر لك بتأمّل كلامه.
واختاره الإمام وأتباعه، والآمدي.
قال المصنّف: وهو مختار الإمام.
وأنا أقول: اختلف القائلون بأنه لا يفيد التَّكْرَار.
فمنهم من قال: إنه لا يحتمله أصلًا.
ومنهم من قال: يحتمله، قال [قال]
(1)
ابن السَّمعاني: وهو الأولى.
وقال الإمام في "البرهان": إنه في الزائد على المَرّة متوقف لا ينفيه ولا يثبته.
وظاهر هذا أنه يحتمله؛ كما اختاره ابن السَّمْعَاني.
وقد يقال: إنه لا وجه له؛ لأن الطلب لماهية من غير إِشْعَار بوحدة أو كثرة، والمرة وقعت ضرورية، واللفظ ليس محتملًا لها فضلًا عن احتماله للتكرار.
والذي أراه: أن معنى توقفه في الزَّائد أن اللَّفظ من حيث دلالته على مُطْلق الماهيّة لا ينافيه شيء من قُيُودها، وإذا كان كذلك فلو بان بالآخرة التقييد بالتَّكْرار، أو عدمه، فاللَّفظ لا يَنْبُو عنه.
وليس مراده بالتوقف أن اللفظ محتمل؛ لأن يكون موضوعًا لخصوص التكرار، أو لا وإذًا فما ذكره فهو المذهب المختار.
ولعل المصنف لمح هذا، وأراد التنبيه عليه بقوله: وهو مختار الإمام، وإلا لم يكن لتخصيص الإمام من بين أكثر أصحابنا بالذّكر معنى.
وقال الأستاذ، والشيخ أبو حامد القَزَوِيني وغيرهما من أئمتنا: للتكرار مدّة العمر مع الإمكان.
ولا بد من قَيْدِ الإمكان لنخرج أزمنة ضروريات بالإنسان، وقد ذكره أبو إسحاق
(1)
سقط في أ، ت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الشِّيرازي، وإمام الحرمين، وابن الصَّباغ، والآمدي، وغيرهم.
[وأغرب]
(1)
ابن السَّمعاني حيث زاد عليهم فقال: يلزم أن يقتضى الأمر الفعل على الدوام إلا القدر الذي يتعذّر عليه، ويمنعه من قضاء حاجته، وهذا لا يقوله أحد. انتهى.
وهو صريح في أنه يستثنى شيء وراء الإمكان بالاتفاق.
وقال كثير: للمرة نصًّا، ولا تحتمل التَّكرار.
وقيل: تحتمله.
والقول بأنه للمرة، ما ذكره الشيخ أبو حامد الإِسْفِرَاييني في كتابه في "أصول الفقه"؛ أنه الذي يدل عليه كلام الشَّافعي في الفروع، وعليه أكثر الأصحاب، وهو الصَّحيح الأشبه بمذاهب العلماء، وكذا نقله الشَّيخ أبو إسحاق عن أكثر أصحابنا.
وأنا أقول: إن النَّقَلَة لهذا عن أصحابنا لا يفرقون بينه وبين الرَّأي المختار.
وليس غرضهم إلا نفي التَّكْرَار والخروج عن العُهْدَة بالمَرّة؛ ولذلك لم يحك أحد منهم المذهب المختار مع حكاية هذا، وإنما اقتصروا على هذا؛ لأنه عندهم هو نفس ذلك المذهب.
وقيل: بالوقف.
وهو رأي القاضي أبي بكر وجماعة الواقفية بمعنى أنه محتمل للمَرّة، ومحتمل لعدد محصور زائد على المرة والمرتين، ومحتمل للتَّكرار في جميع الأوقات، كذا صرّح به في "التقريب"، ثم ادّعى قيام الإجماع على انتفاء ما عدا التكرار والمَرَّة، فانحصر الوَقْف حينئذ في التكرار والمرة، ثم ادّعى الاتفاق على أن فعل المرة متفق عليه، وهو واضح، ثم قال تفريعًا على القوم بعدم الوَقْف: إن المفهوم فعل مرّة واحدة.
وقد حققنا لك مذهب القاضي من كلامه، فاطرح ما عداه من المحكى عنه.
ولقد قال المصنّف في "المختصر الكبير": مختار القاضي بناء على القَوْل بالصِّيغة الوَقْف بالزِّيَادة على المَرّة، ومفهوم هذا أنه إذا جرى على أسلوبه في الوَقْف كان متوقفًا في
(1)
في ب: وأعرب.
لَنَا: أَنَّ الْمَدْلُولَ طَلَبُ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ، وَالْمَرَّةُ وَالتَّكْرَارُ خَارِجِيٌّ؛ وَلِذَلِكَ يَبْرَأُ بِالْمَرَّةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ المَرَّةَ وَالتَّكرَارَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، كَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرٍ، وَلا دَلالَةَ لِلْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ.
المرة أيضًا، وهو صحيح بمعنى أنه لا يدري أنه هل هو موضوع للمرة، أو للتكرار، أو بمعنى أنه مشترك بين المرة والتكرار؟
فهذا ما ذكره الإمام في "المحصول"، وهو مع ذلك يقول: فعل المرة متفق عليه؛ إذ هي ثابتة سواء كان الوضع لها بمفردها، أم للتكرار التي هي بعضه.
ولذلك قال المَازِرِيّ: ذهب القاضي في جماعة الوَاقِفِيّة إلى الوَقْف فيما زاد على المَرّة الواحدة؛ لأن المرة الواحدة متفق على ثبوتها، ويستحيل ثبوت الأمر دونها. انتهى.
والغرض أنه لم يقل أحد: إن المَرّة لا تعقل لا من الوَاقِفِيّة، ولا [من]
(1)
غيرهم.
الشرح: "لنا: أن المدلول طلب حقيقة الفعل" - وهي المَصْدر - "فالمَرّة والتَّكْرَار" بالنسبة إليه "خارجي"، فيجب أن يحصل الامتثال بوجدان الحقيقة في [أيتهما]
(2)
وجد، ولا يتقيد بأحدهما دون الآخر؛ "ولذلك" - أي: ولأجل أن التكرار خارج عن مدلول الصِّيغة "تبرأ بالمَرّة".
وهذا عزاه ابنُ السَّمْعَاني إلى الأصحاب، وقال: ذكروا أن الطَّاعة والمعصية في الأوامر على مثال البِرِّ والحِنْث في الأيمان، ثم البِرّ والحِنْث في الأيمان يحصل بالفعل مرة، فكذا الطاعة والمعصية.
وقد اعترضه الشيخ الأصبهاني شارح "المحصول"؛ بأنه لا يلزم من عدم دلالة المصدر على ذلك عدم دلالة فعل الأمر عليه؛ وهذا لأن الأفعال تتميّز بخصوصها؛ كما أن الفعل الماضي دلّ على المصدر مع خصوص المعنى، وكذا المضارع، فلم قلتم: إن فعل الأمر لا يدلّ بخصوصه على زيادة على المصدر وهي التَّكرار؟.
وفيه نظر؛ لأن المرة والتَّكْرَار من صفات المصدر، وصيغة "افعل" لا تدلُّ على المصدر وإنما الذي يدلّ عليه حروفها، وهي الضَّاد والراء والباء في اضرب مثلًا.
(1)
سقط في أ، ب.
(2)
في أ، ب: أيهما.
الأُسْتَاذُ: تَكْرَارُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
[وَ] رُدَّ بِأَنَّ التَّكْرَارَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَعُورِضَ بِالْحَجِّ، قَالُوا: ثَبَتَ فِي "لَا تَصُمْ"؛ فَوَجَبَ فِي "صُمْ"؛ لأِنَّهُمَا طَلَبٌ.
رُدَّ: بِأنَّهُ قِيَاسٌ، وَبِالْفَرْقِ بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي النَّفْيَ، وَبِأَنَّ التَّكْرَارَ فِي الأَمْرِ مَانِعٌ مِنْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ النَّهْي.
قَالُوا: الأَمْرُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيُ يَعُمُّ؛ فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ.
وَرُدَّ: بِالمَنْعِ، وَبِأَنَّ اقْتِضَاءَ النَّهْيِ لِلْأَضْدَادِ دَائِمًا فَرْعٌ عَلَى تَكْرَارِ الأمْرِ.
ولهذا قالت النحاة: الفِعْلُ يدل على المصدر بنفسه، وعلى الزمان بصيغته، وإذا لم تدلّ الصيغة على المصدر لم تدل على صفته؛ لاستحالة الدّلالة على صفة الشَّيء دون الشيء.
"وأيضًا: فإنا قاطعون بأن المرّة والتَّكْرَار من صفات الفعل كالقليل والكثير، ولا دلالة للموصوف على" خصوص "الصِّفة"، فلا دلالة لقولنا: اضرب مثلًا على صفة للضرب من تَكْرار ومرة.
وهذا الدليل كالأول سواء.
الشرح: ودليل "الأستاذ" ومتابعيه أنه "تكرار الصَّوم والصَّلاة"، ولو أن الأمر للتَّكْرَار لما كان ذلك.
"ورد" أولًا "بأن التَّكرار من غيره" لا منه.
"وعورض ثانيًا بالحَجّ"؛ إذ لم يتكرر مع وجدان الأمر فيه.
"قالوا: ثبت في" النَّهي.
كقولنا: "لا تصم، فوجب" مثله "في صُم؛ لأنهما [طلب]
(1)
".
"ردّ بأنه قياس" والقياس في اللُّغة باطل.
"وبالفرق" إما "بأن النَّهي يقتضي النَّفي"؛ فإن الحقيقة إنما تنتفي بانتفائها في جميع
(1)
سقط في أ.
المَرَّةُ القَطْعُ بِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: "ادْخُلْ"، فَدَخَلَ مَرَّةً - امْتَثَلَ.
قُلْنَا: امْتَثَلَ؛ لِفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ لأِنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِهِ، لَا أَنَّ الأمْرَ ظَاهِرٌ فِيهَا وَلَا فِي التكْرَارِ. الْوَقْفُ. لَوْ ثَبَتَ
…
إِلَى آخِرِهِ.
الأوقات، والأمر يقتضى إثباتها، وهو يحصل بمرّة عند التَّحقيق، لا فرق بين اللأمر والنهي؛ لأن كلًا منهما يوجه نحو شيء هو في الأمر يتم بمرّة، وفي النَّهي لا يتم إلا بالدَّوَام.
وتخرج لك من هذا أنا لا نسلّم ثبوت التكْرَار في: "لا تصم"، وإنما التكرار جاء [في النهي]
(1)
من ضَرُورة تحقُق الامتثال في الانكفاف عن الحقيقة المأمور باجتنابها، وهذا هو الجواب المعتمد.
"و" أما "بأن التكرار في الأمر مانع من "فعل "غيره" من المأمورات، "بخلاف" التكرَار في "النهي"؛ إذ التروك تجتمع وتجامع كلّ فعل، بخلاف الأفعال.
قالوا: الأمر بالشيء نهي عن ضدّه، والنهي يعم، فيلزم التَّكْرَار في المأمور به.
رد أولًا: بالمنع.
وثانيًا: بأن اقتضاء النهي للأضداد، [وإنما]
(2)
فرع على تكرر الأمر؛ وذلك لأن النهي بحسب الأمر، فإذا كان أمرًا بالفعل دائمًا كان نهيًا عن أضداده دائمًا.
وإن كان أمرًا به في وقت كان نهيًا عن الأضداد في ذلك الوقت.
فإذن كون النهي الذي تضمنه الأمر للتكرار فرع كون الأمر للتكرار فإثباته به دور.
الشرح: ودليل قائل "المرّة القطع بأنه إذا قال: ادخل، فدخل مرّة امتثل.
قلنا: امتثل [لفعل]
(3)
ما أمر به؛ لأنها من ضروراته، لا أن الأمر" [داخل]
(4)
فيها، ولا في التكرار".
وقوله: ولا في التكرار يظهر في بَادِئ الرَّأي أنه مستغنى عنه، ويمكن أن يكون تنبيهًا على أنه لو أتى بالفِعْل وعدُّوه ممتثلًا، فليس لخصوص التكرار، بل لاشتماله على المأمور به كما في المرة.
(1)
سقط في ت.
(2)
في أ، ب: دائمًا.
(3)
في أ، ب: الفعل.
(4)
في ج: ظاهر.
" تَعْلِيقُ الأَمْرِ"
مَسْأَلَةٌ:
الأَمْرُ: إِذَا عُلِّقَ عَلَى عِلَّةٍ ثَابِتَةٍ،
وَجَبَ تَكَرُّرُهُ بَتَكَرُّرِهَا اتِّفَاقًا؛ لِلإجْمَاعِ عَلَى اتِّبَاعِ الْعِلَّةِ لَا لِلْأَمْرِ، فَإنْ عُلِّقَ عَلَى غَيْرِ عِلَّةٍ، فَالْمُخْتَارُ: لَا يَقْتَضِي.
لَنَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنْ دَخَلْتَ السُّوقَ فَاشْتَرِ كَذَا - عُدَّ مُمْتَثِلًا بِالْمَرَّةِ مُقْتَصِرًا.
ثم هذا الجواب يتأتى للقائلين بالمختار.
وأما القائلون بالتكرار فما أراهم يسلِّمون حصول امتثال الأمر بجملته وهو واضح على أصلهم، ولكنا لا نعرف خلافًا في مذهبنا فيمن قال: تزوج وأعتق، واشتر وطلق وبع، أنه يحصل الامتثال بمرة، بل لا تجوز الزيادة عليها، حتَّى لو ردّ البيع في الوِكَالَةِ بعَيْبٍ، أو أمره بشرط الخِيَار، فشرط ففسخ البيع لم يكن له البيع ثانيًا، جزم به الرافعي في الوكَالَةِ، ثم حكى فيه خلافًا فقيل: حكم المبيع قبل القَبْضِ وبعده.
وفي الرهن أيضًا قال: أشار الإمام إلى أن الوكيل لو باع، ثم فسخ البيع هل يتمكن من البيع مرة أخرى؟ فيه خلاف.
ولنا: خلاف مشهور فيما إذا قال لعبده: انكح، فنكح نكاحًا فاسدًا، هل له أن ينكح ثانيًا؟
ودليل قائل "الوَقْف": أنه "لو ثبت إلى آخره" - أي: لثبت بدليل، وهو إما عقلي، أو نقلي؛ كما تقدّم في المسألة قبلها وجوابه، ثم فرع إجابة المؤذن، هك تختص بالمؤذن الأول حتى لو سمع ثانيا، فلا يستحب إجابته؟
قد يقال: يتخرّج ذلك على أن الأمر يقتضي التكّرار، ومسألة تَكْرار الإجابة للأذان مختلف
(1)
فيها بين العلماء، ولا نقل فيها في المذهب.
"مسألة"
الشرح: "الأمر إذا علق عل علّة ثابتة"
(2)
- أي: ثبت كون الحكم معللًا، بها - وإنما
(1)
في حاشية ج: قوله: مختلف فيها صرح، قال علي الجلال بأنه لا يسن إلا إجابة مؤذن واحد.
(2)
هذه المسألة فرع على عدم اقتضاء الأمر للتكرار، ينظر: البرهان 1/ 260، واللمع (8)، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال: ثابتة؛ ليشير إلى أنه رب وصف لا يثبت كونه علّة، فإن الوصف في هذه المسألة يطلقه الأصوليون، ولا يريدون به العلَّة، بل أعم منها.
وقال أبو الحسين في "المعتمد"
(1)
: الصِّفة في هذا الموضع، ما علق بها الحكم من غير أن يتناوله لفظ تَعْلِيل، ولا لفظ شرط؛ مثل:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [سورة النساء: الآية 92]. انتهى.
فإذا كانت علّته تامّة "وجب تكرّره بتكررّها اتفاقًا".
وأنا أقول: المراد بالتكرار ها هنا؛ [أنه متى وجد الوصف وجد أصل الأمر ثم لا يتكرّر، فليس التكرر هنا]
(2)
هو التكرُّر المذكور في المسألة السابقة.
ومثاله: اجلد الزَّاني، فحيث زنى وجب جَلْده مرة، ولا يجوز مرة أخرى إلا بزنا آخر.
ومن هذا أقول: الأمر لا يقتضي التكرار، ولو علّق بعلّة ثابتة؛ لأني أريد بالتكرار هنا التكرار المراد في المسألة السابقة.
وما ادّعاه المصنّف من الاتفاق، سبقه إليه القاضي في "التقريب"، وابنُ السَّمعاني، [والجماعة]
(3)
.
والإمام في "المحصول" أطلق حكاية الخلاف فيه
(4)
.
ولعلّه نصب الخلاف مع من ينكر اقْتِضَاء تَرْتيب الحكم على الوصف للعلّية؛ إذ لا تتأتى المخالفة هنا إلّا منه.
واستند القائلون بالتَّكْرار "للإجماع" من القياسيين "على اتباع العفة لا للأمر.
فإن علق على غير علة" - والكلام فيه مع من يقول: إن مطلق الأمر لا يقتضي التَّكرار، "فالمختار لا يقتضي" أيضًا.
= وشرح الكوكب المنير 2/ 146، والإحكام للآمدي 2/ 149، والمعتمد 1/ 115، والتبصرة ص 47، والمحصول 1/ 2/ 178، والإبهاج 2/ 54، وأصول السرخسي 1/ 21، وشرح التنقيح ص 131، والمستصفى 2/ 4، والعدة 1/ 275.
(1)
ينظر المصادر السابقة.
(2)
سقط في ب.
(3)
في أ، ب، ج: وللجماعة.
(4)
ينظر مصادر المسألة السابقة.
قَالُوا: ثَبت ذَلِكَ فِي أَوَامِرِ الشَّرْعِ: {إِذَا قُمْتُمْ} [سورة المائدة: الآية 6]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [سورة النور: الآية 12] {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} [سورة المائدة: الآية 6].
قُلْنَا: فِي غَيْرِ الْعِلَّةِ؛ بِدَلِيل خَاصٍّ.
قَالُوا: تَكَرَّرَ؛ لِلْعِلَّةِ، فَالشَرْطُ أَوْلَى؛ لاِنْتِفَاءِ المَشْرُوطِ بِانْتِفَائِهِ.
قُلْنَا: الْعِلَّةُ مُقْتَضِيَةٌ مَعْلُولَهَا.
وصحّحه الشيخ أبو حامد، وأبو إسحاق الشِّيرَازي
(1)
، وغيرهما من أصحابنا.
