المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

رَفعُ الحَاجِبِ عَن مُختَصَر ابْن الحَاجِب تأليف تَاج الدّين أبي نَصر عَبْد الوهَّاب - رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب - جـ ٣

[تاج الدين ابن السبكي - ابن الحاجب]

فهرس الكتاب

رَفعُ الحَاجِبِ عَن مُختَصَر ابْن الحَاجِب

تأليف

تَاج الدّين أبي نَصر

عَبْد الوهَّاب بن عَلي بن عَبْد الكافي السُّبْكي

(727 - 771 هـ)

تحَقيق وَتعِليق وَدِرَاسَة

الشيخ عَلي محمَّد معَوض

الشيخ عَادِل أحمد عَبد المَوجُود

الجزءُ الثالث

عالم الكتب

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

رَفعُ الحَاجِبِ عَن مُختَصَر ابْن الحَاجِب

ص: 3

عالم الكتب

للطباعة والنشر والتوزيع

بيروت - لبنان

ص. ب: 8723 - 11، برقيًا: نابعلبكي

هاتف: 819684 - 315142 - 603203 (01)

خليوي: 381831 (03)

فاكس: 603203 - 1 (961)

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للدار

الطبعة الأولى

1419 هـ - 1999 مـ

يمنع طبع هنا الكتاب، أو أي جزء منه، أو اختزال مادته بطريقة الاسترجاع، كما يمنع الاقتباس منه أو التمثيل أو الترجمة لأية لغه أخرى، أو نقله على أي نحو، وبأية طريقة، سواء كانت إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصوير أو بالتسجيل أو خلاف ذلك، إلا بموافقة خطية مسبقة من الناشر.

ص: 4

" النَّهْيُ"

(1)

مَسْأَلَةٌ:

النَّهْيُ: اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فِعْل، عَلَى جِهَةِ الاِسْتِعْلاء، وَمَا قِيلَ فِي حَدِّ الأَمْرِ مِنْ مُزَيَّفٍ وَغَيْرِهِ، فَقَدْ قِيلَ مُقَابِلُهُ فِي حَدِّ النَّهْي.

وَالْكَلامُ فِي صِيغَتِهِ، وَالْخِلافُ فِي ظُهُورِ الْحَظْرِ لا الْكَرَاهِيَةِ وَبِالْعَكْسِ أَوْ مُشْتَرَكَةٌ، أَوْ مَوْقُوفَة؛ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَحُكْمُهَا: التّكْرَارُ وَالْفَوْر، وَفِي تَقَدُّمِ الْوُجُوبِ قَرِينَةٌ.

نَقَلَ الأُسْتَاذُ الإجْمَاعَ، وَتَوَقَّفَ الإمَام، وَلَهُ مَسَائِلُ مُخْتَّصَةٌ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1)

النهي خلاف الأمر. نهاه ينهاه نهيًا: كفه، فانتهى وتناهى، كفٌّ، وهو واوي يائي، يقال في الواوي: نهوته عن الشيء، وفي اليائي: نهيته، ونفس نهاة: منتهية عن الشيء، وتناهوا عن الأمر وعن المنكر: نهى بعضهم بعضًا، وفي التنزيل العزيز "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه". والنُّهية والنهاية آخر كل شيء، وذلك لأن آخره ينهاه عن التمادي فيرتدع والنَّهْي والنِّهْي: الموضع الذي له حاجز، كأنه ينهى الماء أن يفيض منه. ونُهْية الوَتِد: الفرضة التي في رأسه تنهى الحبل أن ينسلخ.

والنُّهَى: العقل، يكون واحدًا وجمعًا، واحده نُهية، سمي بذلك لأنه ينهى عن القبيح وناهيك بفلان كافيك له ويؤخذ من ذلك أن جميع اشتقاق كلمة "نهى" تفيد المنع والحظر.

والنهي في اصطلاح الفقهاء والأصوليين:

يعتبر النهي قسمًا من أقسام الكلام؛ حيث إن الكلام ينقسم إلى أمر، ونهي، وخبر، وإنشاء، ووعد ووعيد، وغيرها. فالنهي أحد هذه الأقسام.

واختلف العلماء بإزاء إثبات كلام النفس إلى طائفتين: طائفة أثبتت كلام النفس، وهم الأشاعرة ومن لف لفهم والطائفة الثانية نفت تحقّق الكلام النفسي وهم المعتزلة ومن وافقهم ونحا كل فريق طريقًا خاصًّا إلى تحديد النهي بما يلائم وجهة نظره في إثبات كلام النفس أو نفيه.

فالأشاعرة المثبتون لكلام النفس عرفوه تارة باعتبار حقيقته الكلامية، وعرفوه تارة أخرى باللفظ الدال على تلك الحقيقة.

مذهب الأشاعرة في تعريف النهي باعتبار حقيقته الكلامية؛ =

ص: 5

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= كما جرى عليه ابن الحاجب هنا أنه "اقتضاء كف عن فعل على جهة الاستعلاء، والمعتزلة في تعريف النهي نحوا منحى خاصًا فيه.

بسبب أن المعتزلة أنكرت الكلام النفسي لم يعرفوا النهي باعتبار المعنى القائم بالنفس، وأنه اقتضاء الكف "أو طلب الكف"؛ لأن هذا نوع من الكلام النفسي، فعرّفوه تارة باعتبار أنه لفظ، وتارة أخرى باعتبار الإرادة المقترنة وعرفوه بالصيغة، ومرة ثالثة عرفوه باعتبار أنه نفس الإرادة.

وقد عرفه جمهورهم باعتبار أنه لفظ قالوا: "هو قول القائل لمن دونه: لا تفعل" أي قول القائل لفظًا موضوعًا لطلب ترك الفعل من الفاعل.

وتعريفه عندهم باعتبار أنه لفظ دال على المعنى النفسي.

وهو المناسب لغرض الأصوليين؛ لأن بحثهم إنما هو عن الأدلة اللفظية السّمعية من حيث يوصل العلم بأحوالها العارضة لها من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد ونحوه إلى القدرة على إثبات الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين، وإن كان مرجع الأدلة السمعية إلى الكلام النفسي.

وذهب القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين والإمام والغزالي بأنه "القول المقتضى طاعة المنهى بترك المنهى عنه" وهذا ما اختاره الجمهور من الشافعية.

وذهب الكمال بن الهمام في تعريف النهي اللفظي. فقال ما محصله "وهو المختار": مبني تعريف النهي اللفظي الذي هو غرض الأصولي، أن لطلب الكف عن الفعل صيغة، تخصه بمعنى أنها لا تستعمل في غيره على سبيل الحقيقة، وقد وقع في هذا خلاف، والصحيح أن له لفظًا يخصه.

وحاصل تعريف النهي اللفظي: ذكر ما يميز صيغته عن غيرها من الصيغ فسميت هذه المميزات حدًّا. وينظر: البرهان لإمام المحرمين 1/ 283، والبحر المحيط للزركشى 2/ 426، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 174، وسلاسل الذهب للزركشى ص 102، والتمهيد للأسنوي ص 290، ونهاية السول له 2/ 293، وزوائد الأصول له ص 238، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 67، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 261، والمنخول للغزالي ص 126، والمستصفي له 2/ 24، وحاشية البناني 1/ 390، والإبهاج لابن السبكي 2/ 66، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 496، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 168، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 228، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 3/ 269، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 374، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 140، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 95، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 149، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 61، وشرح =

ص: 6

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"مسألة"

الشرح: "النهي: اقتضاء

(1)

كَفّ عَنْ فعل

(2)

على جهة الاستعلاء".

ولا يخفى عليك الاحتراز بقيود هذا التعريف بعد معرفتك ذلك في تعريف الأمر.

"وما قيل في حَدّ الأمر من مزيف وغيره، فقد قيل مقابله في حَدّ النهي

(3)

".

والكلام في صيغته

(4)

، والخلاف في ظهور الحظر لا [الكراهية]

(5)

"وبالعكس، أو مشتركة، أو مَوْقُوفة كما تقدم".

والظَّاهرُ أن بقية المذاهب المَنْقُولة في الأمر لم يَقُلْ بها هنا؛ فلأجل ذلك نَصَّ المصنّف على هذه المذاهب.

"وحكمها: التكرار والفور"، أي: ينسحب حكمها على جميع الأزمان.

كذا قاله في "المختصر الكبير"، وما أحسن قوله:"وحكمها"، ولم يقل:"ومدلولها"؛ وذلك لأن التكرار والفور إنما تجيء صيغة النهي في ضرورة الواقع، لا من

= المنار لابن ملك ص 44، والموافقات للشاطبي 3/ 144، وتقريب الوصول لابن جزى ص 95، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 109، والكوكب المنير للفتوحي ص 337، والمدخل ص 232، والمنتهى لابن الحاجب (73).

(1)

فالاقتضاء الطالب القائم بالنفس - وهو جنس في التعريف - يشمل الأمر والنهي والالتماس والدعاء ويخرج عنه الألفاظ وإن دلت على الطلب؛ فإنها ليست بطلب.

(2)

وخرج بذلك الأمر؛ إذ هو اقتضاء فعل غير كفء.

(3)

معناه على جهة غير الطالب نفسه منها عاليًا على المطلوب منه وخرج به الالتماس؛ فإنه على سبيل التساوي؛ والدعاء؛ فإنه على سبيل التسفل.

(4)

اتفق العلماء على أن صيغة النهي "لا تفعل" ترد لعدة معان منها: التحريم كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} . {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} كراهة التحريم كقوله عليه السلام: "لا يبعْ بعضكم على بَيْع بعض" كراهة التنزيه كقوله عليه السلام: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) التحقير كقوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} بيان العاقبة كقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} التيئيس كقوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} .

الإرشاد كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .

(5)

في أ، ب، ج: الكراهة.

ص: 7

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التسوية كقوله تعالى: {اصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} .

التهديد كقول السيد لعبده: "لا تمتثل أمري".

الالتماس كقول الصديق لصديقه: "لا تبرح مكانك".

واتفقوا أيضًا على أن الصيغة إذا استعملت في غير الحرمة والكراهة من المحامل لا تكون حقيقة، فهي إذًا مجاز فيما عدا طلب الترك واقتضاءه.

وإنما وقع الخلاف بينهم في تحديد ما وضعت له هذه الصيغة على سبيل الحقيقة أهو الحرمة أم الكراهة أم كلاهما؟ فتكون مشتركة بينهما اشتراكًا لفظيًا. أم القدر المشترك بينهما وهو طلب الترك مع الجزم أو عدمه؟ فتكون مشتركة بينهما اشتراكًا معنويًا. أم متوقف فيه لا يدري أي المعنيين هو؟ وإليك هذه الأقوال وتفصيلها:

الأول: وهو ما يذهب إليه الإمام البيضاوي وصححه ابن الحاجب، وهو إذا وردت صيغة النهي وجودها ولو مرة ارتكاب المَنْهِيّ، فإذًا النهى حكمه التّكرَار بهذه الطريق، ولا حاجة مع ذكر الجمهور، وقال الرازي جازما بهذا المذهب: إنه الحق، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، نصّ عليه في "الرسالة" فقال في باب العلل في الأحاديث ما نصّه:"وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على التحريم حتى تأتي دلالة عنه على أنه أراد به غير التحريم" ونص عليه أيضًا في "الأم"، فقال: أصل النهى من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما نهى عنه فهو مُحَرَّم، حتى تأتي عنه دلالة تدل على أنه إنما نهى عنه لمعنى غير التحريم، إما أراد به نهيًا عن بعض الأمور دون بعض، وإما أراد به النهي للتنزيه عن المنهى والأدب والاختيار، ولا يفرق بين نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر لم يختلف فيه المسلمون: فنعلم أن المسلمين كلهم لا يجهلون سنة، وقد يمكن أن يجهلها بعضهم. فمما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان على التحريم لم يختلف أكثر العلماء فيه: أنه نهى عن الذهب بالورق إلا هاءَ وهاءَ، وعن الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، ونهى عن بيعتين في بيعة".

الثاني: وإليه ذهب أبو هاشم، وعامة المعتزلة وجماعة من الفقهاء، وهو أن صيغة النهي حقيقة في الكراهة فقط.

"الثالث": أنها مشترك لفظي بين الحرمة والكراهة.

"الرابع" وهو منقول عن ابن منصور والماتريدي ومشايخ "سمرقند" أن صيغة الأمر موضوعة للقدر المشترك بينهما، وهو طلب ترك الفعل استعلاء؛ فهي من قبيل المتواطئ.

"الخامس": وهو مذهب الأشعري ومن تابعه من أصحابه كالقاضي والغزالي إلى التوقف في مدلول صيغة النهي، بمعنى لا يدري أهي موضوعة للحرمة أم الكراهة أم لكل منهما، أم للقدر المشترك بينها؟.

ص: 8

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الصِّيغة، فإنك إذا قلت: لا تزن، فمعناه: النهي عن إيجاد

(1)

ماهية الزِّنَا، ويلزم من وجودها ولو مرة ارتكاب المَنْهِيّ، فإذًا النهي حكمه التكْرَار بهذه الطريق، ولا حاجة مع ذكر التّكرار إلى ذكر الفَوْرِ.

ونقل ابنُ بَرْهَان الإجماع على أن النهي للتكرار.

وفي ثبوته نظر، فإن جماعة نقلوا الخلاف فيه، منهم الآمدي.

"وفي" كون "تقدم الوجوب" على النَّهي "قرينة"؛ لكون النهي الوارد بعده للحظر.

نقل الأستاذ أبو إسحاق الإجماع على ذلك، وأن كل من حمل مطلق النهي على التحريم فقد حمله عند تقدم الأمر أيضًا، ولم يجعله قرينةً تنتهض صارفة النهي عن ظاهره.

وهذه أعنى دعوى الوفاق هنا طريقة القاضي، وابن السَّمْعَاني، وغيرهما.

وتوقف الإمام فقال في "البرهان": ذكر الأستاذ أبو إسحاق: أن صيغة النهي بعد تقدم الوجوب محمولة على الحظْر والوجوب السَّابق لا ينتهض قرينةً في حمل النهي على رفع الوجوب، وداعى الوفاق في ذلك، ولست أرى ذلك مسلمًا.

أما أنا فأحسب ذيل الوقف عليه؛ كما قدمته في صيغة الأمر بعد الحَظْر، وما أرى المخالفين يسلمون ذلك. انتهى.

والذي يجوز أن القائلين أن الأمر بعد التحريم للإباحة، اختلفوا في النهي بعد الوجوب قرينة للحظر - عبارة قَلِقَة تحتمل معنيين:

أحدهما: وهو ظاهره أن تقدم الوجوب على النهي قرينة تدل على أن النهي للحظر.

"ونقل الأستاذ الإجماع" على ذلك.

وهذا لا يستقيم؛ لأن أحدًا لم يقل: إن تقدم الوجوب قرينةٌ تدل على أن النهي للحظر، بل [القول]

(2)

: إنها قرينه، مضعفة لذلك؛ "و" لهذا "توقّف الإمام"؛ كما أن تقدّم الأمر على الحَظْر مضعّف له أيضًا.

والثاني: أن تقدّم الوجوب قرينةٌ تدل على أن النهي ليس للحظر، وأن الأستاذ نقل الإجماع على ذلك، وهو ظاهر الفَسَاد؛ لأن الأستاذ نقل الإجماع على خلاف ذلك، فكان

(1)

في أ: اتحاد.

(2)

في ب: المقول.

ص: 9

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأولى أن نقول: وفي كون تقدم الوجوب ليس قرينةً ناقلة للحظر حتى يطابق كلامه ما صرَّح به الأستاذ.

"فائدة"

عرفت فيما سبق حكم الأمر بعد الحظر، وبعد الاستئذان، والآن حكم النهي بعد الوجوب.

وأما الأمر والنهي إذا وَرَدَا جوابًا عن سؤال؛ كما في حديث كَيْفِيّة الصّلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كَيْفَ نصلّي عليك؟ فقال: "قُولُوا

" الحديث

(1)

.

وقول المِقْدَادِ رضي الله عنه: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلًا من الكُفّار فقاتلني فضرب إِحدى يدي فقطعها، ثم لاذَ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله؟ بعد أن قالها؟ قال:"لا".

ومن هذا قولهم: أينحني بعضنا لبعض إذا التقينا؟ قال: "لا" قال أَيُصَافح بعضنا بعضًا؟ قال: "نَعَمْ".

وقول سعد رضي الله عنه: أفأتصدق بمالي كله؟ قال: "لا".

وقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرُّطَبُ بالتمر: "أَيَنْقُصُ الرّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ " قيل: نعم قال: "لا".

وقولهم: أَنصلّي في مَبَارك الإبل؟ قال: "لا".

قالوا: أنصلّي في مَرَابِضِ الغَنَم؟ قال: "نَعَم".

وكل هذه أوامر ونواهٍ بعد استئذان، وقد اختلفت الأحكام فيها.

فقوله في الصلاة: "قُولُوا كَذَا"، وفي المُصَافحة "نَعَمْ" محمول على الاستحباب، بخلاف قوله في مرابض الغنم؛ فإنه للإباحة، وقوله في بيع الرطب بالتمر:"لا" فإنه محمول على التحريم، وفي الانحناء والصّلاة في مَبَارك الإبل على الكراهة، والوصيّة بما زاد على الثلث، صرح القاضي الحسين بأنها حَرَام.

(1)

أخرجه البخاري 11/ 173 كتاب الدعوات، باب هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم (6360) ومسلم 1/ 306، كتاب الصلاة على النبي بعد التشهد (69/ 407).

ص: 10

مَسْأَلة: النَّهْيُ عَنِ الشَّيْء لِعَيْنهِ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ شَرْعًا لا لغَةً وَقِيلَ: لُغَةً.

وثَالثُهَا: فِي الإجْزَاءِ لا الْسَبَبِيَّةِ.

وعبارة الرَّافعي: لا ينبغي أن يوصى بأكثر من الثلث.

وتحقيق القَوْل في هذا أن ينظر في كل مكان بحسب ما يرشد فيه السِّياق إليه، فتأمّله.

واعلم أنّ الوارد من مسائل الأمر والنهي ما عددناه من المَسَائِل.

"وله" - أي: وللنهي - "مسائل مختصّة" به ثلاث وهي هذه الآتية.

الشرح: مسألة "النَّهي عن الشيء إما أن يكون لغيره وهو ضَرْبان

(1)

:

أحدهما ما نهي عنه [لمعنى]

(2)

جاوره جمعًا؛ كوطء الرَّجُل زوجته وهي حَائِض

(3)

،

(1)

ينظر: المستصفى 2/ 24، والمنخول 126، والتبصرة 100، والإحكام للآمدي 2/ 174 - 175، وشرح الكوكب 3/ 83، وجمع الجوامع 2/ 393، وشرح العضد 2/ 85، وكشف الأسرار 1/ 258، وتيسير التحرير 1/ 376، والقواعد والفوائد لابن اللحام (110)، والعدة لأبي يعلى 2/ 432 - 447، واللمع ص 14، روضة الناظر 113، والمسودة (82)، وشرح تنقيح الفصول 173.

(2)

في أ، ب: لمعين.

(3)

اتفق أهل العلم على تحريم غِشيان الحائض، ومَن فَعَلَهُ عالمًا عصى، ومن استَحَلَّه كفَرَ، وهو محَرَّم بنَصِّ القرآنِ، ولا يَرتفِعُ التَّحريمُ حتى ينقطِعَ الدمُ وتغتسِلَ عند أكثر أهل العلم، وهو قول سالِم بن عبد الله، وسُليمان بن يَسار، ومجَاهِدِ، والحسن، وإبراهيم، وإليه ذهب عامة العلماء؛ لقوله سبحانه وتعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أي: اغتسلن.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز غِشيانُهَا بعد ما انقطعَ دَمُهَا لأكثر الحيضِ قبل الغُسْلِ.

واختلف أهل العلم في وجوب الكَفارَة بوطءِ الحائض، فذهب أكثرهم إلى أنه يستغفر الله ولا كفَّارةَ عليه، وهو قول سعيد بن المُسَيب، وسعيد بن جُبَيْر، وإبراهيم النخَعِي، والقاسم، وعطاء، والشَّعْبي، وابن سيرين، وبه قال ابن المبارَك، والشَّافعِيّ، وأصحاب الرأي.

وذهب جماعة إلى إيجاب الكَفَّارَةِ بإتيان الحائض، ومنهم قَتادَة، والأوزاعي، وأحمد،=

ص: 11

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكالبيع وقت النداء

(1)

، وكالصَّلاة في الدار المَغْصُوبة

(2)

، ..............

= وإسحاق، وقاله الشافعي في القديم.

(1)

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} .

البيع عند الآذان للجمعة، والمعنى الذي من أجله توجه النهي ما قد يشتمل البيع عليه من الإخلال بالسعي إلى الجمعة الواجب، بأن يقفا في الطريق أو يقعدا فيه للبيع، وهذا الباعث مقارن منفك؛ إذ ربّما لا يحتمل السّعي بالبيع بعد الآذان بأن يتبايعا وهما يمشيان إلى الصلاة. ولا يفوتني أن أنبه هنا على مسألة هامة هي أن أكثر الكاتبين يرى أن النهي في هذه البيوع مختص بالحالة التي يتحقق فيها مثار النهي، وضربوا لذلك مثلًا: البيع وقت النداء، فقالوا: إن تبايعا واقفين أو قاعدين في الطريق وقت الأذان للجمعة توجه النهي وكره البيع؛ لتحقق الإخلال بالسعي الواجب، وإن تبايعا ذاهبين إلى الصلاة، أو قاعدين في المسجد فلا نهى ولا كراهة تحريم.

وحقق بعضهم أن النهي في هذه البيوع عام يشمل الأحوال التي يتحقق فيها مثار النهي، والأحوال التي لا يتحقق فيها؛ لأن النصوص عامة ولا مخصص لها، فالنهي عن البيع عند النداء للجمعة عام يفيد حظر جميع البيوع التي تقع عنده، وإن كان سبب النهي الأمر المنفك، وهو الإخلال بالسّعي، فلا يجوز أن يقال: إنه إن حصل إخلال بالسعي: بأن تبايعا جالسين توجه النهي، وإلا فلا نهي، إذ يكون تخصيصًا بالرأي؛ وهو لا يجوز، فالإخلال بالسّعي المعتبر حكمة حقيقية للنهي لا يلزم حصوله في كل صور النهي؛ أو بالأحرى هو غير منضبط ولا ظاهر، فأقيم الوقت من أول النداء إلى الصلاة مقامه، فيكره كل بيع يقع مع النداء، كالسفر الذي جعل سببًا لرخصة الفطر والقصر في الصلاة، حصلت الحكمة الحقيقية وهي المشقة أو لم تحصل.

(2)

اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:

الأول: لا تجوز هذه الصلاة، ولا يسقط الطلب، بل هي محرمة. ذهب إلى هذا القول الجبّائي وابنه، وأحمد بن حنبل، وأهل الظاهر والزيدية، وقيل: إنه رواية عن مالك رضي الله عنهم، وقالوا: إن هذه الصلاة غير صحيحة، ولا يسقط الطلب بها، ولا عندها.

الثاني: للقاضي أبي بكر، وهو يوافق القول الأول في عدم صحتها، وعدم سقوط الطلب بها، ويخالفه بأن الطلب يسقط عندها، وإن لم تكن صحيحة.

الثالث: لجمهور العلماء من الحنفية والشافعية والمالكية وغيرهم، وهو صحة هذه الصلاة، وسقوط الطلب بها، وصحة توجه الأمر والنهي معًا إليها باعتبار الجهتين، فهذا الفعل الذي قد =

ص: 12

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أتى به المصلى في أرض الغير بغير إذنه مأمور به باعتبار كونه صلاة يتقرب بها إلى اللّه تعالى، ونهى عنه من جهة كونه غصبًا ومكثا في أرض الغير بغير إذنه.

واستدل الجمهور على صحة مثل الصلاة في الدار المغصوبة بأربعة أدلة:

الأول: لو لم لصح الصلاة في الأرض المغصوبة، لكان ذلك، لأن متعلق الأمر والنهي واحد ذاتًا وجهة، والتالي باطل فبطل ملزومه من عدم صحة هذه الصلاة، فثبت نقيضه، وهو صحتها: أي أن الوضع الشرعي باق فيها، فيجتمع الأمر والنهي فيها باعتبار الجهتين المنفكتين.

"بيان الملازمة": أنه لا مانع يتخيل من جواز الجمع وصحة هذه الصلاة سوى اتحاد المتعلق ذاتًا وجهة، فاتحاد متعلق الأمر والنهي فيها هو الذي يبطلها؛ إذ لا مانع سواه.

"وأما بطلان التالي": فلأنه المتعلق وإن كان واحدًا ذاتًا فهو متعدد جهة، فإن متعلق الأمر في هذه الصلاة، هو الأكوان المخصوصة من جهة كونها صلاة ومتعلق النهي فيها هو هذه الأكوان من جهة كونها غصبًا، وكل من الجهتين يتعقل انفكاكها عن الأخرى وقد جمع المكلف بينهما باختياره، وذلك لا يخرجهما عن حقيقتيهما اللتين لأجلهما توجه الأمر والنهي، فالفعل المحكوم عليه بالوجوب والحرمة متعدد بتعدد جهتيه، وذلك كالحكم على شخص بكونه مذمومًا لفسقه، ومشكورًا لكرمه، وذلك مما لا يتحقق معه التقابل بين الحكمين والمنع منهما.

"الثاني": لو قال السيد لعبده: أوجبت عليك خياطة هذا الثوب، وحرمت عليك السكنى في هذه الدار، فإن فعلت ذاك أثبتك، وإن فعلت هذا عاقبتك، فإنه إذا سكن الدار وخاط الثوب فيها يصح أن يقال: فعل الواجب والمحرم، ويحسن من السيد إثابته له على الطاعة، وعقابه له على المعصية قطعًا. فهذه المسألة نظير مسألتنا؛ فلا مانع من أن يجتمع فيها الأمر والنهي باعتبار الجهتين، فشغل حيز الدار بالسكنى فيها منهى عنه محرم، وهو داخل في مفهوم الحركات والسكنات المخصوصة الداخلة في مفهوم الخياطة، فهو واجب مأمور به من هذه الناحية، فالكون في حيز الدار واحد بالشخص مأمور به ومنهى عنه لجهتي الخياطة والسكنى، وهذا جائز قطعًا.

ولو رمى شخص سهمًا إلى مسلم بحيث يمرُق إلى كافر، أو إلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم، فإنه يثاب بقتله الكافر، ويملك سلبه، ويعاتب بقتله المسلم، ويقتل فيه قصاصًا، وإن كان فعله واحدًا إلا أنه تضمن أمرين مختلفين، فكذا ما نحن فيه.

"الدليل الثالث": لو لم تصح الصلاة في الأرض المغصوبة ويصح الجمع بين الوجوب =

ص: 13

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والحرمة في الشيء الواحد باعتبار الجهتين، لما ثبت صحة صوم مكروه، وصلاة مكروهة، والتالي باطل إجماعًا؛ لثبوت كراهة كثير من الصلوات والصوم، وإذا بطل التالي بطل المقدم، وهو عدم صحة الصلاة في الأرض المغصوبة، وعدم صحة الجمع بين الوجوب والحرمة في الواحد الشخصي ذي الجهتين؛ فثبت المطلوب من صحة الصلاة والجمع.

"بيان الملازمة": أن المانع المتصور من صحة الصلاة في المغصوبة هو التضاد بين الوجوب والحرمة، وكما يضاد الوجوب الحرمة يضاد الكراهة؛ إذ الأحكام كلها متضادة، فيلزم من عدم صحة الصلاة في المغصوبة للتضاد بين الوجوب والحرمة، عدم صحة صلاة مكروهة وصوم مكروه؛ للتضاد أيضًا بين الوجوب والكراهة.

وهذا الدليل قد ارتضاه صاحبا التحرير والمسلّم، ولم يرتضه العلامة ابن الحاجب، فساقه بصيغه التضعيف، ثم ناقشه "بأنه إن اتحد الكون منع وإلا لم يفد لرجوع النهي إلى وصف منفك" وحاصل هذه المناقشة منع وارد على الدليل السابق، مردد بين منع الملازمة، وبطلان التالي، وذلك للترديد في الصلاة المكروهة والصوم المكروه بين أن يكون متعلق الأمر والنهي واحدًا أو متعددًا.

فإن كان الكون فيهما واحدًا، وهو مأمور به لأنه جزء الصلاة أو الصوم المأمور بهما، ومكروه لأنه نهى عنه بنهي الكراهة، اتحد في كل منهما المتعلق للأمر والنهي، فالملازمة مسلمة، وبطلان التالي ممنوع؛ فإن الصلاة والصوم المكروهين حينئذ يكونان باطلين، كالصلاة في الأرض المغصوبة؛ إذ الكون في الحيز فيها واحد هو المأمور به؛ لأنه جزء الصلاة والمنهى عنه؛ لأنه الغصب.

وإن كان الكون فيهما متعددًا، فبطلان التالي مسلّم، والملازمة ممنوعة أي لا يلزم من عدم صحة الصلاة في الأرض المغصوبة مع اتحاد المتعلق عدم الصحة للصلاة المكروهة أو الصوم المكروه مع تعدد المتعلق.

وأجاب صاحب المسلّم بما إيضاحه:

أنه لا فرق بين الصلاة والصوم المكروهين، والصلاة في الأرض المغصوبة المحرمة؛ إذ الكون الصلوي في المكروهة واحد هو المأمور به، والمتصف بالكراهة المنهى عنه، فإن جوز نظرًا لتعدد الجهة وصرف نهى التنزيه فيه إلى الوصف المجاور المنفك، فليجوز الجمع بين الأمر ونهي التحريم في الصلاة. في المغصوبة بصرف النهي إلى الغصب وهو المجاور المنفك. وإن لم يجوز كانت الصلوات المكروهة كلها باطلة، وهو خلاف الإجماع.

وحاصل هذا الجواب: بيان أن المكروهات من الصلاة والصوم كلها من قبيل ما اتحد فيه الكون المأمور به والمنهى عنه. والاستدلال على بطلان التالي بالإجماع على صحة بعضها،=

ص: 14

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فلا وجه للمنع على هذا التقرير.

وقال الكمال: بل ليس في الصلاة في مكان الغصب والصلاة المكروهة والصوم المكروه نهى مقطوع به، وإلا لما كان للاجتهاد فيه مساغ بصرف النهي عن ذات الصلاة والصوم، فمن حيث إنه امتثال الأمر والنهي باعتبار بعض جهاته بظن أنه ليس بمنهى مطلقًا، ومن حيث إنه فعل واحد متضمن لأمر منهى يظن كونها منهيًا مطلقًا، فلم يقطع بمنعه؛ فلا ينافي صحته. فالمانع من الصحة في الواحد الشخصي، ومن جواز الجمع بين الأمر والنهي فيه خصوص تضاد بين الأمر والنهي، بألا يكون فيه اختلاف جهة أصلًا، أو له جهاته ولكن قطع بالمنع عنه.

وحاصل هذا: - بيان أن هذه المكروهات مما اتحد فيه متعلق الأمر والنهي، والاستدلال على بطلان التالي - أي على صحة هذه المكروهات بأنه لم يوجد ما ينافيها من اتحاد الجهة، أو القطع بالمنع من الفعل.

لو لم تصح الصلاة في الأرض المغصوبة، لما سقط بها التكليف، والتالي باطل، فقد نقل القاضي الإجماع على سقوط التكليف؛ وبمنع بطلان التالي؛ بناء على منع صحة نقل الإجماع؛ قال إمام الحرمين: لو كان إجماع لعرفه أحمد بن حنبل؛ لأنه أعرف به من القاضي؛ إذ هو أقرب زمانًا من السلف، ولو عرفه ما خالفه، فاندفع قول الغزالي وغيره: الإجماع حجة على أحمد؛ إذ لم يصح عنده.

واستدل القائلون ببطلان مثل الصلاة في الدار المغصوبة، وعدم سقوط التكليف بها ولا عندها، بثلاثة أدلة: -

"الأول": لو صحت الصلاة في الأرض المغصوبة لاتحد متعلق الأمر والنهي، واتحاد المتعلق للأمر والنهي باطل، فبطل ملزومه، وهو صحة هذه الصلاة، فثبت بطلانها، وهو المطلوب.

"وبيان الملازمة": أن الحركات والسكنات جزء الصلاة، وهي نفسها شغل ملك الغير، فهي غصب، لتكون منهيًا عنها، فلو كانت الصلاة صحيحة كانت مأمورًا بها أيضًا فيتحد المتعلق. وأما بطلان التالي فظاهر، ونوقش بأن بطلان التالي إنما يسلم أن لو كان المتعلق واحدًا ذاتًا وجهة، أما إذا كان له جهتان فنمنع بطلانه، وما معنا، وإن كان المأمور به والنهي عنه فيه فعلًا واحدًا، فهو بجهتين، فيؤمر به من جهة كونه صلاة، وينهى عنه من جهة كونه غصبًا.

"الثاني": لو صحت هذه الصلاة لصح نية التقرب بالمعصية، ونية التقرب بالمعصية باطلة، فبطل الملزوم وهو صحة هذه الصلاة، وثبت المطلوب من بطلانها.

"دليل الملازمة": أنه يشترط لصحة الصلاة نية التقرب بها إلى الله تعالى، وهذا الفعل معصية؛ إذ هو غصب وتعد، فلو صحت الصلاة لكانت نية التقرب بالمعصية جائزة، وأما بطلان التالي فمتفق عليه. =

ص: 15

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= " ونوقش" بمنع الملازمة من وجهين:

"أحدهما": أن نية التقرب ليست شرطًا لصحة الصلاة، وإنما الشرط نية الفعل، المأمور به وإن لم يخطر بباله التقرب.

"ثانيهما": سلّمنا أن نية التقرب شرطٌ، ولكن المكلف إنما ينوي التقرب بهذا الفعل من جهة كونه صلاة، ويعصى به من جهة كونه منهيًا عنه؛ لأنه غصب. وقد بان مما سبق انفصال الجهتين إحداهما عن الأخرى، فإن المصلى يجد من نفسه نية التقرب بالصلاة، وإن كان في أرض مغصوبة، ويعصى بهذا الفعل المخصوص؛ إذ لو سكن ولم يعمل شيئًا يكون غاصبًا، فهو يتقرب بفعل ليس هذا الفعل شرطًا لكونه غاصبًا.

وبكل من هذين الوجهين يتبين أن صحة الصلاة لا تستلزم صحة نية التقرب بالمعصية، فالملازمة ممنوعة.

"الثالث": لو صحت الصلاة المذكورة بناء على تعدد الجهة لصح صوم يوم العيد لتعدد الجهة أيضًا، فيكون مأمورًا به من حيث إنه صوم، ومنهيًا عنه من حيث وقوعه في يوم العيد، والتالي باطل بالاتفاق بيننا وبينكم.

وقد انقسم الجمهور في مناقشة هذا الدليل إلى فريقين: -

فغير الحنفية ناقشوه بمنع الملازمة، وذلك بإبداء الفرق بين الصوم والصلاة المذكورين من ثلاثة أوجه: -

الوجه الأول: أن الصلاة في الأرض المغصوبة فيها جهتان بينهما عموم وخصوص وجهي تجتمعان باختيار المكلف جمعهما، بأن يصلي في هذا المكان، وتنفرد جهة الصلاة بأن يصلي في مكان مملوك، وتنفرد جهة الغصب بأن يمكث في هذا المكان بلا صلاة، فهما حقيقتان منفصلتان، فيؤمر بإحداهما، وينهي عن الأخرى، ولا يلزم من صحة هذه الصلاة وحالتها هذه صحة الصوم في العيد؛ إذ الجهتان فيه بينهما عموم مطلق، وجهة الأمر هي العامة، فتجتمعان في الصوم في العيد، وتنفرد جهة الصوم في صوم يوم آخر، ولا تنفرد جهة الوقوع في يوم العيد عن الصوم في يوم عيد، وجهة الوقوع فيه هي الجهة التي لأجلها توجه النهي عن الصوم عند الشافعية، ففي صوم يوم العيد لا يمكن التلبس بالمعصية بدون الصوم، فيكون الصوم نفسه معصية فيحرم لعينه، فيبطل، بخلاف الصلاة في الأرض المغصوبة، فإن التلبس بمعصية الغصب فيها يمكن بدون هذه الصلاة، بأن يمكث في المكان بلا صلاة، فلم تتعين الصلاة للمعصية، فلا تكون منهيًا عنها لعينها، بل لغيرها المقارن؛ فتصح.

"الثاني": أن نهي التحريم ينصرف إلى الذات غالبًا، فيدل على البطلان للتدافع بين الحرمة=

ص: 16

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والوجوب، إلا إن قام دليل يدل على أن النهي للمقارن المنفك، وقد وجدت إطلاقات مفيدة للصحة في حق الصلاة فتشمل صحة الصلاة، في الأرض المغصوبة، فأوجبت أن يكون النهي عنها لخارج، ولذا قال الجمهور بصحتها، بخلاف الصوم في العيد؛ حيث لم يقم دليل صارف عن ظاهر البطلان. ويجاب عن هذا الوجه من المناقشة: بأن في الصوم أيضًا إطلاقات تفيد صحته، فكان اللازم أن تشمل صوم يوم العيد، وتصرف النهي إلى وصفه، وقد قلتم ببطلانه، وما ذلك إلا لتقييدكم هذه الإطلاقات بما عدا صورة النهي، فلتكن إطلاقات الصلاة كذلك.

"الثالث": أن منشأ المصلحة والمفسدة في الصلاة في المغصوبة متعدد، فإن منشأ المصلحة كون هذه الحركات والسكنات التي أداها عبادة وصلاة بها يطيع ربه ويظهر خضوعه وانقياده، ومنشأ المفسدة كونها غصبًا بها يعصي ربّه، فالكون عبادة، وهو منشأ المصلحة، والكون غصبًا، وهو منشأ المفسدة: أمران متعددان منفكَّان.

بخلاف الصوم في العيد؛ فإن منشأ المصلحة والمفسدة واحد، وهو صوم اليوم المخصوص؛ إذ جهة الطاعة هي الصوم الخاص، وهذا الصوم الخاص بعينه منهى عنه؛ لأنه به يعصي.

"وأجيب" عن هذا الوجه: بأنه لا فرق بين الصوم والصلاة، فإن منشأ المصلحة والمفسدة في الصلاة في مكان الغصب واحد، كما هو في الصوم في العيد؛ إذ الشغل للخير الذي هو الحركات والسكنات هو بعينه منشأ المصلحة؛ لأنه به يطيع، ومنشأ المفسدة؛ لأنه عين الغصب، فهو عاصٍ به.

"وقد يدفع هذا الجواب" بأن هذه الحركات والسكنات ليست منشأ مصلحة ولا مفسدة من حيث ذاتها، بل منشأ المصلحة كونها صلاة يتقرب بها إليه تعالى، ومنشأ المفسدة كونها شغلًا لملك الغير بغير إذنه، بخلاف الصوم في يوم العيد، فإن منشأ المفسدة هو نفس الصوم في العيد؛ إذ لا يمكن مخالفة النهي بارتكاب المنهى عنه إلّا به، فتعين للمعصية.

هذه المناقشات لدليل الخصم إنما هي من قبل غير الحنفية القائلين ببطلان صوم يوم العيد، فلا بد لهم من إبداء الفرق بينهما على نحو ما سلف تقريره، ومعهم الكمال بن الهمام من الحنفية؛ إذ يرى أن النهي عن العبادة يبطلها؛ لأنه ينفي ثمرتها.

"أما الحنفية" فإنهم يقولون بصحة صوم يوم العيد، وما شابهه من كل ما كان النهي فيه متوجهًا للوصف اللازم، فلا فرق عندهم بين الصلاة في الأرض المغصوبة والصوم في العيد من حيث صحة كل منهما، فهما سيّان من حيث القاعدة الأصولية، وهي جواز اجتماع الأمر والنهي في الواحد الشخصي ذي الجهتين، وإن كانت الجهتان في الصلاة بينهما العموم والخصوص الوجهي، وفي الصوم بينهما العموم المطلق، على أن هذا الفرق من إمكان الانفكاك في الصلاة في الدار المغصوبة من الجانبين وعدمه في صوم يوم العيد أدّى عندهم إلى اختلاف في أحكام =

ص: 17

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الفروع الفقهية سنشير إليه فيما بعد - إن شاء الله تعالى - فمن هذا كانت مناقشة الحنفية لدليل الخصم على نحو آخر غير ما سلكه من عداهم من الأصوليين.

فهم يسلمون الملازمة، ويمنعون بطلان التالي لصحة صوم يوم العيد عندهم، والخروج به عن عهدة النذر لو نذره، وقد أقاموا على ذلك الأدلة التي مر ذكرها.

واستدل القاضي أبو بكر على بطلان مثل الصلاة في الأرض المغصوبة، وسقوط التكليف عندها لا بها: -

بأن المصلى في حال غفلاته ليس قائمًا بحقيقة العبادة، وما يجري من أركان الصلاة في استمرار الغفلة معتدّ به وإن كان المأمور به عبادة؛ "وإيضاحه": أن صورة العبادة التي يؤديها المكلف مع الغفلة ليست عبادة، فلا يمكن القول بصحتها وسقوط التكليف بها، لكن أجمعت الأمة على عدم مطالبة صاحبها بالإعادة أو القضاء، وما ذلك إلا لسقوط التكليف عندها، والصلاة في الأرض المغصوبة قامت الأدلة على بطلانها، فلا يسقط التكليف بها، وقد أجمعت الأمة على عدم مطالبة صاحبها بالقضاء أو الإعادة، فيكون التكليف ساقطًا عندها، وإن لم يسقط بها، كصلاة من عنده غفلة.

قال إمام الحرمين في البرهان: - هذا وإن كان له وقع مما ذكره غيره فلست أراه لازمًا أصلًا. فإن الأمة مجمعة على أنَّهُ لا يجب إيقاع أركان الصلاة على حقائق العبادات، وإنما تكفي النية المقترنة بالعقد، وينسحب حكمها. لهذا سلك القاضي مسلكًا آخر قال: أسلّم أن الصلاة في الأرض المغصوبة لا تقع مأمورًا بها، ولكن يسقط التكليف بالصلاة عندها، كما يسقط التكليف بأعذار تطرأ كالجنون وغيره - قال إمام الحرمين: وهذا غير لائق بمنصب هذا الرجل الخطير؛ فإن الأعذار التي ينقطع بها الخطاب محصورة، فالصبر إلى سقوط الأمر غير متمكن من الامتثال ابتداء ودوامًا بسبب معصية لابسها، لا أصل له في الشريعة، ثم غاية القاضي في مسلكه هذا ادعاء الإجماع على سقوط الأمر عمن يقيم الصلاة في الأرض المغصوبة، وهو غير مسلّم مع ظهور خلاف السلف. اهـ وفضلًا عن هذا فقد ذهب القاضي بذلك إلى ما لا يعقل؛ إذ كيف يعقل أن مطلوبا يسقط طلبه إذا فعل لا على وجهه المشروع؟.

واستبعده أيضًا الإمام الرازي قائلًا: إن سقوط الطلب يكون بالامتثال أو النسخ، وكلاهما منتف.

"المختار":

مما سبق يظهر قوة أدلة الجمهور على جواز اجتماع الأمر والنهي في الواحد الشخصي ذي الجهتين المنفكتين، وصحة مثل الصلاة في الدار المغصوبة من كل ما نهى عنه لأمر مقارن منفك؛ وقد ردت المناقشات الواردة على أدلتهم، وبالعكس، ومن هذا ظهر ضعف أدلة =

ص: 18

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فكلّ ذلك منهي [للمعنى]

(1)

المجاور؛ فوطء الحائض لمجاورة الأذى، والبيع وقت النِّداء؛ للاشتغال عن السَّعي إلي الجمعة بعد ما لزم وهو [معنى]

(2)

يجاور البيع ولا يتصل به وصفًا، والصلاة في المَغْصُوبة منهية؛ لأنها تشغل ملك الغير المجاور للصَّلاة جمعًا غير متّصل به [وصفا]

(3)

.

والأكثرون في هذا الضرب على أنه لا يدل على الفساد، وقد مضى الكلام عليه في مَسْالة الصَّلاة في الدار المَغْصُوبة".

الضَّرب الثاني: ما نهى عنه لمعنى اتّصل به وصفًا كما ذكرنا؛ كأن

(4)

وطئ غير مملوك فكان قبيحًا شرعًا؛ لأن الشَّارع قصد ابتغاء النَّسْل بالوَطْءِ على محلّ مملوك، وكالرِّبَا فإنه قبيح لمعنى اتّصل به وصفًا وهو انعدام المُسَاواة التي هي شَرْط جواز البيع في هذه [الأحوال]

(5)

شرعًا، وكصوم يوم النَّحر، وأيّام التَّشْرِيق، فإنه لمعنى اتّصل بالوَقْت الذي هو محلّ الأداء وصفًا، وهو أنه يوم عيد ضِيَافة.

وسيأتي الكلام على هذا الضَّرب - إن شاء الله تعالى - في المسألة الثانية لهذه.

وأما أن يكون [لعينه]

(6)

كفعل اللُّوطي، فإن مقصود الشَّارع بالوطء النسل، وهذا المحملُ ليس محلًّا له أصلًا فكان قبيحًا شرعًا

(7)

.

وكبيع المَلاقِيحِ والمَضَامِين؛ فإن البيع مقابلة مال بمال، والماء في الصّلب والرحم لا مالية له فكان قبيحًا شرعًا؛ لأنه ليس محلًّا للبيع، وكالصَّلاة بغير طَهَارة مع القدرة؛ لأن الشارع قصر الأَهْلِية في هذه الحالة عليها، فتنعدم الأهلية بانعدامها، فقبحت شرعًا.

= الخصم بمناقشتها، فلم تنهض حجة على مدعاهم. فالمختار من هذه الأقوال هو ما ذهب إليه الجمهور. قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله في أثر النهي في العبادات. وينظر: تيسير التحرير ج 2 ص 219، والتقرير والتحبير في 2 ج ص 139، ومسلم الثبوت ج 1 ص 104، والآمدي ج 1 ص 162 وما بعدها. والمستصفى ج 1 ص 76 وما بعدها، والموافقات ج 3 ص 163، ص 191، ص 207، ص 257.

(1)

في ب: لمعين.

(2)

في ب: معين.

(3)

في أ: وضعا.

(4)

في أ، ب: فإن.

(5)

في أ، ب، ج: الأموال.

(6)

في أ، ب: لعيب.

(7)

أوضح ذلك فأقول: لقد وجد الأصوليون أنه قد جاء عن الشارع بعض النواهي والتصرفات=

ص: 19

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= المنهى عنها فيها باطلة، كالنهي عن نكاح المشركات ونكاح المحارم، والنهي عن الصلاة بدون طهارة، والنهي عن بيع المضامين والملاقيح، والنكاح بغير شهود ونحو هذا. كما أنه قد جاء عنه بعض آخر، والتصرفات فيه مشروعة صحيحة مستعقبة لثمراتها المطلوبة منها شرعًا، كالنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، والبيع عند النداء، وطلاق الحائض ونحو هذا.

فاقتضاهم هذا النظرَ فيما تفيده صيغة النهي من جهة اللغة والشرع:

ففي اللغة: وجد أنه للمنع من الفعل والحظر عنه، ولا دلالة فيه على صحة التصرف أو بطلانه، كما هو اختيار جمهورهم.

وفي الشرع: وجد أن فيه أصلين متعارضين لا يمكن اجتماعهما في ذات التصرف.

"الأصل الأول": أن النهي يفيد في المنهى عنه صفة القبح ضرورة حكمة الناهي تعالى؛ إذ لا ينهى إلا عما هو قبيح، كما لا يأمر إلّا بما هو حسن "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر".

"الأصل الثاني": أنه يوجب تصور المنهى عنه؛ لأن النهي ابتلاء من الله تعالى لعباده، والابتلاء يعتمد الاختيار والكسب، وهو لا يكون إلا إذا كان المنهى عنه متصور الوجود بحيث لو أقدم عليه يوجد، فيبقى العبد مبتلًى بين أن يقدم على الفعل فيعاقب أو يكف عنه باختياره فيثاب، فيكون عدم الفعل، مضافًا إلى كسب العبد، هذا هو موجب حقيقة النهي.

فإن أمكن الجمع بين هذين الأصلين: أي اقتضاء القبح وتصور الوجود عمل به العلماء، ففي الأفعال الحسية أمكن الجمع، لأنه لا يمتنع وجود الحسى بسبب القبح، فكانت التصرفات الحسية المنهى عنها من نحو الزنى والقتل وشرب الخمر قبيحة لذاتها محرمة غير مشروعة أصلًا باتفاقهم.

وفي التصرفات الشرعية لم يمكن الجمع بين هذين الأصلين؛ لأن أدنى درجات المشروعات أن تكون مرضية للحكيم العليم، والقبيح لا يكون مرضيًا له تعالى، فلم يمكن الجمع بين المشروعية والقبح في التصرف الشرعي، فصار العلماء إلى الترجيح.

فذهب الشافعي إلى ترجيح جانب القبح وإبطال المشروعية التي هي الاعتبار الشرعي في التصرف، ذاهبًا إلى أنه يكفي لكون النهي ابتلاء تصور الوجود الحسى من غير اعتبار من الشارع، والحقيقة الشرعية لا يشترط لتحققها اعتبار الشارع.

فالنهي عند الشافعية يفيد البطلان في التصرفات الشرعية لمضادة القبح والتحريم للاعتبار الشرعي، كما في كثير من التصرفات المنهى عنه، وما وجد من التصرفات المنهي عنها ولم يفد النهي بطلانه فإنما كان ذلك لدليل وقرينة. وأقاموا الأدلة على ذلك.

وذهب الحنفية إلى ترجيح جانب المشروعية في أصل التصرف، وصرف النهي إلى الوصف =

ص: 20

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هذا معنى النَّهي عن الشَّيء "لعينه"، وليس معناه أن ينهي عنه غير مقيد بقيد؛ كما وَهِمَ الشِّيرازي نحو: لا تَصُمْ ولا تَبِعْ.

وهذه مسألة الكتاب وفيها مذاهب

(1)

:

= كما هو الحاصل في كثير من التصرفات المنهى عنها ذاهبين إلى أن الابتلاء ووقوع الحقيقة الشرعية لا يتحققان إلّا به. وما جاء منها وقد أفاد النهي بطلانه فإنما كان ذلك لدليل دل عليه، وأقاموا على ذلك أدلتهم.

وذهب فريق ثالث من العلماء إلى التفرقة بين العبادات والمعاملات، فقال بدلالة النهي على بطلان العبادات، أما المعاملات فلا دلالة للنهي فيها على صحة أو فساد، بل يلتمس لصحتها أو فسادها أدلة أخرى غير النهي عنها، ومن الذاهبين إلى هذا الرأي الغزالي، والرازي، والكمال بن الهمام.

"ثمرة هذا الخلاف" تتلخص الثمرة لهذا الخلاف بين الأصوليين في أن هذه التصرفات الشرعية من عبادات ومعاملات، والتي وضعها الشارع تعالى لثمرات مقصودة من شرعيتها مترتبة عليها إذا ما نهى عنها في بعض المواضع هل يبقى فيها هذا الوضع الشرعي، فتترتب عليها تلك الثمرات المطلوبة منها كالصلاة للثواب وتفريغ الذمة، والبيع للملك فتكون مشروعة مع النهي عنها، أو ارتفع عنها هذا الوضع الشرعي فأضحت لا تفيد ثمرتها فهي باطلة؟ ويستطيع الباحث إدراك القيمة العملية لهذه الثمرة بسهولة إذا ما تتبع أبواب الفقه المختلفة؛ إذ لا يكاد يجد بابًا منها خاليًا عن هذه المنهيات المتفق على تحريمها أو كراهتها، المختلف في بطلانها وصحتها. ما قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله:

(1)

تنوعت أراء العلماء فيما يفيده النهي في الشرعيات من أثر إلى ما يأتي:

أولًا: ذهب جماهير الأصوليين من أصحاب الشافعي ومالك والحنابلة وجميع أهل الظَّاهر، وجماعة من المتكلمين، وهو ظاهر مذهب الشافعي إلى أن النهي المطلق عن الشرعيات يفيد قبحها لذاتها، وفسادها أي: عدم الاعتداد بها شرعًا، وعدم ترتب ثمراتها المقصودة منها عليها، وهو البطلان.

وانقسموا إلى طائفتين: طائفة ترى أن دلالة النهي على البطلان من جهة اللغة، وطائفة ترى أن تلك الدلالة مستفادة من الشرع، وإليه ذهب الآمدي وابن الحاجب، سواء أكانت الشرعيات عبادات أم معاملات.

ثانيًا: الطريق الثاني وهم جمهور الحنفية حيث ذهبوا إلى أن النهي المطلق عن الشرعيات عبادات ومعاملات لا يدل على بطلانها، بل يدل على صحتها ومشروعيتها بالأصل دون الوصف، فيصرفون النهي لغير ما أضيف إليه، وهو وصفه، ويطلقون على المنهى عنه اسم =

ص: 21

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفاسد.

ثالثًا: والفريق الثالث من العلماء ذهب إلى التفريق بين بعض الشرعيات وبعضها الآخر، فيرى أن النهي عن العبادات يدل على بطلانها؛ وأن النهي عن المعاملات لا يدل على بطلان فيها ولا صحة وهو اختار المحققين من الشافعية كالقفال والغزالي، كما اختاره الإمام الرازي في المحصول.

وكذا أتباعه، ومنهم صاحب الحاصل، وبه قال كثير من المعتزلة كأبي عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار، واختاره الكمال بن الهمام من الحنفية.

تفصيل الكلام في الرأي الأول حيث يرى الإمام الشافعي رضي الله عنه أن النهي المطلق عن التصرفات الشرعية، الأصل فيه أن يقتضي القبح والتحريم لذات التصرف المنهى عنه، فيكون باطلًا غير مشروع بأصله ووصفه، كما أنه إن دلّ الدليل على أن النهي متوجه إلى الوصف اللازم أفاد بطلان التصرف أيضًا، فلا فرق عنده بين المنهيّات الحسّية والشرعية، ولا بين الشرعيات من عبادات ومعاملات، أن النهي إن كان مطلقًا، أو دلّ الدليل على أنه للوصف اللازم أفاد في ذلك كله القبح والتحريم، فيفيد البطلان. نقل هذا المذهب ابن برهان في الوجيز عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، ونص الشافعي في الرسالة قبيل أصل العلم ما يفيد أن النهي عن التصرفات الشرعية يدل على بطلانها فبعد أن عرض أنواعًا من الأنكحة المنهي عنها بقوله: "فأما إذا عقد بهذه الأشياء كان النكاح مفسوخًا بنهي الله في كتابه وعلى لسان نبيه عن النكاح بحالات نهي عنها، فذلك مفسوخ، وذلك أن ينكح الرجل أخت امرأته وقد نهى الله الجمع بينهما، وأن ينكح الخامسة وقد انتهى الله به إلى أربع، فبين النبي أن انتهاء الله به إلى أربع خطر عليه أن يجمع بين أكثر منهن، أو ينكح المرأة على عمتها أو خالتها وقد نهى النبي عن ذلك، وأن ينكح المرأة في عدتها، فكل نكاح كان من هذا لم يصح، وذلك أنه قد نهى عن عقده، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم.

ومثله - والله أعلم - أن النبي نهى عن الشغار، وأن النبي نهى عن نكاح المتعة وأن النبي نهى المحرم أن ينكح أو ينكح، فنحن نفسخ هذا كله من النكاح في هذه الحالات التي نهى عنها بمثل ما فسخنا به ما نهى عنه مما ذكر قبله، وقد يخالفنا في هذا غيرنا، وهو مكتوب في غير هذا الموضع. ومثله أن ينكح المرأة بغير إذنها فتجيز بعد، فلا يجوز؛ لأن العقد وقع منهيًا عنه؛ قال بعد هذا -: ومثل هذا ما نهى عنه رسول الله بيع الغرر، وبيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، أو غير ذلك مما نهى عنه، وذلك أن أصل مال كل امرئ محرم على غيره إلا بما أحل به. وما أحل به من البيوع ما لم ينه عنه رسول الله ولا يكون ما نهى عنه رسول الله من البيوع محلًّا ما كان أصله محرمًا من مال الرجل لأخيه، ولا تكون المعصية بالبيع المنهى عنه تحل =

ص: 22

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أولها: وبه قال الجمهور من المذاهب الأربعة: أنه "يدلّ على الفساد".

= محرمًا، ولا تحلّ إلّا بما لا يكون معصية، وهذا يدخل في عامة العلم.

وصرح في الأم بقوله: مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان على التحريم لم يختلف أكثر العامة فيه: أنه نهى عن الذهب بالورق إلّا هاء وهاء، وعن الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثلا يدًا بيد، ونهى عن بيعتين في بيعه، فقلنا والعامة معنا: إذا تبايع المتبايعان ذهبا بورق أو ذهبا بذهب فلم يتقابضا قبل أن يتفرقا فالبيع مفسوخ. وكانت حجتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا نهى عنه صار محرمًا. وإذا تبايع الرجلان بيعتين في بيعة فالبيعتان جميعًا مفسوختان ما انعقدت، وهو أن يقول أبيعك على أن تبيعني، لأنه إنما انعقدت العقدة على أن ملك كل واحد منهما عن صاحبه شيئًا ليس في ملكه. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، ومنه أن أقول سلعتى هذه لك بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر إلى أجل، فقد وجب عليه بأحد الثمنين، لأن البيع لم ينعقد بشيء معلوم، وبيع الغرر فيه أشياء كثيرة نكتفي بهذا منها ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشغار والمتعة.

فأجرينا النهي مجرى واحدًا إذا لم يكن عنه دلالة تفرق بينه، ففسخنا هذه الأشياء والمتعة والشغار، كما فسخنا البيعتين" اهـ.

أما تحصيل القول الثاني عند الحنفية فالأصل عندهم في النهي عن الشرعيات أن يقتضي القبح لغير المنهى عنه فيقتضي أن يكون المنهى عنه الشرعي صحيحًا ومشروعًا بأصله فاسدًا ومحرمًا بوصفه هذا إن كان مطلقًا أو مقيدًا بما يفيد أنه للوصف اللازم، فاسدًا ومحرمًا بوصفه هذا إن كان مطلقًا أو مقيدًا بما يفيد أنه للوصف اللازم.

وعلى هذا فالخلاف بين الحنفية والشافعي في مسألتين:

"المسألة الأولى" أن النهي عن الشرعيات عبادات ومعاملات بلا قرينة يقتضي القبح والتحريم لذات التصرف عن الشافعية فيكون غير مشروع لا بأصله ولا بوصفه، ويسميه الشافعية فاسدًا وباطلًا.

وما عند الحنفية فإنه يقتضي القبح والتحريم لغيرة وصفًا لازمًا، فيكون التصرف صحيحًا ومشروعًا بأصله، فاسدًا وغير مشروع بوصفه، وتترتب عليه الأحكام الشرعية المقصودة من شرعية التصرفات، ما لم يكن حكم النهي منافيًا لحكم التصرف الشرعي، فإن كان منافيًا له أبطله. إذا يفقد التصرف فائدته حينئذٍ.

"المسألة الثانية" إذا بينت القرينة على أن النهي أفاد قبحًا في غير المنهى عنه وكان ذلك الغير وصفًا لازمًا، فحكمه حكم القبيح لنفسه عند الشافعية، فيكون التصرف باطلًا بأصله ووصفه أيضًا: إذ النهى عن الوصف يضاد مشروعية الأصل عندهم. وعند أبي =

ص: 23

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثم اختلفوا فقال جمهورهم: يدل "شرعًا

(1)

لا لغةً"، واختاره المصنف.

"وقيل: لغة".

= حنيفة: لا يكون حكمه حكم القبيح لذاته، بل يكون القبيح للوصف فقط. فيكون مشروعًا وصحيحًا بالأصل دون الوصف، وهو الفاسد، كالقسم الأول.

(1)

استدل الجمهور على مدعاهم بأدلة خمسة: -

"الأول" - "الإجماع": وبيانه أن العلماء في الأمصار والأعصار المختلفة لم يزالوا يستدلون على بطلان العبادات والمعاملات بالنهي عنها، وهذا إجماع منهم على أنه يدل على البطلان، وليست هذه الدلالة لغوية؛ إذ ليس مدلول النهي اللغوي سوى طلب ترك الفعل، وليس فيه إشعار بسلب الأحكام والثمرات وهو البطلان؛ فثبت أن الدلالة شرعية.

"الثاني": أن النهي لطلب ترك الفعل، وهو إما أن يكون المقصود دعا الشارع إلى طلب الترك أو لا لمقصود، لا جائز أن يقال: إنه لا لمقصود. أما على أصول المعتزلة القائلين بوجوب الصلاح والأصلح عليه تعالى؛ فلأنه عبث، والعبث قبيح، والقبيح لا يصدر عن الشارع تعالى. وأما على أصول أهل السنة فإنهم وإن جوزوا خلو بعض أفعال الله تعالى عن الحكم والمقاصد، فهم يعتقدون أن الأحكام المشروعة لا تخلو عن حكمة ومصلحة راجعة إلى العبد، لكن بطريق الوقوع لا بحكم الوجوب؛ فالإجماع إذًا منعقد على امتناع خلو الأحكام الشرعية عن الحكم، سواء أظهرت لنا أم لم تظهر، وإذا بطل أن يكون نهي الشارع لا لمقصود، تعين أن يكون لمقصود دعاه للنهي عن الفعل.

وإذا كان لمقصود، فلو صح التصرف وكان مستعقبًا لحكمه المقصود منه، فإمّا أن يكون مقصود النهي راجحًا على مقصود الصحة، أو مساويًا، أو مرجوحًا: لا جائز أن يكون مرجوحًا، إذ المرجوح لا يكون مقصودًا مطلوبًا في نظر العقلاء بله الشارع تعالى، وما لا يكون مقصودًا لا يرد طلب الترك لأجله، وإلّا كان الطلب خليًّا عن الحكمة، وهو ممتنع لما سبق.

ولا جائز أن يكون مساويًا لمقصود الصحة؛ إذ لو كانت الحكمتان متساويتين لتعارضتا وتساقطتا، وكان فعله كتركه، فيمتنع النهي عنه لخلوه عن الحكمة حينئذ، فلم يبق إلّا أن يكون راجحًا على مقصود الصحة، ويلزم من ذلك امتناع الصحة، وامتناع انعقاد التصرف لإفادة أحكامه واستعقاب ثمراته، وإلا كان الحكم بالصحة خاليًا عن حكمة ومقصود ضرورة كونه مقصودها مرجوحًا على ما تقدم بيانه، وإثبات الحكم خليًا عن الحكمة في نفس الأمر ممتنع؛ لما فيه من مخالفة الإجماع. فثبت أن التصرف المنهى عنه لم يفد ثمراته ولم ينعقد، فكان باطلًا للنهي عنه، وهو المطلوب.

"الثالث": قوله عليه الصلاة السلام: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ" وجهة الدلالة ظاهرة. =

ص: 24

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال ابن السمعاني: ويمكن أن يقال: يقتضي الفساد من حيث المعنى، لا من حيث اللَّفظ قال: وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة من أصحاب أبي حنيفة.

وثانيها: لا يدلّ عليه أصلًا.

وهو قول الشَّيخ أبي الحسن الأشعري، والقاضيين أبي بكر، وعبد الجَبَّار.

واختاره من أصحابنا القَفّال الكبير، وأبو جعفر السَّمعاني، وحجّة الإسلام الغزالي، قالوا: وإنما الاعتماد في فساده على اعتماد الشَّرع على فوات شرط، ويعرف الشرط بدليل يدلّ عليه، وعلى ارتباط الصِّحة به، نص الغَزَالي على ذلك، وأنه يخالف في المَنْهي عنه لعينه؛ كما يخالف في المَنْهي عنه لوصفه.

ولا تحسبن المصنّف أهمل حكاية هذا المذهب، بل قد أشار إليه إذ قال: ثالثها والثالث ظاهره أنه قول في المسألة، ويدلّ له أيضًا قوله بعد ذلك:[الثَّاني]

(1)

.

"وثالثها في الإجزاء" أي: العبادات - عبّر عنها بذلك؛ لأن معنى الصِّحة في العبادات كونها [مجزئة]

(2)

، "لا السَّببية" - أي: المُعَاملات. وعبّر عنها بذلك؛ لأن معنى الصِّحّة في المُعَاملات كونها سببًا لترتيب الآثار.

وهذا رأي أبي الحُسَين، والإمام الرازي

(3)

.

وأبو الحُسَين أطلق اختياره في "المعتمد"

(4)

، ولم يقيد كلامه بالمنهي عنه لعينه ولوصفه.

وهنا مهم، وهو أن قول المصنّف بعد ذلك القَائل يدلّ على الصحّة يقتضي أن القائلين بأن النهى عن الشَّيء لعينه لا يدلُّ على الفساد.

= "الرابع": أن النهي المطلق عن التصرفات الشرعية يدل على قبح المنهى عنه لذاته، كالنهي عن الأفعال الحسية، إذ يفيد فيها قبحًا ذاتيًا بالاتفاق، وكل ما كان منهيًا عنه لعينه وذاته كان باطلًا، فالتصرفات المنهى عنها نهيًا مطلقًا باطلة وغير مشروعة.

"الخامس": أن من حكم النهي وجوب الانتهاء وصيرورة الفعل على خلاف موجبه معصية ومحرمًا، وكل ما هو كذلك لا يكون مشروعًا. قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله.

(1)

في أ، ب، ج: النافي.

(2)

في أ: مجرية.

(3)

المحصول 1/ 2/ 486.

(4)

المعتمد 1/ 184.

ص: 25

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اختلفوا في أنّه هل يدلّ على الصحة؟ وإن هذا دليل [قائلهم]

(1)

بالصِّحة - وعلى ذلك حمله الشَّارحون، ونقلوا ذلك عن أبي حَنِيفَةَ، ومحمد بن الحسن.

وفيه نظر، فإن القول بدلالة النَّهي عن الصِّحة لا يُعْرَف في قسم المَنْهِي لعينه، بل في المنهى لوصفه.

وقد صرَّح شمس الأئمة وغيره من الحنفية؛ بأنَّ المنهي لعينه غير مشروع أصلًا

(2)

، وأن النهي فيه إخبار عن عدمه بدون محلّه، أو بدون شرطه، أو بدون سببه، ونحو ذلك، فيكون في الحقيقة نفيًا عبر بالمَنْهِيّ عنه مجازًا؛ بمنزلة قولك: لا رجل في الدَّار.

وكذلك نقل عنهم ابن السَّمعاني نقلًا [مجردًا]

(3)

؛ لأنه كان من أئمة الحنفية قبل انتقاله إلى مذهبنا فقال: قال المعبرون عن طريقة أبي زيد: النَّهي المطلق نوعان: نهي عن الأفعال الحسّية

(4)

؛ مثل الزنا، والقتل، والشرب، فيدلّ على قُبحها في نفسها لا في أعيانها، إلا أن يقوم دليلٌ على خلاف ذلك

(5)

.

ونهى عن التصرُّفات الشرعية؛ مثل: الصوم، والصلاة، والبيع فيقتضي قبحًا لمعنى في غير المنهي عنه، لكن متصلًا بالمنهي عنه فينتفي صفة المَشْرُوعية عن المنهي عنه من وجه مع تصوُّره في نفسه.

(1)

في أ، ب، ج: قائليهم.

(2)

ينظر: كشف الأسرار 1/ 258.

(3)

في أ، ب، ج: محررًا.

(4)

وهي ما لها تحقق حسي وليس لها تحقق شرعي، فالشارع لم يعتبره لأحكام مقصودة منه مرتبة عليه هي نعم وإن رتب عليه أحكامًا هي عقوبات وزواجر كالقتل، وشرب الخمر، والزنا، فإن الزنا مثلًا له تحقق حسِّي، وهو سفْح الماء في محل مُشتهى غير مملوك وليس له تحقق شرعي، لأن الشارع لم يعتبر له شرائط زائدة، ولم يرتِّب عليه أحكامًا شرعية هي نعم.

(5)

الأصل في النهي عن الفعل الحسِّي أن يقتضي قبحه وتحريمه لذاته باتفاق العلماء؛ إذ لم يقم دليل يدل على أن القبح والتحريم للغير المنفك، ذلك لأنه يقصد بالنهي عن الحسِّي المنع من إيجاده حسًا، وما ذلك إلا لقبح في ذاته الحسيَّة، إمَّا لقبح جميع الأجزاء، أو بعضها، وإذا كان الأصل في النهي المطلق عن الحسيَّات أن يقتضي ما ذكر، فلا يصرف عنه إلا لضرورة بأن يوجد معه دليل يدل على أن النهي عنه لغيره، فحينئذ يكون قبيحًا لغيره، فإن كان ذلك الغير وصفًا لازمًا فحكمه حكم القبيح لعينه، فهو ملحق به، إلَّا أن القبيح لعينه حرام لعينه، وهذا حرام لغيره، ولا يريدون بقولهم: إنه قبيح لعينه أن ذلك الفعل قبيح من حيث ذاته؛ لما عرف من مسألة الحسن والقبح أن حسن الشيء وقبحه إنما يكون لجهات يقع عليها، فالمراد منه أن =

ص: 26

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والحاصلُ: أن المنهي عنه لعينه لا يختلف [الحنفية]

(1)

في فَسَاده، فاحفظ ذلك. وما سيذكره المصنّف من أدلّة القائلين بأنه يدلّ على الصِّحة، يدل على أن خلافهم إنما هو في المَنْهِيّ عنه لوصف، وسنبيّنه إن شاء الله تعالى.

= ذات الفعل الذي أضيف إليه النهي قبيحة وإن كان ذلك لمعنى زائد على ذاته كالكفر والظلم والعبث؛ فإن أعيانها قبيحة باعتبار ما في الكفر من كفران النعمة، وما في الظلم من وضع الشيء في غير موضعه، وما في العبث من الخلو عن الفائدة، إلا أنه لما كان هذا المعنى القبيح لم ينفك من حيث هو قبيح عن الفعل أعطى حكم الذات، فقيل للقبح الناشئ عنه: قبح ذاتي، والمراد ما لا ينفك عنه جميع أجزاء الفعل؛ أو عن بعضه، والقبيح لعينه باطل بالاتفاق.

فتكون هذه التصرفات الحسيَّة المنهى عنها بالنهي المطلق، والتي أفاد النهي فيها قبحًا وتحريمًا ذاتيًا لقبح جميع الأجزاء، أو البعض أو لجهة لم يرجح عليها غيرها، كالزنا القبيح لما فيه من تضييع النسل واختلاط الأنساب. أو أفاد قبحها لوصفها اللازم غير مشروعة أصلًا لا بأصلها ولا بوصفها، فلا يترتب عليها حكم شرعي مطلوب للشارع، ولا تقبل حرمتها النسخ، بل هي جرائم دينية حرّم الشارع اقترافها والتلبس بها، ورتّب على ارتكابها أحكامًا هي عقوبات وزواجر رادعة لتمنع من التَّلبس بها، كالقصاص في القتل، والرجم والجلد في الزنا، والجلد في شرب الخمر.

وإن دلَّ الدليل على أن النهي في الحسِّي لأمر خارج هو مُقارن منفك فلا يفيد النهي في هذه الحالة قبح الذات، بل يفيد القبح والتحريم لهذا المقارن المنفك، فيستتبع هذا التصرف حكمه الشرعي الذي رتَّبه عليه الشارع، كوطء الحائض نهى عنه بقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} . ودلَّ الدليل الذي قبله، وهو قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} على أن النهي عن قربان الزوجة وهي حائض، إنما هو للمقارن المنفك، وهو الأذى، فإن وطئها في زمن الحيض ووجد الحبل يثبت النسب اتفاقًا، ولا يعدّ الوطء زنا وإن كان حرامًا.

فتلخص أن النهي عن الحسيَّات متفق عليه بين جميع العلماء من حيث إفادته ما تدل عليه القرينة إن كان مقيدًا، وإفادته القبح الذاتي والبطلان إن كان مطلقًا. قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله.

(1)

سقط في أ، ج.

ص: 27

لَنَا: أَنَّ فَسَادَهُ سَلْبُ أَحْكَامِهِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً قَطْعًا.

وَأَمَّا كَوْنُهُ يَدُلُّ شَرْعًا؛ فلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ تَزَلْ تَسْتَدِلُّ عَلَى الْفَسَادِ بِالنَّهْيِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَالأَنْكِحَةِ وَغَيْرِهَا.

وَأَيْضًا: لَوْ لَمْ يَفْسَدْ، لَزِمَ مِنْ نَفْيِهِ حِكْمَةٌ لِلنَّهْيِ، وَمِنْ ثُبُوتِهِ حِكْمَةٌ، لِلصِّحَّةِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا فِي التَّسَاوِي وَمَرْجُوحِيَّةِ النَّهْيِ، وَيَمْتَنِعُ الْنَّهْيُ لِخُلُوِّهِ عَنِ الْحِكْمَةِ، وَفِي رُجْحَانِ الْنَّهْيِ تَمْتَنِعُ الصِّحَّةُ لِذَلِكَ.

الشرح: "لنا": على أن النهي لا يقتضي الفَسَاد لغةً، ويقتضيه شرعًا "أن فساده"

(1)

معناه: "سلب أَحْكامه"، "وليس في اللَّفظ" - لفظ النهي - "ما يدلُّ عليه لغة قطعًا" - لا بالمُطَابقة، لأن الصيغة إنما وضعت للزَّجْرِ، لا لسلب الأحكام، ولا بالتضمن؛ لأن سلب

(1)

استدلوا بالسنة والإجماع والمعقول: -

"أَمَّا السُّنة" فقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ". وفي رواية: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو ردّ" ففيه دلالة على أن الفعل المنهى عنه مردود، ولا شك أن المردود من أفعال العباد ليس بصحيح ولا مقبول، فالفعل المنهى عنه إذًا ليس بصحيح فهو باطل، "دليل الصغرى" أن الفعل المنهى عنه ليس بمأمور به ولا هو من الدين، فيكون مردودًا بنص الحديث. والكبرى واضحة.

"ونوقش" هذا الدليل بثلاثة أوجه: -

أحدها: وهو من قبل الحنفية: لا نسلم أن الفعل المنهى عنه المأتى به من حيث كونه سببًا لترتب أحكامه عليه، ليس من الدين فلا يكون مردودًا؛ فنمنع صغرى الدليل.

وثانيها: وهو من قبل الحنفية أيضًا - أنا لو سلمنا الصغرى نقول: إنه لا يلزم من كون الفعل المنهى عنه المأتى به مردودًا ألّا يكون سببًا لتترتب أحكامه عليه، بل هو محل النزاع، فالمراد من كونه مردودًا أنه غير مقبول طاعة، أي غير مثاب عليه، ونحن نقول به، ولا يلزم منه سلب الأحكام والثمرات، فكلية الكبرى ممنوعة.

ثالثها: وهو من قبل الجمهور: نسلم أن الحديث يفيد أن النهي يدل على بطلان المنهى عنه، ولكن نمنع أن تكون هذه الدلالة بمقتضى النهي لغة، بل هي مأخوذة من قوله عليه الصلاة والسلام:"فهو ردّ" فالدلالة شرعية لا لغوية.

"وأمَّا الإجماع" فبيانه: أن الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - استدلوا على بطلان العقود وجميع التصرفات الشرعية الباطلة بالنهي عنها، فمن ذلك احتجاج ابن عمر رضي الله عنه

ص: 28

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

على بطلان نكاح المشركات بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} ولم ينكر عليه أحد؛ كما استدل الصحابة على بطلان عقود الربا بمثل قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق. إلخ" وقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} ولم يسندوا ذلك إلى توقيف من الشارع؛ فكان إجماعًا منهم على دلالته على البطلان من جهة اللغة.

"ونوقش" من قبل الجمهور بأنا لا نسلم صحة احتجاجهم على البطلان بدلالة النهي لغة، بل إنما كان ذلك بتوقيف من الشارع، وستأتي الأدلة الدالة على ذلك.

وأما الحنفية فيمنعون استدلال الصحابة على البطلان في هذه التصرفات بنفس النهي؛ فإنهم إنما يستدلون به على مجرد التحريم، أما البطلان حيث وجد مع النهي فهو لدليل آخر.

"وأمَّا المعقول" فوجهان: -

"الأول": أجمع العلماء على حمل بعض التصرفات المنهى عنها على البطلان كبيع المضامين والملاقيح، ولو لم يكن ذلك مقتضى النهي لكان الأمر خارجًا، والأصل عدمه، فيلزم من ذلك البطلان حيث وجد النهي، وإلا كان فيه نفي المدلول مع تحقق دليله، وهو ممتنع.

"ونوقش" من قبل الجمهور - بان البطلان في محل الإجماع إنما كان للتوقيف من الشارع، لا لأنه مدلول النهي لغة.

ومن قبل الحنفية - بأنه إنما كان لدليل مستقل أفاد الشرطية أو الركنية، فيبطل التصرف بفقدهما.

"الثاني": كل من الأمر والنهي للطلب والاقتضاء، والأمر لطلب الفعل، والنهي بخلافه، فهو لطلب الترك، فهما متقابلان، والأمر يفيد الصحة، فليكن النهي دليل البطلان المقابل للصحة، ضرورة أن النهي مقابل للأمر.

"ونوقش" بأوجه ثلاثة: -

الأول: وهو للجمهور - سلمنا أن النهي مقابل للأمر، وأنه يجب أن يكون حكمه مقابلًا لحكم الأمر، لكن الأمر إنما يفيد الصحة شرعًا لا لغة؛ إذ هو في اللغة ليس إلّا لطلب إيقاع الفعل من غير إشعار بترتب الثمرات، فيكون النهي مفيدًا للمقابل، وهو البطلان شرعًا لا لغة، وهو غير مدعاكم.

الثاني: وهو من قبل الحنفية - سلمنا أن الأمر يفيد الصحة، لكن نمنع أن المتقابلات يجب أن تقابل كل أحكامها، فلا نسلم أن مقتضى النقض نقض المقتضى؛ لجواز الاشتراك في لازم واحد.

الثالث: وهو من قبل الحنفية أيضًا - سلمنا أن المتقابلات يجب أن تتقابل أحكامها، لكن

ص: 29

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأحكام [ليس]

(1)

جزءًا من الموضوع، ولا بالالتزام؛ لأن الذهن لا ينتقلُ عند سَمَاعِ النَّهي إلى فهم سلب الأحكام، فانتفت الثلاث، فانتفت الدلالة اللغوية.

"وأما كونه يدل شرعًا، فلأن العلماء لم تزل تستدلّ على الفساد بالنهي في الرِّبويات والأنكحة وغيرها" شائعًا ذائعًا من غير نَكِيرٍ، فكان إجماعًا منهم على الدّلالة الشرعية.

"وأيضًا": فإنه "لو لم يفسد" للنَّهي عنه شرعًا "لزم من نفيه حكمة للنَّهْيِ"؛ لكونه مطلوب الكَفّ، "ومن ثبوته حكمة للصِّحة، واللازم باطلٌ" فالملزوم مثله.

بيان المُلَازمة: أن النهي طلبُ التَّرك، فلو لم يكن لحكمة كان عبثًا، وهو قبيح عند المعتزلة، وعندنا غير واقع؛ لأنا وإن جوزنا خلوّ الأحكام عن الحكم فلا نقول: وقع شيء إلا على وفق الحِكْمَةِ، ولو سلّم خلوّ بعضها فهو نادر، والحكم للغالب، وأما انتفاء اللازم فلأن حكمتي النهي والصحة؛ إما أن يكونا متساويين، أو يترجّح حكمة الصّحة أو بالعكس، والأقسام باطلةٌ؛ "لأنها""في" قسمي "التَّسَاوي""ومرجوحية النهي"، "ويمتنع النّهي لخلوّه عن الحِكْمَةِ" الراجحة حينئذ.

"وفي رجحان النهي"، ومرجوحيّة الصِّحة "تمتنع الصِّحة لذلك" - أي: لخلوها عن الحكمة الرَّاجحة والمساوية.

= نقيض اقتضاء الأمر للصحة ألّا يقتضي النهي الصحة، فإذا كان الأمر دالًّا على الصحة، وسلمنا التقابل بين أحكام المتقابلين؛ فإنه يلزم منه أن يكون النهي غير دال على الصحة، وهو أعم من دلالته على البطلان، والأعم لا يستلزم الأخص.

ويمكن أن يقال على هذا الوجه الثالث من المناقشة: إنه مع تسليم أن المتقابلات يجب تقابل مقتضياتها يجب التسليم بأن مقتضى النهي عدم الصحة، وهو البطلان، فالقول بأن نقيض اقتضاء الأمر الصحة، عدم اقتضاء النهي الصحة لا يتفق مع هذا التسليم، بل هو رجوع إلى منع أن المتقابلات يجب تقابل مقتضياتها؛ لأنه عليه يكون الأمر مقتضيًا للصحة، والنهي ليس مقتضيًا لها، فلا يكون مقتضاهما متقابلًا، فيرجع إلى الوجه الثاني.

من مناقشة الأدلة السابقة، وبيان بطلانها يتبين بطلان الرأي المستند إليها، والقائل بدلالة النهي على بطلان التصرفات الشرعية من جهة اللغة. قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله.

(1)

في أ، ج: ليست.

ص: 30

اللُّغَةُ: لَمْ تَزَلِ الْعُلَمَاءُ.

وَأُجِيبَ: لِفَهْمِهِمْ شَرْعًا. بِمَا تَقَدَّمَ.

قَالُوا: الأَمْرُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، وَالنَّهْيُ نَقِيضُهُ؛ فَيَقْتَضِي نَقِيضَهَا.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهَا لُغَةً، وَلَوْ سُلِّمَ فَلا يَلْزَمُ اخْتِلَافُ أَحْكَامِ الْمُتَقَابِلَاتِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَلَّا يَكُونَ لِلصِّحَّةِ لَا أَنْ يَقْتَضِيَ الْفَسَادَا.

النَّافِي لَوْ دَلَّ، لَنَاقَضَ تَصْرِيحَ الصِّحَّةِ، وَ"نَهَيْتُكَ عَنِ الرِّبَا لِعَيْنِهِ"، وَ"تَمَلَّكْ بِه" - يَصِحُّ.

وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ بِمَا سَبَقَ.

الشرح: واحتجّ من ذهب إلى أن الفَسَاد تقتضيه "اللُّغة" بوجهين:

أحدهما: أنه "لم تزل العلماء" تستدلّ بالنهي على الفساد، فدلّ أنهم فهموه منه.

"وأجيب": إنما ذلك "لفهمهم" الفَسَاد "شرعًا" لا لغةً، "لما تقدّم" من أنه لا يدلّ على الفساد لغة.

والثاني: "قالوا: الأمر يقتضي الصحة" صحة المأمور به، "والنهي يقتضيه فيقتضى نقيضها"، وهو الفساد؛ لأن مقتضى النقيضين نقيضان.

"وأجيب""بأنه لا يقتضيهما لغةً" بل ولا شرعًا، وإنما الصِّحة أمر عَقْلي على أصل المصنّف، وإنما يقتضيهما شرعًا، ونحن قائلون به في النَّهي.

"ولو سلّم" أنه يقتضيها لغةً "فلا يلزم اختلاف أحكام المُتَقَابلات"، حتى تثبت للنهي الذي هو مقابل الأمر ضد ما ثبت للأمر، بل جاز اشتراك المُتَقَابلات في بعض اللوازم.

"ولو سلّم" لزوم اختلاف أحكامها؛ "فإنما يلزم ألّا يكون للصحة، لا أن" يكون للفساد؛ لأن مقابل اقتضاء الصّحة، عدم اقتضاء الصّحة، وذلك أعم من "اقتضاء""الفساد"، ولا إشعار للأعم بالأخصّ.

الشرح: واحتجّ "النَّافي "لدلالة النَّهي على الفَسَاد مطلقًا؛ بأنه "لو دلّ لناقض تصريح الصحة""و "الملازمة ظاهرة، واللازم منتفٍ، فإنه لو قال:"نهيتك عن الرِّبَا لعينه"، فإن وقع صحّ "وتملك به" المبيع، "يصح" هذا القول، ولا مُنَاقَضة فيه عرفًا ولا شرعًا ولا لغةً.

ص: 31

الْقَائِلُ يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ: لَوْ لَمْ يَدُلَّ، لَكَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرَ الشَّرْعِيِّ، وَالشَّرْعِيُّ الصَّحِيحُ؛ كَصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَالصَّلَاةِ فِي الأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْمُعْتَبَرَ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعي الصَّلَاةَ"، وَلِلُزُومِ دُخُولِ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ مُمْتَنِعًا، لَمْ يُمْنَعْ.

[وَ] أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَنْعَ لِلنَّهْيِ، وَبِالنَّقْضِ بِمِثْلِ:{وَلَا تُنْكِحُوا} [سورة البقرة: الآية 221]، وَ"دَعِي الصَّلَاةَ".

قَوْلُهُمْ: نَحْمِلُهُ عَلَى اللُّغَوِيِّ - يُوقِعُهُمْ فِي مُخَالَفَةِ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا يُمْنَع، ثُمَّ هُوَ مُتَعَذِّرٌ فِي الْحَائِضِ

"وأجيب بالمنع" - منع الملازمة - "لما سبق" مرارًا كما في مسألة التكرار؛ أنه لا تناقض بين الصريح والظاهر.

ولقائل أن يقول: أمّا الدليل فليس في محلّ النزاع؛ لأن النَّهي في الرِّبا لوصفه لا لعينه، ومعنى النهي عن الشيء لعينه ما أسلفناه من انعدام محله، وهذا ليس موجودًا هنا.

وقولهم هنا: "لعينه" المراد به عين الربا الذي هو الزيادة، وهو وصف قائم بذلك البيع، ويحترز به عن النهي [المجاور]

(1)

"النَّهي عن البيع وقت النداء"؛ فإن ذلك لا يقتضي الفساد عند الأكثرين.

وأما منع المُلَازمة: فقضيّتها أن يكون النّهي ظاهرًا في الفساد، لا صريحًا فيه، وقد صرّح في "المختصر الكبير" في المسألة التي بعده بأن الفَسَاد في المَنْهى لعينه يقتضي الفَسَاد بالصَّراحة، بخلاف المنهي لوصفه.

الشرح: واحتجّ "القائل" بأنه "يدلّ على الصِّحة"، بأنه "لو لم يدلّ" عليها "لكان المنهى عنه غير الشرعي"، "و "الملازمة بيّنة؛ إذ "الشرعي" هو "الصحيح" - أي: الذي يوجد صورته في الخارج على الوجه الشَّرعي المعتبر؛ لأن النهي عما لا يكون لغوًا؛ إذ لا

(1)

في ج: للمجاور.

ص: 32

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يستقيم أن يقال للأعمى: لا تبصر، واللازم منتفٍ؛ لأن المنهي "كصوم يوم النَّحْرِ، والصلاة في الأوقات المكروهة" ليس الّلغوي، لجوازه، هذا تقريره فاعتمده.

وعليه يدلّ كلام أبي زيد الدبوسي؛ إذ يقول ما حاصله: النَّهي لا يصح عن غير المتكون؛ لأن النَّهي يرد، والمراد به انعدام الفِعْل مضافًا إلى اختيار العباد وكسبهم؛ فلا بد من تكون المَنْهِيّ عنه ليكون العبد دائرًا بين أن يكفّ عنه باختياره فيثاب، أو يفعله فيعاقب؛ ولهذا لا يصحّ أن يقال للأعمى: لا تبصر، وللآدمي: لا تَطِرْ، وربما قالوا: النَّهي يطلب الامتناع من المنهى عنه.

ولا بد من تصوّر المنهى عنه حتّى يتحقّق فعل النهي عنه، فعلى هذا المنهى عنه هو الصوم في يومي العيد، وأيام التَّشريق، وكذا الصَّلاة عند غروب الشَّمس، والصَّوم اسم لفعل مخصوص، وكذا الصّلاة، فوجب تصوّرهما بعد النهي؛ ليتحقق النهي عنهما شرعًا.

قال: ولا يجوز أن يقال: يتصور بصورة الامتثال، وصورة أفعال الصّلاة؛ لأن الصوم إنما صار صومًا بصورته ومعناه، وكذلك الصَّلاة، وإذا لم يوجد المعنى لم يوجد النَّهي، [والحذق أن] الذي تخيلتموه موجودًا ليس بصلاة ولا صوم.

وأما ما قرره الشَّارحون في بيان المُلازمة من أن المنهى عنه إذا لم يكن صحيحًا لم يكن [شرعيًّا]

(1)

معتبرًا؛ لأن الشرعي المعتبر، هو الصحيح، فما لا يكون صحيحًا معتبرًا لا يكون شرعيًّا؛ كصوم يوم النَّحْر

(2)

................................

(1)

في ج: شرعًا.

(2)

ما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الأضحى وصيام يوم الفطر".

وروى الطبراني بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أيام منى صائحًا يصيح: ألا لا تصوموا في هذه الأيام: فإنها أيام أكل وشرب وبعال أي وقاع. ورواه الدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث هزيل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق ليصيح في فجاج منى: ألَا إنّ الذكاة في الحلْق واللَّبَّة، ولا تُعْجِلُوا الأنفس أن تزهق، وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال". وفي سنده سعيد بن سلام، كذبه أحمد. وأخرج أيضًا عن عبد الله بن حذافة السهمي قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلة أيام منى أنادي: أيها الناس إنها أيام أكل وشرب وبعال" وضعِّف بالواقدي.

وأخرج ابن أبي شيبة في الحج، وإسحاق بن راهويه في مسنده قالا: حدثنا وكيع عن موسى بن =

ص: 33

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والصَّلاة في الأوقات المكروهة

(1)

، فإنهما لمَّا لم يكونا صحيحين معتبرين في نظر الشَّرع لم يكونا شَرْعيين، فإنه لا يتأتى على أصول الحَنَفِيّة؛ لأن من أصلهم أن الصَّوْم مشروع، وإن كونه محظورًا لا ينافي مَشروعيته.

= عبيدة عن منذر بن جهم، عن عمر بن خلدة عن أمه قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا بنادي: أيام منى أيام كل وشرب وبعال".

وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وبعال" زاد في طريق آخر "وذكر لله تعالى".

فهذه الأيام الخمسة: يوم الفطر ويوم الأضحى، وأيام التشريق الثلاثة، وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة أكثر الفقهاء على أنه لا يصح فيها صيام شيء من الواجبات كقضاء رمضان والكفارة والنذر المطلق، ولا يصح التطوع أيضًا؛ للنواهي المتقدمة التي أفادت تحريم الصوم فيها لما يلزمها من الإعراض عن ضيافة الله تعالى.

فهذا النهي قد أبطل الصوم عند غير الحنفية، وجعله ناقصًا عند الحنفية فلا يتأدى به الكامل.

واختلفوا فيما لو نذر صيام يوم من هذه الأيام هل يصح هذا النذر ويلزمه الوفاء به، أو لا يصح؟

فعند علماء الحنفية الثلاثة يصح هذا النذر، ويلزمه الوفاء به. وقال الشافعي وزفر: إنه بعد صحة النذر يفتى بأن يفطر في هذه الأيام، ويقضى في أيام أخر لا نهي فيها؛ لتحصل له العبادة على الخلوص، ويتخلص من المعصية، ولو صام في هذه الأيام خرج عن العهدة؛ لأنه أداه كما التزمه. قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله.

(1)

الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في الأوقات:

حديث عقبة بن عامر الثابت في صحيح مسلم وغيره قال: "ثلاثة أوقات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند زوالها حتى تزول، وحين تضيِّف للغروب حتى تغرب".

قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، وإذا غرب فارقها" ونهى عن الصلاة في تلك الساعات. رواه مالك في الموطأ والشافعي عنه والنسائي، وابن ماجه من رواية عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي، وفد اختلف في صحبته، ورواه مسلم من حديث عمرو بن عبسة في حديث طويل.

قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" متفق عليه من حديث أبي سعيد، واتفقا عليه أيضًا من حديث أبي هريرة =

ص: 34

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بلفظ "نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس

الحديث" يتبين من هذا أن الأوقات التي جاءت الأحاديث بالنهي عن الصلاة فيها خمسة:

عند طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح أو رمحين، ويستدلى سلطانها بظهور شعاعها، وعند استوائها حتى تزول، وعند اصفرارها حتى يتم غروبها "الرابع" بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. "والخامس" بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس.

فقال الحنفية: إن النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة الأولى قد أفاد فيها كراهة التحريم؛ لأن النهي ظني الثبوت ولم يصرفه عن مقتضاه صارف؛ وفرّعوا على ذلك أن قضاء الفرائض والواجبات لا يصح في هذه الأوقات، ولا يصح الصبح إن طلعت عليه الشمس وهو يصليه؛ بخلاف عصر اليوم إن بدأ فيه قبل مغيب الشمس فغابت وهو يصليه إذ يصح مع الكراهة، بخلاف النوافل فإنه يصح الشروع فيها في هذه الأوقات، غير أنه ينبغي أن يقطعها، فإن قطعها وجب عليه القضاء في وقت غير مكروه، وإن أتمها أجزأه مع الكراهة. وقالوا إن عدم صحة الفرائض في هذه الأوقات ليس ناشئًا من كراهة التحريم وحدها، بل لأنها في الصلاة لما كانت لنقصان في الوقت منعت أن يصح فيه ما تسبب عن وقت لا نقص فيه؛ إذ لا يتأدى ما وجب كاملًا بالناقص، وذلك أن حديث مالك المتقدم في الموطأ أفاد كون المنع لما اتصل بالوقت مما يستلزم كون فعل الأركان فيه تشبهًا بعبادة الكفار، وهذا هو المراد بنقصان الوقت، وإلا فالوقت في ذاته لا نقص فيه، بل هو وقت كسائر الأوقات، وإنما النقص في الأركان المقومة للحقيقة، فلا يتأدى بها ما وجب كاملًا، ولكون الوقت نفسه لا نقص فيه لو أسلم الكافر، أو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون في الجزء المكروه فلم يؤد الفرض حتى خرج الوقت، فإن السبب في حقهم لا يمكن جعله كل الوقت حين خرج؛ إذ لم يدركوا مع الأهلية إلا ذلك الجزء، فليس السبب في حقهم إلا إياه، ومع هذا لو قضوا في وقت مكروه لا يجوز؛ لأن الثابت في ذمتهم كامل لا نقص فيه؛ إذ لا نقص في نفس الوقت، بل المفعول فيه يقع ناقصًا، غير أن تحمل ذلك النقص لو أدى فيه العصر ضروري، وهو في نفسه كامل، فيثبت في ذمته كذلك، فلا يخرج عن عهدته إلا بكامل. وكذلك لا تصح سجدة التلاوة، ولا صلاة الجنازة في الوقت المكروه إذا حصل سببهما في وقت غير مكروه، أما إذا وجد السبب في وقت مكروه فإنها تصح فيه ويصح قضاؤها في مثله، وذلك لأنه عند التلاوة مثلًا يخاطب بالأداء موسعًا، ومن ضرورته تحمل ما يلزمه من النقص لو أدى عندها، بخلاف ما إذا تليت في وقت غير منهى عنه فإن الخطاب لم يتوجه بأدائها في وقت مكروه، فلا يجوز قضاؤها في مكروه، وكذا لو قضى في الوقت المكروه ما قطعه من النفل المشروع فيه في وقت مكروه، فإنه يخرجه عن العهدة وإن كان آثمًا؛ لأن وجوبه ضرورة صيانة المؤدي عن البطلان ليس غير، والصون عن =

ص: 35

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= البطلان يحصل مع النقصان، وإنما قالوا بجواز عصر اليوم عند تغير الشمس واصفرارها لما تقرر في الأصول من أن سبب وجوب الصلاة هو الوقت، لكن لا يمكن أن يجعل كل الوقت سببًا للوجوب؛ لأنه لو كان كله سببًا له لوقع الأداء بعده؛ لوجوب تقدم السبب على المسبب بجميع أجزائه، كما أنه لا دليل على قدر معيّن منه كالربع والخمس مثلًا، فوجب أن يجعل بعض منه سببًا، وأقل ما يصلح لذلك هو الجزء الذي لا يتجزأ، والجزء السّابق لعدم ما يزاحمه أولى، فإن اتصل به الأداء تعيّن لحصول المقصود من الأداء، وإن لم يتصل به الأداء ينتقل إلى الجزء الذي يليه وهكذا إلى أن يضيق الوقت، ولم يتقرر على الجزء الماضي؛ لأنه لو تقرر كانت الصلاة في آخر الوقت قضاء، وليس كذلك، فكان الجزء المتصل بالأداء أو الجزء المضيق أو كل الوقت إن لم يقع الأداء فيه هو السبب؛ لأن الانتقال من سببية الكل إلى الجزء كان لضرورة وقوع الأداء خارج الوقت على تقدير سببية الكل، وقد زالت فيعود كل الوقت سببًا، ثم الجزء الذي يتعين سببًا للصلاة تعتبر صفته من الصحة والفساد، فإن كان صحيحًا بألّا يكون موصوفًا بالكراهة ولا منسوبًا إلى الشيطان كوقت الظهر وجب المسبب كاملًا، فلا يتأدى ناقصًا، وإن كان السبب ناقصًا بأن كان منسوبًا إلى الشيطان كالعصر إذا استأنفه في وقت الاصفرار وجب الفرض فيه ناقصًا تبعًا لنقصان سببه، فيجوز أن يتأدى ناقصًا؛ لأنه أداه كما وجب، بخلاف غيره من الصلوات الواجبة بأسباب كاملة، فإنها لا تقضي في هذه الأوقات؛ لأن ما وجب كاملًا لا يتأدّى ناقصًا، وبخلاف ما إذا بدأ في صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فطلعت. وهو يصلي حيث تبطل الصلاة؛ لأنها وجبت كاملة، فلا تتأدى بالناقص الواقع عند طلوع الشمس.

قال السرخسي في الفرق بين صلاة عصر اليوم عند الاصفرار فغابت الشمس وهو يصلي، وصلاة الصبح فطلعت الشمس وهو يصلي حيث صحت الأولى وبطلت الثانية: - إن الطلوع بظهور حاجب الشمس وبه لا تنتفي الكراهة، بل تتحقق فكان مفسدًا للفرض، والغروب بآخره، وبه تنتفي الكراهة؛ فلم يكن مفسدًا للعصر.

"أمّا النوافل" فالصلاة النافلة التي يشرع فيها الإنسان في هذه الأوقات الثلاثة: قال الحنفية: إنها صحيحة تلزم بالشروع فيها وتضمن بالقطع، حتى لو قطعها وجب عليه القضاء، وينبغي أن يقطعها ويقضيها في وقت تحل فيه الصلاة تخلّصًا من الكراهة، فإن قضاها في وقت آخر مكروه أجزأه وقد أساء؛ لأنه لو أتمها في ذلك الوقت أجزأه مع الإساءة، فكذا إذا قضاها في مثل ذلك الوقت. وقال زفر: إن قطعه لا يضمن، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى؛ لأنها منهى عنها؛ فلم تجب صيانتها عن البطلان. "ووجه القول الأول" - وهو ظاهر الرواية - أن الصلاة تركبت من أجزاء مختلفة غير متجانسة من قيام وركوع وسجود، فلا =

ص: 36

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يكون لبعضها اسم الصلاة، وإنما ينطلق الاسم عند انضمام هذه الأجزاء بعضها إلى بعض بأن يقيد الركعة بالسجدة، وصارت الركعات بعد ذلك أجزاء متجانسة، فكان لركعة واحدة اسم الصلاة، ولهذا لو حلف ألّا يصلي فشرع في الصلاة لا يحنث ما لم يقيّد الركعة بالسجدة، ومن انتقل من الفرض إلى النفل قبل تمامه لا يجعل متنفلًا ما لم توجد منه السجدة لأن ما دون الركعة ليس بصلاة، والنهي ورد عن الصلاة في هذه الأوقات فلم يكن الشروع فيها منهيًا عنه، ولا القيام والقراءة والركوع، وإنما يتوجه النهي إلى هذا الفعل عند وجود السجدة فما مضى قبل ذلك انعقد عبادة محضة غير منهى عنها، فإبطالها حرام، وصيانتها واجبة، ولا تحصل الصيانة دون المضيّ، فكان المضي في حق ما مضى امتناعًا عن إبطال العمل وهو واجب، وفي حق ما يستقبل تحصيل طاعة وتحصيل معصية، فكان المضيّ طاعة ومعصية وامتناعًا عن معصية، وهي إبطال العبادة، وترك المضيّ امتناع عن معصية وطاعة وتحصيل معصية، وهي إبطال عبادة محضة، فترجحت جهة المضيّ على جهة القطع، فإذا قطع الصلاة فقد قطع عبادة وجب عليه المضيّ فيها؛ فيلزمه القضاء.

هذا هو ما ذكره بعض المشايخ توجيهًا لقول الحنفية بصحة النوافل في هذه الأوقات.

وقد ناقش الكمال هذا التوجيه فقال ما حاصله: -

إن محصل هذا التوجيه أن النهي يتعلق بمسمى الصلاة، ومسمّاها مجموع الأركان، وبمجرد الشروع لا تتحقق الأركان، فلم يتحقق المنهى عنه، فصح الشروع لعدم تعلق النهي به، فيلزم القضاء بالإفساد وهو مدفوع؛ إذ كون مسمّى الصلاة لا يتحقق إلا بالأركان، ولا يقتضي وجوب القضاء بالإفساد؛ لأن وجوب القضاء بوجوب الإتمام قبل الإفساد، والثابت نقيضه، وهو حرمة الإتمام بالنهي.

كما يلزم عليه أيضًا أن تفسد الصلاة بعد ركعة؛ لارتكاب المنهى عنه حينئذ، وهو منتفٍ عندهم، فالوجه ألّا يصح الشروع؛ لانتفاء فائدته من الأداء والقضاء، ولا مخلص لهم من هذه المناقشة إلّا بجعل كراهة الصلاة النافلة في الأوقات الثلاثة المكروهة تنزيهية، وهي لا تنافي الصحة والمشروعية، غير أنه لم يقل به إلّا بعض من لا يعول على قوله.

وأمّا "الشافعي" رحمه الله تعالى فقال: إنّ هذه الأوقات المكروهة لا ينهى عن الصلاة فيها على الإطلاق، بل عن بعض أنواع منها، وما ورد فيها من النهي المطلق حمل على ذلك البعض، فالنهي والكراهة إنما هما لكل صلاة ليس لها سبب خاصّ متقدم أو مقارن لوقت النهي، وهي النوافل المطلقة. =

ص: 37

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أمّا الصلوات التي لها سبب متقدم على وقت النهي أو مقارن له كقضاء الفرائض والسنن الفائتة وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة، وركعتي الطواف - فإنها جائزة غير منهى عنها، كما أن الصلاة مطلقًا جائزة عنده بحرم مكة فرضها ونفلها، وجوّز أيضًا التنفل يوم الجمعة وقت الزوال، وبه قال أبو يوسف رحمه الله.

استدل "الشافعي" رضي الله عنه على إخراج الفرائض المقضية من النهي والكراهة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها" رواه الدارقطني والبيهقي في الخلافيات من حديث أبي هريرة بسند ضعيف، وأصله متفق عليه دون قوله:"فإن ذلك وقتها".

فيرى الشافعيّ أن هذا الحديث خاصّ في الصلاة التي نام عنها أو نسيها، فيخص به حديث عقبة بن عامر الذي ينهى عن جميع الصلوات، فاستدل بهذا الحديث على صحة الصلاة التي تقدم سببها، وكان قد نسيها أو نام عنها ثم تذكرها بعد مضي وقتها، ويلحق به كل قضاء إذ لا فرق. كما استدلّ به على صحة الصلاة التي لم يزل وقتها باقيًا وتذكرها؛ إذ قوله:"ثم ذكرها" أعمّ من أن يكون قد مضى وقتها أو ما زال باقيًا. ويلحق بذلك أيضًا الفرض الذي أخره من غير نوم أو نسيان حتى دخل وقت الكراهة؛ إذ لا فرق.

"وثانيًا": بما روى مجاهد عن أبي ذر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، إلا بمكة إلا بمكة" رواه الشافعي قال: أخبرنا عبد الله بن المؤمل عن حميد مولى عفرة عن قيس بن سعد عن مجاهد "وفيه قصة" ورواه أحمد عن يزيد عن عبد الله بن المؤمل، إلا أنه لم يذكر حميدًا في سنده. ورواه الدارقطني والبيهقي.

واستدل الشافعيّ وأبو يوسف رحمهما الله على إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال بما جاء في مسند الشافعي رحمه الله تعالى قال: أخبرنا إبراهيم بن محمّد عن إسحاق بن عبد الله عن سعيد المقرئ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة".

"ونوقش" بأن إسحاق وإبراهيم ضعيفان، ورواه الأثرم من طريق فيه الواقدي وهو متروك الحديث، كما روى من طرق أخرى لم تخل عن ضعف، فلا ينهض للاحتجاج به في مقابلة حديث النهي العام الشامل ليوم الجمعة وغيره، وبعد التنزل فيه أيضًا استثناء يوم الجمعة، والاستثناء عندنا تكلم بالباقي بعد الثنيا، فيكون حاصله نهيًا مقيدًا بكونه في غير يوم الجمعة، فيقدم عليه حديث عقبة المعارض له فيه؛ لأنه محرم.

ويقول "الكمال": إن هذا الحديث لا يعارض حديث عقبة إلا بمفهوم الصفة، فعند من يقول =

ص: 38

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وأجيب بأنَّ الشرعي ليس هو المعتبر" - أي: الصَّحيح؛ "لقوله صلى الله عليه وسلم: "دَعِي الصَّلَاةَ"، قاله لفاطمة بنت حُبَيْش

(1)

، وقد قالت: إني امرأةٌ أستحاض، فلا أطهر أفأدع الصَّلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي" رواه الشيخان في "الصحيحين"

(2)

.

= به كالشافعي يحتاج إلى الترجيح، فيلزم تقديم المحرم على المبيح، أمّا أبو يوسف الذي يقول به فلا يحتاج إلى ترجيح إذ لا تعارض، وإنما كل ما فيه أنه إفراد فرد من العامّ بحكمه، وهو لا يعارضه ولا يخصص على ما هو معروف في الأصول، فيلزمه ألّا يقول بالإباحة.

"أمّا الوقتان الآخران": وهما ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وما بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، فإنهما لا يصلى فيهما شيء من النوافل، ولا بأس بأن يصلّى في هذين الوقتين الفوائت ويسجد للتلاوة، ويصلى على الجنازة؛ إذ النهي فيهما إنما جاء عن التطوعات خاصّة، فمن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: شهد عندي رجال مرضيّون، وأرضاهم عندي عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب" متفق عليه.

هذا، وثبت عن عائشة رضي الله عنها في الصحيحين:"ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعهما سرًا ولا علانية: ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان بعد العصر" وفي لفظ: "ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتيني في يوم بعد العصر إلّا صلى ركعتين" وفي لفظ لمسلم عن طاوس عنها قالت: وهم عمر رضي الله عنه، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحرّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك" وفي لفظ للبخاري عن أم أيمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله تعالى، وما لقي الله تعالى حتى نقل عن الصلاة وكان يصليهما ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحب ما خفف عنهم" فمن هذا يتبين أن عائشة رضي الله عنها كانت ترى أن الركعتين بعد صلاة العصر جائزتان غير منهى عنهما. قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله.

(1)

فاطمة بنت أبي حُبَيْش، واسمه قيس بن المطلب بن أسد، الأسدية، مهاجرة جليلة، وهي التي استحيضت. روى حديثها عروة بن الزبير. ينظر: أسماء الصحابة الرواة ت (427)، وأزمنة التاريخ الإسلامي 997، وأسد الغابة 7/ 218، والإصابة 8/ 61، والخلاصة 3/ 389، والكاشف 3/ 377، والثقات 3/ 335، وتهذيب 12/ 442، وتقريب 2/ 609.

(2)

أخرجه البخاري (1/ 409) كتاب الحيض: باب الاستحاضة (306)، ومسلم (1/ 262)، كتاب الحيض باب المستحاضة وغسلها وصلاتها حديث (62/ 333) من حديث عائشة.

ص: 39

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ووجه الاستدلال به أن تقول: لو كان الشَّرعي هو الصَّحيح لصحّت صلاة الحائض بوجه ما؛ وهذا لأنها منهيَّةٌ عن الصَّلاة، والصلاة المنهية عنها ليست هي اللُّغوية، فتعين أن تكون هي الشرعية، والدَّليل على أنها منهية هذا الحديث.

وأيضًا: لا يصحّ أن يكون الشَّرْعي هو الصَّحيح، للزوم دخول الوضوء وغيره من الشروط في مُسَمَّى الصَّلاة لتوقف الصِّحة عليه.

ولك أن تقول: لا يلزم من التوقُّف الجزئية.

قالوا: لو كان المنهى عنه ممتنعًا لم يمنع؛ لأن المنع عن الممتنع لا فائدة فيه فلا بد من تصوّره.

ولأن النهي يوجب إعدام المنهي عنه بفعل مُضَاف إلى كَسْبِ العَبْدِ واختياره لأنه ابتلاء كالأمر، وإنما يتحقق الابتلاء إذا بقي للعبد فيه اختيار، حتى إذا انتهى معظمًا حرمة النَّاهي، أثيب، وإذا أقدم عوقب، ولا يتحقق ذلك إلا فيما هو مشروع.

وأجيب بأن المَنْع - أي: امتناع المنهي عنه - للنهي الوارد عليه، فلولاه لم يكن ممتنعًا.

وهذا معنى قول أصحابنا في جوابهم: هو متصوّر لولا النَّهي؛ ولذلك ورد عليه النهي؛ ثم النهي يعمل عمله في إفساده.

قال ابن السَّمْعَاني: ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال: النَّهي لانعدام الشَّيء شرعًا لا لانعدامه حسًّا، فلما تصوّر حسًّا صحّ النهي عنه.

وقولهم فيما قدمناه آنفًا: المنهي هو الصَّوم المعلوم في الشرع.

وأما مجرّد الإمساك فليس بصوم، ولئن كان صومًا فهو من حيث اللُّغَة دون الشَّرع، فوجب الحكم بتصوُّر الصوم حقيقة.

فأجاب الأصحاب عنه: بأنا قلنا: إنه متصوّر لولا النَّهي.

قال ابنُ السَّمْعَاني: وهذا لا يدفع الإشكال، ولا يقنع به الخَصْم.

قال: ويمكن أن يُجَاب فيقال: الصَّوم الذي هو فعل العبد ليس إلا النية مع الإمساك، وهذا متصوّر منه، فصحَّ النهي لتصوره منه.

ص: 40

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فأما خروجه عن كونه صومًا شرعيًّا، فليس لمعنى من قبله، لكن لعدم إطلاق الشرع ذلك، أو لعدم قبول الشَّرع إياه؛ لنهيه عنه.

فالصَّومُ لا يكون صومًا إلَّا بفعل العبد، فوجب النظر إلى فعل العبد، وصحَّ النهي لذلك، ولم يكن صومًا من حيث النَّظر إلى إطلاق الشَّرع أوامره، وليس غرض الخَصْم من كلامه إلا تحقق المنهى. فإذا تحقق المنهى بما قلناه حتى إذا ارتكبه صار عاصيًا، فهو حاصل بما يفعله العبد على وُسْعَةِ طاقته من النِّية والإمساك.

وأما كونه صحيحًا وفاسدًا فهو أمر متلقّى من الشرع، ليس إلى العبد.

إنما الذي للعبد إيقاع الفعل باختياره، فإن أوقعه على وفق أمر الشّرع صحَّ، وإلا فسد؛ ولذلك أبطلنا صوم اللَّيل مع تحقُّق الإمساك الجسمي، وإمساك المرأة عن المُفْطرات في زمن الحيض، فكل ما يوافق أمر الشرع لا تَثْبُت له الحقيقة الشرعية.

قال: ونقول أيضًا: ذكر الصوم والبيع وغير ذلك في النَّهي ليس لتحقيق هذه العقود، لكن التعريف ما يعمل فيه النَّهي من الإبطال الشرعي، فهو كالنَّهْي عن بيع الملاقيح والمضامين

(1)

(1)

الباطل من البيوع ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه، والضابط فيه: أن كل ما أورث خللًا في ركنه أو حقيقته فهو مبطل له، وكذلك إن نافي حكم النهي حكمه أبطله، فعقد البيع على الميتة التي ماتت حتف أنفها، والدم والحر باطل، سواء أجعلت هذه الأشياء مبيعة بأن قوبلت بالدراهم والدنانير في البيع المطلق، أم جعلت مبيعة من وجه وثمنًا من وجه كما في بيع المقايضة؛ لأن مثار النهي عنها هو انتفاء حقيقة البيع من المبادلة المالية؛ إذ هذه الأشياء لا تعدّ مالًا.

وبيع ما في الأرحام من الأجنة، وبيع ما في الأصلاب من الماء، والبيع إلى نتاج النتاج باطل، وكانت بيوعًا يتعامل بها العرب الجاهليون، فنهى عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم:

في الموطأ: عن سعيد بن المسيب أنه قال: "لا ربا في الحيوان، وإنما نهى عن الحيوان عن ثلاثة: عن المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة".

وفي الصحيحين والسّنن عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع حبل الحبلة" وفسّر ببيع الجزور وتأخير ثمنه إلى أن تُنتَج النّاقة، ثم ينْتج الذي في بطنها.

وإنما كانت هذه البيوع باطلة؛ لأن مثار النهي فيها عدم المعقود عليه، فلم تتحقق حقيقة البيع من المبادلة الماليّة. =

ص: 41

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وبيع السّمك في البحر أو النّهر، والطير في الهواء باطل، إن كان قبل الأخذ؛ لأنه غير مملوك لأحد، فُقِدَ فيه المعقود عليه.

ويبطل بيع اللبن في الضرع؛ لأنه يتنازع في كيفية الحلْب في الاستقصاء وعدمه، وهو نزاع في التسليم والتسلّم، وما وضعت الأسباب إلّا لقطعه؛ ولأن اللّبن يزداد لحظة فلحظة، والبيع لم يتناول الزيادة لعدمها عنده فيختلط المبيع بغيره، واختلاط المبيع بما ليس بمبيع من ملك البائع على وجه يتعذر تمييزه مبطل للبيع؛ لاستحالة التسليم بغير ضرر، وقد صح نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، وذلك أنّ الطبراني روى بإسناده عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:"نهى صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع" فعرف بذلك أن كل ما بيع في غلافه لا يجوز، كاللبن في الضرع واللحم في الشاة الحيّة أو شحمها أو أَلْيَتها أو أكارعها أو جلودها، أو دقيق في هذه الحنطة، أو سمن في هذا اللبن، ونحو ذلك من الأشياء التي هي في غلفها ولا يمكن أخذها وتسليمها إلّا بإفساد الخلقة، وما صح بخلافه فهو مستثنى لدليله.

وبيع المدبر وأم الولد والمكاتب باطل؛ للمنافاة بين استحقاق العتق وثبوت الملك بالبيع؛ إذ استحقاقه جهة حرية لا يدخل عليها الإبطال، وثبوت الملك يبطلها، واستحاق العتق ثابت لأم الولد بقوله عليه الصلاة والسلام:"أعتقها ولدها" فينتفي الآخر. وكذلك المنافاة حاصلة بين انعقاد سبب الحرية في حق المدبّر المطلق وبين ثبوت الملك بالبيع؛ لتنافي اللوازم؛ لأن الملك مع الحرية لا يجتمعان، فكذلك سبب الحرية والبيع، وأحد المتنافيين وهو سبب الحرية ثابت في الحال؛ فيمتنع البيع.

وكذلك بين استحقاق المكاتب يدًا على نفسه لازمة في حق المولى، وثبوت الملك منافاة، واستحقاق اليد اللازمة في حق المولى ثابت؛ لأنه لا يملك فسخ الكتابة دون رضا المكاتب؛ فيبطل البيع.

والبيع بإلقاء الحجر والملامسة والمنابذة باطل؛ في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم "نهى عن الملامسة: والمنابذة" والملامسة أن يلمس كل منهما ثوب الآخر بغير تأمل، فيلزم اللّامس البيعُ من غير خيار له عند الرؤية، كأن يكون في ظلمة، أو يكون مطويًا مرئيًا، ويتفقا على أنه إذا لمسه فقد باعه، والمنابذة: أن يَنْبِذَ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر كل واحد منهما إلى ثوب صاحبه متفقين على جعل النبذ بيعًا.

ويلحق بهما إلقاء الحجر، وهو أن يلقى حصاة وثمة أثواب، فأي ثوب وقع عليه كان المبيع بلا تأمل ولا روية ولا خيار.

والمعنى الذي من أجله توجه النهي عن هذه البيوع فأفاد بطلانها ما في كل منها من فقد الركن وهو الإيجاب والقبول؛ فإنه في معنى إذا وقع حجري على ثوب فقد ابتعته منك أو بعتنيه =

ص: 42

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وبيع الخَمْر

(1)

(2)

.

= بكذا، أو إذا لمسته أو نبذته.

وهذه البيوع الباطلة لا تفيد حكمًا ما من أحكام البيع الصحيح، فلا تستعقب انتقال ملك، ولا جواز تصرف ولا انتفاع، فيجب على كل من العاقدين أن يردّ لصاحبه ما أخذه بموجب هذا العقد من عوض، فإن تصرف فيه فقد تصرف في غير ما يملك، وهذا باتفاق من الفقهاء. قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله.

(1)

في أ، ج: الحر، وفي ب: الحر.

(2)

رَوَى جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بـ "مَكَّة": "إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ وَالمَيْتَةِ والخنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِها السُّفُن، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلود، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: "لَا، هُوَ حَرَامٌ" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:"قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَها، جَملُوه، ثُمَّ بَاعُوه، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ".

هذا حديث صحيحٌ، وهذا الحديث دليل على تحريم بيعها.

وكما لا يجوز بيعها يحرم سائر التصرفات فيها كبيعها على أهل الذمة فهو حرام كما هو حرام على المسلم. وقال أبو حنيفة: لا يحرم ذلك عليهم. قال المتولي: المسألة مبنية على أصل معروف في الأصول، وهو أن الكافر عندنا مخاطب بفروع الشريعة، وعندهم ليس مخاطبًا بها، وبيع الخمر بيع مقايضة: أي بيع عَرْض بعرض كأن يبيع ثوبًا بخمر، فالبيع فاسد للنهي عنه؛ إذ أحد البدلين - وهو الخمر - واجب الاجتناب، فلا يجوز تسليمه وتسلمه لكنها في ذاتها مال؛ إذ المال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، وهي بهذه المثابة، إلّا أنها غير متقوِّمة؛ لأن المتقوم ما كان واجب الإبقاء إمّا بعينه وإمّا بمثله أو قيمته، فصلحت ثمنًا من حيث إنها مال، ولم تصلح مبيعة من حيث إنها ليست بمتقومة، فلا يمتنع أصل الانعقاد؛ لأن ما هو ركن العقد وهو الإيجاب والقبول الصادر من الأهل صادف محله وهو المبيع من غير خلل في الركن ولا في المحل، وإنما الخلل فيما هو جارٍ مجرى الوصف وهو الثمن؛ لأن الأصل في البيع هو المبيع دون الثمن؛ إذ المقصود من شرعية البيع الوصول إلى ما يحتاج إليه من الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان: إذ ليس في ذوات الأثمان نفع إلّا من حيث إنها وسيلة إلى الأعيان، فكان المبيع هو المقصود الأصليّ والثمن تابع بمنزلة الوصف، فكان مشروعًا بأصله دون وصفه فكان فاسدًا، وإنما اعتبر الخمر ثمنًا ومقابله مبيعًا - دون العكس وإن كان ممكنًا - لما فيه من الاحتياط للقرب من تصحيح تصرف العقلاء المكلفين.

أمّا إذا بيعت الخمر بالنقد كالدراهم والدنانير فالبيع باطل؛ لتعين النقد للثمنية وكون الخمر =

ص: 43

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت: وهذا كلام متين، ولا يخفى عليك بعد تأمّل ما قدمناه في صدر المسألة من أن القائل منهم بالصّحة إنما قالها حيث عاد النَّهي لوصف في المنهى، لا فيما إذا نهى عن الشيء لِعَيْنِهِ؛ لأن ما ذكر هنا من الصَّوم والصلاة في الأوقات المكروهة، ليس من قسم المنهى لعينه، بل لوصفه على ما يدعي الحنفية.

ثم أصحابنا يلزمونهم أنه لا فرق بينه وبين المَنْهِيّ لعينه، فينبغي فساد كل من [الموضعين]

(1)

، وانعدام صورته الشرعية، وإن وجدت الصورة الحسّية".

ثم نقض المصنّف دليل الخُصُوم بعد منعه فقال: وبالنقض الإجمالي بمثل قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [سورة النساء: 22]، وما تقدّم من قوله عليه السلام:"دَعِي الصَّلَاةَ"، إذ الإجماع قائم على عدم صحّة نكاح ما نكح الآباء، وصلاة الحائض.

فإن قلت: هذان النقيضان في غير مَحَلّ النزاع؛ إذ النكاح والصلاة المذكوران منهى عنهما لعينهما؛ إذ الأهلية هنا بحل الوطء، ولإقامة الصَّلاة منتفية، والخصوم إنما ينازعون في المَنْهى لوصفه كما عرفناك.

= مبيعًا، فتتملك بالعقد مقصودة، وفيه إعزاز لها حيث اعتبرت المقصودة من تصرف العقلاء، وإنما تعيّنت الخمر مبيعة؛ لأن الدراهم لا تصلح له؛ إذ المبيع لا يثبت في الذمة إلّا عقد خاصّ وهو عقد السّلم.

هذا، والنهي عن الخمر بقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في كتب الصحيح: "لعن الله الخمر - إلى أن قال: وبائعها" وحديث: "إن الله إذا حرّم شيئًا حرّم ثمنه".

والإجماع منعقد على التحريم أيضًا.

فرع: أما بيع الثمرة، والزبيب، والعنب لمن يعصر الخمر فحرام؛ لما فيه من الإعانة على معصية وإن كان البيع صحيحًا لأمرين.

أحدهما: أن المعصية ليست في الحال، وإنما هي مظنونة في ثاني الحال؛ فلم يمتنع صحة البيع في الحال.

الثاني: أنه يجوز ألا يعصى بها، فيجعل العصير خلًّا.

(1)

في ب: الوصفين.

ص: 44

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت: قد عرفناك قريبًا أنَّا لا نصحّح لهم فرقًا بين الأمرين، ويلزمهم باستوائهما، ثم ينقض عليهم، فالنقض بعد الإلزام وهو حقٌّ.

وأما "قولهم" في جواب هذا [النقض]

(1)

: "نحمله على" المعنى "اللغوي"، والممتنع إنما هو الشرعي، فلا يفيدهم؛ لأن حملهم النّكاح على الوَطْءِ الذي هو معناه بالحقيقة الّلغوية عندهم "يوقعهم في مُخَالفة" مذهبهم، وهو "أنّ الممتنع لا يمنع"؛ لكون الوطء منهيًّا عنه، وأيضًا وهو ممتنع شرعًا.

"ثم هو" أي: حمل الصَّلاة على المعنى اللغوي، وهو الدعاء "متعذّر في الحائض"؛ لأنها غير ممنوعة منه شرعًا.

فائدتان

الأولى: إذا اختصرت ما أسلفناه في المسألتين، قلت: المنهي عنه إما [تمام]

(2)

الماهية، أو جزؤها، أو لازم لها، أو خارج مفارق.

والأولان يفيدان الفَسَادَ عندنا، وعند أبي حنيفة؛ لتمكُّن المفسدة من جوهر الماهية.

ثم اعلم أن الشَّافعي ومالكًا يقولان: إطلاق النهي يقتضي الفَسَاد بظاهره فيما أضيف إليه، ولا يتصرّف عنه إلا المنفصل يصرف النهي إلى خارج مفارق.

وأبو حَنِيفَةَ يقول: يحمل على المُفَارق. ولا ينصرف إلى ما أُضيف إليه.

وإن اختصرت قلت: عندنا الأصل انسحاب الفَسَاد على المَنْهِيّات ما لم يصرف صارف وعنده بالعكس، وهو متعدّ؛ لأنه قدر غير المنطوق به ظاهرًا؛ والمنطوق غير ظاهر كأنه اعتقد أن الشارع غير الألفاظ، فإذا أضاف النهي إلى بيع أو صوم فالمراد [الماهية]

(3)

الشرعية وهي تستلزم الصِّحة، فإضافة النهي إليها تناقض مشروعيتها، فصُرف النهي إلى غيرها. ونحن نقول: الماهيات الشرعية من حيث هي قدر مشترك بين الصحة والفساد يعتورانها أو نقول باعتبار الجعل، فيوجد من المَنْهِيّ عنه إضافة قَيْد في المَشْرُوع لدفع التناقض.

(1)

في ب: النقيض.

(2)

في ج: إتمام.

(3)

في أ، ب: الماهيات.

ص: 45

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثَّالث: اللازم كالنَّهي عن الصَّلاة في الأوقات المكروهة، وعن بيع وشرط

(1)

،

(1)

ذهب الحنفية إلى أن الشروط أقسام ثلاثة: -

"الأول" الشرط الصحيح، وهو أنواع أربعة: -

- أ - الشرط الذي يقتضيه العقد بأن يدل عليه وإن لم يذكر فيه، كاشتراط المشترى على البائع تسليم المبيع.

- ب - الشرط الملائم للعقد، وهو المؤكد لموجبه كاشتراط البائع على المشتري إعطاء رهن، أو تقديم كفيل بالثمن.

- جـ - الشرط الذي ورد به الشرع، كاشتراط الخيار، أو تأجيل الثمن.

- د - الشرط الذي جرى به العرف، كاشتراط المشترى إصلاح البائع للثياب المشتراة حتى تكون على هيئة خاصّة.

فعقد البيع في هذه الصور صحيح؛ والشرط صحيح، لخلو العقد عن الربا وشبهته، ولأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص؛ إذ في النزوع عن العادة الظاهرة حرج بيّن، والحرج مدفوع بالنص، قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .

"الثاني" الشرط الفاسد، وهو الذي لا يقتضيه العقد، ولا يلائمه، ولم يرد به الشرع، ولم يجر به العرف، وكان فيه منفعة لأحد العاقدين، أو لغيرهما، وهو من أهل الاستحقاق، كأن يشترط البائع أن يسكن الدار المبيعة شهرًا، أو يشترط المشترى على البائع أن يخيط له الثوب المبيع جُبَّة أو قفطانًا.

وهذا الشرط منهي عنه بالأحاديث الواردة في النهي عن بيع وشرط، فيكون فاسدًا ومفسدًا للبيع؛ لأنه أمر وراء حقيقة البيع وماهيته، لكنه أورث فيه أمرًا لازمًا له قبيحًا هو مثار النهي، وهو ما يؤدي إليه اشتراط المنفعة لأحد المتعاقدين أو غيرهما ممن هو من أهل الاستحقاق من الربا أو شبهته؛ لأن المبيع قوبل بالثمن، فبقيت المنفعة زيادة عارية عن العوض، والبيع المشتمل على الربا أو شبهته فاسد.

"الثالث": الشرط الباطل، وهو الذي لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولم يرد به النص، ولم يجر به العرف، ولم يكن فيه منفعة لأحد ممن ذكر، كأن يبيع له ثوبًا بشرط ألّا يبيعه أو ألّا يلبسه. والبيع في هذه الحالة صحيح والشرط باطل؛ لأن هذا الشرط خلا عن الربا وشبهته، ولم يؤد إلى المنازعة؛ لعدم المطالب به، فلا يكون منهيًا عنه، إذ النهي في الحديث معلّل بما ذكر، ولأنه في الحقيقة ليس شرطًا؛ إذ الشرط ما كان ملزِمًا للوفاء به لما يشتمل عليه من منفعة صاحبه، وهذا ليس فيه منفعة لأحد فيلغو؛ إذ لا فائدة فيه، ويبقى العقد صحيحًا.

هذا، ولا يخالف الشافعي الحنفية في جملة ما تقدم من تقسيم الشروط، وإن خالفهم في بعض الجزئيات، وهو يرى أن الشروط الفاسدة المنهى عنها، والتي أفادت فساد العقد عند

ص: 46

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الحنفية قد أبطلت العقد؛ لأنها أمر لازم لعقد البيع، والنهي عن الأمر اللازم مبطل لأصل التصرف، كما يرى أن العقد لا ينقلب صحيحًا إن أسقط الشارط الشرط المفسد؛ لأنه ما رضي بالعقد حين صدوره.

إلّا بالشرط الذي اشترطه، فبدون الشرط لا يكون راضيًا، فتبقى معاملة بلا تراض، فلا تحل؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقوله عليه السلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب من نفسه" والباطل معدوم شرعًا فلا بقاء له حتى ينقلب بعد ذلك صحيحًا، وأحاديث النهي الواردة في هذه الشروط هي: -

- 1 - ما روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط" فهذا نهي عام عن البيع والشرط؛ فيفسد كل بيع فيه شرط مؤد إلى المنازعة أو شبهة الربا؛ إذ النهي في الحديث معلل به، إلا ما جاءت به نصوص تجيزه، واعتبرت أقوى من هذا النص.

- 2 - ما رواه أحمد في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن صفقتين في صفقة" والبيع مع الشرط الذي فيه منفعة لا يخرج عن صفقتين في صفقة؛ لأن شرط المنفعة إن قابله جزء من الثمن فهو إجارة في بيع، وإن لم يقابله شيء من الثمن كان في معنى إعارة في بيع، فكان البيع فاسدًا.

وبناء على هذه القاعدة الفقهية في الشروط، والقاعدة الأصولية من أنّ النهي إن رجع لأمر خارج عن حقيقة المعاملات وماهيتها بأن كان مثاره فيها هو الوصف اللازم لها، أو ما هو في حكم الوصف، لم يناف مشروعيتها بحسب الأصل، وإن أورث فيها فسادًا للوصف، فتكون المعاملة صحيحة بحسب الأصل، فاسدة للوصف، فتترتب عليها الآثار مع الحرمة وطلب الفسخ.

بناء على هاتين القاعدتين تتخرج الفروع الفقهية في البيوع المنهى عنها، لما اشتملت عليه من الشروط.

فالشروط الصحيحة اعتبرت غير منهى عنها، فلا تورث في العقد خللًا، فتصح مع العقد.

والباطلة اعتبرت معدومة كأن لم تكن فتلغو، ويبقى العقد صحيحًا.

والشروط الفاسدة لم يمكن إلغاؤها وتصحيح العقد، ولم يمكن اعتبارها وإبطال مقتضى العقد، فهي شروط لا يقتضيها العقد وفيها منفعة لمستحق لها، ففيها إلزام، وقضية العقد التخيير والإطلاق في التصرف، فالمنافاة بينهما ظاهرة، وليس أحدهما أولى بالعمل من الآخر، فعملنا بهما، وقلنا: إنه فاسد، فمن حيث وجود الأركان وماهية البيع كان مشروعًا، وبالنظر إلى عروض الشرط المنهى عنه كان غير مشروع، فكان فاسدًا. قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله.

ص: 47

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وعن التَّفرقة بين وَالِدَةٍ وولدها بالبَيْعِ

(1)

.

فعندنا يدل على الفساد، خلافًا له، حتى إنه قال فيمن نذر صومًا فصام يوم العيد، يجزئه وينعقد مع وصف الفَسَاد، وكذا بيع دِرْهَمٍ بدرهمين منعقد بأصله دون وصفه، حتى لو اتَّفقا على إسقاط الزائد لصح.

(1)

قال الشيخ عبد المجيد: قد اعتبر الشارع في المعقود عليه كونه مملوكًا للعاقد لأجل صحة العقد، فإن لم يكن مملوكًا بأن كان أم ولد فلتحرير المقام في ذلك يقال:

إن بيع أم الولد لا يجوز. قال الشافعي: كما لا يجوز هبتها ولا رهنها ولا الوصية بها. هكذا قطع به الأصحاب، وتظاهرت عليه نصوص الشافعي. ونقل الخراسانيون فقال جمهورهم: ليس للشافعي فيه اختلاف. وقال كثيرون من الخراسانيين: للشافعي قول قديم أنه يجوز بيع أم الولد. فعلى هذا القديم هل تعتق بموت السيد؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا: وبه قال صاحب التقريب وأبو علي السنجي.

الثاني: نعم وهو أصحهما قاله الشيخ أبو محمد والصيدلاني وغيرهما كالمدبر، قال إمام الحرمين: وعلى هذا قد يحتمل أن تعتق من رأس المال، ويحتمل أن تعتق من الثلث. وإن قلنا بالمذهب ألا يجوز بيعها فقضى قاض بجوازه فطريقان:

أحدهما: وهو الذي نقل أبو علي السنجي في التلخيص وإمام الحرمين وصاحب البيان وغيرهم أن في نقض قضائه وجهين:

والطريق الثاني: أن ينقض وجه واحد. وهو الذي نقله الروياني عن الأصحاب، ولم يحك غيره. قالوا: لأنه مجمع عليه الآن، وما كان من خلاف في القرن الأول فقد ارتفع، وصار الآن مجمع على بطلان بيعها.

وقد حلى الأصحاب عن داود جواز بيعها مع قولهم: إنه على بطلانه الآن فكأنهم لم يعتدوا بخلاف داود على ما هو الأصح من أنه لا يعتد بخلافه ولا خلاف غيره من أهل الظاهر؛ لأنهم نفوا القياس، وشرط المجتهد أن يكون عارفًا بالقياس.

وقالت الشيعة أيضًا بجواز بيعها، ولكن الشيعة لا يعتد بخلافهم، والمعتمد في تحريم أم الولد ما رواه مالك والبيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بَيْعِ الأُمَّهاتِ" وإجماع التابعين ومن بعدهم على تحريم بيعها.

وأما حديث جابر قال: "بِعْنَا أُمَّهَاتِ الأَوْلَادِ عَلى عَهْدِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر نَهَانَا فَانْتَهَيْنَا" وفي رواية قال: "كنا نَبِيع سرارينا أمهات الأولاد والنبيّ صلى الله عليه وسلم لا يرى بذلك بأسًا". فقد قال الخطابي وغيره: يحتمل أن بيعها كان مباحًا في أول الإسلام ثم نهى عنه النبي آخر حياته =

ص: 48

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرَّابع: الخارج المُفَارق فلا يمنع الصحة عند الأكثرين.

الثانية: لا يخفى عليك ما قَدّمناه من أن الشَّرعي ليس معناه المعتبر، وأن الصّحة والفساد يَعْتَوِرَان الماهيات الشرعية، وأنّ الأسماء الشَّرعية موضوعةٌ للقدر الأعم من الصحيح والفاسد، وإلا فلو اختصت بالصحيح كان النَّهي عنه هو الصحيح؛ لأن اللفظ محمول على الشرعي، فيتّجه قول من يقول: مقتضى النَّهي الصّحة.

وهذا فصل لم أَرَ أَحدًا خصّه بالذّكر، وإنما وقع مذكورًا في إدراج كلام أئمتنا. قال الإمام في "النهاية" في كتاب "الخُلْع" في فصل: لو قال: إن أعطيتني ألفًا - بعد أن حكى وجهين فيما لو قال: إن أعطيتني هذا العَبْد المغصوب فأنت طالق، وبناهما على ما إذا لم يذكر المغصوب، وأنه إن قلنا: لا يقع الطَّلاق هناك -: فهنا وجهان:

أحدهما: لا يقع، فإن الإعطاء في المَغْصوب غير مُمْكن، فكان تعليقًا على مستحيل؛ كما لو قال لامرأته: إن بعت الخَمْر فأنت طالق، أو إن صلّيت محدثةً، فإذا أتت بصورتها لم يقع الطَّلاق على مذهب الشافعي.

= ولم يشتهر ذلك النهي إلى زمان عمر، فلما بلغ عمر النهي نهاهم.

وقال شيخنا: البيع المتضمن التفريق بين مملوكين صغيرين: أحدهما ذو رحم محرم من الآخر، وكذلك إذا كان أحدهما كبيرًا، إذ قد توعد النبيّ صلى الله عليه وسلم من يفرِّق بين الأم وولدها بأن يفرِّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة، كما قد أمر عليه السلام في الحديث الآخر بالإدراك والارتجاع وعدم التفريق ومثار النهي فيه ما في بيع أحدهما من قطع الاستئناس والمنع من التعاهد، وفيه ترك المرحمة على الصغار، وهو قد ينفك؛ لجواز أن يحصل الجمع بالهبة أو بيع الآخر مثلًا، وعن أبي يوسف في البيع المتضمن للتفريق بين الأخوين أنه يحرم في قرابة الولاء لقوتها وضعف غيرها، وعنه أنه يحرم في جميع ذلك؛ لما روى من قوله عليه السلام لعليّ: أدرك أدرك، ولزيد بن حارثة: أردد، أردد؛ فإن الأمر بالإدراك والرّد لا يكون إلا في البيع الفاسد.

ولأبي حنيفة ومحمّد: أن ركن البيع صدر من أهله مضافًا إلى محله، والنهي إنما هو لمعنى مجاور وهو الوحشة الحاصلة بالتفريق، فكان كالبيع عند النداء، والجواب عن الحديث: أنه محمول على طلب الإقالة، أو بيع الآخر ممّن باع منه أحدهما.

ويرى "الكمال" أن هذه البيوع فاسدة؛ إذ يقول: "إن هذه الكراهات كلها تحريمية؛ إذ لا نعلم خلافًا في الإثم". قاله شيخنا عبد المجيد محمد فتح الله.

ص: 49

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والمُزَني يخالف في هذا؛ قال: ونحن لا نجد بُدًّا من رَمْزٍ إلى المذاهب في ذلك، فإذا عقد الرجل يَمِينَهُ على البَيْع المطلق، لم يحنث بالبيع الفاسد. هذا ظاهر المذهب.

وللشافعي نصّ في النكاح دالّ على أنّ الفساد يدخل تحت مطلق الاسم الواقع على الجنس، فإنه قال: لو أذن لِعَبْدِهِ في النِّكَاح، فنكح نكاحًا فاسدًا، وحكى القول في نكاح العبد، ثم قال: وهذا وإن لم يكن منه بُدٌّ فهو ضعيفٌ.

وقال الرَّافعي قبيل "الفَصْل الخامس في تزويج العَبْدِ": لفظ النِّكاح والبيع وسائر العقود، يختصّ بالصَّحيح منها على الظَّاهر؛ كما سيأتي في باب الأيمان. انتهى.

ولم نَرَهُ ذكر ذلك في باب الأيمان.

وقال بعد ذلك فيما إذا أذن السَّيد لعبده في النِّكاح فنكح نكاحًا فاسدًا ودخل بها قال: فبم يتعلّق المهر؟، [يبنى]

(1)

ذلك على أنّ الإذن في النِّكاح يتناول الصَّحيح والفاسد، أم يختص بالصَّحيح، وقد نقلوا فيه قولين:

أحدهما: أنه يتناولهما؛ لوقوع الاسم على الفاسد.

ثم قال: وأصحهما: أنه لا يختصّ بالنكاح الصحيح؛ لأن مطلق الاسم ينصرف إليه؛ ولذلك لو حلف لا ينكح فنكح فاسدًا لا يحنث. انتهى.

فقد تحصَّلنا من هذا على خلاف في أنّ الموضوع الأعم من الصَّحيح والفاسد، أو الصحيح فقط، وهذا في العقود.

أما العبادات: فمقتضى كلام ابن السَّمْعَاني في مسألة الأمر هل يتناول المكروه أو موضوعها عند أصحابنا؟

الصَّحيح فقط ذكره في الطَّواف بغير طَهَارَةٍ ونحوه.

وقال الرَّافعي في باب الأَيمان: وسيأتي خلاف في أن لفظ العبادات، هل يحمل على الصحيح منهما والفاسد، أو هو موضوع للصحيح فقط؟

وهذا أيضًا لم نره حكاه بعد.

(1)

في ج: ينبني.

ص: 50

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والناظر فيما نقلناه - وإن جزم بوقوع الخلاف في العقود والعبادات - فلذلك يظهر عنده أن المرجّح عند أصحابنا أنها موضوعة للصحيح فقط، وربما اعتضد بأن الحالف لا يبيع ونحوه، لا يحنث إلا بالصحيح، وأن الوكيل بالبيع لو باع فاسدًا كان له أن يبيع بعد ذلك، وأن النكاح الذي يتوقف عليه حلّ المطلقة ثلاثًا هو الصحيح في أصحّ القولين.

وأنا أقول: هنا شيئان.

أحدهما: أن موضوع اللَّفظ الشَّرعي ماذا؟

وهذا لم يتكلّم فيه الفقهاء، وهو موضوع كلام الأصوليين.

وعندي: أنه الأعمُّ من الصَّحيح والفاسد، ويدلّ له أمور:

منها: أن اللَّفظ محمولٌ على الشَّرعي مع أن النهي لا يقتضي الصِّحة كما عرفت.

ومنها: قولهم في نحو: "لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطُهُورٍ": تعذّر نفي الحقيقة، فيكون نفيًا للصحة، لأنه أقرب الأشياء إليها، فلو لم يجزموا بِوِجْدَانِ الحقيقة، لما قالوا: تعذّر نفيها.

ومنها: قولهم: هذه صلاةٌ فاسدةٌ، وهذه صلاةٌ صحيحةٌ، فدلّ على أنّ الصِّحة والفساد وَصْفَان يَعْتَورانها مع بَقَاءِ حقيقتهما.

ومنها: تسميتهم العِبَادات الَّتي تقدمها أداء مختل إعادة، فلو لم يوجد الاسم في الأول، لما صحّت تسميتها إعادة.

ولكن الفقهاء لم يقولوا هذا، وإنّما قاله الأصوليون؛ كما عَرّفناك في موضعه.

والثَّاني: أن اللَّفظ إذا أطلق على أي الأمرين يجمل الأعم أو الأخصّ.

هذا لم يتكلّم

(1)

فيه الأصوليون، وهو موضع كلام الفُقَهاء.

وعندي: أنهم اختلفوا فيه على الوَجْهِ الذي رأيته.

فمن قائل بالمَشْيِ على موضوعه.

ومن قائل بالحَمْلِ على الصَّحيح، وهو الأصحّ عندهم؛ لأن الذهن إنما ينصرف عند

(1)

في ب: هذا إذا لم يتكلم.

ص: 51

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الإطلاق إلى الصّحيح، فكان إطلاق اللفظ في الحقيقة، كالتَّقييد له بالصَّحيح؛ كما إذا أطلقت لفظ الماء، فإنك تفهم منه المطلق وتحمله عليه، وإن كان موضوعه أعم من المُطْلق والمقيد.

ويدلّ لهذا قول الرَّافعي: الإذن في النكاح، هل يتناول الصَّحيح والفاسد، أو الصحيح فقط؟ ولم يقل: هل هو موضوع، والتَّناول في باب غير باب الوضع، فإن اللفظ قد لا يتناول بعض موضوعاته للعرف المُقَيّد له بما وراء ذلك البعض ونحوه، وكذا قوله بعد ذلك.

وأصحهما: يختص بالصَّحيح؛ لأن مطلق الاسم ينصرف إليه ولم يدلّ؛ لأنه موضوعه. فافهم ذلك.

ولا يرد على هذا قول الرَّافعي: لفظ سائر العُقُود، ويختصّ بالصَّحيح على الظاهر، فإن مراده بالاختصاص [التناول]

(1)

، دون الوضع؛ إذ لا غرض للفقيه في الكلام في الوَضْعِ.

وأمّا قول الإمام الشَّافعي: نصّ ذاك على أن الفاسد داخل تحت مطلق الاسم فظاهره علينا؛ لأن الدخول تحت مطلق الاسم يدلّ على أنه من موضوعه.

وكلامه صريح في أن خلاف هذا هو المذهب، فيكون المذهب أنه لا يدخل؛ لأنه ليس من موضوعه، ولكن يجب حمله على أنّ المراد الحَمْل؛ إذ هو موضع نظر الفقهاء، ولما ذكرناه.

وممّا يدلّك على أنّ الفقهاء إنما كلامهم فيما يُحْمل عليه اللَّفظ عند الإطلاق، لا فيما هو موضوعه: تعريفهم الصَّلاة بأقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مُخْتتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة، وأن الأصوليين على العكس، تعريفهم الصَّلاة بأنها ذات الرُّكوع والسجود، وبالله التوفيق.

ومباحث الشافعي رضي الله عنه والأصحاب في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [سورة البقرة: الآية 275] دالة على أن البيع الفاسد عندهم بيع.

(1)

في ب: التساؤل.

ص: 52

‌مَسْأَلَةٌ:

النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ

- كَذَلِكَ، خِلَافًا لِلأَكْثَرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُضَادُّ وُجُوبَ أَصْلِهِ، يَعْنِي: ظَاهِرًا، وَإِلَّا وَرَدَ نَهْيُ الْكَرَاهَةِ.

"مسألة"

الشرح: "النهي عن الشيء لوصفه"

(1)

؛ مثل تحريم الرِّبَا

(2)

لاشتماله على الزيادة - "كذلك" أي: كالنهي عن الشَّيء لعينه في دلالته على الفَسَاد، "خلافًا للأكثر".

"وقال الشافعي رحمه الله": النهي عن الشَّيء لوصفه "يضادّ وجوب أصله"، لا بين كون الشَّيء مَشْرُوعًا، وكون وصفه الذي لا ينفكّ عنه تضاد.

(1)

ينظر: شرح الكوكب 3/ 92، وشرح العضد 2/ 98، والعدة 2/ 441، وكشف الأسرار 1/ 260، وأصول السرخسي 1/ 80، والمنخول 205، وجمع الجوامع 1/ 394.

(2)

الربا حرام كله قليله وكثيره وهو من الكبائر بل من أكبرها حتى قيل: إنه لم يحل في شريعة قط، وربما استؤنس لهذا بقول الله تعالى في حق اليهود {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} .

الدليل عليه: والدليل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} .

ومعنى قوله تعالى: {يَأْكُلُونَ الرِّبَا} أي يتعاملون به، فالمراد بالأكل الأخذ؛ وإنما عبر به لأن الأكل أظهر مقاصده، فيكون المعنى الذين يُربون، "والتخبط" الضرب على غير استواء "والمس" الجنون "والمحق" الاستئصال والهلاك، وقيل: المراد به ذهاب البركة. ووجه الدلالة واضح مما يأتي.

ص: 53

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أولا: صريح قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} فَإِنَّهُ إخبار منه تعالى بأن الربا محرم عنده، فإذا كان هذا الخبر مرادًا به النهي عنه كان أبلغ في الدلالة على التحريم من صريح النهي.

ثانيًا: ما اقترن به هذا من الوعيد الشديد، فقد ذكرت الآيات عقوبات خمسة لآكل الربا هي:

1 -

التخبط عند قيامهم في الدنيا أو في الآخرة كالذي يتخبطه الشيطان من المس. أما في الدنيا فيظهر ذلك في سيرهم المختل، فيسلكون سبيل المجانين بسبب ما عندهم من الشره بجمع المال، فلا يكاد يشك من يراهم في أنّ عندهم خبلًا. فبهذا قال بعض المفسرين. وأما في الآخرة فقد قيل: تنتفخ بطنه يوم القيامة بحيث لا تحمله قدماه وكلما رام النهوض سقط فيكون بمنزلة الذي أصابه مس من الشيطان، فيصير كالمصروع.

2 -

الخلود في النار، وذلك لا يكون إلا عن كبيرة من الكبائر تقرب من الكفر حتى كأنها الكفر بذاته، وفي ذلك من التهويل ما لا يخفى.

3 -

المحق، قال الله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} والمراد به الهلاك والاستئصال أو ذهاب البركة والاستمتاع كما تقدم حتى لا ينتفع به هو وولده من بعده، بحيث لو فرض أنه أنفقه في أوجه الخير كان مردودًا عليه فلا يعود عليه بثواب ولا لذة على الجملة فالربا وإن كثر فإلى قُلّ يصير.

4 -

الكفر، يشير إلى ذلك قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} فَإِن فيهما إشارة إلى أن المصر عليه عرضة لأن يطبع على قلبه حتى يسلب الإيمان رأس النعم ومصدر الخير.

5 -

الحرب. قال تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وفي هذا إعلام بأن جريمة الربا من أعظم الجرائم التي تستوجب محاربة الله ورسوله. وقالت ثقيف:

لا قبل لنا بحرب الله عز وجل وتركوا الربا؛ هذا فضلًا عما أشار إليه قوله تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} من تسجيل الظلم على من تقاضى أكثر مما أعطى. وأما السنة فما روى في البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجْتَنبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هِي؟ قال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، والسِّحر، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ" وما رويا أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، فعده من الموبقات المحبطات للعمل التي أمر باجتنابها بجعله من الكبائر، كما أنه لعن فاعله والمعاون عليه بكتابة أو شهادة، وفيه من تفظيع جريمته ما هو كفيل بعدم قربانه.

وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا على أن الربا محرم، ولم يوجد مخالف لهذا الإجماع.

ص: 54

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْوَصْفِ لَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

لَنَا: اسْتِدْلَالُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ بِنَحْوِهِ، وَبِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَعْنَى.

قَالُوا: لَوْ دَلَّ لَنَاقَضَ تَصْرِيحَ الصِّحَّةِ، وَطَلَاقُ الْحَائِضِ وَذَبْحُ مِلْكِ الْغَيْرِ مُعْتَبَرٌ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَمَا خُولِفَ فَبِدَلِيلِ صَرْفِ النَّهْيِ عَنْهُ.

قيل: وهذا التَّضَادُ إنما وقع "ظاهرًا" لا قَطْعًا، فإن العَقْلَ لا يتخيّل وجوب الشَّيء مع النهي عن وصفة الذي لا ينفكّ، "وإلَّا"، أي: لو كانت المضادة قطعية "ورد نهي الكَرَاهة"؛ لأن نسبة الكَرَاهة والتحريم إلى الوُجُوب في التَّضاد سواء، فلو لم يجامع الآخر، وذلك يوجب ألا [يتأدى]

(1)

الواجب بالصلاة والصوم المكروهين، وألا تصح الصلاة في الأوقات المكروهة.

ولقائل أن يقول: ظاهر أصولنا؛ أنه لا يتأدّى الواجب بالصلاة والصوم المكروهين؛ وقد قدمنا أن المكروه لا يدخل تحت الأمر في مسألة الصلاة في الدَّار المَغْصُوبة.

وأما الصلاة في الأوقات المكروهة، فالنهي عنها نهي تحريم لا تَنْزِيه على الصحيح عند النَّووي وغيره.

ومتى تحرم بها لم تنعقد على الصحيح.

وإن قلنا: النهي فيها نَهْي تَنْزيه فلا إيراد.

الشرح: وقال أبو حنيفة رحمه الله"

(2)

النهي المذكور يدلّ على فساد الوصف؛ لأنه متعلق النهي، لا "على فساد" المنهي عنه وهو الأصل؛ لكونه مشروعًا بدون "الوَصْفِ"، وبني على هذا قوله: لو باع درهمًا بدرهمين ثم طرحا الزيادة، صح العَقْد.

"لنا: استدلال العلماء على تحريم صوم العيد بنحوه" - أي: بالنهي عنه، وليس النهي عنه لكونه صَوْمًا، بل لوصفه، وهو وقوعه في يوم العيد.

"قالوا: لو دلّ" على الفساد لناقض تصريح الصِّحة"، ولا تناقض كما مَرّ.

(1)

في أ: ينادي.

(2)

ينظر: كشف الأسرار 1/ 260، وأصول السرخسي 1/ 80، والمصادر السابقة.

ص: 55

‌مَسْأَلَةٌ:

النَّهْيُ يَقْتَضِي الدَّوَامَ ظَاهِرًا.

"و "أيضًا: "طلاق الحائض، وذبح ملك الغير معتبر"؛ إذ يقع عليها الطلاق مع كونه محرمًا، ويحل أكل الذبيحة، وإن كان الذبح صادرًا بغير إذن المالك، وكلّ منهما منهى عنه بوصف.

"وأجيب: بأنه" - أي: النهي - "ظاهر فيه" - أي: في الفَسَاد - لا قطعي فجازت مخالفته لدليل، "وما خُولِفَ" فيه من الصُّور، "فبدليل صرف النهي عنه" - أي: عن الأصل.

واعلم أن معتمدنا في دلالة النَّهْي على الفساد، ما صَحّ، وثبت من قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ"

(1)

، والمنهي عنه ليس بداخل في الدين، فيكون مردودًا باطلًا، وأن النهي للتحريم، والتحريم ينافي كون الشيء مشروعًا، فهذه إشارة إلى معتمدنا، وتقرير ذلك في المبسوطات.

"مسألة"

الشرح: "النهي يقتضي الدوام ظاهرًا"، فيحمل عليه ما لم يصرفه عنه دليل.

ومنهم من يعبر عن هذا بأن النهي يقتضي التَّكْرار

(2)

.

وقد زعم ابن بَرْهَان. انعقاد الإجماع على هذا.

وجزم به الشيخ أبو إسحاق.

وخالف الإمام الرازي فقال: إنه كالأمر في التَّكْرار، فلا يقتضيه ظاهرًا.

مع أن كلامه في مسألة أن الأمر هل هو للفور - يوهم الاتفاق على أنه للتَّكْرَار؟.

وأنا أوافق القائلين بالتكرار في المَعْنى دون العبارة، فأقول: إذا قلت مثلًا: لا تضرب، فلا ريب في أنك مانع من إدخال هذه الماهية في الوجود، وإنما يحصل ذلك بالامتناع عن إدخال كل الأفراد، ولا يتحقق الامْتِثَالُ إِلا بالامتناع عن الكل، فالتكرار من لوازم الامتثال، لا من اللفظ.

(1)

أخرجه البخاري 13/ 263 كتاب الاعتصام: باب الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (7277).

(2)

ينظر: الإحكام 2/ 180، والمحصول (1/ 2/ 470)، وشرح العضد 2/ 99.

ص: 56

لَنَا: اسْتِدْلَالُ الْعُلَمَاءِ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ.

قَالُوا: نُهِيَتِ الْحَائِضُ عَنِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.

قُلْنَا: لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ.

الشرح: "لنا: استدلال العلماء مع اختلاف الأوقات" بالمناهي، لا يخصِّصُون ذلك.

"قالوا": قولكم: إنه يقتضي الدَّوَام - منقوض؛ إذ "نهيت الحائض عن الصَّلاة والصّوم"، ولم يقتض ذلك الدوام اتفاقًا.

"قلنا: لأنه" ليس بالنهي الذي فيه كلامنا، وهو النهي المُطْلق، بل هو نهي "مقيد" بزمان الحَيْض، أو نقول: وهو أمتن - لم قلتم: إنه لا يقتضي الدوام؟ ألا تراه دائمًا في جميع أوقات الحائض، وأما ما وراء أَوْقَات الحيض، فليس مما شمله اللفظ. وبالله التوفيق.

ص: 57

" العامُّ وَالخَاصُّ"

(1)

مَسْأَلَةٌ:

"الْعَامُّ وَالْخَاصُّ":

أَبُو الْحُسَيْنِ: الْعَامُّ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَيْسَ بِمَانِعٍ؛ لِأَنَّ نَحْوَ "عَشَرَةٍ"، وَنَحْوَ:"ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا" يَدْخُلُ فِيهِ.

الْغَزَالِيُّ: اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، وَلَيْسَ بِجَامِعٍ؛ لِخُرُوجِ الْمَعْدُومِ وَالْمُسْتَحِيلِ؛ لأَنَّ مَدْلُولَهُمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالمَوْصُولَاتِ؛ لأَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَا بِمَانِعٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُثَنَّى يَدْخُلُ فِيهِ؛ وَلأَنَّ كُلَّ مَعْهُودٍ وَنَكِرَةٍ يَدْخُلُ فِيهِ، وَقَدْ يَلْتَزِمُ هَذَيْنِ.

"مسألة"

الشرح: قال "أبو الحسين" وابن السمعاني وغيرهما: "العام: اللفظ المستغرق لما يصلح له.

(1)

العام لغة: الشامل. عم الشيء عمومًا: شمل الجماعة، يقال:"عمهم بالعطية". كذا في الصّحاح، وفي لسان العرب: عمهم الأمر يعمهم عمومًا: شملهم، وفي القاموس: عم الشيء عمومًا: شمل الجماعة، يقال: عمهم بالعطية وفيه أيضًا: شملهم الأمر كفرح ونصر، شملًا وشمولًا: عمهم ..

أما في الاصطلاح:

قال الجصاص: العام ما ينتظم جمعًا من الأسماء أو المعاني".

وقال فخر الإسلام البزدوي: العام كل لفظ ينتظم جرمًا من الأسماء لفظًا أو معنى.

وقال النسفي: ما يتناول أفرادًا متفقة الحدود على سبيل الشمول، وقال صدر الشريعة لتوضيح العام لفظ وضع وضعًا واحدًا لكثير غير محصور، مستغرق جميع ما يصلح له الثلاثة المتقدم وذكرهم وعلى هذا جرى الكمال بن الهمام، فقد عرفه في تحريره بما دل على استغراق أفراد مفهوم، وعرفه، والى هذا اتجه المعاصر للكمال صاحب المرقاة.

وقال في المرقاة: بأنه "لفظ يستغرق مسميات غير محصورة".

وعرفه أبو الحسين البصري المعتزلي، وهو اللفظ المستغرق لما يصلح له.

وزاد عليه الإمام الرازي قيدًا في محصوله "بوضع واحد". =

ص: 58

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وليس" التعريف "بمانع؛ لأن" الأعداد "نحو: عشرة، ونحو: ضرب زيد عمرًا - يدخل" كل منهما "فيه"

(1)

؛ إذ كل منهما لفظ مستغرقٌ لما يصلح له، وليس بعامّ.

= واختار الإمام البيضاوي هذا التعريف مع هذه الزيادة.

وعرفه إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في ورقاته: العام ما عم المنهاج شيئين فصاعدًا، ومال إليه حجة الإسلام الغزالي إلى أن العام هو اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدًا.

وعرفه الآمدي بـ "اللفظ الواحد الدال على مسمين فصاعدًا مطلقًا معًا .. ".

وعرفه القرافي "بأنه الموضوع لمعنى كلي بقيد تتبعه في محاله" وفي "جمع الجوامع": "هو لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر". وينظر: البرهان لإمام الحرمين 1/ 318، والبحر المحيط للزركشي 3/ 5، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 185، وسلاسل الذهب للزركشي ص 219، والتمهيد للإسنوي ص 297، ونهاية السول له 2/ 312، وزوائد الأصول له ص 248، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 75، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 69، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 343، والمنخول للغزالي ص 138، والمستصفى له 2/ 32، وحاشية البناني 1/ 392، والإبهاج لابن السبكي 2/ 82، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 254، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 326، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 505، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 189، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 230، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 3/ 379، والتحرير لابن الهمام ص 64، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 191، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 385، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 159، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 101، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 38، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 68، وشرح المنار لابن ملك ص 45، والوجيز للكراماسي ص 11، والموافقات للشاطبي 3/ 260، وتقريب الوصول لابن جُزَيّ ص 75، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 112، وشرح مختصر المنار للكوراني ص 45، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 222، وفواتح الرحموت لابن نظام الدين الأنصاري 1/ 255، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص 343، والعدة 1/ 140، والحدود (44)، والوصول إلى الأصول لابن برهان 1/ 22، والروضة (115)، والمسودة (574)، والمغنى للخبازي (99)، وشرح تنقيح الفصول (38)، والمدخل (237).

(1)

في حاشية ج: قوله: يدخل كل منهما فيه، فيه أن ما يصلح له عشرة جميع العشرات لا ما يتضمنه من الآحاد، وعشرة لا يستغرقها، إنما يتناولها تناول صلوحيته على البدل، والجملة لا تصلح لمعاني أجزائها. عضد، وانظر السعد عليه.

ص: 59

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال "الغزَالي: اللَّفظ

(1)

الواحد الدَّال من جهةٍ واحدةٍ على شيئين فصاعدًا"، وقيوده ظاهرة، "وليس" هذا الحد "بجامع؛ لخروج المعدوم والمستحيل" عنه بقوله: شيء؛ "لأن مدلولهما ليس بشيء" عند أئمتنا، ومع ذلك فقد يوجد العموم فيهما، "و" لخروج "الموصولات" وصلاتها؛ "لأنها" عامة، و"ليست بلفظ واحد ولا [بـ] مانع؛ لأن كل مثنى" نحو: رجلين "يدخل فيه"، أي: مع أنه ليس بعام، "ولأن كل معهود"؛ كـ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [سورة آل عمران: 173]، "ونكرةٍ"؛ نحو: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [سورة البقرة: 67] "يدخل فيه"، وليس شيء منهما بعام.

"وقد يلتزم" الغزالي "هذين"، ويرى أن جمع المعهود والنكرة عام، فلا يرد.

وقد يجيب عن الأول بأن المعدوم شيء لغة

(2)

.

وعن الثاني بأن الموصولات هي التي يثبت لها العموم؛ لأنها مبهمة، والصلات. تبين حالها:

(1)

خصّ اللفظ بالذكر ليفيد أن العموم من عوارض الألفاظ خاصة، كما هو مختاره، واحترز "بالواحد" عن مثل "ضرب محمد عليًا"، و"زيد قائم"، وسائر المركبات الدالة على معاني مفرداتها. و"من جهة واحدة" عن المشترك كالعين مثلًا؛ فإنه يدل على الباصرة من جهة وضعه لها، واستعماله فيها، وعلى الجارية من جهة الوضع لها، والاستعمال فيها، كذا قالها السعد في حاشيته على العضد، وقد رفض شارح "المسلم" صحة هذا الإخراج، بناء على أن الغزالي رحمه الله لا يجوز مثل هذا الاستعمال، ورأى أن هذا القيد لإخراج الفرد المنكر، فإنه دال على المتعدد من جهات وفي إطلاقات، ولعل هذا هو الأول بالاعتبار؛ لأن فهم القيد على هذا الوجه مما لا يناسب رأي المعرف خصوصًا، وأنه صالح لحمله على معنى يراه صاحب التعريف.

و"على شيئين" للاحتراز عن مثل "زيد" و"محمد" مما مدلوله شيء واحد.

"فصاعدًا" ليدخل فيه مثل العام المستغرق كالرجال والمسلمين؛ إذ المتبادر إلى الفهم من قولنا: شيئين أن مدلوله لا يكون فوق الاثنين ..

(2)

أوضح ذلك فأقول:

الجَوابُ: قال قائل في الوجه الأول مما ورد على الجمع: لا نسلم أن المعدوم ليس بشيء، بل هو شيء لغة؛ فإنهم يطلقون الشيء عليه، ومنع أهل الكلام إطلاق الشيء عليه لا يضرنا ما دامت اللغة تجيز ذلك، .. وتعقبه في مسلم الثبوت بما جاء في المواقف من أن اللغة شاهدة =

ص: 60

وَالأَوْلَى؛ مَا دَلَّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ اشْتَرَكَتْ فِيهِ مُطْلَقًا ضَرْبَةً:

فَقَوْلُهُ: "اشْتَرَكَتْ فِيهِ"؛ لِيَخْرُجَ نَحْوُ: "عَشَرَةٍ". وَ"مُطْلَقًا"؛ لِيَخْرُجَ الْمَعْهُودُونَ، وَ"ضَرْبَةً"؛ لِيَخْرُجَ نَحْوُ:"رَجُلٍ".

وَالْخَاصُّ بِخِلَافِهِ.

وعن الثالث: بأن المثنى تناوله لكل اثنين تناول احتمال

(1)

لا تناول دلالة، فهو من عموم البدل لا الشمول.

الشرح: "والأولى" عند المصنّف أن يقال في تعريفه: "ما دل

(2)

على مسميات

= لهم في أن لا يسمى المعدوم في اللغة شيئًا، ثم قال شارحه: "والأولى أن يقال: إنه وإن لم يكن شيئًا حقيقة ووضعًا، لكنه شيء مجازًا، وهذا المجاز شائع مفهم، فلا يمتنع استعماله في التعريفات.

وقال في الثاني: "لا نسلم أن العام هو الموصول مع الصلة، بل العام هو الموصول وحده كالمعرف باللام، فإن العام هو المعرف حال اقترانه باللام، غايته أن الصلة مبينة لعمومه كاللام، والموصول وحده لفظ واحد، فالعام ليس مركبًا، سلّمنا أن العام هو الموصول مع الصلة، لا الموصول وحده لكنا نقول: المراد بوحدة اللفظ ألا يتعدد بتعدد المعاني، فالعام ما دل على متعدد، ولم يتعدد اللفظ حسب تعدد المعاني، والموصول مع صلة يدل على الكثير دفعة، لا أن واحدًا منها يدل على واحد، والآخر على آخر ..

وقالوا في الأول مما ورد على المنع: المثنى لا يدل على معنيين فصاعدًا معًا؛ لأن المراد بالدلالة على معنيين فصاعدًا الدلالة عليهما وعلى ما فوقهما، فلا يدخل في الحد.

قال شيخنا الشيخ فائد: ونظر في هذا الجواب: بأنه لو صح هذا، لكان البائع بدرهمين غير ممتثل فيما إذا قيل له:"بع هذا بدرهمين وبما فوقهما"؛ إذ الإذن على هذا لم يتناول البيع بدرهمين، مع أن الحق خلاف هذا؛ لأنه ممتثل بالبيع بدرهمين قطعًا، حتى ينفذ البيع، ولا يكون للمالك حق الفسخ ..

وقد أفسح شارح "المسلم" صدره، فأورد طائفة من المناقشات والمدافعات، أنهى الكلام فيها إلى أن قيد الشيئين في التعريف ضار على كل حال؛ لأنه إن صح أنه لا يشمل المثنى، بناءً على أن المتبادر من أمثال هذه العبارة أحدهما عرفًا، فالمقصود من التوكيل التخيير بين البيعين بثمنين.

(1)

في حاشية ج: قوله: تناول احتمال: أي صلاحية، وأما الآحاد فلا يصلح تناولها لفظ المثنى.

(2)

يرى العلامة أبو عمرو أن العموم يتصف به المعنى كما يتصف به اللفظ، فيكون المراد بقوله: =

ص: 61

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقًا ضربةً" واحدة.

ولم يقل: لفظ؛ ليتناول العموم المعنوي.

وقال: "على مسميات" ولم يقل: أشياء؛ ليدخل المعدوم، ويخرج المفرد والمثنى

(1)

. واحترز بقوله: "باعتبار أمر اشتركت فيه" عن أسماء العدد

(2)

كـ "عشرة"؛ فإن دلالتها على الإفراد ليس لاشتراكها في أمر، بل باعتبار وضع اسم العدد.

"و" قال: ""مطلقًا"؛ ليخرج [المعهود]

(3)

؛ فإن دلالته بقرينة العَهْدِ لا بالإطلاق.

"وضربة": ليخرج نحو: رجل، فإنه وإن دلّ على مسميات كثيرة، فعلى سبيل البَدَل لا دفعة واحدة

(4)

.

= "ما دل" شيء دل أو أمر دل أعم من أن يكون لفظًا أو معنى، وهذا كالجنس يشمل العام.

(1)

المسميات تعم الموجود والمعدوم، والمراد منها التي يصدق على كل منها ذلك الأمر المشترك.

(2)

لأن الألف والعشرة وإن دلّا على آحادهما، غير أن تلك الآحاد لم تكن مشتركة في أمر؛ إذ إن آحاد العشرة والألف أجزاء لا جزئيات، وحيث كانت كذلك كانت مختلفة، فلم يوجد ما يجمعها، ويدخل المشترك باعتبار استغراقه لأفراد أحد مفهوميه، دون أفراد المفهومين، وكذا المجاز باعتبار أفراد نوع ما من العلاقات، وهو متعلق بدل.

(3)

في ب: المعهودون.

(4)

وهو قيد ثالث ليخرج النكرة كرجل، فإنه يدل على مسميات مطلقًا لكن على سبيل البدلية لا دفعة واحدة، وأورد على هذا التعريف ما أورد على غيره من التعريفات:

أولًا: أنه غير جامع؛ لأنه لا يشمل المفهومات الكلية المضافة إلى ما يخصصها، مثل علماء البلد، وعظماء العالم؛ فإنها دلت على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه، ولكنها مقيدة بقيد الإضافة إلى ما يخصصها، مع أن تلك المفهومات مستغرقة، وقصد بها العموم، ولكن هذا التعريف لا يشملها

ثانيًا: أنه غير مانع؛ لأنه يشمل الجمع المنكر مثل رجال؛ فإنه يدل على مسميات وهي زيد، وعمرو، وعلي؛ باعتبار أمر اشتركت فيه تلك المسميات، وهو مفهوم، فيصدق على الجمع المنكر أنه عام، وليس بعام عند صاحب التعريف ..

وقد دفع الاعتراض الأول ما يأتي:

أولًا: أن ما ذكر من المفهومات الكلية المضافة إلى ما يخصصها، كعلماء البلد لم يتقيد بقيد، بل هو دال على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقًا؛ لأن الدال "عالم البلد المطلق"، لا =

ص: 62

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= العالم الذي هو المقيد، وذلك بخلاف الرجال المعهودين؛ فإن المشترك فيه هو الرجل الذي قيد بالمعهودية، بعدما كان مطلقًا، بمقتضى أصل وضعه، واعتبار الأفراد في العام لا يقدح في هذا الجواب؛ لأن العام هنا هو المضاف من حيث هو مضاف، والمضاف إليه خارج ..

وقد تعرض العلامة الكمال في التحرير لخدش هذا الجواب فقال: "والحق أن لا فرق بين المعهود باللّام والمعهود بالإضافة من حيث الإطلاق والتقييد؛ لأن عالم البلد معهود؛ لأن المراد منه ما كان موجودًا حال التكلم، لا كل ما يصدق عليه هذا المركب الإضافي، ولا شك أنهم حصة معينة منه وإن كثر عددهم، وقد اشتهر تلقيبها بـ "الإضافة العهدية" ..

وتعقب ابن الهمام صاحب مسلم الثبوت وشارحه بأن المضاف بالإضافة العهدية يلزم خروجه، والمضاف بالإضافة الاستغراقية لا عهد فيه، بل اعتبر تقييد الجنس أولًا، ثم اعتبر عمومه واستغراقه لجميع الأفراد المقيدة.

ثانيًا: قالوا: المراد من المعهود الذي احترزنا "بـ "مطلقًا" عنه معهود مخصوص، وهو ما كان معهودًا باللّام، لا مطلق معهود حتى يشمل المعهود بالإضافة، فترد المفهومات الكلية المضافة إلى ما يخصصها كعلماء البلد، ودفع هذا الجواب: بأن إرادة معهود مخصوص من اللفظ أعني مطلقًا لا يفيده اللفظ؛ لأنه ظاهر في الإطلاق، وعلى فرض إرادة ذلك من اللفظ، فليس هناك قرينة تدل على هذا المراد، فيكون مجازًا بغير قرينة، والحدود تصان عن المجاز؛ لأن الغرض الإيضاح والبيان، والمجاز شأنه الخفاء، وقالوا في دفع الاعتراض الثاني: إن المراد من المسميات المذكورة في التعريف مسميات اللفظ الدال على العموم، ولا شك أن الجمع المنكر إذا دلّ على الآحاد كمحمد، وعلي، وبكر، بسبب اشتراك تلك المسميات في أمر، وهو مفهوم رجل، لا يكون دالًا على مسميات؛ لأن مسميات الجمع المنكر إنما هي الجماعات لا الآحاد، فلا يكون الجمع المنكر عامًا؛ فيكون التعريف مانعًا. وفي هذا الدفع نظر من ثلاثة أوجه:

أولًا: أن إرادة مسميات اللفظ الدال على العموم من المسميات المذكورة في التعريف إرادة بعيدة؛ إذ لا قرينة على ذلك، فيكون في التعريف خفاء، والخفاء ينافي البيان الذي هو من حق التعريفات.

وتعقب أمير بادشاه هذا النظر، بأن "المسميات" وإن أطلق فالمتبادر منها أن تكون مسميات بالنسبة إلى اللفظ الذي تناولها، فعدم إشعار اللفظ بها محل نظر ..

ثانيًا: يلزم على هذا الدفع أن يكون "باعتبار أمر اشتركت فيه" لغوا لا فائدة فيه؛ لأنه ما ذكر في التعريف إلا لإخراج العدد، وبعد أن يزيد من المسميات مسميات اللفظ الدال لا نكون بحاجة إليه، لأن العدد قد خرج بقولنا: مسميات، وذلك لأن الآحاد ليست بمسميات اللفظ =

ص: 63

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واعترض الشيخُ الأَصْفَهَاني: بأن غالب التعاريف كهذا التعريف، وغيره مأخوذ فيها لفظ "ما" الموصولة، وهي في جملة المعرَّف، وأخذ المعرَّف قيدًا في المعرف باطل.

وادَّعى أن جوابه متعذّر

(1)

، وهذا تعريف العام. "والخاص بخلافه"، فاعتبره مع التعاريف كلها.

= الدال، بل هي أجزاء لا جزئيات

وقد يجاب عن هذا النظر، بأنه لا مانع من أن يكون القيد مذكورًا للإيضاح والبيان، وليس بلازم أن يكون للاحتراز ..

ثالثًا: إذا أردنا من المسميات مسميات اللفظ الدال، يلزمنا أن نقول: إن الجمع المعرف ليس عامًا بالنسبة إلى الوجدان؛ لأنها ليست مسميات له، بل مسمياته هي الجماعات، وبالتالي يلزمنا أن نقول: إن حكم الجمع المحلى باللام لا يتعدى إلى الوجدان، بل يكون عامًا في أفراده، وهي الجماعات، وهذا باطل بالإجماع، فقد ثبت عن أئمة التفسير والأصول واللغة أنهم جعلوا حكم الجمع المحلى ثابتًا للوجدان

ويجاب عن هذا النظر بأن اللّام عند دخولها على الجمع أبطلت معنى الجمعية، وسلبتها إلى الجنسية، ومعناه بطلانها من جهة الحكم فقط، وأما من جهة الأحكام اللفظية فهي باقية، بدليل أنهم لم يجوزوا الإخبار عنه بالمفرد، ولا وصفه به، ولا إرجاع الضمير عليه مفردًا، إلى غير ذلك من الأحكام اللفظية، والأمر الذي دعا إلى القول بإبطال حكم الجمعية عند دخول اللام على الجمع، أن حكم الجمع قد ثبت للواحد، مع أن الواحد ليس من أفراد الجمع، بل أفراده الجماعات، ما ذاك إلا لأن الجمعية قد سلبت، وبقيت الجنسية، ففي قولنا:"لا أشتري العبيد" ليس معناه أنك لا تشتري جماعة العبيد، ولا بأس من شراء الواحد، بل معناه أنك لا تشتري أي عبد، وما ذاك إلا لأن الجمعية قد بطلت وبقيت الجنسية، ولذلك من حلف لا يشتري العبيد يحنث بشراء الواحد.

قال شيخنا الشيخ فائد وجملة القول: إن هذا التعريف في جملته لا يخلو من الإبهام، والغموض، من حيث إنه لم يصرح بالاستغراق كغيره، فأوردوا عليه من أجل ذلك ما أوردوا، وقد وضعنا أمام القارئ صورة مما دار بينهم في هذا المقام؛ ليتبين للقارئ مقدار التأويل والتعسف الذي يلجأ إليه الشارح حينما يواجه بألفاظ مرسلة؛ لا تفصح عما أراده صاحب المقال، وكان الأولى له أن يصرح بما أراد، خصوصًا في مقام الحدود التي شأنها الإيضاح والبيان، لا الغموض والإبهام، فضلًا عما يحتويه التعريف من الطول، وكثرة القيود، مما ينبغي أن تصان عنه تعريفات المحققين. ينظر العام للشيخ فائد.

(1)

في حاشية ج: قوله: وادعى أن جوابه متعذر" فيه إشارة إلى رده، لأنه لم يؤخذ من جهة العموم، بل من جهة أنه شيء. تدبر.

ص: 64

‌مَسْأَلَةٌ:

الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ الأَلْفَاظِ حَقِيقَةٌ،

وَأَمَّا فِي الْمَعَانِي فَثَالِثُهَا الصَّحِيحُ كَذَلِكَ.

«مسألة»

الشرح: "العموم من عوارض الألفاظ حقيقة"

(1)

.

فإذا قلت: "هذا لفظ عام" صدق بالحقيقة.

"وأما" العموم "في المعاني فثالثها" أي: ثالث الأقوال فيه، وهو "الصحيح" عند المصنّف، "كذلك" أي حقيقة أيضًا، فتكون موضوعة للقدر المشترك بين اللفظ والمعنى، وهو صادق بالتواطؤ، هذا مذهب المصنّف والاشتراك عنده معنوي لا لفظي.

والقولان الآخران: أحدهما: أنه لا يعترضها حقيقة ولا مجازًا.

والثاني، وبه قال الأكثرون: يعرضها مجازًا لا حقيقة.

(1)

الحق فيه: أنه من عوارض الألفاظ خاصة، وأنه بحسب إطلاقات وتفسيرات أخرى تغاير ما عليه الاصطلاح هنا إما مختص بالمعنى.

أو يعرض له، وللفظ بالسواء، فليتميز ويتضح تمام الاتضاح ما هو المقصود لنا، وهو العام الاصطلاحي، نتعرض هنا لما به يحصل الافتراق، والاختلاف بين العموم المعنوي، والعموم اللفظي الاصطلاحي، فنقول: إنهما يفترقان في أحكام النفي والإثبات، حيث إن اللفظي على عكس المعنوي، وذلك من وجوه:

الأول: أن العموم المعنوي كالحيوان مع خصوصه، كالإنسان لكل منهما وجود وعدم، فالضروب أربعة لا ينتج منها إلا اثنان.

بيانه: أنه حينما ننظر إلى جانب العموم مع وجوده بالنسبة إلى الخصوص يظهر أنه لا يلزم من وجود الحيوان في الدار وجود الإنسان، لجواز تحققه في آخر ولا عدمه؛ لاحتمال تحققه في الإنسان، وبالنظر إليه مع عدمه بالنسبة إلى الخصوص يثبت أنه يلزم من عدم الحيوان في الدار عدم الإنسان، فوجود العموم مع الخصوص غير منتج، وعدمه معه بخلافه، وبالنظر في جانب الخصوص مع العموم يتحقق أنه يلزم من وجود الإنسان في الدار وجود مطلق الحيوان فيها؛ ولا يلزم من عدمها منها عدم مطلق الحيوان في الدار، لاحتمال تحقق وجوده في الفرس، ولا وجود مطلق الحيوان في الدار، لاحتمال عدم كل حيوان مع عدم الإنسان، فينبغي مطلق الحيوان، فالوجود ههنا منتج، والعدم عقيم، فيثبت أنه كلما كان الوجود فيه منتجًا كان العدم =

ص: 65

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل: حقيقة في المعاني الذهنية دون الخارجية؛ لأن المعاني الكلية شاملة الآحاد الجزئية [لمطابقتها]

(1)

لها.

= عقيمًا، والعكس بالعكس. إذا تقرر هذا في العموم المعنوي مع خاصه نجد أن العموم اللفظي مع خاصه على العكس منه، ذلك أن العموم، والخصوص اللفظيين، كالمشركين والذميين في حال نظر أحدهما مع الآخر يثبت أنه كلما وجد العام وجد الخاص حيث يلزم من الأمر بقتل جميع المشركين بدون أن يثبت فيه تخصيص الأمر بقتل الذميين الذي هو الخاص، ويلزم من انتقاء الخصوص، وهو الأمر بالقتل في بعض المشركين انتفاء العموم؛ إذ يظهر حينئذ أن ليس العموم على عموم، بل مخصوصًا، فاستلزم وجود العام وجود الخاص، وعدم الخاص عدم العام، وهذان عقيمان في المعنوي، ولا يلزم من ثبوت الخاص اللفظي ثبوت العام، ولا من انتفاء العام انتفاء الخاص، وهذان منتجان في المعنوي، والمغايرة المعلومة مما سبق سببها أن العموم اللفظي مع خصوصه من باب الكلية والجزئية. أما المعنوي: فإنه من باب الكلي والجزئي.

الثاني: أن العموم المعنوي يصدق في الوجود بفرد، ويثبت حكمه، ويخرج المكلف عن العهدة بذلك، فإذا ما قيل: اقتل حيوانًا، وقتل فرسًا، فقد ثبت أن المكلف أتى بما أمر به، فامتثل، فيخرج عن العهدة، بخلاف اللفظي حيث لا يصدق في الوجود بفرد، ولا يمكن للمكلف الخروج عن العهدة منه إلا بتحقيق جميع الأفراد؛ لأنه من باب الكلية، وهذا شأنها، فإذا قيل: اقتل المشركين، فلا يتأتى الامتثال الذي به الخروج عن العهدة إلا بقتل الجميع.

الثالث: أن العموم المعنوي لا يناقضه مطلق السلب، بل السلب الكلي بحيث لا يكون الحكم ثابتًا في فرد ألبتة، بخلاف اللفظي؛ فإن مطلق السلب يناقضه.

الرابع: أن العموم المعنوي جزء مدلول اللفظي؛ وذلك لأن مدلوله كلية وأفرادها لا بد من اشتراكها في معنى كلي، وهو العموم المعنوي، فيكون جزءًا من مدلول اللفظي. وينظر: الإحكام للآمدي (2/ 184)(1)، وشرح العضد 2/ 101، ونهاية السول 2/ 312، وأصول السرخسي 1/ 125، والمعتمد 1/ 203، والوصول إلى الأصول 1/ 203، وجمع الجوامع 1/ 403، والإبهاج 2/ 180، والتحرير 64، والمسودة ص (90، 97)، وشرح الكوكب المنير 3/ 106، وإرشاد الفحول ص 113، وفواتح الرحموت 1/ 258، وروضة الناظر (115)، ومختصر ابن اللحام ص (106)، والعدة 2/ 513.

(1)

في ب: لمطابقها.

ص: 66

لَنَا: أَنَّ الْعُمُومَ حَقِيقَةٌ فِي شُمُولِ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ، وَهُوَ فِي الْمَعَانِي كَعُمُومِ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ: عَمَّ الْمَطَرُ وَالْخِصْبُ وَنَحْوُهُ.

وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ؛ لِشُمُولِهِ الْجُزْئِيَّاتِ؛ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: الْعَامُّ مَا لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنَ الشَّرِكَةِ.

الشرح: "لنا: أن العموم" لغة

(1)

: "حقيقة في شمول أمر لمتعدد، وهو"، أي: هذا المعنى حاصل "في المعاني"، فكما صح في الألفاظ باعتبار شموله لمعانٍ متعددة بحسب الوضع، صح في المعاني باعتبار شمول معنى واحد لمعان متعددة بالحقيقة؛ "كعموم المطر والخِصْب.

ولذلك قيل: عم المطر والخِصْب" النَّاسَ، وعمهم العَدْل والعطاء "ونحوُه".

"وكذلك المعنى الكُلّي"، وهو: ما لا يمنع تصوره من وقوع الشّركة فيه؛ كالحيوان - عامٌّ؛ "لشموله الجزئيات" المتعددة؛ "ومن ثمّ"؛ أي: ومن أجل تحقق معنى العموم في الكلي قيل: العام ما لا يمنع تصوره من الشركة.

(1)

العموم يطلق تارةً، ويراد به استغراق اللفظ لمسميانه، أي تناوله وإفادته إياها، وهذا بالطبع أمر سببه الوضع للفظ، إما شخصيًا أو نوعيًا، وظاهر أنه بهذا الإطلاق من عوارض الألفاظ خاصة، فالذي يوصف به على الحقيقة هو اللفظ، وإطلاقه على المعنى مجاز من إطلاق ما للدال على المدلول، وهذا هو مصطلح الأصوليين؛ لأن العام من الأدلة القولية، وقسم الخاص والمطلق عندهم. ويطلق تارة، ويراد به شمول أمر لمتعدد، فيوصف به إذًا كل من اللفظ والمعنى حقيقة. ويطلق تارةً ويراد به شمول مفهوم لمتعدد، حينئذ يختص بالمعنى، وهو مصطلح أهل الميزان، فإذا تقرر هذا يعلم أن الأشبه أن يكون الخلاف المشهور في كون العموم من عوارض الألفاظ خاصة، أو من عوارض الألفاظ والمعاني خلافًا لفظيًا، كما نقله التفتازاني عن بعض شراح "المختصر" بمعنى: أنه لو نظر كل من الطرفين إلى ما اعتقد الآخر، فقال بما قال به ذلك؛ لأن العموم بالمعنى الأول يقرر الطرف الأول من هذا الخلاف، وبالمعنى الثاني بالعكس، وإنكار ذلك مكابرة؛ ولتوضيح هذا نستعرض هنا صورة مجملة من كلام المثبت والنافي في هذا النزاع، فنقول: إن العلماء بعد اتفاقهم على اتصاف الألفاظ بالعموم حقيقة اختلفوا في اتصاف المعنى به أيضًا، فقيل بالاتصاف؛ وعليه يكون إطلاقه عليهما حقيقةً، وقيل: بعدمه، وعليه يكون إطلاقه على المعنى مجازًا، وقد أبعد جدًّا من قال: بعدم اتصاف المعنى به مطلقًا، فإنه كما لا يخفى لا حجر في المجاز. =

ص: 67

فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ: أَمْرٌ وَاحِدٌ شَامِلٌ، وَعُمُومُ الْمَطَرِ وَنَحْوُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

قُلْنَا: لَيْسَ الْعُمُومُ بِهَذَا الشَّرْطِ لُغَةً.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي عُمُومِ الصَّوْتِ وَالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْمَعْنَى الْكُلِّيِّ

الشرح: "فإن قيل: المراد" بالعام "أمر واحد شامل" لمتعدد، "وعموم المطر" والخصب "ونحوه ليس كذلك"؛ إذ الموجود في كلّ مكان غير الموجود في مكان آخر،

= وقد استدل المثبت بوجوه:

منها: أن العموم: هو شمول أمر لمتعدد، والأمر شامل للمعاني شموله للألفاظ؛ إذ يطلق عليهما بالسواء، فحيث كان الإطلاق في الثاني حقيقيًا، فليكن في الأول كذلك، فإن زعم النافي أنه يعتبر في العموم بمعنى الشمول أن يكون الشامل أمرًا واحدًا، ولا كذلك المعنى، كالمطر، والخصب مثلًا، فإنهما في هذا المحل غيرهما في المحل الآخر - يجاب بأن ما ذكر لا يعتبر لغة في الشمول، وأنه على تسليم اعتباره، فهو حاصل في المعنى أيضًا، كعموم الإنسان للرجل والمرأة، واللون للبياض والسواد مثلًا، ولهذا فرَّق بعضهم بين المعنى الذهني، كالإنسان، فقال فيه: بالاتصاف؛ لوجود أمر واحد، وهو الكلي الصادق على المتعدد؛ وبين الخارجي، كالمطر، والخصب فقال فيه: بعدم الاتصاف؛ لعدم وجود الأمر الواحد الشامل المتعدد؛ إذ المتحقق هناك أمور شخصية.

ومنها: أنه لو لم يتصف المعنى بالعموم حقيقةً، لما صحّ إطلاقه عليه شائعًا، والتالي باطل، فالمقدم مثله، فيثبت نقيضه، وهو المطلوب، أما الملازمة؛ فلأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وأما بطلان التالي؛ فلأن كثيرًا ما يطلق العموم على المعنى، فيقال: عم الملك الرعية بالإنعام، وعم المطر، والخصب. . . إلخ، فإن زعم النافي أن من لوازم الحقيقة الاضطراد، وما ذكر لا يضطرد، فلا يكون حقيقيًا.

يجاب بأن هذا مشترك الإلزام بين محل الاتفاق، ومحل الاختلاف؛ وذلك؛ لأن الألفاظ قد لا يتصور عروض العموم لها، فلا يطلق عليها لا حقيقة، ولا مجازًا، فكما لم يدع في هذا الجانب اتصاف كل لفظ بالعموم، فكذلك في جانب المعنى، فقد يتبين من هذا أنه إذا فسر العموم بشمول أمر لمتعدد يكون الحق في هذا الخلاف القول بالاتصاف، إلا أن الموافق للمقام، والجاري على الاصطلاح الأصولي هو اعتبار العموم بالمعنى الأول؛ ولهذا صحح جمع من المحققين أنه هنا من عوارض الألفاظ دون المعاني، فيكون هو الأولى بالمراعاة.

ص: 68

‌مَسْأَلَةٌ:

الشَّافِعِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ:

لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ، وَالْخِلَافُ فِي عُمُومِهَا وَخُصُوصِهَا؛ كَمَا فِي الْأَمْرِ.

وَقِيلَ: مُشْتَرِكَةٌ بِالْوَقْفِ فِي الأَمْرِ وَالْنَّهِي، وَالْوَقْفُ إِمَّا عَلَى مَعْنَى:"مَا نَدْرِي" وَإِمَّا: "نَعْلَمُ أَنَّهُ وُضِعَ وَلَا نَدْرِي أَحَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ؟.

فليس بين المَطرِ الواقع في ذاك المكان

(1)

الغطاء المتصل بـ "زيد" نسبة من الواقع بهذا المكان، والغطاء المتصل بـ "بعمرو".

"قلنا: ليس العموم بهذا الشرط"، وهو الوحدة "لغة" أي: اللغة لا تعتبر هذا القَيْد في العموم، بل يكفي الشمول، سواء أكان هناك أمر واحد أم لا.

"وأيضًا: فإن ذلك" أي: العموم بمعنى المعنى "ثابت في عموم الصَّوت"، فإن الصوت؛ يسمعه خلق، وهو أمر واحد يعمهم، "و" كذلك "الأمر والنهي" اللَّذَان هما الطَّلب النفساني يعمّان خلقًا كثيرًا "و" كذا المعنى الكلي كالحيوان يتصور عمومه لما تحته من الآحاد.

"مسألة"

الشرح: قال "الشّافعي والمحققون: [للعموم]

(2)

صيغة"

(3)

تنبيء عنه، وتختصّ به

(1)

في حاشية (ج) تحرر هذه العبارة.

(2)

في ب: العموم.

(3)

أوضح ما أجمله المصنف فأقول:

وبيانًا لموضع الخلاف نذكر الصيغ مجملة، هي بالتتبع أنواع خمسة:

الأول: ألفاظ الجموع المعرفة بأل، أو الإضافة كالرجال، والمشركين، وعلماء مصر، إذا لم يقصد بها تعريف المعهود، كقولهم: أقبل الرجال أي: المعهودون المنتظرون، والمنكرة كقولهم: رجال ومشركون ..

الثاني: أسماء الشرط، والاستفهام، والموصولات، كما في قوله عليه السلام:"مَنْ أحيا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ"، .. عَلَى الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَه، وما في معناها كمتى وأين للمكان والزمان "مَتَى جِئتني أَكْرَمْتُكَ"، "وَأَيْنَمَا كُنْتَ أَتَيْتُكَ".

الثالث: النكرة الواقعة في سياق النفي، سواء كان النفي صريحًا نحو:"لا رجل"، أو ضمنيًّا بأن وقعت في الشرط المثبت يمينًا، أي الذي وقع في اليمين؛ لأن مضمون الشرط حينئذ =

ص: 69

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

موضوعة له

(1)

.

"والخلاف" في تلك الصيغة "في عمومها وخصوصها" بحسب اللغة "كما" هو الخلاف "في الأمر" على ما تقدم.

= الحمل على المنع والنهي، وهما بمنزلة النفي، فمثلًا إذا قال:"إن دخلت دارًا فأنت طالق" فالمحلوف عليه هو نفي دخول الدار؛ لأنه المطلوب من الحلف، وبهذا الاعتبار كانت "دار" نكرة في سياق النفي، فالمقصود من هذا الشرط حمل المرأة على عدم دخول أي دار، يعني أنه قصد بالشرط منعها، فكان ذلك نفيًا.

الرابع: الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام لا للتعريف، كقوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ، وقوله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وأمّا الاسم المفرد النكرة، كمشرك وسارق، فلا يتناول إلا واحدًا.

الخامس: الألفاظ المؤكِّدة ككل، وجميع، وأجمعون، وأكتعون.

تلك هي الصيغ التي كانت محل الخلاف بينهم.

(1)

أما النص فهو آيتان من كتاب الله:

الأولى منهما: قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} .

والثانية: قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} تمسكًا منه بقوله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} .

والحجة في الآية الثانية أن الأهل أضيف إلى نوح عليه السلام وفهم نوح من هذه الإضافة العموم، وأقره الله على ذلك، وأجاب بما دل على أنه ليس من أهله، ولو كانت الإضافة لا تقتضي العموم وضعًا لما كان ذلك؛ إذ ليس في الكلام ما يدل على العموم سواها.

وفي الأولى فهم إبراهيم عليه السلام من أهل هذه القرية العموم، حيث ذكر لوطًا، وأقرّه الملائكة على ذلك، وأجابوه بتخصيص لوط وأهله بالاستثناء، واستثناء امرأته من الناجين، وكل ذلك يدلّ على فهم العموم من هذه الإضافة.

وأما الإجماع فهو مأخوذ من فهم الصحابة العموم من هذه الصيغ، والاحتجاج بها من غير نكير عليهم، وقد ورد في هذا الباب وقائع كثيرة، منها ما يفيد فهم العموم منها، وقيام الحجّة بهذا الفهم من غير نكير، وهذا النوع يؤخذ منه الإجماع على إفادة هذه الصيغ العموم، ومنها ما يفيد فهم العموم منها، ولم يحصل لهم نكير إلا من جهة أن ما فهموا من العموم ليس مرادًا، وإنما أريد منه الخصوص، وهذا النوع صحيح في الاستدلال، من جهة عدم النكير عليهم في فهم العموم من الصيغة، وإنما جاء النكير من جهة أخرى.

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وقيل: مشتركة"

(1)

بين العموم والخصوص.

"وقيل: بالوقف"

(2)

في الأخبار لا "في الأمر والنهي، والوقف" على معنيين "إما على معنى" أنَّا "ما ندري" هل هو موضوع أو لا؟

وعلى تقدير الوضع لا ندري وإذا؟

"وإما" على معنى أنا "نعلم أنه وضع" له صيغة، "ولا ندري أحقيقة أو مجاز؟ ".

وقيل: بالعموم حالة التأكيد بضروب من التأكيد فقط.

وقيل: بعموم لفظ "الكافرين" و "المؤمنين". فقط.

وذكرت مذاهب من هذا النوع في السقوط، والحق الأبلج إثبات الصيغ.

(1)

اشتراك لفظي.

(2)

وقد اختلف الواقفية في محل الموقف على تسعة أقوال، حكاها صاحب "إرشاد الفحول"، وهي:

- 1 - القول بالوقف مطلقًا من غير تفصيل، وهو المشهور عن أئمة الأشاعرة وعامة المرجئة.

- 2 - الوقف في الوعد والوعيد، دون الأمر والنهي، حكاه الرازي عن الكرخي.

- 3 - القول بالعموم في الوعد والوعيد، والتوقف فيما عدا ذلك، وهو قول جمهور المرجئة.

- 4 - الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون غيرها.

- 5 - الوقف في الوعيد دون الوعد فقال القاضي: وفرقوا بينهما بما يليق بالشطح والترهات دون الحقائق.

- 6 - التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد، فيكون للعموم، دون ما إذا لم يتقيد ..

- 7 - الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشرع عنه عليه السلام، وأما من سمع وعرف تصرفاته فلا وقف، حكاه المازريُّ ..

- 8 - أن لفظة المؤمن والكافر حينما وقعت في الشرع أفادت العموم دون غيره، حكاه المازري عن بعض المتأخرين ..

9 -

الفرق بين ألا يسمع قبل اتصالها به شيئًا من أدلة السمع، وكانت وعدًا ووعيدًا، فيعلم أن المراد بها العموم، وإن كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع، وعلم انقسامها إلى العموم والخصوص، فلا يعلم حينئذ العموم في الأخبار التي اتصلت به، حكاه القاضي في "مختصر التقريب".

ص: 71

وِهِيَ أَسْمَاءُ الشُّرُوطِ وَالاِسْتِفْهَامِ وَالْمَوْصُولَات، وَالْجُمُوعُ الْمُعَرَّفَةُ تَعْرِيفَ جِنْسٍ، وَالْمُضَافَة، وَاسْمُ الجِنْسِ كَذَلِكَ، وَالنَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ.

الشرح: "وهي أسماء الشروط والاستفهام والمَوْصُولات، والجموع المعرفة تعريف جنس" لا تعريف عَهْد؛ فإن تلك بحسب معهودها "والمضافة".

ثم أفراد الجموع ثلاثة ثلاثة بخلاف غيرها.

فإذا قلت: قام الرجال، فأفراده ثلاثة ثلاثة، وقام الرجل أفراده كلّ واحد، ويظهر لك أثر هذا في النفي إذا قلت:"لم يقم الرجال" يصدق وإن قام رجلان أو رجل، أو "لم يقم رجل" لا يصدق إذا قام واحد.

"واسم الجنس كذلك" أي: في العموم إذا عُرِّف تعريف جنس أو أضيف.

"والنكرة

(1)

في "سياق "النفي "بـ"ما" أو "لم" أو "ليس" أو "لن"، سواء باشرها النفي نحو:

ما أحد قائم، أو باشرها عاملها نحو: ما قام أحد.

واعلم أن النكرة إن كانت صادقةً على القليل والكثير كـ"شيء"، أو واقعة بعد "لا" العاملة عمل "إنَّ" أعني التي لنفي الجنس نحو: لا رَجُلَ في الدار - ببناء رجل على الفتح، أو داخلًا عليها "مِنْ" مثل: ما جاءني مِنْ أحد، فإن كونها للعموم من الواضحات.

لكن هل استفيد العموم في قولك: "ما جاءني من رجل" من لفظ "مِنْ"؟!، أو كان مستفادًا من النفي قبل دخولها، ودخلت هي لتأكيده؟

الحقّ: الثاني، وهو ما كان أبي رضي الله عنه يقرره، وهو مقتضي كلام ابن مالك، وقد فَهِم عنه شيخنا أبو حيان خلاف ذلك، وليس بجيد كما قررناه في "شرح المنهاج" وقد وَهِم القرافي، فاشترط في تعميم النكرة في سياق النفي أن يصحبها "مِنْ" متمسكًا بقول الزمخشري في قوله تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف، الآية: 59] إنما استفيد العموم من لفظ "مِنْ"، ولو قال:"ما لكم إله غيره" - لم يعم مع كونه نكرة في سياق النفي.

والحق أن "مِنْ" إنما جاءت لتنصيص العموم، وبهذا صرح ابن مالك

(2)

، فالعموم

(1)

في حاشية ج: قف على وقوع النكرة في سياق النفي، وهو جزء مهم.

(2)

محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك، جمال الدين، أبو عبد الله الطائي الجياني، ولد سنة =

ص: 72

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قبلها ظاهر، ومعها نصّ، والذي يخيل لنا أنها أربع مراتب:

أعلاها: ما جاءني من دَيَّار للإتيان بلفظ "مِنْ"؛ ولأن دَيّارًا لا يستعمل إلَّا في النفي.

وأدناها: ما جاءني رجل، لفقدان الأمرين.

والمرتبة المتوسّطة: ما جاءني من رجل، وما جاءني "أحد"، فترجّح أحد بأنه لا يدخل إلّا في النفي، إلّا إذا كانت همزته مبدلة من "واو" لا كلام فيه، [ويترجح]

(1)

"رجل" بأن معه لفظة "مِنْ" المنصصة على العموم، وأنَّ:"لا رَجُلَ" المبنية على الفتح نص، وإلى ذلك أشار إمام الحرمين في أول الكلام على قوله عليه السلام:"لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ"

(2)

في التأويلات البعيدة.

و"لا رجلٌ" المنونة ظاهر، ولذلك قال سيبويه

(3)

(4)

: تقول لا رَجُلَ في [الدار]

(5)

أي

= 598، وقيل غير ذلك. سمع من جماعة، وأخذ العربية عن غير واحد، وتخرج به جماعة كثيرة، قال الذهبي: وصرت همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية، وحاز قصب السبق، وأربى على المتقدمين، وكان إمامًا في القراءات وعللها

" وأطال الذهبي في ترجمته والثناء عليه. وأشهر تصانيفه على الإطلاق ألفيته في النحو الموسومة بـ"ألفية ابن مالك"، وبها اشتهر، وله غيرها كثير. مات سنة. 672. انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 2/ 149، والأعلام 7/ 111، وطبقات. السبكي 5/ 28.

(1)

في أ: يترحج.

(2)

أخرجه أحمد (6/ 287)، والدارمي (2/ 6)، وأبو داود (2454)، والترمذي (726)، والنسائي (4/ 696 - 197)، وابن ماجه (1/ 542)، رقم (1700)، والدارقطني (2/ 172)، والبيهقي (4/ 202)، والبخاري في "التاريخ الصغير" (1/ 132) من حديث حفصة. وقال الترمذي: حديث حفصة لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وقد روى عن نافع عن ابن عمر قوله، وهو أصح.

(3)

عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب بـ"سيبويه": إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو، ولد في إحدى قرى شيراز، وقدم البصرة، فلزم الخليل بن أحمد ففاقه، وصنف كتابه المسمى "كتاب سيبويه" في النحو لم يصنع قبله ولا بعده مثله، ناظر الكسائي وأجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم، كان أنيقًا جميلًا، توفي شابًا، ولد سنة 148 هـ وتوفي سنة 180 هـ.

انظر: ابن خلكان 1/ 385، والبداية والنهاية 10/ 176، والأعلام 5/ 81.

(4)

ينظر: الكتاب لسيبويه 2/ 274.

(5)

في أ: الديار.

ص: 73

لَنَا: الْقَطْعُ فِي: "لَا تَضْرِبْ أَحَدًا"، وَأَيْضًا: لَمْ تَزَلِ الْعُلَمَاءُ تَسْتَدِلَّ بمِثْلِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [سورة المائدة: الآية 38]، {وَالزَّانِيَةُ} [سورة النور: الآية 2]، {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [سورة النساء: الآية 11]؛ كَاحْتِجَاجِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي قِتَالِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه مَانِعي الزَّكَاةِ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، [فَإِذَا قَالُوهَا حَقَنُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ"]، وَكَذَلِكَ "الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ"، وَ"نَحْنُ - مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ - لَا نُورَثُ"، وَشَاعَ وَذَاعَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.

بالفتح ولا تقول: بل رجلان، وتقول: لا رجلٌ في الدار أي بالرفع، وتقول: بل رجلان.

هذا ما كان أبي - رحمه الله تعالى - يحرّره.

وقد وَهِمَ مَنْ زعم أن النكرة في سياق النفي لا تعم إلا إذا كانت مبنية على الفتح، بل الحق وجدان العموم في الحالتين، وإنما هي في أحدهما نص، فلذلك لا تقول: بل رَجُلان، وفي الأخرى ظاهر، فلذلك تقوله؛ إذ لا يمتنع التصريح، بخلاف الظاهر، فاحفظ ذلك؛ فهو من النفائس.

وأهمل المصنف النكرة في سياق الإثبات، فإنها لا تعم عند الأصوليين عموم الشمول.

وأما تعميم مثل قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [سورة التكوير: الآية 14] وقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلاةٌ فِي مَسْجِدي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ"

(1)

، فمن غير ما نحن فيه؛ لأن الحكم فبه على الماهية من حيث هي، فجاء العموم فيه بالعَرَض، وليس ثَمَّ عموم حقيقي، إذْ لا أفراد تحت مطلق الماهية حتى يعمها، فافهمه.

للشرح: "لنا:" على إثبات الصِّيَغِ "القطع" بفهم العموم "في: لا تضرب أحدًا" حتى لو ضَرب واحدًا عُدّ مخالفًا، والتبادر دليلُ الحقيقة؛ فالنكرة في النفي للعموم حقيقة، فثبت أن للعموم صيغة.

"وأيضًا: لم تزل العلماء" قبل زمن المُخَالفين وبعدهم "تستدلّ بمثل {وَالسَّارِقُ

(1)

أخرجه البخاري 3/ 63، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1190)، ومسلم (2/ 1012)، كتاب الحج، فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (505/ 1394)، ومالك في الموطأ 1/ 196 في كتاب القبلة: باب ما جاء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 74

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَالسَّارِقَةُ} [سورة المائدة: الآية 38] و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [سورة النور: الآية 2]{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [سورة النساء: الآية 11] على قطع السارق، وجلد الزاني، وتوريث الأولاد كما في الآية.

و "كاحتجاج عمر في قتال أبي بَكْرٍ رضي الله عنهما مَانِعِي الزكاة: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ""

(1)

روى الأئمة الخمسة: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كَفَرَ من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أمِرْتُ أَنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فمن قال: لا إله إلا اللهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى الله؟ فقال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة؛ حق المال ..... " الحديث.

فقد فهم عمر العموم، واحتج به، وقرره أبو بكر رضي الله عنه وعدل إلى الاحتجاج بقوله عليه الصلاة والسلام:"إِلّا بِحَقِّهِ"، والزكاة من حقه.

"وكذلك" قوله صلى الله عليه وسلم: "الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ"

(2)

رواه أحمد والنسائي من رواية بكير بن

(1)

أخرجه البخاري 3/ 308، كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة (1399) وفى 12/ 288، كتاب استتابة المرتدين (6924) وفي 13/ 264 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7284) ومسلم 1/ 52 كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (23/ 21).

(2)

أخرجه أحمد في المسند 3/ 129، والطبراني في الكبير 1/ 224، وفي الصغير 1/ 152، وابن أبي عاصم 2/ 531، 533، وانظر: المجمع 5/ 192، 194، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 12/ 170، والطيالسي كما في المنحة 2/ 163 في كتاب الخلافة والإمارة، باب ما جاء في أطوار النبوة والخلافة والملك حديث 2596 ومن حديث أبي برزة (2597)، والرازي في العلل (2799)، وأبو نعيم في الحلية 5/ 8، 7/ 242 من حديث علي 8/ 133، والدولابي في الكنى 1/ 106، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 121 في كتاب الصلاة، باب من قال: يؤمهم ذو نسب إذا استووا في القراءة والفقه، وفي 8/ 143، 144، وينظر: تلخيص الحبير 4/ 42.

ص: 75

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهب الجزري

(1)

عن أنس

(2)

، وبكير مجهول؛ فإنه لم يَرْوِ عنه غير أبي الأسود عليّ

(3)

.

وقال فيه الأزدي

(4)

: غير قوي، ولكن روى له النَّسائي، وأهل المعرفة بالحديث يرون مجرد رواية النسائي له أرجح من تضعيف الأزدي إياه.

(1)

بكير بن وهب الجزري. عن أنس حديث: "الأئمة من قريش" قاله شعبة عن علي أبي الأسد عنه. وقال الأعمش ومسعر عن سهل أبي الأسد عنه وقال فضيل بن عياض: عن الأعمش عن أبى صالح الحنفي عنه. قال ابن حجر: قال الأزدي: ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في الثقات. وينظر: تهذيب التهذيب 1/ 496، وتقريب التهذيب 1/ 108، تهذيب الكمال 1/ 160، خلاصة تهذيب الكمال 1/ 139، والكاشف 1/ 164، والثقات 4/ 77، ولسان الميزان 7/ 186، وتاريخ البخاري الكبير 2/ 112، والجرح والتعديل 2/ 1583.

(2)

أنس بن مالك بن النَّضر بن ضمضم بن زيد بن حرام الأنصاري البخاري، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين. وذكر ابن سعد أنه شهد بدرًا، له ألف ومائتا حديث وستة وثمانون حديثًا، وروى عن طائفة من الصحابة، وعنه بنوه موسى والنضر وأبو بكر والحسن البصري وثابت البناني وسليمان التيمي وخلق لا يحصون، مات سنة تسعين أو بعدها وقد جاوز المائة، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم. وينظر: ترجمته في: تهذيب الكمال 1/ 122، وتهذيب التهذيب 1/ 376، وتقريب التهذيب 1/ 84، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 105، أسماء الصحابة الرواة 3، تاريخ البخاري الكبير 2/ 27، وتاريخ البخاري الصغير 245، والجرح والتعديل 2/ 1036، والثقات 3/ 4، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 31، وأسد الغابة 1/ 157، والإصابة 1/ 126، 84، وشذرات الذهب 1/ 100، ومعجم طبقات الحفاظ 66، والوافي بالوفيات 9/ 411، والاستيعاب 1/ 109.

(3)

علي أبو الأسود الحنفي الكوفي. روى عن بكير بن وهب وأبي صالح الحنفي على خلاف فيه. وعنه شعبة، وروى عنه الأعمش. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: صدوق، روى له النسائي حديثه عن بكير عن أنس:"الأئمة من قريش" وروى عنه أيضًا البخاري وغيره. وينظر: تهذيب الكمال 2/ 995، وتهذيب التهذيب 7/ 397 (642)، وتقريب التهذيب 2/ 46، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 259، والكاشف 2/ 299.

(4)

يزيد بن محمد بن إياس؛ أبو زكريا الأزدي. مؤرخ من حفاظ الحديث. من أهل الموصل، ولي قضاءها، من تصانيفه:"طبقات محدثي الموصل" و"تاريخ الموصل". توفي سنة 334 هـ. وينظر: علم التاريخ عند المسلمين 210، وياقوت 3/ 114، و 4/ 685، والأعلام 8/ 187.

ص: 76

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ورواه الهيثم بن كليب الشَّاشي

(1)

، والطبراني من رواية أبي صادق عن ربيعة بن ناجِذٍ

(2)

- بالنون والجيم والذال المعجمة - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعًا، وتكلّم عليه الدَّارقطني في "العلل"، وذكر أنه روي مرفوعًا.

قال: والموقوف أشبهُ بالصواب.

قلت: وربيعة بن نَاجِذِ مجهول؛ لأنه لم يَرْوِ عنه غير أبي صادق، وقد روى له ابن ماجه.

وقد قال النووي في "شرح المهذب": إن الحديث المذكور في "الصحيحين"، ولعله أراد معنى الحديث؛ فإن في "الصحيحين" من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ هَذا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ فِي النَّاسِ اثْنَانِ"

(3)

.

وأما "الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ" فليس في "الصحيحين".

والحاصل: أنه فهم منه العموم، واحتج به على من قام بذهنه أن يجعل من [غير]

(4)

(1)

الهيثم بن كليب بن شريح بن معقل الشاشي، أبو سعيد، صاحب المسند، ومحدث ما وراء النهر. روى عن: عيسى بن أحمد البلخي وأبي عيسى الترمذي والدوري وآخرين. وعنه علي بن أحمد الخزاعي ومنصور بن نصر الكاغدي وآخرون، وهو ثقة. أصله من مرو، وإقامته في بخارى، له "المسند الكبير". وينظر: تذكرة الحفاظ 3/ 63، وشذرات الذهب 2/ 342، والأعلام 8/ 105.

(2)

ربيعة بن ناجذ الأزدي - ويقال أيضًا: الأسدي، الكوفي. روى عن علي وابن مسعود وعبادة بن الصامت. وعنه: أبو صادق الأزدي. ذكره ابن حبان في الثقات، له في ابن ماجه حديث واحد. قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. قال الذهبي: لا يكاد يعرف. وينظر: الثقات 4/ 229، ولسان الميزان 7/ 216، وميزان الاعتدال 2/ 45، والجرح والتعديل 3/ 2120، وتاريخ البخاري 3/ 281، والكاشف 1/ 308، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 323، وتهذيب الكمال 1/ 410، وتهذيب التهذيب 3/ 263.

(3)

أخرجه البخاري 6/ 616 كتاب المناقب: باب مناقب قريش (3501)، ومسلم في المصدر السابق (4 - 1820).

(4)

سقط في ج.

ص: 77

قَوْلُهُمْ: "فُهِمَ بِالْقَرَائِنِ" - يُؤَدِّي إِلَى أَلَّا يَثْبُتَ لِلَّفْظِ مَدْلُولٌ ظَاهِرٌ أَبَدًا.

قريش إمامًا، و"نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبَيَاءِ لَا نُورَثَ"

(1)

وهو حديث قال شيخنا الذهبي:

(2)

ليس في شيء من الكتب السِّتَّة، والأمر كما قال، بل ولا رأيته في شيء [من]

(3)

كتب الحديث، ثم رواه الهيثم بن كليب الشَّاشي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولفظه:"إنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاء لَا نُورّثُ" وضع "إنَّا" موضع "نحن"، ولذلك خرَّجه النسائي في "سننه الكبير"، وهو غير معدود عند المحدثين من الكتب السِّتّة، إنما يعدون السنن المشهورة التي له، وعليها يخرجون الأسماء والأطراف.

وبالجملة: هو بلفظ "نحن" غير موجود، وبلفظ "إنَّا" موجود، ولكن في غير الستة

(4)

، وروى البخاري ومسلم:"لَا نُورّثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" قد وقع الاحتجاج به على من ظن أنهم يورثون عليهم السلام، "وشاع" هذا الاحتجاج وأمثاله، "وذاع ولم ينكره أحد"، فكان إجماعًا على أن الصيغ للعموم.

الشرح: وأما "قولهم:" لا نسلم "فهم، العموم من ظاهر هذه الصيغ، وإنما "فهم

(1)

أخرجه البخاري 6/ 227 - 228 في كتاب فرض الخمس (3094)، وأخرجه مسلم 2/ 1377 في الجهاد: باب حكم الفيء (49/ 757).

(2)

محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، شمس الدين، أبو عبد الله. ولد سنة 673 هـ في دمشق. حافظ، مؤرخ، علامة، محقق، تركماني الأصل، من أهل ميافارقين. رحل إلى القاهرة وطاف كثيرًا من البلدان، وكشف بصره سنة 741 هـ تصانيفه كبيرة كثيرة تقارب المائة، منها:"دول الإسلام" و "المشتبه من الأسماء والأنساب" و "الكنى والألقاب" و "تاريخ الإسلام الكبير" و"سير النبلاء" و "طبقات القراء" و "الكبائر" و "تذكرة الحفاظ" و"تهذيب تهذيب الكمال" و "تجريد أسماء الصحابة" و "ميزان الاعتدال في نقد الرجال". وتوفي سنة 748 بـ"دمشق".

ينظر: طبقات السبكي 5/ 216، والشذرات 6/ 153، والنجوم الزاهرة 10/ 182، والدرر الكامنة 3/ 336، والأعلام 5/ 326.

(3)

في أ: في.

(4)

أي في غير البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

ص: 78

وَالاِتِّفَاقُ فِي "مَنْ دَخَلَ دَارِي، فَهُوَ حُرٌّ" أَوْ: "طَالِقٌ" - أَنَّهُ يَعُمُّ.

وَأَيْضًا كَثَرَةُ الْوَقَائِعِ.

وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ مَعْنىً ظَاهِرٌ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ كَغَيْرِهِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَغْنَى بِالْمَجَازِ وَبِالْمُشْتَرَكِ.

الْخُصُوصُ مُتيَقَّنٌ؛ فَجَعْلُهُ لَهُ حَقِيقَةً، أَوْلَى.

رُدَّ بِأَنَّهُ إِثْبَاتُ لُغَةٍ بِالتَّرْجِيحِ، وَبِأَنَّ الْعُمُومَ أَحْوَطُ؛ فكَانَ أَوْلَى.

قَالُوا: لَا عَامَّ إِلَّا مُخَصَّصٌ؛ فَيَظْهَرُ أَنَّهَا لِلْأَغْلَبِ.

رُدَّ بِأَنَّ احْتِيَاجَ تَخْصِيصِهَا إلَى دَلِيلٍ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا لِلْعُمُومِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ.

الاِشْتِرَاكُ: أُطْلِقَتْ لَهُمَا، وَالأَصْلُ الْحَقِيقَةُ.

[وَ] أُجِيبَ: بِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ.

بالقرائن" المنضمة إلى اللَّفظ، فمن [الشطح]

(1)

وتُرَّهَات الباطل؛ لأنه "يؤدي إلى ألَّا يثبت للفظ ظاهر أبدًا"؛ إذ يمكن سلوك هذا السبيل فيه.

فإن قبل منهم هذا القول، انسدّ باب الاستدلال بالألفاظ، "والاتفاق في "قول القائل:"من دخل داري فهو حرّ، أو "فهي "طالق، أنه يعم" من اتصف بالدخول، ولولا العموم لما كان ذلك. وفي بعض النسخ هنا، "وأيضًا كثرة الوقائع"، وليست في أصل المصنف، ولا حاجة إليها.

الشرح: "واستدلّ" على إثبات الصبغ "بأنه" أي: العموم "معنى ظاهر يحتاج إلى التعبير عنه كغيره"، فوجب أن يوضع له لفظ مختص به.

"وأجيب: قد يستغنى بالمجاز وبالمشترك"، ولا يتعين لفظ منفرد بالحقيقة.

واحتج من قال: الصيغة حقيقة في الخصوص، فقال:"الخصوص متيقّن، فجعله له حقيقة أولى" من العموم؛ لكونه مشكوكًا.

(1)

في أ: السطح.

ص: 79

الْفَارِقُ: الْإِجْمَاعُ عَلَى: التَّكْلِيفُ لِلْعَامِّ، وَذَلِكَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الأَخْبَارِ لِلْعَامِّ.

"رد: بأنه إثبات لغة بالترجيح" والجداد، والّلغة طريقها النَّقْل فقط، "وبأن العموم أحوط"؛ لأن الخاصّ يندرج تحته عند الحمل به، ولا عكس؛ "فكان أولى" من الخصوص، أو يتعارضان، ويتساقطان.

"قالوا: لا عام إلا مخصص" إلّا أماكن يسيرة مُسْتَثْنَاة، كما ذكر إمام الحرمين وغيره.

"فيظهر أنها للأغلب" الذي هو الخاص.

"رُدَّ: بأن احتياج خصيصها لدليل يشعر أنها للعموم"، فالتخصيص. حينئذ دليل على كونها في أصل الوضع للعموم.

"وأيضًا: فإنما يكون ذلك"، أي: ظهور كونها حقيقة في الخصوص "عند عدم الدليل" على موضوعها، وقد أقمنا الدَّليل على أنها موضوعة للعموم، فلا يجديكم ما ذكرتم من ظهور الحَمْل على الأغلب.

واحتجّ مَنْ مذهبه في الصّيغة "الاشتراك" اللفظي بين العموم والخصوص، بأنها قد "أطلقت لهما، والأصل، في الإطلاق "الحقيقة".

"وأجيب: بأنه على خلاف الأصل، وقد تقدّم مثله" في دَوَرَان اللفظ بين المجاز والاشتراك.

الشرح: واحتج "الفارق" بين الأخبار، والأمر والنهي، فقال:"الإجماع" منعقدٌ "على" وجود "التكليف للعامِّ"، كذا بخط المصنّف، أي عامة الخلق، "وذلك" ليس إلا "بالأمر والنهي"؛ فوجب كونها للعموم، وإلَّا لم يشمل العموم، ولا كذلك الخبر، فلم يجب أن يكون له صيغة.

"وأجيب" بالمعارضة "بأن الإجماع" أيضًا منعقد "على: الأخبار للعامِّ"، أي: العامة كذا بخط المصنف أيضًا.

"فوائد"

الأولى: خالف بعض الأئمة في تعميم "اسم الجنس" المعرَّف للمضاف، والصحيح

ص: 80

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خلافه، وفَصَّل قوم بين أن يصدق على القليل والكثير كالماء والعسل، فيعم أولا فلا يعم.

واختاره ابن دقيق العيد، وعلى التعميم يقول:

لو قال: إن كان حملها غلامًا فأعطوه كذا، وإن كان جارية فأعطوها كذا، فكان غلامًا وجارية، فلا شيء لواحد منهما؛ لأنه شَرَطَ صفة الذكورة، أو الأنوثة في جملة الحمل، وقِس بهذا نظائره.

فإن قلت: لم لا قلتم بوقوع الثَّلاث على من حلف بالطلاق المعرَّف، وحنث؟

قلت: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: للعرف.

وقال أبي رحمه الله: لأن الطلاق حقيقةٌ واحدة لا أفراد له، ولكن له مراتب مشتركة في قطع عصمة النكاح، منها:

ما يحصل به التَّشعيث فقط، وهو الرَّجْعِي.

وما يحصل به البَيْنُونَةُ مع إمكان الرد بلا محلل.

وما يتوقف على محلل.

وإذا ذكر لفظ الثلاث [استوعب]

(1)

المراتب، وإذا لم يذكره حمل على أدنى المراتب؛ إذ لا أفراد هنا حتى يشملها لفظ عام.

"الثانية"

حيث قلنا بتعميم المعرَّف والمضاف في الجمع والإفراد، فعموم الإضافة أقوى، ولذلك لو حلف لا يشرب الماء، حنث بشرب القليل، لعدم تناهي أفراده، فلمّا استحالت إرادة الجميع اننقل لأحد محامل "اللام"، وهو الجنس.

ولو حلف لا يشرب ماء البَحْرِ، لم يحنث إلا بكلّه، وهو وإن شارك الماء في الاستحالة إلَّا أن عمومه عموم إضافة، وهو أقوى من عموم الأداة، فلم يخرج عن قضيته، وكأنه قال: ماء البحر كله.

ولو كتب الزوج بطلاق زوجته عند بلوغ الكتاب، فبلغها وقد انمحى منه موضع

(1)

في ب: تمت.

ص: 81

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الطَّلاق أو سقط، فالأصح لا يقع؛ لأنه لم يبلغها جميع الكتاب.

وقيل: إن قال: إذا جاءك كتابي، يقع؛ لأنه قد جاءها كتابه.

وإن قال: إذا جاءك الكتاب، لم يقع؛ لأنه لم يجئها جميعه.

وكذا إذا قال: إذا جاءك كتابي هذا لتأكد المفرد المضاف باسم الإشَارة، فقد جعل على هذا الوجه عموم الإضافة أقوى كما عرفت.

"الثالثة"

مدلول العموم كلّية، لا كلّ، ولا كلي

؛ وذلك لأن الكل: هو المجموع الذي لا [ينفى عنه]

(1)

فرد، والحكم فيه على المجموع من حَيْثُ هو مجموع لا على الأفراد، كاسماء العدد كقولنا: كلّ رجل يحمل الصَّخرة العظيمة، فهذا صادق باعتبار المجموع، ويقابله الجزء، وهو ما تركب منه ومن غيره كلّ، كالخمسة مع العشرة.

والكلي: ما يشترك في مفهومه كثيرون، كالحيوان في أنواعه، ويقابله الجزئي كـ"زيد".

والكلية: التي يحكم فيها على كل فَرْد بحيث لا يبقى فرد مثل قولك: كل رجل يشبعه رغيفان غالبًا، وهو صادف باعتبار الكلية، لا باعتبار الكل الذي هو المجموع؛ إذ لا يشبعه رغيفان ولا قَنَاطير.

ويقابلها: الجزئية: وهي الحكم على أفراد حقيقة من غير تعيين، كقولك: بعض الحيوان إنسان.

وهذه حقائق يتصوّرها الذهن، فلا ينبغي لأحد إنكارها، ولا أن يقول: إني لا أعرف الكلية؛ فإنه إن جهل هذا الاسم، فلم يجهل أن المرء تارة يحكم على كل فرد بخصوصه، وهو الكلية، وتارة يحكم عليه مع غيره، وهو الكل.

وقد ذكر هذه القواعد إمامان في المنطق والأصول: الشيخ [الأصفهاني]

(2)

شارح "المحصول"، ومن كان أستاذ زمانه في المَنْطق والعقليات بأسرها، ورفيقه أبو العباس القَرَافي.

(1)

في أ، ج: يبقى تحته.

(2)

في أ، ب، ج: الأصبهاني، وكلاهما صحيح.

ص: 82

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إذا عرفت هذا فمسمّى العموم كلية لا كُلّ، وإلا لتعذّر الاستدلال به في النفي والنهي على ثبوت حكمه لفرد من أفراده، فإنك إذا ئلت: لم يقم الرِّجَال، وجعلت مدلوله كلًّا، كان حاصله أن مجموع الرجال لم يقوموا، ولا يلزم من ذلك عدم قيام من جانب النفي كجانب الإثبات، ولولا ذلك لما صحّ الاستدلال بقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [سورة الأنعام: الآية 151] على أن كل من قتَلَ نفسًا قُتِلَ بها، بل كان لقائل أن يقول: إنما نهى عن المجموع، وهو مُنَابذة لكلام الرب تعالى ومقصده.

إذا تقرر هذا فبعده سؤال شغف به القرافي، وهو أن دلالة العموم على الفرد الواحد كالمشركين مثلًا على زيد، لا يمكن أن يكون بالمطابقة؛ لأنه ليس تمام مسمّى المشركين، ولا بالالتزام؛ لأنه ليس خارجًا، ولا بالتضمّن؛ لأنه ليس جزء المسمى؛ إذ الجزء يقابل الكُلّ، والعموم كلية لا كل، كما عرفت.

فإذن لا يدلّ على زيد لفظ "المشركين"؛ لانتفاء الدّلالات اللفظية من المطابقة، والتضمن، والالتزام. وأجاب عنه الأصفهاني بما حاصله أنه دالّ بالمطابقة، فقال: نحن حيث قلنا: اللفظ إما أن يدل بالمطابقة، أو الثضمن، أو الالتزام، فذلك في لفظ مفرد دال على معنى ليس ذلك المعنى نسبة بين مفردين، وذلك لا يتأتى ها هنا، فلا ينبغي أن يطلب.

وإذا عرف هذا، فاعلم أن قوله:{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: الآية 5] في قوة جملة من القضايا؛ وذلك لأن مدلوله: اقتل هذا المشرك، وهذا إلى آخر الأفراد، وهذه الصيغ إذا اعتبرت بجملتها، فهي لا تدلّ على زيد المشرك، ولكنها تتضمّن ما يدلّ على قتله، لا بخصوص كونه زيدًا، بل بعموم كونه فردًا ضرورة تضمنه: اقتل زيدًا المشرك؛ فإنه من جملة هذه القضايا، وهي جزء من مجموع تلك القضايا، [فتكون]

(1)

دلالة هذه الصِّيغَة على وجهين: قتل زيد المشرك؛ لتضمنها ما يدل على ذلك الوجوب، والذي هو في ضمن ذلك المَجْمُوع هو دالّ على ذلك مطابقة، قال: فافهم ذلك؛ فإنه من دقيق الكلام.

"الرابعة"

قال القَرَافيُّ وغيره من المتأخرين: العامّ في الأشخاص مُطْلق

باعتبار الأزمان والبقاع والأحوال والمتعلّقات، فإذا قال:{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: الآية 5] عَمَّ كل مشرك، ولا يعم

(1)

في أ: فيكون.

ص: 83

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كل حال حتى [تدخل]

(1)

حال الهدنة والذمة

(2)

.

وقد شغف القَرَافي بهذه القاعدة، فظنّ أنه يلزم عليها عدم العمل بجميع العمومات في هذا الزمان؛ لأنه قد عمل بها في زمنٍ ما، والمطلق يخرج عن عُهْدته بالعمل في صورة.

فأما القاعدة، فحق لا سبيل إلى جحدها، ولكن ما ظته لازمًا غير لازم، كما ذكر الإمامان الجليلان: أبو الحسن [الباجي]

(3)

، وأبو الفتح بن دقيق العيد قالا:

لأن المقصود أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع، بمعنى أنه إذا عمل به في الأشخاص في حالة ما في مكان ما، لا يعمل به في تلك الأشخاص مرة أخرى، أما في أشخاص أخر فيعمل به، وإلَّا يلزم التخصيص في الأشخاص، فالتوفية بالإطلاق ألّا يتكرر ذلك الحكم، فكل زانٍ يُحَدّ، وإذا جلدناه لا نجلده ثانيًا إلا لزنًا آخر؛ لأن تكرر جلده لا دليل عليه، والفعل مطلق.

وقد أشار الإمام في "المحصول" إلى هذا حيث قال في دليل القياس: لما كان أمرًا بجميع الأقيسة، كان متناولًا لا مَحَالة لجميع الأوقات، وإلّا قدح في كونه متناولًا لجميع الأقيسة، وكذلك اقتضاه كلام ابن السَّمْعَاني في مسألة الاستصحاب.

واعترض أبي - رحمه الله تَعَالى - في كتاب "أحكام كلّ" هذا الجواب بأن عدم تَكْرَار الجَلْد مثلًا معلومٌ من كون الأمر لا يقتضى التكرار، وبأن المطلق هو الحكم، والعام فيه هو المحكوم عليه؛ وهما غيران، فلا يصح أن يكون ذلك تأويلًا لقولهم: العام مطلق. ثم قال: ينبغي أن يهذب هذا الجواب، ويجعل العموم والإطلاق في لفظ واحد بأن يقال: المحكوم عليه، وهو الزاني مثلًا أو المشرك - فيه أمران:

أحدهما: الشخص.

والثاني: الصفة، كالزنا، وأداة العموم لمَّا دخلت عليه أفادت عموم الشخص لا عموم الصفة، والصفة باقية على إطلاقها، وهذا معنى قولهم: العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع، أي كل شخص حصل منه مطلق زنا حُدَّ، وكل شخص حصل منه [مطلق]

(4)

شرك قُتِلَ بشرطه، ورجع العموم والإطلاق إلى لفظة واحدة باعتبار مدلوليها من

(1)

في أ، ح: يدخل.

(2)

ينظر نفائس الأصول بتحقيقنا.

(3)

في أ، ج: الناجي.

(4)

سقط في ب.

ص: 84

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الصّفة والشخص المتّصف بها، فافهم ذلك.

ثم إنه مع هذا لا يقول: كون الصّفة مطلقة [تحمل]

(1)

على بعض مسماها؛ لأنه يلزم منه إخراج بعض الأشخاص.

نعم لو حصل استغراق الأشْخَاص لم يحافظ مع ذلك على عموم الصِّفَةِ؛ لإطلاقها.

"الخامسة"

اتفقت النُّحاة على أن أربع صيغ من جموع التكسير للقلّة، وأن جموع السَّلامة للقلة، وهي العشرة فما دونها، وهي التي يجمعها قول الشاعر:[البسيط]

بِأَفْعُلٍ ثمَّ أَفْعَالٍ وَأَفْعِلَةٍ

وفِعْلَةٍ تَعْرِفُ الأَدْنَى مِنَ العَدَدِ

وَسَالِمُ الجَمْعِ أَيْضًا دَاخِلٌ مَعَهَا

فَهَذِهِ الخَمْسُ فَاحْفَظْهَا وَلَا تَزِدِ

(2)

واتفق الأصوليون القائلون بالعموم وهم أكثر حملة الشريعة - على أن صيغة "المشركين"، وما شابهها للعموم، وكذلك الأَحْمَال، والأَرْغفة، والصّبية، والمسلمين، والمسلمات، فقد يقال: أين العموم الذي لا تتناهى أفراده من العشرة فما دونها؟ وهاتان فرقتان عظيمتان كلّ منهما ينقل عن العرب، وقد اختلفتا فما الجمع بين الكلامين؟.

وأجاب إمام الحرمين: بأن قول النحاة مخصوص بحال التنكير، وقول الأصوليين بحال التعريف.

"السّادسة"

اتفق الفقهاء على أن من أقر بدراهم قُبِلَ منه تفسيره بثلاثة،

وهي جمع كثرة، وأقله باتفاق النحاة أحد عشر، فقد يقال: ما الجمع بين الكلامين؟.

وقد يجاب بشيوع العُرْفِ في إطلاق الدراهم على ثلاثة، وأنه ليس للدرهم جمع قلّة في كلام العرب، فناب عنه صيغة جمع الكثرة.

(1)

في أ، ج: يحمل.

(2)

البيتان ذكرهما المصنف في "إبهاجه" 2/ 88.

ص: 85

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"السّابعة"

صيغ العموم

(1)

: "مَنْ"، و"ما"، و"أي"، و"الذي"، و"التي"، وتثنيتهما وجمعهما، "وكلّ"، "وجميع"، "وأين"، "وحيث"، "ومتى"، ولام التعريف من الإفراد والتثنية والجمع، والنكرة في سياق النفى، والفعل في سياق النفى، واسم الجنس وتثنيته وجمعه إذا أضيفت هذه الثلاثة، وترك الاستفصال في حكاية الحال، فإنه ينزل منزلة العموم في المقال، و"سائر" إن كان بمعنى الجميع، وقد عدَّها القاضي رضي الله عنه

(2)

.

(1)

الأسباب المفيدة له: اللغة أو العرف، وذلك لأن المفيد إما أن يكون دلالته على معناه باصطلاح عام، وهو الأول، أو باصطلاح خاص وهو الثاني، وقد يفاد العموم بواسطة العقل.

قد يستفاد العموم بواسطة العقل لا بالصيغة، وهذا كأن يعلل الشارع الحكم بعلة سواء بطريق النص، أو الإيماء، فيعم الحكم ما توجد فيه تلك العلة، وذلك بطريق القياس، والإلحاق لا بالصيغة، ومن هذا الباب مفهوم الموافقة ودلالة النص، فإن الحكم قد يثبت في المسكوت بواسطة علة تدرك بمجرد اللغة، فالعموم فيه ليس بمحض الصيغة، ولهذا لا يقبل التخصيص.

(2)

هكذا نقل عن القاضي عبد الوهاب في كتاب "الإفادة".

والخلاف يلتفت على أنها بمعنى الباقي، أو بمعنى الجميع. والمشهور وعليه نص أكثر اللغويين أنها بمعنى الباقي.

ونقل الأزهري في التهذيب: عليه اتفاق اللغويين.

ونص الجوهري في الصحاح (2/ 692). على أنها بمعنى الجميع، ووافقه أبو منصور الجواليقي وأبو محمد بن بري وغيرهما. وقيل: مشتركة.

فإن قلنا: إنها بمعنى الجميع، فهي من صيغ العموم.

وإن قلنا: بمعنى الباقي فليست للعموم؛ لأن بقية الشيء يصدق على أقل أجزائه. كذا قال القرافي في شرح التنقيح وغيره، والتحقيق أنها للعموم.

وإن قلنا: إنها بمعنى الباقي لأنها عامة بالنسبة إلى؛ ما أضيفت إليه لاستغراقها جميع ما يصلح من مواردها.

وقد نقل عن الفارسي أنها لا تطلق إلا على الأكثر لا إذا كان الباقي أقل.

ومنهم من جعل الخلاف يلتفت على أنه من سور المدينة المحيط بها الشامل لها، فهي بمعنى الجميع أو من السؤر، وهي البقية فهي بمعنى الباقي. ينظر: سلاسل الذهب ص 229، 231، وشرح التنقيح (190)، وكشف الأسرار 1/ 110، ونهاية السول 2/ 65، وشرح الكوكب 3/ 158، وإرشاد الفحول ص 119، ونشر البنود 1/ 229.

ص: 86

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فأما "مَنْ"

(1)

فشرطها أن [تكون]

(2)

استفهامية، أو شرطية، وهي عامة في أولى العلم، وقد تستعمل في غير أولى العلم للتغليب.

وأما "ما" فهي الاسمية، وهي تفيد العموم إذا كانت معرفة فيما عدا العالمين من الزمان، والمكان، والجماد، والنبات.

وقيل: [تتناول]

(3)

أولى العلم أيضًا.

وأما "أي": فهي الاستفهامية أو الشرطية، فإن كانت موصولة، أو صفة، أو حالًا، أو مناداة لم تعم مثل: مررت بأيهم قام، أي: بالذي، ومررت برجل أي رجل؛ بمعنى كامل، ومررت بزيد أي رجل - بالفتح بمعنى كامل أيضًا، ويأيها الرجل، ثم هي لا تختص بأولى العلم، وكذلك "كلّ""وجميع""والذي" والتي" "وسائر" "وأين" "وحيث" في المكان، "ومتى" في الزمان.

(1)

"مَنْ" وهي موضوعة في الأصل لمن يعقل، ولا إفادة لها للعموم إلا إذا كانت استفهامية، نحو قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} أو شرطية أو موصولة على رأيْ. ومثلها: "مَنَّان ومنون" وقد تأتي لما لا يعقل، وذلك في موضعين:

الأول: عند معاملته معاملة من يعقل نحو قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} إذ أُرِيدَ بمن لا يخلق هنا: الأصنام، وقد عبَّر عنها بـ"من" التي لا تستعمل إلا فيمن يعقل للمعاملة المذكورة.

الثاني: عند الاختلاط مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ

الآية} فقد عبر فيها عن الذي يمشي على بطنه نحو الحيّات، وعلى الأربع نحو الإبل بـ"من" للاختلاط مع من يعقل في صدر الآية

إذ الدابة تشمل العقلاء وغيرهم، فغلب على الجميع حكم من يعقل؛ لذلك جاء التفصيل كله بـ"من" دليل العموم فيها أنها لو لم تكن للعموم لما حسن من الوكيل إكرام كل من دخل دار موكله حين قوله له: أكرم كل من دخل داري، والثاني باطل، أما الملازمة؛ فلأنها لو لم تكن كذلك، لكانت للخصوص، فيكون إكرام الوكيل للكل إفسادًا لمال موكله، وليس فيه منفعة تعود عليه، وذلك موجب للذم، فلا حسن، وأما بطلان الثاني؛ فلأنه يحسن منه صدور الإكرام للجميع، ومنه (الذين)؛ لأن الياء فيه مشبهة بالياء في جمع السلامة الخاص بمن يعقل.

(2)

في أ: يكون.

(3)

في أ: يتناول.

ص: 87

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"الثامنة"

قال الأصوليون: مدلول هذه الضيغ كلّ فرد، وقد أطلقوا هذا الكلام إطلاقًا، ونحن نتكلم على كل صيغة بخصوصها.

فأما "كل"

(1)

فلا تدخل إلّا على ذي جزئيات أو أجزاء، ومدلولها الإحاطة في الموضعين بكلّ فرد، وقد تضاف لفظًا. إلى نكرة مثل:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [سورة الطور: الآية 21].

ومعنى العموم حينئذ كل فرد لا المجموع، سواء أكان المجموع مع ذلك لازمًا له، كقولك: كل مشرك مقتول، أو لا، كقولك: كلّ رجل يشبعه رغيف.

وإلى معرفة [نحو]

(2)

: {كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [سورة مريم: الآية 95] فكلام أكثرهم يقتضى أنها في هذه الحالة مثلها حالة الإضافة إلى نكرة في الدلالة على كل فرد،

(1)

وهي أقوى صيغ العموم، ومن خصائصها أنها للمذكر، وأن الإخبار عنها يكون مفردًا وجمعًا، إلا أن الأول أفصح، وهو بالنظر إلى اللفظ نحو: كل رجل قائم.

والثاني: بالنظر إلى المعنى مثل قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} وإذا دخلت هذه اللفظة للتأكيد كان ذلك فيما يتبعض، باعتبار الفعل المسند إليه، نحو: اشتريت الفرس كلها، وقد لا يتبعض باعتبار فعل آخر، فلا يقال حزت الفرس كلها، ومن خصائصها أيضًا: اختلاف حكمها في حالة النفي تقديمًا وتأخيرًا؛ ذلك لأنها في الأولى لا يبقى الكلام معها مفيدًا للعموم، بل لسلبه؛ إذ القضية والحالة هذه جزئية، يقال: ما جاءنى كل إخوتك، فالنفي فيه منصب على الإيحاب الكلي، ورفعه يصدق بالسلب الكلي، والإيجاب الجزئي، فلا إفادة للعموم حينئذ، بل لسلبه الأعم من السلب الكلي، والإيجاب الجزئي.

وأما في الحالة الثانية: فتفيد العموم نصًا فيما إذا رفعت نحو: كل الدراهم لم أقبضها؛ إذ الكلام يكون حينئذ إيجابًا عدوليًا، فموجبه ثبوت عدم القبض لكل واحد من الدراهم، أما إذا نصبت، فلا تكون للعموم في شيء، سواء اشتغل الفعل بالضمير أم لا؛ لأنها حينئذ في حكم التأخير والوقوع في حيز النفي، وقد عرفنا شأنه في الحالة الأولى، وأشد الألفاظ بها شبهًا أسماء الأعداد؛ لأنها موضوعة للكل من حيث هو كل، وهو لا يقتضي شمول النفي لجميع آحاد ذلك العدد، بل المجموع من حيث هو مجموع، فيصدق بالبعض.

(2)

سقط في ج.

ص: 88

‌مَسْأَلَةٌ:

الْجَمْعُ الْمُنكرُ لَيْسَ بِعَامٍّ.

لَنَا: الْقَطْعُ بِأَنَّ "رِجَالًا" في الْجُمُوعِ، كَـ"رَجُلٍ" فِي [الْوُحْدَانِ]، وَلَوْ قَالَ:"لَهُ عِنْدِي عَبِيدٌ" - صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِأَقَلِّ الْجَمْعِ.

قَالُوا: صَحَّ إطْلَاقُهُ عَلَى كُلِّ جَمْعٍ؛ فَحَمْلُهُ عَلَى الْجَمِيعِ حَمْلٌ عَلَى جَمِيعِ حَقَائِقِهِ.

وَرُدَّ بِنَحْوِ "رَجُلٌ"، وَأَنَّهُ إنَّمَا صَحَّ عَلَى الْبَدَلِ.

وقضية كلام بعضهم أن مدلولها في هذه الحالة المجموع، وإليه يشير كلام ابن مالك من النحاة.

قال أبي رحمه الله: والذي يظهر أنها إذا أضيفت إلى معرفة، فإن كان مفردًا كان لاستغراق أجزائه، ويلزم منه المجموع، ولذلك يصدق: قولنا: كل رُمّان مأكول؛ ولا يصدق كلّ الرمان مأكول، لدخول قِشْره، وبعبارة أخرى نقول: يصدق كلّ رجل مضروب، إذا ضربت كلّ واحد ضربًا ما، ولا يصدق: كلّ الرجل مضروب.

وأمّا ما عداها من الصيغ فيسهل أمره، وقد بسطنا القول فيه في "التّعليقة"، ولأبي رحمه الله كتاب في "أحكام كل" من أنفس مصنّفاته، تكلم فيه على صيغ العموم، بما يترّفع عن هِمَمِ الزمان، ورأيت أخي الشيخ الإمام بهاء الدين أبا حامد

(1)

قد لخّص منه في كتابه "شرح التلخيص"، فوفى بالمهمّ وزاد، أمتع الله به.

"مسألة"

الشرح: "الجمع المنكر" كرجال "ليس بعام" خلافًا لأبي على الجُبَّائي حيث قضى

(1)

أحمد بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام، الإمام العلامة قاضي القضاة بهاء الدين أبو حامد بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي الحسن السبكي، المصري. ولد في جمادى الآخرة سنة 719 سمع بمصر والشام من جماعة، وقرأ الأصول على الأصفهاني. ذكره الذهبي في المعجم المختص، وقال: له فضائل وعلم جيد، وفيه أدب وتقوى. ساد وهو ابن عشرين سنة. توفي بـ"مكة" مجاورًا في شهر رجب سنة 773 هـ انظر: ابن قاضي شهبة 3/ 78، وشذرات الذهب 6/ 226، والنجوم الزاهرة =

ص: 89

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بعمومه، سواء أكان جمع قلّة أم جمع كثرة

(1)

.

"لنا: القطع بأن رجالًا في الجموع كرجل في [الوُحْدَان]

(2)

، فكما لم يدلّ "رجل" على العموم كذلك لا يدلّ رجال، ولو قال: له عندي عبيد صحّ تفسيره بأقلّ الجمع" اتفاقًا، ولو كان موضوعه العموم لما قُبِلَ منه.

لا يقال: إنما قُبِلَ منه للصدق مجازًا؛ لأنا نقول: المجاز ما لم يشتهر لا يعتمد عليه في الأقارير، وهذا واضحٌ.

(1)

وللخلاف التفات على الخلاف النحوي في جواز الاستثناء من النكرات، وفيه مذهبان:

أحدهما: يجوز؛ لأن النكرة تتردد بين محال غير متناهية؛ لأنها عامة على البدل بين شخص ما وبين شخص معين لا يصدق عليه أنه رجل، فحسن الاستثناء من أجل عموم المحال، وعلى هذا فتقول: جاءني رجال إلا زيدًا.

والثاني: - وهو الصحيح - المنع؛ لأن النكرة لا تتناول أكثر من فرد بلفظها، فيكون الإخراج منها محالًا، ولهذا كانت "إلا" في قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} للوصف لا للاستثناء، ويقوى الأول قوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} . فإنهم نصوا على أن الجنسية في المعنى كالنكرة؛ لعدم التعيين، فإما أن يستثنى هذا من محل الخلاف، وإما أن يفرق بينهما.

إذا علمت ذلك فمن قال: إنه عام، جوز الاستثناء لأن الاستثناء معيار العموم، ومن منعه قال: ليس بعام. وهم الجمهور.

وقال ابن السراج في الأصول: لا يجوز أن تستثنى النكرة من النكرة في الموجب نحو: جاءني قوم إلا رجلًا؛ لعدم الفائدة في الاستثناء، فإن وصفته أو خصصته جاز.

وللخلاف في مسألة الاستثناء التفات على أن الاستثناء ما لولاه لوجب دخوله أو لجاز دخوله.

والصحيح الأول. ينظر: سلاسل الذهب ص 223 - 225.

البرهان 1/ 342، والمستصفى 2/ 13، والتبصرة ص 118، والمعتمد 1/ 346، والعدة 2/ 523، والمنتهى لابن الحاجب (77)، والتمهيد للإسنوي (316)، وجمع الجوامع 1/ 418، والمسودة ص 106، والإبهاج 2/ 115، وتيسير التحرير 1/ 205، وأصول السرخسي 1/ 151، وفواتح الرحموت 1/ 268، ونشر البنود 1/ 228، وإرشاد الفحول 123.

(2)

في أ، ج: الوجدان.

ص: 90

قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ، لَكَانَ مُخْتَصًّا بِالْبَعْضِ.

رُدَّ: بـ"رَجُلٍ"، وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْجَمْعِ الْمُشتَرَكِ.

وقد اتفقوا على أن من قال: له عَليَّ أَفْلُس، ونحو ذلك لا يقبل منه تفسيره بالواحد، وإن صحّ إطلاقه عليه مجازًا.

نعم، قد يقول الجُبَّائي: لما تعذر في: "له عندي عبيد" الحَمْل على العموم؛ إذ المقرّ له لا يستوعب ملك العبيد، حمل على أقلّ الجمع.

ونظيره: لو حلف لا يتزوّج النساء، أو لا يشتري العبيد، [يحنث]

(1)

بتزوّج ثلاث نسوة، وشراء ثلاثة أعبد - ذكره الرافعي في فروع الطلاق.

"قالوا: صح إطلاقه على كلّ جمع" بالحقيقة، "فحمله على الجميع حمل على جميع حقائقه"، فكان أولى.

"ورُدَّ" بوجهين:

أحدهما: "بنحو رجل"؛ فإنه يصحّ لكلّ واحد، ولم يحمل على الكل.

والثاني: "أنه لما صحّ" إطلاق رجال المنكر على كلّ جمع "على" سبيل "البدل"، فلهذا لم يحمل على جميع الجموع.

ولقائل أن يقول: لا يلزم من هذا عدم حَمْله على العموم، بل هو أحد محامله، وأرجحها لاشتماله على سائر الحقائق.

الشرح: "قالوا: لو لم يكن للعموم لكان مختصًّا بالبعض"، وليس مختصًّا.

"رُدَّ" بالمعارضة "برجل" ونحوه مما ليس للعموم، ولا مختصًا، بل لشائع، "وأنه موضوع للجمع المشترك" بين العموم والخصوص، ولا يلزم من عدم اعتبار قَيْدٍ فيه - وهو العموم - اعتبار عدمه حتى ينبني عليه اعتبار القَيدِ الآخر، وهو الخصوص، فلا يلزم من انتفاء العموم اختصاصه بالبعض.

(1)

في أ، ج: بحيث.

ص: 91

‌مَسْأَلَةٌ:

لا أَبْنِيَةُ الْجَمْعِ لاِثْنَيْنِ،

تَصِحُّ، وَثَالِثُهَا، [مَجَازٌ].

الْإِمَامُ: وَلوَاحِدٍ الزَّائِدُ".

«مسألة»

الشرح: في أقل الجمع

(1)

.

قال أبو عمر

(2)

: "أبنية الجمع لاثنين تصح، وثالثها: مجاز.

الإمام: ولواحد"، وظاهر هذه العبارة أنها تصدق على اثنين بالحقيقة.

والثاني: لا تصدق أصلًا.

والثالث: تصدق بالمجاز دون الحقيقة، وأما الواحد، فلا يصح.

وقال الإمام: يصح، وظاهره أن المراد الصِّحة من حيث الحقيقة؛ إذ أرادها أولًا في قوله: لاثنين يصح. هذا ما تعطيه عبارة الكتاب، وفيه نظر من أوجه:

(1)

ينظر المسألة في: البرهان 1/ 348، والمحصول 1/ 2/ 606، واللمع ص 15، والتبصرة 127، والإبهاج 2/ 129، والمعتمد 1/ 248، والعدة 2/ 649، والمنخول 148، والمستصفى 2/ 26، وشرح التنقيح 233، والإحكام للآمدي 2/ 40، وروضة الناظر (121)، وجمع الجوامع 1/ 419، وشرح الكوكب المنير 3/ 144، والمنتهى لابن الحاجب (77)، وأصول السرخسي 1/ 151، وكشف الأسرار 2/ 28، وتيسير التحرير 1/ 207، وفواتح الرحموت 1/ 269، والمسودة 149، ونشر البنود 1/ 234، وشرح اللمع 1/ 330، والوصول لابن برهان 1/ 300، ومفتاح الوصول 73، وتقريب الوصول (78).

(2)

محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم، أبو عمر الزاهد المطرز الباوردي، المعروف بـ"غلام ثعلب" ولد سنة 261 هـ. أحد أئمة اللغة المكثرين من التصنيف، كانت صناعته تطريز الثياب. صحب ثعلبًا النحوي زمانًا حتى لقب "غلام ثعلب" أملي من حفظة في اللغة نحو ثلاثين ألف ورقة. من كتبه:"غريب الحديث" و "فضائل معاوية" و"تفسير أسماء الشعراء" و "المداخل" و "أخبار العرب" و"القبائل". وتوفي بـ"بغداد" سنة 345 هـ.

ينظر: وفيات الأعيان 1/ 500، وتاريخ بغداد 2/ 356، ولسان الميزان 5/ 268، وتذكرة الحفاظ 3/ 86، وإرشاد الأريب 7/ 26، والأعلام 6/ 254.

ص: 92

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أحدها: أن مختاره - كما سيظهر من استدلاله - صحّة الاثنين مجازًا، وظاهر هذا أنه لا يصحّ أصلًا فبينهما تَنَافٍ، ولا يمكن حمل قوله هنا: "يصح على أنه أراد الصحة المجازية، وإلا لضاع قوله: وثالثها مجاز.

الثاني: أنه صريح في حكاية مذهب أن بعضهم قال: لا يصح على الاثنين أصلًا، لا بالمجاز ولا بالحقيقة، ولا نعرفه عن أحد.

الثالث: أنه صريح في أن الإمام يصححه لواحد، ثم ظاهره أن المراد بالصحة الحقيقة، ولا يعرف ذلك عن أحد، وإن أراد الصّحة المجازية فقد يقال: كيف يخالف الإمام في هذا مع أن من أنواع المجاز إطلاق الكُلّ وإرادة البعض؟.

واعلم أن النقل عن الإمام فيه نظر، وأنا أحقق ما فيه بعد تعريفك كيفيّة الخلاف في المسألة وسرّها، وإظهار ثمرتها فأقول: اختلف في أقل الجمع، وليس محلّ الخلاف فيما هو المفهوم من لفظ الجمع لغة، وهو ضم شيء إلى شيء؛ فإن ذلك في الاثنين وما زاد بلا خلاف، وإنما هو في اللفظ المُسَمَّى في اللغة بـ"الجمع" مثل: مسلمين وغيره، وليكن محلّ الخلاف أيضًا في جموع القلّة.

أما جموع الكثرة فأقلّها أحد عشر بإجماع النحاة.

والذي ذهب إليه داود، والقاضي، والأستاذ، والغزالي أن أقلّ الجمع اثنان، وعزى إلى مالك، والخليل

(1)

، وسيبويه، وروى عن عمر، وزيد بن ثابت

(2)

.

(1)

الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي، الأزدي اليحمدي، أبو عبد الرحمن، ولد 100 هـ من أئمة اللغة والأدب، واضع علم العروض، هو أستاذ سيبويه النحوي، له مؤلفات منها "العين"، ومعاني الحروف، والعروض، والنغم. توفي 170 هـ. ينظر:

الأعلام 2/ 314، إنباه الرواة 1/ 341، ووفيات الأعيان 1/ 172.

(2)

زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان - بمعْجمة - ابن عمرو النجّاري المدني، كاتب الوحي، وأحد نجباء الأنصار، شهد بيعة الرضوان، وقرأ على النبيّ صلى الله عليه وسلم وجمع القرآن في عهد الصديق، وولي قسم غنائم اليرموك، له اثنان وتسعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بواحد. روى عنه ابن عمر وأنس وسليمان بن يسار وابنه خارجة بن زيد وخلق. قال يحيى بن سعيد: لما مات قال أبو هريرة: مات خير الأمة. توفي سنة خمس وأربعين. وقيل: سنة ثمان. وقيل: سنة إحدى وخمسين. ينظر: ترجمته في =

ص: 93

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وذهب الأكثرون

(1)

: منهم الشافعي، وأبو حنيفة إلى أن أقلّه ثلاثة، وربما روى عن مالك أيضًا، وهو المروى عن ابن مَسْعُودٍ

(2)

، وابن عباس.

والصحابة لم يخصوا مسألة أقل الجمع بالنظر، وإنما اختلفوا في مسألة حَجْبِ الأم عن الثلث إلى السدس بأخوين، فأُخِذ من اختلافهم فيه اختلافهم في هذه المسألة.

وللمسألة فائدة أصولية، وفوائد فروعية:

أما الأصولية: فهي النظر في نهاية ما يخصّص إليه العموم حتى إذا ورد خبر واحد مخصصًا لعموم ما ذكر

(3)

الله في القرآن، وأخرج منه مسمّياته إلا ثلاثة، فإن ذلك مقبول

= تهذيب التهذيب 2/ 399، وتقريب التهذيب 1/ 272، خلاصة تهذيب الكمال: 1/ 350، وتاريخ البخاري الكبير 3/ 380، وتاريخ البخاري الصغير 1/ 34، 42، 46، 81، 101، 120، 173، 174، وأسد الغابة: 2/ 378، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 197، والإصابة: 2/ 592، والاستيعاب: 2/ 537، والوافي بالوفيات 15/ 24، وشذرات: 1/ 54، 62، وسير الأعلام: 2/ 426، والبداية والنهاية 8/ 29، وطبقات ابن سعد 1/ 37.

(1)

ينظر المصادر السابقة.

(2)

عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة ثم فاء مكسورة بعد الألف - ابن حبيب بن شمخ - بفتح المعجمة الأولى وسكون الميم - ابن مخذوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي، أبو عبد الرحمن الكوفي: أحد السابقين الأولين وصاحب النعلين، شهد بدرًا والمشاهد، وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثًا، اتفقا على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين. وعنه خلق من الصحابة. ومن التابعين علقمة ومسروق والأسود وقيس بن أبي حازم والكبار تلقى من النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعين سورة. قال علقمة: كان يشبه النبيّ صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته. قال أبو نعيم: مات بـ"المدينة" سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة. ينظر ترجمته في: تهذيب تهذيب الكمال: 2/ 740، وتهذيب التهذيب: 6/ 27 (42)، وتقريب التهذيب: 1/ 450 (630)، وخلاصة تهذيب الكمال: 2/ 99، والكاشف: 2/ 130، وتاريخ البخاري الكبير: 5/ 2، وأسد الغابة: 3/ 384. وتجريد أسماء الصحابة: 1/ 334، والإصابة: 2/ 36، 4/ 233، والاستيعاب (3 - 4) 987، والوافي بالوفيات 17/ 406، والحلية: 1/ 375، وطبقات ابن سعد: 9/ 122.

(3)

في أ: ذكره.

ص: 94

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عند من يخصّص العموم بأخبار الآحاد، وهل يجوز التَّخصيص إلى اثنين؟.

[ينبني]

(1)

على مسألة أقلّ الجمع، فمن قال: إنه اثنان سلك مسلك من خصّص حتى بلغ إلى الثلاث.

ومن أنكره، وقال: لا [تعبر]

(2)

العرب عن التثنية بلفظ الجَمْعِ لم يقبل تخصيص الآحاد؛ لأن قبوله يؤدّي إلى إبطال معنى الكلام، ويصير كالرَّافع لجملته، وذلك هو النسخ لا التخصيص، والنسخ لا يكون بخبر الواحد.

وقد قال الأستاذ أبو إسحاق

(3)

: إنَّ هذه الفائدة مزيفة؛ لاتِّفَاق أئمتنا على جواز تخصيص الجمع والعموم إلى أن يبقى تحته واحد.

وفيما قاله نظر؛ فخلاف أئمّتنا في ذلك مشهور، والمختار أنه لا بد من بقاء جمع.

وقيل: لا بد من جمع [يقرب]

(4)

من مدلول اللفظ.

وأما الفوائد الفروعية:

فمنها: لو قال: لَهُ عَلَيّ دراهم، لزمه ثلاثة.

وقيل: درهمان.

ومنها: قيل: يكتفي في الصلاة على الميت

(5)

باثنين؛ بِناءً على أن أقل الجمع اثنان، وفروع أخر ذكرتها في "شرح المنهاج".

إذا عرفت هذا، فاعلم أن إمام الحرمين

(6)

قال بعد أن حكى المذهبين في أقل الجمع: وحقّ الناظر في هذه المسألة أن ييأس من [العثور]

(7)

على مَغْزَاها ما لم يستكملها، ثم ذكر مستند القائلين بالاثنين ودفعه.

ثم قال: فإن قيل: وما المرتضى الآن؟.

(1)

في أ، ج: يبتني.

(2)

في أ، ب: يعبر.

(3)

ينظر: التبصرة (127).

(4)

في أ: يعرف.

(5)

في حاشية ج: قوله: "في الصلاة على الميت" أي يكتفي بهما لدخوله في عداد من صلى عليه جمع.

(6)

ينظر: البرهان 1/ 348.

(7)

في أ، ج: العبور.

ص: 95

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلنا: هذه المسألة موضوعة على رأي المعمّمين، فمطلق اللفظ معناه في مختارنا ما سبق، يعني من الحمل على العموم.

قال: وإن روجعنا في نجواز اللفظ عند قيام المخصّصات إلى اثنين وإلى ثلاثة، فعند ذلك [ننادى]

(1)

، ونقول: إن صار صائرون إلى أنه لا يمنع ردّ معنى اللّفظ بالتّخصيص إلى اثنين، فنحن لا نمنع من هذا، فقد يبدو للرجل رجلان فيقول: أقبل الرجال، ونحن لا نسوي مع ذلك بين الثلاثة والاثنين، فالرد إلى الثلاث أهون من الرد إلى اثنين. واندفع في تقرير هذا.

وحاصل كلامه: أنه لم يتكلّم في مدلول أقلّ الجمع، بل فيما يجوز انتهاء التخصيص إليه، فقال: ما خصص إلى الثلاث قيل: على الإطلاق، فإن تناول إلى اثنين احتاج مزيد قوة، ودليل يدل على ذلك، فإن تناول إلى واحدٍ احتاج زيادة أخرى مع جواز الكل.

هذا حاصل كلامه، وأنا أفهم منه أن اختياره في "مسألة الجمع" أن أقلّه ثلاثة، كما هو مذهب الشافعي، ولذلك لم يرد عليه، وإنما ردّ على القائل بالاثنين، وأنه مع ذلك يجوز انتهاء التخصيص إلى واحد، فكأنه نظر إلى فائدة المسألة، ؤلم يجعل انتهاء التخصيص مَبْنيًّا على حقيقة الجمع، بل جوّزه وإن خرج عن حقيقته إلى المثنى والواحد.

ويمثل الإمام لاختياره بأن المرأة إذا برزت للرجل حسن من بَعْلها أن يقول في توبيخها: أتتبرجين للرجال يا لَكْعَاء؟ وإن لم نتبرّج إلا لواحد.

قال المَازِرِيّ: وفيما يمثل به نظر، والمعلوم من القائلين بمثل هذا الكلام أنهم ما أشاروا به إلى ذلك الواحد الذي شاهدوا إفساده للحريم، وإنما يخطر بالبال حينئذ أن هذه الإشارة من هذا لم يكن إلا وقد تقدمتها إشارات لغيره، فيطلقون اسم الرجال على من شوهد، ومن استدلّ عليه بمن شوهد.

قلت: إن كان المَارِزِيّ يمنع هذا القول أن يقال لمن لم يتقدم لها تبرج لأحد، وقال: إنما يقال: أتَتبَرَّجِينَ للرجال؟ لمن ظنَّها زوجها قد تبرّجت من قبل لغير من تبرّجت له عند مُشَاهدته إياها، فقد عاند أهل اللِّسَان؛ فإنّهم يطلقون هذا اللفظ، وأن [يحققوا]

(2)

أن المرأة لم تتبرّج من قبل لأحد.

(1)

في أ، ب، ج: تبيد.

(2)

في ج: تحققوا.

ص: 96

لَنَا: أنَّهُ يَسْبِقُ الزَّائِدُ؛ وَهُوَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ وَالصِّحَّةِ.

{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [سورة النساء: الآية 11] وَالْمُرَادُ أَخَوَانِ.

وَاسْتِدْلَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه بِهَا، وَلَمْ يُنكرْ عَلَيْهِ؛ وَعُدِلَ إِلَى

وإن قال: نعم يطلقونه، ولكن باعتبار أن هذا بخصوصه غير مقصود، وإنما المقصود النكير عليها بالتبرج لماهية الرجل، [فهذا]

(1)

حينئذ نظر في وجه العلاقة، وتسليم لإطلاق الجمع على الواحد.

والإمام قد ذكر هذا بعينه، وقال: إذا تبَيَّنَ في مقصود المتكلم استواء الواحد والجمع، فلا يبعد تصور إطلاق الجمع عند ظُهُور الواحد من الجنس من جهة أنّ الأَنَفة والحَميَّة إنما [يُنْشِئها]

(2)

التبرّج الحاصل آحادًا وجمعًا، والذي يَنْقم منها في الواحد يَنْقم [منها]

(3)

في الجنس.

وإذا تفهّمت ما ألفيته قلت عند إرادة اختصاره: لا نعرف خلافًا في إطلاق اسم الجمع على الاثنين، ولكن هل ذلك بالمجاز أو بالحقيقة؟.

قال قوم: بالحقيقة، ورأوا الاثنين أقل مسمى الجمع، والصحيح أنه بالمجاز، وأن أقل الجمع ثلاثة، ثم اختلف في الغاية التي ينتهي إليها التَّخصيص في الجمع الذي دخلت عليه أداة العموم، فقيل: لا، ابتناءَ له على هذه المسألة، وقيل: إنه مبنى عليها، فمن قال: أقل الجمع ثلاثة قال: إلى الثلاثة ينتهي التخصيص، ومن قال: أقله اثنان قال: إلى اثنين.

وقال الإمام: نحن وإن قلنا: أقله بالحقيقة ثلاثة، فلا يبعد انتهاء التخصيص إلى دونها؛ لصحّة الإطلاق مجازًا، والاثنان أولى من الواحد مع جوازهما، فيصح التخصيص لاثنين ولواحد.

الشرح: "لنا أنه يسبق" إلى الفهم عند الإطلاق اسم الجمع "الزائد" على الاثنين، وهو أي: سبق الفهم "دليل الحقيقة"؛ فدلّ على أنه حقيقة في الثلاثة.

ولم يرد أكثر الشارحين على هذا التقرير، ولا شك أنه وهم؛ فإن أحدًا [لم]

(4)

ينازع في أنه حقيقة، ولا هو المدّعى حتى يستدلّ عليه، إنما المدعى [نفى]

(5)

كونه حقيقة في

(1)

في ب: وهذا.

(2)

في ج: يشبها.

(3)

في ج: منا.

(4)

في ج: لا.

(5)

في ب: بقى.

ص: 97

التَّأْوِيلِ.

قَالُوا: "فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ" وَالْمُرَادُ أَخَوَانِ؛ وَالأَصْلُ الْحَقِيقَةُ.

[وَ] رُدَّ بِفَضِيَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَالُوا: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [سورة الشعراء: الآية 15].

وَرُدَّ: بِأَنَّ فِرْعَوْنَ مُرَادٌ.

قَالُوا: "الاِثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ".

وَأُجِيبَ: فِي الْفَضِيلَةِ؛ لأَنَّهُ [عليه الصلاة والسلام] مُعَرَّفُ الشَّرْع لَا اللُّغَةِ.

الاثنين، استشعر بعضهم هذا فزاد: وإذا كان حقيقة في الثلاثة لم يكن حقيقة في الاثنين لا يجعله مشتركًا، بل هو عنده وعند غيره لِلْقَدْرِ المشترك، وقد اتفقت الفرق على أنّ الكلام من مسمى الجمع، وهو قدر مشترك، ولكن ذلك القدر المشترك ما هو؟.

قيل: الاثنان.

وقيل: الثلاثة، ولذلك لا يقول أحد: إنه مشترك بين الثلاثة والأربعة فصاعدًا، بل هو للقَدْرِ المشترك بين الكلّ.

[وقارب]

(1)

القاضي عضد الدين الصواب فقال: ليس حقيقة في الاثنين؛ لسبق الفهم إلى الزائد، فدل أنه حقيقة في الزائد دونه؛ لما علمت أن من علامة المجاز أن يتبادر غيره.

وهذا حسن إن سلم أن ذلك من أمارات المجاز، وقد تقدم، ويصير دليلًا على كل من انتفاء الحقيقة عن الاثنين وثبوت المجاز.

"و" أما "الصّحة" صحّة إطلاق اسم الجمع على الاثنين مجازًا، قلنا عليها قوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [سورة النساء: الآية 11].

والمراد بـ"الإخوة" أخوان، وإلا لكان ردّ الأم إلى السدس بهما مخالفًا للنص.

لنا: على الأمرين جميعًا، أعني انتفاء الحقيقة عن الاثنين وثبوت الصحة استدلال ابن

(1)

في أ: وفارق.

ص: 98

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عباس بها، ولم يُنكر عليه، وعدل إلى التأويل، وجه ذلك: أن ابن خزيمة، والبيهقي، وابن عبد البر

(1)

رووا من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب

(2)

عن شعبة

(3)

مولى ابن عباس، وهو شيخ متكلّم فيه، عن عبد الله بن عَبَّاس "أنه دخل على عثمان بن عَفَّان، فقال له: الأخوان لا يردان الأم إلى السُّدس، إنما قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [سورة النساء: الآية 11] والأخوان في لسان قومك ليسوا بإخوة، فقال عثمان: لا أستطيع أن أنقض أمرًا كان قبلى، وتوارثه النَّاس، ومضى في الأمصار" فقد قال ابن عَبّاس: إن الأخوين ليسا بإخوة، ولم ينكر عليه عثمان، بل عدل إلى التأويل بما ذكره؛ فدلّ على توافقهما على ذلك، ودلّ تأويله وحمله الكلام على خلاف ظاهره بتوارث الناس على الصحة، وإلا تعارض عمل النَّاس مع الآية.

(1)

يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، النمري، القرطبي، المالكي. أبو عمر: من كبار حفاظ الحديث، مؤرخ أديب، بحّاثة، يقال له: حافظ المغرب؛ ولد بـ "قرطبة" سنة 368 هـ وتوفي بـ"شاطبة" سنة 463 هـ. من تصانيفه: "الدرر في اختصار المغازي والسير"، و "الاستيعاب"، و"جامع بيان العلم وفضله"، و "المدخل" في القراءات، و"بهجة المجالس وأنس المجالس"، و "الاستذكار في شرح مذاهب علماء الأمصار"، و "الإنباه على قبائل الرواة"، و"الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف".

ينظر: الأعلام 8/ 340، ووفيات الأعيان 2/ 348، وبغية الملتمس:474.

وينظر ترجمتنا له مفصلة في تحقيقنا على "الاستيعاب".

(2)

محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب هشام بن شعبة بن عبد الملك، أبو الحارث المدني، أحد الأئمة الأعلام. روى عن نافع وشرحبيل بن سعد والزهري. وعنه: الثوري ويحيى القطان وخلق. قال أبو نعيم: مات سنة 159. ينظر: تاريخ بغداد 2/ 296، وتهذيب التهذيب 9/ 303، والتاريخ الكبير للبخاري 1/ 160، والصغير 2/ 73. انظر: خلاصة تهذيب الكمال 2/ 431، والثقات 7/ 39، والكاشف 3/ 69.

(3)

شعبة بن دينار، مولى ابن عباس، أبو عبد الله المدني. عن مولاه، وعنه: داود بن الحصين.

قال أحمد: ما أرى به بأسًا. وقال ابن معين: لا بأس به. وقال النسائي: ليس بالقوي. قال الواقدي: مات في خلافة هشام.

ينظر: تهذيب الكمال 2/ 583، وتهذيب التهذيب 4/ 346، وتقريب التهذيب 1/ 351، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 449، والكاشف 2/ 11، والجرح والتعديل 4/ 1604، ولسان الميزان 7/ 242.

ص: 99

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والذاهبون إلى أن اسم الجمع حقيقة في الاثنين "قالوا":

دليلنا: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والمراد: أخوان، والأصل" في الإطلاق "الحقيقة".

"ردّ بقضية ابن عباس" كما تقدم.

"قالوا": قال تعالى: " {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} "[سورة الشعراء: الآية 15]، والمراد: موسى وهارون عليهما السلام، وقد قال لهما:"مَعَكُمْ" ولم يقل: معكما.

"ورد بأن فرعون مراد" معهما.

"قالوا: الاثنان فما فوقهما جماعة"، وهو حديث أخرجه ابن ماجه من رواية الربيع بن زيد بن عمرو

(1)

، المعروف بـ[عُلَيلة]

(2)

، وعُلَيْلة بضم العين تصغير علّة، لقب علية، عن أبيه عن جدّه عن أبي موسى الأشعري

(3)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جَمَاعة"

(4)

والربيع هذا متروك باتفاق أهل الجرح. والتعديل.

(1)

الربيع بن زياد، ويقال ابن زيد، ويقال: ربيعة بن زياد الخزاعي، ويقال الحارثي، مختلف في صحبته، له عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد. روى عنه: وبرة أبو كرز الحارثي. قال. البغوي: لا أدري له صحبه أم لا. وقال ابن حبان في الثقات: ربيعة بن زياد يروي المراسيل.

ينظر: تهذيب التهذيب 3/ 244، وتقريب التهذيب 1/ 244، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 319، والكاشف 1/ 304، وأسد الغابة 2/ 207، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 177، والإصابة 2/ 458، والوافي بالوفيات 13/ 114.

(2)

في أ: تعليله.

(3)

عبد الله بن قَيْس بن سُلَيمان بن حَضَّار الأشعري، أبو مُوسى، هاجر إلى الحبشة، وعمل على زُبَيْد وعدن، وولى الكوفة لعمر والبصرة، وفتح على يده تُسْتُر وعدة أمصار، له ثلثمائة وستون حديثًا. وعنه ابن المسيب وأبو وائل وأبو عثمان النهدي وخلق. قال الهيثم: توفي سنة اثنتين وأربعين. وقيل غير ذلك.

ينظر: الوافي بالوفيات 17/ 407، والإصابة 4/ 211، والثقات 3/ 221، والتجريد 1/ 330، والجرح والتعديل 5/ 138، والتاريخ الكبير 5/ 22، والكاشف 2/ 119، وتهذيب الكمال 2/ 724، وتهذيب التهذيب 5/ 362، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 89.

(4)

تقدم.

ص: 100

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأخرجه الدَّارقطني من حديث عثمان بن عبد الرحمن الوَقّاصي

(1)

عن عمرو بن شعيب

(2)

عن [أبيه]

(3)

عن جَدّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، والوقاصي متروك أيضًا.

"وأجيب" على تقدير صحّة الحديث بأن ذلك "في" درك "الفضيلة" فضيلة الجماعة؛ "لأنه عليه السلام غالبًا "معرِّف للشرع لا لِلُّغَةِ"؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم مبعوث لبيان الشَّرْعيات، ثم هو ليس في محلّ النزاع؛ إذ ليس محلّ النزاع في لفظ الجيم والميم والعين كما تقدم، إنما النزاع في صيغ الجموع.

(1)

عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري الوقاصي، أبو عمرو المدني. قال ابن معين: لا يكتب حديثه؛ كان يكذب. وقال مرة: ضعيف. وقال ابن المديني: ضعيف جدًّا. قال الجوزجاني: ساقط. وقال البخاري: تركوه. وقال أبو حاتم: متروك الحديث ذاهب. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال الترمذي: ليس بالقوي. وقال النسائي: متروك. قال ابن عدي: عامة حديثه مناكير إما إسنادًا وإما متنًا.

ينظر: تاريخ البخاري الكبير 6/ 238، والجرح والتعديل 6/ 865، وميزان الاعتدال 3/ 43، ولسان الميزان 7/ 302، والمجمع 1/ 179، وسير الأعلام 9/ 428، والكاشف 2/ 252، وتهذيب الكمال 2/ 913، وتهذيب التهذيب 7/ 133، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 217.

(2)

عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، أبو إبراهيم المدني، نزيل الطائف. عن أبيه عن جده وطاوس، وعن الربيع بنت معوذ وطائفة، وعنه عمرو بن دينار وقتادة والزهري وأيوب وخلق. قال القطان: إذا روي عن الثقات فهو ثقة يحتج به، وفي رواية عن ابن معين: إذا حدث عن غير أبيه فهو ثقة، وقال أبو داود: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ليس بحجة. وقال أبو إسحاق: هو كأيوب عن نافع عن ابن عمر. ووثقه النسائي. وقال الحافظ أبو بكر بن زياد: صح سماع عمرو عن أبيه، وصح سماع شعيب عن جده عبد الله بن عمرو، وقال البخاري: سمع شعيب من جده عبد الله بن عمرو.

قال خليفة: مات سنة ثماني عشرة ومائة. وينظر: ترجمته في: تهذيب الكمال: 2/ 1036، وتهذيب التهذيب: 8/ 48 (80)، وتقريب التهذيب: 2/ 72، وخلاصة تهذيب الكمال: 2/ 287، والكاشف: 2/ 331 تاريخ البخاري الكبير 6/ 342 والجرح والتعديل 6/ 1323، وميزان الاعتدال 3/ 263، ولسان الميزان: 7/ 325، والمجروحين 4/ 71، وتراجم الأحبار: 2/ 566، المعين 517، والبداية والنهاية 9/ 321.

(3)

في أ: ابنه.

ص: 101

النَّافُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَيْسَ الأَخَوَانِ إخْوَةً".

وَعُورِضَ بِقَوْلِ زَيْدٍ: "الأَخَوَانِ إِخْوَةٌ".

وَالتَّحْقِيقُ: أَرَادَ أَحَدَهُمَا حَقِيقَةً وَالآخَرَ مَجَازًا.

قَالُوا: لَا يُقَالُ: "جَاءَنِي رَجُلَانِ عَاقِلُونَ"، وَلَا "رِجَالٌ عَاقِلَانِ".

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُمْ يُرَاعُونَ صُورَةَ اللَّفْظِ.

‌مَسْأَلَةٌ:

إذَا خُصَّ الْعَام، كَانَ مَجَازًا فِي الْبَاقِي.

الْحَنَابِلَةُ: حَقِيقَةٌ.

الرَّازِيُّ: إِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْحَصِرٍ.

الشرح: احتج "النافون" لصحّة إطلاق اسم الجمع على الاثنين بكلٍّ من الحقيقة والمجاز، وهو كما عرفتك مذهب لا أحفظه عن أحد بما "قال ابن عباس: ليس الأخوان إخوة"، فنفى اسم الجمع عنهما، وعورض بقول زيد: الأخوان إخوة؛ فإنه أثبته لهما، وهذا لا يحفظ عن زيد، نعم هو من القائلين بردّ الأم إلى السدس في الأخوين.

"والتحقيق": على تقدير ثبوت ذلك عنهما "أراد أحدهما حقيقة، والآخر مجازًا" جمعًا بين الكلامين، وهو ما ذهبنا إليه.

"قالوا": لا يصح وصف الاثنين بالجمع ولا بالعكس؛ إذ "لا يقال: جاءني رجلان عاقلون، ولا: رجال عاقلان".

"وأجيب: بأنهم يراعون سورة اللفظ"، فالمنع إنما ثبت لذلك لا لما ذكرتم.

(1)

ينظر: البرهان 1/ 410، والمستصفى 2/ 54، والمحصول 1/ 3/ 18، والإحكام للآمدي 2/ 209، وشرح الكوكب 3/ 160، والتبصرة 122، والعدة 2/ 532، وشرح العضد 2/ 106، وجمع الجوامع 2/ 5، وكشف الأسرار 1/ 307، وأصول السرخسي 1/ 144، =

ص: 102

أَبُو الْحُسَيْنِ: إِنْ خُصَّ بِمَا لَا يَسْتقِلُّ: مِنْ شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ.

الْقَاضِي: إِنْ خُصَّ بِشَرْطٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ.

عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ خُصَّ بِشَرْطٍ أَو صِفَةٍ.

وَقِيلَ: إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ لَفْظِيٍّ.

الْإمَامُ: حَقِيقَةٌ فِي تَنَاوُلهِ: مَجَازٌ فِي الاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ.

"مسألة"

الشرح: "إذا خصّ العامُّ كان مجازًا في الباقي".

ولو قال: العام المخصوص مجاز كان أخصر، وهذا رأى جمهور الأَشَاعرة، ومشاهير المعتزلة، واختاره الشيخ الهندي، والقاضي البيضاوي.

وقالت "الحنابلة" وكثير من الحنفية، وأكثر الشَّافعية - كما ذكر الشَّيخ أبو حامد وغيره -:"حقيقة"، واختاره ابن السَّمْعَاني

(1)

، وأبي رحمه الله.

وقال أبو بكر "الرازي"

(2)

: حقيقة "إِنْ كان"[الباقي]

(3)

"غير منحصر" أي: له كثرة يعسر العلم بقدرها على آحاد النَّاس. كذا فسّره إمام الحَرَمَيْنِ في كتاب "النكاح".

وقال الغزالي: كل عدد لو اجتمعوا في صعيد واحد لعسر على الناظم عدّهم، النظر، كالأَلْف، وهو غير محصور.

= وتيسير التحرير 1/ 308، وفواتح الرحموت 1/ 311، وميزان الأصول (420)، وروضة الناظر (124)، ونهاية السول 2/ 87، والمعتمد 1/ 283، وإرشاد الفحول (135)، والإبهاج 2/ 130.

(1)

في حاشية ج: قوله: "واختاره ابن السمعاني

إلخ لأنه باقٍ على إطلاقه الأول، والتخصيص لا يحدث إطلاقًا آخر.

(2)

أحمد بن علي الرازي: أبو بكر الجصاص، ولد في 305 هـ.

فاضل من أهل الري، سكن بغداد، انتهت إليه رئاسة الحنفية، وخوطب في أن يلي القضاء فامتنع.

وألف كتاب "أحكام القرآن" مطبوع، وكتابًا في "أصول الفقه" مصور في معهد المخطوطات بـ"القاهرة" توفي في 370 هـ. ينظر: ابن النديم 311، 358، وتاريخ بغداد 4/ 314 - 315، والجواهر المضيَّة 1/ 84 - 85، وسركيس 281، وتذكرة النوادر 184، والأعلام 1/ 171.

(3)

في أ: النافي.

ص: 103

لَنَا: لَوْ كَانَ حَقِيقَةً، لَكَانَ مُشْتَرَكًا؛ لأَنَّ الفَرْضَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الاِسْتِغْرَاقِ.

وَأَيْضًا: الْخُصُوصُ بِقَرِينَةٍ؛ كَسَائِرِ الْمَجَازِ.

الْحَنَابِلَةُ: التَّنَاوُلُ بَاقٍ؛ فكَانَ حَقِيقَةً.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ.

قَالُوا: يَسْبِقُ؛ وَهُوَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ.

قُلْنَا: بِقَرِينَةٍ؛ وَهُوَ دَلِيلُ الْمَجَازِ.

وإن سهل، كالعشرة والعشرين فمحصور، وبين الطرفين أوساط يلحق بأحدهما بالظن، وما وقع فيه الشَّك استفتى فيه القلب.

وقال "أبو الحسين" البصري

(1)

: حقيقة "إن خصّ بما لا يستقل من شرط، أو صفة، أو استثناء" أو غاية، وإن خصّ بمستقل من عقل، أو سمع، فمجاز، وعليه الإمام فخر الدين الرّازي وغيره، وهو الذي رأيته [متصورًا] في كلام القاضي، ونقله عنه أيضًا المَازِرِيّ، وذكر أنه آخر قوليه، وأن أولهما كونه مجازًا مطلقًا.

وقال المتأخرون منهم المصنف "القاضي" يقول: إنه حقيقة "إن خصّ بشرط، أو استثناء" لا صفة.

وقال عبد الجَبَّار: إن خص بشرط" صفة لا استثناء، أو صفة.

وقيل: حقيقة "إن خصّ بدليل لفظي" متصلًا كان أو منفصلًا

(2)

.

وقال "الإمام" في "البرهان"

(3)

: "حقيقة في تناوله، مجاز في الاقتصار عليه" وحقيقة مذهبه: أن اللفظ حقيقة ومجاز باعتبارين، فتصوَّر فيه المجاز من حيث خرج عن بعض مسمّياته، والحقيقة من حيث البقاء على بعض المسميات، فرأى أن القدر المراد وقع به التجوز في اللفظ، والمنفى باقٍ على الحقيقة.

الشرح: "لنا": على كونه مجازًا مطلقًا: "لو كان حقيقة لكان مشتركًا؛ لأنَّ الغرض

(1)

ينظر: المعتمد 1/ 283.

(2)

في ج: منصوصًا.

(3)

ينظر مصادر المسألة.

ص: 104

الرَّازِيُّ: إِذَا بَقِيَ غَيْرَ مُنْحَصِرٍ، فَهُوَ مَعْنَى الْعُمُومِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ كَانَ لِلْجَمِيعِ.

أنه حقيقة في الاستغراق"، فيكون حقيقة في معنيين مختلفين، وذلك هو المشترك، والمجاز خير منه.

"وأيضًا": لو لم يكن مجازًا لفُهِم "الخصوص" بغير قرينة، لكنه إنما يفهم "بقرينة"؛ فكان مجازًا "كسائر" أنواع "المجاز".

وقالت "الحنابلة

(1)

: التناول باقٍ، فكان حقيقة" فلا يزول؛ لأنه لم يطرأ إلا عدم تناول الغير، ولا يصلح دافعًا.

وفي بعض النّسخ "فكان" بِالفَاءِ، والأحسن ما هو موجود بخطّ المصنّف من "الواو".

"وأجيب: بأنه كان" يتناوله "مع غيره" وبعد التخصيص يتناوله وحده، وهما متغايران، والوضع الأول دون الثاني، فلا يكون حقيقة.

"فالوا" ثانيًا: "يسبق"[الباقي]

(2)

بعد التخصيص إلى الفهم، "وهو دليل الحقيقة".

"قلنا": إنما يسبق إلى الفهم "بقرينة؛ وهو دليل المَجَاز".

ولقائل أن يقول: [الباقي]

(3)

لا يحتاج إليه إلى قرينة على إرادته، إنما المُخْرِج محتاج إلى قرينة عدم إرادته.

الشرح: وقال "الرَّازي: إذا بقي غير منحصر فهو معنى العموم"؛ واللفظ موضوع للعموم، فيكون حقيقة حينئذ.

"[وأجيب]

(4)

: بأنه كان للجميع" ولم يبق بعد التخصيص كذلك.

وقولكم: "إنه لغير المنحصر، سواء أكان الجميع أم لا" ممنوع، ويرجع النزاع إلى أنّ موضع اللفظ العام ماذا؟ والحقّ: أنه الجميع؛ فاندفع ما ذكره الرازي.

(1)

ينظر: البرهان 1/ 412.

(2)

في أ، ب: النافي.

(3)

في أ، ب: النافي.

(4)

في أ: أجبت.

ص: 105

أَبُو الْحُسَيْن: لَوْ كَانَ مَا لَا يَسْتَقِلُّ يُوجِبُ تَجوُّزًا فِي نَحْو: الرِّجَالُ الْمُسْلِمُونَ"، وَ"أَكرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، إِنْ دَخَلُوا، لَكَانَ نَحْوُ "مُسْلِمُونَ" لِلْجَمَاعَةِ، مَجَازًا، وَلَكَانَ نَحْوُ "الْمُسْلِمُ" لِلْجِنْسِ أَوْ لِلعَهْدِ - مَجَازًا، وَنَحْوُ {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [سورة العنكبوت: الآية 14] مجازًا.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْوَاوَ فِي "مُسْلِمُونَ" كَأَلِفِ "ضَارِبٍ" وَوَاوِ "مَضْرُوبٍ"، وَالأَلِفُ وَاللَّامُ فِي "الْمُسْلِمِ"، وَإنْ كَانَ كِلمةً حَرْفًا أَوِ اسْمًا - فَالْمَجمُوع، الدَّالُّ، وَالاسْتِثْنَاءُ سَيَأْتِي.

الشرح: وقال: "أبو الحسين: لو كان بما لا يستقل يوجب تجوّزًا في نحو: الرِّجَال المسلمون، وأكرم بني تميم إن دخلوا، لكان نحو: "مسلمون"" وسائر ما يجمع بالواو والنون "للجماعة مجازًا، ولكان نحو المسلم للجنس أو للعهد مجازًا، ونحو {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [سورة العكبوت: الآية 14]- مجازًا"، واللوازم الثلاثة باطلة.

وبيان الملازمة: أن كل واحدة مما ذكرنا مقيدًا بقيد كالجزء له، وقد صار به لمعنى غير ما وضع له أولًا، فـ"مسلمون" بقيد الواو والنون لِلمنقول إليه، وبدونها للمنقول، وكذا "المسلم" بقيد الألف واللام، وبدونها، وكذا "الأَلْف" بقيد استثناء الخمسين، وبدونه، فإن كان القيد يوجب التجوّز كان هذا مجازًا، وإلّا لزم التحكم؛ إذ لا فرق.

"وأجيب: بأن" ما ذكرتم ليس فيه شيء عامًا مقيدًا حتى يساوي ما نحن فيه؛ فإن "الواو "في"مسلمون" جزء الكلمة "كألف "ضارب" وواو "مضروب""، والمجموع لفظ واحد، "والأَلِف واللام في المسلم، وإن كان كلمة" سواء كان "حرفًا"، وهو ما لم يكن بمعنى الذي، "أو اسمًا"، وهو ما كان بمعناها؛ خلافًا للمازنى

(1)

، ومن وافقه في حرفيتها "فالمجموع" وهو الجنس، والقيد هو "الدّال"؛ لأنّ "مسلم" للجنس والألف واللام للقيد،

(1)

بكر بن محمد بن حبيب بن بقية، أبو عثمان المازني، من مازن شيبان. أحد الأئمة في النحو، من أهل البصرة، من تصانيفه:"ما تلحن فيه العامة"، و "الألف واللام"، و "التصريف"، و "العروض"، و "الديباج". وتوفي بـ"البصرة" سنة 249 هـ.

ينظر وفيات الأعيان 1/ 92، ومعجم الأدباء 2/ 280، وانباه الرواة 1/ 246، والأعلام 2/ 69.

ص: 106

وَالْقَاضِي: مِثْلُهُ؛ إِلَّا أَنَّ الصِّفَةَ عِنَدَهُ كَأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ.

وَعَبْدُ الْجَبَّارِ: كَذَلِكَ؛ إلَّا أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ.

الْمُخَصِّصُ بِاللَّفْظِيَّةِ: لَوْ كَانَتِ الْقَرَائِنُ اللَّفْظِيَّةُ تُوجِبُ تَجَوُّزًا

إِلَى آخِرهِ، وَهُوَ أَضْعَفُ" ا. هـ.

"الْإِمَامُ: الْعَامُّ كَتَكْرَارِ الآحَادِ؛ وَإِنَّمَا انْحَصَرَ، فإِذَا خَرَجَ بَعْضُهَا، بَقِيَ الْبَاقِي حَقِيقَةً.

وَأُجِيبَ: بِالْمَنْعِ؛ فَإِنَّ العَامَّ ظَاهِرٌ فِي الْجَمِيعِ، فَإِذَا خُصَّ خَرَجَ قَطْعًا، وَالْمُتَكَرِّرُ نَصٌّ.

"والاستثناء سيأتي" إن شاء الله تعالى، أنه [إخراج]

(1)

بعد إرادة العموم من اللفظ، فلم يتحقّق شيء مما ذكرناه في العامّ المخصوص، فلم يلزم من كون ذلك مَجَازًا كون هذه مجازات.

الشرح: "القاضي" احتجاجه "مثله" من إلزام كون "مسلمون والمسلم"، "وأَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا" مجازات، فَجوابه جوابه "إلا أن" القاضي خالف في الصفة؛ لأن "الصفة عنده كلها مستقلة"، فلا يتناولها الدليل، وتحقّق شبهها بالاستقلال أنه قد يحصل منها الفائدة بدون الموصوف، وربما [شملت]

(2)

أفراد الموصوف نحو: الجسم الحادث.

"وعبد الجَبَّار كذلك، إلا أن الاستثناء عنده ليس بتخصيص":

وقال: "المخصص باللفظية لو كانت القرائن اللفظية توجب تجوزًا" لكان مسلمون والمسلم مجازًا "إلى آخره، وهو أضعف"؛ فإن الاتصال ربّما يحيل فيه الجامع بين المقيس والمقيس عليه من جهة أن المتصل كالجزء من الكلام؛ فإنه سورة الإلزام.

وأما تعميم القول في الانفصال، فلا وجه له.

الشرح: وقال "الإمام: العام كتكرار الآحاد"، فمعنى المشركين: زيد وعمرو إلى آخرهم، "وإنما انحصر، فإذا خرج بعضها بقي الباقي حقيقة"، كما أنك عند تكرير الآحاد إذا حذفت البعض لم يكن [الباقي]

(3)

مجازًا.

(1)

في ب: إخرج.

(2)

في أ، ج: اشتملت.

(3)

في أ: النافي.

ص: 107

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وأجيب بالمنع" من كونه [كتكرار]

(1)

الآحاد، "فإنّ العام ظاهر في الجميع، فإذا خص خرج" الخاص "قطعًا" بالتخصيص،" [والمتكرر]

(2)

نص"، فإذا خرج بعضٌ بقي الباقي نصًّا، كما كان فيما بقي لم يتغير عن وضعه أَصلًا.

واعلم أَن رأى إمام الحرمين هو المختار عندي، وأنا أبسطه ليتضح، ويندفع عنه هذا الجواب، فأقول:

اختار الإمام أنه مشترك بين الحقيقة والمجاز، فالمجازُ متصوّر من حيث تقاصر اللفظ عن بعض مسمّياته، والحقيقة متصورة من حيث البقاء على بعض مسمياته، وسبب الاختلاف في أن العام المخصوص مجاز: أولًا أن الحقيقة باتفاقٍ اللفظ المستعمل في موضوعه الأول، والمجاز هو المنقول عن أصل وضعه، والعامّ المخصوص [صح]

(3)

كونه مجازًا من جهة أن ما بقي ليس موضوعه الأصلى، وكونه حقيقة من جهة أنه بَاقٍ على أصل وضعه، [ولم]

(4)

ينقل نقلًا كلّيًّا فإنّ دلالة المشركين بعد إخراج بعضهم على مَنْ بقي منهم بأصل الوضع، وليست بوضعٍ ثَانٍ.

فإذا علم أن المراد بـ"المشركين" بعضهم، فقد تكلّم بها على غير ما وضعت له في الأصل في اللغة، وكانت مَجَازًا من هذا الجانب، وإذا نظر إلى بقاء بعض المسميات، وقد علم أن تناولها لما بقي حقيقة قبل ورود التَّخصيص، فليكن كذلك بعده؛ لأن تناول اللفظ إياها لم يتغير، وإنما وقع التغير في القدر المخصص.

وجعل المازري الخلاف ملتفتًا إلى أن دلالة العموم ظاهرة أو نص، ولأجل الالتفات إلى هذين الجانبين رأى الإمام كونه حقيقةً من جانب، ومجازًا من جانب، فرأى أن القدر المُزَال وقع به التجوّز، والقدر المبقي باقٍ على حقيقته.

قال المَازِرِيّ: وقد رُدَّ عليه بأن اللفظة الواحدة ليس لها جهتا حقيقة ومجاز، وأن الحقيقة والمجاز إنما يتصور في الكلم، والنطق دون العدم وما لم ينطق به.

قلت: وهذا ليس بشيء؛ فإن اللفظة الواحدة قد [تكون]

(5)

حقيقة ومجازًا باعتبارين، فلفظ "العام المخصوص" حقيقة باعتبار، مجاز بآخر، وبه يندفع قوله: الحقيقة والمجاز إنما

(1)

في ج: كتكرار.

(2)

في ج: والتكرار.

(3)

في ب، ج: اتضح.

(4)

في أ، ج: فلم.

(5)

في ب: بكون.

ص: 108

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يكونان من الكلم؛ فإنا لم نقل الحقيقة في غير الكلم حتى يقال هذا، بل الحقيقة والمجاز واقعان في لفظة واحدة، وهي لفظة العام المخصوص باعتبارين، والقدر المزال وقع به التجوّز في اللفط لا في الزائل حتى يتخيل أنا ادعينا مجازًا فيما ليس بمنطوق.

[وأما]

(1)

ردّ المصنف بأن دلالة العام ظاهرة، فالإمام يمنع ذلك، ويدعها نصًّا، وقد نقل ذلك عن الشَّافعي أيضًا.

ولا ينبغي أن يفهم من قول الإمام أنها كتكرار الآحاد مساواتها [لتكرر]

(2)

الآحاد من كل وحه، بل من جِهَةِ النصوصية، ثُمّ النصوضية مختلفة، فقد وضح كلام الإمام، وأنه أيضًا ليس مذهب القائلين: إن العام المخصوص مجاز مطلقًا، كما توّهمه بعض الشارحين.

"فوائد"

الأولى: إذا كان اللَّفظ العام صيغة من صيغ الجموع، فقد صرّح الغزالي - واعترض - بدعْوى الاتِّفَاق على أنه مجاز إذا لم يبق بعد التَّخْصيص جمع.

وفيه نظر: فقد صرّح بحكاية الخلاف فيه الشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو بكر وغيرهما من الأقدمين، وقالوا: يبقى في تناوله للواحد على الحقيقة، وهو اختيار الشيخ أبي حامد.

"الثانية"

إذا قال الله سبحانه {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: الآية 5] فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحال: إلّا زيدًا، فهل هو تخصيص بمتصل أو [منفصل]

(3)

؟.

قال الإمام الرازي: فيه احتمال.

وصرح القاضي بالخلاف فيه، وقال: الذي [نرتضيه]

(4)

أنه صلى الله عليه وسلم إن ابتدأ من تلقاء نفسه كلَامًا، ولم يضفه إلى كلام الله تعالى، فيلحق ذلك بالمنفصل، سواء قدر متصلًا أو منفصلًا.

(1)

في أ، ج: وإنما.

(2)

في أ: كتكرار، وفي ب، ج: لتكرار.

(3)

في ج: بمنفصل.

(4)

في أ، ج: يرتضيه.

ص: 109

مَسْأَلَةٌ:

الْعَامُّ بَعْدَ الْتَّخْصِيصِ بِمُبَيِّنٍ - حُجَّةٌ.

وَقَالَ الْبَلْخِيُّ: إِنْ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ.

وَقَالَ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَ الْعُمُومُ مُنْبِئًا عَنْهُ؛ كـ {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: الآية 5] وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ كـ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [سورة المائدة: الآية 38] فَإِنَّهُ لَا يُنْبِئُ عَنِ النِّصَابِ وَالْحِرْزِ.

"الثالثة"

لم يذكر الأصوليون التفرقة بين العام المَخْصُوص، والمراد به الخصوص، وقد اقتضى كلامُ الشَّافعي رضي الله عنه الفرق بينهما في آية البيع وغيرها

(1)

.

وللشيخ الإمام الوالد - رحمه الله تعالى - في الفرق بينهما كلام نفيس حكيته في "شرح المنهاج" حاصله:

أن المراد به الخصوص هو العام إذا أطلق، وأريد به بعض ما يتناوله، وهو لفظ مستعمل في بعض مدلوله، قال: والذي يظهر أنه مجاز قطعًا، والمَخْصُوص العام إذا أريد به معناه مخرجًا منه بعض أفراده، فالإرادة فيه إرادة الإخراج، وفي الأولى إرادة الاستعمال.

قال: ولا يشترط مقارنة هذه الإرادة لأول اللَّفظ، بخلاف تلك، والمخصوص هو محلّ الخلاف، وبالله التوفيق.

"مسألة"

الشرح: فرع عما تقدم جملة القول فيها: إن العام المخصوص إن قلنا: إنه حقيقة، احتج به في الباقي جزمًا، وإلَّا ففيه خلاف، والمحقّقون على الاحتجاج به أيضًا، ويجمع

(1)

العام الذي لحقه التخصيص يقال له: العام المخصص، والعام المخصوص، والفرق بينه وبين العام الذي أريد به الخصوص أن العام المخصوص هو الذي لا تقوم قرينته عند تكلم المتكلم به. على أنه أراد بعض أفراده، فيبقى متناولًا لأفراده عمومًا، ثم يعقبه المتكلم بما يدل على إخراج البعض منها ولهذا حصل التردد في كونه حقيقة أو مجازًا في الباقي، وأما العام الذي أريد به الخصوص فهو العام إذا أُطلِقَ، وأريد به بعض ما يتناوله، ويلخص الفرق بينهما في وجوه: =

ص: 110

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الخلاف قوله: العام بعد التخصيص بمبين حجّة

(1)

.

= الأول: أن الإرادة في الأول، لإخراج بعض المدلول الذي يتناوله اللفظ، وفي الثاني لاستعمال اللفظ في شيء آخر غير موضوع له اللفظ.

الثاني: أن الإرادة في الأول لا يشترط مقارنتها لأول اللفظ، ولا يجوز تأخيرها عنه كما تقدم، بل الشرط فيها أنها إذا لم توجد في أوله لا بد وأن تكون في أثنائه، نظير ما قاله الققهاء في مشيئة الطلاق من اقتران النية ببعض اللفظ قبل فراغه، وإنما كان الشرط كذلك؛ لأنها تشبه الاستثناء من جهة أن كُلًّا منهما به الإخراج، والمخصص في الحقيقة إنما هو تلك الإرادة، والمخصصات متصلة ومنفصلة دالة على تلك الإرادة، لكن لا تشبه الاستثناء من جهة أن النية فيه شرط لاعتبار الاستثناء بعده، وليست مؤثرة، بخلاف الإرادة في التخصيص؛ فإنها مؤثرة في الإخراج وحدها، وتدل عليها تارة بمخصص متصل، وأخرى بمنفصل، أما الإرادة في الثاني، فيشترط مقارنتها لأول اللفظ، ولا يكفي طريانها في أئنائه حيث إن المقصود بها نقل اللفظ من معناه إلى غيره، واستعماله فيما لم يوضع له، ونظير ذلك ما قاله الفقهاء في تكبيرة الإحرام، وفي كنايات الطلاق، والنية فيه مؤثرة في نقل اللفظ من معناه إلى غيره.

الثالث: أن العام المخصوص لا يصلح الحكم عليه في الظاهر ابتداء بأنه مجاز على القطع، بل التردد في ذلك حاصل، ومنشؤه أن إرادة إخراج بعض المدلول توجب تغير الاستعمال، وتصير اللفظ مستعملًا في الغير أولًا.

الحق هو مما يقوى أنه حقيقة لكن الأكثر على أنه مجاز، وحجتهم أن اللفظ موضوع ليستعمل في معناه بتمامه غير مخرج منه شيء، فمتى استعمل مخرجا منه شيء كان مجازًا؛ لحصول الاستعمال على غير الوجه الذي وضعه الواضع، إلا أن هذا مدفوع بأن ما وراء المخصوص يتناوله الكلام على أنه كلٌّ لا بعض؛ لأن صيغة العموم تتناول الثلاثة مثلًا، كما تتناول المائة والألف، والأكثر من ذلك، أما العام الذي أريد به الخصوص، فإنه يصح الحكم عليه في الظاهر ابتداء بأنه مجاز قطعًا، حيث إنه لفظ مستعمل في بعض مدلوله، وبعض الشيء غيره.

(1)

ينظر: المحصول 1/ 3/ 22، والمستصفى 2/ 57، والمنخول (153)، والمعتمد 1/ 286، وشرح الكوكب المنير 3/ 162، والتبصرة (187)، واللمع (27). والإحكام للآمدي 2/ 213، والمنتهى (87)، والعدة 2/ 539، والمسودة (116)، وشرح العضد 1/ 108، وجمع الجوامع 2/ 7، وكشف الأسرار 2/ 307، وأصول السرخسي 1/ 144، وتيسير التحرير 1/ 313، وفواتح الرحموت 1/ 308، ونشر البنود 1/ 240، وإرشاد الفحول ص 137، ومنتهى السول 2/ 27، وشرح التنقيح (227)، وفتح الغفار 1/ 90، والإبهاج 2/ 143، والتمهيد لأبي الخطاب 2/ 142، وتقريب الوصول (79).

ص: 111

عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ كَانَ غَيْرَ مُفْتقِرٍ إِلَى بيَانٍ، كَـ {الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: الآية 5]؛ بِخِلَافِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [سورة البقرة: الآية 43] فَإِنَّهُ مُفْتقِرٌ قَبْلَ إِخْرَاجِ الحَائِضِ.

وَقِيلَ: حُجَّةٌ فِي أقَلِّ الْجَمْعِ.

وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

"وقال البَلْخِيّ": حجة

(1)

"إن خصّ بمتصل"، لا إن خصّ بمنفصل.

"وقال" أبو عبد الله "البصري

(2)

: "إن كان" لفظ "العموم مُنْبِئًا عنه" قبل التخصيص "كـ {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: الآية 5] "، فإنه ينبئ عن الحربي كما ينبئ عن الذمى سواء؛ فهو حجة، "وإلا فليس بحجة كـ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [سورة المائدة: الآية 38]؛ فإنه لا ينبئ عن النصاب والحِرْز" إذا بطل العمل به عند انتفاء قدر النِّصَاب، وكونه مسروقًا من حِرْزٍ لم يعمل به عند وجودهما.

الشرح: وقال "عبد الجَبَّار: إن كان" قبل التخصيص "غير مفتقر إِلى بيان [كالمُشْركين]

(3)

"، فإنه بيِّن في الذّمى قبل إخراجه فهو حجّة، "بخلاف {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [سورة البقرة: الآية 43] فإنه مفتقر" إلى البيان "قبل إخراج الخاصّ" من عموم اللفظ، ولذلك بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي".

"وقيل: حجة في أقل الجمع" من اثنين أو ثلاثة على الخلاف، لا فيما زاد.

"وقال أبو ثور

(4)

: ليس بحجّة" مطلقًا

(5)

.

وهذا الخلاف في المخصّص بمعين كما قيد المصنّف.

(1)

ينظر مصادر المسألة.

(2)

ينظر مصادر المسألة.

(3)

في أ: كالمشرك.

(4)

إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، أبو ثور. الفقيه صاحب الإمام الشافعي. قال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وفضلًا، صنف الكتب وفرع على السنن، وذب عنها. قال ابن عبد البر: له مصنفات كثيرة منها كتاب ذكر فيه اختلاف مالك والشافعي، وذكر مذهبه في ذلك وهو أكثر ميلًا إلى الشافعي في هذا الكتاب وفي كتبه كلها. مات بـ"بغداد" شيخًا، وذلك سنة 240 هـ. ينظر: تذكرة الحفاظ 2/ 87، وميزان الاعتدال 1/ 15، وتاريخ بغداد 6/ 65 والأعلام 1/ 37.

(5)

ينظر مصادر المسألة.

ص: 112

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أما المخصّص بمبهم، فنقل جماعة الاتفاق على أنه لا يحتج به؛ لأن إخراج المجهول من المعلوم يصيِّر المعلوم مجهولًا، وهذا كما لو قال: بِعْتُكَ هذه الصُّبْرَة إلَّا صاعًا منها، لا يصحّ لذلك، وعلى هذا جرى ابن السَّمعَاني، وغيره من أئمتنا.

وقضية طريقة الإمام الرازي جريان الخِلَاف مع الإبهام، وبه صرح ابن بَرْهَان

(1)

من أئمتنا، وصحح العمل به والحالة هذه.

واعتلّ بأنا إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه هل هو من المخرج، والأصل عدمه، فيبقى على الأصل ويعمل به إلى أن لا يبقى فرد؟ وهذا منه تصريح بالإضراب عن التخصيص بالمُبْهم، والانسحاب على العمل بصورة العام كلها، المخصص وغيره، وهو نَاءٍ عن قواعد الشَّرْع، وترك لدليل المخصّص بلا موجب.

ويلزم عليه: أن من طلق إحدى امرأتيه يطؤهما جميعًا، أو اشتبه عليه إناء طاهر ونجس يستعملهما، ولا [يعلم]

(2)

أحدًا من الأصحاب قال به.

ولو قيل: يحتج به إلى أن يبقى فرد، فلا يحتجّ به فيه، كان على ضعفه أوجه.

ونظير المسألة:

إذا اشتبه إناءان طاهر ونجس، فثلاثة أوجه:

الصّحيح: أنه لا يجوز استعمال أحدهما إلا بالاجتهاد، وظهور علامة يغلب على الظَّن طهارته، ونجاسة المتروك.

(1)

أحمد بن علي بن محمد بن برهان، أبو الفتح. ولد بـ"بغداد" في شوال سنة 479 هـ، وتفقه على الغزالي والشاشي وإلكيا الهراسي، وبرع في المذهب والأصول، وكان هو الغالب عليه. قال المبارك بن كامل: كان خارق الذكاء لا يكاد يسمع شيئًا إلا حفظه، ولم يزل يبالغ في الطلب والتحقيق وحل المشكلات حتى صار يضرب به المثل من تجرد في الأصول والفروع، وصار علمًا من أعلام الدين. من تصانيفه:"البسيط"، و"الوسيط"، و"الوجيز" وغيرها. توفي سنة 518 هـ. ينظر: الأعلام 1/ 167، ووفيات الأعيان 1/ 82، والبداية والنهاية 12/ 194، وشذرات الذهب 4/ 61، ومرآة الجنان 3/ 235، وطبقات السبكي 4/ 42، وابن قاضى شهبة 1/ 279.

(2)

في أ: يعلم.

ص: 113

لنَا: مَا سَبَقَ مِنِ اسْتِدْلَالِ الصَّحَابَةِ مَعَ التَّخْصِيصِ.

وَأَيْضًا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: "أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، وَلَا تُكْرِمْ فُلَانًا"، فَتَركَ - عُدَّ عَاصِيًا.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الأَصْلَ بَقَاؤُهُ.

وَاسْتُدِلَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً، لَكَانَتْ دَلَالَتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى دَلَالَتِهِ عَلَى الآخَرِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لأَنَّهُ إِنْ عُكِسَ - دَوْرٌ، وَإِلَّا فتَحَكُّمٌ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الدَّوْرَ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِتَوَقُّفِ التَّقَدُّمِ، وَأَمَّا بِتَوَقُّفِ الْمَعِيَّةِ، فَلَا.

والثاني: يكفي ظنّ الطَّهارة بلا علامة.

والثالث: يستعمل أحدهما بلا اجتهاد ولا ظن.

ولو حلف لا يأكل هذه الثمرة، فاختلطت بثمر كثير، فأكله إلا ثمرة لم يحنث.

وإذا وطئ رجلان امرأة فأتت بولد، وأرضعت طفلًا بلبنه، ولم يثبت نَسَبُه، وأراد أن يتزوج بنت أحدهما، لم [يحلّ]

(1)

على الأصح.

وقيل: يحل أن يتزوج بنت من شاء منهما؛ لأن الأصل في كلّ واحدة الحلّ، فإذا حرمت الأخرى.

وقيل: تحلّ كل واحدة على الانفراد، ولا يجمع.

وقيل: يجوز الجمع.

قال المَاوَرْدِيّ. وهو الظاهر من كلام الشَّافعي.

قلت: وتجويز الجمع يشبه ما قال ابن برهان.

ولو وَكّل رجلين، ثم عزل أحدهما لا بعينه لم ينفذ تصرف واحد منهما على الأصح.

وقيل: ينفذ؛ لأن الأصل بقاء تصرفه.

الشرح: "لنا": على كونه حجّة إذا خصّ بمعين "ما سبق" في المسألة الثانية من باب

(1)

في ب، ج: تحل.

ص: 114

قَالُوا: صَارَ مُجْمَلًا؛ لِتَعَدُّدِ مَجَازِهِ فِيمَا بَقِيَ وَفِي كُلٍّ مِنْهُ.

قُلْنَا: لِمَا بَقِي بِمَا تَقَدَّمَ.

أَقَلُّ الْجَمْعِ: هُوَ الْمُحَقَّق، وَمَا بَقِيَ مَشْكُوكٌ.

قُلْنَا: لَا شَكَّ مَعَ مَا تَقَدَّمَ.

العموم "من استدلال الصَّحابة" رضي الله عنهم بالعمومات "مع" دخول "التخصيص" عليها، وَتكَّرَّر ذلك، وشَاع بحيث لا ينكره إلا مباهت.

"وأيضًا: القطع فيما إذا قال" القائل: "أكرم بني تميم، ولا تكرم فلانًا، فترك" إكرام الكلّ "عُدَّ عاصيًا"، فدلّ على ظهوره في الباقي.

"وأيضًا: فإن" العام كان قبل التَّخصيص حجّة في الباقي، فيبقى بعد التخصيص كذلك؛ لأن "الأصل" فيما كان "بقاؤه" على ما كان.

"واستدل: لو لم يكن حجّة لكانت دلالته" على الباقي "موقوفة على دلالته على الآخر، واللازم باطل؛ لأنه إن عكس" اللازم بأن كانت دلالته على الآخر موقوفةً على دلالته على الباقي، فهو "دورٌ، وإلا فتحكم" أي: إن لم يعكس؛ لأنه ترجيح من غير مرجح.

"وأجيب: بأن الدّور إنما يلزم بتوقف التقدم" والبعدية كما في تقدم العلة على المعلول، والشرط على المشروط.

"وأما بتوقف المعية" كتوقف أحد المتضايفين على الآخر، "فلا" يلزم، أو يكون دَوْرًا ولكن غير [مستحيل]

(1)

؛ فإن المحال إنما هو الدور، السبقى كما إذا قال زيد: لا أدخل الدار حتى يدخل عمرو قبلى، وعكس عمرو.

أما إذا قال كل منهما: لا أدخل حتى يدخل الآخر، فهو الدور المَعِيّ، ولا استحالة فيه؛ لجواز دخولهما معًا، وهذا هو الموجود في دلالة العام.

الشرح: والمانعون "قالوا": حقيقته العموم وهي منفية، وسائر ما تحت العموم، من المراتب مجازاته، وإذا لم [ترد]

(2)

الحقيقة، وتعدّدت المجازات "صار مجملًا؛ لتعدّد مجازه فيما بقي" منه جميعه، "وفي كل منه" فلا يكون حجّة في شيء مما بقي.

(1)

في ب: لمستحيل.

(2)

في ب: يرد.

ص: 115

مَسْأَلَةٌ:

جَوَابُ السَّائِلِ: غَيْرُ الْمُسْتَقِلِّ، دُونَه، تَابِعٌ لِلسُّؤَالِ فِي عُمُومِهِ اتِّفَاقًا، وَالْعَامُّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ: بِسُؤَالِ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لَمَّا سُئِلَ عَنْ بِئْرِ بُضاعَةَ: "خَلَقَ اللهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَه، أَوْ طَعْمَه، أَوْ رِيحَهُ" - أَوْ بِغَيْرِ سُؤَالٍ؛ كمَا [لَوْ] رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مرَّ بِشَاةِ مَيْمُونَةَ، فَقَالَ "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ".

مُعْتَبَرٌ عُمُومُهُ عِنْدَ الأَكْثَرِ.

وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ.

"قلنا": إنما يكون مجملًا بتعدّد المجازات المتساوية.

أما إذا ترجّح بعضها [فيحمل]

(1)

عليه، والباقي كله مترجّح، فاللفظ إذن متعيّن؛ "لما بقي بما تقدّم" من إجماع الصَّحابة على أنه للباقي. واحتج مَنْ مذهبه "أقلّ [الجمع]

(2)

"بأن ذلك "هو المتحقق" بعد التَّخصيص، "وما عداه مشكوك"، فيكون حجّة في المتيقّن.

"قلنا: لا شكّ مع ما تقدم" من الأدلّة الدَّالة على وجوب الحَمْلِ على الباقي كله، ثم إنا نسلم أن أقل الجمع متيقّن إن لم يجوز التخصيص إلى ما تحته، ومنهم من جوزه إلى الواحد مطلقًا.

"مسألة"

الشرح: "جواب السَّائل" عن سؤاله على قسمين:

(3)

الجواب "غير المستقل دونه"، وهو "تابع للسؤال في عمومه" وخصوصه "اتفاقًا" مثل: أينحنى بعضنا لبعض؟ قال: [لا]

(4)

قال: أيصافح بعضنا بعضًا؟ قال: "نَعَمْ".

(1)

في ب: فتحمل.

(2)

في ب: بالجمع.

(3)

ينظر: البرهان 1/ 372، والإحكام للآمدي 2/ 218، والمعتمد (1/ 302)، والتمهيد لأبي الخطاب 2/ 161، وشرح الكوكب المنير 3/ 168، وجمع الجوامع 2/ 137، والتبصرة 144، والمنخول (151)، والمستصفى 2/ 21، وشرح تنقيح الفصول (216)، والعضد 2/ 109، والعدة 2/ 596، وتيسير التحرير 1/ 263، وفواتح الرحموت 1/ 289، والتلويح على التوضيح 1/ 272، وإرشاد الفحول (112).

(4)

سقط في ب.

ص: 116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والجواب المستقلّ الوارد على سبب أضرب:

لأنه إما أن يكون أخصّ أو مساويًا أو أعم، فالأخص مثل: ما لو سئل عن قتل النساء الكَوَافر، فقيل: اقتلوا المُرْتَدّات، فيجب قتل المرتَدّات باللفظ دون غيرهن؛ لمفهوم دليل الخِطَاب؛ ولأنه لما عدل عن العامّ إلى الخاصّ دلّ على قصد المخالفة.

قال القاضي أبو الطَّيب: وهذا كما قال أصحابنا في قوله عليه السلام: "جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا"

(1)

علق على اسم الأرض كونها مسجدًا، وعلى نوع منها كونه طهورًا، فَدلَّ على أنه قصد المخالفة [بين المسجد والطهور، خلاف قول أبي حنيفة: إن كل أرضٍ مسجدٌ وطهورٌ.

ومن ذلك احتجاج أصحابنا بقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق: الآية 6]. فأوجب السُّكنى مطلقًا والنفقة بشرط الحمل

(2)

؛ فدلّ على أنه قصد

(1)

أخرجه البخاري 1/ 435 - 436، كتاب التيمم: باب (1)، (335)، ومسلم 1/ 370، كتاب المساجد:(3/ 521) من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(2)

اختلف الموجبون لنفقة البائن الحامل في أن النفقة حق لها أو للحمل على قولين.

- أحدهما -: أن النفقة للحامل؛ وإليه ذهب الحنفية، والشافعي في الجديد وأحمد في رواية.

- وثانيهما -: أنها للحمل، واليه ذهب المالكية وأحمد في أظهر الروايتين، والشافعي في القديم.

(وجه القول بأنها للحمل) أنها تجب بوجوده، وتسقط بانفصاله، وتجب بوجوده وتسقط بعدمه عند غير الحنفية.

(ولك أن تقول): - أولًا - إن السقوط بانفصاله ليس لأن النفقة له، وإنما هو لانقضاء العدة، والسقوط بعدمه غير متفق عليه؛ إذ ينازع فيه الحنفية إلا أن يستدل على السقوط بعدمه بآية:{أَسْكِنُوهُنَّ} فإن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} فيه تعليق الحكم، وهو النفقة بشرط، وهو الحمل، فيفيد عدم النفقة عند عدم الحمل، ما لم يعارض ذلك بدليل مساوٍ أو أقوى.

- ثانيًا - إن هذا الدوران إنما يفيد أن كونهن حاملات علة في النفقة، ولا يلزم أن يكون الحمل هو المقصود بها، فيجوز أن تكون النفقة حقًّا للحامل لأجل الحمل.

ووجه القول بأنها للحامل أنها لو كانت للحمل لوجبت في ماله إن كان له مال ورثه أو أوصى له به مع أنها لا تجب فيه، ولوجبت على السيد لا المطلق إن كانت الحامل أمة، أو كان =

ص: 117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المخالفة]

(1)

بينهما، وأن المبتُوتة الحائل لا نفقة لها.

قال الإمام الرَّازي وغيره: والجواب الأخصّ جائز بشرط أن يكون فيما خرج عن

= المطلق عبدًا، مع أنها تجب على المطلق، ولسقطت بالإعسار، وبمضي الزمان، مع أنها لا نسقط عند من لا يسقط نفقة الزوجة بهما، وهذه خمسة أوجه.

وتدفع هذه الأوجه بالتزام أنها تجب في مال الحمل إن كان له مال، وأنها تجب على السيد، وأنها تسقط بالإعسار وبمضي الزمان بلا امشدانة بإذن القاضي، وقد صرح الحنابلة بذلك في كتبهم.

ووجه سادس، وهو أنها لو كانت للحمل لتعددت بتعدده (ويمكن دفعه) بأن العبرة بالحاجة، وحاجة الحمل المتعدد لا تزيد عن حاجة الحمل والواحد، إذ الأم هي التي تتناول النفقة.

ووجه سابع، وهو أنها لو كانت له لتضاعفت نفقة الزوجة الحامل، بأن تعطى نفقة لنفسها، وثانية للحمل.

ويمكن دفعه بأن نفقة القريب تسقط بالاستغناء، والحمل هنا مستغن بنفقة أمه.

وثامنٌ، وهو أنها لو كانت له لتقدرت بكفايته، لكنها تتقدر بكفايتها عند غير الشافعية، وبالإمداد عند الشافعية.

(ويمكن دفعه) بأنها إنما قدرت بكفايتها؛ لأنه لا وسيلة لكفايته إلا ذلك؛ إذ كل الأضرار التي تحصل لها تعود عليه، وتقديرها عند الشافعية حكم مذهبي مبني على كونها للحامل، وماذا يضر لو قالوا في هذه الحالة بكفايتها بناء على أنها للحمل.

قد يجاب بأنه كان ممكنًا أن تقدر بكفايته، وهي الفرق بين كفاية الحامل والحائل إن كان هناك فرق؛ لأن الحامل إما أن تحتاج إلى غذاء أكثر من الحائل أولًا، فإن لم تحتج كان إذًا مستغنيًا، ولا نفقة للولد مع الاستغناء، وإن احتاجت لم يجب الزائد، أما الأصل، فهو واجب على من يجب عليه النفقة عليها.

والذي يظهر للمتأمل، أنها للحامل، لكن لأجل الحمل، لا لأجل العدة؛ إذ لو كانت للحمل لما وجب على المطلق سوى الفرق بين نفقتي الحامل والحائل، ولو كانت للحامل لأجل العدة لما علق الإنفاق بالحمل في القرآن الكريم؛ إذ التعليق يفيد التعليل، فتعين أنها للحامل؛ لأجل الحمل وبوجوبها لها لأجله سقطت نفقته لاستغنائه. هذا هو الذي يقتضيه النظر الصحيح. ينظر: المهذب 2/ 176، ومغني المحتاج 3/ 440، ومغنى الحنابلة 1/ 292، والشرح الكبير للدسوقي 2/ 583، والخرشي والعدوي 4/ 194، وكشاف القناع 3/ 302.

(1)

سقط في أ، ج.

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السؤال [ببينة]

(1)

على ما لم يخرج منه، وأن بكون السَّائل مجتهدًا أي فَهِمًا حاذقًا، وإلا لم تفد البينة، وألّا تفوت المصلحة [باشتغال]

(2)

السَّائل بالسؤال، والمساوي لا إشكال فيه.

"والعام" الوارد "على سبب خاصّ"، وهو أيضًا ضربان:

لأنه إما "بسؤال"، وهو أيضًا ضربان:

لأنه إما أن يكون عامًّا فيما سئل عنه "مثل قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بئر بُضَاعة: "خَلَقَ اللهُ المَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَه، أَوْ لَوْنَه، أَوْ رِيحَهُ".

كذا وقع في الكتاب، وقد خلط حديثًا في حديث؛ فإن حديث بئر "بُضَاعَة" هو ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يُلْقَى فيها الحيض والنَّتن ولحوم الكلاب؟ فقال:"إنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ"

(3)

. رواه أحمد، وأبو داود، الترمذي، النسائي.

وقال أحمد: صحيح، والترمذي: حسن، وهو كَافٍ في غرض المصنّف؛ فإنه عام على سبب بسؤال، وجديث:"إلَّا مَا غَيّر" هو ما رواه الدارقطني من قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ المَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ إلَّا مَا غَيًرَ رِيحَهُ أَوْ طَعْمَهُ"

(4)

.

وروى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ المَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ، وَطَعْمِهِ، وَلَوْنِهِ" ولا يعرف للون ذكر في غير ابن ماجه.

وقال الشافعي: هذا الحديث لا يُثبِتُ أهل الحديث مثله.

وقال أبو حاتم الرازي: الصحيح أنه مرسل.

وإما أن يكون عامًا في غير ما سئل عنه، كقوله عليه الصلاة والسلام عن التوضّوء بماء البحر:"هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ" وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود،

(1)

في أ، ج: بنيته.

(2)

في ب: بإشغال.

(3)

أخرجه أبو داود (67)، والشافعي رقم (35)، وأحمد (3/ 31)، والترمذي (66)، والنسائي (1/ 174)، وابن الجارود (47)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 11)، والدارقطني (1/ 29 - 30)، والبيهقي (1/ 257) من حديث أبي سعيد. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

(4)

أخرجه ابن ماجه (1/ 174) رقم (521)، والدارقطني (1/ 28) من طريق رشدين بن سعد عن =

ص: 119

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصحّحه الترمذي، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، ورجّح ابن منده

(1)

أيضًا صحته.

(2)

بغير سؤال"، وهو قسمان:

أحدهما: أن تكون ثَمَّ قرينة دالّة على التعميم، كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} في رجل سرق رداء صفوان

(3)

؛ فإِن الإِتيان بالسَّارقة معه قرينة تدلّ على عدم الاقتصار على المعهود، وكقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء: الآية 58] نزلت في عثمان بن طلحة

(4)

أخذ مفتاح الكَعْبَة، وتغيب، وَأَبَى أن يدفعه إِلى النبي صلى الله عليه وسلم،

= معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة مرفوعًا، ورشدين بن سعد ضعيف.

(1)

محمد بن إِسحاق بن محمد بن يحيى، ابن منده، أبو عبد الله العبدي. نسبه إِلى عبد يا ليل الأصبهاني. ولد سنة 310، وهر من كبار حفاظ الحديث الراحلين في طلبه، المكثرين من التصنيف فيه من كتبه "فتح الباب في الكنى والألقاب"، و "الرد على الجهمية"، و "معرفة الصحابة" وغير ذلك وتوفي سنة 395 هـ. ينظر: الأعلام 6/ 29، وميزان الاعتدال 3/ 26، وتذكرة الحفاظ 3/ 338.

والحديث أخرجه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (1/ 176)، وابن ماجه (386)، وأحمد (2/ 361).

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وينظر: تخريجنا على بداية المجتهد؛ فقد خرجناه تخريجًا تفصيليًا، وأوردنا شواهد له.

(2)

في ج: أو.

(3)

صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة الجمحي القرشي، أبو وهب وكان من المؤلفة قلوبهم، انفرد له مسلم بحديث. روى عنه ابنه أمية وطاوس وعطاء، وأعار النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين سلاحًا كثيرًا.

قال الهيثم: مات سنة إِحدى وأربعين. وينظر: ترجمته في: تهذيب الكمال 2/ 608، وتهذيب التهذيب 4/ 424، وتقريب التهذيب 1/ 367، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 469، والكاشف 2/ 29، والثقات 3/ 191، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 304، والجرح والتعديل 4/ 1846، وأسد الغابة 3/ 23، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 266، والإِصابة 3/ 43، 468، والاستيعاب 2/ 718، نفعة الصديان: ت 300، وأسماء الصحابة الرواة: ت 160.

(4)

عثمان بن طلحة بن أبي طلحة عبد الله القرشي العبدري. من بني عبد الدار. صحابي، كان =

ص: 120

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أو في عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه - أخذه من عثمان بن طلحة، وَأَبَى أن يدفعه إِليه على الخلاف في ذلك، فإِن العدول عن لفظ الإِفراد إِلى الجمع بقوله:"الأمَانات" قرينة تشعر بالتعميم.

والثَّاني: إلّا يكون ثَمَّ قرينة، كما لو روى أنه عليه السلام مَرّ بشاة ميمونة، فقال:"أَيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ فَقَدْ طَهُرَ"

(1)

، فإِنه على تقدير وقوعه لفظ عامٌ ورد على سبب خاصّ بغير سؤال.

وإِنما قلنا: على تقدير وقوعه، وكذا أثبت المصنّف لفظة [لو]

(2)

بخطه؛ لأن ذلك لم يقع، والواقع إِنما هو مروره صلى الله عليه وسلم بشاة ميمونة، فقال:"ألا اسْتَمْتَعْتُمْ بإِهَابِهَا"؟ - قالوا: يا رسول الله إِنها ميتة، قال حينئذ:"إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا". متفق على صحته من حديث ابن عباس.

وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" لفظ مسلم، ولفظ أحمد والترمذي، وغيرهما:"أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" كما ذكر المصنّف، والتمسّك به على التقدير الذي ذكرناه، وفي بعض نسخ "المختصر" حذف لفظة "لو" وليس بجيد؛ فإِثباتها حق كما عرفت، وإِياه فعل المصنّف.

إِذا عرفت هذا، فاللَّفظ العام "معتبر عمومه عند الأكثر، ونقل عن الشَّافعي" ومالك، وأبي ثور "خلافه" وممن نقله عن الشَّافعي إِمام الحرمين، والغزالي في "المنخول".

وقال بعض أصحابنا: إِنَّ الشَّافعي أشار إليه في خبر بئر "بضاعة"، وقال: قوله عليه السلام: "المَاءُ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" مقصور على سببه.

وقال في قوله عليه السلام: "لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ ولا كثر"

(3)

: إِنه خرج على عادة أهل "المدينة" في ثمارهم، وإِنها لم تكن في مواضع محطوطة.

= حاجب البيت الحرام، أسلم مع خالد بن الوليد في هدنة الحديبية، وشهد فتح مكة، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إِليه وإِلى ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة. ثم سكن المدينة ومات بها سنة 42 هـ، وقيل بـ "مكة". وينظر: الإِصابة ت (5442)، وإِمتاع الأسماع 1/ 385، والأعلام 4/ 207.

(1)

أخرجه مسلم 1/ 77، كتاب الحيض: باب طهارة جلود الميتة بالدباغ (105/ 366)، ومالك في الموطأ 2/ 498، (17)، والشَّافعي في مسنده 1/ 26 (58).

(2)

سقط في أ.

(3)

أخرجه مالك في الموطأ 2/ 839، في الحدود: باب ما لا قطع فيه (32)، والشَّافعي 2/ 83، =

ص: 121

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وسائر الأصحاب قالوا: إِنما قال الشَّافعي هذا لأدلة دلّت عليها.

فأما إِذا لم يكن هناك دليل على التَّخصيص، فمذهبه إِجراء اللَّفْظ على التعميم، وهذا هو الأظهر في النَّقْل عنه، وقد حَرّره كذلك الإِمام الرازي في "المَنَاقب" وغيره، ولذلك قال في قوله عليه السلام وقد سئل عمن ابْتَاعَ عبدًا، فاستعمله ثُمَّ وجد به عَيْبًا:"الخراج بالضمان"

(1)

أَنَّ قوله: "الخراج بالضمان" عام في هذا الموضع وغيره.

نعم، ذهب المزني، والقَفَّال، وأبو بكر الدَّقَّاق

(2)

من أصحابنا إِلى أن اللفظ مقصور

= في حد السرقة (275)، وأحمد 3/ 463 - 464، 4/ 140، 142 - وأبو داود 3/ 137، كتاب الحدود: باب ما لا قطع فيه (4388)، والنسائي 8/ 87، كتاب قطع السارق: باب ما لا قطع فيه (4967)، والبيهقي 8/ 263،262، والترمذي 4/ 42، كتاب الحدود: باب ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر (1449)، وابن ماجة 2/ 865، كتاب الحدود: باب لا يقطع في ثمر ولا كثر (2593)، وابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن (361)، كتاب الحدود باب: فيمن لا قطع عليه (1505)، والنسائي 8/ 88، في المصدر السابق (4968)، والبيهقي 8/ 263، كتاب السرقة عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان، عن رافع بن خديج.

(1)

أخرجه أبو داود 3/ 284، في البيوع: باب فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا (3508 - 3510)، والترمذي 3/ 581 - 582، في البيوع: باب ما جاء فيمن يشتري العبد، ويستغله ثم يجد به عيبًا (1285 - 1286)، وقال: حسن صحيح، والنسائي 7/ 254 - 255، في البيوع: باب الخراج بالضمان، وابن ماجه 2/ 754، في التجارات: باب الخراج بالضمان (2243)، وأخرجه الشَّافعي في المسند 6/ 49 - 81 - 116 - 161 - 208 - 237، وصححه ابن حبان، أورده الهيثمي في موارد الظمآن ص 275، في البيوع: باب الخراج بالضمان (1126)، والحاكم في المستدرك 2/ 15، في البيوع: باب الخراج بالضمان، وصححه، وأقره الذهبي.

(2)

محمد بن محمد بن جعفر البغدادي، أبو بكر الدقاق. ولد في جمادى الآخرة سنة 306 هـ. قال الشيخ أبو إِسحاق: كان فقيهًا، أصوليًا شرح المختصر، وولى القضاء بـ "كرخ" بغداد، قال الخطيب: كان فاضلًا، عالمًا بعلوم كثيرة، وله كتاب في الأصول على مذهب الشَّافعي، وكانت فيه دعابة. توفي في رمضان سنة 392 هـ.

ينظر: تاريخ بغداد 3/ 229، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (97)، والمنتظم 7/ 22، والنجوم الزاهرة 4/ 206، وابن قاضي شهبة 1/ 167.

ص: 122

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

على سببه، فلذلك نجد الخلاف في صورة فقهيّة مَثَارُهَا الاختلاف في هذا الأصل، والأصحُّ فيها الجَرَيَان على التعميم، مثل الاختلاف في العَرَايَا، هل يختص بالفقراء؟ أو يشترك فيها الأغنياء والفقراء، والصَّحيح التعميم مع ورودها على سبب خاصّ، وهو الحاجة.

وقال الأصحاب فيمن دخل عليه صديقه فقال: تَغَدَّ معي، فامتنع، فقال: إِن لم تتغد معي فامرأتي طالق، فلم يفعل، لا يقع الطَّلاق، ولو تغدّى بعد ذلك يومًا من الدهر انحلت اليمين، فإِنْ نَوَى الحال، فلم يفعل وقع.

ورأى: البَغَوي

(1)

: حمل المطلق على الحال؛ للعادة.

وأفتى القاضي الحُسَين

(2)

: في امرأة صعدت بالمفتاح إِلى السطح، فقال زوجها: إِن لم تُلْقِي المفتاح، فأنت طالق، فلم تُلْقه ونزلت، أنه لا يقع.

ويحمل قوله: "إِن لم تلقه" على التأبيد، وأخذ ذلك ممَّا قاله الأصحاب في المسألة المذكورة.

وفي الرَّافعي عن كتاب "المبتدأ" للقاضي الرّوياني

(3)

أنه لو قيل له: كَلِّمْ زيدًا، فقال:"والله لا كلمته" انعقدت اليمين على الأبد إِلّا أن ينوي اليوم، فإِن كان ذلك في طلاق، وقال:"أردت اليوم" لم يقبل في الحكم، وهذه الصّور كلها تشهد لأن العبرة بعموم اللفظ، وإِن اقتضت العادة من ذلك عدم استقلال الجَوَاب، فاعرف ذلك.

(1)

في حاشية ج: قوله: "ورأى البغوي

إِلخ هذا هو القول ببساط اليمين كما هو مذهب الإِمام مالك.

(2)

الحسين بن محمد بن أحمد القاضي، أبو علي المروزي. صاحب التعليقة المشهورة في المذهب، أخذ عن القفال. قال عبد الغافر: كان فقيه خراسان، وكان عصره تاريخًا به. قال الرافعي: إِنه كان كبيرًا، غواصًا في الدقائق، من الأصحاب الغر الميامين، وكان يلقب بـ "حبر الأمة". وممن أخذ عنه أبو سعد المتولي والبغوي. وله الفتاوي المشهورة وكتاب "أسرار الفقه". توفي في المحرم سنة 462 هـ. وينظر: الأعلام 2/ 278، وطبقات الشَّافعية للسبكي 3/ 155، ووفيات الأعيان 1/ 400، وشذرات الذهب 3/ 310، وطبقات الشَّافعية لابن قاضي شهبة 1/ 244، والعبر 3/ 249.

(3)

عبد الواحد بن إِسماعيل بن أحمد بن محمد بن أحمد، أبو المحاسن، الروياني الطبري، صاحب البحر وغيره، قال ابن خلكان: وأخذ الفقه عن ناصر العمري وعلق عنه، وبرع في المذهب حتى كان يقول: لو احترقت كتب الشَّافعي لأمليتها من حفظي، ولهذا كان يقال له: =

ص: 123

لَنَا: اسْتِدْلالُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بِمِثْلِهِ؛ كَآيَةِ السَّرِقَةِ وَهِيَ فِي سَرِقَةِ المِجَنِّ أَوْ رِدَاءَ صَفْوانَ، وَآيَةِ الظِّهَارِ فِي سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، وَآيَةِ اللِّعَانِ فِي هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَوْ غَيْرِهِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَالتَّمَسُّك، بِهِ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ عَامًّا، لَجَازَ تَخْصِيصُ السَّبَبِ بِالاِجْتِهَادِ.

قال [المازري]

(1)

: ولو خرجت - يعني مسألة أنه هل العِبْرَةُ بعموم اللَّفظ، أو بخصوص السَّبب - على الاختلاف في الألف واللام، هل تقتضي الصيغ الَّتي دخلت عليها العموم، ويكون المراد الإِشارة إِلى الجنس، أو تكون محمولة على العَهْدِ - لكان لائقًا، فمن يقصر اللَّفظ على سببه يجعلها للعهد، ومن يعممه لا يفعل ذلك؟.

قلت: وقد ينازع المعمّمون في أنّ السَّبب هل يصلح أن يكون عهدًا؟ ويقولون: المعهود هو ما لم يختصّ بسائل أو بواقعة، مثل: الطعام في قوله عليه السلام: "الطَّعَامُ بِالطَّعَام"؛ فإِنهم كانوا يعهدونه على طعام خاصّ، فهل يحمل الألف واللام عليه أو يجرى على عمومها؟ هذا موضع الخلاف.

ويتجه فيه القول بالحمل على المعهود اتجاهًا لا يتهيأ مثله هنا في قصر اللفظ على سببه؛ لأنه لما كان هو المعهود، صار اللَّفظ كأنه موضوع له، وإليه ينصرف الذِّهْن دون غيره عند سماع اللفظ.

الشرح: - "لنا": على أن العِبْرَةَ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السبب "استدلال الصَّحابة بمثله" في العمومات الواردة على أسباب خاصّة "السرقة وهي" واردة "في سرقة المِجَنّ، أو"

= شافعي زمانه، ولد سنة 415، ومن تصانيفه "البحر" وهو بحر كاسمه، و "الكافي" وغيرهما، قتله الباطنية سنة 502.

انظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 287، ووفيات الأعيان 2/ 369، والأعلام 4/ 324، والنجوم الزاهرة 5/ 197، وشذرات الذهب 4/ 4، ومفتاح السعادة 2/ 210، ومعجم البلدان 3/ 104.

(1)

في ب: الماوردي.

ص: 124

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في "رِدَاء صفوان" كذا ذكر المصنّف، والمحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم "قطع في مِجَنّ قيمته ثلاثة دَرَاهم"

(1)

متّفق على صحّته، رواه الجماعة السّتة من حديث ابن عمر.