وشرطه كما قال القاضي عبد الوَهّاب المالكي ألّا يكون معلّقًا بلفظ يقتضي التَّكْرار، وإلا فلا شبهة في أنه يتكرر.
وذلك مثل: كلما دخل زيد فاضربه فيتكرر، وذلك التَّكْرَار أيضًا ليس من لفظ الأمر كما عرفت.
وقيل: يقتضيه مطلقًا.
"لنا: القَطْع بأنه إذا قال" السيِّدُ لعبده: "إن دخلتَ السُّوق فاشْترِ كذا، عُدّ ممتثلًا بالمَرّة" في حال كونه "مقتصرًا" عليها.
الشرح: "قالوا: ثبت ذلك" أي: تكرر الفعل بتكرُّر المعلّق به "في أوامر الشرع"، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [سورة المائدة: الآية 6]، {"الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي" فَاجْلِدُوا} [سورة النور: الآية 2]، {"وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا" فَاطَّهَّرُوا} [سورة المائدة: الآية 6] فكذا في اللغة.
"قلنا": أما فيما تثبت علّيته كالزنا في الجنابة، فليس محلّ النزاع.
وأما "في غير العلّة" فإنه "بدليل خاص"، لا مجرد الأمر؛ ولذلك لم يتكرّر الحَجّ وإن علّق بالاستطاعة.
فإن قلت: عدم تكرّر الحَجّ [وإن علّق بالاستطاعة]
(2)
؛ إنما هو من قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟: "لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ"
(3)
.
(1)
ينظر المصادر السابقة.
(2)
سقط في أ، ب، ج.
(3)
أخرجه مسلم (2/ 975)، كتاب الحج: باب فرض الحج مرة في العمر (412/ 1337)، والنسائي (5/ 110)، كتاب المناسك: باب وجوب الحج، وأحمد (2/ 508)، من حديث أبي هريرة.
" عَلاقَةُ التَّعْلِيقِ بِالفَوْرِ"
مَسْأَلَةٌ:
الْقَائِلُونَ بِالتَّكرَارِ قَائِلُونَ بِالْفَوْرِ،
وَمَنْ قَالَ: المَرَّةُ تُبْرِيءُ:
قَالَ بَعْضُهُمْ: لِلْفَوْرِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: إِمَّا الْفَوْرُ أَوِ الْعَزْمُ.
وَقَالَ الإمَامُ: بِالْوَقْفِ لُغَةً، فَإنْ بَادَرَ امْتَثَلَ.
وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ، وَإنْ بَادَرَ.
وَعَنِ الشَّافِعِي رضي الله عنه: - مَا اخْتِيرَ فِي التَّكْرَارِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
لَنَا: مَا تَقَدَّمَ.
قلت: بل هذا الحديث دليلٌ على ما يدَّعيه؛ لأنه أضاف إيجاب التَّكرار في جواب السَّائل إلى قوله، فدلّ على أنه ليس من مجرّد الآية، ويوضحه أنَّ السَّائل عربي، فلو اقتضى المعلّق بشرط التَّكّرار بوضعه لما سأل.
"قالوا: تكرّر للعلّة، فالشرط أولى"، أن يتكرّر فيه؛ لأنه يلزم من انتفائه "انتفاء المشروط"، بخلاف العلّة، لجواز أن تخلفها علّة أخرى؛ كما سيجيء - إن شاء الله تعالى - في جواز التعليل بعلّتين.
"قلنا": إنما جاز التَّكرار في "العلّة،؛ لأنها "مقتضيةٌ معلولها"، بخلاف الشرط.
"مسألة"
الشرح: "القَائلون بالتَّكرار قائلون بَالْفَوْرِ"
(1)
؛ إذ هو من ضرورياته.
"ومن قال: المرة تبريء"؛ إما لأن اللفظ اقتضاها؛ وإما لأنها ضرورية لتحقّق الماهية المأمور بها.
(1)
والفور المبادرة إلى الامتثال، وهذه المسألة في أن الأمر المطلق هل يقتضي الفور أي وجوب تعجيل الفعل المأمور به أو التراخي أي جواز التأخر؛ لأنه يقتضي وجوب البدار لا وجوب التأخر على ما هو السابق إلى الفهم من العبارة التي ترجم بها المسألة، حتى لو فرض الامتثال =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"قال بعضهم": مطلق الأمر "للفور" - وهو رأي الحنفيّة، وجمهور المالكية.
وقال أبو الخَطاب الحنبلي
(1)
في "التمهيد": إنه الذي يقتضيه ظاهر مذهبهم.
واختاره من أصحابنا: أبو بكر الصَّيرفي، والقاضي أبو حامد المَرْوَزِي، وصاحب "التَّتمة" في كتاب "الزكاة".
"وقال القاضي: إما للفَوْر، وإما العَزْم".
وهذا على أصله في الموسّع، ونص في "التقريب" على بطلان القول بالوَقْفِ في هذا الموضع.
قال إمام الحرمين في "مختصره": وهو الأصح؛ إذ المصير إلى الوقف هنا يعود إلى خرق الإجماع، أو يلزم ضربًا من التناقض.
"وقال الإمام بالوَقْف لغة، فإن بَادَر امتثل، وإن لم يبادر فلا يقطع بخروجه عن العُهْدَةِ".
= على البدار لم يعتد به؛ لأنه ليس مذهبًا لأحد. ينظر: القطب الشيرازي على المختصر 300 ب/ خ وأبو إسحاق في اللمع ص 8، والبرهان 1/ 231 - 241، والمحصول 1/ 189/2، والمستصفى 2/ 9، والتبصرة ص 52، والمسودة ص 24، وإرشاد الفحول ص 59، وأصول السرخسي 1/ 26، والمعتمد 1/ 120، وجمع الجوامع 1/ 381، والمنخول ص 111، والمنتهى لابن الحاجب ص 68، الإبهاج 2/ 57، وروضة الناظر (105)، وتيسير التحرير 1/ 356، وفواتح الرحموت 1/ 387، والتمهيد للإسنوي ص 80، والإحكام للآمدي 2/ 153، ونهاية السول 2/ 287، وشرح التنقيح ص 128، والعدة لأبي يعلى 1/ 281، والقواعد والفوائد الأصولية ص 189، والتلويح على التوضيح 2/ 188 - 189، وشرح العضد 2/ 83، والمدخل ص 102 - 103، ومختصر البعلى ص (101).
(1)
محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني، وأبو الخطاب: إمام الحنبلية في عصره، أصله من "كلواذي"(من ضواحي بغداد) ومولده ووفاته بـ "بغداد" من كتبه "التمهيد" في أصول الفقه، و"الانتصار في المسائل الكبار"، و"الهداية"، فقه، وغيرها من الكتب. ولد سنة 432 هـ، وتوفي سنة 510 هـ.
انظر: اللباب 2/ 49، والنجوم الزاهرة 5/ 212، وطبقات الحنابلة 409، ومرآة الزمان 8/ 66، والأعلام 5/ 291.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وربما أفهم إطلاق المصنّف أنه إن لم يبادر لم يمتثل، وإيَّاه نقل الآمدي.
وليس كذلك، بل لا نقطع بالامتثال إذ ذاك، وإلَّا يلزم أن يكون هو [قول]
(1)
الفَوْر، وبما ذكرناه صرح في "البرهان".
"وقيل: بالوَقْف وإن بادر".
وصرح ابن الصَّباغ بأن قائل هذا لا يجوز فعله على الفور، وهو خلاف إجماع الأمة قبله؛ كما نقله غَيْرُ واحد.
"وعن الشافعي رضي الله عنه ما اختير في التَّكرار"، من أنه لا يقتضيه، ولا يدفعه، "وهو الصحيح".
والأصوليون يعثرون عنه بأنه يقتضي التراخي بمعنى أن التأخير جائز، وأن مدلول "افعل" - طلب الفعل فقط من غير تعرّض للوقت، لا بمعنى أن البدار لا يجوز على ما يقتضيه ظاهر عبارة التَّرَاخي، فإن هذا لم يذهب إليه أحد منهم.
ولذلك قال الشيخ أبو حامد: العبارة الفصيحة أن يقال: لا يقتضى الفور والتعجيل.
وقال إمام الحرمين
(2)
: إن قول التراخي هو الَّلائق بتعريفات الشَّافعي في الفقه، وإن لم يصرح به.
وقال ابن بَرْهَان: لم ينقل عن الشَّافعي، وأبي حنيفة نصٌّ، وإنما فروعهما تدل على ما نقل عنهما.
قلت: وصرّح باختيار التَّرَاخي من أصحابنا ابن أبي هريرة، وأبو بكر القَفّال، وابن خَيْرَان، وأبو علي الطبري صاحب "الإفصاح"
(3)
والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والشيخ أبو إسحاق، وابن السمعاني، والمغزالي، والإمام، وأتباعه، والآمدي، وإياه [نصر]
(4)
القاضي في "التقريب" على خلاف ما تقدَّم النقل عنه.
وهذه عبارته: والوجه عندي في ذلك القول بأنه على التَّرَاخي دون الْفَوْرِ، [والوقف]
(5)
انتهى.
(1)
سقط في أ، ج.
(2)
ينظر: البرهان 1/ 232.
(3)
في أ: إفصاح.
(4)
في ج: نص.
(5)
في أ: الوقت.
الْفَوْرُ: لَوْ قَالَ: "أسْقِنِي"، وَأَخَّرَ، عُدَّ عَاصِيًا.
قُلْنَا: لِلْقَرِينَةِ.
قَالُوا: كُلُّ مُخْبِرٍ أَوْ مُنْشِيءٍ، فَقَصْدُهُ الْحَاضِر، مِثْلُ:"زَيْدٌ قَائِمٌ"، "وَأَنْتِ طَالِقٌ".
رُدَّ: بِأَنَّهُ قِيَاسٌ، وَبِالْفَرْقِ بِأَنَّ فِي هَذَا اسْتِقْبَالًا قَطعًا.
قَالُوا: طَلَبٌ كَالنَّهْيِ، وَالآمْرُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَا.
قَالُوا: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [سورة الأعراف: الآية 12]؛ فَذُمَّ عَلَى تَرْكِ الْبِدَارِ.
قُلْنَا: لِقَوْلِهِ: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} [سورة الحجر: الآية 29].
قَالُوا: لَوْ كَانَ التَّأْخِيرُ مَشْرُوعًا، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ.
ثم أخذ يدل على فساد الوَقْف، والفور، [فأطنب]
(1)
في نُصْرة التراخي.
واتفق القائلون بالتَّرَاخي على نفي الإثم ما لم يغلب على الظَّن الفوات.
واختلفوا إذا مات والتَّأخير له سائغ اختلافًا ذكروه في كتاب الحَجّ وغيره، يعرف في موضعه، ولا يعترض ما ذكروه هنا؛ لأن التَّأثيم فيما إذا مات ولم يحجّ؛ لأنه أخرج المأمور عن جملة وقته، وهو العمر، فلم يفعل لا على الفور ولا التَّرَاخي، ولم يتبيّن لنا ذلك إلا بموته فعرفنا إثمه إذ ذاك.
ثم اضطرب رأي الفقهاء في وقت تأثيمه على ما هو معروف في الفِقْهِ.
واعلم أن الخلاف في مسألة الفور جار في الأمر المطلق، وإن كان أمر ندب نظرًا إلى أن الأمر هل يقتضي كون ذلك مندوبًا إليه عقيب الأمر فقط، أو يقتضي ذلك من غير تخصيص بوقت.
"لنا: ما تقدم" - في التَّكرار من أن المدلول طلب حقيقة الفعل، والفَوْر والتَّرَاخي خارجي، وأن الفور والتَّراخي من صفات الفعل، فلا دلالة له عليها.
(1)
في أ، ب، ج: وأطنب.
وَرُدَّ: بِأنَّهُ يَلْزَمُ لَوْ صُرِّحَ بِالْجَوَازِ، وَبِأنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ التَّأْخِيرُ مُعَيَّنًا.
وَأَمَّا فِي الجَوَازِ، فَلَا؛ لأِنَّهُ. مُتَمَكِّنٌ مِنَ الاِمْتِثَالِ.
قَالُوا: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا} [سورة آل عمران: الآية 133]، {فَاسْتَبِقُوا} [سورة البقرة: الآية 148]، قُلْنَا: مَحْمُولٌ عَلَى الأفْضَلِيَّةِ؛ وإلَّا لَمْ يَكُنْ مُسَارِعًا.
الشرح: "الفور: لو قال: اسْقني فأخَّر" - من غير عُذْر - "عُذ عاصيًا، - ولو لم يكن للفور لما عُدّ.
"قلنا": إنما ذلك "للقرينة"؛ فإن العادة للاستيفاء عند الحاجة، والكلام في الأمر المجرّد.
"قالوا: كلّ مخبر" بخبر مقتضاه الزَّمان الحاضر "أو منشئ" فقصده الزمان "الحاضر؛ مثل زيد قائم" في الخبر، "وأنت طالق" في إنشاء، وقائل:"افعل" منشئ، فليكن قصده الزمان الحاضر؛ إلحاقًا للمفرد بالأعم. الأغلب، وقياسا على الخبر المقصود به الزَّمان الحاضر؛ "مثل:"زيد قائم".
واعلم: أن المصنّف هنا ألحق المفرد بالأعم الأغلب في الإنشاء تبعًا للآمدي، وزاد عليه، فقاس على الخبر الخَاصّ، لا على مطلق الخبر؛ ولذلك مثل بـ "زيد قائم".
والشَّارحون [فهموا]
(1)
أنه قاس على مطلق الخبر، وليس كذلك، وأنى يتأتى له هذا، والخبر قد يكون عن ماض ولا يُشَابه ما نحن فيه ألبتة، وقد يكون عن مستقبل.
فإن قلت: فلم أطلق لفظ مخبر؟
قلت: لأن كلامه في الأمر المطلق المجرّد عن القرائن، [فلا]
(2)
يتأتى قياسًا إلَّا على الخبر المُطْلق دون المقيّد، والخبر المطلق هو الَّذي لا تعرض له للزمان، وما ذلك إلا [الجملة]
(3)
الاسمية في قولك: زيد قائم.
أما الفعلية نحو: قام زيد، فليست بمطلقة؛ لأن الفعل دالّ بنفسه على الزمان، فلم يكن الخبر مجردًا فيه عن القرائن.
(1)
في أ، ج: وهموا.
(2)
في أ، ب، ج: ولا.
(3)
في ج: لجملة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكذلك قولنا: يقوم زيد، فيه دلالة على المستقبل عند من يجعل الفعل المُضَارع مجردًا للاستقبال.
وهذا [أوجه]
(1)
أقوال النُّحَاة فيه.
[فالحاصل]
(2)
: أنه لا يتأتى له القياس على الفعل، لأنه متعرض للزمان بذاته، فهو ذو قَرِينَةٍ، ولا كلام في ذي القَرَائن، إنما الكلام في المُجَرّد، وهو اسم الفاعل فلم يقس إلا على اسم الفاعل.
أما الفعل فإنه إما ماض، أو مضارع، وفيهما قرينة المضي والاستقبال، أو فعل أمر، وهو المقيس.
وفيه النزاع فشبهه باسم الفاعل الذي لا تعلق له بالزمان، بل هو مجرد - وذلك من محاسن المصنّف - وإنما أداه إلى ذلك تضلعه بعلم [العربية]
(3)
.
فإن قلت: اسم الفاعل حقيقة في الحال، فهو إذًا قرينة تقتضي الحال.
قلت: هو بذاته لا يتعرض للزمان، وإنما هو موضوع للدلالة على قيام الصّفة بالفاعل، ثم إن إطلاق الصِّفة على مَنْ لم يقم به مجاز، فكان اسم الفاعل حقيقة في الحال لذلك، فاسم الفاعل لا يدلّ على الزمان بذاته، بل بالعرض من حيث اشتماله على الفِعْلِ، عكس الفعل فإنه يراد منه وُقُوع الفعل المعيّن في الحال والاستقبال؛ ولذلك اختلف هل هو حقيقة في الحال أو الاستقبال، أو مشترك؟
أعني: المضارع الذي يشابه ما نحن فيه. وأما كونه وصفًا للفاعل، فلم يوضع له الفعل حقيقة، وإنما ذلك بالعَرْضِ. هذا الدليل، فاعتمده [دون غيره]
(4)
.
وقد "ردّ بأنه قياس"، واللغة لا تثبت بالقياس.
"وبالفرق بأن في هذا" - أي: في الأمر - "استقبالًا قطعًا"؛ لأن الفعل لا يصدر من المأمور مقارنًا لقول الآمر: "افعل"، بل هو متراخٍ عنه جزمًا؛ ولهذا أجمع النُّحاة على أن صيغة افعل حقيقة في الاستقبال.
(1)
في أ، ب، ج: وجه.
(2)
في ج: والحاصل.
(3)
في أ، ج: القرينة.
(4)
سقط في أ، ب، ج.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما الإخبارات وسائر الإنشاءات التي يقصد بها الحاضر فلا استقبال فيهما قطعًا.
أما الإنشاء: مثل: أنت طالق؛ فلأنه لا يدل على الاستقبال، فتعيّن إرادة الحال منه، وأما الخبر: فهو إن دل على الاستقبال فدلالة مرجوحة؛ لما عرف من أن إطلاق اسم الفاعل على المستقبل مجاز؛ فلهذا حمل على حقيقته، وهو الحال، وحينئذ لا يُقَاس ما لا دلالة له على الاسْتقبال بوجه ما، وهو الإنشاء، أو ما لا دلالة مرجوحة وهو الخبر، بما وضع دالًّا على الاستقبال قطعًا، وهو الأمر.
ولقائل أن يقول: ليس المراد بالفَوْر إلَّا ما يتعقب الأمر، وإن كان [مستقلًا]
(1)
عنه وافعل وإن كان وضعها الاستقبال، والاستقبال حاصل وإن بادر المأمور عقب الأمر.
"قالوا: طلب كالنَّهي، والأمر نهي عن ضده، وقد تقدّما".
والجواب عنهما أيضا في مسألة التَّكرار.
قالوا: قال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [سورة الأعراف: الآية 12]، "قدم على ترك البدار" إلى الفعل، فدل على وجوبه.
"قلنا: لقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ" وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [سورة الحجر: الآية 29].
وتقرير فهم الفَوْر من هذه الآية أن العامل في "إذا" هو قوله: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} ، فيصير تقدير الآية حينئذ: فقعوا له ساجدين بتسويتي إياه، فوقتُ السجود حينئذ مضيق، فامتناع تأخيره عن خَبَرِ التسوية يستفاد من امتناع تأخير المظروف عن ظرفه الزماني لا من مجرد الأمر، فاعتمد على هذا التقرير، ولا تفهم الفَوْرِيّة من تَرْتيب السُّجود على ما ذكر من الأوصاف بالفاء، فإن ذلك إنما يتم لو كانت الفاء فيه للتَّعقيب.
وقد نصَّ النحويون على أن الفاء إذا وقعت جوابًا للشرط لا تقتضي تعقيبًا.
"قالوا: لو كان التأخير مشروعًا لوجب أن يكون إلى وقت معين" واللازمُ منتفٍ؛ إذ لا إشعار في الأمر به، ولا دليل من خارج.
وبيان المُلازمة: أنه لو لم يكن إلى وقت معين لكان إما إلى وقت أصلا وهو خلاف
(1)
في أ، ب، ج: مستقبلًا.
(2)
في ج: لا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الإجماع ويلزم منه ألا يكون الواجب واجبًا لأن التأخير لا إلى وقت يستلزم جواز ترك المأمور به، فلا يكون واجبًا، أو إلى وقت غير معيّن للمكلف، فلزم التكليف بالمحال؛ لأنه يكون مكلّفًا بالفعل.
"ورّد بأنه يلزم لو صرح بالجواز"، بأن يقول: افعل ولك التأخير؛ فإن هذا جائز إجماعًا، وما ذكر من الدَّليل جار فيه.
"وبأنه إنما يلزم لو كان التأخير متعينًا"، يعني: أن المكلف لا يجوز له الفعل في أوّل أزمنة الإمكان، فيجب تعريف وقته الذي يؤخر إليه، ويفعله فيه.
"أما في الجواز" - أي: إذا كان التأخير جائزا "فلا؛ لأنه متمكن من الامتثال" في سائر الأزمنة، فلا يلزم التكليف بالمحال.
قال أصحابنا: وقد أوجب الله - سبحانه - الوصيّةَ في ابتداء الإِسلام عند حضور الموت، ولا يعرف حضوره إلَّا بغَلَبَةِ الظّن، وقد [بنى]
(1)
الشَّرع إيجاب الوصيّة، كذا هنا.
"قالوا: قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا" إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة ال عمران: الآية 34]، أوجب المسارعة إلى المغفرة التي هي فعل الله تعالى، [ويستحيل]
(2)
المسارعة إلى فعل الغير، فوجب الحمل على المُسَارعة إلى أسباب المغفرة.
وامتثال الأوامر من أسباب المغفرة، فيجب المسارعة إليها، ومن جملتها فعل المأمور به، فيجب المُسَارعة إليه.
وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [سورة المائدة: الآية 48]، وفعل المأمور من الخيرات، فيجب الاستباق إليه، وإنما تتحقق المسارعة والاسْتِبَاقُ بالفَوْرِ.
"قلنا": ذلك "محمول على الأفضليّة"، لا على الوجوب، "وإلا" وجب الفَوْر، وإذا وجب "لم يكن مسارعًا" ومُسْتبقًا؛ لأنهما إنما يتصوّران في الموسّع دون المضيق.
ولا يقال له: [لمن]
(3)
قيل له: "صُمْ غدًا" - أنه سارع إليه واستبق إذا صامه.
وأيضًا: لو وجبت المسارعة والاستباق من الاثنين لم يكن من مجرد الأمر، وليس [ذلك]
(4)
مدعى الخصوم.
(1)
في ج: بين.
(2)
في أ، ج: مستحيل.
(3)
في ت: فمن.
(4)
في ج: كذلك.
الْقَاضِي: مَا تَقَدَّمَ فِي المُوَسَّعِ.
الإمَامُ: الطَّلبُ مُتَحَقِّقٌ، وَالتَّأْخِيرُ مَشْكُوكٌ؛ فَوَجَبَ البِدَارُ.
وَأَجِيبَ: بِأنَّهُ غَيْرُ مَشْكُوكٍ.
الشرح: وحجّة القاضي وجوابها ما تقدّم في "الواجب الموسّع".
الشرح: وحجّة "الإمام" أن "الطَّلب متحقّقٌ، والتَّأخير مشكوك فوجب البِدَار".
وأنا أقرر هذه العِبَارة على أن التأخير مشكوكٌ بالخروج فيه عن العهدة، فوجب كون البِدَارِ محققًا للخروج عنها، لا على أنه يجب البِدَار إلى الفِعْلِ؛ لأنا قدمنا عنه أنه لا يوجب البِدَار.
[ولو]
(1)
تركنا وظاهر كلام المصنف من إيجاب المُبَادرة، لم يطابق رأي الإمام.
"وأجيب بأنه غير مَشْكوك"؛ لأنّا [بَيّنا]
(2)
أن الصِّيغة موضوعة للقَدْر المشترك، فالأخصُّ منها هو البِدَار، وضدّه من مدلولها فمن أين الشك؟
ولك أن تقول: البِدَار وقع الاتفاق على أنه من مدلولها، بخلاف التأخير، وهذا المراد بالشَّكّ.
نعم الجواب أن هذا الشَّكّ يقتضي أن الاحتياط المبادرة، ونحن نقول بها، أما الوجوب فلا.
"فرع"
في اشتراط التعجيل في قَبُول الوِكالة،
خلاف ملتفت [على]
(3)
أن الأمر، هل يقتضي الفور؟ وذلك فيما إذا كانت الصِّيغة في "بع"، "واشتر"، ونحو ذلك لا في وكلتك مثلًا؛ إذ ليس فيه صيغة "افعل".
(1)
في ت: فلو.
(2)
في ب: تبينا.
(3)
في ج: إلى.
" هَلِ الأَمْرُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ
(1)
؟ "عَظِيمَةُ الإشْكَالِ مُتَشَعِّبَةُ الأَقْوَالِ"
مَسْأَلَةٌ:
اخْتِيَارُ الإمَامِ وَالْغَزَّالِيِّ رَحِمَهُمَا اللهُ: أَنَّ الأَمْرَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَلَا يَقْتَضِيهِ عَقْلًا.
وَقَالَ الْقَاضِي وَمُتَابِعُوهُ: نَهْيٌ عَنْ ضِدِّه، ثُمَّ قَالَ: يتَضَمَّنه، ثُمَّ اقْتَصَرَ قَوْمٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي: وَالنَّهْيُ كَذَلِكَ فِيهِمَا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْوُجُوبَ دُونَ النَّدْبِ.
"مسألة"
الشرح: "اختار الإمام والغَزَالي""أن الأمر بشيء معيّن ليس نهيًا عن ضده" الوجودي، "ولا يقتضيه عقلًا".
"وقال" شيخنا أبو الحسن، و "القاضي، ومتابعوه: نهي عن ضدّه".
وأطنب القاضي في نُصْرته في "التقريب"، ونقله عن جميع أهل الحق النَّافين لخلق القرآن، "ثم قال"
(2)
القاضي: "يتضمّنه".
(1)
هذه المسألة في أن الأمر بالشيء هل هو نهى عن ضده أي عما يمنع عن فعل المأمور به أم لا؟ اختلفوا فيه. ينظر: الشيرازي 306 خ، والمحصول 1/ 2/ 334، والبرهان 1/ 250 - 252، واللمع (11)، والتبصرة 189، والمنخول 114، والمستصفى 1/ 81، والإحكام للآمدي 2/ 159، وشرح الكوكب المنير 3/ 51، والمسودة ص (49)، وأصول السرخسي 1/ 94، وشرح تنقيح الفصول ص 35، والمعتمد 1/ 106، وجمع الجوامع 1/ 386، وتيسير التحرير 1/ 363، وفواتح الرحموت 1/ 97، والقواعد والفوائد الأصولية ص 183، والتمهيد للإسنوي 94 - 95، وشرح العضد 3/ 85، وكشف الأسرار 2/ 328، والتلويح على التوضيح 2/ 238 - 239، وإرشاد الفحول (101)، وروضة الناظر ص 25، والمدخل ص (102).
(2)
في حاشية ج: قوله: ثم قال القاضي: يتضمنه أي قال ذلك بعد قول الأول أي أنه عينه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كذا نقله المصنف تبعًا للآمدي، وهو مأخوذ من إمام الحرمين؛ فإنه ذكر أن القاضي مال إليه في آخر مصنفاته.
"ثم اقتصر قوم" على هذا في جانب الأمر، ولم يفعلوا في النهي مثله.
"وقال القاضي: والنهي كذلك فيهما" - أي: في الوجهين، فقال أولًا: النهي عن الشَّيء نفس الأمر بضدّه، وثانيًا بل يتضمّنه.
"ثُمّ منهم من خَصّ الوجوب" فجعله نهيًا عن الضّد، "دون النَّدب".
ومنهم: من عَمَّم القول في أمر الوجوب والندب، وجعلهما نهيًا عن الضِّد تحريمًا وتنزيهًا، وهو رأي، القاضي، نص عليه في "التقريب".
ونقل التخصيص عن بعض أهل الحَقّ، والقاضي عبد الوَهَّاب نقله عن الشيخ.
وقوله في الكتابِ: "بشيء معين"، لفظة لا بد منها، والمراد: الاحتراز بها عن الواجب الموسّع والمخير، فإن الأمر بهما ليس نهيًا عن الضّد؛ فالمسألة إذًا مقصورة على الواجب على [التعيين]
(1)
.
وبذلك صرّح الشّيخ أبو حامد الإِسفراييني، والقاضي في "التقريب"، وغيرهما.
ولنا فيه
(2)
بحث ذكرناه في "شرح المنهاج".
واعلم: أن الناس بين مُثْبت للكلام النفسي ونافٍ له.
والشيخ - سَقَي الله عهده صُبُوبَ الرحمة والرّضوان - مقدّم المثبتين، ومعه أهل السُّنة أجمعين.
وبين جاعل للأمر صيغة تخصّه ونافٍ لذلك.
والشيخ والقاضي سيِّدا النَّافين.
وتحقيق هذه المسألة أن الكلام فيها يَقَعُ على وجهين:
(1)
في ب: اليقين.
(2)
في حاشية ج: قوله: ولنا فيه بحث
…
إلخ لعلة أن الموسع والمخير لهما ضدان، وهما عدم الفعل رأسًا من الوقت في الأول وعدم فعل واحد في المخير فيه في الثاني، فلم لا يكون الأمر بهما نفيًا عن الضد؟ تأمل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أحدهما: النَّفْسَاني، فاختلف المثبتون له في أن الأمر بالشيء هل هو نفس النهي عن ضدّه، أو يتضمّنه، أو ليس هو ولا يتضمّنه؟
وثانيهما: اللِّسَاني، وفيه مذهبان فقط.
أحدهما: أن الأمر يتضمّن النهي عن الضّد.
والثَّاني: أنه لا يتضمّنه.
ولا يتمكن أحد هنا من أن يقول: إنه هو، فإن صيغة "تَحَرَّك" غير "لا تَسْكن" قطعًا. والشيخ والقاضي لم يتكلّما إلا في النَّفسي، وذكرا اتِّصاف الشَّيء بكونه أمرًا ونهيًا بمثابة اتِّصاف الكون الواحد بكونه قريبًا من شيء، بعيدًا عن غيره والإمام في "المحصول" اختار أن الأمر بالشيء يتضمن النهى عن ضدّه.
وأظنّه لم يتكلّم إلَّا في اللِّساني، أو عبر بالصيغة.
وهو رأي جماهير الفقهاء.
والقاضي عبد الجَبَّار، وأبو الحُسَين، وغيرهما من المعتزلة اختاروه، وهم لا يتكلّمون إلا في اللِّسَاني؛ إذ الأمر عند المعتزلة العبارة فقط.
وهنا موقف أنا ذاكره فأقول: قد يقال: إن كان الكلام في النَّفْسَاني بالنسبة إلى الله - تعالى - والله - تعالى - عليم بكل شيء وكلامه واحد، وهو أمر ونهي وخبر واحد بالذات متعدّد بالمتعلقات، وحينئذ فَأَمْر الله - تعالى -[غير]
(1)
نَهْيه، فكيف يتجه؟ فيه خلاف.
وقد أشار الغزالي إلى هذا فقال: طلب القيام، هل هو بعينه طلب ترك القعود؟ وهذا لا يمكن فرضه في حق الله تَعَالى؟؛ فإن كلامه واحد، وهو أمر ونهي، ووعد ووعيد، فلا تتطرّق الغيرية إليه، فليفرض في المخلوق، وهو أن طلبه للحركة هل هو بعينه كراهة [للسكون]
(2)
وطلب لتركه؟ انتهى.
وكذلك الأستاذ أبو نصر القُشَيْري، وقال: أما الأمر المخلوق؛ ففيه الخلافُ، وإن كان بالنسبة إلى المخلوق كما ذكر الغَزَالي وابن القُشَيري، فكيف يقال: إنه هو أو يتضمّنه مع احتمال ذهوله عن الضِّد مطلقًا؟
(1)
في ب: عين.
(2)
في أ: للسكوت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأنا أقول: ما ذكره الغَزَالي وابن القُشَيري غير معروف، ولنفصح [بسر]
(1)
القائلين بالنَّفسي، ثم نجيب عن هذا، فنقول: هو معنى عندهم ثابت في النفس، محسوس كالعلوم والقَدر، وقد علم أن العلم له تعلّق بمعلوم؛ كما أن القدرة لها تعلّق بمقدور، وكذلك الأمر الذي في النفس له تعلّق بمأمور به، [ويكون]
(2)
العلم له متعلّقان متلازمان لا يصح أن يعلم أحد المعلومين دون الآخر، فكذلك الأمر النفسي يمكن أيضًا أن يكون للأمر به متعلّقان متلازمان: أحدهما: اقتضى الإيقاع، والثاني: النهي عن الكَفِّ.
فمن قال: الأمر بالشّيء فهي، أجراه مجرى العلم المتعلّق بمتعلّقين متلازمين؛ كـ "يمين" وشمال، وفوق وتحت، فإنه يستحيل عنده أن يعلم الفوق ويجهل التحت، كذلك يستحيل أن يتعلق الأمر النفسي باقتضاء فعل، ولا يتعلق بالنهي عن تركه، ومن قال:[لا]
(3)
النهي، كما مال إليه القاضي آخرًا فهذا في تصور مذهبه إشكال.
وذكر إمام الحَرَمين
(4)
: أن هؤلاء لا يعنون بهذا الاقتضاء ما يعنونه المعتزلة، فإن الاقتضاء الَّذي ذهب إليه بعض المعتزلة راجع إلى فهم معنى من لفظ مُشْعِر.
وهذا لا يتأتى في كلام النفس، وإنما هؤلاء يعتقدون أن الأمر النفسي [يقارنه]
(5)
نَهْي نفسي أيضًا، فيكون وجود هذا القول النَّفسي الذي هو اقتضاء القيام، ويعبر عنه بـ "قم" - يتضمّن وجود قول آخر في النفس يعبر عنه بقولك: لا تقعد، ويكون هذا القول الذي يعبر عنه بـ "قم" - يتضمن القول الثاني، ويقارنه حتى لا يوجد أبدًا منفردًا عنه.
ويجري ذلك مجرى الحياة والعلم، فإن العلم إذا وجد اقتضى وجود الحياة.
وقد اعترض ابن الأنباري بأن ذلك إنما يجري مجرى الجوهر والعرض؛ إذ لا يمكن انفصالهما لا مجرى الحياة والعلم؛ لجواز وجود أحدهما دون الآخر، وهذ ما لا يصير إليه القاضي بحال؛ لأن أحد قوليه: اتّحاد الطلب.
وثانيهما: التعدد مع التلازم عقلًا، فلا يصح الانفصال بوجه، فهذا يشبه افتقار الجَوْهر إلى العرض وبالعكس.
(1)
في أ، ج: سر.
(2)
في ج: وكما أن.
(3)
سقط في أ، ب، ج.
(4)
ينظر: البرهان 1/ 251.
(5)
في أ، ب: مقارنة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلت: والإمام إنما أراد مُلازمة الحياة للعلم، وعبارته؛ كما تقتضي قيام العلم بالذوات قيام الحياة بها، والحياة لازمة للعلم، فلم يرد أن كلًّا منهما لازم للآخر.
فإن قلت: والتمسُّك بالجوهر والعرض أوضح؛ لتلازمهما معًا، بخلاف الحياة والعلم.
قلت: إنما يستقيم التمسُّك بالجوهر والعرض.
لو قلنا: النهي عن الشيء أمر بضدّه.
وكلامنا هنا في الأمر بالشيء، هل هو نهي عن ضده؟
فإذا استقر بنينا عليه عكسه.
وقد عرفت ما فيه من الخلاف، فالتمسُّك بلزوم الحياة للعلم أوضح، وإذا تقرر هذا علمت أن من أَثْبَتَ القول النَّفسي اتفقوا على إثبات متعلقين، واختلفوا في المتعلّق فمنهم من وحَّده، وهو قائل: إن الأمر نفس النهي عن الضّد.
ومنهم من ثناه، وجعل لكل متعلّق من هذين متعلقًا يتعلق به.
وانفرد الإمام والغَزَالي من بين أصحابنا، فنفيا التعدُّد في المتعلّق، والمتعلق به، وهما يوحِّدان المتعلّق والمتعلق به.
والقاضي آخرًا يثنيهما
(1)
جميعًا.
ومنهم من يثني المتعلّق به ويوحِّد المتعلّق، وهم جماهير أئمّتنا.
إذا عرفت هذا فنقول: قولكم: كلامه - تعالى - واحد فلا تتطرّق الغيرية إليه، فينبغي أن يكون نفس الأمر بالشَّيء نهيًا عن ضدّه بلا نَظَرٍ.
قلنا: ليس هو في ذاته واحد بلا شَكّ، ولكنه متعدّد بالمتعلّقات، وكلامنا في الغيرية بهذا المعنى، وإلَّا فكل أمر من قِبَل الله - تعالى - قد [عرف]
(2)
من قواعد أئمّتنا أنه بذاته عين النهي، والخبر، والاسْتِخْبار، وغير ذلك، فلم يكن لقولنا: الأمر بالشَّيء نَهْي عن ضدّه مَزِيَّة على قولنا: الأمر بالصّلاة خبر عن قصّة فرعون، ونهي عن الزنا إلى غير ذلك.
(1)
في أ، ح: يثبتهما.