وفي حديث صفوان بن أمية قال: كنت نائمًا في المسجد على خميصة لي فسرقت، فأخذنا السارق فرفعناه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعه، فقلت: يا رسول الله أفي خميصة ثمن ثلاثين درهمًا؟ أنا أهبها له، أو أبيعها له، قال:"فَهَلَّا كَانَ قَبْلَ أَنْ تأْتِيَنِي بِهِ؟ " رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي.

وفي رواية أحمد والنسائي: فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في الحديثين أن سبب نزول الآية كان ذلك، و"آية [الظّهار]

(2)

في سلمة بن صخر"

(3)

كذا ذكر المصنّف، وحديث سلمة بن صخر [فإِنه]

(4)

ظاهر من امرأته. رواه أبو داود والترمذي وحَسّنه، وابن ماجه، ولكن ليس هو سبب نزول الآية، إِنما سبب نزولها أوس بن الصَّامت

(5)

ومُظَاهرته من زوجته

(1)

أخرجه مالك في الموطأ 2/ 831، في الحدود: باب ما يجب فيه القطع، والبخارى 12/ 99 في الحدود: باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} (6795)، وأطرافه في (6796 - 6797 - 6798)، ومسلم 3/ 1313، في الحدود: باب حد السرقة (6 - 1686).

(2)

في أ، ج: الطَّهارة.

(3)

سلمة بن صَخْر بن سليمان بن الصِّمَّة، الأنصاري، الخَزْرَجِي، البَيَاضِي، الذي ظاهر من امرأته. روى عنه: ابن المسيِّب وسليمان بن يسار. قال البخاري: لم يسمع منه. ينظر: تهذيب الكمال 1/ 524، وتهذيب التهذيب 4/ 147، والكاشف 1/ 384، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 72، والجرح والتعديل 4/ ت (723)، وأسد الغابة 2/ 431، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 232، وطبقات ابن سعد 2/ 165، خلاصة تهذيب الكمال 1/ 403.

(4)

في ب: وأنه، وفي ج: فإِنه كان.

(5)

أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن الخزرج الأنصاري. ذكروه فيمن شهد بدرًا والمشاهد. قيل: إِنه أول من ظاهر من امرأته في الإِسلام، وهي خولة بنت ثعلبة، وكانت بنت عم له؛ كما قاله ابن منده. وقال ابن حبان: مات في أيام عثمان وله خمس وثمانون سنة.

ينظر: الإِصابة 1/ 156، وطبقات ابن سعد 3/ 48، وأسد الغابة 1/ 177، وتجريد أسماء الصحابة 1/ 36، والاستيعاب 1/ 118، والثقات 3/ 10، وتهذيب الكمال 1/ 126، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 106، وتهذيب التهذيب 1/ 383. =

ص: 125

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خولة بنت مالك بن ثعلبة

(1)

، ومجيئها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتكي إِليه، ووقوع، المُجَادلة فنزل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [سورة المجادلة: الآية 1] الآية. رواه أحمد، وأبو داود

(2)

، ورواه البخاري تعليقًا.

"وآية اللِّعان في هلال بن أمية

(3)

أو غيره" فقد روى البُخَاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث ابن عباس أن "هلال بن أمية" قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سَحْمَاءَ

(4)

. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌ فِي .........................

(1)

خولة بنت مالك بن ثعلبة بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف، ويقال خولة بنت حكيم، ويقال: خويلة - بالتصغير - بنت خويلد. امرأة أوس بن الصامت - أخي عبادة - الَّتي سمع الله قولها من فوق سبع سموات. قالت: فيَّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة. وروى خليد بن دعلج عن قتادة أنها قالت لعمر بن الخطاب وهو يمر عليها ذات مرة: "اتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت". وينظر: الثبات 3/ 116، وأسد الغابة 7/ 91، وتقريب التهذيب 2/ 596، وأعلام النساء 1/ 326، والإِصابة 7/ 618، وتهذيب الكمال 3/ 1682، وخلاصة 3/ 380.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن 7/ 389، كتاب الظهار: باب من له الكفارة بالإِطعام، وأحمد في المسند 6/ 411، وابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص 324، كتاب الطلاق: باب الظهار (1334)، والطبراني في الكبير 1/ 196، والدر المنثور 6/ 179.

وهذا جزء من حديث طويل أخرجه أبو داود 2/ 265، كتاب الطلاق: باب في الظهار (2214)، وابن ماجه 1/ 665، كتاب الطلاق: باب الظهار (2062)، والبيهقي في السنن 7/ 385، والحاكم في المستدرك 2/ 203، وصححه، وأقره الذهبي.

(3)

هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلى بن عامر بن كعب بن واقف، الأنصاري الواقفي. شهد بدرًا وما بعدها، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم. وله ذكر في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عمر. ينظر: الإِصابة 6/ 289.

(4)

شريك بن سَحْماء (وهي أمه) واسم أبيه: عبدة بن معتب بن الجد بن العجلان البلوي، حليف الأنصار. له ذكر في حديث ابن عباس في الصحيحين أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء. وروى ابن سعد عن الواقدي أن شريك بن سحماء بعثه أبو بكر الصديق رسولًا إِلى خالد بن الوليد وهو بـ "اليمامة"، ويقال: إِنه شهد مع أبيه أحدًا. وكان شريك أحد الأمراء بالشام في خلافة أبي بكر. وبعثه عمر رسولًا إِلى عمرو بن العاص حين أذن له أن يتوجه إِلى =

ص: 126

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ظَهْرِكَ"

(1)

فقال: يا رسول الله: إِذا رأى أحدنا على امرأته رَجُلًا ينطلق يلتمس البَيِّنَة؟! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "البَيِّنَةُ وإِلَّا حَدٌّ في ظَهْرِكَ" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إِني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحَدّ، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [سورة النور: الآية 6] الحديث رواه مسلم، والنسائي [من]

(2)

حديث أنس، وفيه:"فكان أول رجل لاعن في الإِسلام".

وعن سهل بن سعد أن عويمرًا العِجْلاني

(3)

أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رَجُلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا" قال سهل: فَتَلاعَنَا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث رواه البخاري ومسلم

(4)

.

وأحاديث كثيرة استدلّت الصحابة رضي الله عنهم بعمومها مع قطع النظر عن أسبابها.

= فتح مصر؛ ذكره ابن عساكر. ينظر: الإِصابة 3/ 206 (2893).

(1)

أخرجه البخاري 8/ 303، كتاب التفسير: باب ويدرأ عنها العذاب (4747)، وأبو داود 2/ 276، كتاب الطلاق: باب في اللعان (2254)، وابن ماجه 1/ 668، كتاب الطلاق: باب اللعان (2067)، والبيهقي في السنن (7/ 393)، والدر المنثور 5/ 22، والدارقطني 3/ 277، والحاكم في المستدرك 4/ 371.

(2)

في ج: عن.

(3)

عويمر هو ابن أبي أبيض العجلاني وقال الطبراني: هو عويمر بن الحرث بن زيد بن جابر بن الجد بن العجلان، وأبيض لقب لأحد آبائه. ويؤيد ذلك ما في الموطأ، أخرج الشيخان وغيرهما من حديث سهل بن سعد قال: جاء العجلاني إِلى عاصم بن عدي فقال له: يا عاصم، أرأيت لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ الحديث في نزول آية اللعان، ووقع في الموطأ رواية القمي إِنه عويمر بن أشقر العجلاني، وقيل: إِنه خطأ، وإِن عويمر بن أشقر آخر ما زنى وهو المذكور بعد، ولعل أحد آباء عويمر العجلاني كان يلقب أبيض فأطلق عليه الراوي أشقر. ينظر الإِصابة 5/ 45 ت (6109).

(4)

أخرجه مالك (2/ 556 - 557) كتاب الطلاق: باب ما جاء في اللعان (34)، والبخاري =

ص: 127

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ اخْتُصَّ بِالْمَنع؛ لِلْقَطْعِ بِدُخُولهِ؛ عَلَى أَن أَبَا "حَنِيفَةَ رحمه الله أَخْرَجَ الأَمَةَ المُسْتَفْرَشَةَ مِنْ عُمُومِ "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ"؛ فَلَمْ يُلْحِقْ وَلَدَهَا مَعَ وُرُودِهِ فِي وَلَدِ زَمْعَةَ.

وَقَدْ قَال عَبْدُ اللهِ بْنُ زَمْعَةَ: هُوَ أَخِي وَابْنُ وَليدَةِ أَبِي؛ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ.

قَالُوا: لَوْ عَمَّ لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِ السَّبَبِ فَائِدَةٌ.

"وأيضًا"، فإِن اللفظ عام والتمسّك به" لا بغيره، فلا اعتبار بخصوص السبب؛ لعدم صلاحيته معارضًا.

والذاهبون إِلى القصر "قالوا: لو كان عامًا" لتساوى السَّبب مع بقية الأفراد، ولو كان ذلك "لجاز تخصيص السَّبب بالاجتهاد" كغيره من الصُّور، وهو لا يجوز كما نقل القاضي وغيرهُ الإِجماع فيه.

الشرح: "وأجيب بأنه" لا يلزم من دخولهما تحت اللَّفْظ الواحد تساويهما، بل قد يكون دخول أحدهما قَطْعيًّا، والآخر ظنّيًّا، وهو الواقع، ولذلك "اختص" السَّبب "بالمنع؛ للقطع بدخوله، على أن" ما نقل من الإِجماع لا يثبت، بدليل أن "أبا حنيفة" جوَّز إِخراجه؛ لأنه "أخرج

(1)

الأَمة المُسْتَفْرشة من عموم" قوله صلى الله عليه وسلم: "الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ"

(2)

، فلم يلحق ولدها

= (9/ 274)، كتاب الطلاق: باب من أجاز طلاق الثَّلاث (5259)، ومسلم (2/ 1129)، كتاب اللعان (1/ 1492).

(1)

في حاشية ج: قوله: "أخرج الأمة المستفرشة" لا يتصور إِخراج السبب الخاص الذي ورد فيه الحكم وهو ولد زمعة، ولم يجوز أبو حنيفة ذلك، وإنما جوز إِخراج نوع ذلك السبب، أي أخرج ولد المستفرشة على عموم "الولد للفراش" مع وروده في الأمة المستفرشة، فقصر الفراش على الزوجة واحد؛ لأنه الفراش الحقيقي الذي يقصد غالبًا، وأما صورة السبب فيبتنى فيها الفراش المجازي؛ لأن مقابله - وهو الزنا - ليس فراشًا أصلًا.

(2)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 739)، كتاب الأقضية: باب القضاء بإِلحاق الولد بأبيه (20)، والبخاري 4/ 342، كتاب البيوع: باب تفسير المشبهات (2053) وأطرافه في (2218 - 2421 - 2523 - 2745 - 4303 - 6749 - 6765 - 6817 - 7182)، ومسلم 2/ 1080، كتاب الرضاع: باب الولد للفراش (36 - 1457).

ص: 128

قُلْنَا: فَائِدَتُهُ: مَنْعُ تَخْصِيصِهِ، وَمَعْرِفَةُ الأَسْبَابِ.

قَالُوا: لَوْ قَالَ: "تَغَدَّ عِنْدِي"، فَقَالَ:"وَاللهِ، لا تَغَدَّيْتُ" - لَمْ يَعُمَّ.

قُلْنَا: لِعُرْفٍ خَاصٍّ.

قَالُوا: لَوْ عَمَّ لَمْ يَكُنْ مطَابِقًا.

قُلْنَا: طَابَقَ، وَزَادَ.

قَالُوا: لَوْ عَمَّ، لَكَانَ حُكْمًا بِأَحَدِ المَجَازَاتِ بِالتَّحَكُّمِ؛ لِفَواتِ الظُّهُورِ بِالنُّصُوصِيَّةِ.

مع وروده في ولد زَمْعَةَ"، وهو ولد أمَةِ مستفرشة، "وقد قال عبد بن زمعة

(1)

: "هو أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه".

ووقع بخط المصنّف: "عبد الله"، وإِنما هو "عَبْد" غير مضاف.

روى البخاري، ومسلم، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي وَقَّاص

(2)

، وعبد بن زمعة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غلامٍ فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وَقَّاص، عهد إِليّ أنه ابنه أُنظر إِلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله، ولد على فِرَاشِ أبي، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى شبهه، فرأى شبهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فقال:"هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَللْعَاهِرِ الحَجَرُ" الحديث.

"قالوا: لو عَمَّ لم يكن في نقل السَّبب فائدة"، وقد بالغ الحُفَّاظ في تدوينه وحفظه.

الشرح: "قلنا: فائدته منع .............................

(1)

عبد بن زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي، القرشي العامري، أخو سودة أم المؤمنين. ثبت خبره في الصحيحين في مخاصمة سعد بن أبي وقاص في ابن وليدة زمعة، وكان زمعة مات قبل فتح مكة: وأسلم ابنه عبد هذا يوم الفتح، ونازعه سعد بن أبي وقاص في ابن وليدة زمعة، فقضى به النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة. وقال: احتجبي منه يا سودة.

قال ابن عبد البر: كان من سادات الصحابة. وأخوه لأمه قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن مناف، أمهما عاتكة بنت الأخيف - بخاء معجمة بعدها مثناة تحتانية - من بني هصهيص بن عامر بن لؤي ينظر الإِصابة 4/ 193 ت 6265.

(2)

سعد بن أبي وقاص واسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري المدني، شهد بدرًا =

ص: 129

قُلْنَا: النَّصُّ خَارِجِيٌّ بِقَرِينَةٍ.

تخصيصه"

(1)

بالاجتهاد عند من يمنعه، وهم جمهور الأُمَّة، "ومعرفة الأسباب".

"قالوا: لو قال تَغَدَّ عندي، فقال: والله لا تغديت، لم يعم"، وكان مقصورًا على سببه حتى لو تغدَّى لا معه، لم يحنث بالاتفاق.

"قلنا" أولًا: قال ابنُ السَّمْعَاني: لا نعرف أن المسألة على مذهب الشَّافعي على ما قالوه.

وثانيًا: أن الأَيمان تحمل على العادة لا حقيقة اللفظ، فإِنما لم يعم "لعرفٍ خاصّ"، والتخلف لمانع لا يقدح.

"قالوا: لو عَمَّ لم يكن مطابقًا" للسؤال.

"قلنا": إِنْ أردتم بالمطابقة أن يستوعب السؤال، ولا يغادر منه شيئًا، فمسلم، والأعمُّ يحصل فيه ذلك، فقد "طابق وزاد"، وإِن أردتم اختصاص الجواب بالسؤال، فلا نسلّم اشتراط المُطَابقة بهذا المعنى؛ فقد يريد المجيب ما لم يسأل عنه السائل؛ ألا ترى أن الله تعالى سأل موسى عليه السلام عما في يمينه، فقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ

= والمشاهد، وهو أحد العشرة وآخرهم موتًا، وأول من رمى في سبيل الله، وفارس الإِسلام، وأحد ستة الشورى، ومقدم جيوش الإِسلام في فتح العراق، وجمع له النبيّ صلى الله عليه وسلم أبويه وحرس النبيّ صلى الله عليه وسلم وكوّف الكوفة وطرد الأعاجم، وافتتح مدائن فارس وهاجر قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم. له مائتا حديث وخمسة عشر حديثًا، اتفقا عليها وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر، وعنه بنوه إِبراهيم وعامر وعمر ومحمد ومصعب وخلق، وكان سابع سبعة في الإِسلام، مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة وحُمل إِلى البقيع في سنة خمس وخمسين، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال 1/ 371، وتهذيب التهذيب 3/ 483، وتقريب التهذيب 1/ 290، والكاشف 1/ 354، وتاريخ البخاري الكبير: 4/ 73، والجرح والتعديل: 4/ 93، وأسماء الصحابة الرواة: ت 16، وأسد الغابة 2/ 366، وتجريد أسماء الصحابة: 1/ 218، والاستيعاب 2/ 606، والإِصابة 3/ 73، وطبقات ابن سعد: 9/ 80، وسير الأعلام 1/ 92، وديوان الإِسلام: ت: 1115 سبق ذكره في سعد بن مالك.

(1)

في حاشية ج: قوله: "منع تخصيصه" أي تخصيص نظيره، أما عين السبب فلم يقل أحد بتخصيصه كما عرفت.

ص: 130

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [سورة طه: الآية 17، 18].

فأجاب عما سأل وزاد، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم حين سئل عَن التوضؤ بماء البحر:"هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ".

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم وقد سألته امرأة عن طفل على يدها: ألهذا حجّ

(1)

؟ قال: "نَعَمْ، وَلَكِ أجْرٌ".

"قالوا: لو عَمَّ" الوارد على سبب "لكان" العموم مستلزمًا "حكمًا بأحد المجازات بالتحكّم".

وبيان الملازمة: أنا تجزم حينئذ بأن صورة السَّبب مرادة، ولكن أحد مجازات العام؛ لأن كلّ بعض منه مجاز، فيلزم الحكم بأحد المَجَازات بالتحكُّم؛ لأن نسبة العموم إِلى جميع الصُّور المندرجة تحته متساوية، وهو ظاهر بالنِّسْبة إِليها، فالقطع في بعضها تحكّم ومخرج لقضية العموم "لفوات الظهور بالنصوصية".

"قلنا: النص خارجي" عن مدلول العام "بقرينة"، وهي ورود الخطاب ثانيًا لذلك البعض؛ فتثبت الأولوية من خارج، ولا بدع في هذا.

"فوائد"

الأولى: استدل إِمام الحرمين

على أن الشَّافعي يقول بخصوص السبب بأنه لم يجعل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [سورة الأنعام: الآية 145] الآية حاصرًا للمحرمات في هذه الأشياء قال:

لورود الآية في الكُفَّار الذين يحلون الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به، ويتحرّجون عن كثير من مباحات الشرع، فكانت سَجِيّتهم تخالف وضع الشَّرع وتضادّه، فكان الغرض منه إِبانة كونهم على مُضَادّة الحق، فكأنه تعالى قال:"لا حرام إِلا ما أحللتموه".

(1)

أخرجه الشَّافعي 1/ 282، كذا في ترتيب المسند (741)، ومسلم 1/ 974، كتاب الحج: باب صحة حج الصبي (409 - 1336).

ص: 131

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والقصد الرد عليهم فقط، قال:

ولولا سبق الشَّافعي إِلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في مصيره إِلى حصر المحرّمات فيما ذكر الله تعالى في هذه الآيات، ثم ذكر ما ينقل عن أبي حنيفة من تجويزه إِخراج صورة السَّبب بالاجتهاد، ثم أغلظ القول عليه في ذلك، وعلى مالك في تحليله ما وراء المذكور في الآيات ممَّا لا نطيل به.

ورد عليه المَازِريّ ثم ابن الأنباري

(1)

بما لا يرضاه لنفسه محقّق، وهما شيخان قد أفرطا في مُخَاطبة الإِمام، ولو تتبع المتتبع كلماتها لألفاها منقوضة العرى منبوذة بالقرى.

ومما يدلّ على تعصبهما ما ذكراه في مسألة علم الله سبحانه بالجُزْئيات، وما نسباه إِلى إِمام الحرمين ممَّا هو برئ منه من غير تأمّل كلامه.

"الثانية"

قال أبي رحمه الله: إِنما يكون دخول صورة السَّبب قطعيا إِذا ذكر الدليل على دخولها وضعًا تحت اللَّفظ العام، وإِلا فقد ينازع فيه الخَصْم، ويدعى أنه قد يقصد المتكلّم بـ "العام" إِخراج السبب، فالمقطوع به إِنما هو بيان حكم السبب، وهو حاصل مع كونه خارجًا، كما يحصل بدخوله مخروجه، ولا دليل على تعيين واحد من الأمرين.

فللحنفية أن يقولوا في حديث عبد بن زَمْعَةَ أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ" وإِن كان واردًا في أَمةٍ فهو واردٌ لبيان حكم ذلك الولد، وبيان حكمه إِما بالثبوت أو بالانتفاء.

فإِذا ثبت أن الفراش هي الزوجة؛ لأنها الذي يتّخذ لها الفراش غالبًا، وقال: الولد للفراش كان فيه حصر أن الولد للحرّة، وبمقتضى ذلك لا يكون للأَمَةِ، فكان فيه بيان

(1)

محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الأنباري. ولد سنة 271 هـ بـ"الأنبار" من أعلم أهل زمانه بالأدب واللغة، ومن أكثر الناس حفظًا للأشعار، قيل: كان يحفظ ثلاثمائة ألف شاهد في القرآن، وكان يتردد إِلى أولاد الخليفة الراضي بالله يعلمهم. من كتبه:"شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات" و"إِيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل" و"عجائب علوم القرآن" وغيرها. توفي بـ "بغداد" سنة 328 هـ. وينظر: وفيات الأعيان 1/ 503، وتذكرة الحفاظ 3/ 57، وغاية النهاية 2/ 230، وطبقات الحنابلة 2/ 69، وتاريخ بغداد 3/ 181، والأعلام 6/ 334.

ص: 132

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الحكمين جميعًا: نفى النّسب عن السبب، وإِثباته لغيره، ولا تليق دعوى القَطْع هنا، وذلك من جهة اللَّفظ.

وهذا في الحقيقة نزاع في أن اسم الفراش هل هو موضوع للحرة والأمة الموطوءة أو للحرة فقط؟.

فالحنفية يدعون الثَّاني، فلا عموم عندهم له في الأَمة، فتخرج المسألة من باب أن العبرة بعموم اللفظ، أو بخصوص السّبب.

نعم: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد: "هُوَ لَكَ يَا عَبْد، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ" بهذا التركيب يقتضى أنه ألحقه به على حكم السبب، فيلزم أن يكون مرادًا من قوله:"الفِرَاش".

(1)

قال: ولا يقال: إِنَّ الكلام إِنما هو حيث يتحقّق دخوله في اللَّفظ العام وضعًا؛ لأنا نقول: قد يتوّهم أن كون اللَّفظ جوابًا لسؤال يقتضي دخوله، فأردنا أن ننبه على أن الأمْر ليس كذلك، والمقطوع به أنه لا بد من بيان حكم السّبب.

وأما خصوص دخوله أو خروجه فلا.

"الثَّالثة"

جميع ما تقدم في السّبب، وبقية الأفراد الَّتي دلّ اللفظ العام بالوضع عليها، وبين ذينك السَّببين من رُتْبة متوسّطة، فنقول: قد تنزل الآيات على الأسباب الخاصّة، وتوضع كلّ واحدة منها مع ما يناسبها من الآي؛ رِعَايَةً لنظم القرآن وحسن اتِّسَاقه، فذلك الذي وضعت معه الآيةُ النازلة على سبب خاصّ للمناسبة، إِذا كان مسوقًا لما نزل في معنى يدخل تحت ذلك اللفظ العام، أو كان من جملة الأفراد الداخلة وضعًا تحت اللفظ العام، فدلالة اللفظ عليه قوية.

ويحتمل أن يقال: قطعية، ويجعل كالسَّبب، فلا يخرج بالاجتهاد.

(1)

في حاشية ج: قوله: يقتصي أنه ألحقه

إِلخ قد يقال: - إِن معناه أنه لك ملكًا؛ لأنه ابن وليدة زمعة، وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد، ولم يقربه زمعة ولا شهد عليه، فلم يبق إِلا أنه عبد تبعًا لأمه، كما قاله ابن جرير.

وقوله: "الولد للفراش" أي الولد الذي ينسب لأبيه هو الذي يكون للفراش، أي: الزوجة الحرة.

ص: 133

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويحتمل أن يقال: إِنه لا ينتهي في القوة إِلى ذلك؛ لأنه قد يراد غيره، وتكون المناسبة لشبهه به.

والحق أنه رتبة متوسطة دون السَّبب وفوق العموم المجرد.

ومثاله قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء: الآية 58]؛ فإِن مناسبتها للآية الَّتي قبلها وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [سورة النساء: الآية 51] أن ذلك إِشارة إِلى كعب بن الأشرف

(1)

، كان قدم "مكة" وشاهد قتلى "بدر" وحرَّض الكُفَّار على الأخذ بثأرهم، وغزو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه: من أهدى سبيلًا النبيّ صلى الله عليه وسلم أو هم؟ فقال: أنتم؛ كَذِبًا منه وضلالة، فتلك الآية في حقه وحق من يشاركه في تلك المَقَالَةِ، وهم أهل كتاب يجدون في كتابهم نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وصفته، وقد أُخِذَتْ عليهم المواثيق ألَّا يكتموا ذلك، وأن ينصروه، وكانت أمانةً لازمةً لهم، فلم يؤدّوها، وخانوا فيها، وذلك مناسب لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء: الآية 58].

"الرابعة"

سأل - أبي رضي الله عنه عن قولهم: "إِنّ السبب داخل قَطْعًا"، أنه قبل نزول الآية،

والحكم إِنما يثبت من حين نزول الآية، فكيف يَنْعَطِفُ على ما مضى؟.

وقد أجمعت الأمة على أنّ أوس بن الصَّامت شمله الظهار، وأمثاله من الأسباب، وهذا إِشكال يجري في كلّ وارد على سبب.

(1)

كعب بن الأشرف الطائي، من بني نبهان، شاعر جاهلي. كانت أمه من "بني النضير" فدان باليهودية. وكان سيدًا من أخواله. أدرك الإِسلام ولم يسلم، وأكثر من هجوم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتحريض القبائل عليهم وايذائهم، والتشبيب بنسائهم، وخرج إِلى مكة بعد وقعة "بدر" فندب قتلى قريش فيها، وحض على الأخذ بثأرهم، وعاد إِلى المدينة. وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله، فانطلق إِليه خمسة من الأنصار فقتلوه في ظاهر حصنه سنة 3 هـ. وحملوا رأسه في مخلاة إِلى المدينة، ينظر: الروض الأنف 2/ 123، وإِمتاع الأسماع 1/ 107، وابن الأثير 2/ 53، والطبري 3/ 2، والأعلام 5/ 225.

ص: 134

مَسْأَلَةٌ:

الْمُشْتَرَكُ يَصِحُّ إِطْلاقُهُ عَلَى مَعْنَيَيْهِ مَجَازًا لا حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ مَدْلُولا الْحَقِيقَةِ؛ وَالْمَجازِ.

وَعنِ الْقَاضِي وَالْمُعْتَزِلَةِ: يَصِحُّ حَقِيقَةً؛ إِنْ صَحَّ الْجَمْعُ.

ويخص آية الظهار واللعان إِشكال آخر، وهو أن "الذين" في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [سورة المجادلة: الآية 3] مبتدأ، وخبره "فتحرير" أي [أو]

(1)

: فكفارتهم تحرير، وجاز حذف ذلك لدلالة الكلام عليه، وجاز دخول الفاء في الخبر؛ لتضمّن المبتدأ معنى الشرط، وتضمّن الخبر معنى الجزاء، فإِذا أريد التَّنصيص على أن الخبر مستحقّ بالصلة، دخلت الفاء حتمًا للدلالة على ذلك، وإِذا لم تدخل احتمل أن يكون مستحقًّا به، أو بغيره، كما لو قيل: الذين يظاهرون عليهم تحرير رقبة، وإِن كنا نقول: إِنَّ ترتيب الحكم على الوصف مشعرٌ بالعلّية، ولكن ليس بنصّ، ودخول الفاء نص.

وإِذا عرفت هذا، فالآية لا تشمل إِلَّا من وُجِد منه الظِّهَار بعد نزولها؛ لأن معنى الشرط مستقبل، فلا يدخل فيه الماضي، وقد أوجب النبيّ صلى الله عليه وسلم الكَفَّارة على أوس بن الصَّامت، وذلك لا شَكّ فيه من جهة أنه السَّبب، إِلا أن هذا الإِشكال يَعْتَوره.

ثم أجاب عنه فقال: أما إِثبات أحكام هذه الآيات لمن وجد منه السَّبب قبل نزولها، فنقول: إِن السرقة والزنا ونحوهما من الأفعال الَّتي كانت معلومة التحريم عندهم، ووجوب الحَدّ فيها لا يتوّقف على العلم، والفاعل لها قبل نزول الآية إِذا كان هو السَّبب في نزولها في حكم المُقَارن لها؛ لأنها نزلت مثبتة لحكمه، فلذلك ثبتت حكمها فيه دون غيره ممن تقدمه.

وأما دخول "الفاء" في الخبر فيستدعى العُمُوم في كلّ من يتظهر من امرأته مثلًا، وذلك يشمل الحاضر والمستقبل، وسبب النُّزول حاضر، أو في حكم الحاضر، وأما دلالة الفاء على الاختصاص بالمستقبل، فقد يمنع.

"مسألة"

الشرح: معروفة بالشَّافعية: "المشترك يصح إِطلاقه على" كُلّ واحد من "معنييه" بمفرده، وذلك حقيقة بلا نظر؛ لأنه لفظ مستعمل فيما وضع له أولًا.

(1)

سقط في ج.

ص: 135

وَعَنِ الشَّافِعِيِّ -: رحمه الله ظَاهِرٌ فِيهِمَا؛ عِنْدَ تَجَرُّدِ الْقَرَائِنِ كَالْعَامِّ.

وأما إِطلاقه على معنييه معًا فصحيح، لكن "مجازًا لا حقيقة"، وبه قال إِمام الحرمين "وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز" كآية المُلامَسَةِ، ومنعه القاضي

(1)

.

وكذا المجازان معًا.

"وعن القاضي والمعتزلة: يصح" إِطْلاق المشترك على معنييه "حقيقة إِن صحّ الجمع" بينهما، سواء أكان جمعًا في أصل الفعل، وإِن لم يصحّ اجتماعهما بأنفسهما، كما لو قال: اعتدى بالقُرْء، وأراد مجموع الطُّهر والحَيْض، أو جمعًا فيه مع صحة الاجتماع كما لو قال: انظر العين، وأراد الشمس والذهب، لا إِن لم يصح، كاستعمال صيغة "افعل" مرادًا بها الأمر والتهديد.

ولقائل أن يقول: لا حاجة إِلى قوله: إِن صَحّ الجمع فإِنّ الكلام إِنما هو حيث صَحّ.

الشرح: "وعن الشَّافعي: ظاهر فيهما عند تجرُّد القرائن"، فيحمل عليها، ثُمَّ اختلف عليه، فطريقة الإِمام أنه إِنما حمله عليهما احتياطًا.

وطريقة إِمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، والمصنّف أنه عنده "كالعام" أي: حكمًا، وإِلا فليس هو نفس العام؛ فإِنَّ العام غير مختلف الحقيقة، وهذا مختلف الحقيقة، والعامّ يحمل على جميع الأفراد، بخلاف هذا، وإِنما شابه العَامّ من حيث شموله متعدّدًا، وأنه يحمل على النَّوعين، كما إِذا قال: ائتنى بعين، يحمل على البَاصِرَةِ والجارية إِذا لم تقم قرينة تدلّ على التعيين، ولا تعم أفراد النوعين، فافهم ذلك.

فإِن قلت: ثم يتفصّل مذهب الشَّافعي رأى القاضي.

قلت: القاضي يقول: إِنه يصحّ إِطلاقه على كلّ منهما على حدته حقيقة، وعلى مجموعهما كذلك، ويقول: إِن الوضع لكلّ منهما يفيد ذلك، والشَّافعي يقول ذلك، ثم يزيد فيقول: وإذا تجرّد عن القرائن كان في المجموع أظهر، فحينئذ المشترك بلا قرينةٍ عند القاضي مجمل، عند الشَّافعي ظاهر في الجميع على ما نقل المصنّف؛ ولذلك ذكره في باب العموم، وعلى ما نقل غيره عندهما مجمل، ولكن يزيد الشَّافعي بأن يحمل على معنييه

(1)

تقدم الكلام على المشترك.

ص: 136

أَبُو الْحُسَيْنِ وَالْغَزَّالِيُّ: يَصِحُّ أَنْ يُرَادَا، لا أَنّهُ لُغَةٌ.

وَقِيلَ: لا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَا.

وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي النَّفْي لا الإِثْبَاتِ، وَالأَكْثَرُ: أَنَّ جَمْعَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْهِ - مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ.

لَنَا فِي الْمُشْتَركِ: أَنَّهُ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا، كَانَ مَجَازًا.

احتياطًا، ونقل عن القاضي أيضًا.

قلت: وتظهر فائدة التردّد في كونه مجملًا، أو عامًا فيما إِذا وقف على مواليه، وليس له موالٍ إِلَّا من أعلى أو من أسفل.

قال الرافعي: فالوقف عليه.

قال الشيخ الإِمام الوالد رحمه الله: هذا إِن جعلناه مجملًا؛ فإِن انحصار الأمر في إِحدى الجهتين يكون قرينةً.

وأما إِن قلنا: إِنه عام أو كالعام، فإِذا حدث له يعد ذلك موالٍ من الجهة الأخرى يدخلون في الوَقْفِ، كما لو وقف على أولاده، وله أولاد، ثم حدث آخر يشاركهم.

الشرح: وقال "أبو الحسين، والغزالي"، والإِمام:"يصح أن يراد" من اللَّفظ المشترك، وذي الحقيقة والمجاز - المعنيان "لا أنه لغة"؛ فإِن اللّغة مانعة منه.

والحاصل: أنهما يقولان: العَقلُ لا يمنعه، وإِنما اللُّغة تمنعه.

وقيل: بل "لا يصح

(1)

أن يرادا".

"وقيل: يجوز في النَّفي لا الإِثبات، والأكثر: أن جمعه باعتبار معنييه"، مثل:

(1)

في حاشية ج: قوله: لا يصح أن يراد؛ لأنه لو صح لهما معًا لكان حقيقة، وإِلا كان مستعملًا في غير ما وضع له، وهو خلاف المفروض، ولو كان حقيقة لهما لكان مريدًا أحدهما خاصة غير مريد له خاصة، وأنه محال. بيان الملازمة أن له حينئذٍ ثلاثة معاني: هذا وحده، وهذا وحده، وهما معًا، والمفروض استعماله في جميع معانيه؛ فيكون مريدًا لهذا وحده ولهذا وحده ولهما معًا، وكونه مريدًا لهما معًا معناه ألا يريد هذا وحده وهذا وحده، فيلزم من حيث إِرادتهما بدلًا الاكتفاء بكلّ واحد منهما، ومن حيث إِرادة المجموع عدم الاكتفاء بأحدهما وإِرادتهما مجتمعين. عضد، وسيبينه الشرح مع دفعه.

ص: 137

النَّافِي لِلصِّحَّةِ: لَوْ كَانَ الْمَجْمُوعُ حَقِيقَةً لَكَانَ مُريدًا أَحَدَهُمَاخَاصَّةً غَيْرَ مُرِيدٍ؛ وَهُوَ مُحَالٌ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمَدْلُولانِ مَعًا لا بَقَاؤُهُ لِكُلٍّ مُفْرَدًا.

وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فَاسْتِعْمَالُهُ لَهُمَا اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَهُوَ مَعْنَى الْمَجَازِ لِكُلٍّ مُفْرَدًا.

"عيون" إِذا أراد بها "الباصرة"، والشمس والذهب والجارية، "مبنى عليه"، أي: على الخلاف في المفرد، فإِن جاز سَاغَ، وإِلا فلا.

وقيل: بل يجوز وإِن لم يجز المفرد.

"لنا: في "صحة إِطلاق "المشترك" مجازًا: "أنه يسبق" إِلى الفهم عند الإِطلاق "أحدهما" على البَدَلِ دون الجمع، وهو علامة الحقيقة، "فإِذا أطلق عليهما كان مجازًا".

ولقائل أن يقول: ليس عدم سَبْق الفهم عَلامَةَ المجاز حتى يلزم كونه مجازًا، وأيضًا: لا نسلم أن الفهم لا يسبق إِليهما جميعًا.

سلّمنا ولكن هذا إِن ثبت كونه مجازًا، فلا يبقى وجوب الحَمْلِ عليهما بالاحتياط.

وأيضًا: يلزم كون العَيْن مجازًا، وقد فرَّ المصنّف منه في أوائل الكتاب.

الشرح: قوله: "النَّافي للصّحة: لو كان المجموع حقيقة لكان مريدًا أحدهما خاصة غير مريد؛ وهو محال".

ظاهره يشعر بأنه دليل لمن ذهب مذهب المصنّف من نفي الحقيقة بقوله: لو كان المجموع حقيقةً، ولكن ليس مراده سيدفعه، ونحن نقرره تقريرًا يأتي بالمراد، ولا ينافي اللفظ فنقول:

احتجَّ من نفي الصِّحة لمعنييه مطلقًا، وقال: كما لا يجوز أن يراد بـ "المؤمنين" المؤمنون والمشركون، لا يصح إِرادة المعنيين باللفظ المشترك بأن إِرادة كلّ واحدة منهما، مستلزمة لعدم إِرادة الآخر، فيلزم كونهما مرادين غير مرادين؛ وهو محال.

وبيان ذلك: أنه لو صَحّ إِطلاقه لهما لكان بالحقيقة؛ لأن الأصل في الإِطلاق الحقيقة، ولأنه لا مانع إِلَّا التناقض المحال، ونسبته إِلى الحقيقة والمجاز واحدة، فإِذا لم يمنع كون اللفظ مجازًا لم يمنع كونه حقيقة، ولو كان حقيقة لكان مريدًا أحدهما خاصّة غير

ص: 138

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مريد له خاصّة؛ لأنه يكون والحالة هذه موضوعًا للمعنيين معًا، ولكل منهما بمفرده، وإِذا كان موضوعًا لكل منهما بِقَيْدِ الوحدة. لزم ذلك؛ لأن من استعمله بالمجموع فقد أراد كلًّا منهما، وإِرادة كلّ منهما بحسب الوضع، والوضع للوحدة، وإِرادة الوحدة وأن لا وحدة متناقض.

وهذا تطويل من المصنّف، ولا حاجة به إِلى توسّط الحقيقة، فلو قال:"لو صحّ الإِطلاق، سواء أكان بالحقيقة أو المجاز، لزم كونه مريدًا أحدهما غير مريد" حصل على المراد.

"وأجيب: بأن المراد المدلولان معًا"؛ إِذ اللَّفْظ ليس موضوعًا للمفردين على البدل، بحيث إِذا أريد أحدهما لم تصح إِرادة الآخر، "لا" أن المراد "بقاؤه" أي: بقاء اللَّفظ المشترك "لكل" من المعنيين في حال كونه "مفردًا" خاصًّا به، وكذا وقع:"مفردًا" بخط المصنّف.

والحاصل: أن من أحال إِرادة المعنيين باللَّفظ الواحد زعمه موضوعًا لكل منهما على البدل، فلزم عنده من كونهما مرادين كونهما غير مرادين.

ومن جوَّزه قال: هو موضوع لكلّ منهما لا بِقَيْد، والإِفراد وعدمه قَيْدٌ للاستعمال لا للمستعمل فيه، فيتواردان على الاستعمال، والمعنى المستعمل فيه بحاله، فالعين مثلًا موضوعة للباصرة مع قطع

(1)

النظر عن الجارية، وللجارية مع قطع النَّظر عن الباصرة، ولفظها تارة يستعمل في هذا من غير استعمال في الآخر، وتارة مع استعماله فيه، والواضع وضع اللَّفظ للمعنى المستعمل فيه في الحالين؛ فظهر صحّته، وأنه حقيقة كما هو رأي ذي اللُّغة [الفصحى]

(2)

محمد بن إِدريس رضي الله عنه.

"وأما الحقيقة والمجاز فاستعماله" أي اللَّفظ المشترك "لهما استعمال" له "في غير ما وضع له أولًا، وهو معنى المجاز"؛ إِذ هو لم يوضع أولًا إِلا للحقيقة فقط، فدلّ على أن استعماله لهما مجاز، وأنه [سائغ]

(3)

.

(1)

في حاشية ج: قوله: مع قطع النظر

إِلخ إِذ قد يكون الواضع لأحد المعنيين غير الآخر ولا يعلمه.

(2)

في أ، ج: الفصحاء.

(3)

في أ، ج: شائع.

ص: 139

النَّافِي لِلصِّحَّةِ: لَوْ صحَّ لَهُمَا لَكَانَ مُرِيدًا مَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا غَيْرَ مُرِيدٍ؛ وَهُوَ مُحَالٌ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ مُرِيدٌ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا وَثَانِيًا بِوَضْعٍ مَجَازِيٍّ.

الشَّافِعِيُّ رحمه الله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ ...........

وأنا لا أحفظ أحدًا قال: إِن استعماله لهما حقيقة، بل النَّاس بين مانع لذلك، ومجوِّز له على سبيل المجاز.

وقد يقال: إِذا استعملت اللَّفظة في حقيقتها ومجازها، فهي حقيقة

(1)

ومجاز بالاعتبارين، وهذا ما يظهر عند التَّحقيق، ويجري على أسلوب الشَّافعي رضي الله عنه وهو قضية كلام ابن السَّمْعَاني وغيره من المُحَقِّقين.

وفي بعض النسخ: "وأما الحقيقة والمجاز فلنا" أي على صحته مجازًا "قوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل: الآية 65] ". وهذا ليس في نسخة المصنّف.

الشرح: واحتج "النَّافي للصحّة" صحّة إِطلاق اللَّفظ وإِرادة حقيقته ومجازه بأنه "لو صح لهما لكان" المستعمل "مريدًا" بالصيغة "ما وضعت له أولًا" من حيث إِرادة الحقيقة "غير مريدٍ" له من حيث إِرادة المجاز؛ "وهو محال".

"وأجيب: بأنه مريد ما وضع له أولًا وثانيًا بوضعٍ مجازي"؛ إِذ هو قد أراد المجموع والموضوع أولًا بعضه، فلم يلزم كونه غير مريد.

وأشار بقوله: "بوضع مجازي" إِلى مذهبه في أنّ الملفظ المراد به مجموع الحقيقة والمجاز مجاز، والمختار عندنا ماعرفت من أنه حقيقة ومجاز باعتبارين.

الشرح: واحتجّ "الشَّافعي"، رضي الله عنه على ظهور المشترك في معنييه بآيتين:

إِحداهما: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ

(1)

في حاشية ج: قوله: فهي حقيقة ومجاز باعتبارين، إِذ كلّ واحد منهما مراد منها على حدته؛ وهي موضوعة لواجب دون الآخر، فلا وجه لكونها مجازًا فيهما إِذ لم يرد المجموع.

ص: 140

السَّمَاوَاتِ} [سورة الحج: الآية 18]، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ [عَلَى النَّبِيِّ} [سورة الأحزاب: الآية 56]، وَهِيَ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ، وَمِنَ الْمَلائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ السُّجُودَ: الْخُضُوع، وَالصَّلاةَ: الاِعْتِنَاءُ بِإِظْهَارِ الشَّرَفِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ خَبَرٍ أَوْ فِعْلٍ حُذِفَ لِدَلالَةِ مَا يُقَارِنُه، أَوْ بِأَنَّهُ مَجَازٌ بِمَا تَقَدَّمَ.

وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [سورة الحج: الآية 18].

أسند السجود إِلى من ذكره، وهو مشترك بين وضع الجَبْهة والخضوع، وأراد بسجود النَّاس وضع الجَبْهَة، وبسجود غيرهم الخضوع.

والثانية: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [سورة الأحزاب: الآية 56]، "وهي من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار"، وهما - أعني الرحمة والاستغفار - مفهومان متغايران، وقد أطلق عليهما اللَّفظ الواحد دفعة واحدة.

وقد وقع في هذا المختصر كما ترى: أن الصلاة من الله تعالى الرحمة، وكذلك وقع في غيره.

والصحيح أنه منه - تعالى - مغفرة، وهي في اللُّغة: الدعاء، وهو مُحَال في حقّه - تعالى - فحملت على المغفرة، ولا يمكن حملها على الرحمة؛ لأن الله - تعالى - قال:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [سورة البقرة: الآية 157].

وعَطْفُ الرحمةِ على الصلاة صريح في تغايرهما؛ ولأن الرحمة رقّة القلب، وهي مستحيلة في حقه - تعالى - أيضًا، فمن فسَّر الصلاة بـ "الرحمة" فرارًا من تفسيرها بالدعاء كان كمن فَسَّر قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه: الآية 5]، بـ "جلس"، فإِنه فَسَّر ما ظاهره محال بالمحال.

"وأجيب: بأن السُّجود: الخضوع"، وهو مشترك بين الجميع، "والصَّلاة: الاعتناء بإِظهار الشرف" شرف النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان متواطئًا لا مشتركًا، فهذا جواب.

"أو بتقدير خبر" في الآية الثَّانية تقديره: إِن الله يصلي وملائكته يصلون، "أو "تقدير "فعل" في الآية الأولى تقديره: ويسجد له من في الأرض، ويسجد له الجبال، وهكذا، وعلى هذا فاللَّفظ مكرر، وقد أريد به في كلّ مرة معنى، فاين اللَّفظ الواحد المستعمل في معنيين؟

ص: 141

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإِن قلت: كيف حُذِفَ الخبر والفعل؟

قلت: "حُذِفَ لدلالة ما يقارنه" عليه، وهو قوله:"يسجد له من في السماوات" في الأولى، و"ملائكته يصلون" في الثَّانية.

"أو" نجيب "بأنه" أي: إِطلاق السجود على هذه الأشياء، والصلاة على الصلاة الرب - تعالى - وملائكته.

وإِن ثبت استعماله، فلا يتعيّن كونه حقيقة، بل هو "مجاز" وإِن كان خلاف الأصل "بما ذكرناه" من الدليل، فهذه ثلاثة أجوبة.

ولقائل أن يقول على الأول: السجود بمعنى الخضوع لا يختصّ بكثير من الناس، بل يشملهم؛ إِذ الكُلّ خاضعون بلسان الحال.

وأيضًا: فالمتبادر إِلى الفَهْمِ من سجود الناس وضع الجَبْهَةِ.

وأيضًا: لو كان بمعنى الخضوع، لزم التكرار في قوله:{وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [سورة الحج: الآية 18] لدخولهم في {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} وأيضًا: فهو تعالى قال: {أَلَمْ تَرَ} [سورة الحج: الآية 18]، والمرئي حقيقة إِنما هو وَضْع الجبهة.

لا يقال: فما تصنعون في الذين لا يصحّ منهم وضع الجَبْهة؟؛ لأنا نقول: رؤية أولئك قلبية معنوية، لعدم تأتيِّ ذلك منهم، ولا كذلك كثير من النَّاس.

الثَّاني: وضع الجَبْهَةِ منهم.

فإِن حملنا المجاز لذلك في الرؤية بالنسبة إِلى أولئك، فما الدَّاعي إِليه في كثير من النَّاس إِذا تَمَّ لنا هذا؟

قلنا: قد أراد بالرؤية في قوله: {أَلَمْ تَرَ} الرؤيتين جميعًا، وهو استعمال اللَّفظ في محمليه، فهو دليل آخر، وقولكم:"الصلاة: الاعتناء بإِظهار الشرف" حمل اللَّفظ على خلاف ما يتبادر إِلى الذِّهْن منه، وخلاف موضوعه.

وعلى الثَّاني: أن تقدير الخبر والفعل لا يُصِّيرُهُ موجودًا، والموجود لفظ واحد؛ وهو المطلوب.

وعلى الثالث: أنه لا داعي إِلى حمله على المَجَازِ، وما زعمتموه دليلًا لا دليل فيه.

ص: 142

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإِن قلت: الصَّلاة حقيقة: الدعاء، وإِطلاقها على المغفرة أو الرحمة مجاز، وعلى الاستغفار حقيقة، فالموجود في الآية استعمال اللَّفظ في حقيقته ومجازه لا في حقيقته.

قلت: إِذا صَحّ استعماله في حقيقته ومجازه صَحّ في حقيقته بطريقٍ أولى؛ فإِنّ كلّ ومن جوّز الأول جوّز الثَّاني، ولا عكس.

"فوائد"

الأولى: الخلاف في استعمال اللَّفظ في مجازيه

مثل أن يقول: والله لا أشتري، ويريد السّوم وشراء الوكيل، كالخلاف في استعماله في حقيقته ومجازه، وفي حقيقته.

والقاضي أبو بكر يجوز استعمال اللَّفظ في حقيقته دون حقيقة ومجاز، كما أسلفناه، ولا يصح له فرق.

والشَّافعي رحمه الله جرى على مِنْوَالٍ واحد، فجوّز الكلّ، وحمله عند الإِطلاق على الكلّ.

قال إِمام الحرمين: وهذا يعني حمل اللَّفظ على حقيقته ومجازه، كحمله على حقيقته، وظاهر في اختيار الشَّافعي، فإِنه قال في معارضة له جرت في قوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [سورة النساء: الآية 43]. وقيل له: قد يراد بالمُلامسة المُوَاقعة، قال: فهي محمولة على الجسّ باليد حقيقة، وعلى الوقاع مجازًا.

قلت: وقد نصّ في "الأم" عند الكلام فيما إِذا عقد لرجلين على امرأة، ولم يعلم السَّابق منهما على حمل اللَّفظ على حقيقته ومجازه، كما نقل ابن الرِّفْعَةِ.

"الثَّانية"

الخلاف في الحمل على الحقيقة والمجاز

إِنما هو فيما إِذا ظهر قَصْد المَجَاز بقرينة مع السكوت عن الحقيقة، أو قصدهما معًا.

أما إِذا قصد الحقيقة فقط، فالحمل عليها فقط بلا نزاع، أو المجاز فقط اختص به بلا نزاع.

كذا كان أبي رحمه الله يقول، وكنت أسمعه يقول: إِذا لم يظهر قَصْد، فلا مدخل للحمل على المَجَازِ؛ فإِنَّ اللَّفظ إِنما يحمل على مجازه بقرينة، ويؤيد هذا أمران:

ص: 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أحدهما: قول الأَصْحاب فيما إِذا قال: "وقفت على أولادي" ونظائره، أنه لا يدخل أولاد الأولاد على الصحيح.

ونظيره: لو أوصى لإِخوة فلان، وكانوا ذكورًا وإِناثًا إِخوة وأخوات.

قال الإِمام في "باب الوصية" من "النهاية": فمذهب أبي حنيفة، وظاهر مذهب الشَّافعي أنه يختصّ بالوصية للإِخوة دون الأخوات.

وقال أبو يوسف ومحمد

(1)

: للجميع.

والثَّاني: قول ابن السَّمعاني في "القَوَاطع": اللَّفظ للواحد يجوز أن يحمل على الحقيقة والمجاز إِذا تساويا في الاستعمال، لكن إِذا عرى عن عرف الاستعمال لم يجز أن يحمل على المجاز إِلَّا أن يقوم الدَّليل على أنه يراد به، وقيام الدلالة على إِرادة المجاز لا ينفى عن اللَّفْظ إِرادة الحقيقة. انتهى.

وقد أفاد حالة أخرى، وهي ما إِذا تساويا في الاستعمال، بأن يكثر المجاز كثرة توازي الحقيقة، فيتساويان فَهْمًا عند الإِطلاق.

وأنا أقول: قد يقول من يجعل الحمل من باب الاحتياط فيما إِذا لم يظهر قصد أنه يحمل عليهما، ولكنه بعيد، وقضيته أنه حيث ورد لفظ ولا قرينة فيه دافعة للمجاز أنه يحمل عليه كما يحمل على الحقيقة.

والحق: أن المجاز مدفوع ما لم تَقُمْ عليه؛ قرينة، أو يكون مشتهرًا شهرة يساوي بها الحقيقة، فهناك يحمل عليه إِما لاحتياط أو لغير ذلك، فإِذن الصور أربع:

(1)

محمد بن الحسن بن فرقد، من موالي بني شيبان، أبو عبد الله. ولد بـ "واسط" سنة 131 هـ. إِمام بالفقه والأصول، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة، وغلب عليه مذهبه وعُرف به، وانتقل إِلى "بغداد" فولاه الرشيد بالقضاء بـ "الرقة" ثم عزله. قال الشَّافعي:"لو أشأ أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت؛ لفصاحته". ونعته الخطيب البغدادي بإِمام أهل الرأي. من كتبه: "المبسوط" و "الجامع الكبير" و"الجامع الصغير" و"الآثار" و"السير" و"الزيادات". توفي في "الري" سنة 189 هـ. ينظر: البداية والنهاية 10/ 202، والوفيات 1/ 453، ولسان الميزان 5/ 121، والنجوم الزاهرة 2/ 130، وتاريخ بغداد 2/ 172، والأعلام 6/ 80.

ص: 144

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إِحداها: أن تدلّ القرينة على إِرادة المجاز مع السكوت عن الحقيقة، وهي من محل الخلاف.

والثَّانية: أن تدلّ على إِرادتهما جميعًا، وهي أيضًا من محلّ الخلاف، والمانع هنا طائفتان: طائفة تقول: ذلك مجاز، وأخرى تقول: يصح، لكنه ليس بلغة كما عرفت.

الثَّالثة: ألَّا تكون قرينة، ولكن للمجاز شهرة وازي بها الحقيقة، وهي من محلّ الخلاف أيضًا، ومذهبنا في الكُلّ الحمل على الحقيقة والمجاز.

والرابعة: حالة الإِطلاق مع عدم شهرة المجاز

(1)

، ولا خلاف أنه لا يحمل فيها على المجاز؛ لما ذكرناه من أن المجاز مدفوع ما لم يدلّ عليه دليل، وإِن [أوهم]

(2)

كلام بعضهم أنه من محلّ الخلاف؛ فلا نعتبره، وهذا فصل نفيس فاحفظه.

"الفائدة‌

‌ الثَّالثة"

قد علمت نقل النَّقلة عن الشَّافعي أن اللَّفظ يستعمل في معنييه،

ويحمل عند الإِطلاق عليهما إِذا كان اللَّفْظ مشتركًا، وإِن كان حقيقة مجازًا حمل في الحالات الثَّلاث الَّتي عرفناكها، فتنفصل الحقيقة والمجاز عن المشترك عند الشَّافعي حالة الإِطلاق فإِنَّ المشترك محمولٌ علي معنييه، والحقيقة والمجاز لا يحمل اللَّفظ عليهما إِلَّا إِذا ساوى المَجَاز الحقيقة لشهرة أو نحوها كما تقدم، وهذا ما تحصل من كلام النقلة.

وقال الرَّافعي في "باب [التَّدبير] "

(3)

: الأشبه أن اللَّفظ المشترك لا يراد به جميع معانيه، ولا يحمل عند الإِطلاق على جميعها.

قال في "باب الوصية" في "مسألة الوصاية بالعود" في المسألة - يعني مسألة حمل المشترك -: نظر الأصوليين، فلم يرجّح الرَّافعي حمل المشترك على معنييه، بل قال: الأشبه خلافه كما رأيت، وحكى المَاوَرْدِيّ الخلاف فيه أوجهًا لأصحابنا:

(1)

في حاشية ج: قف على أن اللَّفظ يراد منه المعنى المجازي بدون قرينة للشهرة، لكن مع المعنى الحقيقي أمَّا إِرادته وحده لذلك فلم يذكروه.

(2)

في أ، ج: أفهم.

(3)

في ب: التدبر.

ص: 145

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثالثها: التفرقة بين الجَمْع والسَّلْبِ. ذكره في "الأشربة".

والصحيح: أن الرَّاجح من مذهب الشَّافعي الحمل على المعنيين، كما ذكر النقلة، فلا يعتبر بكلام الرافعي.

"الرابعة"

نظير الخلاف في المسألة فيما إِذا وقف على مواليه،

وله موالٍ من أعلى، وموالٍ من أسفل، والصحيح فيه أنه يقسَّم بينهم.

وإِذا قال لعبده: إِن رأيت عينًا فأنت حر، ولم يَنْوِ شيئًا.

قال الإِمام في "النهاية"، ونقله عنه الرافعي: فهل يعتق إِذا رأى شيئًا منها؟ فيه تردد.

قال: والعود مشتركٌ بين الخشب، والذي يضرب به، والذي يتبخّر به، فهل يحمل على الجميع؟ بناه الرافعي على الخلاف الأصولي.

"الخامسة"

القُرْءُ على الصَّحيح مشترك بين الطّهر والحيض،

ولو قال: أنت طالق في كلّ قُرْء طلقة، طلّقت في كلّ طهر طلقة.

وقد قال: لم لا طلقت في الطهر واحدة، وفي الحيض أخرى حملًا للمشترك على معنييه؟

وجوابه عندي: أن الظَّاهر من المطلِّق إِيقاع ما يحلّ لا ما يحرم، والطَّلاق في الحيض حرامٌ، فحمل كلامه على الطُّهر؛ لأنه الذي يجوز إِيقاع الطلاق فيه، وكان ظهور الحال قرينة في تعيين أحد المحملين.

وأيضًا: فقد غلب استعمال الطهر.

"السادسة"

نقض ابن السَّمْعَاني على الحنفية

أصلهم في منع حمل الَّلفْظ على حقيقته ومجازه بقولهم: لو حلف لا يضع قدمه في الدَّار، فدخل راكبًا، أو ماشيًا حَنِثَ، فقال:

فقد تناول اللَّفْظ الحقيقة والمجاز.

ص: 146

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال: وكذا قالوا: لو قال: اليوم الذي يدخل فلان الدار فعبده حر، فدخل ليلًا أو نهارًا حَنِثَ.

وقالوا في "السّير الكبير

(1)

": لو أخذ الأمان لِبَنِيهِ، دخل بنوه وبنو بنيه.

قلت: والذي يظهر من مذهبنا في المسألة الأولى أنه لا يَحْنَثُ لا لأنا لا نجمع بين الحقيقة والمجاز؛ بل لأنه لا قرينة على إِرادة، ولا شُهْرَة، فكان خارجًا عن محلّ الخلاف، كما عرفت، وإِن فرضت شُهْرة حنث من أجلها.

وفي الثَّانية: موافقتهم؛ لأنه نقل الرَّافعي عن "التتمة" لو قال: أنت طالق اليوم، طلقت في الحال، وإِن كان بالَّليل، ويلغو اليوم؛ لأنه لم يعلق، وإِنما سمى الوقت بغير اسمه.

وفي الثالثة: عدم الدّخول كما في الوقف على الأولاد.

وقد يقال: هم في الزمان أولى بالدخول منهم في الوَقْفِ؛ لقوة الاستتباع في الأمان، ولذلك لو قال: أَمَّنتك، تعدَّى إِلى ما معه من أهل ومال على وجهٍ، مع أن لفظه لا يصدق عليهما لا بالحقيقة ولا بالمَجَازِ.

قال الرَّافعيُّ: وفي "البحر" تفصيل حسن حكاه، أو بعضه عن "الحاوي"، وهو أنه إِن أطلق الأَمان، دخل فيه ما لبسه من ثياب، ولا يستعمل في حرفته من الأب، وما ينقصه في مدة الأمان؛ للعرف الجاري بذلك، ومركوبه إِن كان لا يستغنى عنه، ولا يدخل غير ذلك.

قلت: ولا يدخل شيء من ذلك في نظيره من الوَقْفِ والبيع.

وصحح النووي أنه لا يدخل ثياب العبد في بيعه.

"مسألة"

معروفة بالحنفية، حاصلها: أنهم ادعوا تعميمًا لبعض الأشياء،

وهو المساواة من غير لفظ عموم؛ لأنهم قالوا به في جانب الإِثبات مع انتفاء صيغ الاستغراق، كما ادّعت الشَّافعية تعميم لفظ الاشتراك من غير لفظ عموم كما نقل المصنّف، وهذا هو السِّر في وضعه

(1)

ينظر: السير (1/ 313).

ص: 147

مَسْأَلَةٌ:

نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ مِثْلُ: {لَا يَسْتَوِي} [سورة الحشر: الآية 20]- يَقْتَضِي الْعُمُومَ كَغَيْرِهَا.

أَبُو حنِيفَةَ رحمه الله: لا يَقْتَضيه.

لَنَا: نَفْيٌ عَلَى نَكِرَةٍ؛ كَغَيْرِهَا.

قَالُوا: الْمُسَاوَاةُ مُطْلقًا أَعَمُّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بِوَجْهٍ خَاصٍّ؛ وَالْأَعَمُّ لا يُشْعِرُ بِالْأَخَصِّ.

المسألتين في باب العموم، وفي جعل إِحداهما تلو الأخرى؛ لاشتراك الطَّائفتين عنده في دعوى العُمُومِ في جانب الإِثيات من مادّة الكلام لا من صيغه.

"مسألة"

الشرح: إِذا عرفت هذا جئنا إِلى تقرير المسألة فنقول

(1)

: "نفي المُسَاواة" بين شيئين "مثل" قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [سورة الحشر: الآية 20]. "يقتضي العموم" فينفي به جميع وجوه المساواة "كغيرها" من الأفعال؛ فإِن نفيه يقتضي العموم.

وقال "أبو حنيفة: لا يقتضيها".

ووافقه الإِمام الرازي وغيره من متأخّرينا.

ومن فروع المسألة:

قَتْل المسلم بالذمي.

فقال أصحابنا: لا يقتل به؛ لانتفاء المساواة الَّتي عليها بني القصاص.

وقال أبو حنيفة: يقتل به؛ إِذ نفي المُسَاواة لا يقتضي العموم.

والخلاف دائر على حرف واحد، وهو أن لفظ "ساوى""واستوى"، "وماثل" زيد عمرًا

(1)

ينظر: الإِحكام للآمدي 2/ 227 (8)، والمحصول 1/ 2/ 617، والمعتمد 1/ 249، وشرح الكوكب المنير 3/ 207، وشرح تنقيح الفصول (186)، وشرح العضد 2/ 114، وجمع الجوامع 1/ 422، والمسودة 106، وتيسير التحرير 1/ 250، وفواتح الرحموت 1/ 289.

ص: 148

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْإِثْبَاتِ؛ وَإِلَّا لَمْ يَعُمَّ نَفْيٌ أَبَدًا.

قَالُوا: لَوْ عَمَّ، لَمْ يَصْدُقْ؛ إِذْ لا بُدَّ مِنْ مُسَاوَاةٍ، وَلَوْ فِي نَفْيِ [مَا] سِوَاهُمَا عَنْهُمَا.

قُلْنَا: إِنَّمَا تُنْفَى مَسَاوَاةٌ يَصِحُّ انْتِفَاؤُهَا.

قَالُوا: الْمُسَاوَاةُ فِي الْإِثْبَاتِ وَالْعُمُومِ، وَإِلَّا لَمْ يَسْتقِمْ إِخْبَارٌ بِمُسَاوَاةٍ؛ لِعَدَمِ الاِخْتِصَاصِ وَنَقِيضُ الْكُلِّيِّ الْمُوجَبِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ.

وزيد مثل عمرو، والمتماثلات [كلها]

(1)

والاستواءات هل مدلولها في اللغة المشاركة في جميع الوجوه حتى يكون مدلولها كلّها شاملًا أو مجموعًا محيطًا؟ أو مدلولها المُسَاواة في شيء هو أخصّ الأوصاف حتى يصدق بوجدانه وإِن انتفى ما عداه؟

ذهب أبو حنيفة إِلى الأوّل، وعلماؤنا إِلى الثَّاني؛ فلذلك اختلفوا حالة النفي، فمن عمّم جانب الإِثبات خصّص في جانب النفي، وبالعكس.

"لنا": على العموم في النفي أن ذلك "نفي "دخل "على نكرة"، فعمّ "كغيرها" من النكرات في سياق النفي ..

"قالوا: المساواة مطلقًا أعمّ من المساواة بوجه خاصّ"، أو من كلّ وجه ضَرُورَةَ أن المطلق جزء من المقيد، وأنّ الكلّ يستلزم الجزء من غير عكس.

"والأعم لا يشعر بالأخصّ"، فلم يلزم من نفي الأعمّ، وهو مطلق المساواة نفي الأخصّ، وهو المساواة الخاصة.

الشرح: "وأُجيب بأن ذلك" أي: عدم إِشعار الأَعَمّ بالأخص إِنما هو "في"جانب "الإِثبات" لا في جانب النفي؛ لأن نفي العامّ [مستلزم]

(2)

نفي الخاصّ، وإِلا لم يعم نفي أبدًا"؛ إِذ يقال في:"لا رجل" أعم من الرجل

(3)

بصيغة العموم، فلا يشعر به.

ولقائل أن يقول: الاستواء شيء واحد مدلوله واحد، وهو الاستواء من كلّ وجه، وما يحصل بين زيد وعمرو مثلًا من الاشتراك في بعض الوجوه ليس المُسَاواة الحقيقية، وإِذا كان كذلك، فلا فرق فيه بين جانب الإِثبات والنفي.

(1)

سقط في ج.

(2)

في ج: يستلزم.

(3)

في حاشية ج: أي الرجل المطلق.

ص: 149

قُلْنَا: الْمُسَاوَاةُ فِي الْإِثْبَاتِ لِلْخُصُوصِ، وَإِلَّا لَمْ تَصْدُقْ أَبَدًا؛ إِذْ مَا مِنْ شَيئَيْنِ إِلَّا وَبَيْنَهُمَا نَفْيُ مُسَاوَاةٍ وَلَوْ في تَعَيُّنِهِمَا، وَنَقِيضُ الْجُزْئِيِّ الْمُوجَبِ كُلِّيٌّ سَالِبٌ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعُمُومَ مِنَ النَّفْيِ.

"قالوا: لو عَمَّ" نفي المُسَاواة "لم يصدق؛ إِذ لا بد" بين كلّ شيئين "من مساواة، ولو في نفي سواهما عنهما".

"قلنا: إِنما ننفي مساواة يصحّ انتفاؤها" لا كلّ مساواة، واللّفظ وإِن كان ظاهرًا في العموم، إِلَّا أنه من قبيل ما يخصّ بالعقل.

"قالوا: المساواة في الإِثبات" مثل قولك: زيد مساوٍ لعمرو "للعموم: وإِلا لم يستقم إِخبار بمساواة" بين شيئين؛ العدم الاختصاص" اختصاص المُسَاواة بوجه ما بهما، بل كلّ شيئين كذلك؛ لما مَرّ، لكن الإِخبار بالمساواة مستقيم، فكانت المُسَاواة للعموم، والعموم كالكُلّي الموجب، ونفي المُسَاواة نقيضه، "ونقيض الكُلّي الموجب جزئي سالب"، فنفي المساواة يقتضي نفيها في بعض الأشياء لا كلها؛ وهو المدعي.

ونحن قد قدّمنا لك هذا، وقلنا: إِنه الحرف الذي تدور عليه المسألة.

الشرح: "قلنا": ليست "المساواة في الإِثبات" للعموم، وإِنما هي "للخصوص، وإِلا لم تصدق" مساواة بين شيئين "أبدًا؛ إِذ ما من شيئين إِلا وبينهما نفي مساواة" لعدم المساواة بين كلّ شيئين من جميع الوجوه، "ولو في تعينهما" وتشخصهما، وإِلَّا لكانا واحدًا، وهو خُلْفٌ، لكن الحكم بالمساواة حقّ، فالمساواة في جانب الإِثبات للخصوص كالجزئي الموجب، "ونقيض الجزئي الموجب كلي سالب"، فيكون الحكم بنفي السَّلب للعموم، وهذا جواب بالمعارضة.

"والتحقيق": أن - المساواة لا دلالة لها على العموم، و"أن العموم" إِنما استفيد "من النفي"، والنفي قرينة أفادته، ولولاها لم يحصل الغرض.

قلت: ومن يجعل مدلول المُسَاواة شيئًا واحدًا - كما مَرّ - لا يستحسن ذكر لفظ العموم والخصوص في المسألة ألبتة ..

ص: 150

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ونقول: لا تحقيق في هذا المسمى بالتحقيق، والعموم والخصوص سواء، والله المستعان.

"فائدتان"

إِحداهما: قد يقال: قوله: "نفي المُسَاواة" يقتضي أن المنفي الاسم، وهو المساواة،

وتمثيله بـ "لا يستوي"، لا يستقيم حينئذ؛ لأن المنفي فيه الفعل.

وجوابه: أن نفي الفعل يتضمّن نفي الاسم؛ لأنه يتضمّن المصدر.

فإِن قلت: مصدر "لا يستوي" الاستواء، لا المساواة.

قلت: الخلاف فيهما واحد، والمراد نفي المُسَاواة وما هو من موادها.

"الثَّانية"

ما ينكره الأصوليون على الحنفية هنا، وعلى الشَّافعية بتقدير تعميمهم المشترك،

من أن الفعل في حَيّز الإِثبات كـ "شاء"، و"أريد عمرًا"، و"رأيت عينًا" لا يدلّ على الاستغراق؛ إِذ لا صيغة ولا قرينة.

قد يقال: إِنه يختص بغير الأفعال الواقعة صلة لموصولٍ حرفي؛ فإِن تلك للعموم؛ لتأولها باسم مضاف، والإِضافة دليل العموم.

وجوابه: أن الموصول الحرفي اسم في المعنى، فجرى عليه حكم اسم الجنس المضاف، فلم يكن هنا تعميم لفعل؛ لأن المؤول بالاسم "أن والفعل" لا مجرد الفعل؛ ولأن المؤول بشيء حكمه حكم ذلك الشيء، كما أن المقدر حكمه حكم الملفوظ.

فإِذا قال: أعجبني أن قام زيد، كان معناه: قيام زيد، وذلك اسم مضاف، فعمّ بالإِضافة، على أن عندي وَقْفة في تعميمه من جهة أني أدعي أنه ليس المعنى قيام زيد المعرَّف بالإِضافة، بل قيام مُنكَّر؛ إِذ به يحصل الغرض من انحلال "أن والفعل" إِلى المصدر، والزائد على ذلك من تعريف ذلك المصدر لا دليل عليه، والنُّحَاة لا يحررون هذا، فلذلك يأتون في عباراتهم بالمصدر معَرَّفًا بالإِضافة، وليس لهم قصد في التعريف، فليتأمّل هذا، يظهر أَنْ لا إِضافة، فلا عموم.

ص: 151

مَسْأَلَةٌ:

الْمُقْتَضِى، وَهُوَ: مَا احْتَمَلَ أَحَدَ تَقْدِيرَاتٍ لاِسْتِقَامَةِ الْكَلامِ - لا عُمُومَ لَهُ فِي الْجَمِيعِ.

أَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ أَحَدُهَا [بدَلِيل]- كَانَ كَظُهُورِهِ؛ وَيُمَثلُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطأُ وَالنِّسْيَانُ.

"مسألة"

الشرح: "المقتضِى" بكسر الضاد

(1)

، وقد رأيتها هكذا مضبوطة بخط المصنّف، "وهو ما احتمل أحد تقديرات" يكفي إِضمار كلّ واحد منها "لاستقامة الكلام"، ويغني عن غيره، هل له عموم؟

ولنعرف أن المقتضي بصيغة الفاعل كما ذكرناه، وقد عرفت أنه ما لا يستقيم

(2)

كلام إِلا [بتقديره]

(3)

، وذلك التقدير هو المُقْتَضَى بفتح الضاد اسم مفعول، والأمور الصالحة للإِضمار هي التقديرات الَّتي يحتملها المُقتَضَى بفتح الضاد أيضًا، ودلالة العقل والشرع على أن هذا الكلام لا يصحّ إِلا بإِضمار شيء هو المسمى بـ "دلالة الاقتضاء" الذي سيبحث

(1)

المقتضى - بفتح الضاد - اسم مفعول من: اقتضى يقتضي اقتضاء لمعنى طلب، وهو ما تتوقف استقامة الكلام أو صحته العقليّة أو الشرعية على تقديره أو معنى يفهم التزامًا لأجل صحّة الكلام أو صدقه. ينظر شرح العضد 2/ 115 - 171، وفواتح الرحموت 1/ 294، وأما بكسر الضاد فقد اعترض عليه الإِسنوي في الزوائد، وقال: وأما تعبيره في المختصر بأن المقتضى - بكسر الضاد - هو ما احتمل أحد تقديرات فغير مستقيم، واعترض أيضًا على فهرسة المسألة بقوله:"إِذا لم يمكن إِجراء الكلام على ظاهر إِلّا بإِضمار شيء فيه كقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وكان هناك أمور كثيرة يستقيم الكلام بإِضمار واحد منها لم يجز إِضمارها جميعًا، وهو معنى قولهم: المقتضى - بفتح الضاد - لا عموم له. لنا: لو أضمرنا الجميع لأضمرنا شيئًا مع الاستغناء عنه، واعلم أن هذا التعبير هو الصواب الموافق لتعبير الآمدي وغيره.

(2)

في حاشية ج: قوله: "ما لا يستقيم" حاصله أن المقتضى - بالكسر - عدم استقامة، الكلام إِلا بالتقدير وبالفتح هو التقدير.

(3)

في ب: بتقدير.

ص: 152

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصنّف عنه بعد ذلك

(1)

.

[فهذه]

(2)

المسألة من فروع دلالة الاقتضاء، وقدَّم الفرع على الأصل في الذكر لمناسبته لباب العموم.

وعبَّر قوم عن هذه المسألة بأن المُقْتَضَى - وهو ما أضمر ضرورة صدق المتكلم - لا عموم له، وذلك بفتح الضَّاد.

ويمكن أن يقال: إِنها أولى؛ لأن القائلين بأنه لا عموم له - وهم أكثر أصحابنا - اعتلوا بأن العموم من صفات النُّطْق، فلا يجوز دعواه في المعاني، ذكره ابن السمعاني وغيره، فدلّ على أن الذي هو موضع تنازعهم في عمومه هو المضمر، لا المضمر له، فإِن المضمر له منطوق.

وبهذا يعلم فساد قول الشِّيرازي شارح "المختصر": إِن الحامل على الإِضمار، وهو صيانة الكلام عن الكذب، ونحوه هو المُقْتَضِى بالكسر، وإِضمار شيء هو المُقْتَضَى بالفتح.

فهذا المقتضِى والمقتضَى ليس هما اللَّذين تعرض لهما المصنّف والعلماء، وهم أجل من أن يصفوا الحامل على الإِضمار، أو عنه بـ "العموم".

ويمكن أن يعكس ويقال: بل هو بالكسر أولى؛ فإِنه لا يرد والحالة هذه أن العموم مختصّ بالألفاظ، فإِن المدعي تعميمه ملفوظ، والمصنّف غني عن ذلك؛ لأنه يرى العموم من عوارض الألفاظ؛ والمعاني جميعًا.

وإِذا عرفت أن المراد بالتَّرْجمة أنه إِذا لم يكن إِجراء الكلام على ظاهره إِلا بإِضمار شيء فيه، وهناك أمور كثيرة يستقيم الكلام بإِضمار واحد منها، وهل يعم؟

قال جماهير أصحابنا

(3)

: "لا عموم له في الجميع"، أي: لا يجوز إِضمار الكلّ، بل يقدر واحد يتعيّن بدليل يدلّ عليه من كونه أقرب إِلي الحقيقة، أو نحو ذلك من الأدلّة، فإِن

(1)

ينظر: المحصول 1/ 2/ 624، والإِحكام للآمدي 2/ 229، والمستصفى 2/ 61، واللمع (16)، وجمع الجوامع 1/ 424، ومفتاح الوصول (55)، وأصول السرخسي 1/ 248، والتحرير (84)، وتيسير التحرير 1/ 242، وفواتح الرحموت 1/ 294، وكشف الأسرار 2/ 247، والعدة 2/ 513، ونهاية السول 2/ 364، وإِرشاد الفحول 131، والمسودة (90).

(2)

في ب: وهذه.

(3)

ينظر مصادر المسألة.

ص: 153

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لم يظهر دليلٌ على التعيين كان مجملًا بينهما.

واعلم أن التقديرات الصَّالح أحدها للإِضمار قد يعمّها لفظ، وقد لا يعمّ متعددًا منها لفظٌ، بل تكون أمورًا متباينة، وهو الغالب، وإِليه الإِشارة بقوله "أحد تقديرات"، وحينئذ فقد يكون بينها جميعًا أو بينها وبين بعضها تنافٍ، وقد لا يكون، فهذه أقسام كثيرة لن يقدم المتأمل لكلامنا في هذه المسألة [أمثلها]

(1)

.

ويجب عندي انتفاء الخلاف عن قسمين منها:

أحدهما: ما إِذا كان اللَّفظ عامًا لجميع تلك الأمور، فإِن الواجب تقدير ذلك العام؛ لأنه أقرب إِلى الحقيقة، ولا يعيّن واحد من أفراده إِلا إِن دلّ عليه دليل بخصوصه يثبته، وينفي ما عداه، وفي ذلك إِحالة لصورة المسألة، وفي قول المصنّف:"أحد تقديرات" ما يرشد إِلى هذا؛ فإِن أفراد العام في حكم تقدير واحد. وأما إِن كان هناك لفظ عام تحته أفراد وتقدير آخر خاصّ ليس هو من جملة أفراد ذلك العام، [فهل]

(2)

يترجّح عليه العام؟

فيه نظر واحتمال، والأقرب عدم ترجّحه؛ لأنا لا نرجّح بكثرة الأفراد.

ونظيره: مسألة اللَّفظ المستعمل لمعنى تارة، ولمعنيين أخرى، الآتية في المجمل.

والثَّاني: أن يتنافيا، فالواجب عدم تقديرهما كما سنحكيه عن إِمام الحرمين، فنخصّ محلّ الخلاف بما وراء هذين القِسْمين.

وإِذا عرفت محلّه فنقول:

رأي جمهور أصحابنا ما عرفت، وخالفهم طائفة من الفُقَهَاء، فقالوا بالتعميم أي بتقدير الكُلّ. هذا معنى التعميم في هذا المقام، ولا نعني به أنهم يقدّرون اللَّفظ العامّ؛ لأنه قد لا يكون في المحتملات لفظ عام ألبتة، وبتقدير كونه، فالأولون لا ينكرونه، بل يذهبون إِليه إِذا كان أقرب إِلى الحقيقة.

وقد يقال: كلّ تقدير عام بالعموم المصطلح كما في قوله: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ" فإِن المقدر على كلّ تقدير مضاف إِلى الخطأ، فيعم بالإِضافة، وإِنما المعنى بالعموم هنا تقدير تلك المحتملات بأسرها، وكلام الشَّافعي رضي الله عنه في "الأم" في كتاب "الحج" يدلّ

(1)

في أ، ج: أمثلتها.

(2)

في ب: وهل.

ص: 154

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لمذهب هذه الطَّائفة؛ فإِنه لما ذكر الدّماء الواجبة للترفُّه، وهو دم التقليم، وتَرْجِيل، الشّعر، والطِّيب، واللِّباس، والتغطية، جعل جميع ذلك مقدورًا في قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [سورة البقرة: الآية 196].

قال المَاوَرْدِيّ

(1)

: التقدير عند الشَّافعي: فمن كان منكم مريضًا فتطيب أو لبس، أو أخذ من ظُفْره إِلى آخره، قال: وقال في "الإِملاء": إِن اللَّفظ لا يتضمنه.

قلت: فيكون للشَّافعي قولان في المسألة.

ولا يخفى أن الكلام إِنما هو حيث لم يتعين واحد من تلك المحتملات.

"أما إِذا تعين أحدها بدليل" يدلّ عليه "كان [كظهوره]

(2)

"، فإِن كان عامًّا، فهو عامّ وإِلا فلا، فالصور إِذن ثلاث:

إِحداها: أن تتساوى الاحتمالات، ولا يظهر في واحد منها أنه أرجح من الآخر، فعندنا أنه مجمل؛ لأنا لا نقدر إِلا بقدر الضَّرورة، وهي تندفع بواحد، ولم يقم عليه أمارة، فيكون مجملًا وعند الخَصْمِ هو عام.

الثَّانية: أن يترجّح بعضها لا بدليل من خارج، بل لكونه أقرب إِلى الحقيقة مثلًا، مثل:"لا صِيَامَ لمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ".

فصحابنا يقدرون واحدًا، ثم يرتجحون تقدير ما كان أقرب إِلى نفي الحقيقة، وهو الجواز هنا مثلًا، والخَصْم يقدر الكل.

ثم إِمام الحرمين يقول هنا ما حاصله أنه لا ينبغي للخصم على بعد مذهبه أن يقدّر الكلّ إِلا إِذا لم يُنَافِ بعضها بعضًا، فإِن نافل وارتكب تقدير الكُلّ والحالة هذه، فقد أساء وأسرف وركب شَطَطًا، وهذا مثل "لا صِيَامَ"؛ فإِنّ تقدير الكمال ينافي تقدير الصّحة؛ إِذ نفي الكمال يفهم إِثبات الصحة، فلا يصحّ تقديره مع تقدير نفي الصِّحّة معه.

وقد وافق إِمام الحَرَمَيْنِ على هذا ابن السَّمْعَاني فقال:

(1)

ينظر النكت والعيون 1/ 254.

(2)

في ب: لظهوره.

ص: 155

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لا يجوز انتفاء الفضيلة مع انتفاء الجواز؛ لأنه لا بد من وجوب الجواز حتى يثبت انتفاء الفضيلة.

ولك منازعة الإِمام، وابن السمعاني في [أنّ]

(1)

نفي الكمال يقتضي إِثبات الجواز؛ فإِن نفي الأخصّ لا يستدعي ثبوت الأعم، بل هو صادق وإِن لم يثبت الأعم أيضًا كما في قوله تعالى:{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [سورة الرعد: الآية 2] أي: لا عمد لها فترونها.

وقوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [سورة البقرة: الآية 273].

وقولهم في صفة محاسن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تثنى فلتاته" أي: لا فلتات له فتثنى، وقول الشّاعر:[الطويل]

عَلَى لاحِبٍ

(2)

لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ

إِذَا سنافَهُ الْعُودُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا

(3)

أي: لا منار له فيهتدى به.

وقول الآخر، وهو زهير:[البسيط]

إِنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لا تُخْشَى بَوَادِرُهُ

لَكِنْ وَقَائِعُهُ فِي الحَرْبِ تُنْتَظَرُ

(4)

(1)

سقط في ب.

(2)

في حاشية ج: قوله: "على لا حب

إِلخ اللاحب: الطريق الواسع وسافه: بسين مهملة، وفاء مشمة، والعود بعين مفتوحة ودال مهملة: الجمل المسن.

والديافي - بدال مهملة وتحتية وفاء -: الضخم نسبة إِلى دياف موضع بالجزيرة، والجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته. معاهد.

(3)

البيت لامرئ القيس، وهو في ديوانه ص 66، واللسان 3/ 2153 قوله:"لا يهتدي بماره" أي ليس فيه علم، ولا منار فيهتدي به يصف أنه طريق غير مسلوك، فلم يجعل فيه علم، وقوله:"إِذا سافه العود" أي إِذا شمه المسنُّ من الإِبل صوَّت ورغا لبعده وما يلقى من مشقته، والنَّبَاطيُّ: الطريق البين الذي طرقته الحوافر أي أثرت فيه فصارت فيه طرائق وآثار بينة، هذا أصله، ثم يستعمل لكل طريق بين وخفيّ، وبناؤه على فاعل، وكان حقه أن يبنى على مفعول لكنه على النسب كما قال:"عيشة راضية" بمعنى مرضية، ومعنى "جر جَر": صوّت.

(4)

البيت لزهير بن أبي سلمى كما قال المصنّف وهو في ديوانه ص 53، يريد أن ابن ورقاء ليس ممن يغدر أو يغتال، لكنه يجاهر بالحرب ويدعو إِليها. =

ص: 156

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي: لا بوادر له فيخشى؛ وهو كقول الفرزدق

(1)

: [البسيط]

سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لا تُخْشَى بَوَادِرُهُ

يَزِينُهُ اثْنَانِ حُسْنُ الْخُلْقِ وَالْكَرَمُ

(2)

وأمثلته تكثر، لكني أقول:

نفي الأخص وإِن لم يقتض من حيث إِنه نفي أخصّ إِثبات الأعمّ، إِلَّا أنه في بعض المحال قد لا تظهر فائدة لتخصيصه بإِيراد النَّفْي عليه إِلا ذلك، فيفهم منه ذلك والحالة هذه، وهذا كما لو قلت: لا رجل في الدار، فإِنه صادق بانتفاء كون الرجل في الدار مع وِجْدَان الدار وبنفيهما معًا، ولو كانت الدَّار منفيةً لم يظهر لنفي كون الرجل فيها فائدة، ولا بُدّ من فائدة، فيفهم بهذا إِثبات الدَّار، ومن مَارَسَ لغة العرب [وتضلّع]

(3)

موارد الشريعة لم يرتب فيما أقوله، وإِنما يمتري في ذلك الجامدون على المَنْطِقِ، بل ذكر شيخنا أبو حيان في تفسيره عند الكلام على قوله تعالى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [سورة البقرة: الآية 9] أن الأكثر في كلام العرب فيما إِذا نفي المقيد بقيد، نفي القيد فقط، وإِثبات المقيد، وأن نفيهما معًا خلاف الأكثر في كلامهم.

وكذلك ذكر غيره من النُّحَاة، وإِنما يحمل كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم على غالب كلام العرب، فوضح ما قاله الإِمام وابن السمعاني.

والثَّالثة: أن يظهر واحد معين بدليل مستفادٍ من خارج، وهو المشار إِليه بقوله:"أما إِذا تعيّن" ولا ينبغي لأحد أن يخالف هنا، بل يقدر ما ظهر، سواء أكان عامًّا أو خاصًّا؛ لأن الدليل قَادَهُ.

= ويروى الْعَجُزُ "بالشيم"، بدلًا من "الكرمُ" وكلتاهما بمعنى واحد.

(1)

همّام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي، أبو فراس، الشهير بالفرزدق: شاعر من النبلاء من أهل البصرة عظيم الأثر في اللغة، كما يقال: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، ولو شعره لذهب نصف أخبار الناس، يُشبّه بزهير بن أبي سلمى وكلاهما من شعراء الطبقة الأولى، زهير في الجاهليين، والفرزدق في الإِسلاميين، لُقِّب بالفرزدق لجهامة وجهه وغلظه. توفى سنة 110 هـ.

ينظر: البيان والتبيين، ابن خلكان 2: 196، الأعلام 8/ 93.

(2)

البيت للفرزدق ص 512 من قصيدة له يمدح فيها زين العابدين علي بن الحسين.

(3)

في ج: وتضلع من.

ص: 157

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ونظيرُ التعميم فيه قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [سورة يوسف: الآية 82]؛ فإِنه يظهر إِضمار الأهل، وقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [سورة البقرة: الآية 197]؛ فإِنه يظهر إِضمار الوقت.

ونظير التَّخصيص قوله عليه السلام: "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ"

(1)

؛ فإِنه يظهر إِضمار الوجوب فيه؛ إِذ لا تحرم الهجرة بعد الفتح إِجماعًا.

وكذا قوله عليه السلام: "لا صَلاةَ لِمَنْ لَيْسَ عَلَى يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الخُلُوفِ" المراد نفي الكمال بخصوصه.

"ويمثل" لما يظهر فيه واحد معيّن بدليل خارجي "بقوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ

(2)

"رواه الحافظ أبو القاسم التيمي

(3)

المعروف بـ "أخي

(1)

أخرجه البخاري 6/ 45 في الجهاد: باب وجوب النفير (2825)، ومسلم 2/ 986 كتاب الحج: باب تحريم مكة (445 - 1353).

(2)

أخرجه ابن ماجه 1/ 659 في كتاب الطلاق باب طلاق: المكره والناسى حديث (2045)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 356 - 357 في كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في طلاق المكره، وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير 1/ 270 وفي الكبير 11/ 133، والدارقطني في النذور 4/ 170، 171 حديث (33)، والحاكم في المستدرك، 2/ 198 في كتاب الطلاق، وقال ابن كثير في تحفة الطالب ص (271): إِسناده جيد، ومن حديث ابن عمر أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/ 352، ومن حديث عقبة بن عامر أخرجه البيهقي في الكبرى 7/ 357، وقال ابن أبي حاتم: هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة؛ العلل 1/ 431، ومن حديث أبي هريرة عند ابن ماجة 1/ 659 (2045) وله شاهد عند البخاري في كتاب الطلاق: باب الطلاق في الإِغلاق والمكره والسكران والمجنون

حديث (5269). ومن حديث أبي ذر الغفاري 1/ 659 حديث (2043) وضعفه البوصيري في الزوائد لأجل أبي بكر الهذلي؛ فإِنه متروك الحديث.

(3)

إِسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي، الطليحي، التيمي، الأصبهاني، أبو القاسم، الملقب بـ"قوام السنة". ولد سنة 457 هـ. وهو من أعلام الحفاظ. كان إِمامًا في التفسير والحديث واللغة، وهو من شيوخ السمعاني في الحديث. من كتبه:"الجامع" في التفسير، =

ص: 158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عاصم" في "مسنده" من رواية محمد بن مصفى

(1)

عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس، والبيهقي في "الخلافيات" من رواية محمد بن مصفى عن الوليد بن مسلم أيضًا عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا، ورواه ابن ماجه عن ابن مصفى، ولفظه:"إِنَّ الله وَضَعَ" الحديث.

ورواه الحافظ الضياء في "المختارة" من حديث ابن مصفى، ولفظه كلفظ ابن ماجه، وقد أنكره أحمد بن حنبل.

وقال الإِمام محمد بن نصر المَرْوَزِيّ في كتاب "اختلاف العلماء" في "الطلاق": ليس له إِسناد يحتج بمثله.

ولكن قال البيهقي: قال لنا أبو عبد الله الحاكم: تفرَّد به الوليد بن مسلم عن مالك، وهو صحيح غريب.

ووجه التمثيل: أن ظاهر الحديث يقتضي رفع ذاتي الخطأ والنسيان، وهما واقعان، فاحتيج إِلى إِضمار، والمضمر يحتمل أمورًا كثيرة، كالإِثْمِ، والضمان، ونحو ذلك، فيقدر واحد منها.

ونظيره: "لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ"

(2)

.

= و"دلائل النبوة" و"التذكرة" و"الترغيب والترهيب" و"شرح الصحيحين" وغيرها. توفي سنة 535 هـ. وينظر: شذرات الذهب 4/ 105، والأعلام 1/ 323.

(1)

محمد بن مُصَفى بن بُهْلُول القُرَشِي، أبو عبد الله الحِمْصي الحافظ. عن: ابن عيينة ومحمد بن حِمْير وخلق. وعنه: أبو داود والنسائي وابن ماجه وأبو حاتم، وقال: صدوق، مات بـ "منى" سنة ست وأربعين ومائتين. وينظر: الوافي بالوفيات 5/ 33، وتراجم الأحبار 4/ 84، والثقات 9/ 100، والضعفاء الكبير 4/ 145، والأنساب 4/ 249، ولسان الميزان 7/ 376، وميزان الاعتدال 4/ 43، وتاريخ البخاري الكبير 1/ 246، تهذيب الكمال 3/ 1273، وتهذيب التهذيب 9/ 460، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 458، والبداية والنهاية 10/ 347.

(2)

أخرجه البخاري 10/ 226، في كتاب الطب: باب الهامة (5757)، ومسلم 4/ 1743، في كتاب السَّلام: باب لا عدوى ولا طيرة (104/ 2221)، واللفظ له.

ص: 159

لَنَا: لَوْ أُضْمِرَ الْجَمِيع، لأُضْمِرَ مَعَ الاِسْتِغْنَاء.

"لا صَلاةَ لِجَارِ المَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ"

(1)

.

"إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا صَلاةَ إِلَّا المَكْتُوبَةُ"

(2)

.

"لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَه، وَلا عَهْدَ لِمَنْ لا دِينَ لَهُ"

(3)

.

"لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَليٍّ".

"لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِجُنُبٍ وَلا حَائِضٍ"

(4)

.

الشرح: "لنا" على أنه لا يجب إِضمار الجميع أنه "لو أضمر الجميع لأضمر" ما وراء الواحد "مع الاستغناء" عنه، وما أسقط.

(1)

أخرجه الدارقطني (1/ 420)، والحاكم (1/ 246)، والبيهقي (3/ 57)، من طريق داود بن سليمان اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا.

وسكت عنه الحاكم، وقال البيهقي: وهو ضعيف.

وأخرجه الدارقطني (1/ 420) من طريق محمد بن سكين وعبد الله بن بكير الغنوي عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعًا.

قال في "التعليق المغنى"(1/ 420): فيه محمد بن سكين قال الذهبي، لا يعرف، وخبره منكر، وقال البخاري: في إِسناد حديثه نظر.

(2)

أخرجه مسلم (1/ 493) كتاب صلاة المسافرين: باب كراهة الشروع في النافلة بعد شروع المؤذن (63 - 64) وأبو داود (2/ 50) رقم (1266)، والترمذي (2/ 282) أبواب الصلاة: باب ما جاء إِذا أقيمت الصلاة رقم (421).

(3)

أخرجه أحمد في المسند 3/ 154 في مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 288 كتاب الوديعة: باب ما جاء في الترغيب في أداء الأمانات.

(4)

أخرجه أبو داود (1/ 157) كتاب الطَّهارة: باب في الجنب يدخل المسجد حديث (232) والبخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 2/ 67 - 68) من طريق عبد الواحد بن زياد ثنا أفلت بن خليفة حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت: سمعت عائشة

فذكرته.

وقال البخاري: جسرة عندها عجائب. =

ص: 160

قَالُوا: أَقْرَبُ مَجَازٍ إِلَيْهِمَا - بِاعْتِبَارِ رَفْعِ الْمَنْسُوبِ إِلَيهِمَا عُمُومُ أَحْكَامِهِمَا.

أُجِيبَ: بأَنَّ بَابَ غَيْرِ الْإِضْمَارِ فِي الْمَجَازِ أَكْثَرُ؛ فكَانَ أَوْلَى؛ فَيَتَعَارَضَانِ؛ فَيَسْلَمُ الدَّلِيلُ.

قَالَوا: الْعُرْفُ فِي مِثْلِ: "لَيْسَ لِلْبَلَدِ سُلْطَانٌ" - نَفْيُ الصِّفَاتِ.

منع الشِّيرازي هنا الاستغناء محتجًا بالخروج عن العُهْدَةِ بيقين، مع أنه لا عُهْدة أي: الآن وإِن ثبتت فقد يكون ارتكاب الكلّ محذورًا وإِحداثًا لأحكام شرعية بمجرد الاحتمال.

والمعممون "قالوا" أولًا: "أقرب مجاز إِليهما" أي: إِلى الخطأ والنسيان "باعتبار رفع المنسوب إِليهما" المقتضى بظاهره ارتفاع ذاتيهما، إِنما هو "عموم أحكامهما"؛ فإِن نفي جميع الأحكام يصيرهما كالعَدَمِ، فكان الذات قد ارتفعت، بخلاف البَعْضِ، فوجب الحمل عليه؛ لقربه من الحقيقة، وذلك معنى إِضمار الجميع.

و"أجيب بأن غير الإِضمار في المجاز أكثر" من باب الإِضمار، "فكان" غير الإِضمار "أولى".

ومقتضى ذلك: ألّا يضمر شيء من المقدّرات، "فيتعارضان" دليلكم المثبت لتقدير الجميع، ودليلنا النَّافي للجميع، وهو كون المجاز أكثر؛ "فيسلم الدَّليل" الأول الذي أبديناه، وهو المثبت لتقدير البعض عن المعارض.

فإِن قلت: قوله: "أقرب مجاز" يشعر بأن المراد بـ "العموم" في هذا المَقَامِ العموم المصطلح، وهو تقدير لفظ عام، وهو خلاف ما قدمتوه.

قلت: لا اعتبار بهذا الإِشعار، ولفظ "أحد تقديرات" في أول كلامه صارفٌ له.

الشرح: "قالوا" ثانيًا: "العُرْف" يقضى "في مثل" قولنا: "ليس للبلد سلطان" ولا

= وأخرجه ابن ماجة (1/ 212) كتاب الطَّهارة: باب ما جاء في اجتناب الحائض المسجد (645) من طريق أبي الخطاب الهجري عن محدوج الذهلي عن جسرة قالت: أخبرتني أم سلمة

بمثله.

ص: 161

قُلْنَا: قِيَاسٌ فِي الْعُرْفِ.

"قَالُوا: يَتَعَيَّنُ الْجَمِيعُ؛ لِبُطْلانِ التَّحَكُّمِ إِنْ عُيِّنَ، وَلُزُومِ الإِجْمَالِ إِنْ أُبْهِمَ.

قَاضٍ بالتعميم أي: بأن المراد منه "نفي الصفات" المطلوبة منه جميعها، فكذلك فيما نحن فيه يقضى بأنّ المراد منه نفي جميع الأحكام؛ لأن الأصل عدم النقل.

"قلنا": هذا "قياس في العُرْف"؛ فلا يحتج به، أو قد يحصل في عبارة دون عبارة ولا جامع، ولك أن تمنع كون هذا قياسًا، وتقول: بل هو مثال ما نحن فيه.

نعم: لو منع المصنّف العموم في نحو: "ليس للبلد سُلْطَان" لكان متّجهًا.

قلت: وهذان الوَجْهَان ظاهران في أن النزاع جار، وإِن كان بعض الاحتمالات أقرب إِلى نَفْيِ الحقيقة، ولم ينكره المصنّف.

وعندي: أنه متى كان أقرب إِلى نفي الحقيقة تعيّن، سواء أكان أعم من غيره أم لا، إِذا لم يصرف عنه صارف؛ ألا ترى أنا نقدر الصّحة في قوله عليه السلام:"لا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبيِّتِ الصِّيَامَ" وقوله عليه السلام: "لا صلاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ

(1)

"، وننكر على الخصم العدول عنه، وإِنما ننازع فيما إِذا تساوت الاحتمالات، فهل يقدر الكل؟

ونحن نقول: لا نقدّر الكلّ، وليس في الوجهين ما يدفعه.

الشرح: "قالوا" ثالثًا: "يتعيّن" أن نقدّر "الجميع؛ لبطلان التحكُّم إِن عين" المقدر؛

(1)

أخرجه البخاري 2/ 236 - 237 كتاب الأذان: باب وجوب القراءة (756) ومسلم 1/ 295 كتاب الصلاة: باب وجوب قراءة الفاتحة في كلّ ركعة (34/ 394) وأبو داود 1/ 217 كتاب الصلاة: باب من ترك القراءة في صلاته (822) والترمذي 2/ 25 - 26 كتاب الصلاة: باب ما جاء أنه لا صلاة إِلَّا بفاتحة الكتاب (247)، النسائي 2/ 137، وابن ماجة في سننه 1/ 273 كتاب إِقامة الصلاة: باب القراءة خلف الإِمام (837).

ص: 162

قُلْنَا: وَيَلْزَمُ مِنَ التَّعْمِيمِ: زِيَادَةُ الإِضْمَارِ، وَتَكْثيرُ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ؛ فكَانَ الإِجْمَالُ أَقْرَبَ.

إِذ لا ترجيح من غير مرجّح، "ولزوم [الإِجمال]

(1)

إِن أبهم"، وهو خلاف الأصل.

"قلنا: ويلزم من التَّعميم زيادة الإِضمار، وتكثير مخالفة الدَّليل"، وهو أيضًا خلاف الأصل، "فكان [الإِجمال]

(2)

أقرب".

قلت: وإِنما يكون لم أقرب إِذا يترجّح التعيين من تعميم، أو غيره؛ لكونه أقرب إِلى الحقيقة على خلاف ما يظهر من سياق الكتاب.

فإِن قلت: كلام المصنّف قاضٍ بأن [الإِجْمَال]

(3)

خير من كثرة الإِضمار، وقد صرّح الآمدي في مسألة الإِجمال في نحو:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [سورة المائدة: الآية 3] بخلافه، وهو الحق.

قلت: إِنما جُعِلَ خيرًا من تكثير الإِضمار مع مُخَالفة الدَّليل لا مطلقًا، فتأمله.

"تنبيه"

ما تقدم من تعذّر حمل: "لا نِكَاحَ" وَ"لا صِيَامَ"

وأمثالهما على نَفْيِ الحقيقة جارٍ على قولنا: إِن اللَّفظ الشرعي موضوع لأعمّ من الصحيح والفاسد.

أما إِذا قلنا: إِنه مختصّ بالصَّحيح، فلم تتعذّر الحقيقة، بل هي منفية، وقد سبق هذا في باب المناهي.

"تنبيه آخر"

وضح لك أنا نقدر بقدر الضَّرورة، ولا نمنع تقدير العام، بل نجوزه ونصير إِليه إِذا كان أقرب إِلى الحقيقة كما عرفت في مثل "لا صِيَامَ"، والخصوم يمنعون تقدير العام مطلقًا، وبنوا على الخلاف مسائل:

(1)

في أ: الاحتمال.

(2)

في أ: الاحتمال.

(3)

في أ: الاحتمال.

ص: 163

مَسْأَلَةٌ:

مِثْلُ: "لا آكُلُ"، وَ "إِنْ أَكلْتُ" - عَامٌّ فِي مَفْعُولاتِهِ؛ فَيَقْبَلُ تَخْصِيصَهُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لا يَقْبَلُ تَخْصِيصًا.

لَنَا: أَنَّ "لا آكُلُ" لِنَفْيِ حَقِيقَةِ الْأَكْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْكُولٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْعُمُومِ؛ فَيَجِبُ قَبُولُهُ لِلتَّخْصِيصِ.

إِذا قال: أنت طالق، ونوى الثَّلاث يصحّ عندنا؛ خلافًا لأبي حنيفة.

ولو قال: أنت طالق طلاقًا، صحّت نية الثَّلاث بالاتفاق، وإِنما لم يوافق الحنفية في الأول؛ لأنهم لا يقولون بعموم المقتضى، ولا بأنه يجوز تقدير عمومه، وكذا إِذا حلف لا يشرب، ونوى مياه [جميع]

(1)

العالم

(2)

.

"مسألة"

الشرح: تقدم في أول العموم أن النكرة في سياق النفي تعم، وقد اختلف في أنها هل عمت بذاتها؟ أي: بالوضع، أو بنفي المشترك منها الذي يلزمه انتفاء جميع الأفراد؟ والثَّاني: قول الحنفية.

[والأول]

(3)

: قول أصحابنا، وهي على الخلاف "مثل" قول القائل: والله "لا آكُل، وإِن أكلت" من غير ذكر المفعول به، ولا المصدر، فامرأتي طالق.

فقال أصحابنا: "عامّ في مفعولاته؛ فيقبل تخصيصَه" بالنية، ويصدّق من قال: أردت مأكولًا معينًا.

"وقال أبو حنيفة

(4)

: لا يقبل تخصيصه"؛ لأنه لا عموم فيه، بل نفي للقدر المُشْتَرك،

(1)

سقط في ب.

(2)

ينظر: شرح الكوكب 2/ 202، والمحصول 1/ 2/ 627، وجمع الجوامع 1/ 423، والمستصفى 2/ 62، والإِحكام للآمدي 2/ 231، وشرح تنقيح الفصول ص (184)، ونهاية السول 2/ 353، ومفتاح الوصول 71، وشرح العضد 2/ 116، ومختصر ابن اللحام ص (111)، والتحرير 86، وتيسير التحرير (1/ 246)، وفواتح الرحموت (1/ 286)، وإِرشاد الفحول (122).

(3)

في ب: فالأول.

(4)

ينظر: المصادر السابقة في المسألة.

ص: 164

قَالُوا: لَوْ كَانَ عَامًّا، لَعَمَّ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.

وَأُجِيبَ: بِالْتِزَامِهِ، وَبِالْفَرْقِ بِأَنَّ "أَكَلْتُ" لا يُعْقَلُ إِلَّا بِمَأْكُولٍ؛ بِخَلافِ مَا ذُكِرَ.

قَالُوا: إِنَّ "أَكَلْتُ"، وَ"لا آكُلُ" - مُطْلَقٌ؛ فَلا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِمُخَصِّصٍ؛ لِأَنَّهُ غيْرُهُ.

قُلْنَا: الْمُرَادُ: الْمُقَيَّدُ الْمُطَابِقُ لِلْمُطْلَقِ، لاِسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْكُلِّيِّ فِي الْخَارجِ؛ وَإِلَّا لَمْ يَحْنَثْ بِالْمُقَيَّدِ.

والتخصيص يمنع قوله للتخصيص باللَّفظ والنية، ولا يفرق بين ذكر المصدر والمفعول به، وعدم ذكرهما لكان مذهبًا قويًا.

ولكنه يقول: إِنه يقبل التخصيص باللَّفظ دون النّية.

قال: لأن النّية [ضعيفة، فلا تؤثر إِلَّا في ملفوظ، ولو عكس لكان أقرب؛ فإِن الملفوظ أقوى]

(1)

من المسكوت، ولكنه ناقض؛ إِذ جعله عامًّا حيث قال: إِنه يقبل التخصيص باللَّفظ غير عام، إِذ قال: إِنه لا يقبله بالنّية، ولا عهد بمثل هذا في اللسان.

وقال: إِنه عند ذكر المفعول به، أو المصدر يعم، ويقبل التخصيص زاعمًا أن الفعل إِذا تجرّد فالمصدر غير مذكور، وهذا خارج أيضًا عن اللسان؛ فإِن الفعل يدلّ على الحدث بالتضمن.

وإِذا عرفت مذهب أبي حنيفة، وأنه لا يمنع التخصيص مطلقًا، وإِنما يمنعه بالنّية، وضح لك أن ردّ القرافي عليه بمثل قوله تعالى:{لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [سورة يوسف: الآية 66] غير سديد، وإِنما ذكر المصنّف مثالين:"لا أكلت" و"إِن أكلت"؛ ليبين أنه لا فرق بين النكرة في سياق النفي والشرط.

وقد قال إِمام الحرمين

(2)

: إِنها عامّة في سياق الشرط كالنفي، وفيه بحث يطول.

"لنا" على العموم "أن""لا آكل"، لنفي حقيقة الأكل بالنسبة إِلى كلّ مَأكول"، ولذلك يحنث عند الإِطلاق بأي مأكول أكله، "وهو [معنى]

(3)

العموم، فيجب قبوله للتخصيص".

ولقائل أن يقول: لا نسلّم أنه نفي لحقيقة الأكل بالنسبة إِلى كلّ مأكول.

الشرح: والخصوم "قالوا: لو كان" الفعل "عامًّا" بالنسبة إِلى مفعولاته "لعمَّ في"

(1)

سقط في ب.

(2)

ينظر: البرهان (1/ 337).

(3)

في ب: يعني.

ص: 165

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ظرفي "الزَّمان والمكان"، بجانب المفعولية المثشركة بينهما، وكان يقبل التخصيص فيهما.

"وأجيب بالتزامه؛ فإِنه لو قال: والله لا آكل، ونوى زمانًا معينًا، أو مكانًا صحت نيّته، هذا مذهبنا، ودعوى الإِمام الرازي الإِجماع على خلافه ممنوعة.

"وبالفرق" بين المفعول به، والمفعول فيه "بأن" الأكل الذي هو مصدر "أكلت" لا يعقل إِلا بمأكول، بخلاف ما ذكره" من [الظرفين]

(1)

؛ فإِن الفعل قد يعقل مع الذُّهول عنهما، واستلزامه لهما إِنما هو بحسب الواقع، وقد لا يستلزم؛ بدليل فعل الله تعالى.

والحاصلُ: أن المفعول به من مقوِّمَات الفعل، فكان كالمذكور، وإِذن جاز أن يراد به البَعْض، ولا كذلك الظرف.

"قالوا: إِن "أكلت" و"لا آكل مطلق"، ولا دلالة للمطلق على العموم والخصوص، "فلا يصح تفسيره بمخصص؛ لأنه غيره".

"قلنا": ليس "المراد" بالأكل في قوله لا آكل المطلق؛ بل المراد "المقيّد المطابق للمطلق لاستحالة وجود الكلّي في الخارج، وإِلا" فلو كان المراد الكلي المطلق "لم يحنث بالمقيد"؛ لأنه غير ما عقد عليه اليمين، وقد سبق للمصنّف نظير هذا، وعرفت

(2)

ما فيه.

"فرع"

أقر

(3)

في صكّ أنه لا دعوى له على زيد

ولا طلبه بوجه من الوجوه، ثم قال: إِنما أردت في عِمَامَتِهِ وقميصه، لا في دَارِهِ [وبُسْتَانه]

(4)

.

قال القاضي أبو سعد بن أبي يوسف: هذا موضع تردّد، والقياس قوله؛ لأن غايته تخصيص عموم، وهو محتمل.

وقال النووي: الصَّواب: لا يقبل في ظاهر الحُكْم، لكن له تحليفه أنه لا يعلم قصده لذلك.

(1)

في أ، ج: الظرف.

(2)

في حاشية ج: قوله: وعرفت ما فيه لعلة أنه لا تنافي؛ لأنه بين المطلق والمقيد العموم والخصوص، وكان المصنّف فهم من المطلق المأخوذ بشرط الإِطلاق، وهو المبهم الذي لا يتصور تحققه في الخارج، أما لو كان المطلق هو الماهية لا بشرط شيء لم تتأثر المنافاة. تأمل.

(3)

في ج: أقرت.

(4)

في أ، ج: ونسائه.

ص: 166

مَسْأَلَةٌ:

الْفِعْلُ الْمُثْبَتُ لا يَكُونُ عَامًّا فِي أَقْسَامِهِ؛ مِثْلُ: "صَلَّى دَاخِلَ الْكَعْبَةِ"؛ فَلا يَعُمُّ الْفَرْضَ والنَّفْلَ، وَمِثْلُ:"صَلَّى بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ"، فَلا يَعُمُّ الشَّفَقَيْنِ إِلَّا عَلَى رَأْيٍ.

وَ"كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي السَّفَرِ" - لا يَعُمُّ وَقْتَيْهِمَا.

وَأَمَّا تَكَرُّرُ الْفِعْلِ، فَمُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي:"كَانَ يَجْمَعُ"؛ كَقَوْلهِمْ: "كَانَ حَاتِمٌ يُكْرِمُ الضَّيْفَ.

"فائدة"

الكلام في المُطْلق إِذا نوى به مقيدًا،

كالكلام في العامّ إِذا نوى به الخاص.

فإِن قلت: إِذا كنتم تقبلون نيّة التخصيص والتقييد، فلم لا قبلتم قول القائل: أنت طالق ثلاثًا، وقال: أردت تفريقها على الأجزاء، وإِذا جاء رأس الشهر، أو قال: كلّ امرأة لي طالق، أو: نسائي طَوَالق، وعزل بَعْضَهن بالنّية على الصَّحيح في الكُلّ؟

قلت: إِنما لا يقبل ذلك في الظاهر؛ لأنه ادّعى خلاف الظَّاهر، وفي نفس الأمر يديَّن على الصحيح، إِلا أن يأتي بِقَيْدٍ يرفع اللَّفظ جملة، مثل أن يقول: أردت إِن شاء الله. ما ذكره كبراء المذهب.

"مسألة"

الشرح: "الفعل المثبت" إِذا كان له أقسام وجهات "لا يكون عامًّا في أقسامه"؛ لأنه قد لا يمكن وقوعه على جميع تلك الأقسام؛ لكونها مُتَضَادّة، أو يمكن ولكن لا يتحقق الوقوع، ومع [الاحتمال]

(1)

لا سبيل إِلى التعميم

(2)

.

فالأول "مثل" رواية بلال رضي الله عنه الثابتة في "الصَّحيحين" الشَّاهدة بأن

(1)

في ب: الإِجمال.

(2)

ينظر: المحصول 1/ 2/ 652، والمستصفى 2/ 63، والإِحكام للآمدي (2/ 233)(11)، واللمع ص (16)، وجمع الجوامع 1/ 424، والمختصر لابن اللحام ص (111)، وشرح الكوكب 3/ 213، والتحرير (87)، وتيسير التحرير 2/ 247، وفواتح الرحموت 1/ 292، وإِرشاد الفحول (125)، وشرح العضد 2/ 118.

ص: 167

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النبيّ صلى الله عليه وسلم "صلى داخل الكَعْبَةِ، فلا يعم الفرض والنفل"

(1)

؛ لأن الصلاة الواحدة يستحيل أن تقع فرضًا ونَفْلًا معًا.

فإِن قلت: قد قلتم: إِن تحيّة المسجد تحصل بصلاة الفرض، سواء أنواها مع الفرض أم سكت.

قلت: لا معنى لحصولها أنّ تلك الصَّلاة فرض ونفل معًا، وكيف وذلك مستحيل؛ لأن اجتماع الفرض والنفل مُحَال.

وإِنما نعني بذلك: إِما سقوط الأمر بالتَّحية؛ لحصول المقصود منها، وهو ألَّا ينتهك المسجد بالجلوس فيه من غير صَلاةٍ، كما يسقط الأمر في فرض الكفاية عمن لم يفعل.

وإِما حصول الثواب، وهذا فيما إِذا نواهما.

أما إِذا سكت عن التحية، فنازع فيه الشيخ الإِمام الوالد، وقال: كيف يثاب على ما لم يَنْوِ؟ ولا يشهد لفظ صلّى داخل الكعبة بإِثبات أكثر من صلاة.

- والثَّاني: "مثل" ما روي أنه صلى الله عليه وسلم "صلّى" العشاء "بعد غيبوبة الشَّفق"، وهو لفظ لا أحفظه، فيحتمل أن يكون بعد غَيْبُوبَةِ الشفق الأحمر، أو الشفقين الأحمر والأبيض، "فلا يعم" صلاتين واقعتين بعد كلّ من "الشفقين"، ولا يلزم منه وقوعهما بعد البَيَاضِ "إِلا على رأيٍ" يذهب إِليه من يوجب حمل المشترك على معنييه، والعموم حينئذ وإِن ثبت له، فليس من حيث إِنه فعل، بل من دلالة اللَّفظ، ونحن إِنَّما ادّعينا عدم عموم الفِعْل من حيث إِنه فعل.

فإِن قلت: أنتم مَعَاشر الشَّافعية ترون حمل المشترك على معنييه، فلزمكم الحمل على الصَّلاة بعد غيبوبة الأبيض، وإِن لم يصحّ بعد غيبوبة الأحمر، وهو خلاف مذهبكم.

قلت: عُمْدَتنا الحديث المصرّح فيه بما يدلّ على الأحمر، وهو حديث عبد الله بن

(1)

أخرجه مالك (1/ 398) رقم (193)، والبخاري كتاب الصلاة: باب الصلاة بين السواري في غير جماعة، ومسلم كتاب الحج: باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة بها (388)، وأبو داود (2023)، والدارمي (2/ 53)، والنسائي (1/ 22) من حديث ابن عمر، وأخرجه أحمد (2/ 50) مختصرًا بلفظ: صلى في البيت ركعتين.

ص: 168

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عمر: "ووقت المغرب ما لم يسقط نور الشَّفق" رواه مسلم، ونور الشفق: حُمْرته.

هذا وقد قلنا: إِن صلى بعد غيبوبة الشَّفق غير محفوظ.

وأما قول الصَّحابي: كان يفعل

(1)

، مثل ما رواه البُخَاري في "صحيحه" من حديث أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان يجمع بين الصلاتين في السَّفَرِ"

(2)

، فإِنه من حيث لفظه لا يقتضي تَكْرَار الفعل، إِذا كان لا يقتضي التكرار، فمقتضاه وقوع الجمع مرة، وهو إِما في وقت الأولى منهما، أو في وقت الثَّانية، ويستحيل أن يكون الجمع مرة واحدة يقع فيهما، فإِذن "لا يعم وقتيهما" من حيث لفظه، كما قلنا في:"صلّى داخل الكعبة".

نعم يتميز عن مثل: "صلى داخل الكعبة" بأن العرف فيه يقتضي [التكرار]

(3)

، وإِليه الإِشارة بقوله:"وأما تكرر الفعل المستفاد من قول الراوي: كان يجمع"؛ فإِن العادة جارية بأن ذلك لا يقال إِلَّا لمن تكرر منه الفعل، "كقولهم: كان حاتم يكرم الضيفَ".

وقوله تعالى في قصّة إِسماعيل عليه السلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [سورة مريم: الآية 55] والمراد به التكرار.

ولقائل أن يقول: روى أبو داود في "سننه" بسند صحيح عن عروة عن عائشة رضي الله عنهما قالت وهي تذكر شأن "خيبر": كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إِلى يهود "خيبر" فيَخْرص النَّخل

(4)

.

(1)

ينظر: شرح العضد 2/ 118، وإرشاد الفحول 125، والمحصول (1/ 2/ 648 - 650)، والقواعد والفوائد ص (237)، والمسودة (115)، والأحكام للآمدي 2/ 233، والمختصر لابن اللحام (112)، وجمع الجوامع 1/ 425، وفواتح الرحموت 1/ 293، ونهاية السول 2/ 361، وتنقيح الفصول (189)، والتمهيد 335 - 336 (13).

(2)

أخرجه البخاري 3/ 666، في تقصير الصلاة: باب يصلي المغرب ثلاثًا في السفر (1091)(1092)، (1106)، (1109)، (6668)(1673)، (1805)، (3000)، ومسلم 2/ 488، في كتاب صلاة المسافرين: باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر (42/ 703)، وأخرجه مالك في الموطأ 1/ 144، في قصر الصلاة: باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر.

(3)

في أ، ج: التكرر.

(4)

أخرجه أبو داود (1606) وأحمد (6/ 163)، والبيهقي (4/ 123) من حديث عائشة: وله شاهد من حديث جابر. =

ص: 169

وَأَمَّا دُخُولُ أُمَّتِهِ، فَبِدَلِيل خَارِجِيٍّ؛ مِنْ قَوْلٍ، مِثْلُ:"صَلُّوا كَمَا رَأَيتُمُونِي أصَلِّي"، وَ:"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " - أَوْ قَرِينَةٍ؛ كَوُقُوعِهِ بَعْدَ إجْمَالٍ، أَوْ إِطْلاقٍ، أَوْ عُمُومٍ، أَوْ بِقَوْلهِ:"لَقَدْ كَانَ لَكُمْ"[سورة الأحزاب: الآية 21]- أَوْ بِالقِيَاسِ.

فقد استعملت عائشة رضي الله عنها "كان يفعل " من غير تكرار؛ لأن "خيبر" كانت سنة سبع، وعبد الله بن رَوَاحَةَ قتل سنة ثمان، وعدم دلالتها على التَّكرار وضعًا وعرفًا هو ظاهر إيراد الإمام الرَّازي، ولعلّ المصنّف لا يدعي أن دلالتها عليه بالوَضْعِ، بل بالعرف، ولا شك أن الفهم يتبادر إليه حيث ورد مثل هذا اللَّفظ لا يكاد يختلج فيه، بل قد يتبادر منه، وإن تعقّبه لفظ الشرط والجزاء الذي لو جُرِّد عن "كان" لم يشهد بأصل الوقوع البتة، كما في قول عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعْتَكفَ يدني إليَّ رأسه فأُرَجِّلُهُ"

(1)

.

وقول حذيفة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام يَشُوصُ فَاهُ بُالسواك

(2)

.

واعلم أن هذه المسألة، وهي دلالة "كان" على التكّرار غير مسألة دلالتها على الانقطاع الذي ادّعاه شيخنا أبو حَيّان، وأنكره ابن مالك؛ فإنه لا يلزم من التكرار عدم الانقطاع، فقد يتكرر الشيء ثم ينقطع.

نعم، يلزم من عدم الانقطاع التَّكرار، ولكن لا قائل بدلالتها على عدم الانقطاع، بل القائل قائلان:

قائل بأنها كسائر الأفعال لا دلالة لها على الانقطاع بإثبات ولا نفي، وهو اختيار ابن مالك.

وقائل: إنها تدلّ على الانقطاع، وهو رأي شيخنا.

الشرح: "وأما دخول أمته" صلى الله عليه وسلم تحت هذه الأحكام، "فبدليل خارجي" دالّ على

= أخرجه البيهقي (6/ 163)، وأحمد (3/ 367)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 317) من طريق أبى الزبير عنه.

(1)

أخرجه البخاري (4/ 320، 321)، كتاب الاعتكاف: باب الحائض ترجل رأس المعتكف رقم (2028)، وباب لا يدخل البيت إلا لحاجة رقم (2029)، وأطرافه في (2033، 2034، 2041، 2045)، ومسلم (1/ 244)، كتاب الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، وطهارة سؤرها والارتكاء في حجرها والقراءة فيه رقم (6/ 297) واللفظ له.

(2)

أخرجه البخاري 1/ 424، كتاب الوضوء: باب السواك (245)، وفي 2/ 435 كتاب الجمعة: =

ص: 170

قَالُوا: قَدْ عُمِّمَ نَحْوُ: "سَهَا، فَسَجَدَ"، وَ"أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ الْمَاءَ" وَغَيْرِهِ.

تأسيهم، مأخوذ إما "من قوله مثل: صَلُّوا كَما رَأَيْتُمُوني أُصَلِّي" و: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ""، وقد تقدم الكلام على الحديثين في مسألة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.

"أو" من "قرينةٍ، كوقوعه بعد إجمال" مثل القَطْع من الكُوع بعد آية السرقة، "أو إطلاقٍ، أو عمومٍ، أو بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ" فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب: الآية 21]"أو بالقياس" هذا كلام المصنف تبعًا للآمدي.

ولقائل أن يقول: دخول الأمّة وعدم دخولهم لا تعلّق له بهذه المسألة التي هي معقودة بخصوص الفعل أو عمومه، بل هي مسألة أخرى تقدمتْ في مسألة النَّاسي، واختار فيها أنه إذا تجرد وعلمت صفته، فأُمّته مثله، والا يعلم، فإن ظهر قصد القُرْبة فندبٌ، وإلا فمباح.

وعذر الآمدي والمصنّف أنهما استشعرا سؤالًا، وهو أن يقال: فكيف دخلت الأمة في ذلك؟.

فأجابا عنه، وكان من حقّهما لو أورد هذا السؤال أن يقال: ذلك مأخوذ من دليلٍ خاصّ، أو معروف من مسألة النَّاسِي، وليس مِمَّا نحن فيه في شيء، وأما ما فعله فمدخول؛ لمخالفته لما قدمه.

"فائدة"

قوله: "أو قرينة" معطوف على المجرور من قوله "بدليل".

فإن قلت: يلزم عطف الأَخَصّ على الأعم؛ لأن القرينة وما بعدها أيضًا دليل.

قلت: المعطوف عليه الَّذي هو المجرور ليس هو مطلق الدَّليل، بل الدليل القولي المُغَاير للإطلاق والعموم؛ أَلا تراه خصصه بقوله: من قول: مثل: "صَلُّوا"؟ " أي: بدليل قوله مثل: "صلوا"، أو دليل ولكن غير قوله مثل القرينة والقياس، أو قول ولكن لا مثل "صلوا"، بل إطلاق أو عموم، ولذلك أقول: لو لم يفصل بين لفظ القرينة والقياس كان أحسن؛ فإن الدليل إما لفظ خاص مثل: "صلوا"، أو مطلق أو عام، أو غير لفظ، وذلك قرينة أو قياس.

الشرح: "قالوا: قد عمم" حكم الفعل للأُمّة، فدل على أن التعميم مأخوذ من

= باب السواك يوم الجمعة (889) وفي 3/ 24 كتاب التهجد: باب طول القيام في صلاة الليل (1136)، ومسلم 1/ 220، كتاب الطهارة: باب السواك (46/ 255).

ص: 171

قُلْنَا: بِمَا ذَكَرْنَاهُ لا بِالصِّيغَةِ.

‌مَسْأَلَةٌ:

نَحْوُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: "نَهَى [عليه الصلاة والسلام] عَنِ بَيْعِ الغَرَرِ"،

وَ"قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ" - يَعُمُّ الْغَرَرَ وَالْجَارَ.

الفعل، وذلك "نحو "قول عمران بن حُصَين رضي الله عنه:"إن النبي صلى الله عليه وسلم "سها فسجد"". رواه أبو داود، والترمذي، والحاكم، وقال: على شرط الشيخين، ولكن تكلم فيه البيهقي، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر عنده الغُسْل من الجنابة:""أَمّا أَنَا فَأُفِيضُ المَاءَ" عَلَى رَأْسِي ثَلاثَةَ أَكُفٍّ"

(1)

رواه البخاري ومسلم.

ولفظ البخاري: "أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأسِي ثَلاثًا"، "وغيره".

"قلنا": إنما استفيد بالتعميم "بما ذكرناه" من قيلٍ أو قرينةٍ "لا بالصيغة" صيغة الفعل.

"مسألة"

الشرح: "نحو قول الصحابي: نهى رسول الله " صلى الله عليه وسلم عن بيع الغَرَرِ" رواه مسلم من حديث أبي هريرة، و"قضى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ"

(2)

، وهو لفظ لا يُعْرَف، ويقرب منه ما رواه

(1)

أخرجه البخاري كتاب الغسل: باب من أفاض على رأسه ثلاثًا (254) وأبو داود (1/ 112) كتاب الطهارة باب الغسل من الجنابة، وأحمد (4/ 84) وابن ماجه (575) والبيهقي (1/ 176)، وعبد الرزاق (995) والطيالسي (223) من حديث جبير بن مطعم.

(2)

قال ابن كثير في "تحفة الطالب" ص 278: فلم أر هذا اللفظ في شيء من الكتب الستة.

لكن له لفظ آخر وهو: قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.

أخرجه البخاري (3/ 47) كتاب الشفعة باب الشفعة. فيما لم يقسم، ومسلم (3/ 1229) كتاب المساقاة: باب الشفعة، حديث (134) وأبو داود (3514)، والترمذي (3/ 645) أبواب الأحكام: باب ما جاء إذا حدّت الحدود (1370) وابن ماجه (2/ 835) رقم (2499) والدارمي (2/ 274) وأحمد (3/ 296، 299) من حديث جابر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه النسائي (7/ 321) من طريق حسين بن واقد عن جابر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة والجوار.

ص: 172

لنَا: عَدْلٌ عَارِفٌ، فَالظَّاهِرُ الصِّدْقُ؛ فَوَجَبَ الاِتِّبَاعُ.

قَالُوا: يَحْتَمِلُ: أَنَّهُ كَانَ خَاصًّا، أَوْ سَمِعَ صِيغَةً خَاصَّةً؛ فَتَوَهَّمَ، وَالاِحْتِجَاجُ لِلْمَحْكِيِّ.

قُلْنَا: خِلافُ الظَّاهِرِ.

النسائي عن الحسن قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالجِوَارِ، وهو مرسل.

قال أصحابنا: لا يجوز دعوى العموم فيه

(1)

.

وقيل: إن قال: كان يقضي عمر كما سبق.

وقال المصنّف: "يعم الغَرَر والجَار" مطلقًا، وهو شيء ذكره ابن الأَنْبَاري شيخ المصنّف في "شرح البرهان" سؤالًا ودفعه.

وذكره الآمدي بحثًا، فارتضاه المصنّف، وأقامه مذهبًا لنفسه، واحتج له بالبحث الذي أبداه الآمدي فقال:

الشرح: "لنا" الصحابي "عَدْل عارف" باللغة، وقد أتى بلام الجنس في الغَرَرِ والجار، "فالظاهر الصدق"؛ إذ لو لم يعلم العموم لم يأت بصيغته؛ "فوجب الاتباع".

ولقائل أن يقول: الصِّيغة المذكورة تقتضي تقدم غَرَرٍ خاصّ، وجارٍ خاص وفع القضاء فيهما قطعًا، فهما مَعْهُودان، والعهد مقدم على العموم، فأين صيغة العموم؟ أو وقع الشك بين العهد والعموم، فلم قلتم بالعموم؟.

وأصحابنا "قالوا: يحتمل أنه كان خاصًّا" بواقعة، فنقله عامًّا؛ لظنّه العموم، "أو سمع صيغة خاصة، فتوهّم" العموم "والاحتجاج" به "للمحكي" لا للحكاية.

قال: "قلنا": هذا "خلاف الظاهر"؛ لما بَيَنا من عِرْفَان الراوي باللسان.

(1)

ينظر: شرح الكوكب 3/ 230، والمحصول 1/ 2/ 642، واللمع ص (16)، والبرهان (1/ 348)، وشرح العضد 2/ 119، وجمع الجوامع 2/ 35، ونهاية السول 2/ 366، والتمهيد (335)، والمسودة (102)، وروضة الناظر (123)، والمختصر لابن اللحام (112)، والتحرير (88)، وتيسير 1/ 249، وفواتح الرحموت 1/ 293، وإرشاد الفحول (125)، والوصول إلى الأصول 1/ 327، والمدخل (24)، والإحكام للآمدي 2/ 235.

ص: 173

مَسْألَةٌ:

إِذَا عَلَّقَ حُكْمًا عَلَى عِلَّةٍ - عَمَّ بِالْقِيَاسِ شَرْعًا لا بِالصِّيغَةِ.

ولو قيل له: فما بالك لا تسمع قوله: هذا منسوخ؛ لقال: القضاء بالنَّسْخ أمر اجتهادي، وهو يختلف باختلاف المجتهدين، فجاز أن يطلبه هو ولا يراه، بخلاف الرواية؛ فإنها لا تتوقف إلا على فهم اللسان، ولا اختلاف فيه.

وأنا أقول: ما أبديته من البحث يدفع هذا؛ فإنّ المصنف لم يثبت صيغة تعميم حتى يناضل عنها، ويجريها على مقتضاها.

ثم أقول: سلمنا أنه أتى بلام الجنس غير قاصد العَهْد، أو أنه لا عهد، ولكن الخلاف معروف في لام الجنس، فلعلّه ممن لا يرى العموم، والمسألة اجتهادية، فهي كقوله: هذا منسوخ، وممن نصّ من أصحابنا على أن مثل:"قضى بالشُّفْعَةِ للجار" لا يعم - الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وابن السمعاني، والغزالي، والإمام.

"مسألة"

النص على العلّة لا يكفي

في التعدي، بل لا بد من تقدم ورود التعبُّد بالقِيَاس؛ خلافًا للقاسَاني والنَّظَّام وغيرهما، وهذا سيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب "القياس".

وإذا ورد التعبُّد بالقياس فهي مسألتنا هنا؛ فنقول:

"مسألة"

الشرح: "إذا عَلَّق" صلى الله عليه وسلم "حُكمًا" في واقعة معيّنة "على علّة" بأن قضى فيها بقضاء ذاكرًا علّته، فإما أن يقطع باستقلالها أو لا

(1)

.

أما الأول: فقد قطع القياسيون بالتعدِّي قياسًا، وشذّ من قال فيه: يتعدى لفظًا، ولم يقل أحد هنا: إنه لا يتعدّى أصلًا إلّا بغض من أنكر أصل القياس، ولا كلام هنا معه؛ لأن الكلام هنا فع مثبتي القياس.

(1)

ينظر: الإحكام للآمدي 2/ 236، وفواتح الرحموت 1/ 285، والتقرير والتحبير 1/ 231.

ص: 174

وَقَالَ الْقَاضِي: لا يَعُمُّ.

وَقِيلَ: بِالصِّيغَةِ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: "حَرَّمْتُ الْمُسْكِرَ؛ لِكَوْنِهِ حُلْوًا.

لَنَا: ظَاهِرٌ فِي اسْتِقْلالِ الْعِلِّيَّةِ؛ فَوَجَبَ الاِتِّبَاع، وَلَوْ كَانَ ...........

وأما الثاني: وهو ألا يقطع باستقلال العلّة، ولكن يكون استقلالها هو الظاهر، كما في المُحْرم الذي وَقَصَتْهُ نَاقَتُه، وقوله عليه السلام:"لا تُخَمِّرُوا رَأْسَه، وَلا تُقْرِبُوهُ طِيبًا؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا"

(1)

.

فإنّ الظاهر أن ذلك لا يختصّ بذلك المحرم، وهي مسألة الكتاب، فقال الشافعي:"عمَّ بالقياس شرعًا لا بالصيغة"، وهو الحق.

"وقال القاضي: لا يعم"، ومال إليه الغزالي.

"وقيل": يعم "بالصيغة"، وعُزِيَ إلى الشافعي، والصحيح عنه الأول "كما لو قال: حرمت المسكر؛ لكونه حلوًا"، فإن الطاهر أن مطلق الحلاوة علّة لا خصوص حلاوة المسكر، فيتعدّى إلى كلّ حلو، وكما ذكرناه في المحرم.

الشرح: "لنا": على ثبوته بالقياس "ظاهر في استقلال العلّية" بإثبات ذلك الحكم؛ "فوجب الاتباع" في كلّ ما اشتمل على العلّة، "ولو كان" ثبوت العموم "بالصيغة لكان قول القائل:"أعتقت غانمًا؛ لِسَوَاده" يقتضي عتق سُودَان عبيده" بأَسْرِهم؛ إذ لا فرق بينه وبين: أعتقت سُودَان عبيدي إذا قيل: إنه بالصيغة، "ولا قائل به".

قلت: وقد مَرّ بي في بعض ما لا يحضرني اسمه من الكتب أن الصَّيرفي من أصحابنا ارتكب هذا الشَّطط، وقال به.

(1)

أخرجه البخاري (2/ 166) كتاب الجنائز: باب يكفن المحرم، ومسلم (2/ 865) كتاب الحج: باب ما يفعل بالمحرم إذا مات (93: 103/ 1206) وأبو داود (3/ 560) كتاب الجنائز: باب المحرم يموت رقم (3238) والترمذي (3/ 286) كتاب الحج: باب ما جاء في المحرم يموت (951) وابن ماجة (2/ 1030) كتاب المناسك: باب المحرم يموت (3084) والدارمي (2/ 49 - 55) والطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 99) والطيالسي (2622) من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينما رجل واقف بعرفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقع عن راحلته فوقصته، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم

فذكره.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 175

بِالصِّيغَةِ، لَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ:"أَعْتَقْتُ غَانِمًا؛ لِسَوَادِهِ" - يَقْتَضِي عِتْقَ سُودَانِ عَبِيدِهِ؛ وَلا قَائِلَ بِهِ.

الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ الجُزْئِيَّةَ.

قُلْنَا: لا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ لِلاحْتِمَالِ.

الآخَرُ: "حَرَّمْتُ الْخَمْرَ؛ لإسْكَارِهِ" - مِثْلُ: "حَرَّمْتُ الْمُسْكِرَ لإسْكَارِهِ".

وَأُجِيبَ: بِالْمَنْعِ.

مَسْأَلَةُ:

الْخِلافُ فِي أَنَّ الْمَفْهُومَ: "لَهُ عُمُوم؟ " - لا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّ ...........

الشرح: واحتج "القاضي" بأنه "يحتمل الجزئية" أي: كون الإسْكَار جزءًا من العلّة، فلا يكون كونه حُلوًا هو العلة بتمامها.

وكذا قال في المُحْرم: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم عَلِمَهُ يموت مسلمًا مخلصًا في عبادته مَحْشورًا ملبّيًا وقصت به ناقته، لا بمجرد إحرامه.

الشرح: "قلنا": ما ذكره احتمال، ولكن "لا يترك الظاهر للاحتمال"، وهنا يعود الخلاف بيننا وبينه مخرجًا على أَصْل بيننا لا ينبغي لك إغفاله، وهو أنا نكتفي بالظواهر في العمليات، وهو أبدًا يتطلّب القطع؛ فلذلك خالف هنا، فلا تحسبه ينكر الظُّهَور، بل يعترف به، ولا يكتفي به فاحفظ هذا، فهو كثير المرور بك.

واحتج "الآخر" القائل بأنه يعمّ بالصيغة بأن "حرمت الخمر لإسكاره مثل: حرمت المسكر"، فليعم بالصيغة مثله.

"وأجيب بالمَنْعِ" من المساواة، وهو حق.

"مسألة"

الشرح: "الخلاف في أن المفهوم " هل "له عموم

(1)

لا أو لا - "لا يتحقق؛ لأن مفهومي

(1)

ينظر: المحصول (1/ 2/ 654 - 655)، والمستصفى 2/ 70، والإحكلام للآمدي 2/ 237،=

ص: 176

مَفْهُومَيِ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالفةِ عَامٌّ فِيمَا سِوَى الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَلا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.

وَمَنْ نَفَى الْعُمُومَ؛ كَالْغَزَالِيِّ: أَرَادَ أن الْعُمُومَ لَمْ يَثْبُتْ بِالْمَنطُوقِ بِهِ، وَلا يَختَلِفُونَ فِيهِ أَيْضًا.

الموافقة"، وهو ما كان الحكم في المسكوت عنه موافقًا للمنطوق "والمخالفة"، وهو ما كان مخالفًا "عام فيما سوى المنطوق به"، أي": ثابت في كل الصور، "و" ذلك مما "لا يختلفون فيه".

الشرح: "ومن نفى العُمُوم كالغَزَالي" لم يرد أن الحكم غير ثابت في صور [المسكوت]

(1)

؛ إذ هو خلاف الاتفاق، وإنما "أراد أن العموم لم يثبت بالمنطوق " فقط، بل بواسطته، "ولا يختلفون فيه أيضًا"، فإذن لا يتحقّق الخلاف، وهو في الحقيقة مبني على أَنَّ العموم هل هو من عوارض، الألفاظ فقط؟ أو من عوارض الألفاظ والمعاني؟

والثاني: قول المصنف، والأول قول الغَزَالي وجمهور أصحابنا؛ فلذلك يسمون المفهوم عامًا.

والقول بأنه لا يسمى عامًا هو قضية إيراد الأكثرين من أئمّتنا، كالشيخ أبي حامد ومن بعده، وقد صَرّح الغزالي وغيره أن الخلاف مبني على ذلك، وهو لفظي.

وحكى الشَّيخ أبو حامد، وأبو إسحاق الشِّيرَازي، والإمام الرازي وغيرهم من أئمتنا خلافًا في أن مفهوم المُخَالفة هل يدل على نفي الحكم عَمَّا عدا المَنْطُوق مما هو من جنسه؟ أو مطلقًا حتى يدل قوله عليه السلام:"فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ"

(2)

على أنّ غير السائمة لا

= وشرح الكوكب المنير 3/ 321، وشرح التنقيح (191)، وتيسير التحرير 1/ 260، وشرح العضد 2/ 120.

(1)

في أ، ج: السكوت.

(2)

أخرجه البخاري 3/ 365 - 366 كتاب الزكاة: باب الفرض في الزكاة (1448) وأطرافه في (1450 - 1451 - 1453 - 1454 - 1455 - 2487 - 3106 - 5878 - 6955). وأبو داود 2/ 96 - 98 كتاب الزكاة: باب في زكاة السائمة برقم (1567).

ص: 177

مَسْأَلَةٌ:

قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: مِثْلُ قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِر وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ": مَعْنَاهُ: "بِكَافِرٍ"؛ فَيَقْتَضِي الْعُمُومَ إِلَّا بِدَلِيل؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

زكاة فيها وإن كانت من غير الغنم؟.

وظنّ بعضهم أن هذا الخلاف يبنى على أن المفهوم هل له عموم؟.

وهو وهم؛ فإن هذا الخلاف إنَّمَا هو في تحقيق مقتضى المفهوم، وهل هو نفي الزكاة عن كلّ معلوفة؟ أو عن معلوفة الغنم خاصّة؟ وأيًا ما كان فهو شامل لما هو مقتضاه.

وذكر شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد أن اختلاف أصحابنا في الماء النجس، إذا كُوثِرَ بماء ولم يبلغ قلّتين هل يطهر؟ -

ينبني على ذلك.

فإن قلنا: له عموم، لم يطهر، وهو الصحيح والأظهر، ووجه البناء أن قوله عليه السلام:"إذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ"

(1)

دالّ بمفهومه على أنّ ما دون القُلَّتين ينجس بملاقاة النجاسة سواء أتغير أم لم يتغير، كوثر ولم يبلغهما أم لم يكاثر.

وإن قلنا: لا عموم للمفهوم لم يقتض الحديث النَّجَاسة في هذه الصورة، ولذلك الماء القليل الجاري إذا وقعت فيه نجاسة ولم يتغير، فإنه على قولين:

الجديدة ينجس، والقديم: لا ينجس، ينبني على ما ذكر.

قلت: ولا يخفى أن هذا البناء إنما يصحّ لو كان القائل بأنه لا عموم له لا يثبت حكمه في جميع الصور، وليس كذلك كما عرفت.

"مسألة"

الشرح: "قالت الحنفية: مثل" ما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من

(1)

أخرجه أبو داود 1/ 17، في الطهارة: باب ما ينجس الماء (63)، والترمذي في الطهارة 1/ 97: باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء (67)، وابن ماجه 1/ 172، في الطهارة: باب مقدار الماء الذي لا ينجس (517)، والنسائي 1/ 46 في الطهارة: باب التوقيت في الماء.

ص: 178

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ"

(1)

.

"معناه" ولا ذو عهد في عهده "بكافر؛ فيقتضي العموم إِلَّا بدليل، وهو الصحيح".

أقول: اعلم أن المسألة مُتْرجمة بـ "أن العطف على العامِّ هل يقتضي العموم في المعطوف؟ "

(2)

.

وهذه ترجمة تتجاوز المَقْصُودَ؛ لانطباقها على صور لا خلاف فيها، كما لو قال عليه السلام:"لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِحَرْبِيٍّ"، وهذا ما لا يسع أحدًا أن يقول فيه بـ "اقتضاءُ العطف على العام العموم؛ حتى لا يقتل المُعَاهد بكافر حربيًا كان أو ذميًا".

والمقصود بالمسالة إنما هو أن إحدى الجُمْلتين إذا عطفت على الأخرى، وكانت الثانية تقتضي إضمارًا [لتستقيم]

(3)

كقوله: "وَلا دو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" على ما يدّعيه الحنفيون، فإنها لا تستقيم عندهم بدون إضمار، فهل يضمر ما تقدّم ذكره إن كان عامًّا اقتضى العَطْف عليه تقدير العام، وكان العَطْف على العامّ يقتضي العموم لذلك؟ أو يضمر مقدار ما يستقيم به الكلام فقط؛ لأن ما وراءه تقدير لا حاجة إليه؟.

قالت الحنفية بالأول.

وقال أصحابنا بالثاني.

(1)

أخرجه البخاري 1/ 246، كتاب العلم: باب كتابة العلم (111)، وأطرافه في (1870 - 3047 - 3172 - 3179 - 6755 - 6903 - 6915 - 7350)، وأخرجه أبو داود 4/ 666 - 668، كتاب الديات: باب المسلم بالكافر (4530)، والنسائي 8/ 19، كتاب القسامة: باب القود بين الأحرار، والحاكم في المستدرك 2/ 141، كتاب قسم الفيء، وقال: على شرط الشيخين: ووافقه الذهبي، وأحمد في المسند 1/ 119.

(2)

ينظر: المعتمد 1/ 308، والمحصول 1/ 2/ 623، 1/ 3/ 305، والتمهيد لأبي الخطاب 2/ 172، والمسودة 140، والمستصفى 2/ 70، وجمع الجوامع 2/ 32، والإحكام للآمدي 2/ 238، شرح العضد 2/ 120، تيسير التحرير 1/ 261، وفواتح الرحموت 1/ 298، وإرشاد الفحول 139.

(3)

في أ: المستقيم، ح: التنقيم.

ص: 179

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد أجاد ابن السَّمعاني إذ افتتح المسألة بقوله: المعطوف لا يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره مما في المعطوف عليه، بل يضمر قدر ما يفيد ويستقل به، وعند أصحاب أبي حنيفة يضمر فيه جميع ما سبق مما يمكن إضماره. انتهى.

والمصنف لما رأى ترجمة المسألة عند المتأخّرين مختلفة، وهي قولهم: العَطْف على العام هل يقتضي العموم؟.

عدل عنها وقال: مثل قوله عليه السلام كما عرفت.

واعلم أن من المشهور أنّ مَذْهب الحنفية قتل المسلم بالذمي، ومن مذهب الفريقين أن النكرة في سياق النَّفْي للعموم، وقائل ذلك لا يستنكف أن يقضي بالعموم على مثل:"لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"؛ إذ هو أحد أفراد النكرة في سياق النفي.

ثم هو إن كان شافعيًّا انْسَحَبَ على أصله، واستمرت الصيغة عنده على عمومها، وإن كان حنفيًّا قال: لست أنكر أن قضيتها العُمُوم، ولكن عندي دليل خاصّ على قتل المسلم بالذمي.

وإذا كان قوله: "وَلا ذُو عَهْدِ فِي عَهْدِهِ" معناه: بكافر، صح أن يقال: إن قضيته العموم، وإن كان مذهب القائل: إن المعاهد يقتل بالذمي؛ لأن قتله إياه على ما يدعيه لدليل مخصّص لهذا العموم، وإذًا وضح لك ما ذكرناه، وأن الحنفية يجعلون المضمر في الثانية هو المذكور في الأولى.

واعلم أن جماعة من أصحابنا ساعدوهم حتى قال ابن السمعاني: - وهو شَدِيدٌ عليهم - كلامهم ظاهر جدًّا.

وأفصح المصنف بتصحيحه، وأن قوله: وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ" يقتضى العموم، لأن المضمر فيه هو المذكور في قوله: "لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بكافرٍ" وأشار إلى هذا كله بقوله عن الحنفية "ولا ذو عهد في عهده" معناه: بكافر، أي المعنى: ولا ذو عهد في عهده بكافر، لأن المضمر في الثانية المذكور في الأولى. ومذهب غيرهم أن المذكور في الأولى ليس هو المقدر في الثانية، واختار هو مذهب الحنفية.

فإذن محلّ النزاع في أنه هَلْ يجب تقدير ما ذكره في الأولى، أو ما يستقل به الكلام

ص: 180

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فقط لا في أن مطلق العطف على العام هل يقتضي العموم كما فهمه الشِّيرازي وغيره من الشارحين؟.

وإذا كان المذكور في الأولى هو المقدر في الثانية، فقوله عليه السلام:"وَلا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ" معناه: بكافر، وإذا كان كذلك فيقتضى العموم، كما أن قوله:"لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ" يقتضي العموم إلا بدليل؛ لأنه حنيئذ كالملفوظ به، فهو كما لو قال عليه السلام:"لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ"، وهو لو قال كذلك قضى عليه بالعموم كلّ من قال بتعميم النكرة في سياق النفى.

ثم إن قام دليل مخصوص عند أحدٍ قال به، وفيما نحن فيه مثلًا قام دليلٌ مخصوص عند الحنفيّة للجملتين المعطوفة، والمعطوف عليها، كقولهم:"يقتل المسلم بالذمى، ويقتل المعاهد بالمعاهد".

وقام عند المصنف دليل مخصص للمعطوف فقط؛ لأنه يقول بأن المسلم لا يقتل بالذمى كما يقول الشافعيون.

وبهذا أيضًا يتضح لك أن العموم لم يحصل من مجرد العطف، ولا اقتضى التعميم، وإن صرَّح اللَّفظ بالخصوص كما قلناه فيما لو قال:"ولا ذو عهد في عهده بحربي" وإنما حصل من تقدير المذكور أولًا، ويتضح لك أيضًا أن المصنف فَرَّ من التعبير بأن العطف على العامّ هل يقتضى العموم لما يلزمه من الخلل وأن من نزل كلامه من شارحي الكتاب على هذا المعنى أوقعه فيما فَرَّ منه، ولم يفهم مراده.

وهنا مهمّ ننبه عليه قبل الحِجَاجِ فنقول:

إذا حفظت أنَّا معاشر الشافعية لا نقدر إلا ما يستقلّ به الكلامُ فقط، وأن الحنفية يقدرون المذكور أولًا، وهو رأى المصنّف، فلا يخفي عليك أن للجملتين اللتين عطفت إحداهما على الأُخرى أحوالًا:

إحداها: أن يتضح كون الثَّانية مستقيمة، وهذا ما لا حاجة فيه إلى تقديرٍ، وليس من كلام القوم في شيء، ومنه فَرَّ من التعبير بأن العطف على العام هل يقتضي العموم

ص: 181

لنَا لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ شَيْءٌ لامْتَنَعَ قَتْلُهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَيَجِبُ الأَوَّلُ لِلْقَرِينَةِ.

كالمصنف، وعذر مَنْ تسامح، وأطلق عبارة مشتملة أنه مما يتضح خروجه عن محل النزاع، ولا يلتبس على محصل، وهو كما قدمنا مثل:"لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده بحربي".

الثانية: أن يتضح عدم استقامتها إلا بتقدير وإضمار، ولا يخفي أنه موضع الخلاف، وأن الحنفية يقدرون الأول، ثم له حالتان:

لأن الأولى إما أن تكون عامًّا أو خاصًّا، فإن كان عامًّا قالوا بالعموم في المعطوف، ويقع العموم فيه أمرًا اتفاقيًا دعا إليه إضمار ما تقدم ذكره، وإن كان خاصًّا كما لو قيل: لا يقتل مسلم بحربي، ولا ذو عهد في عهده، لم يقولوا بالعموم في المعطوف.

ثم لا يَقْدَحُ عندهم في هذه القاعدة مخالفتهم مقتضاها في الحديث المذكور حيث قتلوا المعاهد بالذمى؛ لأن المخالفة كانت لدليلٍ آخر لا لكون المضمر خاصًّا، حتى إن عندهم أنه لو لم يوجد دليل غير هذا الحديث يدلّ على وجوب قتل لمعاهد بالذمى، لامتنعوا من قَتْلِهِ بمقتضى هذا الحديث.

والثالثة: ألَّا يتضح الحال، فيذهب قوم إلى أنها محتاجة، فهي عندهم من مواقع الخلاف، ويذهب آخرون إلى أنها غير محتاجة، وأنها خارجة عن محلّ النزاع، وهذا مثل قوله عليه السلام: "وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، عند المحققين من أصحابنا، فإنهم يقولون: هذا تام لا يحتاج إلى تقدير، وليس ما نحن فيه كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

الشرح: قوله: "لنا: لو لم يقدر شيء لامتنع قتله" أي قتل ذي العهد "مطلقًا، وهو باطل"؛ لأنه يقتل بالمسلم؛ "فيجب" تقدير شيء لاستقامة الكلام، وقد تقدَّم في [مسألة]

(1)

المقتضى أنه إذا تعيّن ما يضمر وجب كونه المضمر، وهنا "الأول" متعيّن "للقرينة" وهي العطف، فيجب تقديره، وبهذا يظهر لك أن مراد المصنف أن الجملة الثانية إذا اقتضت

(1)

في أ، ج: المسألة.

ص: 182

قَالُوا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ:"بِكَافِرٍ" الأوَّلُ - لِلْحَرْبِي فَقَطْ؛ فَيَفْسَدُ الْمَعْنَى؛ وَلَكَانَ {وَبُعُولَتُهُنَّ} [سورة البقرة: الآية 228]- لِلرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِيرُ "الْمُطَلَّقَاتِ.

إضمارًا أضمر ما كان مذكورًا في الأولى، ثم إن كان عامًا حصل العموم في المعطوف بالتبع لذلك، لا أن العَطْف على العامّ يقتضي العموم؛ لوجوب الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات؛ إذ لم يتعرض لذلك، وقد استدلّ على اقتضاء الجملة الثانية فيما نحن فيه الإضمار بقوله:"لو لم يقدر شيء" أي: وكان كلامًا مستقلًا غير مفتقر إلى إضمار لامتنع قَتْل المُعَاهد مطلقًا، وهذه ملازمة ظاهرة؛ إذ يصير المعنى: ولا يقتل المعاهد، وذلك يقتضي امتناع قتله، وبطلان التالي صرح به المصنف فقال:"وهو باطل" أي وامتناع قتله باطل؛ لإمكانه شرعًا، وهذا دليل ردّ به المصنّف على من يقول: إن قوله: "وَلا ذُو عَهْدٍ" غنى عن الإضمار، فلا يكون لكون الجملة الثانية تقتضي إضمارًا مدخل في القاعدة المذكورة.

واستدلّ - أعني المصنف - على كون المضمر هو المذكور في الأولى بقرينة العطف. قالت الحنفية: ولذلك لو قال: لا يقتل اليهود بالحَدِيدِ ولا النصارى، كان معناه: ولا يقتل النصارى بالحديد، ولا يقتصر فيه على إضمار القتل فقط، وإنْ كان الكلام يستقل به.

ولا يخفي على ذي الفَهْمِ أن للمصنّف أغراضًا اشتمل دليله بزعمه على إثباتها:

أحدها: وجوب تقدير الأول، حيث وردت جملتان متعاطفتان تحتاج الثانية منهما إلى إضمار.

والثاني: أن هذا الحديث من هذا القبيل.

والئالث: أنه إذا قُدِّر بكافرٍ كان عامًا.

أما الأولان فقد صرح بهما في الدليل.

وأما الثالث، وهو العموم الذي استنتجه من وجوب تقدير بكافر؛ فلأنه [لازم]

(1)

لما

(1)

في ج: لأنهم.

ص: 183

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أثبته من إيجاب تقدير شيء في المعطوف، وأن المقدر هو الأول، فإنه إذا ثبتت هاتان المقدّمتان صار المعنى: ولا ذو عهد في عهده بكافر، فيقتضي العموم عند القائلين بأن النكرة في سياق النفى تعم وهو واضح، ولا إنكار فيه إذا أثبتت المقدمتان، فلذلك لم يصرح به، ولكن تعرض له، ولهذا قلنا فيما أسلفناه: إنه ليس سبب العموم في الثانية العطف، وإنما العطف قرينة تعين المضمر كالمظهر:

فإن كان عامًا فهو عام، كالحديث المذكور على زعمه.

وإن كان خاصًا فهو خاص، كما لو قيل: لا يقتل مسلم بحربي، ولا ذو عهد في عهده. هذا آخر الكلام على دليل صاحب الكتاب، وهو كما لا يخفي عنك تبين وَهْمُ مَنْ حمل كلامه في صدر المسألة على أن مراده: أنها في بيان أن العطف على العام يقتضي العموم حيث لم يستنتج به الأولون.

الثانية: تقتضي الإضمار، وكون المضمر الأول، وقد قدمنا لك السِّرَّ في عدوله عن التعبير بأن العطف على العام هل يقتضي العموم؟.

وإذا تقرر لديك دليله فاعلم: أنا لا نحفل به، ونقول: إنما [يبحث]،

(1)

عن وجوب تقدير الأول عند الاحتياج إلى أصل التقدير، ونحن لا نسلّم احتياج قوله:"وَلا ذُو عَهْدٍ" إلى تقدير، بل هو كلام تام مستقل.

قولك: يلزم أَلَّا يقتل ذو العَهْدِ مطلقًا.

قلنا: يلزم من هذا الحديث، وقتله حيث [نقتله]

(2)

من دليل آخر، وهو كما لزمك الّا يقتل بالمعاهد إذا قدرت بكافر، وهو يشمل المعاهد الذي تقتله أنت أيها الحَنفي وسائر الأمة [به]

(3)

، فكما قدرت عمومًا، وأخرجت بعض - أفراده بدليلٍ نُجْرِي نحن الكلام على ظاهره، ونُخْرج بعض أفراده بدليل، فاشتركنا معك في إخراج بعض الأفراد، وافترقنا في أنك تقدر، ونحن لا نقدر، ولا ريب في أن عدم التقدير أولى.

سلمنا أن قوله: "ولا ذُو عَهْدٍ" غير مستقل، ولكن ذلك لو اقتصر على قوله: ولا ذو عهد.

أما مع قوله: "في عهده" فلا؛ وذلك لأن هذه الزيادة تفيد فائدة جديدة، وليست إلا

(1)

في ب: نبحث.

(2)

في أ: بقتله.

(3)

سقط في أ، ج.

ص: 184

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنع من [قتله]

(1)

ابتداء؛ لعهده.

قال ابن السمعاني: ونظير هذا لو قال: "لا تقتلوا اليهود بالحديد، ولا النصارى في الأشهر الحرم" كان معناه لا تقتلوا اليهود بالحديد، ولا النصارى في الأشهر الحرم أصلًا، وليس معناه: ولا تقتل النصارى في الأشهر الحرم بالحديد؛ بِبَيِّنَةِ أنه لو قال بدل قوله: ولا ذو عهد في عهده: ولا رجل في عهده لاقتضى ألَّا يقتل رجل في عهده، بحال؛ ليكون قوله: في عهده يفيد فائدة جديدة، فكذلك قوله: ولا ذو عهد في عهده.

سلّمنا وجوب التقدير مع قوله: في عهده، ولكن لِمَ قلتم: إن المذكور أولًا متعيّن؟ قولكم: القرينة تعينه.

قلنا: القرينة توجب ألَّا يهدر، والضرورة إلى التقدير توجب ألَّا يتقدر بقدر الضرورة، فليقدر بعض ما اشتمل عليه الأول جمعًا بين الدليلين، وهو في المثال الذي أوردته: الحربي الذي هو أخصّ من الكافر، فالتقدير: ولا ذو عهد في عهده بحربي.

سلمنا وجوب تقدير المذكور أولًا بجملته، وأن المعنى بكافر، ولكن لِمَ قلتم: إنه يقتصر على ذلك؟ وهذا يقدر بكافر ومسلم معًا؛ بِناءً على أن المضمر ينبغي أن يقدر فيه جميع ما يمكن إضماره، وهو رأى لكم سبق ذكره في مسألة المقتضى.

فإن قلتم: منَعَنَا عنه أنّ المعاهد يقتل بالمسلم.

فنقول: فليمنعكم عن تقدير "بكافر" أن المعاهد يقتل بالمُعَاهد، فلأي معنى فَرَرْتُمْ مما هو أعم من المسلم والكافر إلى تقدير الكافر وهو أخص؛ لأجل ما ذكرتم، ولم [تَفِرُّوا]

(2)

من تقدير الكافر، وهو أعم من المعاهد والحربي إلى تقدير الحَرْبِيّ وهو أخصّ؛ لأجل أن المعاهد يقتل بالمعاهد؟

فإن قلت: ما وجه الارتباط بين هاتين الجُمْلتين على ما يزعمون حينئذ؛ إذ لا تظهر مناسبة لقولنا: ولا ذو عهد في عهده مطلقًا، مع قولنا: لا يقتل مسلم بكافر.

قلت: قال فقيه الشافعية أبو إسحاق المَروَزِيّ في "التعليقة": كانت عداوة الصحابة للكفار في مبدأ الإسلام شديدة جدًّا، فلما قال عليه الصلاة والسلام:"لا يقتل مسلم بكافر" خشي أن يتجرَّد هذا الكلام، فتحملهم العَدَاوة الشديدة بينهم على قتل كافر من معاهد

(1)

في ب: قيله.

(2)

في أ: ج: تقدوا.

ص: 185

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وغيره، فعقَّبه بقوله ما معناه: ولا يقتل ذو عهد في زمن عهده.

فإن قلت: القصاص وإن انتفى بين المسلم والكافر، فالحرمة باقية؛ إذ لا يحل الإقدام على قتل المعاهد والذمى، والحرمة كافية في إِحْجَامِ الصحابة عن قتل المعاهد.

قلت: قد كان ذلك في صدر الإِسْلامِ، ومن أين لهم عِرْفان الحرمة إذ ذاك؟ بل من أين لك وقوع الحرمة إذ ذاك؟ فلعله عليه السلام حكم أولًا بانتفاء القصاص، ولا يلزم منه ثبوت الحرمة.

ثم ثانيًا بحرمة القتل، وهذا منتهى الرَّدِّ على دليل المصنف، فلنذكر كلام أئمتنا، وقد ذكر في الكتاب أنهم "قالوا: لو كان ذلك" أي: لو ثبت وجوب تقدير الأول "لكان "بكافر" الأول" في المثال المذكور للحربي فقط؛ لأن الثاني أعنى المقدر "للحربي فقط" بالاتفاق، وأنت تقدر الأول بزعمك، فيكون الأول للحربي فقط، "فيفسد المعنى"؛ لدلالته حينئذ بالمفهوم على أن المسلم يقتل بالذمى، وأنت يابن الحَاجِبِ مالكي لا تقول به، فلا يكون الأول للحَرْبِيّ فقط، فلا يكون المقدر هو الأول، وهذا دليلٌ لم أر أحدًا ذكره إلا المصنّف، والسّر في ذلك أن أصحابنا إنما تكلموا في المسألة مع الحنفية، وهو [لا ينهض]

(1)

عليهم؛ لأنهم يقتلون المسلم بالكافر، فلا يفسد عندهم المعنى، بل ينتهض الحديث شاهدًا لهم.

قال أصحابنا أيضًا: "و" لو وجب تقدير الأول "لكان: "{وَبُعُولَتُهُنَّ" أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [سورة البقرة: الآية 228]"اللرجعية والبائن؛ لأنه ضمير المطلقات" بزعمك، والمطلقات للرجعية والبائن بالاتفاق، فيكون ضميرهن كذلك، ولا قائل به.

وحاصل هذا: أنه لو وجب تقدير الأول، للزم من تخصيص الثَّاني بالاتفاق، كما في المثال المذكور تخصيص الأول لأنه هو، وللزم من عموم الأول؛ بالاتفاق كما في الآية المذكورة عموم الثاني؛ لأنه هو واللازمان باطلان.

أما الأولا فعندك.

وأما الثاني فبالاتفاق.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن المصنف لم يذكر أولًا في مختصره عن أصحابنا إلا الملازمة الثانية فقط، فقال: قالوا: لو كان ذلك لكان قوله: "وبعولتهن

" إلى آخره، ثم

(1)

في ج: ينتهض.

ص: 186

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أجاب فقال: قلنا: خص بالدليل، ثم إنه الحق الملازمة الأولى، فكتبها في حاشية كتابه، وصارت هكذا: قالوا: لو كان ذلك بكافر لكان الأول للحربي فقط فيفسد المعنى، ولكان "وبعولتهن

" إلى آخره.

والحَقَ في الجواب لفظة "الثاني"، فخرجها في الخامسة وصار هكذا: قلنا: خص الثاني بالدليل، والملازمة الثَّانية هي المشهورة في الكتب، والأُولى ذكرها هو على لسان أصحابنا، وأقصى ما يقال في تقريرها ما ذكرناه.

وقررها بعض الشَّارحين هكذا: لو كان ذلك أي: قوله: "وَلا ذُو عَهْدٍ" عامًّا لكان [بكافر]

(1)

الأول للحربي فقط؛ لأنه هو الذي لا يقتل به المسلم عندكم، فيلزم فساد المعنى؛ إذ يصير معناه: لا يقتل مسلم بكافر حربي، ويقتل بالذمى، ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر لا حربي ولا ذمى، وفساده ظاهر؛ لأن ذلك لا يصلح مقصودًا للشارع؛ لما فيه من حطّ مرتبة المسلم عن الذّمى؛ فوجب تخصيص الثاني، وحمل الكلام عليه؛ دَفْعًا لهذا الفساد.

وهذا التقرير فيه نظر من وجوه:

أحدها: أنه جعل "كان" ناقصة، مع أن "عامًّا" الذي هو [خبرها]

(2)

محذوف، ونحن جعلناها تامة، فلم يلزمنا حذف خبر كان.

والثاني: أن المصنف كما قررناه لم يناضل عن عموم: "ولا ذو عهد"؛ لأنه يلزم إذا ثبت له مقدمتاه أعني إيجاب التقدير، وأن الأولى هو المقدر من غير تكلّف، وإنما ناضل عن إيجاب تقدير الأول الذي فيه التنازع والتشاجر.

والثالث: أن بطلان التالي فيه غير بيِّن، فإنه لا يلزم من كون الثاني عامًّا أن يكون الأول خاصًّا، وإنما ينبغي أن يكون الأمْر بالعكس.

وقوله في بيانه: "إنه هو الذي لا يقتل به المسلم" ساقط.

أما أولًا: فلأن ابن الحاجب لا يقتل المسلم بالذمى، وهو إنما أورد السؤال على نفسه، وهو وإن وافق الحنفية في تقدير الأول، فلا يوافقهم في قتل المسلم بالكافر، فلو

(1)

في أ: ككافر.

(2)

في ب: خبرك.

ص: 187

قُلْنَا: خُصَّ الثَّانِي بِالدَّلِيلِ.

قررها هكذا لبادر إلى منع بطلان التالي.

وسبب وهم مَنْ بَيَّنَ بطلانه هكذا أنه توهم أن ابن الحاجب جرى مع الحنفية جريًا تامًا حتى في قَتْلِ المسلم بالكافر، وليس كذلك، وقوله: إلا بدليل عند قوله: "فيقتضي العموم"[قيد]

(1)

جاء به لذلك.

وأما ثانيًا: فلأنَّا نقول: هب أنه يتكلّم هنا على لسان الحنفيّة، و [نحن]

(2)

نقول ذلك، ولكن لِمَ قلتم: إنه يجب أن يكون الأول للحربي فقط؟ ولم لا يكون الأوّل عامًّا؟ ولو خليناه وعمومه لما قتلنا المسلم بالكافر، لكن عارضنا دليل خاصّ كما أشرنا إليه في صدر المسألة.

الشرح: إذا فهمت هذا قال المصنف في الجواب:

"قلنا: خص الثاني بالدليل"، ويمكن تقديره بوجهين:

أحدهما: وبه يصير جوابًا عن الدليلين، سبيله أن يمنع الملازمة فيه، فيقال: لا نسلم أنه لو ثبت وجوب تقدير الأول لكان "بكافر" الأول للحربي فقط.

قولكم: لأن الثاني هو "بحربي".

فلنا: لا نسلم، بل هو "بكافر"، وهو عام ثَم خصّ بالدليل، ولا يلزم من تخصيصه بالدليل تخصيص الأول، وهذا جارٍ على معتقد المصنف من أن المسلم لا يقتل بالكافر، ولو كان حنفيًّا لم يحتج إلى هذا، كما عرفت، وكان يقول كل منهما: معناه بحربي، وذلك مما ينفعنا نقضًا طائلًا.

وجاز أيضًا على معتقده من أنه لا يلزم من تخصيص المعطوف تخصيص المعطوف عليه كما سنذكره إن شاء الله تعالى في مسائل الخُصُوص، وبهذا يفارق الحنفية؛ لأن الغالب على الظَّن أنهم يجعلون تخصيص المعطوف مقتضيًا لتخصيص المعطوف عليه. وسبيله في التالي أن نسلم الملازمة فيه، ونمنع انتفاء التالي، فيقال: لا نسلم أن قوله تعالى:

(1)

في أ، ج: قيل.

(2)

سقط في أ، ب.

ص: 188

قَالُوا: لَوْ كَانَ، لَكَانَ نَحْوُ:"ضَرَبْتُ زَيْدًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعَمْرًا" - أَيْ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ.

وَأُجِيبَ: بِالْتِزَامِهِ، وَبِالْفَرْقِ [بِأَنَ ضَرْبَ عَمْرٍو] فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ - لا يَمْتَنِعُ.

{وَبُعُولَتُهُنَّ} ليس للرجعية والبائن، بل هو لهما، وخص بالدليل.

والوجه الثاني: أن يكون اقتصر على الجواب عن الآية، وأشار بالثَّاني إليها، وهي ثاني الوجهين اللذين أبداهما فقال:

خص الثاني بالدَّليل، وسكوته عن الأوَّل إما نسيانًا، وهو الذي يغلب على ظني؛ فإنه ملحق بخطه كما عرفتك.

وإِما لوضوح منع فساد المعنى فيه، أما على طريقة المصنف بالوجه الذي قررته أنا، فلأن غاية الأمر أن يصير دليلًا بمفهومه على أن المسلم لا يقتل بالذِّمى، وذلك لا ينهض فاسدًا للمعنى.

وأما على طريقة الحنفية فواضحٌ؛ إذ هو مقصودهم.

نعم: إنما يشكل على طريقة المصنف بالوجه الذي قرره الشارح؛ فإنه أدل على فساد المعنى مما ذكرناه نحن، وليس لك أن تقول: فلم لا تسلكه أنت؟ لأني أقول: الوجه الذي أبداه الشارح فاسد كما عرفتك بالأوجه التي ذكرتها، فلم يكن بد من التقرير على هذا الوجه.

وغاية الأمْر عندي: أن يكون ادعاؤه فَسَاد المعنى غير صحيح، وحبّذا هو؛ فإنا لا نوافقه على ما يقول في هذه المسألة، أو يقال: لا فساد، وقد خصّ الثاني فيه بالدليل كما عرفت.

الشرح: ثم ذكر المصنَّف أن أصحابنا "قالوا: لو كان" ولفظة "كان" هنا تامة أيضًا، وفيها ضمير يعود إلى ما أثبته المصنف من وجوب تقدير الأول أي: لو ثبت تقدير الأول "لكان نحو: ضربت زيدًا يوم الجمعة وعمرًا: أي يوم الجمعة، يعني: ضربت عمرًا يوم الجمعة لكان التالي باطلًا، فكذا المقدم.

"وأجيب بالتزامه" فقال: لا نسلم انتفاء التالي، بل المعنى هذا، وقد قدمنا هذا عن

ص: 189

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الحنفيّة حيث قالوا: إذا قال: لا تقتل اليهود بالحديد ولا النصارى، أفاد ذلك.

"و" أجيب أيضًا: على تقدير التسليم، وعدم الالتزام "بالفرق" بين هذه الصورة، ومحلّ النزاع "بأن ضَرْبَ عمرو في غير يوم الجمعة لا يمتنع"، وإذا لم يمتنع لم تقتض الجملة الثانية إضمارًا؛ لاستقامة الكلام بدونه، بخلاف قوله عليه السلام: "وَلا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ؛ فإن صحّته تتوقف على إضمار بما قلناه، هذا تقرير ما ذكره.

ولقائل أن يقول: وكذلك "ولا ذو عهد في عهده" صحّته لا تتوقف على إضمار بما بيناه، وإن سلم توقف "ولا ذو عهد"، إذا تجرد؛ فلا نسلم توقفه إذا انضم إليه "في عهده" كما أسلفناه، فنحن لا نقيس ما نحن فيه بقولك: ضربت زيدًا يوم الجمعة وعمرًا، بل نقول: ضربت زيدًا يوم الجمعة، وعمرًا يوم السبت، أو عمرًا وهو واقف.

والحاصل: أنك تأتي في المعطوف بقيد يفيد فائدة جديدة كما قلناه في: لا تقتل اليهود بالحديد، ولا النصارى في الأشهر، وإذا قيس هذا بما ذكرناه فلا منع، ولا فرق إن شاء الله.

واعلم أن الشِّيرَازي وغيره من شارحي الكتاب كان حقهم أن يقرروا هذا الدليل هكذا: لو أوجب العطف اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الخصوص، لكان نحو: ضربت إلى آخره، وذلك لأنهم فهموا أن مراد المصنّف في المسألة، ودعواه اشتراك المعطوف والمعطوف عليه كما قدمناه، ولكنهم لما رأوا الفرق الذي ذكره المصنف في الجواب لا يتمشَّى على تقدير تقرير الشُّبهة على هذا الوجه كادوا يتنبهون للصواب، فقرروا الدليل على وجه قريب من مراد المصنف.

ثم اعتذر - أعني الشِّيرَازي - عن تقريره القريب من الصواب، بأن قال: وهذا الجواب - يعني جواب المصنف - هو الذي حملنا على حملنا كلامه على النقض الإجمالي، لا بأنه شبهة أخرى واردة على الخصوص بأن يقال: لو كان العطف يقتضي الاشتراك في الخصوص، لكان معنى هذا الكلام ما ذكرناه وليس كذلك؛ إذ لا أثر له في منع هذه الملازمة. فانظره كيف اعتذر عن ارتكابه سبيل الصواب، والله الموفق.

"تنبيه"

إذا ثبت العموم كما يدّعيه المصنف في قوله: "ولا ذو عهد في عهده" وفي قوله:

ص: 190

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

{وَبُعُولَتُهُنَّ} [سورة البقرة: الآية 228] فهل يلزم من تخصيصه تخصيص المعطوف عليه؟.

فيه خلاف ذكره المصنف في الخصوص، واختار أنه لا يلزم، ومن أجل ذلك قال هنا: إنَّ الثاني خصّ بالدليل أي: ولا يلزم منه تخصيص الأول؛ لقيام الدليل عليه، ومجرد تخصيص الثَّاني لا دليل فيه؛ لصيرورة الأول مخصّصًا، وسيأتي في الخصوص إن شاء الله تعالى.

"فائدة"

لا يخفى عليك بعد تأمّل ما سطرناه أن لنا - مَعَاشر الشَّافعية - في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا ذو عَهْدٍ في عهده" طريقتين:

إحداهما: أن هذا الكلام لا يحتاج إلى تقييد، وليس من قبيل ما فيه النزاع، وهذه الطريقة هي المعهودة.

والثانية - وهي اختيار صاحب الكتاب -: أنه محتاج إلى التقييد، وعلى هذا فهو والحنفية يقدرون الأول لقربه، وأئمتنا يقدرون بقدر الضَّرورة، فإن زالت الضرورة بالأوّل صير إليه بالإجماع؛ لاجتماع القرب والقلة.

ومن فروع المسألة:

إذا قال: حفصة طالق ثلاثًا وعَمْرَةُ.

قال القاضي الحسين في "التعليقة" قبيل "باب طلاق المريض": يحتمل أن يقع على عمرة واحدة؛ لأن المعطوف يجوز أن يكون بخلاف المعطوف عليه.

وفي الرَّافعي فيمن طلق إحدى امرأتيه ثلاثًا، ثم قال للأخرى: أشركتك معها: عن إسماعيل البُوشنجي: أن المسألة جرت بين يدي فخر الإسلام الشَّاشي بـ "مدينة السلام"، فأجاب بأنها تطلق واحدة، وتوقّف [البُوشنجي]

(1)

فيه وقال: قد أوقع على الأولى ثلاثًا، والعطف يقتضي التشريك.

قال الرافعي: والتردّد قريب من الخلاف فيما إذا قال مَنْ تحته أربع لثلاثٍ منهن: أوقعت عليكنّ أو بينكن طلقةً، ثم قال للرابعة: أشركتك معهن.

(1)

في أ، ج: النوسجني، وهو تحريف.

ص: 191

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفيه وجهان:

أظهرهما: تطلق واحدة.

والثاني عن القَفَّال: تطلق ثنتين.

قلت: والأرجح فيما ذكرناه من الفروع أنه يقع واحدة، بخلاف المعطوف عليه؛ جَرْيًا على أصلنا في تعليل المقدر.

ورأينا الأصحاب في بعض الفروع يقدرون الأول، فلعلّ ذلك للقرينة الدَّالة عليه في تلك المواضع لخصوصها، فيكون قد تعين، وقد قدمنا في مسألة المقتضى أنه إذا تعيّن تقدير شيء صير إليه بلا نزاع، سواء أكان عامًّا أم خاصًّا.

ويحتمل أن يقال: إن ذلك منهم ترجيح لتقدير الأول مطلقًا، ولكنه مخالف لما ذكروه في الأصُول، وهذا مثل ما قال ابن الحداد في "فروعه" في رجل أوصى لزيد بعشرة من ثلثه، ولعبد الله بعشرة ولخالد [بخمسة]

(1)

، وقال: قدموا خالدًا على عبد الله، وكان الثلث عشرين، كان لزيد ثمانية، ولخالد خمسة؛ لتقدمه، ونعبد الله سبعة؛ لأن الوصية بخمس وعشرين، والثلث عشرون، فزادت الوصيّة على الثلث بخمس الوصية، فوجب أن ينقص كل واحد من الموصى له خُمُس ما أوصى به له، فيدفع إلى زيد ثمانية، وينقص درهمين، وهما خمس العشرة، ويدفع إلى خالد الخمسة، ولا ينقص شيئًا، ويدفع إلى عبد الله سبعة، والدَّراهم التي كانت يجب أن تنقص من وصية خالد تنقص من وصية عبد الله؛ لأنه قال: قدموا خالدًا على عبد الله، وذلك يقتضي توفير حصّة خالد ولا ينقص منها، وجعل النّقصان الذي كان يجب أن يلحقه في حصَّة عبد الله؛ لأنه لا فائدة في قوله: قدموا خالدًا على عبد الله إلَّا توفير حصّته.

وقد وافق الأصحاب ابن الحَدَّاد على هذا، وأنت تعلم أن قوله:"وقدموا خالدًا" لا يحتاج إلى تقدير ما يقدم به خالد، وقد قدّروا الخمسة المذكورة أولًا وجعلوه هكذا: وقدموا خالدًا على عبد الله بالخَمْسَةِ، وكان يمكن أن يقدر شيء، وكأنه قال: وقدموا خالدًا على عبد الله بشيء، ولو قدر كذلك لكان لخالد أربعة وشيء، ولعبد الله ثمانية إلا شيئًا، وبالله التوفيق.

(1)

في أ: بعشرة.

ص: 192

مَسْألَةٌ:

مِثْلُ: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [سورة المزمل: الآية 1]، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} [سورة الزمر: الآية 65]- لَيْسَ بِعَامٍّ لِلأُمَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: عَامٌّ إِلَّا بِدَلِيلٍ.

"مسألة"

الشرح: إذا وردت صيغة مختصّة في وضع اللسان برسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ} [سورة المزمل: الآية 1، 2].

وقوله تعالى: " {لَئِنْ أَشْرَكْتَ" لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [سورة الزمر: الآية 65]- فقد اختلف فيه:

فقال أئمتنا: "ليس بعام للأمة إلا بدليل" يوجب التشريك إما مطلقًا، أو في ذلك الحكم خاصّة "من قياس أو غيره"

(1)

.

الشرح: "وقال أبو حنيفة وأحمد

(2)

: عام إلا بدليل" يوجب التخصيص، وعليه بعض أصحابنا كابن السَّمعاني، وغيره.

والخلاف حيث لا يظهر اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ظهر اختص بالإجماع.

والمختار عندي أنه إن ظهر أنه غير مقصود بالحكم، ولكن المقصود بالحكم غيره، وأتى بلفظ يليق بجَلالتِه، ووقوع المُشَافهة معه، فهذا يعبر عن القوم به، وهو المجاز كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ، فإنهم - فيما يظهر - المقصودون، ولكن وقع الخطاب معه بهذا لا مدخل له في حكم هذا الخطاب البتة، وهو في هذه الآية مجاز تركيب، وهل يعم الأمّة؟.

(1)

ينظر: البرهان 1/ 367، والمحصول 1/ 620، والمستصفى 2/ 64، وشرح الكوكب 3/ 219، والإحكام للآمدي 2/ 239، ونهاية السول 2/ 358، وروضة الناظر ص 109، والمسودة (31)، والمختصر لابن اللحام ص (114)، وإرشاد الفحول 129، والتبصرة 240، وجمع الجوامع 1/ 426، والعدة 1/ 318، والتحرير (89)، وتيسير التحرير 1/ 251، وفواتح الرحموت 1/ 281، وشرح العضد 2/ 121.

(2)

ينظر مصادر المسألة.

ص: 193

لَنَا: الْقَطْعُ بِأَنَّ خِطَابَ الْمُفْرَدِ لا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ لُغَةً.

وَأَيْضًا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُ غَيْرِهِ تَخْصِيصًا.

قَالُوا: إِذَا قِيلَ لِمَنْ لَهُ مَنْصِبُ الاِقْتِدَاءِ. "اكَبْ لِمُنَاجَزَةِ الْعَدُوِّ"، وَنَحْوُهُ - فُهِمَ لُغَةً: أَنَّهُ أَمْرٌ لأِتْبَاعِهِ مَعَهُ.

وَكَذَلِكَ يُقَالُ: "فَتَحَ وَكَسَرَ" وَالْمُرَادُ: مَعَ أَتْبَاعِهِ.

يتخرج فيه خلاف مبنى على أن المجاز هل يتعلق به العموم، أو إنما يتعلق العموم بالحقائق، وفيه وجهان لأصحابنا حكاهما ابن السّمعاني وغيره.

والأظهر منهما أنه يتعلّق كما يتعلّق بالحقائق، فيكون الأَظْهر العموم، وإن لم يظهر أنه غير مقصود، فإما أن يظهر أن الأمّة مقصودة بقرينة لفظية أولا.

إن كان الأول فهو عام، وتكون القرينة اللفظية مثبتة أنه عبَّر بلفظة عنه وعن غيره مجازًا، وهذا كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [سورة الطلاق: الآية 1] الآية، فإن ضمير الجمع في "طلقتم"، و"فطلقوهن" قرينة لفظية تدلّ على أن الأمّة مقصودة معه بالحكم، وأن الرب تعالى خصّه بالنداء، وعم بالخطاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيّد أمته، وإمامهم وقُدْوتهم، كما يقال لرئيس القوم: افعلوا كيت وكيت إظهارًا لعظمته، وتقدمه واعتبار الرئاسة، وأنه ندرة قومه ولسانهم، والذي يصدرون عن آرائه، فكان هو وحده في حكم جميعهم وسادًّا مسدَّ جميعهم.

وقد ابتدأ الشافعي رضي الله عنه كتاب "الطلاق" بهذه الآية، ولولا فهمه عمومها للأمّة لما كان استفتح بها. وإنْ كان الثَّاني فالحق أنه غير عام إلَّا بدليل من قياس أو غيره.

الشرح: "لنا: القطع بأن خطاب المفرد لا يتناول غيره لغة، وأيضًا يجب" لو كان خطابه عليه السلام متناولًا لغيره "أن يكون خروج غيره تخصيصًا".

ولقائل أن يقول: أما الأول فضعيف؛ لأن مدعى الخصم الدخول عُرْفًا لا لغة، وأما الثاني فقد يلتزم؛ لأن التخصيص يقع في العام عرفًا.

أو يقال: ما لم يظهر مغايرة حكم غيره له، فالظاهرُ دخوله؛ فيعمل به.

وأما إذا ظهرت المُغَايرة [فتبين]

(1)

أنه لم يدخل، وأن الأمْر كان على خلاف الظَّاهر، فلا يلزم التخصيص.

(1)

في أ، ج: فيتبيّن.

ص: 194

قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، أَوْ فُهِمَ؛ لأَنَّ الْمَقْصُودَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْمُشَارَكَةِ؛ بِخِلافِ هَذَا.

قَالُوا: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} [سورة البقرة: الآية 31] يَدُلُّ عَلَيْهِ.

قُلْنَا: ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلا لِلتَّشْرِيفِ، ثُمَّ خُوطِبَ الْجَمِيعُ.

والمخالفون " قالوا": أولًا: "إذا قيل لمن له مَنْصب الاقتداء: اركب لِمُنَاجزة العَدُوّ ونحوه، فهم لغة أنه أمر لأتباعه معه، وكذلك يقال: فتح" الأمير البلد "وكسر" الجند، "والمراد مع أتباعه" لا أنه فعله منفردًا، وكذا ما نحن فيه.

الشرح: "قلنا": فهم الاتباع منه "ممنوع أو" يسلم أنه "فهم"، ولكن لا من اللغة، بل "لأن المقصود متوقف على المشاركة، بخلاف هذا"؛ فإنّ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء لا يتوقّف المقصود به على مشاركة الأمّة له صلى الله عليه وسلم.

واعلم أن الخصوم لا يقولون بالفهم لُغَة، ولن يرتكب هذا القول محصل، وإنما يقولون فُهِمَ عرفًا، فلو حذف المصنّف قوله:"لغة" في دليلهم، وأبدل مكانها "عرفًا" لاستدل في محل النزاع، ثم كان الجواب:

أن الفهم هنا؛ لأن المقصود متوقّف على المُشَاركة، بخلاف هذا، ولا سبيل للمنع فيه.

"قالوا": ثانيًا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ "إِذَا طَلَّقْتُمُ" النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [سورة الطلاق: الآية 1].

"يدل عليه" فإنه صدَّر الخطاب به عليه السلام، ثم قال:"طلقتم""فطلقوهن".

نعم "قلنا": لما أريد العموم الذي يدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم "ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم أولًا للتشريف، ثم خوطب [الجميع]

(1)

، فالنداء له، والخطاب للكل.

وقيل: هو خروج من خطاب الأفراد إلى خطاب الجماعة، وهو موجود في الكلام.

وقيل: هو خطابان قصد بأولهما خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بسماع القول وتلقى الأمْر.

ثم قيل: "إذا طلّقتم" خطابًا له ولأمّته، فيكون "إذا طلقتم" ابتداء كلام كما لو ابتدأ السورة به، ويكون السِّرُّ في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سببان: التشريف والتصريح بأن حكمه حكمهم، وإلَّا فلو لم يصرح به كان دخوله ظاهرا لا نصًّا، بل قال بعض الأصُوليين: إنه لا يدخل.

(1)

في ج: بجميع.

ص: 195

قَالُوا: {فَلَمَّا قَضَى [زَيْدٌ]} [سورة الأحزاب: الآية 37] وَلَوْ كَانَا خَاصًّا، لَمْ يَتَعَدَّ.

قُلْنَا: نَقْطَعُ بِأَنَّ الإلْحَاقَ لِلْقِيَاسِ.

قَالُوا: فَمِثْلُ: {خَالِصَةً لَكَ} [سورة الأحزاب: الآية 50]، وَ {نَافِلَةً لَكَ} [سورة الإسراء: الآية 79]- لا يُفِيدُ.

قُلْنَا: يُفِيدُ قَطْعَ الإِلْحَاقِ.

وقيل المعنى: قل لأمتك.

الشرح: "قالوا": ثالثا: قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ" مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْلا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ [إِذَا قَضَوْا]

(1)

} [سورة الأحزاب: الآية 37] يدل لأنه أخبر بأنه إنما زوجه ليرتفع الحرج عن المؤمنين في أزواج الدّعى الأدعياء، ويحلّ للمرء أن يتزوج زوجة دَعِيّه، "ولو كان" تزويجه إياه "خاصًّا" به "لم يتعدّ" إلى المؤمنين.

"قلنا: يقطع بأن الإلحاق" إلحاق الأمّة به في تزويجه زينب إنما هو "للقياس" عليه، وليس ثبوت الحكم في حقهم من مدلولات "زَوَّجناكها".

ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الإلحاق بالقياس، وقطعك ليس دليلًا علينا.

والصواب عندي أن يقال: كلامنا في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم تحكم، وهذا خبر لا إنشاء، فالله تعالى أخبر بأنه زوج نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانت زينب - رضي - الله عنها - تفاخر أمهات المؤمنين فتقول: زوّجكن آباؤكن، وزوّجنى الله منَ فوق سبع سماوات، وإذا كان كذلك فليس محل النزاع.

فإن قلت: قد فهمنا من ذلك أن حكمهم حكمه.

قلت: هو تعالى جعل العلّة [الغائية]

(2)

من ذلك الَّا يكون على المؤمنين حَرَجٌ في أزواج أدعيائهم، فالفهم ليس من قوله:"زوجناكها" بل من هذا، وهو في الحقيقة إيماء وتعريض بانتفاء الحرج في حفهم، وهو عندي فوق درجات القياس، ولا أقول: إنه منصوص.

(1)

سقط في أ، ب.

(2)

في أ، ب، ج: العامة.

ص: 196

مَسْأَلَةٌ:

خِطَاُبهُ لِوَاحِدٍ لا يَعُمُّ؛ خِلافًا لِلْحَنَابِلَةِ.

"قالوا": رابعًا: إذا اختصّ الخطاب الوارد باسمه صلى الله عليه وسلم به "فمثل: "خَالِصَةً لَكَ"، و"نَافِلَةً لَكَ"" في قوله تعالى: {امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأحزاب: الآية 50]، وفي قوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [سورة الإسراء: الآية 79]"لا يفيد"؛ لأن الاختصاص قد عرف من دون "خالصة لك" و"نافلة".

"قلنا": لا نسلّم عدم الفائدة؛ فإنّ الخطاب أولًا لا يدلّ على العموم، ولا على عدمه، وإذا لم يدل على عدمه كان محتملًا له، فالقيد "يفيد قطع الإلحاق"، وتلك فائدة.

"فرع"

خرجت الحنفيّة على أصلهم: انعقاد النِّكاح بلفظ الهِبَةِ

(1)

؛ لقوله تعالى: {وامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} ، الآية.

"مسألة"

الشرح: إذا خاطب الشّارع واحدًا بلفظ "يختصّ به كقول الرب سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [سورة الأنفال: الآية 65]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [سورة المائدة: الآية 67]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته: افعل كذا، فهل يعمّ خطابه الباقين؟.

(1)

اختلف الفقهاء في انعقاد النكاح بلفظ الهبة:

فذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى القول بأنه لا ينعقد النكاح بلفظ الهبة، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والزهري وربيعة.

وذهب الحنفية والمالكية إلى القول بانعقاد النكاح بلفظ الهبة، إلا أن المالكية قالوا: ينعقد بها النكاح بشرط ذكر المهر، ويظهر أنهم إنما اشترطوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة ذكر المهر لأن إسقاط المهر عندهم يؤثر في النكاح، ولما كان النكاح بلفظ الهبة يشعر بإسقاط المهر نظرًا إلى أن لفظ الهبة من ألفاظ التبرعات، لذلك قالوا: ينعقد بها النكاح مع ذكر المهر.

وقد استدل الشافعية ومن وافقهم على عدم انعقاد النكاح بلفظ الهبة بالكتاب والسنة والمعقول: =

ص: 197

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال أصحابنا: "خطابه لواحد ليس بعام، خلافًا للحنابلة"

(1)

.

= أما الكتاب فقول الله تبارك وتعالى في قصة المرأةِ التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .

ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى قال: {خَالِصَةً لَكَ} فدل ذلك على أن الانعقاد بلفظ الهبة من خصوصياته صلى الله عليه وسلم. وأما السنة فما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "واتَّقُوا الله في النساءِ؛ فَإِنَّكم أَخَذتُمُوهُنَّ بأمانَة اللَّهِ؛ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُن بِكَلِمَةِ اللَّهِ".

ووجه الدلالة من الحديث أَنهم قالوا: إن الكلمة التي أحل الله بها الفروج في كتابه إنما هي الإنكاح والتزويج فقط، أخذًا من الكتاب والسنة بالاستقراء دون الهبة.

وأما المعقول فقد قالوا فيه: إن الهبة من ألفاظ الطلاق حتى أنه ليقع الطلاق بقوله لزوجته: وهبتك لأهلك، فلا يكون موجبًا لضده.

وقد نوقشت هذه الأدلة بما يأتي:

أما الآية فقد قيل لهم فيها: إن قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ليس معناه أن انعقاد النكاح بلفظ الهبة مختص به صلى الله عليه وسلم، بل المراد أن الاختصاص والخلوص في سقوط المهر خاص به صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا المراد أمور:

الامر الأول: - أنها مقابلة بمن آتى مهرها في قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ، إلى قوله:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} .

الأمر الثاني: أن الله تعالى قال: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} ، ومن المعلوم أنه لا حرج يلحقه في نفس العبارة، وإنما الحرج بلزوم المهر دون لفظ التزويج.

الأمر الثالث: - أن الله سبحانه وتعالى امتن على نبيه بقوله: {خَالِصَةً لَكَ} والمنة إنما تظهر بنفى المهر لا بإقامة لفظ مقام لفظ.

ويقال لهم في الحديث: إن قولكم إن الكلمة التي أحل الله بها الفروج في كتابه هي لفظ الإنكاح والتزويج فقط - غير مسلم، بل جاء لفظ الهبة أيضًا في الكتاب العزيز قال تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} ، الآية، وقد بينا أن الخلوص في الآية راجع إلى إسقاط المهر.

ويقال لهم في المعقول: إن قولكم: إن الهبة من الفاظ الطلاق، فلا يكون موجبًا لضده - منتقض بقول الرجل لزوجته: تزوجي؛ فإن الفرقة تقع به إن نوى به الطلاق.

واستدل المالكية والحنفية على انعقاد النكاح بلفظ الهبة بنفس الآية التي استدل بها الشافعية ووجه الدلالة منها أنهم قالوا: إن هذا اللفظ انعقد به نكاح النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجب أن ينعقد به نكاح أمته، كلفظ الإنكاح والتزويج.

(1)

ينظر: البرهان 1/ 370، والمستصفى 2/ 65، 84، وشرح العضد 2/ 123، والإحكام للآمدي=

ص: 198

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَصوَّر إمام الحرمين، وابن السمعاني وغيرهما المسألة بخطابه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون الضمير في قول المصنّف:"خطابه" عائدًا على النبّي صلى الله عليه وسلم.

والصواب: عود الضمير على الشَّارع كما شرحناه؛ لأن المسألة في أعم من أن يكون المخاطِب الله تعالى، أو نبيه صلى الله عليه وسلم، كما ذكر الشيخ أبو حامد وقد مثَّل بالآيتين اللتين ذكرناهما.

واعلم أنه لا ينبغي أن يعتقد أن التعميم من جهة وضع الصيغة لغة، ولا أن الشرع لم يحكم بالتعميم حيث لم يظهر التَّخصيص، بل الحق أن التعميم منتفٍ لغةً ثابت شرعًا من حيث إن الحكم على الواحد حكمٌ على الجماعة، ولا أعتقد أحدًا يخالف في هذا، وينبغي أن يُرَدَّ الخلاف إلى أن العادة هل تقضي بالاشتراك بحيث يتبادر فهم أهل العرف إليها أَوْلا؟.

فأصحابنا يقولون: لا قضاء للعادة في ذلك، كما لا قضاء للغة، وإنما [الخطاب]

(1)

في الشرع شرع، وهم يقولون: العادة تقضي بذلك.

وقد ذكر ابن السَّمْعَاني: أن المخالفين استدلّوا بأن عادة أهل اللِّسان يخاطِبون الواحد، ويريدون الجماعة، وهو يرشد إلى ما ذكرناه.

أو يُرَدُّ إلى أنه هل صار عرف الشرع أن الواحد إذا خوطب، فالمراد الجماعة، فكأنه حقيقة شرعية أَوْلا؟.

فهم يقولون بالأوّل؛ لأنه لما استقرّ من الشّرع استواء الناس في شرعه، كان خطاب الواحد خطابًا مع الكلّ، وكأنه إذا قال: يا زيد قائل: يا أيها الناس ويكون للدلالة على معنى أن للنَّاس لفظين:

أحدهما: الناس، وذلك بوضع اللغة، والثاني: زيد إذا تقدم من اللَّافظ أنه إذا نطق به فقد أراد النَّاس كلهم، وإذا كان الشَّارع هو الذي تقدم منه القول كما في مسألتنا، صار

= 2/ 242، وجمع الجوامع 1/ 329، والمختصر لابن اللحام (114)، والعدة 1/ 318، 331، وشرح الكوكب 3/ 223، والروضة (109)، والتحرير (90)، وتيسير التحرير 1/ 252، وفواتح الرحموت 1/ 280، وإرشاد الفحول (130)، والمدخل 230.

(1)

في أ، ب، ج: الخلف.

ص: 199

لَنَا: مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَطْعِ وَلُزُومِ التَّخْصِيص، وَمِنْ عَدَمِ فَائِدَةِ: "حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ

".

قَالُوا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} . [سورة سبأ: الآية 28]، "بُعِثْتُ إِلَى الأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ" - يَدُلُّ عَلَيْهِ.

حقيقة شرعية، فمعنى النَّاس يدل عليه لفظه لغة وشرعًا، ولفظ: يا زيد شرعًا، ونحن نقول:"يا زيد" باقية على دلالتها الأصلية، سواء أسبق قبلها مِنْ قائلها أن حكم غيره حكمه أم لا، وهو الحق؛ لأنَّ القائل لم يضع "يا زيد" للناس، وإنما جعله سواء في الحكم، ولا يلزم من ذلك صيرورتهم من مدلول اللفظ.

ونظير هذا: ما حكاه الرَّافعي عن أبي العبَّاس الروياني أن الرجل إذا قال: متى قلت لامرأتي: أنت على حرام، فإني أريد به الطَّلاق، ثم قال لها بعد مدة: أنت على حرام يحتمل وجهين:

أحدهما: الحمل على الطلاق؛ لكلامه السابق.

والثاني: أنه كما لو ابتدأ به؛ لاحتمال أن نيته تغيرت.

وانظر تعليل الاحتمال الثاني بأن نيّته يحتمل أن تكون تغيرت، وأنه يقتضي أنها لو لم تتغتر يحمل على الطلاق جَزْمًا، فكذا إذا قال الشارع:"يا زيد" فإنما سبق من أن حكمه على الواحد حكم على الجماعة لم يتغيّر من سقطات الساقطين لا ترجيح له، فإنَّ الصواب عندنا مذهب أصحابنا.

الشرح: "لنا: ما تقدّم من القطع" بأن - خطاب المفرد لا يتناول غيره "ولزوم التخصيص" أن تُعدَّ لو أخرج واحد، "و" ما يلزم على ذلك "من عدم فائدة" ما روى - من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"حُكْمِى عَلَى الوَاحِدِ" حُكْمِي عَلَى الجَمَاعَةِ، وهو حديث لا يُعْرَف له أصل، سألت عنه شيخنا الذهبي فقال: لا أعرفه.

والمخالفون "قالوا": قوله تعالى: " {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} "[سورة سبأ: الآية 28].

وقوله صلى الله عليه وسلم: ""بُعِثتُ إِلَى الأسْوَدِ وَالأَحْمرِ"

(1)

"أي: ما روى الشيخان في "صحيحهما" من قوله صلى الله عليه وسلم:"وَبُعِثْتُ إلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ" "يدل عليه" أي: على أن حكمه لا يختص

(1)

أخرجه أحمد (5/ 161 - 162) وأبو داود (489)، وابن حبان (200 - موارد) من حديث أبي ذر، =

ص: 200

وَأْجِيبَ: بِأَنَّ الْمَعْنَى تَعْرِيفُ كُلِّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ، وَلا يَلْزَمُ اشتِرَاكُ الْجَمِيعِ.

قَالُوا: "حُكْمِي عَلَى الوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ" يَأْبَى ذَلِكَ.

قُلْنَا: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ: "عَلَى الْجَمَاعَةِ بِالْقِيَاسِ، أَوْ بِهَذَا الَّدلِيلِ"؛ لا أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ للجَمِيعِ.

قَالُوا: نَقطَعُ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ حَكَمَتْ عَلَى الأُمَّةِ بِذَلِكَ؛ كَحُكْمِهِمْ بِحُكْمِ مَاعِزٍ فِي الزِّنَا وَغَيْرِهِ.

قُلْنَا: إنْ كَانُوا حَكَمُوا؛ لِلتَّسَاوِي فِي الْمَعنَى، فَهُوَ الْقِيَاسُ؛ وَإِلَّا فَخِلافُ الإجْمَاع.

بواحد.

الشرح: "وأجيب: بأن المعنى" من تعميم البعثة " تعريف كلّ" من الخلق "ما يختص به" من الأحكام، وربما اختلفوا فيها كالحَائِضِ والطَّاهر، والمسافر والمقيم، ونحو ذلك، "ولا يلزم اشتراك الجميع" في كل حكم.

"قالوا: "حُكْمي على الواحد حكمي على الجماعة" يأبى ذلك" أي يأبى تخصيص واحد عن واحد.

"قلنا: محمول على أنه" حكم "على الجماعة بالقياس، أو بهذا الدليل، لا أن خطاب الواحد" بعينه خطاب "للجميع".

ولقائل أن يقول: وأن خطاب الواحد خطاب للجميع بما مهَّده المخاطب أولًا من قوله: إذا حكمت على واحد، فذاك على الكلّ كما قدمناه بَحْثًا.

الشرح: "قالوا: نقطع بأن الصحابة حكمت على الأمة بذلك كحكمهم بحكم مَاعِزٍ في الزنا، و" بحكم "غيره" في سائر الأحكام.

"قلنا: إن كانوا حكموا للتساوي في المعنى، فهو القياس"؛ لاشتماله على الأصل

= وله شاهد من حديث أبي سعيد:

أخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في "المجمع"(6/ 85).

وقال الهيثمي: وفيه عطية العوفي، وهو ضعيف.

ص: 201

قَالُوا: لَوْ كَانَ خاصًّا، لَكَانَ:"تُجْزِئُكَ، وَلا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ"، وَتَخْصِيصُهُ عليه الصلاة والسلام خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ - زِيَادَةٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ.

قُلْنَا: فَائِدَتُهُ: قَطْعُ الإِلْحَاقِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ.

والفرع والعلّة الجامعة، "وإلا" فإن حكموا مع عدم التساوي، "فخلاف الإجماع".

ولقائلٍ أن يقول: ثَمَّ قسم ثالث، وهو أن يحكموا بالمساواة في الحكم لا للعلّة الجامعة، بل لأن الحكم على الواحد حكمٌ على الجماعة، كما اعترفت به هنا، وأشرت إليه في كتاب "القياس" حيث قلت: واستدل [أبي]

(1)

على أن القياس حجّة بإلحاق كلّ زانٍ بماعز، ورُدَّ بأن ذلك لقوله عليه السلام:"حُكْمِي عَلَى الوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الجَمَاعَةِ". انتهى.

وليس قياسًا، ولا خلاف الإجماع؛ أو لأنّ الحكم على الواحد كالحكم على الخلق لفظًا بالبحث الذي قدمناه.

واعلم أن قضية مَاعِزٍ ثابتة في "الصحيحين" وغيرهما.

وأما أن الصحابة حكموا في نظيرها فلا يحفظ ذلك، ولا يحفظ إلا واقعة المغيرة بن شعبة

(2)

، ولم تتم.

نعم: لا يمترى أحد في أن حكمهم في كل زانٍ محصن الرَّجْمُ.

الشرح: "قالوا: لو كان" حكمه على الواحد "خاصًّا" به "لكان" قوله صلى الله عليه وسلم لأبي

(1)

في أ، ب: أي.

(2)

المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي، أبو محمد. شهد الحديبية، وأسلم زمن الخندق، له مائة وستة وثلاثون حديثًا، اتفقا على تسعة، وعنه ابناه حمزة وعروة والشعبي وخلق. شهد اليمامة واليرموك والقادسية، وكان عاقلًا أديبًا فطنًا لبيبًا داهيًا، قيل: أحصن الف امرأة. قال الهيثم: توفي سنة خمسين.

ينظر ترجمته في: تهذيب تهذيب الكمال: 3/ 1360، وتهذيب التهذيب 10/ 262 (471)، وتقريب التهذيب: 2/ 269، وخلاصة تهذيب الكمال: 3/ 50، والكاشف 3/ 168، وتاريخ البخاري الكبير 7/ 316، والجرح والتعديل 8/ 224، والثقات 3/ 382، وأسد الغابة 5/ 247، وتجريد أسماء الصحابة: 2/ 91، والاستيعاب: 4/ 1445.

ص: 202

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بردة بن نيار ما معناه: "تُجْزِئُكَ وَلا تُجْزِيءُ أَحَدًا بَعْدَكَ

(1)

، وتخصيصه "خزيمة

(2)

بقبول شهادته وحده زيادة من غير فائدة"؛ لأنه يعلم تخصيصه من الخطاب.

وحديث "تجزئك" وهو المروى في "الصحيحين" من حديث البراء بن عازب

(3)

قال:

(1)

أخرجه البخاري في الجامع الصحيح 2/ 456 في باب التبكير إلى العيد، حديث (968) ومسلم في الصحيح 3/ 155 في كتاب الأضاحي: باب وقتها (7/ 1961).

قوله: "لا تجزى عن أحد بعدك" أي: لا تقضي بلا همز، يقال: جزى عني هذا الأمر، ويجزيك من هذا الأمر الأقل، أي: يقضى وينوب، قال الله سبحانه وتعالى:{لا تجزى نفس عن نفس شيئًا} أي: لا تقضى عنها، ولا تنوب، والمتجازي للدين: هو المتقاضي، ومعنى قولهم: جزاه الله خيرًا، أي: قضاه الله ما أسلف، فإذا كان بمعنى الكفاية، قلت: جزا عني وأجزأ بالهمز.

والجذع من المعز غير جائز في الأضحية، ويجوز من الضان عند أكثرهم قيل: لأنه ينزو، فيلقح، ومن المعز لا يلقح حتى يصير ثنَيًّا.

أما الجذع من الضأن فاختلفوا فيه، فذهب أكثر أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم إلى جوازه، غير أن بعضهم يشترط أن يكون عظيمًا. وقال الزهري: لا يجوز من الضأن إلا الثني فصاعدًا كالإبل والبقر.

(2)

خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عمار الأنصاري الخطمي، ذو الشهادتين، شهد بدرًا وأحدًا، له ثمانية وثلاثون حديثًا. روى عنه: ابنه عمارة وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص. قتل مع علي بـ "صفين".

ينظر: البداية والنهاية 7/ 311، وسير الأعلام 2/ 485، وطبقات ابن سعد 8/ 453، وشذرات الذهب 1/ 45، والإصابة 2/ 278، وأسد الغابة 2/ 133، والاستيعاب 2/ 448، وتهذيب الكمال 1/ 371، وتهذيب التهذيب 3/ 140، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 289.

(3)

البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة الأوسي الأنصاري، أبو عمارة، نزل الكوفة. له ثلاثمائة حديث وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة.

وعنه عبد الرحمن بن أبي ليلى وعدي بن ثابت وسعد بن عبيدة وأبو إسحاق وخلق، شهد أحدًا والحديبية.

توفي سنة إحدى أو اثنتين وسبعين. ينظر ترجمته في: تهذيب الكمال: 1/ 139، وتهذيب التهذيب 1/ 425، وتقريب التهذيب: 1/ 94، وخلاصة تهذيب الكمال: 1/ 120، والكاشف: 1/ 151، وأسماء الصحابة الرواة 142.

ص: 203

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النَّحْرِ فقال: "إن أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَةُ لأِهْلِهِ، فقام خَالِي أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله إني ذبحت قبل أن أصلي، وعندي جَزَعة خير من مُسِنّة، فقال: "اجْعَلْهَا مَكَانَهَا، وَلَنْ تُجْزِئَ جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدِ بَعْدَكَ".

وحديث خزيمة هو المَرْوِيّ في "مسند أحمد"، و "سنن أبي داود" والنسائي بإسناد صحيح عن عمارة بن خُزَيْمَةَ

(1)

أن عمه حدّثه - وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فَرَسِهِ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشى فأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه الفَرَسَ، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، فنادى الأَعْرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس وإلا بعته، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال:"أَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ"؟، فقال الأعرابي: والله ما بعتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ"، وطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدًا، فقال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"بمَ تَشْهَدُ"؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة شهادة رَجُلَيْنِ

(2)

.

قال الخَطَّابي:

(3)

هذا حديث وضعه كثير من الناس غير موضعه، وقد تذرّع قوم من

(1)

عُمارة بن خزيمة بن ثابت الأوْسي المدني. عن أبيه وعثمان بن حُنَيف.

وعنه: الزهري وأبو جعفر الخُطْمِي وابن أبي يحيى. وثقه ابن سعد. قال ابن أبي عاصم: مات سنة خمس ومائة. ينظر: الوافي بالوفيات 22/ 408، وشذرات 1/ 131، وطبقات ابن سعد 5/ 71، والجرح والتعديل 6/ 2011، وتاريخ البخاري الكبير 6/ 498، والكاشف 2/ 302، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 263، وتهذيب الكمال 2/ 1000، وتهذيب التهذيب 7/ 416.

(2)

أخرجه أبو داود (4/ 31 - 32) كتاب الأقضية: باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد

حديث (3607)، والنسائي (7/ 301)، كتاب البيوع: باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، وأحمد (5/ 215، 216)، والحاكم (2/ 17 - 18)، والبيهقي (10/ 145) عن خزيمة بن ثابت الأنصاري.

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ورجاله باتفاق الشيخين ثقات، ولم يخرجاه.

ووافقه الذهبي.

وقال ابن كثير في "تحفة الطالب" ص (290): إسناده صحيح حجة.

(3)

حمد - وقيل: اسمه أحمد - بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، أبو سليمان البستي المعروف بـ =

ص: 204

مَسْأَلةَ: جَمْعُ الْمُذَكَّرِ السَّالِمُ

(1)

كَـ "الْمُسْلِمينَ"[سورة الأحزاب: الآية 35] وَنَحْوَ: "فَعَلُوا"[سورة النساء: 66]- مِمَّا يُغَلَّبُ فِيهِ الْمُذَكَّر، لا يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ ظَاهِرًا؛ خِلافًا للْحَنَابِلَةِ.

أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عرف عندهم بالصِّدْقِ على كل شيء ادّعاه، إنما وَجْهُ الحديث ومعناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الأعرابي بعلمه إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم صادقًا بارًّا في قوله، وجرت شهادة خُزَيْمَةَ في ذلك مَجْرَى التوكيد والاستظهار بها على خَصْمِهِ، فصار التقدير: شهادته له، وتصديقه إياه على قوله كشهادة رَجُلَينِ في سائر القضايا.

قلت: وسواء أثبت تخصيص خزيمة أم لا، قد خصّص أبو بردة بن نيار، وخصص بعضهم بِلُبْسِ الحرير

(2)

.

"قلنا: فائدته قطع الإلحاق" إلحاق غير ذلك الواحد به "كما تقدم" في المسألة قبلها.

الشرح: جمع المذكّر المكسّر لا يدخل تحته المؤنّث، وجمع المؤنّث يدخل تحته المذكّر، والجمع الذي لم يظهر فيه علامة التذكير ولا التأنيث كـ "الناس" يتناول القسمين اتفاقًا

(3)

.

= "الخطابي" ولد سنة 319 هـ. كان رأسًا في علم العربية والفقه والأدب وغير ذلك. أخذ الفقه عن أبي علي بن أبي هريرة وأبي بكر القفال وغيرهما، وأخذ اللغة عن أبي عمر الزاهد، وله شعر حسن. من تصانيفه:"معالم السنن" و"أعلام البخاري" و"غريب الحديث" وشرح أسماء الله الحسنى" وغيرها. وتوفي بـ "بست" سنة 388 هـ في ربيع الآخر. وينظر: الأعلام 2/ 204، والأنساب 2/ 226، ووفيات الأعيان 1/ 455، وتذكرة الحفاظ 3/ 1018، وإنباه الرواة 1/ 125، وشذرات الذهب 3/ 127، وابن قاضي شهبة 1/ 156، والبداية والنهاية 11/ 324.

(1)

والجمع المذكر اسم دل على أكثر من اثنين بزيادة واو ونون رفعًا، وياء ونون نصبًا وجرًا على آخره صالح للتجريد عن هذه الزيادة.

(2)

أخرجه البخاري 10/ 295، في اللباس: باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة (5839)، ومسلم 3/ 1646، في كتاب اللباس: باب إباحة لبس الحرير (25/ 2076).

(3)

ينظر: البرهان 1/ 358، والمحصول (1/ 2/ 623)، واللمع (12)، والتبصرة (77)، والمعتمد 1/ 250، والوصول إلى الأصول 1/ 212 - 213، والمستصفى 2/ 79، والمنخول (143)، والإحكام للآمدي 2/ 244، وشرح الكوكب 3/ 235، وجمع الجوامع 1/ 428، والتمهيد للإسنوي (356)، ونهاية السول 2/ 359، والروضة 123، والعدة 2/ 351، =

ص: 205

لَنَا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [سورة الأحزاب: الآية 35]، وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا، لَمَا حَسُنَ.

فَإِنْ قُدِّرَ مَجِيئُهُ للنُّصُوصِيَّةِ، فَفَائِدَةُ التَّأْسِيسِ أَوْلَى.

وَأَيْضًا: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّسَاءَ قُلْنَ: "مَا نَرَى اللَّهَ ذَكَرَ إِلَّا الرَّجَالَ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [سورة الأحزاب: الآية 35]، وَلَوْ كُنَّ دَاخِلاتٍ، لَمْ يَصِحَّ تَقْرِيرُهُ للِنَّفْيِ.

وَأَيْضًا: فَإِجْمَاعُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ.

وأما "جمع المذكّر السَّالم كـ "المسلمين"، ونحو "فعلوا" [سورة النساء: الآية 66]- مما يغلب فيه المذكر لا يدخل فيه النساء ظاهرًا؛ خلافًا للحنابلة"، وابن خويز مَنْدَاد من المالكية، وابن داود.

وادعى ابن الأنباري الإجماع على عدم الدُّخُول لغة حقيقة، وأن النزاع إنما هو في ظهوره؛ [لاشتهاره]

(1)

عُرْفًا، ثم هل تقول: اجتمع في اللفظ موجب الحقيقة والمجاز، أو يكون مجازًا صرفًا؟.

فيه ما سبق في [مسألة]

(2)

استعمال المشترك في معنييه.

الشرح: "لنا:" قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [سورة الأحزاب: الآية 35]، ولو كان" المؤنث "داخلًا" تحت لفظ المسلمين "لما حسن" العطف، لما فيه من التَّكْرار بلا فائدة، "فإن قدر" في المعطوف، وهو المسلمات "مجيئه للنصوصية" كما في قوله تعالى: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [سورة البقرة: الآية 98] "ففائدة التَّأسيس أولى" بالاعتبار من فائدة التأكيد.

"وأيضًا: قالت أم سلمة: يا رسول الله إنَّ النساء قُلْنَ: ما نرى الله ذكر إلا الرجال"

= والمختصر لابن اللحام (114)، وأصول السرخسي 1/ 234، والتحرير (79)، وتيسير التحرير 1/ 234، وفواتح الرحموت 1/ 276، والمختصر لابن اللحام (114)، وارشاد الفحول (127)، والمدخل (241)، وسلم الوصول 2/ 360، وشرح العضد 2/ 124، وكشف الأسرار 2/ 5، والتلويح 1/ 226.

(1)

في أ: لا شهادة.

(2)

سقط في أ، ج.

ص: 206

قَالُوا: الْمَعْرُوفُ تَغْلِيبُ الذُّكُورِ.

قُلْنَا: صَحِيحٌ، إِذَا قُصِدَ الْجَمِيعُ؛ وَيَكُونُ مَجَازًا.

فَإِنْ قِيلَ: الأصْلُ الْحَقِيقَةُ.

قُلْنَا: يَلْزَمُ الاِشْتِرَاك، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ.

فأنزل الله {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [سورة الأحزاب: الآية 35]، ولو كن داخلات"" لم يحسن السؤال، و "لم يصح تقريره" صلى الله عليه وسلم "للنفي".

ولفظ أم سلمة في النسائي: قلت: يا رسول الله ما لنا لا نُذْكر في القُرْآن كما تُذْكر الرجال؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [سورة الأحزاب: الآية 35]، وله طرق إلى الصِّحة إلّا أنه لا دليل فيه؛ فإن أم سلمة إنما سألت عن ذكرهن، والظاهرُ أن مرادها التَّنصيص عليهن بما يخصّهن شرفًا لهن.

والأَوْلى عندي أن يستدل بقول عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لا قِتَالَ فِيهِ: الحَجُ والْعُمْرَةُ"، أخرجه ابن ماجه بإسناد جيد

(1)

، فلو كن يدخلن في لفظ المؤمنين لعَرَفَتْ ذلك، ولم تسأل.

"وأيضًا: فإجماع" أهل "الغربية على أنه جمع المذكر".

ولا يخفى على من شذا طرفًا منها أن قول القائل: "مسلمات" مبنى على قوله في الواحد: إن "مسلم" و "مسلمون" مبني على "مسلم" و"مسلمين".

الشرح: "قالوا: المعروف تغليب الذكور"، ومنه قوله تعالى لآدم وحواء وإبليس:{اهْبِطُوا} .

"قلنا: صحيح إذا قصد الجميع، ويكون مجازًا" محتاجًا إلى القرينة، فإما أن يقال: إن وضع اللِّسَان على المسلمين مسترسل على النساء والرجال استرساله على آحادِ الرجال.

"فإن قيل": قد سلمتم صحة الإطلاق، و"الأصل الحقيقة".

قلنا: هو حقيقة في المذكر بخصوصه إجماعًا، فإن كان مع ذلك حقيقة في المذكر والمؤنث "للزم الاشتراك"، والمجاز أولى في الاشتراك، "وقد تقدم مثله".

وهذا السؤال إنما يورده من يظنّ الخصوم يدعون دخول النساء وضعًا حقيقيًا، وذلك

(1)

أخرجه أحمد (6/ 165)، وابن ماجه (2901)، والدارقطني (2/ 284)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 207

قَالُوا: لَوْ لَمْ يَدْخُلْنَ، لَمَا شَارَكْنَ الْمُذَكَّرِينَ فِي الأَحْكَامِ.

قُلْنَا: بِدَلِيل مِنْ خَارجٍ؛ وَلذلِكَ لَمْ يَدخُلْنَ فِي الْجِهَادِ وَالْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِمَا" ا. هـ.

"قَالُوا: لَوْ أَوْصَى لِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ بِشَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُمْ بكَذَا - دَخَلَ النِّسَاءُ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ.

قُلْنَا: بَلْ بِقَرِينَةِ الإِيصَاء الأَوَّلِ.

لا ينبغي لأحد أن يقول: وإنما ادعوا دخولهن؛ لأنه لما كثر في الشرع مساواة الذكور للإناث، وسار غالبًا، كان تقرير هذا أن العادة الغالبة تبين أن الشرع لا يقصد قصر الأحكام على الذكور، ونحن نقول: هذا غير مطّرد؛ إذ قد ثبت أحكام الذكور دون الإناث.

الشرح: "قالوا: لو لم يدخل لما شاركن المذكورين في الأحكام" نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة: الآية 43].

"قلنا": إنما شاركهم "بدليلٍ من خارج" لا من نفس اللَّفْظ، "ولذلك لم يدخلن في" خطاب "الجهاد والجمعة وغيرها".

الشرح: "قالوا: لو أوصى لرجال ونساء بشيء، ثم قال: أوصيت لهم بكذا، دخل النساء بغير قرينة، وهو معنى الحقيقة".

"قلنا": لم يدخلن بغير قرينة، "بل بقرينة الإيصاء الأوّل" للرجال والنساء، على أني لا أحفظ نقلًا عن مذهبنا في هذه المسألة، ولكن الظاهر الدخول كما ذكر.

"فائدة"

من يدخلهن يحتاج إلى إخراجهن من الجهاد والجمعة، ونحوهما إلى دليل مخرج، ومن لا يدخلهنّ يحتاج في الصلاة والزكاة ونحوهما إلى دليلٍ يخصّهن، والقول بعدم دخولهن هو الذي نقله الشيخ أبو حامد في أصوله عن الشافعي، واستنبطه من قوله من قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [سورة الأنفال: الآية 65]. المرادُ بذلك الرجال لا النِّساء.

"فرع"

قال واعظ لحاضريه: طلقتكم ثلاثًا وامرأته فيهم

وهو لا يدري، أفتى الإمام بوقوع الطلاق.

قال الغزالي: وفي القَلْبِ منه شيء.

ص: 208

مَسْأَلَةٌ:

مَنِ" الشَّرْطِيَّةُ: تَشْمَلُ الْمُؤَنَّثَ؛ عِنْدَ الأَكْثَرِ.

لَنَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: "مَنْ دَخَلَ دَارِي، فَهُوَ حُرٌّ، عَتقْنَ بِالدُّخُولِ.

وقال الرافعي، والنووي: ينبغي ألَّا يقع، ثم اختلفت بهما السبيل، فمأخذ النووي أن النساء لا يدخلن في هذا اللَّفظ كما تقرر في الأصول، ومأخذ الرافعي غيره.

قلت: ولو سلم دخولها، فينبغي أن يخرَّج على طلاق الجاهل، والأصحّ فيه عدم الوقوع، كما إذا حلف لا يسقم على زيد فسلّم على قوم هو فيهم، ولم يعلم به، فإن في حِنْثِهِ كما قال الرافعي قولي الناسي والجاهل، والأصحُّ منهما عدم الوقوع.

"مسألة"

الشرح: "مَنْ" الاستفهامية لا تعم

(1)

، وكذا النكرة الموصوفة؛ مثل قول الشاعر:[الرمل]

رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظًا قَلْبَهُ

قَدْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتًا لَمْ يُطَعْ

(2)

وقال حسان

(3)

رضي الله عنه: [الكامل].

(1)

ينظر: البرهان 1/ 360، والمعتمد 1/ 250، والمحصول 1/ 2/ 622، والعدة 2/ 351، والروضة (123)، والوصول إلى الأصول 1/ 216، والإحكام للآمدي 2/ 248، وجمع الجوامع 1/ 428، وشرح الكوكب المنير 3/ 240، والمسودة (104)، وشرح العضد 2/ 125، وإرشاد الفحول 127، والمختصر لابن اللحام (115)، وكشف الأسرار 2/ 5.

(2)

البيت من الرَّمَل وهو لسويد بن أبي كاهل في الأغاني 13/ 98، وخزانة الأدب 6/ 123 - 125، والدرر 1/ 302، وشرح اختيارات المفضل ص 901، وشرح شواهد المغنى 2/ 740، والشعر والشعراء 1/ 428، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 70، وشرح شذور الذهب ص 170، وشرح المفصل 4/ 11، ومغنى اللبيب 1/ 328، والشاهد فيه قوله:"رب من"، و"رب" لا تدخل إلا على نكرة فدل على أنا "من" هنا نكرة موصولة بجملة "أنضجت".

(3)

حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري النَّجَّاري، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عبد الرحمن أو أبو الوليد. وعنه: ابنه عبد الرحمن وابن المسيب. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن رُوحَ القُدسِ مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قال أبو عبيد: توفي سنة أربع وخمسين. قال ابن إسحاق: عاش مائة وعشرين سنة.

ينظر: أسماء الصحابة الرواة ت (819)، والثقات 3/ 71، وسير الأعلام 1/ 512، وشذرات =

ص: 209

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا

حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ [إِيَانَا

(1)

]

(2)

وكذا إذا كانت زائدة إن قيل بورودها لذلك، وهو رأي الكسائي

(3)

، أو نكرة تامَّة، وهو رأي أبي علي.

وأما الموصولة والشرطية فيعفان.

أما الموصولة فتشمل المذكر والمؤنث مثل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} [سورة البقرة: الآية 8].

وأما "الشرطية" مثل: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [سورة الفرقان: الآية 68]، فلذلك "تشمل المؤنث عند الأكثر".

وقيل: تختص بالمذكر.

"لنا: أنه لو قال: مَنْ دخل داري فهو حُرّ، عَتقْنَ بالدخول" اتفاقًا، ولولا شمول اللفظ ما كان ذلك.

"فرع"

لو نظرت الأجنبية في بيت الأجنبي جاز رَمْيُهَا على أصح الوجهين، ويمكن أن يبنى الخلاف على شمول "مَنْ" المؤنث، والأصل فيه ما في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن

= الذهب 1/ 41، والإصابة 2/ 62، والاستيعاب 1/ 341، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 206، وتهذيب الكمال 1/ 248، وتهذيب التهذيب 2/ 247، والبداية والنهاية 8/ 47.

(1)

في ج: من أتانا.

(2)

وهو لكعب بن مالك في ديوانه ص 289، والدرر 3/ 7، وشرح أبيات سيبويه 1/ 535، وخزانة الأدب 6/ 120، 123، 128، والدرر 3/ 7، ولبشر بن عبد الرحمن في لسان العرب (منن)، ولحسان بن ثابت في الأزهية ص 101، والمقاصد النحوية 1/ 486، والدرر 1/ 302، وشرح شواهد المغني 1/ 337، وللأنصاري في الكتاب 2/ 105، ولسان العرب (كفى)، والجني الداني 52، همع الهوامع 1/ 92، والمقرب 1/ 203، وشرح شواهد المغنى 1/ 109، 328، وشرح المفصل 4/ 12، ومجالس ثعلب 1/ 330، وسر صناعة الإعراب 1/ 135، ورصف المباني 149.

(3)

علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء، الكوفي، أبو الحسن الكسائي: إمام في اللغة والنحو والقراءة. من تصانيفها "معاني القرآن" و المصادر" و"الحروف" و "القراءات " و"النوادر" و"المتشابه في القرآن، و"ما يلحن فيه العوام". توفي بـ "الري" - في العراق - سنة 189.=

ص: 210

مَسْأَلَةٌ:

الْخِطَابُ بِـ "النَّاسِ"، وَ"الْمُؤمِنِينَ"، وَنَحْوِهِمَا: يَشْمَلُ الْعَبِيدَ؛ عِنْدَ الأكْثَرِ.

وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنْ كَانَ لِحَقِّ اللهِ.

لَنَا: أَنَّ الْعَبْدَ مِنَ النَّاسِ وَالْمُؤمِنِينَ قَطْعًا؛ فَوَجَبَ دُخُولُهُ.

اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ"

(1)

.

وتستحق المرأة سلب المقتول على المذهب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُه"

(2)

.

"مسألة"

الشرح: "الخطاب بـ "النَّاسِ" و"المؤمنين" ونحوهما يشمل العبيد عند الأكثر" وقيل: لا

(3)

.

"وقال الرازي": من الحنفية

(4)

: "إن كان" الخطاب "لحقّ الله" دخل العبيد، وإنْ كان لحقّ العباد فلا.

"لنا: أن العَبْدَ من الناس والمؤمنين قطعًا؛ فوجب دخوله".

= انظر: ابن خلكان 1/ 330، وتاريخ بغداد 11/ 403، والأعلام 4/ 283.

(1)

البخاري 12/ 253، 254، كتاب الديات: باب من اطلع في بيت قوم ففقؤا عينه فلا دية له (6902)، ومسلم 3/ 1699، كتاب الآداب: باب تحريم النظر في بيت غيره (43 - 2158).

(2)

أخرجه مالك في الموطأ 2/ 454 - 455، في كتاب الجهاد: باب ما جاء في السلب (18) وأخرجه البخاري 8/ 34 - 35، في المغازي: باب قول الله تعالى: {ويوم حنين} (4321)، ومسلم 3/ 1370، في الجهاد: باب استحقاق القاتل سلب القتيل (41/ 1751).

(3)

ينظر: المحصول 1/ 3/ 201، والمعتمد 1/ 300، والإحكام للآمدي 2/ 248، واللمع (11)، والتبصرة (75)، والعدة 2/ 348، والمستصفى 2/ 77، والمنخول (143)، وشرح الكوكب 3/ 242، وجمع/ الجوامع 1/ 427، والقواعد والفوائد (209)، وإشاد الفحول (128)، والمسودة (34)، والتمهيد للإسنوي (355)، وشرح العضد 2/ 125، وشرح التنقيح (196)، التحرير (91)، وتيسير التحرير 1/ 254، وفواتح الرحموت 1/ 276.

(4)

ينظر المصادر السابقة.

ص: 211

قَالُوا: ثَبَتَ صَرْفُ مَنَافِعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ؛ فَلَوْ خُوطِبَ بِصَرْفِهَا إَلَى غَيْرِهَ لَتَنَاقَضَ.

رُدَّ: بِأَنَّهُ فِي غَيْرِ تَضَايُقِ الْعِبَادَاتِ؛ فَلا تَنَاقُضَ.

قَالُوا: ثَبَتَ خُرُوجُهُ مِنْ خِطَابِ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا.

قُلْنَا: بِدَلِيلٍ؛ كَخُرُوجِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ.

الشرح: "قَالُوا: ثبت صرف منافعه إلى سَيّده" في جميع الأوقات بالشرع، "فلو خوطب بصرفها إلى غيره" أيضًا "لتناقض".

"ردّ: بأنه" إنما يخاطب بصرف مَنَافعه إلى سَيّده "في غير" أوقات" [تضايق]

(1)

العبادات"، ولذلك لا يجوز للسَّيِّد استخدامه في وقت الصَّلاةِ المفروضة، بل له أوقات يجب على السَّيد أن يغادره فيها لأداء وظيفة العبادة [وآخَر]

(2)

لراحته في نفسه.

"قالوا: ثبت خروجه من خطاب الجهاد والحَجّ والجمعة وغيرها"، مع ورود الألفاظ العامة في ذلك مثل:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [سورة آل عمران: الآية 97]، و {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [سورة الأنفال: الآية 65]، فلو كان داخلًا احتيج إلى دليل في إخراجه.

"قلنا": هو داخل، وإنما خرج "بدليل"

كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه إنسان لا يعرفه ليبايعه سأله: أحُرّ هو أو عبد؟ فإن قال: أنا حرّ بايعه على الإسلام والجهاد، وإن قال: أنا عبد بايعه على الإسلام، ولم يبايعه على الجهاد.

وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ عَتَقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخرَى"

(3)

.

وأنه صلى الله عليه وسلم قَال: "الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، وَأمْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أو مَرِيضٌ"

(4)

.

(1)

في أ، ج: تطابق.

(2)

في ج: وأخرى.

(3)

أخرجه الشافعي في "مسنده"(1/ 290)، والطحاوي (1/ 435)، والبيهقي (5/ 156) من طريق أبي السفر عن ابن عباس موقوفًا، وله طريق آخر مرفوع عن ابن عباس:

وأخرجه الحاكم (1/ 481)، والبيهقي (4/ 325)، والخطيب (8/ 209) من حديث محمد بن المنهال الضرير ثنا يزيد بن زريع ثنا شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس مرفوعًا، وفيه: وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى.

وصححه ابن حزم، وصحح ابن خزيمة وقفه كما في "التلخيص"(2/ 220).

(4)

أخرجه البخاري 2/ 357، كتاب الجمعة: باب فضل الغسل يوم الجمعة (879)، ومسلم =

ص: 212

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وخروج العبد "كخروج المريض والمسافر" عن العمومات التي خرجا منها كالصوم والصلاة، وذلك لا يدل على عدم تناولهما اتفاقًا.

"فرع"

أمان العبد صحيح عندنا"

لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُونَ تَتكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ"

(1)

.

وقال أبو حنيفة: لا يصح إلَّا أن يكون مَأْذُونًا له في القتال، [أو تخريج]

(2)

الخلاف على هذا الأصل ظاهر.

"فائدة"

استدل الشافعي لتفاوت الحر والعبد في مقدار ما يملك من الطَّلاق بأن قوله تعالى: {مَرَّتَانِ} إلى قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [سورة البقرة: الآية 230] يحتمل أن يكون للأحرار والعبيد والإماء، وأن يكون لبعضهم.

وقد جاء القرآن بأحكام مطلقة كهذه اختلف فيها الحرّ والعبد والحرة والأَمة، وأحكام اتفقوا فيها للضَّرورة خاصَّة.

قال الله تعالى في حق الزَّانين الأحرار: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [سورة النور: الآية 2]، وفي الإماء:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [سورة النساء: الآية 25] الآية.

وقال في الشهادات: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [سورة الطلاق: الآية 2].

قال الشافعي: فلم يختلف من لقيت أنها على الأحرار دون العبيد، ولم يختلف أحد لقيت أنْ لا رجم على عبد ثَيّب، وفرض الله تعالى العدَّة ثلاثة أشهر وثلاثة قروء، وفي الموت أربعة أشهر وعشرًا.

= (2/ 580)، كتاب الجمعة: باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال (5/ 8467)، ومالك في الموطأ 1/ 102، في الجمعة: باب العمل في غسل يوم الجمعة (4)، وابن ماجه 1/ 346 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها: باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة (1089).

(1)

أخرجه أبو داود 4/ 666 - 668، كتاب الديات باب إيقاد المسلم بالكافر (4530)، والنسائي 8/ 19، كتاب القسامة: باب القودين بين الأحرار، والحاكم في المستدرك 2/ 141، كتاب قسم الفيء، وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأحمد في المسند 1/ 119.

(2)

في ب: أو تخريج علي.

ص: 213

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولم أعلم مخالفًا ممّن حفظت عنه من أهل العلم في أن عدّة الأَمةِ نصف عدّة الحُرَّة مما له نصف معلوم، وما لا كالحيض عدّتها فيه أقرب الأَشياء من النصف، وهو تمام حَيْضَتَيْنِ. هذا مختصر كلام الشَّافعي في باب عدّة الأمةِ في كتاب "الأم".

وقد يؤخذ منه أنه في غير أماكن الضَّرورة لا يدخل العَبْدُ في إطلاق لفظ "الناس" و"المؤمنين" ونحوهما.

وأن مذهبه التفصيل بين أماكن الضرورة وغيرها، [فلا]

(1)

يقال: هذا في الألفاظ المطلقة دون العامة كقوله رضي الله عنه:"قد جاء القرآن بأحكام مطلقة؛ لأن مراده بـ "المطلقة" العامة، [والآيات]

(2)

التي أوردها كلها عامة.

والذي عندي في هذا أن الشافعي رضي الله عنه لا ينكر دخول العبيد لغةً في لفظ "الناس" و "المؤمنين"، وكيف ذلك وهو من مَشْيخة قريش وفُرْسان البلاغة، ولكنه يدعي أنه استقرأ الآيات الواردة عامة، فوجد الأمة فيما عدا أماكن الضرورة يخصّ بها العبيد، ولذلك قال في كل موضع أورده:"فلم يختلف أحد لقيت"، كما رأيت فتبين أن مراده الاستقراء [به]

(3)

عن [صيغ]

(4)

الأمة لا مدلول اللفظ لغة، وهذه فائدة وراء ما تكلم فيه أهل الأصول، فإنهم إنما تكلّموا في مدلول اللفظ لغة، والشافعي رضي الله عنه يوافقهم، ولكنه يقول: إنَّ الاستقراء دلَّ على أن العبيد غير مراد باللَّفظ فيما عدا الضرورات.

فإن قلت: وما الضرورات؟

قلت: كأنه يشير إلى ما لا يفترق فيه الحرّ والعبد، كالإيمان، والصلاة، والصوم؛ فإن هذه أمور ليس يعقل في العبيد معنى يخرجهم عنها، فيدخلون في:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [سورة البقرة: الآية 21] ونحوها؛ إذ الرق لا يقتضي الخروج من هذا الخلاف: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة: الآية 43]؛ فإنها تختص بذوي الأموال. {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [سورة آل عمران: الآية 97] إلى غير ذلك من الآي.

(1)

في أ: ولا.

(2)

في ب: والإناث.

(3)

سقط في أ، ب، ج.

(4)

في أ، ج: صنيع.

ص: 214

مَسْأَلَةٌ:

مِثْلُ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [سورة البقرة: الآية 21]، {يَا عِبَادِيَ} [سورة العنكبوت: الآية 56]- يَشْمَلُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم؛ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.

وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: إِلَّا أَن يَكُونَ مَعَهُ {قُلْ} .

لنَا: مَا تَقَدَّمَ.

وَأَيْضًا: فَهِمُوهُ؛ لأِنَّهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَفْعَلْ صلى الله عليه وسلم، سَأَلُوهُ؛ فَيَذْكُرُ مُوجِبَ التَّخْصِيصِ.

قَالُوا: لا يَكُونُ آمِرًا مَأْمُورًا، وَمُبَلِّغًا مُبَلِّغًا بِخِطَابٍ وَاحِدٍ، وَلأِنَّ الأَمْرَ - لِلأَعْلَى مِمَّنْ دُونَهُ.

قُلْنَا: الآمِرُ اللَّهُ سُبْحَانَه، وَالْمُبَلِّغُ جِبْرِيلُ عليه السلام.

"مسألة"

الشرح: الخطاب - المتناول لغة - للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة: "مثل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [سورة البقرة: الآية 21]، {يَا عِبَادِيَ} [سورة الزمر: الآية 53] يشمل الرسول عند الأكثر".

وقيل: لا

(1)

.

"وقال" أبو بكر الصَّيرفي، وأبو عبد اللّه "الحليمي"

(2)

: يشمله "إلا أن يكون معه {قُلْ} " أو نحوها مما يقتضي بصراحته الأمر بالتبليغ مثل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [سورة النور: الآية 30].

(1)

ويشبه بناء الخلاف على الخلاف الآخر في أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ لكن المرحج أنه ليس أمرًا بذلك الشيء وها هنا المرجح خلافه. انظر سلاسل الذهب ص 234.

والبرهان 1/ 365، والمحصول 1/ 3/ 200، والمستصفى 2/ 81، والمنتهى (85)، ونهاية السول 2/ 371، والوصول إلى الأصول 1/ 224، والإحكام للآمدي 2/ 251، وشرح التنقيح (197)، وجمع الجوامع 1/ 427، والقواعد والفوائد (207)، والمختصر لابن اللحام (115)، والمسودة (33)، وشرح الكوكب 3/ 247، وإرشاد الفحول 129، والتحرير (91)، وتيسير التحرير 1/ 254، وفواتح الرحموت 1/ 777، ونشر البنود 1/ 223.

(2)

الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم القاضي، أبو عبد الله الحليمي البخاري. قال الحاكم: أوحد الشافعيين بما وراء النهر وأنظرهم وآدبهم بعد أستاذيه أبي بكر القفال والأودني. وقال في =

ص: 215

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"لنا: ما تقدّم" من أن الخطاب عام؛ فلا يخرج فرد من أفراده عنه إلا بدليل.

"وأيضًا" فالعمومُ الصَّحابةُ قد "فهموه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا كان لم يفعل سألوه" عن السبب، "فيذكر موجب التخصيص"، فلولا دخوله تحت الخِطَابِ لم يحسن السؤال، ولم يُجِبْ بالتخصيص، بل بأن: لم أدخل.

[ولمن]

(1)

فصل أن يقول: لا نسلِّمُ عموم الخطاب، ولا فهمهم العُمُوم في حالة النزاع، وهي ما إذا كان في اللفظ "قل"، والمنقول من ذلك أنه عليه السلام أمرهم بفسخ الحَجّ إلى العمرة، ولم يفسخ.

قالوا: أتأمرنا بالفسخ ولم تفسخ؟! فاعتذر بأنه قلّد الهدي، ولا دليل فيه؛ فإن ذلك قد يكون [لغة]

(2)

التسوية، أو أنه خطاب مُشَافهة، والأمر غير داخل فيه، وتعليلهم بقول:"أتأمرنا" مع عدم تعرضهم لعموم الأمر يشعر بذلك إشعارًا ظاهرًا.

"قالوا" أولًا: لا يدخل تحت الخطاب، "وإلَّا، يلزم أن "يكون آمرًا مأمورًا مبلِّغًا مبلَّغًا بخطاب واحد"، وهو محال؛ لأن الآمر طالب، والمأمور مطلوب منه، والمبلِّغ مؤدّ، والمبلَّغ مؤدى إليه، وقد وقع الاتفاق على أن أمر الإنسان لنفسه على الخصوص ممتنع، فكذلك على العموم، "ولأن الأمر للأعلى ممن دونه" كذا بخطّ المصنف، ثم أصلحت: لمن دونه.

إن الأمر يشترط فيه علو المرتبة، فيكون الأمر من العالي لمن دونه، فلا بد من مغايرة الآمر والمأمور، وإلَّا يلزم اجتماع كونه أعلى وأدنى، وهو محال.

"قلنا: الآمر الله، والمبلِّغ جبريل"، فلا يلزم أن يكون عليه السلام آمرًا مأمورًا حتى يمتنع؛ لامتناع أمر الإنسان نفسه، ولاستحالة اجتماع العلو وضده، ولا أن يكون مبلِّغًا ومبلَّغًا.

= النهاية: كان الحليمي رجلًا عظيم القدر، لا يحيط بكنه علمه إلا غواص. ولد سنة 338 هـ ومن تصانيفه:"شعب الإيمان" و"آيات الساعة" و "أصول القيامة" وغيرها. وتوفي سنة 403 هـ. وينظر: شذرات الذهب 3/ 167، وفيات الأعيان 1/ 403، والمنتظم 7/ 264، وتذكرة الحفاظ 3/ 1030، والأعلام 2/ 253، ابن قاضي شهبة 1/ 178، والبداية والنهاية 11/ 349.

(1)

في ب: ولمَّ.

(2)

في أ، ج: كفة.

ص: 216

قَالُوا: خُصَّ بِأَحْكَام؛ كَوُجُوبِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَالضُّحَى، وَالأَضْحَى، وَتَحْرِيمِ الزَّكَاةِ، وَإبَاحَةِ النَكاحِ بِغَيْرِ وَليٍّ وَلا شُهُودٍ، وَلا مَهْرٍ، وَغَيْرِهَا.

قلنا: كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَخْرُجُوا بِذلِكَ مِنَ الْعُمُومَاتِ.

الشرح: "قالوا" ثانيًا: "خصّ" النبي صلى الله عليه وسلم "بأحكام، كوجوب رَكْعَتَيِ الفجر، والضحى، [والأضحى]

(1)

، وتحريم الزكاة، وإباحة النكاح بغير وَلِيّ ولا شهود، ولا مَهْر وغيرها" من الخصائص التي يكثر عدها، وذلك يدلّ على مَزِيّته؛ وانفراده عن الأمة في الأحكام التكليفية؛ فلا يكون داخلًا تحت الخطاب المتناول لهم.

"قلنا": الخصوص في غير محلّ الخطاب الذي يتكلّم عليه لا يقتضي تعدِّيه إلى ما سواه "كالمريض والمسافر وغيرهما"؛ فإنهم خرجوا من بعض العمومات بدليل خاصّ، "ولم يخرجوا بذلك من العمومات" التي لم ينهض الدليل الخاصّ على تخصيصها بالنسبة إليهم.

واعلم أن المصنف اتبع الآمدي في التمسُّك بركعتي الفجر، ولا نعلم أحدًا عدَّها من الخصائص، [وروي]

(2)

من حديث وَضَّاح بن يحيى

(3)

عن مندل بن علي - وهما ضعيفان - عن يحيى بن سعيد

(4)

عن عكرمة

(5)

عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلاثٌ هُنَ عَلَيَّ فَرَائِض،

(1)

سقط في ج.

(2)

في ج: ويروى.

(3)

الوضَّاح بن يحيى النَّهْشَلي الأنْبَارِي، أبو يحيى، سكن الكوفة، يروى عن العراقيين. روى عنه أهل بغداد. منكر الحديث، يروى عن الثقات الأشياء المقلوبات التي كأنها معمولة، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد لسوء حِفظه. وإني اعتبر مُعْتبر بما وافق الثقات من حديثه فلا خير.

ينظر: تاريخ البخاري الكبير 8/ 180، والجرح والتعديل 9/ 41، والمجروحين 3/ 85.

(4)

يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص، الأموي الحافظ الكوفي. عن: أبيه وهشام بن عروة وابن جريج وطائفة. وعنه: ابنه سعيد وأحمد وإسحاق وابن معين. ووثقه. قال ابنه سعيد: مات سنة أربع وتسعين ومائة.

ينظر: تاريخ بغداد 14/ 132، الثقات 7/ 599، وميزان الاعتدال 4/ 380، والجرح والتعديل 9/ 625، وتاريخ البخاري الكبير 8/ 277، والكاشف 3/ 256، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 148، وتهذيب الكمال 3/ 1497، وتهذيب التهذيب 11/ 213 (355).

(5)

عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي. أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه، وكان من أشراف قريش. قال الشافعي: كان محمود البلاء في الإسلام. وعنه: مصعب بن =

ص: 217

مَسْأَلَةٌ:

مِثْلُ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [سورة البقرة: الآية 21]- لَيْسَ خِطَابًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ وَإنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ إِجْمَاعٍ، أَوْ نَصٍّ، أَوْ قِيَاسٍ؛ خِلافًا لِلْحَنَابِلَةِ.

وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ، الوِتْرُ وَرَكْعَتَا الفَجْرِ وَصَلاةُ الضُّحَى"

(1)

وقد روي: "النحر" بدل "الفجر".

والأحسن ألَّا يوسع الكلام في خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الخطاب العام، أو دخول أمته في الخطاب المختص به؛ لأنه قلَّما تمس الحاجة إليه.

"مسألة"

الشرح: لا يمكن دعوى العموم في الخطاب الشفاهي بالنسبة إلى من لم يشافه به، وإنما يعم من شُوفِه به، فإذا قال للحاضرات من نسائه: طلّقتكن، فإنما يقع الطلاق على من أقبل بوجهه عليهن، ووجه مُشَافهته نحوهن لا الغائبة منهن، ولربّ حاضرات بين يديه لم يشافه إلا بعضهن، ويعرف ذلك بالقرائن

(2)

.

إذا عرفت هذا، فاعتبر به كلّ خطاب، فنقول: كل حكم نزل بصيغة المُخَاطبة "مثلُ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [سورة البقرة: الآية 21] " فهو خطاب مع الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم المواجهون به، و "ليس خطابًا لمن بعدهم، وإنما يثبت الحكم" فيمن بعدهم "بدليل آخر من

= سعيد. قال ابن إسحاق: قتل يوم اليرموك سنة ثلاث عشة. ينظر: أسماء الصحابة الرواة ت (784)، وطبقات ابن سعد 9/ 135، والإصابة 4/ 538، وأسد الغابة 2/ 70، والثقات 3/ 310، والجرح والتعديل 7/ 6، وتاريخ البخاري الكبير 7/ 48، وتهذيب الكمال 2/ 948، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 239.

(1)

أخرجه أحمد (1/ 231)، والحاكم (1/ 300)، والدارقطني (2/ 21) وفيه:"ركعتا الفجر" بدلًا من صلاة الضحى، والبيهقي (2/ 468) عن ابن عباس قال الذهبي في "تلخيص المستدرك: قلت: ما تكلم الحاكم عليه، وهو غريب منكر، ويحيى ضعفه النسائي والدارقطني.

(2)

ينظر: البرهان 1/ 270، والمحصول 1/ 2/ 634، والمنخول (124)، والمستصفى 2/ 83، وشرح التنقيح (188)، والإحكام للآمدي 2/ 253، وشرح العضد 2/ 127، واللمع (12)، وجمع الجوامع 1/ 427، والتمهيد للإسنوي 363، ونهاية السول له 2/ 364، وشرح الكوكب 3/ 249، والعدة 2/ 386 - 387، والمسودة (110)، والروضة (110)، والتحرير (92)، وتيسير التحرير 1/ 205، وفواتح الرحموت 1/ 278، وإرشاد الفحول (128).

ص: 218

لَنَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لا يُقَالُ لِلْمَعْدُومِينَ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} .

وَأَيْضًا: إِذَا امْتَنَعَ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنونِ، فَالْمَعْدُومُ أَجْدَرُ.

قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطِبًا لَه، لَمْ يكُنْ مُرْسَلًا إِلَيْهِ، وَالثَّانِيَةُ اتِّفَاقٌ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ الْخِطَابُ الشِّفَاهِيُّ، بَلْ لِبَعْضٍ شِفَاهًا، وَلبَعْضٍ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ بِأَنَّ حُكْمَهُمْ كَحُكْمِ مَنْ شَافَهَهُمْ.

قَالُوا: الاِحْتِجَاجُ: بهِ دَلِيلُ التَّعْمِيمِ.

قُلْنَا: لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ حُكْمَهُ ثَابِتٌ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلٍ آخَرَ؛ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

إجماع، أو نص، أو قياس" يلحقهم به؛ "خلافًا للحنابلة".

الشرح: "لنا: القطع أنه لا يقال للمعدومين: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} "؛ لأنه وقت كونه معدومًا ليس من الناس، فلا يتناوله اللفظ، "وأيضًا إذا امتنع في الصَّبي والمجنون" مع وجودهما "فالمعدوم أجدر".

لا يقال: كيف جوزتم خطاب المعدوم؟ لأنا نقول ذلك في أصل الجواز والتعلّق غير التَّنْجيزي، وهذا في التعلّق التنجيزي.

"قالوا" أولًا: "لو لم يكن" النبي صلى الله عليه وسلم "مخاطبًا" له أي: للمعدوم "لم يكن مرسلًا إليه"؛ إذ لا معنى لإرساله إلا تبليغه الأحكام، ولا سبيل بذلك إلا بهذه العُمُومات، وهي لا تتناوله.

"والثانية" وهي المقدمة الاستثنائية "اتفاق".

ومن محاسن المصنّف استدلاله بالاتِّفاق على انتفاء اللَّازم، ولم يستدل بقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سورة سبأ: الآية 28]، وإن كان غيره قد استدلّ به، وكذا: بعث إلى الأحمر والأسود؛ لأن لفظ الناس، والأحمر، والأسود، والجماعة يختص أيضًا بالموجودين وَقْت النّزول، ولا فرق بينه وبين {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} .

الشرح: "وأجيب بأنه لا يتعين الخطاب الشفاهي" في الإرسال، "بل" مطلق الخطاب كافٍ، ويكون "لبعضٍ شِفَاهًا" وهم الموجودون "ولبعض" وهم من بعده صلى الله عليه وسلم "بنصب الأدلَّة" والنقل عنه صلى الله عليه وسلم بأن حكمهم "كحكم من شافههم".

والحق أن ذلك معلوم من الدِّين بالضرورة، ومن كونه خاتم النبيين، ودائم الشرعة

ص: 219

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخَاطِبُ: دَاخِلٌ فِي عُمُومِ مُتَعَلَّقِ خِطَابِهِ

عِنْدَ الْأَكْثَرِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا؛ مِثْلُ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} [سورة الأنعام: الآية 101]، "مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ فَأَكرِمْهُ"، أَوْ "فَلا تُهِنْهُ".

قَالُوا: يَلْزَمُ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الزمر: الآية 62].

فُلْنَا: خُصَّ بِالْعَقْل.

إلى يوم القيامة [من]

(1)

مثل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ؛ لما عرفت.

"قالوا" ثانيًا: لم تزل العلماء تستدلّ بمثل هذا الخطاب على من حدث بعده، و "الاحتجاج به دليل التعميم".

"قلنا": ليس لتناول اللفظ لهم، بل "لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر جمعًا بين الأدلَّة" من الطرفين.

"مسألة"

الشرح: "المُخَاطِب" بكسر الطاء اسم فاعل "داخل في عموم متعلّق خطابه" إذا كان صالحًا له، ولم تخرجه القرينة "عند الأكثر"، سواء أكان الخطاب "أمرًا أو نهيًا أو خبرًا"

(2)

.

فالخبر "مثل: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة الحديد: الآية 3]، وهو سبحانه وتعالى عليم بذاته وصفاته، والأمر والنهي مثل: "مَنْ أَحسن إليك فأكرمه أو لا تهنه".

وقيل: لا يدخل؛ لقرينة كونه مُخَاطِبًا، وهو الأصحّ عند أصحابنا كما ذكر النووي في "الروضة"، إلَّا أن أصحابنا لم يذكروا الخبر بل الأمر، والفرق بينهما واضح.

وقال الإمام الرازي: يشبه أن يكون كونه أمرًا قرينة مخصصة مع جزمه في الخبر بالدخول.

(1)

سقط في ج.

(2)

ينظر: البرهان 1/ 362، والمحصول 1/ 3/ 199، والمستصفى 2/ 88، والمنخول 143، والقواعد والفوائد (205)، وشرح العضد 2/ 127، وشرح الكوكب 3/ 252، وجمع الجوامع 1/ 384، ونهاية السول 2/ 372، والتمهيد للإسنوي 346، والإحكام للآمدي 2/ 255، وإرشاد الفحول (130)، والمسودة (32، 34)، وشرح تنقيح الفصول (198)، والتحرير ص 92، وتيسير التحرير 1/ 256، وفواتح الرحموت 1/ 280، والمدخل (243).

ص: 220

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفصَّلَ إمام الحرمين فقال: اللَّفظ يتناوله صيغة، ولكنه خارج عنه عادة، وهذا في الأمر والنهي حيث لا يستلزم كون الأمر أمرًا لنفسه، وإن استلزم مثل: ليقم الناس، فالصحيح لا يدخل، ولا يلزم كونه آمرًا مأمورًا، واجتماع العلو وضدّه؛ بناء على اشتراط العلو في الآمر وضده في المأمور.

والمانعون من دخول المتكلّم في عموم كلامه "قالوا": لو دخل كان "يلزم" كون الرّب خالقًا نفسه؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الزمر: الآية 62].

"قلنا": هذا ظاهره، ولكن "خصص بالعقل".

ومن أصحابنا من أجاب بأن الخلق لا يتصور في ذات الباري - تعالى - ولا يتوهم فيها، فلا [يشمل]

(1)

العموم عليه، وهذا مَهْيَعٌ يُسْلك في كل مخصوص بالعقل، فيقال: إنه لم يدخل؛ لأن اللفظ إنهما يشتمل على الممكن، فلا يقال: خص.

"فائدة"

ما أحسن حذف المصنّف اللَّازم وذِكْر دليله

حيث قال: يلزم "الله خالق كل شيء" ومراده يلزم كون الرب خالق نفسه من قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ؛ فإنه حذفه تأدّبًا واسْتِهْجانًا لذكر هذه اللَّفظة كما وقع في الحديث: "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ " إلى أن يقول: "هذا اللَّهُ خَلَقَ الخلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ؟ وذكر كلمة"

(2)

.

فانظر قوله: وذكر كلمة، ووقع في بعض الروايات التصريح بها، وهي: فمن خلق الله؟، وحَذْفُهَا محمولٌ على التأدّب، وذِكرُها محمول على الإيضاح.

"فرع"

اختلف الأصحاب فيمن قال: نساء العالمين طَوَالق، هل تطلق امرأته؟

قال الرافعي: وبنى الخلاف على أن المُخاطِب هل يدخل، وصحح النووي أنها لا تطلق، قال: لأن الأصح لا يدخل.

(1)

في ج: يشتمل.

(2)

أخرجه البخاري 6/ 387 كتاب بدء الخلق: باب صفة إبليس وجنوده (3276) من طريق يحيى بن بكير، وأخرجه مسلم 1/ 120 كتاب الإيمان: باب بيان الوسوسة في الإيمان (214/ 134).

ص: 221

مَسْأَلَةٌ:

مِثْلُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [سورة التوبة: الآية 103]- لا يَقْتَضِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ نَوعٍ مِنَ الْمَالِ؛ خِلافًا لِلْأكْثَرِ.

لنَا: أَنَّهُ بِصَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ يَصْدُقُ أنَّهُ أَخَذَ مِنْهَا صَدَقَةً؛ فَيَلْزَمُ الاِمْتِثَالُ.

وَأَيْضًا: "فَإنَّ كُلَّ دِينَارٍ مَالٌ؛ وَلا يَجِبُ ذلِكَ [بِالإجْمَاعِ].

قَالُوا: الْمَعْنَى: "مِنْ كُلِّ مَالٍ"؛ فَيَجِبُ الْعُمُومُ.

قُلْنَا: "كُلٌّ": لِلتَّفْصِيلِ"؛ وَلذلِكَ فُرِّق بَيْنَ: "لِلرِّجَالِ عِنْدِي دِرْهَمٌ"، وَبَيْنَ "لِكُلِّ رَجُلٍ عِنْدِي دِرْهَمٌ"؛ بِاتِّفَاقٍ.

ونقل الرافعي: أن بعضهم أفتى فيمن قال لزوجته: نساء العالمين طوالق، وأنت يا فاِطمة، بأنه لا يقع؛ لأنه عطف طلاقها على طلاق نسوة لا يقع طلاقهن.

ومقتضى هذا التَّعليل أنها لم تدخل في نساء العالمين، أو لعل العطف بَيَّن أنها لم تُرَد بالأول، وإلا فلا فائدة له.

ولو وقف على الفقراء، ثم صار فقيرًا، جاز له الأخذ منه على الأصحّ.

وقيل: لا؛ لأن مطلق الوقف ينصرف إلى غير الواقف.

وفي الرافعي: أن شُرَيحًا الروياني حكى عن جَدّه أبي العباس عن بعض الأصحاب فيمن قال: كلّ من في السّكة طالق، وامرأته في السكة أنه لا يقع، والصحيح: يقع؛ لشمول اللَّفظ لها، وهذا لا يتعلّق بمسألة المخاطِب هل يدخل في كلامه؟ وإنما ذكرته لأنه وقع في بعض النسخ: امرأة كل من في السّكة، وهو غلط؛ لأن النُسَخ على عود الضمير على مؤنّث؛ فإن في جميع النسخ: وهي في السّكة، ولا يتجه الوقوع عليها أصلًا إذا كانت هي في السكة؛ لأن المعلّق به كونه هو في السكة - لا هي، ولو فرض عود ضمير المذكر أي كان هو في السكة اتجه البناء على دخول المُخاطِب في الخطاب.

"مسألة"

الشرح: "مثل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [سورة التوبة: الآية 103] لا يقتضي أخذ الصَّدقة من كلّ نوع من المال؛ خلافًا للأكثر

(1)

.

(1)

ينظر: الإحكام للآمدي 2/ 256، والتمهيد للإسنوي 343،. ونهاية السول 2/ 373، وجمع الجوامع 1/ 429، والوصول لابن برهان 1/ 304، والمختصر لابن اللحام (116)، وشرح =

ص: 222

‌مَسْأَلَةٌ:

الْعَامُّ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالذمِّ

؛ مِثْلُ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ

وَإِنَّ الْفُجَّارَ} [سورة الانفطار: الآية 13]{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [سورة التوبة: الآية 34]- عَامٌّ.

وَعَنِ الشَّافِعِيِّ خِلافُهُ.

لنا: أنه بصدقة واحدة" من نوع واحد من الأموال "يصدق أنه أخذ منها صدقة؛ [فيلزم]

(1)

الامتثال.

وأيضًا: فإنَّ كلّ دينار مال، ولا يجب ذلك" فيه "بإجماع"، ولو كان عامًّا لوجب أخذ الصّدقة منه.

ولقائل أن يقول: على الأول: لا نسلّم الصدق.

وعلى الثاني: ذلك [لتفصيل]

(2)

.

وأيضًا: فالمراد بالمال النَّصَاب، وهو يأخذ من كل نصاب.

"قالوا: المعنى من كلّ مال، فيجب العموم"، إذ الألف واللَّام وكل في العموم سواء.

"قلنا: "كلّ" للتفصيل" بخلاف الجمع المضاف، "ولذلك فرق بين: لرجال عندي درهم، وبين: لكلّ رجل عندي درهم باتفاق"، فيجب في الأوّل درهم للجميع، وفي الثاني لكل واحد درهم.

"مسألة"

الشرح: "العام بمعنى المدح والذم" أي: الذي سيق للمدح والذم "مثل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ} " لَفِي نَعِيمِ، " {وَإِنَّ الْفُجَّارَ" لَفِي جَحِيمٍ} [سورة الانفطار: الآية 13 - 14]. {"وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ" وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة التوبة: الآية 34]"عام، وعن الشافعي خلافه"، وهو وجه ضعيف في المذهب، نقله الجلابي

(3)

، عن القَفَّال، والثابت

= العضد 2/ 128، وشرح الكوكب 3/ 256، وإرشاد الفحول (126)، وتيسير التحربر 1/ 257، وأصول السرخسي 1/ 276، وفواتح الرحموت 1/ 282.

(1)

في ب: فلزم.

(2)

في أ: المتفصل.

(3)

الحسن بن أحمد بن محمد الطبري الجلّابي. قال أبو إسحاق: "تفقه في بلده، وحضر مجلس الداركي ثم درس في حياته، ومات قبل الداركي بسبعة عشر يومًا، وكان فقيهًا فاضلًا، عارفًا =

ص: 223

لنَا: عَامٌّ، وَلا مُنَافِيَ؛ فَعَمَّ كَغَيْرِهِ.

قَالُوا: سِيقَ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَثِّ أَوِ الزَّجْرِ؛ فَلا يَلْزَمُ التَّعْمِيمُ.

قُلْنَا: التَّعْمِيمُ أَبْلَغُ.

وَأَيْضًا: لا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا.

عن الشَّافعي الصحيح من مذهب العموم

(1)

.

نعم، إذا عارضه عام آخر لم يسق للمدح أو الذم.

قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وسليم الرازي، وابن السمعاني وغيرهم من أئمتنا: لا خلاف على المذهب أنه يترجّح الذي لم يسق لذلك، فيجري على عمومه، وبعضه ما سيق للمدح أو الذم عليهما.

قلت: وحكى أبو عبد اللّه السهيلي، وهو من أصحابنا وجهًا أنه يوقف هذان العامان إلى أن يتبين الحال كالمتعارضين.

الشرح: "لنا": على التعميم إذا لم يعارضه عام آخر أنه "عام، ولا منافي "لإرادة العموم؛ أو ليس هناك إلَّا المدح أو الذم، وهما لا ينافيان العموم، "فيعم كغيره" من ألفاظ العموم.

وأيضًا: حَمَلَه الصحابة على العموم، فإنه روى عن عُثْمَان أنه قال في الجمع بين الأختين بملك اليمين:[أحلّتهما]

(2)

آية، [وحرّمتهما]

(3)

آية، والتحريم مقدم.

= بالحديث". قال العبادي: كان فقيهًا جدلًا ورعًا. من كتبه: "المدخل". وتوفي في رمضان سنة 375 هـ. ينظر: طبقات الشيرازي ص (102)، وطبقات العبادي ص (84)، وطبقات الأسنوي 1/ 173.

(1)

ينظر: اللمع (15)، والتبصرة (193)، والمحصول 1/ 3/ 203، والمعتمد 1/ 302، والإحكام للآمدي 2/ 257 (25)، وشرح العضد 2/ 128، والمسودة (133)، وشرح تنقيح الفصول (221)، ونهاية السول 2/ 372، والتمهيد له (338)، والوصول لابن برهان 1/ 308، وشرح الكوكب 3/ 254، والمختصر لابن اللحام (116)، وإرشاد الفحول (133)، والتحرير (93)، وتيسير التحرير 1/ 257، وفواتح الرحموت 1/ 283، والمدخل 245، وفتح الغفار 2/ 60.

(2)

في أ: أحلتها.

(3)

في أ، ب: وحرمتها.

ص: 224

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأراد بآية الحل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [سورة المؤمنون: الآية 6]، وآية التحريم:{تَجْمَعُوا} [سورة النساء: الآية 23]، فحكم بالعموم على آية الحل مع أنها مسوقة للمدح.

"قالوا: سيق لقصد المُبَالغة في الحث أو الزجر"، وعادة العرب فيما هذا شأنه الإتيان بلفظ العموم مبالغة؛ "فلا [يلزم]

(1)

التعميم".

"قلنا: التعميم أبلغ"، فيكون قصد المَدْح والذم دالًّا له، "وأيضًا لا تنافي بينهما" حتى يدلّ ثبوت أحدهما، وهو قصد المبالغة على نفي الآخر.

"فائدة"

مثل أبو عبد الله السهيلي للعامَّين اللَّذين سيق أحدهما للمدح دون الآخر بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [سورة المؤمنون: الآية 5، 6].

فإنه سيق للمدح، وهو يعم ملك اليمين، سواء الأخت وغيرها، فترجّح عليه قوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [سورة النساء: الآية 23]، وهو عام في الجمع بملك اليمين والنكاح.

ولقائل أن يقول: هذان لَفْظَان كلّ منهما عام من وجه، خاصّ من وجه.

ومثَّل الشيخ أبو حامد، وابن السمعاني وغيرهما من أئمتنا بقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [سورة النساء: الآية 23].

فإنها آية سيقت لبيان الأعيان المحرمات دون العدد مع قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [سورة النساء: الآية 3]، فإنه سيق للعدد، وهو يعم الأخت وغيرها، فيقضي بتلك؛ لأنها مسوقة لبيان المحرم، وكذلك يقضي بها على قوله:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [سورة المؤمنون: الآية 6] وقوله تعالى: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [سورة التوبة: الآية 34] لو استدلّ به مستدل على إيجاب الزكاة في الحُلِيّ المباح لانفصلتا عنه، فإنها مسوقة للذم مع معارضة أصل عدم الوجوب لها، فترجح.

(1)

في ج: يلزمهم.

ص: 225

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فائدة أخرى"

ليست المسألة مقصورةً على ما سيق للمدح أو الذم، بل هي عامة في كل ما سيق لغرض فنقول على هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ أَوْ كَانَ عَثْرِيًّا العُشْر، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ"

(1)

مسوق لبيان مقدار الواجب، معارض بأن الأصل عدم الوجوب، ومما رواه الحاكم:"فأما القِثَّاء والرُّمَّان والبِطِّيخ والقَصَب فعفو، عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ فلا عموم في قوله صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ"؛ لكونه مسوقًا لبيان المقدار معارضًا لا بمجرد كونه مسوقًا، كما عرفت. والله المستعان.

(1)

أخرجه البخاري 3/ 407 كتاب الزكاة: باب العشر فيما يسقى من ماء السماء بالماء الجاري (1483) وقد رواه مسلم 2/ 75 كتاب الزكاة: باب ما فيه العشر أو نصف العشر من حديث جابر بن عبد الله (982).

ص: 226

التَّخصِيصُ

قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ.

أبُو الْحُسَيْنِ: إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ عَنْه، وَأَرَادَ: مَا يَتَنَاوَلُهُ بِتقْدِيرِ عَدَمِ المخَصِّصِ؛ كَقَوْلهِمْ: "خُصِّص الْعَامُّ".

وَقِيل: تَعْرِيفُ أَنَّ الْعُمُومَ لِلْخُصُوصِ.

وَأُورِدَ الدَّوْرُ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَ المُرَادَ فِي الْحَدِّ: التَّخْصِيصُ اللُغَوِيُّ.

الشرح: "قصر العامّ على بعض مسمياته"

(1)

، ولو قال:"أفراده" بدل مسمياته كان أصح؛ فإن مسمى العام واحد، وهو كل الأفراد.

وقال "أبو الحسين: "إخراج بعض ما تناوله الخِطَاب عنه"، أي: عن الخطاب.

لا يقال: ما أخرج؛ فالخطاب لم يتناوله؛ لأن أبا الحسين إنما "أراد ما يتناوله بتقدير عدم المخصّص، كقولهم: خصّص العام"، وهذا عام مخصوص.

ولقائل أن يقول: لا حَاجَةَ إلى هذا؛ فإن تناول الخطاب بالوضع للمخصّص باقٍ بعد التخصيص، وإنما الزائل بالتخصيص انسحاب حكمه عليه.

"وقيل": التخصيص "تعريف أن العموم للخصوص"، أي: بيان أنه أريد منه بعض أفراده.

"وأورد" عليه أنه أخذ في تعريف التخصيص الخصوص؛ فلزم "الدور".

"وأجيب بأن المراد" بالتخصيص المذكور "في الحَدِّ: التخصيص اللغوي" وفي المحدود الاصطلاحي؛ فلا دور.

(1)

ويتناول ما أريد به جميع المسميات أولا، ثم أخرج بعض كما في الاستثناء وما لم يرد به إلا بعض مسمياته ابتداء كما في غيره، ومثل لذلك التفتازاني في حاشيته بقوله: "اقتلوا الكافرين ولا تقتلوا أهل الذمة، أو إلا أهل الذمةا فإن المراد بالكافرين في الثاني جميع الكفار؛ ليصح إخراج أهل الذمة فيتعلق الحكم، فيكون القصر على البعض باعتبار الحكم فقط، وفي الأول يتبين أن المراد بالكافرين غير أهل الذمة خاصة، فيكون القصر على البعض باعتبار الدلالة =

ص: 227

وَيُطْلَقُ التَّخْصِيصُ عَلَى قَصْرِ اللَّفْظِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا، كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ:"عَامٌّ"؛ لِتَعَدُّدِهِ؛ كَـ "عَشَرَةٍ"، و "المُسْلِمِينَ" لمَعْهُودِينَ، وَضَمَائِرِ الجَمْعِ.

وَلا يَسْتَقِيمُ تَخْصِيصٌ إِلَّا فِيمَا يَسْتَقِيمُ تَوْكِيدْهُ بـ "كُلَّ".

الشرح: "ويطلق التخصيص على قصر اللَّفظ" على بعض أجزاء مسماه، "وإن لم يكن" اللَّفظ "عامًا" بالاصطلاح، "كما يطلق عليه" أي: على اللَّفظ "عام؛ لتعدّده، كعشرة"، فإنه يقال لها: عام باعتبار آحادها، فإذا قصرت على بعضها بالاستثناء يقال: خصصت، "والمسلمين [المعهودين]

(1)

"نحو: جاءني مسلمون، [فأكرمت]

(2)

المسلمين إلا زيدًا منهم، فإنهم يسمون المسلمين عامًا، والاستثناء منه تخصيصًا، "وضمائر الجمع"؛ لأنها ليست من صيغ العموم؛ إذ المراد بصيغ العموم ما يدل بنفسه، وفيه نظر.

= والحكم جميعًا ويكون معنى القصر في الأول أن اللفظ الذي يتناول جميع المسميات قد اقتصر الحكم فيه على بعضها، وفي الثاني أن اللفظ الذي كان يتناول الجميع في نفسه قد اقتصرت دلالته على البعض خاصة، وحينئذ يندفع ما يتوهم من أن اللفظ إن كان على عمومه فلا قصر، وإن وجدت قرينة صارفة عنه فلا عموم ولا قصر. ينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 240، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 258، وسلاسل الذهب للزركشي ص 219، والتمهيد للأسنوي ص 368، ونهاية السول له 2/ 374، وزوائد الأصول له ص 248، منهاج العقول للبدخشي 2/ 104، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 366، والمستصفى للغزالي 2/ 32، وحاشية البناني 2/ 2، والإبهاج لابن السبكي 2/ 119، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 2، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 31، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 189، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 261، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 3/ 379، والتحرير لابن الهمام ص 101، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 435، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 26، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 129، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 34، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 16، والوجيز للكراماستي ص 10، والموافقات للشاطبي 3/ 260، وتقريب الوصول لابن جزي ص 76، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 141، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 226، وفواتح الرحموت لابن نظام الدين الأنصاري 2/ 300، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص 387، والحدود للباجي (44)، والمغنى (93)، والمدخل (247).

_________

(1)

في أ، ب، ج: لمعهودين.

(2)

في أ: فأكرت.

ص: 228

مَسْأَلَةٌ:

‌التَّخْصِيصُ

جَائِزٌ إلَّا عِنْدَ شُذُوذٍ.

فإنّ ضمير الجمع تابع لمظهره، فإذا كان عاما فهو عام، ولعلّ مراده أنهم يسمون الضمائر أنفسها عامة، والعموم إنما هو واقع بواسطتها، واعتبار عودها على جمع، "ولا يستقيم تخصيص" اصطلاحيًّا كان أو غيره "إلا فيما" له شمول، وهو ما "يستقيم توكيده بـ "كل" وهو ذو متعدّدات يمكن افتراقها حقيقة مثل: الإنسان كُلُّه، أو حكمًا مثل الجارية كلها؛ إذ يمكن افتراق أجزائها حكمًا، وذلك ليكون له بعضٌ يمكن القصر عليه.

"مسألة"

الشرح: "التخصيص جائز" في العام سواء كان أمرًا، أم نهيًا، أم خبرًا "إلَّا عند شذوذ" منعوه مطلقًا، كما يقتضيه إطلاق المصنّف، والإمام الرازي، وأتباعه وغيرهم

(1)

.

ومقتضى إيراد الشيخ أبي حامد الإِسفراييني، وسليم الرازي، وأبي إسحاق الشيرازي، وابن الصَّباغ، وابن السَّمْعَاني، وأبي الحسين الآمدي: أن الخلاف مختصّ بتخصيص الخبر، وأن تخصيص الأمْر جائز بلا خلاف.

لنا: مثل: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الزمر: الآية 62]{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [سورة الأحقاف: الآية 25]{يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة القصص: الآية 57]{وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة النمل: الآية 16]{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [سورة الكهف: الآية 84]. وفي الأمر: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: الآية 5]، وفي النهي:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [سورة - البقرة: الآية 222] والقربان أعم من قربان الجماع والمُفَاخذة والقُبْلَة، وبعضه غير منهى عنه قطعًا.

(1)

ينظر: المستصفى 2/ 98، والإحكام للآمدي 2/ 259، والتبصرة (143)، وشرح الكوكب المنير 3/ 269، والعضد 2/ 130، والمحصول (1/ 3/ 14)، والمسودة (130)، والعدة 2/ 595، شرح العضد 2/ 130، وتيسير التحرير 1/ 275، وفواتح الرحموت 1/ 301، وكشف الأسرار 1/ 307.

ص: 229

مَسْأَلَةٌ:

الْأَكْثَرُ: أَنَّهُ لابُدَّ فِي التَّخصيصِ مِنْ بقاءِ جَمْعٍ يَقْرُبُ مِنْ مَدْلُولهِ.

وَقيلَ: يَكْفِي ثَلاثَةٌ.

وَقِيلَ: اثْنَانِ.

وَقِيلَ: وَاحِدٌ.

«مسألة»

الشرح: اختلفوا في الغاية التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص، ثم لا يجوز أن يجاوزها، فقيل: لابد من بقاء جمع كثير، وهو رأي أبي الحُسَين، وصحّحه الإمام الرازي وجمع كثير من أصْحابنا، ثم اختلف في تفسير هذا الكثير

(1)

.

فقال "الأكثر: لابد في التَّخصيص من بقاء جمع يقرب من مدلوله"، أي: من مدلول العام.

"وقيل: يكفي "أن يبقى "ثلاثة"، ولا يجوز النُّقْصَان عنها.

"وقيل: اثنان".

"وقيل: واحد"، ونقله ابن السَّمْعَاني عن سائر أصحابنا.

والذي يتحصّل من مذهبنا أن جمهورهم على جوازه إلى الواحد إذا لم تكن الصيغة جمعًا، بل صالحة للجمع والمفرد مثل:"مَنْ" والألف واللام الداخلة على اسم الجنس المفرد، وادعى الشيخ أبو حامد أنه لا خلاف في هذا.

وإن كان جمعًا فاختلفوا فيه:

فذهب بعضهم إلى جوازه أيضًا إلى الواحد، وهو رأى الشيخ أبي إسحاق، وغيره.

وذهب القَفَّال وغيره إلى أنه لا ينقص عن أقلّ الجمع، وهو إما ثلاثة أو اثنان؛ على الخلاف فيه.

(1)

ينظر: شرح الكوكب 3/ 270، والمعتمد 1/ 253، والمحصول 1/ 3/ 16، والتبصرة (125)، وشرح العضد 2/ 131، وجمع الجوامع 2/ 3، والعدة 2/ 544، والمسودة 117، وإرشاد الفحول 144، وفواتح الرحموت 1/ 306.

ص: 230

وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ بِالاِسْتِثْنَاءِ وَالْبَدَلِ، يَجُوزُ إَلَى وَاحِدٍ، وَبِالْمُتَّصِلِ؛ كَالصَّفَةِ، يَجُوزُ إِلَى اثْنَيْنِ، وَبِالْمُنْفَصِلِ فِي الْمَحْصُورِ الْقَلِيلِ، يَجُوزُ إِلَى اثْنَيْنِ مِثْلُ "قَتَلْتُ كُلَّ زِنْدِيقٍ"، وَقَدْ قَتَلَ اثْنَيْنِ، وَهُمْ ثَلاثَةٌ، وَبِالْمُنْفَصِلِ فِي غَيْرِ الْمَحْصُورِ، أَوِ الْعَدَدِ الْكَثيرِ.

المُخْتَارُ: الْمَذْهَبُ الأوَّلُ.

لَنَا: أنَّهُ لَوْ قَالَ: "قَتَلْتُ كُلَّ مَنْ فِي الْمَدِينَة" وَقَدْ قَتَلَ ثَلاثَةً - عُدَّ لاغِيًا، وَخُطِّئَ، وَكَذَلِكَ:"أَكَلْتُ كُلَّ رُمَّانَةٍ"، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ:"مَنْ دَخَلَ"، أَوْ "أَكَلَ"، وَفَسَّرَهِ بـ "ثَلاثَةٍ".

الْقَائِلُ بِاثْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ: مَا قِيلَ فِي الْجَمْعِ.

وَرُدَّ: بِأَنَّ الْجَمْعَ لَيْسَ بِعَامٍّ.

الْقَائِلُ بِالْوَاحِدِ: "أكْرِمِ النَّاسَ إِلَّا الْجُهَّالَ".

وَأُجِيبَ: بِأنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالاِسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِ.

الشرح: "والمختار" عند المصنّف تفصيل اخترعه، وهو:

"أنه" إذا كان التَّخصيص "بالاستثناء والبدل يجوز إلى واحد".

"وبالمتّصل" غيرهما، "كالصفة يجوز إلى اثنين".

"وبالمنفصل في "العام "المحصور القليل يجوز إلى اثنين" أيضًا، وذلك "مثل: قتلت كل زِنْدِيق، وقد قتل اثنين، وهم" أي: الزنادقة "ثلاثة".

"وبالمنفصل غير المحصور، أو العدد الكثير، المختار المذهب الأوّل" أعني بقاء عدد يقرب من مدلول العام.

الشرح: لنا: أنه لو قال: قتلت كلّ من في المدينة، وقد قتل ثلاثة، عُدَّ لاغيًا"، وهذا مثال لغير المحصور، "وكذلك: أكلت كل رُمّانة" في البيت، وفي البيت ألف، وهذا مثال العدد الكثير.

"وكذلك لو قال: من دخل" داري فهو حُرّ، "أو أكل" فأكرمه، "وفسَّره بثلاثة"، فقال: أردت زيدًا، وعمرًا، وبكرًا، عدّ لاغيًا، فدلّ على أنه لا يجوز انتهاء التَّخصيص إلى

ص: 231

قَالُوا: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: الآية 9]؛ وَلَيْسَ مَحَلَّ النَّزَاعِ.

قَالُوا: لَوِ امْتَنَعَ ذَلِكَ، لَكَانَ لِتَخْصِيصِهِ؛ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْجَمِيعَ.

وَأُجِيبَ: بِانَّ ألْمَنْعَ تَخْصِيصٌ خَاصٌّ بِمَا تَقَدَّمَ.

قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [سورة آل عمران: الآية 173]، وَأُرِيدَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَلَمْ يُعَدَّ مُسْتَهْجَنًا؛ لِلْقَرِينَةِ.

هذا القدر، وما يناسبه من الأعداد التي لا يقرب استعمال العام منها.

وأما "القائل باثنين وثلاثة"، فحجّته "ما قيل في "أقل "الجمع".

"ورد بأن الجمع" المنكر "ليس بعام" والكلام في أقلّ مرتبة ينتهي إليها التخصيص لأقل مرتبة يطلق عليها الجمع؛ فإنّ الجمع ليس بعام، ولم يقم دليل على تلازم حكمهما؛ فلا تعلّق لأحدهما بالآخر.

ولقائل أن يقول: الجمع نصّ في أقله، فالخروج عنه كالرفع لقضيته، فهو كالنسخ.

وأيضًا فلفظ الجمع لا يصلح للواحد بحال، بخلاف لفظ العموم؛ لكثرة استعماله في البعض.

وأما "القائل بالواحد"، فقال أولًا: لو قال: "أكرم الناس إلا الجهّال" لوجب إكرام من عدا الجاهل، وإن كان واحدًا.

"وأجيب بأنه مخصوص بالاستثناء ونحوه" كالبدل "ونحن"[نُجَوِّزُ]

(1)

انتهاء التخصيص فيه إلى الواحد.

الشرح: "قالوا" ثانيًا: قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} " [سورة الحجر: الآية 9] يدلّ على جوازه إلى الواحد؛ فإنّ المراد هو الله - تعالى - وحده، فأطلق الجمع، وأراد الواحد، فإذا جاز ذلك في الجمع، فليكن في العام كذلك، "وليس" هذا "محلّ النزاع"؛ فإنّ الضمير ليس بعام، وإنما استعمل ضمير الجمع، وأراد نفسه تعظيمًا، وصيغة الجمع تجيء كذلك، وليس هو من التعميم والتخصيص في شيء.

(1)

في أ: نجز.

ص: 232

قُلْنَا: "النَّاسُ": لِلْمَعْهُودِ؛ فَلا عُمُومَ.

قَالُوا: صَحَّ: "أَكَلْتُ الْخُبْزَ"، وَ"شَرِبْتُ الْمَاءَ"؛ لأَقَلَّ.

قُلْنَا: ذَلِكَ لِلْبَعْضِ الْمُطَابِقِ لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ مِثْلُهُ فِي الْمَعْهُودِ الْوُجُودِيِّ، فَلَيْسَ مِنَ الْعُمُومِ والْخُصُوصِ فِي شَيْءٍ.

ولقائل أن يقولا: إذا كان الجمع هو الحقيقة، واستعير للتعظيم، فكذلك العام حقيقة، وإن كان بصيغة الجمع الجميع، ثم يجوز حتى لا يبقى إلَّا واحدًا، ونحن لا ندعي أنه إذا انتهى إلى واحد يكون حقيقة، وإنما ندعي الجواز، وهو كافٍ، وإن كان بطريق المجاز.

"قالوا" ثالثًا: "لو امتنع ذلك" أي: تخصيص العام إلى أن يبقى واحدًا "لكان" المنع "لتخصيصه"، وإخراج اللفظ عن موضوعه إلى غيره؛ إذ لا علّة للمنع سواه، "وذلك يمنع الجمع"، أي: يمنع كل تخصيص؛ لوِجْدَانِ ذلك فيه.

"وأجيب: بأن الممتنع تخصيص خاصّ بما تقدم" من لزوم اللّعب، وليس الامتناع لمطلق التخصيص حتى يلزم ما ذكرتم.

"وقالوا" رابعًا: "قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [سورة آل عمران: الآية 173]. "وأريد" على ما ذكر بعض المفسرين "نعيم بن مسعود" الأشجعي، وقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [سورة النساء: الآية 54] وأريد على ما قيل: يحسدون رسول صلى الله عليه وسلم "ولم يُعَدَّ مُسْتَهْجنًا؛ للقرينة" فوجب جواز التخصيص إلى الواحد بالقرينة، وهو المدعي.

الشرح: "قلنا:" غير محلّ النزاع؛ [لأن النزاع]

(1)

في العام، والألف واللام في "الناس" هنا "للمعهود، فلا عموم" إذ المعهود ليس بعامّ كما عرفت في تعريف العام.

الشرح: "قالوا" خامسًا: "صحّ أكلت الخبز، وشربت الماء لأقل" كذا بخطّه أي: أقل شيء، أو أقل ما ينطلق عليه الاسم مع وِجْدَان الألف واللام.

"قلنا": ليست الأداة في الخبز والماء للعموم، وإنما بقال "ذلك للبعض المطابق للمعهود الذهني"، وهو الحقيقة من حيث هي، ولكن لما تعذّر وجود الماهية في الخارج إلَّا

(1)

سقط في أ، ب.

ص: 233

‌الْمُخَصّصُ: مُتَّصِلٌ، وَمُنْفَصِلٌ:

[الْمُتَّصِلُ]

(1)

: الاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِل، وَالشَّرْط، وَالصِّفَة، وَالْغَايَة، وَبَدَلُ الْبَعْضِ.

بقيد التَّشْخيص في فرد حمل عليه، و [لمَّا]

(2)

كان ذلك الفرد كالمعهود، فـ "اللام" للبعض المطابق المعهود، والمقرر في الذهن "مثله في المعهود الوجودي، فليس من العموم والخصوص في شيء".

والحاصلُ: أن الألف واللام فيما ذكر لمعهود ذهني تقضي به العادة، وهو مقدار ما معلوم من المأكول والمشروب، كما تقول للغلام: ادخل السُّوق، فإنك تريد واحدًا من الأسواق المعهودة بينك وبينه عَهْدًا خارجيًا، فذلك العهد قيَّد إطلاق لفظ السوق فقط.

الشرح: "المخصِّصُ" قسمان: "متّصل ومنفصل"؛ لأنه إما ألا يستقل بنفسه

(1)

سقط في أ، ب.

(2)

ذكر الأصوليون أن مخصصات العموم أربعة: الاستثناء، والشرط، والغاية، والصفة، واستدرك ابن الحاجب عليهم، فزاد: بدل البعض من الكل. نحو: أكلت الرغيف ثلثه، ومنهم من رده ولم يعده.

وهذا الخلاف يلتفت على أن المبدل منه هل هو في نية الطرح أم لا؟.

فإن قلنا: إنه في نية الطرح لم يحسن عده من المخصصات، وإلا عد. وفي المسألة مذاهب جمعتها وهي متفرقة في كلام النحويين:

أحدها: أنه ليس في نية الطرح. وهو قول الشرافي والفارسي والزمخشري.

وقال الشرافي: النحويون يزعمون أن البدل في حكم تنحية الأول، وهو المبدل منه، ووضع الثاني وهو البدل مكانه وليس يريدون بتنحية الأول إلغاءه، وإنما مرادهم أن البدل قام بنفسه، وليس تبيينه للاول كتبيين النعت الذي هو تمام المنعوت وهو معه كالشيء الواحد، والدليل على أنه ليس في حكم المطرح أنك تقول: ضربني الذي ضربته زيدًا، فلو كانت الهاء في نية الطرح لكان التقدير ضربني الذي ضربت زيدًا، فتحل الصلة عن العائد إلى الموصول.

والثاني: أنه في نية الطرح؛ لأن الثاني إنما سمى بدلًا، لأنه قام مقام الأول؛ لأنا نبدل الشيء من جميعه، والمعرفة من النكرة، والعكس، وهذا المذهب حكاه ابن الخباز في شرح الدرة عن جماعة منهم ابن معط، واحتجوا بأن عامله تكرر كقوله تعالى:{وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} . وبأنه سمى بدلًا، فهذا يؤذن بأن الأول مطرح تقديرًا. =

ص: 234

وَالاِسْتِثْنَاءُ فِي الْمُنْقَطِعِ:

قِيلَ: حَقِيقَةٌ.

وَقِيلَ: مَجَازٌ.

وعَلَى الْحَقِيقَةِ قِيلَ: مُتَوَاطِئٌ.

وَقِيلَ: مُشْتَرَكٌ.

وَلابُدّ لِصِحَّتِهِ مِنْ مُخَالفَةٍ فِي نَفْي الْحُكْمِ، أَوْ فِي أَنَّ الْمُسْتَثْنَي حُكْمٌ آخَر، لَهُ مُخَالفَةٌ بِوَجْهٍ؛ مِثْلُ:"مَا زَادَ إِلَّا مَا نَقَصَ"، وَلأِنَّ الْمُتَّصِلَ أَظْهَر، لَمْ يَحْمِلْهُ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ عَلَى الْمُنْقَطِعِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِهِ.

"فالمتصل"، أو يستقل

(1)

فالمنفصل.

= وقال ابن عصفور في المقرب: ينوي بالأول الطرح معنى لا لفظًا: لأنه على نية استئناف العامل.

فإذا قلنا: قام زيد أخوك: فالتقدير: قام أخوك: فتركك الأول، وأخذك في استئناف كلام آخر طرح منك له واعتماد على الثاني، قال: والدليل على أنه لا ينوي به الطرح من جهة اللفظ إعادة الضمير عليه في مثل قولك: ضربت زيدًا يده.

والثالث: التفصيل بين بدل الغلط فهو في نية طرح المبدل منه وبين ما عداه فلا طرح فيه. قاله ابن برهان النحوي في شرح لمع ابن جني.

ينظر: سلاسل الذهب 267، وشرح العضد 2/ 132، وشرح الكوكب 3/ 354، والمنتهى (88)، وجمع الجوامع 2/ 24، وتيسير التحرير 1/ 282، وفواتح الرحموت 1/ 344، وإرشاد الفحول (154).

(1)

المراد بـ "المستقل" ما لا يكون متعلقًا بصدر الكلام وكان تامًا بنفسه، وقد أجمع الحنفية رأيهم على أنه لا بد منه في التخصيص، وأن ما لا استقلال فيه كالاستثناء والشرط والصفة والغاية لا يسمى مخصصًا عندهم، بيد أنهم بعد اتفاقهم على هذا المبدأ وجدناهم يقفون من توجيه الاشتراط موقفًا إن دل، على شيء فإنما يدل على اختلاف الرأي والنظر، وأنهم لم يكونوا على اتجاه واحد من توجيه هذا الاشتراط، فبينا يصرح بعضهم بأن الاشتراط مجرد اصطلاح أن يصرح الآخر بأن الاشتراط من أجل أصل قرره، فلم يجدوا إزاءه بدا من الاشتراط؛ إذ يصرح فريق ثالث بأنه من أجل أن غير المستقل لا يوجد فيه قصر بحال.

ص: 235

وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا فِي: "لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلَّا ثَوْبًا" وَشِبْهِهِ: إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ.

أما المتصل فخمسة:

"الاستثناء المتصل" نحو: أكرم الناس إلَّا الجهال، لا المنقطع؛ إذ لا مدخل له في التخصيص.

"والشرط، والصفة، والغاية" نحو: أكرم الفقهاء إن اشتغلوا، أو العلماء إلى أن يقنعوا، وهذا هو المشهور.

"وبدل البعض" من الكُلّ نحو: أكرم الناس العلماء منهم، زاده المصنف.

الشرح: "والاستثناء"

(1)

إما من الجنس كقولك: جاء القوم إلا زيدًا فـ "زيد" من جنس القوم فهو المتصل، ولا ريب "في" أنه حقيقة

(2)

، أو من غير الجنس، وذلك هو "المنقطع"، وهو ضربان:

أحدهما: ما يكون بينه وبين المستثنى منه علاقة ومناسبة، كقولهم: ما بالدار أحد إلا الحمار، فالحمارُ وإن لم يكن من جملة الآخرين فهو متعلق بهم؛ لأن الدواب والأدوات متعلّقة بأصحابها على وجهٍ ما.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 275، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 380، وإحكام الآمدي 2/ 264، والتمهيد للإسنوي 385، ونهاية السول له 2/ 407، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 119، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 86، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 373، والمستصفى للغزالي 2/ 163، وحاشية البناني 2/ 9، والإبهاج لابن السبكي 2/ 144، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 24، وحاشية العطار 2/ 41، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 242، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 208، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 132، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 455، وتقريب الوصول لابن جُزيّ 76، 80، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 235.

(2)

في حاشية ج: قوله: ولا ريب في أنه حقيقة. ظاهر كلامه هنا أن الكلام في صيغ الاستثناء لا في لفظه؛ لظهور أنه فيهما مجاز بحسب اللغة حقيقة عرفية بحسب النحو، لكن قوله بعد: والأصل في الإطلاق الحقيقة يفيد أن الخلاف في إطلاق لفظ الاستثناء، ويؤيده قول العلامة

استدلالًا على كونه مجازًا في المنقطع أنه من ثنيت عنان الفرس: صرفته، وإنما يتحقق ذلك في المتصل، ويؤيد هذا قوله: وعلى قول الحقيقة قيل: متواطئ.

ص: 236

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثاني: الّا يكون بينه وبين ما استثنى منه تعلّق بحال، كقولنا: ما في الدار مسلمون إلا الكافرون.

وقد اختلف في المنقطع:

"قيل: حقيقة"؛ لأنه استعمل، والأصل في الإطلاق الحقيقة.

"وقيل: مجاز" وهو الصحيح.

"وعلى" قول "الحنفية""قيل": إن الاستثناء "متواطئ" أي: مقول بالاشتراك المعنوي على المتصل والمنفصل.

"وقيل: مشترك" بينهما أي: اشتراكًا لفظيًّا؛ لأن المتصل إخراج، والمنفصل يختص بالمخالفة من غير إخراج، فليس بينهما قَدْرٌ مشترك.

"و" كيف ما كان فقد اتّفق الكلّ على أنه "لابد لصحّته من مخالفة" يخالف بها المتصل، إما "في نفي الحكم" الذي يثبت للمستثنى منه نحو: جاءني القوم إلَّا حمارًا، فقد نفينا المجيء عن الحمار بعدما أثبتناه للقوم.

"أو في أن المستثنى" نفسه هو "حكم آخر له" أي: لذلك الحكم الذي هو المستثنى "مخالفة" مع المستثنى منه "بوجه" ما "مثل: "ما زاد إلا ما نقص"؛ فإنَّ النقصان حكم مخالف للزيادة، والتقدير: لم يزده إلَّا النقصان؛ فإن "ما" الأولى نافية، والثانية مصدرية.

وبالجملة: المنقطع مقدر بـ "لكن"، فالمخالفة واقعة فيه إما تحقيقًا مثل: "ما ضربني [زيد]

(1)

، لكن ضربني عمرو".

أو تقديرًا مثل: "ما ضربني لكن أكرمني"، ولا يقال: ما أكرمني زيد إلا أنّ الصلاة واجبة؛ إذ لا مخالفة بينهما بواحد من الوجهين، "ولأن المتصل أظهر" من المنفصل "لم يحمله" أي لم يحمل الاستثناء حيث ورد "فقهاء الأمْصار إلا عند تعذّره" أي: تعذّر المتصل، وبهذا يتضح أن المنقطع مجاز.

"ومن ثَمَّ" أي: ومن أجل أنهم إنما يحملون الاستثناء على المنفصل عند تعذر المتصل.

(1)

سقط في ج.

ص: 237

وَأَمَّا حَدُّهُ؛ فَعَلَى التَّوَاطُؤِ: مَا دَلَّ عَلَى مُخَالَفَةٍ بـ "إلَّا" غَيْرِ الصِّفَةِ، وَأَخَوَاتِهَا، وَعَلَى الاِشْتِرَاكِ والْمَجَازِ: لا يَجْتَمِعَانِ فِي حَدٍّ؛ فَيُقَالُ فِي الْمُنْقَطِعِ: مَا دَلَّ عَلَى مُخَالَفَةٍ بِـ"إلَّا" غَيْرِ الصِّفَةِ وَأَخَوَاتِهَا مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ.

"قالوا في: له عندي مائة درهم إلّا ثوبًا وشبهه": إن المراد منه "إلَّا قيمة ثوب" من الدّراهم، فتأولوا المنفصل، وردوه إلى المتصل.

وقال أصحابنا: لو قال: بعت بمائة دينار إلَّا عشرة دراهم، وعلم المتبايعان قيمة الدينار بالدراهم صحّ، ويكون مستثنى القيمة، فدلّ أنهم لا يعدلون بالمتّصل ما وجدوا إليه سبيلًا، ولذلك قال بعضهم في قوله تعالى حكاية عن إبليس:{إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} [سورة إبراهيم: الآية 22]: إنه متصل؛ لأن الحمل على الشيء تارة يكون بالفهم

(1)

، وتارة بتقوية الداعية بالوسوسة، فصح أن له سلطانًا بهذا الطريق، فيكون استثناء من الجنس.

ولو مثَّل المصنف باستثناء الدّنانير، أو الحِنْطَة، أو الشعير كان أولى؛ فإن الحنفية يقولون: استثناء الثوب لا يجوز، ويجوز استثناء الدَّنانير والحِنْطة والشعير على أنهم لا يصح لهم فرق، وتحقيق ذلك في الخلافيات.

وحكى ابنُ السَّمْعَاني فيما إذا استثنى من زيد وجهه، أو من الدار بابها اختلافًا بين أصحابنا هل هو متصل أو منقطع؟ يقال: والصحيح أنه متصل؛ لأن وجه زيد بعضه، وباب الدار بعضها.

الشرح: "وأما حدّه" أي: حد الاستثناء، "فعلى" قول "التواطؤ" بين المتّصل والمنفصل يمكن حدّه باعتبار المشترك بينهما فيقال:

"ما دلّ على مخالفة بـ"إلّا" غير الصفة وأخواتها"، وما دل على مخالفة تناول أنواع التخصيص.

وقوله: بـ "إلّا" وأخواتها وسائر أنواعه، فأراد بأخوات "إلا" ما له فعلها في الإخراج نحو:"سوى"، و"حاشا"، و"خلا"، و"عدا".

وإنما قيّد "إلا" بغير الصفة لتخرج التي هي للصفة، وهي التَّابعة لجمع منكر، أو شبهه مثل:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء: الآية 22] أي: غير الله؛ فإنَّ

(1)

في ب: بالفهم.

ص: 238

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التخصيص بذلك التقدير يكون بالصفة لا بالاستثناء، وهذا على رأي الجمهور القائل بجواز مجيئها بمعنى "غير".

وزعم المبرد أن "إلا" في الآية للاستثناء، وأن ما بعدها بدل؛ محتجًّا بأن "لو" تدل على الامتناع، وامتناع الشيء انتفاؤه.

وردوه بأنهم لا يقولون: لو جاءني ديَّار أكرمته، ولو جاءني من أحد أكرمته، ولو كانت بمنزلة النَّافي لجاز ذلك، كما يجوز: ما فيها دَيّار، وما جاءني من أحد، ولمّا لم يجز ذلك دلّ على أن الصواب كونها وما بعدها صفة.

ولم يقيد المصنّف كلامه بما يخرج "إلا" العاطفة والزائدة، كأنه لم يَرَ مجيئها لهذين، وقد ذكر الأخفش

(1)

، والفراء، وأبو عبيدة

(2)

أنها تجيء عاطفة، قالوا: ومنه: {لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} [سورة النمل: الآية 10، 11] أي: ولا من ظلم.

وذكر الأصمعي

(3)

وابن جني أنها تجيء زائدة، وحملا عليه قوله:[الطويل]

(1)

سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء، البلخي ثم البصري، أبو الحسن، المعروف بالأخفش الأوسط: نحويّ، عالم باللغة والأدب، من أهل بلخ، سكن البصرة، وأخذ العربية عن سيبويه، وصنَّفَ كُتبًا منها. "تفسير معاني القرآن"، و"شرح أبيات المعاني" وكتب أخرى. وزاد في العروض بحر "الخبب"، وكان الخليل قد جعل البحور خمسة عشر، فأصبحت ستة عشر.

توفي سنة 215 هـ. انظر: وفيات 1: 208، وإنباه الرواة 2: 36، والأعلام 3/ 101.

(2)

ومعمر بن المثنى التيمي البصرى، أبو عبيدة النحوي: من أئمة العلم بالأدب واللغة، ولد في 110 هـ قال الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه، كان إباضيًا شعوبيًا، من حفاظ الحديث، لما مات لم يحضر جنازته أحد؛ لشدة نقده معاصريه، توفي 209 هـ له مؤلفات منها مجاز القرآن، الشوارد، الزرع. ينظر: وفيات 2/ 105، والمشرق 15/ 600، وتذكرة 1/ 338، وبغية الوعاة 395، والسيرافي 67، والأعلام 7/ 272.

(3)

عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، أبو سعيد الأصمعي: راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، ولد 122 هـ.

كان الرشيد يسميه شيطان الشعر، قال الأخفش: ما رأينا أحدًا أعلم بالشعر من الأصمعي. وتصانيفه كثيرة منها "الإبل" مطبوع، الأضداد مخطوط، خلق الإنان مطبوع وغيرها، توفي سنة 216 هـ. =

ص: 239

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حَرَاجِيجُ مَا تَنْفَكُّ إِلَّا مُنَاخَةً

عَلَى الخَسْفِ أَوْ يَرْمِي بِهَا بَلَدًا قَفْرًا

(1)

وكذلك ذكر ابن مالك، فلو قال المصنّف:"إلّا غير الصفة والعاطفة والزائدة" - كان حسنًا.

"تنبيه"

ليس من أقسام "إلّا" التي في نحو: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [سورة التوبة: الآية 40]، وإنما هذه كلمتان "إن" الشرطية "ولا" النافية، ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في "شرح التسهيل" من أقسام "إلا".

"فائدة"

المخالفة تُعْرَف بـ "الاستثناء"،

ثم قد يكون المستثنى يعلم دخوله لولا الاستثناء، وقد يظن، وقد يجوز، وقد يقطع بعدم دخوله.

فالأول: الاستثناء من النصوص مثل: عشرة إلا درهمًا.

والثاني: من الظواهر مثل: القوم إلا زيدًا.

والثالث: [مثل: صلى]

(2)

إلا عند الزوال {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [سورة يوسف: الآية 66].

والرابع: المنقطع.

وأما على قولي الاشتراك والمجاز أي: القول بأن الاستثناء مشترك بين المتصل والمنقطع، أو حقيقة في أحدهما، مجاز في الآخر، فإن الاستثناءين لا يجمعان في حدٍّ واحد؛ لأن مفهومها حينئذ حقيقتان مختلفتان، حد كل منهما باعتبار خصوصه وخصوصهما متغاير ضرورة، فيقال إذن في المنقطع: ما دلّ على مخالفة بـ "إلّا" غير الصفة، والعاطفة،

= ينظر: السيرافي 58، وجمهرة الأنساب 234، وابن خلكان 1/ 288، وتاريخ بغداد 10/ 41، ونزهة الألبا 150، والأعلام 4/ 162.

(1)

البيت لذي الرمة، ينظر ديوانه ص 1419، والكتاب 3/ 48، والمحتسب 1/ 329، وخزانة الأدب 9/ 247، والإنصاف 1/ 156، وشرح شواهد المغنى 1/ 219، وهمع الهوامع 1/ 120، واللسان (فكك)، وشرح الأشموني 1/ 121، ومغني اللبيب 1/ 73.

(2)

في أ: متأصل، وفي ج: صُل.

ص: 240

وَأمَّا الْمُتَّصِل، فَقَالَ الْغَزَّالِيُّ رحمه الله: قَوْلٌ ذُوْ صِيَغٍ مخصُوصَةٍ مَحْصُورَةٍ، دَالٌّ عَلَى أَنَّ المَذْكُورَ بِهِ لَمْ يُرَدْ بِالْقَوْلِ الأَوَّلِ.

وَأُورِدَ عَلَى طَرْدِهِ: التَّخْصِيصُ بِالشَّرْطِ وَالْوَصْفُ بِـ"الَّذِي" وَالْغَايَةِ، وَمِثْلِ:"قَامَ الْقَوم، وَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ".

وَلا يَرِدُ الْأَوَّلانِ.

وَعَلَى عَكْسِهِ: "جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا"؛ فَإنَّهُ لَيْسَ بِذِي صِيَغٍ.

وَقِيلَ: لَفْظٌ مُتَّصِلٌ بِجُمْلَةٍ، لا يَسْتقِلُّ بِنَفْسِهِ، دَالٌ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ، لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلا صِفَةٍ وَلا غَايَةٍ.

وَأُورِدَ عَلَى طَرْدِهِ: "قَامَ الْقَوْمُ لا زَيْدٌ" - وَعَلَى عَكْسِهِ: "مَا جَاءَ إِلَّا زَيْدٌ"؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِجُمْلَةٍ، وإنَّ مَدْلُولَهُ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ مُرَادِ بِالْأَوَّلِ.

وَالاِحْتِرَازُ مِنَ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ - وَهْمٌ.

وَالْأَوْلَى: إِخْرَاجٌ بـ "إِلَّا" وَأَخَوَاتِهَا.

والزائدة وأخواتها أي: وأخوات "إلا""من غير إخراج"، وبهذا القيد يتميّز عن المنفصل.

الشرح:"وأما المتّصل فقال" القاضي في "التقريب"، و"الغزالي":"قول ذو صِيَغٍ مخصوصة محصورة دالّ على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول"، وسبقه إلى ذلك القاضي.

"وأورد على طرده التخصيص بالشرط"، نحو: أكرم القوم إنْ دخلوا، "والوصف بـ "الذي"" نحو: أكرم الرّجل. الذي مَرّ بك، "والغاية" أي الوصف بالغاية "ومثل" أي والتخصيص بمثل "قام القوم، ولم يقم زيد"؛ لصدق الحدّ عليهما، وليس شيء منها باسثناء.

"ولا يرد الأولان" أعني: التخصيص بالشرط والوصف، سواء أوقع بـ "الذي" أم بالغاية؛ لكون المخصوص بهما غير مذكور، وقد أخذ في الحَدّ قيد كون المراد به مذكورًا.

قال القاضي في "التقريب": لأنا قلنا: ذو صيغ مخصوصة، ونحن نعني "إلا"، و"سوى" ونحوهما.

ص: 241

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وعلى عكسه" أورد مثل: "جاء القوم إلَّا زيدًا: فإنه" استثناء مع أنه "ليس بذي صيغ" مختلفة.

ولا ينفعه أن يقول: المراد ذو صيغة من الصيغ؛ فإن الإِرادات

(1)

لا تدفع الإيرادات.

"وقيل: لفظ متّصل بجملة لا يستقلّ بنفسه دالّ على أن مدلوله غير مراد بما اتّصل به ليس بشرط، ولا صفة، ولا غاية".

فاللفظ: جنس.

ومتصل بجملة: فصل يخرج المخصص المنفصل.

ولا يستقلّ بنفسه: احتراز عن قام القوم ولم يقم زيد.

[ودالّ]

(2)

: يخرج المهمل.

وقوله: "على أن مدلوله" أي: المستثنى، وهو جزء المدلول، كـ"زيد" في قولك: إلا زيدًا "غير مراد بما اتصل به"، وهو المستثنى منه.

"وأورد على طرده: قام القوم إلا زيد"، فإنه ليس باستثناء، والحد صادق عليه.

"وعلى عكسه: ما جاء إلَّا زيد؛ فإنه لم يتصل بجملة"؛ لأن زيدًا فاعل جاء مع أنه استثناء.

ولك أن تقول: إنما يرد إذا سلم أن زيدًا فاعل جاء.

وقد يقال: فاعله أحد المقدر، وهو رأى بعض النحاة.

"وأن مدلول كلّ استثناء متصل مراد بالأول"؛ لأن المتكلم بالعام في صورة الاستثناء يقصد الاستثناء عند تكلمه بالعام، وهو أيضًا يرد على عكس حدِّ الغزالي.

"والاحتراز من الشرط والصفة وَهْمٌ"؛ لخروجها بقوله: غير مراد بما اتَّصَل به؛ لكونهما مرادين بما اتصل به.

"والأولى" أن يقال في حد الاستثناء: "إخراج بـ "إلَّا" وأخواتها".

(1)

في حاشية ج: قوله: فإن الإرادات

إلخ قد يقال: تدفع إن ظهر المراد.

(2)

في أ: وذاك.

ص: 242

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِ الدَّلالَةِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ:

فَالأَكْثَرُ: الْمُرَادُ بِـ "عَشَرَةِ" فِي قَوْلِكَ: "عَشْرَةٌ إِلَّا ثَلاثَةً": سَبْعَةٌ، وَ"إِلَّا": قَرِينَةٌ لِذَلِكَ كَالتَّخْصِيصِ بِغَيْرِهِ.

وَقَالَ الْقَاضِي: "عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلاثَةً": بِإِزَاءَ سَبْعَةٍ؛ كَاسْمَيْنِ: مُرَكَّبٍ، وَمُفْرَدٍ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِـ "عَشَرَةٍ" عَشَرَةٌ: بِاعْتِبَارِ الأَفْرَادِ، ثُمَّ أخْرِجَتْ "ثَلاثَةٌ"، وَالإِسنَادُ بَعْدَ الإِخْرَاجِ؛ فَلَمْ يُسْنِدْ إِلَّا إِلَى سَبْعَةٍ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ.

لَنَا: أَن الْأَوَّلَ غَيْرُ مُسْتَقيمٍ؛ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ: "اشْتَرَيْتُ الْجَارِيَةَ إلَّا نِصْفَهَا" ونَحْوَهُ - لَمْ يُرِدِ اسْتِثْنَاءَ نِصْفِهَا مِنْ نِصْفِهَا، وَلأِنَّهُ كَانَ يَتَسَلْسَلُ، وَلأَنَّا نَقْطَعُ بأَنَّ الضَّمِيرَ لِلْجَارِيَةِ بكَمَالِهَا، وَلإجْمَاعِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِخْرَاجُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَلإِبْطَالِ النُّصُوصِ، وَللْعِلْمِ بِأَنَّا نُسْقِطُ الْخَارج؛ فَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ مَا بَقِيَ.

الشرح: "وقد اختلف في تقدير الدلالة في الاستثناء" أي: في كيفية دلالة المجموع المركب من المستثنى، والمستثنى منه، وأداة الاستثناء، والمسند إلى المستثنى منه على ما يفهم من المجموع آخرًا اختلافًا سببه: أن الاستثناء لما كاد يشبه التناقض من جهة أن قولك: عشرة إلا ثلاثة، إثبات للثلاثة في ضمن العشرة، ونفى لها صريحًا، ولا شكّ أنهما لا يصدقان معًا، فاحتيج إلى تقدير دلالته على وجه آخر

(1)

.

"فالأكثر" قالوا: "المراد بعشرة في قولك: عشرة إلَّا ثلاثة: سبعة، و"إلا" قرينة لذلك، كالتخصيص [بغيره]

(2)

"أي: بغير "إلا" من المخصصات، لا بمعنى أن العشرة مع الاستثناء موضوعة للسبعة، وهؤلاء يجعلون الاستثناء من المخصصات، وهي قرينة تثبت أن الكل استعمل، وأريد الجزء مجازًا.

"وقال القاضي: عشرة إلّا ثلاثة بإزاء السبعة"، فللسبعة عنده لفظان: أحدهما: مركب، وهو عشرة إلّا ثلاثة.

(1)

ينظر: البرهان 10/ 401، والمحصول 1/ 3/ 56، وشرح العضد 2/ 134، وشرح الكوكب المنير 3/ 289، وجمع الجوامع 2/ 14، والتلويح 2/ 285، وتيسير التحرير 1/ 289، وفواتح الرحموت 1/ 316.

(2)

في أ: بعده.

ص: 243

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثاني: مفرد، وهو سبعة، وذلك "كاسمين: مركب ومفرد"، فاللفظ بجملته عبارة عما بقى بعد الاستثناء، وتكون زيادة شيء آخر في الكلام تصيره موضوعًا لمعنى آخر كما تقول: "زيد" فيكون للواحد، فتزيد الواو والنون، فيصير للجمع.

وقصد بهذا أن يفرق بين التخصيص بدليل متّصل؛ فيكون الباقى فيه حقيقة، أو منفصل؛ فيكون تناول اللفظ الباقي مجازًا.

والحاصل: أن الاستثناء من عدد معلوم، وهل يكون لقرينة غيرت حكم الصيغة، أو لقرينة لم تغير وضع الصيغة، وإنما كشفت عن المراد بها؟.

فمن رأى أسماء الأعداد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها، جعل الاستثناء قرينة مقالية غيرت حكم الصيغة في دلالتها، ورأى المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدَّالة على عدد ما، ويكون الاستثناء كجزء من أجزاء هذه الكلمة، فمجموع الاستثناء والمستثنى منه هو الدَّالّ على العدد المنفى، ويرى هذا أنْ لا فرق بين سبعة وعشرة إلَّا ثلاثة، فإنّ سبعة تدلّ على عدد مخصوص، ولكنها تركبت من حروف أربعة لو ذهب منها أحد أجزاءها الأصْليّة، وهو حرف العين مثلًا كان ما بقى غير دالّ.

وكذلك: "عشرة إلَّا ثلاثة" يجري هذا المجرى في كون الكلمتين - الاستثناء والمستثنى منه - يدلّان على السبعة، وصار قوله: إلّا ثلاثة كأحد حروف سبعة، ولا يكون لقولنا: إلا ثلاثة كالبيان كقولنا: عشرة.

والفرقة الأولى رأوا أن الكلمة الدَّالة على عدد - كالعشرة مثلًا - ربما نطق بها فيما دونه، فلا يجعلونها نصًّا في مدلوله، بل يسلكون بها مسلك اللَّفْظ العام في الدّلالة على أفراده ظاهرًا، ويرون الاستثناء قرينة لفظية دالّة على المقصود باللَّفظ المستثنى منه، كما يدل قوله:"لا تَقْتُلُوا الرُّهْبَانَ"، على المراد بقوله:"اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ"، ولم يقدروا أن قوله:"لا تقتلوا الرهبان" مع قوله: "اقتلوا المشركين" كالكلمة الواحدة.

وقد ذهب إمام الحرمين إلى رأي القاضي، واستنكر قول الأولين، وقال: إنه محال لا يعتقده لَبِيبٌ.

وأنا أرى أن [أحكي]

(1)

عبارة القاضي؛ لتكون على ثِقَةٍ مما حكيناه.

قال رحمه الله في كتاب "التقريب":

(1)

في أ: أجلى.

ص: 244

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إذا خصّ باسثناء متصل، فإنه يكون مع الاسثناء حقيقة فيما بقي، والدَّليل على ذلك أن اتصال الاسثناء به يغيره، ويؤثر في معنى لفظه؛ لأن كثيرًا من الكلام إذا اتَّصل بعضه ببعض كان له بالاتصال تأثير ليس له بالانفراد، ولذلك احتاج الابتداء إلى خبر من كلام المبتدئ؛ ليكون مفيدًا، والكناية إلى تقدم مذكور يكون كناية عنه وأمثال ذلك.

ولهذا وجب أن يكون قولنا: "زيد" اسم الشخص الواحد. فإذا زيد ياء ونونًا صار اسمًا للاثنين، وإذا كان كذلك وحب أن يكون هذا حكم اللفظ مع الاسثناء في أنه يصير باقترانه اسمًا لقدر ما بقى، ولو عدّى لكان عامًا، وكذلك عشرة إلّا واحدًا و {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [سورة العنكبوت: الآية 14] وأمثاله في أنّ اطلاق الاسمم بغير اسثناء يفيد الجملة التامة، ويصير مع الاسثناء اسمًا لقدر ما بقى، ومثل هذا بعينه تقول:"رجل" اسم واحد منكر، وَإِذَا زِيدَ عليه ألف ولام قيل:"الرجل" صار معرفة، أو للجنس عند أصحاب العموم، فيتغير معناه بما وصل به.

وإذا كان كذلك صحّ ما قلناه من الفرق بين القرائن المتّصلة والمنفصلة. انتهى.

"وقيل: المراد بعشرة" في هذا التَّركيب "عشرة باعتبار الأفراد" أي: باعتبار أفراده لن يغير، وهو يتناول السبعة والثلاثة معًا، "ثم أخرجت ثلاثة" بقوله: إلا ثلاثة، فدلّ لفظ "إلا" على الإخراج، وثلاثة على العدد المسمى بها حتى بقى سبعة، ثم أسند إليه "والإسناد بعد الإخراج

(1)

، فلم يسند إلّا إلى سبعة"، وليس هناك إلا الإثبات ولا نفى أصلًا، فلا تناقض؛ إذ ليس إثبات ونفى معارضًا.

(1)

في حاشية ج: قوله: والإسناد بعد الإخراج .... إلخ قال الزركشي في البحر: تصريح ابن الحاجب بأن الحكم بعد الإخراج مخالف لمذهب سيبويه أن الأداة أخرجت من الاسم والحكم، وما قاله ابن الحاجب إنما يأتي على القول المرجوح أن الإخراج من الاسم فقط، ويرد عليه أيضًا أن المفرد لا مستثنى منه، ولو استثنى منه لم ينتظم أن يقال العامل في المستثنى نحو العامل في المستثنى منه كما هو مذهب كثير من النحاة، والتحقيق أن المراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج؛ لأن الإسناد للجملة إنما يتبين معناه بآخر الكلام، فإن عطف عليها بـ "أو" كان ثابتًا لأحد الأمرين، وإن عطف عليها بالواو كان ثابتًا للمجموع، وإن استثنى منه كان ثابتًا لبعض مدلولها، وليس الاستثناء مبينًا للمراد بالأول، بل محصل للإخراج، والحاصل قبله قصدًا أن يستثنى لا قصد المعنى، حتى لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة، ووقع الاستثناء بعد موتها طلقت ثلاثًا، ولو كان مبينًا لزمه ثنتان، وعلى هذا لا يسمى تخصيصًا.

ص: 245

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال المصنّف:"وهو الصحيح" إذا عرفت هذا، فلا يخفى عليك أن الأكثرين عندهم أنك استعلمت العشرة في سبعة مجازًا دلّ عليه قولك: إلا ثلاثة.

والقاضي وإمام الحرمين عندهما أن المجموع مستعمل في السبعة.

والمصنف عنده أنك تصوّرت ماهيّة العشرة، ثم حذفت منها ثلاثة، ثم حكمت بالسبعة، فكأنه قال له: علي الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة، أو عشرة إلّا ثلاثة له عندي، وكلّ من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه، وهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه، ثم أخرج الثلاثة ثم حكم، كما أنك تخرج عشرة دراهم من الكيس، ثم تردّ منها إليه ثلاثة، ثم تهب الباقي، وهو سبعة، هذا مذهب المصنف، وهو حسن، ومغاير للمذهبين الأولين مغايرة واضحة.

واعلم أن الأظهر أن القاضي يجعل هذا اللفظ موضوعًا للسبعة كما وضع لها لفظ السبعة، وهو ظاهر نقل المصنّف عنه، وعبارته كالصريحة في ذلك، وقد حكيناها لك.

وبذلك صرّح غير واحد من النَّقَلَةِ عنه، وَلْنَخُضْ في الحِجَاجِ فنقول:

لا بُدَّ من رَدِّ الاستثناء إلى ما يدفع عنه التناقض مع المستثنى منه، ولا بُدَّ في دفع التناقض من أحد التقديرات الثلاث الَّتي قال بكلّ منها قائل؛ لأنه إن أريد عشرة وأسند إليه، كان التناقض ظاهرًا، وانتفاؤه بألَّا يراد العشرة، أو يراد ولا يسند إليها، فإذا لم يرد العشرة، فإما أن يراد السبعة أولا؟

إن كان الأول؛ فهو المذهب الأول، وإن كان الثاني؛ فلا سبيل إلى دفع الإرادة عن السبعة مطلقًا ضرورة أنها مرادة، فتكون مرادة بالمركب لا بالمفرد، وهو المذهب الثاني.

وإن أريدت العشرة، ولكن لم يسند إليها، وهو الثالث.

وإذا تعيّن أحد الثلاث، وأبطلنا قسمين فتعيّن الباقي، فنقول:"لنا: أن" القول "الأول غير مستقيم" لوجوه ستة:

"للقطع بأن من قال: اشتريت الجارية إلا نصفها ونحوه لم يرد استثناء نصفها من نصفها"، وإلا يكون استثناء مستغرقًا، فيكون باطلًا، وهو غير مراد.

"ولأنه" لو أريد "كان يتسلسل"؛ لأن الاستثناء حينئذٍ يكون من النِّصْف، فيكون

ص: 246

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التقدير: له عندي نصف الجارية إلَّا نصفها، فيكون المراد به ربعها، والتقدير: أنه استثنى من هذا الرّبع نصفه، فيكون المراد به [منها]

(1)

، وهلمّ جرًّا.

"ولأنا نقطع بأن الضمير" في: إلّا نصفها "للجارية بكمالها".

"ولإجماع [العربية]

(2)

على أنه" أي: الاستثناء "إخراج بعض من كل"

(3)

.

"ولإبطال النصوص"؛ إذ ما في لفظٍ الّا ويمكن الاستثناء منه لبعض مدلوله، فيكون المراد هو الباقي، فلا يكون نصًّا في الكل، ونحن نعلم أن نحو: عشرة نص في الكل.

"وللعلم بأنا نسقط الخارج" بالاستثناء، "فنعلم أنّ المسند إليه ما بقى" بعد الإخراج، وإذا كان كذلك لم يكن المراد بـ "العشرة" سبعة.

ولقائلٍ أن يقول على الأول: إن أردتم بأنّ الاستثناء مستغرق بالنسبة إلى الملفوظ، فممنوع.

وإن أردتم بالنسبة إلى المراد، فمسلم.

ولكن الاستثناء إنما يقع من الملفوظ لا من المراد، والّلافظ كما ذكرتم لم يرد استثناء نصفها من نصفها بل من كلها، وهو الملفوظ الذي تبين بالاستثناء أن المراد به النصف.

وعلى الثَّاني: كذلك؛ لأن الاستثناء من الكُلِّ، وهو مبين أنّ المراد النصف.

وكذا الثالث؛ فإنَّ الضمير عائد إلى الكلّ؛ لأنه الملفوظ، ولا يلزم ما ذكر.

وكذا الرَّابع؛ فإنه إخراج بحسب الظاهر.

وعلى الخامس: أن النص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا عند عدم القرينة، وهنا قرينة وهي الاستثناء، فلم يلزم إبطال النصوص.

وعلى السادس: أن إسقاط الخارج واقع بحسب الظاهر.

(1)

في ب: عنها.

(2)

في أ، ج: القرينة.

(3)

ينظر: الاستغناء للعلامة القرافي، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 75، وهمع الهوامع للسيوطي 1/ 222.

ص: 247

وَالثَّاني: كَذَلِكَ؛ لِلْعِلْمِ بِأنَّهُ خَارجٌ عَنْ قَانُونِ اللُّغَةِ؛ إذْ لا تَرْكِيبَ مِنْ ثَلاثَةٍ، وَلا يُعَرَّبُ الْأَوَّل، وَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ، وَلاِمْتِنَاعِ إعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى جُزْءِ الاِسْمِ فِي:"إلَّا نِصْفَهَا"، وَلإِجْمَاعِ الْعَرَبيَّةِ

إِلَى آخِرِهِ.

قَالَ الْأَوَّلُونَ: لا يَسْتَقيمُ أَنْ يُرَادَ "عَشرَةٌ" بِكَمَالِهَا؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ إلَّا بِـ "سَبْعَةٍ"؛ فَيَتَعَيَّنُ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالإقْرَارِ - باعْتِبَارِ الإسْنَادِ؛ وَلَمْ يُسْنِدْ إلَّا بَعْد الإخْرَاجِ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ عَشَرَةً امْتَنَعَ مِنَ الصَّادِقِ؛ مثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14].

وَأُجِيبَ: بِمَا تَقَدَّمَ.

الشرح: قال: "والثاني" أي قول القاضي "كذلك" أي: لا يستقيم أيضًا لوجوه ثلاثة:

"للعلم بأنه" تركيب "خارج عن قانون اللغة؛ إذ لا تركيب" فيها "من" ألفاظ "ثلاثة".

"ولا يعرف الأول" منها، وهو العشرة في مثالنا، "وهو غير مضاف"، بل إنما يعرف الأول إذا كان مُضَافًا، فإذا لم يكن مُضَافًا كان مثبتًا، وهذا المركّب بخلافه، فكان خارجًا عن اللغة، ويمكن أن يجعل هذان وَجْهين يدلان على خروجه عن قانون اللغة، فيقال: هو خارج؛ لكونه من ثلاثة ألفاظ، ولكونه من ألفاظ الأول منها معرب غير مضاف، وليس في اللّغة شيء من ذلك بالاستقراء.

"ولا متناع إعادة الضمير على جزء الاسم في: "إلا نصفها"؛ للقطع بأن الضمير يجب عوده إلى كمال الاسم، فلا يكون المراد بالجارية نصفها.

"ولإجماع" أهل "العربية" على أن الاستثناء المتصل إخراج بعض من كل

"إلى آخره" كما ذكرناه في إبطال قول الأُوليين.

الشرح: ولقائل أن يقول: "قال الأولون" احتجاجًا لأنفسهم: "لا يستقيم أن يراد" بقوله: عندي "عشرة" إلا ثلاثة عشرة "بكمالها للعلم بأنه ما أقر إلا بسبعة؛ فيتعين" أن يكون المراد بالعشرة سبعة.

"وأجيب: بأن الحكم بالإقرار" إنما هو "باعتبار الإسناد" المتأخر عن إخراج ثلاثة منها، "ولم يسنِد إلا بعد الإخراج"؛ فلا يلزم كونه مقرًا بعشرة.

ص: 248

الْقَاضِي: إِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عَشَرَةً، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ سَبْعَةً تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ لِسَبْعَةٍ.

وَأجِيبَ: بِمَا تَقَدَّمَ.

فتَبَيَّنَ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي: لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ، وَعَلَى الأَكْثَرِ: تَخْصِيصٌ، وَعَلَى الْمُخْتَارِ: مُحْتَمِلٌ.

"قالوا: لو كان المراد عشرة" بكمالها "امتنع من الصادق" الاستثناء "مثل قوله:" "فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ {إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]؛ لما يلزم من إثبات لبث الخمسين بقوله: ألف سنة، ونفيه بالاستثناء؛ وهو تناقض، وذلك لا يمتنع؛ بدليل أنه قاله.

"وأجيب: بما تقدم" في صورة الإقرار، أن الحكم باللُّبْثِ إنما هو بعد إخراج الخمسين على الباقي من الألف مثلًا.

الشرح: وقال "القاضي: إذا بطل أن يكون" المراد، "عشرة"؛ لدليل الأولين، "وبطل أن يكون سبعة"؛ لما ذكر في إبطال المذهب الأول - "تعين أن يكون الجميع لسبعة"؛ لما مَرَّ من أن أحد التقديرات الثلاث لا بد منه.

"وأجيب: بما تقدم" في جواب قول الأولين "فتبين" بما ذكرناه "أن الاستثناء على قول القاضي ليس بتخصيص" إذ التخصيص؛ قصر العام، وها هنا لم يرد بالعام بعض أفراده، بل المجموع المركب هو مُسَمّاه.

"وعلى" قول "الأكثر تخصيص"؛ لأنه قصر اللفظ على بعض مسمياته.

"وعلى" المذهب "المختار محتمل" لأن يكون تخصيصًا نظرًا إلى الحكم، فإنه للعام في الظاهر، والمراد الخصوص؛ ولئلا يكون تخصيصًا نظرًا إلى أنه أريد بالمستثنى منه تمام مسماه؛ هذا كلام المصنف.

قال القاضي عضد الدَّين الشِّيرازي: ولا بُدَّ من التنبيه على حقيقة الحال: اعلم [أن]

(1)

القصد عشرة - أخرج منها ثلاثة - للسبعة مجاز؛ لأن العشرة التي أخرجت منها ثلاثة - عشرة، ولا شيء من السبعة بعشرة، ومفهوم العشرة بعد إخراج الثلاثة وقبلها واحد، وليست السبعة بعشرة على حال أطلقت أو قيدت، إنما هي الباقي من العشرة بعد إخراج

(1)

سقط في أ، ب.

ص: 249

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الثلاثة كما يقال: إنها أربعة ضمّت إليها ثلاثة، وأنها ليست بأربعة، إنما هي الحاصل من ضَمّ الأربعة إلى الثلاثة، ثم إن السبعة مرادة في هذا التركيب.

فإن قلنا: هذا التركيب حقيقة في عشرة موصوفة بأنها مخرج منها ثلاثة كان مجازًا في السبعة من باب التَّخْصيص، وهو المذهب الأول.

وإن قلنا: هو موضوع للباقي من العَشَرَةِ بعد إخراج الثلاثة، ولا يفهم منها إلا ذلك عند الإطلاق، وليس مدلولها عشرة مقيّدة، فهو موضوع للسَّبعة لا على أنه وضع له وضعًا واحدًا كما قد يتخيّل، بل على أنه يعبر عنه بلازم مركّب، وقد يعبر عن الشيء باسمه الخَاصّ، وقد يعبر عنه بمركّب يدلّ على بعض لوازمه، وذلك في العدد ظاهر؛ فإنك قد تنقص عددًا من عدد حتى يبقى المقصود، وقد يضمّ عدد حتى يحصل ذلك؛ كما قال الشاعر:[الخفيف]

بِنْتُ سَبْعٍ وَأَرْبَع وَثَلاثٍ

[هِيَ حَتْفُ]

(1)

المُتَيَّمِ المُشْتَاقِ

والمراد بنت أربع عشرة، ويعبر عنه بغيرها، كما يقال للعشرة جذر المائة، وضعف الخمسة، وربع الأربعين إلى غير ذلك، وعلى هذا ينبغي أن يحمل مذهب القاضي، ومختار المصنف يرجع إلى أحدهما. انتهى.

قلت: وما ذكره عن القاضي يفهم أنه يجعل ذلك مجازًا، وهو خلاف ما حققناه عنه، ثم ما ذكر من التعبير عن الشيء بلازم مركّب حق، ولكن لا يخرج عن الحقيقة

(2)

، وقول الشاعر في بنت أربع عشرة: بنت سبع وأربع وثلاث صادق بالحقيقة، وهو كقولك: له عندي درهم ودرهم ودرهمان، فإنك مقر بأربعة ناطق بما يدلّ عليها بالحقيقة، وكذلك قول الشّاعر الحسن بن هانئ

(3)

: [الطويل]

(1)

في ب: هما حتف.

(2)

في حاشية ج: قوله: ولكن لا يخرج عن الحقيقة. انظر المراد بعد الاعتراف بأنه تعبير باللازم إلا أن يقال: إنه لازم وضع لملزومه كما يشير إليه بعد.

(3)

الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن صباح، الحكمي بالولاء، أبو نواس: شاعر العراق في عصره، ولد سنة 146 بـ "الأهواز"(من بلاد خوزستان)، وقال كلثوم العتابي: لو أدرك أبو نواس الجاهلية ما فضل عليه أحد. وقال الإمام الافعي: لولا مجون أبي نواس لأخذت عنه العلم. وقد نظم في جميع أنواع الشعر، وأجود شعره خمرياته. له:"ديوان شعر" و"الفكاهة =

ص: 250

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَقَمنَا بِهَا يَوْمًا وَيَوْمًا وَثَالِثًا

وَيَوْمًا لَهُ يَوْمُ التَّرَحُّلِ خَامِسُ

(1)

فإنه دالّ على أنه أقام بها تِسْعًا؛ لدلالة لفظ التسع.

وزعم الشيخ أبو حيان أنه دالّ على إقامة أربعة أيام فقط، ذكره في باب "إعراب المثنى" من "شرح التسهيل".

وفيه نظر

(2)

: إنما هو يدلّ على تسعة أيام.

نعم قد نازع القاضي من يمنع الوضع للمركّبات، وقوله: إن مختار المصنف يرجع إلى أحدهما ليس بجيّد، بل هو مُغَاير لهما كما عرفناك في صدر المسألة.

وقد لاح بهذا أَنَّ دلالة المستثنى والمستثنى منه على المعنى المراد به مجاز عند الأكثرين، حقيقة عند القَاضِي، وكذلك عند المصنّف؛ لأنه استعمل اللفظ في مدلوله.

وقال الشيخ أبو حامد: عندي العَشَرَةُ إذا استعملت في الخمسة بالاستثناء تكون دالّة على ذلك حقيقة لا مجازًا، كما تقول في العموم إذا خص بعضه واستعمل في الباقي: يكون حقيقة. نتهى.

قلت: وهذا مَاشٍ على القول بأن العامّ المخصوص حقيقة، وهو قول أكثر علمائنا.

"فائدة"

قال ابن الأَنْبَاري: لو كان الأمْر كما ذكر الأولون لزم أن يكون الذي لا يعرف الحساب إذا قال: عشرة إلا ثلاثة لا يفهم المَدْلُول من لغته.

قلت: وهو ضعيف؛ فإنه وإن لم يعرف الحساب فهو يريد ما تؤدّيه هذه العبارة، وهي مستعمل لفظ العشرة في بعضها، وإن لم يعرفه حالة الاستعمال، وجَهْلُهُ به لا يضرّ إذا كان

= والائتناس في مجون أبي نواس" ولابن منظور كتاب سماه "أخبار أبي نواس". وفي تاريخي ولادته ووفاته خلاف، وقيل في وفاته: 195 هـ، 196 هـ و 198 هـ. وينظر: الأَعلام 2/ 225، وخزانة البغدادي 1/ 168، ووفيات الأعيان 1/ 135.

(1)

البيت لأبي نواس كما أشار المصنف، ينظر ديوانه 2/ 7، وخزانة الأدب 70/ 462، ومغنى اللبيب 2/ 356، والمقرب 2/ 49، والدرر 6/ 77.

(2)

في حاشية ج: قوله: وفيه نظر؛ لأن يوم الترحل لا يكون خامسًا لذلك اليوم الرابع إلا بعد مضي ثلاثة أيام من الرابع فيكون هو خامسًا وليس المراد أنه خامس أول الأيام كما فهمه أبو =

ص: 251

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

له مَدْلُول في نفس الأَمْر، كما لو قال: "قارضتك على أن ثلث الربح لك، وما بقي فثلثه لي وثلثاه لك، فإنه يصح على الأصح، وإن لم يعلما عند العَقْدِ أن المشروط للعامل كم هو، وكذا لو قال: لك من الربح سدس ربع العشرة، وهما لا يعلمان قدره.

ولا يرد على هذا إذا باع بما باع به فلان، وهو لا يعلمه حيث لا يصحّ على الأصح، وإن تمكن من العلم به؛ لأنه ليس له في نفس الأمْر مدلول، وجاز أن ينسى، أو يموت هو قبل العلم، ففيه غرر.

وكذا إذا قال: بعت بمائة دينار إلَّا عشرة دراهم، فإنه لا يصحّ إلا أن يعلما قيمة الدِّينَار بالدراهم؛ لأن ذلك بمختلف.

"فرع"

قال: عليَّ عشرة إلَّا خمسة أو ستة، فإنه يلزمه خمسة.

قال النووي: وهو الصواب؛ لأن المختار أن الاستثناء بيان ما لم يرد

(1)

بأول الكلام، لا أنه إبطال ما ثبت.

وقال الرَّافِعِيّ: يمكن أن يقال: يلزمه خمسة؛ لأنه أثبت عشرة، واستثنى خمسة، وشككنا في اسثتناء الدّرهم السَّادس.

"تنبيه"

ما تقدم في: عشرة إلَّا "ثلاثة" وأنظاره هو فيما إذا نصب ثلاثة بالاستثناء.

أما إذا رفع فقال: إلا ثلاثهٌ أو إلّا درهمٌ، فقد أقرّ بالعشرة؛ لأن المعنى عشرة موصوفة بأنها غير درهم، وكلّ عشرة فهي موصوفة بذلك، فالصفة هنا في [نفحة]

(2)

واحدة، هذا مدلول اللفظ، ونبَّهْنَا عليه وإن لم يتعلّق بما كنا فيه لئلا يلتبس.

= حيان؛ إذ هذا خلاف صريح النظم. تدبر.

(1)

في حاشية ج: قوله: "بيان ما لم يرد

إلخ ولم يبين الَّا بمجزوم به لا بالمشكوك، بخلاف ما إذا قيل: إنه إبطال ما ثبت؛ فإن المشكوك فيه يبطل الثبوت؛ إذ لا ثبوت مع الشك. تدبر.

(2)

في ب: نعجة.

ص: 252

‌مَسْأَلةٌ:

شَرْطُ الاسْتِثْناءِ:

الاِتِّصَالُ لَفْظًا، أَوْ مَا فِي حُكْمِهِ؛ كَقَطْعِهِ لِتَنَفُّسٍ، أَوْ سُعَالٍ وَنَحْوِهِ.

وَعنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما: يَصِحُّ وَإنْ طَالَ شَهْرًا.

وَقِيلَ: يَجُوزُ بالنِّيَّةِ كَغَيْرِهِ، وَحُمِلَ عَلَيْهِ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ لِقُرْبِهِ.

وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً.

«مسألة»

الشرح: "شرط الاستثناء الاتصال لفظًا، أو ما في حكمه كقطعه لتنفس، أو سعال ونحوه" مما لا يمنع الاتصال عادة.

والأصح أنه ينقطع بتخلُّل الكلام اليسير، وإن لم ينقطع بذلك الإيجابُ والقبول

(1)

.

قال الأَصْحَاب: ويبطله تخلُّلُ الكلام الأجنبي.

وقال صاحب "البيان" و"العدة": إذا قال: عليَّ ألف أستغفر الله إلَّا مائة، [صَحّ]

(2)

.

قال النووي: وفيما نقلاه نظر.

وعن طاوس والحسن، وجماعة من التابعين: أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه.

وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم.

وقال عطاء: قدر حلبة ناقة:

(1)

ينظر: البرهان 1/ 385، والمعتمد 1/ 260، وشرح العضد 2/ 137، والمحصول 1/ 3/ 39، والمستصفى 2/ 165، والمنخول 157، والتبصرة (162)، وجمع الجوامع 2/ 10، القواعد والفوائد 251، والإحكام للآمدي 2/ 267، وشرح الكوكب 3/ 297، والعدة 2/ 660، وتيسير التحرير 297، وكشف الأسرار 3/ 117، وفواتح الرحموت 1/ 321، وإرشاد الفحول (147)، واللمع 22، والروضة (132)، والمسودة (152)، ونهاية السول 2/ 410، والتمهيد له (289)، والتحرير (114)، وشرح تنقيح الفصول (242).

(2)

في ب: تصح.

ص: 253

لنَا لَوْ صَحَّ، لَمْ يَقُلْ صلى الله عليه وسلم:"فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" مُعَيَّنًا؛ [لـ] أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ أَسْهَل، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الإِقْرَارَاتِ وَالطَّلاقُ وَالْعِتْق، وَأَيْضًا: فَإنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَلَّا يُعْلَمَ صِدْقٌ وَلا كَذِبٌ.

قَالُوا: قَالَ عليه الصلاة والسلام: "وَالله، لأَغْزُوَن قُرَيشًا"، ثُمَّ سَكَتَ.

"وعن ابن عباس: يصح وإن طال" أَمَدُ الانفصال، "شهرًا وقيل: سنة، وهو الأشهر عنه.

وقيل: أبدًا، وهي روايات شاذّة لم تثبت عنه.

وعن سعيد بن جُبَيرٍ: أربعة أشهر.

وقيل: إن مراد هؤلاء الأئمة على تقدير صحّة المنقول عنهم استحباب قول: إن شاء الله تبركًا؛ ولقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [سورة الكهف: الآية 24]، ولم يريدوا به حلّ اليمين ومنع الحنث، ولا الاستثناء بـ "إلّا" وأخواتها.

"وقيل: يجوز" تأخير الاستثناء، لكن "بالنية كغيره" من تخصيصات العموم؛ إذ جاز انفصالها لفظًا مع اقتران النِّية باللفظ العام، "وحمل عليه مذهب ابن عباس؛ لِقُرْبه".

"وقيل: يصح" الاستثناء المنفصل "في القرآن خاصة"؛ لأنه كالكلمة الواحدة، وهو ضعيف؛ فإنّ الكلام القديم صفة ذاتٍ يستحيل فيه التقديم والتأخير، والاتصال والانفصال، والكلام هنا إنما هو في الألفاظ المبتدعة.

الشرح: "لنا: لو صحَّ الاستثناء المنفصل "لم يقل عليه السلام": "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا "فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ"، وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ"

(1)

.

"معينًا" بل كان يقول: فليستثن أو يفعل؛ "لأن الاستثناء أسهل" من التكفير، لكنه قال ذلك معينًا.

[قلت]

(2)

: في "صحيح مسلم" وغيره بهذا اللَّفظ، ومعناه في "الصحيحين".