(2)
في ب: عرفت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والخلاف في هذه المسألة إنما هو في أن المستفاد من الأمر ما هو؟ هل هو شيء واحد، أو متعدد؟
فشيخنا يقول: طلب الحركة هو نفس طلب انتفاء السّكون، فمن قام
(1)
بنفسه طلب الحركة، فالقيام بنفسه طلب انتفاء السكون، وهذا الشيء القائم في النفس متعلّقه في الخارج واحد؛ فإن انتفاء السُّكون هو نفس الحركة؛ إذ لا واسطة بينهما.
وقاضينا [آخذًا يقول]
(2)
طلب الحركة يتضمّن طلب انتفاء السُّكون، وليس هو هو.
وإمامنا يقول: ليس هو ولا يتضمنه.
وقال: من قال: الأمر هو النَّهي بعينه، فقوله عري عن التحصيل، فإن القول القائم.
بالنفس الذي يعبر عنه بـ "افعل" مغاير للذي يعبر عنه بـ "لا تفعل".
قال: ومن جحد هذا سقطت مُكَالمته، وعُدَّ مباهتًا.
وهذا حَيْدٌ عن الإنصاف، والقول بهذا يتوارثه فُحُول النُّظَّار خلفًا عن سَلَفٍ، أَفَتَرَاهم يستمرُّون على جَحْدِ الضروريات
(3)
والقوم لا يقولون هذا؟
وإنما يقولون: القول القائم بالنفس الذي هو "تحرك"[هو]
(4)
القول الذي هو "لا تسكن"، لا أنه القول الذي هو "لا تتحرّك".
وأمّا قولكم: وإن كان الكلام في المَخْلُوق، فكيف يقال: إنه هو أو يتضمّنه مع احتمال الذُّهول؛ فهي عُمْدة إمام الحرمين، ونحن نمنعها، ولا يجوز الذُّهول، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأنا إن خرجت في هذا المكان عن طريق الاختصار، فيقال: يقل له أن يكتب سواد الليل على بياض النهار.
(1)
في حاشية ج: قوله: فمن قام بنفسه
…
إلخ كيف هذا والحقيقتان متباينتان، فإن طلب الحركة طلب متعلق بالحركة، والنهي عن السكون طلب كف عن السكون، نعم القول بالتضمن قريب. تدبر.
(2)
في ب أخيرًا يقول.
(3)
في أ، ب، ج: الضرورات.
(4)
سقط في أ، ب، ج.
لَنَا: لَوْ كَانَ الآمْرُ نَهْيًا عَنِ الضِّدِّ، أَوْ يَتَضَمَّنُهُ - لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ تَعَقُّلِ الضِّدِّ وَالْكَفِّ عَنْهُ؛ لأَنَّهُ مَطْلُوبُ النَّهْيِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِالطَّلَبِ مَعَ الذُّهُولِ عَنْهُمَا.
وَاعْتُرِضَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ الضِّدُّ الْعَامّ، وَتَعَقُّلُهُ حَاصِلٌ؛ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ (1) لَمْ يَطْلُبْهُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ طَلَبَهُ فِي المُسْتقْبَلِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْكَفُّ وَاضِحٌ.
الشرح: "لنا: لو كان الأمر نهيًا عن الضِّدّ، أو يتضمّنه لم يحصل بدون تعقُّل الضد والكَفّ عنه" - أي: الكَفّ عن الضد - "مطلوب النهي"، ويمتنع أن يطلب المرء ما لا يشعر به، "ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما".
"واعترض بأن المراد: الضد العام، وتعقله حاصل".
وهذا اعتراض صحيح، ذكره طوائف وهو بالغ، فإنا نمنع الطلب مع الذهول عن الضِّد العام، وهو ما يمنع من ترك الفعل المأمور به، لا الضِّد من جهة التفصيل، فهنا ثلاثة أشياء:
أحدها: نفس الترَّك، وهو واقع ولا خلاف فيه.
والثاني: النَّهي عن ضدّ ما وجودي، وهو محل الخلاف.
ونحن نقول: إن الأمر يستحضره من هذه الحَيْثِيّة.
والثالث: استحضار ضدّ معين، ولا قائل به.
وزاد المصنّف فذكر لهذا المنع مستندًا لم يذكره الآمدي، فقال دالًّا على أن تعقُّله حامل؛ "لأنه" - أي: الشخص المأمور - "لو كان عليه" - أي: على الفعل متلبسًا به - "لم يطلبه الآمر منه؛ لأنه طلب الحاصل، فإذن إنما يطلبه إذا علم أنه متلبّس بضدّه، لا به وذلك يستلزم تعقل ضده.
"وأجيب بأنّ طلبه" للفعل من المأمور "في المستقبل"، فلا يمنع الالتباس به في الحال؛ فطلب منه أن يوجده في ثاني الحال؛ كما يوجده في الحال.
"ولو سلم فالكَفّ واضح" أن الآمر لا يتعقّله حالة الأمر؛ لأن تعقّله للضّد حينئذ إنما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هو من حيث أن ترك الضِّد شرط في امتثال ما أمر به، [إلا من حيث صحة]
(1)
[قصد]
(2)
الكَفّ عنه حتى يستلزم ذلك تعقل الكَفّ.
ومحلّ النزاع إنما هو الثاني، لا الأول، فإن النزاع في أن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده الوجودي؟ لا في أنه هل هو نهي عن تركه؟ فإن ذلك واقع بلا شك.
واعترض على الأول بأنه جواب عن المستند وهو غير مُرْضٍ عند أهل النظر، وقد جرى هذا للمصنّف غير مرّة، وفيه هذا النظر
(3)
.
وبأن طلب الفعل من المأمور؛ إمَّا أن يكون حالة تلبُّسه به، أو في المستقبل.
وأيًّا ما كان يلزم ألّا يكون متلبسًا به، وإلا يلزم تحصيل الحاصل؛ وهذا لأن المراد من قولنا: إن الأمر حالة الآمر بعلم أو بظن أن المأمور ليس متلبسًا بذلك الأمر، أي: في الوقت الذي طلب إيقاعه منه فيه، حالًا كان أو مستقبلًا؛ وهذا لأنه لو علم أو ظن أنه يدوم على ذلك الفِعْلِ في المستقبل، ثم طلب إيقاعه منه فيه - لزم تحصيل الحاصل أيضًا، وحينئذ فإذا طلب منه في المستقبل الفعل الذي هو متلبّس به في الحال وجب أن يعلم أو يظن أنه يكون في المستقبل متلبسًا بما يضادّ ذلك الفعل، وإلا لزم تحصيل الحاصل كما مَرّ.
وعلى الثاني بأنه مُقَابلة المَنعْ بالمنع، وهو غير مقبول عند الجَدَليين، وبأنا لا نسلّم أن تعقّل الآمر الكَفّ عن الضدّ شرط في كون أمره نهيًا عن الضِّدِّ أو مستلزمًا له، وإنما يلزم ذلك لو كان النَّهي عن الضِّد مقصودًا بالذات، وليس كذلك وإنما هو مقصود [بالعرض]
(4)
؛ وهذا لأن النهي عن الضِّد حينئذ ليس لأمر يرجع إلى الضِّد، وإنما ذلك لكون الإتيان بالضِّد وسيلةً إلى ترك الواجب، فلم قلتم: إن النهي عن الشيء بالعرض يستلزم تعقُّل الكَفّ عنه كما يستلزمه في النهي عنه؛ بالذات؟
وعند هذا نقول: الآن حَصْحَصَ الحق، والمختار عندنا في المسألة أن المأمور بشيء منهي عن جميع أضداده، وأنَّ الآمر
(5)
به ناهٍ عن الأضداد.
وقد نقل القاضي الإجماع على ذلك.
(1)
سقط في أ، ب.
(2)
في ب: قصد.
(3)
في ج: نظر.
(4)
في ج: القرض.
(5)
في حاشية ج: قف على أن الآمر بالشيء ناه عن ضده، وليس الأمر بالشيء نهيًا عن ضده.
الْقَاضِي: لَوْ لَمْ يَكُنْ إِيَّاه، لَكَانَ ضِدًّا أَوْ مِثْلًا أَوْ خِلَافًّا؛ لأَنَّهُمَا إِمَّا أَن يَتَسَاوَيَا فِي صِفَاتِ النَّفْسِ أَوْ لَا:
وقال أبو نصر القُشَيري: أَنَا لا أَشُك أن هذا ممنوع، ثم ذكر أن القاضي قال: إن منع ذلك مانع قِيل له هذا خَرْقُ ما عليه الكَافّة، مع أنا نُلْجِئُه إلى ما لا قِبل له به، فنقول: إذا ورد الأمر على الجَزْم بشيء، وهو مقيد بالفَوْرِ، وانتفى عنه سِمَةُ التخيير، فتحريم ضدّ الامتثال لا شَكّ فيه؛ إذ لو لم يجزم فما معنى وجوب الامتثال؟. انهى.
وأما أن الأمر بالشيء هل هو نهي؟ فلا سبيل إلى القول به مع تجويز عدم خُطُوره بالبال، وعلى تقدير الخطور، فليس الضِّدّ مقصودًا بذاته، وإنما هو ضروري دعا إليه تحقيق المأمور به، فليس كل ما كان ضروريًا للشيء يقال: إنه مدلول الشيء، ولا أن الشَّيء يتضمّنه، فمن أمر غيره بالقيام، كان التخلِّي عن أضداد القيام ممّا يقع ضرورة ليتحقق القيام، وليس ما يقع ضرورةً مندرجًا تحت الاقتضاء الَّذِي هو الأمر، ومن ضرورة الأمر بالشيء، العلم به والقدرة عليه والحياة.
ثم لا يُقَال: الأمر يتضمّن هذه الأشياء، بل لا بد [منها]
(1)
، فإن كان من يطلق أن الأمر يتضمن النَّهي يريد هذا المعنى، فهو مسلّم وقد توافقنا.
وإن كان يقول: من أمر غيره بالقيام فقد الْتَمَسَ منه التخلِّي عن الأضداد؛ كما استدعى منه القيام، وإلا لم يخطر الضِّدُّ بباله - فذلك محال.
[فهذا]
(2)
ما نرتضيه في المسألة.
وإياه ذكر الأستاذ أبو نَصْرٍ القشيري، وقال: هذا التَّحْقيق يجري في أن الآمر بالشيء ليس ناهيًا عن أضداده؛ لأن الآمر [بالقيام]
(3)
طالب له، وقد لا يخطر له ضدّه، فكيف يطلبه؟
قلت: وعلى تقدير الخُطُور، فليس هو المقصود بالذات كما عرفت.
الشرح: واحتج "القاضي" في كتاب "التقريب" على أن الأمر بالشيء نفس النهي عن ضدّه بأنه "لو لم يكن إياه لكان" غيرًا، وهذا واضح.
(1)
في أ، ج: منهما.
(2)
فذلك.
(3)
في أ، ب، ت: للقيام.
الثَّانِي: إِمَّا أَنْ يَتَنَافَيَا بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ لَا:
فَلَوْ كَانَا مِثْلَيْنِ أَوْ ضِدَّيْنِ، لَمْ يَجْتَمِعَا.
وَلَوْ كَانَا خِلافَيْنِ، لَجَازَ أَحَدُهُمَا مَعَ ضِدِّ الآخَرِ وَخِلافِهِ؛ لأِنَّهُ حُكْمُ الْخِلافَيْنِ، وَيَسْتَحِيلُ الآمْرُ مَعَ ضِدِّ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ الآمْرُ بِضِدِّهِ؛ لأِنَّهُمْ نَقِيضَانِ أَوْ تَكْلِيفٌ بِغَيْرِ الْمُمْكِنِ.
وَأُجِيبَ: إِنْ أَرَادَ بِطَلَبِ تَرْكِ ضِدِّهِ طَلَبَ الْكَفِّ مُنِعَ لَازِمُهُمَا عِنْدَه، فَقَدْ يَتَلَازَمُ الْخِلافَانِ؛ فَيَسْتَحِيلُ ذَلِكَ، وَقَدْ، يَكُونُ كُلٌ مِنْهُمَا ضِدَّ ضِدِّ الآخَرِ؛ كَالظَّنِّ وَالشَّكِّ فَإنَّهُمَا مَعًا ضِدُّ الْعِلْمِ.
وَإنْ أَرَادَ بِتَرْكِ ضِدِّهِ عَيْنَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ - رَجَعَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا فِي تَسْمِيَتِهِ تَرْكًا، ثُمَّ فِي تَسْمِيَةِ طَلَبِهِ نَهْيًا.
الْقَاضِي: أَيْضًا السُّكُونُ عَيْنُ تَرْكِ الْحَرَكَةِ، فَطَلَبُ الشُكُونِ طَلَبُ تَرْكِ الْحَرَكَةِ.
وَأُجِيبَ: بِمَا تَقَدَّمَ.
ولو كان غيرًا لكان "ضدًّا" له، "أو مثلًا، أو خلافًا". واللازم باطل.
وإلى بيان الملازمة أشار بقوله: "لأنهما" - أي: كل متغايرين - "إما أن يَتَسَاوَيَا في صفات النفس" - أي: في الذَّتيات - وهو تمام المَاهِيّه، والمعنى بصفات النفس ما "لا" يحتاج الوَصْف به إلى تعقل أمر زائد؛ كالإنسانية للإنسان، والحقيقة والوجود والنسبية له، بخلاف الحدوث والتحيُّز، فإن تساويا فيها [فمثلان]
(1)
كَسَوَادَيْن أو بَيَاضين.
"الثّاني": وهو ألّا يَتَسَاويا في صفات النفس، "إما أن يتنافيا بأنفسهما" - أي: يمتنع اجتماعهما في محل واحد بالنظر إلى ذاتهما فضدان كالسواد والبياض - "أو لا" فخلافان كالسَّوَاد والحَلاوة، وإلى انتفاء اللازم أشار بقوله:"فلو كانا مِثْلين أو ضدّين لم يجتمعا" في محل واحد؛ لاستحالة اجتماع المِثْلين والضِّدين، وهما يجتمعان؛ إذ جواز الأمر بالشَّيء والنهي عن ضدِّه معًا، ووقوعه ضروري.
والقاضي في "التقريب لم [يُعَرّج]
(2)
على استحالة اجتماع المِثْلين، بل علل بأنه كان
(1)
في أ، ج: فمثالان، وفي ب: فمتلازمان.
(2)
في ب: يشرح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يستغني عن الأمر به؛ لأنه ساد مَسَدّه.
ولعل هذا أوجه؛ لأن المعتزلة ينازعون في اسْتِحَالة اجتماع المثلين.
"ولو كانا خِلافَيْن لجاز أحدهما مع ضد الآخر، وخلافه" - أي: يجوز اجتماع كل منهما مع ضد الآخر ومع خلافه؛ "لأنه" - أي: لأن هذا - "حكم الخلافين"[أن]
(1)
كما يجتمع السواد، وهو خلاف الحلاوة مع الحموضة ومع الرائحة، فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضدّ النهي عن ضدّه، وهو الأمر بضده.
وإليه أشار بقوله: "ويستحيل الأمر مع ضد النهي عن ضده وهو الأمر بضده"، إما "لأنهما نقيضان"؛ إذ [يُعَدُّ] الأمر بفعل شيء، وبفعل ضده أمرًا متناقضًا؛ كما يعد خبر فعله، وفعل ضده. خبرًا متناقضًا، "أو "لأنه "تكليف بغير الممكن".
واعلم أن القاضي [أطلق]
(2)
الضّدين، وأراد بهما ما يَتَنَافيان لذاتيهما كما عرفته، وذلك أعم من الضِّدَّين بالمعنى المصطلح والنقيضين والعدم والملكة.
وبيان ذلك: أن المُتَنَافيين لذاتيهما؛ إما أن يكونا وُجُوديين بينهما غاية الخلاف، فهما الضَدَّان بالمعنى المُصْطلح كالسَّوَاد والبياض، أم لا يكونا وجوديين.
فإن كان
(3)
أحدهما وجوديًّا والآخر عدميًّا، فإن نظر إليهما بشرط وجود موضوع مستعد لذلك الأمر الوجودي، فهما العدم والملكة كالبَصَر والعَمَى، وإن نظر إليهما [لا]
(4)
بشرط وجود الموضوع المستعدّ للإيجاب فهما السَّلب والإِيجاب، وهو المعنى بالنَّقيضين كالإِنسانية واللإنسانية.
"وأجيب: بأن أراد" القاضي "بطلب ترك ضدّه" - حيث يقول: الأمر بالشيء "طلب" لترك الضد - طلب "الكَفّ" عن ضدّه "منع لازمهما عنده" - أي: يختار حينئذ أنهما خلافان، ويمنع لازم الخلافين عند القاضي، أو عند هذا التفسير، وهو اجتماع كل ضدّ مع ضد الآخر وخلافه.
(1)
سقط في أ، ب، ج.
(2)
في أ: طلق.
(3)
في حاشية ج: قف على الفرق بين الضدين والنقيضين والعدم والملكة.
(4)
في ب: إلا.
التَّضَمُّنُ: أَمْرُ الإيجَابِ: طَلَبُ فِعْلٍ يُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ اتّفَاقًا، ............
"فقد يتلازم الخلافان" كالعلّة مع معلولها المُسَاوي، "فيستحيل" فيهما "ذلك" - أي: جواز اجتماع أحدهما مع ضد الآخر؛ لأن اجتماع أَحَدِ المتلازمين مع الشيء لا يوجب اجتماع الآخر معه، فيلزم اجتماع كل مع ضدّه، وهو مُحَال.
"و "أيضًا: "قد يكون كل منهما" - أي: الخلافين - "ضدّ ضدّ الآخر كالظن والشَّك، فإنهما" خلافان، وهما "معًا ضدّ العلم"، فيكون كل منهما ضّد ضدّ الآخر، وإذا جاز ذلك، فلا يجب اجتماعه مع ضد الآخر.
"وإن أراد بترك ضدّه عين الفعل المأمور به" أي: فعل ضد ضدّه، أي: عين الفعل المأمور به؛ كما يشعر به استدلاله الثاني، "رجع النِّزاع لفظيًّا في تسميته" - أي: تسمية المأمور به "تركًا" لضدّه، "ثم في تسمية طلبه نهيًا".
قال في "المختصر الكبير" بعد هذا: ويكون حاصله أن له عبارة أخرى كالأُحْجِيَةِ؛ مثل: أخوك ابن أخت خالتك، وذلك شبه اللَّعِبِ.
والآمدي اقتصر على اختيار قِسْم الخلافين، ومنع لزوم عدم التَّلازم بينهما، كأنه جزم بإرادة القاضي الأوّل
(1)
.