ونظيره: ما حكى أن أبا إسحاق المَرْوَزِيّ أراد الخروج من "بغداد" مرة، فاجتاز في بعض سككها برجل على رأسه باقلَاء وهو يقول لآخر معه: لو صح مذهب ابن عباس لما

(1)

أخرجه مالك في الموطأ 2/ 478، كتاب النذور: باب ما تجب فيه الكفارة من الأيمان (11)، ومسلْم 3/ 1272، كتاب الأيمان: باب ندب من حلف (12/ 1650).

(2)

في أ، ج: ثبت.

ص: 254

وَقَالَ بَعْدَهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

قُلْنَا: يُحْمَلُ عَلَى السُّكُوتِ الْعَارِضِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ.

قَالُوا: سَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنْ لُبْثِ أَهْلِ الْكَهْفِ؛ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "غَدًا أُجِيبُكُمْ"، فَتَأَخَّرَ الْوَحْيُ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ نَزَل:"وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ" [سورة الكهف: الآية

قال تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [سورة ص: الآية 44] بل كان يقول: استثن، ولا حاجة إلى هذا التحيُّل في البر.

فقال أبو إسحاق: بلدة فيها رجل يحمل البقل، وهو يرد على ابن عباس لا يستحق أن يخرج منها.

"وكذلك" يلزم منه أن يبطل "جميع الإقرارات، والطلاق، والعِتْق"؛ لأن المقرّ والمطلَّق والمعتق يستثنى بعد انفصال الأمر.

فلو قيل: لم يستقرّ شيء من الأحكام.

"وأيضًا: فإنه يؤدي إلى ألَّا يعلم صدق ولا كذب"؛ لأن المخبر بشيء كقوله: قدم الحاج إذا قيل له: إنما قدم بعضهم، يمكنه أن يقول: إلا بعضهم.

ولك أن تقول: إن كان محلّ الخلاف مختصًّا بالتَّعْليق بمشيئة الله - تعالى - دون الاستثناء بـ "إلَّا" وأخواتها، فلا يتأتى هذا.

"قالوا": روى أبو داود من حديث مسعر عن سماك

(1)

عن عكرمة "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا"" ثم قال: "إنْ شَاءَ اللَّهُ" ثم قال: "وَاللَّه لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ" ثم قال: "وَاللَّهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا""ثم سكت".

(1)

سماك بن حرب بن أوس البكري الذهلي، أبو المغيرة الكوفي.

أحد الأعلام التابعين. عن: جابر بن سمرة والنعمان بن بشير وغيرهم. وعنه: الأعمش وشعبة وإسرائيل وزائدة وأبو عوانة وخلق. قال ابن المديني: له نحو مائتي حديث. وثقه أبو حاتم وابن معين من رواية ابن أبي خيثمة وابن أبي مريم. وقال أبو طالب عن أحمد: مضطرب الحديث. قال ابن قانع: مات سنة ثلاث وعشرين ومائة.

ينظر: البداية والنهاية 9/ 339، والوافي بالوفيات 15/ 447، وطبقات ابن سعد 6/ 316، والثقات 4/ 339، ولسان الميزان 7/ 238، وميزان الاعتدال 2/ 232، وتهذيب الكمال 1/ 549، وتهذيب التهذيب 4/ 223، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 421.

ص: 255

24،23]، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"إِنْ شَاءَ اللَّهُ".

قُلْنَا: يُحْمَلُ عَلَى أفْعَلُ؛ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مُتَأَوَّلٌ بِمَا تَقَدَّمَ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ.

الشرح: "وقال بعده: "إنْ شَاءَ اللَّهُ""

(1)

، ولفظ الحديث:"ثم سكت ثمّ قال: إن شاء الله" فقد فصل بالسكوت، وأيضًا فـ "ثم" تقتضى مهلة الترتيب.

"قلنا: يحمل على السكوت العارض" لتنفس ونحوه؛ "لما تقدم" من الدليل على وجوب الاتصال، ولذلك يجب تأويل "ثم".

وقد نازع بعضهم في اقتضائها الترتيب؛ فليلتزم؛ جمعًا بين الأدلة.

"قالوا: سأله اليهود عن لُبْثِ أهل الكهف، فقال صلى الله عليه وسلم: غدًا أجيبكم، فتأخّر الوحي بضعة عشر يومًا ثم نزل "وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ".

"فقال: إن شاء الله" فقد فصل بين قوله: غدًا أجيبكم وإن شاء الله ببضعة عشر يومًا، والقصة مشهورة رواها محمد بن إسحاق

(2)

في "السيرة" والبيهقي في "الدلائل" وغيرها.

(1)

أخرجه أبو داود (3285) عن عكرمة مرسلًا.

وأخرجه أبو يعلى (5/ 78) رقم (2675) وابن حبان (4339) والبيهقي (10/ 47) من طريق عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا.

وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 185) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ررجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يعلى.

(2)

محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي، مولى قيس بن مخرمة، أبو عبد الله المدني، أحد الأئمة الأعلام. عن: أبيه وعطاء والزهري وخلق. وعنه: يحيى الأنصاري من شيوخه، وعبد الله بن عون وشعبة والحمادان وخلق. وعن ابن شهاب: لا يزال بالمدينة علم جم ما كان فيها ابن إسحاق. قال أحمد: حسن الحديث. ووثقه العجلي وابن سعد وقال: مات سنة إحدى وخمسين ومائة. ينظر: تهذيب الكمال 3/ 1167، وتهذيب التهذيب 9/ 38، وتقريب التهذيب 2/ 144، والكاشف 3/ 19، وتاريخ البخاري الصغير 2/ 111، والجرح والتعديل 7/ 1087، وميزان الاعتدال 3/ 24، وطبقات ابن سعد 7/ 67، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 379.

ص: 256

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"قلنا: يحمل" قوله: إن شاء الله "على" أنه عند نزول الآية عزم على فعل ذلك، واستثنى، والمعنى "أفعل" ذلك "إن شاء الله".

"وقول ابن عباس": يجوز الفصل "متأوّل بما تقدم" من جواز

(1)

نِيَّة الاستثناء، وانفصاله لفظًا، "أو بمعنى" الاستثناء "المأمور به"، وهو التعليق بمشيئة الله تعالى، وقد قدّمنا هذا أيضًا، وهذا جواب عن سُؤَال مقدّر تقديره: كيف يخفى على ابن عباس ما ذكرتموه لو كان حقًّا وهو الحبْرُ البَحْر تُرْجُمَان القرآن، وقد كانت اللّغة طباعه؟

وجوابه: أنه لم ينص على جواز المنفصل أيضًا، وما نقل مؤول كما عرفت.

ولقائل أن يقول: الجمهور لا يجوزون تأخير الاستثناء لفظًا وإن نواه، وينازعون في التعليق بالمشيئة أيضًا، وإن كان كل من هذين أقرب من تجويز الانفصال على إطلاق، فالأوْلى أن يجاب بما لا يَنْبُو عن مذهب الجمهور فيقال:

ما روى عن ابن عباس [لم]

(2)

يصحّ، ولعلّ الآفة من الراوي.

"فرع"

قال الرافعي: هل يشترط مع الاتصال [اللفظي]

(3)

أن يكون قصد الاستثناء مقرونًا بأول الكلام أي بالمستثنى منه؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا، ولو بَدَا له الاستثناء بعد تمام المستثنى منه، فاستثنى حكم [بموجبه].

(1)

في حاشية ج: قوله: من جواز نية الاستثناء" ظاهره أن نيّة الاستثناء تنفع في الأيمان وغيرها، ونصوا في الفقه على خلافه، بخلاف نية تقييد المطلق، وعللوا بأن الاستثناء يرفع الحكم من أصله. ويدل لهذا قوله: الجمهور لا يجوزون تأخير الاستثناء لفظًا وإن نواه، فلعل فيه خلافًا.

(2)

في أ، ج: لا.

(3)

في أ: اللفظ.

ص: 257

‌مَسْأَلَةٌ:

الاِسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرِقُ: بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ.

وَالْأَكْثَرُ: عَلَى جَوَازِ الْمُسَاوِي وَالْأَكْثَرِ.

وأصحهما

(1)

- وادعى أبو بكر الفارسي

(2)

الإجماع عليه -: أنه لا يعمل بالاستثناء ويقع الطلاق؛ لأن الاسثتناء بَعْدَ الفصل منشأ بعد لحوق الطلاق. انتهى.

وصدر كلامه يفهم أن الذي ادّعى الفارسي الإجماع عليه هو أن يكون قصد الاستثناء مقرونًا بأول الكلام، وكذا فهمه النووي، وجرى عليه في "الروضة"، وبه صرح الإمام وغيره.

"تنبيه"

أن يجعل قولك: عشرة إلا ثلاثًا سمًا مركّبًا موضوعًا للسبعة ألَّا يشترط نيَّة الاستثناء ألبتة، وإمام الحرمين وافق القَاضِي على هذا الأصل، ويلزمه هذا مع تصريحه في "الفقهيات" باشتراط نية الاستثناء.

«مسألة»

الشرح: "الاستثناء المستغرق" للمستثنى منه "باطلٌ باتفاقٍ" ادّعاه المصنف وغيره، فإذا قال: عليّ عشرة، إلا عشرة لزمه عشرة

(3)

.

(1)

في حاشية ج: قوله: وأصحهما" يؤخذ منه أن تعليله صحيح يجوز تقليده والعمل به لنفسه.

(2)

أحمد بن الحسين بن سهل، أبو بكر الفارسي، صاحب عيون المسائل في نصوص الشافعي، وهو كتاب جليل على ما شهد به الأئمة الذين وقفوا عليه، تفقه على ابن سريج، وذكره العبادي في طبقاته وقال: مصنف كتاب العبون على مسائل الربيع، والأصول، وكتاب الانتقاد على المزني وكتاب الخلاف معه. مات في حدود سنة خمسين وثلاثمائة. ينظر: الأعلام 1/ 110، وطبقات الفقهاء للعبادي ص (45)، وهدية العارفين 1/ 65، وابن قاضي شهبة 1/ 123 (72).

(3)

ينظر: البرهان 1/ 296، والمحصول 1/ 3/ 53، وشرح الكوكب 3/ 306، والمستصفى 2/ 172، والإحكام للآمدي 2/ 275 (3)، والتبصرة (168)، التقرير والتحبير 1/ 266، والمسودة (155)، والعدة 2/ 667، والقواعد والفوائد (247)، والتمهيد للإسنوي (395)، وكشف الأسرار 3/ 122، وفواتح الرحموت 1/ 323، وتيسير التحرير 3/ 300.

ص: 258

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حكى ابن طلحة الأندلسي قولًا فيمن قال: أنت طالق ثلاثا [إلَّا ثلاثًا، أنه استثناء ينفعه

(1)

.

وهذا غريب يُصَادم دعوى الاتفاق.

ونظيره وجه حكاه الرَّافعي عن الحَناطي

(2)

فيمن قال: أنت طالق ثلاثًا]

(3)

إلا واحدة إلا واحدة أنه يقع الثلاث؛ فإنه أبطل المستثنى - وهو الواحد - بالاستثناء منه المستغرق له؛ فدلّ على إعمال الاستثناء المستغرق.

ولو قيل: يبطل من المستغرق قدر يصحّ بعده الكلام لكان ذلك إعمالًا للكلامين، وهو أولى من إلغاء أحدهما.

فإذا قال: طالق ثلاثًا إلَّا ثلاثًا، على هذا تطلّق ثنتين، ولكني لا أعرف أحدًا قال بذلك.

"فرع"

نقل الرَّافعي عن "فتاوى القَفَّال" فيمن قال: كلّ امرأة لي طالق إلَّا عمرة، ولا امرأة له سواها، أنها تطلق؛ لأنَّهُ مستغرقٌ.

ولو قال: النساء طوالق إلا عَمْرَة، ولا امرأة له سواها، لم تطفق، والفرق أنه هنا لم يُضِقهُنَّ إلى نفسه.

(1)

ينظر: الاستغناء للقرافي (537).

(2)

الحسين بن محمد بن الحسين، أبو عبد الله بن أبي جعفر الطبري، الحناطي. أخذ الفقه عن أبيه عن ابن القاص وأبي إسحاق المروزي، روى عنه القاضي أبو الطيب، وقال في تعليقه: كان حافظًا لكتب الشافعي وكتب أبي العباس. ذكره الشيخ أبو إسحاق وقال: من أئمة طبرستان. ذكره المطوعي في المذهب، وأثنى عليه، وقال: كان إمام عصره بـ "طبرستان" حقًّا، وواحد دهره علمًا وفقهًا. ووفاته - فيما يظهر - بعد الأربعمائة بقليل. ينظر: تاريخ بغداد 8/ 103، وطبقات الشافعية للأسنوي ص (141)، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (105)، طبقات ابن السبكي 3/ 160، وطبقات ابن قاضي شهبة 1/ 179.

(3)

سقط في أ، ج.

ص: 259

‌مسألة:

وَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ وَالْقَاضِي: بِمَنْعِهِمَا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَالْقَاضِي أَيْضًا: بِمَنْعِهِ فِي الْأَكْثَرِ خَاصَّةً.

وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْعَدَدُ صَرِيحًا.

ولقائل أن يقول: ينبغي ألَّا تطلق في الأول، ويجعل الاستثناء صفة، ويكون معناه: كلّ امرأة لي غير عمرة طالق كما في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء: الآية 22].

ويؤيده قول الشَّافعي: لو قال الزوج - وقد عاتبته في نكاح جديد -: كل امرأة لي طالق، وعزلها بِنِيَّتِهِ أنه يقبل؛ [لأنه لو لم يصحّ - لوضوح به - لم يفده نِيَّته له]

(1)

، وينبغي أن تطلق في الثانية على قولنا: إن الاستثناء إنما يكون من المملوك؛ فإنه لا يملك إلَّا طلاق عمرة، وكأنه استثناها من نفسها، وهو مستغرق، فيبطل، وقد حكى الأصحاب الخلاف في الاستثناء هل يكون من الملفوظ، أو المملوك كما في أنت طالق خمسًا إلا ثلاثًا؟

"والأكثر" متفقون "على جواز" استثناء "المساوي" أعني النصف، مثل: عشرة إلا خمسة، "والأكثر" مثل عشرة إلا تسعة.

"مسألة"

الشرح: "وقالت الحنابلة والقاضي": في أحد قوليهما "منعهما".

"وقال بعضهم والقاضي أيضًا بمنعه في الأكثر خاصة"، ونقله ابن السَّمعاني، وغيره عن الشيخ أبي الحسن الأشعري

(2)

رحمه الله تعالى

(3)

.

(1)

سقط في ج.

(2)

علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى، الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري، إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، والذاب عن الدين، والمصحح لعقائد المسلمين، مولده سنة ستين ومائتين، وقيل سنة سبعين. كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم. قال الخطيب البغدادي: أبو الحسن الأشعري، المتكلم، صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة، والرافضة، والجهمية، والخوارج وسائر أصناف المبتدعة. توفي سنة 324 هـ، وقيل 320 هـ وقيل 330 هـ.

ينظر: الأعلام 5/ 69، وتاريخ بغداد 11/ 346، ووفيات الأعيان 2/ 446، وابن قاضي شهبة 1/ 113.

(3)

ينظر مصادر المسألة السابقة.

ص: 260

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والقاضي في كتاب "التقريب" لم يذكر استثناء المساوي.

نعم في أثناء "دلائله" ما يدلّ على أنه يمنعه أيضًا، وذكر استثناء الأكثر.

وعبارته: كأنه الأولى الآن عندنا وإن كُنَّا قد نصرنا في غير هذا الموضوع جوازه.

انتهى.

وقيل: بمنعه في الأكثر "إن كان العدد" في المستثنى، والمستثنى منه "صريحًا" نحو: عشرة إلا تسعة، لا إن لم يكن صريحًا نحو: ما في الكيس إلَّا الزيوف مع كون الزيوف أكثر.

وقيل: بمنع استثناء الأكثر إذا كان المستثنى جملة نحو: جاء إخوتك العشرة إلَّا سبعة، وتجويز استثنائهم تفصيلًا، وتعديدًا نحو: إلَّا زيدًا منهم، وبكرًا، وخالدًا إلى تمام السبعة.

وقيل: يمتنع استثناء عَقْد صحيح كعشرة من مائة لا عشرة كخمسة، وإليه يميل كلام القاضي في "التقريب".

وقيل: يمتنع الاستثناء من العدد مطلقًا، وهو رأي أبي الحسن بن عصفور النحوي

(1)

.

ونظيره قول القاضي الحسين، والمتولي

(2)

فيمن قال لنسوته الأربع: أربعتكن طوالق إلا فلانة، أو إلا واحدة، أنه لا يصحّ الاستثناء ويطلقن جميعًا؛ لأن الأربع ليست صيغة عموم، وإنما هي نص.

(1)

علي بن مؤمن بن محمد، الحضرمي الإشبيلي، أبو الحسن المعروف بـ "ابن عصفور": حامل لواء العربية بـ "الأندلس" في عصره، من كتبه "المقرب" المجلد الأول منه في النحو، "والممتع"، والمفتاح" و"الهلال"، و"المقنع"، و"شرح الجُمَل" و "شرح المتنبي" وغيرها من الكتب. ولد بـ "أشبيلية" سنة 597 هـ، وتوفي بـ "تونس" سنة 669 هـ. انظر: فوات الوفيات 2/ 93، وشذرات الذهب 5/ 330، وكشف الظنون 1822، والأعلام 5/ 27، وعنوان الدراية 188.

(2)

عبد الرحمن بن مأمون بن علي بن إبراهيم النيسابوري، الشيخ أبو سعد المتولي. تفقه على الفوراني والقاضي حسين وأبي سهل الأبيوردي. وبرع في الفقه، والأصول، والخلاف. قال الذهبي: كان فقيهًا محققًا، وحبرًا مدققًا. قال ابن كثير: أحد أصحاب الوجوه في المذهب.=

ص: 261

وَلنَا: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الحجر: الآية 42]، وَالْغَاوُونَ أَكْثَرُ؛ بدَلِيلِ:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} [سورة يوسف: الآية 103]؛ وَالْمُسَاوِي أَوْلَى.

وَأَيْضًا "كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ".

وَأَيْضًا: فَإنَّ فُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ: "عَلَى أنَّهُ لَوْ قَالَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَة" لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا دِرْهَمٌ؛ وَلَوْلا ظُهُورُه، لَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ عَادَةً.

الشرح: "لنا": قوله تعالى: {"إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ"} [سورة الحجر: الآية 42]، استثنى "الغاوين" من عباده "والغاوون أكثر بدليل:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ" وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف: الآية 103] وغيرهما من الآي النَّاطقة بأن أكثرهم الفاسقون، وكذا قوله:{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} مع قوله تعالى حكاية عن إبليس: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة ص: الآية 82 - 83]. فلو كان المستثنى أقل لزم أن يكون كلّ واحد من الغاوين والمخلصين أقل من الآخر.

"والمساوي أولى" بالجواز.

"وأيضا": قال النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه - تعالى - في الحديث المشهور السامي المروى في "صحيح مسلم":"يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعمتُهُ"

(1)

صريح في استثناء الأكثر؛ فإن الأكثر مطعمون.

"وأيضًا" قال: "فقهاء الأمصار" متفقون "على أنه لو قال: عليّ عشرة إلا تسعة، لم يلزمه إلَّا درهم، ولولا ظهوره" أي ظهور جواز استثناء الأكثر "لما اتفقوا عليه عادة"؛ إذ العوائد تقضي بالاختلاف فيما ليس بظاهر.

واعلم أن القاضي منع في كتاب "التقريب" ثبوت استثناء الأكثر عن العرب، وزعمهم لا يقولون: عشرة إلا ستة.

= صنف كتابًا في "أصول الفقه" وكتابًا في "الخلاف" ومختصرًا في "الفرائض". توفي في شوال سنة 478 هـ بـ "بغداد" عن 71 عامًا. ينظر: البداية والنهاية 12/ 128، وطبقات الشافعية للسبكي 3/ 223، وشذرات الذهب 3/ 358، والأعلام 4/ 98، وابن قاضي شهبة 1/ 247.

(1)

أخرجه مسلم 4/ 1994، 1995، كتاب البر والصلة والآداب: باب تحريم الظلم (55 - 2577).

ص: 262

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال في قول الشاعر: [البسيط]

وَدُّوا الَّتِي نَقَصَتْ تِسْعِينَ مِنْ مِائَةٍ

ثُمَّ ابْعَثُوا حَكَمًا بِالحَقِّ قَوَّالًا

(1)

ليس باستثناء للأكثر مما دخل تحت المائة، ولا لفظه لفظ الاستثناء، وإنما فيه ذكر نقصان الأكثر، ولا ينكره.

وقال في قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [سورة المزمل: الآية 1 - 4] يقدر تقدير ابتداء كلام، كأنه قال: بل قم نصفه أو زد عليه، أو انقص منه قليلًا؛ فإنه أعظم لثوابك على أن النصف ليس بأكثر. انتهى، وفيه نظر. انتهى.

ومن عجائب أكثر الشارحين تخيّلهم أن قول المصنّف في تخصيص العموم بالمفهوم، ومثل:"فِي الأَنْعَامِ الزَّكَاةُ" إشارة منه إلى حديث، ونسبوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، مع تخيلهم أن قوله هنا:"كُلُّكُمْ جَائِعٌ" ليس إشارة إلى حديث، ولم يتصورّوا أنه حديث، وهو من أشهر الأحاديث.

أخبرتنا به فاطمة بنت عبد الرحمن بن عيسى الدَّناهي، وفاطمة بنت إبراهيم أشهر بن أبي عمر وأحمد بن علي الجوزي قراءة على الأولَيَيْنِ، وأنا أسمع، وبقراءتي على الثالث قالوا:

أنبأنا إبراهيم بن خليل قالت الألى: سماعًا، وقال الآخران: حضورًا أنبأنا عبد الرحمنِ بن علي، أنبأنا أبو الحسن المواريني، أنبأنا محمد بن علي المازني، أنبأنا أبو القاسم الفضل بن جعفر، أنبأنا أبو بكر عبد الرحمن بن القاسم بن الفرج الهاشمي، حَدّثنا أبو مسهر بن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخَوْلاني

(2)

عن أبي

(1)

ينظر البيت في الاستثناء للقرافي ص 538.

(2)

عائذ بن عبد الله بن عمرو، الخَوْلانِي العوذي، أبو إدريس الشامي. أحد الأعلام. عن: عمر ومعاوية وأبيّ وبلال وأبي ذر وحذيفة وطائفة. وعنه: مكحول والحسن وابن سيرين وبشر بن عبيد الله. قال مكحول: ما رأيت أعلم منه. قال خليفة: مات سنة ثمانين.

ينظر: الثقات 5/ 277، وسير الأعلام 4/ 272، والوافي بالوفيات 16/ 595، والجرح والتعديل 7/ 200، وتاريخ البخاري الكير 7/ 83، وتهذيب الكمال 2/ 648، وتهذيب التهذيب 5/ 85، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 26.

ص: 263

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ذرٍّ

(1)

رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله تبارك وتعالى: "يَا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنكُمْ مُحرَّمًا؛ فَلا تَظَّالَمُوا، يَا عِبَادِي، إنَّكُمُ الَّذِينَ تُخطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا الَّذِي أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلا أُبَالِي، فَاستَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطعَمْتُه، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُه، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُم، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُم وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَنْقُص ذلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يزِدْ ذلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَا سَأَلَ لَمْ يَنْقُصْ ذلِكَ مِن مُلْكِي شَيْئًا إلَّا كَمَا يَنْقُصُ أَن يُغمَسَ المخيط غَمْسَةً وَاحِدَةً، يَا عِبَادِي إنَّمَا هيَ أَعْمَالُكُمْ أَحْفَظُهَا عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ".

قال سعيد بن عبد العزيز

(2)

: كان أبو إدريس إذا حَدَّث بهذا الحديث جثا على رُكْبتيه، أخرجه مسلم في "الصحيح".

وإنما سقته إسنادًا وَمَتنًا لشرفه وحسنه، وذهول بعض الشَّارحين عنه.

(1)

أبو ذرّ الغِفَارِي، أحد النُّجَبَاء، في اسمه أقوال؛ أشهرها: جُنْدُب بن جُنَادَة. له مائتا حديث وأحد وثمانون حديثًا. وعنه: ابن عباس وأنس والأحنف وأبو عثمان النّهْدي وخلق. روى مرفوعًا: "ما أظلت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر" حسَّنه الترمذي من حديث عبد الله بن عَمْرو بن العاص. وقال أبو داود: كان يوازي ابن مسعود في العلم، ومناقبه كثيرة. قال ابن المدائني: مات بـ "الربذة" سنة اثنتين وثلاثين. ينظر: تهذيب التهذيب 12/ 90 (401)، وتقريب التهذيب 2/ 420، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 215 (180).

(2)

سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي، أبو محمد، الدمشقي الفقيه. عن: مكحول ونافع ومحمد بن مسلم بن شهاب وخلق. وعنه: شعبة والثوري وأبو مُسْهِر وخلق. وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي. قال الحاكم: هو لأهل الشام كمالك لأهل المدينة. قال أبو النَّضْر الفراديسي: كنت أرى سعيد بن عبد العزيز مستقبل القبلة يصلي، فكنت أسمع لدموعه وقعًا على الحصير. قال ابن سعد: مات سنة سبع وستين ومائة. ينظر: الثقات 6/ 369، وسير الأعلام 8/ 32، والوافي بالوفيات 15/ 239، وشذرات الذهب 6/ 163، وميزان الاعتدال 2/ 149، والجرح والتعديل 4/ 184/، والكاشف 1/ 366، وتهديب التهذيب 4/ 59، وتهذيب الكمال 1/ 358، والخلاصة 1/ 385.

ص: 264

الْأَقَل: مُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَنْعُهُ

إلَى آخِرِهِ.

وَأُجِيبَ: بِالْمَنْعِ؛ لأِن الإسْنَادَ - بَعْدَ الإخْرَاجِ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَالدَّلِيلُ مُتَّبعٌ.

قَالُوا: " [عَلَيَّ]، عَشرَةٌ إِلَّا تِسْعَةً وَنِصْفَ وَثُلُثَ دِرْهَمٍ" - مُسْتقْبَحٌ رَكِيكٌ.

وَأجِيبَ: بِأَنَّ اسْتِقْبَاحَهُ لا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ كـ "عَشْرَةٌ" إِلَّا دَانِقًا وَدَانِقًا"

إِلَى عِشْرِينَ.

الشرح: واحتج من جوّز أن يستثني "الأقلّ" ومنع الزائد عليه نصفًا كان، أو أكثر بأن الاستثناء "مقتضى الدليل منعه"؛ لأنه يصادم الأصل؛ إذ هو إنكار بعد إقرار "إلى آخره" أي آخر هذا الدَّليل، وهو أنه جوز في الأقل لقلَّة خُطُوره بالبال، فربّما نسيه

(1)

حالة الإقرار فاستدرك، وهذا مفقود في المساوي والأكثر.

"وأجيب بالمنع" من أن مقتضى الدليل منعه، وسنده أنه كجملة واحدة.

أما عند القاضي فواضح؛ إذ هو عنده اسم مركب، لا جرم أنه لم يذكر هذا في "التقريب"؛ إذ هو غير متأت على أصله.

وأما عندنا فكذلك؛ "لأن الإسناد بعد الإخراج" فليس حكمان [مختلفان]

(2)

، "ولو سلم" أنه على خلاف الأصل، "فالدليل متبع"، ولا تضرّ مخالفة الأصل مع قيامه.

"قالوا" ثانيًا: وجهًا اعتمده القاضي في كتاب "التقريب" وتقريره أن يقال: " [عَلَيَّ]

(3)

عشرة إلَّا تسعة ونصف وثلث درهم" "مستقبح ركيك"؛ فلا يكون من لغة العرب.

"أجيب: بأن استقباحه لا يمنع صحّته، كـ"عَشَرةٌ" إلَّا دَانِقًا ودَانِقًا إلى" أن يعد "عشرين"، فإنه يستقبح، ويقال هذا.

قلت: عشرين دانقًا، ومع ذلك فالعبارة صحيحةٌ، والقبح إنما كان من قبل التطويل لا لغرض مع إمكان الاختصار.

وهذا الجواب ذكره القاضي، [ولم]

(4)

يرتضه فقال:

(1)

في ب: يشبه.

(2)

في أ: مختلفين.

(3)

سقط في أ، ب، ح.

(4)

في ب: ولو لم.

ص: 265

‌مَسأَلَةٌ:

الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ جُمَلٍ بِالْوَاوِ:

ولا وجه لمن يقول: إني أسلم استقباح أهل اللُّغة لذلك، غير أنِّي لا أعلم أنه استقباح كراهية واستثقال، أو كراهية لإطراح.

قال: لأنه إذا ثبت استقباحهم له، ثبت أنه ليس من لُغَتهم؛ لأنهم قد وافقونا على أنهم لا يتكلمون بما يستقبح.

قلت: وقد ادَّعى بعضهم الاتفاق على صحَّة: عشرة إلَّا دَانقًا إلى عشرين، ولعلَّ القاضي لا يوافق عليه.

والأحسن في جواب القاضي ما ذكر ابن السَّمعاني من منع الاسْتِقْبَاحِ من أصله.

قال ابنُ السَّمْعاني: وإنما هو استثقال وليس باستقباح.

قلت: وما يشير إليه كلام القاضي من أن الاستثقال استقباح ممنوع، ولئن سلم فلا نسلم منع كلّ استقباح، ثم إن كونه قبيحًا لا يخرجه عن لسان العرب ولا يجعل النَّاطق به كالناطق بما لا يفيد، أو كالصَّامت عن الاستثناء.

والحاصل: أن المانعين من استثناء أكثر الجملة منهم من زعمه خارجًا عن لغة العرب، ومنهم من رآه غير خارج، وإن كان مستقبحًا عند أهلها.

قال المازِريّ: وبالمذهب الأوّل قال ابن حنبل، والشَّافعي في أحد قوليه، والقاضي في آخر أمره.

وبالثاني قال الشّافعيُّ في أحد قوليه، والقاضي أولًا، وابن المَاجِشُون، والقاضي عبد الوهَّاب.

قلت: وقد قلنا: إنه يمكن منع الاسْتِقْبَاح، ثم تسليمه ومنع أنه خارج عن اللُّغة، وهو قضية كلام أصحابنا، ثم تسليم أنه خارج عن اللُّغة رأسًا كما هو رأي القاضي آخرًا، ونقله المَازِريّ قولًا للشافعي كما رأيت، ولا أعرف ذلك.

«مسألة»

الشرح: "الاستثناء" الوارد "بعد جمل" مُتَعَاطفة "بالواو قالت الشافعية"

(1)

: عائد

(1)

ينظر: البرهان 1/ 388، والمستصفى 2/ 174، 180، والمنخول (160)، والمحصول=

ص: 266

قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: لِلْجَمِيعِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ: إِلَى الأَخِيرَةِ.

وَالْقَاضِي وَالْغَزالِيُّ: بِالْوَقْفِ.

وَالشَّرِيفُ: بِالاِشْتِرَاكِ.

"للجميع"، ونسبه ابن القصَّار إلى مالك رحمه الله، "والحنفية إلى الأخيرة"، "والقاضي" بالوقف

(1)

نصّ عليه في "التقريب"، ونص على أن القول بعوده إلى الجميع أولى من التخصيص بالأخيرة.

"و" تبعه "الغزالي" في "الوَقْف"، "والشريف" قال "بالاشتراك".

= 1/ 3/ 63، والمعتمد 1/ 264، والتبصرة (172)، وشرح الكوكب 3/ 313، وإرشاد الفحول (152)، وشرح العضد 2/ 139، وجمع الجوامع 2/ 17، وتيسير التحرير 1/ 302، وفواتح الرحموت 1/ 332، والتلويح 2/ 303، والإحكام للآمدي 2/ 278، وأصول السرخسي 1/ 275، وشرح المنتهى لابن الحاجب (92)، والإبهاج 2/ 162، ونشر البنود 1/ 250، والمسودة (156)، والروضة (134)(135)، والعدة 2/ 678، وفصول البدائع للفناري 2/ 118، وفتح الغفار 2/ 128.

(1)

في حاشية ج: قوله: "بالوقف" أي بمعنى أنه لا يدري أنه حقيقة في أيهما، بخلاف قول الاشتراك، فإنه جازم بأنه متشرك.

ص: 267

أبُو الْحُسَيْنِ: إِنْ تبَيَّنَ الإضْرَابُ عَنِ الْأُولَى، فَلِلأَخِيرَةِ؛ مِثْلُ أَنْ يَخْتَلِفَا نَوْعًا، أَوِ اسْمًا وَلَيْسَ الثَّانِي ضَمِيرَهُ، أَوْ حُكْمًا غَيْرَ مُشْتَرِكَيْنِ فِي غَرَضٍ - وإِلَّا فَلِلْجَمِيع. وَالْمُخْتَارُ: إِنْ ظَهَرَ الاِنْقِطَاعُ؛ فَلِلأَخِيرَةِ، وَالاتِّصَالُ لِلْجَمِيعِ وَإلَّا فَالْوَقْفُ.

الشرح: وقال "أبو الحسين

(1)

: إن تبين الإضراب عن الأولى، فللأخيرة، مثل أن يختلفا نوعًا" بأن تكون إحداهما خبرية، والأخرى إنشائية أو فعلية، والأخرى اسمية، "أو اسمًا وليس الثاني ضميره" أي: وليس الاسم الثاني ضميرًا يعود إلى الاسم في الجملة الأُولى نحو: أكرم بني تميم، وأكرم ربيعة إلَّا الطوال "أو حكمًا" حال كونهما "غير مشتركين في غرض" نحو: أكرم بني تميم، واستأجر ربيعة إلَّا الطوال، "وإلا فللجميع".

"والمختار" عند المصنف "إن ظهر الانقطاع" انقطاع الجملة الأخيرة عن الأُولى بأمارة، "فللأخيرة و "إن ظهر "الاتصال" كان "للجميع، وإلَّا فالوقف".

واعلم أن هذه المسألة من أمهات المسائل، وأصول المذاهب فيها ثلاثة:

العود إلى الجميع، أو الأخيرة فقط، والوقف إما بمعنى لا يدري، وهو رأي القاضي، أو الاشتراك وهو رأي الشريف، وما سوى هذه المذاهب عائد إليها ويحوم عليها.

والقول الوجيز في المسألة الجامع لِشَتَاتِ المذاهب: أنَّ الاستثناء إذا تعقّب مذكورات قبله متعاطفة، فإما أن يقوم دليل على واحد منها من قرينة خارجية، أو كان بحيث لا يصلح إلا له فيختص به، سواء أكان الأخير أم غيره.

وإما ألَّا يقوم، بل كان صالحًا للجميع؛ وهو محلّ الخلاف.

مثال قيام الدَّليل على اختصاص الأولى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ} [سورة البقرة: الآية 249]، وهذا مختص بالأول، ولا يجوز عوده إلى الأخيرة، وإلا يلزم أن يكون "من اغترف" فليس منه، والمعنى على خلاف ذلك؛ فإن المقصود أن من لم يَطْعَمْهُ مطلقًا ومن اغترف منه غرفة على حدّ سواء.

(1)

ينظر مصادر المسألة.

ص: 268

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ونظيره قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [سورة الأحزاب: الآية 52]، فإنه عائد إلى الأولى، ولا يجوز عوده إلى الأخيرة، وإلَّا يلزم أن يكون قد استثنى الإماء من الأزواج.

ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَة الْفِطْرِ"

(1)

؛ فإنه عائد إلى الأول فقط.

وقال عامة أهل التفسير

(2)

في قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [سورة النساء: الآية 83]،: إنه استثناء من قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ

(1)

أخرجه البخاري 3/ 383 كتاب الزكاة: باب ليس على المسلم في عبده صدقة (1464) وأخرجه مسلم 2/ 675 كتاب الزكاة: باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه 8 - 982، 9 - 982.

(2)

اختلف المعربون لهذه الآية على أقوال: أحدها: أنه مستثنى من فاعل "اتَّبعتم" أي: لاتَّبعتم الشيطانَ إلا قليلًا منكم، فإنه لم يَتَّبع الشيطان، على تقديرِ كونِ فَضْل الله لم يأتِه، ويكونُ أراد بالفضل إرسالَ محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك القليل كقسِّ بن ساعدة الإيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، مِمَّن كان على دين المسيح قبل بعثة الرسول. وقيل: المرادُ مَنْ لم يبلغ التكليفَ، وعلى هذا التأويل قيل: فالاستثناء منقطع؛ لأن المستثنى لم يدخل تحت الخطاب، وفيه نظر يظهر في الوجه العاشر.

الثاني: أنه مستثنى من فاعل "أذاعوا" أي: أظهروا أمرَ الأمن أو الخوف إلا قليلًا.

الثالث: أنه مستثنى من فاعل "عَلِمه" أي: لعلمه المستنبطون منهم إلا قليلًا.

الرابع: أنه مستثنى من فاعل "لوجدوا" أي: لوجدوا فيما هو من عند غير الله التناقضَ إلا قليلًا منهم، وهو مَنْ لم يُمْعِن النظرَ، فيظن الباطل حقًّا والمتناقضَ موافقًا.

الخامس: أنه مستثنى من الضمير المجرور في "عليكم"، وتأويلُه كتأويل الوجه الأول.

السادس: أنه مستثنى من فاعل "يستنبطونه" وتأويله كتأويل الوجه الثالث.

السابع: أنه مستثنى من المصدر الدال عليه الفعل، والتقدير: لاتَّبَعْتُمُ الشيطانَ إلا اتباعًا قليلًا، ذكر ذلك الزمخشري.

الثامن: أنه مستثنى من المتَّبع فيه، والتقدير: لاتبعتم الشيطان كلُّكُم إلا قليلًا من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها، فالمعنى: لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا في قليلٍ من الأمور، فإنكم كنتم لا تتبعونه فيها، وعلى هذا فهو استثناء مفرغ، ذكر ذلك ابن عطية، إلا أنّ في =

ص: 269

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ" [سورة النساء: الآية 83] وهذا موضع الاستثناء بقوله: "إلَّا قَلِيلًا".

ومثال قيامه على اشتراك الكلّ قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المائدة: 33] الآية.

فإن الإجماع قائم - كما حكاه ابن السَّمْعَاني - على أن قوله فيها: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [سورة المائدة: الآية 34] عائد على الجميع.

وكذلك قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [سورة آل عمران: الآية 86 - 89].

وكذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [سورة المائدة: الآية 3] وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [سورة الفرقان: الآية 68 - 70] فإنه عائد إلى جميع ما تقدمه.

قال أبو عبد الله السّهيلي: بلا خلاف.

ومثال العود إلى الأخيرة جزمًا دون ما قبلها جزمًا قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [سورة النساء: الآية 92] وهذا راجع إلى أقرب مذكور، وهو الدية دون الكفارة.

= كلامِه مناقشةً وهو أنه قال "أي: لاتبعتم الشيطان كلكم إلا قليلًا من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها" فجعله هنا مستثنى من المتَّبع فيه المحذوف على ما تقدم تقريره، وكان قد تقدَّم أنه مستثنى من الاتِّباع، فتقديرُه يؤدِّي إلَى استثنائِه من المتَّبع فيه، وادعاؤه أنه استثناء من الاتباع، وهما غَيْران.

التاسع: أن المراد بالقلة العدم، يريد: لاتبعتم الشيطان كلكم وعدمَ تخلُّفِ أحدِ منكم، نقله ابن عطية عن جماعة وعن الطبري، ورَدَّه بأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي دخولَها، قال:"وهذا كلامٌ قلق، ولا يشبه ما حكى سيبويه من قولهم: "هذه أرضٌ قَلَّ ما تنبت كذا" أي لا تنبت شيئًا. وهذا الذي قاله صحيح، إلا أنه كان تقدم له في البقرة في قوله تعالى:{وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} أن التقليل هنا بمعنى العدم، وتقدَّم الردُّ عليه هناك، فَتَنبَّهَ لهذا المعنى هنا، ولم يتنبهْ له هناك.

العاشر: أن المخاطبَ بقوله "لاتبعتم" جميعُ الناس على العموم، والمرادُ بالقليلِ أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وأيَّد صاحبُ هذا القولِ قولَه بقوله عليه السلام:"ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالرَّقْمة البيضاء في الحور الأسود".

ص: 270

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومثال العود إلى الأخيرة جزمًا دون الأولى، وفي المتوسطة خلاف آية القَذْف؛ فإن قوله:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} بعد قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: الآية 4] عائد إلى الفاسقين قطعًا غير عائد إلى الجَلْدِ قطعًا، إلا على رأي الشعبي، وهو مذهب شاذ، وقول قديم عندنا، وفي قَبُول الشهادة الخلاف بين الإمامين.

وإذا عرفت أن موضع الخلاف ما إذا أمكن العود إلى الجميع، فاعلم أن المفصِّلينَ وإن تفرقوا شُعُوبًا

(1)

وقبائل، فقد يخيل كل منهم في مكان تفصيله قرينة فتبعها، ولا شك أن من القرائن ما هو ظاهر، فلا ينبغي أن ينازع فيه، ويكون ما أتى به خارجًا عن محل النزاع حيث لا يقوم دليل مخصّص.

ومنها ما لا يظهر فيكون النزاع فيه عائدًا إلى أنه هل هو قرينة أو لا؟.

فإذن الأقوال ثلاثة فقط كما قدمته.

وأما التفاصيل فمنها رأي أبي الحسين ورأي المصنّف، وقد عرفتهما، ويرجع اختيار المصنف إلى الوقف؛ لأن القائل به إنما يقول به عند عدم القَرِينَةِ، ووجه ما اختاره ظاهر، وهو أن الاتصال يجعلها كالواحدة، والانفصال يجعلها كالأجنبية، والإشكال يوجب الشك.

ومنها: رأي إمام الحرمين، وقد قارب فيه مسلك الوَاقِفِيَّة، وحاصله:

أن الجمل المتقدمة إن كانت مناسبة، والغرض فيها كالمتحد نحو: حبست داري على عُمُومتي، ووقفت بُسْتاني على أخوالي، وسَبِلْتُ سِقَايتي لجيراني إلَّا أن يسافروا، فهذا يتوقّف فيه، ولا يظهر اختصاص الأخيرة، ولا اشتراك الكل، وإن اختلفت المقاصد نحو: أكرم العلماء واحبس ديارك على أقاربك وأعتق عبيدك إلا الفَسَقَة منهم، فالظاهرُ منه اختصاص الاستثناء بالأخيرة.

وزعم أن "الواو" في مثل هذا الموضع لاسْتِرْسَالِ الكلام وحسن نَظْمه، ولا يكون للعطف، وأنت تراه في إحدى الحالتين أخرج "الواو" عن كونها عاطفة، وإن ثبت له هذا لم يكن من محل النزاع؛ لأن الكلام في العاطفة، فهو من الواقفية.

(1)

في حاشية ج: قوله: "شعوبًا" الشعب بفتح الشين: الجيل من الناس، وبكسرها الطريق بين الجبلين، لسان.

ص: 271

الشَّافِعِيَّةُ: الْعَطْفُ يُصَيِّرُ الْمُتَعَدِّدَ كَالْمُفْرَدِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذلِكَ فِي الْمُفْرَدَاتِ.

ومنها: رأي ابن السَّمْعَاني، وقد سلك فيه مسلك أصحابنا، وانتقض من الإمام حيث أدَّاه تفصيله إلى العدول عن مذهب الشَّافعي.

وحاصله: أنه إن لم يكن في المذكور أجزاء ما يوجب إضرابًا عن الأول، وصلح رجوع الاستثناء إلى الكُلّ رجع إلى الكُلّ.

قال: ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال: إذا لم يكن الثَّاني خُرُوجًا من قصّة أخرى لا تليق بها عاد إلى الكُلّ، وإن كان اختص بالأخيرة.

ونظيره: اضرب بني تميم، والأشراف هم قريش إلا أهل البلد الفلاني، وهذا لأنه لما عدل عن الأول إلى مثل هذا، وأحدهما لا يليق بالآخر، أو أحدهما قضيّة والآخر قضية أخرى دلّ أنه استوفى غرضه من الأوّل؛ لأنه لا شيء أدلّ على استيفاء الغرض بالكلام من العدول عنه إلى نوع آخر من الكلام، وعلى هذا إذا قال:

من استقامت طريقته فأكرمه، ومن عصاك فاضربه، إلَّا أن يتوب، فالاستثناء ينصرف إلى ما يليه.

وعلى هذا قيل أيضًا: إذا قال: أكرم ربيعة، واضرب بني تميم إلا الطوال منهم، ينصرف إلى ما يليه أيضًا. انتهى.

والحاصلُ أنه إن صلح العود إلى الكُلّ عاد إلى الكل، والكلام إنما هو حيث صلح.

الشرح: واحتجت "الشَّافعية" لمذهبهم بدليل، قال ابن السَّمْعَاني: وربما نسبوه إلى الشافعي فقالوا:

"العطف يصير المتعدّد كالمنفرد"، ويجري الجمل مجرى الجملة الواحدة، وواو العطف في الأسماء المختلفة تجري مجرى واو الجمع في الأسماء المتماثلة.

فإن قولك: رأيت زيدًا الطويل، وزيدًا القصير، وزيدًا الأعمى بمثابة: رأيت الزيدين في الإفادة مع تعدد الأول ووحدة الثاني، وكذا لا فرق عند أهل اللغة بين قولهم: أكرم العرب إلا الطوال، وقولهم: أكرم مضر وربيعة وقَحْطان إلَّا الطوال منهم، وإذا صار الجمع كالجملة الواحدة انصرف الاستثناء إلى الكلِّ.

ص: 272

قَالُوا: لَوْ قَالَ: "وَالله، لا أكَلْت، وَلا شَرِبْت، وَلا ضَرَبْتُ؛ إنْ شَاءَ اللهُ" عَادَ إِلَى الْجَمِيعِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ شَرْطٌ، فَإِنْ أُلْحِقَ بِهِ فَقِيَاسٌ، وَإنْ سُلِّمَ، فَالْفَرْقُ: أَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّرٌ تَقْدِيمُه، وَإنْ سُلِّمَ؛ فَلِقَرِينَةِ الاتِّصَالِ، وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى الْجَمِيعِ.

"وأجيب: بأن ذلك" أي: جعل المتعدّد كالمنفرد، وإنما هو "في المفردات" لا في الجمل، وهذا الجواب لم يذكره الآمدي.

وإنما المصنّف أخذه من إمام الحرمين؛ فإنه قال: إنما يجري ذلك في الأفراد التي لا تستقلّ بنفسها، وليست جملًا مقصودةً بانفرادها كقول القائل: رأيت زيدًا وعمرًا.

فأما إذا اشتمل الكلام على جمل وكلّ جملة لو قدر السّكوت عليها لاستقلت بالإفادة، فكيف يتخيّل اقتضاء "الواو" التشريك فيها، ولكل جملة معناها الخاص بها، وقد يكون بعضها نفيًا وبعضها إثباتًا؟! انتهى.

ويظهر منه أنه قصد بـ "المفردات" أن يكون كلّ من المعطوفات لا يستقل بنفسه، ولو قدر السكوت عليه لم يفد مثل: أكرم الفقهاء والنحاة والأصوليين إلَّا أن يفسقوا؛ فإن "الأصوليين" لا يستقلّ بنفسه، بخلاف: أكرم الفقهاء، وأكرم النُّحاة، وأكرم الأصوليين، فإن قوله: وأكرم الأصوليين مفيد لو قدر السكوت عليه لا يستقل بالإفادة.

ومقتضى هذا الجَوَاب أن المفردات يرجع الاستثناء فيها إلى الجميع بالاتفاق، وإلَّا فلو كانت من محلّ النزاع لم يتأت له ما ذكره.

الشرح: "قالوا" ثانيًا؟ "لو قال: والله لا أكلت، ولا شربت، ولا ضربت إن شاء الله، عاد إلى الجميع"، وقد حكى القاضى في "التقريب" وغيره الاتفاق على ذلك.

"وأجيب" أولًا: بأن ما ذكرتم مما ينازع فيه الخَصْم. ذكره القاضي أيضًا.

وثانيًا: "بأنه شرط" لا استثناء، "فإن ألحق" الاستثناء "به" بجامع أنه تخصيص متصل "فقياس" في اللغة؛ وهو باطل.

"وإن سلم" صحّة القياس في اللغة، "فالفرق أن الشرط"، وإن تأخر لفظًا فهو "مقدر تقديمه"، وله صدر الكلام.

"وإن سلم" استواء الشرط والاستثناء، وهو التحقيق كما سيقوله إن شاء الله تعالى؛

ص: 273

قَالُوا: لَوْ كُرِّرَ، لَكَانَ مُسْتَهْجَنًا.

قُلْنَا: عِنْدَ قَرِينَةِ الاِتِّصَالِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلِلطُّولِ، مَعَ إِمْكَانِ "إِلَّا كَذَا" مِنَ الْجَمِيعِ.

قَالُوا: صَالِحٌ؛ فَالْبَعْضُ تَحَكُّمٌ كَالْعَامِّ.

قُلْنَا: صَلاحِيَّتُهُ لا تُوجِبُ ظُهُورَهُ فِيهِ؛ كَالْجَمْعِ الْمُنكَّرِ.

قَالُوا: لَوْ قَالَ: "لَهُ عَلَيَّ خَمْسَةٌ وَخَمْسَةٌ إِلَّا سِتَّةً" - كَانَ لِلْجَمِيعِ.

قُلْنَا: مُفْرَدَاتٌ.

وَأَيْضًا: فَلِلاسْتِقَامَةِ.

"فلقرينة الاتصال" بين الجمل، "وهو اليمين على الجميع"، وذلك مما يقول به، إنما النزاع حيث لا قرينة.

الشرح: "قالوا" ثالثًا: "لو كرر" الاستثناء في كلّ جملة قبل الأخرى، فقال: اضرب من سَرَقَ إلا زيدًا، ومن زَنَا إلَّا زيدًا، ومن قَتَل إلَّا زيدًا "لكان مستهجنًا"؛ فدلَّ على أن الاستثناء بَعْدُ للجميع؛ لتعيّنه طريقًا.

"قلنا": إنما يستهجن "عند قرينة الاتصال".

أما عند عدمها فلا، "وإن سلم" الاستهجان مطلقًا، "فللطول مع إمكان" الاختصار بأن يقول:"إلَّا كذا من الجميع"، فيصرّح بالعود إلى الكل.

"قالوا" رابعًا: هو "صالح" للجميع إذ ذلك هو الغرض، "فالبعض" إذا خصص بأنه الذي يعود إليه "تحكم، كالعام" لو خصّ بِفَرْدٍ كان تحكّمًا.

"قلنا: صلاحيته" للكل "لا توجب ظهوره فيه، كالجمع المنكر" مثل رجال، فإنه صالح للجميع، وليس بظاهر فيه، ولا في شيء مما يصلح له من مراتب الجمع.

"قالوا" خامسًا: "لو قال: على خمسة وخمسة إلَّا ستة، كان للجميع" اتفاقًا، فكذا في غيره من الصور دفعًا للاشتراك والمجاز.

"قلنا": ليس محل النزاع؛ لأن النزاع في الجمل، وهذه "مفردات.

وأيضًا"؛ فلأن النزاع إنما هو فيما يصلح للجميع وللأخيرة، وهذا ليس منه، فإنه إنما يصلح للجميع "للاستقامة"، إذ لو قيل بعوده إلى كُلّ واحد على حدته كان مستغرقًا، أو نقول: هذه قرينة أوجبت عوده إلى الجميع، والنزاع حيث لا قرينة.

ص: 274

الْمُخَصِّصُ: آيَةُ الْقَذْفِ؛ لَمْ تَرْجِعْ إِلَى الْجَلْدِ اتِّفَاقًا.

قُلْنَا: لِدَلِيلٍ، وَهُوَ حَقُّ الآدَمِيِّ؛ وَلذلِكَ عَادَ إِلَى غَيْرِهِ.

قَالُوا: "عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا اثْنَيْنِ"- لِلأَخِيرِ.

قُلْنَا: أَيْنَ الْعَطْفُ؟!

وَأَيْضًا: مُفْرَدَاتٌ.

وَأَيْضًا: لِلتَّعَذُّرِ؛ فكَانَ الأقْرَبُ أَوْلَى؛ وَلَوْ تَعَذَّرَ، تَعَيَّنَ الأوَّلُ؛ مِثْلُ:"عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا اثْنَيْنِ إِلَّا اثْنَيْنِ".

الشرح: وقال: "المخصّص" للاستثناء بالجملة الأخيرة: "آية القذف" دالَّة على المطلوب؛ فإن الاستثناء فيها "لم يرجع إلى الجَلْد اتفاقًا" أي بين الإمامين أبي حنيفة، والشافعي في الجديد، وإلَّا فللشافعي قول قديم مخالف، وعليه بعض أصحابنا، وهو مذهب الشعبي.

"قلنا" أولًا: معارض بآية قُطَّاع الطريق.

وثانيًا: لا يلزم من ظهوره لجميع العود إليه دائمًا، بل قد يصرف عنه "لدليل، وهو" هنا "حقّ الآدمي"؛ إذ الجلد حقّه، وحقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة، "ولذلك عاد إلى غيره" لما لم يَقُمِ المانع به، وهو قبول الشهادة عند علمائنا، فعلم أنه لو لم يصدّنا الدليل عن الأولى لا نسحبنا على التعميم.

"قالوا" ثانيًا: لو قال: له "عليّ عشرة إلا أربعة إلا اثنين" عاد قوله: إلَّا اثنين، "للأخير" وهو الأربعة، فيفيد استثناء الاثنين من الأربعة حتى يلزم ثمانية.

"قلنا": الكلام حيث العطف و"أين العطف؟! ".

وأيضًا: فإن المستثنى منه هنا "مفردات"، والنزاع في الجمل، وفي هذا نظر؛

فإن العودَ إلى الكلِّ في المفردات أولى من الجمل.

"وأيضًا" فإنما عاد الاستثناء هنا إلى الأخيرة "للتعذُّر" تعذّر عوده إلى الجميع؛ إذ لو عاد إلى العشرة والأربعة لزم التناقض، ولو عاد إلى العشرة وحدها لعاد إلى الأبعد مع صحة العود إلى الأقرب، "وكان الأقرب أولى" بالعود إليه، "ولو تعذّر" العود إلى الأقرب "تعيّن" عَوْدُهُ "للأول" وحده "مثل: عشرة إلاّ اثنين إلَّا اثنين" فإنه يعود إلى الأول"

ص: 275

قَالُوا: الثَّانِيَةُ حَائِلَةٌ كَالسُّكُوتِ.

قُلْنَا: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْجَمِيعُ بِمَثَابَةِ الْجُمْلَةِ.

قَالُوا: حُكْمُ الأولَى يَقِينٌ، وَالرَّفْعُ مَشْكُوكٌ.

قُلْنَا: لا يَقِينَ مَعَ الْجَوَازِ لِلْجَمِيعِ.

وَأَيْضًا: فَالْأَخيرَةُ كَذَلِكَ؛ لِلْجَوَازِ بدلِيلٍ.

قَالُوا: إِنَّمَا يَرْجِعُ؛ لِعَدَمِ اسْتِقلالِهِ؛ فَيَتَقَيَّدُ بِالأقَلِّ، وَمَا يَلِيهِ هُوَ الْمُتَحَقَّقُ.

قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَضْعُهُ لِلْجَمِيعِ؛ كمَا لَوْ قَامَ دَلِيلٌ.

لاستحالة اسثتناء اثنين من الاثنين؛ لأن أصحابنا قالوا فيما لو قال لها: ثلاثًا اثنتين إلا اثنتين، يقع واحد، ويلغو الاستثناء الثاني.

ويمكن أن يجاب بأن إلغاء الثاني هنا إنما كان لتعذّر عوده من الأولين.

أما الاستثناء فواضحٌ؛ لاستغراقه.

وأما المستثنى منه؛ فلأنه لم يَبْقَ منه إلا واحد، واستثناء اثنين منها يستغرقها، ولا كذلك في العشرة إلا اثنين إلا اثنين، فإنّ الاستثناءين إذا عادا إلى المستثنى منه لم يُلْغَ؛ لعدم الاستغراق.

الشرح: "قالوا" ثالثًا: الجملة "الثانية حائلة" بين الاستثناء والأولى، فيكون ذلك مانعًا من عوده إليها "كالسكوت".

"قلنا": إنما يكون كذلك "لو لم يكن الجميع بمثابة الجملة".

أما إذا كان الجميع بمثابة الجملة الواحدة كما هو الواقع فلا.

"قالوا" رابعًا: "حكم الأوّل أيقين"

(1)

، والرفع مشكوك"؛ لجواز كونه للأخيرة فقط، [واليقين]

(2)

لا يزال بالشك، فلا يعود إلى ما قبل الأخيرة، وهذا عندي أوجه شُبَهِهِمْ.

(1)

في أ، ج: تعيّن.

(2)

في أ، ج: والتعيين.

ص: 276

الْقَائِلُ بِالاِشْتِرَاكِ: حَسَّنَ الاسْتِفْهَامَ.

"قلنا": لا نسلّم ثبوت حكم الجملة الأولى يقينًا؛ "لا يقين مع الجواز" جواز كون الاستثناء "للجميع.

وأيضًا: فالأخيرة كذلك" فإن حكمها كالأولى.

فإن كانت الأولى يقينية، فهي أيضًا يقينية، والرفع مشكوك "للجواز" جواز العود إلى الأولى دونها "بدليل" كما في:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [سورة البقرة: الاية 249] وفي: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [سورة الأحزاب: الاية 52].

ولهم أن يقولوا: ليس مرادنا باليقين إلا ما يريده الفقهاء حيث يقولون: اليقين لا يرفع بالشك، وهو استصحاب الأَصل لا القطع.

وقولكم: "الأخيرة كذلك" فيه نظر؛ فإنها أولى من الأولى بلا رَيْبٍ، غاية الأمر أنها قد تتعذّر، فينتقل إلى الأولى.

"قالوا" خامسًا: "إنما يرجع" الاستثناء إلى ما قبله "لعدم استقلاله، فيتقيّد بالأقل"؛ لأن ما وجب للضرورة يقدر بقدرها، ويكفى في ذلك العود إلى جملة واحدة، "وما يليه هو المحقق"، فيحمل عليه دون غيره.

وإن شئت قلت:

الأصل عدم الاستثناء، خالفناه في الأخيرة للدَّليل، ففيما عداها على أصل، وهو كالذي قبله.

"قلنا": لا نسلّم أنه يرجع من أجل الضرورة، بل "يجوز أن يكون وضعه للجميع" فلا يتقيد بالأخيرة "كما لو قام دليل" على عوده إلى الكُلّ، فإنه يعتبر إجماعًا، ومع جواز وضعه للجميع لا يتمّ، ويمكن أن يجاب بما يندفع به هذا والذي قبله، فيقال: ليس المستثنى مع المستثنى منه إلا جملة واحدة.

أما على رأي القاضي القائل بأنه كالاسم المركب، فواضح.

وأما عند المصنف؛ فلأن الإسناد بعد الإخراج، فليس فيه رفع لشيء ثبت، ولا مخالفة للأصل.

الشرح: وقال "القائل بالاشتراك" وهو الشريف: "حسن الاستفهام" عن الاستثناء هل هو راجع إلى الجميع، أو إلى البعض؟

ص: 277

قُلْنَا: لِلْجَهْلِ بِحَقِيقَتِهِ أَوْ لِرَفْعِ الاِحْتِمَالِ.

قَالُوا: صَحَّ الإِطْلاق، وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ.

فُلْنَا: وَالْأَصْلُ عَدَمُ الاشْتِرَاكِ.

دليله "قلنا": جاز أن يكون حسن الاستفهام "للجهل بحقيقته، أو "على تقدير تسليم أن المستقيم عارف بحقيقته، قد يكون الاستفهام "لرفع الاحتمال" وحصول اليقين.

"قالوا" ثانيًا: "صَحّ الإطلاق" للكل، وللأخيرة فقط، "والأصل" في الإطلاق "الحقيقة".

"قلنا: والأصل" أيضًا "عدم الاشتراك" وقد مَرّ أن المجاز أولى منه.

وهذه تنبيهات:

الأوّل: قد قيد صاحب الكتاب المسألة بالجمل المُتَعَاطفة بالواو، فأما الجمل، فقيد ذكره الأكثرون، ولا يكاد يخفى عليك مما مَرّ أن المفردات كذلك، أو أولى بالعود إلى الجميع.

وفي كلام المصنف السابق [ما يؤخذ]

(1)

منه الاتفاق في المفردات.

وأما العطف فلا بد منه، وممن صرح بذكره القاضي في "التقريب"، والقاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق، وابن السَّمعاني، والسُّهيلي أبو عبد الله، وأبو نصر القُشَيري، والامدي، والقرطبي

(2)

، وابن السَّاعاتي

(3)

، والشيخ الهندي.

(1)

في أ: ما يوجد.

(2)

أحمد بن عمر بن إبراهيم، أبو العباس الأنصاري القرطبي، ولد سنة 578 هـ بـ "قرطبة" فقيه مالكي، من رجال الحديث، يعرف بـ "ابن المزين". كان مدرسًا بالإسكندرية. من كتبه:"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" و "اختصار صحيح البخاري" و"مختصر الصحيحين". وتوفي بـ "الاسكندرية" سنة 656 هـ.

ينظر: البداية والنهاية 13/ 213، ونفح الطيب 2/ 643، والأعلام 1/ 186.

(3)

أحمد بن علي بن تغلب (أو ثعلب)، مظفر الدين، ابن الساعاتي. عالم بفقه الحنفية، ولد في "بعلبك" وانتقل مع أبيه إلى"بغداد" فنشأ بها، وتولى تدريس الحنفية. قال اليافعي: كان ممن يضرب به المثل في الذكاء والفصاحة وحسن الخطّ. من مصنفاته: "مجمع البحرين وملتقى النيرين" و "شرح مجمع البحرين" و"نهاية الوصول إلى علم الأصول" وغيرها. وكان أبوه =

ص: 278

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومن لم يصرح بذكر اشتراطه كالمَاوَردِي في "الحاوي"، وإمام الحرمين في

"البرهان"، وابن الصباغ في "العدة"، والغزالي، [والمازري]

(1)

، والإمام الرازي وأتباعه، والشيخ الموفق بن قدامة الحنبلي

(2)

، فأمره محمول على أنه سكت عن ذلك لوضوحه، ودلائلهم ترشد إلى أن مرادهم حالة العطف، وكذلك ما يوردون من المثل، فتأمل كلامهم، واحمل المطلق على المقيد ولا تَغْتَرَّ بما فهمه أبو العباس القَرَافي من جريان الخلاف وإن لم يكن ثَمَّ عطف، فذلك شيء حمله عليه إطلاق الإمام الرازي، وليس بجيّد؛ فإنه إذا لم يكن عطف لا يكون بين الجملتين ارتباط.

قال أبي تَغَمَّده الله برحمته: نعم ذكر البيانيون أن ترك العَطْف قد يكون لكمال الارتباط، فإذا كان في مثل ذلك، فلا يبعد مجيء الخلاف فيه.

قلت: بل قد يقال: العود فيه إلى الجميع أولى؛ لأنه إنما ترك العطف لكمال الارتباط، فليقع الاشتراك في الحكم لذلك، والكلام فيما وراء هذه الحالة لندورها. وأما كون العطف بالواو، وهو ما ذكره إمام الحرمين في تَدْريسه في أصول الفقه، ونقله عنه الرَّافعي في باب الوَقْف بعد أن ذكر أن أصحابنا أطلقوا العطف فقال: رأى الإمام تقييده بقيدين:

أحدهما: أن يكون العطف بالواو الجامعة، فإن كان بـ "ثم" اختص بالأخيرة.

= ساعاتيًا. وتوفي سنة 678 هـ. ينظر: كشف الظنون 1600، ومرآة الجنان 4/ 227، والأعلام 1/ 175.

(1)

في أ، ج: الماوردي.

(2)

عبد الله بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، أبو محمد، موفق الدين: فقيه، من أكابر الحنابلة، له تصانيف، منها "المغنى" شرح به مختصر الخرقي في الفقه، "وروضة الناظر" في أصول الفقه، وله مؤلفات كثيرة. ولد في جماعيل (من قرى نابلس بفلسطين) وتعلَّم في دمشق، ورحل إلى بغداد سنة 561 هـ، فأقام نحو أربع سنين، وعاد إلى دمشق. ولد سنة 541 هـ وتوفي سنة 625 هـ.

انظر: مختصر طبقات الحنابلة 45، والبداية والنهاية 13/ 99، والأعلام 4/ 67، وشذرات الذهب 5/ 88.

ص: 279

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثاني: ألَّا يتخيل بين الجُمْلتين كلام طويل، وعليه جرى الآمدي، وتبعه المصنف وابن السَّاعاتي.

والصواب: أن "الفاء" و"ثم" و"حتى" مثل "الواو "في ذلك، وقد صَرَّح القاضي في "التقريب" بـ "الفاء" وغيرها فقال: وهذه سبيل جمل عطف بعضها على بعض بأي حروف العطف عطفت من "فاء" و"واو" وغيرهما، انتهى.

والإمام في "البرهان"

(1)

مثَّلَ بما إذا قال: وَقَفْتُ داري على بني فلان، ثم على بني فلان، وعَدّ طوائف، ومَيَّز بعضهم من بعض ذِكْرًا، ثم قال عند الطَّائفة الأخيرة: إلَّا أن يفسق منهم فاسق.

فانظره كيف أتى بـ "ثُمّ" في المثال.

وأبو نصر القُشَيري قال: أما إذا اشتمل الكلام على جملة منقطعة تنبئ كل واحدة عما لا تنبئ [عنه]

(2)

أخواتها، ولكنها جمعت بحرف من حروف العطف جامع في مقتضى الوضع، ثم تعقب باستثناء، وهذا محل الخلاف.

فانظره أيضًا: كيف لم يخص "الواو".

فالصواب: أنه لا فرق.

وأما العطف بـ "لَكِنْ" أَو بـ "بل" أو بـ "أو" أو بـ "حتى" فظاهر إطلاق القاضي وغيره أنه كذلك، ويشهد للعطف بـ "أو" آية المُحَاربة، وقد مثل بها الجماهير.

وذكر القَرَافي أن "حتى" كـ "الواو"، وتردد في "بل" و"لا" و"لكن" مثل: جاء القوم لا النساء، وما جاء القوم بل النساء أو لكن النساء، من قبل أنهما لم يَنْدَرِجَا في حكم واحد.

قال: ويحتمل أن يقال: يعود عليهما؛ لكونهما جميعًا محكومًا عليهما وإن كان إحداهما بالنفي والأخرى بالثبوت، قال: وأما "أم" فهي لأحد الشيئين لا بعينه، فالمحكوم عليه فيها، ولم يتعرض للآخر بالنفي. ولا بالثبوت، فلا يتأتى فيه الاحتمال الذي في "بل"

(1)

ينظر: البرهان 1/ 389.

(2)

في ب: عليها.

ص: 280

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وما معها، بل يتعين في هذه ألَّا يندرج الجمل، [فهذه]

(1)

الثلاثة في صورة النزاع قطعًا، بخلاف "بل" و"لا" و"لكن"؛ فإنها لأحد الشيئين بعينه.

إذا عرفت هذا: علمت أن تقييد المصنّف كلامه بالعطف حق.

وأما خصوص "الواو" فليس بجيد، وإن سبقه إليه إمام الحرمين.

وأما اشتراط كون ما تقدم جملًا فقد يكون؛ لأن المفردات يعود الاستثناء بعدها على الجميع بلا خلاف، وهو قضية كلامه في أثناء الحِجَاجِ كما سبق.

وأصحابنا في الفقهيات لم يخصوا الجمل، وكذلك النحاة فإنهم قالوا: إذا عقب الاستثناء معمولات والعامل فيها واحد نحو: اهْجُرْ بني فلان إلَّا من صلح وبنى فلان إلَّا من صلح، كان راجعًا إلى تلك المعمولات.

وكذا لو تكرر العامل توكيدًا نحو: اهْجُرْ بني فلان، واهْجُرْ بني فلان إلَّا من صلح، فإن اختلف العامل والمعمول واحد كقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [سورة المائدة: الآية 34] فقال ابن مالك: الحكم كالحكم فيما إذا اتَّحد العامل.

وقال المهاباذي

(2)

: لا يكون الاستثناء إلا من الجملة التي تليه، والشافعي أعرف باللغة من المهاباذي.

الثاني: عرفت نقل الأكثرين عن الشَّافعي أن الاستثناء يعود إلى الجميع عند الصلاحية.

قال القاضي أبو الطيب: وما وجدت من كلامه ما يدل عليه إلَّا أنه قال في كتاب "الشاهد واليمين": إذا تاب القَاذِفُ قُبِلَت شهادته، وذلك بَيِّنٌ في كتاب الله عز وجل، وهذا يدل على أنه رد الاستثناء إلى الفسغ، ورد الشهادة.

(1)

في أ، ج: بهذه.

(2)

أحمد بن عبد الله المهاباذي. نحوي من تلاميذ عبد القاهر الجرجاني، نسبته إلى"مهاباذ" قرية بين "قم" و"أصبهان". كان ضريرًا. من مصنفاته:"شرح اللمع لابن جني". توفي سنة 471 هـ أو بعدها.

ينظر: كشف الظنون (1563)، ومعجم البلدان 8/ 204، والأعلام 1/ 158.

ص: 281

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد استدلّ أبو إسحاق وغيره من أصحابنا على قبول شهادته بعموم الاستثناء، فإنه راجع إلى الجميع. انتهى.

وقال الرافعي في "الإقرار": ومهما كان في الاستثناء أو المستثنى منه عددان معطوف أحدهما على الآخر، ففي الجمع بينهما وَجْهان:

أصحهما، ويحكى عن نصّه في الطلاق، وبه أجاب ابن الحَدَّاد، والأكثرون - أنه لا يجمع؛ لأن "الواو "العاطفة وإن اقتضت الجمع لكنها لا تخرج الكلام عن كونه ذا جُمْلتين من جهة اللَّفْظ، والاستثناء يدور على اللفظ.

مثاله: إذا قال: عليَّ دِرْهَمَان ودرهم إلَّا درهمًا [إن لم يجمع لزم الثلاثة؛ لأنه استثنى درهمًا من درهم]

(1)

، وإن جمعنا لزمه درهمان، وكان الاستثناء من ثلاثة. هذا كلام الرافعي.

وأنت تراه كيف جعل نصّ الشَّافعي وقول الأكثرين أن الاستثناء يرجع إلى الأخيرة فقط، ولهذا قال: إنه استثنى درهمًا من درهم، وأعاده في كتاب "الطلاق" فقال: ولو عطف بعض العددين على بعض إما في المستثنى منه، أو في المستثنى، أو كليهما، فوجهان في أنه هل يجمع بينهما؟

أحدهما: يجمع؛ لأنه لو قال: علي درهم ودرهم، يلزمه درهمان، كما لو قال: عليّ درهمان.

وأصحّهما: المنع، وبه أجاب ابن الحَدَّاد؛ لأن الجملتين المعطوفتين يفردان بالحُكْم.

وإن كان "الواو" للجمع؛ ألا ترى أنه لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق، لا يقع إلا واحدة، ولا ينزل منزلة ما لو قال: أنت طالق طلقتين، ثم قال بعد ذلك: أنت طالق وطالق، لا يقع إلّا واحدة، ولا ينزله منزلة ما لو قال: أنت طالق طلقتين، ثم قال بعد ذلك: لو قال: أنت طالق ثلاثًا وثلاثًا

(2)

إن شاء الله، أو ثلاثًا وواحدة إن شاء الله، أو واحدة وثلاثًا إن شاء الله.

قال ابن الضَّبَّاغ: الذي يقتضيه المذهب أنه لا يقع شيء، وتبعه المُتَوَلِّي عليه.

(1)

سقط في ج.

(2)

في ب: وثلثا.

ص: 282

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والوجه بناؤه على الخلاف السابق في أن الاستثناء بعد الجملتين ينصرف إليهما، أو إلى الأخيرة، وكذلك أورده الإمام.

وقد ذكرنا أنَّ الظاهر الانصراف إلى الأخيرة وحدها، ويوافق هذا البناء ما ذكره في "التهذيب" أنه لو قال: حَفْصَة وعَمْرة طالقتان إن شاء الله، فيرجع الاستثناء إلى عمرة وحدها، أو إليهما جميعًا؟

والأصح: الأول.

ولو قال: أنت طالق واحدة واثنتين إن شاء الله، ففي "النهاية" تخريجه على الوجهين: إن جمعنا المفرق لم يقع شيء، وإن لم نجمع وقعت واحدة.

وعن رواية الشيخ أبي محمد عن القَفَّال أنه لو قال: أنت طالق واحدة ثلاثًا إن شاء الله من غير "واو" لم يقع شيء.

ولو قال: أنت طالق ثلاثًا ثلاثًا إن شاء الله، فكذلك، وفي معناه ما لو قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق إن شاء الله، وقصد التأكيد. انتهى.

وظاهره أن المرجح عنده عود الاستثناء إلى الأخيرة فقط، وأنه حكى خِلافًا سابقًا في ذلك، وخصّص اختصاص الأخيرة، وهو لم يحك في كتاب "الوَقْف" خلافًا في الاستثناء المتعقب، فضلًا عن أن يرجح مقابله.

قال أبي رحمه الله: والذي قاله ابن الصَّبَّاغ هو الذي يظهر.

قال: وقول الرافعي: "والوجه إلى آخره" قد يظن أنه معارض لما قاله في الوَقْفِ من عود الاستثناء إلى جميع الجمل المتقدّمة، وليس كذلك؛ لأنه إنما أشار به إلى ما قدّمه على هذا الكلام من أنه إذا عطف بعض العدد على بعض المسألة.

قلت: وهذا وإن كان ظاهر كلام الرافعي خلافه إلّا أنه يدّعو إليه ضرورة تصحيح كلام الرافعي، ويمكن أن يقال: أشار به إلى الوجهين اللَّذين حكاهما من قبل فيما إذا قال: أنت طالق واحدة، بل ثلاثًا إن دخلت الدار:

أحدهما - وبه قال ابن الحَداد، وهو الأصح -: إنه يقع واحدة بقوله: أنت طالق، ويتعلق طَلْقَتَانِ بدخول الدار؛ ردًّا للشرط إلى ما يليه خاصة، وهو قوله: بل ثلاثًا.

ص: 283

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثاني: أن الثلاث تتعلّق بالدخول، لكن هذا إنما يتم لو كانت "بل" مثل الواو، وقد قدمنا ما في ذلك.

والأظهر: أنها ليست كـ"الواو"؛ فإنها للإضراب، فلذلك كان الأصحّ تخصيص الشرط بالأخيرة، بخلاف "الواو" المشركة، فليكن الأمر على ما ذكره الشَّيخ الإمام من أن الرافعي أشار إلى الخلاف في عطف العَدَدِ على العدد.

ثم قال الشَّيخ الإمام: وينبغي أن يكون الضَّابط في جَرَيَانِ الوجهين أن يكون الاستثناء لا يمكن عوده إلى كلّ منهما، فيجري الوجهان، هل يجمع بين المعطوفين ليصح العود إليهما أولا؟

فلو أمكن عود الاستثناء إليهما، وإلى كل منهما فهي مسألتنا هنا.

ومذهب الشَّافعي العود إلى الجميع.

والذي قاله ابن الصَّبَّاغ قياس المذهب؛ لأن المشيئة يصح عودها إلى كل منهما بخلاف: عليَّ درهم ودرهم إلا درهمان.

و"مسألة الوقف" لم يذكر الرافعي فيها خلافًا إلَّا ما حكاه عن الإمام من القَيْدَيْن، وليسا ولا واحد منهما في هذه الصورة التي قالها ابن الصَّبَّاغ، فمن أين يأتي فيه خلاف؟

قلت: ما ذكر من أنه ينبغي أن يكون ضابط الوجهين لو تَمَّ كان حسنًا، وتكون المسألة الأصولية في عود الاستثناء إلى الجمل السابقة التي لكلّ منها صلاحية عود الاستثناء إليها، ومسألة العدد في الاستثناء التي لا يمكن عوده إلى كل منها، وهذا لا يتم؛ فإن الشيخ الإمام إن أراد بقوله:"إن شرط مسألة العدد ألَّا يمكن عود الاستثناء إلى كل منهما" الكلي المجموعي، فلا شك في إمكان عود الاستثناء إليه حتى في قوله: عليّ درهم ودرهم إلا درهمًا؛ إذ هي بمنزلة: عليَّ درهمًا، وهو لم يرد هذا، ولا يعبر عن"الكلي المجموعي" بكل منهما.

وإن أراد إمكان العود إلى كلٍّ على حدته، فهو أيضًا ممكن أن يعود على الأول في قولنا: عليّ درهمان ودرهم إلَّا درهمًا بصحّة استثناء درهم من درهمين مع أن فيه خلاف العدد بعينه.

فإن قال الشيخ الإمام هنا: لا يمكن عوده إلى كُلٍّ منهما.

ص: 284

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أما درهم؛ فللاستغراق، وأما درهمان؛ فلأنها سابقة على درهم لفظًا، فلو تَخَطَّاها الاستثناء لعاد إلى الأبعد دون الأقرب، وهو مذهب لم يقل به أحد.

قلنا أولًا: الاستثناء إذا صادف قبله معطوفات، فهو يعود إلى ما يناسبه منها، فإن لم يناسب إلا الأبعد اختص به كما ذكرناه في:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [سورة البقرة: الآية 249] وأمثاله، فلا علينا من عدم إمكان العود إلى الأخير؛ لقيام المانع فيه.

وأيضًا: فالخلاف جار فيمن قال: عليّ درهم ودرهمان جريانه في عكسه سواء؛ إذ لا فرق في مسألة العدد بين قولك: درهم ودرهم إِلّا درهمًا، ودرهم ودرهمان إِلَّا درهمًا، ودرهمان ودرهم إِلَّا درهمًا، وهذا يلفت على أصل، وهو إن قلنا في المسألة الأصولية بعود الاستثناء إلى جميع الجمل معناه العود إلى كلّ واحدة منها بمفردها، وسنحكى فيه خلافًا عن المَاوَرْدِيِّ.

ومن قال بأن معناه العَود إلى المجموع، وهو أولى بأن يجعله ممكن العود إليها حتى في قولك: درهم ودرهم إلّا درهمًا.

ثم قال الشيخ الإمام: وقول الرافعي: يوافق هذا البناء ما ذكره صاحب "التهذيب" إلى آخره، فليس ما قاله صاحب "التهذيب" مُسَلَّمًا له، والوَجْه الرجوع إلى حَفْصة وعمرة جميعًا؛ لأن هذه جملة واحدة تعدّد فيها المبتدأ بالعطف، وقوله: طالقان حكم واحد عليهما، والاستثناء منه، فلا وجه لعوده إلى الأخيرة.

ونظير مسألتنا أن يقول: طلقت حفصة وعمرة إن شاء الله، ومقتضى المذهب أنه لا يقع شيء؛ لأن المشيئة يمكن رجوعها لكل منهما، فإجراء الخلاف الذي ذكره صاحب "التهذيب" غير سديد.

والفرقُ بين الصورتين: أن قوله: طلقت حفصة وعمرة، وإن كان من عطف المفردات، فيحتمل أن يجعل من عطف الجمل، والمعنى على ذلك: فيمكن أن يقال على مذهب أبي حنيفة بالرجوع إلى الأخيرة وَحْدها، بخلاف قوله: حفصة وعمرة طالقان إن شاء الله؛ إذ هي جملة واحدة من كل واحدة، وليس شيء من نظائر ما يجري فيه الخلاف بيننا وبين الحنفية يشبهها، فلا خِلافَ فيها في مذهب الشافعي فَضْلًا عن أن يقال: إن الأصح العود إلى الأخيرة وحدها.

ص: 285

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد بان بهذا أن ما ادّعاه الرافعي من موافقة هذه الصورة للبناء المذكور ممنوع.

قلت: اعلم أن ما نقله الرافعي عن "التهذيب" وقع على وجه الغَلَطِ من الناسخين؛ فالذي في "التهذيب": أنه لو قال: حَفْصة وعمرة طالقان إن شاء الله، لا تطلق واحدة منهما.

ولو قال: حفصة طالق وعمرة طالق إن شاء الله، طلّقت حفصة، ولا تطلق عمرة؛ لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه.

وقيل: إليهما، والأول أصح. انتهى.

وقياس المذهب: العود إليهما، وقول الرافعي: وكذلك أورده الإمام. مراده أصل الخلاف لا البناء.

وعبارة الإمام: ولو قال: أنت طالق واحدة وثلاثًا - بـ "الواو" العاطفة - إن شاء الله ففي المسألة وجهان:

أحدهما: أن الاستثناء يرجع إلى الجميع، وإن عطفت فلا مزيد على الثلاث. فإذا تعلقت الثلاث بالمشيئة لم يقع شيء.

والوجه الثاني: أن الطلقة الأولى تقع، و"الواو" فاصلة -. انتهى.

ذكره قبيل باب "طلاق المريض".

وأما قول الشيخ الإمام: لا خلاف في مذهب الشافعي أن الاستثناء يعود إلى الجميع فقد ينازع فيه قولي الرّافعي في أول كتاب "الإيمان":

ولو قال: أنت طالق وعَبْدي حُرّ إن شاء الله، فيجيء خلاف في أنه يختصّ بالجملة الأخيرة، أو ينصرف إليهما جميعًا؟

قال النووي: الأصح التعميم، والله أعلم.

وبالجملة: مسألة العدد تحتاج أن يفرق بينها وبين المسألة الأصولية، ولا يظهر لى ما ذكره الشيخ الإمام فارقًا؛ لما عرفت.

ويمكن أن يفرق بوجه آخر، وهو أن مسألة العدد مخصوصة بما إذا ذكر معطوفين متماثلين، فإن عدوله عن ذكر اسم العدد فيهما إلى تَعْدَادهما قرينة أنه لم يرد بالاستثناء

ص: 286

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بعدها إلَّا الأخير منهما مثل: طالق وطالق إن شاء الله، فمن يعتمد هذه القرينة، فيوقع طلقتين، ويدفع الثالثة؛ لأنها المعلّقة بالمشيئة، وهو الأصح.

ومن قال بالجَمْع فيجعل كأنه قال: طالق ثلاثًا إن شاء الله، فلا يقع شيء.

ومسألة الاستثناء [عقب]

(1)

الجمل مخصوصة بمعطوفين مختلفين حكمًا وموضوعًا، مثل: أنت طالق، وعبدي حرّ إن شاء الله، أو أنت طالق، ولك على ألف إن شاء الله، ولا يقال: إذا عاد في المُخْتلفتين فأولى في المُتَمَاثلين؛ لأنا نقول: المختلفتان لا ينتظمهما لفظ واحد، بخلاف المتماثلين، إذ ينتظم قولك: زيد وزيد وزيد الزيدون، بخلاف زيد وعمرو وبَكْر، فالعدول عن الزيدين قرينة إرادة اختصاص الأخيرة، ولولا أن الفَرْقَ واقع بين مسألة العدد، والمسألة الأصولية لناقض كلامهم في الطلاق ما قدموه في الوقف.

ونظيره قول الشيخ أبي إسحاق في "المهذب": وإن قال: أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة، ففيه وجهان:

أحدهما: تطلق طلقة؛ لأن "الواو" في الاسمين المنفردين كالتثنية، فيصير كما لو قال: أنت طالق طلقتين إلا طلقة.

والثاني وهو المنصوص، أنها تطلق طلقتين؛ لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه، وهو الطلقة، واستثناء طلقة من طلقة باطل، فيسقط ويبقى الطلقتان. انتهى.

وهو صريح في أن المنصوص اختصاص الاستثناء بالأخيرة، وإنما أراد في عطف العدد، وإلَّا فهو قد صرح في مجموعاته الأصولية أن مذهب الشَّافعي عود الاستثناء إلى الجميع.

فإن قلت: ذلك في الجمل، وهذه مفردات.

قلت: المفردات أولى بالعود إلى الجميع كما عرفت.

"التنبيه‌

‌ الثالث"

قول [الشافعي]

(2)

: إن الاستثناء يعود إلى جميع الجمل السَّابقة

معناه: العود إلى كل واحدة منها بمفردها.

(1)

في أ، ج: عقيب.

(2)

سقط في ب.

ص: 287

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل: تجمع الجمل كلها، ويخرج منها.

وهذا الخلاف حكاه المَاوَرْدِيِّ، فإنه قال في كتاب "الإقرار": لو قال: له عليّ ألف درهم ومائة دينار إلا خمسين، وأراد بالخمسين المستثناة جنسًا من الدراهم، أو الدنانير أو هُمَا، قُبِلَ منه.

فإن فات بيانه، فعند أبي حنيفة يعود إلى ما يليه.

وعندنا يعود إلى المالين المذكورين من الدراهم والدنانير، ثم هو على وجهين:

أحدهما: يعود إلى كل واحد منهما جمع الاستثناء، فيستثنى من ألف درهم خمسين، ومن مائة دينار خمسين.

والوجه الثاني: يعود إليهما نصفين، فيستثنى من الدراهم خمسة وعشرين، ومن الدنانير خمسة وعشرين.

"التنبيه الرابع"

مذهبنا أن التائب تزول عنه سِمَةُ الفِسْقِ، وتقبل شهادته.

وقال أبو حنيفة: تزول سِمَةُ الفسق، ولا تقبل شهادته، ثم منهم من خرَّج الخلاف على هذا الأصل.

ومن أصحابنا من قال على تقدير تسليم الاختصاص بالأخيرة: إن الأخيرة. هي عدم قبول الشَّهادة؛ فإنه المحكوم به.

وأما سِمَةُ الفسق فهي علة هذا الحكم.

والاستثناء إذا تعقب حكمًا وتعليلًا، فإما أن يرجع إلى الكل، أو إلى الحكم دون التعليل؛ لأنه المقصود، ولا سبيل إلى رجوعه إلى التعليل فقط.

وسلك أبو زيد الدبوسي من الحنفية مسلكًا آخر، فزعم أن ردّ الشهادة حد، وقال هو: عُقوبة مؤلمة مثل الجلد، فيكون في حكمه، ولا يسقط بالتوبة.

وهذا مسلك قد تقرر انحطاطه في الخلافيات.

ص: 288

‌" مسألة:

الاِسْتِثْناءُ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَبالْعَكْسِ

؛ خِلافًا لأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

لَنَا: النَّقْلُ.

وَأَيْضًا: لَوْ لَمْ يَكُن، لَمْ يَكُنْ "لا إِلَه إِلَّا اللهُ" تَوْحِيدًا.

«مسألة»

الشرح: "الاستثناء من الإثبات نفي "وبالعكس" خلافًا لأبي حنيفة"

(1)

قيل: فيهما.

وقيل: في الثاني فقط.

"لنا: النقل" عن أئمة اللغة أنه كذلك، وهو العمدة في إثبات مدلولات الألفاظ.

"وأيضًا: لو لم يكن" الاستثناء من النفي إثباتًا "لم يكن" قولنا: "لا إله إلا الله

(2)

توحيدًا".

وبيان الملازمة: أن التوحيد إنما يتم بإثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى ونفيها عن غيره، والمفروض أنه لا يفيد الإثبات لها، وإنما يفيد النفي فقط، فلو تكلم به دَهْريٌّ ينكر وجود الصانع لما نافي عَقِيدَتَهُ.

(1)

وينظر: المحصول 1/ 3/ 56، والإحكام للآمدي 2/ 287 (5)، وشرح العضد 2/ 142، والبرهان 1/ 397، وشرح الكوكب 3/ 327، وجمع الجوامع 2/ 15، والقواعد والفوائد 163، والتمهيد للإسنوي (392)، وشرح التنقيح 247، وكشف الأسرار 3/ 126، وتيسير التحرير 1/ 294، وفواتح الرحموت 1/ 326، والمسودة (160)، والإبهاج 1/ 159، وإرشاد الفحول 149، وفتح الغفار 2/ 124، والاستغناء للقرافي (549).

(2)

في حاشية ج: قوله: لم يكن لا إله إلا الله توحيد هم يقولون: إنها تفيد التوحيد بحسب عرف الشرع لا اللغة، ويقولون: إن قول أهل العربية: إنه من الإثبات نفي مجاز تعبيرًا عن عدم الحكم بالحكم بالعدم لكونه لازمه، لكن إنكار دلالة "ما قام إلا زيد" على ثبوت القيام لـ"زيد" يكاد يلحق بإنكار الضروريات، وإجماع أهل العربية على أنه من النفي إثبات لا يحتمل التأويل كالسابق، وعدتهم فيما قالوا أن للكلام نسبة خارجية، فإن اعتبرت فالاستثناء إعلام بعدم التعرض له والسكوت عنه من غير حكم بالمخالفة، وإن اعتبر نسبة النفسية فالمخالفة فيها عدم الحكم النفسي. راجع الوضوء وحواشيه.

ص: 289

قَالُوا: لَوْ كَانَ، لَلَزِمَ مِنْ:"لا عِلْمَ إِلَّا بِحَيَاة"، وَ"لا صَلاةَ إِلَّا بِطُهُورٍ" - ثُبُوتُ العِلْمِ وَالصَّلاةِ بِمُجَرَّدِهِمَا.

قُلْنَا: لَيْسَ مُخْرَجًا مِنَ الْعِلْمِ وَالصَّلاةِ، فَإِنِ اخْتَارَ تَقْدِيرَ:"إِلَّا صَلاةً بِطُهُورٍ" - اطَّرَدَ، وَإنِ اخْتَارَ:"لا صَلاةَ تَثْبُتُ بِوَجْهٍ إِلَّا بِذَلِكَ" - فَلا يَلْزَمُ مِنَ الشَّرْطِ الْمَشْرُوط، وَإنَّمَا الإِشْكَالُ في الْمَنْفي الْأَعَمِّ فِي مِثْلِهِ وَفِي مِثْلِ:"مَا زَيْدٌ إِلَّا قَائِمٌ"؛ إِذْ لا يَسْتقِيمُ نَفْيُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ.

الشرح: "قالوا: لو كان" الاستثناء من النفي إثباتًا "للزم""من" قولنا: "لا علم إِلَّا بحياة، ولا صلاة إلا بطهور - ثبوت العلم والصَّلاة بمجردها" أي: بمجرد ثبوت الحياة والطهور، كاستلزام قولنا: لا عالم إلا زيد ثبوت العلم لزيد.

"قلنا: ليس" واحد من الحياة والطهور "مخرجًا من العلم والصلاة" حتى يلزم

ثبوتهما، وذلك أنا لم نَقُلْ: لا صلاة إلا الطّهور، ولا علم إلا الحَيَاة، بل قلنا بحياة وبطهور، فلا بدّ من تقدير متعلّق هو المستثنى بالحقيقة، وهو إما صلاة بطهور أو: لا صلاة تثبت بوجه إلا بطهور.

والحاصل: أن المذكور بعد "إلّا" ليس داخلًا في المستثنى منه، فإما أن يكون منقطعًا، وسيقول المصنف: إنه بعيد.

وإما أن يقدر فيه ما يصير به متصلًا، وهو الواجب في كل استثناء؛ إذ الانقطاع لا يُصَار إليه حتى يفقد سبيل الانقياد، وإذا قدر ما يصير به متّصلًا.

فإما أن يقرر في المستثنى أو المستثنى منه، "فإن اختار" الخصم "تقدير" شيء في المستثنى، وقال: التقدير: "إلّا صلاة بطهور اطّرد" قولنا: إن الاستثناء من النفي إثبات، ولا ينهض ما ذكر نقضًا. "وإن اختار" التقدير في المستثنى منه، فقال: التقدير "لا صلاة تثبت بوجه إلا بذلك، فلا يلزم" ما ذكر من النقض أيضًا؛ لأن معناه على ما اختاره: أن الطهور شرط في الصلاة.

ومعلوم أنه لا يلزم "من" حصول "الشَّرط المشروط"، وهذا لا إشكال فيه، "وإنما الإشكال" في إرادة "النفي الأعم" الذي يقتضيه الاستثناء المفرغ "في مثله" أي: في مثل: لا صلاة إلا بطَهُور.

ص: 290

وَأُجِيبَ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْغَرَضَ الْمُبَالَغَةُ بِذَلِكَ.

وَالآخَرُ: أنَّهُ آكَدُهَا، والْقَوْلُ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَعِيدٌ، لأَنَّهُ مُفَرَّغٌ، وَكُلُّ مُفَرَّغٍ مُتَّصِلٌ؛ لأَنَّهُ مِنْ تَمَامِهِ".

فإن تقديره: أن الصلاة لا صفة لها من الصفات المعتبرة إلا الطهور، فلو كان الاستثناء من النفي إثباتًا، لزم من حصول الطهارة فقط حصول الصلاة.

"وفي مثل" قولك: "ما زيدٌ إلا قائم"؛ فإن تقديره أن زيدًا لزم من حصول قيام زيد حصول جميع صفات زيد في كونه زيدًا، وهذا موضع الإشكال؛ "إذ لا يستقيم نفي جميع الصِّفات المعتبرة"؛ لوقوع إجماع أكثر الأوصاف، كما أنْ الصَّلاة عند عدم الطَّهارة يجوز اجتماع السّتر والاستقبال وغيرهما من الأوصاف المعتبرة فيها، وكذلك زيد عند انتفاء القيام؛ فإنه إنسان، وحيّ، وموجود، وغير ذلك.

واعلم أن المصنف أراد بقوله في مثله مثل: لا صلاة إلا بطهور فقط، ولم يرد مثل: لا علم إلا بِحَيَاةٍ، ولذلك أخذ بعد أن مثل باللفظين يتحدّث في: لا صلاة إلا بطهور فقط حيث قال: فإن اختار تقدير: لا صلاة إلى آخره.

والسّر فيه أن هذا الإشكال لا يرد على قولنا: لا علم إلا بحياة؛ لوجوب انتفاء جميع الصفات المعتبرة في العلم عند انتفاء الحياة، ولذلك جعلنا الضَّمير في مثله عائدًا إلى أحد المثالين، وهو: لا صلاة إلا بطهور، وفيه كان حديث المصنف كما عرفت.

الشرح: "وأجيب" عن هذا الإشكال "بأمرين":

"أحدهما: أن الغرض" من إدْخَالِ حرف النفي في مثل: لا صَلاة إلا بطهور، وما زيد إلا قائم "المبالغة بذلك" دون حقيقة نفي الصفات.

"والآخر: أنه" أي أن ذلك الوصف "آكَدُهَا" أي آكَدُ الصفات المعتبرة، وأجدرها بالاعتناء.

وهذا البحث كلّه على تقدير رَدِّ هذا الاستثناء إلى الاتِّصال، وهو القريب، "والقول بأنه منقطع بعيد؛ لأنه" استثناء "مفرغ متّصل؛ لأنه" بالنسبة إلى الأول "من تمامه"، ولذلك لا يجيز النَّحوي نصبه، ولا يقدر الأصولي فيه إلَّا بقدر الضرورة، ولا كذلك المنقطع.

ص: 291

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فوائد"

الأولى: "لا صلاة إلا بطهور"

يذكره الأصوليون على أنه حديث، وهو لا يُعْرَف، فلو أبدل بما صَحّ وثبت من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا صَلاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ" كان جيدًا.

الثانية: اتفق الكُلّ على إثبات مقتضى ما قبل الاستثناء بعده، وإنما الخلاف في أَنَّا هل نثبت نقيض المحكوم به، أو نقيض الحكم؟ فنحن نقول بالأول، والحنفية بالثاني.

فإذا قلت: قدم القوم إلا زيدًا، فقد اتفقوا على أن"إلا" مخرجة، وأن زيدًا خارج، وما قبل "إلا" مخرج منه، غير أنه قد تقدم قبل "إلا" القيام والحكم به.

والقاعدة أن من خرج من نقيضٍ دخل في النقيض الآخر، فمن خرج من العدم دخل في الوجود وبالعكس.

وقال علماؤنا: زيد مخرج من القيام.

وقالت الحنفية: بل من الحكم به.

فعندنا: لما خرج من القيام دخل في عدمه، وهو غير قائم.

وعندهم: خرج من الحكم، فدخل في عدم الحكم، وهو غير محكوم عليه

(1)

.

الثالثة: قال القرافي في قولهم: "الاستثناء من النفي إثبات" ليس على الإطلاق؛ لأن الاستثناء يقع من الأحكام نحو: ما قام القوم إلا زيدًا.

ومن الموانع نحو: "لا تسقط الصلاة عن المرأة إلا بالحَيْضِ".

ومن الشروط نحو: "لا صلاة بغير طُهُور"، فالاستثناء من الشرط مستثنى، فإنه لا يلزم من القضاء بالنَّفي لأجل عدم الشُّرْط القضاء بالوجود لأجل وجود الشرط؛ لأن الشَّرْط لا يلزم من وجوده، الوجود وبإخراج الشُّروط عن محل النزاع يحصل الجواب عن شُبْهَةِ الحنفية؛ فإن النصوص التي ألزمونا إياها أجمع من باب الشروط.

"فروع"

قال: ليس له عليَّ عشرة إلا خمسة، لم يلزمه شيء عند الأكثرين.

(1)

في حاشية ج: قوله: فهو غير محكوم عليه أي: مسكوت عنه.

ص: 292

(التَّخْصِيصُ بِالشَّرْطِ):

الْغَزَّالِيُّ: الشَّرْطُ مَا لا يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ دُونَه، وَلا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ عِنْدَهُ.

وَأُورِدَ: أَنَّهُ دَوْرٌ، وَعَلَى طَرْدِهِ جُزْءُ السَّبَبِ.

وَقِيلَ: مَا يَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ عَلَيْهِ.

وَأُورِدَ عَلَى عَكْسِهِ: الْحَيَاةُ فِي الْعِلْمِ الْقَدِيمِ.

وَالْأُوْلَى: مَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهُ نَفْيَ أَمْرٍ؛ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ.

وفي وجه: يلزمه خمسة؛ لأن الاسثناء من النفي إثبات، والأول أصح؛ لأن مجموع عشرة إلَّا خمسة في جانب الإثبات معناه خمسة، فإذا تسلّط عليه النفي كان المعنى ليس له عليَّ المفهوم من قول القائل: عشرة إلَّا خمسة، وهو خمسة، وبهذا لا يلزمه شيء، فافهم ذلك.

لو قال: لا أجامعك سَنَة إلا مرّة، فمضت سنة ولم يطأها، ففي وجه: تلزمه الكَفَّارة؛ لاقتضاء اللفظ الوطء، قال النووي: والأصح: لا.

الشرح: ومن المخصّصات المتّصلة: "التخصيص بالشرط"

(1)

.

قال "الغزالي":"الشرط": "ما لا يوجد المشروط دونه، ولا يلزم أن يوجد عنده، وأورد: أنه دور"؛ لأن المشروط مشتقّ من الشرط، فيتوقّف تعقله على تعلقه، "وعلى طرده جزء السبب"؛ إذ لا يوجد المسبب دونه، ولا يلزم أن يوجد عنده مع أنه ليس بشرط.

قال القاضي عضد الدين

(2)

: وقد يجاب عن الأول: أن ذلك بمثابة قولنا: شرط

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 327، وإحكام الآمدي 2/ 288، والتمهيد للإسنوي 401، ونهاية السول له 2/ 437، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 122، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 77، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 383، والمستصفى للغزالي 2/ 163، وحاشية البناني 2/ 20، والإبهاج لابن السبكي 2/ 155، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 45، وحاشية العطار 2/ 55، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 240، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 280، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 145، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 452، وتقريب الوصول لابن جزيّ 76، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 238، والكوكب المنير للفتوحي 407، 409، 410، وشرح تنقيح الفصول (82).

(2)

ينظر: شرح العضد 2/ 45.

ص: 293

وَهُوَ عَقْلِيٌّ؛ كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ، وَشَرْعِيٌّ؛ كَالطَّهَارَةِ، وَلُغَوِيٌّ؛ مِثْلُ:"أَنْتِ طَالِقٌ، إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ"، وَهُوَ فِي السَّبَبِيَّةِ أَغْلَبُ، وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لِلْمُسَبَّبِ سِوَاهُ؛ فَلِذَلِكَ يَخْرُجُ بِهِ مَا لَوْلاهُ لَدَخَلَ لُغَةً؛ مِثْلُ: "أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، إِنْ دَخَلُوا فَيَقْصُرُهُ الشَّرْطُ عَلَى الدَّاخِلِينَ، وَقَدْ يَتَّحِدُ الشَّرْطُ وَيَتَعَدَّدُ؛ عَلَى الجَمْع، وَعَلَى الْبَدَلِ، فَهَذِهِ ثَلاثَةٌ كُلٌّ مِنْهَا مَعَ الْجَزَاءَ كَذَلِكَ؛ فَتَكُونُ تِسْعَةً.

الشيء ما لا يوجد ذلك الشيء بدونه، وظاهر أن تصور حقيقة المشروط غير محتاج إليه في تعقل ذلك.

وعن الثاني: أن جزء السَّبب قد يوجد المسبب دونه إذا وجد سبب آخر.

"وقيل": الشرط "ما يقف تأثير المؤثر عليه"

(1)

كالقَدُوم بالنسبة إلى النَّجَّار، ويفهم منه أنه لا تقف ذات المؤثر عليه، فيخرج جزء السبب.

"وأورد على عكسه: الحياة" لواجب الوجود؛ فإنها شرط "في العلم القديم"، مع أنه لا تأثير في العلم القديم في الأزل؛ إذ المحوج إليه الحدوث، فقد صدق الشرط مع عدم صدق التعريف عليه.

"والأولى" في التعريف أن يقال: "ما يستلزم نفيه نفي أمر على غير جهة السببية" بألَّا يكون سببًا تامًّا، ولا جُزْءًا منه.

ولقائل أن يقول: معرفة الشرط حينئذٍ تتوفف على معرفة السَّبب، وهو مثله في الخفاء.

والمختار ما ذكره القَرَافِيّ آخرًا، وهو أن الشرط ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.

قال: فالقيد الأول: احتراز من المانع؛ فإنه لا يلزم من عدمه شيء.

والثاني: من السبب؛ فإنه يلزم من وجوده الوجود.

والثالث: من مقارنة الشرط ووجود السبب، فيلزم كالحَولِ مع النِّصَابِ، أو فيلزم المانع، فيلزم العدم، ولكن ذلك ليس لذاته، بال لوجود السبب والمانع.

الشرح: "وهو" أي: الشَّرْط ثلاثة أقسام:

(1)

في حاشية ج: قوله: "تأثير المؤثر" أي في المشروط قوله: "مع أنه لا تأثير في العلم

إلخ=

ص: 294

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"عقلي، كالحياة للعلم، وشَرْعِيّ، كالطَّهارة، ولغوي" وأدواته كثيرة منها: "إنْ"، وهي أم الباب "مثل: أنت طالق إِنْ دخلت الدار" "وهو "أي: الشرط اللغوي "في السببية أغلب"، يستلزم وأكثر استعمالًا. لا يقال: إن دخلت الدار فأنت طالق، والمراد أن الدخول سبب الطلاق يستلزم وجوده لا مجرّد كون عدمه مستلزمًا لعدمه من غير سبب.

"وإنما استعمل" السبب "في الشرط الذي لم يبق للمسبب سواه" من حيث إنه يستتبع الوجود مثل: أنت طالق إِنْ دخلت؛ فإنه يفهم أنه لم يبق من أسباب الطلاق إلَّا الدخول، [فكذلك] الذي قلناه من أن الغالب على استعمال الشَّرط في شرط لم يبق للمسبب [سواه]

(1)

"يخرج" من الكلام "به" أي بواسطة الشَّرط "ما لولاه لدخل" في ذلك الكلام "لغة" مثل: "أكرم بني تميم إن دخلوا" فلولا الشَّرْط لدخل كل واحد من بني تميم في الإكرام، "فيقصره الشرط لغة على الدَّاخلين"، وكذلك أيضًا قبل الشروط اللُّغوية أسباب؛ إذ صار يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العَدَم، وهذا حقيقة السبب.

"وقد يتحد الشرط، و" قد "يتعدّد" إما "على الجَمْع، و" إما "على البدل، فهذه" أقسام "ثلاثة" بالنَّظر إلى الشرط "كلّ منها مع الجزاء كذلك" بأن يتّحد الجزاء تارة ويتعدّد [أخرى]

(2)

، ثم تعدده إما على الجميع، أو على البدل أيضًا؛ "فتكون" الأقسام عند التركيب "تسعة" حاصلة من ضرب ثلاثة في ثلاثة، وأحكامها واضحة.

فإنك إذا رتبت جزاء على شرطين على الجمع لم يحصل إِلَّا عند حصولهما، وعلى البدل يكفي أحدهما، وكذا الجزاءان، وهي وَحْدَتهما، [وتعدّدهما جمعًا، وتعددهما بدلًا]

(3)

.

ووحدة الشرط مع تعدّد الجزاء جمعًا وبَدَلًا.

وتعدّد الشرط على الجمع مع وحدة الجزاء، وعلى البَدَل.

= أي لا يصدق عليها أن تأثير المؤثر في العلم يتوقف عليها؛ لأنا فرضناه قديمًا، ولا مؤثر في العلم القديم. سعد الدين.

(1)

في أ: سؤله.

(2)

في ج: بأن الجزاء تارة يتحد ويتعدد أخرى.

(3)

سقط في ج.

ص: 295

وَ‌

‌الْشَّرْطُ كالاِسْتِثْنَاءِ فِي الاِتِّصَالِ وَفِي تَعَقُّبِهِ الْجُمَلَ.

وَعَنِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه: لِلْجَمِيعِ؛ فَفَرَقَ.

وَقَوْلُهُمْ فِي مِثْلِ: "أُكْرِمُكَ، إن دَخَلْتَ الدَّارَ": مَا تَقَدَّمَ خَبَرٌ، وَالْجَزاءُ مَحْذُوفٌ؛ مُرَاعَاةً لِتقَدُّمِهِ؛ كَالاِسْتِفْهَامِ وَالْقَسَمِ، فَإِنْ عَنَوْا:"لَيْسَ بِجَزَاءٍ فِي اللَّفْظِ"، فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ عَنَوْا:"وَلا فِي الْمَعْنَى"، فَعِنَادٌ.

وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جُمْلَةً، رُوعِيَتِ الشَّائِبَتَانِ.

وتعدد الشرط على الجمع مع تعدّد الجزاء على البدله.

وتعدد الشرط على البدل مع تعدّد الجزاء على الجمع.

"فرع"

[لو]

(1)

قال لامرأتيه: إن حضتما فأنتما طالقان

لم تطلق واحدة منهما حتى يحيضا، وإن قال: إن دخلتما هذين الدَّارين فدخلت كل واحدة إحدى الدَّارين لم تطلقا على الأصح، أو: أكلتما هذين الرغيفين، فأكلت كل واحدة منهما رغيفًا طلقتا على الأصح؛ لعدم إمكان أكل

(2)

كل واحدة الرغيفين.

الشرح: "والشرط كالاستثناء في" حكم الاتصال، وفي تعقبه الجمل" هل هو للكل أو الأخيرة أو الوقف؟

"وعن أبي حنيفة: للجميع" له، "ففرق" بين الاستثناء والشرط؛ معتلًّا بأن الشرط له صدر الكلام، وهو مقدم تقديرًا، وذلك ضعيف؛ فإنه إنما يتقدم على ما يرجع إليه فقط.

وأما النحاة "وقولهم في مثل: أكرمك إن دخلت الدار" بِناءً على أن الشرط له صدر الكلام أن "ما تقدم" يعني: أكرمك "خبر" مبتدؤه: محذوف تقديره: أنا أكرمك، "والجزاء محذوف مراعاة لتقدمه كالاستفهام والقسم"؛ لأن الشرط متقدّم على المشروط، وأكرمك متقدم على: إن دخلت، فلا يكون جزاء له.

"فإن عنوا" بقولهم هذا أنه "ليس بجزاء في اللفظ، فمسلم" حق، ولذلك لم يجزم.

(1)

سقط في ب.

(2)

في حاشية ج: قوله: لعدم إمكان

إلخ أي مع أكل الأخرى.

ص: 296

(التَّخْصِيصُ بِالْصِّفَةِ)

مِثْلُ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ الطِّوَالَ، وَهِيَ كالاِسْتِثْنَاء فِي العَوْدِ عَلَى مُتَعَدِّدٍ.

(التَّخْصِيصُ بِالْغَايَةِ) مِثْلُ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا فَتَقْصُرُهُ عَلَى [غَيْرِ] الدَّاخِلِينَ كَالصِّفَةِ. وَقَدْ تَكُونُ هِيَ وَالْمُقَيَّدُ بِهَا مُتَّحِدَيْنِ وَمُتَعَدِّدَيْنِ؛ كَالشَّرْطِ، وَهِيَ كالاِسْتِثْنَاء فِي الْعَوْدِ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ.

"وإن عنوا" لا في اللفظ، "ولا في المعنى، فعناد"؛ إذ يعلم قطعًا أنه لا يدلُّ إلا على إكرام مقيد بقيد دخول الدار، ولذلك لو لم يدخل، ولم يكرم لم يعد مخلفًا وعده.

"والحق: أنه لما كان" المتقدّم "جملة" خبرية مستقلّة لفظًا ومعنى، "روعيت الشَّائبتان"، وهما شَائِبَةُ اللفظ، فحكم بكونه خبرًا، والجزاء محذوف يدلّ الخبر عليه، وشائبة المعنى، فحكم بأنه جزاؤه.

الشرح: ومن المخصّصات المتّصلة "التخصيص بالصّفة

(1)

مثل: أكرم بني تميم الطوال"، فإن الصفة تقتضي قصر الإكرام على المتّصف، ولولاها لعم كلّ بني تميم طويلهم وقصيرهم، "وهي كالاستثناء في [العود]

(2)

على متعدّد"، هل يعود إلى الكلّ أو تختص بالأخيرة كما مضى؟

واعلم أن الصِّفة المتقدمة كالمتأخرة في عود الخلاف، والأصحّ عندنا عودها على الجميع، ومثالها لو قال: وقفت على محتاجي أولادي وأولادهم، فيشترط الحاجة في أولاد الأولاد.

(1)

ينظر: البحر المحيط، للزركشي 3/ 341: 344، وإحكام الآمدي 2/ 291، والتمهيد للإسنوي 409، ونهاية السول له 2/ 442 - 443، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 122، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 77، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 385، وحاشية البناني 2/ 23، والإبهاج لابن السبكي 2/ 161، 163، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 52، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 58، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 281، 282، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 145، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 452، وتقريب الوصول لابن جزي 76، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 248، وينظر المسودة (197)، وشرح العضد 2/ 132.

(2)

في أ: العدد.

ص: 297

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما المتوسط مثل: أولادي المحتاجين وأولادهم، فلا نعرف فيها نقلًا، ويظهر اختصاصها بما وليته، ويدلُّ له ما نقل الرَّافعي والنووي في أوائل "الأيمان" عن ابن كج، وسكتا عليه: أنه لو قال: عبدي حرّ إن شاء الله، وامرأتي طالق، ونوى صرف الاستثناء إليها صح؛ فإن مفهومه أنه إذا لم يَنْوِ لا يحمل الاستثناء عليهما، وإذا كان هذا في الشرط الذي له صدر الكلام.

وقال بعوده إلى الجميع بعض من لا يقول بعود الاستثناء والصفة إلى الجميع، [فلأن]

(1)

يكون في الصفة بطريق أولى، وحكم الاستثناء حكم الصفة، وكذلك الشرط، [بل]

(2)

أولى.

ومنها "الغاية"

(3)

، وحكم ما بعدها خِلافُ ما قبلها، وصيغتها:"إلى" و"حتى""مثل: أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا، فيقصره على الداخلين"، كذا بخط المصنف، وفي النسخ: على غير الداخلين، وهو إصلاح جيد أي: فيقصر الكلام على من لم يدخل.

ثم من لم يدخل قسمان:

قسم لم يدخل أصلًا، وقسم دخلوا بعد أن لم يكونوا دخلوا.

فالأولون مكرمون دائمًا، والآخرون مكرمون قبل الدخول.

وأما نسخة المصنف، فلا وجه لها، وكأنه سقط لفظة "غير" منها "كالصفة" حيث يقصر الحكم على الموصوف بها، "وقد تكون" الغاية "هي والمقيد بها متّحدين" كما ذكرناه، "ومتعددين" إما على الجمع، أو على البدل فيهما، أو في أحدهما، فتكون الأقسام تسعة "كالشرط، وهي كالاستثناء في العود على المتعدد" هذا ما أطلقه الأصوليون.

وإطلاقهم أن الغاية مخصّصة محمول على غاية تقدمها عموم يشملها لو لم يؤت بها مثل قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [سورة التوبة: الآية 29]؛ فإنه لولا هذه الغاية لشمل قتال المشركين حالتي إعْطَاء الجزية وعدمها، ولا يأتي ذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "رُمعَ القَلَمُ

(1)

في أ: فلا.

(2)

سقط في ب.

(3)

ينظر مصادر المسألة السابقة.

ص: 298

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتيقِظَ، وَعَن المَجْنُونِ حَتَّى [يفِيقَ

(1)

]

(2)

؛ لأن حالة البلوغ، والإفاقة، والاستيقاظ: خارجة عن الصَّبِيِّ، والمجنون، والنائم، ولو لم تذكر الغايات

(3)

المذكورة لم يشملها، وإنما يقصد بالغايات في مثل هذا تأكيد العموم السَّابق، فإذن الغاية ترد لتأكيد العموم كما ترد لتخصيص العموم.

نبه عليه أبى - قَدّس الله روحه - قال: ومنه قوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر: الآية 5]، فطلوعه وزمن طلوعه لَيْسَا من الليل حتى يشملهما قوله:{سَلَامٌ هِيَ} قال:

وربما قصد بها ارتفاع ذلك الحكم عند الغاية؛ فإنه لو اقتصر على قوله: "رفع القلم عن الصبي" شمل حالة الصِّبَا، ولم يتعرض لحالة البلوغ؛ بنفي ولا إثبات، فلما قال:"حتى يبلغ" فُهِمَ إثبات التكليف قب حالة البلوغ عند القائلين بالمفهوم.

قلت: وقد يقال: إنَّ المفهوم ثابت في لفظ "الصبي"؛ فإنه مشعر بأن العلة الصبا، ولكن تأتي الغاية لتأكيد هذا الفَهْم، واجتماعُ مفهومين حسن.

وقال في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [سورة البقرة: الآية 187]: أنه يحتمل أن يكون مثل قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [سورة النوبة: الآية 29]؛ فإن الصيام لعله يشمل الليل والنهار، فخص هذا العموم بقوله:{إِلَى اللَّيْلِ} ، والظاهر أنه مثل قوله:{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ؛ فإن الصيام شرعًا لا يكون إلّا نهارًا.

وأيضًا عموم قوله: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ} إنما هو في أفراد الصيام، أي: أتموا كلّ صيام، ولا تعرض فيه للوقت.

"فائدتان"

الأولى: الغايات ثلاث:

إحداها: غاية تقدمها عموم يشملها لو لم يُؤت بها، وهي التي تخصص.

(1)

في أ: يعتق

(2)

أخرجه أبو داود (4401)، والحاكم (1/ 258)، وابن حبان (1497 - موارد) من طريق أبي ظبيان عن علي مرفوعًا.

وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

(3)

على أن الغاية تأتي لتأكيد العموم.

ص: 299

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثانية: غاية لو سكت عنها لم يدلّ اللفظ عليها نحو قوله: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر} و {رُفِعَ القَلَمُ} ، وهذه خارجة قطعًا.

والثالث: ما يكون اللّفظ الأول شاملًا لها، وتجري هي مجْرَى التأكيد مثل قولنا: قطعت أصابعه كلها [من الخِنْصَر إلى الإبْهَام؛ فإنه لو اقتصر على قوله: قطعت أصابعه كلّها]

(1)

[الأفاد]

(2)

الاستغراق، وهي داخلة قطعًا، والمقصود فيها إنما هو تحقيق العموم لا تخصيصه، وكذا: بعتك الأشجار من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة.

وإنما اختلف الأصْحاب فيما إذا قال: بعتك من هذه النَّخْلة إلى هذه النخلة، هل يدخل الابتداء أو الانتهاء، أو لا يدخل واحد منهما؛ لأنه لم يتقدم لفظ صريح في الدخول؟.

ونظيره: عليَّ مِنْ درهم إلى عشرة، أو: ضمنت مالك على فلان من درهم إلى عشرة قيل: يلزمه عشرة، وهو الصحيح عند البَغَوِيّ، وأبي رحمه الله.

وقيل: تسعة، وصحّحه العراقيون، والغزالي، والنووي.

وقيل: ثمانية.

‌الثانية: من شرط المُغَيَّا أن يثبت قبل الغاية،

ويتكرر حتى يصل إليها كقولك: سرت من "البصرة" إلى "الكوفة"، فإن السير الذي هو المُغَيَّا ثابت قبل "الكوفة"، ومتكرر في طريقها، وعلى هذا يمتنع أن يكون قوله:{إِلَى الْمَرَافِقِ} [سورة المائدة: الآية 6] غاية لغسل اليد؛ لأن غسل اليد إنما يحصل بعد الوصول إلى الإِبطِ، فليس ثابتًا قبل المِرْفَقِ الذي هو الغاية، فلا تنتظم غاية له.

نعم: لو قيل: اغسلوا إلى المرافق ولم يقل: أيديكم انتظم؛ لأن مطلق الغسل ثابت [ومتكرر]

(3)

.

قال بعض الحنفية: فنعيّن أن يكون المُغَيَّا غير الغسل، أو يكون التقدير: اتركوا من آباطِكُمْ إلى المرافق، فيكون مطلق الترك بيانًا قبل المرفق ومتكررًا إليه، ويكون الغسل بعينه

(1)

سقط في ج.

(2)

في ج: لإفادة.

(3)

في أ، ج: ويتكرر.

ص: 300

‌التَّخْصِيصُ بِالْمُنْفَصِلِ

مَسْألَةٌ:

يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بالْعَقْلِ.

لَنَا: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الزمر: الآية 62]. وَأَيْضًا: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [سورة آل عمران: الآية 97]؛ فِي خُرُوجِ الْأطْفَالِ بِالْعَقْلِ.

لم يُغى، وهنا يتعارض المجاز والإضمار؛ فإن لنا أن نتجوّز بلفظ اليد إلى جزئها حتى يثبت المُغَيَّا قبل الغاية ولا يضمر، ولنا أن نضمر كما قال هذا الحنفي.

ومن هذا قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} ؛ فإنه يقتضي ثبوت الصِّيَام بوصف التمام، وقبل غروب الشَّمس، وتكرره إلى الغروب، وليس كذلك، فيشكل كون الليل غاية للصوم.

قال القرافي: وأجاب الشَّيخ عز الدين بن عبد السَّلام عن هذا السؤال بأن المراد: أتموا كلّ جزء من أجزاء الصوم بسننه وفرائضه، وكرروا ذلك إلى الليل، والكمال في الصوم قد يحصل في جزء من أجزاء اللَّيْل دون جزء من جِهَةِ اجتناب الكذب، والغيبة، والنميمة، وغير ذلك مما يأباه الصوم، فَأُمِرْنَا بتكرير هذا إلى الغروب. وقد انتهى الكلام على التخصيص بالمتصل، وهذا:

«مسألة»

الشرح: "يجوز التخصيص بالعقل" ضروريًّا كان أو نظريًّا.

وقال قوم: لا يجوز

(1)

.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 355، وإحكام الآمدي 2/ 293، ونهاية السول للإسنوي 2/ 451، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 123، 161، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 78، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 386، والمستصفى للغزالي 2/ 99، وحاشية البناني 2/ 24، والإبهاج لابن السبكي 2/ 165، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 57، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 60، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 252، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 261، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 273، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 147، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 487، وتقريب الوصول لابن جُزَيّ 76، والعدة 2/ 547.

ص: 301

قَالُوا: لَوْ كَانَ تَخْصِيصًا، لَصَحَّتِ الإِرَادَةُ لُغَةً.

قُلْنَا: التَّخْصِيصُ لِلْمُفْرَدِ، وَمَا نُسِبَ إِلَيْهِ: مَانِعٌ هُنَا، وَهُوَ مَعْنَى التَّخْصِيصِ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ مُخَصِّصًا، لَكَانَ مُتَأخِّرًا؛ لأِنَّهُ بَيَانٌ.

قُلْنَا: لَكَانَ مُتَأَخِّرًا بيَانُهُ لا ذَاتُهُ.

قَالُوا: لَوْ جَازَ بِهِ، لَجَازَ النَّسْخُ.

قُلْنَا: النَّسْخُ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ مَحْجُوبٌ عَنْ نَظَرِ الْعَقْلِ.

قَالُوا: تَعَارَضَا.

قُلْنَا: فَيَجِبُ تَأْوِيلُ المُحْتَمِلِ.

"لنا": في الضروري قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الزمر: الآية 62]؛ فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقًا لنفسه.

"وأيضًا": لنا في النظري قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [سورة آل عمران: الآية 97]؛ "في خروج الأطفال بالعقل".

ولقائل أن يقول على الأول: إنما يتأتى إذا قلنا بدخول المُخَاطِب في خطابه، وبإطلاق لفظ "شيء" على الباري تعالى.

وعلى الثاني: الطفل إذا كان لا يستطيع فهو خارج بقوله: {مَنِ استَطَاعَ إِليهِ سَبِيلًا} ، وإلا فلا نسلم أن العقل يخرجه.

واعلم أن الخلاف في المسألة لفظي؛ فإن أحدًا لا ينازع في أن ما يسمى مخصّصًا بالعقل خارج، وإنما النزاع في أن اللفظ هل شمله؟

فمن لا يسمى العقل مخضصًا يدعى أن اللفظ لم يشمل ذلك، وهذا هو ظاهر نصّ الشافعي كما نبّهنا عليه في "شرح المنهاج".

الشرح: والذين وافقوه على ذلك "قالوا" أولًا: "لو كان" مثل ذلك "تخصيصًا"، لكان اللفظ صالحًا له، ولو صلح له "لصحّت الإرادة" إرادة ما قضى العقل بإخراجه من العام "لغة" وهو باطل" لأنا نعلم أن المتكلّم لا يريد ما يخالف صريح العقل.

"قلنا: التخصيص" إنما وقع في "المفرد" أعني: لفظة "كل شيء"، ولفظة "الناس" بالنظر إلى كونه مفردًا "وإنما نسب إليه" مما لا يجوز بالعَقْل نسبته إلى كل أفراده كالخالقية في:{اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ووجوب الحج في {وللهِ عَلَى النَّاسِ حجُّ البَيْتِ} "مانع هنا"

ص: 302

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من إرادة الجميع من اللَّفظ الصالح له قبل النسبة، "وهو معنى التخصيص".

"قالوا" ثانيًا: "لو كان" العقل يسمى "مخصصًا" للعام "لكان متأخرًا" عنه؛ "لأنه بيان"، والبيان متأخر عن المبين.

"قلنا": العقلي له ذات، وله صفة، وهي كونه بيانًا.

فإن أردتم بالمتأخر في قولكم: لو كان مخصّصا "لكان متأخرًا" بذاته، فلا يلزم، وإن أردتم بيانه، فلا يمتنع، فالمتأخر "بيانه لا ذاته".

"قالوا" ثالثًا: "لو جاز" التخصيص "به لجاز النسخ" به بجامع أن كلًّا منهما بيان.

"قلنا" أولًا نسلم: انتفاء اللازم، فقد قال الإمام الرازي:

يجوز النسخ به، ولكنه احتج بأن من سقط رِجْلاه نسخ عنه غسلهما.

وهو مدخول؛ فإن الوجوب زائل ثَمَّ؛ لعدم القدرة.

هذا وقد صرح في "باب النَّسْخ" بأنه لا بد أن يكون بطريق شرعي.

فالتحقيق أن يقول: "النسخ على التفسرين" اللذين فسّر بهما هما بيان مدة الحكم، أو رفعه "محجوب عن نظر العقل"؛ إذ لا اطِّلاع له على انتهاء مدة الحكم، حتى يبين ذلك، ولا له حكم فيرفعه.

"قالوا" رابعًا: إن الدليل العقلي والنقلي "تعارضا"، فليس كون العقل مخصصًا أولى من جريان دليل النَّقْل على قضيته.

"قلنا": إذا تعارضا، "فيجب تأويل المحتمل" منهما للتأويل، وهو النقلي؛ لاستحالة إبطال قواطع العقول.

"فائدة"

ادّعى الشيخ أبو حامد الإجماع على أن العَقل يخصّص، وهو محمول على أن ما [يسمى]

(1)

مخصصًا خارج، ولا خلاف في المعنى لا على أنه يسمى، فإن الخلاف فيه مشهور، والشافعي ممن لا يسميه كما عرفناك.

(1)

سقط في أ.

ص: 303

مَسْأَلَةٌ:

يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.

أَبُو حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي وَالْإِمَامُ رحمهم الله: إِنْ كَانَ الْخَاصُّ مُتَأَخِّرًا؛ وَإِلَّا فَالْعَامُّ نَاسِخٌ، فَإِنْ جُهِلَ تَسَاقَطَا.

«مسألة»

الشرح: "يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب" خلافًا لشذوذ

(1)

.

وقال "أبو حنيفة، والقاضي، والإمام": في كل عمام، سواء أكان من الكتاب أم من غيره "إن كان الخاص متأخرًا" خصص العام كتابًا كان أو غيره، "وإلّا فالعام ناسخ" للخاص.

"وإن جهل" التاريخ "تساقطا"، وربما. قيل: يوقف، والتساقط والتوقف مُتَقَاربان، ويرجع إلى دليل آخر.

وذهب الحسن بن عيسى بن العارض المعتزلي صاحب كتاب "النكت" إلى الوقف عند تعارض العام والخاص.

واعلم أن المصنّف تكلّم في هذه المسألة في شيئين:

أحدهما:‌

‌ مسألة تخصيص الكتاب بالكتاب،

ولم يصرح فيها بذكر المخالف، وقد ذكرنا أنهم شذوذ.

والثاني: المسألة الملقّبة عند الأصوليين بـ "بناء العام على الخاصّ"، والخلاف فيها مع أبي حنيفة ومن وافقه، كما عرفت.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 361، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 296، ونهاية السول للإسنوي 2/ 456، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 163، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 78، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 387، وحاشية البناني 2/ 26، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 59، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 61، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 254، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 147، والوجيز للكراماتسي 13، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 472، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 250.

ص: 304

لنَا: أَنَّ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} [سورة الطلاق: الآية 4]- مُخَصِّصٌ لِقَوْلهِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [سورة البقرة: الآية 234]، وَكَذَلِكَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ} [سورة المائدة: الآية 5]- مُخَصِّصٌ لِقَوْلهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [سورة البقرة: الآية 221].

وبين المسألتين عموم وخصوص من وجه؛ فإن من منع تخصيص الكتاب بالكتاب فقد منعه، سواء أكان المخصّص متقدمًا أم متأخرًا.

ومن قال: العام المتأخر ناسخ، فقد قال به، سواء أكان في الكتاب أم في غيره.

ولا شك أنّ كل من أجاز كون العام المتأخر من الكتاب مخصصًا، وهم أصحابنا، فقد أجازوا تخصيص الكتاب ضرورة أن هذا فرد من أفراده.

ومن منع تخصيص الكتاب مطلقًا فقد وافق الحنفية في منع كون العام المتأخر من الكتاب مخصصًا؛ إذ ما منعوه فرد مما منعه، ولا [ندري]

(1)

هل يوافقهم أيضًا في جعله ناسخًا أو يخالفهم؟

لأن النسخ أضعف، فإذا منع التخصيص منعه بطريق أوْلى.

وإذا عرفت هذا، فلا يخفى عليك أن كُلَّ ما دل على أن العام المتأخر في الكتاب يكون مخصّصًا بالخاص المتقدم منه، فقد دلّ على مطلق تخصيص الكتاب، وكان فيه الرَّد على الفريقين:

مانعي تخصيص الكتاب مطلقًا.

ومانعي كون المتأخر مخصصًا، بخلاف ما يدلّ على منع كون العام المتأخر ناسخًا؛ فإنه لا يلزم منه منع مطلق التخصيص ولا إثباته.

الشرح: "لنا": الوقوع، وذلك "أن" قوله:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق: الآية 4]"مخصص""لقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [سورة البقرة: الآية 234]. "وكذلك" قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [سورة المائدة: الآية 5]. فإنه "مخصّص لقوله": {وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [سورة البقرة: الآية 221]

(1)

في أ، ج: يدرى.

ص: 305

وَأَيْضًا: لا يَبْطُلُ الْقَاطِعُ بِالْمُحْتَمِلِ.

قَالُوا: إِذَا قَالَ: "اقْتُلْ زَيْدًا" ثُمَّ قَالَ: "لا تَقْتُلِ الْمُشْرِكِينَ"؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: "لا تَقْتُلْ زَيْدًا" فَالثَّانِي نَاسِخٌ.

قُلْنَا: الْتَّخْصِيصُ أَوْلَى؛ لأِنَّهُ أَغْلَب، وَلا رَفْعَ فِيهِ كمَا لَوْ تَأَخَّرَ الْخَاصُّ.

فهذا دليلٌ على وقوع تخصيص الكتاب بالكتاب. وقد قيل: إنَّ الخاص في الاثنين متقدّم ورودًا على العام، فإن ثبت هذا كان أيضًا دليلًا على من يجعل الخاصّ المتقدم منسوخًا، [وتتم]

(1)

به الدعوتان جميعًا [انتهى]

(2)

.

ومما يدلّ على الأمرين جميعًا أعني: تخصيص الكتاب بالكتاب، وكون العام المتأخر لا ينسخ الخاص المتقدم ما أشار إليه بقوله:

"وأيضًا لا يبطُل القاطع"، وهو الخاص "بالمحتمل"، وهو المدلول عليه بالعام، بل يعمل بالخاص؛ لقوته، سواء أتأخر عنه العام، وهو صورة النزاع مع الحنفية، ومن وافقهم، أم كان أعم من أن يتقدم أو يتأخر، وهو صورة النزاع مع منع تخصيص الكتاب مطلقًا.

فإن قلت: الحنفية لا يسلمون أن المدلول عليه بالعام محتمل، بل يدعونه قطعيًّا؛ لأن دلالة العام عندهم قطعية.

قلت: هم وإن ادّعوه قطعيًّا، فلا يقولون: إن دلالته مساوية لدلالة الخاصّ، وإذا سلموا أن دلالة الخاصّ أقوى تَمَّ الدليل، ولو عبر المصنّف بـ"الأقوى" كما فعل الإمام الرازي، والآمدي فقال:"وأيضًا لا يبطل الأقوى وهو الخاصّ بما هو دونه، وهو العام" لكان أحسن وأسلم عن هذا الإيراد.

ولا يخفى عليك أنا تعسّفنا في تنزيل هذا الدَّليل على الحنفيّة، فإنهم يقولون: إنَّ دلالة العام مساوية لدلالة الخاصّ، فلا [ينهض]

(3)

الدليل عليهم.

وإن كانوا غير مخطئين في هذه الدعوى، بل الظن أن من ادَّعى ذلك فقد باهت، والحامل لنا على هذا التعسّف ابتغاء تنزيل كلام المصنّف على المسألتين جميعًا.

وأما الخصوم، وهم فريقان: مانعو تخصيص الكتاب مطلقًا، والقائلون بكون العام المتأخر ناسخًا لا مخصصًا، فقد "قالوا" أجمعون:

(1)

في أ، ج: تتم.

(2)

سقط في ب.

(3)

في ج: ينتهض.

ص: 306

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"إذا قال: اقتل زيدًا" المشرك، "ثم قال: لا [تقتل]

(1)

المشركين، فكأنه قال، لا تقتل زيدًا"، ولا عمرًا إلى أن يأتي على الأفراد واحدًا واحدًا، ولكنه اختصر المطول، وأجمل المفصل.

فقال: لا [تقتل]

(2)

المشركين، وإذا كان بمثابة: لا تقتل هذا ولا هذا إلى آخر الأفراد، فكأنه قال: لا تقتل زيدًا، "والثاني" وهو: لا تقتل زيدًا "ناسخ" بلا شكّ؛ لوروده بعد: اقتل زيدًا، وكذا ما هو بمثابته.

إلى هنا ينتهي استدلال الحنفيّة، ومن وافقهم على أن العام المتأخر ناسخ.

ويزيد من يمنع تخصيص الكتاب مطلقًا، فيقول: وإذا كان المتأخر ناسخًا لكونه بمنزلة النَّص، وكذا لو تقدم العام؛ فإنه يقع التعارض بين الخاصّ ومحل التخصيص من لفظ العموم، فلا يخصّ به، ولا سبيل لنا هنا إلى دعوى أن الأول هنا - وهو العام - يكون ناسخًا؛ لأن الناسخ لا يتقدم على المنسوخ، أو لأنا إذا منعنا التخصيص، فبطريق أولى أن نمنع النسخ.

"قلنا:" زيد بخصوصه إذا نص عليه لم يتأت التخصيص فيه، فيضطر إلى القضاء بالنسخ.

وأما إذا لم ينصّ عليه، بل أتى بلفظ عام، فإن تخصيصه ممكن، فلا يصار إلى النسخ بل "التخصيص أولى" من النسخ، "لأنه أغلب"، والإلحاق بالأغلب أولى، كلقيط في بلد غالبُ أهلها مسلمون، فإنه يقضي عليه بالإسلام إلْحَاقًا للفرد الأعم بالأغلب.

"و" لأنه "لا رفع فيه"، بل هو دافع، والنسخ رافع، والدفع أسهل من الرفع، وكلاهما "كما لو تأخر الخاص"، فإنه يحمل على التخصيص.

وإن كان النسخ محتملًا بأن تقرر حكم العام، ثم يرفع، فلا يصار إليه، بل يجزم بالتخصيص بالوجهين المذكورين، ولمانع "تخصيص الكتاب مطلقًا أن يمنع قولنا؛ فإنه يحمل على التخصيص؛ فإن ذلك مصادرة له على دعواه.

(1)

في أ: يقتل.

(2)

في أ: يقتل.

ص: 307

قَالُوا: عَلَى خِلافِ قَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ} [سورة النحل: الآية 44].

قُلْنَا: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: الآية 89]، وَالْحَقُّ أَنَّهُ الْمُبَيَّنُ بالْكِتَاب وَبِالسُّنَّةِ.

قَالُوا: الْبَيَانُ يَسْتَدْعِي التَّأَخُرَ.

قُلْنَا: اسْتِبْعَادٌ.

قَالُوا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كُنَّا نَأْخُذُ بِالأَحْدَثِ فَالْأحْدَثِ.

قُلْنَا: يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الْمُخَصّصِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

الشرح: "قالوا" ثانيًا: لو كان الكتاب مخصصًا لكان "على خلاف قوله: "لِتُبَيِّنَ" لِلنَّاسِ مَا نزِّلَ إِلَيْهِمْ"[سورة النحل: الآية 44]؛ إذ التخصيص يتبين، والآية صريحة في أن المبيِّن هو الرسول صلى الله عليه وسلم[فكيف]

(1)

يكون الكتاب مبينًا؟ فدل أن القرآن لا يكون مخصصًا ألبتة.

وإلى هنا ينتهي استدلال من منع تخصيص الكتاب مطلقًا، ويزيد الحنفي فيقول: وإذا لم يكن الكتاب مخصّصًا مطلقًا، لم يكن العام المتأخر من الكتاب مخصصًا؛ لأنه من جملة الأفراد.

ولا يقال: فيلزم ألَّا يكون الكتاب مخصّصًا ألبتة، وأنت أيها الحنفي لا تقول به.

لأنا نقول: مقتضى هذا الدليل ما ذكرتم، ولكن خالفناه فيما إذا تقدم العام على الخاص؛ للإجماع منا ومن خصومنا، فبقي ما عداه على الأصل.

فإن قلت: هَبْ أنه دالّ على أن العام المتأخر في الكتاب لا يكون مخصصًا إلا أنه لا يدل على أن كل عام متأخر لا يكون مخصصًا، ودعوى الحنفية هذا لا ذاك، والمسألتان كما تقدم بينهما عموم وخصوص مطلق؛ لأن من منع كون العام المتأخر مخصصًا منعه سواء أكان في الكتاب أم في غيره، ومن منع التَّخصيص في الكتاب منعه سواء أكان متأخرًا أم لا.

قلت: هذا صحيح، ولكن إذا ثبت أنه لا يكون المتأخّر مخصصًا، وهو من الكتاب فلأن لا يكون المتأخر الذي هو من غير الكتاب مخصصًا بطريق أولى.

(1)

في أ: وكيف.

ص: 308

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"قلنا": هذا ولا [تعارض]

(1)

بقوله تعالى في صفة القرآن: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: الآية 89] فإنه يقتضي أنه يبين جميع الأشياء، ومن جملتها الكتاب.

"والحق أنه" صلى الله عليه وسلم هو "المبين"؛ إذ الكلّ ورد على لسانه صلى الله عليه وسلم، فكان المبين للكلّ "بالكتاب" تارةً، "وبالسُّنة" أخرى.

"قالوا" ثالثًا: "البيان يستدعي التأخر" عما هو بيان له، ثم افترقوا:

فقال مانعو تخصيص الكتاب مطلقًا: والقرآن لا يتقدم بعضه بعضًا؛ لأنه كلام الله الأزلي الواحد بالذات، وهو كالكلمة الواحدة.

وقالت الحنفية: فلا يكون الخاصّ المتقدّم [مبينًا]

(2)

للعام المتأخر.

"قلنا": هذا "استبعاد"، وأي مانع من ورود المبيّن مع ما هو بيان له، أو قبله؟

وقلنا: ["مع"]

(3)

ليخص بالكلام من منع تخصيص الكتاب مطلقًا معتلًّا بأنه كالكلمة الواحدة.

وقلنا: "قبل" ليخصّ الحنفية.

وحذف المصنّف اللفظين ليصلح كلامه للفريقين، [فافهم]

(4)

صغار الكلمات تعرف كبارها.

فإن قلت: لم لا أجاب المصنف هنا بالاستفسار كما فعل فيما تقدم؟ فقال: إن كان المراد تأخر ذات البيان، فلا نسلّم أنه يلزم.

وإن كان صفته وهو كونه بيانًا فلا نسلم أنه سابق، بل هو متأخر، فالسَّابق ذاته لا صفته؟!

قلت: لأنه لو أجاب بهذا هنا لاختصّ بالحنفية، ولم يكن فيه ردّ على من منع تخصيص الكِتَاب، فأجاب بما يشمل الفريقين.

وأنت إذا تأملت كلامه وجدته قد ذكر دلائل الفريقين من الخصوم بعبارة صالحة لهما، وترك في كل دليل الزيادة التي يختص بها كل واحد منهما مُحَالةً على شارحي كلامه

(1)

في أ، ج: يعارض.

(2)

في أ: مثبتا.

(3)

في ب: منع.

(4)

في ب: فأوهم.

ص: 309

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كما فعلنا، فلم يكن له سبيل إلى أن يذكر ما يختصّ بفريق؛ لئلا يتوهّم أن المسألة موضوعة للبحث مع [ذلك الفريق وحده، وإنما هي موضوعة للبحث مع [

(1)

الفريقين جميعًا.

نعم [ختم]

(2)

المسألة بدليل يختصّ بالحنفية فقال: "قالوا: قال ابن عباس: "كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث"

(3)

ولفظه في صحيح مسلم: وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره، وهو صريح في اتباع الجماعة كلّهم، فكان إجماعًا.

وفي "الموطأ": "وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث"، وهو ظاهر في الإجماع، والعام المتأخر أحدث، فيجب الأخذ به، وترك الخاص المتقدم؛ وهو المدعي.

"قلنا: يحمل" الأحدث في قول ابن عباس "على غير" العام "المخصص جمعًا بين الأدلَّة" من الجانبين، فإن الجمع - ولو بوجه - أولى.

وقد ادَّعى الإمام الرازي، والآمدي، والهندي أن الحامل لهم على تخصيص قول ابن عباس بما إذا كان الأحدث هو الخاص: أنه قول صحابي.

وحذف المصنّف ذلك، وهو حسن، فإن لقائل أن يقول: قد قدمنا صراحة رواية مسلم، وظهور رواية "الموطأ" عن ابن عباس في نقل إجماع الصحابة رضي الله عنهم فاندفع هذا.

نعم في صحيح البخاري عن ابن عباس: "وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر" ولكنه محمول على ما صحّ في مسلم و "الموطأ"، فالأولى ما قررناه من الجمع؛ لأنه أولى، لا لأن القول قول صحابي لما ذكرناه، ولأنه لو كان قول صحابي لما احتجنا إلى الجمع؛ فإن قول الصَّحابي ليس عندنا حُجَّة.

"تنبيه"

لا يخفى عليك أن من جعل من الشَّارحين كلام المصنف مقصورًا على الكلام مع الحنفية، ومن وافقهم يلزمه أمور.

(1)

سقط في ج.

(2)

في أ: حتم.

(3)

أخرجه البخاري (5/ 90) كتاب المغازي: باب غزوة الفتح في رمضان، ومسلم (2/ 784 - 785) كتاب الصيام: باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر حديث (88) ومالك في الموطأ" كتاب الصيام باب ما جاء في الصيام، والنسائي (4/ 189) كتاب الصيام: باب الرخصة للمسافر أن يصوم بعضًا ويفطر بعضًا.

ص: 310

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أحدها: أن يكون افتتح المسألة بمسألة كبرى، وهي مسألة تخصيص الكتاب بالكتاب، ثم أضرب عنها، وانتقل إلى مسألةٍ أخرى، وهي بناء العام على الخاصّ، ولا يقال: مسألة بناء العامّ على الخاص فرع لتلك، بل بينهما عموم وخصوص، من وجه كما قدمناه.

نعم لو كان أبو حنيفة يخص جعل العام المتأخر ناسخًا بما إذا ورد في الكتاب، اتجه هذا وكنا نقول: هذه المسألة في تخصيص الكتاب بالكتاب، فالمختار جوازه.

والقول بالمنع لم يحكه المصنف، وقول التفصيل بين العام المتقدم والمتأخّر هو رأي أبي حنيفة وموافقيه، ولكن أبا حنيفة لا يقول بذلك، ولا تعلّق له بخصوص الكتاب، بل كلامه في تعارض العامّ والخاصّ مطلقًا، ولا فرق قيه بين أن يقع في الكتاب أو غيره.

والثاني: أن يكون استدل بالدَّليلين اللذين صدر بهما المسألة على الحنفيَّة، وهما لا [ينهضان]

(1)

إلَّا بضميمة كلّ منهما.

أما الآيتان فلا ينهضان إلَّا أن [يثبت]

(2)

نقلُ تاريخ التقدم والتأخر، ثم يقول: والظاهر أن المصنّف لو ادعى ثبوت نقل التاريخ في ذلك لبيّنه فقال: وهي متقدمة؛ لأن مثل هذا لا يهمل.

وأيضًا: فالآمدي لم يذكر في "الإحكام" هذا، وإنما استدل بالآيتين على مطلق تخصيص الكتاب بالكتاب، والظاهر أن المصنّف تبعه.

والثالث: أن يكون من قال: العامّ المتأخر للنَّاسخ استدل بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ} ولم ير ذلك لأحد، وإنما استدلّ بهذه الآية من منع تخصيص الكتاب بالكتاب، كذا هو في "الإحكام" وغيره من كتب أصحابنا والحنفية، وإنما نحن تعسّفنا، وجعلنا الآية دليلًا لكلٍّ من الفريقين.

والرابع: مخالفة ظاهر قول المصنف في المسألة الآتية عقبهما، وهي كالتي قبلها؛ فإنه إنما أراد به أن [يخصّ]

(3)

السُّنة بالسُّنة كتخصيص الكتاب بالكتاب.

وظاهره أن الذي [قبلها]

(4)

هو تخصيص الكتاب بالكتاب، ولا يخفى عليك أن من

(1)

في ج: ينتهضان.

(2)

في أ، ج: ثبت.

(3)

في ج: تخصيص.

(4)

في أ، ج: قبله.

ص: 311

مَسْأَلَةٌ:

يجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ.

لَنَا: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ" - مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ"، وَهِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الْخِلافِ.

قصر كلامه على تخصيص الكتاب بالكتاب يلزمه أمور:

أحدها: أن يكون المصنّف ترك البحث مع الحنفية في مسألة بناء العام على الخاص، وهي من أكبر مسائل الأصول التي لا يسع ابن الحاجب حذفها من مختصره.

والثاني: أن يكون ما نقله عن أبي حنيفة وموافقيه حَشْوًا في هذه المسألة؛ لأنه ليس بمذهب مفصل فيها كما عرفت، وإنما هو شيء استطرد ذكره مع عدم تعلّقه بما هو فيه.

والثالث: أن الدليل الأوَّل ظاهر في أنه من قبل الحنفية، وكذلك الثالث، وإنما [نحن]

(1)

تعسّفنا فيهما؛ فجعلناهما من قبل الفريقين رَوْمًا لتعميم كلام المصنّف.

وأما الرابع: فمتعين أنه من قبل الحنفية.

وإذا وقفت على ما يلزم هؤلاء وهؤلاء، فلا يخفى عليك أن ما ارتكبناه نحن أحسن وأولى.

«مسألة»

الشرح: "يجوز تخصيص السُّنة بالسُّنة"؛ خلافًا لداود، وطائفة

(2)

.

"لنا": أن ما رواه البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ"

(3)

مخصص لقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في "الصحيحين" وغيرهما: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ" أو كان [عَثْريًّا]

(4)

"العُشْر، وهي كالتي قبلها" أعني تخصيص الكتاب - بالكتاب، فانقل ما مرّ بك ثَمَّ إلى هنا.

(1)

سقط في ب.

(2)

ينظر: الإحكام للآمدي 2/ 299 (2).

(3)

أخرجه البخاري 3/ 378، في كتاب الزكاة: باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة (1459)، ومسلم 2/ 673، كتاب الزكاة (1/ 979)، ومالك 1/ 244 في الزكاة: باب ما تجب فيه الزكاة (1).

(4)

في ب: غمريا.

ص: 312

مَسْأَلَةٌ:

يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ.

لَنَا: "تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيءٍ"[سورة النحل: الآية 89].

وَأيْضًا: لا يُبْطَلُ الْقَاطِعُ بِالْمُحْتَمِل.

قَالُوا: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [سورة النحل: الآية 44]، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

مَسْأَلَةٌ:

"يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقُرآنِ بِخبَرِ الْوَاحِدِ.

«مسألة»

الشرح: "يجوز تخصيص السُّنة بالقرآن" خلافًا لقوم.

"لنا": قوله تعالى في صفة الكتاب {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} .

وأيضًا لا يبطل القاطع" دلالة ومتنًا، وهو القران الخاص "بالمحتمل" دلالة، وهو خبر الآحاد العام، أو المحتمل دلالة لا متنًا، وهو المتواتر العام.

"قالوا": قوله تعالى: " {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} " يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لا غيره، "وقد تقدم، جوابه، وهو أنه عليه السلام هو المبين بالكتاب تارةً، وبالسنة أخرى

(1)

.

«مسألة»

الشرح: "يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد، وقال به" جمهور أصحابنا

(2)

، وكذا

(1)

ذكر العلامة ابن الحاجب هنا تخصص السنة بالقرآن، ولم يمثل له. قال الزركشي: ومن أمثلة ذلك "حديث ما أُبين من حي فهو ميت" أخرجه ابن ماجه في السنن برقم [3216] عام خص بقوله تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين} [سورة النحل: الآية 80] وثانيها: قوله صلى الله عليه وسلم "البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة" فإنه عام في الحر والعبد، وخص بالحر بقوله تعالى:{فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] والحديث أخرجه مسلم 3/ 1317، كتاب الحدود: باب حد الزنى (13 - 1690)، وأبو داود 4/ 144، كتاب الحدود: باب في الرجم (4415)، والترمذي 32/ 4، كتاب الحدود: باب ما جاء في الرجم على الثيب (1434)، والبيهقي 8/ 221 - 222، والدارمي 2/ 181.

(2)

واعلم أنه لم يعلم خلاف بين الأصوليين في جواز تخصيص العام من الكتاب أو السنة=

ص: 313

وَقَالَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الأرْبَعَة، وَبِالْمُتَوَاتِرِ اتِّفَاقًا.

ابْنُ أَبَانٍ: إِنْ كَانَ خُصَّ بِقَطْعِيٍّ.

الْكَرْخِيُّ: إِنْ كَانَ خُصَّ بِمُنْفَصِلٍ.

"الأئمة الأربعة" فيما نقل المصنّف، والحنفية ينكرونه، ومنعه بعض المتكلّمين مطلقًا،

= المتواترة بالمستقل المقارن القطعي الثبوت بأن كان كتابًا أو سنة متواترة، إلا ما حكاه صاحب إرشاد الفحول وغيره من مخالفة بعض الظاهرية في تخصيص الكتاب بالكتاب، وبعض الشافعية وأحمد في رواية ومكحول في تخصيص السنة المتواترة بالكتاب وقد ألحق الحنفية المشهور بالمتواتر قائلين: لأنه على رأي الجصاص ومن وافقه من أنه يفيد علم اليقين فظاهر، وأما على رأي من يرى أنه يفيد علم الطمأنينة كابن أبان ومن وافقه؛ فلأنه قريب من اليقين، والعام ليس بحيث يكفر جاحده فهو قريب من الظن، وقد انعقد الإجماع على تخصيص عموم الكتاب بالخبر المشهور كقوله عليه السلام "لا يرث القاتل شيئًا" وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها".

هكذا وجه الحنفية رأيهم في إلحاق المشهور بالمتواتر، وبين أنه على رأي الجصاص ومن وافقه من أنه يفيد علم اليقين أنه يقوي على معارضة الكتاب والخبر المتواتر عندهم، أما على الرأي الثاني فغير واضح ذلك منهم، لأن غاية ما تفيده هذه الشهرة غلبة الظن أي ظنًّا أقوى مما يفيده خبر الواحد، ولا يصل بالخبر إلى درجة القطع، وإذًا فكيف ينتهض الظني معارضًا للقطعي؟؟

ولعل الحامل للحنفية على تلك المحاولة التي أبدوها في الخبر المشهور وأنه ملحق بالمتواتر - ذهابهم إلى منع تخصيص القرآن بأخبار الآحاد؛ فإنهم لما وجدوا كثيرًا من الأحاديث انعقد الإجماع على تخصيص القرآن بها فتحوا باب الشهرة واسعًا، واعترفوا بتخصيصه، وراحوا يدعون الشهرة في كثير من الأحاديث راجين من وراء ذلك دفع ما يعود على أصلهم بالبطلان، وقد أفرطوا في ادعاء الشهرة حتى ادعاها بعضهم في أحاديث لم يثبت رفعها فضلًا عن شهرتها، فعلوا ذلك في حديث:"أخروهن من حيث أخرهن الله" فأثبتوا بذلك فرضًا وهو تأخير المرأة عنه في صلاته حتى إذا لم يفعل وحاذته المرأة فيها فسدت صلاته، وها هو ذا الكمال بن الهمام - وهو حنفي له مكانته بين الأحناف - يقول في فتح القدير تعليقًا على قول شارح الهداية "أن الحديث من المشاهير"، أنه لم يثبت رفعه فضلًا عن كونه من المشاهير وإنما هو في مسند عبد الرزاق موقوف على ابن مسعود إلخ ما قال ..

فعلوا ذلك أيضًا في حديث: "لا نكاح إلا بشهود" جاء في "العناية على الهداية": وأما اشتراط =

ص: 314

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الشهادة فلقوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بشهود" واعترض بأنه خبر واحد؛ فلا يجوز تخصيص قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} به، وأجاب فخر الإسلام بأن هذا حديث مشهور تلقته الأمة بالقبول؛ فتجوز الزيادة به على الكتاب وعلق ابن الهمام على ذلك بأن ابن حبان روى من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" قال ابن حبان: لا يصح في ذكر الشاهدين غير هذا وشتان ما بين هذا وبين قول فخر الإسلام أن حديث الشهود مشهور يجوز تخصيص الكتاب به. هذا ولما كان الكلام في هذا الفصل يتعلق بخبر الواحد الذي يتعارض مع العام من الكتاب أو السنة المتواترة، وهل يجوز تخصيص ذلك به أولا، وكان هناك قوم ينكرون وجوب العمل بخبر الواحد مطلقًا - كان ولا بد من التنبيه قبل حكاية المذاهب في هذا المقام على أن الخلاف هنا بين الذين يرون حجيته على ما هو التحقيق؛ إذ لا إشكال بين الأصوليين في عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد على رأي من يقول بأنه ليس بحجة ..

وللأصوليين في جواز تخصيص الكتاب أو السنة المتواترة بأخبار الآحاد أقوال: القول الأول وهو المختار في كتب الحنفية: أنه لا يجوز تخصيص الكتاب أو السنة المتواترة بأخبار الآحاد ما لم يخصا بقطعي دلالة وثبوتًا ..

وقد نبه الكمال وشارحه صاحب "التيسير" على أن محل الكلام عند الحنفية - وجلى أن مراده المشترطون للمقارنة منهم لأن غير المشترطين لا يحتاجون إلى مثل هذا الغرض - ما لو فرض نقل الراوي أن الخبر قارن نزول الكتاب بأن يروى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرن بتلاوته الكتاب كلامًا دالًا على خروج بعض أفراد الكلام العام، وأنه لم يعلم خلاف بينهم في عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد كما اختلفوا في قطعية العام ..

وواضح أن التنبيه على الأول من أجل أن أكثر الحنفية يشترطون المقارنة في المخصص الأول، فلا بد إذا من معرفة تلك المقارنة - وطريقها ما ذكر - ثم الكلام بعد ذلك في كونه مخصصًا أولا، إذ لو لم يظهر ذلك لتوهم أن المنع من التخصيص بناء على فقدان الشرط، وليس كذلك، وعلى الثاني لدفع ما قد يتوهم أن من يرى ظنية العام من الحنفية يرى التخصيص بخبر الواحد، كما هو مذهب غيرهم من الظنيين، فنبه عنى أنه لا خلاف بينهم في عدم الجواز ..

هذا ما يؤخذ من كتب المتأخرين منهم، وبالرجوع إلى ما قاله المتقدمون نرى أن أبا بكر الجصاص يذكر في أصوله أن تخصيص عموم القرآن والسنة الثابتة بخبر الواحد يجب أن يراعى فيه أن ما كان من ذاك ظاهر المعنى بين المراد وغير مفتقر إلى البيان ولم يثبت خصوصه بالاتفاق، فإنه لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد، وما كان من ظاهر القرآن أو السنة الثابتة قد ثبت خصوصه باتفاق أو كان في اللفظ احتمال للمعاني أو اختلف السلف في معناه، وسوغوا =

ص: 315

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الاختلاف فيه، وترك الظاهر بالاجتهاد أو كان اللفظ في نفسه مجملًا مفتفرًا إلى البيان - فإن خبر الواحد مقبول في تخصيصه والمراد به، ثم قال: وهذا عندي مذهب أصحابنا وعليه مدار أصولهم ومسائلهم، وقد قال عيسى بن أبان في "الحجج الصغير": لا يقبل خبر خاص في رد شيء من القرآن ظاهر المعنى حتى يجيء ذلك مجيئًا ظاهرًا يعرفه الناس ويعملون به، مثل ما جاء أن لا وصية لوارث، ولا تنكح المرأة على عمتها؛ فإنه إذا جاء هذا المجيء فهو مقبول؛ لأن مثله لا يكون وهمًا، وأما إذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث خاص فكان ظاهر معناه ينافي السنن الثابتة وأحكلام الإسلام أو كان ينفي سنة مجمعًا عليها أو يخالف شيئًا من ظاهر القرآن، فكان الحديث له وجه ومعنى يحمل عليه لا يخالف ذلك، حمل معناه على أحسن وجوهه وأشبهه بالسنن وأوفقه لظاهر القرآن، فإن لم يكن له معنى يحتمل ذلك فهو شاذ، قال عيسى: وكل آية من القرآن كانت خاصة في قول جماعة أهل العلم فالأخبار مقبولة بالنسبة لها، ولأهل العلم النظر في ذلك بأحسن ما بينهم في ذلك من الأخبار وأشبهها بالسنن نحو قوله تعالى:{والذين يرمون أزواجهم} هي خاصة عندهم؛ لأن الصغيرين الذين لم يعقلا لم يدخلا فيها في قول أحد من العلماء، فلما أجمعوا على أنها خاصة قبل الخبر الخاص في المراد بها، وقال في الحجج الكبير: وكل أمر منصوص في القرآن فجاء خبر يرده أو يجعله خاصًّا وهو عام بعد أن يكون ظاهر المعنى لا يحتمل التفسير والمعاني فإن ذلك الخبر إن لم يكن ظاهرًا قد عرفه الناس وعملوا به حتى لا يشذ منهم إلا الشاذ فهو متروك ..

فهذا نص منهم على أن ظاهر القرآن الذي لا يحتمل التفسير والمعاني ولم يثبت خصوصه بالاتفاق لا يخصص بخبر الواحد، ولا شك أن هذا يتفق وما قرره المتأخرون، ولا يزيد عليه إلا في التفصيل والإيضاح ..

قال أبو بكر: وهذا مذهب الصدر الأول قد روى هذا الاعتبار عن جماعة منهم، وحكيت عنهم روايات تثبت أن مذهبهم كذلك - القول الثاني: أنه يجوز تخصيصه مطلقًا، سواء خص بقطعي أو لا، وهو مذهب أكثر من أهل الأصول ..

القول الثالث: أنه لا يجوز تخصيصه مطلقًا، وقد ذكر صاحب إرشاد الفحول أنه مذهب بعض الحنابلة، وحكاه الغزالي في المنخول عن المعتزلة، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء ونقله ابن القطان عن طائفة من أهل العراق ..

وتوقف في المسألة القاضي أبو بكر على ما حكاه جماعة. وهو القول الرابع. قاله شيخنا الشيخ فايد. وينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 364، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 426، وسلاسل الذهب للزركشي 246، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 301، ونهاية السول للأسنوي 2/ 459، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 166، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 390، وحاشية البناني 2/ 27، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 59، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 63، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى =

ص: 316

القاضي بالوقف.

"[وبالمتواتر]

(1)

اتفاقًا"، أي: يجوز تخصيص الكتاب بالسُّنة المتواترة بالاتفاق، ولذلك حكى الاتّفاق الشيخ الهِنْدِي.

وعبارة الآمدي: لا أعرف فيه خلافًا، ومنهم من حكى خلافًا في السُّنة الفعلية.

وقال "ابن أبان

(2)

: إن كان" العام قد "خصّ" قبل ذلك "بقطعي" جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإلا فلا

(3)

.

وقال "الكَرْخي: إن خصّ"

(4)

قَبلُ "بمنفصل" جاز، وإلا فلا"

(5)

.

الشرح: وقال "القاضي" أبو بكر

(6)

"بالوقف".

= 2/ 149، والوجيز للكراماتسي 13، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 473، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 218. وينظر: كشف الأسرار 1/ 294، ومنتهى السول 2/ 50، والمنتهى لابن الحاجب 96، والمسودة 119، وشرح العضد 2/ 148، والعدة 2/ 550، والتبصرة 132، واللمع 18.

(1)

في ب: وبالتواتر.

(2)

عيسى بن أبان بن صدقة، أبو موسى. قاض من كبار فقهاء الحنفية، كان سريعًا بإنفاذ الحكم، عفيفًا، خدم المنصور العباسي مدة، وولى القضاء بـ "البصرة" عشر سنين، له كتب منها:"إثبات القياس" و"اجتهاد الرأي" و"الجامع" و"الحجة الصغيرة". وتوفي بـ "البصرة" سنة 221 هـ. ينظر: تاريخ بغداد 11/ 157، والجواهر المضيّة 1/ 401، والأعلام 5/ 100.

(3)

ينظر: المصادر السابقة للمسألة.

(4)

ينظر: المصادر السابقة.

(5)

وأصل المسألة يلتفت على أن دلالة العام على أفراده قطعية أو ظنية، فإن قلنا: قطعية لم يجز بخبر الواحد، لأن الظني لا برفع القطعي، وإن قلنا: ظنية جاز.

وجعل ابن برهان الخلاف مبنيًّا على أن خبر الواحد ليس بمظنون من كل وجه عندنا، ومظنون من جميع الوجوه عندهم.

ونقل الغزالي الخلاف فيه عن المعتزلة، وأشار إلى بناء الخلاف على أن دلالة الكتاب قطعية كمتنه، أو ظنية.

فإن قلنا: ظنية جاز التخصيص، وإلا فلا. انظر: سلاسل الذهب ص 246.

(6)

ينظر مراجع المسألة.

ص: 317

لَنَا: أَنَّهُمْ خَصُّوا {وَأُحِلَّ لَكُمْ} [سورة النساء: الآية 24] بقَوْلهِ عليه الصلاة والسلام: "لا تُنكحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلا عَلَى خَالَتِهَا"، وَ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [سورة النساء: الآية 11] بِقَوْلِهِ [عليه الصلاة والسلام]: "لا يَرِثُ الْقَاتِلُ وَلا الْكَافِرُ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَلا الْمُسْلِمُ مِنَ الْكَافِرِ"، وَ"نَحْنُ - مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاء - لا نُورَثُ.

قيل بمعنى: لا أدري.

وقيل: بمعنى أنه يقع التعارض في ذلك القَدْرِ الذي دلَّ العموم على إثباته، والخصوص على نفيه، فتوقف عن العمل، وهذا هو ظاهر كلامه في "التقريب".

وذكر ابن السَّمْعَاني أن محل الخلاف في أخبار الاحاد التي لم تجمع الأُمة على العمل بها.

قال: وأما ما أجمعت على العمل به كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ وَلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ"

(1)

، [ولنهيه]

(2)

عن الجمع بين المرأة وعمّتها، أو خالتها، أو ابنة أخيها، فيجوز تخصيص العموم، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر؛ لانعقاد الإجماع على حكمها، ولا يضرّ عدم انعقاده على روايتها.

ولقائل أن يقول: لا حاصل لهذا؛ فإن الإجماع لا بُدَّ له من مستندٍ، فإن كان غير أخبار الآحاد، فليس من مسألة تخصيص الكتاب بخبر الواحد في شيء، وإن كان من الآحاد، فلا بدّ أن يحيله من يمنع التخصيص بها؛ لأنه عنده باطل، والأمة لا تجمع على باطل.

نعم إنْ نُقِلَ أَنَّ الأمَّة أجمعت على التَّخصيص بخبر الواحد في صورة ما كان ردًّا على من يمنع التخصيص به، وهو ما يدعيه المصنف بقوله:

الشرح: "لنا": على الجواز الوقوع من الصحابة بدليل "أنهم خصوا" قوله تعالى: " {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [سورة النساء: الآية 24] الذي هو عام في نكاح المرأة على

(1)

أخرجه أحمد 4/ 186، والترمذي 4/ 377، 378، كتاب الوصايا: باب لا وصية لوارث (2121)، وأبو داود 3/ 114، كتاب الوصايا: باب ما جاء في الوصية للوارث (2870).

(2)

في ج: كنهيه.

ص: 318

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عمّتها، وعلى خالتها "بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تُنْكحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلا خَالَتِهَا"

(1)

والحديث رواه الأئمة السّتة من حديث أبي هريرة.

ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها"، "و "كذلك خصُّوا قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [سورة النساء: الآية 11] وهو عام في كل ولد، سواء أكان قاتلًا أم كافرًا أم غير ذلك وفي كل والد، سواء أكان نبيًّا أم غيره "بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يَرِثُ القَاتِلُ وَلا الكَافِرُ مِنَ المُسْلِمِ وَلا المُسْلِمُ مِنَ الكافِرِ"

(2)

، و"نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاء لا نُورَثُ".

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَرِثُ القَاتِلُ شَيْئًا"، رواه النَّسائي من حديث إسماعيل بن عَيَّاش

(3)

عن ابن جريج

(4)

، ويحيى بن سعيد.

(1)

أخرجه مالك في الموطأ 2/ 532، كتاب النكاح: باب ما لا يجمع بينه من النساء (20)، والبخاري 9/ 64، كتاب النكاح: باب لا تنكح المرأة على عمتها (5109) وطرفه في (5110)، ومسلم 2/ 1028، كتاب النكاح: باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها (33/ 1408).

(2)

أخرجه البخاري 12/ 50، في الفرائض: باب لا يرث المسلم الكافر (6764) ومسلم 3/ 1233، في الفرائض:(1/ 1614).

(3)

إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي، أبو عتبة الحمصي، عالم الشام، وأحد مشايخ الإسلام. وثقه أحمد وابن معين ودُحيم والبخاري وابن عدي في أهل الشام، وضعفوه في الحجازيين. قال يزيد بن هارون: ما رأيت أحفظ من إسماعيل، ما أدري ما الثوري. قال محمد بن مُصَفَّى: مات سنة إحدى وثمانين ومائة، عن بضع وسبعين سنة. ينظر: طبقات ابن سعد 7/ 334، سير الأعلام 8/ 312، وشذرات الذهب 1/ 294، والوافي بالوفيات 9/ 184، وميزان الاعتدال 1/ 240، والجرح والتعديل 2/ 191، والكاشف 1/ 127، وتهذيب الكمال 1/ 106، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 92.

(4)

عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأموي، مولاهم، أبو الوليد، وأبو خالد المكي الفقيه، أحد الأعلام، عن ابن أبي مليكة، وعكرمة مرسلًا. وعن طاوس مسألة ومجاهد ونافع وخلق. وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري أكثر عنه الأوزاعي والسفيانان وخلق.

قال أبو نعيم: مات سنة خمسين ومائة. ينظر ترجمته في تهذيب الكمال: 2/ 855، وتهذيب التهذيب: 6/ 402 (855)، وتقريب التهذيب: 1/ 520 (1324)، وخلاصة تهذيب الكمال: 2/ 178، والكاشف: 2/ 210، وتاريخ البخاري الكبير: 5/ 422، وتاريخ البخاري الصغير:=

ص: 319

وَأُورِدَ: إِنْ كَانُوا أَجْمَعُوا، فَالْمُخَصِّصُ الْإِجْمَاعُ؛ وَإِلَّا فَلَا دَلِيلَ.

قُلْنَا: أَجْمَعُوا عَلَى التَّخْصِيصِ بِهَا.

وعن عمرو بن شعيب أن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيْسَ لِقَاتِلٍ مِيرَاثٌ" رواه مالك في "الموطأ"، والنسائي أيضًا.

وقال: هذا هو الصواب، وحديث إسماعيل خطأ.

وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القَاتِلُ لَا يَرِثُ" رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة

(1)

، وهو شيخ لا يحتجّ به أهل الجرح والتعديل، وقد قال الترمذي: لا يصح.

وأنا أقول: حديث منع القاتل له طرق يؤيد بعضها بعضًا، وكذلك قال البَيْهَقي: إسحاق لا يحتج به إلا أن شواهده تقويه.

وفي "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمَ".

وتقدم حديث: "نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ" أول العموم.

الشرح: "وأورد" على هذا الدَّليل أنهم "إن كانوا أجمعوا" على التخصيص، "فالمخصّص الإجماع" الصَّادر منهم لا خبر الواحد، "وإلا فلا دليل".

"قلنا: أجمعوا على التخصيص بها"، وهم لا يجمعون على باطل، فدلَّ على أن التخصيص بها حق؛ فوضح سقوط هذا السؤال، وإن كان ينطبق على دعوى ابن السمعاني التي قدمناها.

= 2/ 98، 99، 111، والجرح والتعديل: 5/ 1687، وميزان الاعتدال: 2/ 659، ولسان الميزان: 7/ 292.

(1)

إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، مولى عثمان، مدني. عن: مجاهد وعمرو بن شعيب. وعنه: الليث ويحيى بن حمزة. قال البخاري: تركوه. مات سنة أربع وأربعين ومائة على الصحيح.

ينظر: تهذيب الكمال 1/ 86، وتهذيب التهذيب 1/ 240، والكاشف 1/ 111، وتاريخ البخاري الكبير 1/ 396، والجرح والتعديل 2/ 227، وميزان الاعتدال 1/ 193، ولسان الميزان 7/ 175، وموضوعات ابن الجوزي 3/ 24، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 29، 74.

ص: 320

قَالُوا: رَدَّ عُمَرُ رضي الله عنه حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؛ "أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً" لَمَّا كَانَ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [سورة الطلاق: الآية 6]؛ وَلِذِلِكَ قَالَ: "كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ".