واحتجّ "القاضي أيضًا" بأن "السكون عين ترك الحركة"؛ إذ البقاء في [الحيز]
(2)
الأول هو بعينه عدم الانتقال إلى الحيز الثاني، وإنما يختلف التعبير، "فطلب السكون
(3)
. طلب ترك الحركة".
"وأجيب بما تقدّم" من رجوع الخلاف لفظيًّا.
الشرح: "التّضمّن: أمر الإيجاب طلب فعل يذمّ على تركه اتفاقًا، ولا يُذَم
(1)
ينظر: الإحكام للآمدي 2/ 160.
(2)
في ب: الخبر.
(3)
في حاشية ج: قوله: - فطلب السكون
…
إلخ هذا إنما يتم في مثل الحركة والسكون مما يكون أحدهما عدمًا للآخر، بخلاف الأضاد الوجودية. سعد الدين. وفي كون السكون عدم الحركة نظر يعلم من حقيقة كل منهما. تدبر.
وَلا يُذَمُّ إِلَّا عَلَى فِعْلٍ وَهُوَ الْكَفُّ أَوِ الضِّدُّ فَيَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ.
وَأُجِيبَ: بأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنّهُ مِنْ مَعْقُوله لا بِدَلِيل خَارِجِيّ.
وَإنْ سُلِّمَ فَالذَّمُّ عَلَى أَنهُ. "لَمْ يَفْعَلْ"، لا عَلَى "فَعَلَ".
وَإنْ سُلِّمَ فَالنَّهْيُ: طَلَبُ كَفّ عَنْ فِعْلٍ لا عَنْ كَفٍّ، وَإلَّا أَدَّى إِلَى وُجُوبِ تَصَوُّرِ الْكَفِّ عَنِ الْكَفِّ لِكُل آمِرٍ؛ وَهُو بَاطِلٌ قَطْعًا.
قَالُوا: لا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِتَرْكِ ضِدِّهِ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ ضِدِّهِ، أَوْ نَفْيُهُ؛ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا، وَهُوَ مَعْنَي النَّهْي، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
[المكلّف]
(1)
إلا على فعل"؛ لأنه المقدور، "و" ما "هو "هنا إلا "الكَف" عن "الضِّدّ" وفعل الضد - أي: ضدّ المأمور به. وكلاهما ضدّ الفعل، والذم يحصل بأيهما كأن [يستلزم]
(2)
كل منهما [المنهي]
(3)
عنه.
"وأجيب بأنه مَبْنِي على أنه" - أي: الذم بالترك -["من]
(4)
معقوله" - أي: معقول الإيجاب فلا ينفك عنه تعقلًا، "لا بدليل خارجي".
وأما من يجوز الإيجاب، وهو الاقتضاء الجازم من غير حَظْرِ الذَّم بالترك على الثاني، وإن كان الذَّم لازمًا له في الواقع، فلا يلزم ذلك.
"وإن سلم" أنه من معقوله، "فالذَّم على أنه لم يفعل" المأمور به "لا على فعل".
"وإن سلم فالنهي طلب كَفّ عن فعل، لا عن كَفّ"؛ كما أنّ الأمر طلب فعل غير كَفّ، "وإلا" فلو بطلت هذه المُنُوع، وانتهض دليلكم "لأدّى إلى وجوب تصوّر الكَفّ عن الكف لكل أمر" بشيء؛ "وهو باطل قطعًا"؛ فإن الآمر بالشيء قد لا يخطر الكَفّ عن الكَفّ بباله.
ولقائل أن يقول على الأول: الذّم من معقوله بحكم أهل اللغة بعصيان تارك الأمر.
ولهذا التفات على أنّ اقتضاء صيغة "افعل" للوجوب، هل هو بالوضع أو الشَّرع أو العقل؟، وفيه خلاف قدمته.
(1)
سقط في ج.
(2)
في ج: فيستلزم.
(3)
في أ، ب، ج: النهي.
(4)
في أ: سر.
الطَّارِدُونَ: مُتَمَسَّكَا الْقَاضِي الْمُتَقَدِّمَانِ.
وَأَيْضًا: النَّهْيُ: طَلَبُ تَرْكِ فِعْل، وَالترْكُ: فِعْلُ الضدِّ؛ فَيَكُونُ أَمْرًا بِالضدِّ.
قُلْنَا: فَيَكُونُ الزِّنَا وَاجِبًا مِنْ حَيْثُ هُوَ تَرْكُ - لِوَاطٍ، [وَ] بِالْعَكْسِ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ قطعًا، وَبِأَنْ لا مُبَاحَ، وَبِأَنَّ النَّهْيَ طَلَبُ الْكَفِّ لا الضِّدِّ الْمُرَادِ.
فَإنْ قُلْتُمْ: فَالْكَفُّ فِعْل، فَيَكُونُ أمْرًا بِالضدِّ - رَجَعَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا؛ وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ النهي نَوْعًا مِنَ الآمْرِ؛ وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ: الآمْرُ طَلَبُ فِعْل لا كَفٍّ.
وعلى الثَّاني: أن المكلّف به في النهي إنما هو فعل، لا انتفاء فعل، خلافًا لأبي هَاشِمٍ على ما عرف.
وعلى الثالث: أن الكَفّ فعل، فلا يحسن قولكم: كفّ عن فعل لا عن كفّ؛ لأن الفعل أعم من الكف.
قولكم: يلزم تصوّر الكف عن الكف لكل أمر.
قلنا: إنما يلزم لو كان النَّهي عن الضّد مقصودًا بالذّات، لا بالعرض.
"قالوا: لا يتم الواجب إلا بترك ضدّه، وهو "إما "الكَف عن ضده أو نفيه" - أي: انتفاء ضده على اختلاف الرَّأيين في أن المكلف به في النهي ما هو؟ "فيكون" الكفّ عن الضد انتفاؤه "مطلوبًا، وهو معنى النهي، وقد تقدم" منع أن ما لا يتم الواجب إلا به من عقلي، أو عرفي - واجبٌ.
نعم هو لا بُدّ منه في الإتيان بالواجب، ولا يلزم من كونه لا بُدّ منه وقوعًا أن يرد عليه الوجوب.
الشرح: "الطَّاردون"
(1)
حكم الأمر في النَّهي؛ حيث قالوا: النَّهي أمر بالضد: لهم "ممسَّكا القاضِي المتقدمان"، وقد عرفا تقريرًا وجوابًا.
"وأيضًا: النهي: طلب ترك فعل، والترك فعل الضدِّ"، إما أنه فعل؛ فلأن الفعل هو المقدور، وإما أنه فعل الضِّدّ؛ فلأن غير الضِّدّ لا يكون تركًا له، وهو فعل أحد الأضداد، "فيكون" النَّهي، أمرًا بالضد".
(1)
أي: القائلين بأن النهي عن الشيء هو بعينه أمر بضده، كما أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده ....
الطَّارِدُونَ فِي التَّضَمُّنِ: لا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ بِالنَّهْى إلَّا بِأَحَدِ أَضْدَادَهِ كَالأمْرِ.
وَأُجِيبَ بِالإلْزَامِ الْفَظيعِ وَبِأَنْ لا مُبَاحَ.
"قلنا": أولًا، "فيكون" - أي: لو كان النَّهي أمرًا بالضِّد لكان "الزنا واجبًا من حيث هو ترك لِوَاط"؛ لأنه ضده، "وبالعكس وهو باطل قطعًا".
ولك أن تقول: لازم؛ لأن معنى قولنا: النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده، أي: مما ليس [نهيًا]
(1)
.
سلمنا: أن أيَّ ضدّ حصل يقع مأمورًا به، ولكن هذه الحَيْثِيةَ فقط، وأي عظيم في هذا، وهو لازم للقائل بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وأولى باللزوم له؛ لأنه يجعله نهيًا عن جميع الأضداد.
"و "ثانيًا: "بأن لا مباح" - أي: يستلزم انتفاء المباح بالنظر إلى ذاته، بل غايته أن كل مباح، فيلزمه ترك حرام، وينتفي بهذه الحَيْثِيَّة.
"و" نحن نلتزم ذلك، ونختاره على ما عرف في مسألة الكَعْبِى.
وثالثًا: "بأن النهي طلب الكف" - أي: الكَفّ هو المطلوب بالنهي - "لا الضِّد المراد"، أي: لا يلزم وجود ضدّ من الأضداد الجُزْئية الَّذي هو المراد، وفيه البحث.
"فإن قلتم: فالكَفّ فعلًا، محقق "فيكون" ضدًّا، فيحقق "أمرًا بالضّد رَجَعَ النزاع لفظيًا" حينئذ في تسمية الكَفّ فعلًا، ثم في تسمية طلبه أمرًا كما تقدّم.
"ولزم أن يكون النهي نوعًا من الأمر"، ولا قائل بذلك، فإنه قسيمه فكيف يكون نوعًا منه.
"ومن ثَمّ قيل الأمر: طلب فعل لا كَفّ"، ولو كان النَّهي نوعًا منه لما قيل: لا كَفّ.
فاعتمد هذا التقرير.
الشرح: "الطاردون في التضمّن" - أي: القائلون بأن النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده، كما قالوا: الأمر يتضمّن النَّهي احتجوا بأنه "لا يتمّ المطلوب بالنهي إلّا بأحد أضداده".
(1)
في ب، ج: منهيًّا.
وَالْفَارُّ مِنَ الطَّرْدِ إِمَّا لأَنَّ النَّهْيَ طَلَبُ نَفْي، وَإمَّا للإلْزَامِ الْفَظِيعِ، وَإمَّا لأَنَّ أَمْرَ الإيجَابِ يَسْتَلْزِمُ الذَّمَّ عَلَى التَّرْكِ، وَهُوَ فِعْلٌ، فَاسْتلزمَ؛ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالنَّهْيُ: طَلَبُ كَفَّ عَنْ فِعْلٍ؛ فَلَمْ يَسْتَلْزِمِ الآمْرَ؛ لأَنَّهُ طَلَبُ فِعْل لا كَفٍّ، وَإمَّا لإِبْطَالِ الْمُبَاحِ.
وتقريره: لو لم يتضمّن النهي الأمر لما وجب ما لا يتم الواجب إلا به؛ لأن المطلوب من النهي التلبُّس بالضدّ الذي هو الكَفّ، أو ضدّ أخصّ من الكف؛ لما مَرّ من أن المكلف به في النهي فعل، والكف والأخص منه ضدّان للنهي عنه جزمًا.
وإذا كان المكلف به أحدهما فهو المطلوب، فيكون النهي عن الشيء أمرًا بأحدهما، فلا يتمّ المطلوب من النهي إلا بأحدهما.
وقوله: "كالأمر" - يوهم أن هذا الدليل هنا [متقرّر]
(1)
؛ كما تقرر به في الأمر.
وليس كذلك؛ لأنه جعل الضدِّ في الأمر، إما الكَفّ، أو انتفاء الفعل، ولا يستقيم جعل الضد هنا انتفاء الفعل، فإنه لا تصحّ الملازمة حينئذ، إذ يكون النهي عن الشيء حينئذ أمرًا بضدّه؛ ولهذا جعل هذا من أَعْذَار الفَارّ من الطرد كما سيقول؛ وإما لأن النهي نفي.
"وأجيب بالإلزام الفظيع " - وهو وجوب الزِّنا؛ لكونه ترك اللِّواط مثلًا.
"وبألَّا مباح"، وقد عرفت ما فيهما.
الشرح: "الفَارّ من الطَّرْدِ إما" أن يكون فَرّ من ذلك، "لأن النهي طلب نفي "عنده - كما هو رأي أبي هاشم - فَلا يكون أمرًا بالضِّد؛ لتصوّر الإتيان به دونه، ولا كذلك الأمر؛ لأنه طلب فعل فلا يتصوّر إلا بالكَفّ عن ضدّه، أو بنفيه.
ولك أن تمنع أن النفي المحض لا يفتقر الإتيان به إلى فعل الضِّدّ؛ وهذا لأن المنهى عنه إن لم يكن له ضدّ فلا يكلّف به إلا على القول بتكليف المحال، وإن كان فلا نسلّم أن الإتيان بالنفي لا يفتقر إليه؛ وهذا لأن حالة عدم ذلك الفعل المَنْهِي عنه لا بد أن يكون متلبسًا فيها بضدّ من أضداده.
(1)
في أ، ب، ج: تقرر.
وَالْمُخَصِّصُ الْوُجُوبُ لِلْأَمْرَيْنِ الآخَرَيْنِ.
مَسْألَة:
الإجْزَاءُ:
الْامْتِثَال، فَالإتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ يُحَقِّقُهُ اتِّفَاقًا.
"وإما"[لأن]
(1)
يكون فَرّ "للإلزام [الفظيع]
(2)
"في أمر الزِّنا واللِّوَاط.
"وإما لأن أمر الإيجاب يستلزم الدم على الترك، وهو فعل [فاستلزم]
(3)
النَّهْي عن فعل ينافي المأمور به، وهو معنى الضد "كما تقدم".
"و "أما "النهي"، فهو "طلب كَفّ عن فعل"، فلم "يستلزم الأمر؛ لأنه طلب فعل لا كَفّ وإما لإبطال المباح" كما تقدم.
الشرح: "المخصّص الوجوب" - أي: الذين خصّصوا الحكم بأمر الوجوب دون الندب - استندوا "للأمرين الآخرين" أن أمر الإيجاب طلب فعل يذمّ على تركه، وإبطال المباح.
"فرع"
إذا قال: إن خالفت نهيي فأنتِ طالق، ثم قال: قومي فقعدت، ففي وقوع الطلاق خلاف، يستند إلى هذا الأصل، وإذا طلّق امرأته وهي حائض، استحب له مراجعتها على ما قال صلى الله عليه وسلم:"مُرْ عَبْدَ اللهِ فَلْيُرَاجِعْهَا"
(4)
.
قال الإمام: ولا نقول: ترك المُرَاجعة مكروه، ونازعه النوَوِيّ.
قلت: الإمام ماشٍ على أصله من أنّ المكروه ما ورد به نهي مخصوص، وأنّ الأمر بالشيء [ليس]
(5)
نهيًا عن ضده، ولا مستلزمًا.
"مسألة"
الشرح: "الإجزاء: الامتثال
(6)
، فالإتيان بالمأمور به على وجهه يحققه" - أي: يحقق
(1)
في أ، ج: إلّا.
(2)
في أ: الفضيع.
(3)
في أ، ب، ج: ما يستلزم.
(4)
أخرجه مالك في الموطأ 2/ 576، كتاب الطلاق: باب ما جاء في الإقرار (53)، والبخاري 9/ 258، كتاب الطلاق: باب قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} (5251)، ومسلم 2/ 1093، الموضع السابق (1/ 1471).
(5)
سقط في ب.
(6)
الإجزاء قد يفسر بالامتثال، وبإسقاط القضاء، فإن فسّر بالأول فلا خلاف في أن الإتيان =
وَقِيلَ: الإِجْزَاءُ: إِسْقَاطُ الْقَضَاءِ فَيَسْتَلْزِمُهُ.
وَقَال عَبْدُ الْجَبَّارِ: لا يَسْتَلْزِمُهُ.
الإجزاء - "اتفاقًا" من غير خلاف على هذا التفسير.
"قيل: الإجزاء: إسقاط القضاء، فيستلزمه".
"وقال" القاضي "عبد الجبّار: لا يستلزمه"
(1)
.
أي: اختلفوا على هذا التفسير في أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به، هل يستلزم سقوط القضاء؟
فقال المعظم: يستلزمه.
وذهب أبو هاشم، والقاضي عبد الجَبّار إلى أنه لا يستلزمه، بمعنى أنه لا يمتنع أن يقول الحكيم: افعل كذا، فإذا فعلت [كذا]
(2)
أديت الواجب، ويلزمك مع ذلك القضاء قال القاضي عبد الجَبّار في "العمد": وهذا هو معنى قولنا: إنه غير مُجْزئ، ولا نعني به أنه لم يمتثل، ولا أنه يجب القضاء فيه، ولا يكون وقع موقع الصحيح الذي لا يقضي، فقد أشار القاضي عبد الجَبّار إلى أنه لم يخالف في الإجزاء، بالتفسير الأول؛ كما ذكره المصنّف من الاتفاق، وإنما خالف فيه بالتفسير الثاني.
= بالمأمور به غلى وجهه - أي على الوجه الذي أمر به - يحققه أي يحققه الإجزاء بهذا التفسير على معنى أنه يدل على أن الآتي قد امتثل الأمر، وإن فسر بالتالي فالأكثر على أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يستلزمه أي يستلزم إسقاط القضاء، لا بمعنى أنه يمنع ورود أمر مجدد بعد خروج الوقت يفعل ما أمر به أولًا، فإن جوازه متفق عليه أيضًا، بل بمعنى أنه يمتنع ورود أمر مجدد بالإتيان بالفعل بعد الفراغ عنه على الوجه الَّذي أمر به متصفًا بصفة القضاء
…
ينظر: الشيرازي 310 أ/ خ، المحصول 1/ 2/ 414، والمعتمد 1/ 99، والمستصفى 2/ 212، والمنخول 117، والبرهان 1/ 256، والإحكام للآمدي 2/ 162، وشرح الكوكب 1/ 468، وسلم الوصول 1/ 101، وشرح العضد 2/ 91، وجمع الجوامع 1/ 103، وتيسير التحرير 2/ 38، وفواتح الرحموت 1/ 394، وميزان الأصول 1/ 252، واللمع (11)، والنفحات على شرح الورقات للحاوي (61)، والمدخل ص (103)، وإرشاد الفحول ص 105، والعدة 3008، وشرح تنقيح الفصول 133.
(1)
ينظر المصادر السابقة.
(2)
سقط في ب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وليس على الإطلاق كما يفهم من كلام المصنّف، بل بمعنى أن فعل المأمور به لا.
يمنع من الأمر بالقضاء على ما صرّح به في "العمد".
فحاصل ما يقوله: أنه لا يدل على الإجزاء، وإنما الإجزاء مستفاد من عدم دليل يدلّ على وجوب الإعادة، ولا خلاف بين عبد الجَبّار، وغيره في بَرَاءة الذِّمة عند الإتيان بالمأمور به.
وشَبَّه القَرَافي هذا الخلاف بالخلاف في مفهوم الشَّرْط؛ كقوله: إن دخلت الدار فأنتَ حرّ، فمن نفاه قال: عدم عتقه ما لم يأت بالمَشْروط المستفاد من المِلْك السابق، ومن أثبته قال: هو مُسْتَفاد من ذلك من مفهوم الشرط أيضًا.