قُلْنَا: لِتَرَدُّدِهِ فِي صِدْقِهَا؛ وَلِذلِكَ قَالَ: لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ.

قَالُوا: الْعَامُّ قَطْعِيٌّ وَالْخَبَرُ ظَنِّيٌّ.

واعترض القاضي في "التقريب" دعوى الإجماع؛ فإن جميع الأخبار التي خصوا بها العام قامت بها الحُجَّة عند الصحابة رضي الله عنهم، وعلموا صحّتها، أي: فما خصوا إلا قطعيًّا بقطعي.

قال: وقد بسطنا الجواب عن كل خبر في الكتاب الكبير.

قلت: يعني "التقريب" و"الإرشاد الكبير"[الذي له]

(1)

الذي لم نَقِفْ عليه، والذي وقفنا عليه هو الصّغير كما ذكر في خُطْبته، والصغير في أربعة أسفار كبار، وبلغنا أن الكبير في اثني عشر سفرًا.

الشرح: "قالوا: ردّ عمر حديث فاطمة بنت قيس"

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه لم يجعل لها سُكْنَى ولا نفقة" في الطَّلاق البائن "لما كان مخصّصًا لقوله" تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [سورة الطلاق: الآية 6].

"ولذلك قال: "كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة" وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في الأخبار.

(1)

سقط في أ.

(2)

فاطمة بنت قيس بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن وائلة الفهرية. صحابية لها أربعة وثلاثون حديثًا.

اتفقا على حديث وانفرد مالك بثلاثة.

وعنها الأسود بن يزيد، وعروة، قال ابن عبد البر: كانت من المهاجرات الأول. ينظر ترجمتها في: تهذيب التهذيب (12/ 444 ت: 2866)، والتقريب: 2/ 609، والثقات: 3/ 336، وأسد الغابة: 7/ 230، وأعلام النساء: 4/ 92، والاستيعاب: 4/ 1901.

والإصابة: 8/ 69، وتجريد أسماء الصحابة: 2/ 295.

والكاشف: 3/ 478، وتهذيب الكمال: 3/ 1693، والخلاصة 3/ 389، وتلقيح فهوم أهل الأثر: 366، وأسماء الصحابة الرواة: ت: 87.

ص: 321

وَزَادَ ابْنُ أَبَانِ وَالْكَرْخِيُّ: لَمْ يَضْعُفْ بِالتَّجَوُّزِ.

"قلنا": إنما ردّ خبرها "لتردّده في صدقها"، لا لأنه خبر واحد، "ولذلك قال":"لا ندري أصدقت أم كذبت" كذا ذكر المصنّف.

والحق: أنه إنما تردّد في صدقها؛ لأنه لم يدر أحفظت، فيكون خبرها مطابقًا، فيكون صدقًا، أم نسيت، فلا يكون مُطَابقًا، فيكون كذبًا، وهذا هو لفظ عمر رضي الله عنه قال:"كيف نترك كتاب رَبّنا وسُنَّة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أو نسيت" رواه مسلم، ثم هو مع ذلك مختلف في صحة نقل أبي داود عن أحمد بن حنبل أنه لا يصح عنده.

وقال ابن أبي حاتم: إن أباه أبا حاتم ذكر أنه عنده غير متّصل.

وأما: "لا ندري كذبت أو صدقت فلفظ ربّما أوهم ظاهره أنه توهم فيها اعتمادًا للكذب، ومعاذ الله أن يتوهّم عمر رضي الله عنه ذلك في فاطمة بنت قَيْسٍ، فكيف ثبت هذا عن عمر؟.

وإنما روي بإسناد ضعيف مظلم، ذكره الحارثي فقال: أنبأنا أحمد بن محمد بن سعيد الهَمْدَاني، حدثنا الحسن بن حماد بن حكيم الطَّالقاني حدّثنا أبي حدَّثنا خلف بن ياسين الزَّيَّات عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن الأسود

(1)

قال: قال عمر بن الخطاب: "لا ندع كتاب ربّنا وسُنَّة نبينا عليه السلام لقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت، المطلقة ثلاثًا لها السُّكنى والنفقة" وهذا الإسناد ساقط إلى أبي حنيفة.

وأحمد بن محمد بن سعيد هو ابن عُقْدة، وهو مجمع الغرائب والمناكير.

"قالوا: العام قطعي، والخبر ظني" فلو خصّصه لترك القطعي بالظني.

الشرح: "وزاد ابن أبان والكَرْخي" على ذلك ما يتمشَّى على مذهبهما، فقالا: قطعي "لم يضعف بالتجوز".

(1)

الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن الكوفي. مخضرم فقيه. عن: ابن مسعود وعائشة وأبي موسى وطائفة. وعنه: إبراهيم النخعي وابنه عبد الرحمن وأبو إسحاق وعمارة بن عمير وطائفة. وثقة ابن معين. قال إبراهيم: كان يختم من كل ليلتين. وروى أنه حج ثمانين حجة. توفى سنة 74 أو 75 هـ. ينظر: طبقات ابن سعد 9/ 4، أعيان الشيعة 3/ 443، حلية الأولياء 2/ 102، شذرات الذهب 1/ 82، الوافي بالوفيات 9/ 256، الثقات 4/ 31، تذكرة الحفاظ 1/ 50، تهذيب الكمال 1/ 112، تهذيب التهذيب 1/ 342، خلاصة تهذيب الكمال 1/ 97، البداية والنهاية 9/ 11.

ص: 322

قُلْنَا: التَّخْصِيصُ فِي الدَّلَالَةِ، وَهِيَ ظَنِّيَّةٌ، فَالْجَمْعُ أَوْلَى.

الْقَاضِي: كِلَاهُمَا قَطْعِيٌّ مِنْ وَجْهٍ؛ فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ.

قُلْنَا: الْجَمْعُ أَوْلَى.

والخبر ظنّي، فكيف نترك القَطْعي من أجله.

"قلنا": العام قطعي في مَتْنه، دون دلالته؛ لأن دلالة العام ظنيَّة، والخاص بالعكس، و"التخصيص" لم يقع في المَتْن، بل "في الدّلالة، وهي ظنية"، وإذا كان خبر الواحد الخاصّ قطعيّ الدلالة مظنون المَتْن، والكتاب العامّ عكسه، فيتعادلان، وإذا تعادلا، "فالجمع" بينهما بأن يجعل العام دَلِيلًا في غير مورد الخاص "أولى" من إلغاء أحدهما.

واعلم أن ابن أبان

(1)

، والكرخي يعتقدان دلالة [العام]

(2)

قطعية، فرجع اختلافًا معهما إلى أن دلالة العامّ على أفراده هل هي قطعية؟ لا سيّما إذا لم تخصّ، فلا يخصّها خبر الواحد، أو ظنية، فيخصها.

ولذلك قال ابن السَّمْعَاني: ما قاله ابن أبان مبني على أصل له لا يوافقه عليه.

والحاصل: أنهما على ضعف مذهبهما لا يوافقان على قولنا: العامّ ظني الدلالة، فلننقل الكلام معهما إلى أصلهما الذي لا يمتري - عند الإنصاف - ذوو الألباب في ضعفه، ولنا فيه قول ليس هذا موضعه.

وقال "القاضي: كلاهما قطعي من وجه" العامّ في متنه، والخاصّ في دلالته، فتعادلا "فوجب التوقف".

"قلنا": لا نسلّم عدم الأولوية، بل الخاصّ أولى؛ لما فيه من الجمع بينهما؛ إذ "الجمع" بين الدّليلين، ولو من وجه "أولى".

وليتنبّه طالب التَّحقيق هنا لمهم، وهو أن شيخنا أبا الحسن، والقاضي أبا بكر يطلبان

(3)

في مسائل أصول الفقه القطع، ولا يكتفيان بالظَّن إلَّا فيما ندر من فروعه، وربَّما

(1)

قال القرافي في "نفائس الأصول" المحدثونُ والنحاة على عدم صرف أبان قال ونقله ابن يعيش في شرح المفصل عن الجمهور وقال إنه بناء على أن وزنه أفعل وأصله أبين صيغة مبالغة في الظهور الذي هو البيان والإبانة. فيقول هذا أبين من هذا أي أظهر وأوضح فلوحظ أصله مع العملية التي فيها فلم يصرف.

(2)

سقط في أ.

(3)

في أ: يبطئان، وفي ب: ينطبان.

ص: 323

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقع الخلاف في بعضها، هل هي من القَطْعيات أو غيرها؟ فيصرّح في المسألة بالخلاف فيه، كمسألة النَّقض، وتخصيص العموم بالقياس، وخبر الواحد ونحوها، فإذا توقّف الشيخ والقاضي، فاعلم أن وَقْفتهما إنما هي عن القطع، ولا يمنعان الظن.

وأصحابنا يكتفون في العمليات بالظُّنون، ولا يمنعون أن القطع منتفٍ في أكثر المسائل، فالقاضي مثلًا في مسألتنا هذه واقف عن القطع لا عن الظن، وإنما لم يوجب تخصيص الكتاب بالآحاد؛ لأنه لا يعمل بالظنون.

وأصحابنا أيضًا لا ينكرون أن القطع منتفٍ، ولكنهم يخصصونه؛ لأنهم يعملون بالظنون.

وبهذا يتضح لك أنه لا يكاد يقع خلافٌ بيننا وبين الشيخ والقاضي إلا وهذه سبيله، ونحن عند التَّحقيق متفقون على وِجْدان الظَّنّ، ولكن مختلفون في أنه هل يعمل به.

وقد قدمنا عن القاضي في مسألة تعقّب الاستثناء الجمل أنه واقف، مع قضائه برجحان مذهب الشَّافعي؛ ولذلك صرّح في مسائل لا تحصى برجحان أحد المذاهب مع وقفته عن القضاء بمذهب معين؛ لابتغائه القطع، فاحفظ ذلك فهو مفيد نافع، وبه ينجلي لك غَيْهَبُ مشكلة قعد عن القيام بإيضاحها الأكثرون، واستهون بأمرها من لا يدري الحقائق، وهي كثرة ذهاب العلماء إلى الوَقْفِ في مسائل الأصول، وحكاية المحققين وقفهم قَوْلًا مستقلًّا بنفسه، فيحكون مثلًا النفي والإثبات والوقف وعدم ذلك في الفقهيات، فلا ترى الفقهاء يحكون الوقف قَوْلًا، وإن تردّد منهم متردّد في مسألة ذكروا تردّده، ولم يجعلوا له في المسألة قولًا.

وقد قال من استهان بهذا السؤال: إن هي إلا طرائق يسلكها من شاء، ويحيد عنها من شاء، ولم يدر الغبي أن ذلك لدقيقة، وهي أن الفقهيات يكتفى فيها بالظُّنون، وتقل وقفيات الظُّنون، فلا يكاد فرع فِقْهي يستوي الطَّرفان فيه حتى يكون مشكوكًا فقط، وإن وقع ذلك لم يقع إلَّا لواحد من ألف، ثم يقال: إنه متردّد، وربما لم يحك قوله؛ إذ لا فائدة في حكاية حال من لا قول له.

وأما الأصوليات فالمآخذ فيها قطعية، ويكثر الوَقْف فيها؛ لقلة

(1)

القواطع، ثم السّر

(1)

في أ، ب: لعلة.

ص: 324

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في حكاية أقوال الواقفية أنهم قاضون بانتفاء القَطْع، وقائلون عند ذلك بأنه لا عمل؛ إذ لا عضل عندهم إلَّا بقطعي، فحكى مذهبهم لينبّه على أنهم غير عاملين بواحد من المذاهب، بل هم حاكمون بردّ الجميع، راجعون في المسألة إلى البراءة الأصلية.

فإن قلت: فلم يحكى عن بعض الفقهاء تردّدهم في بعض مسائل الفروع؟

قلت: لينبه على أنه ليس لا قول له مخافة أن يتخيّل وقوع الاتفاق في المسألة، وأنها صارت كالقَطْعِيَّات المتّفق عليها، ثم ذلك لم يقع إلا قليلًا، كما لا يرتاب فيه الفقيه، وليس ذلك لينبّه على أنه يعود الحال إلى البواءة الأصليَّة.

وأما وقف الفقهاء في بعض المسائل كقولهم: مال المرتد موقوف، وملك المبيع في زمن الخِيَارِ موقوف، وأمثال ذلك، فذلك الوقف المراعى أي: منتظر إلى انتهائه، وليس المعنى أنه غير محكوم فيه الآن، بل يعلم أن الحكم واقع فيه الآن، ولكن لا يتبين لنا إلا بالآخرة، ثم ذلك قضاء منهم في شيء، فإنه موقوف فيهم قَاضُون لا واقفون، والشيء مَقْضِي عليه بأنه موقوف لا متردّد فيه، ومعنى الوقف ما ذكرناه؛ فليس من وقف الأصوليين في شيء.

فإن قلت: فقد قال الفقهاء: وقف العقود قِسْمَان: وقف تبين، ووقف صحة، ومثلوا وقف التّبين ببيع مال أبيه على ظن أنه حي فإذا [هو]

(1)

مَيّت، ووقف الصّحة ببيع الفُضُولي، وكلامكم صريح في أن وقفهم وَقْف تبين فقط.

قلت: هذا الآن خروج عن غرضنا؛ فإن غرضنا حاصل بأنهم لا يعنون بالوقف ما يعنيه الأصولي.

وإن أردت تحقيق ما يعنونه على التفصيل فنقول:

ذكر الإمام في باب النهي عن بيع الغَرَر: أن وقف العقود ثلاثة أصنافٍ: بيع الفضولي، وبيع ما يظنه لأبيه، ثم تبين أنه كان قد مات، والصنف الثالث إذا غصب أموالًا وباعها وتصرف في أثمانها وعسر التتبع، ففي تنفيذها قولان، ولما تكلم الإمام في عِتْقِ الراهن أبدى في بيع الرهن إجمالًا أنه توقف، كبيع المفلس.

قال: ولا محمل لتصحيح بيع المفلس ماله على قولٍ إلَّا الحمل على الوَقْف، ومحمل

(1)

في ب: هي.

ص: 325

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الوقف ليس يمتنع جريانه في الرَّهن، ولا نظر إلى كون حجر الفلس جرى من غير اختيار المحجور عليه، بخلاف حجر الرهن.

والوجه: التسوية بين البابين، وتنزيل البيع والعِتْقِ على ترتيب واحد، والعتق أولى بالنفوذ، والبيع أنفذ منه.

قال: وهذا فنّ من الوقف زائد على الأصناف التي ذكرناها في كتاب البيع.

وقال الغزالي في تصرف المفلس: وجه التنفيذ أن البيع صدر من أهله، وصادف محلّه، وكنا نظنه دافعًا لحق لا سبيل إلى دفعه، والآن قد تبين أنه لم يحصل به دفع محذور.

قال أبي رحمه الله: وبكلام الغَزالي هذا يتبين ما أشار إليه الإمام من أن هذا الوقف غير الأصناف الثلاثة؛ لأن بيع الفُضُولي والغاصب لم يصدر من أهله، وبيع ما يظنه للأب في الظاهر كذلك، وفي الباطن خلافه، وهذا في الظَّاهر، والباطن صادر من أهله، ولكن كونه دافعًا للحق أولًا مجهول موقوف على أمر مرتقب، [وهو يشبه تصرّف المريض؛ فإنه صادر من أهله في محلّه، ودفعه لحقّ الورثة أو الغرماء موقوف على أمر مرتقب]

(1)

يظهر عند الموت.

وقال ابن الرِّفْعَةِ في شرح كلام الغزالي هذا: إن معناه أن الحجر على كل مال المفلس شرع مخافة تضييع الديون على أربابها، وليس ذلك بأمر محقق، فإذا بان بالآخرة أنها لم تضع، وأن في المال فَضْلة عنه، فقد بان أن الحجر لم يتناول ذلك الفاضل، فَبَانَ نفوذ التصرف فيه، [وينزل]

(2)

الحَجْر عليه بالفلس منزلة الحجر على السيد في عبده الجاني لأجل جنايته، فإنا نقصر الحَجْر على قدر أَرْشِ الجناية لا على جميعه، كما [أن]

(3)

ذلك رأيٌ لنا ذكره الغزالي في كتاب "الزكاة"، والجامع أن الحَجْر وجد برضا المحجور عليه فيه.

نعم ما وجد الرضا به وإن كان زائدًا على قدر الدين، ولهذا لم يطرد الأصحاب قول الوقف فيه، وإن قال الإمام في كتاب "الإقرار": إنه لا يبعد تخريجه فيه. انتهى.

قال أبي رحمه الله: فإن صحّ ما قاله، فينبغي أن يجري في المرهون قول الوقف المذكورُ في بيع الفُضُولي، فإنه جرى في بيع ملك الغير، فلأن يجري في ملكه الذي حجر عليه فيه لأجل الغير أولى، والوَقْف الذي حقّقه في المفلس نوع زائد على الثلاثة الأصناف

(1)

سقط في ب.

(2)

في ب: ويترك.

(3)

سقط في أ، ب.

ص: 326

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بلا شكّ، وهو من الوجه الذي ذكره شديد الشبه بالمريض؛ [فإن المريض]

(1)

ربما حجر عليه فيما يتبين بالموت به يدفع حقّ الغرماء، والزائد على الثلاث من التبرعات وغير ذلك لا يتعلّق به الحجر، وهذا المعنى ظاهر في [المزيد]

(2)

بلا شكّ.

وأما المفلس: فالقول بأن الحَجْر إنما تعلّق ببعض ماله [كعبد]

(3)

، والأقرب أنه متعلّق بالمال، ولكنه لظننا مُزَاحمة الديون فهو رتبة متوسطة بين تصرّف الفضولي والمريض، بل بين تصرّف الراهن والمريض، وسواء ألحقناه بالمريض أم منعناه، فذلك في نفوذ التصرف، أما الحل فلا؛ فإن المريض يحل له الإقدام على التصرفات

(4)

كلها الآن اعتمادًا على بقاء الحياة، والمفلس ممنوع منها؛ لمُرَاغمته ما شرع الحجر لأجله. انتهى كلام الشيخ الإمام الوالد رحمه الله.

قلت: والحاصل أن ابن الرِّفْعَة يذهب في المُفْلس إلى أن الحَجْر لم يشمل الفاضل كما في المريض. والشيخ الإمام يقول: شمله ولكن نقضنا التصرف عند الاحتياج إلى نقضه

(5)

.

وما قاله الشيخ الإمام أصحّ، وينبغي أن يبني على ما اختلف فيه ابن الرِّفْعَة وأبي رحمهما الله أنه هل ينقض من تصرفات المفلس الأضعف فالأضعف، أو الآخر فالآخر؟.

فإن قلنا برأي الشيخ الإمام: اتّجه نقض الأضعف فالأضعف، وعليه جمهور الأصحاب، وهو الصحيح.

وإن قلنا برأي ابن الرِّفْعَةِ: نقض الآخر فالآخر؛ لأنه المُصَادف لوقت الحجر، وهو رأي الشيخ أبي إسحاق الشِّيرَازي.

وبتصحيح الأصحاب نقض الأضعف فالأضعف يظهر لك أن تصرّف أبي رحمه الله أليق برأيهم من تصرف ابن الرِّفْعَة.

ثم قال أبي رحمه الله: فتحصلنا على مراتب:

(1)

سقط في جـ.

(2)

في أ، جـ: المرتد.

(3)

في ب، جـ: بعيد.

(4)

في أ، ب: التصرف.

(5)

في أ، ب: بعضه.

ص: 327

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إحداها: بيع الفضولي

(1)

، وقد أطلقوا وَقْف العقود عليه على الإجازة.

(1)

يشترط في المعقود عليه أن يكون مملوكًا، ليصح العقد أما إذا لم يكن مملوكًا للقاعد فلا يجوز كما قال الشافعي رضي الله عنه لا يجوز للرجل أن يبيع ملك غيره بغير إذن ليكون موقوفًا على إجازته. ولا أن يشتري بغير إذنه ليكون موقوفًا على إجازته وأجاز مالك البيع والشراء جميعًا على الإجازة.

وأجاز أبو حنيفة البيع على الإجازة دون الشراء.

استدلالا: بما روى عن عروة بن الجعد البارقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا ليشتري له شاة أو أضحية فاشترى شاتين فباع إحداهما: بدِيْنارٍ وَأَتَى بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيعه بالبركة وبما روى أنه أعطى حكيم بن حزام دينارًا ليشتري له به أضحية فاشترى أضحيتين بدينار وباع إحداها بدينار ثم أتى رسول الله بأضحية ودينار.

فدل هذان الخبران على جواز وقوف البيع على إجازة المالك. ولأن من عقد له يجبر في الحال فجاز أن يقف على الإجازة كالوصية. قالوا ولأنه بيع مال يتعلق بحق الغير فجاز أن يقف على إجازته كالمريض إذا حابى في البيع. قالوا ولأن جميع العقد أكمل من شطره فلما وقف شطره وهو البدل علي إجازة المشتري القبول فأولى أن يصح وقف جميعه على الإجازة بعد البدل والقبول. قالوا ولأنه لما جاز أن يكون موقوفًا على الفسخ إذا ثبت فيه الخيار جاز أن يكون موقوفًا على الإمضاء إذا لم يوجد معه الإذن والدليل على صحة ما ذهبنا إليه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وهذا داخل فيه الغرر للتردد بين جوازين.

وبما روى يوسف بن حكيم عن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَبعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" يعني ما ليس في مَالك. وبما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَبِعْ ما لا تملك". ولأن عقد البيع ينقل ملكًا عن البائع إلى مالك هو المشتري فلما لم يجز أن يكون موقوفًا على إجازة المشتري فأولى أن يكون موقوفًا على إجازة البائع لما فيه من انتزاع ملكه.

ويحرر ذلك قياسًا فيقال: إن البائع أحد طرفى البيع فلم يجز أن يقف على الإجازة كالمشتري.

ولأنه بيع عين لا قدرة لأحد المتعاقدين على إيقاع فرض فيها فوجب أن يكون باطلًا كبيع الطير في الهواء والحوت في الماء. ولأن نفوذ البيع إنما يكون في ملك وعن إذن من له الملك فلما كان لو عقد على غير ملك كالخمر ثم صار المعقود عليه ملكًا بأن صار الخمر حلالًا لم يصح العقد وجب إذا عقد من غير إذن المالك فلم ينعقد العقد ثم إذن المالك أن لا يصح.

والجواب عن حديث عروة أنه ليس فيه دلالة بدليل أن أثنى عليه النبي والثناء لا يستحق المخالفة.

والجواب عن حديث حكيم بن حزام أنه ليس فيه دلالة أيضًا؛ لأنه يحتمل أنه اشترى ذلك لنفسه ثم باعه لنفسه، ثم اشترى للنبي صلى الله عليه وسلم شاة عن إذن المتقدم. =

ص: 328

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومقتضى هذه العبارة أن العَقْد لا يوجد حتى يجاز، وهكذا عبارة من قال:"إن الصحة موقوفة" مقتضاه أن الصِّحة لا توجد إلّا بعد الإجازة، وهذا هو الظاهر، لكن الإمام قال: إن الصّحة ناجزة، والملك موقوف على الإجازة.

وحكى الرَّافعي ذلك عنه ولم يخالفه، وفيه إشكال؛ لأن الصحة كيف توجد قبل وجود شرطها؛ ولأن الهبة يقف الملك فيها على القبض، والبيع يقف الملك فيه على [انقضاء]

(1)

الخيار على قول، ولا خلاف في وصفهما بالصحة.

والحنفيّة نقلوا عن أبي حنيفة، وأبي يوسف أن الملك حاصل في بيع الفُضُولي، وأن معنى الوقف فيه يعرضه للإبطال إذا رد المالك.

وعن محمد أن الملك لا يوجد إلّا إذا أجاز كالقول القديم عندنا، ولم يتعرضوا لوصفه بالصحة قبل ذلك.

والأقرب في هذا النَّوْع على قول الوقف أن الإجازة مع الإيجاب والقبول [بانتهاء]

(2)

[ثلاثتها]

(3)

أركان العقد، فلا توجد الصحة والملك إلا بعدها.

= وأما قياسهم على الوصايا فغير صحيح؛ لأن حكم الوصايا أوسع وحكم العقود أضيق. ألا ترى أن القبول في الوصية على التراخي فجاز أن تكون موقوفة على الإجازة والقبول في البيع على الفور فلم يجز أن يكون موقوفًا عليها.

وأما قياسهم على محاباة المريض فلا يصح؛ لأن المحاباة في المرض وصية وقد ذكرنا المعنى في جواز وقوف الوصايا على الإجازة وعدم وقوف البيع عليها.

وأما استدلالهم: بأنه لما جاز وقف البدل على قبول المشتري جاز وقف العقد كله على إذن المالك فغير صحيح لأن المشتري لم يوقف البدل على إجازته بالقبول لأنه لم يملك فيه حقًّا، وإنما تمام العقد في البدل معتبر بقبول المشترى فلم يسلم الاستدلال.

وأما استدلالهم: بأنه لما جاز وقوف العقد على الفسخ جاز وقوفه على الإجازة فغير صحيح لأن المعنى في الفسخ أنه وقع للعاقد بعد صحته فجاز وقوفه والإجازة إنما هي وقوف ما لم تتقدم صحته فجاز وقوف ما صح ولم يجز وقوف ما لم يصحّ.

(1)

في ب القضاء.

(2)

سقط في ب.

(3)

سقط في أ، جـ.

ص: 329

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

‌الثانية: بيع الغاصب

إذا عسر يبيعه بالبعض لكثرته، وإنما يفارق الرتبة الأولى بالعُسْر، وفيه قولان في الجديد.

إذا قلنا ببطلان الأول، والقول بالصحة فيه مع القول في الأول بالبُطْلان يفضي إلى اعتبار الشرط بعد المشروط، وأجمع العقلاء أن الشَّرْط يجب أن يكون متقدمًا أو مقارنًا؛ فلذلك كان هذا القول ضعيفًا.

‌الثالثة: بيع مال يظنه لأبيه،

ويكون أبوه قَدْ مَاتَ وهو وارثه، والموقوف التبين والعلم بصحة العقد لا نفس الصِّحة ولا الملك، وإن كانوا أدرجوا هذه الصورة تحت قوله [وقف]

(1)

العقود.

‌الرابعة: بيع المَرْهُون

بغير إذن المرتهن على الاحتمال الذي أَبْدَاه الإمام.

وقال: إن هذا الوقف زائد على الأقسام الثَّلاثة المتقدّمة، والذي يظهر أنه من القسم الأول، ولكنه أولى منه؛ لأن الوقف مع السَّبب وقيام المانع أولى منه مع عدم السبب، وهو الملك.

ولعلّ قول الإمام: إنه غير الأصناف الثلاثة لمكان هذه الأولوية، ويتوهّم بعض الناس أن كونه منع نفسه بالرهن فارقٌ بينه وبين الفضولي، وموجب لأن لا يجري الخلاف فيه، وليس كذلك، بل الإمام في باب الإقرار ذكر أن بيع الرّاهن كبيع الفضولي بلا خلاف، وأن الخلاف في الجديد إنما هو في المفلس؛ لأنه لم يحجر على نفسه.

‌الخامسة: بيع المُفلس ماله

(2)

، وقد علمت المأخذ الذي أشار إليه الغَزَاليّ، وذكره ابن الرفعة فيه، وبه يعلم أنه أولى بالصّحة من المرهون، وكذلك ما قاله الإمام في "الإقرار".

(1)

في أ، جـ: وقفت.

(2)

إن للمدين الذي لم يزد ماله على الدين ثلاث حالات:

1 -

إحاطة الدين بمال المدين.

2 -

قيام الغرماء على المدين وهو المسمى عندهم التفليس بالمعنى الأعم.

3 -

حكم الحاكم بخلع مال المدين لغرمائه وهو المسمى عندهم الأخص "أمّا الحالة الأولى" فقد قال فيها المالكية: إذا كان مال المدين قد استغرقه الدين بأن ساواه أو زاد عليه فإن =

ص: 330

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الشريعة الإسلامية تتدخل حينئذٍ لحق الدائنين فتمنعه من كل تصرف لا معاوضة فيها لمكان التهمة؛ إذ قد يقصد به إضاعة الحقوق على أربابها، وكذلك من معاوضة قد يقصد منها ذلك مثل أن يحابى في البيع فليس له أن يهب ولا أن يقف ولا أن يعتق ولا أن يضمن، ولا أن يقر بدين لمن يتهم عليه كالزوجة الودود والولد البار والصديق الملاطف.

أمّا المعاوضات التي يقصد منها التجر والربح فهو غير ممنوع منها فله أن يبيع ويشتري وله الكراء والاكتراء.

وإنما منع من الأولى لأنها تبرعات لا نفع فيها للدائنين، وإنما فيها الإضرار بهم عن قصد أو عن غير قصد، ولم يمنع من الثانية، لأن المعنى لم يكن متحققًا بل ربما كان فيها ربح وكسب، فلو اتجر فربح أو باع ما يساوي عشرة باثنى عشر لم يكن ممنوعًا، ولذلك لو عاد تصرفه بطريق المعاوضة بضد هذا القرض كان ممنوعًا منه مثل أن يتخذ البيع أو الشراء ذريعة إلى التبرعات فيحابى فيما باع أو اشترى ولم تمنعه الشريعة من أداء ما وجب عليه أو ندب في حقه فعليه الإنفاق على زوجته وأبويه المعسرين الفقيرين وأولاده الصغار وله شراء أضحية ونفقة عيدين غير سرف في ذلك كله.

وكذلك لم تمنعه من الإقرار بدين لمن لا يتهم عليه.

وأمّا الثانية: فالمدين فيها ممنوع من كل تصرف كان فيه معاوضة أو لم يكن فليس له بيع ولا شراء ولا صدقة وما إلى ذلك. وهاتان الحالتان قد انفرد بهما المالكية من بين سائر الفقهاء.

وذهب أبو حنيفة وأحمد والشافعي إلى أن المدين في هاتين الحالتين كسائر الناس يجوز له التصرف بمعاوضته وغير معاوضته.

"والوجه لمالك" أن الحجر على المدين إنما كان لحق الغرماء وقد أحاط الدين بماله وقد يعود تصرفه في هاتين الحالتين بضرر عليهم، وهو ينافي المعنى الذي شرع الحجر من أجله. ولو أطلق للمدين هذا الحق، وكان كسائر الناس لاستطاع أن يأتي على كل ماله حتى إذا طلب الغرماء الحجر عليه من الحاكم لم يجدوا شيئًا، أو بعبارة أخرى لم يجد الحاكم شيئًا يحجر عليه فيه؛ فلذلك قالوا بمنعه على الوجه الذي أسلفنا والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ".

"والوجه لغيرهم" أن الأصل في التصرفات أن تكون ماضية نافذة متى صدرت من أهلها في محالها ولا شيء يمنع من ذلك في الحالين، وليس في هاتين الحالتين مانع إلا إحاطة الدين أو قيام الغرماء ولا يصلح ذلك مانعًا، وما دام الشارع قد جعل الحجر من الحاكم، وهو لم يحكم فليس ذلك لأحد غيره من الغرماء. =

ص: 331

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

‌السَّادسة: تصرف المريض

(1)

، وقد تقَّدم بيان ظهور الصّحة فيه. انتهى كلام الشيخ الإمام، ذكره في كتاب "التفليس" من تكملة "شرح المهذب".

وإنما أجملنا ذكره مع طوله ومُجَانبته لفنّ أصول الفِقْهِ لمكان نَفَاسته، وعظم فائدته.

= ولعل ما ذهب إليه المالكية أولى، ولا سيما في هذا العصر الذي التوت فيه أخلاق الناس واستباحوا أكل أموال الناس بعضهم بعضًا بالباطل، فلو أبيح له أن يبعثر ماله ذات اليمين وذات الشمال وينفق طورًا في الهبة وطورًا في الصدقة وما إلى ذلك لضاعت الأموال على أصحابها، وبالتالي إذا عرف الناس ذلك كان لهم مبررًا في الشح بمالهم بما في ذات أيديهم.

وقال الناس قديمًا الأخذ سُرّيطى والعطاءُ ضُرَّيْطى - يتعامل الناس في غير جلبة ولا ضوضاء، بل أكثر من ذلك أنه قد يصل الأمر بهم إلى السرّ والخفاء فيه حتى إذا كان القضاء كان الإعلان وكانت المواعدة وكانت المخاصمة وكان الرفع إلى القضاء ليس ذلك فحسب، بل هو يعمل كل جهد في تهريب ماله بشتى الوسائل.

"الحالة الثالثة" وهي فيما إذا رفع الغرماء الأمر، إلى الحاكم وطلبوا منه الحجر على المدين، فهل للحاكم في هذه الحالة خلع ما له عنه ويبيعه عليه وقسم ثمنه بين الغرماء؟ أو ليس له ذلك بل يحبسه حتى يعين طريق وفاء الدين؟.

"إلى الرأي الأول" ذهب مالك والشافعي والحنابلة وأهل الظاهر وأبو يوسف ومحمّد بن الحنفية.

"وإلى الرأي الثاني" ذهب أبو حنيفة وزيد بن على من الشيعة. وقد استدل الأولون مالك ومن معه.

(1)

اتفق الفقهاء على أن المرض المتصل بالموت لا ينافي أهلية التصرف في المال، ولكن لمّا كان المرض سبب الموت وطريقًا له وكان الموت علة لانتقال المال إلي الورثة كان المرض سببًا لتعلق حق الورثة بماله فلذلك قال الفقهاء ما عدا الظاهرية بالحجر عليه في التصرفات الضارة بحقوق الورثة كالتبرعات الزائدة على الثلث.

أمّا الظاهرية فقالوا: إن المريض كالصحيح سواء بسواء من غير فرق في التبرعات الزائدة على الثلث لا يمنعه مرض مخوف، ولا ما يشبهه.

واتفق الفقهاء جميعًا على أن الوصية لا تنفذ بأكثر من الثلث، كما اتفقوا على صحة التصرفات التي تقع بالمعاوضات كالبيع والشراء ما لم يقع منه محاباة فيهما كأن يبيع ما يساوي عشرة بخمسة أو يشتري ما ثمنه عشرة دارهم بخمسة عشر فهو في هذه الحالة متبرع ينفذ تبرعه إن وسعه الثلث وإلّا فلا. =

ص: 332

‌مَسْأَلَةٌ:

الْإِجْمَاعُ يُخَصِّصُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ

؛ كَتَنْصِيفِ آيَةِ الْقَذْفِ عَلَى الْعَبْدِ؛ وَلَوْ عَمِلُوا بِخِلَافِ نَصٍّ، تَضَمَّنَ نَاسِخًا.

«مسألة»

الشرح: "الإجماع [يخصص]

(1)

الكتاب والسُّنة"

(2)

، بمعنى أنه دالّ على وجود المخصص في نفس الأمر؛ إذ الإجماع لا بد له من مستندٍ، ودليل كونه مخصّصًا الوقوع، "كتنصيف آية القَذْفِ على العبد"، ولك مبع قيام الإجماع؛ فإن جماعة منهم عمر بن عبد العزيز - كما نقله عنه مالك في "الموطأ" - ذهبوا إلى أن العَبْدَ يجلد بالقذف بما بين، اللَّهم إلا أن يثبت قيام الإجْمَاع بعد الاختلاف.

= أمّا الظاهرية فإنهم يرون صحة ذلك منه نظرًا، لأنهم يجيزون التبرع من المريض بأكثر من الثلث.

فتلخص أن محل الخلاف بين الظاهرية والجمهور في التبرعات الزائدة عن الثلث في غير الوصية.

فالجمهور يرون عدم صحتها منه.

والظاهرية يجيزونها منه.

(1)

في أ: تخصيص.

(2)

نقل كثير من أهل الأصول أنه لم يعلم خلاف بين العلماء في جواز تخصيص القرآن والسنة المتواترة بالإجماع المتواتر أو المشهور، وإن وقع خلاف الحنفية في تخصيصهما بالإجماع الثابت من طريق الآحاد فإنه كخبر الواحد، واستدلوا على ذلك بما ثبت من تخصيص آية القذف؛ إذ هي عامة في الأحرار والعبيد توجب ثمانين جلدة للحر والعبد، وأوجبوا على العبد نصف الثمانين بالإجماع ..

ولما كان المعتبر عند علماء الأصول أن الإجماع غير معتبر في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يتم من غير دخوله وبعد دخوله فقوله حجة قاطعة، ولا دخل فيه لغيره، وهم رضوان الله عليهم لم يكونوا يعملون بآرائهم في الزمان الشريف إلا مع الرجوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا وجود للإجماع زمن الوحي، وهو المراد بعدم الاعتبار، لا أنه غير معتبر مع تحققه.

ومن المعروف أن الأصوليين على مذهبين في دلالة العام، منهم القطعيون الذين يرون أن الدليل المتراخي لا يكون تخصيصًا ومنهم الظنيون الذين لا يرون ذلك ..

وقد يرد على القطعيين كيف تجوزون التخصيص بالإجماع مع تراخي زمنه ولا تخصيص مع التراخي عندكم؟ وعلى الظنيين كيف تجوزون التخصيص بالإجماع مع تراخيه ومحل تجويزه بالمتراخي عندكم ما إذا تأخر عن وقت الخطاب لا وقت الحاجة، ولا شك أن الإجماع يتأخر =

ص: 333

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفيه ما فيه "ولو عملوا بخلاف نصّ" في حكم يتناوله بنصوصيته لا بعمومه "تضمن" عملهم "ناسخًا" أطْلَقُوا عليه، فلا فَرْقَ حينئذ بين أن يخصّ القرآن بالإجماع أو ينسخ؛ إذ الكلّ يتضمّن مقتضيًا لذلك إلّا أنه لم يقع نسخ قرآن بالإجماع.

فقيل: لا ينسخ، ووقوع التخصيص، فقيل: يخصص.

فإن قلت: قولكم: "ولو عملوا بخلاف نصّ" أمر تقديري؛ فإن ذلك لم يقع أمر تحقيقي؟ ودليله الإجماع على العمل، بخلاف حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم بـ "المدينة" بين الصَّلاتين من غير خوف ولا مطر، بخلاف حديث: "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ

" الحديث، وفيه "فإنْ شَرِبَهَا فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ"؟

(1)

.

= عن وقت الحاجة ومثل هذا أيضًا يرد على القطعيين فوق ما تقدم ..

والجواب عن هذا الإيراد يتبين لنا من الوقوف على حقيقية التخصيص بالإجماع، وحقيقته أنه إن وقع التخصيص به فإنما يقع صورة فقط، وعند التحقيق إنما يكون لتضمن الإجماع نصًا مخصصًا، فعمل أهل الإجماع على خلاف النص العام يكون مبنيًّا على تضمنه النص المخصص، وكان إجماعهم إجماعًا على التخصيص به، ثم من أتى بعدهم يلزمه متابعتهم وإن لم يعرف المخصص، فمثلًا أوجبوا على العبد نصف الثمانين بالإجماع، ومستند الإجماع قوله تعالى:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولا فرق في ذلك بين العبد والأمة؛ لأن علة التنصيف هي الرق فحكم التنصيف ثابت للعبد إما بطريق مفهوم الموافقة المساوي، وإما بطريق القباس، وقد انعقد الإجماع على ذلك، فيستند الحكم للإجماع؛ لأنه قطعي فيغني عن مستنده؛ لأنه قد يكون ظنيًّا، وحينئذ فلا وجه للإيراد على الرأيين نعم بقيت الشبهة قائمة على الحنفية من جهة أنهم يشترطون المقارنة في المحخصص الأول اتفاقًا، وعلى أحد الرأيين في الثاني، ومستند الإجماع قد يكون متراخيًا، وقد يكون مقارنًا، وعلى كل حال فهو في الغالب غير معلوم، وحينئذ فكيف يشترطون لكون الدليل مخصصًا معرفة كونه مقارنًا مع تجويزهم التخصيص بالإجماع؟ أو كيف يجوزون التخصيص بالإجماع مع اشتراطهم المقارنة وغاية ما يفيده الإجماع هو التخصيص؟ أما أنه عن نص مقارن فلا. قاله شيخنا الشيخ فائد. وينظر: البحر المحيط 3/ 363، ونهاية السول للإسنوي 2/ 456، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 166، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 79، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 388، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 65، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 256، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 150، وميزان الأصول 1/ 473، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 251. وينظر: المسودة 126، والعدة 2/ 578، وشرح العضد 2/ 150.

(1)

أخرجه أبو داود 4/ 164، كتاب الحدود. باب إذا تتابع الناس في شرب الخمر (4482) =

ص: 334

‌مَسْأَلَةٌ:

الْعَامُّ يُخَصُّ بالْمَفْهُومِ،

إِنْ قِيلَ بِهِ؛ وَمُثِّلَ: "فِي الأَنْعَامِ الزَّكَاةُ"، "فِي الْغَنَمِ السَّائِمةِ زَكَاةٌ"؛ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.

فَإنْ قِيلَ: الْعَامُّ أَقْوَى؛ فَلَا مُعَارَضَةَ.

قُلْنَا: الْجَمْعُ أَوْلَى كَغَيْرِهِ.

قلت: بل هو تقديري، ولذلك عبر المصنّف بـ "لو" الدالة على الامتناع، ومَعَاذ الله أن تخالف الأمة النَّص؛ لأن ذلك مع العلم فسوق أو كفر، ومع الجهل خطأ، وما ذكر من حديث الجمع قد قال بظَاهِرِهِ جماعة منهم من أصحابنا ابن المُنْذِرِ، وأبو إسحاق، فأجازوا ذلك بلا عُذْرٍ، وَحَمَلَهُ قوم على الجمع بالمرض، فأجازوه به، وهو اختيار النووي.

وأوله المانعون بأنه أخر الصلاة الأولى إلى أواخر الوَقْتِ، بحيث كان فراغها يعقبه خروج الوقت، ثم صلّى الثَّانية عقيبها، وهذا جمع ولكن في الوقت، وما ذكر من حديث القَتْل في الرَّابعة بالخمر:

قيل: إنه منسوخ.

وقيل: إنه غير صحيح.

ونظيره حديث: "إذَا بُويعَ لِخَلِيْفَتَينِ فَاقْتُلُوا الآخِرَ مِنْهُمَا"

(1)

وهو في صحيح مسلم، وله تأويلات.

«مسألة»

الشرح: "العام يخص بالمفهوم"

(2)

مفهوم المُخَالفة "إن قيل به" وأما إن لم يقل به فظاهره أنه لا يخصّ؛ إذ لا حجة له، "ومثل" بقول القائل "في الأنْعَامِ الزَّكَاةُ" مع "في الغَنَمِ

= والترمذي 4/ 39، كتاب الحدود: باب ما جاء في شرب الخمر (1444) وابن ماجه 2/ 859 كتاب الحدود: باب من شرب الخمر مرارًا (2573) وابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن (364)، باب ما جاء في شارب الخمر (1519).

(1)

أخرجه مسلم 3/ 1480، كتاب الإمارة: باب إذا بويع لخلفتين (61/ 1853).

(2)

ينظر: البرهان 1/ 449، وشرح الكوكب المنير 3/ 366، والمنخول 208، 215، والمستصفى 2/ 105، والمحصول (1/ 3/ 13، 159)، وجمع الجوامع 2/ 3، وشرح العضد 2/ 150، والعدة 2/ 578، والإحكام للآمدي 2/ 305، وتيسير التحرير 1/ 216، وإرشاد الفحول (160).

ص: 335

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السَّائِمَةِ زَكَاةٌ" فإن قضية الأول تعميم الوجوب في الأنعام إبلًا وبقرًا وغنمًا وأصنافها سَائِمة ومَعْلُوفة، ومفهوم الثاني إخراج معلوفة الغنم.

واعلم أن الموجود بخطّ المصنّف: "ومثل في الأنعام الزكاة ليس في الغنم السَّائمة زكاة" بلفظ "ليس"، أو ليس ذلك في "الإحكام"، ولا يظهر له وجه، فشرحه الشارحون على ما في "الإحكام"، ثم إن المصنّف لم يُشِرْ بقوله:"ومُثِّل: في الأنعام الزكاة" إلى حديث؛ فإنا لا نعرف هذا اللفظ في حديث، ولذلك كانت عبارة الآمدي: كما لو ورد: في الأنعام الزكاة، وكانت عبارة المصنّف "ومُثِّلَ" مبني لما لم يسم فاعله، وقد رأيتها مضبوطةً بخطه، ولم يقل: ومُثِّل على العادة في ضرب الأمثلة؛ لأنه لفظ يوهم أن يكون هذا اللفظ قد ورد.

وقد توهّم الشيرازي أن المصنّف قال: "وَمِثْلُ"، وقال:"الواو "عطف على شيء، كأنه سقط من قَلَمِ الناسخ، وهو ذكر مثال لمفهوم الموافقة.

وليس كما توهّم؛ فإن المصنّف لم يتكلّم إلا في مفهوم المخالفة؛ بدليل قوله: إن قيل به، فإنه أشار إلى المفهوم المختلف في أنه حجّة، وهو المخالفة لا الموافقة.

وأيضًا: فسنذكر قيام الإجماع على أنّ مفهوم الموافقة تخصيص، فلم يكن كبير غرض في الاحتجاج له.

وأيضًا: فقد وقفت على النُّسخة التي هي بخطّه، وليس فيها ما ذكره الشيرازي.

وأما "فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ" فأشار به إلى ما في: "الصحيح، وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة""الحديث"، ولذلك كانت عبارة الآمدي: ثم ورد قوله: "فِي السَّائِمَةِ زَكَاةٌ".

وإنما قلنا: يجب العمل بالمفهوم "للجمع بين الدَّليلين" العام، والمفهوم؛ فإنه أولى كما سبق.

وقال الآمدي

(1)

: لا نعرف خلافًا بين القائلين بالعموم والمفهوم في أنه يخص العموم.

قلت: وإنما محلّ الاتفاق في مفهوم الموافقة، ولذلك لم يتحدّث فيه المصنّف؛ إذ لا كبير غرض في الاحتجاج لما لا نِزَاعَ فيه، وإنما تحدث في موضع النزاع، وهو مفهوم

(1)

ينظر: الإحكام 2/ 305 (7).

ص: 336

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المُخَالفة، ولقد توقّف الإمام الرازي فلم يختر شيئًا في "المحصول"، وجزم في "المنتخب" بأنه لا يخصص به.

وقال ابن دقيق العيد: إنه رآه لبعضهم

(1)

، وحَكَاه أبو الخَطَّاب الحنبلي عن قوم.

وقال ابن السَّمْعَاني: يجوز تخصيص العموم بدليل الخطاب على الظاهر من مذهب الشَّافعي، ولفظ "الظاهر ظاهر" في أن الخلاف موجود.

قال: ومثاله في الكتاب قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 241]؛ فإنه عام في كل مطلقة، ثم قال:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [سورة البقرة: الآية 236].

[فكان]

(2)

دليله أن لا مُتْعَةَ للمدخول بها، فخصّ بها في أظهر قوليه عموم المطلقات، وامتنع من التخصيص بها في القول الآخر. انتهى.

وقضيته: تخريجُ قول للشَّافعي في تخصيص العموم بالمفهوم بكلام هذا الإمام الثَّبَت، واستفد ذلك.

والأصح في المذهب وجوب المُتْعَةِ للمدخول بها، ولكن المختار في الأصول أن المفهوم يخصّ العموم؛ لما ذكرناه.

"فإن قيل: العام أقوى" من المفهوم؛ لكونه منطوقًا، "فلا معارضة"؛ إذ شأن المتعارضين التعادل، وإذا لم يعارضه فلا يخصصه.

"قلنا": لا نسلم أنّ العام أقوى مطلقًا، بل من حيث إنه منطوق فقط، والمفهوم أقوى من حيث الدّلالة على الخاص، و"الجمع أولى" من سقوط أحد الدليلين؛ فإنَّ العمل بالمفهوم لا يلزم منه إبطال العُمُوم مُطْلقًا، بخلاف العكس، فيجمع عند تعارضهما بين دليليهما "كغيره" من المخصّصات، فإنا نعمل بها جمعًا بين الأدلّة، ولا يشترط التَّساوي في القوة من حيث المَتْن، كما يخصّ المتواتر بخبر الواحد وليسا متساويين، بل كل منهما أرجح من وجه.

ولقائل أن يقول: لا نسلّم أن المفهوم راجح من حيث الدّلالة، وليس كالعام والخاص؛ فإنهما منطوقان.

(1)

ينظر: الإبهاج 2/ 180.

(2)

في أ، ج: وكان.

ص: 337

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما المفهوم فغير منطوق، فلم قلتم: إنه أقوى من دلالة العموم؟

"تنبيه"

إنما أتى المصنّف بحرف الشرط في قوله: "فإن قيل"، ولم يقل:"يقل" على العادة؛ لأنه كالآمدي لم يعرف مخالفًا في المسألة، فذكر بحثًا يمكن أن يقال به، ولم ير هو من قال به.

"فائدة"

قال الشيخ أبو حامد بعد أن ذكر أن دليل الخِطَابِ يخصّ العموم، هذا إذا عارضه غير النُّطق الذي هو أصله.

فأما إذا عرض على نطقه وأصله، فإما أن نسقطه ونبطله أو نخصّه فقط، فإن أعرض بالإسقاط والإبْطَال سقط الدليل، وذلك مثل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَليِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ"

(1)

نص على البطلان بغير الإذن، ودليله يقتضي جوازه بالإذْنِ، إلّا أن هذا الدليل إذا ثبت سقط النُّطق؛ لأن الأمّة أجمعت على التسوية بين أن تنكح المرأة بغير إذن وليها، وبين أن تنكح نفسها بإذنه، فعندما يبطل النكاح في الموضعين معًا، وعند المخالفين يصحّ فيهما، فإذا ثبت بالدَّليل جواز ذلك بإذنه ثبت بالإجماع جوازه بغير إذنه، وإذا ثبت جوازه بغير إذنه سقط النُّطق، فيكون هذا الدّليل مسقطًا لأصله فيسقط الدليل، ويثبت النطق.

قال: وأما إذا كان الدليل لا يسقط أصله، ولكن يخصه مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله حَرَّمَ

(1)

أخرجه أبو داود 2/ 229، كتاب النكاح: باب في الولي (2083)، والترمذي 3/ 408 كتاب النكاح: باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وابن ماجه 1/ 605، كتاب النكاح: باب لا نكاح إلا بولي (1879)، وابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص 305، كتاب النكاح: باب ما جاء في الولي والشهود (1248)، وأحمد 6/ 66، والشافعي 20/ 11، كتاب النكاح: الباب الثاني فيما جاء في الولي (19)، والدارمي 2/ 137، كتاب النكاح: باب النهي عن النكاح بغير ولي، والحاكم 2/ 168، كتاب النكاح: باب أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، وقال صحيح على شرط الشيخين، وذكر له متابعة.

ص: 338

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ"

(1)

فقوله: "إن الله حرم الكلب" يقتضي تحريم جميع جهات الانتفاع به من البيع، والإجارة، والهِبَةِ وغيرها.

وقوله: "وحَرّم ثَمَنَهُ" دليل أن غير الثمن ليس بمحرم، وهذا يخص عموم ذلك النطق المحرم، فالمذهب أن الدّليل يسقط، ولا يخصص عموم أصله به.

وحكي عن أبي الحسين بن القَطّان

(2)

أنه قال: يجوز تخصيص أصله به، وليس بشيء؛ لأنه فرع الأصل، فلا يجوز أن يعترض عليه، وسقط شيء من حكمه.

وأصحاب أبي حنيفة يجيزون مثل هذا في القياس إذا خصّ أصله، ولا نجيزه نحن، وقد تكلّمنا عليه في مسألة الزنا.

فأما دَلِيلُ الخطاب [فهم]

(3)

لا يقولون به حتَّى نتكلّم معهم في التَّخصيص به.

قلت: وكذلك ذكره سليم الرَّازي تلميذ الشَّيخ أبي حامد في "التقريب"، وهو ما يقوله أصحابنا: لا يجوز أن يستنبط من النَّص معنى يعود على أصله بالبُطْلان، وهل يجوز أن يستنبط معنى يخصه؟

فيه قولان: قالوا: يجوز أن يستنبط منه معنى يعممه قَطْعًا، وهو القياس، وسيكون لنا عودة إلى ذكر هذا في كتاب "القياس" إن شاء الله تعالى.

(1)

لم نجده بهذا اللفظ، ولكن ورد في معناه حديث جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور.

أخرجه أبو داود (3479) والترمذي (1279).

وفي معناه أيضًا حديث أبي مسعود الأنصاري بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن".

أخرجه البخاري (4/ 497) رقم (2237) ومسلم (3/ 1198) رقم (39/ 1567).

(2)

أحمد بن محمد بن أحمد، أبو الحسن بن القطان، البغدادي. قال أبو إسحاق: درس بـ "بغداد" وأخذ عنه العلماء. قال الخطيب. البغدادي: هو من كبراء الشافعيين، وله مصنفات في أصول الفقه وفروعه. قال الذهبي: عمر وشاخ. قال ابن باطيش: أخذ عن ابن سريج ثم عن أبي إسحاق ثم عن ابن أبي هريرة. توفي سنة 359 هـ. ينظر: شذرات الذهب 3/ 28، وطبقات الشافعية لابن هداية ص (27)، ووفيات الأعيان 1/ 53، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (92)، وتاريخ بغداد 4/ 365، والأعلام 1/ 201، وابن قاضي شهبة 1/ 124.

(3)

في أ: وهم.

ص: 339

مَسْأَلَة: فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم يُخَصِّصُ الْعُمُومَ؛ كَما لو قال عليه الصلاة والسلام: "الْوِصَالُ أَوِ الاسْتِقْبَالُ لِلْحَاجَةِ"، أَوْ:"كَشْفُ الفَخِذِ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"، ثُمَّ فَعَلَ، فَإِنْ ثَبَتَ الاِتِّبَاعُ بِخَاصٍّ، فَنَسْخٌ، وَإِنْ ثَبَتَ بِعَامٍّ، فَالْمُخْتَارُ تَخْصِيصُهُ بِالْأوَّلِ.

وَقِيلَ: الْعَمَلُ بِمُوَافِقِ الْفِعْلِ.

وَقِيلَ: بالْوَقْفِ.

الشرح: "فعله صلى الله عليه وسلم يخصص العموم"؛ خلافًا لأبي الحسن الكرخي

(1)

.

قال ابن السَّمعاني: ولذلك أنه لم يخصّ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال القِبْلَةِ، واستدبارها للبول والغائط

(2)

باستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ "المدينة""بيت المقدس"، واستدباره الكعبة، وقد خصصت الصحابة قوله عليه السلام في الجمع بين الجَلْدِ والرَّجم بفعله في رَجْم ماعز والغَامِدِّية من غير جَلْد

(3)

، هكذا ذكر الأصحاب.

وعندي أن هذا بالنسخ أشبه.

قلت: هو كما قال الشيخ: لا [يخصص]

(4)

.

ومن الفوائد: نهيه عليه السلام عن الوِصَالِ، ثم إنه خصّ في حقه بفعله هو إياه.

ومثّل المصنّف للتخصيص بالفعل بألفاظ [يعرض]

(5)

ورودها عامّة له "كما لو قال:

(1)

ينظر: الإحكام 2/ 306 (8)، وميزان الأصول 1/ 472، والبحر المحيط 3/ 387، والإبهاج 3/ 180.

(2)

أخرجه البخاري 1/ 295، كتاب الوضوء: باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول (144)، وفي 1/ 594، كتاب الصلاة: باب قبلة أهل المدينة (394)، ومسلم 1/ 224، كتاب الطهارة: باب الاستطابة (59/ 264). من طريق الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا".

أخرجه أبو داود 1/ 3، كتاب الطهارة: باب كراهية استقبال القبلة (8)، وابن ماجه 1/ 114، كتاب الطهارة باب الاستنجاء بالحجارة (313)، والنسائي 1/ 37، كتاب الطهارة: باب النهي عن الاستطابة بالروث. من طريق محمد بن عجلان بن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا بنحو حديث الصحيحين.

(3)

أخرجه أحمد (1/ 121)، والحاكم (4/ 365)، والطحاوي (2/ 81)، والبيهقي (8/ 220) من طرق عن عامر الشعبي عن علي بن أبي طالب.

(4)

في ج: تخصيص.

وقال الحاكم: وهذا إسناد صحيح، ووافقه الذهبي.

(5)

في ج: يفرض.

ص: 340

لَنَا: التَّخْصِيصُ أَوْلَى؛ لِلْجَمْعِ.

قَالُوا: الْفِعْلُ أَوْلَى؛ لِخُصُوصِهِ.

قُلْنَا: الْكَلَامُ فِي الْعُمُومَيْن.

الْجُمْهُورُ: إِذَا عَلِمَ صلى الله عليه وسلم بِفِعْلِ مُخَالِفٍ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ - كَانَ مُخَصِّصًا لِلْفَاعِلِ، فَإِنَ تَبَيَّنَ مَعْنًى، حُمِلَ عَلَيْهِ مُوَافِقُهُ بِالْقِيَاسِ، أَوْ بِـ "حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ".

لَنَا: أَنَّ سُكُوتَهُ دَلِيلُ الْجَوَازِ، فَإِنْ لَمَ يَتَبَيَّنَ، فَالْمُخْتَارُ: أَلَّا يَتَعَدَّى، لِتَعَذُّرِ دَلِيلِهِ.

الوِصَالُ والاستقبال للحاجة، أو: كشف الفَخِذِ حرام كل كل مسلم"، فإن هذا يشمله، وينبغي أن يتذكر أن شموله إياه إنما هو بناء على دخول المُخَاطب في عموم خِطَابهِ، فإذا ورد هذا، "ثم فعل" علم أنه لم يدخل في حكم العموم، ثم وجب اتباعه علينا إما أن يكون بدليل خاصّ أو عام، "فإن ثبت الاتباع" بدليل "خاصّ" بما فعله مثل: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"، فإنه خاص بالصلاة، وليس شاملًا لكل فعل يفعله، "فنسخ" لتحريمه، "وإن ثبت بعام" في جميع الأفعال مثل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب: الآية 21] "فالمختار تخصيصه بالأول"، أي: تخصيص العام الذي ثبت به التأسّي، وهو: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ" بالعام الأول، وهو: الوصال حرام مثلًا، فكأنه استثنى من الأسوة الوصال.

"وقيل: العمل بموافق الفعل" دون مخالفه، فيكون الفعل نَاسِخًا للعام الأول.

"وقيل بالوقف"؛ لتساوي العمومين.

الشرح: "لنا: التَّخصيص أولى" من النَّسْخ "للجمع" بين الدَّليلين.

"قالوا: الفعل" خاصّ، والقول عام، والخاصّ "أولى لخصوصه" كغيره.

"قلنا: الكلام" إنما وقع "في العمومين"، وهما مثلا:"لَقَدْ كَانَ لَكُمْ" و"الوِصَالُ حَرَامٌ"، وأما الفعل فلا دلالة له.

الشرح: "الجمهور" على أنه: "إذا علم" النبي " صلى الله عليه وسلم بفعل" صادر من بعض المكلّفين "مخالف" للعموم، "ولم ينكره كان مخصّصًا للفاعل، فإن تبين معنى" هو العلّة لتقرير ذلك الفاعل "حُمِلَ عليه" كلّ من هو "موافقه"، أي: مشاركه في العلّة، وكان حكمها سواء، إما

ص: 341

‌مَسْأَلَةٌ:

الْجُمْهُورُ: أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بمُخَصِّصٍ،

وَلَوْ كَانَ الرَّاوِيَ - خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلةِ.

لَنَا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

قَالُوا: يَسْتَلْزِمُ دَليلًا، وَإِلَّا كَانَ فَاسِقًا؛ فَيَجِبُ الْجَمْعُ.

قُلْنَا: يَسْتَلْزِمُ دَلِيلًا فِي ظَنِّهِ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُهُ.

بالقياس عنْد من يخصّ العموم "بالقياس، أو بـ "حُكْمِي عَلَى الوَاحِدِ" حُكْمِي عَلَى الجَمَاعَةِ، وهو الحديث الذي قلنا: إنه وإن لم يعرف فمعناه مجمع عليه، ويشترط ألّا يستوعب ذلك المعنى جميع أفراد العام، وإلّا يكون نسخًا.

"لنا: أن سكوته" عليه الصلاة والسلام عن الإنكار "دليل الجواز"؛ لما مَرّ من أنه لا يقرّ على باطل، "فإن لم يتبين" المعنى المقتضى للتخصيص، "فالمختار ألّا يتعدى" حكمه إلى غيره؛ "لتعذّر دليله" أي: دليل التعدّى.

أما بالقياس فظاهر، وأَما بـ "حكمي على الواحد"؛ فلأنه مخصوص بما علم فيه عدم الفارق، وهنا لم يعلم؛ لاختلاف الناس في الأحكام.

ولقائل أن يقول: إذا ثبت "حكمي على الواحد" لم يحتج إلى العلم بالجامع، بل يكفي عدم العلم بالفارق، والأصل بعد ثبوت هذا الحديث أن الخلق في الشرع شرع، فالمختار عندنا التَّعميم، وإن لم يظهر المعنى ما لم يظهر ما يقتضى التخصيص، ثم إن استوعب الأفراد كلها فهو نسخ، وإلا فتخصيص.

«مسألة»

الشرح: ذهب "الجمهور" إلى "أن مذهب الصَّحابي"

(1)

إذا كان على خلاف العموم "ليس بمخصّص، ولو كان" هو الرَّاوي لذلك العام، كذلك مذهب الرَّاوي لا يخصص

(1)

ينظر: شرح الكوكب 3/ 375، والمحصول 1/ 3/ 191، والمستصفى 2/ 112، والإحكام للآمدي 2/ 309 (10)، والعدة 2/ 579، وشرح العضد 2/ 151، والمسودة (127)، وجمع الجوامع 2/ 33، والبحر المحيط 3/ 398 - 399، وإرشاد الفحول 161، وتيسير التحرير 1/ 326.

ص: 342

قَالُوا: لَوْ كَانَ ظَنِّيًّا، لَبَيَّنَهُ.

قُلْنَا: وَلَوْ كانَ قَطْعِيًّا، لَبَيَّنَهُ.

وَأَيْضًا: لَمْ يَخْفَ عَنْ غَيْرِهِ.

وَأَيْضًا: لَمْ يَجُزْ لِصَحَابِيٍّ مُخَالَفَتُه، وَهُوَ اتِّفَاقٌ.

العموم الذي رواه ولو كان صحابيًّا؛ "خلافا للحنفيّة والحنابلة" فيهما، ثم مأخذهم في الصَّحابي أن قوله حجّة، وفي الراوي إذا لم يكن صحابَيًّا أنه أعرف بمخرج ما رواه من غيره.

ومذهبنا: أن نقول: الصَّحابي ليس بحجّة، وعلى القول بأنه حجّة - وهو القديم - اختلف أصحابنا في تخصيص العموم به على وجهين.

أحدهما: الجواز؛ لأنه حجّه شرعية.

والثاني: المنع؛ لأنه محجوج بالعموم، وقد كانت الصّحابة يتركون أقوالهم إذا سمعوا العموم.

قال ابن عمر: "كنا نُخَابِرُ أربعين سَنَةً حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المُخَابَرَةِ، فتركناها".

"لنا": أن العموم حجّة، وقول الصحابي "ليس بحجّة"، فلا تخصيص.

"قالوا" خلافه "يستلزم دليلًا، وَإلَّا كان فاسقًا، فيجب الجمع" بين [العام]

(1)

والدليل الذي خالف من أجله.

"قلنا": أما أن خلافه "يستلزم دليلًا" فحقّ، ولكن "في ظنه" لا في نفس الأمر، وإذا كان كذلك، "فلا يجوز لغيره اتباعه"؛ لأن المجتهد لا يقلد مجتهدًا.

الشرح: "قالوا" دَفْعًا لهذا الجواب: إن الَّذي خالف من أجله قطعي؛ إذ "لو كان ظنيًّا لبينه"؛ لينظر فيه غيره، ولتندفع التُّهْمَة.

"قلنا" أولًا. هذا معارض بمثله، فنقول:"ولو كان قَطْعيًّا لبيّنه" دفعًا للتُّهمة، وليصير غيره إليه، "وأيضًا": لو كان قطعيًّا "لم يَخْفَ عن غيره" من الصحابة عادة، "وأيضًا: لم يَجُزْ

(1)

في ب: العلم.

ص: 343

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لصحابي" آخر "مخالفته"؛ إذ القاطع لا يخالف، "وهو "أي: جواز المُخَالفة "اتفاق" أي: يجوز بالاتفاق مُخَالفة صَحَابي آخر.

واعلم أن هنا مسألتين:

إحداهما: مخالفة الصَّحابي للعام، فإن قلنا: مذهبه حجّه خص، سواء كان الراوي أم لا على الأصح.

وقيل: لا يخصّ، وإنما يحتج به إذا لم يعارضه العموم كما عرفت.

وقيل: لا يخصّ إلّا إذا كان هو راوي العموم.

والثانية: في مخالفة الراوي غير الصَّحابي، والأصح لا يخص.

وقيل: يخصّ؛ لأنه أعلم بما رواه.

وحجاج المصنّف ودليله يقتضي أن كلامه في الرَّاوي مطلقًا، وأنّ كلامه فيه إذا كان صحابيًّا إنما هو على التفريع بأنه غير حجّة؛ إذ استدلّ بأن قوله غير حجّة، ولو لم يكن مفرعًا على ذلك لكان مُصَادرًا على المطلوب، أو على التفريع بأنه حجة، ولكن لا يعارض العموم، فاعرف ذلك.

وقد قَدّمنا في عمل الراوي بخلاف روايته أنه لا فَرْقَ بين أن يكون صحابيًّا أو لا، فَتَذَكَّره واعتمده.

"فرع"

نقول على أصلنا: قول ابن عباس: "إن المرأة لا تقتل بالرِّدَّة"

(1)

إن ثبت عنه لا يخصّ عموم ما رواه من قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"

(2)

، ويحتمل أنه كان يرى أن المؤنث لا

(1)

أخرجه الدارقطني (3/ 117) من طريق عبد الله بن عيسى الجزري نا عفان نا شعبة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: لا تقتل المرأة إذا ارتدت.

وقال الدارقطني: عبد الله بن عيسى هذا كذاب يضع الحديث على عفان وغيره، وهذا لا يصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

والحديث ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 128) من طريق الدارقطني وكذا أورده السيوطي في "اللآليء"(2/ 102) وابن عراق في "تنزيه الشريعة"(2/ 225).

(2)

أخرجه الشافعي 2/ 86 - 87، باب ما جاء في قطاع الطريق (285)، والبخاري 12/ 279 =

ص: 344

‌مَسْأَلَةٌ:

الْجُمْهُورُ: إِنَّ العَادَةَ فِي تَنَاوُلِ بَعْضٍ خَاصٍّ - لَيْسَ بِمُخَصِّصٍ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ

؛ مِثْلُ: "حَرَّمْتُ الرِّبا فِي الطَّعَامِ"، وَعَادَتُهُمْ تَنَاوُلُ الْبُرِّ.

يدخل تحت لفظ "مَنْ" الشرطية، ولا يكون مخالفًا حينئذٍ لروايته، وغَسْل أبي هريرة من وُلُوغ كلب الزرع ثلاثًا لا يخصّ عموم ما رواه من قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا وَلغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا".

والعموم في هذا الحديث في الكلب؛ إذ هو اسم جنس محلّي بـ "الألف" و"اللام"، فيعم كلب الزَّرْع وغيره؛ لأن في قوله:"سبعًا" وإن قاله القاضي في "التقريب" وغيره؛ إذ أسماء الأعداد نصوص في مسمّياتها لا عامة، فإن كان القاضي يرى أن أسماء العدد عامة، وإلَّا فتقريره مدخول.

"مسألة"

الشرح: أطلق أئمتنا كالشيخ أبي إسحاق الشِّيرَازي، وابن السَّمعاني وغيرهما القول بأن العادة لا تخصص العموم، وهذا الإطلاق يحتمل أمورًا:

(1)

أحدها: أن يوجب النبي صلى الله عليه وسلم أو يحرم أشياء بلفظ عام، ثم يرى من بعد العادة جارية بترك بعضها أو بفعله، وهل يخصص حتى يقال: المراد من العام ما عدا ذلك البَعْض الذي جرت به العادة؟

وهذا الوجه هو الَّذي تكلّم فيه الإمام الرَّازي وأتباعه، واختار أنه إن علم جريان العَادَةِ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع عدم منعه عنها، فيخص، والمخصص في الحقيقة تقريره عليه السلام،

= كتاب استتابة المرتدين: باب حكم المرتد (6922)، وأبو داود 4/ 126، كتاب الحدود: باب الحكم فيمن ارتد (4351)، والترمذي 4/ 48، كتاب الحدود: باب ما جاء في المرتد (1458)، وابن ماجه (2/ 848)، كتاب الحدود: باب المرتد (2535)، والنسائي 7/ 104، كتاب تحريم الدم: باب الحكم في المرتد (4059) وأحمد 2/ 217.

(1)

ينظر: المحصول (1/ 198)، ونهاية السول 2/ 469، والمستصفى 2/ 111 - 112، والمعتمد 1/ 301، وشرح تنقيح الفصول للقرافي (212)، والفروق له (1/ 171)، وشرح الكوكب 3/ 387 - 388، واللمع (21)، والبرهان 1/ 446، وجمع الجوامع 2/ 35، والإحكام للآمدي 2/ 310 (11)، والإبهاج 2/ 180، والمسودة 123، والوصول لابن برهان 1/ 306، والتحرير (125)، والتيسير (1/ 317)، وفواتح الرحموت 1/ 345، والتلويح 1/ 42.

ص: 345

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإن علم عدم جَرَيَانِهَا لم يخص إلا أن يجمع على فعلها، فيكون تخصيصًا بالإجماع العقلي، وإن جهل الحال فاحتمالان.

والثاني: أن تكون العادة جارية بفعل شيء قبل ورود اللَّفظ العام، فيرد العام بعد، فهل يكون اللّفظ مقصورًا على ما وراء تلك الصورة حتى يقال: إن تلك الصورة غير مرادة، وإنما المراد ما عداها؟

وهذا الوجه هو الذي تكلم فيه الشيخ أبو حامد، ولعلّه الذي أراده الشيخ أبو إسحاق، وابن السمعاني؛ لأنهما يتبعان الشيخ أبا حامد.

قال أبو حامد: ولا يجوز التخصيص به.

قال: وذلك مثل أن يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر في بيع أو غيره، وعادة الناس تُخَالفه، فيجب الأخذ بالخبر، وإطراح تلك العادة.

قال: وليس في هذا خلاف.

قلت: وعنده أن ما وراء الذي جرت به العادة مراد من اللَّفظ بلا نظر، وإنما الكلام فيما جرت به عادة كما ترى.

ثم قال: فإن قيل: أليس قد خصصتم عموم لفظ اليَمِينِ بالعادة، فقلتم: إذا حلف لا يأكل بَيْضًا، أو لا يأكل الرّءوس، فلا يحنث إلا بما يعتاد أكله من الرُّءوس والبيض؟ فهلّا قلتم في ألفاظ الشارعِ مثل ذلك.

قيل: نحن لا نخص اليمين بعرف العادة، وإنما نخصّه بعرف الشَّارع، مثل: لا تُصَلِّ أو لا تصم، فيحنث بالشرعي، أو بعرف قائم في الاسم مثل: لا تأكل البيض أو الرّءوس، فيعقل من إطلاق هذا الاسم الرءوس التي تقصد بالأكل، فيخص اليمين بعرف قائم في الاسم، فأما بعرف العادة فلا يخصّ؛ لأنه لو حلف لا يأكل خبزًا ببلد لا يؤكل فيه خبز الأرز حنث بأكل خبز الأرز، وإن كان لا يعتاد أكله.

قلت: وحاصله: أن العرف إن جرى بتخصيص اللَّفظ ببعض مدلولاته اعتمد

(1)

، ولذلك نقول: الحقيقةُ العرفية مقدّمة على اللّغوية.

(1)

قال الشيخ فايد: ولما كان العرف مختلف الأنواع فمنه القولي والعملي والقائم وقت ورود النص والحادث بعده، وكان القول بالتخصيص مختلفًا تبعًا لذلك - رأينا أن نذكر أقسامه لنبين =

ص: 346

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ونقول: إن الاعتماد في الأيمان على العرف.

والثالث: أن تجرى العادة بفعل معيّن، ثم يرد لفظ عام، فهل يقصر على ما جرت به

= ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، فنقول: العرف إما قولي وإما عملي، فالقولي "هو الاتفاق على أن يراد من اللفظ غير تمام مدلوله بحيث إذا أطلق انصرف إليه من غير قرينة، وهذا يشمل الاتفاق على إرادة بعض المدلول، وإرادة غير المدلول، فالأول كإرادة بعض أفراد العام منه بعد أن كان دالًّا على كل أفراده، كالدراهم على النقد الغالب بعد أن كان يطلق على كل أفراد الدراهم، والثاني كالاتفاق على إرادة فرد معين من المطلق بعد أن كان دالًّا على الفرد الشائع، وكالاتفاق على إرادة معنًى آخر للمركب، ومثال المطلق: لفظ امرأة في قول الموكل، وكلتك بتزويجي امرأة، فإن اللغة تطلقها على الأنثى من بني آدم، والعرف قيدها بالحرة، ومثال المركب قول الحالف: لا أضع قدمي في دار فلان فإن العرف استعمله في المنع من دخول الدار على أي حال. ويرجع العرف القولي إلى اتفاقهم على هجران المعنى الأصلي ونقل اللفظ بواسطة الاستعمال المتكرر الشائع إلى المعنى الثاني، وهذا الاستعمال يعتبر وضعًا. والعملي هو جريان العمل بين الناس على فعل من الأفعال سواء أكان عامًّا كاستصناع الأواني والخفاف، أو خاصًّا ببلد كتعارف أهل بلد على خياطة الثياب على شكل مخصوص.

وكل من القولي والعملي إما أن يكون قائمًا منذ ورود النص أو حادثًا بعده، اتفق الأصوليون على أن العرف القولي القائم وقت ورود النص يخصص العام إن كان عرفًا عامًّا، كما إذا ورد لفظ عام عن الشارع وكان عرف الناس استعماله في بعض أفراده، فإنه يحمل عليه ..

واختلفوا في العرف العملي القائم وقت ورود النص، فذهب الحنفية وبعض المالكية إلى أنه يخصصه وذهب الجمهور إلى خلافه محتجين بأن صيغة العموم التي جرى العمل ببعض أفرادها عامة بحسب اللغة، ولم يوجد ما يخصصها، وكل ما كان كذلك يجب بقاؤه على عمومه ..

واحتج المخالفون لهم بأن اتفاق كل من المتنازعين على أن العرف العملي يقيد المطلق يوجب اتفاقهم على أنه يخصص العام، توضيحه أنه إذا كانت العادة في بلد أكل لحم الضأن ثم قال أحدهم لوكيله: اشتر لحمًا - لا يفهم منه إلا لحم الضأن، فينصرف إليه ويقتصر التوكيل عليه حتى لو اشترى الوكيل غيره كان مخالفًا مع أن لحمًا في أصل وضعه مطلق دال على فرد ما من أفراد اللحم ضأنًا أو غيره فإذا كان هذا حال المطلق وجب أن يكون العام مخصصًا بالعرف العملي كذلك لاتحاد الموجب للتخصيص والتقييد، وهو تبادر الحصة التي وقع عليها التعامل من اللفظ عند ذكره ..

ص: 347

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وناقشهم الجمهور بأن قياس العام على المطلق قياس في اللغة، وهو مردود؛ ولأنه لا يلزم من تقييد العرف العملي للمطلق تخصيصه للعام للفرق بينهما؛ لأن دلالة المطلق على المقيد دلالة الجزء على الكل؛ لأن المقيد هو المطلق والقيد؛ فيكون كلًا والمطلق جزءًا له، ودلالة الجزء على الكل ضعيفة؛ لأن الجزء قد يوجد بدون الكل، ودلالة العام على الخاص من دلالة الكل على الجزء لأن العام يشمل جميع الأفراد فهو كل والخاص بعض وجزء له، ودلالة الكل على الجزء قوية؛ لأن الكل لا يتحقق بدون جزئه، وإذا كان الأمر كذلك فلا يلزم من تأثير العرف العملي فيما دلالته ضعيفة تأثيره فيما دلالته قوية ..

وناقش الحنفية دليل الجمهور بمنع أنه لا مخصص لها؛ فإن جريان العادة بالتعامل ببعض الأفراد مما يجعل ذلك الاسم غالبًا في ذلك البعض، كالعرف القرلي في جعل اللفظ مما يتبادر منه البعض عند الإطلاق.

وأجابوا عن مناقشتهم بمنع أن ذلك قياس في اللغة بل هو استقراء؛ فإن الاستقراء أفادنا قاعدة عامة هي أن ما يوجب تبادر الذهن إلى غير الموصوف له يوجب إرادته، والمطلق المفيد بالعرف العملي والعام المخصوص به ليسا إلا فردين لهذه القاعدة فلا أصل ولا فرع حتى يأتي القياس، وبأن الفارق الذي ذكر لا أثر له بعد تحقق مناط التخصيص والتقييد، وهو تبادر الخاص من اللفظ عند الاستعمال، ولا شك أنه متحقق بالعرف العملي في كل من العام والمطلق ..

وبهذا الجواب يندفع أيضًا ما أبداه بعضهم من الفرق بين التخصيص والتقييد، وهو أن العادة في العام تخرج منه بعض المدلول بخلافها في المطلق فإنها تقيد الحصة الشائعة، فعمل بها في الثاني دون الأول، ووجهة الدفع أن هذا لا يصلح فارقًا؛ فإن مناط التخصيص والتقييد تبادر الخاص من اللفظ عند الإطلاق ..

وبهذا يترجح الرأي القائل بالتخصيص سيما وأنه ينايسب قصد الشارع من وضع الشريعة للإفهام، وهذا إنما يكون باتباع معهود العرب، على أنا إذا علمنا أن التشريع الإسلامي كان قائمًا على مبدأ التقرير والإلغاء والتعديل لما كان معهودًا لهم علمنا أنه لا ضير مطلقًا في القول بالتخصيص ما دام المشرع قائمًا لا يقرهم على غير ما أراده الشارع، ويصبح النزاع قاصرًا على تلك الفترة التي تعقب نزول النص، والرسول عليه السلام بعد ذلك لا محالة مبيّن أو مقرر لما أراده الشارع الحكيم ..

وأما العرف الطارئ فالذي يؤخذ من كلام المعظم أنه إن لم يمكن رده إلى دليل معتبر فلا يخصص النص كما في الأمور التي تصطدم مع نصوص الشارع القطعية كالربويات وغيرها، وكما في البدع المستحدثة في المآتم والمقابر والأفراح حيث لا يمكن ردها إلى أصل من =

ص: 348

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العادة أو تجرى على عمومه؟

وهذا الوجه هو الذي تكلّم فيه القاضي في "التقريب" والغزالي، وجماعة منهم الآمدي والمصنّف، وهؤلاء عندهم أن الذي جرت به العادة مراد قطعًا، وإنما الخلاف في أنَّ غيره هل هو مراد معه؟ عكس القسم الذي قبله.

فنقول: قال "الجمهور: إن العادة في تناول بعض خاصّ"، دون بعض "ليس بمخصص؛ خلافًا للحنفية، مثل" ما لو قال الشارع: "حرمت الربا في الطعام"، ومنه نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام بجنسه، "وعادتهم تناول البُرّ"، فيجري اللفظ على عمومه في كل طعام، وهذا في عادة التناول دون الإطلاق.

أما إن كان عرفهم تخصيص لفظ الطعام بالبُرّ، فإنه يخص به، وسيذكره المصنف، وهو في الحقيقة قولنا: إن العرفي مقدم على اللغوي.

= أصول الشرع، وإن أمكن رده إلى دليل شرعي كان مخصصًا، والمخصص في الحقيقة هو الأصل الذي يرجع إليه العرف كالإجماع السكوتي والسنة التقريرية والمصلحة المرسلة عند من يعتبرها، كأن يجري العرف في عصر المجتهدين بفعل شيء أو تركه ويقرونه أو يجري عرف بأمر في عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ورود النص فيقره كذلك، حيث يكون إجماعًا سكوتيًّا في الأول وسنة تقريرية في الثاني، وكأن يجري العرف بفعل بناء على ما فيه من مصلحة كتعارف أخذ الأجرة على تعليم القرآن وغيره من الطاعات ..

ولا إشكال في جواز التخصيص بالعرف على رأي الحنفية الذين يشترطون المقارنة إن كان العرف قائمًا وقت ورود النص؛ لتحقق المقارنة، كما أنه لا إشكال في جواز التخصيص بالعرف الحادث على رآي الذين لا يشترطون المقارنة ما دام الأمر راجعًا إلى الدليل المعتبر شرعًا.

وإنما الإشكال في جواز التخصيص بالعرف الحادث للنص الغير المخصص على رأي الحنفية الذين يشترطون المقارنة في المخصص الأول؛ لأنها غير متحققة في هذه الصورة، وقولهم: إن المخصص في الحقيقة هو دليل العرف لا نفس العرف لا يرفع الإشكال إلا إن ثبت لديهم مقارنته للنص، وإلا وجب أن يكون الحكم على وفق ما هو معروف من أصولهم عند الجهل بالتاريخ.

ص: 349

لَنَا: أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ لُغَةً وَعُرْفًا، وَلَا مُخَصِّصَ.

قَالُوا: يَتَخَصَّصُ بِهِ كَتَخْصِيصِ الدَّابَّةِ بِالْعُرْفِ، وَالنَّقْدِ بِالْغَالِبِ.

قُلْنَا: إنْ غَلَبَ الاِسْمُ عَلَيْهِ؛ كَالدَّابَّةِ - اخْتَصَّ بِهِ؛ بِخِلَافِ غَلَبَةِ تَنَاوُلِهِ، وَالْفَرْضُ فِيهِ.

قَالُوا: لَوْ قَالَ: "اشْتَرِ لِي لَحْمًا وَالْعَادَةُ تَنَاوُلُ الضَّأْنِ - لَمْ يُفْهَمْ سِوَاهُ.

قُلْنَا: تِلْكَ قَرِينَةٌ فِي الْمُطْلَقِ؛ وَالْكَلَامُ فِي الْعُمُومِ.

الشرح: "لنا" على أن العادة لا تخصص "أن اللفظ عام لغة وعرفًا".

أما لغة: فظاهر.

وأما عرفًا: فلأن عرفهم في تناوله لا في غَلَبَةِ استعمال اسم الطعام في البُرّ، "ولا مخصّص" له ببعض المَطْعُومات، فيبقى على عمومه.

"قالوا": بل المخصّص قائم؛ فإنّ اللفظ من أجل العادة، "يتخصص به" أي بالمعتاد، "كتخصيص الدَّابة بالعرف والنقد بالغالب".

"قلنا: إن غلب الاسم عليه كالدَّابة اختص به، بخلاف غلبة تناوله، والفرض فيه" لا في غلبة إطلاق الاسم.

والحاصل: أنك إذا أطلقت النقد في بلد الغالب فيها الدَّراهم، لم يحكم بأن الدنانير خارجة عن حقيقة اللفظ عرفًا، بل تفهم الدَّراهم بالعادة، والدنانير لا تنافيها، ولم يتصرّف أهل العرف في اللَّفظ بحال، وإنما عرفهم في الملفوظ فقط، واللفظ باقٍ على حاله.

"قالوا: لو قال: اشْتَرِ لي لحمًا، والعادة تناول الضَّأَن لم يفهم سواه"، فدلّ أن العادة مخصصة.

"قلنا": اللَّحم هنا مطلق لا عام؛ لكونه نكرة في سياق الإثبات، و"تلك" العادة "قرينة في المُطْلق" تقيده، "والكلام" ليس في ذلك، بل "في العموم"، والفرق بين العموم والإطلاق واضح، فإن العمل بالمقيد ليس فيه ترك المطلق، بخلاف الخاص.

"فرع"

إذا باع شَجَرة وأطلق، دخل في بيعها أغصانها إلا اليَابِس

؛ لأن العادة فيه القطع.

ص: 350

‌مَسْأَلَةٌ:

الْجمْهُورُ إِذَا وَافَقَ الْخَاصُّ حُكْمَ الْعَامِّ، فَلَا تَخْصِيصَ

؛ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ؛ مِثْلُ و"أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ"، وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ:"دِبَاغُهَا طُهُورُهَا".

وقال صاحب "التهذيب": يحتمل ألَّا يدخل، كالصوف على ظهر الغَنَمِ، يعني إذا بيع وقد استحق الجَزَّ آخر.

قال صاحب "البيان" في "الوكالة": قال أبو العباس: إذا دفع إلى وكيله دراهم، وقال: أسلفها في طعام، أو في الطعام، أسلفها في الحِنْطَةِ فإن أسلفها في الشعير لم يصح؛ لأن إطلاق اسم الطَّعام في العرف ينصرف إلى الحِنْطَةِ، دون غيرها، وإن كان الطَّعام اسمًا للكلّ في اللغة، إلَّا أن الاعتبار بالعرف دون العموم، ألا ترى أنه لو قال: اشتر لي خبزًا، انصرف ذلك إلى الخبز المعتاد من موضعه. حتى لو كان في "العراق" لم يجز له أن يشتري خبز الأرز. هكذا ذكر عامة أصحابنا.

وقال أبو المحاسن

(1)

: إذا قال: اشتر لي بها الطَّعَام، لم يصحّ التوكيل، خلافًا لأبي حنيفة. انتهى.

«مسألة»

الشرح: قال "الجمهور: إذا وافق الخاصّ حكم العام فلا [تخصيص

(2)

]

(3)

".

وإن شئت قلت: إذا أفرد الشَّارع فردًا من أفراد العام بالذكر، وحكم عليه بما حكم

(1)

سعد بن أبي سعد محمد بن منصور، أبو المحاسن الجولكي - بضم الجيم بعدها الواو الساكنة ثم اللام المفتوحة وفي آخرها الكاف - نسبة إلى جُولك، رجل من الغزاة، استُشهد على باب رباط دِهِسْتان، وكان فقيهًا، بارعًا، محققًا، مناظرًا، وتخرجت به الفقهاء، وُلد في جمادي الآخرة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وقتل ظلمًا بـ "إستراباذ"، في رجب، سنة أربع وخمسين وأربعمائة. ينظر: الطبقات الكبرى لابن السبكي 4/ 386، 387، والبداية والنهاية 12/ 88، وتاريخ جرجان 186، واللباب 1/ 254، والمنتظم 8/ 218.

(2)

ينظر: المعتمد 1/ 311، والمحصول 1/ 3/ 195، وشرح الكوكب المنير 3/ 386، والإحكام للآمدي 2/ 311 (12)، وجمع الجوامع 2/ 33، وشرح تنقيح الفصول (219) وتيسير التحرير 1/ 320.

(3)

في ب: يخصص.

ص: 351

لَنَا: لَا تَعَارُضَ؛ فَلْيُعْمَلْ بِهِمَا.

قَالُوا: الْمَفْهُومُ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ.

قُلْنَا: مَفْهُومُ اللَّقَب مَرْدُودٌ.

‌مَسْأَلَةٌ:

رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى الْبَعْضِ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ.

الْإمَامُ وَأَبُو الحُسَيْنِ: تَخْصِيصٌ.

وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ؛ مِثْلُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} [سورة البقرة: الآية 228] مَعَ {وَبُعُولَتُهُنَّ} [سورة البقرة: الآية 228].

على العامّ لم يخصصه؛ "خلافًا لأبي ثور، مثل" ما في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ"، وقوله عليه السلام في شاة ميمونة:"دِبَاغُهَا طُهُورُهَا" واللفظ في "صحيح مسلم": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بشاة ميتة لمولاةٍ لميمونة فقال: "أَلَا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ".

الشرح: "لنا": أن المخصص لا بد أن يكون بينه وبين العام تعارض، و"لا تعارض" بين الكُلّ والبعض في الحكم إذا حكم عليهما بحكم واحد، "فليعمل بهما".

وأبو ثور ومتابعوه "قالوا": مفهوم تخصيص الْفَرْدِ بالذكر كما في: "دِبَاغها طهورها" نفى الحكم عن المخالف، و"المفهوم تخصيص العموم".

"قلنا" إنما يخصّص العموم من المفاهيم ما تقوم به الحُجَّة، فأما "مفهوم اللقب" كالشَّاة، فإنه "مردود" كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأنا أقول: إن أبا ثور لا يستند إلى أن مفهوم اللقب حجّة؛ فإن غالب الظن أنه لا يقول به، ولو قال به لكان الظاهر أنه يحكى عنه، فقد حكى عن الدَّقَّاق وهو دونه، ولكنه يجعل ورود الخاصّ بعد تقدم العام قرينة في أنَّ المراد بذلك العام هذا الخاص، ويجعل العام كالمطلق، والخاص كالمقيد، وليس ذلك قولًا منه بمفهوم اللقب فافهمه.

"مسألة"

الشرح: "رجوع الضمير" الواقع عقب اللّفظ العام "إلى البعض" من أفراده "ليس بتخصيص".

ص: 352

لَنَا: لَفْظَانِ؛ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَجَازِ أَحَدِهِمَا مَجَازُ الآخَرِ.

قَالُوا: يَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الضَّمِيرِ.

وَأَجِيبَ: بِأنَّهُ كَإِعَادةِ الظَّاهِرِ.

الْوَقْفُ لِعَدَمِ التَّرْجِيحِ.

وَأُجِيبَ: بِظُهُورِ الْعُمُومِ فِيهِمَا؛ فَلَوْ خَصَّصْنَا الْأَوَّلَ، خَصَّصْنَاهُمَا، وَلَوْ سُلِّمَ، فَالظَّاهِرُ أَقْوَى.

وإن شئت قلت: إذا عقب لفظ العام باستثناء، أو صفة، أو حكم خاص لا يتأتى إلا في بعض مدلوله لم يوجب ذلك تخصيصه عند الأكثرين من أصحابنا.

وقال "الإمام، وأبو الحسين" فيما نقله المصنف: "تخصيص" وعليه أكثر الحنفية

(1)

.

"وقيل بالوقف" في المسألة، وهو رأي أبي الحسين، والإمامين، نصوا عليه في "المعتمد" و "البرهان" و"المحصول"، وذلك "مثل" قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [سورة البقرة: الآية 228]"مع" قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [سورة البقرة: الآية 228] فإن المطلقات عام في الرَّجعيات والبوائّن، والضمير في البُعُولة إنما يصحّ عوده إلى الرَّجعيات منهنّ فقط، فلا يقتضي تخصيص المطلّقات، وأن يقال: إنما أريد بهنّ الرجعيات، بل يجري على عمومه؛ خلافًا لهم.

الشرح: "لنا": أن العام والضمير "لفظان، فلا يلزم من مجاز أحدهما" وهو الضمير الخارج عن حقيقته الَّتي هي العموم "مجاز الآخر"، وهو العام.

ولقائل أن يقول: الخَصْمُ لا يسلّم وقوع المجاز في الضمير، بل هو عنده [عائد]

(2)

إلى جميع ما تقدم.

نعم: عنده أن جميع ما تقدم خاص.

(1)

ينظر: الإحكام 2/ 314 (13)، والمعتمد 1/ 306، والمحصول 1/ 3/ 310، وشرح تنقيح الفصول (219)، والعدة 2/ 614، واللمع (21)، ونهاية السول 2/ 489، والمسودة (138)، وجمع الجوامع 2/ 33، وشرح الكوكب المنير 3/ 389 - 390، والمختصر لابن اللحام 124، والإبهاج 2/ 213، والتحرير ص 127، والتيسير 1/ 320، وفواتح الرحموت 1/ 356.

(2)

سقط في ب.

ص: 353

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"قالوا: يلزم" من عدم التخصيص "مخالفة الضَّمِير" للظاهر؛ لكونه غير عائد إلى كل أفراده، واللازم باطل؛ لأنه يجب مطابقة الضَّمير للمستظهر.

"وأجيب: بأنه كإعادة الظَّاهر"، ولا شكّ أنه لو أعاد الظَّاهر، وأراد به ثانيًا الخصوص لم يلزم منه خصوص الأول، ولا مَحذُورَ فيه، فكذا هنا.

وأما "الوقف" فإنما ذهب إليه قائله "لعدم التَّرجيح" في ظنه.

"وأجيب: بظهور العموم فيهما".

أما في الظاهر فظاهر.

وأما في الضمير؛ فلإشعار ظاهره بالعَوْدِ إلى الكل، "فلو خصصنا الأول خصصناهما" معًا؛ لاستلزام تخصيص المظهر تخصيص مضمره، ويلزم منه مخالفة الظَّاهرين، وإذا خصّصنا الثاني لم يلزم تخصيص الأول، ومخالفة ظاهر واحد أولى من مُخَالفة ظاهرين، "ولو سلم" أنه لا يلزم من تخصيص الأول مخالفة ظاهرين، "فالظاهر" لاستغنائه عن الضمير "أقوى" منه، فيكون عمومه أقوى، [فمخالفة]

(1)

ظاهر الأقوى أضعف من مخالفة ظاهر الأضعف، وهذا الجَوَابُ هو المضمر؛ لما قَدَّمناه من أن الخصوم لا يسلمون أنه يلزم من تخصيص الأول تخصيصهما جميعًا.

"فائدة"

لا يخفى عليك أنا تصرفنا في الضمير فقلنا بعوده إلى بَعْضِ ما تقدم، فأخرجناه عن حقيقته، وتركنا المظهر بحاله على عمومه، والخصوم عكسوا، فتصرفوا في المظهر وقالوا: إنه خاصّ، وتركوا المضمر بحاله فقالوا: يعود إلى كلّ ما تقدّم، وكلّ ما تقدم هو الخاص.

وصنيعنا أولى من صنيعهم؛ لأن المضمر أضعف من المظهر، فالتصرّف فيه أولى من العكس، وهذا يفهم من قول المصنّف: الظَّاهر أقوى.

"فرع"

قال الحنفيّة في قوله عليه السلام: "لَا تَبِيعُوا البُرَّ بالبُرِّ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ"

(2)

أن المراد منه ما يكال من البر، فيجوز بيع الحِفْنَةِ بِالْحِفْنَتَيْنِ؛ لأن هذا القدر مما لا يكال، وهذا مخرج على أصلهم، وقد عرفته.

(1)

في ب: بمخالفة.

(2)

أخرجه مسلم 3/ 1210 في كتاب المساقاة: باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا =

ص: 354

مَسْأَلَةٌ:

الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ رحمهم الله:

جَوَازُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ.

ابْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ كَانَ جَلِيًّا.

ابْنُ أَبَانٍ: إِنْ كَانَ الْعَامُّ مُخَصَّصًا.

وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَصْلُ مُخَرَجًا.

الْجُبَّائِيُّ: يُقَدَّمُ الْعَامُّ مُطْلَقًا.

وَالْإِمَامُ وَالْقَاضِي: بِالْوَقْفِ.

والْمُخْتَارُ: إِنْ ثَبَتَتِ الْعِلَّة بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ كَانَ الْأَصْلُ مُخَصِّصًا - خُصَّ بِهِ؛ وَإِلَّا فَالْمُعْتَبَرُ الْقَرَائِنُ فِي الْوَقَائِعِ، فَإِنْ ظَهَرَ تَرْجِيحٌ خَاصٌّ فَالْقِيَاسُ وَإِلَّا فَعُمُومُ الخَبَرِ.

«مسألة»

الشرح: ذهب "الأئمة الأربعة، والأشعري، وأبو هاشم، وأبو الحسين" إلى أن الحقّ "جواز تخصيص العموم بالقياس"، أي بقياس نص خاص، كما صرح به الغزالي، ووافقهم

(1)

:

= (80/ 1587) وأبو داود في السنن 3/ 248 في البيوع، باب: في الصرف (3349)، والترمذي 3/ 541 في البيوع: باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلًا بمثلا (1240) قال: ومن الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وبلال وأنس وقال: حديث عبادة حديث حسن صحيح، والنسائي 7/ 274 - 275 في البيوع: باب بيع البر بالبر، وابن ماجه 2/ 757 في التجارات باب: الصرف (2254)، والشافعي في المسند بترتيب السندي 2/ 157 في البيوع: باب في الربا (545) وأخرجه أبو داود 3/ 248 في كتاب البيوع: باب في الصرف، حديث (3350)، وأحمد في المسند 5/ 320، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5/ 278، و 284 في كتاب البيوع، باب: تحريم التفاضل في الجنس الواحد، وابن الجارود في المنتقى (650).

(1)

قد يرد عن الشارع أمر متعلق بعام ثم يظهر أن بعض أفراد هذا العام يستحق حكمًا يخالف سائر الأفراد، وهذا الحكم معلل بعلة توجد في غيره من الأفراد كأن يقول قائل لمن له أن يأمره: =

ص: 355

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"ابن سُريج: إن كان" القياس "جليًّا"، لا إن كان خفيًّا.

وقال "ابن أبان: إن كان العامّ مخصصًا" قبل ذلك جاز، وإلَّا فلا.

"وقيل: إن كان الأصل" المقيس عليه "مخرجًا" من ذلك العموم بنصّ جاز، وإلا فلا.

و"الجُبَّائي" قال: "يقدم العام مطلقًا" على القياس، ونقله القاضي في "التقريب" عن الأشعري، وهو أخبر بمذهبه.

"والقاضي والإمام" قالا "بالوَقْفِ".

والمصنف قال: و"المختار: إن ثبتت العلّة بنصّ، أو إجماع، أو كان الأصل مخصصًا خصّ" العام "به، وإلَّا فالمعتبر القرائن في "آحاد "الواقع، فإن ظهر ترجيح خاصّ" لأصل القياس، "فالقياس" يرجح "وإلَّا فعموم الخبر".

وقال قوم: يجوز التَّخصيص بقياس العلّة دون قياس الشَّبه.

وقال القاضي في "التقريب": والذي

(1)

فرق بين الجليّ والخفيّ فسر الجلي بقياس العلّة، والخفي بقياس الشَّبه.

= "لا تعط من سألك شيئًا" فمن عام ينتظم جميع أفراد السائلين أغنياء أو فقراء، علماء أو جهلاء، ثم تلا ذلك أمر آخر يقول:"وأعط محمدًا لفقره" فلما علمنا العلة، وأردنا تعميم محل الإعطاء فهل نقول: إنه مأمور بإعطاء كل فقير سواء كان محمدًا أو غيره؟ وبعبارة أخرى هل لنا أن نخصص العام الأول بهذا القياس ونقول: إن مراد الناهي بلفظ العام غير الفقراء، ويكون المخرج نوعين أحدهما بالنص وهو "محمد"، والثاني بالقياس وهو غيره من الفقراء؟ ..

هذا هو محل النزاع بين الأصوليين .. ينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 369، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 428، وسلاسل الذهب للزركشي 248، ونهاية السول للأسنوي 2/ 463، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 171، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 79، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 394، وحاشية البناني 2/ 29، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 61، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 65.

التبصرة (137)، واللمع (20)، والمنتهى لابن الحاجب (98)، والعدة 2/ 559، وشرح التنقيح (203)، وتخريج الزنجاني (175)، وروضة الناظر 13، والمسودة (119).

(1)

في أ، ب: وكان الذي.

ص: 356

لَنَا: أَنَّهَا كَذَلِكَ كَالنَّصِّ الْخَاصِّ؛ فَيُخَصِّصُ بِهَا؛ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.

وقال الإصْطَخْرِيّ

(1)

كما حكاه الشيخ أبو حامد: يخصّ بالقياس الذي ينقض بمخالفته قضاء القاضي دون ما لا ينقض فيه.

واعلم أن مذهبنا جواز التَّخْصيص بالقياس الجَلِيّ والواضح، وفي الخفي وجهان.

وذكر الشيخ أبو إسحاق الشِّيرَازي أَنَّ الشَّافعي نصّ على جواز التخصيص به في مواضع.

ثم قيل: الخفيّ قياس الشّبه، وقيل غيره، وذلك تحقّق في كتاب القياس، والمنع من التخصيص بغير الجلي، نقله المصنّف تبعًا لجماعة من المتأخرين عن ابن سريج، والذي نقله الشيخ أبو حامد عن ابن سريج جواز التخصيص بالقياس مطلقًا، وقال: إنه المذهب، وعزا التفرقة بين الجلي [والخفى]

(2)

وغيره إلى إسماعيل بن مروان من أصحابنا.

وقال الكَرْخِيّ: إن كان العام قد خصّ بمنفصل جاز تخصيصه بالقياس، وإلا فلا.

وقال الآمدي: إن كانت العلّة منصوصة، أو مجمعًا عليها جاز التخصيص به، وإلا فلا.

وما اختاره صاحب الكتاب من التفصيل آيلٌ إلى اتباع أرجح الظّنين، وإن تساويا فالوقف، وهذا هو رأي الغزالي.

واعترف الإمام الرازي في أثناء المسألة بأنه حقّ، واستحسنه القَرَافِيّ، وقال الشيخ الأصفهاني: إنه حق واضح.

الشرح: "لنا: أنها" أي: القياسات إذا كانت "كذلك" تكون "كالنَّص الخاص" على

(1)

الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى، أبو سعيد الإصطخري، شيخ الشافعية بـ "بغداد"، ومحتسبها، كان ورعًا زاهدًا، قال أبو إسحاق: لما دخلت "بغداد" لم يكن بها من يستحق أن يدرس عليه إلا ابن سريج وأبو سعيد الإصطخري، وحكى عن الداركي أنه قال: ما كان أبو إسحاق المروزي يفتى بحضرة الإصطخري إلا بإذنه، وولي قضاء "قم" وحسبة بغداد. له مصنفات مفيدة. توفي سنة 328 هـ وقد جاوز الثمانين. ينظر: البداية والنهاية 11/ 193، والأعلام 2/ 192، وتاريخ بغداد 7/ 268، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (91)، وطبقات الشافعية للسبكي 2/ 193، وشذرات الذهب 2/ 312، ووفيات الأعيان 1/ 375، وابن قاضي شهبة 1/ 109.

(2)

سقط في أ، ب.

ص: 357

وَاسْتُدِلَّ: بِأَنَّ الْمُسْتَنْبَطَةَ: إِمَّا رَاجِحَةٌ، أَوْ مَرْجُوحَةٌ، أَوْ مُسَاوِيَةٌ، وَالْمَرْجُوح، وَالْمُسَاوِي لَا يُخَصِّص، وَوُقُوعُ احْتِمَالٍ مِنِ اثْنَيْنِ - أَقْرَبُ مِنْ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ.

وَأُجِيبَ: بِجَرْيهِ فِي كُلِّ تَخْصِيصٍ، وَقَدْ رُجِّحَ بِالْجَمْعِ.

الحكم في إفادة الظَّن، "فتخصيص" العام "بها للجمع بين الدَّليلين، واستدلّ" على أن المستنبطة لا يجوز التَّخصيص بها "بأن المستنبطة إما راجحة" على العموم، "أو مرجوحة أو مساوية، والمرجوح والمساوي لا يخصّص" واحد منهما، فلم يبق إلا الرَّاجح، وهذه تقديرات ثلاث يجوز التَّخصيص على تقدير واحد منها، وهو الرَّاجح، ولا يجوز على تقديرين "ووقوع احتمال عن اثنين أقرب من "وقوع "واحد معين"، فيكون عدم التَّخصيص أقرب وأغلب على الظَّن، وهذا الدَّليل ذكره الآمدي لمنع التخصيص بالمستنبطة مطلقًا؛ لأنه يرى ذلك كما حكيناه عنه، فأحب المصنف متابعته في ذكره.

وإن كان لو نهض لمنع بعض مقصوده، وهو جواز التَّخصيص بالمستنبطة من الدَّليل الذي خصّ العام به، فإن المصنف يُجَوِّز ذلك.

والحاصل: أنّ المصنف يجوز التخصيص ببعض المستنبطات، وهذا لو نهض منع كلّ مستنبطة، ولكنه لما كان عنده مدفوعًا لم يُبَال بذكره، واستعمل لفظة "استدل" فيه لأنه يوافق بعض مدعاه؛ إذ يتضّمن دفع ما لا يجوزه المصنّف من التخصيص بالمستنبطة لا من الدليل الذي خص العام، فهو دليل لبعض دعواه [لا يرتضيه، ويمكن أن نقرره على أنه دليل لكلّ دعواه]

(1)

فيقال:

مراده بالمستنبطة في قوله: "واستدلّ" المستنبطة التي لا تخصّص عنده، وإنما التي تخصص عنده، وهي معلومة الرُّجْحان، فلا يستدلّ عليها بهذا الدَّليل الإجمالى.

ومراد الآمدي بها كلّ مستنبطة، وذلك لأنهما اتفقا على أن المعلوم الرُّجْحان يخصص، وهذا لا شك فيه.

[واختلافهما في بعض من المستنبطات إنما منشؤه]

(2)

اختلافهما في أنه هل هو راجح؟ وهذا دليلٌ إجمالي كما صرّح به الآمدي، أي يدلّ على الإجمال، فإنما يحسن الاستدلال به على ما لا يعلم فيه الرُّجحان.

(1)

سقط في ج.

(2)

سقط في ج.

ص: 358

الْجُبَّائِيُّ: لَو خُصَّ بِهِ، لَزِمَ تَقْدِيمُ الأَضْعَف بِمَا تَقَدَّمَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ مِنْ أَنَّ الْخَبَرَ يُجْتَهَدُ فِيهِ فِي أَمْرَيْنِ

إِلَى آخِرِهِ.

وَأُجِيبَ: بِمَا تَقَدَّمَ؛ وَبِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ إِبْطَالِ أَحَدِهِمَا؛ وَهَذَا إِعْمَالٌ لَهُمَا، وَبِإِلْزَامِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالْمَفْهُومِ لَهُمَا.

وَاسْتُدِلَّ: بِتَأْخِيرِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَتَصْويبِهِ رضي الله عنه.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ أَخَّرَ السُّنَّةَ عَنِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْجَمْعَ.

وأما ما علم حاله فلا يحسن أن يقال فيه: إنه يلحق بالأعم الأغلب؛ لأن ذلك إنما يقال في المجهول، وهو عند المصنّف بعض المستنبطات، وعند الآمدي كلها، فافهم ذلك.

"وأجيب بجريه في كلّ تخصيص" بأن يقال: المخصّص في كلّ صورة إما راجح بالنسبة إلى العام، أو مرجوح، أو مساوٍ

إلى آخره، فلو كان هذا مبطلًا لتخصيص العام بالقياس لبطل التخصيص من أصله "وقد رجح" الخاص "بالجمع" بين الدليلين، فلم يكن مبطلًا.

الشرح: واستدل "الجُبَّائِي" أولًا: على أن العام لا يخصّ بالقياس مطلقًا بأنه "لو خُصّ به لزم تقديم الأضعف" على الأقوى، والملازمة تبين "بما تقدم في خبر الواحد من أن الخبر يجتهد فيه في أمرين": العدالة والدلالة، والقياس يجتهد فيه في أمور كثيرة "إلى آخره" أي آخر الدَّليل المذكور في كتاب "الخبر".

"وأجيب" بأوجه "بما تقدم، وبأن ذلك" أي تقديم الأضعف بعد تسليم كون القياس أضعف إنما يمتنع "عند إبطال أحدهما" بالكلية، "وهذا" ليس كذلك؛ إذ هو "إعمال لهما"، فكان أولى "بالتزام تخصيص الكتاب بالسُّنة والمفهوم لهما" أي يلزمكم ألَّا يجوز تخصيص الكتاب بالسُّنة، وألَّا يجوز تخصيص منطوقهما بالمفهوم؛ لأنه أضعف.

"واستدلّ" الجُبّائي ثانيًا: على أن القياس لا يخصّص العموم "بتأخيره في حديث معاذ"

(1)

عن الكتاب والسُّنة، "وتصويبه" عليه الصلاة والسلام هذا الصنيع، كما رواه

(1)

من حديث معاذ؛ أخرجه أبو داود في السنن 3/ 303 في كتاب الأقضية: باب اجتهاد الرأي في القضاء حديث (3592 و 3593)، والترمذي 3/ 616 في كتاب أبواب الأحكام، باب: ما جاء =

ص: 359

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= في القاضي كيف يقضي؟ حديث (1327، 1328) وقال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل.

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 230 و 236 و 242، وأخرجه الدارمي 1/ 60 في المقدمة باب: الفتيا وما فيه من الشدة، وأخرجه الطيالسي كما في المنحة 1/ 286 في كتاب القضاء والدعاوى والبينات حديث (1452)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 272، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 56، قال الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" 1/ 189 و 190: على أن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا وصية لوارث) وقوله في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) وقوله: (إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع) وقوله: (الدية على العاقلة) وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد لكن لما تلقنها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعًا غنوا عن طلب الإسناد له. اهـ. وقال الحافظ أبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذي" 6/ 72 - 73: (اختلف الناس في هذا الحديث فمنهم من قال: إنه لا يصح، ومنهم من قال: هو صحيح، والدين القول بصحته؛ فإنه حديث مشهور يرويه شعبة بن الحجاج ورواه عنه جماعة من الرفقاء والأئمة، منهم يحيى بن سعيد، وعبد الله بن المبارك، وأبو داود الطيالسي والحارث بن عمرو الهذلي الذي يرويه عنه.

وإن لم يكن يعرف إلا بهذا الحديث فكفى برواية شعبة عنه، وبكونه ابن أخ للمغيرة بن شعبة في التعديل به والتعريف به، وغاية حظه في مرتبته أن يكون من الأفراد، ولا يقدح ذلك فيه ولا في أحد من أصحاب معاذ مجهولًا، ويجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة، ولا يدخل ذلك في حيز الجهالة، وإنما يدخل ذلك في المجهولات إذا كان واحدًا فيقول: حدثني رجل حدثني إنسان ولا يكون الرجل للرجل صاحبًا حتى يكون له به اختصاص، فكيف وقد زيد تعريفًا بهم أنهم أضيفوا إلى بلد. اهـ.

قوله: أجتهد برأي، يريد الاجتهاد في رد القضية من طريق القياس إلى معنى الكتاب والسنة، ولم يرو الرأي الذي ينسخ له من قبل نفسه أو يخطر بباله عن غير أصل من كتاب أو سنة، ومن هذا إثبات القياس وإيجاب الحكم به. وفيه دليل على أنه ليس للحاكم أن يقلد غيره فيما يريد أن يحكم به، وإن كان المقلد أعلم منه وأفقه حتى يجتهد فيما يسمعه منه، فإن وافق رأيه واجتهاده أمضاه وإلا توقف عنه؛ لأن التقليد خارج من هذه الأقسام المذكورة في الحديث.

وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال: لم يرد =

ص: 360

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلًا، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس.

ولما كان علي رضي الله عنه باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام فقال كل منهم: هو ابني، فأقرع علي بينهم، فجعل الولد للقارع وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي رضي الله عنه.

واجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة، وحكم فيهم باجتهاده، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات".

واجتهد الصحابيان اللذان خرجا في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فصوبهما وقال للذي لم يعد:"أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك"، وقال للآخر:"لك الأجر مرتين".

ولما قاس مجزز المدلجي وقاف وحكم بقياسه وقيافته على أن أقدام زيد وأسامة ابنه بعضها من بعض سر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى برقت أسارير جهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق، وكان زيد أبيض وابنه أسامة أسود، فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله، وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم.

وقول الصديق رضي الله عنه في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد، والولد فلما استخلف عمر قال: إني لأستحيى من الله أن أزداد شيئًا قاله أبو بكر. وقال الشعبي: عن شريح قال: قال لي عمر: اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين؛ فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح، وقد اجتهد ابن مسعود في المفوضة وقال: أقول فيها برأيي، ووفقه الله للصواب. وقال سفيان بن عبد الرحمن الأصبهاني عن عكرمة قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين، فقال: للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال، فقال: تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك؟ قال: أقوله برأيي، ولا أفضل أمًّا على أب.

وقايس على بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وزيد بن ثابت في المكاتب، وقايسه في الجد والإخوة. وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال: عقلها سواء اعتبروها بها. قال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا بأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، فلا يجوز =

ص: 361

وَاسْتُدِلَّ: بِأنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ الإجْمَاع، وَلا إِجْمَاعَ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْعُمُومِ.

وَأُجِيبَ: بِأنَّ الْمُؤَثرَةَ وَمَحَلَّ التَّخْصِيصِ يَرْجِعَانِ إِلَى النَّصِّ؛ كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ" وَمَا سِوَاهُمَا؛ إِنْ تَرَجَّحَ الْخَاصُّ، وَجَبَ اعْتِبَارُهُ؛ لأَنَّهُ الْمُعْتَبَر؛ كمَا ذُكِرَ في الإجْمَاعِ الظَّنِّي، وَهَذِهِ وَنَحْوُهَا قَطعِيَّةٌ عِنْدَ الْقَاضِي؛ لِمَا ثَبَتَ مِنَ الْقَطْعِ بِالْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ مِنَ الأمَارَاتِ - ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ قَومٍ؛ لأَنَّ الدَّلِيلَ الْخَاصَّ بِهَا ظَنَيٌّ

أحمد، وأبو داود، والترمذي، وسنذكر ذلك في كتاب "القياس"، ونذكر أن البخاري قال: لا يصحّ.

"وأجيب" عن تأخير معاذ القياس عن الكتاب والسُّنة على تقدير صحّته، "بأنه" غير مانع من تخصيصها به، وذلك لأنه "أخر السّنة عن الكتاب"، وصوبه عليه الصلاة والسلام "ولم يمنع" تأخيرها عنه "الجمع" بينهما، بل خصّص الكتاب بها، فعُلِمَ أن التأخير غير مانع من الجَمْعِ.

الشرح: "واستدلّ" الجُبَّائي ثالثًا: "بأن دليل" كون "القياس" حجّة "الإجماع، ولا إجماع" على جوازه "عند مخالفة العموم" بدليل الخصوم الموافقين على المنع.

"وأجيب": بأنا لا نسلم أن الإجماع هو الدَّليل على كل قياس، بل قد يكون دليل بعض الأقيسة النص كما في هذه الصورة، ويظهر هذا "بأن" التنصيص على العلّة كالتنصيص على الحكم، فوضح أن "المؤثرة" وهي الثابتة بنص أو إجماع، "ومحل التخصيص"، وهو الأصل المخصص كلاهما "يرجعان إلى النص، كقوله عليه الصلاة والسلام: "حُكْمِي عَلَى الوَاحِدِ" حُكْمِي عَلَى الجَمَاعَةِ"، فإذا ثبتت العلّية، أو الحكم في حق واحد ثبتت في حق الجماعة بهذا النَّص، [ولزم]

(1)

[تخصيص]

(2)

العام به، وكان في الحقيقة تخصيصًا بالنص لا بالقياس، "وما سواهما" يعني ما سوى المؤثرة، ومحل التخصيص قد اعتبرنا فيه ترجيح القَرَائِنِ، وحينئذٍ "إنْ ترجّح الخاص" صار مظنونًا، و"وجب اعتباره؛ لأنه" أي: لأن الرَّاجح

= لأحد إنكار القياس؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها. انتهى والله أعلم.

(1)

سقط في ب.

(2)

في ب: لتخصيص.

ص: 362

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"المعتبر كما ذكر في الإجماع الظني" أن المعتبر فيه رُجْحَان الظَّن، وإلا عُمِلَ بالعام، "وهذه" نُكْتة ينبه عليها هنا، فنقول:

"هذه" المسألة "ونحوها" كتقديم خبر الواحد على عموم الكتاب "قطعية عند القاضي؛ لما ثبت من القَطْع بالرَّاجح من الأمارات" فيقال هكذا:

هذا مظنون، وكل [ما هو]

(1)

مظنون يجب العمل به، كما تقدم في أوائل الكتاب "ظنية عند قوم؛ لأن الدليل الخاصّ بها ظني"، والمأخوذ من الظني ظني.

واعلم أن المصنّف لو اقتصر على قوله: "إنها قطعية عند القاضي، ظنية عند قوم" كما صنع الآمدي، ولم يذكر علّة القطع كان صَنِيعًا جيّدًا؛ فإن القاضي لا يقبل في دعواه القطع بما ذكره، ولو كان هذا قوله لكان النزاع بينه وبين القائلين بأنها ظنية لفظيًّا، وإنما هو معنوي، والقائل بالقَطْع يقع بتخطئة المخالف كما صرح به القاضي غير مرة في "التقريب"، وأتباعه كإمام الحرمين والغزالي وغيرهما. وقد عرفناك غير مَرَّة أن القاضي يتطلّب القطع، ولذلك يتوقف في غالب المسائل؛ لقلة القواطع.

والناس مختلفون في مسائل أصول الفقه، هل هي بأجمعها قطعية، أو بعضها ظني؟

والأول هو رأي القاضي وأكثر المتقدمين، ونقل عن العلماء قاطبةً، والثاني هو الأظهر عندنا.

وإذا عرفت أنها قطعية عند القاضي، فتوقفه إنما هو عن القطع، ولا ننكر أن الأرجح التخصيص، ولكن عنده أن الأرجحية لا تكفي في هذه المسألة وأمثالها، فاعرف ذلك.

وعنده تبين لك أن خلافنا معه عائد إلى هذا الأصل، فإنا نوافقه على انتفاء القطع، وإنما ندعى أن الظَّن كافٍ في العمل، فلا نتوقّف، وهو لا يكتفي بالظن، فيتوقف.

وقد تقدم التنبيه على نظائر

(2)

هذا كثيرًا.

"فرع"

قال ابن السَّمْعَاني: من تخصيص العموم بالقياس، قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [سورة النور: الآية 2] ثم خصت الأمة بنصف الجلد بقوله:

(1)

سقط في ب.

(2)

في أ، ب: أنظار.

ص: 363

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [سورة النساء: الآية 25].

ثم خص العبد بنصف الجلد قياسًا على الأمة، فصار بعض الآية مخصصًا بالكتاب، وبعضها مخصصًا بالقياس، ومن ذلك قوله تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [سورة الحج: الآية 36] إلى قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} ثم خص بالإجماع تحريم الأكل من جزاء الصيد.

وخص عند الشافعي تحريم الأكل من هَدْى المُتْعَةِ والقِرَانِ قياسًا على جزاء الصيد، فصار بعض الآية مخصِصًا بالإجماع، وبعضها بالقياس على الإجماع.

"فَائدة"

ذكر الشيخ أبو حامد أن مانع التَّخصيص بالقياس اعتلّ بقول الشَّافعي في باب "أحكام القرآن" من "الأم": إنما القياس الجائز أن يشبه ما لم يأت فيه حديث بحديث لازم.

فأما أن يعمد إلى حديث عامّ فيحمل على القياس، فأين القياس في هذا الموضع إن كان الحديث يقاس، فأين المسمى؟

قال: فقد ذكر الشّافعي أن القياس لا يعمل في الحديث العام، وإنما يعمل في أن يبتدأ به في موضع لا يكون فيه حديث، ويقاس على موضع فيه حديث، فدلّ أن مذهبه منع التخصيص بالقياس.

وردّه الشيخ أبو حامد وقال: قد ذكر الشافعي في "الأم" قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [سورة الطلاق: الآية 2] واحتمل أمره - تعالى - بالإشهاد أن يكون على سبيل الوجوب، كقوله عليه الصلاة والسلام:"لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْل"، واحتمل أن يكون على النَّدْب، كقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [سورة البقرة: الآية 282].

وقال الشّافعي: لما جمع الله بين الطَّلاق وبين الرَّجْعَة، وأمر بالإشهاد فيهما، ثُمَّ كان الإشهاد على الطَّلاق غير واجب، كذلك الإشهاد على الرجعة.

قال الشيخ أبو حامد: فقد قاس الشافعي الإشهاد على الرَّجْعة على الإشهاد على الطَّلاق، وخص به ظاهر الأمر بالإشهاد؛ إذ ظاهر الأمر الوجوب.

ص: 364

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت: والذي فهمته من هذا أنَّ الشيخ أبا حامد يقول:

لما كان ظاهر الأمر الوجوب ومع ذلك حمله الشافعي في بعض المواضع كما في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [سورة الطلاق: الآية 2] على الندب قياسًا، فقد قاس ولم يبال بظواهر الألفاظ، فلذلك يقيس ولا يبالي بعمومات الألفاظ؛ إذ ظاهرية العُمُوم في آحاده: إما دون ظاهرية الأمر في الوجوب أو مثلها، فإذا جاز العُدُول عن ظاهر الأمر للقياس جاز عن ظاهر العموم.

ثم قال الشيخ أبو حامد: وأما الكلام الذي تعلّق به ذلك القائل، فلم يقصد الشَّافعي منع التخصيص بالقياس، وإنما قصد أنه لا يجوز ترك الظاهر بالقياس، وذلك أنه ذكر هذا في مسألة النكاح بلا ولي، فروى حديث:"أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ".

ثم حكى عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: العلّة في طلب الولي أنه يطلب الحظّ للمنكوحة، وبضعها في كفء، فإذا تولّت هي ذلك لم يحتج إلى الولي.

فقال الشَّافعي: هذا القياس غير جائز؛ لأنه يعمد إلى ظاهر الحديث ونصّه فيسقطه، فإن ما ذكروه يفضي إلى سقوط اعتبار الوَلِيّ، وذلك يسقط نصّ الخبر، واستعمال القياس هنا لا يجوز، وإنما يجوز حيث يخص العموم. انتهى معنى كلامه.

وحاصله: أن استنباط معنى من النص يعود عليه بالإبطال لا يجوز، وهو ما ذكره الشَافعي، وليس مراده تخصيص العموم بالقياس؛ فإن ذلك لا يبطل العموم، ثم الظَّن المستفاد من القياس أرجح، وإلا لم يخص.

فإن قلت: فما معنى قولكم: العموم؟

قلت: معناه أن للفظ العموم ظاهرًا، وهو الاستغراق، والقياس أظهر منه، فعدلنا إليه، ففي الحقيقة لم نعدل عن ظاهر إلَّا إلى أظهر منه، وقد قدمنا حكاية الشيخ أبي إسحاق عن نصّ الشَّافعي في مواضع أن التخصيص بالقياس جائز، فلا حاجة إلى التطويل.

وقد انتهى الكلام على العموم والخُصُوص، وهذا صنف آخر قريب منه يقال له:"المطلق والمقيد".

ص: 365

[المُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ]

(الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ): الْمُطْلَقُ: مَا دَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ؛ فَتَخْرُجُ الْمَعَارِف، وَنَحْوُ:"كُلُّ رَجُلٍ وَنَحْوُهُ؛ لاِسْتِغْرَاقِهَا؛ وَالْمُقَيَّدُ بِخَلَافِهِ، وَيُطْلَقُ الْمُقَيَّدُ عَلَى مَا أُخْرِجَ مِنْ شِيَاعٍ بِوَجْهٍ كَـ "رَقَبَةٍ" مُؤْمِنَةٍ"، وَمَا ذُكِرَ فِي التَّخْصِيصِ مِنْ مُتَّفِقٍ وَمُخْتَلِفٍ، وَمُخْتَارٍ وَمُزَيَّفٍ - جَارٍ فِيهِ.

«مسألة»

الشرح: "المطلق: ما دلّ على شائع في جنسه" كذا عرفه المصنف

(1)

.

وقوله "شائع" أي: لا يكون متعينًا بحيث يمتنع صدقه على كثيرين.

وقوله "في جنسه": أي له أفراد بمثاله.

وهذا الحَدّ يتناول اللفظ الدال على الماهية من حيث هي، والتي دلَّت على واحد غير معين، وهي النكرة؛ لأنها أيضًا لفظ دالّ على شائع في جنسه، فكأنه لا يفرق بين المطلق والنكرة.

وقد سبقه الآمدي إلى هذا فقال: المطلق: النكرة في سياق الإثبات.

والصواب: أن بينهما فرقًا

(2)

، فالمطلق: الماهية من حيث هي، والنكرة: ما دلّ على

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 415، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 3، وسلاسل الذهب للزركشي ص 280، ونهاية السول للأسنوي 2/ 319، وزوائد الأصول له 298، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 82، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 407، والمستصفى للغزالي 2/ 185، وحاشية البناني 12/ 44، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 76، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 262، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 79، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 288، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 328، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 561، كشف الأسرار للنسفي 1/ 422، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 155، والوجيز للكراماستي ص 14، وتقريب الوصول لابن جُزيّ ص 83، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 164، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص 420، والروضة لابن قدامة (136)، والحدود للباجي (47).

(2)

قد ذهب الأصفهاني إلى عدم الفرق حيث قال: "

واعلم أن هذا الحد يتناول اللفظ الدال =

ص: 366

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وحدة غير معينة، وعلى هذا أسلوب المنطقيين والأصوليين والفقهاء، ولهذا لَما استشعر بعضهم التنكير في بعض الألفاظ اشترط الوحدة

(1)

.

فقال الغزالي فيمن قال: إن كان حَمْلها غلامًا، فأعطوه كذا، [فكان]

(2)

غلامين: لا شيء لهما؛ لأن التنكير يشعر بالتَّوْحيد، ويصدق بأن غلامين لا غلامًا.

وكذا لو قال لامرأته: إن كان حَمْلُكِ ذكرًا، فأنت طالق طلقتين، فكان ذكرين.

قيل: لا تطلق؛ لهذا المعنى.

وقيل: تطلق حملًا على الجِنسِ.

فانظر كيف تردّد الفقهاء هنا في المطلق والنكرة حتى إن أُلْحِقَ بالنكرة كان للوحدة، وإنْ أُلْحِقَ بالمطلق كان لأعم منها؛ فدل أنهم يفرقون.

وأما قوله: "ما دلّ على شائع

(3)

"، وكذا قولنا: ما دلّ على الماهية، "فتخرج" بهما "المعارف" كـ "زيد"، "ونحو: كلّ رجل ونحوه؛ لاستغراقها" وعمومها، والمطلق غير عام.

= على الماهية من حيث هي هي، والفكرة التي دلت على واحد غير معين، لأنها أيضًا لفظ دال شائع في جنسه" ينظر بيان المختصر (130) خ.

(1)

يعلم من هنا أن اللفظ في المطلق والنكرة واحد، وأن الفرق بينهما بالاعتبار، إن اعتبر في اللفظ دلالته على الماهية بلا قيد، سمي مطلقًا واسم جنس أيضًا، أو مع قيد الوحدة الشائعة سمي نكرة.

قال شارح جمع الجوامع: والآمدي وابن الحاجب ينكران اعتبار الأول في مسمى المطلق من أمثلته، ويجعلانه الثاني، فيدل عندهما على الوحدة الشائعة وعند غيرهما على الماهية بلا قيد، والوحدة ضرورية؛ إذ لا وجود للماهية المطلوبة بأقل من واحد، والأول موافق لكلام أهل العربية والتسمية عليه بالمطلق لمقابلة المعتبر.

(2)

في أ، ج: وكان.

(3)

يخرج بهذا المعارف كلها؛ لما فيها من التعيين شخصًا نحو: زيد، وهذا، أو حقيقة نحو: الرجل، وأسامة، أو حصة نحو "فعصى فرعون الرسول" أو استغراقًا نحو: الرجال، وكذلك كل عام، ولو نكرة نحو: كل رجل، ولا رجل؛ لأنه بما انضم إليه من كل والنفى صار للاستغراق، وأنه ينافي الشيوع. ينظر شرح القاضي عضد الملة على المختصر 2/ 155.

ص: 367

وَنَزِيدُ مَسْأَلَةً: إِذَا وَرَدَ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ: فَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا؛ مِثْلُ: "اكْسُ، وَأَطْعِمْ" - فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ بِوَجْهٍ اتِّفَاقًا وَمِثْلُ: "إِنْ ظَاهَرْتَ، فَأَعْتِقْ رَقَبَةً" مَعَ: "لَا تَمْلِكُ رَقَبَةً كَافِرَةً" - وَاضِحٌ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُمَا؛ فَإِنِ اتَّحَدَ مُوجِبُهُمَا مُثْبَتَيْنِ - حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، لَا الْعَكْسُ بَيَانًا لَا نَسْخًا.

وَقِيلَ نَسْخٌ، إِنْ تَأَخَّرَ الْمُقَيَّدُ.

"والمقيد" قياسًا إلى المطلق "بخلافه"، فهو "ما يدلّ لا على شائع في جنسه"

(1)

، فيدخل فيه المعارف والعمومات كلها.

"ويطلق المقيد على" معنى آخر، وهو "ما أخرج من شياع بوجه" من الوجوه كـ "رَقَبَة مُؤْمِنَةٍ"، فإنها وإن كانت شائعة بين الرِّقَاب المؤمنات، فقد أخرجت من شِيَاع الرقبة بوجه من حيث كانت شائعة بين المؤمنة وغير المؤمنة، فأُزِيلَ ذلك الشّياع بالتقييد بـ "المؤمنة"، وكان مطلقًا من وجه مقيدًا من وجه، وكذا كل قيد ضمّ إلى الحقيقة، "وما ذكر في التخصيص من متفق ومختلف، ومختار ومزيف جار فيه" أي في تقييد المطلق.

«مسألة»

الشرح: "ونزيد مسألة" في حمل المُطْلق على المقيد فنقول:

"إذا ورد مطلق ومقيد"، فلا يخلو إما أن يختلف حكمهما أو لا، "فإن اختلف حكمهما مثل:[اكس]

(2)

"ثوبًا "وأطعم" طعامًا نفيسًا، "فلا يحمل أحدهما على الآخر بوجه اتفاقًا"

(3)

.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 434، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 3، وسلاسل الذهب للزركشي ص 280، وزوائد الأصول للأسنوي ص 298، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 82، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 407، والمستصفى للغزالي 2/ 185، وحاشية البناني 2/ 44، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 76، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 262، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 288، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 330، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 561، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 155، والوجيز للكراماستي ص 14، تقريب الوصول لابن جزيّ ص 83، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 164، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 258، وكشف الأسرار 2/ 286، والمدخل (260)، والروضة (136)، والحدود للباجي (48).

(2)

في ب: ألبس.

(3)

"سواء كانا مأمورين، أو منهيين، أو مختلفين واتحد موجبهما أو اختلف، اللهم إلا في مثل =

ص: 368

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومنه ما ورد من تقييد الصيام بالتتابع في كَفَّارة القَتْلِ، وإطلاق الإطعام في الظهار.

ومنهم من أومأ إلى المُخَالفة فيه فقال: ينبغي أن يكون الثوب نفيسًا كالطعام، ويشهد بجريان الخلاف، وهو ما ذكره البَاجِي في "الفصول" وغيره - اختلافُ أصحابنا في أن القاتل إذا لم يقدر على الصِّيَام هل يجب عليه الإطعام كما في الظِّهَار؟

قيل: يجب، وربما روى قولًا للشَّافعي حَمْلًا لكفارة القَتْل على كَفّارة الظِّهَار، كما قيدنا الرقبة المطلقة بالإيمان حَمْلًا لها على الآية المقيدة.

والأصح: المنع؛ لأن آية القَتْل لم تتعرّض إلَّا للإعتاق والصيام، فلا يلحق بهما خصلة ثالثة، وإنما اعتبرنا الإيمان؛ لأن الرقبة مذكورة في الآيتين، وإن أطلقت في إحداهما.

وأما الإطعام فمسكوت عن أصله، والمسكوت لا يحمل على المذكور، كما أن الله - تعالى - نصّ في آية التيمم على عضوين وسكت عن عضوين، ونص في آية الوضوء على أربعة أعضاء، فلم يحمل التيمم على الوضوء.

"ومثل: "إن ظاهرت، فأعتق رقبة" مع:"لا تملك رقبة كافرة" واضح" فيه وجوب تقييد الرقبة بالمؤمنة؛ لاستحالة إعتاق الرقبة الكافرة مع عدم تملّكها، وهذه الصورة كالمستثناة مما تقدم

(1)

.

والحاصل: أنه لا يحمل أحد الحكمين المختلفين على الآخر إلَّا في مثل هذه الصورة للضروة لا من أجل أن المطلق فيها محمول على المقيد.

"فإن لم يختلف حكمهما" فلا يخلو إما أن يتّحد موجبهما أي سببهما أو لا، "فإن اتحد موجبهما"، فلا يخلو إما أن يكونا "مثبتين" أو منفيين، فإن كانا مثبتين مثل أن تُذْكر الرقبة مطلقة في كَفَّارة القتل، ومقيدة بالإيمان في كَفَّارة القتل أيضًا.

= قولك: إن ظاهرت فأعتق رقبة ويقول: لا تملك رقبة كافرة ...... "، وذلك ضرورة كما يشير المصنف. ينظر شرح القاضي على المختصر 2/ 156.

(1)

قال الشيخ بخيت 2/ 495: فهذه الصورة وأمثالها في الحقيقة خارجة عن موضوع المطلق والمقيد ولكنها شبيهة به، فلذلك جعل حكمها المخالف للمطلق والمقيد مستثنى.

ص: 369

لنَا أَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْمُقَيَّدِ عَمَلٌ بِالْمُطْلَقِ.

وَأَيْضًا: يَخْرُجُ بَيَقِينٍ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ؛ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْييدُ نَسْخًا، لَكَانَ التَّخْصِيصُ نَسْخًا.

وَأَيْضًا لَكَانَ تَأَخُّرُ الْمُطْلَقِ نَسْخًا.

قَالُوا: لَوْ كَانَ تَقْييدًا، لَوَجَبَ دَلالَةُ "رَقَبَةٍ" عَلَى "مُؤْمِنَةٍ" - مَجَازًا.

وَأُجِيبَ: بِأنَّهُ لَازِمٌ لَهُمْ إِذَا تَقَدَّمَ الْمُقَيد، وَفِي التَّقْيِيدِ بِالسَّلَامَةِ، والتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَعْنِيَّ: رَقَبَةٌ مِنَ الرِّقَابِ؛ فَيَرْجِعُ إِلَى نَوع مِنَ التَّخْصِيصِ يُسَمَّى تَقْيِيدًا.

ومثله لو قال: عليَّ ألف، ثم قال: على ألف من ثمن ثوبٍ "حمل المطلق على المقيد لا العكس بيانًا لا نسخًا"، سواء أتقدم أو تأخر.

"وقيل: نسخ إن تأخر المقيد".

فهنا مقامان: حمل المطلق على المقيد، وأنه بيان لا نسخ.

الشرح: "لا" على الحمل: "أنه جمع بينهما؛ فإن العمل بالمقيد عمل بالمطلق" والعمل بالمطلق، لا يلزم منه العمل بالمقيد؛ لإمكان حصوله في ضمن غير ذلك المقيد.

"وأيضًا" فإنه "يخرج" بالعمل بالمقيد عن العهدة "بيقين"، سواء أكان مكلَّفًا بالمقيد أم بالمطلق، بخلاف العمل بالمطلق؛ إذ قد يكون مكلفًا بالمقيد، فلا يكون آتيًا بما كلّف به عند إتيانه بما عدا المقيّد من صور الإطلاق.

قال ابن السَّمْعَاني: ونقول أيضًا: إذا أجرينا المُطْلق على إطلاقه اعترضنا به على المقيد، وإذا اعتبرنا المقيد اعترضنا به على المُطْلق، ولا بُدَّ من واحد منهما، والثاني أولى؛ لأن الأمر المقيد صريح في وصف التقييد.

وأما المطلق فظاهر فيما عدا الصورة المقيدة، وليس بصريح، فكان الاعتراض بالصَّريح على الظاهر، وبالخاص على العام أولى.

إنما قلنا: إن هذا الحمل "ليس بنسخ؛ لأنه لو كان التقييد نسخًا" للإطلاق "لكان التخصيص" أيضًا "نسخًا" للعام، بجامع أن كلا منهما مخالف له ورد متأخرًا عنه، واللازم باطل بالاتفاق.

ص: 370

وَإنْ كَانَا مَنْفِيَّيْنِ عُمِلَ بِهِمَا؛ مِثْلُ: "لَا تُعْتِقْ مُكَاتَبًا، لَا تُعْتِقْ مُكَاتَبًا كَافِرًا"، وَإنِ اخْتَلَفَ مُوجِبُهُمَا؛ كَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ.

فَعَنِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى المُقَيَّدِ. فَقِيلَ بِجَامِعٍ، وَهُوَ الْمُخْتَار، فَيَصِيرُ كَالتَّخْصِيصِ بالْقِيَاسِ عَلَى مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَشَذَّ عَنْهُ بِغَيْرِ جَامِعٍ. وَأبو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يُحْمَلُ.

"وأيضًا" لو كان تأخر المقيد عن المطلق يوجب كونه ناسخًا للمطلق؛ لكونه رفع الخروج عن العُهْدَةِ بِأي فرد - "كان [لكان]

(1)

تأخر المطلق نسخًا"؛ لرفعه التقييد، فكما رفع تأخر المقيّد الإطلاف، رفع عكسه التقييد، وليس كذلك اتفاقًا.

"قالوا: لو كان" تأخر المقيد عن المطلق "تقييدًا" للمطلق لا نَسْخًا "لوجب دلالة رقبة على مؤمنة مجازًا"، والتالي باطل؛ لأن المجاز خلاف الأصل. بيان الملازمة: أن المقيد لو كان بيانًا للمطلق لكان المُرَاد بالمطلق هو المقيد، وإذا أطلق المطلق، وأريد المقيد كان مجازًا.

"وأجيب بأنه" أيضًا "لازم لهم" فيما "إذا تقدم المقيد" على المطلق؛ لأنهم سلموا أن المقيد حينئذٍ يكون بيانًا للمطلق لا ناسخًا له، "وفي التقييد بالسلامة" عن العيوب يلزمهم أيضًا؛ لأن الرقبة مطلقة، ويجب تقييدها بالسَّلامة عندهم، فدلالتها على السَّليمة مجاز، فما كان جوابهم فهو جوابنا، وهذا وجه جَدَلِيّ.

"والتحقيق" في الجواب: "أن المعنى" بالرقبة "رقبة من الرِّقَاب" أيّ رقبة كانت، فيصير عامًّا، إلا أنه عموم بَدَلي، ويصير تخصيصه بالمؤمنة تخصيصًا وإخراجًا لبعض المسميات من أن تصلح بدلًا، "فيرجع" ذلك "إلى النَّوْع من التخصيص سمى تقييدًا" في الاصطلاح، فحكمه حكم التخصيص، فكما أن تقدم الخاص بيان للعام، كذلك تقدم المقيد بيان للمطلق.

الشرح: "فإن كانا منفيين عمل بهما مثل: لا تعتق مكاتبًا، لا تعتق مكاتبًا كافرًا"، فلا يعتق المكاتب أصلًا من اللفظ، وهذا من باب تخصيص العام لا تقييد المطلق، ومن يخصص بدليل الخطاب لا بد أن يخصص المكاتب بمفهوم قوله: مكاتبًا كافرًا.

(1)

في ب: لو كان.

ص: 371

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وإن اختلف موجبهما" أي سبب الحكمين، "كالظِّهَار" في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [سورة المجادلة: الآية 3]"والقتل" في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [سورة النساء: الآية 92] فهذه هي المسألة المشهورة بالخلاف.

"فعن الشافعي حمل المطلق على المقيد"، ثم اختلف الأصحاب فيما يوجب الحمل:

"فقيل": إنه القياس، فلا يحمل إلا "بجامع، وهو المختار" عند المصنف، والصحيح عند أصحابنا، "فيصير" التقييد "كالتخصيص" للعام "بالقياس على محل التخصيص".

"وشَذّ" نقل بعض الأصحاب "عنها الحمل على المقيد "بغير جامع"، وأن نفس الورود كَافٍ، وهذا هو رأى بعض الأصحاب.

"وأبو حنيفة: لا يحمل" المُطْلق على المقيد رأسًا، سواء أكان بجامع أم لم يكن؛ لما تصوره من أنه يلزم منه رفع ما اقتضاه المُطْلق من الامتثال بأي صورَة كانت، فيكون نَسْخًا، والقياس لا يكون ناسخًا

(1)

.

وجوابه: منع كونه نَسْخًا كالتقييد بالسَّليمة.

واعلم أن خلافنا مع الحنفية راجع إلى أصلين:

أحدهما: دليل الخِطَابِ، وهو عندنا حجة خلافًا لهم.

فإذا قيل: رقبة مؤمنة أو الغنم السَّائمة، فمفهوم "المؤمنة" و"السَّائمة" أن الكافرة والمعلوفة ليس "مخالف"، والإطلاق يتشخّص في كل الصور، فليقصر على المقيد؛ لأن ما عداه منفى بدليل الخطاب، والإِطلاق ليس نصًّا فيه.

والثاني: الزيادة على النص زعموها نسخًا، وزعموا التقبيد زيادة، ونحن ننازعهم في كل من الأمرين، ثم ننقض عليهم بالتقييد بالسلامة، وقد اعترضونا بكلمات لا بد من دفعها قالوا: ليس كالمعيبة والسَّليمة؛ لأن المعيب نُقصان جزء من الأجزاء البينة، فلا يكون فيه مطلقة.

(1)

وحاصل مذاهب العلماء في حمل المطلق على المقيد إذا اختلفا في السبب دون الحكم خمسة مذاهب، والله أعلم.

ص: 372

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما الكافر فرقبته مطلقة مثل المؤمنة؛ لأن الكفر والإيمان ليسا من الأجزاء البينة، فلا يكون رقبة مطلقة.

فعلى هذا: لا يكون شرط السَّلامة زيادة على النَّص، بل يكون اعتبارها اعتبار ما يقتضيه النَّص.

وأما وصف الإيمان فلما كان سببًا وراء ما يقتضيه اسم الرقبة، فيكون زيادة محضة، وإذا كان زيادة لم يجز إثباته بالقياس؛ إذ لا تجوز الزيادة على النص بالقياس؛ إذ الزيادة نسخ، ونسخ القرآن لا يجوز؛ ولأن القياس إنما يجوز استعماله في غير مَوْضِعِ النص، وهذا استعمال للقياس في موضع النص؛ لأن كَفَّارة القتل منصوص عليها، وكَفَّارة الظِّهار منصوص، وقياس المنصوص على المنصوص باطل، كما لا يجوز قياس السَّرقة على قطع الطريق لإثبات قطع الرِّجْل مع اليد، وكذا قياس التيمُّم على الوضوء باطل في إدخال الرأس والرِّجْل في التيمم، وكذلك قياس كَفَّارة القتل على كفارة الطهار باطل في إثبات الإطعام، مثل الرقبة والصيام، يُبَيِّنُه: أن التقيد بالإيمان زيادة على حكم قد قصد استيفاؤه بالنص، فلم يجز كما لا يجوز في هذه الصورة التي بيناها.

وأجاب أصحابنا: بأن الرقبة وإن كانت اسْمًا للبينة بأجزائها، إلّا أن الإيمان والكفر وَصْفَان يَعْتَوِرَانهما، ويقال: مؤمنة وكافرة، كما يقال: سليمة ومَعيبة، وكما لا يتصور إلّا أن تكون سليمة أو معيبة؛ لأن السَّليمة هي ما لا عيب فيها، لا يتصوّر إلَّا أن تكون مؤمنة أو كافرة.

وقول الصَّيمري

(1)

من الحنفية: "إنَّ الإنسان يجوز ألا يعتقد الكفر ولا الإيمان فيخلو عنهما" هوس؛ لأنه إذا لم يعتقد الإيمان يكون كافرًا، فصار الإيمان والكفر كالعيب والسلامة، ثم إنا لا ندعي أنهما من الأجزاء البينة، وإنما ندعي كونهما وَصْفَيْن لهما،

(1)

الحسين بن علي بن محمد بن جعفر، أبو عبد الله الصيمري. ولد سنة 351 هـ. قاض فقيه، كان شيخ الحنفية بـ"بغداد" أصله من "صيمر" (من بلاد خوزستان) ولي قضاء "المدائن" ثم "ربع الكرخ" إلى أن مات بـ"بغداد" سنة 436 هـ. من مصنفاته:"مناقب الإمام أبي حنيفة" و"مسائل الخلاف في أصول الفرق". ينظر: تاريخ بغداد 8/ 78، وتهذيب ابن عساكر 4/ 344، والجواهر المضيّة 1/ 314، والأعلام 2/ 245.

ص: 373

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وندّعي العموم من حيث الأوصاف، وآيته صحّة الاستثناء؛ ألا تراك تقول: اعتق رقبة إلَّا أن تكون كافرة، فيصح.

فإن قالوا: دعوى العموم باطلة، في قوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ؛ لأن قوله: رقبة اسم لرقبة واحدة؛ لأنها نكرة في الإثبات فتخصّ، ودعوى العموم في اسم الفرد محال.

قلنا: صحّة الاستثناء دليل قاطع على العموم، وقولهم: اسم فرد صحيح، ولكن لا يلزم منه عدم العموم، بل هو عام في الأوصاف، أو نقول: هو وإن كان اسم فرد في الصورة، لكنه اسم عام في المعنى، فالتَّخصيص صحيح لعمومه من حيث المعنى.

قال ابن السَّمْعاني: ونزيد هذا إيضاحًا فنقول: التخصيص على وجهين: تخصيص بإخراج بعض المُسَمَّيات من اللفظ مثل: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، فإن تخصيصه بإخراج بعض ما تناوله اللفظ.

وتخصيص هو إفراز ما يصلح له اللفظ عن البعض، وإن شئت قلت: تعيين بعض من يتناوله الاسم المبهم.

ونظيره: قول الرجل: رأيت زيدًا، هذا هو اسم مُبْهم لكلّ من يسمى زيدًا.

فإذا قلت: رأيت زيدًا العالم، فقد أفرزت بعض من يصلح له اللفظ عن البعض، أو عينت بعض ما يتناوله الاسم المبهم، وإذا ثبت العُمُوم سقط قولهم: إن تقييد الرَّقبة بالإيمان زيادة على النَّص، بل هو نقصان؛ لأن التخصيص نقصان لا زيادة، والتخصيص جائز بالقياس.

وما ذكروه من أن قياس كَفَّارة الظِّهَار على كفارة القتل قياس منصوص ليس بشيء، وقد تقرر بطلانه في الخلافيات.

ولقد هدمت الحنفية أصلهم بأيديهم فقالوا: يجزئ عِتْقُ الأَقْطَع، ولا يجزئ عتق الأَخْرس، والخَرَسُ وصف، فكان ينبغي ألَّا يفوت الاسم، ولا يمتنع الإجزاء، واليد نقصان في البينة، فكان ينبغي أن يفوت ويمنع.

وهنا‌

‌ فائدتان:

إحداهما: مَثَّلَ جماعةٌ حمل المطلق على المقيد

باللفظ الوارد في التيمم، واللفظِ

ص: 374

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الوارد في الوضوء؛ إذ يقول تعالى في الوضوء: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [سورة المائدة: الآية 6] فقيد ذكر اليد بالمرافق وقال في التيمم: "وأيديكم منه"، فأطلق ذكر اليد في التيمم، ولم يقيده بالمَرَافِقِ، فاختلف هل يجب على المتيمّم أن يبلغ في مسح يده بالتراب إلى المرفق ردًّا إلى التقيد في غسل يديه بالماء إلى المرفق أم لا؟ لأجل أن الحَمْل على المقيد لا يجب، ومذهبنا الجديد: الصحيح أنه يجب المَسْحُ إلى المرافق، وفى قول قديم قوَّاه النَّووي إلى الكوعين فقط

(1)

.

وقد أنكر أبو بكر الأبهري هذا المثال، وَأَوْمَأ إلى أن التمثيل الصحيح إنما يتصور باشتراط الإيمان في عِتْقِ المُظَاهر؛ لأن هذا إنما فيه زيادة صفة في الرقبة.

وأما الرقبة ففي الكَفَّارتين متساوية، وفي التيمم فيه زيادة عضو، وهو الذِّرَاع، وزيادة الذوات والأجْرَام بخلاف زيادة الصفة والنُّعوت.

قال المَاوَرْدِيّ: وهذا الذي أشار إليه يصير كمذهب ثالث في الحَمْلِ، فقوم يحملون، وقوم يمنعون، والأبهري يحمل إذا وقع زيادة صفة، وينكر الحمل إذا وقع بزيادةِ ذاتٍ مستقلّة بنفسها.

قلت: بل الأظهر أن الأبهري يدعي أن الذين يحملون إنما يحملون في زيادة الصِّفة، وليس مسألة التيمم منها، فإِذَن الحمل عنده وعند الحاملين إنما هو فيما لا يزيل الاسم، ولا يزيد عليه إلا وصفًا.

ويشهد لهذا: أن أصحابنا منعوا الحنفية كون التقييد زيادة على النص، ولا يتّجه منع كونه زيادة إلا عند كون الزيادة وصفًا.

(1)

قال النووي في شرح المهذب 2/ 243: فمذهبنا المشهور أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين مع المرفقين، فإن حصل استيعاب الوجه واليدين بالضربتين وإلا وجبت الزيادة حتى يحصل الاستيعاب. وحكى أبو ثور وغيره قولًا للشافعي في القديم أنه يكفي مسح الوجه والكفين، وأنكر أبو حامد والماوردي وغيرهمَا هذا القول وقالوا: لم يذكره الشافعي في القديم. وهذا الإنكار فاسد؛ فإن أبا ثور من خواص أصحاب الشافعي وثقاتهم وأئمتهم؛ فنقله عنه مقبول، وإذا لم يوجد في القديم حمل على أنه سمعه منه مشافهة. وهذا القول وإن كان قديمًا مرجوحًا عند الأصحاب فهو القوي في الدليل، وهو الأقرب إلى ظاهر السنة الصحيحة.

ص: 375

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أما إذا كانت ذاتًا مستقلّة، فهي زيادة قطعًا، وأن الأصح في مذهبنا في المحرم إذا قتل صيدًا، واختار من الخِصَال إخراج الطعام: أنه يفرقه على ثلاثة مساكين فصاعدًا؛ لأنه أمر بإعطائه لجمع في قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [سورة المائدة: الآية 95] وأقلّه ثلاثة، مع أنه ورد في كفارة الإتلاف في الحج إعطاؤها لجمع مقيد بكونهم ستة، لكل مسكين نصف صاع، ولم يحمل ذلك المطلق من الجمع على هذا المقيد، وما ذلك إلَّا لأن في حمله عليه زيادة أَجْرَامٍ، وهي ثلاثة مساكين، وإلا فلم يحمل.

والثانية: عرفت حكم ما أُطْلق في موضع وقُيِّد في آخر.

وأما ما أُطلق في مكان ثم قيد في مكانين بقيدين متضادين، فمن قال بالحمل لفظًا قال ببقاء المُطْلق على إطلاقه؛ إذ ليس التقييد بأحدهما أولى من الآخر.

ومن قال بالحَمْلِ قياسًا، حمله على ما حمله عليه أَوْلى، فإن لم يكن قياس رجع إلى أصل الإطلاق، وبهذا يندفع اعتراض الحنفيّة حيث يقولون: لا يشترط التتابع في قضاء رَمَضَان مع كونه ورد مُطْلقًا في قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة: الآية 185] ولم يحمل على القتل، ولا على صوم الظِّهَار، وكذا صوم كَفَّارة اليمين لم يحمل على الصوم في كَفَّارة القتل والظهار، إذ أصخ المولين جواز التفريق فيه.

ولأنا نقول: هذا المحلّ قد يحاذيه أصلان، أعني صوم المُتْعَةِ، حيث نصّ فيه على التفريق، وصوم الظِّهَار حيث نصن فيه على التَّتابع، فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من إلحاقه بالآخر، فتركناه على حاله، والكلام في مطلق له مقيد واحد.

فإن قلت: لم لا حملتم الإطلاق في قوله صلى الله عليه وسلم في الغسلات من وُلُوغ الكلب: "إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ" على المقيد في رواية من روى: "فَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَة"؟

قلت: قال القَرَافي: لأنه قد روى أيضًا: "أولَاهُنَّ"، وهي تعارض الثامنة، فرجعنا إلى أصل الإطلاق.

وقال بعض المتأخرين على هذا: ينبغي انحصار الوجوب في الأولى والثامنة، ويتخير بينهما.

قلت: وهو ما نصّ عليه الشَّافعي رضي الله عنه في "الأم" و"مختصر

ص: 376

‌الْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ

الْمُجْمَلُ: الْمَجْمُوع، وَفِي الاِصْطِلَاحِ: مَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ.

وَقِيلَ: اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ شَيْء، وَلَا يَطَّرِدُ؛ لِلْمُهْمَلِ وَالْمُسْتَحِيلِ، وَلَا يَنْعَكِسُ؛ لِجَوَازِ فَهْمِ أَحَدِ الْمَحَامِلِ، وَللْفِعْلِ المُجْمَلِ؛ كَالْقِيَامِ مِنَ الرَّكْعَةِ؛ لاِحْتِمَالِ الْجَوَازِ وَالْسَّهْوِ.

البويطي"

(1)

، وقد حكينا النصين في "شرح المنهاج"، وعليه جرى المرعشي

(2)

من أصحابنا في كتاب "ترتيب الأقسام".

وكان أبي رحمه الله يقول: إنما ينبغي إيجاب كليهما؛ لورود الحديث فيهما، ولا تنافي في الجمع بينهما.

فإن قلت: قد قلتم بتخالف المتبايعان عند اختلافهما، سواء أكانت السلعة قائمة أم تالفة، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا اخْتَلَفَ المُتبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ - تَحَالَفَا

(3)

).

(1)

يوسف بن يحيى القرشي، أبو يعقوب البويطي، المصري الفقيه، أحد الأعلام من أصحاب الشافعي؛ وأئمة الإسلام. قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من أبي يعقوب، وليس أحد من أصحابي أعلم منه. قال النووي: إن أبا يعقوب البويطي أجل من المزني والربيع المرادي. كان يصوم ويقرأ القرآن؛ لا يكاد يمر يوم وليلة إلا ختم مع صنائع المعروف إلى الناس. مات بـ"بغداد" في السجن والقيد في المحنة في رجب سنة 231 هـ. ينظر: شذرات الذهب 2/ 71، وهدية العارفين 2/ 549، ومعجم المؤلفين 13/ 342، والأعلام 9/ 338، ووفيات الأعيان 6/ 60، وطبقات ابن هداية ص (4)، وتهذيب التهذيب 9/ 427، وطبقات السبكي 1/ 275، وطبقات ابن قاضي شهبة 1/ 70.

(2)

محمد بن الحسن المرعشي، منسوب إلى "مرعش" (بلدة وراء الفرات). صنف مختصرًا في الفقه مشتملًا على فوائد وغرائب. ذكره الإسنوي تخمينًا قبل أسعد الميهني وقال: لم أعلم من تاريخ المذكور شيئًا إلا أن النسخة التي هي عندي مكتوب عليها: إن كاتبها فرغ منها في سنة ست وسبعين وخمسمائة، وهي نسخة معتمدة. ينظر: طبقات الشافعية للإسنوي (431)، والعقد المذهب لابن الملقن ص (166)، وطبقات ابن قاضي شهبة 1/ 309 (278).

(3)

أخرجه أبو داود 3/ 285، (3511)، (3512)، والطيالسي في المسند 53/ 399، وأحمد 1/ 466، والدارمي 2/ 250، والحاكم 2/ 45، والدارقطني 3/ 21، والنسائي 3027، وابن ماجه 2/ 737، (2186).

ص: 377

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت: وقد روى الدَّارقطني: "إذا اختلف المُتبَايعان والمبيع مُسْتهلك"

(1)

.

على أنه لا يصح عند المحدثين واحد من القيدين.

الشرح: وقد كان المصنّف أخَّره عن البيان والمبين، ثم إنه ألحق ورقة بخطّه، وجعله مقدّمًا عليه، وهو الأحسن.

"والمجمل" في اللغة: "المجموع"

(2)

.

يقال: أجمل الحساب: إذا جمعه، "وفي الاصطلاح: ما لم تتضح دلالته"، فيشمل القول والفعل، ويخرج عنه المهمل؛ إذ لا دَلَالَةَ له

(3)

، وهذا له دلالة، ولكن غير واضحة.

(1)

تقدم.

(2)

ينظر: البرهان لإمام الحرمين 1/ 419، والبحر المحيط للزركشي 3/ 455، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 7، والتمهيد للأسنوي ص 429، ونهاية السول له 2/ 508، وزوائد الأصول له ص 300، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 196، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 413، والمنخول للغزالي ص 168، والمستصفى له 1/ 345، وحاشية البناني 2/ 58، والإبهاج لابن السبكي 2/ 206، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 107، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 93، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 292، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 283، ومبزان الأصول للسمرقندي 1/ 411، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 218، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 77، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 126، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 95، والموافقات للشاطبي 3/ 308، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 167، وشرح مختصر المنار للكوراني ص 55، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 267، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص 427، ومعجم مقاييس اللغة 1/ 481، ولسان العرب 1/ 685 - 686، والصحاح 4/ 1662، وكشاف اصطلاحات الفنون 1/ 357، وجامع العلوم 3/ 278، والكليات ص 14، والعدة 1/ 142، والحدود للباجي 45، وشرح تنقيح الفصول 37، والمغنى للخبازي (128)، وكشف الأسرار 1/ 45، والمدخل 263، والروضة (93)، وفتح الغفار 1/ 116.

(3)

قال العبادي: قال شيخنا: فيه نظر؛ إذ يصدق عليه أنه لفظ لم تتضح دلالته بناء على أن السالبة صادقة بنفي الموضوع كما هو مقرر انتهى ووافقه شيخنا الشهاب على هذا النظر (وأقول): قد أشار القوم إلى هذا النظر وإلى دفعه؛ فكان اللائق نقل عبارتهم. قال العضد: =

ص: 378

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وقيل: اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء، ولا يطرد"؛ لكونه مدخلًا "للمهمل، والمستحيل"، وليسا من المجمل، وإنما يدخلان؛ لأنه لا يفهم من المهمل شيء، والمُسْتَحيل ليس بشيء، فلا يفهم عنه شيء

(1)

.

ولقائل أن يقول: لا يدخلان؛ لأن مفهوم قولنا: "عند الإطلاق" أنه يفهم منه شيء لا عند الإِطْلَاق، والمهمل والمستحيل لا يفهم منهما شيء في الحالتين.

واعلم أن المصنّف كتب - كما رأيت - بخطّه في الأول:

وقيل: "اللفظ الذي لا يفهم منه شيء".

وأورد ما أورده، ثم زاد منه:"عند الإطلاق"، وكان حقه أن يصرف عن إِيراد المهمل والمستحيل عند ذكر هذه الزيادة، فلعله نسي.

"ولا ينعكس" هذا التعريف؛ لجواز فهم أحد المَحَامل" منه على الجملة، وهو أحد هذين، فيفهم انتفاء غيرهما.

"و" لجواز فهم "الفعل [كالقيام]

(2)

من الرَّكْعَةِ" الثانية من غير تشهُّد، فإنه مجمل.

"لاحتمال الجواز والسهو"، مع أنه ليس بلفظ.

= والمراد ماله دلالة، وهي غير واضحة، وإلا ورد عليه المهمل انتهى ففسر مرادهم بذلك، وبنى عليه اندفاع الورود وأقره السعد على ذلك، وقال صاحب النقود في قوله: والمراد ما نصه للعلم بأن البحث في الموضوعات بل في المستعملات انتهى وأشار بعضهم إلى أنه يجوز أن يقال: إنما يقال للفظ: دلالته غير واضحة لو كان له دلالة انتهى ولعل المراد أنه ذلك بحسب العرف. ينظر الآيات البينات 3/ 108.

(1)

قال الشيخ بخيت: المجمل في اصطلاح الحنفية ما لا يدرك المراد منه بالعقل بل بالنقل من المجمل، كمشترك تعذر ترجيح أحد معنييه أو معانيه لعدم قرينة للمراد، وعند الشافعية ما لم تتضح دلالته كما ذكره المصنف، وثمرة الخلاف أن بيان المجمل عند الحنفية لا يكون إلا من المتكلم بالمجمل، ولا يكون بالقرائن فلا يكون بيانه بالاجتهاد، وعند الشافعية يمكن بيان المجمل بالقرائن، فيصح بيانه بالاجتهاد، وكل مجمل عند الحنفية مجمل عند الشافعية ولا عكس، فاحفظ هذا ينفعك فيما يفرعه كل من الإمامين على مذهبه في تفسير المجمل.

(2)

في أ: كقيام.

ص: 379

أَبَو الْحُسَيْنِ: مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ مِنْهُ؛ وَيَرِد، الْمُشْتَرَكُ الْمُبَيَّن، وَالْمَجَازُ الْمُرَاد، بُيِّنَ أَوْ لَمْ يُبَيَّنْ.

وَقَدْ يَكَونُ فِي مُفْرَدٍ بِالْأَصَالَةِ، وَبِالإِعْلَالِ، كَـ"الْمُخْتَارِ"، وَفِي مُرَكَّبٍ؛ مِثْلُ {أَوْ يَعْفُوَ} [سورة البقرة: الآية 237]، وَفِي مَرْجِع الضَّمِيرِ، وَفِي مَرْجِعِ الْصِّفَةِ؛ كَطَبيبٍ مَاهِرٍ وَفِي تَعَدُّدِ الْمَجَازِ بَعْدَ مَنع الْحَقِيقَةِ.

الشرح: وقال "أبو الحسين": المجمل: "ما لا يمكن معرفة المراد منه". أي: من نفسه، احترازًا عن المجمل المبيّن؛ فإن معرفة المراد به ممكنة من البيان لا من نفس المجمل

(1)

.

"ويرد" على طرده "المشترك المبين"؛ فإنه ليس بمجمل، ولا يمكن معرفة المراد منه؛ فإنه إنما يعرف من البيان لا مِنْهُ.

"والمجاز المراد"، أي: ويرد على طرده أيضًا: اللَّفظ الذي يراد به مجازه، سواء "بين أو لم يبين"، فإنه ليس بمجمل، ويصدق أنه لا يمكن معرفة المراد منه.

أما إذا لم يبين، فواضح.

وأما إذا بين، فإن المراد وإن عرف، لكن لا منه، بل من البيان، فلم يصحّ معرفة المراد منه في الحالين.

واعلم أن أبا الحسين لم يقل هذا الحَدّ، وإنما الذي قاله: إن المجمل قد يراد به: ما لا يمكن معرفة المراد منه، ويمكن أن يقال: المجمل: ما أفاد شيئًا من جملة أشياء هو متعيِّن في نفسه، واللفظ لا يعينه. انتهى. ذكره في "المعتمد".

"وقد يكون" الإجمال "في مفرد بالأصَالة".

كالقُرْءِ:

(2)

، "وبالإعلال كالمختار"، فإنه بواسطة اعتلاله صالح للفاعل والمفعول.

(1)

ينظر مصادر المسألة.

(2)

لأنه موضوع بإزاء حقيقتين الحيض والطهر في نحو قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فنسبة القرء إليهما على السواء، والمراد منهما واحد لا بعينه، وهذا من المجمل اتفاقًا. ينظر الآيات البينات لابن قاسم 2/ 111، ونهاية السول 2/ 509.

ص: 380

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وفي مركب مثل" قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [سورة البقرة: الآية 237]؛ لتردده بين الزوج والولي

(1)

.

ولذلك اختلف فيه؛ فقال الشَّافعي بالأولى، ومالك بالثانية.

"وفي مرجع الضَّمِير" إلى ما تقدمه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لَا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ"، فضمير ما في الجدار يحتمل: العَوْد على نفسه، أي: في جدار نفسه، وعلى جداره أي: في جدار جاره.

وقد ذكر أصحابنا هذا في كتاب "الصلح".

والأصح عندنا: أنه لا يجوز له أن يضع على جدار الجار إلا بالإذْنِ.

"وفي مرجع الصفة: كطبيب ماهر"، في قولنا: زيد طبيب ماهر؛ فإن "ماهر" قد يرجع إلى الطبيب، وقد يرجع إلى زيد ويتفاوت المعنى باعتبارهما

(2)

.

"وفي تعدُّد المجاز بعد منع الحقيقة"، لدليل قام على انتفائها، وبعد تكافؤ المجازات، وإلا فلو ترجّح أحدهما بشهرة أو غيرها تعين، ولا إجمال. هذا ما ذكره المصنف.

وقد يكون الإجمال بواسطة استثناء المجهول، نحو {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [سورة الحج: الآية 30]، أو بسبب تردّد اللفظ بين جمع الأجزاء، أو جمع الصفات؛ نظرًا إلى اللفظ، وإن

(1)

قال الشيخ بخيت: حمله الحنفية والشافعية في الجديد على الزوج وقالوا: المعنى على هذا يجب على الزوج نصف المهر المسمى عند الطلاق قبل المسيس إلا عند عفو الزوجة وإسقاط حقها؛ فإنه يسقط، أو إلا عند عفو الزوج عما أعطى من الزيادة على النصف، ولا يكون للزوج حق المطالبة، وحمله مالك على الولي، والمعنى عليه سقوط وجوب النصف عند عفو الزوجة أو عفو الولي، وقال الشق الأول في الزوجة البالغة والثاني في الصغيرة لكي يضمن الولي حقها، ويؤيد قولنا ما روى الدارقطني عن عمرو. بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولي العقدة الزوج" كذا يؤخذ من التقرير على التحرير.

(2)

قال صاحب "البسيط" من النحويين: إذا اجتمعت صفتان فصاعدًا لموصوف واحد، قال قوم: الصفة. الثانية للأول وَحْدَه، وقال قوم: هي لمجموع الموصوف والصفة. ينظر البحر المحيط 3/ 459.

ص: 381

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كان أحدهما يتعين من خارج نحو: الثلاثة زوج وفرد، فإنه بالنظر إلى دلالة اللفظ لا يتعين أحدهما.

وبالنظر إلى صدق القائل يتعين أن يكون المراد منه جمع الأجزاء، فإن حمله على جمع الصفات، أو على جمعهما يوجب كذبه.

أو بسبب الوقف والابتداء كما في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [سورة آل عمران: الآية 7]. قالوا: "و" في "والراسخون" مترددة بين العطف والابتداء.

قال الغزالي: أو بصلاحية اللفظ لمتشابهين بوجه ما، كالنور للعقل، ونور الشمس

(1)

.

قال: أو بصلاحيته لمتماثلين، كالجسم للسماء والأرض

(2)

، والرجل لزيد وعمرو.

(1)

قال ابن القاسم: فيه بحث؛ لأن الظاهر المتبادر أن إطلاقه على العقل على سبيل المجاز وعلى نور الشمس على سبيل الحقيقة، ولا إجمال بمجرد ثبوت معنى حقيقي ومعنى مجازي، بل هو ظاهر في المعنى الحقيقي، فإن حمل على المجازي كان مؤوّلًا، ثم رأيت شيخنا الشهاب نظر في كونه مجملًا؛ بعد أن جزم بأنه مجاز في العقل. نعم إن ثبت غلبة المعنى المجازي ومرجوحة المعنى المحقيقي أمكن توجيه الإجمال؛ لأنه إذا تعارض المجاز الغالب والحقيقة المرجوحة جرى خلاف مشى المصنف فيه على الإجمال - كما تقدم أول الكتاب، لكن لا يخفى أن جريان ذلك في نحو هذا المثال من أبعد البعيد إن لم يقطع بامتناعه، وقد يوجه أيضًا بأن استعماله في العقل مجاز مشهور، والمجاز المشهور، بمنزلة الحقيقة، فيكون اللفظ بمنزلة المشترك وإن لم تصر الحقيقة مرجوحة. ينظر الآيات البينات 3/ 111 - 112.

(2)

لأن الظاهر أن الجسم من قبيل المتواطئ؛ لأن الظاهر أنه موضوع للقدر المشترك بين الأفراد، وهو المركب من جزأين فصاعدًا، وإطلاق جعل المتواطئ من قبيل المجمل محل نظر قوى، ولما عد الإمام في "المحصول" المتواطئ من المجمل. رده الأصفهاني في شرحه فقال: وهذا باطل يعني جعل اللفظ المتواطئ من الألفاظ المحكوم عليها بالإجمال حال كونه مستعملًا في موضوعه؛ لأنه متى استعمل اللفظ المتواطئ في موضوعه وهو القدر المشترك لا يكون مجملًا. نعم إذا استعمل في غير موضوعه، فإن استعمل في مورد من موارده بخصوص ذلك المورد من غير تعيين كان مجملًا انتهى وقال القرافي في شرحه: ثم المتواطئ لا يكون مجملًا وهو مستعمل في موضوعه إلا باعتبار خصوصيات محاله باعتبار ما يستعمل فيه، بل هو =

ص: 382

مَسْأَلَةٌ:

لَا إِجْمَالَ فِي نَحْوِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [سورة المائدة: الآية 3]{وَأُمَّهَاتُكُمُ} [سورة النساء: الآية 23]؛ خِلَافًا لِلْبَصْرِيِّ وَالْكَرْخِيِّ.

لَنَا: الْقَطْعُ بِالاِسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْعُرْفَ - الْفِعْلُ المَقْصُودُ مِنْهُ.

قَالُوا: مَا وَجَبَ لِلضَّرُورَةِ يُقَيَّدُ بِقَدْرِهَا؛ فَلَا يُضْمَرُ الْجَمِيع، وَالْبَعْضُ غَيْرُ مُتَّضِحٍ.

وقال علماؤنا: فهذه الوجوه لا يختلف المذهب في إجمالها، وافتقارها إلى البيان.

واختلف المذهب في ألفاظ منها: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275].

والربا: الزيادة، وما من بيع إلَّا وفيه زيادة، فافتقر إلى بيان ما يحل وما يحرم.

والأصح عدم الإجمال؛ لأن البيع منقول شرعًا، فحمل على عمومه ما لم يقم دليل التخصيص.

ومنها الآيات التي ذكر فيها الأسماء الشرعية مثل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة: الآية 43]، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة: الآية 185] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [سورة آل عمران: الآية 97].

فمن أصحابنا من قال: هي غير مجملة، ويحمل الصلاة على كل دعاء، والصوم على كل إمساك، والحج على كل قَصْد إلا ما خص بدليل.

ومنهم من قال: مجملة؛ لأن المراد بها لا يدلّ عليه اللغة، فافتقر إلى البيان، والأصح أنها مبينة؛ لأنا بَيَّنا ثبوت الحقائق الشرعية.

ومنها: اللفظ الذي علق التحليل والتحريم فيه على الأعْيَان، وإليه أشار بقوله:

ظاهر انتهى ثم قال: تنبيه زاد سراج الدين فقال: المتواطئ يكون مجملًا إذا أريد به معين. قلت: وفي المحصول لم يشترط ذلك بل أطلق، والإطلاق صحيح؛ لأن الله تعالى إذا قال:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} صدق أن لفظ الرقبة ظاهر بالنسبة إلى القدر المشترك، مجمل بالنسبة إلى خصوصيات الرقبات في أنواعها وأشخاصها ينظر: الآيات البينات 3/ 112.

ص: 383

أجيبَ: مُتَّضِحٌ بِمَا تَقَدَّمَ.

"مسألة"

"لا إجمال" عند أئمتنا "في نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [سورة المائدة: الآية 3]، "وَ" {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [سورة النساء: الآية 23]؛ "خلافًا للكرخى

(1)

، والبصري"، وبعض أصحابنا.

"لنا": أن "القطع" الحاصل "بالاستقراء""أن العرف" قاضٍ بأن التحريم، أو التحليل إذا أضيف إلى جسم كان "الفعل المقصود منه"، لا نفس الجسم.

ألا ترى أنه إذا قال لغيره: حرمت عليك هذا الطعام، عقل منه تحريم الأكل، وكذلك تعقل من تحريم الميتة تحريم أكلها، والأمهات تحريم نكاحهن، فصار المراد معقولًا من هذا اللفظ، وما عقل منه المراد لا يكون مجملًا.

"قالوا": إسناد التحريم إلى الأعيان مُحَال، فلا بُدّ من إضمار؛ لاستقامة الكلام، وحينئذ يجب أن يقيد المضمر بقدر الحاجة؛ لأن "ما وجب للضرورة يقيد بقدرها"، "فلا يضمر الجميع"؛ لأن البعض كافٍ، "والبعض غير متضح"؛ إذ ليس بعض أولى من بعض، فوجب التوقف.

الشرح: "أجيب": بأنا لا نسلم أن البعض غير متضح، بل هو "متضح بما تقدّم" من قضاء العُرْف بإرادة المقصود من مثله.

وهذا إذا اتضح أحد المجازات، فإن لم يتضح واحد معين، فالأولى عندنا تقدير الجميع؛ لأنه الأقرب إلى نفي الحقيقة.

وقد سبق ذكر هذا في مسألة المقتضى، وكل هذا مبني على أصلنا في أن الأحكام إنما تتعلّق بالأفعال [المقدورة]

(2)

للمكلف، وأن الأعيان لا يتعلّق بها حل ولا حرمة.

(1)

ينظر: المحصول 1/ 3/ 24، والتبصرة (201)، والمستصفى 1/ 346، والإحكام للآمدي 3/ 10، وجمع الجوامع 2/ 159، والآيات البينات 3/ 109، والمسودة (90)، وشرح الكوكب 3/ 419، والمعتمد 1/ 333، والمسودة (90)، وشرح العضد 2/ 159، وإرشاد الفحول (169)، وتيسير التحرير 1/ 166، وكشف الأسرار 2/ 106، وأصول السرخسي 1/ 195.

(2)

في أ، ج: المقدرة.

ص: 384

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما من ذهب من المعتزلة إلى تعلق الحل والحرمة بالأعيان، فواضح أنه لا إجمال عنده، ولكنه قول باطل.

وعلى أصلنا نقول: اعلم أن الشَّيء يوصف بنفي أمر عنه، أو إثبات أمر له، وهذا الإثبات قد يعود إلى نفس الذَّات، أو صفة نفسية، أو صفة معنوية قائمة بالذات، أو صفة تعلق، لا يرجع شيء منها إلى الذَّات، وهذا يكشف حقائقه في علم الكلام.

وقد اختلف في الأحكام، هل تكتسب بها الذوات صفة أو لا؟.

فالجمهور: على أنها من صفات التعلّق؛ فإذا قيل هذا نجس، فليست النجاسة، ولا كونه نجسًا راجعًا إلى نفسه، ولا إلى صفة نفسية، أو معنوية للذات.

بل هي حالة الطَّهارة والنجاسة على حدّ سواء، لم يستفد هذا الحكم صفة زائدة قائمة بها لأجل الحكم.

ومعنى النجاسة: تعلّق قوله تعالى: إنها تجتنب في الصلاة، ونحو ذلك.

وكذا قولنا: شرب الخمر حَرَام، ليس المراد: تجرّعها، وحركات الشَّارب، وإنما التحريم راجع إلى تعلق قول الباري في النهي عن شربها، وكذا:"حرمت الميتة"، {وَأُمَّهَاتُكُمُ} ، وأمثال ذلك.

وقد أخبرناك أن صفات التعلق لا تقتضي إفادة وصف عائد إلى الذات، وهذا كمن علم زيدًا قاعدًا بين يديه، فإن علمه - وإن تعلّق بزيد - لم يغير من صفات زيد شيئًا، ولا حدث لزيد صفة لأجل تعلق العلم به.

وذهب من لا تحقيق عنده إلى استفادة الذَّوات من الأحكام فائدة، ورأوا أن التحريم والوجوب يرجع إلى ذات الفعل المحرم والواجب، وَقدَّروه وصفًا ذاتيًّا.

قال القاضي في "التقريب": واعتلوا لذلك بضرب من الجهل، وهو أنه لو توهم عدم الفعل لعدمت أحكامه بأسرها، فوجب أن يكون أحكامه هي هو.

قال: وهذا باطل؛ لأنه قول بوجب أن يكون جميع صفات الأجسام وأحكامها، وأقوالها، وأفعالها، هي هي؛ لأنه لو تصوّر عدم الجسم، لعدمت أحواله وأكوانه وجميع متصرفاته، فيجب أن يكون هو عبارة عن أفعاله، ولا يقول ذلك عاقل.

ص: 385

مَسْأَلَةٌ:

لَا إِجْمَالَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [سورة المائدة: الآية 6].

لنَا: إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي مِثْلِهِ عُرْفٌ فِي بَعْضٍ كَمَالِكَ؛ وَالْقَاضِي، وَابْنُ جِنِّي: فَلَا إِجْمَالَ.

وَإنْ ثَبَتَ؛ كَالشَّافِعِي وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي الحُسَيْنِ: فَلَا إِجْمَالَ.

وأعتلوا أيضًا بقولك: هذا الفعل حلال، وهذا حرام.

وأجاب القاضي: بأنه لا اعتبار بالإطلاقات التي منها حقيقة، ومنها مجاز.

الشرح: "لا إجمال في نحو: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ"؛ خلافًا لبعض الحنفية

(1)

.

"لنا: أن" إدخال "الباء" على الفعل المتعدي إما أن يثبت من جهة التصرف ظهورها في أي بعض كان أولا إن "لم يثبت عرف في مثله"، أي: في إدخال "الباء""في بعض كمالك والقاضي، وابن جني، فلا إجمال"؛ لأن "الباء" للإلصاق، وحقيقة الرأس كله، فوجب مسح كله.

"وإن ثبت" أن العرف يقتضي التبعيض "كالشافعي، وعبد الجَبَّار، وأبي الحسين، فلا إجمال" أيضًا؛ لظهور المراد، وهو التبعيض.

والحاصل أنه: لا إجمال على مذهبي مالك والشَّافعي.

(1)

ينظر: المعتمد 1/ 334، والمحصول 1/ 3/ 247، والإحكام للآمدي 3/ 12 (2)، والإبهاج 2/ 210، ونهاية السول 2/ 521، وشرح العضد 2/ 159، وشرح الكوكب 3/ 423، والمسودة (178)، وجمع الجوامع 2/ 59 والآيات البينات 3/ 109، وإرشاد الفحول (170)، وتيسير التحرير 1/ 167، وفواتح الرحموت 2/ 35، والبحر المحيط 3/ 463 - 464.

ص: 386

قَالُوا: الْعُرْفُ فِي نَحْوِ: "مَسَحْتُ بِالْمِنْدِيلِ" - الْبَعْضُ.

قُلْنَا: لأَنَّهُ آلَةٌ؛ بِخِلَافِ: مَسَحْتُ بِوَجْهِي.

وأمَّا "الْبَاءُ" لِلتَّبْعِيض، فَأَضْعَفُ.

الشرح: "قالوا: العرف" يفرق بين: "مسحت بالمنديل" فكذا يجب أن يكون في "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ"، وإذا اقتضى "البعض" وهو غير معين - لزم الإجمال.

"قلنا": إنما اقتضى قولنا: "مسحت بالمنديل" التبعيض؛ "لأنه آلة"، والعمل بالآلات حاصل ببعضها لا "للباء"؛ ولذلك تقول:"مسحت بالمنديل""بخلاف "مسحت بوجهي"، ولا نسلم التبعيض في نحو: "مسحت بوجهي" الذي هو نظير: "وامسحوا بِرُءُوسِكُمْ".

"وأما الباء" والقول بأنها "للتبعيض" كما ذهب إليه بعض الشَّافعية، "فأضعف" مما تقدم؛ لعدم ثبوته عن أهل اللغة.

والذي ذهب إلى أنها للتبعيض من الشَّافعية توصل بها إلى الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم.

ومن ادَّعى الإجمال يصلح له الاحتجاج به أيضًا؛ لأنه ليس بعض أولى من بعض.

ولكن جوابه: إن رأى بعض كان، وهو كافٍ، وإنما يلزم ترجيح بعض على بعض لو عين أحد البعضين، ولا قائل بالتعيين.

واعلم أن المحفوظ عن الشافعي: الاكتفاء بأقل ما ينطلق عليه الاسم.

والصحيح عندنا أن مأخذه: أن المسح لمطلق الرأس، وهو صادق ببعضه، لا أنها موضوعة للتبعيض على أن القول بأنها للتبعيض أثبته الأصمعي، والفارسي، و [القتبي]

(1)

، وابن مالك، وغيرهم.

وجعلوا منه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [سورة الإنسان: الآية 6].

وقولَ الشاعر: [الكامل]

فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا

شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الحَشْرَجِ

(2)

(1)

في أ، ج: العتبي.

(2)

البيت من الكامل، وهو لعمر بن أبي ربيعة في ملحق ديوانه ص 488، والأغاني 1/ 184، =

ص: 387

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقول الآخر: [الكامل]

شَرِبَتْ بِمَاءِ الدُّحْرُضَيْنِ فَأَصْبَحَتْ

زَوْرَاءَ تَنْفِرُ عَنْ حِيَاضِ الدَّيْلَمِ

(1)

وقولَ الآخر: [الطويل]

شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ

مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئيجُ

(2)

= ولجميل بن بثينة في ملحق ديوانه ص 235، وجمهرة اللغة ص 1133، والدرر 4/ 130، لجميل أو لعمر في البداية والنهاية 9/ 47، ولسان العرب (حشرج)، (لثم)، ولعبيد بن أوس الطائي في الحماسة البصرية 2/ 114، والحيوان 6/ 183، والمقاصد النحوية 3/ 279، ولجميل أو لعمر أو لعبيد في شرح شواهد المغني ص 320، لجميل أو لغيره في تهذيب تاريخ دمشق 3/ 406، ووفيات الأعيان 1/ 370، والاشتقاق 391، وإصلاح المنطق 208، وعيون الأخبار 4/ 92، همع الهوامع 2/ 51، ومغني اللبيب ص 105، والجني الداني 44، والاشتقاق 391.

(1)

البيت من الكامل، وهو لعنترة في ديوانه ص 201، وسر صناعة الإعراب 1/ 134، وأدب الكاتب ص 515، وجمهرة اللغة 872، والأزهية 283، ولسان العرب (نبت)، (دحرض)، (وسع)، (وشع)، (دلم)، والمحتسب 2/ 89، وشرح المفصل 2/ 115، ورصف المباني 151.

(2)

البيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في الأزهية ص 201، وجواهر الأدب ص 99، والأشباه والنظائر 4/ 287، خزانة الأدب 7/ 97 - 99، وسر صناعة الإعراب ص 135، 424، والدرر 4/ 179، والخصائص 2/ 85، وشرح أشعار الهذليين 1/ 129، وشرح شواهد المغني 218، ولسان العرب، (شرب، مخر، متى)، والمقاصد النحوية 3/ 249، والمحتسب 2/ 114، وأدب الكاتب ص 515، والأزهية 284، وأوضح المسالك 3/ 6، ورصف المباني 151، وجواهر الأدب 47، 378، والجنى الداني 43، 505، وشرح ابن عقيل 352، وشرح عمدة الحافظ 268، وشرح الأشموني 284، وشرح قطر الندى 250، والصاحبي في فقه اللغة ص 175، وهمع الهوامع 2/ 34، ومغنى اللبيب ص 105.

ص: 388

مَسْأَلَةٌ:

لَا إِجْمَالَ فِي نَحْوِ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ"؛ خِلَافًا لأَبِي الْحُسَيْنِ، وَالْبَصْرِيِّ.

لنَا: الْعُرْفُ فِي مِثْلِهِ قَبْلَ الشَّرْعِ - الْمُؤَاخَذَةُ وَالْعِقَابُ، وَلَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ: إِمَّا لأَنَّهُ لَيْسَ بِعِقَابٍ - أَوْ تَخْصِيصًا لِعُمُومِ الْخَبَرِ؛ فَلَا إِجْمَالَ.

قَالُوا: وَأُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَيْتةِ.

«مسألة»

الشرح: "لا إِجْمَال في نحو" ما قدَّمْناه في "بابِ العُمُوم" من قوله صلى الله عليه وسلم: ""رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ"، خلافًا لأبي الحُسَيْن والبَصْري" أبِي عَبْد الله وبعْضِ الحَنفِيَّةِ

(1)

.

"لنا: العُرْف" فإنَّهُ يَقْضِي "في مثله قَبْل الشَّرع" بأن المَحْكُومَ يرفعه إنَّما هو "المؤاخذةُ والعِقَابُ".

قال ابْنُ السَّمْعَانِي: ويمكن أن يُقال: إنَّهُ معقُولُ المَعْنَى لُغةً أيضًا؛ ألا ترى أنَّهُ إذا قال لِعَبْدِهِ: رفعْتُ عَنْكَ خِيانتَك عَقَلَ منه رفْعَ المُؤَاخَذَةِ، ولا يُقَالُ: فَلِمَ لم يَسْقُط الضَّمَان؟ لأنَّا نقول ذلك؛ "إمَّا لأَنَّه ليس بِعِقَاب"، بل هُو جبْرَانٌ لِلْمُنَافَاة، ولذلك يُؤاخَذُ بِهِ مَنْ لا أهْلِيَّة للتَّكلِيفِ أصْلًا، "أو تَخْصِيصًا لِلعُمُوم لخَبَر" كذا بِخطِّ المُصَنِّف، أي: تخصيصًا لِعُمُومِ المُؤَاخَذَةِ للخبر الدَّالِّ على التَّخْصيص، ولَكَ أنْ تقول: ما الخبر؟ فالأَوْلَى أنْ يُقال: أو تَخْصيصًا لِعُمُومِ هذا الخَبَرِ بالإجْمَاعِ وغَيْرِه من الأدِلة القَائِمَةِ على ذلِك، ولُزُومُ التَّخْصِيصِ أَسْهَلُ من القَوْلِ بِالإِجْمَال، "فلا إجْمَال".

"قالوا": لا بُدَّ مِنْ إِضْمَارٍ لِمُتَعَلِّقِ الرَّفع، وهو مُتَعَدِّد.

"وأُجِيبُ بِما تَقَدَّم في المَيْتَةِ" من أنَّ الْمُضْمَر هو ما اتَّضَحَ عُرْفًا.

(1)

ينظر: الإحكام للآمدي 3/ 13 (3)، والمحصول 1/ 3/ 257، والمعتمد 1/ 336، والمستصفى 1/ 348، وجمع الجوامع 2/ 60، والآيات البينات 3/ 110، وشرح تنقيح الفصول 277، وشرح العضد 2/ 159، وإرشاد الفحول (171)، وشرح الكوكب 3/ 424، وأصول السرخسي 1/ 251، والبحر المحيط 3/ 462.

ص: 389

مَسْأَلَةٌ:

لَا إِجْمَالَ فِي نَحْوِ: "لَا صَلَاة إِلَّا بِطُهُورٍ"؛ خِلَافًا لِلْقَاضِي.

لَنَا: إِنْ ثَبَتَ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ فِي الصَّحِيحِ - فَلَا إجْمَالَ؛ وَإِلَّا فَالْعُرْفُ فِي مِثْلِهِ نَفْيُ الْفَائِدَةِ مِثْلُ: لَا عِلْمَ إِلَّا مَا نَفَعَ؛ فَلَا إِجْمَالَ وَلَوْ قُدِّرَ انْتِفَاؤُهُمَا فَالأَوْلَى نَفْيُ الصِّحَّةِ؛ لأِنَّهُ يَصِيرُ كَالْعَدَمِ، فكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ الْمُتَعَذِّرَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالتَّرْجِيحِ.

قُلْنَا: إِثْبَاتٌ لِمَجَازٍ بِالْعُرْفِ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ جَائِزٌ.

«مسألة»

الشرح: "لا إجْمَال في نحو: "لا صلاةَ إلَّا بِطُهُورٍ""، أو "إلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ"، فانتفى فيه الفِعْلُ

(1)

، والْمُرادُ نَفْيُ صِفَتِهِ؛ "خلافًا لِلْقَاضِي. لَنَا: إن ثَبَتَ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ في الصَّحِيح"، أي: في أن الشَّرْعِيَّ هو الصَّحِيح، "فلا إجْمَالَ"؛ إذ حَقِيقَةُ الْفِعْلِ الشَّرْعِيِّ مَنْفِيَّةٌ، وإذَا أمْكَن نَفْيُ مُسَمَّاهُ تَعَيَّنَ، "وَإِلَّا فالْعُرْف" اللُّغَوِيُّ قاضٍ "في مِثْلِه" بأنَّ المُرَاد "نَفْيُ الفَائِدة" مِثل: "لا عِلْمَ إلَّا ما نَفَعَ، فلا إجْمَال" أيْضًا؛ لِظُهُورِ المُرَادِ وهو نَفْيُ الفَائِدةِ، "ولو قُدِّرَ انتِفَاؤُهُما"، أي: انْتِفَاءَ العُرْفِ الشَّرْعِيِّ واللُّغَوِيِّ "فالأَوْلَى" في التَّقْدِير "نَفْيُ الصِّحَّةِ؛ لأَنَّهُ يَصِيرُ إلى العَدَمِ"، "فكانَ أقْرَبَ إلى الحَقِيقَةِ المُتَعَذّرَة"، والمَجَازُ الأَقْرَبُ أَوْلى مِنَ البَعِيد، كنَفْي الكْمَال، وإذا كان ثَمَّ مَجَازٌ قَرِيبٌ كان ظَاهِرًا فيه وَلَا إجْمَال، فَإِذًا لا إجْمَال على التَّقادِير الثَّلاثِ.

"فإن قيل": ما ذَكَرْتُم "إثباتَ اللُّغَة بالتَّرْجِيح" وأنْتُم تَمْنَعُونَه. "قلنا": لَيْس ذلك من إثْبَات اللُّغَةِ بالتَّرجيحِ، بل هُو "إثبات لمجاز" مِن المَجَازَات "بالْعُرْفِ في مِثلِهِ".

(1)

ينظر: المعتمد 1/ 335، والمحصول 1/ 3/ 249، والتبصرة (203)، والإحكام للآمدي 3/ 15 (4)، والمستصفى 1/ 351، وشرح الكوكب 3/ 429، وجمع الجوامع 2/ 59، والآيات البينات 3/ 110، وشرح العضد 2/ 160، وإرشاد الفحول 170، وتيسير التحرير 1/ 132، 169، وكشف الأسرار 2/ 237، والتقرير والتحبير 1/ 166، وأصول السرخسي 1/ 251، والبحر المحيط 3/ 460.

ص: 390

قَالُوا: الْعُرْفُ شَرْعًا - مُخْتَلِفٌ فِي الْكَمَالِ وَالصِّحَّةِ.

قُلْنَا: مُخْتَلِفٌ؛ لِلاخْتِلَافِ؛ وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا اسْتِوَاءَ؛ لِتَرَجُّحِهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.

الشرح: "قالوا: العُرْفُ شَرْعًا مُخْتَلَفٌ"، فيقال:"في الكمال" تارةً، "و" في "الصِّحَّة" أخرى، فكَانَ مُتَردِّدًا بَيْنَهُما، وَلَزِمَ الإجْمَالُ.

"قلنا: مُخْتَلَفٌ" كما ذَكَرْتُم، وَلَكِن "الاخْتِلَاف" في أنَّهُ ظَاهِرٌ في نَفْي الصِّحَّةِ أو نَفْيِ الكَمَال، فَكُلُّ ذِي مذْهَبٍ يَحْمِلُهُ على مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِيهِ عِنْدَه، لَا أَّنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا، فهو ظَاهِرٌ عِنْدَهُمَا لا مُجْمَل. غَايَة الأَمْرِ: أَنَّ كُلًّا منهما يَجْعَلُهُ ظَاهِرًا في خِلَاف مَا جَعَلَهُ صاحِبُه، فلا إِجْمَال، "ولو سُلِّم" أنه مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا، "فلا اسْتِواء" لهما بالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، أي: لَيْسَ التَّرَدُّدُ على السَّوَاءِ، بَلْ نَفْيُ الصِّحَّةِ أوْلَى؛ "لترجُّحِه" بما ذَكَرْنَاه" مِنَ الْقُرْبِ إِلى نَفْي الذَّات.

واعْلمْ أن المَسْأَلَة معْقُودَةٌ في صِيَغٍ تَرِدُ فِي الشَّرع نَافِيَة لِذَوَات واقِعَةٍ، وهذا قَدْ جاء الشَّرْعُ به تَارَةً في قَالَبِ الْإِثْبَاتِ، وتارةً في قَالَبِ النَّفي.

أمَّا الإثبات: فمِثْل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [سورة النساء الآية 23]، ومَعْلُوم أن نَفْس الأُمِّ لا تُحَرَّم، والْمُحَرَّمُ مَعْنًى آخَرُ غَيْرُ ذَاتِهَا، وَهُوَ غَيْرُ مذكورٍ، فالْمَنْطُوقُ غَيْر مُرادٍ، والْمُرادُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ، وهذا تقدَّم.

وأمَّا النفي: وهو مسألتُنَا نحو: لا عمل إلا بِنِيَّة

(1)

،: لا صِيَامَ لمن لم يُبيِّتِ الصِّيَامَ مِن اللَّيْل،: لا صَلَاةَ إِلّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ،: لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَليٍّ، فمن يَقُولُ بِالحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، ويَقُولُ مع ذلك: إِنَّ الشَّرْعِيَّ مَخْصُوصٌ بِالصَّحيحِ، ويَحْمِلُ اللَّفْظَ إذا وَرَدُ مِن الشَّارعِ عَلَى الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ وغَيْرهُ مِن الْمُحْتَمَلَاتِ، وهُوَ يَحْمِلُ الْكَلَام على حَقِيقَتِهِ، ولا وَجْهَ للإجْمَال عِنْدَه؛ إذ لا شَكَّ عِنْدَه في انْتِفَاء الذَّاتِ - فَأَيُّ دَاعٍ إلَى الإجْمَال، ومَن يُنْكِرُ الْحَقَائِقَ الشَّرْعِيَّةَ كالقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، أو يَقُولُ: الشَّرْعِيُّ لأَعَمّ مِن الصَّحِيحِ والفَاسِدِ، أَو يَقُولُ: إذا وَرَدَ لفْظٌ له مَحْمَلٌ لُغَوِيٌّ ومحْمَلٌ شَرعِيٌّ كانا بالنِّسْبة إليه سواء يتَّجه منه دَعْوَى الإجْمَال. ثم اختَلَفَ القَائِلون بالإجمال، فذهب ذَاهِبُون إلى أن سَبَبِيَّة كوْن اللَّفْظِ لَمْ يُرِدْ نَفْي وُقُوع الفِعْل، أو وُقُوعَه مَوْجُودٌ ومشاهدٌ، وإنَّما أريد به أمرٌ آخر لم يُذكَرْ، والَّذِي أريدَ به غير مَعْلُومٍ، فكان مُجْمَلًا، وردَّ نازلون عن هذه المَرتبَةِ هذا.

(1)

أخرجه البيهقي (1/ 41) بلفظ: "لا عمل لمن لا نية له" ورواه الديلمي في مسند الفردوس بلفظ: لا أجر إلا عن حسبة ولا عمل إلا بنية.

ص: 391

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقالُوا: اللَّفْظُ موضُوعٌ لِنَفْي الأَوْصَافِ دُونَ الذَّوَات؛ ألا تراهُم يَقُولُون لِمَن أجَابَ بما لا يُفِيدُ: لم يجب شيء، ولكن الأَوْصَافَ مُتَعَدِّدَةٌ، فسببُ الإجْمَال تَعَدُّدُهَا، وتردد لا صيامَ إلَّا بِنِيَّةٍ، وأمثالهُ بين نَفْي الجَوَازِ ونَفْي الكمال، وهذا اختيارُ الْقَاضِي، والحقُّ عَدَمُ الإجْمَال، وأنَّهُ ظَاهِرٌ في نَفْي الصِّفَات، ثُمَّ ما كانَ أقْرَبَ إلى الحَقِيقَةِ، كَان المَنْفِيَّ كَما عَرَفْت، فإن تَسَاوَتِ المجازَاتُ وكانَتْ مُتَنَافِيَةً كان مُجْمَلًا إذ ذاك، وإن كان بَيْنَهُمَا قدْر مُشْتَركٌ صُيِّرَ إلَيه. هذه هي الطَّرِيقَةُ المُرْضِيَةُ عِنْدنا الجَارِيَةُ عَلَى أُسْلُوبِ التَّحْقِيقِ ومِنْ أصحابنا من قال بِالْعُمُومِ في ذلِكَ على نَحْوِ العُمُومِ في المحذوفاتِ والمَنْطُوقَاتِ، لا على أصْلِ الواقِفِيَّةِ المُنْكِرين لِلْعُمُوم أصْلًا، ولا على أصْلِ المُعَمِّمين الَّذِين يَقْصرُون التعميم على الصِّيَغِ، ولا يَرَوْن تَعْمِيمَ المَحْذُوفَاتِ.

وذكر القاضي أن المُعَمِّمِين أَخْطَأُوا، وإن سُلِّم لهم أصْلهم في العُمُوم، واعتلَّ بأن العُموم إنَّما يَصِحُّ دعواه فيما لا يتناقَض، وأمَّا إذا كان يَصِيرُ إلى تناقُضٍ وتهافُتٍ، فيستحيل دعوى العُمُومِ.

قلت: وهذا حقٌّ فيما تنافَتْ فيه المحامِلُ كما قُلْناه، ولكن قد لا يُسَلِّمُ المُعَمِّمُونَ التَّنَافِيَ بَيْنَ الْكَمَال والصِّحَّةِ حالة النَّفْي، ويقولون: يَجُوز نَفْيُهُمَا معًا، وهذا مَوْضِعُ نَظَرٍ؛ فإنَّ إمام الحَرَمَيْن وابنَ السَّمْعَانيِّ وغَيْرَهمَا ذَكَرُوا أن من ضَرُورَةِ نَفْي ثُبُوتَ الجَوَازِ، وهذا إن صحَّ لهم ثَبَتَتْ دعوى نَفْي العُمُوم كما صَحَّتْ دعوى نَفْيِ الإجْمال، وقامَ تَقْدِير الجَوَاز فإنَّهُ أعَمُّ وَأَقْرَبُ إِلى نَفْي الحَقِيقَةِ، ولكِن لقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّمُ أن نَفْيَ الكمال يَقْتَضِي إثْباتَ الجَوَازِ؛ فإنَّ نَفْيَ الأخصِّ لا يقتضي ثُبُوتَ الأعَمِّ، بل هو صَادِقٌ وإنْ لم يثبت الأعمُّ أيضًا.

والَّذِي أرَاهُ أنَّهم لم يَقصِدُوا أن قَضِيَّة نَفْي الكَمال إثباتُ الجواز؛ فإنَّ ذلك سَاقِطٌ كَمَا تَرَى، بل إنَّه يُشْعِرُ بإثبات الجَوَازِ إشْعارًا مَحْضًا؛ إذ لا يُقَال في العُرْفِ للصَّلاة الفَاسِدَةِ: صلاةٌ غَيْرُ كَامِلَةٍ، وإنَّما يُقَالُ ذلك لِنَاقِصَةِ الفَضَائِل الَّتِي لا تُوجِبُ الإخلال بها فسادًا.

ثمَّ أقولُ: وإذا نَفَيْنا الجواز كان قولنا معه: "ولا كمال" غير محتاجٍ؛ إليه لتضمُّن نفي الجواز إيَّاه، فإذا قيل: يُفْهَمُ من إثباتِ الجَوازِ، ثم يُنَافِي قَوْلنا: لا جَوَازَ، فَمِنْ هُنا يجِيءُ التَّنَافِي؛ فإنَّ نَفْيَ الْكَمَال يُشْعِرُ بِثُبُوتِ الإجْزاء، ويُعْتَضَدُ هَذَا الإشْعارُ بضمِّهِ إلى نَفْسِ الجَوَازِ؛ فإنَّه لَوْ لَمْ يُفِدْ أمْرًا يُغَايِرُهُ لإفادَة نَفْيِ الإجْزاءِ لما كان لِذِكْرِه فَائِدَةٌ إلى نفي الجواز، ونفي الإجزاء مع ثبوت الإجزاء مما يتضاد، فافهم ما يلقى إليك فيه يظهر لك التَّنافي بين نفي الكمال والصحة، وتنكر به على مدعي العموم.

ص: 392

مَسْأَلَةٌ:

لَا إِجْمَالَ فِي نَحْوِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [سورة المائدة: الآية 38].

لَنَا: أَنَّ الْيَدَ إِلَى الْمَنْكِبِ حَقِيقَةٌ؛ لِصِحَّةِ: "بَعْضُ الْيَدِ" لِمَا دُونَه، وَالْقَطْعُ إِبَانَةُ المُتَّصِلِ؛ فَلَا إِجْمَالَ".

وَاسْتُدِلَّ: لَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا فِي الْكُوعِ وَالْمِرْفَقِ وَالْمَنْكِبِ - لَزِمَ الْإِجْمَالُ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ، لَزِمَ الْمَجَازُ.

«مسألة»

الشرح: "لا إجمال في نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "[سورة المائدة: الآية 38] لا في اليد، ولا في القطع؛ خلافًا لبعض الحنفيَّة

(1)

.

واقتضى كلام المصنف اختياره في مسألة فعله صلى الله عليه وسلم. "لنا: أن اليد" للعضو "إلى المنكب حقيقة".

وإنما كان حقيقة "لصحة" إطلاق "بعض اليد لما دونه" أي: دون المنكب، فكان ظاهرًا في الكل؛ فلا إجمال.

"والقطع" أيضًا ليس بمجمل؛ لأن حقيقته "إبانة المتّصل"، فهو ظاهر فيه؛ "فلا إجمال"

(2)

.

"واستدل: لو كان" لفظ اليد "مشتركًا في "العضو إلى "الكوع والمرفق والمنكب، لزم الإجمال"؛ وهو خلاف الأصل، فيكون حقيقة لأحدهما ظاهرًا فيه؛ لنفي الإجمال.

"وأجيب": بالمعارضة "بأنه لو لم يكن" لفظ اليد مشتركًا بين الثلاثة "لزم المجاز"،

(1)

ينظر: المعتمد 1/ 336، والمحصول 1/ 3/ 256، وشرح الكوكب 3/ 425، والمسودة (11)، وإرشاد الفحول (170)، والعدة 1/ 149، وجمع الجوامع 2/ 59، والآيات البينات 3/ 108، والإحكام للآمدي 3/ 17 (5)، والتمهيد للإسنوي (433)، ونهاية السول له 2/ 523، والإبهاج 2/ 211، وفواتح الرحموت 2/ 39، والبحر المحيط 2/ 465.

(2)

ينظر: البحر المحيط 3/ 465.

ص: 393

وَاسْتُدِلَّ: يُحْتَمَلُ الاِشْتِرَاك وَالتَّوَاطُؤ وَحَقِيقَة أَحَدِهِمَا، وَوُقُوعُ وَاحِدٍ مِنِ اثْنَيْنِ أَقْرَبُ مِنْ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ إِثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالتَّرْجِيحِ - وَبِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُجْمَلٌ أَبَدًا.

قَالُوا: تُطْلَقُ الْيَدُ عَلَى الثَّلَاثِ، وَالْقَطْعُ عَلَى الْإِبَانَةِ وَعَلَى الجَرْحِ فَثَبَتَ الْإِجْمَالُ. قُلْنَا: لَا إِجْمَالَ مَعَ الظُّهُورِ.

ولك أن تقول: قولكم: لو كان مشتركًا ينبغي أن يكون دليلًا على نفي الاشتراك، لا نفي الإجمال، ومرادكم نفي الإجمال، وقولكم: لكان مجملًا يقال عليه، وهذا هو المقصور.

والظاهر أن الدليل مقلوب، والمراد: لو كان مجملًا لكان مشتركًا؛ إذ لا موجب للإجمال هنا غيره، والأصل عدم الاشتراك.

وجوابه: لو لم يكن، لكان مجازًا، والأصل عدم المجاز.

ولقائل أن يقول: المجاز أولى من الاشتراك.

الشرح: "واستدلّ" على المجاز أيضًا: بأن لفظ اليد "يحتمل الاشتراك" بين الأمور الثلاثة، بأن يكون موضوعًا لها "والتواطؤ، وحقيقة أحدهما" دون الآخر، "ووقوع واحد من اثنين أقرب من واحد معين"، فيكون الغالب على الظَّن أحد الاثنين، والإجمال إنما هو على تقدير الاشتراك، فيظن خلافه.

"وأجيب" أولًا: "بأنه إثبات للغة بالترجيح".

وثانيًا: "بأنه" لو صَحّ "لا يكون مجملًا أبدًا"؛ لجريان ما ذكر فيه.

والمخالفون "قالوا: تُطْلق اليد على" الأشياء "الثلاثة، والقَطْع" يطلق "على الإبانة، وعلى الجروح" يقال لمن جرح يده بالسِّكين: قطع يده، والأصل الحقيقة، "فثبت الإجمال".

"قلنا": بمجرد الإطلاق لا يلزم منه الإجمال، وإنما يلزم من عدم الظُّهور، وقد بينا اليد ظاهر في العضو من المنكب، والقطع من الإبانة، "ولا إجمال مع الظّهور".

ص: 394

الْمُخْتَارُ أَنَّ اللَّفْظَ لِمَعْنًى تَارَةً، وَلمَعْنَيَيْنِ أُخْرَى: مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ - مُجْمَلٌ.

الشرح: قال أبو عمرو: "المختار أن اللَّفظ" الذي يستعمل "لمعنى تارة، ولمعنيين أخرى من غير ظهور" لأحد الأمرين فيه "مجمل"

(1)

.

وقال الغزالي: إذا أمكن حمل كلام الشَّارع على ما يفيد معنيين، وحمله على ما يفيد معنى واحدًا، وهو متردّد بينهما، فهو مجمل.

وقال بعض الأصوليين: يترجح حمله علي ما يفيد معيين، كما لو دار بين ما يفيد وما لا يفيد. انتهى.

وكلام الآمدي نحوه، فإنه قال: اللَّفظ الوارد إذا أمكن حمله على ما يفيد معنى واحدًا، وعلى ما يفيد معنيين:

قال الغزالي وجماعة من الأصوليين: هو مجمل؛ لتردّده .. إلى آخر ما ذكره، واختار أنه لا يكون مجملًا.

وقال: محل النزاع إنما هم فيما إذا لم يكن حقيقة فيهما، فإنه يكون مجملًا، أو حقيقة في أحدهما مجازًا في الآخر، فإن الحقيقة مرجّحة لا ريب.

وكذلك عبارة الهندي، فإنه قال: لفظ الشَّارع إذا دار بين أن يفيد معنى، أو يفيد معنيين، وهل هو مجمل بالنسبة إلى كلّ واحد منهما، وهو ظاهر بالنسبة إلى إفادة المعنيين؟

ذهب الأكثرون إلى أنه ظاهر

إلى آخره، وذكر كما ذكر الآمدي أنَّ محلّ النزاع فيما إذا لم يكونا حقيقة، أو أحدهما حقيقة والآخر مجازًا.

وقال في آخر المسألة تبعًا للآمدي: الحمل على إفادة المعنيين أولى؛ لما فيه من رفع الإجمال الذي هو خلاف الأصل.

وهذا المقصود وإن كان حاصلًا في الحمل على المعنى الواحد، لكنه خلاف الإجماع؛ إذ القائل قائلان.

(1)

ينظر: المستصفى 1/ 355، وشرح العضد 2/ 161، وشرح الكوكب 3/ 341، والإحكام للآمدي 3/ 18 (6)، وإرشاد الفحول (171)، وجمع الجوامع 2/ 63، وفواتح الرحموت 2/ 40.

ص: 395

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإنا نقول بالحمل على المعنيين.

وقائل يقول بالإجمال، فأما تعين الحمل على معنى واحد، فقول لم يقل به أحد.

هذه عبارات هؤلاء الأئمَّة.

والذي وضح لي أن سورة المسألة فيما إذا ورد كلام من الشَّارع دائر بين مدلولين إن حمل على أحدهما أفاد معنى واحدًا، وإن حمل علي الآخر أفاد معنيين، وليس هو أظهر بالنسبة إلى أحدهما ليخرج ما إذا كان أحدهما حقيقة والآخر مجازًا؛ إذ الحقيقة راجحة، أو أحدهما مجازًا راجحًا، والآخر مرجوحًا؛ لتقدم الراجح.

وقد أشار المصنف بقوله: "اللفظ لمعنى تارة، ولمعنيين أخرى" إلى أن محل الخلاف ليس فيما إذا كان أحدهما حقيقة، والآخر مجازًا؛ إذ لا يقال في المعنى المجازي: إن اللفظ له، بل اللفظ ليس إلا للحقيقة الموضوع بإزائها وضعًا أولًا.

وبقوله: "من غير ظهور" إلى ما إذا كان أحد المحملين راجحًا؛ إما لكونهما مجازين، وأحدهما أشهر، أو لغير ذلك، ويدخل فيه ما إذا كان أحدهما حقيقة والآخر مجازًا، فإن الظهور للحقيقة، إلا أن تكون مهجورة.

وإذا وضح أن محلّ الخلاف وصورة المسألة في لفظ دائر بين مدلولين:

إن حمل على أحدهما أفاد معنى واحدًا.

وإن حمل على الآخر أفاد معنيين من غير ظهور، فنقول: للمسألة حالتان:

إحداهما: أن يكون المعنى الواحد ليس واحدًا من المعنيين، والذي يظهر في هذا أن يكون مجملًا، ولا يقال: الحمل على ما يفيد معنيين أولى؛ لكونه أكثر فائدة؛ لأنا نقول: إنما يتحقّق هذا لو كان المعنى الواحد أحد المعنيين.

أما إذا لم يكن فهو قسيمه، وفي العمل به دفع لأحد محملي اللَّفظ بمجرّد كون الآخر أكثر فائدة، ولا نسلّم أن أكثرية فائدته توجب هذا الصنيع.

والحالة الثانية: أن يكون واحدًا من المعنيين، والَّذي يظهر فيها: أنه يعمل بالمعنى الواحد على كل حال؛ لأنه إن كان هو تمام المُرَاد باللَّفظ، فلا إشكال، وإلا فهو أحد المُرَادين؛ فلا مانع من العمل، إنما يبقى النَّظر في المعنى الآخر.

فإن قلت: فقد قال الآمدي فيما إذا ظهر كونه حقيقة، فيما قيل من المحملين مع

ص: 396

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اختلافهما: إنه لا خلاف فيه؛ لتحقّق إجماله؛ وهذا يقتضي أنه إذا كان حقيقة فيهما لا يكون من صور المسألة، كما قدمتموه عنه، وتابعه الهِنْدِيّ، وكلامهم ظاهر في أن صورة المسألة في أعم من ذلك، وهو اللفظ ذو المحملين المتساويين، سواء أكانا حقيقتين أو مجازين، أم أحدهما حقيقة مرجوحة، والآخر مجازًا راجحًا، عند من يقول بتساويهما.

قلت: الذي قلناه نحن هو الذي يظهر، وإلَّا فإذا لم يكونا حقيقتين، ولا أحدهما حقيقة والآخر مجازًا، فما بقى إلا أن يكونا مجازيين؛ لانحصار دلالة اللفظ على المعنى في الحقيقة والمجاز، ونسبةُ المجازين إلى اللفظ نسبة الحقيقتين.

فإن قلت: وهل لكلام الآمدي محمل صحيح؟.

قلت: نعم، كلامه محمول على ما إذا كان كل من المحملين حقيقة، ولأحدهما معنى، وللآخر معنيان ليس واحد منهما هو ذلك المعنى.

وإلى هذا يشير قول الآمدي "مع اختلافهما"؛ فإن هذا هو ظَاهِرُ الاختلاف.

فإن قلت: الحالة الثانية: أن يكون المعنى الواحد فيهما أحد المعنيين من المحمل الآخر، قد ذكرتم أنه لا يتّجه خلاف في العمل بذلك المعنى، وإنَّمَا يبقى النظر في المعنى الثاني، فما معنى قول الآمدي والهِنْدِيّ: لم يقل بالحمل على المعنى الواحد أحد؟.

قلت: هو أيضًا محمول على الحالة الأولى، وهي ما إذا لم يكن المعنى الواحد هو أحد المعنيين، من المعنى الآخر، فلم يقل أحد فيه بالحمل على المعنى الواحد، والإعراض عن المحمل الآخر ذي المعنيين المغايرين للمعنى الواحد، بل الظاهر الإجمال كما ذكرناه.

ويحتمل على بعد أن يقال: ترجيح المحمل ذي المعنيين؛ لكونه أكثر فائدة، وهو ضعيف كما سبق.

أما إذا كان المعنى الواحد هو أحد المعنيين من المحمل الآخر، فلا يتجه في العمل به خلاف، فإنما نفى الآمدي والهندي الخلاف فيما إذا كان المعنى الواحد ليس هو أحد المعنيين من المحمل الآخر. هذا ما ظهر لي.

ويحتمل أن يقال: إنه لم يقل أحد بالحمل على المعنى الواحد بمعنى: صيرورته هو

ص: 397

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تمام المراد باللفظ والحمل عليه، إنما العمل به من جِهَةِ أنه داخل في المراد، إن لم يكن تمام المراد، فلم يتعرض له لوضوحه.

وينبغي تنزيل كلام المصنف على ما قررنا، فيقال: قوله: اللفظ لمعنيين .. إلى آخر نصه.

معناه: اللفظ إذا كان يطلق تارة، ويراد به معنيان، وأخرى ويراد به معنى، وإطلاقه عليهما على حَدّ سواء، وهو معنى قوله من غير ظهور.

وهو أحسن ممن صرح بالحقيقتين، أو الحقيقة والمجاز؛ لما عرفت.

وهل يترجّح الحمل على المعنيين، أو يكون مجملًا، أو يفرق بين أن يكون أحد المعنيين هو المعنى الآخر، الذي هو أحد محملى اللفظ؟.

فيه الخلاف.

وقد مثل بعض الشَّارحين المسألة بـ"الدابة" تطلق تارة بِإِزاء الفرس، وأخرى بإزاء كلّ من البَغْلَ والحمار، وهو على كونه فرض ما ليس بواقع من إطلاق الدَّابة على الفرس تارة، والبَغْل والحمار أخرى مثال للحالة الأولى دون الثانية.

وبعضهم أنها تطلق على الفرس تَارَةً، وعلى الفرس والحمار أخرى.

وهو أيضًا كالأول، ومختص بالحالة الثانية.

ومثَّل بعضهم بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [سورة النور: الآية 33]؛ فإن الشَّافعي رضي الله عنه قال: المراد بالخير الكَسْب والأمانة.

وقال آخرون: أحدهما فقط.

وهذا إن صحّ يكون مثالًا للحالة الثانية أيضًا فقط.

ثم هو ضعيف؛ إذ موضوع الخير بلا شك عند الشَّافعي وغيره ما هو أعم من ذلك كله، ويصدق على كلّ من الكَسْب والأمانة صِدْقَ المتواطئ إذا أطلق على أفراده، فأين دوران لفظ بين معنيين ومعنى؟.

فإن قلت لم حمل الشَّافعي الخير عليهما؟.

ص: 398

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت: ليس لأنه موضوع بإزائهما، بل قام عنده دليل من خارج على أنهما مرادان من اللفظ المتواطئ الصالح لهما معًا، وكل منهما.

كما إذا استعملت المتواطئ في فرد بخصوصه، فهو عند ذوي التحقيق لم يخرج عن حقيقته بذلك، والقائل بأنه يخرج ليس بشيء ممَّا نحن فيه.

ولا نقول: إِنَّ الفرد الآخر يعارضه.

ومن قال إِنَّ الأمرين - أعني الكسبَ والأمانة - إذا فقد أحدهما نفى الاستحباب، فقد أخذ بحقيقة الإطلاق، وهو وجه لأصحابنا فيمن علم فيه الكسب دون الأمانة، أو بالْعكس.

فليس حمل الشافعي الخير على الكسب والأمانة معًا، لكونه دائرًا بين مدلولين:

أحدهما الكسب والأمانة معًا، والثاني الأعم، أو أحدهما؛ ولا لأن الخبر عنده موضوع بإزائهما معًا بخصوصهما.

بل هو موضوع للقدر المشترك بين الكل بلا ريب.

ودل دليل من خارج عنده على أن المراد به خير خاص متعلق بالأمانة والكسب معًا، كما في المطْلَق إذا قام الدليل على إرادة المقيد به.

مما يوضح لك بطلان التمسك بهذا، أَنَّ القائل في المسألة الآصوليّة بأن لا يكون مجملًا ويحمل على المعنيين، قد علل دعواه بأن ذلك أكثر فائدة.

والحمل على الأمانة والكسب معًا لا يكون أكثر فائدة، بل أقل، بل كلُّ مطلق حملته على المقيد كذلك؛ لأنك تزيل التمكن من أصل الإطلاق.

ونظير الآية قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [سورة النساء: الآية 6].

وقد قال الشَّافعي: الرّشد: الدين والمال معًا.

وقال غيره: صلاح المال فقط.

وقد يقال في هذه الآية: إِن الرشد موضوع للدين والمال معًا، ولا يمكن أن يقال مثل ذلك في الخير؛ فإِنَّهُ بلا شك لأعم من الكسب والأمانة.

ص: 399

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد مثل الشيخ فخر الدين الجاربردي

(1)

للمسألة بقول الرجل لامرأته: أنت على حرام كظهر أمي، قال:. فإنه يطلق تارة ويراد به: الطَّلاق وَالظِّهار.

وأخرى ويراد بقوله: حرام: الظِّهار، وبقوله: كظهر أمي: تأكيده.

وهو غير مطابق؛ لأن القائل إن نوى الطَلاق والظهار معًا بقوله: حرام، لم يقعا، بل: هل يثبت الطَّلاق أو الظّهار أو يُخيَّرُ؟.

فيه أوجه، أَصَحُّهَا: الثَّالثُ.

فلم يقل أحد: إنَّ لفظ الحرام صالح لهما معًا.

بل صالح لكل منهما لا على المَعِيَّةِ.

وإن نوى الطلاق بقوله: حرام، والظِّهَار بقوله: ظهر أمي، وقع الطلاق، وحصل الظِّهار وإن كان الطَّلاق رجعيًّا على الصَّحيح.

ولكن لم يحصلا بلفظ واحدٍ، بل بلفظين، والكلام في لفظ واحد.

وإن أطلق فلا طلاق؛ لعدم الصريح والنِّيَّة.

وفي كونه ظهارًا وجهان.

وقد يمثل للحالة الأولى بقوله عليه السلام: "المُحْرِمُ لا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكِحُ"، إذا قلنا: النكاح مشترك بالاشتراك اللفظي

(2)

بين العَقْد والوطء، فإنه دائر بينهما من غير ترجيح على هذا القول.

فإن حمل على الوطء، استفيد منه معنى واحد، وهو أن المحرم لا يَطَأ ولا يُوطِئ.

(1)

أحمد بن الحسن بن يوسف الإمام العلامة فخر الدين الجاربردي نزيل تبريز، أحد الشيوخ المشهورين بتلك البلاد، شرح المنهاج للبيضاوي، والحاوي الصغير ولم يكمله، وشرح تصريف ابن الحاجب. قال الإسنوي: كان عالمًا دينًا وقورًا مواظبًا على الاشتغال والإشغال والتصنيف، وتوفي في رمضان سنة ست وأربعين وسبعمائة ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 3/ 10، والأعلام 1/ 107، وطبقات السبكي 5/ 169.

(2)

احترز المصنف للاشتراك عن القول بأنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، فلا إجمال فيه، بل هو من الظاهر. ينظر الآيات البينات 3/ 117.

ص: 400

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإن حمل على العقد استفيد من شيئان بينهما قدر مشترك، وهما أن المحرم لا يعقد لنفسه، ولا يعقد لغيره.

وقد يمثل للحالة الثانية بقوله عليه السلام: "الأَيِّمُ أحَقُّ بِنَفْسِهَا"؛

(1)

[فإنه يحتمل أنها أحق بنفسها، فتعقد على نفسها، كما يقول به بعض المخالفين.

أو أنها أحقّ بنفسها]

(2)

، فتمكن من أمرين:

أحدهما: أن تأذن لمن يعقد عليها.

الثاني: أن تعقد بنفسها.

ومن أصحابنا من يقول بالثاني، وذلك إذا كانت المرأة في مكان لا وَلِيّ فيه، ولا حاكم.

وقد نقله يونس بن عبد الأعلى

(3)

عن النَّصِّ.

وليس لقائل أن يعترضنا فيقول: لم يأتونا بمثال مُطَابق.

(1)

أخرجه مسلم 2/ 1037، كتاب النكاح: باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (66/ 4131)، وأبو داود 2/ 232 كتاب النكاح: باب في الثيب (2098)، والترمذي 3/ 416، كتاب النكاح باب ما جاء في استئمار البكر والثيب (1108)، والنسائي 6/ 84، كتاب النكاح: باب استئذان البكر في نفسها، وابن ماجه 1/ 601، كتاب النكاح: باب استئمار البكر والثيب (1870) ومالك في الموطأ 2/ 524، كتاب النكاح: باب استئذان البكر والأيم في أنفسهما (4).

(2)

سقط في ج.

(3)

يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة بن حفص بن حيان الصدفي، أبو موسى المصري، أحد أصحاب الشافعي وأئمة الحديث. روى عنه مسلم في صحيحه، والنسائي، وابن ماجه. قال الطحاوي: كان ذا عقل. قال ال ذهبي: وانتهت إليه رئاسة العلم بديار مصر لعلمه وورعه وفضله ونسكه، ومعرفته بالفقه وأيام الناس. مولده في ذي الحجة سنة سبعين ومائة. ومات في ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين. ينظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص (80)، وتهذيب التهذيب 11/ 440، ووفيات الأعيان 6/ 247، وتذكرة الحفاظ 2/ 527، وشذرات الذهب 2/ 149، وطبقات الشافعية لابن هداية ص (7)، وطبقات الإسنوي ص (15)، وطبقات ابن قاضي شهبة 1/ 72.

ص: 401

لَنَا: أَنَّهُ مَعْنَا.

قَالُوا: يَظْهَرُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ؛ لِتَكْثِيرِ الْفِائِدَةِ.

قُلْنَا: إِثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالتَّرْجِيحِ، وَلَوْ سُلِّمَ، عُورِضَ بأَنَّ الْحَقَائِقَ لِمَعْنًى وَاحدٍ - أَكْثَرُ؛ فكانَ أَظْهَرَ.

قَالُوا: يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَةَ؛ كَالسَّارِقِ.

أما الأول؛ فلأن النِّكاح إن حمل على العقد أيضًا لم يُفِدْ إلَّا معنى واحدًا، وقولكم يستفاد منه العقد لنفسه ولغيره.

قلنا: المستفاد مطلق العقد، وهو أعم، وتعدّد المحال لا يوجب تعدد المدلول.

وأما الثاني فكذلك؛ لأن العقد معنى واحد؛ لأنّا نقول: موضوع المسألة لفظ يستعمل تارة، ويستفاد منه شيء واحد، وأخرى ويستفاد شيئان، وهذا حاصل بما ضربناه مثلًا، ولم يشترط كونه موضوعًا بإزائهما حتى يرد ما ذكرتم.

واستفادة العقد يترتب عليها معنيان، وهما مسألتان فقهيتان.

واستفادة الوطء لا يحصل به إلَّا شيء واحد، فحصل الغرض.

وقد أطلنا في هذه المسألة لاختلاف كلام الشَّارحين فيها.

الشرح: واحتجّ المصنف للمختار فقال: "لنا: أنه" إذا كان اللفظ له معنى تَارَةً، ومعنيان أخرى ولا ظهور، كان مجملًا؛ لأن الإجمال ليس "معناه" إلا هذا؛ لأنه غير متّضح.

"قالوا: يظهر في المعنيين؛ لتكثير الفائدة".

"قلنا: إثبات اللغة بالترجيح"، وهو كثرة الفائدة.

"ولو سلم" أنه ليس كذلك، أو أنه يجوز إثبات اللّغة بالترجيح، "عورض بأن الحقائق".

أي: الألفاظ الموضوعة وضعًا أولًا وضعها "لمعنى واحد أكثر" من وضعها؛ لمعنيين، "فكان" اللفظ في الواحد "أظهر".

"قالوا": اللفظ "يحتمل" الأمور "الثلاثة": الاشتراك، والتواطؤ، وحقيقة أحدهما في مجاز الآخر، "كالسارق" إلى آخره.

قلنا: ما تقدم من أنه إثبات اللُّغة بالترجيح، وأنه لا يبقى مجمل أبدًا.

ص: 402

مَسْأَلَةٌ:

مَا لَهُ مَحْمَل لُغَوِيٌّ، وَمَحْمَلٌ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ مِثْلُ:"الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاةٌ" - لَيْسَ بِمُجْمَلٍ.

لنَا: عُرْفُ الشَّارعِ تَعْرِيفُ الأَحْكَامِ، وَلَمْ يُبْعَثْ لِتَعْرِيفِ اللُّغَةِ.

قَالُوا: يَصْلُحُ لَهُمَا، وَلَمْ يَتَّضِحْ.

قُلْنَا: مُتَّضِحٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.

«مسألة»

الشرح: "ماله محمل لغوي، ومحمل في حكم شرعي"، أو محمل عقلي، أو محمل في حكم الشرع، أو محمل يقرر اللَّفظ على الحكم الأصلي، ومحمل في حكم شرعي

(1)

.

فاللُّغوي والشرعي "مثل": قوله صلى الله عليه وسلم: "الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاةٌ"، إِلَّا أَنَّ الله أَحَلَّ فِيهِ الكَلَامَ"

(2)

.

(1)

ينظر: الإحكام للآمدي 3/ 20، والمستصفى 1/ 356 - 357، شرح العضد 2/ 161، وإرشاد الفحول 172، وجمع الجوامع 2/ 63، والآيات البينات 3/ 115، ونهاية السول 2/ 542، وفواتح الرحموت 2/ 41، والتحرير (55)، وشرح الكوكب المنير 3/ 433.

(2)

أخرجه الدارمي في السنن 2/ 44 كتاب المناسك: باب الكلام في الطواف، والترمذي في السنن 3/ 293 كتاب الحج (7) باب ما جاء في الكلام في الطواف (112) الحديث (960) وقال:(وقد روى هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفًا) وابن خزيمة في صحيحه 4/ 222 كتاب المناسك: باب الرخصة في التكلم بالخير بالطواف (643) الحديث (2739) وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان 6/ 54 (3825)، والهيثمي في موارد الظمآن ص (647) كتاب الحج (9) باب ما جاء في الطواف (19) الحديث (998) والحاكم في المستدرك 1/ 459 كتاب المناسك: باب أن الطواف مثل الصلاة، وقال:(صحيح الإسناد، وقد أوقفه جماعة) وأقره الذهبي، وأخرجه البيهقي مرفوعًا وموقوفًا على ابن عباس في السنن الكبرى 5/ 87 كتاب الحج: باب الطواف على الطهارة، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 8/ 128، وعبد الرزاق في المصنف حديث (461)، والطبراني في الكبير 11/ 34، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 179، وأبو يعلى في مسنده 4/ 467 حديث (2599).

قال الحافظ: واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي، وزاد: إن رواية الرفع ضعيفة، وفي إطلاق ذلك نظر؛ فإن عطاء بن =

ص: 403

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= السائب صدوق، وإذا روى عنه الحديث مرفوعًا تارة وموقوفًا أخرى، فالحكم عند هؤلاء الجماعة للرفع، والنووي ممن يعتمد ذلك، ويكثر منه، ولا يلتفت إلى تعليل الحديث به إذا كان الرافع ثقة، فيجيء على طريقته أن المرفوع صحيح، فإن اعتل عليه بأن عطاء بن السائب اختلط ولا تقبل إلا رواية من رواه عنه، قبل اختلاطه، أجيب بأن الحاكم أخرجه من رواية سفيان الثوري عنه والثوري ممن سمعه قبل اختلاطه باتفاق، وإن كان الثوري قد اختلف عليه فرب وقفه ورفعه فعلى طريقتهم تقدم رواية الرفع أيضًا، والحق أنه من رواية سفيان موقوف، ووهم عليه من رفعه، قال البزار: لا نعلم أحدًا رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا ابن عباس، ولا نعلم أسند عطاء بن السائب عن طاوس غير هذا، ورواه غير واحد عن طاوس موقوفًا، وأسنده جرير وفضيل بن عياض قلت: وقد غلط فيه أبو حذيفة فرواه مرفوعًا عن الثوري عن عطاء عن طاوس عن ابن عمر، أخرجه الطبراني في الأوسط عن محمد بن أبان عن أحمد بن ثابت الجحدري، عنه، ثم ظهر أن الغلط من الجحدري وإلا فقد أخرجه ابن السكن من طريق أبي حذيفة فقال: عن ابن عباس. وله طريق أخرى ليس فيها عطاء، وهي عند النسائي من حديث أبي عوانة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس موقوفًا، ورفعه عن إبراهيم محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، وهو ضعيف رواه الطبراني، ورواه البيهقي من طريق موسى بن أعين عن ليث بن أبي سليم عن طاوس عن ابن عباس مرفوعًا، وليث يستشهد به. قلت: لكن اختلف على موسى بن أعين فيه فروى الدارمي عن علي بن معمر عنه عن عطاء بن السائب؛ فرجع إلى رواية عطاء، ورواه البيهقي من طريق الباغندي، وله طريق أخرى مرفوعة أخرجها الحاكم في أوائل تفسير سورة البقرة من المستدرك 2/ 266، 267 من طريق القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال: قال الله لنبيه: "طهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" فالطواف قبل الصلاة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الطواف بمنزلة الصلاة إلا أن الله قد أحل فيه المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير" وصحح إسناده وهو كما قال؛ فإنهم ثقات، وأخرج من طريق حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أوله الموقوف 2/ 267، ومن طريق فضيل بن عياض عن عطاء عن طاوس آخره المرفوع، وروى النسائي وأحمد من طريق ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن طاوس عن رجل أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف الصلاة، فإذا طفتم فأقلوا الكلام" وهذه الرواية صحيحه، وهي تعضد رواية عطاء بن السائب وترجح الرواية المرفوعة، والظاهر أن المبهم فيها هو ابن عباس، وعلى تقدير أن يكون غيره فلا يضر إبهام الصحابة، ورواه النسائي أيضًا من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس عن ابن عمر موفوفًا. وإذا تأملت هذه الطرق عرفت أنه اختلف على طاوس على خمسة أوجه، فأوضح الطرق وأسلمها =

ص: 404

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهو حديث جَيّد رواه الترمذي، والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، وابن حبان، والحاكم، وصححه.

والشرعي مع العقلي، أو لتقرير الأصل لم يمثل له المصنف تبعًا للغزالي وغيره، والكل "ليس بمجمل"، بل يحمل على الحكم الشرعي.

ويقال: كالصَّلاة في الطَّهَارة واشتراط السَّير ونحو ذلك، لا على اللُّغوي، حتى يقال: المراد بالصلاة: الدعاء (1).

خلافًا للغَزَالي حيث ادّعى الإجمال فيه.

"لنا: عرف الشَّارع تعريف الأحكام، ولم يبعث لتعريف اللغة"، فيرد كلامه إلى الشَّرعي ما أمكن.

"قالوا: يصلح لهما، ولم يتضح" المراد منه؛ فكان مجملًا.

وعبارة الغزالي: لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق بالحكم العقلي، ولا بالاسم اللغوي، ولا بالحُكْمِ الأصلى، قال: فترجيح الشرعي تحكم.

"قلنا: يتضح بما ذكرناه" من أنه صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات

(2)

، والتحكم منتفٍ من جهة أن الشَّرعي أرجح، وأغلب من، غيره، وإنْ كان غيره قد يقع، فالحكم للغالب.

"فائدة"

مثل الغزالي بـ: "الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاةٌ"، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ"

(3)

.

= رواية القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ فإنها سالمة من الاضطراب، إلا أني أظن أن فيها إدراجًا، والله أعلم.

المراد هنا حيث تعذر مسمى الصلاة شرعًا، فيرد إليه بتجوز بأن يقال: كالصلاة باعتبار الطهارة والنية ونحوهما، فهو مشابه للصلاة، ونقل عن بعض المحققين إلى جواز حمله على الاستعارة. ينظر الآيات البينات 3/ 115.

(2)

وكذا لأن الشرع طارئ على اللغة، وناسخ لها، فالحمل على الناسخ المتأخر أولى. ولهذا ضَعَّفُوا قول من حمل الوضوء من أكل لحم الجزور على النظافة بغسل اليد. ينظر البحر المحيط 3/ 473 - 474.

(3)

أخرجه ابن ماجه كتاب الإقامة: باب الاثنان جماعة (972)، والدارقطني (1/ 280)، والبيهقي =

ص: 405

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال: فإنه يحتمل أن يكون المراد: [أنه]

(1)

يسمى جماعة، وانعقاد الجماعة، وحصول فضيلتها.

واعلم أن هذه المسألة فيما إذا وَرَدَتْ لفظة لها مسمّى لغوي، ومسمّى شرعي، وتعذّر الشرعي، ولم يمكن الرد إليه إلا بضرب من التَّجوز، فهل يحمل على اللّغوي أو يكون مجملًا، أو يرد إلى الشرعي؟.

فيه الخلاف.

ولم يحك المصنّف فيه القول بالحَمْلِ على اللغوي

(2)

.

ونظير المسألة أيضًا: أن يتعذر الحمل على اللغوي كما تعذر على الشرعي، فهل يرد إلى الشرعي أو يكون مجملًا؟.

فيه هذا الخلاف.

= (3/ 69) والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 182) وأبو يعلى (13/ 189 - 190) رقم (7223) والخطيب في "تاريخ بغداد"(8/ 415 - 11/ 45 - 46) وابن عدي في "الكامل"(3/ 989) من طريق الربيع بن بدر عن أبيه عن جده عن أبي موسى مرفوعًا قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(1/ 119): هذا إسناد ضعيف لضعف الربيع ووالده بدر بن عمرو.

وللحديث شواهد عن عبد الله بن عمرو وأنس وأبي أمامة.

حديث عبد الله بن عمرو أخرجه الدارقطني (1/ 281) رقم (2) باب الاثنان جماعة من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وذكره الحافظ ابن كثير في "تحفة الطالب" ص (253 - 254) وقال: لكن الوقاصي متروك الحديث.

حديث أنس:

أخرجه البيهقي (3/ 69) من طريق سعيد بن زربي ثنا ثابت عن أنس مرفوعًا بلفظ: الاثنان جماعة، والثلاثة جماعة، وما كثر فهو جماعة، وقال البيهقى: ضعيف.

حديث أبي أمامة:

أخرجه أحمد (5/ 254) من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة مرفوعًا.

(1)

سقط في ج.

(2)

إذا تعذّر الحمل على الشرعي ففيما يكون الحمل عليه ثلاثة مذاهب: الأول يحمل على اللغوي. الثاني: يكون مجملًا. الثالث: يردُّ إلى الشرعي.

ص: 406

‌لَا إِجْمَالَ فِيمَا لَهُ مُسَمًّى لُغَوِيٌّ وَمُسَمًّى شَرْعِيٌّ.

وَثَالِثُهَا، لِلْغَزَالِيِّ رحمه الله: فِي الإِثْبَاتِ، لِلشَّرْعِيِّ، وَفِي النَّهْي، مُجْمَلٌ.

وَرَابِعُهَا: وَفِي النَّهْي: لِلُّغَوِيِّ،، مِثْلُ:"إِنِّي إِذنْ لَصَائِمٌ".

لَنَا: أَنَّ عُرْفَهُ يَقْضِي بِظُهورِهِ فِيهِ.

- الإِجْمَالُ يَصْلُحُ لَهُمَا.

الغَزَالِيُّ فِي النَّهْي: يَبْعُدُ الشَّرْعِيُّ لِلُزُومِ صِحَّتِهِ.

وَأُجِيبَ: لَيْسَ مَعْنَى الشَّرْعِيِّ: الصَّحِيْح؛ وَإلَّا لَزِمَ فِي "دَعِي الصَّلَاةَ" - الإِجْمَالُ.

ويظهر أن قوله عليه السلام: "الطَّوَاف بالبيت صلاة" من هذا القبيل؛ فإن الطواف ليس هو نفس الصَّلاة الشرعية، ولا اللغوية، فهل يرد إلى الشرعية أو يكون مجملًا؟.

ويقرب من هذا: إذا أوصى الرجل لآل غير النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه وجهان:

أحدهما: بطلان الوصية؛ لإيهامِ اللفظ، وتَرَدُّده بين القرابة وغيرها بوضع اللغة؛ فإن الآلَ تطلق على القَرَابة وغيرها.

وهذا الوجه ناظر إلى مدلول اللفظ لغة.

وأصحهما: الصحة؛ لظهور أصل له في الشرع، وهو آلُ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن موضوعه الشرعي: بنو هاشم، وبنو المُطّلب على الصحيح.

وقيل: جميع الأُمّة.

وإذا كان له موضوع شرعي فيرد إليه ما أمكن.

وعلى هذا قال الأستاذُ أبو منصور: يحتمل أن يكون كالوصيّة للقرابة، ويحتمل أن يفوض إلى اجتهاد الحاكم.

وأما إذا لم يتعذّر الحمل على المدلول الشَّرعي، وهي المسألة المشار إلها بقولنا:

الشرح: "لا إِجمال فيما له مسمّى لغوي، ومسمى شرعي".

ص: 407

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بل اللَّفظ محمول على الشَّرْعي عند الأكثرين، وأكثرهم جزم به ولم يَحْكِ سواه، وهو أحد المذاهب في المسألة.

وثانيها: أنه مُجْمَل

(1)

.

"وثالثها للغزالي": إن ورد في "الإثبات، فالمراد الشَّرْعي"، "وفي النهي: مجمل"

(2)

.

"ورابعها": لا إجمال، والمراد في الإثبات: الشرعي، "وفي النهي: اللغوى". قاله الآمدي

(3)

.

والإثبات "مثل" قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي إِذنْ لَصَائِمٌ"

(4)

".

ولفظ مسلم: "إِنَّي إِذنْ صَائِمٌ"، قاله لعائشة رضي الله عنها، وقد دخل عليها ذات يوم فقال:"هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ"، فقيل: لا، قال:"إِنِّي إِذنْ صَائِمٌ

" الحديث.

والنهي: مثل النهي عن صوم يوم النَّحْرِ.

"لنا: أن عُرْفه" صلى الله عليه وسلم "يقضى بظهوره فيه" أي: بظهور المعنى الشَّرعي فيما ورد من لفظه.

واحتجّ مَنْ مذهبه "الإجمال" بأن اللَّفظ "يصلح لهما".

(1)

ينظر: شرح الكوكب المنير 3/ 434، والمستصفى 1/ 357، والمنخول (70)، واللمع ص 28، والتبصرة (198)، والعدة 1/ 143، وجمع الجوامع 2/ 63، ونهاية السول 2/ 545، والتمهيد له (228)، وإرشاد الفحول (172)، وتخريج الفروع للزنجاني (123)، والتحرير (54)، والمسودة (177)، وفواتح الرحموت 2/ 41، وشرح تنقيح الفصول (112).

(2)

ينظر: المستصفى 1/ 359.

(3)

لتعذر حمله على الشرعي؛ لأن الشرعي يستلزم الصحة، والنهي غير صحيح. والصحيح الأول. ولهذا اتفقوا على حمل قوله:"دعي الصلاة أيام أقرائك" على المعنى الشرعي مع أنه في معنى النهي. قاله الزركشي؛ ينظر البحر المحيط 3/ 474.

(4)

أخرجه مسلم 2/ 808، 809، كتاب الصيام: باب جواز النافلة بنية من النهار قبل الزوال وجواز فطر الصائم نفلًا من غير عذر (169، 170، 1154)، والترمذي (3/ 111)، كتاب الصوم: باب صيام المتطوع.

ص: 408

الرَّابِعُ: فِي النَّهْي، تَعَذَّرَ الشرْعِيُّ؛ لِلُزُومِ صِحَّتِهِ؛ كَبَيْعِ الْحُرِّ وَالْخَمْرِ.

وَأُجِيبَ: بِمَا تَقَدَّمَ، وَبِأَنَّ:"دعِي الصَّلَاةَ" لِلُّغَوِيِّ وَهُوَ بَاطِلٌ.

وجوابه: ما تقدم، من أنه أوضح في الشرعي.

واحتج "الغَزَالي": بأن اللفظ في الإثبات واضح، وأما "في النهي" فإنه بَعُدَ فيه الشرعي؛ للزوم صحته"، أي: أن النهي لو حمل على الشَّرعي استلزم صحة المنهى؛ لامتناع النَّهْي عن الممتنع، فكان الشرعي بعيدًا.

وكذلك اللغوي بعيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشَّرْعيات، فتحقّق الإجمال.

"وأجيب": بأنه "ليس معنى الشرعي: الصحيح".

بل ما يسميه الشارع بذلك الاسم من الهَيْئَاتِ المخصوصة، ولذلك يقول: هذه صلاة صحيحة وفاسدة، "وإلَّا" فلو كان معناه الصحيح، "لزم في "قوله عليه السلام:""دَعِي الصَّلَاة" أَيَّامَ أَقْرَائِكِ""الإجمال" بين الصلاة والدعاء، وليس كذلك؛ بل هو ظاهر في معناه الشرعي قطعًا.

واعلم أن ما ذهب إليه الغَزَالي مبنى على أصله المتقدم في أن النهي لا يقتضي االفَسَاد، ثم هو مع أصله هذا لا يقول بأنه يقتضي الصِّحَّة؛ فلذلك قال: يبعد فيه الشَّرعي، ولم يقل: يمتنع؛ إذ لو كان ممتنعًا عنده كان يقول باقتضائه الصحة، ومذهبه لا ينتهي إلى هذا.

على أن بعض نسخ "المختصر": "يتعذّر"، وليست في أصل المصنّف، ولكن شهد قوله في "المستصفى" ولا إمكانه، لما قيل له: لا تفعل، ولكنها مخالفة لأصله في أنَّ النهي لا يقتضي الصِّحَّة.

الشرح: وأما المذهب "الرابع" فحجّته أنه "في النهي تعذّر الشرعي، للزوم صحته؛ "كبيع الحر والخمر"، فإنه إذا ورد النَّهى وحمل على الشرعي يلزم تصوّره؛ لاستحالة النهي عما لا يتصوّر، والإجمال خلاف الأصل، فيظهر اللّغوي.

"وأجيب بما تقدّم" من أن النهي لا يقتضي الصِّحة.

"وبأن" ذلك لو صحّ، لزم أن يكون قوله عليه السلام:""دَعِي الصَّلَاةَ" أَيَّامَ أَقْرَائِكِ""للغوي، وهو باطل"؛ لأن الحائض لا تمنع من الدعاء اتفاقًا.

ص: 409

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واعلم أنه لو جعل السَّابقة فرعًا عن هذه لكان سديدًا، فيقال: ما له مسمّى لغوي وشرعي هل يحمل على الشرعي أم ماذا يكون؟.

فيه خلاف.

فإن قلنا: يحمل على الشرعي، فلو تعذّر، ولكن أمكن الرد إليه فهل يرد إليه محافظة على الشرعي، أو يكون مجملًا؟.

فيه خلاف.

واختيار الغزالي كما قدمناه أنه مجمل.

والحق عندنا في الأمرين: الحمل على الشرعي كما اختاره المصنّف؛ لأنه الأغلب، ويتلو الشرعي العرفي، ثم اللغوي. هكذا أطلقه أئمتنا.

وعندي: أنه مختصّ بالكلام الصَّادر من الشَّارع، فينظر فيه إلى عُرْفه، وهو الشرعي، ثم عرف الناس؛ لأن الظاهر أنه يكلمهم بما يتعارفونه، ثم اللغوي.

ولو كان في اللفظ الذي له مسميات حيث ورد لقلنا: يحمل كلام كلّ لافظ على عُرْفه، ثم عُرْف الذين خاطبهم، ثم مدلوله المَوْضُوع له بالأَصَالَةِ، فإن يكن اللَّافظ من أهل اللغة فأول ما يحمل كلامه على اللُّغوي، فاعرف ذلك، واحمل عليه كلام المنطقيين.

واعلم أنهم إنما تكلَّموا فيما صدر من الشَّارع.

فإن قلت: من المشهور على ألسنة الفقهاء: أن ما ليس له حَدّ في الشرع، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف، وهذا صريح في تأخير العُرْف عن اللغة، وقد قضيتم في الأصول بتقديمه، فهل هما مُتَوَاردان على محلّ واحد حتى يلزم الاختلاف، أو كيف الحال؟.

قلت: قال أبي رحمه الله في "شرح المهذب":

مراد الأصوليين: إذا تعارض معناه في العرف ومعناه في اللغة.

ومراد الفقهاء: إذا لم يعرف حَدّه في اللغة، فإنما نرجع فيه إلى العُرْف، ولهذا قالوا: كل ما ليس له حَدّ في اللغة، ولم يقولوا: ليس له معنى، فالمراد أن معناه في اللغة لم ينصوا على حدّه بما يبينه، فيستدلّ بالعرف عليه.

ص: 410

‌البَيَانُ وَالمُبَيَّنُ

(1)

يُطْلَقُ الْبَيَانُ عَلَى فِعْلِ المُبيِّنِ، وَعَلَى الدَّلِيلِ، وَعَلَى الْمَدْلُولِ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِن حَيِّزِ الإشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي وَالْوُضُوحِ.

وَأُورِدَ: الْبَيَانُ ابْتِدَاءً، وَالتَّجَوز، بِالْحَيِّزِ وَتَكْريِرُ الْوُضُوحِ.

قلت: تقرير هذا عدم التَّوارد على كُلِّ واحد.

وإن كلام الفُقَهَاء في الضَّوَابط، وهي في اللّغة أضبط، فتقدّم اللغة بالنسبة إليها.

وكلام الأصوليين في أصل المعنى، وهو في العرف أظهر، فتقدم بالنسبة إليه.

ومما يرجع إلى الشرع فيه قبل العُرْف: إذا حلف لا يبيع الخمر، أو المستولدة، فإن أراد: لا يتلفّظ بلفظ العَقْد مضافًا إليها، فإذا باع حنث، وإن أطلق لم يحنث؛ لأن الشرعي لا يتصّور فيها، وفيه وجه قال به المزنى.

ولو حلف لا يركب دابّة عَنْد زيد، لا يَحنث بالدَّابة المُعَدّة لاستعماله، إلَّا أن يريد، فإن ملَّكه السيد دابّة خرج على أنه هل يملك؟.

وقال ابن كَجّ: لا يحنث وإن قلنا: يملك؛ لأن ملكه ضعيف.

الشرح: "يطلق البيان" تارة: "على فعل المبين" وهو التبين، كالسلام والكلام للتسليم والتكليم.

"وعلى: الدليل" الدَّال على ذلك.

"وعلى: المدلول" وهو متعلّق النبيين ومحله.

"ولذلك" أي: لأجل إطلاقه على المعاني الثلاثة، اختلف تفسير العلماء له بالنظر

(1)

في هامش المطبوع من المتن: تنبيه: الترتيب المثبت هنا هو الواقع في أصل العضد، ولكونه الألطف اخترناه في الطبع، ووقع في أصل النسخة الخطية تقديم قوله: البيان والمبين إلى آخر مسألة يمتنع العمل بالعموم على قوله: المجمل والمبين إلى آخر مسألة الإجمال فيما له مسمى لغوي إلخ كتبه مصححه.

ص: 411

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إليها، حتى "قال الصّيرفي" ناظرًا إلى أن البيان فعل المبين: إنه "إخراج الشيء

(1)

من حَيِّزِ الإشكال إلى حَيّز التجلّي". كذا نقله ابن السَّمْعَاني وغيره.

وزاد إمام الحرمين، فتبعه الآمدي والمصنف: الوضوح، فقالوا: إخراج الشيء من حَيِّزِ الإشكال إلى حيز التجلّي "والوضوح".

"وأورد" عليه: أنه غير جامع؛ لأنه يخرج عنه "البيان ابتداء"، وهو الظاهر من غير سبق إجمال.

قال ابن السمعاني: فإنه ربما ورد من الله - تعالى بيان لما لم يخطر ببال أحد.

"والتجوز بالحيز"؛ فإن الحيز حقيقة في الجوهر دون غيره.

"وتكرير الوضوح"؛ إذ التجلِّي والوضوح واحد

(2)

.

ولقائل أن يقول: أما الإيراد الأول - وهو للقاضي أبي بكر وتبعه مَن بعده - فللصيرفي أن يمنع تسميته ما كان ظَاهرًا ابتداء بـ"البيان"؛ فإنّ البيان الذي هو فعل المبين إنما يكون لما ليس واضحًا.

وله أن يقول: إن ما ورد ابتداء أفاد علمًا لم يكن حاصلًا للسَّامع، فهو قبل السماع كمن أشكل عليه خطاب سبق وروده.

(1)

إخراج الشيء أي من قول أو فعل من حيز الإشكال إلى حيز التجلي أي من حال إشكاله وعدم فهم معناه إلى حال اتضاح معناه وفهمه بنصب ما يدل عليه من حال أو نحوه. ينظر الآيات البينات 3/ 118. وينظر: المعتمد 1/ 317، والمستصفى 1/ 345، والمحصول 1/ 3/ 226، والرسالة 21، والبرهان 1/ 159، ونهاية السول 2/ 524، وشرح الكوكب 3/ 437، وشرح التنقيح (38)، وإرشاد الفحول (167)، وجمع الجوامع 2/ 67، والإحكام للآمدي 3/ 220، وتيسير التحرير 3/ 171، والسرخسي 2/ 26، وكشف الأسرار 3/ 104، وفتح الغفار 2/ 119، والمدخل (266)، وفواتح الرحموت 2/ 42، والحدود للباجي (41)، ونزهة الخاطر 2/ 26، وتقريب الوصول (85)، والإبهاج 2/ 212، والبحر المحيط 3/ 480، والمدخل (266)، والمسودة (572)، والروضة (184)، ونشر البنود 1/ 277.

(2)

قال العضد على هذه الإشكالات التي أوردت على التعريف: إنها مناقشات واهية. ينظر الآيات البينات 3/ 118.

ص: 412

وَقَالَ الْقَاضِي وَالأَكْثَرُ: الدَّلِيلُ.

وَقَالَ الْبَصْرِيُّ: الْعِلْمُ عَنِ الدَّلِيلِ.

وَالْمُبَيَّنُ: نَقِيضُ الْمُجْمَلِ، وَيَكُونُ فِي مُفْرَدٍ، وَفِي مُرَكَّبٍ، وَفِي فِعْلٍ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ إِجْمَالٌ.

وهذا ذكره القاضى عبد الوهّاب، المالكي، فقد لا يسمى القاضي أبو بكر عدم العلم إشكالًا.

ويصح إيراده على الصَّيرفي، إلّا أن يمنع الصَّيرفي تسمية ما ورد ابتداء بـ"البيان"، ويزعم أن البيان مقصور على كلام قصد به إيضاح مشكل تقدمه كما عرفت.

وأما التجوز فإمام الحرمين أورده، وهو [أولًا]

(1)

لا يختص بالحَيّز، بل يرد على لفظ الحيز والتجلّي كما ذكر إمام الحرمين حيث قال: وهذه العبارة وإن كانت محومة على المقصود فليست مرضية؛ فإنها مشتملة على ألفاظ مستعارة، كالحيز والتجلّي. انتهى.

ولقائل أن يقول: فلم قلتم: إنَّ المجاز الظَّاهر لا يدخل التعارف، [ولو استتب]

(2)

بكم هذا لفسدت أكثر تعاريفكم؟.

وأما تكرير الوضوح فإن ثبت، فليس قيدًا بل زيادة في إيضاح المراد بـ"التَّجلِّي"، وذلك لم يورده إمام الحرمين.

الشرح: "وقال القاضي"، وإمام الحرمين والغزالي "والأكثر"، ومنهم الآمدي: البيان "الدليل". ["وقال البصري: العلم" الحاصل "عن الدليل"]

(3)

.

والمختار: حدّ الصيرفي، وإياه اختار القاضي أبو الطيب وغيره من أئمتنا.

واعترضه ابن السَّمْعَاني: بأن لفظ البيان أظهر من لفظ إخراج الشيء من حَيّز الإشكال إلى حيز التجلّي.

وللصيرفي منع ذلك.

(1)

سقط في ج.

(2)

في أ: ولو اشتب.

(3)

سقط في ب.

ص: 413

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال المَاوَرْدِيّ: إن جمهور الفقهاء قالوا: البيان إظهار المراد بالكلام الذي لا يفهم منه المراد إلّا به.

قال ابن السَّمْعَاني: وهذا الحد أحسن من جميع الحدود، مع إيراده على الصيرفي ما ورد ابتداء من غير سبق إجمال.

وهو إن ورد على الصَّيرفي ورد على المَاوَرْدِيّ بطريق أولى؛ إذ قد يقول الصيرفي فيما لم يكن غير قربة: إنه كان في حَيّز الإشكال، وصار في حيّز التجلي كما عرفت.

ولا يمكن للمَاوَرْدِيّ أن يقول: إنه داخل في تعريفه؛ لأنه لم يتقدمه كلام أظهر المراد به؛ لأن البيان: الظهور من قولهم: بَانَ الهلالُ: إذا ظهر.

واعلم أن الشَّافعي رضي الله عنه قال في "الرسالة": البيان: اسم جامع لأمور متّفقة الأصول متشعبة الفروع.

واعترضه أبو بكر بن داود بأن البيان أبين من التفسير الذي ذكره.

قال أئمتنا: وهذا لا يصح؛ لأن الشافعي رحمه الله لم يقصد حدّ البيان، [ولا تفسير]

(1)

معناه، وإنما أراد: أن البيان اسم عام جامع لأنواع مختلفة اتفقت في وقوع اسم البيان عليها، واختلفت في مراتبها، فبعضها أجلى من بعض؛ لأن من البيان، ما يدرك معناه من غير تدَبّر، ومنه ما يحتاج إلى تدبّر؛ ولذلك قال عليه السلام:"إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا"

(2)

، فأخبر أن بعض البيان أظهر من بعض.

ويدلّ على ذلك أن الله - تعالى - خاطبنا بالنص، والعموم، والظاهر، والمفهومين، والكلّ بيان وإن اختلفت مراتبها.

قلت: ولذلك عقد الشَّافعي في "الرسالة" أبوابًا للبيان حيث قال: باب البيان الأول، باب البيان الثاني، وهكذا.

(1)

في ت: ولا تغير.

(2)

أخرجه أبو داود 4/ 303، في كتاب الأدب: باب ما جاء في الشعر (5011) وأخرجه البخاري من رواية أبي بن كعب رصي الله عنه 10/ 537، في كتاب الأدب: باب ما يجوز من الشعر (6145).

ص: 414

الْجُمْهُورُ: الْفِعْلُ يَكُونُ بَيَانًا.

لَنَا: أنَّهُ عليه الصلاة والسلام بَيَّنَ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ بِالْفِعْلِ؛ وَقَوْلُهُ: "خُذُوا عَنِّي [مَنَاسِكَكُمْ] "، وَ"صَلُّوا كَمَا" - يَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُشَاهَدَةَ أَدَلُّ؛ وإِذْ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ.

ولو عرّف الشافعي البَيَان، أو غيره من الحقائق بتعريف لكان جامعًا مانعًا، [يتعذر]

(1)

على من بعده أن يأتي بمثله.

"والمبين: نقيض المجمل" أي: متّضح الدلالة.

"ويكون في مفرد، وفي مركب، وفي فعل".

وقد يكون البيان بعد سبق الإجمال، وهو واضح.

وقد يكون "وإن لم يسبق إجمال" كما ذكرناه فيما يرد ابتداء واضحًا.

وقد كُنَّا غافلين عنه وجاهلين به.

وقرَّرَ بعض الشَّارحين على أنه قد يكون البَيَان بالفعل بعد سبق الإجمال، وقد لا يكون.

والصَّوَاب ما ذكرناه من أن البيان من حيث هو فعلًا كان أو قولًا قد يكون بعد سبق الإجمال، وقد لا يكون.

الشرح: قال "الجمهور: الفعل" قد "يكون بيانًا"

(2)

.

(1)

في أ، ت: يعذر.

(2)

لا خلاف أن البيان يجوز بالقول، واختلفوا في وقوعه بالفعل. والجمهور أنه يقع بيانًا؛ خلافًا لأبي إسحاق المَرْوزي منا، والكَرْخي من الحنفية. حكاه الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة" وكلام الغزالي يوهمه؛ فإنه قال: وكذلك الفعل يحتاج إلى بيان تقدمه؛ لأنه أراد به بيان الشرع؛ لأن الفعل لا صيغة له، لكن أَوَّله الهندي وقال: قول الغزالي وغيره: إن البيان مخصوص بالدليل القولي، فالمراد منه التسمية اصطلاحًا، كما في العموم؛ بناء على الغالب من كون البيان قولًا، لا في حقيقة ما يقع به البيان، ولا في جوازه.

وشرط المازري الإشعار به من مقال أو قرينة حال، وإلا لم يحصل للمكلف البيان. قال: =

ص: 415

قَالُوا: يَطُولُ فَيَتَأَخَّرُ الْبَيَانُ.

قُلْنَا: وَقَدْ يَطُولُ بِالْقَوْلِ.

وَلَوْ سُلِّمَ، فَمَا تَأَخَّرَ، لِلشُّرُوع فِيهِ، وَلَوْ سُلِّمَ؛ فَلِسُلُوكِ أَقْوَى الْبَيَانَيْنِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَمَا تَأَخَّرَ عَنْ وَفْتِ الحَاجَةِ.

"لنا": الوقوع، وذلك "أنه صلى الله عليه وسلم بين الصَّلاة والحج بالفعل"، "وقوله" صلى الله عليه وسلم:""خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" و"وَصَلُّوا" "كَمَا" رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" لا يقال: إنه الذي وقع به البيان دون الفعل، وهو قوله؛ لأنا نقول: إنما البيان بالفعل، وهذا القول "يدل عليه".

"وأيضًا، فإن" الفعل يشاهد بخلاف القول، ولا شك أن "المشاهدة إدراك من القول، فكانت "أولى" بالجواز، "وليس الخبر كالمُعَاينة" فيما أخبرنا به أبي رحمه الله، وأبو عبد الله الحافظ في كتابهما قال: أنبأنا إسحاق بن أبي بكر النحاس سماعًا، أنبأنا يوسف بن خليل الحافظ

(1)

، أنبأنا الجمال أبو الحسن مسعود بن أبي منصور، أنبأنا حمزة بن أبي الفضل

= وعلى هذا فالخلاف لفظي.

قال: ومنهم من جعله معنويًّا، وهو أنه هل بتصور فعل ينبئ بمجرده عن المراد من غير إسناد ذلك إلى قرينة أم لا؟ قلت: وجعله السَّرخسي مبنيًّا على أصل، وهو أن بيان المجمل هل يكون المجمل متصلًا به؟ فَمَنْ شَرَطَ الاتصال قال: لا يكون البيان إلا بالقول؛ إذ الفعل لا يكون متصلًا بالقول. وفي المحصول: لا يعلم كون الفعل بيانًا للمجمل إلا بأحد أمور ثلاثة، أو يعلم ذلك بالضرورة من تصده، أو بالدليل اللفظي، كقوله: هذا الفعل بيان لهذا المجمل، أو بالدليل العقلي، بأن يذكر المجمل وقت الحاجة، أي العمل به، ثم يفعل فعلًا يصلح أن يكون بيانًا.

وذكر الغزالي سبع طرق. ينظر: البحر المحيط 3/ 485، 486، والبرهان 1/ 164، والمعتمد 1/ 337، والمحصول (1/ 3/ 262)، وشرح العضد 2/ 162، وشرح تنقيح الفصول 278، وشرح الكوكب 3/ 442، وإرشاد الفحول 172، والإحكام للآمدي 2/ 24.

(1)

يوسف بن خليل بن قراجا بن عبد الله، أبو الحجاج، شمس الدين الدمشقي ثم الحلبي، ولد سنة 555 هـ، محدث، حنبلي، ولد وتفقه بـ"دمشق"، وقام برحلة إلى "بغداد" و"أصبهان" و"مصر"، وتفرد في وقته بأشياء كثيرة عن الأصبهانيين، فكان أوسع معاصريه رحلة، وأكثرهم كتابة. وجمع لنفسه "معجمًا" ومن مصنفاته:"ثمانيات" و"عوالي". قال الذهبي: روى عنه خلق كثير. استوطن "حلب" في آخر عمره، وتوفي بها سنة 648 هـ. ينظر: شذرات الذهب 5/ 243، والأعلام 8/ 229.

ص: 416

مَسْأَلَةٌ:

إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْمُجْمَلِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ: فَإِنِ اتَّفَقَا، وَعُرِفَ الْمُتقَدِّمُ - فَهُوَ الْبَيَان، وَالثَّانِي تَأْكِيدٌ.

فَإِنْ جُهِلَ، فَأَحَدُهُمَا، وَقيلَ: يَتَعَيَّنُ غَيْرُ الأرْجَحِ؛ لِلتَّقْدِيمِ؛ لأَنَّ الْمَرْجُوحَ لَا يَكُونُ تَأْكيدًا.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُسْتَقِلَّ لَا يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ.

العلوي، أنبأنا أبو أحمد محمد بن علي بن محمد المكفوف، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان

(1)

المعروف بأبي الشيخ بن حامد بن شعيب البلخي بن شريج بن يونس بن هشيم عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الخَبَر، كَالمُعَايَنَةِ"

(2)

وهذا سند صحيح أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" عن هشيم كما سُقْنَاه.

الشرح: والمانعون "قالوا": الفعل "يطول فيتأخر البيان" به مع إِمْكَانِ تعجيله؛ فلا يجوز.

"قلنا": "وقد يطول بالقول"، ويزيد على زمان الفعل.

(1)

عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني، أبو محمد، ولد سنة 274 هـ. من حفاظ الحديث العلماء برجاله، يقال له: أبو الشيخ، ونسبته إلى جده حبان. من تصانيفه:"طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها" و"أخلاق النبي وآدابه" و "الأمثال" و"كتاب السنة" وغيرها. توفي سنة 369 هـ. ينظر: النجوم للزاهرة 4/ 136، واللباب 1/ 331، والأعلام 4/ 120.

(2)

أخرجه أحمد (1/ 215)، والحاكم (2/ 321) وابن حبان (2087 - موارد) وابن عدي في "الكامل"(7/ 2596) والقضاعي في "مسند الشهاب"(735) من طريق هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا.

وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه البزار (1/ 111 - كشف) رقم (200) والطبراني في "الكبير"(12/ 54) وابن حبان (2088 - موارد) وابن عدي في الكامل (7/ 2596) من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 153) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح، وصححه ابن حبّان.

ص: 417

"فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا؛ كَمَا لَوْ طَافَ بَعْدَ آيَةِ الْحَجِّ طَوَافّيْنِ، وَأَمَرَ بِطَوَافٍ وَاحِدِ - فَالْمُخْتَارُ: أَنَّ القَوْلَ [بَيَانٌ]، وَفِعْلهُ نَدْبٌ أَوْ وَاجِبٌ، مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا؛ لأَنَّ الْجَمْعَ أَوْلَى.

أَبُو الْحُسَيْنِ، الْمُتقَدِّمُ بَيَانٌ؛ وَيَلْزَمُهُ نَسْخُ الْفِعْلِ مُتَقَدِّمًا، مَعَ إِمْكَانِ الجَمْعِ.

"ولو سلم" أن الفعل لا يكون أبدًا أعجل، "فما تأخر" البيان بالفعل، وذلك "للشروع""فيه"

وإنما يلزم التأخير أَنْ لو لم يحصل الشروع فيه، "ولو سلم" أن الفعل يقتضى التأخير دائمًا، "فلسلوك أقوى البيانين"، وهو الفعل يجوز التأخير، "ولو سلم" تساوي البَيَانين، "فما تأخر عن وَقْتِ الحاجة"، والممنوع إنما هو ذاك.

«مسألة»

الشرح: إذا عرفت جواز البيان بكل من القول والفعل، فنقول:"إذا ورد بعد المجمل قول وفعل"، فإما أن يتفقا في الحكم، وإما أن يختلفا.

"فإن اتفقا"، فإما أن يعرف المتقدم منهما، أولا

(1)

.

فإن اتفقا "وعرف المتقدم فهو البيان" فعلًا كان أو قولًا، "والثاني تأكيد".

"فإن جهل فأحدهما" هو البيان من غير تعيين له.

"وقيل: يتعيّن غير الأرجح للتقديم"؛ "لأن المرجوح لا يكون تأكيدًا" للرَّاجح؛ لعدم الفائدة في تأكيد الشيء بما دونه، واختاره الآمدي.

"وأجيب بأن" المؤكد "المستقل لا يلزم فيه ذلك"، كالجمل التي يذكر بعضها بعد بعض للتأكيد؛ فإن التأكيد يحصل بالثانية، وإن كانت أضعف بانضمامها إلى الأولى، وإنما يلزم كون المؤكّد أقوى في المفردات نحو: جاءني القوم كلهم.

(1)

ينظر: المعتمد 1/ 339، والمحصول 1/ 3/ 272، والإحكام للآمدي 3/ 25، وشرح الكوكب 3/ 447، وشرح العضد 2/ 163، وشرح تنقيح الفصول (281)، وجمع الجوامع 2/ 68، وفواتح الرحموت 2/ 46، ونشر البنود 1/ 279.

ص: 418

مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ: أَنَّ الْبَيَانَ أَقْوَى.

وَالْكَرْخِيُّ: يَلْزَمُ الْمُسَاوَاةُ.

أَبُو الْحُسَيْن: بِجَوَاز الأَدْنَى.

لَنَا: لَوْ كَانَ مَرْجُوحًا، أُلغِيَ الأَقْوَى فِي العَامِّ إِذَا خُصِّصَ، و [فِي] الْمُطْلَقِ إِذَا قُيِّدَ، وَفِي التَّسَاوِي: التَّحَكُّمُ.

الشرح: "وإن لم يتفقا كما لو طاف" صلى الله عليه وسلم "بعد آية الحج طوافين وأمر بطواف واحد

(1)

، فالمختار" "أن" البيان هو "القول"، "وفعله" إما "ندب أو واجب" في حقه صلى الله عليه وسلم مما اختصّ به عليه السلام، سواء [أكان]

(2)

القول "متقدمًا" على الفعل، "أو متأخرًا"؛ "لأن الجمع" بين الدليلين "أولى".

وقال "أبو الحسين": "المتقدم""بيان"، قولًا كان أو فعلًا، كما في سورة اتفاق القول والفعل.

(1)

اختلف الحنفية والشافعية في أن القارن: وهو الذي أحرم بالحج والعمرة معًا عليه طوافان: طواف للحج وطواف للعمرة، وسعيار،: سعى له وسعى لها أو ليس عليه إلا طواف واحد وسعى واحد لهما؟ فأبو حنيفة وصاحباه ذهبوا إلى الأول، والشافعي إلى الثاني. استدل الشَّافعي بما رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعى واحد حتى يحل منهما". وقال: حديث صحيح غريب. واستدل أبو حنيفة وصاحباه به، رواه النسائي عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية قال: طفت مع أبي وقد جمع الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وحدثني أن عليًّا رضي الله عنه فعل ذلك، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك". قال ابن الهمام في فتح القدير: حماد هذا وإن ضُعِّفَ لكن ذكره ابن حبان في الثقات، في الحديث الطويل المروى لمسلم إشارة إلى تكرر الطواف قال الشافعية: إن المأخوذ به القول سواء تقدم أو تأخر أو لم يعلم شيء منهما، قلنا: لا نسلم ذلك بل نقول كما يقول أبو الحسين البصري: إن إلى متقدم منهما هو المبين دائمًا قال في الفواتح: اعلم أن الحق هذا القول. واختاره الآمدي، ولم يوجد أيضًا في كتبنا ما ينافيه؛ فإن المتقدم مفَهم للمراد قطعًا؛ فلا إجمال بعده.

(2)

في ت: كان.

ص: 419

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"ويلزمه نسخ الفعل"، بالقول إِذا وقع الفعل "متقدمًا مع إِمكان الجمع" بينهما.

"مسألة"

الشرح: "المختار" عند المصنّف "أن البيان" يجب أن يكون "أقوى" دلالة من المبيَّن.

"والكرخى" قال: "يلزم المساواة" بمعنى: أنه لا يجوز الأدنى، بل المُسَاوي

(1)

، وإِن كان أقوى جاز بطريق أولى.

"وأبو الحسين" قال: "بجواز الأدنى"، واختاره الإِمام الرَّازي، ونقله الشَّيخ الهندي عن الجماهير، فيقبل المظنون في بيان المَعْلُوم

(2)

.

قال الهِنْدِي: ولا يتوهّم في حقّ أحد أنه ذهب إِلى اشتراط أنه كالمبين في قوة الدّلالة؛ فإِنه لو كان كذلك لما كان بيانًا له، بل كان هو يحتاج إِلى بيان آخر.

"لنا": لو "لم يكن البيان الذي هو مخصص أو مقيد أقوى من المبين الذي هو العام أو

(1)

المساواة إِما أن تكون في الثبوت أو في الدلالة، والبيان إِما بيان تفسير وهو بيان المجمل، أو بيان تغيير وهو التخصيص، أو بيان تبديل وهو النسخ، ففي بيان التفسير للمجمل لا تجب المساواة في الثبوت اتفاقًا بل يجوز أن يبين المجمل القطعي بخبر الآحاد الظني، ولا يتصور في هذا مساواة في الدلالة بين البيان وبين المبين، ولا أن يكون البيان أدنى دلالة من المبين؛ فإِنه لا شيء أدنى دلالة من المجمل، وأما بيان التغيير وهو التخصيص للنص العام الظاهر فهذا هو الذي قال فيه الحنفية ومنهم الكرخي: لا بد فيه من المساواة أي في الثبوت بين البيان وبين المبين، فلا يجوز تخصيص قطعي الثبوت ابتداء بظني الثبوت، وقال الأكثرون: لا يشترط أن يكون مساويًا في الثبوت، ولكنه يجب أن يكون أقوى دلالة، فيجوز تخصيص عام الكتاب بخبر الواحد؛ لأن العام وإِن كان قطعي الثبوت لكنه ظني الدلالة، وخبر الواحد الخاص بالعكس، فتعادلا كما سبق وهذا هو مراد ابن الحاجب بقوله: لا بد أن يكون أقوى، فمراده أقوى دلالة وإِن كان لا يشترط مساواتهما نبوتًا.

(2)

ينظر: المعتمد 1/ 340، والمحصول 1/ 3/ 275، والإِحكام للآمدي 3/ 27، وجمع الجوامع (2/ 68)، والآيات البينات 3/ 120، والروضة (96)، وشرح الكوكب 3/ 450، شرح تنقيح الفصول (281)، وتيسير التحرير 3/ 173، وفواتح الرحموت 2/ 48، وشرح العضد 2/ 163، ونشر البنود 1/ 278.

ص: 420

مَسْأَلَةٌ:

‌تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ

مُمْتَنِعٌ، إِلَّا عِنْدَ مُجَوِّزِ تَكْلِيفِ مَا لا يُطَاق، وَإِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ يَجُوزُ.

وَالصَّيْرَفِيّ، والغزالِيُّ والحَنَابِلَةُ: مُمْتَنِعٌ.

وَالْكَرْخِيُّ: مُمْتَنِعٌ فِي غَيْرِ الْمُجْمَلِ.

وَأَبُو الْحُسَيْنِ: مِثْلُهُ فِي الإِجْمَالِيِّ لا التَّفْصِيلِيِّ؛ مِثْلُ: "هَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ وَ"الْمُطْلَقُ مُقَيّدٌ"، وَ"الْحُكْمُ سَيُنْسَخُ".

وَالْجُبَّائِيُّ: مُمْتَنِعٌ فِي غَيْرِ النَّسْخِ.

المطلق، بل "كان مرجوحًا"، أو مساويًا "ألغى" في صورة المرجوحية "الأقوى" بالأدنى "في العام إِذا خصص، والمطلق إِذا قيد".

"وفي" صورة "التساوي" يلزم "التحكّم"، وكلاهما لا يجوز.

وأنت ترى المصنّف كيف ادّعى أن البيان يجب كونه أقوى، ولم يقيد المسألة في صدرها بتخصيص العام، وتقييد المطلق، ثم [خصص]

(1)

في دليله.

فإِن كان ما اختاره هو الفَصْل بين بيان العام والمطلق، وبيان المجمل، وهو غير مذهب من عم اشتراط كونه أقوى من الكلّ، وإِلَّا فيكون دليله خاصًّا ودعواه عامة.

والمختار عندنا: إِطلاق جواز الأدنى؛ لأنا بَيّنَّا جواز التخصيص والتقييد للمقطوع بالمظنون.

وأما المجمل: فكفاية الأدنى فيه واضحة؛ إِذ لا تعارض بينه وبين المبين.

«مسألة»

الشرح: "تأخير البيان عن وقت الحاجة" إِلى الامتثال "ممتنع، إِلا عند من يجوز تكليف ما لا يُطاق" وهم أئمتنا

(2)

.

(1)

في أ، ج: خص.

(2)

قال الشوكاني في إِرشاد الفحول ص 173: إِن من جوز التكليف بما لا يطاق فهو يقول بجوازه =

ص: 421

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولو أن المصنّف قال: "غير واقع"، لطابق أصولنا؛ فإِنا وإِن جَوّزناه فلا نقضي بوقوعه كما مَرّ، والغرض أنه لم يقع.

والتعبير بـ "الحاجة" لم يستحسنه الأستاذ، وقال: هي عبارة تليق بمذهب المعتزلة القائل: إِن بالمؤمنين حاجة إِلى التكليف

(1)

.

= فقط لا بوقوعه، فكان عدم الوقوع متفقًا عليه بين الطائفتين، ولهذا نقل أبو بكر الباقلاني إِجماع أرباب الشرائع على امتناعه. وينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 493، والبرهان لإِمام الحرمين 1/ 166، والإِحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 28، ونهاية السول 2/ 540، وزوائد الأصول للأسنوي ص 304، ومنهاج العقول 2/ 220، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص/ 86، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 429، والمنخول للغزالي ص 68، والمستصفى له 1/ 368، وحاشية البناني 2/ 69، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 121، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 102، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 314، والإِحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 81، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 164، وكشف الأسرار 3/ 108، والمسودة (181)، وشرح العضد 2/ 164.

(1)

قال في المواقف وشرحه في المقصد الثامن في أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض ما نصه تذنيب إِذا قيل لهم - أي للمعتزلة - أنتم قد أوجبتم الغرض في أفعاله تعالى، فما الغرض من هذه التكاليف الشاقة الَّتي لا نفع فيها لله تعالى؛ لتعاليه عنه ولا للعبد؛ لأنها مشقة بلا حظ؟ قالوا: الغرض فيها عائد إِلى العباد، وهو تعريض العبد للثواب في الدار الآخرة وتمكينه منه؛ فإِن الثواب تعظيم أي منفعة دائمة مقرونة بتعظيم وإِكرام وهو أن التعظيم المذكور بدون استحقاق سابق قبيح عقلًا؛ ألا ترى أن السلطان إِذا مرّ بزبال وأعطاه من المال ما لا يدخل تحت الحصر لم يستقبح منه أصلًا بل عد جودًا وفضلًا وإِغناءً للفقير وإِبعادًا له عن ساحة الهوان بالكلية، لكنه مع ذلك إِذا نزل له وقام بين يديه معظمًا له ومكرمًا إِياه، وأمر خدمه بتقبيل أنامله استقبح منه ذلك، وذمته العقلاء، ونسبوه إِلى ركاكة العقل وقلة الدراية، فالله سبحانه لما أراد أن يعطي عباده منافع دائمة مقرونة بإِجلال وإِكرام منه ومن ملائكته المقربين ولم يحسن أن يتفضل بذلك عليهم ابتداء بلا استحقاق كلفهم ما يستحقون به. انتهى فالمؤمنون محتاجون إِلى التكليف؛ ليمتثلوا فيستحقوا الثواب؛ لتوقفه على ذلك على ما تقرر ثم أطال في المواقف، وشرحه في ردّ ما قالوه، فليراجعه من أراده. ينظر: الآيات البينات 3/ 122، 123.

ص: 422

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال: فالعبارة الصحيحة على مذهبنا أن يقال: تأخير البيان عن وقت وجوب الفعل بالخطاب

(1)

.

قلت: وهي مضايقة في العبارة، وقد عُرِفَ أن المعنيَّ بـ "الحاجة" كما قال إِمام الحرمين [توجه]

(2)

الطلب.

"و" أما تأخير البيان عن وقت الخطاب "إِلى وقت الحاجة، فيقدم عليه أن الخطاب المحتاج إِلى البيان ضربان:

أحدهما: ما له ظاهر، وقد استعمل في خلافه، كتأخير بيان التَّخصيص، وبيان مدّة النسخ، وبيان الأسماء الشرعية، إِذا أريد بها مُسَمَّاها اللغوي، وبيان اسم النكرة، إِذا أريد المعين.

والثَّاني: ما لا ظاهر له.

إِذا عرفت هذا فنقول: في جواز تأخيره عن وقت الخطاب مذاهب:

قال أكثر أصحابنا، وطائفة من الحنفية والمالكية: إِنه يجوز مطلقاً، واختاره الإِمام الرَّازي، وأتباعه والمصنّف في غالب المتأخرين.

وذهب بعض الحنفية، "والصيرفي" أولاً "والحنابلة" إِلى أنه "ممتنع".

(1)

هنا أمور:

أولاً: ينبغي أن يراد بالفعل ما يشمل فعل اللسان، وهو القول، وفعل القلب كالاعتقاد؛ لظهور أنه قد يكلف بذلك في وقت معين.

الثَّاني: ينبغي أن يراعى أن المراد بالحاجة هنا غير المراد بها عند المعتزلة غير أنها لما أوهمت إِرادة المعنى الممتنع عندنا كان الاحتراز عنها أحسن، فلا محذور فيه بالمعنى المراد لنا في هذا الموضع.

الثالث: قال الزركشي في البحر: هل معنى التأخير عن وقت الحاجة تأخيره عن زمن يمكن فيه الفعل إِلى زمن آخر ممكن؟ أو معناه تأخيره إِلى وقت لا يمكن فيه الفعل كالظهر مثلاً، هل يجب بيانها بمجرد دخول الوقت أو لا يجب إِلا إِذا ضاق وقتها؟ ينظر: الآيات البينات 3/ 122، والبحر المحيط 3/ 493.

(2)

في أ، ت: بوجه.

ص: 423

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال الأستاذ أبو إِسحاق: ثم نزل أبو الحسن الأشعري بالصيرفي ضيفًا فَنَاظَرَهُ في هذا إِلى أن رجع إِلى مذهب الشَّافعي.

وفصل قوم، فقال بعض أصحابنا "والكَرْخِي: ممتنع في غير المُجْمَلَ"؛ كبيان التخصيص والتقييد، والنسخ.

"وأبو الحسين" مذهبه "مثله" إِلا "في" البيان "الإِجْمَالي"، أي قال: يجوز تأخير بيان المجمل مطلقًا إِجمالًا وتفصيلًا، وأماما سواه ممَّا له ظاهر استعمل في غيره كالمطلق والعام والمخصوص، فيمتنع تأخير بيانه الإِجمالي "دون التفصيلي".

والإِجمالي "مثل: هذا العام مَخْصوص، والمُطْلق مقيد، والحكم سينسخ".

وذهب "الجُبّائي" وابنه عبد الجبار إِلى أنه "ممتنع في غير النسخ"، جائز فيه، وما حكاه طائفة من أنه قيل: يجوز في الأمر والنهي، ويمتنع في الخبر.

وقيل: عكسه ليس في محلّ النزاع؛ لأن موضوع المسألة الخطاب التكليفي، فلا يذكر فيها الأخبار، وسيقوله عند قول المصنّف: مع كونه خبرًا.

وأنت ترى سياق هذه المذاهب قاضيًا بأن النسخ من محلّ الخلاف.

وقضية كلام القاضي، وإِمام الحرمين وغيرهما وقوع الاتفاق على جواز التأخير فيه، وصرح به الغزالي، وابن برهان.

والذي يظهر من جهة النَّقل: أن بعض من منع تأخير البيان غلا، فمنع فيه أيضًا، وعذر من ادعى الاتفاق أنه لم يعبأ بخلاف هذا المفرط.

وخصّ ابن السمعاني المسألة بالمجمل والعام.

وأرى أن المطلق عنده والعام سواء في هذا الباب، والنسخ خارج عن محلّ النزاع، فلذلك لم يذكرهما.

وجعل في المسألة أربعة أوجه لأئمتنا:

فإِنه نقل الجواز فيهما عن ابن سريج والإِصطخري، وابن أبي هريرة، وابن خيران.

والمنع عن أبي إِسحاق المروزي، والصيرفي، والقاضي أبي حامد.

وكلَّا من جواز تأخير بيان المجمل دون العام، وعكسه عن بعض أصحابنا.

ص: 424

لَنَا: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} إِلَى {[وَلِذِي] الْقُرْبَى} [سورة الأنفال: 41]، ثُمَّ بَيَّنَ عليه الصلاة والسلام؛ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ: إِمَّا عُمُومًا، وإِمَّا بِرَأَيِ الْإِمَامِ، وَأَنَّ ذَوِى الْقرْبَى بَنُو هَاشِمٍ دُونَ بَنِي أُمَّيَةَ وَبَنِي نَوْفَلٍ، وَلَمْ يُنْقَلِ اقْتِرَانٌ إِجْمَالِيٍّ مَعَ أَنَّ الأَصْلَ عَدَمُهُ.

الشرح: "لنا": على الجواز مطلقًا قوله تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ "فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ".

قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [سورة الأنفال: الآية 41] فإِنه عام في كلّ ما يغنم، "ثم بين صلى الله عليه وسلم أن السَّلَبَ للقاتل، باتفاق الأمّة.

"إِما عمومًا"، وإِما برأي الإِمام" على اختلاف الإِمامين: الشَّافعي، ومالك، فإِنهما وإِن اختلفا: فقال الشَّافعي بالتعميم في كلّ قاتلٍ، سواء أقال الإِمام: مَنْ قتل قتيلًا فله سَلَبُهُ أم لا، لقوله صلى الله عليه وسلم الثَّابت في "الصحيحين":"مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ"

(1)

.

وقال مالك: ذلك تصرف من النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإِمامة، فلا يستحق القاتل حتَّى يقول الإِمام هذا القول.

فلم يختلفا في أن هذا منه صلى الله عليه وسلم تخصيص للعموم في "غنمتم" وبيان؛ لأن المراد به ما وراء السَّلَب على اختلاف الرأيين في طريق أخذ القاتل السَّلَب.

وبيَّن كما روى البخاري "أن ذوي القُرْبَى بنو هاشم"، وبنو المطّلب، هذا هو مذهب الشَّافعي، وهو الذي في الحديث، وعليه جرى الآمدي؛ لأنه شافعي.

وحذف المصنّف "بني المطّلب"؛ لأنه مالكي.

والأصحّ عند المالكية: انحصار ذوي القُرْبَى في بني هاشم.

واتَّفق الإِمامان على الانحصار فيمن "دون بني أمية" بن عبد شمس، "وبني نوفل"، وأن اشتراك هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل في بنوة عبد مناف بن قصى، فهذا عامّ بيانه إِذ ورد من غير بيان تفصيلي بلا رَيْبٍ، "ولم ينقل اقتران الإِجْمَالي"، ولو اقترن لنقل، "مع أن الأصل عدمه".

(1)

تقدم.

ص: 425

وَأَيْضًا: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [سورة البقرة: الآية 43]، ثُمَّ بَيَّنَ جِبْرِيلُ وَالرَّسُولُ عليهما السلام، وَكَذَلِكَ الزَّكَاة، وَكَذلِكَ السَّرِقَة، ثُمَّ بَيَّنَ عَلَى تَدْرِيج.

وَأَيْضًا: فَإِن جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ "اقْرَأْ"، قَالَ [عليه الصلاة والسلام]:"وَمَا أَقْرَأُ"؟، وَكَرَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ:"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ"[سورة العلق. الآية 1].

وَاعْتُرِضَ: بِأَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، لأِنَّ الْفَوْرَ يَمْتَنِعُ تَأْخِيرُه، وَالتَّرَاخِي يُفِيد جَوَازَهُ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي؛ فَيَمْتَنِعُ تَأْخِيرُهُ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الأَمْرَ قَبْلَ الْبَيَانِ لا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ كَثيرٌ.

وإِذا ثبت في العام ثبت في كلّ ماله ظاهر؛ لمُسَاواته له، وفي المُجْمل بطريق أولى.

ولا احتفال برأي من قال من المعتزلة: يجوز التأخير فيما له ظاهر دون الحَمْلِ؛ فإِنه مذهب ساقط.

واعلم أن المصنّف لو قال وبيّن أن عبد شمس ونوفلًا ليسا من ذوي القُرْبى، كان

أخصر وأجمع لمذهب الشَّافعي ومالك؛ لأن انتفاءهما من ذوي القربى متفق عليه عندهما، والخلاف في ثبوت بني عبد المُطّلب، وكان أصوب؛ فإِن وضع "أميّة""موضع شمس" مدخول.

وقد أعقب عبد؛ شمس غيرَ أمية، فإِنما كان يحسن وضع أمية موضع أبيه لو لم يعقب أبوه سواه.

الشرح: "وأيضًا": ممَّا يدلّ على التأخير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [سورة البقرة: الآية 43] فإِنها نزلت، "ثم بين جبريل" عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم، "والرسول صلى الله عليه وسلم " للمكلّفين.

فروى أبو داود، والترمذي، وابن خزيمة في "صحيحه"، وأحمد، أن جبريل عليه السلام جاء إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حين مالت الشَّمس، فقال: قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَصَلِّ الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْس، ثم جاءه العصر (1) .... الحديث.

ص: 426

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال البُخَاري: هو أصح شيء في الوقت.

وفي "صحيح البخاري": أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا خمس مرات

(1)

.

"وكذلك الزكاة، وكذلك السرقة" في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة: الآية 43]، وقوله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [سورة المائدة: الآية 38]، وإِن كنا قدمنا أن آية السرقة ليست بمجملة، فلم نقدم أنها ليست بعامّة، بل هي عامة، وقد تأخّر تخصيصها ببعض السَّارقين، وبعض المسروق، وإِليه أشار بقوله:"ثم بيّن" صلى الله عليه وسلم ما تجب فيه الزَّكاة، ومقدار الواجب، والواجب في حديث فريضة الصَّدقة وغيره ممَّا يكثر تَعْدَاده، وما يجب فيه القطع قدرًا ووضعًا في غير حديث "على تدريج".

"وأيضًا" قال أصحابنا: "فإِن جبريل قال: اقْرَأْ؟ قال: "وَمَا أَقْرَأُ؟ "، وكرر ثلاثًا، ثم قال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [سورة العلق: الآية 1]. كذا ذكر المصنّف، وهو يشير إِلى حديث جبريل في بَدْءِ الوحي المتفق على صحته.

واللفظ "اقرأ، قَالَ: مَا أَنَا بقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فغطني حَتَّى بَلَغَ منّي الجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغطني الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ .... " الحديث.

قال أصحابنا: فقد أخر البيان، "واعترض" ما ذكر من الأوامر.

وقيل: وهو منافى الأحكام، بل الاستدلال بحديث بدء الوحي فقط "بأنه متروك الظاهر"، سواء قلنا: الأمر يقتضي الفور أم التراخي؛ لأن ظاهره جواز التأخير عن وقت

= والحاكم (1/ 195)، والبيهقي (1/ 368) من حديث جابر.

وقال الترمذي: وقال محمد - يعني البخاري -: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح مشهور.

(1)

أخرجه أحمد (1/ 333)، وأبو داود (393)، والترمذي (149)، والحاكم (1/ 193)، والدارقطني (1/ 258) من حديث ابن عباس.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 427

وَاسْتُدِلَّ: بِقَوْلهِ: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [سورة البقرة: الآية 67]، وَكَانَتْ مُعَيَّنَةً؛ بِدَلِيلِ تَعَيُّنِهَا بِسُؤَالِهِمْ مُؤَخَّرًا، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرُ بِمُتَجَدِّدٍ، وَبِدَلِيلِ الْمُطَابَقَةِ لِمَا ذُبِحَ.

وَأُجِيبَ: بِمَنع التَّعْيِينِ؛ فَلَمْ يَتَأَخَّرْ بيَانٌ؛ بِدَلِيلِ "بَقَرَةً"؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَبِدَلِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:"لَوْ ذَبَحُوا بَقَرَةً مَا لأَجْزَأَتْهُمْ"، وَبِدَلِيلِ:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [سورة البقرة: الآية 71].

الحاجة، ولا قائل به.

وإِنما قلنا ذلك؛ لأن الأمر يوجب فعل المأمور به، إِما على الفور أو التراخي على الخلاف فيه.

وعلى التقديرين: يمتنع تأخير البيان؛ "لأن الفور يمتنع تأخيره"، أي: تأخير بيانه؛ لأنه وقت الحاجة، "والتراخي يفيد جوازه" أي جواز الفعل المأمور به "في الزمن الثَّاني"، أي: عقيب الأمر؛ "فيمتنع تأخيره"؛ لأن الجواز أيضًا حكم كالواجب يحتاج إِلى البيان كما يحتاج إِليه الوجوب.

فلو أخر تبيين الجواز لأخر عن وَقْتِ الحاجة، فتبين أنه متروك [الظَّاهر]

(1)

، فلا يحتج به.

"وأجيب": بأن الأمر قبل البيان لا يجب به شيء"، وهذا الترديد إِنما لزم بناء على أنه يجب شيء بالأمر، وهو لا يجب إِلَّا بعد البيان؛ فانتفى، وإِذا لم يجب به شيء، فلا ظاهر حتَّى يقال: ترك.

ولقائل أن يقول: لم قلتم: لا يجب قبل البيان شيء فيما له ظاهر؛ فإِن هذا مخصوص بما لاظاهر له؟.

قال المصنّف: "وذلك" أي: ما أخر فيه البيان عن وقت الخطاب "كثير"، ومن أظهره آية المواريث.

قال الشَّافعي رضي الله عنه محتجًّا: أثبت الله المواريث بين الناس، ثم بيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم ألَّا يتوارث أهل الكفر وأهل الإِسلام، ثم إِن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون.

(1)

في أ، ت: الظن.

ص: 428

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأيضًا، فإِن الله أثبت الميراث بعد الوصية مطلقًا، ثم بين النبيّ صلى الله عليه وسلم أن المراد به الوصية بالثلث فما دونه.

الشرح: "فاستدلّ" على المختار "بقوله"{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [سورة البقرة: الآية 67] وكانت معينة"، ولم يكن المراد بها أيّ بقرة كانت: "بدليل تعينها بسؤالهم مؤخرًا" ما هي؟ ما لونها؟.

والضمير عائد عليها، فقيل:{إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [سورة البقرة: الآية 69].

"وبدليل أنه لم يأمر بمتجدد"، ولو كان المأمور به أولًا بقرة ما، لكان الأمر بالمعين أمرًا بمتجدد لا بالأول، وينفيه سياق الآية، والاتفاق.

"وبدليل المطابقة": مطابقة البقرة المأمور بذبحها أولًا "لما ذبح" آخرًا، فعلم أن المأمور بها معيّنة.

ولقائل أن يقول: دليلُ المطابقة، وأنه لم يأمر بمتجدّد واحد.

"وأجيب بمنع التَّعيين"، بل هي بقرة مَا "فلم يتأخر بيان" حتَّى يستدلّ به، ولا احتياج إِليه، وإِنما كانت غير معينة بدليل أنه قال:"بقرة" منكرًا، "وهو ظاهر" في عدم التعيين.

"وبدليل قول ابن عباس: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأهم"، ولكنهم شدّدوا وتعنّتوا بموسى؛ فشدَّدَ الله عليهم، فقالوا:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [سورة البقرة: الآية 70].

رواه ابن أبي حاتم في التفسير عن أبي زرعة

(1)

عن عمرو بن حماد بن طلحة

(2)

عن

(1)

عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فَرُّوخ المخزومي، مولاهم، أبو زرعة الرازي الحافظ، أحد الأعلام والأئمة. عن: أبي نُعَيم وقُبَيْصة وخلائق. وعنه: مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. قال أحمد: ما جاوز الجسر أحفظ من أبي زرعة. قال إِسحاق: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل. وقال صالح بن محمد عنه إِنه قال: أحفظ عشرة آلاف حديث في القرآن. مات سنة أربع وستين ومائتين. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 881، وتهذيب التهذيب 7/ 30، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 195، والكاشف 2/ 230، والجرح والتعديل 1/ 328، وسير الأعلام 13/ 165.

(2)

عمرو بن حماد بن طلحة القناد، أبو محمد الكوفي، وقد ينسب إِلى جده. قال ابن معين وأبو =

ص: 429

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أسباط

(1)

عن السدي

(2)

قال: قال ابن عباس، فذكره.

ورواه البزار

(3)

في مسنده مرفوعًا إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث عباد بن منصور

(4)

عن

= حاتم: صدوق. وقال أبو داود: كان من الرافضة؛ وقال مطين: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن سعد: كان ثقة إِن شاء الله. قال الساجي: يتهم في عثمان، وعنده مناكير، روى عنه مسلم حديثين.

توفي في صفر سنة 222 هـ. ينظر: الثقات 8/ 483، ولسان الميزان 7/ 324، وميزان الاعتدال 3/ 254، والجرح والتعديل 6/ 228، وتاريخ البخاري الكبير 6/ 323، والكاشف 2/ 327، وتهذيب الكمال 2/ 1030، وتهذيب التهذيب 8/ 22، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 283.

(1)

أسباط بن نصر الهمداني، أبو يوسف، ويقال: أبو نصر.

قال حرب: قلت لأحمد: كيف حديثه؟ قال: ما أدري، وكأنه ضعفه. وقال أبو حاتم: سمعت أبا نعيم يضعفه، وقال: أحاديثه عامية سقط مقلوب الأسانيد. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال البخاري في تاريخه الأوسط: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال موسى بن هارون: لم يكن به بأس. ينظر: طبقات ابن سعد 6/ 261، وشذرات الذهب 1/ 279، ولسان الميزان 7/ 173، وميزان الاعتدال 1/ 175، والجرح والتعديل 1/ 332، وتاريخ البخاري الكبير 2/ 53، والثقات 6/ 85، وتهذيب الكمال 1/ 77، وتهذيب التهذيب 1/ 211، وخلاصة التهذيب 1/ 67.

(2)

إِسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدى، مولى قريش، أبو محمد الكوفي، رمى بالتشيع. عن أنس وابن عباس وباذان. وعنه أسباط بن نصر وإِسرائيل والحسن بن صالح. قال ابن عدي: مستقيم الحديث صدوق. قال خليفة: توفي سنة سبع وعشربن ومائة. ينظر: الخلاصة 1/ 90، وتقريب التهذيب 1/ 471، وتهذيب التهذيب 1/ 313، والثقات 4/ 20.

(3)

أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، أبو بكر البزار: حافظ من العلماء بالحديث. من أهل البصرة. حدث في آخر عمرة بأصبهان وبغداد والشام، وتوفي في الرملة سنة 292 هـ، له مسندان أحدهما كبير سماه "البحر الزاخر" والثَّاني صغير. ينظر: الأعلام 1/ 189، وتاريخ بغداد 4/ 334، وتذكرة الحفاظ 2/ 204، وشذرات الذهب 2/ 209.

(4)

عباد بن منصور الناجي - بنون - أبو سلمة البصري القاضي. عن الهيثم بن محمد وأبي رجاء العطاردي. وعنه شعبة والثوري ووكيع وخلق. قال القطان: ثقة لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه، يعني القدر. وقال أبو زرعة: لين، وضعفه أبو حاتم. قال ابن قانع: مات سنة =

ص: 430

وَاسْتُدِلَّ: بِقَوْلِهِ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة الأنبياء: الآية 98]، فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: فَقَدْ عُبِدَتِ الْمَلائِكَةُ وَالْمَسِيحُ؛ فَنَزَلَ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} [سورة الأنبياء: الآية 101].

الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَوْ أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ لأَجْزَأَتْهُمْ"

(1)

.

"وبدليل" قوله تعالى: " {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [سورة البقرة: الآية 71]؛ فإِنه ظاهر في أنهم كانوا قادرين على الفعل، وأن السؤال كان تعنُّتًا وتعللًا.

الشرح: "واستدلّ" أيضًا: "بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ" حَصَبُ جَهَنَّمَ} [سورة الأنبياء: الآية 98].

"فقال ابن الزبعري

(2)

: فقد عبدت الملائكة والمسيح، فنزلت:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} [سورة الأنبياء: الآية 101] ".

أخبرنا به القاسم بن محمد البرزالي

(3)

الحافظ إِذنًا، أنبأنا سليمان بن جمرة القاضي

= اثنتين وخمسين ومائة، قيل: مات وهو على بطن امرأته. ينظر: تهذيب الكمال: 2/ 653، وتهذيب التهذيب: 5/ 103 (172)، وتقريب التهذيب: 1/ 393 (107)، وخلاصة تهذيب الكمال: 2/ 30، والكاشف: 2/ 62، وتاريخ البخاري الكبير 6/ 39.

(1)

ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 317) وقال: رواه البزار، وفيه عباد بن منصور، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات.

(2)

عبد الله بن الزبعري بن قيس السهمي القرشي، أبو سعد: شاعر قريش في الجاهلية. كان شديدًا على المسلمين إِلى أن فتحت مكة، فهرب إِلى نجران، فقال فيه "حسان" أبياتًا، فلما بلغته عاد إِلى مكة، فأسلم، واعتذر، ومدح النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر له بحلة. توفي نحو 15 هـ. ينظر: الأعلام 4/ 87.

(3)

القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد بن أبي يدّاس، البرزالي، الإِشبيلي ثم الدمشقي، أبو محمد، علم الدين، ولد بـ "دمشق" سنة 665 هـ. محدّث، مؤرخ أصله من إِشبيلية، زار مصر والحجاز. ورتب أسماء من سمع منهم ومن أجازوه في رحلاته وهم نحو ثلاثة آلاف. وكان فاضلًا في علمه وأخلاقه، حلو المحاضرة، تولى مشيخة النورية ومشيخة دار الحديث بـ "دمشق". من كتبه:"العوالي المسندة" و"ثلاثيات من مسند أحمد" و"مجاميع" و"تعاليق" =

ص: 431

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بقراتي، أنبأنا محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ، أنبأنا أبو بكر محمد بن محمد المؤذن أن محمد بن رجاء أخبرهم، أنبأنا أحمد بن عبد الرحمن، أنبأنا أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه أنبأنا، محمد بن علي بن سهل، أنبأنا محمد بن الحسين الأنماطي، أنبأنا إِبراهيم بن محمد بن عرعرة، أنبأنا يزيد بن أبي حكيم بن الحكم - يعني ابن أبان - عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: جاء عبد الله بن الزبعري إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ؟.

قال ابن الزبعري

(1)

: قد عبدت الشمس، والقمر، والملائكة، والمسيح، وعزير، وعيسى بن مريم، كلّ هؤلاء في النار مع آلهتنا؟.

فنزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [سورة الزخرف: الآية 57، 58]، ثم نزلت:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [سورة الأنبياء: الآية 101].

ورواه الحاكم في "المستدرك" عن الحسن بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال المشركون: فالملائكة وعيسى، وعزير يعبدون من دون الله.

قال: فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [سورة الأنبياء: الآية 101].

وهذا إِسناد صحيح، وليس فيه تصريح بأن المعترض عبد الله بن الزبعري.

= وغيرها. توفي محرمًا في خليص (بين الحرمين) سنة 739 هـ. ينظر: فوات الوفيات 2/ 130، وآداب اللغة 3/ 172، والدرر الكامنة 3/ 237، والنجوم الزاهرة 9/ 319، والأعلام 5/ 182، والبداية والنهاية 14/ 185.

(1)

ابن الزبعري - بكسر الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة من تحت بعدها وقد تكسر أيضًا بعدها عين مهملة ساكنة ثم راء مهملة مفتوحة - كان من أشد الناس على الإِسلام وأكثرهم أذى بلسانه فحشًا وهجاء، وبنفسه مكايدة وعنادًا، ثم أسلم عام الفتح، وحسن إِسلامه، وهذا مذكور عنه، مشهور في كتب التفسير والسير وقد تقدم قريبًا.

ص: 432

وَأُجيبَ: بِأَنَّ "مَا": لِمَا لا يَعْقِل، وَنُزُولُ "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ" [سورة الأنبياء: الآية 101] زِيَادَةُ بيَانٍ لِجَهْلِ المُعْتَرِضِ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا.

وَاسْتُدِلَّ: بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُمْتَنِعًا، لَكَانَ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِضَرُورَةٍ أَوْ نَظَرٍ، وَهُمَا مُنْتَفِيَانِ.

وَعُورِضَ: لَوْ كَانَ جَائِزًا

إِلَى آخِرِهِ.

الشرح: "وأجيب": "بأن" الاعتراض لم يكن متوجهًا، فإِن ""ما" لما لا يعقل" فكيف ينتقض بالمسيح والملائكة؟.

"ونزول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ"

} ليس مخصصًا لذلك العموم حتَّى يقال: إِنه بيان، بل هو "زيادة لبيان جهل المعترض".

وهذا كلّه "مع كونه خبرًا" والنزاع إِنما هو في التكاليف الَّتي يحتاج إِلى معرفتها للعمل بها.

ولذلك عقدنا المسألة في التأخير إِلى وقت الحاجة أي: وقت توجّه الطلب التكليفي.

هذا تقرير قوله: "مع كونه خبرًا" فاعتمده.

ولقائل أن يقول: من يعقل يدخل مع مَنْ لا يعقل تغليبًا، ولو سلم عدم الدُّخول؛ فقد نقض ابن الزبعري لمن لا يعقل أيضًا، وكان من أهل اللسان.

وما يذكر أنه عليه السلام قال له: "مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ" فشيء لا يعرف.

وقد أسلم ابن الزبعري بعد ذاك، وحسن إِسلامه، وكان من جلّة الصحابة. والنزاع يطرق الأخبار كما يطرق التكاليف على ما مَرّ في حكاية المذاهب، وإِن اختص عقد المسألة بالتكاليف.

"واستدلّ" أيضًا: "بأنه" أي التأخير "لو كان ممتنعًا، لكان إِما لذاته، أو لغيره".

وعلى التقديرين فإِما أن يعلم ذلك "بضرورة أو نظر، وهما منتفيان".

أما الضَّرورة، فواضح، كيف والخلاف قائم، ودعواها مع قيام الخلاف غير مسموع؟.

وأما النظر؛ فلأنه لو امتنع لامتنع لجهل مراد المتكلم من كلامه؛ لعلمنا أنه لا يحصل بالبيان إِلا ارتفاع ذلك.

ص: 433

الْمَانِعُ: بَيَانَ الظَّاهِرِ: لَوْ جَازَ لَكَانَ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ وَهُوَ تَحَكُّمٌ، وَلَمْ يُقَلْ بِهِ - أَوْ إِلَى الأَبَدِ؛ فَيَلْزَمُ الْمَحْذُورُ.

وَأُجِيبَ إِلَى مُعَيَّنَةٍ عِنْدَ اللهِ، وَهُوَ وَقْتُ التَّكْلِيفِ.

قَالُوا: لَوْ جَازَ لَكَانَ مُفْهِمًا؛ لأَنَّهُ مُخَاطِبٌ؛ فَيَسْتَلْزِمُه، وَظَاهِرُهُ جَهَالَةٌ، وَالْبَاطِنُ مُتَعَذِّرٌ.

وَأُجِيبَ: بِجَرْيِهِ فِي النَّسْخِ؛ لِظُهُورِهِ فِي الدَّوَامِ، وَبِأَنَّهُ يُفْهَمُ الظَّاهِرُ مَعَ تَجْوِيزِهِ التَّخْصِيصَ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ فَلا جَهَالَةَ وَلا إِحَالَةَ.

وهو لا يصلح مانعًا كما في النسخ.

"وعورض" بمثله، فقيل:"لو كان" تأخير البيان "جائزًا" لكان جوازه إِما لذاته أو لغيره .... إِلخ.

الشرح: احتج "المانع بيان الظاهر" أي: المانع من تأخير البَيَان فيما له ظاهر بأنه: "لو جاز" تأخير بيانه "لكان": إِما "إِلى مدّة معيّنة، وهو تحكم، ولم يقل به، أيضًا، والقول بالتحكُّم وخلاف الإِجماع باطل عقلًا ونَقْلًا.

"أو إِلى؛ الأبد فيلزم المحذور"، وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم، وذلك تكليف بالمحال.

"وأجيب" بأنه لم لا يجوز التأخير، "إِلى" مدّة "معينة عند الله، وهو وقت التكليف" أي: الاحتياج إِلى البيان بالامتثال؟.

"قالوا: لو جاز" تأخير بيان ماله ظاهر، "لكان" المتكلّم بالظاهر قبل البيان "مفهمًا؛ لأنه مخاطب"، والغرض من الخطاب التفهيم، "فيستلزمه"، وإِلَّا لكان عبثًا، ولو كان كذلك لزم المُحَال؛ لأن المخاطب إِما أن يفهم ظاهر الخطاب، أو باطنه، "وظاهره" غير مراد؛ فالحمل عليه "جَهَالة، والباطن" قبل البيان "متعذّر".

"وأجيب" عن هذا الإِلزام:

أولًا: "بجريه في النسخ؛ لظهوره في الدَّوام" مع أنّه غير مراد، فيجئ فيه ما ذكرتم بِعَيْنهِ، لم يمنعوا من التأخير فيه.

ص: 434

قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: تَأْخِيرُ بيَانِ الْمُجْمَلِ يُخِلُّ بِفِعْلِ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا؛ لِلْجَهْلِ بِصِفَتِهَا؛ بِخِلافِ النَّسْخِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ بيَانِهَا.

قَالُوا: لَوْ جَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ، لَجَازَ الْخِطَابُ بِالْمُهْمَلِ، ثُم يُبَينُ مُرَادُهُ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِأَحَدِ مَدْلُولاتِهِ؛ فَيُطِيعُ وَيَعْصِي بِالْعَزْمِ؛ بِخِلافِ الآخَرِ.

وقد عرفت فيما تقدم أن النسخ وإِن كان من محلّ الخلاف، فلم يخالف فيه إِلا شِرْذمة لا يعبأ بهم.

"و" ثانيًا: "بأنه يفهم الظاهر مع تَجْويزه التخصيص عند الحاجة؛ فلا جهالة"؛ إِذ لم يعتقد عدم التخصيص، بل هو مجوز له، "ولا إِحالة"؛ إِذ لم يرد منه فهم التخصيص تفصيلًا.

واعلم أن منع التأخير إِلَّا في النسخ نقله أئمتنا كما تقدّم عن الجُبّائي وابنه، ونقله عنهما أيضًا عبد الجَبَّار في كتاب "العمد"، واختاره كما عرفت.

الشرح: واحتج له بدليل لا يعرف أنهما ذكراه، وإِنما نعرفه من كلام عبد الجبار، فلذلك نعزوه إِليه فنقول:"قال عبد الجبار: تأخير البيان المجمل يخل بفعل العبادة في وقتها، للجهل بصفتها بخلاف النسخ"، فإِن صِفَةَ الفعل فيه مثبتة، فجاز فيه التأخير.

"وأجيب: بأن وقتها وقت بيانها"؛ إِذ لا تكليف قبله، فلا إِخلال حينئذ.

ومن هنا يتبين لك أن الخلاف بيننا وبينهم يرجع إِلى أصل نحن فيه مُتَشَاجرون، وهو النظر إِلى الاستصلاح.

فعندهم أن الخطاب لا يرد إِلَّا عند قضاء العقل بحسنه، وإِذا قضى العقل بذلك احتاج العبد إِلى الامتثال؛ وما لم يتبين له لم يمكنه الامتثال، مع أن الحاجة دَاعِيَةٌ إِلى الامتثال، لقضاء العقل.

وهذه قاعدة لهم قد تهدّمت أركانها.

وضربوا لنا مثلًا فقالوا: المطلقات اللاتي أمرهن الباري - تعالى - بتربص ثلاثة قُرُوءِ ماذا أراد منهن؟.

ص: 435

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أأراد تخييرهن، فمن شاءت اعتدّت بالأَطْهَار، ومن شاءت اعتدت بالحَيْضِ؟ أو أراد واحدًا بعينه؟.

وأي الأمرين فقد أراد ما لا سبيل لهنّ إِلى فهمه من قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [سورة البقرة: الآية 228]؛ لأنه لا ينبئ عن التخيير ولا التعيين.

وإِن قلتم: لم يرد شيئًا فهو محال، ولم يقل به عاقل.

ونحن نقول: إِنما أراد واحدًا بعينه إِلَّا أنه لم يرد فهم تَعيينه في الحال، وإِنما أراد فهم الجملة منه، كأنه قال: اعْتَدِّي بما سأبيّنه لك منهما، وما تهتدون به من أنه لولا تعيّن الاعتداد عقلًا، لما قيل هذا، وإِذا تعيّن وجب أن يبين ليفعل، مبنى على قاعدتهم.

ولو سلمت: فلعلّ المصلحة الإِجمال أولًا والتعيين آخرًا، وأين ما يمنع من ذلك في العقول؟.

"قالوا" ثانيًا - أعني عبد الجَبَّار، ورفقته -:"لو جاز تأخير بيان المجمل، لجاز" من الله "الخطاب بالمُهْمَل، ثم ببين مراده"، بجامع عدم الفهم فيهما.

"وأجيب": بالفرق "بأنه" في المُجْمل "يفيد" شيئًا، فيفيد "أنه مخاطب بأحد مدلولاته، فيطيع ويعصى بالعزم".

"بخلاف الآخر" أعني: المهمل فإِنه لا يفيد شيئًا، فأني يستويان؟.

ثم إِن المهمل لا مدلول له، فما الذي يبين؟.

وإِن هو أراد به شيئًا فقد أتى بلفظ لا يدلّ على المراد بوجه.

بخلاف المجمل فإِنه إِذا تبيّن اتضح كونه، وإِلا على المبين، فقياس المجمل بالمهمل في غاية الفساد.

وزعماء الخصوم لا يرضون هذا القياس، وإِنما يقيسون على خطاب العربي بالزِّنْجِيّة مع القدرة على مخاطبته بالعربي.

وأجاب القاضي رضي الله عنه: بأنكم لم منعتم هذا الخطاب؟ بل نلتزم جوازه؛ ألا ترى أن القرآن خطاب للعرب والعجم؟.

قلت: وهذا هو الحقّ، وإِنما يمتنع خطاب المرء غيره بما لا يفهمه المخاطَب ولا

ص: 436

وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: تَأْخِيرُ بيَانِ التَّخْصِيصِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي كُلِّ شَخْصٍ؛ بِخِلافِ النَّسْخِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْبَدَلِ، وَفِي النَّسْخِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْجَمِيعِ؛ فكَانَ أَجْدَرَ.

المخاطب، كالمهمل أَمَّا ما يفهمان جميعًا أو يفهمه المخاطب، وبعض المخاطبين كالقرآن - فالإِجماع على جوازه؛ لإِمكان توصل من لم يفهمه من فاهميه.

الشرح: "وقال الجبائي" أيضًا: "تأخير بيان التخصيص يوجب الشَّك فِي كلِّ شخص، بخلاف النسخ"؛ فإِنّ تأخيره لا يوجب ذلك، فكان تأخير بيان التَّخصيص ممتنعًا.

"وأجيب: بأن" الشَّك في جواز تأخير النسخ أكثر؛ لأن "ذلك" شك في كلّ شخص "على البدل".

"وفي النسخ" جواز التأخير "يوجب" أن يقع "الشَّك في الجميع؛ فكان" تأخير البيان في النسخ "أجدر" بالامتناع من التخصيص وأولى.

ومن الطلبة من "يقرأ" أحذر بالحاء أي أكثر حذرًا، والأمر قريب.

"فائدة"

ثمرة مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب أن الفقيه إِذا عَثَرَ على عموم القرآن، ثم عثر على خبر يرفع بعض ذلك العموم، وعلم أن تاريخ الخبر متراخٍ عن نزول الآية، فإِنه إِن اعتقد إِحالة تأخير البيان قضى بكون الخبر نسخًا، فلم يأخذ به إِلَّا أن يكون متواترًا؛ إِذ النَّسْخ لا يكون بأخبار الآحاد

(1)

.

(1)

ينظر: البرهان 1/ 166، والمعتمد 1/ 342، والمحصول 1/ 3/ 279، والتبصرة (207) واللمع (29)، والمستصفى 1/ 154، والعدة 3/ 724، والمسودة (178)، وشرح العضد 2/ 164، والمنتهى لابن الحاجب (103)، وروضة الناظر (185)، والإِبهاج 2/ 234، وشرح الكوكب 3/ 451، وإِرشاد الفحول (173)، وجمع الجوامع 2/ 69، والآيات البينات 3/ 122، وأصول السرخسي 2/ 30، وكشف الأسرار 3/ 108، وتيسير التحرير 3/ 174، وفواتح الرحموت 2/ 49، ونشر البنود 1/ 280.

ص: 437

مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ؛ عَلَى الْمَنعِ: جَوَازُ تَأْخِيرِ إِسْمَاعِ الْمخَصِّصِ الْمَوْجُودَ.

لَنَا: أَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ تَأْخِيرِهِ مَعَ الْعَدَمِ.

وأَيْضًا: فَإِنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها سَمِعَتْ: "يُوصِيكُمُ اللهُ [فِي أَوْلادِكُمْ]، وَلَمْ تَسْمَعْ: "نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِياءِ".

وَسَمِعُوا: "اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ"[سورة التوبة: الآية 5]، وَلَمْ يَسْمَعِ الأَكثَرُ:"سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ"، إِلَّا بَعْدَ حِينٍ.

وإِن أجاز تأخير البيان قضى بكونه مخصصًا، فأخذ به إِن كان ممن يخصّ بالآحاد.

وهذا كما يأخذ الشَّافعي بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ"، فإِن أهل الحديث نقلوا أنه كان في غزوة "حنين"، وأن الآية وهي قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [سورة الأنفال: الآية 41] قبل ذلك في غزوة "بدر".

وكما يأخذ أيضًا بقوله: إِن عدّة الحامل بوضع الحمل، سواء أكانت متوفى عنها، أم مطلقة؛ لحديث سُبَيْعَةَ الأسلمية، وأنها حلت بوضع الحمل من عدة الوفاة مع قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [سورة البقرة: الآية 234]، فإِنه عام في الأزواج الحوامل وغيرهن.

ولكن حديث سبيعة مبيّن ومعتضد أيضًا بعموم آخر، وهو قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق: الآية 4]؛ إِذ يشمل المتوفي عنها، والمطلقة.

فإِذا وضح لك أن الحق جواز تأخير البيان، وتخصيص المقطوع بالمظنون وضح أن عدّة الحامل بوضع الحمل لا بأربعة أشهر وعشرًا، ولا بأقصى الأجلين كما ذهب إِليه بعض العلماء.

ولك أن تقول: ليست مسألة العدّة ممَّا نحن فيه؛ لاعتضاد الحديث بالقرآن، ونحن نقول: إِنما ذكرناها لقربها ممَّا نحن فيه، فيظهر بها ما أوردنا.

ص: 438

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والأمثلة كثيرة، فانظر فيما هذا شأنه، واعرف تاريخه، ثم انظر هل أنت متطلب نسخًا، فلا يكون إِلا بقاطع، أو تخصيصًا فيكتفي بالظنون.

وبهذا يعلم أن لمعرفة التَّوَاريخ فائدة عظيمة، وأنه يترتَّب عليه من الأحكام الشرعية ما يكثر تَعْدَادُهُ.

«مسألة»

الشرح: "المختار على المنع" من تأخير البيان إِلى وقت الحاجة "جواز تأخير إِسماع المخصص الموجود"، وهو رأى أبي هاشم، والنَّظَّام، وأبي الحسين.

وقال الجُبّائي وأبو الهُذَيل

(1)

: يمتنع في الدليل المخصص السّمعي، دون العقلي؛ فإِن الكلّ متفقون على جواز أن يُسمِع الله المكلف العلم من غير أن يعلمه أن في العَقْل ما يخصّصه.

ولك نصب "الموجود" في كلام المصنّف على أنه صفة لمفعول ثانٍ للإِسماع، أي: إِسماع الله الشيء المخصص المكلف الموجود، ويكون في ذكر الموجود فائدتان:

إِحداهما: أن مَنْ ليس موجودًا حال نزول المخصص لا يشترط إِسماعه؛ لعدم إِمكانه.

والثانية: أن القائل بإِسماع المخصص يشترط إِسماعه الموجودين كلهم، ولا يكتفي بإِسماع البعض، ولولا ذلك لما صحّ الاستدلال أن فاطمة لم تسمع مخصص:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [سورة النساء: الآية 11] رضي الله عنها.

والأكثر: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ"؛ فإِن الخصم كان يقول: نحن لم نشترط إِلا سَمَاع البعض، وقد سمع غير فاطمة رضي الله عنها، وغير الأكثر.

(1)

محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي، مولى عبد القيس، أبو الهُذَيْل العَلَّاف. وُلد في "البصرة" سنة 135 هـ. وهو من أئمة المعتزلة، اشتهر بعلم الكلام. قال المأمون: أطل أبو الهذيل على الكلام كإِطلال الغمام على الأنام. وكان حسن الجدل، قوي الحجة، سريع الخاطر. كف بصره في آخر عمره. له كتب كثيرة منها:"ميلاس" على اسم مجوسي أسلم على يده. توفي بـ"سامرا" سنة 235 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 1/ 480، ولسان الميزان 5/ 413، وتاريخ بغداد 3/ 366، والأعلام 7/ 131.

ص: 439

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإِن جررتَ "الموجود" كان صفة للمخصص، يعني: أن المخصص إِذا كان موجودًا جاز تأخير إِسماعه.

ويشهد [للجَرّ]

(1)

قوله: أقرب من تأخيره مع العدم.

فإِن قلت: لو نَصَبْنَا لم يكن فيه دلالة على أن الكلام في مخصص موجود الذي هو موضوع المسألة؛ بدليل قوله: أقرب من تأخيره مع العدم، وبدليل أن غير الموجود هو المسألة المخرج عليها، وقد سبقت.

قلت: بلى فيه دلالة من لفظ الإِسْماع؛ فإِنه لا يصحّ إِلَّا فيما يصحّ سماعه وهو الموجود؛ لأنَّ الذي يصح أن يسمع لا يكون معدومًا.

"لنا: أنه أقرب من تأخيره مع العدم" أي: أنا قد بَيّنا جواز تأخيره المخصص عن الخطاب، إِذا كان سميعًا، مع أن عدم سماعه لعدمه في نفسه [أتم]

(2)

من عدم سماعه مع وجوده في نفسه، فإِذا جاز تأخير المخصّص مع عدمه في نفسه، فجواز تأخير إِسماعه مع وجوده أولى. كذا ذكره الآمدي، فتبعه المصنّف.

وأنت تعلم أنه بعد تسليم المنع لا يتوجّه، وغايته أن يقال: منع هذا أبعد من منع ذلك، ولكنهما في البعد مشتركان، فالأولى الاقتصار على الاستدلال بالوقوع.

وإِليه أشار بقوله: "وأيضًا: فإِن فاطمة رضي الله عنها سمعت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [سورة النساء: الآية 11] " .... ، "ولم تسمع" ما قدمناه في أول العموم من قوله صلى الله عليه وسلم:""نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ" لا نُورَثُ" إِلى أن روى لها بعد حين. "و" الصحابة "سمعوا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: الآية 5]، ولم يسمع الأكثر" منهم المخصص للمجوس، وهو ما رواه الشَّافعي رضي الله عنه في "مسنده" من حديث جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر رضي الله عنه ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف؟.

فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ" فدلّ أن بعض المكلفين لم يسمع المخصص "إِلَّا بعد حين".

(1)

في أ: للحر.

(2)

في أ، ت: تم.

ص: 440

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ؛ عَلَى الْمَنْعِ: جَوَازُ تَأْخِيرِهِ صلى الله عليه وسلم تَبْلِيغَ الْحُكْمِ إِلَي وَقْتِ الْحَاجَةِ

؛ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالٌ، وَلَعَلَّ فِيهِ مَصْلَحَةً.

قَالُوا: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [سورة المائدة: الآية 67].

وَأُجِيبَ؛ بَعْدَ كَوْنِهِ لِلْوُجُوبِ وَالْفَوْرِ: أَنَّهُ لِلْقُرْآنِ.

وفي صحيح البُخَاري: أن عمر رضي الله عنه لم يأخذ الجِزْيَةَ من المَجُوس حتَّى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس "هَجَرَ".

«مسألة»

الشرح: "المختار" تفريعًا "على المنع" أيضًا "جواز تأخيره صلى الله عليه وسلم تبليغ الحكم إِلى وقت الحاجة؛ للقطع بأنه لا يلزم منه مُحَال، ولعلَّ فيه مصلحة".

فإِن قلت: من جملة الأحكام المخصِّص، وقد قدّمتم - على المَنْع - جواز تأخير إِسماعه، فهل ذلك فَرْد من أفراد هذه المسألة، فيما إِذا كان تأخير الإِسماع من النبيّ صلى الله عليه وسلم؟

قلت: لا؛ لأنا إِذا فَرَّعنا على المنع فنحن مانعون من ورود العام إِلا ومعه الخاص، وإِنما هذه المسألة في تبليغ الحكم من حيث الجملة، سواء العام المقارن للخاص، والمطلق المقارن للمقيد، والمُجْمل المقارن للمبين، والمبين بنفسه.

والمانعون "قالوا" قوله تعالى: " {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} "[سورة المائدة: الآية 67] يدلّ على وجوب المبادرة.

"وأجيب""بعد" تسليم "كونه للوجوب والفَوْرِ: أنه للقرآن"

(1)

لا لجميع الأحكام.

ذكره الإِمام الرَّازي، والآمِدِيّ.

(1)

استدلّ هؤلاء القوم على أن الأمر هنا للفور بأن وجوب التبليغ مطلقًا سواء كان على الفور أو متراخيًا معلوم عقلًا من الرسالة، فلا حاجة إِلى الإِبانة، وأجاب الجمهور بأن إِبانة التبليغ مع كونه معلومًا عقلًا لفائدة تقوية ما حكم به العقل بالنقل، ويدل على ذلك ما بعده، وهو قوله تعالى:{وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فإِن عدم فعل التبليغ على الفور لا يوجب عدم تبليغ الرسالة رأسًا، وهو ظاهر.

ص: 441

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ؛ عَلَى التَّجْوِيزِ: جَوَازُ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ.

لَنَا: أَنَّ "المُشْرِكِينَ" بُيِّنَ فِيهِ الذِّمَّيّ، ثُمَّ الْعَبْد، ثُمَّ المَرْأَةُ؛ بِتَدْرَيجٍ، وَآيَةُ الْمِيرَاثِ بَيَّنَ عليه الصلاة والسلام مِيرَاثَ الْكَافِرِ والْقَاتِلِ؛ بِتَدْرِيجٍ.

قَالُوا: يُوهِمُ الْوُجُوبَ فِي البَاقِي؛ وَهُوَ تَجْهِيلٌ.

قُلْنَا: إِذَا جَازَ إِيهَامُ الْجَمِيعِ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى.

وفي الفرق بين تبليغ القرآن وغيره نظر

(1)

.

«مسألة»

الشرح: "المختار" تفريعًا "على التجويز" الذي هو المختار أيضًا "جواز" إِسماع "بعض" من البيان "دون بعض".

وقيل: لا.

وقيل: يجوز في المُجْمل، دون العموم.

وقيل: يمتنع مطلقًا إِلَّا أن يشعر المبين بأنه قد بقي بيان آخر.

"لنا: أن" قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: الآية 5] بين فيه الذّمى، ثم العبد، ثم المرأة بتدريج، وآية الميراث بَيّن صلى الله عليه وسلم القاتل والكافر بتدريج"، وآية الحج فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

قال الشيخ بخيت: إِن الأمر ظاهر في تبليغ المتلو أي القرآن الشريف، وردوه بأن كلمة "ما" عامة، والتخصيص من غير دليل، فلا يقبل على أن الآية قد نزلت في تبليغ حكم غير متلو كما ورد في بعض الروايات، ولا يتوهم أنها ليست على عمومها؛ فإِن بعض ما أنزل أسرار بين الله ورسوله صلوات الله عليه، فلا يصح التبليغ؛ لأن الآية ظاهرة في العموم فلا تسمع دعوى أن بعض ما أنزل أسرار ممنوع التبليغ إِلا عن البعض الغير المتأهلين، وهو لا ينافي وجوب التبليغ مطلقًا، فافهم. كذا في الفواتح. لكن هذا غير مسلم؛ لأن ممَّا لا شك فيه أن بعض ما أنزل مما اختص الله بعلمه، كالمتشابه الذي لا ندرك العقول كنهه كذات الله وصفاته ومما اختص به رسوله من الغيوب الني جاء بها القرآن وأطلعه الله عليها فالأولى أن يقال: إِن كلمة "ما" عامة عمومًا عرفيًّا، لاختصاصها بما أنزل من الأحكام، والكلام في هذا لا فيما عداه ممَّا لا يتعلق بالأحكام.

ص: 442

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الاستطاعة بالزَّاد والرَّاحلة، ولم يتعرّض للسلامة في الطَّريق وطلب الخِفَارة [إِلَّا]

(1)

بعد حين.

"قالوا: يوهم الوجوب في الباقي"؛ لأنَّ المخاطب قصد بيان ما أشكل، فاقتضى الحال إِكمال ما أشكل، فإِن لم يكمل كان موهمًا، "وهو تجهيل".

"قلنا": الإِيهام إِنما يكون في العام دون المُجْمل، والذي لا يفهم منه شيء، "وإِذا جاز" في العام "إِيهام الجميع"، بسبب تأخير إِسماع الكُلّ، "فبعضه أولى".

ولقائل أن يقول: العام ما لم يدخله التَّخصيص، فغلبة الظَّن قائمة بأنه سيوجد المخصّص؛ إِذ الغالب أن كلّ عام مخصوص، ولذلك لا يجوز عند المصنّف وغيره العمل به قبل البحث.

وأما إِذا دخله فيغلب على الظَّن العكس، فكان الإِيهام بعد تطرف التَّخصيص أكثر، فلا يستويان فائدة، ثم يقتضي التشريك، في الحكم والترتيب والمُهْلة.

فقد يقال: قوله: "الذمى، ثم العَبْد، ثم المرأة" يقتضى تأخر العَبْد عن الذِّمِّي والمرأة عن العبد لما ذكرناه، وذلك مستدعي نقل التَّاريخ فيه، ولا نحفظه.

ثم قوله: "بتدريج" غير محتاج إِليه مع لفظة "ثم".

ويمكن الجواب: بأن الترتيب في "ثم" قد يتخلف، كما ذهب إِليه بعض النُّحاة؛ مُحتَجًّا بقوله تعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [سورة الزمر: الآية 6][وقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ]

(2)

وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ} [سورة السجدة: الآية 7 - 9].

وقولِ الشاعر: [الخفيف]

إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ

ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ

(3)

(1)

في أ، ت: إِلى.

(2)

سقط في أ، ت، ج.

(3)

البيت من الخفيف وهو لأبي نواس في ديوانه 1/ 355، والدرر 6/ 93، وخزانة الأدب 11/ 37، 40، 41، والجنى الداني 428، ورصف المباني 174، ومغنى اللبيب 1/ 117، وجواهر الأدب 364.

ص: 443

‌مَسْأَلَةٌ:

يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ قَبْلَ الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ

؛ إِجْمَاعًا.

وَالأَكْثَرُ: يَكْفِي بِحَيْثُ يَغْلِبُ انْتِفَاؤُهُ ..

الْقَاضِي: لا بُدَّ مِنَ الْقَطْعِ بِانْتِفَائِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ دَلِيلٍ مَعَ مُعَارِضِهِ.

وإِذا كان كذلك فإِنما أتى بـ "ثم" لتبين التشريك والمُهْلة، وهما حاصلان، وإِن لم يعرف عين المتقدّم من المتأخر.

ويدلّ لهذا قوله: "بتدريج"؛ فإِنه يشعر بأن القصد وقوع التَّدْريج في بيان هذه الأشياء لا تعيين المتقدم من المتأخر، وإِلَّا لم يكن لذكر التدريج فائدة.

ولو عطف المصنّف بـ "الواو" كما فعل في "القاتل والكافر" كان أولى.

«مسألة»

الشرح: قال المصنّف، تبعًا للغزالي، والآمدي:"يمتنع العمل بالعُمُوم قبل البحث عن المخصّص إِجماعًا"

(1)

.

ثم اختلف المجمعون في كيفية البحث.

"والأكثر: يكفي بحيث يغلب على الظَّن انتفاؤه".

وقال "القاضي: لا بُدَّ من القطع بانتفائه".

وكذلك كلّ دليل مع معارضه"، فلا تظنّن مسألة العموم مختصّة بذلك.

واعلم أن المصنّف ادّعى أمرين:

أحدهما: أن لا بد من أصل البحث، ولم يحتج إِلى الاستدلال عليه؛ إِذ قد نقل فيه الإِجماع.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 3/ 36، والتمهيد للأسنوي 364، ونهاية السول 2/ 403، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 372، والتحرير لابن الهمام ص/ 78، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 230، وكشف الأسرار للنسفي 1/ 161. وينظر: المسودة (109)، والعدة 2/ 525، والرسالة (295، 322، 341)، وروضة الناظر (126)، وأصول السرخسي 1/ 132، والتحرير (78 - 79)، والمدخل (243).

ص: 444

لَنَا: لَوِ اشْتُرِطَ لَبَطَلَ الْعَمَلُ بِالأَكْثَرِ.

قَالُوا: مَا كَثُرَ الْبَحْثُ فِيهِ تُفِيدُ الْعَادَةُ الْقَطْعَ، وَإِلَّا فَبَحْثُ الْمُجْتَهِدِ يُفِيدُه، لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ لاطَّلعَ عَلَيْهِ.

[وَمُنِعَا]، وَأُسْنِدَ بأَنَّهُ قَدْ يَجِدُ مَا يَرْجِعُ بِهِ.

والثَّاني: أنه لا يشترط القَطْع، واستدلّ له فقال:

"لنا": "لو اشترط، لبطل العمل بالأكثر"؛ لعدم القَطْع بانتفاء مخصّصها.

وأنا أقول: لعلّ القاضي يمنع بُطْلان التالي؛ فهو لا يقيم للعمومات وَزْنًا.

"قالوا" يعنى القاضي ومتابعيه: "ما كثر البحث فيه" من المسائل بين النّظار، ولم يوجد له مخصص، "تفيد العادة القطع" بانتفاء المخصّص.

"وإِلَّا" أي: وما لم يكثر فيه بحث النظار "فبحث المجتهد" وحده مع عدم اطلاعه على المخصص "يفيده" القطع؛ "لأنه لو أريد" التَّخْصيص "لا طَلع عليه"؛ لأن الله - تعالى - ينصب على ذلك أمارة، وإِلَّا كان تكليفًا بما لا يُطَاقُ.

"ومنعا" أي الدليلان المذكوران، "وأسند" المنع فيهما، "بأنه قد يجد" المجتهد بعد الحكم بالعموم من المخصصات "ما يرجع به"، وهذا يقع للمجتهدين كثيرًا، فدلّ أنه كانت أمارة ولم يجدها، وهو واضح.

واعلم أن دعوى الإِجْمَاع على أنه لا بد من البَحْثِ ممنوعة؛ فالمسألة مشهورة بالخلاف بين أئمتنا، حكاه الأستاذ أبو إِسحاق الإِسفراييني، والشيخ أبو الحسن الخلاني، والشيخ أبو إِسحاق الشِّيرَازي، ومن يطول تَعْدَاده، وعليه جرى الإِمام الرازي وأتباعه.

والذي عليه الصَّيْرفي أنه يجب اعتقاد العموم في الحال والعمل بمقتضاه كما نقله من ذكرناه.

واقتصر القاضي أبو الطيب، وإِمام الحرمين، وابن السمعاني، فنقلوا عن الصيرفي وجوب اعتقاد العموم في الحال، ولم يذكروا عنه وجوب العمل، وما سكتوا عنه قد صرح به من ذكرناه.

ص: 445

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والقول بوجوب البحث قول ابن سُرَيج، والإِصْطَخْري، وابن خيران، والقَفَّال الكبير كما نقله الشيخ أبو حامد.

وأما قول المصنّف: "وكذا كلّ دليل مع مُعَارضه" فهي طريقة بعض الأصوليين، وعليها جرى الشيخ أبو حَامِدٍ حيث قال: وهكذا الخلاف بين أصحابنا في لفظ الأمر والنَّهْي إِذا وردا مطلقين.

والأصح عندنا ومنهم من نقل فيه الإِجماع: أنه لا يجب عند سماع الحقيقة طلب المجاز، وإِن وجب عند سماع العام البحث عن الخاصّ؛ لأن تطرق التَّخصيص إِلى العمومات أكثر.

قال أبي رحمه الله: ولأن في العام دلالتين:

إِحداهما: على أصل المعنى، وهو نصّ.

والثانية: على استغراق الأفراد، وهي ظاهرة، واحتمال المجاز حاصل في الأول، وفي كلّ حقيقة يدلّ فيها على معنى مفرد، والدلالة الإِفرادية عليه قطعيّة، فلذلك لم يطلب المجاز، واحتمال التخصيص إِنما هو في الثَّانية.

قال: ومن شبه العام بالحقيقة، فقد أتى بساقط من القول.

"فائدة"

قال الشيخ أبو حامد: حكى القَفَّال: أن الصيرفي سئل عن قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك: الآية 15] هل تقول: إِنَّ من سمع هذا يأكل جميع ما يجده من الرزق؟ فقال: أقول إِنه يبلع الدنيا بلعًا.

قلت: فانظر كيف يعمل بمقتضى العُمُوم قبل البَحْثِ كما نقلناه.

ثم قال الشيخ أبو حامد: وذكر الصَّيرفي أن ما ذهب إِليه مذهب الشَّافعي، لأنه قال في "الرسالة": والكلام إِذا كان عامًّا ظاهرًا كان على ظهوره وعمومه حتَّى تأتي دلالة تدلّ على خلاف ذلك.

قال: وزعم ابن سريج ورفقته أن ما ذهبوا إِليه مذهب الشَّافعي؛ لأنه قال: وعلى أهل العلم في الكتاب والسُّنة أن يطلبوا دليلًا يفرقون به بين الحَتْمِ وغيره في الأمر والنهي. فأخبر أنه يجب أن يطلب دليلًا يستدلّ به على موجب اللَّفظ.

ص: 446

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فائدة"

مثار الخلاف في وجوب البَحْثِ التعارض بين الأصل والظاهر،

وبين آخر نفيس، وهو التردّد في أن التَّخصيص مانع أو عدمه شرط؟.

فالصَّيرفي يقول: إِنه مانع، فيتمسَّك بالعموم ما لم ينهض المانع، لأن الأصل عدمه.

وابن سُرَيْج يقول: عدمه شرط، فلا بد من تحققه.

وحاصله: أن ابن سريج يقول: صيغ العموم لا تدلّ على الاستيعاب إِلا عند انتفاء القَرَائِنِ، وانتفاء القرائن شرط، فلا بد من البحث عنه.

وكذا نقله عنه ابن السَّمْعَاني وغيره، واختاره القاضي أبو الطيب، وابن السَّمعاني وغيرهما من أئمتنا.

قال القاضي أبو الطيب: إِنما يدلّ على العموم صيغة متجرّدة، والتجرّد لم يثبت، قال: وهذا كما تقول: إِذا شهد عند الحاكم شاهدان لا يعرف حالهما، فإِنه يجب السُّؤال عن عَدَالَتهما، ولا يجوز الحكم بها قبل السؤال؛ لأن البَيّنة: الشاهدان مع العدالة، لا الشاهدان فقط.

قلت: ونظير هذا أن صيغ العموم للاستيعاب عند عدم العَهْدِ.

وإِن أشكل الحال هل ثمّ عهد فكذلك؛ خلافًا لقوم، وعليه إِمام الحرمين.

ومثاره أن عدم العهد شرط أو جوده مانع؟

"فرع"

إِذا اقتضى العام عملًا مؤقتًا، وضاق الوقت عن طلب الخصوص،

فهل يعمل بالعموم أو يتوقف؟

حكى ابن الصَّباغ فيه خلافًا:

ونظيره هل للمجتهد التَّقْليد عند ضيق الوقت؟

وفيه وجهان.

وكذا القادر على الاجتهاد في القِبْلَةِ، وكذا لو استيقظ قبل الوقت، وكان بحيث لو اشتغل بالوضوء يخرج، فهل يباح له التيمم أو يتوضأ ويصلى خارج الوقت؟ وجهان.

ص: 447

‌مَبْحَثُ الظَّاهِرِ وَالمُؤَوَّلِ

الظَّاهِرُ وَالْمُؤَؤَلُ": الظَّاهِرُ: الْوَاضِح، وَفِي الاِصْطِلاحِ: مَا دَلَّ دَلالَةً ظَنِّيَّةً: إِمَّا بالْوَضْعِ؛ كَالْأَسدِ، أَوْ بِالْعُرْفِ؛ كَالْغَائِطِ.

الشرح: "الظاهر" في اللغة: "الواضح"

(1)

.