وإذا عرفت هذا وضح لك أن الخلاف فيما نحن فيه لفظي؛ إذ الغرض أنه أتى بالمأمور به على وجهه، وإذا كان كذلك فلا خلاف في أنه يمكن أن يراد أمر ثانٍ بعبارة يوقعها المأمور على حسب ما أوقع الأولى؛ لأن هذا كاستئناف شرع وتعبد ثانٍ؛ إذ الأمر الأول لا تعلّق له بهذا الثاني؛ لأن محل النزاع إنما هو في أمر واحد [بعبارة]
(1)
واحدة غير متكرّرة.
وأما النزاع في تَسْمِيَةِ هذا الأمر الثاني قضاء للأول.
فالجمهور لا يسمّونه قضاء؛ كما عرفت أول الكتاب أن القضاء ما فعل بعد وقت الأداء استدراكًا لما سبق وجوبه، وهذا ليس كذلك؛ لما مَرّ أنه ممتثل بفعله الأول لما وجب عليه اتفاقًا.
وأبو هاشم وعبد الجَبّار يسميانه قضاء، فلا يعرفان القضاء حينئذ بهذا التعريف؛ الأنَّ القضاء حينئذ عندهما أعم منه، بل يجعلان ذلك أحد قسمي القضاء.
فقد تبيّن لك أن الخلاف في هذه المسألة لَفْظي.
وبه يندفع بناء من بنى عليه صلاة فاقد الطّهورين إذا تمكن من أحدهما، هل يعيدها قائلًا نفي الإعادة مستمد من أن المصلي - أوقع هذه الصلاة على الوجه المأمور به، [فليجز]
(2)
وإثباتها مستمد من أن الامتثال لا يقتضي الإجزاء، ووجه اندفاعه لائح مما قدمته.
(1)
في ب: بعبادة.
(2)
في أ: فلتجز.
لنَا: لَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْه، لَمْ يُعْلَمِ امْتِثَالٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَضَاءَ اسْتِدْرَاكٌ لِمَا فَاتَ مِنَ الأَدَاءِ، فَيَكُونُ تَحْصِيلًا لَلْحَاصِلِ.
وقد قال المصنف في "المختصر الكبير": إن أراد - يعني عبد الجَبّار - أنه لا يمتنع أن يراد أمر بعده بمثله فمسلَّم، ويرجع النزاع في تسميته قضاء، وإن أراد أنه لا يدلّ على سقوطه فساقط.
قلت: ومع سقوطه لفظي أيضًا؛ لأن القضاء الموصوف بالاستدراك، لا خلاف أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يدل على سقوطه؛ كما عرفت من كلام عبد الجَبَّار، وإنما الخلاف في القَضَاء، بمعنى أن فعل المأمور به على وجهه لا يمنع من الأمر بالقضاء، أي: من ورود أمر ثانٍ بمثل العبارة الأولى، ولا شَك أن هذا أمر ثانٍ [على ما عرفته، ولا خلاف في أن الإِتيان بالفعل الأول على نحو ما أمر به لا يدل على سقوط أمر ثانٍ]
(1)
بمثله، فيرجع النِّزَاع حينئذ إلى تسميته قضاء على ما عرفت.
الشرح: "لنا: لو لم يستلزمه لم يعلم امتثال" أبدًا، واللازم منتفٍ قطعًا واتفاقًا.
وبيان المُلازمة: أنه حينئذ يجوز أَنْ يأتى بالمأمور به، ولا يسقط عنه، بل يجب عليه فعله مرة أخرى قضاء، وكذلك القضاء إذا فعله لم يسقط كذلك.
ولقائل أن يقول: أليس يعنون بالقضاء الذي لو لم يكن الإتيان بالمأمور به على وجهه مستلزمًا لإسقاطه لزم عدم الامتثال إن عنيتم به القضاء الذي يجب استدراكًا لما فَاتَ.
فنقول: بموجب الدَّليل، ولا يتناول مَحَلّ النزاع؛ لما عرفت في صَدْرِ المسألة.
وإن عنيتم به القضاء بمعنى أن الإتيان بالمأمور به على وجهه لا يمنع من ورود أمر ثانٍ متّصف بِصِفَةِ القضاء، فلا نسلّم الملازمة؛ لما مَرّ أنه حينئذٍ يكون ممتثلًا للأمر الأول - وقد صرح به عبد الجَبّار - كما نقلناه عنه.
أو نقول: ماذا نعني بالامتثال الذي ليس بمعلوم؟
إن عنيت امتثال الأمر الأول فالملازمةُ ممنوعة؛ لما مَرّ من تصريح عبد الجَبَّار بامتثاله، وليس محل النزاع.
(1)
سقط في أ، ب.
قَالُوا: لَوْ كَانَ لَكَانَ الْمُصَلِّي بِظَنِّ الطَّهَارَةِ آثِمًا، أَوْ سَاقِطًا عَنْهُ الْقَضَاءُ إِذَا تَبيَّنَ الحَدَثُ.
وَأُجِيبَ: بِالسُّقُوطِ لِلْخِلافِ، وَبِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلُهُ بِأَمْرٍ آخَرَ عِنْدَ التَّبَيُّنِ، وَإتْمَامُ الْحَجِّ الْفَاسِدِ وَاضِحٌ.
وإن عنيت امتثال أمر ثانٍ بمثل الفعل الأول فالملازمة صدق، لكن نفي الَّلازم ممنوع، بل لا نزاعَ فيه، وإنما النزاع في تسميته قضاء.
["و" قال]
(1)
"أيضًا فإن القضاء استدراك لما فات من الأداء"، والفرض أنه جاء بالمأمور به على وجهه، ولم يثبت شيء حصل المطلوب بتمامه، "فيكون" الإتيان [به] استدراكًا، "تحصيلًا للحاصل".
ولـ "عبد الجَبَّار" أن يقول: ليس القضاء عبارة عن استدراك الفائت، بل ذلك أحد
قسمي القضاء؛ كما عرفت من مذهبه، وحينئذ فلا نسلّم أنّ ورود أمر ثانٍ بمثل الفعل الأول تحصيل للحاصل، والمنع واضح؛ لأن مثل الشيء مغاير لذلك الشيء، وقد مَرَّ الاتِّفَاق على جواز ذلك، وإنما النزاع في تسميته قضاء.
الشرح: "قالوا: لو كان" مسقطًا للقضاء لكان "المصلي يظن الطَّهارة" إمَّا "آثمًا أو ساقطًا عنه القضاء إذا تبيّن الحدث"، واللازمُ منتفٍ بالاتفاق.
وبيان المُلازمة: أنه إن كان مأمورًا بصلاة بيقين الطهَارة، فيكون لم يأت بما أمر به فيأثم، وإن أمر بصلاة بظن الطهارة، فقد أتى بها على وجهها، والمفروض أنه يسقط القضاء، فكان ساقطًا عنه.
"وأجيب بالسّقوط للخلاف" - أي: بمنع انتفاء اللازم، ونقول بأحد شِقّيه، وهو سقوط القضاء عنه، فلا يصلّى مثلها؛ لأن المسألة مختلف فيها.
وعبارة الآمدي: لا نسلّم وجوب القضاء على قولنا.
وأنا لا أحفظ هذا القول عن أحد، ولعلّ الوَهْم سري إليه من اختلاف قول الشَّافعي في الذي يتيقّن الخطأ في القِبْلَةِ بعد ما صلّى بالاجتهاد، هل يلزمه الإعادة؟
(1)
في أ: ولنا.
" مَدْلُولُ صِيغَةِ الأَمْرِ بَعْدَ الحَظْرِ"
(1)
مَسْالَةٌ:
صِيغَةُ الأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ للإِبَاحَةِ؛ عَلَى الأَكْثَر.
قال: "وبأن الواجب" إذا تبيّن الحدث ليس عين الأول، بل "مثله بأمر آخر" غير الأمر الأول عرف "عند التبيّن"، وهذا الجواب ذكره الغَزَالي وغيره.
وأنت بعد إحاطتك بما قَدَّمنا تعرف أن هذا الدليل مع جوابه منصوبان لا في محلّ النزاع، ثم أشار المصنّف إلى جوابه عن سؤال مقدّر، فقال:"وإتمام الحج الفاسد واضح".
وتقريره: لو كان الإتيان بالمأمور به على وجهه مسقطًا [للقضاء]
(2)
- لما وجب القضاء على من أفسد حجّه، واللازم منتفٍ، ووجه المُلازمة أن من أفسد حجّه مأمور بالتمادي عليه، فإذا تَمَادى فقد امتثل بما أمر به على وجهه، فليستلزم ذلك إسقاط القضاء.
وجوابه: واضح كما ذكر؛ لأن الأمر بإتمام الفاسد، أمر ثانٍ غير الأول، ولم يؤمر حينئذ بقضاء هذا التَّمادي المأمور به ثانيًا، وإنما أمر بقضاء ما أمر به أولًا؛ لأنه لم يوقعه على الوجْهِ الذي أمر به.
وقد مَرّ في صدر المَسْالة أنّ هذا ليس في محل النزاع، فجوابه في غاية الإيضاح.
"مسألة"
الشرح: "صيغة""الأمر"، أسلفنا أنها للوجوب، وذلك عند التجرّد عن القرائن، فإذا
(1)
هذه المسألة في حكم الأمر بعد الحظر، وقد اختلف القائلون بأن صيغة الأمر قبل الحظر للوجوب فيما إذا وردت بعد الحظر، فمنهم من أجراها على الوجوب، ولم يجعل لسبق الحظر تأثيرًا كالمعتزلة، ومنهم من قال: إنها للإباحة، ورفع الحجر لا غير، وهم الأكثرون من الفقهاء، ومنهم من توقف كإمام الحرمين. ينظر: الشيرازي 312 أ/ خ، البرهان 1/ 263، والمعتمد 1/ 82، والمحصول 1/ 2/ 159، والتبصرة (38)، والعدة 1/ 256، والمستصفى 1/ 68، والمنخول (131)، والإحكام للآمدي 2/ 165، واللمع (8)، وشرح الكوكب المنير 3/ 56، وجمع الجوامع 1/ 378، وشرح العضد 2/ 91، وروضة الناظر (102)، والمنتهى لابن الحاجب (71)، والمسودة (16)، والإبهاج 2/ 42، وكشف الأسرار 1/ 120، وتيسير التحرير 2/ 345، وفواتح الرحموت 1/ 379، وأصول السرخسي 1/ 19، والقواعد والفوائد ص 165، والتقرير والتحبير 1/ 308، وميزان الأصول 1/ 228.
(2)
في أ: قضاء.
لنَا: غَلَبَتُهَا شَرْعًا، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10].
قَالُوا: لَوْ كَانَ مَانِعًا لَمُنِعَ مِنَ التَّصْرِيحِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ التَّصْرِيحَ قَدْ يَكُونُ بِخِلافِ الظَّاهِرِ.
وردت "بعد الحَظْرِ" فهي للإباحة" "عند الأكثر"، وتقدم الحَظْر قرينة اقتضت ذلك، وهو المنقول عن الشَّافعي رضي الله عنه.
ونقله [الجلابي]
(1)
عن أصحابنا جميعًا.
وقيل: باقية على اقتضائها الوجووب - وهو رأي القاضي أبي الطيب الطبري، وأبي إِسْحَاق الشيرازي، وأبي المُظَفَّر بن السَّمْعَاني، والإمام، وغيرهم من أصحابنا. وبه قال تفريعًا على القول بالصيغ، وتوقف إمام الحرمين.
"لنا [غلبتها] "
(2)
- أي: [غلبة]
(3)
استعمال الصيغة بعد الحظر "شرعًا" - في الإباحة شرعًا دليل أنها العرف الشرعي فيقدم على الوجوب الذي هو مدلولها لغة؛ لأن الشرعي يقدم على اللغوي.
ودليل [غلبتها]
(4)
شرعًا آياتٌ وآثارٌ كثيرة؛ مثل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10].
ومثل: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ} [البقرة: 222].
وقوله عليه السلام: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ الأَضَاحِي فكُلُوا وَادَّخِرُوا"
(5)
، [وأمثلة]
(6)
تكثر.
(1)
في أ، ج: الخلاني.
(2)
في أ: عليتها.
(3)
في أ: علية.
(4)
في أ: عليتها.
(5)
أخرجه مسلم 3/ 1562 في كتاب الضحايا: باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث (29/ 1972)، وأخرجه مالك في الموطأ 2/ 484 في الضحايا: باب ادخار لحوم الأضاحي (6).
(6)
في ب: وأمثلته.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولقائل أن يقول: تقدم الحَظْر لا يصلح معارضًا لحمل الصيغة على موضوعها؛ ولهذا يصح حمل الصيغة بعده على الوجوب.
وأيضًا لو كان معارضًا للزم التَّعَارض بين المقتضي والمانع والأصل عدمه.
قولكم: عرف الشرع.
قلنا: لا نسلّم، بل العرف مختلفٌ فيه شرعًا.
قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
وقال عليه السلام: "فَإِذَا أَدْبَرَتِ الحَيْضَةُ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي"
(1)
، وأمثلته أيضًا تكثر.
وإذا اختلفت العادة وجب الرُّجوع إلى نفس اللفظ.
قال ابن السَّمعاني: ألا ترى أن لفظ الإيجاب كذلك، وهو قول القائل:"أوجبت"، أو "ألزمت"، لا فرق بين وروده ابتداء أو بعد حظر، كذلك لفظ الأمر.
"قالوا: لو كان" تقدّم الحَظْر "مانعًا" من ظهور الصِّيغة في الوجوب - "المنع من التصريح" بكونها للوجوب، واللازم منتف.
أما الملازمة فقياسًا للصريح على الظاهر.
وأمّا انتفاء اللَّازم فللإجماع على جَوَاز التَّصْريح بالوجوب بعد الحَظْر بأن يقول الشارع: كذا أفعل واجبًا، أويقول: افعل وأنا مزيدٌ بهذه الصِّيغة الوجوب.
وقرَّر الشارحون: جواز التَّصْريح بقول الشَارع مثلًا: أوجبت عليك، وقد قَدَّمنا نحوه عن ابن السَّمعاني.
وفيه نظر؛ لأن النزاع إنما هو في صيغة "افعل" التي مِنْ مواردها الإباحة مجازًا على المختار، وحقيقة عند قوم.
(1)
أخرجه البخاري (1/ 331 - 332) كتاب الوضوء: باب غسل الدم رقم (228)، ومسلم - (1/ 262) كتاب الحيض: باب المستحاضة وغسلها وصلاتها (62/ 333) وأبو داود (1/ 74) رقم (282، 283)، والترمذي (1/ 217 - 218) رقم (125).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما نحو: "أوجبت عليك" فهو للوجوب تقدّمه حظر، أم لم يتقدمه؛ لأن مثله لا يستعمل في الإباحة بوجه، وهذا لا خلاف فيه، وقد قدّمته عن ابن السَّمْعاني، وأشار إليه الغزالي.
[قال]
(1)
: "وأجيب بأن التصريح قد يكون بخلاف الظاهر" - أي: يمنع الملازمة، فإن قيام الدَّليل الظاهر على معنى، لا يمنع التَّصْريح بخلافه، ويكون التَّصريح حينئذ دليلًا على أن الظاهر من الصِّيغة غير مراد.
ومن فروع الأمر بعد الحَظْر الكتابة، ورد الأمر بها بعد الحَظْر، فإن السيد يمتنع أن يعامل عبده، وهي مستحبّة.
وحكى صاحب "التقريب" قولًا: أنها واجبةٌ إذا طلب العبد.
والنظر إلى المخطوبة بعد العَزْمِ على نكاحها مستحب.
وفي وجه. مباح مجرّد.
ولم يقل أحد من أصحابنا بالوجوب مع ورود الأمر به في قوله عليه السلام للمغيرة: "انْظُرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤدَمَ بَيْنَكُمَا"
(2)
وهو وارد بعد الحظر في تحريم النَّظر إلى الأَجْنَبِيَّة.
وقالت الظاهرية بالوجوب.
وإذا قال لعبده: اتَّجر صار مأذونًا، ويجب عليه امتثال أمر سيّده، وهو أمر وارد بعد حَظْر، وهو الحجر على العَبْدِ في التَّصرف في مال سَيّده.
(1)
في ب: فقال.
(2)
أخرجه الترمذي 3/ 397، كتاب النكاح: باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة (1087)، والنسائي 6/ 69، 70، كتاب النكاح: باب إباحة النظر قبل التزويج، وابن ماجة 1/ 599، كتاب النكاح: باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها (1865)، وأحمد في المسند 4/ 246، والدارمي 2/ 134، كتاب النكاح: باب الرخص في النظر للمرأة عند الخطبة، وابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص 303، كتاب النكاح: باب النظر إلى من يريد أن يتزوجها (1236)، والحاكم 2/ 165، ووافقه الذهبي، وعبد الرزاق في المصنف 6/ 156، وابن أبي شيبة 4/ 355، وابن الجارود في المنتفى (675)، والدارقطني 2/ 252، والطحاوي في شرح الآثار 3/ 14، والبيهقي 7/ 84.
هَلِ القَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ؟
مَسْأَلَةٌ:
الْقَضَاءُ؛ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ،
وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْأَوَّلِ.
لنَا: لَوْ وَجَبَ بِهِ لاقْتَضَاهُ وَصُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ. لا يَقْتَضِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَأَيْضًا: لَوِ اقْتَضَاهُ لَكانَ أَدَاءً، وَلَكَانَا سَوَاءً؛ حَتَّى لا يَأثَمَ بِالاقْتِصَارِ عَلَى الثاني.
"فائدة"
صَرَّحَ الإمام الرازي بأن حكم الأمر الوارد بعد الاستئذان حكمه بعد التحريم حتى يجري فيه الخلاف، فاستفده، وسنذكر فيه قولًا بليغًا - إن شاء الله تعالى.
"مسألة"
الشرح: "القضاء" - أي: قضاء العبادة المؤقتة إذا فاتت ولم تفعل في وقتها - "بأمر جديد" عند جماعة من المحققين من أصحابنا
(1)
، ومن الحنفية، والمالكية ومنهم المصنف.
"و" عند "بعض الفقهاء بالأول"، وعليه أبو بكر الرَّازي من الحَنَفِيّة، وأبو إسحاق الشِّيرَازي وغيره من الشِّافعية، والحَنَابلة، والقَاضي عبد الجَبَّار؛ وأبو الحسين البَصْري
(2)
.
(1)
هذه المسألة في أن القضاء هل هو بأمر مجدد أم لا؛ والمراد أن الأمر إذا ورد بعبادة في وقت مقدر فلم يفعل فيه لعذر أو لغير عذر أو يغلب على نوع من الخلل، فوجوب قضائها بعد ذلك الوقت، هل هو بالأمر الأول أو بأمر آخر مجدد. ينظر: الشيرازي 312 أ/ خ المحصول 1/ 2/ 420، والمعتمد 1/ 144، والبرهان 1/ 265، وشرح العضد 2/ 92، والمستصفى 2/ 11، والمنخول (120)، وجمع الجوامع 1/ 382، واللمع (9)، والإحكام للآمدي 2/ 166، وكشف الأسرار 1/ 138، وتيسير التحرير 2/ 200، وفواتح الرحموت 1/ 88، وأصول السرخسي 1/ 46، وميزان الأصول 1/ 340، ومفتاح الوصول (32)، والمغنى للقاضي عبد الجبار 17/ 121 التمهيد للإسنوي (68)، والوصول لابن برهان 1/ 155.
(2)
هذا مخالف لما صرح به القاضي عبد الجبار في المغنى 17/ 121 وأبو الحسين البصري في المعتمد 1/ 144، وقال الشيرازي في اللمع (9)، والتبصرة (64): "فإن فات الوقت الذي علق عليه العبادة فلم يفعل فهل يجب القضاء أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا: منهم من قال=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومعنى هذا الخلاف: أنه هل يستفاد من الأمر ضمنا الأمر بالقضاء؟ أي: يستلزم ذلك كما يستفاد منه جميع الفَوَائد الضِّمنية أو لا يستفاد؟
وهؤلاء يقولون: يستفاد والخطاب الأول - اقتضى إيجاب الأداء، واقتضى تضمنًا القضاء إذا أخذ المكلّف بالعبادة إما بأصلها أو بشرطها؛ ولذلك نجد الفرق بين استفادة القضاء وما أمر به ابتداء، بخلاف أمرين مبتدأين، ولا يزعمون أن الأول دل عليه مطابقة بل تضمنًا.
وأولئك يقولون: لا يستفاد منه ذلك بوجه.
وقد زعم الأصفهاني شارح "المحصول" أن الذَّاهبين إلى أن القَضَاء بالأمر الأول يقولون: إنه يدل عليه مطابقة، وإن هذا هو محلّ الخلاف.
وهو وهم، والصَّواب ما ذكرناه.
وهو ما ذكره المَازرِيّ.
وهذا في العبادة المؤقتة كما ذكرناه.
وأما المطلقة إذا لم تفعل في أوّل أزمنة الإمكان - على رأي من يجعل الأمر للفور - فإن فعله بعده ليس قضاء عند الجُمْهور.
خلافًا للقاضي أبي بكر؛ كما عرف في موضعه.
وذكر المصنّف لما اختاره دلائل فقال: "لنا لو وجب" القضاء "به" - أي: بالأمر الأول، - "لاقتضاه" الأمر الأول، والملازمة ظاهرة؛ إذ يستحيل أن يجب بالشَّيء ما لا يقتضي واللازم منتفٍ؛ لأن صوم يوم الخميس [لا يقتضى]
(1)
الأمر بصوم "يوم الجمعة"، فإن هذه الصيغة إنما وضعت لطلب الفعل يوم الخميس، وذلك لا يدلّ على طلبه يوم الجمعة.
ولقائل أن يقول: لا نسلّم أن صم يوم الخميس لا يقتضي يوم الجمعة عند تفويت يوم الخميس.
= يجب، ومنهم من قال لا يجب إلا بأمر ثانٍ، وهو الأصح.
(1)
سقط في أ، ب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قولكم: لأنه إنما وضع لطلب الفِعْلِ يوم الخميس.
"قلنا: ذلك [في]
(1)
وضعه بالمُطَابقة، ولكنه مع ذلك يدلّ بالالتزام على طلب عوض اليوم عند فواته.
واعلم أن المصنّف نقص من دليل الجماعة ما يزيده إيضاحًا، فإنهم حَقَّقُوا دعواهم بأن قالوا: ينبغي أن يفهم متعلّق الخطاب قبل الشُّروع في العمل، فإذا تعلّق الطَّلب بفعل مخصوص لم يكن له تعلّق بغيره، فلو تعذر فعل المطلوب لم يصحّ للمكلف أن يفعل غير ذلك الفعل الَّذي لا يتعلّق به الطلب لأجل فوات المَطْلُوب، وهو بمثابة مفوت الصلاة المطلوبة، لا يصحّ [له]
(2)
أن يأتي بالصّوم بدلًا عنها اقتصارًا على الخطاب الأول؛ ولذلك إذا طلبت الصلاة على وجه مخصوص فتعذر لا يتمكن المكلّف بهذا الخطاب خاصّة من أن يصلّى على غير ذلك الوجه.
قالوا: [فكذلك]
(3)
إذا قال: صُمْ يوم الخميس؛ إذ ليس له تعلّق بالجمعة، وإذا تقاعد الخطاب عنهما جميعًا تقاعدًا واحدًا، فإذا لم يرتبط الطَّلب بالفعل مطلقًا، ولم يرد خطاب جديد يتضمن القضاء امتنع إيقاعه امثثالًا.
وإلى - هذا الجزء أشار الأستاذ أبو إسحاق، فإنه قال: إنّما يملك من منافع الدَّار وغيرها بالإجارة ما كان بينه وبين العَقْد نسبة، وإذا استأجر الدَّار شهرًا بعينه فإنما [يملك]
(4)
من المَنَافع ما يكون الشَّهر المعين ظرفًا ووعاءً، وليس بين العَقْد ومنافع تضاف إلى شهر آخر نسبة بحال، فإذا فات الشَّهر فليس إلا الحكم بفوات متعلّق العقد، فيجب فسخه.
قال: "وأيضًا لو اقتضاه" - أي: لو اقتضى الأمر الأول إيقاع الفعل ثانيًا - بعد خروج الوقت [المقيّد]
(5)
به "لكان أداء"؛ لأن الفرض أن الأمر يقتضيه فيكون مساويًا لإيقاعه في الوقت، واللازم منتفٍ؛ للاتفاق على تسميته قضاء.
ولقائل أن يقول: إنما تصدق المُلازمة، لو قلنا: إنه يقتضيه بالمطابقة، ونحن إنما نقول: إنه يستلزمه، وحينئذ لا يلزم من تسمية ما اقتضاه الأمر مطابقة، إذ تسمية ما اقتضاه استلزامًا كذلك سلمناه، لكنا نقول: إنما يسمى قضاء؛ لأنه استدراك لما فات؛ إذ هذا هو
(1)
سقط في أ، ب.
(2)
سقط في أ.
(3)
في ب: فلذلك.
(4)
في أ، ب: ملك.
(5)
في ب: المعتد.
قالُوا: الزَّمَانُ ظَرْفٌ؛ فَاخْتِلالُهُ لا يُؤَثِّرُ فِي السُّقُوطِ.
[وَ] رُدَّ بِأَنَّ الْكَلامَ فِي مُقَيَّدٍ لَوْ قُدِّمَ، لَمْ يَصِحَّ.
قَالُوا: كَأجَلِ الدَّيْنِ.
رُدَّ: بِالمَنْعِ، وَبِمَا تَقَدَّمَ.
قَالُوا: فَيَكُونُ أَدَاءً.
قُلْنَا: سُمِّيَ قَضَاءً، لأَنَّهُ يَجِب اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ.
المميز للقضاء على ما مَرّ في تعريفه في أوّل الكتاب، وهذا ليس موجودًا في إيقاعه في الوقت، بل الموجود فيه [فعل]
(1)
الأداء، وهو إيقاعه في الوَقْتِ المقدّر له أولًا شرعًا؛ فلهذا سمي هذا أداء.
والعجب من المصنف يجيب بهذا الجواب عن دليل خَصْمه بعد هذا، لما استدل عليه بنحو هذا الدَّليل، وهو قوله: قالوا: فيكون أداء، ويغفل عن وروده عليه هنا.
قال: "ولكانا سواء" - أي: ولو كان الأمر الأول مقتضيًا للقضاء، لكان هو والأداء سواء؛ لأن [الفرض]
(2)
أن الأمر الأول يقتضيه الأداء، فيكون التكليف حينئذ بالفعل، إما أداء وإما قضاء، فيكونان حينئذ سواء؛ لاقتضاء الأمر لهما اقتضاء واحدًا، واللَّازم منتفٍ لاستلزام القضاء الإثم، دون الأداء.
ولقائل أن يقول: لا نسلّم أن اقتضاء الأمر لهما اقتضاء واحدًا؛ لما عرفت من أنه يقتضي الأداء بالوَضْعِ والقضاء بالضمن، وحينئذ فلا يلزم تساويهما في الحكم؛ لافتراقهما في اقتضاء الأمر لهما.
الشرح: "قالوا: الزَّمان ظرف" للفعل المأمور به، ولا شَيء مما هو ظرف للفعل المأمور به يكون مطلوبًا من الأمر بذلك الفعل، ينتج الزمان ليس مطلوبًا من الأمر بالفعل.
ثم نقول: ليس مطلوبًا من الأمر بالفعل، ولا شيء ممّا لا يكون مطلوبًا من الأمر بالفعل يؤثر "اختلاله" في سقوط ذلك الفعل ينتج، فاختلاله أي: الزمان - "لا يؤثر في السُّقوط" - أي: سقوط ذلك الفعل.
(1)
في ب: فصل.
(2)
في أ: الغرض.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أما صغري القياس الأول فظاهرة.
وأما كبراه، فلأن الظرف غير مقدور للمكلّف؛ فلا يكون مطلوبًا منه.
وأما مقدمتا القياس الثاني فظاهرتان.
"ورد بأنّ الكلام في معيّن لو قدم لم يصحّ".
وحاصله: منع كُبْرَى القياس الأول.
وتقريره: أَنّا لا نسلّم أن ما هو ظرف للفعل المأمور به لا يكون مطلوبًا بالأمر إذا كان الأمر، مقيدًا بذلك الظَّرف المعين، بحيث لو قدم عليه لم يصحّ، والمعنى يطلبه حينئذ من الأمر طلب إيقاع الفعل فيه؛ لأن المكلّف مأمور بتحصيل الظرف.
وحينئذ اتضح أن الزمان مقصود واتجه منع قياسكم الثاني حيث قلتم: الزَّمان ليس مطلوبًا من الأمر.
وسند المنع ما عرفت من أن المعنى به تطلبه طلب إيقاع الفعل فيه، لا طلب إيجاده، وحينئذ فاختلاله [لا]
(1)
يؤثر في السُّقوط، وإلا لم يكن لتقييد الأمر به فائدة.
"قالوا": تَوْقيت الفِعْل بوقت تأجيل له، فيجب قضاء الفعل بعد التأجيل بالأمر الأول "كأجل الدَّين" - أي: قياسًا على وجوب قضاء الدّيون المؤجلة به بعد التأجيل، أو نقول: الفعل المؤقت دين لله - تعالى - مؤجّل على [الكَفّ]
(2)
، فوجب قضاؤه بعد ذلك بالأمر الأول؛ كديون الآدميين المؤجّلة.
"رُدَّ بالمنع" - أي: لا نسلم أن الزمان المقدر للمأمور به كأجل الدين؛ وذلك لأن مخرج المأمور به عن وقته يَأْثَم، ومخرج الدين عن الأجل لا يأثم.
"ومما تقدم" - أي: الكلام إنما هو في مقيد لو [قدم]
(3)
لم يصح، ولا كذلك الدَّين المؤجّل فإنه يجوز تأديته قبل الأجل، وعطف الجواب الثَّاني على الأول يعطي تغايرهما.
وفي "المختصر الكبير" جعل الثاني سندًا للأول.
"قالوا: فيكون أداء" - أي: لو كان القضاء بأمر جديد لكان الإتيان به أداء؛ لأن الفعل
(1)
سقط في أ، ج.
(2)
في ج: المكلف.
(3)
في أ: قدر.
" الأَمْرُ بِالأَمْرِ بِالشَّيْءِ"
مَسْأَلَةٌ:
الأَمْر بِالأَمْر بِالشَّيْء لَيْسَ أَمْرًا بِالشَّيْءِ.
لنَا: لَوْ كَانَ لَكَانَ "مُرْ عَبْدَكَ بِكَذَا" - تَعَدِّيًا، وَلَكَانَ يُنَاقِضُ قَوْلَكَ لِلْعَبْدِ:"لا تَفْعَلْ".
قَالُوا: فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَمْرِنَا، وَمِنْ قَوْلِ الْمَلكٍ لِوَزِيرِهِ:"قُلْ لِفُلانٍ: افْعَلْ".
قُلْنَا: لِلْعِلْمِ بِأنَّهُ مُبَلِّغٌ.
حينئذ إنما وجب بالأمر الثاني، فإذا فعله لم يكن فعله بعد وقته، فلا يكون قضاء، وهذا الدَّليل نوع من دليل المصنف الثاني كما نبَّهناك عليه.
ثم "قلنا: سمي قضاء؛ لأنه يجب استدراكًا لما فات"، وقد عرفناك أن هذا جواب صحيح، وأنه جواب عن دليل المصنف الثاني.
"مسألة"
الشرح: "الأمر بالأمر بالشَّيء ليس أمرًا" بذلك "الشَّيء" على المُخْتَار.
ومحلّ النزاع قول القائل: مُرْ فلانًا بكذا
(1)
.
أما لو قال: قل لفلان "افعل كذا"، فالأول آمر، والثاني مبلّغ [بلا]
(2)
نزاع، وصرَّحَ به المصنّف في "المنتهى".
(1)
هذه المسألة في أن الأمر المتعلق بأمر المكلف لغيره بفعل من الأفعال هل يكون أمرًا لذلك الغير بذلك الفعل أم لا؟!. ينظر: المحصول 1/ 2/ 426، والإحكام للآمدي 2/ 169، روضة الناظر ص (108)، وشرح تنقيح الفصول (148)، وحاشية البناني 1/ 384، والتمهيد للإسنوي (274)، ونهاية السول 2/ 292، وشرح الكوكب المنير 3/ 66، والمستصفى 2/ 13، والقواعد والفوائد ص 190، وإرشاد الفحول (107)، ومختصر ابن اللحام ص 102، التحرير ص 148، تيسير التحرير 1/ 361، فوائد الرحموت 1/ 390، وشرح العضد 2/ 93.
(2)
في أ، ب: فلا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن أمثلة المسألة: قوله عليه السلام في الصِّبيان: "مُرُوهُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سنين"
(1)
.
وقوله عليه السلام لعمر رضي الله عنه وقد طلق ابنه عبد الله امرأته: "مُرْ عَبْدَ اللهِ فَلْيُرَاجِعْهَا".
"لنا: لو كان" آمرًا بذلك الشيء "لكان" قول القائل: "مُرْ عبدك بكذا تعدَّيًا"؛ لأنه يكون حينئذ أمرًا لعبد الغير، وليس ذلك عدوانًا بالاتفاق.
"ولكان" أيضًا "يناقض قولك للعبد: لا تفعل" هذا الفعل؛ لأنه حينئذٍ يكون آمرًا للعبد بذلك الفعل، وبعدمه، وهو تناقض.
قال المصنّف في "المنتهى": ونحن نقطعُ أنه لا تناقض في ذلك.
ولقائل أن يقول على الأول: إنما يكون متعديًا لو كان أمره لعبد الغير ليس لازمًا لأمر السَّيد لعبده بذلك، ولكنه هنا لازم له؛ وهذا لأن قول القائل: مُرْ عبدك بكذا يدلّ على أمرين:
أحدهما: أمر القائل للسَّيد يأمر عبده بذلك.
والثاني: أمره هو العَبْد بذلك.
وهذا الثَّاني لازم للأول، بمعنى أن آمر القائل للعبد بذلك يتوقف على أمر السَّيد إياه به لازم له، وحينئذ لا يكون أمره للعَبْدِ تعديًّا؛ لأنه موافق لأمر السَّيد له بذلك، وهو أمر للعبد بما أمره به سيّده.
سلّمنا أنه متعدّ، لكن لا نسلّم أن التعدي لأجل أن الصِّيغة لم تقتضه، بل لوجوب المانع من ذلك وهو التصرّف في ملك الغير من غير سُلْطان عليه؛ ولهذا يمتنع أمر من لا سلطان للآمر عليه، كما قرّرتم به، وهذا المانع ليس بموجود في أوامر الشَّرع؛ لوجود سُلْطان التكليف له علينا، فلا تعدّي حينئذ.
(1)
أخرجه أبو داود 1/ 1333، كتاب الصلاة: باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (495، 496)، وأحمد 2/ 187، والدارقطني 1/ 235، باب الأمر بتعليم الصلوات، والضرب عليها، وحد العورة التي يجب سترها (2، 3)، والحاكم 1/ 197. وانظر كلام الحافظ الزيلعي على ذلك الحديث في نصب الراية 1/ 296، والحديث الثاني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولقائل أن يقول أيضًا على الثَّاني: إنما يلزم التَّناقض لو كان الأمر مستلزمًا للإرادة، وجاز أن يكون أحد الأمرين غير مراد فلا تناقض.
فإن قلت: [نفرض]
(1)
إرادته لكل منهما.
قلت: يمتنع حينئذ صدور ذَيْنك الأمرين من عاقل فضلًا عن الشَّارع، إلا عند مجوّز تكليف المُحَال، وحينئذ نقول: جاز التَّكليفُ بالنقيضين.
"قالوا" دليلين صرح بهما في "المختصر الكبير":
أحدهما: أنه "فهم ذلك من أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرنا"؛ مثل قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
فإنا نفهم من هذا أمر الله - تعالى - لأهل بيته صلى الله عليه وسلم بالصلاة، وفهم ذلك أيضًا من أمر رسوله صلى الله عليه وسلم غيره بأمرنا كما فهمنا أمره عليه الصلاة والسلام الصَّبي بالصَّلاة، وهو ابن سبع في الحديث السَّابق.
"و" الدَّليل الثاني: أنا نفهم ذلك "من قول الملك لوزيره: قُلْ لفلان: افعل"، وإليه الإشارة بقوله: ومن قول اليلك لوزيره: قل لفلان: افعل.
وقوله: قل لفلان: افعل معمول لقوله: قول الملك لوزيره خاصّة.
"قلنا" جوابًا عن الدَّليلين جميعًا: إنما فهم ذلك من أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قول الملك لوزيره، "للعلم بأنه" - أي: بأن المأمور في الجميع "مبلّغ" ما أمر الله - تَعَالى - نبيه صلى الله عليه وسلم فلقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67].
وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم غيره بأمرنا بشيء فظاهر؛ لأن غيره لا أمر له علينا إلَّا بأمره صلى الله عليه وسلم وهو مبلّغ عنه.
وأما قول الملك لوزيره: قل لفلان: افعل، فغير محلّ النزاع علي ما عرفت
(2)
.
(1)
في أ: تعرض.
(2)
في حاشية ج: من أن محل النزاع: مر فلانًا بكذا، لا قل له: افعل كذا.
" المَطْلُوبُ بِأَمْرِ فِعْلٍ مُطْلَقٍ
(1)
، مَا هُوَ؟
"
مَسْأَلَةٌ:
إِذَا أُمِرَ بِفِعْلِ مُطْلَقٍ فَالْمَطْلُوبُ الْفِعْلُ الْمُمْكِن، الْمُطَابِقُ لِلْمَاهِيّةِ، لا الْمَاهِيّةُ.
لنَا: أَنَّ الْمَاهِيّةَ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا فِي الأَعْيَانِ؛ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَدُّدِهَا، فَيَكُونَ كُلَيًّا جُزْئِيًّا، وَهُوَ مُحَالٌ.
قَالُوا: الْمَطْلُوبُ مُطْلَقٌ، وَالْجُزْئِيُّ مُقَيدٌ، فَالْمُشْتَرَكُ هُوَ الْمَطْلُوبُ.
قُلْنَا: يَسْتَحِيلُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
"مسألة"
الشرح: "إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب" - عند الآمدي والمصنف - "الفعل الممكن المطابق للماهيّة، لا الماهيّة".
(2)
.
وعند الإمام الرَّازي: أن الأمر بالماهية الكلية ليس أمرًا بِشَيْءٍ من جزئياتها
(3)
.
وهو الحَق، وذلك كالمأمور بالبيع مأذون أن يصدر عنه بيع أعم من كونه بثمن المِثْل، أو بِغَبْنٍ فاحش، أو غير ذلك؛ لأن البيع قدر مشترك بين هذه الأمور، وما به الاشتراك هو
(1)
هذه المسألة في أن المطلوب فيما إذا أمر بفعل من الأفعال مطلقًا غير مقيد في اللفظ بقيد خاص، كقول القائل لوكيله:"بع" هل ماهية ذلك الفعل أو أحد جزئياتها اختلفوا فيه. ينظر الشيرازي 314 خ.
(2)
الماهية: تطلق في الغالب على الأمر المتعقل مع قطع النظر عن الوجود الخارجي والأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب "ما هو "يسمى "ماهية" ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث إنه مجلى الحرادث جوهرًا. وتنظر المسألة في: شرح الموكب المنبر 3/ 70، والمحصول (1/ 2/ 427)، والإحكام للآمدي 2/ 171، وشرح العضد (2/ 93)، والمسودة (98)، ونهاية السول 2/ 292، وشرح تنقيح الفصول ص 145، وفواتح الرحموت 1/ 392، وإرشاد الفحول (108).
(3)
ينظر المصادر السابقة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الذي وقع مأذونًا به، وهو غير ما به الامتياز، وتعيّن البيع بثمن المثل إنما هو لأمر فقهي، وهو الحجر على الوكيل في التَّصرّف على موكله بما يضرُّ به مما لا يقع مأذونًا.
ونحن نقدم مقدمة يتحرّر بها موضع النِّزَاع بين الإِمام والآمدي، ويلوح وجه الصواب فنقول: الكلي؛ إما طبيعي، أو منطقي، أو عقلي، وهذا لأنك إذا قلت: هذا كلي مشيرًا إلى البيع
(1)
مثلًا، فهناك أمور ثلاثة:
أحدها: الطبيعة من حيث هي؛ كماهية البيع مثلًا، وهو الطبيعي.
والثاني: قيد كونه كليًّا، أي: يشترك في مفهومه كثيرون، وهو المَنْطقي.
والثالث: تلك الماهية بقيد كونها كليًّا، وهو العقلي، وهذا مما لا خفاء به، فإنك تارةً توجّه النظر إلى الطبيعة، وتارة إلى قيد كونها يشترك في مفهومها كثيرون، وتارة إلى مجموع الأمرين.
والطبيعي موجود في الأعيان بلا شَك، فالبيع بثمن المِثْل موجود في الأعيان ضرورة، وجزؤه البيع من حيث هو بيع، وجزء الموجود موجود.
وأما المَنْطقي والعَقْلي، ففي وجودهما في الخارج خلاف مبني على أن الأمور [النسبية]
(2)
هل لها وجود في الخارج؟
ومحلّ النزاع في مسألتنا، إنما هو الكُلِّي الطبيعي، وستعرف إن شاء الله - تعالى - ضعف دليل المصنّف بعرفانك محل النّزاع.
قال: "لنا: أن الماهية يستحيل وجودها في الأعيان؛ لما يلزم من تعددها فيكون كليًّا جزئيًّا وهو محال".
وتقرير هذا أن يقال: لو كان الأمر بالماهيّة الكُلّية أمرًا بها لا بشيء من جزئياتها لزم أن يكون كليًّا جزئيًّا معًا، وهو مُحَال.
وبيان المُلازمة: أن الماهية من حيث هي هي معنى كلي، لو وجدت في الأعيان لكانت إنما توجد في جزئياتها، فتكون حينئذ متعدّدة لتعدّد جزئياتها التي وجدت فيها،
(1)
في حاشية ج: قف مع حميد الكلبي وتقسيمه إلى أقسامه الثلاثة.
(2)
في أ، ج: الشيئية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فتكون حينئذ جزئية، وهي كلية من حيث إن الأمر بها لا بشيء من جزئياتها، فتكون كلية جزئية.
ولقائل أن يقول: لا نسلّم الملازمة، وهذا لما مَرّ أن الماهية من حيث هي هي كلي طبيعي، ولا يستحيل وجود الطبيعي في الأعيان.
وقوله: لا يوجد إلا في جزئياته.
قلنا: مسلّم، قوله: فتكون الماهية حينئذ متعددة لتعدُّد جزئياتها.
قلنا: ممنوع؛ وهذا لأن الماهيّة الموجودة في جزئي هي [بعينها]
(1)
الموجودة في الآخر
(2)
، وإنما المتعدد الجزئيات؛ لتغاير فصولها المميّزة لها.
أما أن الماهيّة حينئذ من حيث هي هي متعدّدة فلا تعم الماهية التي يستحيل وجودها في الأعيان هي الماهية بقيد كونها كلية على خلاف في ذلك، لكن هذا ليس محلّ النزاع؛ لأنه كلي عقلي، والكلام إنما هو في الطَّبيعي.
والإمام وأتباعه "قالوا: المطلوب مطلق، والجُزئي مقيّد، فالمشترك هو المطلوب"، ولا دلالة له على شيء من الخُصوصيّات.
وأجاب عنه في الكتاب بقوله: "قلنا: يستحيل" وجوده في الخَارجِ "مِمَّا ذكرناه".
وهذا ضعيف، فقد عرفناك أنه ليس بمستحيل، بل هو الواقع.
والحاصل: أنه أُجيب أن كلامنا في غَيْرِ الطبيعي، وليس كذلك.
(1)
في ب: نفسها.
(2)
في حاشية ج: قوله: هي بعينها الموجدة في الآخر، فيه نظر؛ إذ يلزم أن يكون الشيء الواحد في مكانين، بل يجتمع له كل متنافيين، نعم هم يقولون: الموجود في كل واحد حصة منها.
والحق أنها أمر انتزاعي اعتباري ولا وجود إلَّا للأشخاص، وعبارة السعد: قد تؤخذ الماهية لا بشرط كونها مقارنة للعوارض أو مجردة، بل مع تجويز أن تقارنها العوارض وألا تقارنها وتكون مقولًا على المجموع حال المقارنة، وهي الكلي الطبيعي والماهية لا بشرط شيء، والحق وجودها في الأعيان، لكن لا من حيث إنها جزئي في الجزئيات المتحققة على ما هو رأي الأكثر، بل من حيث إنه يوجد شيء تصدق هي عليه، وتكون عينه بحسب الخارج وإن تغايرا مفهومًا. وفي عبد الحكيم على القطب ما يرده، فانظره.
" الأَمْرَانِ المُتَعَاقِبَانِ"
مَسْأَلَةٌ:
الأَمْرَانِ الْمُتَعَاقِبَانِ بِمُتَمَاثِلَيْنِ، وَلا مَانِعَ عَادَةً مِنَ التكْرَارِ مِنْ تَعرِيفِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي غَيْرُ مَعْطُوفٍ مِثْلُ: صَل رَكْعَتَيْنِ صَل رَكْعَتَيْنِ.
قِيلَ: مَعْمُولٌ بِهِمَا.
وَقِيلَ: تَأكِيدٌ.
وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ.
الأولُ: فَائِدَةُ التأْسِيسِ أظْهَرُ؛ فكَانَ أَوْلَى.
الثانِي: كَثُرَ فِي التأكيدِ، وَيَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ مُخَالَفَةُ بَرَاءَةِ الذمَّةِ، وَفِي الْمَعْطُوفِ: الْعَمَلُ أَرْجَح، فَإنْ رُجِّحَ التأْكِيدُ بِعَادِيَّ، قُدِّمَ الأرْجَح، وَإلَّا فَالْوَقْفُ.
"مسألة"
الشرح: "الأمران" من أمر؛ إما أن يكونا متعاقبين، أو غير مُتَعَاقبين بأن يصدر أحدهما بعد سَكْتة طويلة، أو بعد وقوع الآخر من المأمور:
(1)
.
(1)
هذه المسألة في حكم الأمرين المتعاقبين متماثلين، والخلاف فيه. فنقول: لا يخلو الأمران المتعاقبان من أن يكونا بمختلفين أو بمتماثلين، فإن كان الأول فلا خلاف في اقتضاء المأمورين على اختلاف المذاهب في الوجوب والندب والوقف، وسواء أمكن الجمع بينهما كالصلاة والصوم أو امتنع كالصلاة في مكانين أو الصلاة مع أداء الزكاة، وإن كان الثاني فلا يخلو إما ألا يكون لمانع التكرار عادة أو كان، فإن كان فإما أن يكون المانع من التكرار هو التعريف كقولك: أعط زيدًا درهمًا أعط زيدًا الدرهم، أو غيره ككونه غير قابل للتكرار بحسب الذات نحو: صم يوم الجمعة صم يوم الجمعة، أو بحسب العادة كقول السيد لعبده: اسقنى ماء اسقنى ماء، ولا خلاف أيضًا في هذه الصورة أن الثاني تأكيد محض، وإن لم يكن مانع كما ذكرنا فلا يخلو إما أن يكون الثاني معطوفًا على أولًا، فإن لم يكن معطوفًا كقوله: صل ركعتين. صل ركعتين، فهو موضوع الخلاف، ولذلك قيد المصنف الأمرين بالقيود المذكورة.
ينظر: الشيرازي 316 أ/ خ، والمحصول 1/ 2/ 255 - 256، وشرح العضد 2/ 94، وجمع الجوامع 1/ 389، والإحكام للآمدي 2/ 172، ونهاية السول 2/ 292، والقواعد والفوائد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإن كان الثاني [فَهُوَ] هو أمر مُسْتَأنف، ولا يحمل على التكرار بلا شَك.
وإن كان الأول، وإليه أشار بقوله:"المُتَعَاقبان".
فإن كانا بغير متماثلين، فالثاني مستأنف بلا شك، مثل: اضرب زيدًا، أعط زيدًا درهمًا.
وإن كانا "بمتماثلين".
فإما أن ثَمّ ما يمنع من التَّكْرار عادة، أو لا، فإن كان ثَمّ ما يمنع حمل على التَّأكيد، والمانع من التّكْرَار؛ إما تعريف الثاني مثل: صَل ركعتين، صَل الركعتين.
أو عادة التّخَاطب للقرينة؛ مثل: اسقني ماء، اسقني ماء، فِإنَّ دفع الحاجة بمرة واحدة غالبًا يمنع تكرار السقي.
أو الاستحالة العادية؛ مثل: "اقتل زيدًا، اقتل زيدًا.
أو الاستحالة الشَّرعية؛ مثل: أعتق زيدًا، أعتق زيدًا.
وكون الأمر الأول مستغرقًا للجنس مستوعبًا له؛ إذ لا يمكن زيادة على استغراق الجنس! كقولك: اجلد الزُّنَاة، اجلد الزُّنَاة.
قال القاضي في "التقريب": وكذلك إذا عهد الأمر إلى المأمور، فقال له: إذا كررت أمرك بضرب زيد وبالصلاة، فاعلم أني أريد بالمتكرّر منه فعلًا واحدًا.
وإلى هذه الموانع أشار بقوله: "ولا مانع عادة من التكرار من تعريف أو غيره"، [أي]
(1)
: غير التعريف.
وإن لم يكن ثَمّ مانع من التكّرار.
= 173، ومختصر ابن اللحام ص (103)، واللمع ص (8)، وشرح تنقيح الفصول (131)، والمسودة (23)، والتحرير (149) وتيسير التحرير 1/ 362، وشرح الكوكب المنير 3/ 74، والتبصرة ص 51، والعدة 1/ 280، والمعتمد 1/ 174، والوصول إلى الأصول 1/ 162، وإرشاد الفحول 109، والتقرير والتحبير 1/ 319، وفواتح الرحموت 1/ 391.
(1)
في ب: أو.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإما أن يكونا متعاطفين، أو لا، فإن تعاطفا فهو القسم الثاني، وإلا فالأول.
وإليه الإشارة بقوله: "والثاني غير معطوف، مثل: صل ركعتين، صل ركعتين.
قيل: معمول بهما، وهو قول الأكثرين منا ومن غيرنا.
"وقيل: تأكيد"، وهو رأي بعض أصحابنا، والجُبّائي، والقاضي عبد الجَبَّار من المعتزلة.
"وقيل بالوقف" - وهو رأي أبي بكر الصَّيرفي، وأبي الحسين البَصْري.
ومن فروع المسألة: قول أصحابنا فيما إذا قال للمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، إن سكت بينهما سَكْتة فوق سَكْتة التَّنفس ونحوه وقع طلقتان.
وإن قال: أردت التأكيد، لم يقبل ظاهرًا ويدَيَّن، وإن لم يَسْكت وقصد التأكيد، قبل ولم يقع إلا طلقة، وإن قصد الاستئناف، وقع طلقتان، وكذا إن أطلق على الصَّحيح.
وكل هذا فيما إذا كرّرت صيغة الأمر؛ مثل: صلّ ركعتين، صل ركعتين.
فإن كرر المأمور به دون صيغة الأمر: مثلْ صل ركعتين، صل ركعتين - فلم أره مصرّحًا به في الأصول، والظَّاهر أنه لا فرق عند الأكثرين، خلافًا للقاضي الحسين؛ لأن أصحابنا اختلفوا في قوله: أنت طالق طالق.
فقال الجُمْهُور: لا فرق بينه وبين إعادة الضَّمير.
وقال القاضي حسين: يقع طلقة قطعًا.
احتج "الأول" - يعني: القائل بالمُغَايرة في صلّ ركعتين، صلّ ركعتين - "فائدة التأسيس أظهر فكان أولى".
"الثَّاني: كثر" ورود الأمر الثَّاني من الأمرين على الصيغة المذكورة "في التأكيد" فيلحمل عليه؛ لأن الأكثرية راجحة.
"و "أيضًا: "يلزم من العمل" بالثَّاني، وصيرورته للاستئناف "مخالفة براءة الذمَّة" فإنها الأصل، والتكرار غير متحقّق.
وهذا قد اعترضه الآمدي؛ بأنه لو حمل على التأكيد لزم مخالفة ظاهر الأمر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال: فإنه إما أن يكون ظاهرًا في الوجوب أو الندب، أو هو متردّد بينهما على وجه لا خروج له عنهما على اختلاف المذاهب، وحمله على التأكيد خلاف ما هو الظَّاهر من الأمر.
واعتمد المصنّف في "المختصر الكبير" هذا الجواب تبعًا للآمدي، واختار وجوب العمل بهما، ولم يذكر هذه المعارضة في "المختصر الكبير"؛ كأنه وضح له ضعفها.
ووجه ضعفها: أنه إنما يلزم مُخَالفة ظاهر الأمر لو حمل على غير مدلول الأمر، وحمله للتَّأكيد ليس حملًا له على غير مَدْلوله؛ وذلك لأن الأمر الثاني إذا حمل على التأكيد فالأول: إن كان للوجوب فالثاني كذلك، وإن كان للنَّدْب فالثَّاني كذلك، وهو حينئذ تابع للأول، فأين مخالفة الظاهر؟
فإن قلت: بل مخالفة الظَّاهر لازمة للتوكيد من جهة أن الأمر الثاني لمَّا لم يفد شيئًا مستأنفًا - صار كأنه خولف به مدلوله.
قلت: إن كان هذا المعنى بخلاف الطاهر، فهو بعينه الترجيح الأول، وهو ظهور فائدة التأسيس، فليس حينئذ ترجيحًا غير الترجيح الأول.
والقسم الثاني: أن يتعاطفا، وإليه أشار بقوله:"وفي المعطوف العمل أرجح"؛ لأن الترجيح بظهور التأسيس (1) ينضم إليه ترجيح آخر، وهو اقتضاء العَطف التغاير.
وهذا الذي اختاره المصنف أحد القولين في المسألة.
وذكر القاضي عبد الوَهَّاب المالكي: أنه الذي يجيء على أصول أصحابهم.
والثاني: الحمل على التأكيد، حكاه عبد الوَهَّاب.
ولم يفرق القاضي أبو بكر في "التقريب" بين حالة العطف وعدمها.
وهذا كله إذا لم يترجّح التأكيد.
"فإن رجح التأكيد بعادي" كما تقدّم - "قدم الأرجح، وإلا فالوقف"، للتكافؤ من [الجانبين](2). والله أعلم.
(1)
التأسيس: عبارة عن إفادة معنى آخر لم يكن حاصلًا قبله، فالتأسيس خير من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة. ينظر تعريفات الجرجاني.
(2)
في أ: الحالتين.
تمّ الجزء الثاني من كتاب رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب ويليه الجزء الثالث وأوله مسألة تعريف النهي