(1)

الظاهر في اللغة: الواضح، وفي الاصطلاح فيه ثلاثة مذاهب:

الأول: وهو مذهب المتقدمين: ما ظهر معناه الوضعي سِيقَ له اللَّفظ، أو لم يُسَقْ.

الثَّاني: وهو مذهب المتأخرين من الحنفية: ما ظهر معناه الوضعي محتملًا غيره احتمالًا مرجوحًا، بشرط عدم سوق الكلام له فرقًا بينه وبين النص.

الثالث: وهو مذهب الشَّافعية: ما دلّ على معنى بالوضع الأصلي، ويحتمل غيره احتمالًا مرجوحًا، أو هو ماله دلالة ظنية.

يلاحظ أنه لا يوجد مثال للظاهر بخصوصه من غير نص؛ لأنه إِنما يكون في ضمن معنى سيق له الكلام.

"1" قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ظاهر في بيان حلّ البيع وحرمة الرِّبا؛ إِذ السياق يدلّ على أن بيان الحلّ والحرمة ليس مقصودًا؛ لأنه في جواب الكفار عن قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} .

"2" قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ظاهر في بيان حلّ النكاح؛ فإِنه لم يسق له، وإنما سيق لبيان العدد في تعدد الزوجات، أما بيان الحلّ فقد علم من آية أخرى وهي:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وهذا إِنما يتم لو كان آية الاقتصار على أربع متأخرة في النزول.

"3" مثال الظاهر عند الشَّافعية قوله صلى الله عليه وسلم لغِيلانَ، وقد أسلم على عشر نسوة:"أَمْسِكْ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ" وهو ظاهر في استصحاب النِّكَاح.

أما حكمه عند الشَّافعية؛ فالعمل به لكن لا على جهة القطع؛ لوجود الاحتمال المرجوح، فإِن رجح بدليل يعضده كان مؤولًا مصروفًا عن الظاهر، وإن تساوى الاحتمالان، فالوقف، حتَّى يظهر الدليل.

وأما عند الحنفية ففيه مذهبان:

الأول: مذهب مشايخ العراق منهم أبو الحسن الكرخي، وأبو بكر الجصاص، ومذهب القاضي أبي زيد، ومن تابعه، وعامة المعتزلة.

وهو أن الثَّابت بها ثابت قطعًا يقينًا، واجب العمل به، سواء أكان خاصًّا - مع قيام احتمال =

ص: 448

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وفي الاصطلاح: ما دلّ دلالة ظنيّة".

وعلى هذا فالنَّص وهو الدَّال دلالة قطعية - قسيم له، وقد تقدم.

ومنهم من يجعله قسمًا منه.

وقريب: من هذا التعريف قول ابن السَّمعاني: الظاهر لفظ معقول يبتدر إِلى الفهم منه معنى مع احتمال اللَّفظ غيره.

ثم دلالته الظنية: "إِما بالوضع كالأسد" للحيوان المفترس، والعموم في الاستيعاب، والأمر في الوجوب.

= التأويل فيه - أمْ عامًّا - مع قيام احتمال التَّخصيص - وذلك بناء منهم على أن لا عبرة للاحتمال البعيد، وهو الذي لا ينشأ عن قرينة.

المذهب الثَّاني: وهو مذهب ما وراء النهر، منهم الإِمام أبو منصور الماتريدي، وبه قال بعض علماء الحديث، وبعض أصحاب المعتزلة:

أن حكم الظاهر والنص وجوب العمل بما وضع له اللَّفظ لا قطعًا، ووجوب اعتقاد حقية ما أراد الله - تعالى - من ذلك الحكم، وهذا منهم بناء على أن العام وإِن خلا عن قرينة التَّخصيص والخاص وإِن خلا عن قرينة التأويل، ولكن الاحتمال باقٍ في الجملة، وذلك ينزله عن درجة القطع، وإن وجب العمل، وحاصله أن ما دخل تحت الاحتمال، وإِن كان بعيدًا لا يوجب العلم، بل يوجب العمل، كخبر الواحد والقياس.

والمختار هو الأول؛ لأن الاحتمال الذي لا ينشأ عن قرينة في الكلام إِنما ينشأ عن إِرادة المتكلم، وهو أمر باطن لا يوقف عليه، والأحكام لا تعلق لها بالمعاني الباطنة، كرخص المسافر لا يتعلق بحقيقة المشقة، بل بالسفر الذي هو سبب، وكذلك النسب لا يتعلق بالإِغلاق، بل بالفراش الذي هو دليل الإِغلاق، وكذلك التكليف لا يتعلق باعتدال العقل، بل بالاحتلام الذي هو دليل؛ لأن تلك معانٍ باطنة. ينظر: معجم مقاييس اللغة 3/ 471، والصحاح 2/ 731، ولسان العرب 4/ 2767 - 2769، وشرح العضد 2/ 168، والعدة 1/ 140، والسرخسي 1/ 163، والمغنى للخبازي (125)، والمستصفى 1/ 384، والميزان 1/ 505، وروضة الناظر (92)، ومفتاح الوصول ص 59، والآيات البينات 3/ 98، والإِحكام 3/ 48، وكشف الأسرار 1/ 46، وتيسير التحرير 1/ 136، والتلويح 1/ 124، وفتح الغفار 1/ 112، وفواتح الرحموت 2/ 19، وجمع الجوامع 2/ 52، وإِرشاد الفحول 175، وشرح التنقيح (37).

ص: 449

وَالتَّأْوِيلُ: مِنْ آلَ يَئُول، أيْ: رَجَعَ

(1)

.

وَفِي الاِصْطِلاح: حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، وَإِنْ أَرَدتَ الصَّحِيحَ، زِدتَ:"بِدَلِيلٍ يُصَيِّرُهُ رَاجِحًا".

الْغَزَالِيُّ رحمه الله احْتِمَالٌ يَعْضُدُهُ دَلِيلٌ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنَ الظَّاهِرِ.

وَيَرِدُ: أَنَّ الاِحْتِمَالَ لَيْسَ بِتَأْوِيلٍ، بَلْ شَرْطٌ، وَعَلَى عَكْسِهِ التَّأْوِيلُ المَقْطُوعُ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ قَرِيبًا؛ فَيَتَرَجَّحُ بِأَدْنَى مُرَجِّحٍ، وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدًا؛ فَيَحْتَاجُ لِلأَقْوَى، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَذِّرًا فَيُرَدُّ.

"أو بالعرف كالغائط" للخارج المستقذر، فإِنه غالب فيه، مع كونه في الأصل للمكان المطمئن.

الشرح: "والتأويل: من آل يئول

(2)

أي: رجع"، فالتأويل ترجيع.

(1)

ينظر: معجم مقاييس اللغة 1/ 159، والصحاح 4/ 1627، وترتيب القاموس 1/ 197، ولسان العرب 1/ 171 - 172، وشرح العضد 2/ 168، وجمع الجوامع 2/ 53، وفصول البدائع للفناري (83)، وأصول السرخسي 1/ 163، وإِرشاد الفحول 175، وشرح التنقيح 37، وفواتح الرحموت 2/ 19، والمغنى للخبازي (125)، والعدة (1/ 140)، والإِحكام 3/ 49، والميزان 1/ 501، وكشف الأسرار 1/ 45، وتيسير التحرير 1/ 137 - 138.

(2)

"المؤول":

وأما المؤول: فهو مشترك لم ينسد فيه باب الترجيح، بل ترجح بعض وجوهه بغالب الرأي.

وعند الشَّافعية: هو اعتبار احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دلّ عليه الظاهر.

وربما يشكل عد المؤول من العبارة؛ لأنه قد أضيف إِليه رأي المجتهد.

والجواب: هو أن الحكم بعد التأويل يضاف إِلى الصيغة؛ لأن الإِضافة إِلى الدليل الأقوى أولى، ولهذا كان الحكم في المنصوص عليه مُضَافًا إِلى النص لا إِلى العلة؛ لأنه أقوى مها، وإِن كان في غير محلّ النص يضاف إِلى العلة.

مثال ذلك: حرمة الخمر؛ فإِنها مضافة إِلى النص، وهو قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوهُ} لا إِلى العلة، وهي الإِسكار، أما في محلّ التعليل فيقال: حرمت الخمر للإِسكار.

أما حكم المؤول عند الحنفية، فيمكنك أن تستخلصه من التعريف: وهو أن دلالته ظنية؛ إِذ الترجيح فيه بغالب الرأي، وكذلك عند الشَّافعية دلالة المؤول ظنية؛ لأن اعتبار الاحتمال إِنما =

ص: 450

فَمِنَ الْبَعِيدَةِ: تَأْوِيلُ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام لِغَيْلانَ، وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ:"أَمْسِكْ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ"، أَيِ: ابْتَدِئِ النِّكاحَ، أَوْ أَمْسِكِ الْأَوَائِلَ -؛ فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُخَاطَبَ بِمِثْلِهِ مُتَجَدِّدٌ فِي الْإِسْلامِ مِنْ غَيْرِ بيَانٍ، ومَعَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ تَجْدِيدٌ قَطُّ.

وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام لِفَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ:"أَمْسِكْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ" - فَأَبْعَدُ؛ لِقَوْلهِ: "أَيَّتَهُمَا".

"وفي الاصطلاح: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح".

وهذا التعريف يشمل: الصَّحيح والفاسد.

"وإِن أردت" أن تعرف "الصحيح" فقط "زدت: بدليل يصيّره راجحًا".

وقال "الغَزَالي": التأويل: "احتمال يعضُده دليل يصير به أغلب على الظن من الظاهر".

"ويرد" عليه: "أن الاحتمال ليس بتأويل، بل" التأويل: الحمل عليه، والاحتمال "شرط" له.

"وعلى عكسه" يرد "التأويل المقطوع به"، فإِنه تأويل، وعاضده يفيد القَطْع لا الظن.

وقد يمنع الغَزَالي وجود ذلك، ويقول: غاية ما يوجد لفظ قام القاطع على صرفه عن ظاهره.

أما أن المراد به شيء معين، فلا قاطع فيه، بل ظن، وهذا كما يقول في ظواهر الصفات: إِن القواطع دلّت على أنّ الظاهر غير مراد، ثم تعيين المراد ظَنّي لا قطعي فنقول مثلًا في قوله تعالى:{يَدُ اللَّهِ} [سورة الفتح: الآية 10]؛ الجارحة منفية قطعًا، وهل المراد القدرة أو شيء وراءها، أو لا يدري؟ هذه أماكن تزاحم الظُّنون، "وقد يكون" التأويل "قريبًا، فيترجّح بأدنى مرجّح"، "وقد يكون بعيدًا، فيحتاج للأقوى، وقد يكون متعذرًا فيرد".

= هو بالدليل، والدليل ظني، وليس بقطعي، وإِلا كان مفسرًا لا مؤولًا.

ولهذا لا يحرم التأويل بالرأي، بخلاف التفسير؛ فإِنه لا يكون إِلا بقاطع، وبذلك تبين الفرق بين المفسر والمؤول.

ص: 451

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشرح: "فمن" التأويلات "البعيدة: تأويل الحنفية قوله عليه السلام لابن غيلان وقد أسلم على عشر": "أَمْسِكْ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ"

(1)

، فإِنهم حملوا الإِمساك إِما على الابتداء، "أي: ابتدئ النكاح" في أربع منهن.

"أو" أن المراد بقوله: "أَمْسِكْ" أَرْبَعًا" أي: "الأوائل" منهن، و"فارق سائرهن"، أي: الأواخر [ليثبت]

(2)

لهم أصلهم في وجوب تجديد النكاح إِن تزوجهن معًا، وإِمساك الأربع الأوائل إِن تزوجهن مرتبًا.

فردوا الحديث إِلى مذهبهم، ولم يردوا مذهبهم إِلى الحديث.

وهذا التأويل إِذا أنصفت من نفسك تعرف أنه بعيد؛ "فإِنه يبعد أن يخاطب بمثله" من هو "متجدّد في الإِسلام من غير" سبق "بيان" لشرائط النكاح، "مع" كان الحاجة داعيةٌ إِليه لقرب عهده بالإِسلام.

"ومع أنه لم ينقل تجديد قَطّ" لا منه، ولا من غيره مع كثرة إِسلام الكُفَّار المتزوجين، ولو كان لتوفرت دواعي حملة الشريعة على نقله.

"وأما تأويلهم قوله صلى الله عليه وسلم لفيروز الدَّيْلَمِي

(3)

، وقد أسلم على أختين: "أَمْسِكْ أيَتَّهُمَا

(1)

أخرجه الشَّافعي في المسند 2/ 16 (43)، أخرجه الترمذي 3/ 435، كتاب النكاح: باب ما جاء من الرجل يسلم وعنده عشر نسوة (1128) وابن ماجة 1/ 628، كتاب النكاح: باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة (1953)، والبيهقي في السنن (7/ 181) وابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن (310)، كتاب النكاح: باب فيمن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة (1277) وأحمد في المسند 2/ 44، وصححه صاحب الإِرواء 6/ 291.

(2)

في أ، ت: ليثتثبت.

(3)

فيروز الديلمي، ويقال: ابن الديلمي، يكنى أبا الضحاك، ويقال أبا عبد الرحمن، يماني كناني من أبناء الأساورة في فارس الذي كان كسرى بعثهم إِلى قتال الحبشة

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال له: الحميري؛ لنزوله بـ"حمير" ومخالفته إِياهم، وروى عنه أحاديث ثم رجع إِلى اليمن، فأعان على قتل الأسود العنسي. روى عنه أولاده الثلاثة الضحاك وعبد الله وسعيد، وأبو الخير اليزني وأبو خراش الرعيني وغيرهم. قال ابن حبان: يكنى أبا عبد الرحمن، كان من أبناء فارس وقتل الأسود الكذاب، وسكن مصر، ومات بـ "بيت =

ص: 452

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

شِئْتَ"

(1)

بمثل ما مَرَّ "فأبعد"؛ إِذ فيه ما عرفت من وجهي البعد، وهو تجدد إِسلامه، وعدم نقل التجديد.

ويختصّ بثالث، وهو التصريح "بقوله:"أيتهما" شئت"؛ لظهوره في أن التَّرْتيب غير معتبر.

واعلم أنه قد وقع بخطّ المصنّف: "ابن غيلان" كما رأيت، وكذا هو في "النهاية" و"الوسيط" و"المستصفى" و"الإِحكام" وغيرها، ورأيت المصنّف ضبط بخطّه:"عيلان" بعين مهملة، وهو وَهْمٌ.

إِنما هو غيلان بن سلمه الثقفي بالغين المعجمة، نعم في الرواة قيس بن عيلان بن مضر وزفر بن عيلان كلاهما بالمهملة، وليس في الرواة ابن عيلان إِلا بالمهملة ولا غيلان إِلا بالمعجمة، وصاحب الحديث غيلان [لا ابنُ عيلان]

(2)

، [والمصنّف لما توهمه ابن عيلان]

(3)

احتاج أن يضبطه بالمهملة، ولا بد في هذا المقام من بسط العبارة قليلًا، فإِن الكلام في التأويل ممَّا يعظم خطره:

فنقول: مذهبنا أن الكافر إِذا أسلم على أكثر من أربع كان له اختيار أربع منهن، سواء عقد عليهن معًا، أم مرتبًا، سواء اختار الأوائل أم الأواخر،، ولذلك لو أسلم على أختين تخير بينهما، ولا يتعيّن أولاهما.

وقال أبو حنيفة: إِن عقد على التفريق، واختار الأوائل منهن صح النكاح، وإِلا فلا.

= المقدس" وقال ابن منده: يقال: إِنه ابن أخت النجاشي. ينظر: تهذيب التهذيب 8/ 305 (552)، وتقريب التهذيب 2/ 114، والخلاصة 2/ 341، والثقات 3/ 332.

(1)

أخرجه أبو داود 2/ 272، كتاب الطلاق: باب في من أسلم وعنده نساء أكثر من أربعة (أو أختان)(2243).

وأخرجه الترمذي 3/ 436، كتاب النكاح: باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان (1129)، وابن حبان، ذكره الهيثمي في الموارد (310)، كتاب النكاح: باب فيمن أسلم (1276).

(2)

سقط في ب، ت.

(3)

سقط في ت.

ص: 453

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واحتج الشَّافعي بما روى معمر عن الزهريّ عن سالم

(1)

عن أبيه: أن غيلان بن سلمة الثقفي

(2)

أسلم وعنده عشر نسوة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أَمْسِكْ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ" هكذا لفظ رواية الشَّافعي: "أَمْسِكْ"، وفي أكثر الروايات لفظ الاختيار، وهي لفظ رواية الترمذى، وابن ماجه والبيهقي.

ومدار الحديث على معمر بن راشد

(3)

، وهو أحد الأعلام الثقات روى له الجماعة، وقد

(1)

سالم بن عبد الله بن عمر العدوي المدني الفقيه، أحد السبعة، وقيل: السابع أبو سليمان بن عبد الرحمن. وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. قاله أبو الزناد، عن أبيه وأبي هريرة ورافع بن خديج وعائشة، وعنه ابنه أبو بكر وعبيد الله بن عمر وحنظلة بن أبي سفيان. قال ابن إِسحاق: أصح الأسانيد كلها الزهري عن سالم عن أبيه، وقال مالك: كان يلبس الثوب بدرهمين، وعن نافع كان ابن عمر يقبِّل سالمًا ويقول: شيخ يقبل شيخًا، وقال البخاري: لم يسمع من عائشة - مات سنة ست ومائة على الأصح. ينظر: ترجمته في تهذيب الكمال 1/ 460، وتهذيب التهذيب 3/ 436، وتقريب التهذيب 1/ 280، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 361، والكاشف 3/ 344.

(2)

غيلان بن سلمة بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي

وسمى أبو عمر، جده شرحبيل، قال البغوي: سكن الطائف، وقال غيره: وأسلم بعد فتح الطائف، وكان أحد وجوه ثقيف، وأسلم وأولاده عامر وعمار ونافع ويا دية، وقيل: إِنه أحد من نزل فيه: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . وقد روى عنه ابن عباس شيئًا من شعره، قال أبو عمر: هو ممن وفد على كسرى وله معه خبر ظريف قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني عمي حدثنا محمد بن سعيد الكراني حدثنا العمري عن العتبي عن أبيه قال: كان غيلان بن سلمة وفد على كسرى فقال له ذات يوم: أي ولدك أحب إِليك؟ قال: الصغير حتَّى يكبر، والمريض حتَّى يبرأ، والغائب حتَّى يقدم، فاستحسن ذلك من قوله، ثم قال له: ما غذاؤك في بلدك قال: خبز البر قال: عجيب لك هذا العقل.

قال المرزباني في "معجم الشعراء": غيلان شريف شاعر أحد حكام قيس في الجاهلية. ينظر: الأعلام 5/ 124، والإِصابة ت (6926).

(3)

معمر بن راشد الأزدي، مولى مولاهم عبد السَّلام بن عبد القدوس، أبو عُروة البصري ثم اليماني، أحد الأعلام. عن الزهري وهمام بن منبه وقتادة وخلق. وعنه: أيوب والثوري وابن المبارك وخلق. قال العجلي: ثقة صالح. قال النسائي: ثقة مأمون. وضعفه ابن معين في ثابت. توفي سنة 153 هـ. ينظر: نسيم الرياض 1/ 74، وتراجم الأحبار 3/ 255، وتذكرة =

ص: 454

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رواه عنه ابن أبي عَرُوبة

(1)

وإِسماعيل بن إِبراهيم، ومحمد بن جعفر غندر

(2)

، ويزيد بن زريع

(3)

، وهم من حفاظ أهل "البصرة".

فإِن قلت: فقد قال البخاري: هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روى شعيب بن أبي حمزة

(4)

وغيره عن الزهري قال: حديث عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة

= الحفاظ 1/ 178، وطبقات ابن سعد 3/ 397، وتاريخ الإِسلام 6/ 394، ولسان الميزان 7/ 394، وتهذيب الكمال 3/ 1355، وتهذيب التهذيب 10/ 243، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 47، والكاشف 3/ 164.

(1)

سعيد بن أبي عروبة، واسمه مهران اليشكري، مولاهم، أبو النضر البصري. الحافظ العالم. عن: الحسن والنضر بن أنس حديثًا واحدًا وأبي التياح ومطر الوراق وخلق. وعنه: شعبة وابن علية ويزيد بن زريع ومحمد بن جعفر وخلق، قال أحمد: قدري لم يكن له كتاب إِنما كان يحفظ، وقال ابن معين: ثقة من أثبتهم في قتادة - قال عبد الصمد بن عبد الوارث: مات سنة 156. ينظر: خلاصة تهذيب الكمال 1/ 386.

(2)

محمد بن جعفر الهذلي، مولاهم، البصري، أبو عبد الله الكرابيسي الحافظ، ربيب شعبة؛ جالسه نحوًا من عشرين سنة، لقبه: غُنْدر. قال ابن معين: كان من أصح الناس كتابًا. قال أبو داود: مات سنة ثلاث وتسعين ومائة. ينظر: تراجم الأحبار 3/ 237، وسير الأعلام 9/ 98، وتهذيب الكمال 3/ 1183، وتقريب التهذيب 2/ 151، والكاشف 3/ 92، وتاريخ البخاري الكبير 1/ 57، والجرح والتعديل 7/ 1223، وميزان الاعتدال 3/ 502، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 388.

(3)

يزيد بن زُرَيْع التميمي العيشي، أبو معاوية البصري الحافظ، أحد الأعلام. ولد سنة 101 هـ. عن: أيوب وحميد وابن عون وخلق. وعنه: ابن المديني ومحمد بن المنهال وقتيبة وخلق. قال ابن معين: ثقة مأمون. قال أبو حاتم: ثقة إِمام. قال أحمد: ما أتقنه، ما أحفظه. قال عمرو بن علي: مات سنة اثنتين وثمانين ومائة. ينظر: طبقات ابن سعد 7/ 321، وسير الأعلام 8/ 296، والأنساب 9/ 142، ولسان الميزان 6/ 287، وتراجم الأحبار 4/ 234، ونسيم الرياض 2/ 131، وتهذيب الكمال 3/ 1532، وتهذيب التهذيب 11/ 325، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 169.

(4)

شعيب بن أبي حَمْزة الأُمَوي، مولاهم، أبو بشر الحِمْصي. أحد الأثبات المشاهير. عن: نافع وابن المُنْكَدِر والزُّهْرِي. وعنه: أبو إِسحاق الفزَاري وعُثْمان بن سَعِيد بن كثير وأبو اليمان. قال الفضل العلابي: عنده عن الزهري ألف وستمائة حديث. قال ابن معين: هو من أثبت =

ص: 455

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أسلم وعنده عشرة نسوة

الحديث.

قال: وإِنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلًا من "ثقيف" طلق نساءه فقال له عمر: "لتراجعهنّ أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال"

(1)

.

وقال أبو حاتم: معمر بن راشد صالح الحديث، وما حدث بـ "البصرة" فيه أغاليط، وهذا من جملة ما حدث به بـ "البصرة".

قلت: هذا حديث صحيح، ومعمر [ثِقَةٌ]

(2)

، وإِن كان فيما حدث به بـ "البصرة" غلط، فهذا ممَّا حدث به ولا غلط فيه؛ لأنه قد روى هكذا موصولًا عن معمر، ورواه عنه جماعة غير بصريين: سفيان، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي

(3)

، وعيسى بن يونس

(4)

، وهم كوفيّون.

= الناس في الزهري. مات سنة 163 هـ. ينظر: الثقات 6/ 438، وتهذيب الكمال 2/ 585، وتهذيب التهذيب 4/ 351، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 222، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 450.

(1)

أبو رغال - بكسر الراء - هو أبو ثقيف، رجل من ثمود، كان دليلًا للحبشة حين توجهوا إِلى مكة، فأصابته النقمة فمات في الطريق، فرجمت قبره العرب، انظر: مادة رغل في الصحاح 4/ 171، وتحفة الأحوذي 4/ 279، وإِتحاف الوردي 1/ 25.

(2)

في أ: معه.

(3)

عبد الرحمن بن محمد بن زياد المُحَاربي، أبو محمد الكوفي. عن: الأعمش ومحمد بن سُوقة. وعنه: أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وأبو سعيد الأشجّ. وثقه ابن معين والنسائي. ينظر: الثقات 7/ 92، ولسان الميزان 7/ 284، وميزان الاعتدال 2/ 585، وتاريخ البخاري الكبير 5/ 347، وتهذيب الكمال 2/ 815، وتهذيب التهذيب 6/ 265، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 151.

(4)

عيسى بن يونس بن أبي إِسحاق السبيعي، أبو عمرو الكوفي، أحد الأعلام، وثقه أبو حاتم. وقال ابن المديني: بخ بخ، ثقة ومأمون، جاء يومًا إِلى ابن عيينة فقال: مرحبًا بالفقيه ابن الفقيه ابن الفقيه. مات سنة 191 هـ. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 1086، وتهذيب التهذيب 8/ 237 (439)، والكاشف 2/ 372، وتاريخ البخاري الكبير 6/ 406، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 323، ولسان الميزان 7/ 333، وميزان الاعتدال 3/ 328، والبداية والنهاية 10/ 201.

ص: 456

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والفضل بن موسى الشَّيْبَاني، وهو خراساني.

ولو سلّمنا أن رفعه غير صحيح، فلا يشكّ أحد في حجّته مرسلًا، كما رواه عبد الرَّزاق

(1)

فأرسله، وكذلك مالك عن الزهري وغيرهم، والكُلّ أرسلوا، وفي لفظهم الاختيار.

فإِن قلت: فأنتم لا تقولون بالمراسيل؟

قلت: نحن نقول به إِذا اشتد من جهة أخرى، وهذا مسند من جهة أخرى كما عرفت.

وإذا قال به أكثر أهل العلم، وهذا كذلك.

قال الترمذي: العمل على حديث غيلان عند أصحابنا منهم: الشَّافعي، وأحمد، وإِسحاق.

قلت: ووجدت لحديث معمر شاهدًا قويًّا في الدَّارقطني.

الدَّارَقُطْني: حَدَّثنا محمد بن نوح الجنديسابوري، حَدَّثنا عبد القدوس بن محمد

(2)

وحَدَّثنا مخلد، حَدَّثنا جعفر بن عمر بن زيد قالا: حدثنا سيف بن عبيد الله

(1)

عبد الرَّزاق بن همام بن نافع الحميري، أبو بكر الصنعاني، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ. قال أحمد: من سمع منه بعدما ذهب بصره فهو ضعيف السماع. وقال ابن عدي: رحل إِليه أئمة المسلمين وثقاتهم، ولم نر بحديثه بأسًا إِلا أنهم نسبوه إِلى التشيع. وقال أحمد: لم أسمع منه شيئًا، لكنه رجل يعجبه أخبار الناس. مات سنة 211 هـ عن 85 سنة. ينظر: تاريخ البخاري الكبير 6/ 130، والجرح والتعديل 6/ 204، وميزان الاعتدال 2/ 609، ولسان الميزان 7/ 287، وسير الأعلام 9/ 563، والثقات 8/ 412، وتهذيب الكمال 2/ 829، وتهذيب التهذيب 6/ 310، وخلاصة التهذيب 2/ 161، والبداية والنهاية 10/ 265.

(2)

عبد القُدُّوس بن محمد بن عبد الكبير بن شُعيب بن الحَبْحاب الأزدي، أبو بكر البصري. عن: عمه صالح وَحَجَّاج بن منهال وطائفة. وعنه: البخاري والترمذي وابن ماجة والنسائي. وثقه النسائي. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 847، وتهذيب التهذيب 6/ 370، وتقريب التهذيب 1/ 515 (1275)، والكاشف 2/ 205، والجرح والتعديل 6/ 302، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 172.

ص: 457

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الجرمي

(1)

، حدثنا سرار بن مجشر

(2)

، عن أيوب، عن نافع، وسالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن غيلان الثقفي أسلم، وعنده عشر نسوة، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يمسك منهن أربعًا زاد ابن نوح: فأسلم وأسلمن معه.

وسرار وسيف بن عبيد الله كلاهما ثِقَةٌ.

واحتج الشَّافعي أيضًا بحديث: فيروز الدَّيلمي المذكور في الكتاب، فإِنه أسلم وتحته أُخْتَان، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ"، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.

ولحديث نوفل بن معاوية

(3)

قال: أسلمت تحتي خمس نسوة، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

سيْف بن عُبَيْد الله الجَرْمِي، أبو الحسن السرَّاج، عن الأسْوَد بن شَيْبَان.

وعنه: عمرو بن علي وعمرو بن يزيد الجَرْمِي، ووثقه. ينظر: الثقات 8/ 300، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 172، والكاشف 1/ 415، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 436، وتقريب التهذيب 1/ 344، وتهذيب التهذيب 4/ 295، وتهذيب الكمال 1/ 566.

(2)

سرار بن مجشر بن قبيصة العنزي، ويقال العنبري، أبو عبيدة البصري، روى عن: أيوب وابن أبي عروبة وعطاء السلمي وخلق. وعنه: الجرمي ومحمد بن محبوب والحلبي وغيرهم. قال الآجري عن أبي داود: سرار ثقة. قال النسائي والدارقطني: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. مات في ربيع الآخر سنة 165 هـ. ينظر: تهذيب الكمال 1/ 466، وتهذيب التهذيب 3/ 455، وتقريب التهذيب 1/ 284، والكاشف 1/ 348، وتاريخ البخارى الكبير 4/ 215، والجرح والتعديل 4/ 1421، والثقات 8/ 305، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 437.

(3)

نوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر بن نفائة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة الكناني ثم الدئلي .. نسبه ابن الكلبي، قال ابن شاهين: أسلم في الفتح وحج مع أبي بكر سنة تسع، ومع النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة عشر، وكان قد بلغ المائة. وقال أبو عمر: كان ممن عاش في الجاهلية ستين وفي الإِسلام ستين.

وقال أبو أحمد السكري: كان أبوه يوم الفجار رئيس الدئل، وله في ذلك قصة، وأسلم ولده نوفل، وشهد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فتح مكة ثم نزل المدينة ومات بها، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وروى عنه عراك بن مالك وعبد الرحمن بن مطيع وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث، وحديثه في البخاري ومسلم والنسائي وقال الواقدي وأبو حاتم الرازي وابن شاهين وأبو عمر وأبو حاتم بن حبان: مات في خلافة يزيد بن معاوية. ينظر: تهذيب الكمال 3/ 1428، وتهذيب التهذيب 10/ 492 (884)، وتقريب التهذيب 2/ 309، والخلاصة 3/ 103، والثقات 3/ 416، وتجريد أسماء الصحابة 2/ 115.

ص: 458

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فقال: "فَارِقْ وَاحِدَةً، وَأَمْسْكِ أَرْبَعًا"، فعمدت إِلى أقدمهن عندي عاقر منذ سنين، ففارقتها

(1)

.

إِذا عرفت هذا فنقول: وجه الاحتجاج من وجهين:

أحدهما: العبارة المحفوظة عن الشَّافعي أن ترك الاستفصال في حكاية الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المَقَالِ.

وهذا واضح لا خفاء به، فإِنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هل [تزوجهن]

(2)

معًا، أو على التعاقب؟ فلولا أن الحكم يعم الحالتين لما أطلق؛ إِذ كان مطلقًا في موضع التفصيل.

وما يقال عليه: جاز أن يكون عليه السلام علم الحال، يأتي جوابه في [غضون]

(3)

الكلام.

والثَّاني: وهو ما في الكتاب أن ظاهر قوله: "أَمْسِكْ" يقتضي جواز إِمساك أيَّة أربع شاء، فتخصيص الأول عدول عن الظاهر، وهذا على لفظ "أمسك".

وأما على لفظ "اختر" وهو الشهير، فهو صريح في رأينا؛ إِذ تفويض الخِيَرَةِ إِليه مع الاحتجار عليه في محلّ واحد غير معقول؛ فمخصص الأوائل مخالف لظاهر "أمسك" ولنص "اختر" الوارد في الأحاديث الَّتي ذكرناها.

فإِذن قول الخصوم: "إِنه أراد الأوائل" مدفوع بالنص والظاهر.

وعُمْدَةُ الخصوم في الكلام على الحديث أنه أراد بقوله: "أمسك"، أن يمسكهن ويجدد العقد عليهن على موجب الشَّرع.

جعل حذّاقهم هذا هو العُمْدة لاندفاع التأويل الأول بما ذكرناه.

وهذا أيضًا يدرؤه وجوه:

(1)

أخرجه الشَّافعي في المسند 2/ 16 (44) والبيهقي في السنن 7/ 184.

(2)

في أ، ب: زوجهن.

(3)

في أ، ب: عصفور.

ص: 459

وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ فِي: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، أَيْ: إِطْعَامُ طَعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؛ لأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفعُ الْحَاجَةِ، وَحَاجَةُ سِتِّينَ كَحَاجَةِ وَاحِدٍ فِي سِتِّينَ يَوْمًا؛ فَجُعِلَ الْمَعْدُومُ مَذْكُورًا، وَالْمَذْكُورُ عَدَمًا مَعَ إِمْكَانِ قَصْدِهِ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَبَرَكَتِهِمْ وتَضَافُرِ قُلُوبِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ لِلْمُحْسِنِ.

أحدها: أنه يخالف ظاهر لفظ الإِمساك؛ لأن مقتضاه الاستمرار واستصحاب الحال لا التجديد.

والثَّاني: أنه فوض الإِمساك والفراق إِلى الزوج، ولو كان المراد الإِنكاح وعدمه لما كان ذلك؛ إِذ رضا الزوج لا يحصل النكاح، بل لا بد من رضا الزوجة أو وليها، والفراق حاصل بنفس الإِسلام عندهم.

والثالث: لو كان المراد منه ابتداء النِّكَاح لذكر له شرائط النِّكَاح، وإِلَّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

والرابع: أنه لم ينقل تجديد عقود النِّكَاح قطّ كما ذكر في الكتاب، بل نقلت النقلة الحكايات نقل مَنْ لا يستريب في أنهم استمرُّوا في الإِسلام على مناكحاتهم القديمة.

والخامس: أن نكاح الابتداء لا يختصّ بهنّ، بل جوازه سائغ في نساء العالم، وهذه أوجه لائحة لا خفاء بها.

وذكرت أوجه أخر ضربت عنها لاحتمالها التشكيك.

وأما هذه فظواهر، وإِن بحث باحث في واحد منها، وأثبت له معنى لم يدرأ كلها.

ثم يقول: إِنْ جحد مُعَاند اقتضاء ذكرناه إِلى الغرض أيضًا لم يجحد ظهوره، وعليه الظن في صفو قصد الشَّارع إِلى ما قررناه، والظهور كافٍ في الحكم على مُقَابله بالبعد، وهذا ضرب من تأويلاتهم البعيدة.

الشرح: "ومنها قولهم" في قوله تعالى: " {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} " أي: إِطْعَام طعام ستين مسكينًا".

قالوا: "لأن المقصود رفع الحاجة، وحاجة ستين" مسكينًا في يوم واحد "كحاجة واحد في ستين يومًا"، فاستويا في الحكم. "فجعل" في هذا التأويل "المعدوم" وهو طعام

ص: 460

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"مذكورًا"؛ [ليصح]

(1)

كونه مفعولًا لإِطعامٍ، و"المذكور" وهو ستين مسكينًا، "عدمًا"، مع صلاحيته لأن يكون مفعولًا لـ"إِطعام".

و"مع" ظهوره معنى من جهة "إِمكان قصده"، أي: قصد العدد، "لفضل الجماعة وبركتهم وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن"، وهذه معان لائحة، ولا توجد في الواحد.

واعلم أنه لا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود على أصله بالإِبطال.

ويجوز أن يستنبط منه معنى يعود بالتعميم، كاستنباط ما يشوش الفكر من قوله عليه السلام:"لا يَقْضِي القَاضي وَهُوَ غَضبَانُ"

(2)

، وغالب الأقيسة.

وهل يجوز أن يستنبط منه معنى يخصصه؟

فيه قولان:

إِذا عرفت هذا، وَضحَ لك بطلان تأويلهم؛ لأنه مبني على أن المعنى: إِطعام طعام ستين، وأنه حذف المضاف، وأقيم المضاف إِليه مقامه؛ لأنَّ المقصود دفع الحاجة.

ووجه بطلانه: أن هذه العلّة مستنبطة من قوله: فإِطعام ستّين، وهي رافعةٌ لاعتبار العدد الذي هو حكم الأصل، فكانت مبطلة له.

ثم هذا على تقدير تسليم أن المقصود دفع حاجة المسكين.

(1)

في جـ: الصحيح.

(2)

أخرجه البخاري كتاب الأحكام: باب هل يقضي الحاكم أو يفتى وهو غضبان، ومسلم (3/ 1342 - 1343) كتاب الأقضية: باب قضاء القاضي وهو غضبان، وأبو داود، كتاب، الأقضية: باب القاضي يقضي وهو غضبان (3589) والترمذي (3/ 620) أبواب الأحكام: باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان (1334) والنسائي (8/ 23) كتاب آداب القضاء: باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يتجنبه، وابن ماجة (2/ 776) كتاب الأحكام: باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان (2316) والبيهقي (10/ 105) والطيالسي (860) وأحمد (5/ 36، 46، 52) وابن الجارود (997) من حديث أبي بكرة مرفوعًا.

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ولفط ابن ماجة: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان.

ص: 461

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والحق: أن المقصود دفع حاجة ستّين مسكينًا، لا مسكين واحد ستّين يومًا لما عرفت.

وما يقولون من "أن دعاء مسكين واحد في ستّين وقتًا أسرع للحاجة" من فضول الكلام؛ فإِن عدد الدَّاعين والشَّافعين أولى من تكرار الدعاء من الشفيع الواحد.

ولو سلم استواؤهما، فذلك إِن فرض أن المسكين يدعو ستّين دعوة، ومن أين لنا أن يفعل ذلك؟!

لا، ومن أين لنا أن الستين يدعون؟ لأنا نقول: العطاء وسد الخَلَّة قرينة في قيام داعية الدعاء، وقد نظرنا نحن وأنتم إِليها.

ولذلك قلنا: إِنَّ الستين يدعون.

وقلتم: إِنَّ الواحد يدعو، وإِن كان الدعاء قد لا يقع لا من السِّتين، ولا من الواحد ألبتّة.

ثُمَّ الواحد إِذا أعطى ستّين مرة يتقاصر داعيته في العطاء الثاني، والثالث، وهلمّ جَرًّا عن الدعاء، وهذا ما لا مراء فيه؛ فإِن العطيّة الأولى أنجح في قيام الدَّاعية، ويتلوها الثَّانية، وهكذا، ولا كذلك عطاء ستّين نفسًا؛ لأن العَطَاء بالنسبة إِلى كلّ منهم أول عطاء، فتقوم عنده الداعية.

ولو سلّم الاستواء من كلّ وجه، فذلك حيث لا يكون صَرَاحة تدفع أحد الأمرين.

واللَّفظ صريح في ستّين مسكينًا، فلماذا يخرج عنه؟

ثم قال أئمتنا في إِفحامهم: لا يخفى على من شَذَا طرفًا من العربية أن ما تعدّى إِلى مفعولين، وإِفراد أحدهما بالذكر أن الإِفراد دليل الاهتمام به، فإِذا قلت: أطعمت زيدًا، ولم تذكر ما أطعمته دلّ على اهتمامك إِنما هو بأصل إِطعامه، لا بما أطعمته.

وإِن قلت: أطعمت البُرّ مثلًا ولم تذكر من أطعمت دلّ على أن اهتمامك إِنما هو بِمَا أطعمت لا بِمَنْ أطعمت.

وإِن أنت اهتممت بالأمرين جميعًا أبرزتهما معًا فقلت: أطعمت زيدًا البُرّ.

ومن هذا قوله: ستّين مسكينًا، ولم يقل: ستّين مسكينًا مُدًّا، وذلك آية أن المقصود

ص: 462

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأعظم إِطعام هذا العدد من المَسَاكين، لا المعدود من الأمداد. هذا ما ذكره أصحابنا، وأطنب فيه إِمام الحرمين.

وقد انتصر أبو عبد الله المَازِرِيّ للحنفية، وإِن كان لا يوافقهم في حكم المسألة بوجهين: فقهي، ونحوي.

أما الفقهي: فقال ما حاصله: لا يلزم من مذهبهم إِبطال النص إِلَّا لو جوزوا إِعطاء المسكين الواحد ستّين مُدًّا في يوم واحد، والقوم لا يقولون ذلك، بل يراعون صورة العَدَد، ويشترطون في تكرير ذلك على المسكين الواحد تكرر الأيّام، فرأَوا أن الله - تعالى - أمر بإِطعام ستّين مسكينًا؛ ولم يعين مسكينًا من مسكين، ولا خلاف أن المساكين لم يعينوا، وأطعم مسكينًا آخر، فإِذا انتهى به التَّكْرَار إِلى ستّين يومًا صار مطعمًا ستين مسكينًا، لكون هذا المسكين كلّ يوم من جملة المساكين، فإِذا لم يخلوا بصورة العدد المنصوص لم يكونوا مُعَطّلين للنص.

وأما النحوي، فذكر أن سيبويه قال: إِنّ المصدر يقدر بـ "مَا" وبـ "أَنْ"، فإِذا قدّرنا المصدر هنا، وهو الإِطعام بمعنى "مَا" اقتضى ذلك ما قالته الحنفيّة، ويكون التقدير: فَمَنْ لم يستطع فما يطعم ستّين مسكينًا.

وإِن قدّر بـ "أن" كان التقدير: فعليه أن يطعم ستين مسكينًا، وهذا التقدير الآخر يخرج إِلى ما لا يريد.

فقال: فقد زاحمنا أبَا المَعَالي - يعني: إِمام الحرمين - فيما تعلّق به من صناعة النحو.

وذكرنا أن لأبي حنيفة متعلقًا بها من وجه آخر ذكره الإِمام الأول فيها، وهو سيبويه.

قلت: أما الوجه الأول، فإِنا نقول عليه: القوم وإِن لم يخلُّوا بصورة العدد، فقد أخلّوا بصورة المعدود، وهو الستون من المساكين.

وقولكم: ينجر إِلى إِطلاق "ستين" على مسكين واحد، ونحن نحاكمكم إِلى أهل اللسان؛ فإِنهم يأبون إِطلاق الستين على الواحد، سواء أعطى في ستين مسكين يومًا [أم لا]

(1)

، فقد عطلوا من النص لفظ الستين، وكل تأويل عطل النص أو شيئًا من النص، فهو

(1)

في ت: لم لا.

ص: 463

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مردود وإن كان لدليل، فما ظنك بتأويل لا دليل عليه؟

فإِنَّا قد بَيَّنا أن العدد يصلح أن يكون مقصودًا، واللفظ نص فيه، وغاية ما يتعلّقون به: معنى سد الخَلّة، وهو موجود مع العزم على أتم وجه، فإِذا كان ممكنًا مع مُرَاعاة العدد حصل المقصود مع الخلاص من عُروّ المخالفة.

هذا، وفي الكَفَّارات نوع من التعبّد، وهو العدد، فيكون التمسُّك باللَّفظ المحصل للمقصود من كلّ وجه أولى.

وأما الوجه الثَّاني: فالَّذي يقدر به المصدر العامل في مذهب سيبويه "أن" المشددة الناصبة لضمير الشأن، فمذهبه: تقدير الماضي بأنه فعل، والحاضر والمستقبل بأنه يفعل؛ لأن "يفعل" صالح للحال والاستقبال.

وقال جماعة منهم ابن عصفور: يقدر بـ"أن والفعل" و بـ "أن الَّتي خبرها فعل" ويعنون بذلك: أنه يقدر بـ"أن" والفعل في المستقبل والماضي، و بـ"أن" الَّتي خبرها فعل في الحاضر.

وقال الأكثرون: يقدر بأن فعل في الماضي، وتارة يفعل في المستقبل، وبما يفعل في الحاضر.

وزعم ابن مالك أن المصدر على أربعة أوجه:

أحدها: أن يقدر بـ "ما" والفعل.

والثاني: بـ "أن" والفعل.

والثالث: بـ"أن" المخففة من الثقيلة والفعل.

وذلك: في نحو: علمت ضربك زيدًا، فإِنه لا يمكن أن يقدر هنا: أن ضربت، ولا: أن تضرب؛ لأن "علم" وأخواتها من أفعال اليقين، إِنما قياسها أن ندخل على "أن" المؤكدة مشددة كانت مثل:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [سورة البقرة: الآية 187] أو مخففة نحو: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ} [سورة المزمل: الآية 20]، ولا يجوز: علمت أن يقوم، ولا يمكن أن يقدر: ما تضرب لأن "ما" والفعل لا يسدّان مسدّ المفعولين.

فلما تعذّرت التقديرات الثَّلاث عدل إِلى هذا التقدير؟

ص: 464

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والرابع: ألّا يقدر بشيء من هذه نحو: ضربي زيدًا قائمًا.

وأما نقل المَازِرِيّ عن سيبويه فخلاف المعروف من مذهبه، وقد يكون ذلك وقع في بعض كلامه في غير مظنته، فالناقل رجل كبير منتشر الأطراف، ولكني أرسلت سائلًا سأل الشيخ جمال الدين بن عبد الله بن هشام

(1)

رحمه الله عن هذا، وهو أعلم أهل هذه الأقاليم اليوم بالنحو فيما أظن، فقال: إِنه لا يعرفه في كلام سيبويه.

قال: وهذا التَّخَالف الواقع بين النَّحويين فيما يقدر به المصدر العامل لا يرجع إِلى اختلاف في المعنى، وإِنما هو اختلاف في التعبير لا غَيْر، وبتقدير صحّة أن مذهب سيبويه: التقديرُ بـ "أن" فليس ذلك في كلّ المواضع، بل ربّ مكان لا يتَّجه فيه "ما" وآخر بالعكس.

وبتقدير اتجاه "ما" هنا، فإِنما يصح كلامه لو كانت "ما" المقدرة بمنزلة "الذي" ليكون التقدير: فعليه ما يطعم ستّين مسكينًا، أي: الذي يطعم.

فأما إِذا كانت حرفًا مصدريًّا خلافًا للأخفش، وابن السراج

(2)

، فلا يصح ذلك قطعًا.

بل لا فرق بين الإِطعام، وما يطعم كما أنه لا فرق بين: بما كانوا يكذبون وقول القائل: بكونهم يكذبون.

فإِن قلت: فيتجه كلامه على قول أبي الحسن، وأبي بكر؟!

قلت: لا؛ لأنهما يريان أنها اسم واقع على الحديث، وبهذا الاعتبار سمياها

(1)

عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام، ولد بـ "مصر" سنة 708 هـ، من أئمة العربية. قال ابن خلدون: ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بـ "مصر" عالم بالعربية يقال له: ابن هشام، أنحى من سيبويه. من تصانيفه "مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب" وعمدة الطالب في تحقيق تصريف ابن الحاجب" و"الجامع الصغير" و"الجامع الكبير" وغيرها، وتوفي سنة 567 هـ بـ "مصر". ينظر: الأعلام 4/ 147، والدرر الكامنة 2/ 308، والنجوم الزاهرة 10/ 336.

(2)

طالب بن محمد بن قشيط، أبو أحمد، ويعرف بـ "ابن السراج". أديب، أخذ عن ابن الأنباري.

من مصنفاته: "مختصر في النحو "و "عيون الأخبار وفنون الأشعار". وتوفي سنة 401 هـ. ينظر: إِرشاد الأريب 4/ 274، والأعلام 3/ 218. والدرر 5/ 249، وهمع الهوامع 2/ 92.

ص: 465

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مصدرية؛ لأنها واقعة على المصدر، لا لأنها يسبك منها ما بعدها مصدر، كما هو قول الجماعة.

فمعنى قولك: أعجبني ما قمت: أعجبني الذي قمته، أي: القيام الذي قمته، فالتقدير حينئذٍ: فعليه الإِطعام الذي يطعم بالقيام به ستّين مسكينًا.

فتلخص من هذا أن المنقول عن سيبويه لا يعرف، وبتقدير صحّته لا يجدي على الحنفية شيئًا؛ إِذ لا فرق في المعنى بين أن يقوم، وما يقوم، والقيام.

وأنه لا يجوز أحد لا سييوبه ولا غيره تقدير "أن"، و"ما" في كلّ موضع، بل لكلّ منهما موضع، فقد ترامينا على أبي عبد الله، وضايقناه على مزاحمة سيد الجماعة أبي المعالي.

"فائدة"

في "التسهيل" في المصدر: الغالب إِن لم يكن بدلًا من اللَّفظ بفعله تقديره بعد "أن" المخففة أو المصدرية، أو "ما" أختها. انتهى.

وفي "شرح التسهيل" لشيخنا أبي حَيَّان: ليس التقدير دائمًا، ولكنه الغالب، ويقدر بـ "أَنْ" ماضيًا؛ مثل:[البسيط]

عَلِمْتُ بَسْطَكَ بِالمَعْرُوفِ خَيْرَ يَدٍ

فَلا أَرَى فِيكَ إِلَّا بَاسِطًا أَمَلا

(1)

وحالًا؛ مثل: [البسيط]

[وَ] لَوْ عَلِمَتْ إِيثَارِيَ الَّذِي هَوِيَتْ

مَا كُنْتُ مِنْهَا مُسْتَغْنِيًا عَلَى القُلُبِ

واستقبالًا؛ مثل: [الخفيف]

لَوْ عَلِمْنَا إِخْلافكُمْ عِدَةَ السِّلْـ

مِ عَدِمْتُمْ عَلَى النَّجَاةِ مُعِينًا

(2)

وبـ "ما" المصدرية ماضيًا مثل: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [سورة البقرة: الآية 200].

وحالًا مثل: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ} [سورة الروم: الآية 28].

(1)

البيت من [البسيط]، ينظر: الأشباه والنظائر 7/ 15، الدرر 1/ 213 مغنى اللبيب 2/ 345، المقاصد النحوية 1/ 387، همع الهوامع 1/ 65، شرح الأشموني 1/ 57،

(2)

البيت من [البسيط] ينظر: الدرر 5/ 249، همع الهوامع 2/ 92.

ص: 466

وَمِنْهَا: قَوْلُهُمْ: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ"، أَيْ: قِيمَةُ شَاةٍ؛ بِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَبْعَدُ؛ إِذْ يَلْزَمُ أَلَّا تَجِبَ الشَّاة، وَكُلُّ مَعْنى إِذَا اسْتُنْبِطَ مِنْ حُكْمٍ أَبْطَلَهُ - بَاطِلٌ.

ومضارعًا؛ مثل: [البسيط]

وَمَنْ يَمُتْ وَهْوَ لَمْ يُؤْمِنْ يُصَلَّ غَدًا

شُوَاظَ نَارٍ دَوَامَ النَّارِ فِي سَقَرَا

(1)

وفي "شرح الالفية" لابن المصنّف: يقدر بـ "أن" والفعل إِن كان ماضيًا، أو مستقبلًا، و بـ "بما" والفعل إِن كان حالًا؛ لأن فعل الحال لا يدخل عليه "أن". انتهى.

وقد يتصوّر أنه مخالف لما في "شرح التسهيل"، ويقال: كيف يقدر - إِذا كان حالًا - بـ "أن".

وجوابه - كما قال بـ "أن" جمال الدين بن هشام - أنه لا يقدر بـ "أن" الناصبة، بل بـ "أن" المخففة من الثقيلة؛ لأن الفعل السابق فعل علم، وهو قوله:

علمت

(2)

إِيثاري.

ويدل عليه نص "التسهيل" كما حكيناه.

وحيث قالوا: "أن" المخففة فمرادهم: المخففة من الثقيلة، لا "أن" المخففة وضعًا، ومراد بدر الدين:"أن" الخفيفة وضعًا، وهي الَّتي تُسَمَّى المصدرية، لا "أن" المخففة من الثقيلة، فلا اختلاف بينهما.

قال: والذي في "التسهيل" - كما رأيت - تقديره بـ "أن" المخففة، أو بـ "أن" المصدرية أو بـ "ما" المصدرية، لا التقدير بـ "أن" و"ما" فقط - كما ذكر بدر الدين ابن المصنّف، فإِنه لم يذكر في اللَّفظ إِلا شيئين فقط، وهو المشهور في كتب النّحويين.

قال: ويمكن أن يرجع إِلى كلام ابن مالك، وذلك بأن يحمل "أن" في كلامهم على أعم من المصدرية، والمخففة من الثقيلة. والله أعلم.

الشرح: "ومنها: قولهم" في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ" وهو حديث

(1)

في ت: سفيرًا.

(2)

في أ، ب: ما علمت.

ص: 467

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

صحيح، رواه البخاري من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه في كتاب "فريضة الصدقة".

ولفظه: "وَفِي صدَقَةِ الغنم في سائمتها إِذا كانت أربعين إِلى عشرين ومائة" الحديث.

وروى أبو داود، والترمذي، وحسّنه من حديث الزهري عن سالم عن أبيه: "وفِي الغَنَمِ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ

".

والحاصل: أن الأحاديث ناصّة على إِيجاب شَاةٍ في الأربعين، وهم جَوَّزُوا إِخراج القيمة، وقالوا: قوله عليه السلام: "فِي الغَنَمِ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ"

(1)

"أي: قيمة شاة بما تقدم" من أن المقصود دفع الحاجة سواء أكان بالشاة أم بالقيمة، "وهو أبعد" من التأويل السابق؛ "إِذ يلزم" منه:"ألَّا تجب الشاة"؛ لأنه إِذا وجبت القيمة لم تجب الشاة، فلا تكون مُجْزئة، وهي مجزئة بالاتفاق، فإِذا لم تجب الشاة كان هذا الاستنباط عائدًا على النَّص بالإِبطال، "وكلُّ معنى إِذا استنبط من حكم أبطله باطل" كما قدمناه؛ لأنه يوجب بطلان أصله المستلزم لبطلانه، فيلزم من صحّته اجتماع صحته وبطلانه، وهو [محال]

(2)

.

واعلم أن هذا التأويل والذي قبله مشتركان - على ما قاله طائفة من أصحابنا منهم المصنّف - في التَّأدية إِلى تعطيل اللَّفظ، وقد غلظ الشَّافعي رضي الله عنه القول على المؤولين بكلّ ما أدى إِلى تعطيل اللَّفظ، وسببه ما ذكرناه.

وقد ذكرنا ما يمكن الحنفية أن يدافعوا به عن أنفسهم في التأويل السابق، وأما في هذا الحديث، فللقوم أن يقولوا: إِنما يكون ما أوّلنا معطلًا لو لم نجوز إِخراج الشاة.

وأما إِذا جوزناه؛ فالتأويل حينئذٍ معمم، لا معطل كما قلتم في حديث:"وَلْيَسْتَنْج بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ"

(3)

: إِنه يجوز الاستنجاء بالخرق.

(1)

أخرجه أبو داود (1567)، والنسائي (1/ 336 - 338)، والحاكم (1/ 390 - 392)، وأحمد (1/ 11 - 12)، والبيهقي (4/ 86) من حديث أنس بن مالك مرفوعًا.

وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

(2)

في أ، ت: مخالف.

(3)

أخرجه أبو داود 1/ 3، كتاب الطَّهارة: بأنَّ كراهية استقبال القبلة (8)، وابن ماجة 1/ 114، كتاب الطَّهارة: باب الاستنجاء بالحجارة (313)، والنسائي 1/ 37، كتاب الطَّهارة: باب عن الاستطابة بالروث.

ص: 468

وَمِنْهَا: حَمْلُ "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذنِ وَليِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ" عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْأَمَةِ والْمُكَاتَبَةِ، وَ"بَاطِلٌ" أَيْ: يَئُولُ إِلَيهِ غَالِبًا؛ لاِعْتِرَاضِ الْوَلِيِّ؛ لأِنَّهَا مَالِكَةٌ لِبُضْعِهَا؛ فكَانَ كَبَيْعِ سِلْعَةٍ.

وقد عرف كلّ ذي نظر أنه يجوز أن يستنبط من النَّص معنى يعود عليه بالتعميم، كاستنباط ما يشوش الفكر من قوله عليه السلام:"لا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان"، وكغالب الأقيسة، فالحق عندنا أن ما ذهبوا إِليه مدفوع من جهة أن اللّفظ ظاهر في التَّعين، فلعلّ الشَّارع قصد مشاركة الفقير للغني في جنس ما يملك، ففي القصر على الشَّاة تحصيل مقصود الشَّارع من الخلاص من عذر المخالفة، وبأن الزكاة فيه بعيد، والإِضراب عَمَّا فعلوه حَقّ، وإِن كان لا يظهر أنه تعطيل، بل تأويل لا يعضده دليل.

الشرح: "ومنها: حمل" الحنفية ما حملوه فيما رواه أبو داود الطّيالسي

(1)

، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارقطني، من حديث سليمان بن موسى

(2)

، عن الزهري عن عروة عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ"

(3)

""[وَ] أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذنِ وَليِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ"، وإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلِيٌّ فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَلِيَّ لَهُ".

هذا لفظ الطّيالسي، وفي لفظ: إِنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنْكَحُ امْرَأَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَإِنْ

(1)

سليمان بن داود بن الجارود، مولى قريش، أبو داود الطَّيَالِسِي. ولد سنة 133 هـ. من كبار حفاظ الحديث، فارسي الأصل، كان يحدّث من حفظه، سُمع يقول: أسرد ثلاثين ألف حديث ولا فخر. من مصنفاته: "المسند" سكن "البصرة" وتوفي بها سنة 204 هـ. ينظر: تاريخ بغداد 9/ 24، والأعلام 3/ 125.

(2)

سليمان بن موسى الأموي، مولاهم، أبو أيوب، ويقال: أبو الربيع، ويقال: أبو هشام، الدمشقي، الأشدق، فقيه أهل الشام في زمانه. قال أبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أفقه منه ولا أثبت منه. قال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي: أحد الفقهاء، وليس بالقوي في الحديث. قال ابن عدي: فقيه، راوٍ، حدث عنه الثقات، وهو أحد علماء أهل الشام، وقد روى أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره، وهو عندي ثبت صدوق. توفي سنة 115 هـ. من شربة سقيها. ينظر: تهذيب الكمال 1/ 547، وخلاصة التهذيب 1/ 420، وتهذيب التهذيب 4/ 226، والثقات 6/ 379.

(3)

تقدم.

ص: 469

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نَكَحَتْ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ثلاث مرات، فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَليَّ لَهُ"، رواه البيهقي من حديث ابن عبد الحكم، عن ابن وهب، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى.

وفي لفظ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَاليها فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، وَلَهَا المَهْرُ بِمَا أَصَابَهَا" رواه الشافعي عن مسلم بن خالد، وعبد المجيد بن عبد العزيز

(1)

عن ابن جريج: أن سليمان بن موسى أخبره، فذكره.

وفي "المعجم الكبير" للطبراني من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَكُونُ نِكَاحٌ إِلَّا بِوَليٍّ وَشَاهِدَيْنِ وَمَهْرٍ مَا كَانَ قَل أَوْ كَثُرَ".

إذا عرفت هذا فنقول: جَهَابذة الحُفَّاظ على أن هذا حديث صحيح، وقد استدلّ به الشَّافعي على اشتراط الوليّ في النكاح.

وحمله الحنفية "على الصغيرة والأمة والمكاتبة" والكل لم يحملوه على الثلاث، بل اتفقوا على أصل التأويل، ثم تَشَعَّبت بهم الأنحاء، فحمله بعضهم على الصَّغيرة.

وردّ: بأن الصغيرة ليست امرأة في حكم اللِّسَان، كما ليس الصَّبي رجلًا، والتزموا سقوط التأويل على مذهبهم فإنَّ الصغيرة لو زوّجت نفسها انعقد عندهم صحيحًا موقوفًا نفاذه على إجازة الولي، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ"، ثم أكد البطلان بالتكرار ثلاثًا.

قال إمام الحرمين: وكان عليه السلام إذا أراد التأكيد أكّد ثلاثًا.

فعادوا وقالوا: "باطل أي: يئول إليه غالبًا"، وذلك أنه [يعود]

(2)

إلى البطلان؛

(1)

عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الأزدي، مولى المهلب، أبو عبد الحميد المكي. قال أحمد: ثقه، وكان فيه غلو في الإرجاء وكان يقول: هؤلاء الشكاك، وقال الدوري عن ابن معين: ثقة، وقال البخاري: كان يرى الإرجاء، كان الحميدي يتكلم فيه، وقال النسائي: ثقة: وقال في موضع آخر، ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث مرجئًا ضعيفًا وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار ويروى المناكير عن المشاهير؛ فاستحق الترك. ينظر: تهذيب الكمال 2/ 849، وتهذيب التهذيب 6/ 381، وتاريخ البخاري الكبير 6/ 112، وسير الأعلام 9/ 434، وخلاصة التهذيب 2/ 174، والكاشف 2/ 206.

(2)

في أ، ت، ج: يصير.

ص: 470

وَاعْتِرَاضُ الأوْليَاءَ: لِدَفْع نَقِيصَةٍ إِنْ كَانَتْ، فَأَبْطَلَ ظُهُورَ قَصْدِ التَّعْمِيمِ بِتَمْهِيدِ أَصْلٍ مَعَ ظُهُورِ "أَيٍّ" مُؤَكَّدَةً بِـ "مَا"، وَتَكْرِيرِ لَفْظِ الْبُطْلانِ، وَحَمْلُهُ علَى نَادِرٍ بَعِيْدٌ كَاللُّغَزِ مَعَ إِمْكَانِ قَصْدِهِ؛ لِمَنْعِ اسْتِقْلالِهَا فِيمَا يَلِيقُ بِمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ.

"لاعتراض الولي"، واستشهدوا بقوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر: الآية 30].

فقيل لهم: نكاحها يتردّد بين النفوذ والرد، فله حالتان؛ لأن الولي قد يختار الإمضاء، وقد يختار الرَّد، فليس المصير إلى البُطْلان فيه ضربة لازِب، فلا يسوغ والحالة هذه التعبير عن إحدى العاقبتين مع تجويز الأخرى، وإنما يعبر عما سيكون بالكائن فيما يكون لا مَحَالة، كالموت الذي إليه مصير كل زوج.

وحمله آخرون على الأمة، وزعموا: أنه لا يمتنع تسمية السيد وليًّا.

ورد بوجهين:

أحدهما: أن نكاحها موقوف كما ذكرنا في الصَّغيرة، ومنتهى الكلام فيه كما سبق.

والثّاني: أنه عليه السلام جعل لها المهر بما أصاب منها، ومهر الأمة لمولاها.

وزعم من يدعى الحذق والتحقيق من متأخريهم أنّ الحديث محمول على المكاتبة، وأراد التخلّص من المهر؛ فإن المكاتبة تستحقّه.

وإنما حمل القوم على ارتكاب هذا التعسُّف أنهم لم يستمكنوا من الإعراض عن الحديث صفحًا، ولا رضوا بأن ينقضوا عند سماعه ما مقدوه من أصل قياس، وهو ملك المرأة البالغة العاقلة أمر نفسها؛ "لأنها مالكة لبضعها، فكان" تزويجها نفسها "كبيع سلعة".

الشرح: قالوا: "اعتراض الأولياء"، لا لكونها غير مالكة لأمر نفسها، "بل لدفع نقيصة، إن كانت" عند تزويجها نفسها من غيرُ كفء.

واعلم أن معظم الفقهاء ذهبوا إلى أن هذا الصنف من التأويل مقبول لو عضده دليل، وأنه لا يعطل اللفظ.

وقال القاضي: هو مردود قطعًا، وعزا إلى الشافعي رضي الله عنه قائلًا: إنه عنى علو قدره لم تكن لتخفى عليه هذه الجهات للتأويلات، وقد رأى الاعتصام بحديث عائشة

ص: 471

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اعتصامًا بنص، وقدّمه على الأقيسة الجَلِية، وكان ذلك شاهدًا عدلًا في أنه لا [يرى]

(1)

التعليق بمثل هذه المَحَامل.

وذكر القاضي ما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أعم الألفاظ؛ إذ أدوات الشَّرط من أعم الصيغ، وأعمها "ما" و"أي"، فإذا فرض الجمع بينهما كان بالغًا في محاولة التعميم. انتهى.

أي "ما" لو تجرّدت وكانت شرطية كانت أيضًا من صيغ العموم، وقد أتى بها زائدة للتأكيد، فكانت مقوية لما تدل عليه أي من التعميم.

كذا فهمه المَازِرِيّ، وعليه جرى المصنف، وهو حق، ولم يرد أن "ما" المتصلة تأتي شرطية كما وهمه ابن الأنباري، ثم اعترض وقال: هذه غفلة عظيمة.

ووافقه ابن المُنير المالكي

(2)

في كتاب "الإنصاف"، ونسباه إلى إمام الحرمين، وهو في كلام القاضي، وإمام الحرمين ناقل له، ولكنه سكت عليه، ومعناه ما ذكرناه، فاعرف ذلك.

قال القاضي: ثم الصيغ ينكرها من ينكر أن للعموم صيغة إذا لم يكن هناك قرائن، وهنا قرائن لا نُكْران معها، ولا يذكر هذا اللَّفظ على هذه الصُّورة، ويريد المُكَاتبة والصغيرة، والأمة إلا من جانب الجد في كلامه.

وهذا لا يقع من المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الفصحاء، ولئن وقع فإنما يقع جوابًا عن سؤال، لا ابتداء حيث يقصد تأسيس قاعدة.

فإذا ابتدأ عليه السلام الذي إليه ابتداء الشرع بأمر الله - سبحانه - بهذا الكلام كان بالغًا في التعميم، وما ذكروه صور نادرة شاذّة، والشاذ - كما قال الشافعي - ينتحى بالنص عليه، ولا يراد على الخُصُوص بالصِّيغة العامة، لا سيما مع هذه القَرَائن ومع تكرير لفظ البُطلان ثلاثًا.

(1)

سقط في أ.

(2)

أحمد بن محمد بن منصور، ابن المُنَيِّر السَّكنْدَري، ولد سنة 620 هـ. من علماء الإسكندرية وأدبائها، ولي قضاءها وخطابتها مرتين، من تصانيفه:"تفسير" و"ديوان خطب" و"تفسير حديث الإسراء" و"الانتصاف من الكشاف".

توفي سنة 683 هـ. ينظر: فوات الوفيات 1/ 72، والأعلام 1/ 220.

ص: 472

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإلى هذا أشار يقوله: "فأبطل" بهذا التأويل "ظهور قصد التعميم" في: "أيما امرأة

" الحديث، "بتمهيد أصل" ابتدأه عليه السلام، وقاعدة أسسها "مع ظهور أي" في العموم؛ إذ هي من أظهر أدوات الشرط، وقد وقعت هنا "مؤكدة بـ "ما" كما في قوله تعالى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [سورة القصص: الآية 28].

ومع "تكرير لفظ البطلان، وحمله على النادر يعد كاللغز".

هذا، ولا حامل للقوم على هذا التعسّف العظيم "مع إمكان قصده" عليه السلام "لمنع" المرأة صغيرة كانت أو كبيرة حُرَّة أو مكاتبة من "استقلالها" بالتصرف "فيما" لا "يليق بمحاسن العَادَات" تصرف النساء فيه استقلالًا، وهو النكاح.

فإذن ليس الحديث خارجًا عن قانون القِيَاسِ حتى يرتكبون هذا التأويل، بل منعُ المرأة من الاستقلال بالنكاح حسن في العرف كما ذكرناه.

فإن قلت: أليس قوله: "أيما امرأة" عام، والمكاتبة والصغيرة والأمة بعض أفراده؟

وليس قصر العام على بعض أفراده من التَّأويل المردودة؟

قلت: إنما لا يكون مردودًا، إذا كان المقصور عليه غير شَاذّ.

وأما الشَّاذ فالقصر عليه مردود؛ لأنه يخرج الكلام عن الفصاحة.

قال القاضي والإمام وطبقات الأئمة: وقد سلَّم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الموافق والمخالف، أنه كان على النّهاية القصوى من الفَصَاحة، ولا ينكر هذا من عنده مُسْكَةٌ من عقل، والحمل على هذا يحط الكلام عن رتبة الفَصَاحة والجزالة.

فإن قلت: أليس يصح استثناء ما عدا الصورة الشَّاذة؟

قلت: قال الإمام: هذا من الطِّراز الأول؛ فإنا لا نجوز أن يصدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الاستثناء، بل قد منعه القاضي من غير النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف به عليه السلام؟

ثم إن ما ذكرتم قياس اللُّغة، فلا يسمع.

هذا حاصل ما ذكره أئمتنا في هذه المسألة.

واعلم أن لنا خلافًا في الصورة النَّادرة هل تدخل تحت العموم أولا؟ لأنها لا تخطر بالبال غالبًا، وبنى عليه اختلاف أصحابنا في المُسَابقة على الفيل.

ص: 473

وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ" عَلَى الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ؛ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ مِنْ صِحَّةِ الصِّيَامِ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ، فَجَعَلُوهُ كَاللُّغَزِ، فَإِنْ صَحَّ الْمَانِعُ مِنَ الظُّهُورِ، فَلْيُطْلَبْ أَقْرَبُ تَأْوِيلٍ.

فمن منع ذلك ادعى أنه لم يدخل تحت قوله عليه السلام: "لا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ نَصْل، أَوْ حَافِرٍ"

(1)

.

ومنع الشيخ أبو محمد المُصَلّي أن يدعو في صلاته بما لا يليق مخاطبة الرب به من طلب جارية حسناء، ونحو ذلك، وادّعى أنه لم يدخل تحت عموم قوله عليه السلام:"وَلْيَتَخَيَّرْ مِنَ المَسْأَلَةِ مَا شَاءَ".

قلت: وقد يستشهد لعدم دخول الصورة النَّادرة بقول الشَّافعي: الشاذ: ينتحى بالنص عليه، ولا يراد على الخصوص بالصيغة العامة.

وقد قال الشيخ صدر الدين بن المُرَحّل: الخلاف في الصّورة النادرة هل تدخل: لا يبين لي في كلام الله - تعالى - فإنه لا يخفى عليه خافية؛ فكيف يقال: لا يخطر بالبال؟

قلت: وجوابه: أن المراد عدم الخُطُور ببال العَرَبِ في مخاطباتها، فإذا كانت عوائدهم إطْلاق العام في كلام الباري تعالى، قلنا: إنه - تعالى - لم يرد تلك الصُّورة؛ لأنه أنزل كتابه على أسلوب العرب في مُحَاوراتها وعاداتها في الخطاب.

فافهم ذلك، واعرف أن كلامنا مع الحنفية إنما هو على تقدير دخول الصُّورة النادرة.

وأما إن قلنا بعدم دخولها، فيسقط ما يتعلّقون به جملة وتفصيلًا.

الشرح: "ومنها حملهم" ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا صيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل"، "على" صوم "القضاء والنَّذْر".

وهو حديث جيد رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة من حديث الزهري، ولفظهم:"مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلا صيَامَ لَهُ".

(1)

أخرجه أبو داود 3/ 29، في الجهاد: باب في السبق (2574)، والترمذي 4/ 178، كتاب الجهاد: باب ما جاء في الرهان والسبق (1700)، والنسائي 6/ 226، في الخيل: باب السبق (3585).

ص: 474

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ورواه النسائي أيضًا من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر من قوله، قال الترمذي: وهو أصح.

قال البيهقي: اختلف عن الزهري في إسناده، وفي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: وممن صحّح وقفه: أبو حاتم الرازي، والنسائي، ولكن رواه الدارقطني مرفوعًا من حديث عمر، عن عائشة رضي الله عنها، وقال: رجال إسناده كلهم ثقات.

إذا عرفت هذا فنقول: حمله الحنفية على ما ذكرناه؛ "لما ثبت عندهم من صحّة الصيام بنيّة من النهار، فجعلوه كاللغز"؛ إذ حملوه على النَّادِر مع اشتماله على صيغة العموم بنكرة مبنية على الفَتْحِ في سياق النَّفْي، وأنه مبتدأ قاعدة من الشَّارح كما سبق سواء.

"فإن صح" لهم "المانع من الظُّهور"، وهو ما زعموه دليلًا على صِحّة الصيام بنيّة من النهار، "فليطلب أقرب تأويل" مثل: نفي الكمال؛ فإنّ الحمل عليه وإن كان مردودًا، ولكنه كما قال إمام الحرمين: أقرب من التأويل السّابق، وأقرب أيضًا كما قاله الإمام مما قاله الطَّحَاوي

(1)

وتبجح به من أن المراد: النهي عن الاكتفاء بنية صوم الغَدِ في بياض نهار اليوم، بل عليه أن [يؤخر]

(2)

النية إلى غيبوبة الشَّمْسِ حتى يكون بإيقاع النية في الليلة مبيتًا.

وزعم أن هذا التأويل يجري في جميع أنواع الصوم فرضها ونفلها.

وقال الإمام: وهو كلام غثّ لا أصل له، وهو يحط من رتبة الطَّحَاوي.

قلت: وحاصله أن من لم يبيت عام في الذين لا يُبيِّتون، وهم أضرب:

(1)

أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة، الأزدي، الطحاوي، أبو جعفر، مولده سنة 239 هـ في "طحا"(من صعيد مصر) والتي نشأ فيها أيضًا. فقيه، انتهت إليه رياسة الحنفية بـ "مصر"، تفقه على مذهب الشافعي ثم تحول حنفيًّا، وهو ابن أخت المزني. من تصانيفه:"شرح معاني الآثار" و"بيان السنة" و"مشكل الآثار" وغيرها. توفي سنة 321 هـ. ينظر: البداية والنهاية 11/ 174، ولسان الميزان 1/ 274، والجواهر المضيَّة 1/ 102، واللباب 2/ 82، والأعلام 1/ 206.

(2)

في ج: يوجد.

ص: 475

ومِنْهَا: حَمْلُهُمْ لِذِي الْقُرْبَى" [سورة الأنفال: الآية 41] عَلَى الْفُقَرَاء مِنْهُمُ؛ لأَنَّ المَقْصُودَ سَدُّ الْخلَّةِ، وَلَا خَلَّةَ مَعَ الْغِنَى فَعَطَّلُوا لَفْطَ الْعُمُومِ مَعَ ظُهُورِ أَنَّ الْقَرَابَةَ سَبَبُ الاِسْتِحْقَاقِ مَعَ الْغِنَى.

وَعَدَّ بَعْضُهُمْ حَمْلَ مَالِكٍ رحمه الله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ

} إِلَى آخِرِهَا؛ عَلَى بَيَانِ الْمَصْرِفِ مِنْ ذَلِكِ، وَلَيْسَ مِنْهُ؛ لأِنَّ سِيَاقَ الآيَةِ قَبْلهَا مِنَ الرَّدِّ عَلَى لَمْزِهِمْ فِي الْمُعْطِينَ، وَرِضَاهُمْ فِي إعْطَائِهِمْ، وَسَخَطِهِمْ فِي مَنْعِهِمْ - يَدُلُّ عَلَيْهِ.

الأول: من أضرب عن النية بالكلية.

والثاني: من قدم النية على الليل، فنوى قبل غيبوبة الشمس.

الثالث: من أخرها عن الليل، فأوقعها في النَّهَار، وظاهر العموم يقتضي بطلان صوم الجميع.

فقال الطحاوي: يستقر العموم في قسمين: من لم يبيت أصلًا، ومن قدم النيَّة على الليل، ويخرج منه من أخر النية عن الليل، وأوقعها في نهار الصوم بناء على القياس على التَّطوع المنصوص عليه.

وقد رد إمام الحرمين هذا التأويلَ، وتأويل نفي الكمال أيضًا بما لا مزيد على حسنه.

الشرح: "ومنها: حملهم" قوله تعالى: " {وَلِذِي الْقُرْبَى} " في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [سورة الأنفال: الآية 41]"على الققراء منهم" دون الأغنياء.

قالوا: "لأن المقصود" من دفع الخمس إليهم "سد الخَلّة، ولا خَلّة مع الغنى".

"فعطلوا لفظ العموم مع ظهور أن القَرَابَة سبب الاستحقاق مع الغنى"؛ فإنها مناسبة قارنها الفقر أم لا، فالحاصل أنه - تعالى - علَّق الاستحقاق بالقَرَابَةِ، ولم يتعرض لذكر الحاجة، وهي مناسبة مع ذلك.

فاعتبروا الحاجة، ولم يشترطوا القرابة.

وقال الغزالي: إن جعلوا الأمر دائرًا مع الحاجة وجودًا وعدمًا حتى يعطى كل

ص: 476

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

محتاج، وإن لم يكن قريبًا، ولا يعطى أحد من الأقرباء إلَّا عند الحاجة، وهو عندنا سَرَفٌ وتعطيل للفظ القرابة، مع أنه منصوص، والمعنى يعضّده كما ذكرناه.

وإن قالوا: لا يعطى إلَّا القريب، ولكنّا نشترط فيه الحاجة، وهذا ليس ببعيد.

وقد صرح إمام الحرمين: بأنه قريب، وعليه ينبغي أن ينزل كلام الغزالي، كما فعله الشَّافعي على أحد القولين في اعتبار الحاجة مع اليتم في سياق هذه الآية. انتهى.

قلت: وهو على قربه والحالة هذه يتنازل عما فعل الشَّافعي في اليتامى من وجهين:

أحدهما: أنه زاده على النص كتقييد الرقبة بالإيمان، وأبو حنيفة يراها نسخًا، والنسخ لا يكون بالأقيسة والمعاني.

وأما الشَّافعي فلا معترض عليه؛ إذ لا يرى الزيادة نسخًا.

والثاني: إنما نمانعه من مساعدة المعنى له ونقول: لفظ اليتم مع قرينة إعطاء المال مشعر بالحاجة، فاعتبارها يكون اعتبارًا لما دَلّ عليه لفظ الآية، فاليتم إذا تجرد عن الحاجة غير صالح للتعليل، بخلاف القرابة فمجردها مناسبة للإكرام باستحقاق خمس الخمس.

"[وعدّ]

(1)

بعضهم حمل مالك": "{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [سورة التوبة: الآية 60]"إلى آخرها على بيان المصرف"، دون إرادة استيعاب الأصناف بالعطاء، وقوله كأن الرب - تعالى - قال: هذه جهات الضرف، وكل منها كافٍ "من ذلك"، أي عده بعضهم من التأويلات البعيدة، وهذا منقولٌ عن الشَّافعي رضي الله عنه.

وهو عندنا صواب، والمقتصر على الإعطاء لصنف واحد معطّل لا مؤوّل.

وذكر إمام الحرمين في تقرير ذلك ما حاصله: أن الآية اشتملت على عد ثمانية أصناف عطف بعضهم على بعض بحرف "الواو "التي هي للجمع والتَّشْرِيك، وأكد هذا المعنى بقوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} واللام تفيد التمليك، فإذا دخلت في قوله:"للفقراء" وعطف على ذلك ما ذكره بعده بحرف "الواو" وجب اشتراك الجميع في ملك هذا المال الذي هو الصَّدقة.

وأوضح الشَّافعي هذا بالوصية؛ فإن الموصى إذا قال: ثلث مالي للفقراء، وفي

(1)

في أ: وعند.

ص: 477

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرقاب، وفي سبيل الله لا يصح صرف جميع ثلثه إلى واحد، وإذا تعين اعتبار لفظ الموصى، واعتقاده نضًا، فيجب تنزيل لفظ الكتاب العزيز على مثله.

قال إمام الحرمين: ولم يظن - يعني الشافعي - أن أحدًا يجز أن يقدم في مسألة الوصية على منع.

وقد أحدث بعض المتأخرين منعًا وقالوا: هي بمثابة الصدقات يجوز صرفها إلى واحد، وهو باطل قطعًا.

قلت: والمالكية لا يمنعون مسألة الوصية، فلا يشتغل بتقريرها.

قال الشَّافعي ما حاصله: ثم إن الحاجة ليست مرعيةً في بعض الأصناف المذكورين كالعاملين، فإنهم يأخذونها لا من جهة حاجتهم، وكالغارمين بسبب حمالة يحملونها لإصلاح ذات البَيْنِ فقط بطل التعويل على الحاجة.

واعلم أن المَازِرِيّ لم يرد هذا، بل أحال الكلام عليه في كتابه "شرح التلقين".

وقال الغزالي: ليس هو كذلك عندنا، بل هو معطوف على قوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ} [سورة التوبة: الآية 58]، وادعى أن منع الشَّافعي رضي الله عنه الحكم لقصور في الدَّليل، لا لانتفاء الاحتمال، وتبعه أبو الحسن الأنباري شيخ المصنف، وزاد في بسطه: لأنه مالكي.

وحاصل ما ذكره: أن "اللام" في قوله: للفقراء يحتمل أن تكون للملك، وأن تكون للأهلية والانتفاع، كما نقول؛ الجل

(1)

للفرس، فإن كان المراد الملك صح ما قاله الشافعي، وإلّا فلا؛ لاشتراك الكل في الأهلية وصحّة التصرف.

وهذا هو الذي نختاره.

فيخرج الكلام بهذا التقدير عن مرأى النصوص.

فأما أن نقول: إنه مشترك بين الجهتين، فيفتقر إلى البيان في الجانبين، فيكون كل واحد مفتقرًا إلى الدليل.

(1)

في أ، ت: الحبل.

ص: 478

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أو نسلّم ظهور ما قالوه، فتخرج المسألة عن تعطيل النصوص، ويكون من التأويلات المقبولة التي يحتاج من صار إليها إلى دليل يعضّده.

قلت: وهو يدور على منع [القضية]

(1)

.

ويقول: إنما خالفنا الظَّاهر لدليل.

فإن قيل: ما هو؟

قال: هذا عندنا راجع إلى ما سبق من قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [سورة التوبة: الآية 58].

إلى قوله: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [سورة التوبة: الآية 59]، فإنه - تعالى - ذمّهم على تعرضهم لها مع خلوهم عن شرط استحقاقها، ثم بَيّن تعالى من يستحق الصرف، وهو أهل له فقال: إِنِّمَا الصدقات

" الآية.

وإلى هذا أشار تلميذه صاحب الكتاب بقوله: "وليس منه" أي: من التأويلات البعيدة؛ "لأن سياق الآية قبلها من الرد على لَمْزِهم في المُعْطين، ورضاهم في إعطائهم، وسخطهم في منعهم يدل عليه" أي: على أن الغرض بيان المصرف.

ثم قال ابن الأنباري: وإذا تقرر هذا، فإن قيل لنا: إذا كان احتمالًا مساويًا على وجه أي: وهو جعله مشتركًا بين الجهتين مفتقرًا إلى البيان.

أو بعيدًا على وجه، وهو جعله ظاهرًا فيما ذكره الشافعي، فما الذي دلّكم على تعينه؟ ولم لم تقضوا بوجوب التعميم في الأصناف، أو التوقّف على ما يقتضيه كل واحد من الطريقين؟

قلنا: دلّنا على ذلك أمر كلي، وهو علمنا بأن الشَّارع قصد بأخذ هذه الأموال سَدَّ خَلّة ذوي الحاجات، وإذا كان كذلك، فلو تحتمت القسمة بين الأصناف على التساوي أفضى الأمر إلى تَبَعُّد في الصرف، فيخرج الأمر عن تعطيل النصوص، ويقع في قسم التأويل المقبول، أو التفسير المرضى.

قلت: أما منعه أن "اللام" للملك، فهذا راجع إلى نقل أهل اللغة، ثم نقول: هب أنها

(1)

في أ، ت، ج: النصية.

ص: 479

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

للانتفاع، أليس المراد انتفاع جميع الأصناف؟ [فينبغي]

(1)

تعميمهم، وهذا لا يفرق الأمر فيه بين كونها للملك، أو للانتفاع.

وهب أنه - تعالى - قال: إنما الانتفاع للثمانية، فلم تقتصر أنت على بعض قوله: هو راجع إلى ما سبق من قوله: "ومنهم من يلمزك"؟

قلنا: رجوعه واقع على التقديرين، ولكنه على - التقدير الذي نقوله أحسن وأبلغ، فكأنه تعالى يقول وَهُوَ أعلم بمراده: الذين يلمزونك مخطئون؛ لأنهم ليسوا واحدًا من هذه الأصناف، والصدقات لهذه الأصناف، فكيف يتعرضون لها؟

فإذا صحّ العود إليه مع ما يقوله، فلم يخرج عن ظاهر الكلام هذا، وهو مع ما يقول أحسن وأبلغ، وكأني بك تقول: قولك: "عن ظاهر الكلام" يقتضي تسليم أنه ليس بنصّ.

فأقول: ليعلم طالب التحقيق الحائد عن وَرطات التعصّب - أن الظواهر إذا احتفَّت بها قرائن لفظية كانت أو غير لفظية صَيّرتها نصوصًا.

وكل ما قدمنا ذِكْره في قوله: "لا نكاح"، "لا صيام"، و"لذي القربى"، وغير ذلك من هذا القبيل، فإذا اعتضد الظاهر عامًّا كان، أو حقيقة بالمعنى التحق بالنصوص، وهذا ظاهر يعضّده المعنى الذي يلمح في هذه الأصناف، ويقضى باستوائها كما ينسبك عنه الفقيه.

وقد تقرر أنك إذا ذكرت لفظًا عامًّا، فحمله على الاستغراق ظاهر، فإذا احتفت به قرائن التعميم كان أولى، فإذا حملته والحالة هذه على الخصوص كنت أبعد من حملك إياه عليه إذا لم يكن قرائن.

ثم الخصوص المحمول عليه إن كان كثيرًا غالبًا كان تأويلًا مقبولًا عند اعتضاده بالدليل، وإن كان نادرًا شاذًا قد لا يمرّ بالخاطر كان تعطيلًا مردودًا.

ولا يقال: أنتم لا تشترطون في العام إذا خصّ أن يكون الباقي جمعًا كثيرًا؛ لأنا لا نعني بالكثير الغالب هنا الكثير عددًا، بل الكثير وقوعًا والغالب وجودًا، بحيث يقرب أنه مما خطر بالبال عند ذكر لفظ العام، فافهم ذلك، وهو من أسرار هذا المكان، ونحن وإن خصّصنا هذا المكان بذكر هذه الزّبدة، وهي لا تختص به، بل تنفع في باب التأويل جميعه.

(1)

في ج: فيلغى.

ص: 480

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكذلك تقول إذا ذكرت لفظًا خاصًّا ذا حقيقة ومجاز كما إذا قلت: رأيتا أسدًا.

فإن عنيت الحيوان المفترس، كنت جاريًا على منهاج الحقائق.

وإن عنيت رجلًا هجومًا مقدامًا، فهذا سائغ لا ينافيه الحد، ولكنه تأويل يفتقر إلى دليل.

وإن عنيت رجلًا ذميمًا أو أبخر، لم يكن ذلك لفظًا منساغًا، وكان مريده مُلْغزًا.

وهذا عند إطلاقك: رأيت أسدًا، فما ظنك إذا احتفت بالقرائن الدَّالة على إرادة الحقيقة؟

فإذا كانت "اللَّام" للملك أو لانتفاع الكلّ ظاهرا، وعضد ذلك المعنى المقتضى الكل، ولم يَنُبْ عنه العَطْف على:"ومنهم من يلمزك"، بل كان معه أحسن صار نصًّا، والخارج عنه معطل لا مؤول.

وقوله: ما دلّك على التعيين؟

قلت: أمر كلي إلى آخره حاصله: إن تتم له أنه ذكر دليله على أن المرعى الحاجة، وذلك خروج عن فن الأصول؛ إذ هو من وظائف الفقه، وقد أجاد صاحب الكتاب حيث أهمله.

ونحن حيث ذكره هنا نشير إلى ردّه فنقول:

أولًا: هذا دليل يعارض هذه الآية لما تقرر من أنها نص، وهو عام وهي خاصة، فكانت أولى بالأغنياء.

ثم هذا على تقرير انتهاضه، والصواب أنه لا ينهض؛ فإنَّ الله - تعالى - كما راعى ذَوِي الحَوَائج راعى مَنْ يصلح ذات البَيْن، ومن يغرم، وكل من يعمل أمرًا يعود على المسلمين بمصلحة غنيًّا كان أو فقيرًا.

ثم لو سلم أن المراعي الحاجة، [فلم]

(1)

لم يجر على عمومها، بل دفعت إلى الغارم وإن لم يكن محتاجًا؟

(1)

في ج: فلو.

ص: 481

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله: لو تحتمت القسمة بين الأصناف على التساوي أفضى الأمر إلى [تبعد]

(1)

في الصرف، فإنه قد يتفق كثرة الفقراء وقلّة المال، وألَّا يوجد الغارمون، ولا الرّقاب، فلو صرف إلى الفقراء من ذلك المال الثمن، وأخر الثمن للغارمين إلى أن يوجدوا والفقراء هالكون بالجوع لم يكن ذلك لائقًا بحكمة الشَّريعة.

قلنا: مذهبنا: أنه إذا فقد صنف يوفر نصيبه على الباقين، وليس مذهبنا أن لكل صنف الثمن، بل إنما نعطي العامل أُجْرة عمله، فإن كان الثمن أكثر ردّ الفاضل على بقية الأصناف، وإن [كان]

(2)

أقل تمّم منها على الأصح.

وقيل: من خمس الخمس، ولا يزاد الرقاب والغارمون على ما عليهم، وكذا غيرهم.

وحاصله: أن التسوية عندنا غير واجبة، بل ولا جائزة، والأفضل أن يدفع إليهم على قدر حاجاتهم، وأن يسوي بينهم في ذلك.

فينبغي للمعترض أن يعرف مذهبنا قبل الاعتراض.

ثم نقول: لو سلم مسلم هذه الصورة التي ذكرها، وقلنا: إنها ليست مذهبنا، فمن أين له بقاء الفقراء الهالكين بالجوع؟

أليس من مذهبه ومذهبنا: أن الفقراء إذا لم تكفهم الزّكوات يجب على الأغنياء سَدُّ خلتهم؟

فلو عمل الأغنياء بما أمرهم الله - تعالى - به لم يعرف على وجه الأرض مَضْرُور.

وأما مسألة الوصية التي ألزم الشافعي بها الخصوم حيث راعوا لفظ الموصى، ولما يراعوا لفظ الكتاب العزيز، فلا نرى لمن يلتزمها جوابًا.

وحاول ابن الأنْبَاري الجواب عنها فقال: لَعَمْرِي إن النص بالوضع لا يختلف بالإضافة، بخلاف النص بالقرآن.

وقد بيّنا أن حرف "اللام" لا يقتضى تمليكًا، وإنما هو محتمل، فإذا دلّ دليل على انحسام أحد المعنيين تعين الثاني.

(1)

في أ، ت: تعبد.

(2)

سقط في ت.

ص: 482

‌مَبْحَثُ المَفْهُوم وَالمَنْطُوقِ

(1)

[الْمَنْطُوقُ وَ] الْمَفْهُومُ": الدَّلالَةُ: مَنْطُوقٌ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَالْمَفْهُومُ بِخِلافِهِ، أَي: لَا فِي مَحَل النُّطْقِ.

وَالأوَّلُ صَرِيحٌ، وَهُوَ مَا وُضِعَ اللَّفْظُ لَه، وَغَيْرُ الصَّرِيحِ بِخِلافِهِ، وَهُوَ مَا يَلْزَمُ فَإِنْ قُصِدَ وَتَوَقَّفَ الصِّدْقُ أَوِ الصِّحَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوِ الشَّرْعِيَّةُ عَلَيْهِ - فَدَلالَة اقْتِضَاءٍ؛ مِثْلُ:"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ"، وَ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [سورة يوسف: الآية 82]، وَ"أَعْتِقْ عَبَدَكَ عَلَى أَلْفٍ"؛ لاِسْتِدْعَائِهِ تَقْدِيرَ الْمِلْكِ؛ لِتَوَقُّفِ الْعِتْقِ عَلَيْهِ.

وقد دلّ الدليل في مسألة الموصى؛ لانحسام معنى الاستحقاق، وتحقق معنى التمليك.

قال: وإنما صورة مسألة الصدقات: أن تطلب من الإنسان أن يصرف شيئًا من ماله لمن لا ترتضى أحوالهم.

فنقول: ليس مالي لهذه الأصناف، وإنما مصرف مالى لأهل الفضل والدين والعلم، فهذا لا يقتضي تشريكًا ولا تمليكًا.

قلت: وهو ضعيف؛ فإنَّ دعوى انحسام أحد المعنيين في مسألة الوصية ممنوع؛ فإنّ الموصى تارةً يقصد تمليك الغير، وتارةً يقصد تمليك المنفعة، وضرورة الموصى له أحق بالانتفاع بها، وهذا مقرر في الفقهيات.

(1)

المفهوم: ما يفهم ويستفاد من اللفظ، اسم مفعول من الفهم بمعنى: العلم والمعرفة.

يقال: فهم الشيء يفهمه فَهْمًا وفَهَمًا وفهامَةً: علمه، وعرفه، وتفهم الكلام فهمه شيئًا بعد شيء.

والمنطوق: هو الملفوظ به اسم مفعول من النطق بمعنى التلفظ والتكلم يقال: نَطَقَ يَنْطِق نُطْقًا، ومَتطِقًا، ونطوقًا: تكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني، وناطقَهُ: كَلَّمَهُ وقاوَلَهُ.

ينظر: شرح العضد 2/ 171، والبرهان 1/ 449، والعدة 1/ 154، والإحكام للآمدي 3/ 62، وجمع الجوامع 1/ 240، والآبيات البينات 2/ 15، 23، وشرح الكوكب 3/ 480، 489، وروضة الناظر (138، 139)، وإرشاد الفحول (178 - 198)، وتيسير التحرير 1/ 91 - 98، وفواتح الرحموت 1/ 413 - 414، وشرح التنقيح (53)، والحدود للباجي (50)، نشر البنود 1/ 94 - 98، والمدخل (271).

ص: 483

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فكما يحتمل قوله: أوصيت بمالي لزبد قصد التَّمْليك يحتمل قصد الاختصاص بالمنفعة، ولكن التمليك أظهر؛ لأنه موضوع "اللام" كما ذكرناه نحن، أو لأنه أرجح محاملها وأظهرها.

فقد لاح أن معنى الانتفاع ليس مدفوعًا، ولا فرق بين قوله: أوصيت بمالي لزيد وعمرو وقوله لمن يسأله أن يصرف له شيئًا: إنما يصرف مالي للفقراء والعلماء.

فإن قامت قرينة هناك على أن المقصود الجهة فليست موجودة في الآية، وبالله التوفيق.

الشرح: "المفهوم": قد آن ينحاز الكلام على المنطوق، ونقدم الكلام عليه فنقول:"الدلالة" قسمان:

"منطوق: وهو

(1)

ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق"

(2)

، مثل تحريم التأفيف،

(1)

فـ "ما" في قوله: ما دل عليه اللفظ مصدرية، وليست اسمية واقعة على معنى، كما هو ظاهر العبارة، وإنما جعلوها مصدرية، وأخرجوها عن هذا الظاهر؛ ليكون كلامه اللاحق موافقًا لكلامه السابق، فإنه قسم الدلالة أولًا: إلى منطوق ومفهوم، ثم عرف المنطوق بأنه ما دل عليه اللفظ

إلخ، فيكون المنطوق، والمفهوم عنده قسمين للدلالة، والذي يصحح كون المنطوق على هذا التعريف قسمًا من الدلالة هو حمل (ما) على المصدرية كما تقدم، بخلاف حملها على الاسمية، وجعلها واقعة على معنى؛ فإنه يقتضي كون المنطوق قسمًا من المدلول لا من الدلالة؛ إذ يصير المعنى هكذا:

المنطوق معنى دل عليه اللفظ

إلخ، والفرض أنه قسم من الدلالة لا من المدلول، وإلا لزم مباينة المقسم للأقسام، والضمير في "عليه" راجع إلى المعنى المفهوم من سباق الكلام؛ لأن الدلالة تقتضي معنى مدلولًا عليه، وقوله: في محل النطق متعلق بمحذوف حال من ضمير (عليه) فكأنه قال: المنطوق دلالة اللفظ على معنى حالة كون ذلك المعنى ثابتًا في محل النطق أي لما نطق به، وذكر في الكلام، فالمراد بمحل النطق: المنطوق به، والمراد: بكون ذلك المعنى ثابتًا لمحل النطق كونه حكمًا له، وحالًا من أحواله، كما دل عليه تصويرهم؛ لكون المعنى في محل النطق، بقولهم: بأن يكون ذلك المعنى حكمًا للمذكور، وحالًا من أحواله، وهو قيد للتمييز بين المنطوق والمفهوم؛ لأن ذلك المعنى إن كان ثابتًا لما نطق به، فالدلالة عليه منطوق، وإن كان ثابتًا لغير ما نطق به، أي: لغير المذكور في الكلام، فالدلالة عليه مفهوم. فشرط تحقق المنطوق أي: شرط كون السنة منطوقًا هو ذكر ماله الحكم لا ذكر الحكم نفسه، بل الحكم تارة يكون مذكورًا، وتارة يكون غير مذكور، كما دَلَّ عليه قولهم في بيان المعنى الإجمالي للتعريف، سواء ذكر ذلك الحكم أولا.

(2)

والمراد: أن المنطوق في اصطلاح الأصوليين عبارة عن دلالة اللفظ على معنى حالة كون ذلك =

ص: 484

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومفهوم: "والمفهوم بخلافه" أي بخلاف المنطوق، "أي": يدل عليه اللفظ "لا في محل النطق"

(1)

.

"والأول": أعني المنطوق قسمان:

"صريح: وهو ما وضع اللفظ له" فيدلّ عليه بالمطابقة أو التضمّن، حقيقة أو مجازًا.

أو غير صريح "وغير الصريح بخلافه، وهو ما يلزم عنه" أي: عما وضع له اللفظ، فيدل عليه بالالتزام

(2)

.

= المعنى ثابتًا في محل النطق؛ بأن يكون ذلك المعنى حكمًا للمذكور في الكلام، وحالًا من أحواله، سواء ذكر ذلك الحكم، ونطق به بأن دل عليه اللفظ مطابقة أو تضمنًا، وهو ما يسمى بـ "المنطوق الصريح" أو لم يذكر بأن دَلَّ عليه التزامًا، وهو ما يسمى بـ "المنطوق غير الصريح". وبهذا يعرف أن المنطوق تارة يكون صريحًا، وتارة يكون غير صريح، كما سيحكي المصنف. ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، ومعه حاشية سعد الدين التفتازاني ج 3 ص 171.

(1)

والمراد أن المفهوم هو معنى دل عليه اللفظ خال كون ذلك المعنى غير ثابت في محل النطق، أي: اللفظ المنطوق به، بل في محل السكوت، أي: اللفظ المسكوت عنه، أعني الذي لم يذكر في الكلام؛ بأن يكون لازمًا لمعنى المنطوق به، سواء كان موافقًا للمذكور أو مخالفًا له، وسواء كان ثبوتيًّا أو سلبيًّا، كما في قوله عز وجل:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} على تحريم الضرب، فإن هذا التحريم معنى دل عليه اللفظ حال كونه غير ثابت في محل النطق، وهو {لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ، بل في محلّ السكوت، وهو لا تضربهما، وكدلالة قوله صلى الله عليه وسلم:"في الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ" على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة؛ فإنه معنى دل عليه اللفظ المذكور حال كونه غير ثابت في محل النطق، بل في المسكوت عنه، وهو لا زكاة في المعلوفة، فقوله:"ما دلَّ عليه اللفظ". يقال فيه ما قيل في تعريف المنطوق لاتحاد اللفظ فيهما، فلا داعي للإعادة، وقوله:"لا في محل النطق" متعلق بمحذوف حال من الضمبر في عليه، أي: معنى دل عليه اللفظ حال كون ذلك المعنى غير ثابت في محل النطق، وهو قيد للتمييز بين المنطوق والمفهوم.

ينظر: نهاية السول 2/ 198، وشرح الكوكب 3/ 473، والإحكام للآمدي 3/ 62، وشرح العضد 2/ 2/ 171، وجمع الجوامع 1/ 235 - 236، وإرشاد الفحول 178، وتيسير التحرير 1/ 91، وفواتح الرحموت 1/ 413، والمدخل 271، والآيات البينات 2/ 2، ونشر البنود 1/ 89.

(2)

وخلاصة القول: أن الصريح هو دلالة اللفظ على ما وضع له مطابقةً، أو تضمنًا، حقيقة كان =

ص: 485

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثم غير الصريح ينقسم إلى: دلالة اقتضاء

(1)

، وإيماء

(2)

، وإشارة

(3)

؛ لأنه إما أن يكون

= أو مجازًا، وعليه فإن المنطوق الصريح ينحصر في المطابقية والتضمنية، وخرجت الالتزامية، مثال الصريح: دلالة قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} على تحريم التأفيف.

وذهب إلى أن غير الصريح هو ما لم يوضع اللفظ له، بل يلزم ما وضع له، فيدل عليه بالالتزام.

يعني أن غير الصريح هو دلالة اللفظ على لازم الموضوع له، وبعبارة أخرى: دلالة اللفظ على المعنى بالالتزام، فينحصر غير الصريح في الالتزامية.

(1)

دلالة الاقتضاء: هي دلالة اللفظ على لازم المعنى المقصود يتوقف عليه صدق الكلام، أو صحته عقلًا أو شرعًا مثل دلالة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" على إرادة رفع المؤاخذة، ونحوها مما يمكن نفيه؛ لتوقف صدقه على ذلك التقدير؛ لعدم رفع ذات الخطأ والنسيان؛ لوقوعهما من الأمة، ومثل دلالة قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} على إرادة سؤال أهلها؛ لتوقف صحته عَقْلًا على هذا التقدير؛ إذ القرية - وهي البنايات المجتمعة - لا يصح عقلًا سؤالها، كما هو معتاد، وكدلالة قولك لمن يملك عبدًا: أعتق عبدك عني بألف على إرادة ملكني عبدك بألف، فأعتقه عني؛ لتوقف صحته شرعًا على ذلك التقدير؛ لأن العتق بدون الملك لا يصح شرعًا.

(2)

دلالة الإيماء: هي دلالة اللفظ على لازم مقصود لا يتوقف عليه صدق الكلام؛ ولا صحته، كاقتران وصف بحكم لو لم يكن ذلك الوصف علة له؛ لكان اقترانه به بعيدًا عن وقوعه في كلام البليغ، فضلًا عن كلام الشارع؛ لانتفائه عن الفائد حينئذ، وإذ لا فائدة ألا يكون الوصف علَّة لذلك الحكم كما في دلالة اقتران الوقاع بالإعتاق على علّية الوقاع لوجوب الإعتاق في قصة الأعرابي الذي قال: هلكت وأهلكت يا رسول الله؛ واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"أَعْتِقْ رَقَبَةً" الحديث أي: واقعت فأعتق رقبة؛ لأن السؤال معاد في الجواب تقديرًا، فيدلّ هذا الاقتران على علية الوقاع لوجوب الإعتاق، وإلا كان اقترانه به بعيدًا؛ لخلوه عن الفائدة.

(3)

دلالة الإشارة: والمقصود بها دلالة اللفظ على لازم غير مقصود منه بالذات، كدلالة قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية على جواز أن يصبح الصائم جنبًا؛ فإن جواز الإصباح بالجنابة للصائم ليس مقصودًا من الآية بالذات، ولكنه لازم للمقصود منها، وهو إباحة الرفث أي: الوقاع في الليل الصادق بالوقاع في آخر جزء منه، وهذا يستلزم الإصباح بالجنابة ضرورة أن يقع الغسل حينئذ بعد طلوع الفجر، وكدلالة قوله صلى الله عليه وسلم في حق النساء:"إِنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ" فقيل: وَمَا نُقْصَانُ "دِينِهنَّ؟ قال: "تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ شَطْرَ =

ص: 486

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقصودًا للمتكلم، أو لا

(1)

.

والمقصود قسمان بالاستقراء:

أحدهما: أن يتوقف الصدق، أو الصحة العقلية، أو الصحة الشرعية عليه.

= دَهْرِهَا لا تُصَلِّي" على أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا، وأقل الطهر كذلك، فإن هذا ليس مقصودًا بالذات من سياق الحديث، ولكنه لازم للمراد منه، وهو بيان نقصان دينهن؛ لأن ذكر شطر الدهر أي: نصفه أراد به المبالغة في نقصان ديتهن، وهذه المبالغة تقتضي ذكر أكثر ما يتعلّق به ذلك المقصود، فلو كان زمان ترك الصَّلاة، وهو زمان الحيض أكثر من ذلك، أو كان زمان الصلاة، وهو زمان الطهر أقل من ذلك، لذكر في الحديث تحقيقًا للغرض المقصود منه.

(1)

وأما العلامة المصنف ابن السبكي فإنه في جمع الجوامع قصر المنطوق على ما يسمى بالصريح في كلام ابن الحاجب، وجعل ما سماه ابن الحاجب منطوقًا غير صريح.

تابعًا للمنطوق، أي: واسطة بين المنطوق والمفهوم، فجعل مدلول اللفظ ثلاثة أقسام منطوقًا وتابعًا له ومفهومًا، بخلاف ابن الحاجب، فإنه جعل المنطوق قسمين صريحًا، وغير صريح وحصر الدلالة في المنطوق والمفهوم، ودلالة الاقتضاء، والإيماء، والإشارة من قبيل المنطوق عند ابن الحاجب، وتابعة له عند ابن السبكي.

وأنت إذا تصفحت كتب الأصول المتداولة بين أيدينا وجدتها مطبقة على حصر الدلالة، أو المدلول في المنطوق والمفهوم، وأن أكثرها جار على تقسيم المنطوق إلى صريح وغيره .... إلخ.

نعم بعض الشافعية جعل غير الصريح من المفهوم، لكنه متفق مع غيره على الحصر في المنطوق والمفهوم، أمَّا القول بالواسطة، وتثليث القسمة فلم أره لغير ابن السبكي والآمدي، فهذا صاحب "التحرير، وصاحب "المسلم"، والأزميري وغيرهم ينقلون عن الشافعي مثل ما قاله ابن الحاجب.

وبالجملة فقد تابع ابن الحاجب على هذا التقسيم كل من جاء بعده من المصنفين فيما علمت إلا ابن السبكي مع أنه تابعه عليه في شرحه "المختصر" دون تعقب له في ذلك، ولهذا نرى بعض الأصوليين حاول حمل كلام ابن السبكي في "جمع الجوامع" على ما يوافق طريقة ابن الحاجب، ولكنها محاولة فيها بُعْدٌ وتكلف. فظهر بهذا أن كلام ابن الحاجب في هذا المقام هو الذي يصور لنا طريقة القوم، كما يظهر لنا رجحان طريقته في هذا التقسيم على طريقة ابن السبكي؛ لأنها أكثر دقة ومتابعة لما عليه جمهور الأصوليين، ولهذا عدل عليها أكثر المصنفين في الأصول.

ص: 487

وإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ وَاقْتَرَنَ بِحُكْمٍ: لَوْ لم يَكُنْ لِتَعْلِيلِهِ كَانَ بَعِيدًا - فَتَنْبِيهٌ وَإِيمَاءٌ؛ كَمَا سَيَأْتِي، وَإنْ لَمْ يُقْصَدْ، فَدَلالَةُ إِشَارَةٍ؛ مِثْلُ:{النِّسَاءُ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ} - قِيلَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ؟ - قَالَ عليه الصلاة والسلام: "تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ شَطْرَ دَهْرِهَا لا تُصَلِّي"، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بَيَانَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ؛ وَأَقلِّ الطُّهْرِ؛ وَلَكِنَّهُ لَزِمَ مِنْ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ [فِي نُقْصَانِ دِينِهِنَّ] تَقْتَضِي ذِكْرَ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [سورة الأحقاف: الآية 15] مَعَ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [سورة لقمان: الآية 14].

وَكَذَلِكَ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [سورة البقرة: الآية 187]- يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الإِصْبَاحِ جُنُبًا.

وَمِثْلُهُ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلَى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} [سورة البقرة: الآية 187].

وثانيها: أن يقترن بحكم لو لم يكن للتعليل لكان بعيدًا.

"فإن قصد وتوقف الصدق، أو الصحة العقلية، أو الشرعية عليه، فدلالة اقتضاء".

فما يتوقف عليه الصدق "مثل: [رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ] ".

فإن ذات الخطأ والنسيان لم يرتفع، فتضمن ما يتوقف عليه الصِّدق من المؤاخذة ونحوها.

وما يتوقف عليه الصّحة العقلية مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [سورة يوسف: الآية 82] إِذ لو لم يقدر: "أهلها" لم يصح عقلًا؛ إذ هي لا تسأل بناء على أنها لم تكن مسئولةً حقيقة للإعجاز، وعلى أنه لم يعبر بالقرية عن أهلها.

وما يتوقف عليه الصحة الشرعية مثل قولك: "أعتق عبدك عَنّي على ألف" لاستدعائه تقدير الملك؛ لتوقّف العتق عليه"؛ إذ العِتْقُ شرعًا لا يكون [إلّا]

(1)

للمملوك، والتقييد بقوله:"على ألف" لا وجه له، فإنه لو قال: أعتق عبدك عَنّي فأعتقه عنه، دخل في ملك المستدعى، وعتق عليه وإن لم يذكر عوضًا.

نعم في استحقاقه عليه قيمة العَبْدِ وجهان.

(1)

سقط في ت.

ص: 488

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفيما إذا قال مجانًا لا يستحق جزمًا.

وقال المُزَنِيّ: ولا يقع علي المستدعى، والمذهب خلافه.

الشرح: "وإن لم يتوقف واقترن بحكم لو لم يكن" اقترانه به "لتعليله كان" التلفّظ به "بعيدًا" من الشارع، "فتنبيه وإيماء كما سيأتي" في كتاب "القياس".

"وإن لم يقصد، فدلالة إشارة، مثل: "النِّسَاءُ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ"

(1)

"قيل: وما نقصان دينهن؟ " قال: "تَمْكُثُ إحْدَاهُنَ شَطْرَ دَهْرِهَا لا تُصَلِّي".

"فليس المقصود بيان أكثر الحيض"، وأنه خمسة عشر يومًا، "وأقل الطهر" وأنه خمسة عشرة، "ولكنه لزم" منه الإشارة إلى أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا، وأقل الطهر خمسة عشر يومًا بلفظ الشَّطر من حيث "إن المبالغة تقتضي ذكر ذلك"، أي: أكثر ما يتعلّق به الغرض، فلو كان زمان ترك الصَّلاة - وهو زمان الحيض - أكثر من ذلك، أو زمان الصَّلاة - وهو زمان الطّهر - أقل من ذلك - لذكره.

واعلم أن ما يتعلّق له الغرض من الحديث، وهو ما ذكر من قوله عليه السلام:"تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ شَطْرَ دَهْرِهَا لا تُصَلِّي".

ونقل شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد في كتاب "الإلمام"

(2)

عن الحافظ

(1)

أخرجه البخاري (1/ 78) كتاب الحيض: باب ترك الحائض الصوم، وكتاب الصوم: باب "الحائض تترك الصلاة والصوم ومسلم (1/ 87) كتاب الإيمان: باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات (80) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

قال السخاوي في المقاصد الحسنة (ص - 164):

لا أصل له بهذا اللفظ فقد قال أبو عبد الله بن مندة فيما حكاه عنه ابن دقيق العيد في الإمام: ذكر بعضهم هذا الحديث، ولا يثبت بوجه من الوجوه، وقال البيهقي في المعرفة: هذا الحديث يذكره بعض فقهائنا، وقد تطلبته كثيرًا فلم أجده في شيء من كتب الحديث، ولم أجد له إسنادًا وقال ابن الجوزي في التحقيق: هذا لفظ يذكره أصحابنا ولا أعرفه، وقال الشيخ أبو إسحاق في المهذب: لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقهاء، وقال النووي في شرحه: باطل لا يعرف، وفي الخلاصة: باطل لا أصل له، وقال المنذري: لم يوجد في إسناد بحال وأغرب الفخر بن تيمية في شرح الهداية لأبي الخطاب، فنقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال: =

ص: 489

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيهقي أنه قال: تتبعته فلم أجده في شيء من كتب الحديث.

قلت: ويتعجب من القاضي أبي الطيب في اعتماده عليه في كتاب "المنهاج" في الاستدلال على أقل الطهر مع معرفته بالحديث.

وقد أجاد تلميذه الشيخ أبو إسحاق الشِّيرَازي حيث لم يذكره في كتاب "النكت".

وقال في "المهذب": لم أره إلا في كتب الفقه، ولعلّ الشيخ أبا إسحاق وقف على كلام البيهقي.

ورأيت في بعض كتب الحَنَابلة: أن القاضي أبا يعلى

(1)

عزاه إلى كتاب "السنن" لابن أبي حاتم، وهذه فائدة.

وبقية لفظ الحديث صحيح، ففي البُخَاري من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء يوم العيد:"مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهبَ للُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ". قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا؟ قال: "أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ"؟ قلن: بلى قال: "فَذَاكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَل وَلَمْ تَصُمْ"؟ قلن: بلى. قال: "فَذَاكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا".

و"لمسلم" نحوه وفيه: "وَتمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ" فقد يقال: فيه

= ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم البستي في كتاب السنن له كذا قال: وابن أبي حاتم ليس بُستيًّا، وإنما هو رازيّ وليس له كتاب يقال له السنن، وفي ترتيب معناه ما اتفقا عليه من حديث أبي سعيد مرفوعًا: أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم فذاك نقصان دينها. ورواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: تمكث الليالي ما تصلي وتفطر في شهر رمضان فهذا نقصان دينها. ومن حديث أبي هريرة كذلك، وفي المستدرك من حديث ابن مسعود نحوه، ولفظه: فإن إحداهن تقعد ما شاء الله من يوم وليلة لا تسجد لله سجدة، قال شيخنا: هذا وإن كان قريبًا معناه من معناه لكنه لا يعطي المراد منه.

(1)

محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء، أبو يعلى: ولد سنة 380 هـ عالم عصره في الأصول ولفروع وأنواع الفنون، من أهل بغداد، ارتفعت مكانته عند القادر والقائم العباسيين، وولاه القائم قضاء دار الخلافة والحريم، وحران وحلوان، له تصانيف كثيرة منها "الإيمان" و"الأحكام السلطانية" و"الكفاية في أصول الفقه" و"أحكام القرآن" توفي سنة 458 هـ. ينظر: الأعلام 6/ 99 - 100، وتاريخ بغداد 2/ 256، وشذرات الذهب 3/ 306.

ص: 490

ثُمَّ الْمَفْهُومُ‌

‌ مَفْهُومُ مُوَافَقَةٍ،

وَمَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ:

فَالأوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ مُوَافِقًا فِي الْحُكْمِ، وَيُسَمَّى "فَحْوَى الْخِطَابِ"، وَ"لَحْنَ الْخِطَابِ"، كَتَحْرِيمِ الْضَّرْبِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [سورة الإسراء: الآية 23]، وَكَالْجَزَاءِ بِمَا فَوْقَ الْمِثْقَالِ مِنْ قَولِهِ:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [سورة الزلزلة: الآية 7]، وَكتَأْدِيَةِ مَا دُونَ الْقِنْطَارِ مِنْ قَوْلهِ:{لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: الآية 75] وَعَدَمِ الآخَرِ مِنْ: {لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [سورة آل عمران: الآية 75]، وَهُوَ تَنْبِيهٌ بِالأدْنَى؛ فَلِذَلِكَ كَانَ فِي غَيْرِهِ أَوْلَى.

وَيُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً فِي الْمَسْكُوتِ؛ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَوْمٌ: هُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ.

إشارة إلى أن زمن الحيض سبع ليالي ولا يقتصر على يوم وليلة.

"وكذلك" تقدير: أقلّ مدة الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [سورة الأحقاف: الآية 15]"مع" قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [سورة لقمان: الآية 14].

"وكذلك: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [سورة البقرة: الآية 187]، "يلزم منه جواز الإصباح جنبًا"؛ لأن آخر جزء من اللَّيل يصدق أنه منه، فجاز الرفث فيه وإن لم يكن مقصورًا.

"ومثله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، فمد غاية الجواز إلى طلوع الفجر.

الشرح: "ثم المفهوم: مفهوم موافقة""ومفهوم مخالفة"؛ لأن غير المذكور، إما أن يكون حكمه موافقًا للمذكور، أو لا.

"فالأول: أن يكون المسكوت موافقًا في الحكم

(1)

، ويسمى:"فَحْوَى الخطاب"،

(1)

وبعبارة أخرى هو دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه؛ لفهم مناط الحكم لغة؛ بأن يوجد في المنطوق معنى يفهم كل من يعرف اللغة أي: وضع الألفاظ للمعاني أن الحكم في المنطوق، إنما ثبت لأجله من غير احتياج في فهم ذلك إلى نظر واجتهاد، وهذا القسم هو المسمى في اصطلاح الأحناف بـ "دلالة النص". ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 7، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 449، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 62، =

ص: 491

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"ولحن الخطاب كتحريم الضَّرب من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}

(1)

[سورة الإسراء: الآية 23] والجزاء بما فوق المثقال من قوله: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ" خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [سورة الزلزلة: الآية 8].

"وكتأدية ما دون القنطار من: {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}، وعدم الآخر من: {لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} "، في قوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}

(2)

[سورة آل عمران: الآية 75].

"وهو تنبيه بالأدنى" على الأعلى، والأشد مناسبة.

ولك أن تقول أيضًا: بالأعلى على الأدنى، [وكذلك في "المنهي": بالأدنى، على الأعلى، أو بالأعلى على الأدنى]

(3)

وهو واضح.

وقوله: "فلذلك كان" الحكم "في غيره أولى" صريح في اشتراط الأولوية في مفهوم الموافقة.

= ونهاية السول للأسنوي 2/ 202، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 37، والمنخول للغزالي 208، وحاشية البناني 1/ 240، والإبهاج لابن السبكي 1/ 367، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 20/ 15، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 319، والتحرير لابن الهمام 29، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 172، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 1/ 112.

(1)

فإن هذا النص يدل بمنطوقه على تحريم التأفيف، ويدل بمفهومه الموافق على تحريم الضرب المسكوت عنه؛ لفهم مناط تحريم التأفيف، وهو الإيذاء لغة، فإن كل عارف باللغة يفهم أن مناط تحريم التأفيف، إنما هو الإيذاء، وهو موجود في الضرب ونحوه، فيفهم منه ثبوت التحريم له أيضًا كالتأفيف؛ لأنه أشد إيذاء من التأفيف، فيكون أولى بالحكم منه.

(2)

فإن الأول يدل بمنطوقه على تأدية المحدث عنه للقنطار المؤتمن عليه؛ لأمانته، ومن ناحية أخرى فإنه يدل بمفهومه الموافق على تأديته لما دون القنطار المسكوت عنه بالأولى.

والثاني: يدل بمنطوقه على عدم تأدية المحدث عنه للدينار المؤتمن عليه، وبدل بمفهومه الموافق على عدم تأديته؛ لما فوق الدينار المسكوت عنه بالأولى؛ فإنه من البديهي عرفًا أن من يكون أمينًا في القنطار يكون أمينًا فيما دونه من باب أولى كما أن من يكون خائنًا في الدينار يكون خائنًا فيما هو أكثر منه بالأولى.

(3)

سقط في ج.

ص: 492

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وسيقول في مفهوم المُخَالفة؛ وشرطه ألَّا يظهر أولوية، ولا مساواة في المسكوت، فيكون موافقة، وهو صريح في أن الأولوية غير مشترطة.

ويدلّ له إطلاقه هنا من قبل حيث قال في تعريفه: أن يكون موافقًا في الحكم، ولم يقيده بوجه الأولوية.

فأما اشتراط الأولوية، فهو ظاهر المنقول عن الشَّافعي رضي الله عنه وعليه يدلّ كلام أكثر أئمتنا

(1)

.

(1)

شروط تحقق مفهوم الموافقة اتفق الفقهاء والأصوليون القائلون بمفهوم الموافقة: على أنه يشترط لتحققه، وبعبارة أخرى لتحقق دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه: أن يوجد في المنطوق معنى يفهم منه كل من يعرف اللغة أن الحكم فيه إنما ثبت لأجل هذا المعنى، وأن يكون هذا المعنى موجودًا في المسكوت عنه، وألا يكون في المسكوت عنه أقل مناسبة واقتضاء للحكم منه في المنطوق. وأن مفهوم الموافقة ينتفي بانتفاء أحد هذه الشروط الثلاثة، ثم نراهم اختلفوا بعد ذلك في أنه هل يشترط في المعنى الذي ثبت الحكم من أجله، أن يكون في المسكوت أشد مناسبة، واقتضاء للحكم منه في المنطوق، فلا يكفي في الدلالة، والتسمية بمفهوم الموافقة أن يكون مساويًا، أو لا يشترط ذلك فيكفي أن يكون مساويًا؟.

فذهب سيف الدين الآمدي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى أنه يشترط في مفهوم الموافقة أن يكون المسكوت أولى باستحقاق الحكم من المنطوق؛ لكون مناط الحكم فيه أقوى اقتضاء للحكم منه في المنطوق، كما في دلالة النهي عن التأفيف على تحريم الضرب ونحوه.

قال سيف الدين الآمدي في "الإحكام": "أما مفهوم الموافقة، فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقًا لمدلوله في محل النطق" ثُمَّ مثل له بعدة أمثلة، ثم قال: والدلالة في جميع هذه الأقسام لا تخرج من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، وبالأعلى على الأدنى، ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق، وإنما يكون كذلك أن لو عرف المقصود من الحكم في محل النطق من سياق الكلام، وعرف أنه أشهر مناسبة، واقتضاء للحكم في محل السكوت من اقتضائه له في محل النطق، وذلك كما عرفنا من سياق الآية المحرمة للتأفيف أن المقصود إنما هو كف الأذى عن الوالدين، وأن الأذى في الشتم والضرب أشد من التأفيف، فكان التحريم أولى، وإلا فلو قطعنا النظر عن ذلك لما لزم من تحريم التأفيف تحريم الضرب.

فالآمدي إذًا صريح في اختياره القول باشتراط الأولية، وهذا المذهب هو قضية ما نقله أبو =

ص: 493

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القول بأنها لا تشترط هو طريقة الإمام الرازي وأتباعه

(1)

.

= المعالي الجويني في البرهان عن الإمام الشافعي حيث قال: ونحن نورد معانى كلامه، فما ذكره أنه قال:"المفهوم قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة".

أما مفهوم الموافقة: فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأولى" اهـ وذهب الإمام الغزالي والإمام الرازي ومن لفّ لفّهما إلى أنه لا يشترط في مفهوم الموافقة أولوية المسكوت عنه بالحكم؛ بل المدار على ألا يكون مناط الحكم في المسكوت عنه أقل مناسبة واقتضاء للحكم منه في المنطوق، سواء كان أولى منه أو مساويًا له في ذلك.

وفي هذا يقول الزركشي: وهو ظاهر كلام الجمهور من أصحابنا وغيرهم، فالخلاصة: أن في اشتراط الأولوية في مفهوم الموافقة طريقين:

أحدهما: يذهب إلى الاشتراط، وهو منقول عن الشافعي، واختاره أبو إسحاق الشيرازي، والآمدي.

والثاني: يذهب إلى الاشتراط، وهو مذهب الجمهور، كما قال الزركشي وغيره.

فإن قيل: هل لهذا النزاع ثمرة مع اتفاقهم على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت المساوي، والعمل به؟.

والجواب: نعم، له ثمرة، وهي أن ثبوت الحكم للمسكوت المساوي على القول باشتراط الأولوية يكون بالقياس، وتجري عليه أحكام القياس، وعلى القول بعدم الاشتراط يكون ثبوته بطريق النص المقابل للقياس، ويأخذ حكم المنصوص قاله شيخنا الحضراوي. ينظر: الإحكام 3/ 142، 143.

(1)

استدل القائلون باشتراط الأولوية بأن إلحاق المسكوت المساوي بالمنطوق في الحكم لا يخرج عن القياس؛ إذ لا يمكن فهم اتحادهما في الحكم من النص على حكم المنطوق عرفًا؛ لقيام احتمال التعبد في محل النطق، فلا يتعدى الحكم إلى محل السكوت، بخلاف المسكوت الأولى، فإنه يفهم اتحادهما في الحكم عرفًا؛ لبعد احتمال التعبد حينئذ نظرًا لأولية المسكوت بالحكم، وأما تمثيله للمساوي بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} بناء على دلالته على حرمة الأخذ المساوي للأكل في الإتلاف، فليس من قبيل مفهوم الموافقة؛ فإن حرمة الأخذ لا تفهم من حرمة الأكل عرفًا؛ ألا ترى أنه لو قيل: لا تأكل القثاء، أو الهندباء مثلًا لا يفهم منه النهي عن الإتلاف؛ فحرمة الأخذ إن كانت مستندة إلى الآية، فمن طريق آخر لا من طريق المفهوم.

هذا توضيح ما قالوه في الاستدلال على ما ذهبوا إليه من اشتراط الأولوية. =

ص: 494

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وعندي: أن أصحابنا عليه، ولكن يرون تخصيص الأولى

(1)

باسم وإن احتجوا

=

"مناقشة الدليل"

ويناقش هذا الدليل بأن محل النزاع إنما هو المنطوق الذي وجد فيه معنى يفهم العارف باللغة أن الحكم إنما ثبت فيه لأجله، وأن هذا المعنى موجود في المسكوت على السواء، وحينئذ فيقال لهم: إن أردتم بقولكم: لقيام احتمال التعبد قيامه مع فَهْم مناط الحكم لغة، ووجود هذا المناط في المسكوت، كما هو المفروض، فممنوع قطعًا، إذ بعد فرض فهم المناط لغة، ووجوده في المسكوت لا يتأتى احتمال التعبد احتمالًا يعتد به في العرف والعادة بحيث يكون مانعًا من فهم ثبوت الحكم للمسكوت لغة.

وإن أردتم به قيام الاحتمال مع عدم فَهْمِ المناط لغة فمسلم، ولا يفيدكم: لخروجه حينئذ عن محل النزاع؛ إذ مساواة المسكوت للمنطوق فرع عن فهم مناط الحكم ووجوده في المسكوت.

وأما تنظيرهم بالنهي عن أكل القثاء، فيجاب عنه بالفرق بين النهي عن أكل مال اليتيم، والنهي عن أكل القثاء؛ لأن مناط النهي في الأول - وهو تفويت المال على اليتيم - موجود في أخذه، فكان النهي عنه مستلزمًا للنهي عن الأخذ عرفًا، بخلاف مناط النهي في الثاني، وهو تضرر الآكل، فليس موجودًا في الإتلاف، فلم يكن النهي عنه مستلزما للنهي عن الإتلاف عرفًا، ففرق بينهما.

من هذه المناقشة يتضح للناظر أن هذا الدليل لا يصلح أن يكون حجة، ولا شبه حجة على اشتراط الأولوية.

"دليل القائلين بعدم اشتراط الأولوية"

استدل القائلون بعدم اشتراط الأولوية بأنا نعلم قطعيًّا أنه كثيرًا ما يفهم ثبوت حكم المنطوق للمسكوت مع عدم أولويته بالحكم؛ لفهم المناط لغة، كما في فهم تحريم إحراق مال اليتيم من تحريم أكله ظُلْمًا، وإهدار هذا النحو من الدلالة مما لا وجه له؛ إذ بعد فرض فهم ثبوت حكم النطوق للمسكوت؛ لفهم المناط لغة، كما هو موضوع النزاع لا وجه لإهدار هذه الدلالة نعم إن أرادوا بهذا الشرط أنه شرط لمجرد تسمية الدلالة على ثبوت الحكم للمسكوت بـ "مفهوم الموافقة" اصطلاحًا، كما اصطلح بعضهم على تسمية الدلالة على ثبوت الحكم للمسكوت المساوي بـ "لحن الخطاب"، فلهم اصطلاحهم، ولا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح، كما يقولون، وحينئذٍ فلا يَعْدُو هذا الخلاف أن يكون خلافًا في التسمية والاصطلاح، أما كونه شرطًا لأصل الدلالة على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت، فهذا لم يقم لهم عليه دليل، بل قد قام الدليل على خلافه.

(1)

فمفهوم الموافقة الأولى: هو ما يكون المسكوت فيه أولى من المنطوق باستحقاق الحكم بأن =

ص: 495

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالمساوي كاحتجاجهم به.

وأما تسمية مفهوم الموافقة بـ "فحوى الخِطَاب"، و"لحن الخطاب" فطريقة لبعض أصحابنا.

وقال آخرون منهم: لحن الخطاب: ما دلّ على مثله، والفحوي: ما دلّ على أقوي

وهذا يرشدك إلى أنهم يفرقون في التَّسمية دون الحكم، والأمر في التَّسْمية هَيّن؛ لأنه اصطلاحي، والأحسن عندنا هذا القول، فليكن مفهوم المُوَافقة متناولًا لفحوى الخطاب، وهو ما كان الحكم في المسكوت فيه أولى.

ولحن الخطاب وهو المساوي، "ويعرف" كون الفَحْوى في محل المسكوت موافقته، "بمعرفة المعنى، وأنه أشد مُنَاسبة في المسكوت"، فيكون أولى.

فإن لم ينته الحال إلى كونه أشدّ كان مساويًا، وقد عرفته.

"ومن ثَمَّ" أي: ومن أجل النظر إلى المناسبة "قال قوم: هو قياس جَلِيّ".

وهو رأي الشافعي رضي الله عنه، والصحيح عندنا.

وقالت الحنفية: ليس بقياس، ولا يسمى دلالة النص [ولكنه دلالته]

(1)

لفظية.

ثم اختلفوا فقيل:

إن المنع من التأفيف مثلًا منقولٌ بالعرف عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى.

وقيل: إنه فهم من السِّياق والقرائن، وعليه المحققون من أهل هذا القول،

= يكون اقتضاء المناط للحكم فيه أقوى من اقتضائه له في المنطوق، كما في النهي عن التأفيف؛ فإن المسكوت عنه، وهو الضرب أولى بالحرمة من التأفيف؛ لأن إيذاء الضرب أشد مناسبة واقتضاء للحرمة من إيذاء التأفيف. ومفهوم الموافقة المساوي: هو ما يكون المسكوت فيه مساويًا للمنطوق في استحقاق الحكم بأن يكون اقتضاء المناط للحكم فيهما على السواء، كما في إحراق مال اليتيم، وأكله ظلمًا، فإن اقتضاء المناط؛ وهو إفساد المال وتفويته على اليتيم للتحريم فيهما على السواء.

(1)

سقط في ت.

ص: 496

لنَا: الْقَطْعُ بِذَلِكَ لُغَةً قَبْلَ شَرْعِ الْقِيَاسِ.

وَأَيْضًا: فَأَصْلُ هَذَا قَدْ يَنْدَرجُ فِي الْفَرْعِ مِثْلُ: "لا تُعْطِهِ ذَرَّةً"؛ [فَإِنَّهَا مُنْدَرِجَةٌ فِي الذَّرَّتَيْنِ].

قَالُوا: لَوْلا الْمَعْنَى، لَمَا حُكِمَ.

وَأُجِيبَ: بَأنَّهُ شَرَطَهُ لُغَةً؛ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بِهِ النَّافِي لِلْقِيَاسِ.

وَ [قَدْ] يَكُونُ قَطْعِيًّا؛ كالأمْثِلَةِ، وَظَنِّيًا؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي كَفَّارَةِ الْعَمْدِ وَاليَمِينِ الْغَمُوسِ.

كالغزالي والآمدي، والمصنف، والدلالة عندهم مجازية من باب إطلاق الأخص وإرادة الأعم.

الشرح: واحتج المصنف لما ارتضاه، فقال:"لنا: القطع بذلك لُغَةً قبل شرع القياس"، وهذه حجة باردة ذكرها المعترضون على الشَّافعي، ومن تمام كلامهم، أنهم يعلمون هذا باضطرار، والقياس لا يكون كذلك، وأنه يشترك في علمه الخاصّةُ والعامة، ولو كان قياسًا لغلط فيه غالط أو شكّ فيه شاك.

وأجاب ابن السَّمعاني بأن الضرب والشَّتم غير مذكور في قوله: " {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [سورة الإسراء: الآية 23] " مثلًا، وإنما يأتي من قبله، فأشبه علمنا بالفرع من ناحية أصله، وأنه لا بد من نوع نظر، فإنه ما لم يعرف قصد المتكلم، وأنه أخرج الكلام لمنع الأذى لا يحصل له هذا العلم؛

ألا يرى أنه ربما قال ذو الأغراض الصحيحة: لا تشتم فلانًا، ولا تستخف به، واقتله.

قلت: قوله: فأشبه علمنا بالفرع من ناحية أصله، يقتضي أنه يشبه القياس، وليس بقياس.

أنا أقول: الصواب: أنه قياس حقيقة؛ فإن المسكوت فرع، والمنطوق أصل، والأذى علّة جامعة، والفرع قد يكون أولى بالحكم، ولا يلزم من فهم الأول قبل شرعية القياس ألّا يكون هو الآن قياسًا جلِيًّا، فاعرف ذلك.

وسيكون لنا مباحثة في أنه هل يمكن اجتماع كونه قياسًا ومفهومًا في كتاب "القياس" إن شاء الله.

ص: 497

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال صاحب الكتاب: "وأيضًا فأصل" القياس لا يكون مندرجًا في الفرع، وأصل "هذا قد يندرج في الفرع مثل: لا تُعْطه ذرة" "فإنها داخلة في الذّرتين"؛ فدل أنه غير قياس.

ونحن نقول: الذّرة من حيث هي غيرها من حيث إنها بعض الذرتين، وإنما تندرج في الفرع بالاعتبار الثاني، وهي به ليست أصل القياس، وإنما تكون أصلًا للقياس بالاعتبار الأول، فافهم ذلك.

وهي من حيث الاندراج مفهوم موافقة بالحيثية الأخرى قياس جليّ لأولوية المعنى فيه.

وستزداد انشراحًا بهذا إذا وصلت إلى ما بحثناه فيه في "باب القياس".

ومن أجل أنه ذو جهتين

(1)

أجمع على القول به مُنكرو القياس ومُثْبتوه.

وقد قال ابن سريج

(2)

لأبي بكر بن داود: ما تقول فيمن يعمل مثقال ذرّتين؟

فقال: الذَّرتان ذرة وذرة.

فقال: ابن سريج: فلو عمل مثقال ذرّة ونصف؟

قال إمام الحرمين: فتبلّد وظهر خِزْيه.

قلت: لأن قضية إنكاره القياس ألّا يحرم إلا ذرة ذرة، وما زاد على الذرة إن لم ينته إلى ذرة كاملة حتى يصير من أفراد عموم الذرة، لا دليل على تحريمه إلا المعنى، وهو لا يقول به.

والذَّاهبون إلى أن فحوى الخطاب قياس "قالوا: لولا المعنى" في الفرع بحكم المشترك المناسب، "لما حكم" في المسكوت، والتعلق بالمعنى أنه القياس.

"وأجيب" بـ "بأنه شرط لغة"، لا أنه يثبت به الحكم حتى يكون قياسًا، "ومن ثَمّ قال به النَّافي للقياس"، ولو كان قياسًا لم يقل به، وإن كان جليًّا؛ لأن بعضهم كابن حزم أَنكر خَفِيّ القياس وجَلِته.

(1)

في ت: وجهين.

(2)

في ج: شريح.

ص: 498

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولقائل أن يقول: لا نسلّم أن شرطه لغة، فقد يقال: اقتل زيدًا، ولا تقل له: أفّ كما عرفت.

وإن سلم فلا ينافي اشتراطه لغة كونه قياسًا، وقول منكر القياس به لأنه مفهوم، وقد بينا أنه أجمع فيه جهتان من أجلها اجتمع فيه الفريقان.

"ويكون" مفهوم الموافقة "قطعيًّا

(1)

، كالأمثلة" السَّابقة؛ للقطع بالتعليل بالمعنى، وأنه موجود في المسكوت.

"وظنيًّا

(2)

، كقول الشافعي في كَفَّارة العَمْد واليمين الغموس" بوجوب الكفارة قياسًا على قتل الخَطَأ، وغير الغموس؛ لأنها إذا وجبت في أصغر الجِنَايَتَيْنِ وجبت في أكثرهما،

(1)

فهو ما قطع فيه بِعِلِّيِّةِ المناط في محل النطق، وبوجوده في محل السكوت، كما في دلالة قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} على تحريم الضرب ونحوه، فإنا نقطع بعلية الإيذاء؛ لتحريم التأفيف المنطوق به، ونقطع أيضًا بوجود الإيذاء في الضرب المسكوت عنه، ودلالة قوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} على تأديته لما دون القنطار، فإنا نقطع بغِلِّيَّةِ الأمانة لتأديته القنطار المنطوق به، ونقطع أيضًا بوجود ذلك المعنى في تأديته لما دون القنطار المسكوت عنه؛ فإن من يكون أمينًا على القنطار يرعاه، ويؤديه حيث طلب منه يكون أمينًا كذلك على ما دون القنطار قطعًا، ودلالة قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} على عدم تأديته لما فوق الدينار، فإنا نجزم بعلية الخيانة؛ لعدم تأدية الدينار المنطوق به، وبوجود ذلك المعنى في عدم تأدية ما فوق الدينار المسكوت عنه، فإِنَّ من يخون في الدينار يخون فيما فوقه بالقطع، وكدلالة قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} على تحريم إحراقها أو إتلافها بأي وجه من الوجوه؛ فإنا نجزم بعلية الإتلاف والتفويت؛ لتحريم الأكل المنطوق به، ونجزم أيضًا بوجود هذا المعنى في الإحراق المسكوت عنه.

(2)

فهو ما ظن فيه عِلِّيَّة المناط في محل النطق، أو ظن وجوده في محل السكوت، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية؛ فإن هذا النص يدل بمنطوقه على وجوب الكفارة في القتل الخطأ، ويدل بمفهومه عند إمامنا الشافعي على وجوبها في القَتْل العمد المسكوت عنه حيث قال: إنما وجبت الكفارة في القتل الخطأ للزجر لا للخطأ؛ لأن الخَطَأَ عذر مسقط للحقوق، فلا يصلح أن يكون علة للوجوب، وإذا وجبت الكفارة في القتل الخطأ للزجر، فوجوبها في القتل العمد أولى؛ لأن الزجر في =

ص: 499

‌مَفْهُومُ الْمُخَالفَةِ

أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مخَالفًا، وَيُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ"، وَهُوَ أَقْسَامٌ: مَفْهُومُ الصِّفَةِ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ، مِثْلُ: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} [سورة الطلاق: الآية 6]، وَالْغَايَةُ مِثْلُ: {حَتَّى تَنْكِحَ} [سورة البقرة: الآية 230] وَالْعَدَدُ الْخَاصُّ مِثْلُ: "ثَمَانِينَ جَلْدَة"، وَشَرْطُهُ ألّا تَظْهَرَ أَوْلَويَّةٌ وَلا مُسَاوَاةٌ فِي الْمَسْكُوتِ [عَنْهُ] فَيَكُونُ مُوَافَقَةً، وَلا خَرَجَ مَخْرَج الأغْلَبِ مِثْلُ: "اللَّاتي فِي حُجُورِكُمْ" [سورة النساء:

وهذا ظاهر؛ لأن ما يقال: من أن العمد والغموس لعظم أمرهما لا يكفران محتمل، وإن كان مرجوحًا ضئيلًا.

وقد نجز مفهوم الموافقة.

الشرح: وأما: "مفهوم المخالفة" فهو "أن يكون المسكوت عنه مخالفًا" للمنطوق،

= العمد أشد مناسبة واقتضاء للوجوب منه في القتل الخطأ؛ لأن الداعي فيه إلى الزجر آكد وأقوى، ومن الواضح أن علية الزجر لوجوب الكفارة في القتل الخطأ المنطوق به مظنونة فقط؛ لاحتمال أن تكون العلة هي تدارك ما صدر من المخطئ من التساهل، وعدم التبين في الرمي المؤدي إلى إفساد النفس المعصومة، كما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، وأحمد؛ ولهذا لم يقولوا بوجوب الكفارة في القتل العمد؛ لأن ما يتدارك به الأخف لا يصلح لأنْ يتدارك به الأشد الأغلظ، وكما في قوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فإنه يدل بمنطوقه على وجوب الكفارة في اليمين التي انعقدت أي اليمين غير الغموس، وهي الحلف على أمر مستقبل ليفعله أو يتركه، ويدل بمفهومه عند الإمام الشافعي أيضًا على وجوبها في الغموس أيضًا، وهي الحلف على أمر حال، أو ماض يتعمد فيه الكذب حيث قال: إنما وجبت الكفارة في المنعقدة بالحنث فيها زجرًا عن هتك حرمة اسم الله تعالى؛ وإذا وجبت في المنعقدة للزجر، وجبت في الغموس بالأولى؛ لأن الداعي فيها إلى الزجر آكد وأقوى. لأنها إذا وجبت في المنعقدة بصيرورتها كاذبة مع أنها لم تكن في الأصل كذلك؛ فَلأنْ تجب في الغموس مع أنها كاذبة من الأصل أولى، ومن الواضح أن علية الزجر لوجوب الكفارة في اليمين المنعقدة التي هي محل النطق ظنية فقط؛ لاحتمال أن تكون العلة هي تدارك ما فرط فيه من هتك حرمة اسم الله - تعالى - بالكفارة المحصلة للثواب المزيل للآثام، وهذا المعنى غير متحقق في اليمين الغموس؛ إذ هي كبيرة محضة، وما يتدارك به الأخف لا يصلح لأَنْ يتدارك به الأغلظ.

ص: 500

الآية 23]، "فَإِنْ خِفْتُمْ" [سورة البقرة: الآية 229]، "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَليِّهَا"، وَلا لِسُؤَالٍ وَلا حَادِثَةٍ، وَلا تَقْدِيرِ جَهَالَةٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقْتَضى تخَصِيصهُ بِالذِّكْرِ.

"ويسمى: "دليل الخطاب"

(1)

.

وحاول بعض أصحابنا الفرق بينهما، والحق عدم التفرقة، وأنهما اسم لمسمى واحد.

"وهو أقسام"

(2)

:

"مفهوم الصفة"

(3)

.

ومفهوم الشرط مثل: " {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ

} [سورة الطلاق: الآية 60] ".

(1)

وبعبارة أخرى هو: دلالة اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، مثل دلالة قوله عليه الصلاة والسلام:"في سَائِمةِ الغَنَمِ زَكَاةٌ" على عدم وجوب الزكاة في معلوفة الغَنَم، ويطلق عليه دليل الخطاب.

أما تسميته بمفهوم المخالفة؛ فلأن حكم المنطوق مخالف لحكم المسكوت، وأما تسميته بدليل الخطاب؛ فلحصول الدلالة عليه بنوع من الاستدلال ببعض الاعتبارات، كالوصفية، والشرطية، ويسميه الأحناف بتخصيص الشيء بالذكر. ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 13، والبرهان لإمام الحرمين 1/ 449، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 38، والمنخول للغزالي 208، وحاشية البناني 1/ 245، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 23، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 326، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 98، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 173، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 141، والوجيز للكراماستي 24، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 579، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 91، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 1/ 115.

(2)

وهذا بحسب القيد الذي قيد له منطوق النص.

(3)

كما في حديث: "في الغنم السائمة زكاة".

ومفهوم الصفة: هو ما يفهم من تعليق الحكم على الذات بصفة من صفاتها كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ زَكَاةٌ" فإن الغنم ذات، والسوم والعلف وصفان لها يعتورانها، وقد علق الحكم وهو وجوب الزكاة بأحد وصفيها، وهو السوم، فَيُفْهَمُ منه نفي الوجوب عن المعلوفة؛ لانتفاء الصفة التي علق الحكم بها، وهي السوم، وكما في قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فالفتيات: =

ص: 501

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"والغاية مثل: "{حَتَّى تَنْكِحَ} [سورة البقرة: الآية 230] ".

"والعدد الخاص مثل "{ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [سورة الور: الآية 4] ".

"وشرطه ألَّا تظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت، فيكون" مستلزمًا ثبوت ذلك الحكم في المسكوت، فيصير "موافقة" لا مخالفة.

"و" يشترط أيضًا ألا يكون "خرج مخرج الأغلب" عادة "مثل" قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [سورة النساء: الآية 23] "، فإنه إنما ذكر هذا القيد؛ لأن الغالب كون الربيبة في الحِجْر.

= جمع فتاة، وهي ذات يعتورها الإيمان والشرك، وقد علق الحكم بأحدهما، وهو الإيمان، فيدل على نفيه عن غير المؤمنات.

والمراد بالصفة عند الأصوليين: لفظ مقيد لآخر، وليس بشرط، ولا استثناء، ولا غاية، وبعبارة أخرى هي تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر يختص ببعض معانيه ليس بشرط، ولا استثناء، ولا غاية بعد أن كان صالحًا لما له تلك الصفة ولغيرها سواء كان ذلك اللفظ المختص نعتًا نحويًّا مثل:"فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ" أو مضافًا مثل: "في سَائِمَةِ الغَنَمِ زَكَاةٌ" أو مضافًا إليه مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ" أو ظرف زمان مثل قوله صلى الله عليه وسلم "مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمرَتُها لِلْبَائِع" أو ظرف مكان مثل: "بع في مكان كذا" أو حالًا نحو: "أحسن إلى العبد مطيعًا" لأن المخصوص بالكون في مكان أو زمان موصوف بالاستقرار فيه، والحال وَصْفٌ لصاحبها في المعنى، أو كان ذلك اللفظ المختص علة نحو:"أعط السائل؛ لحاجته"، فالمفهوم في المثال الأول، والثاني عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة.

وفي الثالث: أن مطل الفقير ليس ظلمًا.

وفي الرابع: أن ثمرة النخلة المُؤَبَّرَةِ بعد البيع ليست للبائع، وإنما تكون للمشتري.

وفي الخامس: عدم البيع في غير المكان المخصص.

وفي السادس: عدم الإحسان إليه إذا كان عاصيًا.

وفي السابع: عدم الإعطاء عند عدم الحاجة؛ لأن المعلول ينتفي بانتفاء علته؛ فإن الحكم لما عُلق في هذه الأمثلة بصفة خاصة صار ثبوته مرتبطًا بثبوت تلك الصفة وعليه فانتفاؤها يدل على انتفائه. والفرق بين مطلق الصفة، وخصوص العلة أن الصفة قد تكون علّة كالإسكار، وقد لا تكون بل متممة لها، كالسوم؛ فإن وجوب الزكاة في الغنم السائمة ليس للسوم فقط، =

ص: 502

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومثل: " {فَإِنْ خِفْتُمْ" أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [سورة البقرة: الآية: 229]؛ فإن الخلع جائز في حالة الشِّقَاق وغيرها؛ خلافًا لابن المنذر من أصحابنا حيث اشترط الشقاق، وتخصيص الخوف بالذكر لأجل العلة.

ومثل ما سبق من قوله عليه السلام: ""أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَليِّهَا" فنِكَاحُهَا بَاطِلٌ"؛ فإن الغالب أن المرأة، إنما تتحمل مشقّة العقد على نفسها مع استحيائها من المماكسة على فَرْجها عند إِرهاق الولي، إيّاها، فلا تفهمْ منه أنها إذا نكحت نفسها بإذن الولي يكون صحيحًا كما قاله أبو ثور، ومحمد بن الحسن.

ونازع إمام الحرمين في هذا الشرط، ووافقه شيخ الإسلام عزّ الدين بن عبد السلام، وزاد فقال: ينبغي العَكْس، أي لا يكون له مفهوم إلّا إذا خرج مخرج الغالب.

والمختار عندنا: خلاف ما قالاه، وهو المنقول عن الشَّافعي رضي الله عنه.

"و" يشترط أيضًا ألَّا يكون خرج "لسؤال" عن حكم إحدى الصفتين، "ولا حادثة" خاصّة بالمذكور مثل: أن يسأل: هل في الغنم السَّائِمَةِ زكاة؟

= وإلا لوجبت في الوحوش السائمة، وإنما وجبت لنعمة الملك، وهي مع السوم أتم مها مع العلف، فالصفة أعم من العلة. وبذلك يعلم أن الصفة عند الأصوليين أعم منها عند النحويين.

وقد اختلف في الحكم على المشتق نحو: "في السَّائِمَةِ زَكَاةٌ" هل ذلك يجري مجرى المقيد بالصفة مثل: "في الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ"؟.

فقيل: لا يجري مجراه؛ لاختلال الكلام بدونه، فيكون كاللقب.

وقيل: إنه يجري مجراه؛ لدلالته على السوم الزائد على الذات، بخلاف اللقب، فيفيد نفي الزكاة عن المعلوفة مطلقًا، كما يفيد إثباتها للسائمة مطلقًا، ويؤخذ من كلام ابن السمعاني، كما قال الجلال المحلى: إن الجمهور على الثاني حيث قال: "الاسم المشتق كالمسلم، والكافر، والقاتل، والوارث يجري مجرى المقيد بالصفة عند الجمهور، قال شيخ الإسلام: وهو قوي؛ لأن تصريف الوصف صادق عليه. غايته أن الموصوف مقدر، وذكر الموصوف، أو تقديره لا تأثير له فيما نحن بصدده. وذلك نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بنَفْسِهَا مِنْ وَلِيهَا" فمنطوقه ثبوت أحقية الثيب في تزويج نفسها من وليها، ومفهومه المخالف عدم أحقية غير الثيب، وهي البكر في تزويج نفسها؛ لانتفاء الصفة التي عُلق بها الحكم، وهي الثيوبة.

ص: 503

فَأَمَّا‌

‌ مَفْهُومُ الصِّفَةِ

فَقَالَ بهِ: الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَد، وَالأَشْعَرِيُّ، والإمَام، وَكَثيرٌ، وَنَفَاهُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْقَاضِي، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْمُعْتَزِلَةُ.

البَصْرِيُّ: إِنْ كَانَ لِلْبَيانِ كَالسَّائِمَةِ، أَوْ لِلتَّعْلِيمِ كَالتَّحَالُفِ، أَوْ كَانَ مَا عَدَا الصِّفَةَ دَاخِلًا تَحْتَها كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ، [وَإِلَّا فَلَا].

فيقول: "فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ"، أو يمرّ بشاة ميمونة فيقول:"دِباغُهَا طُهُورُهَا".

"و" أيضًا ألَّا يكون من أجل "تقدير جَهَالة" من المخاطب بألّا يعلم المخاطب وجوب زكاة السَّائمة، ويعلم حكم المَعْلُوفة فيقول عليه السلام:"فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ"؛ فإن التخصيص حينئذٍ لا يكون لنفي الحكم عما عداها.

"أو خوف" أي: ألَّا يكون ذكره لدفع خوف يمنع عن ذكر حال المسكوت عنه، "أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر"، فإن المعتمد في دلالته، أن للصفة فائدة، وما عدا تخصيص الحكم منتفٍ، فيدل عليه.

فإذا لاحت فائدة أخرى بطلت دلالته على نفي الحكم.

ولو قال قائل: شرطه ألَّا يظهر للتخصيص بالذكر فائدة غير نفي الحكم لاستوعب المراد.

الشرح: "فأما مفهوم الصفة فقال به الشافعي"، ومالك، "وأحمد، والأشعري"، وأكثر أصحابه، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، "والإمام" على ما نقل المصنف، "وكثير" من اللغويين والفقهاء والمتكلمين

(1)

.

"ونفاه أبو حنيفة، والقاضي"، وأبو العباس بن سريج، والقَفَّال الشاشي، "والغزالي،

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 30، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 66، والتمهيد للأسنوي 245، ونهاية السول له 2/ 205، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 39، والمنخول للغزالي 213، وحاشية البناني 1/ 249، والإبهاج لابن السبكي 1/ 370، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 26، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 326، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 174، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 143، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 579، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 96، والعدة 2/ 453، والتبصرة (218)، والمنخول 208، والمسودة 351 - 360.

ص: 504

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والمعتزلة" والآمدي، ونقله الإمام وأتباعه عن الإمام، والذي اختاره في "البرهان" التفرقة بين أن يكون الوصف مناسبًا

(1)

فيكون له مفهوم، أو لا فلا

(2)

.

(1)

بمعنى أن تعليق الحكم على الصفة يدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الصفة، إذا كانت الصفة مناسبة للحكم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"في سَائِمَةِ الغَنَمِ زَكَاةٌ" فالسوم يشعر بخفة المؤن ودرور المنافع، واستمرار صحة المواشي في صفو هواء الصحاري، وطيب مياه المشارع، وهذه المعاني تشير إلى سهولة احتمال مؤونة الإرفاق بالمحاويج عند اجتماع أسباب الارتفاق بالمواشي، وقد انبنى الشرع على رعاية ذلك، من حيث خصص وجوب الزكاة بمقدار كثير، وأثبت فيه مهلًا يتوقع في مثله حصول المرافق. فإذا لاحت المناسبة، جرى ذلك على صيغة التعليل؛ كذلك النهي عن لي الواجد، فإن الموسر المقتدر ذا الوفار والملأ إذا طولب بما عليه لم يعذر بتأخير الحق المستحق، وهذا في حكم التعليل؛ لانتسابه إلى الظلم إذا سَوَّفَ، ومَاطَلَ، وأما إذا كانت الصفة غير مناسبة للحكم، فلا يدل التقييد بها على انتفاء الحكم عند انتفائها، كما لو قيل:"في الغنم العفر زكاة".

(2)

فإن طُولِبْنَا بإثبات القول فيما نصصنا عليه، فالقول الواضح فيه: أن ما أشعر وضع الكلام بكونه تعليلًا، فهو أظهر عندي في اقتضاء التخصيص الذي من حكمه انتفاء الحكم عند انتفاء الصفة من الشرط والجزاء؛ فإن العلة إذا اقتضت حكمًا تضمنت ارتباطه بها، وانتفاءه عند انتفائها، وإذا قال القائل: إنما أكرم الرجل؛ لاختلإفه إليّ - كان ذلك أوضح في تضمن اختصاص إكرامه بمن يختلف إليه من قوله: من اختلف إليَّ أكرمته. فإن قيل: العلل الشرعية ليس من شرطها أن تنعكس، والمفهوم تعلق بادعاء العكس.

قلنا الآن: هذا كلام من لم يحط، بما أردناه، والقول في العلل المستنبطة وشرائطها وقوادحها ليس مما نحن فيه بسبيل؛ فإن غرضنا التعلق بما يقتضيه اللفظ في وضع اللسان اقتضاء ظاهرًا، ولا شك أن صيغة التعليل يظهر منها للفاهم ما أردناه، والقول في مأخذ العلل المستنبطة لا يأخذ من مقتضى العبارات والألفاظ، فهذا ما أردناه.

فإن قيل: خصصتم بالذكر العلة المناسبة للأحكام، وقد أطلق القائلون بالمفهوم أقوالهم بإثبات المفهوم بكل موصوف، فأثبتوا في ذلك ما هو الحق.

قلنا: الحق الذي نراه أن كل صفة لا يفهم منها مناسبة للحكم، فالموصوف بها كالملقب بلقبه، والقول في تخصيصه بالذكر، كالقول في تخصيص المسميات بألقابها.

فقول القائل: زيد يشبع إذا أكل كقوله: الأبيض يشبع؛ إذ لا أثر للبياض فيما ذكر، كما لا أثر للتسمية بزيد فيه. =

ص: 505

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهو قضية اختيار القاضي عبد الوَهَّاب كما ذكر المَازِرِيّ.

= ومن سر هذا الفصل أن شرط العلة المخيلة المستنبطة السلامة عن جمل من الاعتراضات والقوادح، ولا يشترط شيء من ذلك في القول بمفهوم كلام الشارع إذا اشتمل على ذكر موصوف، وفهم من الصفة مناسبة؛ فإن الكلام في ذلك يُدار على فهم الخطاب لا على شرائط العلل.

هذا تمام القول في استدلال إمام الحرمين على ما ذهب إليه من القول بمفهوم الوصف المناسب دون غيره.

ونوقش ما استدل به إمام الحرمين: بأنه مبني على اعتبار المناسبة في العلة، وهو ضعيف.

فإن القول الحق وهو ما ذهب إليه أكثر العلماء: أنه لا يعتبر في الوصف المنوط به الحكم أن يكون مناسبًا له بناءً على ما هو الحق من أن العلل أمارات ومعرفات للأحكام، ولا امتناع في جعل الجهل أمارة على الإكرام، والعلم أمارة على الإهانة.

وللنظر في هذه المناقشة مجال؛ فإنها لا تتلاقى مع كلام الإمام، فلا تصلح دافعة له؛ لأن استدلاله قائم على أن هذا هو المفهوم من وضع اللسان، لا على اعتبار المناسبة في العلة، والإمام رضي الله عنه قد استشعر من نفسه ما قد عساه يوهمه ظاهر كلامه من ذلك، فنبه عليه بالاستبعاد. ألا ترى إلى قوله:"والقول في العلل المستنبطة، وشرائطها، وقوادحها ليس مما نحن فيه؛ فإن غرضنا التعلق بما يقتضيه اللفظ في وضع اللسان اقتضاءً ظاهرًا؟ ولا شك أن صيغة التعليل يظهر منها للفاهم ما أردناه" فظاهر قول الإمام أن القول بمفهوم الوصف المناسب هو قضية اللسان، وليس آتيًا من ناحية كونه علة؛ إذ لا يشترط فيه ما يشترط في العلل من السلامة عن القوادح، وصلاحية استقلاله لإثبات الحكم في المنطوق به؛ لأنه لا يسند إلى المعنى، وإنما يسند إلى اللفظ، غاية ما في الأمر أن المناسبة عنده معتبرة؛ لترجيح قصد لاختصاص الحكم بالمنطوق به، وقطع الإلحاق.

فمن هذا يظهر لنا عدم تمام المناقشة المذكورة، وعدم ورودها على كلام الإمام، وإنما الذي يصح أن يقال دفعًا لكلامه هو أن المعول عليه في إثبات المفهوم هو النقل عن أئمة العربية، وهم لم يفرقوا بين ما كان الوصف مناسبًا، وبين ما كان غير مناسب، والدليل منتهض من غير تفصيل في استدلال الجمهور، وبه المعتصم. وإذا أردتم بيانًا أوضح، فالقول الفصل في هذا هو ما قاله الإمام الشَّافِعِيُّ في إثبات القول بالمفهوم من غير تفصيل: قال رضي الله عنه وأرضاه -: "إذا خصص الشارع موصوفًا بالذكر، فلا شَكَّ أنه لا يحمل تخصيصه على وفاق من غير انتحاء قصد التخصيص، وإجراء الكلام من غير فرض تجريد القصد إليه يزرى بأوساط الناس، فكيف ذلك بسيد الخليقة؟! فإذا تبين أنه إذا خصص، فقد قصد إلى التخصيص، =

ص: 506

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال "البَصْرِي

(1)

: إن كان" الخطاب ورد "للبيان كالسَّائمة" كما في قوله عليه

= فينبني على ذلك أن قصد الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الشرع ينبغي أن يكون محمولًا على غرض صحيح؛ إذ المقصود العرى عن الأغراض الصحيحة لا يليق بمنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا ثبت القصد، واستدعاؤه غرضًا، فليكن ذلك الغرض آيلًا إلى مقتضى الشرع، وإذا كان كذلك، وقد انحسمت جهات الاحتمالات في إفادة التخصيص انحصر القول في أن تخصيص الشيء الموصوف بالذكر يدل على أن العاري عنها حكمه بخلاف حكم المتصف بها، والذي يعضد ذلك من طريق التمثيل أن الرجل إذا قال: السودان إذا عطشوا لم يروهم إلا الماء. عُد ذلك من ركيك الكلام وهُجره.

وقيل لقائله: لا معنى لذكر السودان، وتخصيصهم مع العلم بأن من عداهم في معناهم. هذا تحرير كلام الشافعي، وهو بالغ الحسن، وبه أيضًا يندفع كلام إمام الحرمين، كما اندفع بما سبق، ويتبين عدم انتهاضه في إثبات مطلوبه، بل هذا هو الكلام؛ وهذا هو البيان، ولا يسعني إلا أن أقول:"قطعت جهيزة قول كل خطيب".

(1)

استدل أبو عبد الله البصري، ومن قال بقوله على ما ذهبوا إليه من تعليق الحكم بالصفة يدل على نفيه، عما عدا المتصف به إذا ورد للبيان، أو للتعليم، أو كان ما عدا الصفة داخلًا فيها، ولا يدل على النفي فيما عدا ذلك: بأن المقصود من الصفة إنما هو تمييز الموصوف بها عما سواه، كما أن المقصود من الاسم إنما هو تمييز المسمى عن غيره، وتعليق الحكم بالاسم نحو "زيد عالم" لا يدل على نفي العلم عمن لم يسم باسم زيد، فكذلك تعليق الحكم بالصفة.

هذا حاصل ما استدل به أبو عبدا الله البَصْرِي على ما ذهب إليه، كما جاء في "الإحكام" للآمدي.

"مناقشة الدليل"

نوقش هذا الدليل من وجهين:

أحدهما: أن هذا الدليل بوضعه المتقدم ينتج القول بعدم المفهوم مطلقًا، فإنه يجري في تعليق الحكم بالصفة مطلقًا، مع أنه يقول بالتفصيل.

ثانيهما: أن هذا الدليل يرجع إلى قياس تعليق الحكم بالصفة على تعليقه بالاسم في عدم الدلالة على النفي، بجامع أن المقصود في كل من الاسم والصفة هو التمييز، وهو قياس مع الفارق؛ فإن الكلام بدون ذكر الاسم يكون مختلًا، ولا يفيد، فكان المقصود منه تمييز المسمى فحسب، بخلاف الصفة، فإن الكلام لا يختل بدونها، فلم يكن المقصود منها التمييز فحسب.

فظهر بهذا أن هذا الدليل لا يصلح حجة للمستدل. =

ص: 507

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السلام: "فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ"، فإنه ورد بيانًا لآية الزكاة، "وللتعليم كالتحالف" في قوله

= هذا حاصل الكلام في مذهب أبي عبد الله البَصْرِيِّ، ودليله وما ورد عليه من المناقشات.

وأنت إذا تأملت فيما قاله أبو عبد الله البصري، وفي سياق دليله يتضح لك أن مذهب البصري يرجع في المعنى إلى مذهب القائلين بالنفي مطلقًا، وذلك لوجهين:

الوجه الأول: أن الدلالة على نفي الحكم عما عدا الموصوف بالصفة في الصور الثلاث، ليس آتيًا من ناحية تعليق الحكم على الوصف، بل من ناحية أخرى.

أما في الصورتين الأوليين: فمن ناحية ورود الخطاب للبيان والتعليم، فإن ذلك يفيد الحصر، وليس هذا مخصوصًا بالمقيد بالصفة، بل كل ما ورد للبيان قولًا، أو فعلًا، أو تقريرًا، منطوقًا، أو مفهومًا، ولو لقبًا يفيد الحصر، فإن لولاه لم يتم به البجان، فالبيان يفيد الحصر، وإلا لم يكن بيانًا.

وأما في الصورة الثالثة؛ فلأجل القرينة، فإن الشيء إذا كان داخلًا في الشيء، وتعلق الحكم بذلك الشيء أعني: الكل، فإن ذلك يقتضي نفي الحكم عن الجزء، وإلا لما كان لتعليقه بالكل معنى، والفرض أنه متعلق بالكل، على أنه لو تعلق الحكم بالجزء للزم عليه بطلان المنطوق؛ ألا ترى أنه لو قيل:"أحكم بشاهدين من رجالكم" فإن ذلك يقتضي المنع من الحكم بشاهد واحد؛ إذ لو ثبت الحكم بالشاهد الواحد، لما توقف الحكم على الشاهدين، وهو خلاف مقتضى المنطوق؛ لأنه صريح في توقف الحكم على الشاهدين، وأنه لا يحصل الامتثال إلا بهما.

فظهر أن الدلالة على نفي الحكم في هذه الصور خارجة عن نظم المفاهيم، ولهذا قال في "المنتهى": التخصيص في معرض البيان يدل على النفي إجماعًا إلا أنه خارج عن نَظْمِ المفاهيم.

الوجه الثاني: أن مساق دليله يدل على أنه يقول بنفي المفهوم مطلقًا، أما قوله: بنفي الحكم في الصور الثلاثة فلمعنى آخر لا لدلالة التعليق عليه، حتى يكون قائلًا بالمفهوم في هذه الصور، ولهذا لم يتعرض لدلالة التعليق على هذا النفي في دليله، ويؤيد هذا صنيع الآمدي في "الإحكام" فإنه ذكر هذا الدليل مع نسبته للبصري في أدلة النافين مطلقًا.

فمن هذين الوجهين يتبين لنا جليًّا أن مذهب أبي عبد اللّه البصري هو بعينه مذهب القائلين بنفي المفهوم، وليس مذهبًا آخر تصحيحًا لكلامه ما أمكن؛ إذ لو بقي على ظاهره؛ لكان مدخولًا في قوله، وفي استدلاله.

أما في قوله؛ فلأنه يقتضي أنه يقول بالمفهوم في هذه الصور، مع أنها خارجة عن نظم المفاهيم. =

ص: 508

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عليه السلام: "إِذَا اخْتَلَفَ المُتبَايِعَانِ تَحَالَفَا"

(1)

؛ وإنما جعل السائمة بيانًا لا تعليمًا؛ لأن الزكاة سبق وجوبها، بخلاف التحالف فإنه لم يسبق حكمه على قوله عليه السلام: "إِذَا اخْتَلَفَ المُتبَايِعَانِ

"، فالبيان ما تقدمه الحكم مجملًا، والتعليم ما يرد واضحًا لم يتقدمه شيء.

قال: "أو كان ما عدا الصفة داخلًا تحتها كالحكم بالشَّاهدين" دلّ على نفي الحكم عما عداه، "وإلّا فلا".

واختلف النَّقَلَةُ عن داود فقيل: يقول بمفهوم المُوَافقة والمخالفة جميعًا.

وقيل: بمفهوم الموافقة فقط

(2)

.

= وأما في استدلاله؛ فلأنه يقتضي النفي مطلقًا، مع أنه يقول بالتفصيل. ينظر: الإحكام للآمدي 2/ 151.

(1)

أخرجه الدارقطني (3/ 20)، والبيهقي (5/ 333). من حديث ابن مسعود، وللحديث طريق آخر عن ابن مسعود:

أخرجه أحمد (1/ 466)، والطيالسي (399)، والدارقطني (3/ 20)، والبيهقي (5/ 333)، والترمذي (1/ 240) معلقًا من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود بلفظ: إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة، فالقول ما يقول صاحب السلعة أو يترادان". وقال الترمذي: هو مرسل، وقال البيهقي: وهو منقطع.

وقد جاء موصولًا من رواية القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن جده.

أخرجه أبو داود (3512)، والدارمي (2/ 250)، وابن ماجة (2186)، والدارقطني (3/ 20).

(2)

لقد اتفق الأصوليون على صحة الاحتجاج بما يسمى بمفهوم الموافقة في إثبات الأحكام الشرعية ونفيها، ووجوب العمل به، كالمنطوق، ولم يخالف في ذلك أحد إلا الظاهرية.

حيث قالوا بعدم حجيته، وفي هذا يقول القاضي أبو يكر البَاقِلَّانِيُّ: القول بمفهوم الموافقة مجمع عليه من حيث الجملة.

وقال ابن رشد: لا ينبغي للظاهرية أن يخالفوا في مفهوم الموافقة؛ لأنه من باب السمع، والذي يرد ذلك يرد نوعًا من أنواع الخطاب.

وقال الزركشي: وقد خالف فيه ابن حزم.

قال ابن تيمية: وهو مكابرة.

وفي الحق أن ابن حزم هو الذي حمل لواء القول بإنكار حجيته، ونسب ذلك إلى الظاهرية، =

ص: 509

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثم اختلف المُثْبتون للمفهوم.

فقال أكثر أصحابنا: دليله اللغة، ووضع اللسان، وهو الصحيح.

وقال بعضهم: الشرع.

وقال الإمام الرازي: العرف العام.

واختلفوا أيضًا هل دَلّ على النفي عما عداه مطلقًا، سواء أكان من جنس المثبت فيه أم لم يكن، أو اختصت دلالته بما إذا كان من جنسه؟.

مثاله: إذا قلنا: في الغنم السائمة زكاة.

فهل نفينا الزكاة عن المعلوفة مطلقًا سواء أكانت من الإبل أم البقر أم الغنم، أو لم ننف إلَّا عن معلوفة الغنم؟

على قولين حكاهما الإمام الرازي وغيره، وحَكَاه الشيخ أبو حامد خلافًا لأصحابنا.

وقال: الصحيح تخصيصه بالنَّفْي عن مَعْلُوفة الغنم فقط.

= وتولى الدفاع عن هذا القول على شذوذه، وتهجّم على جماهير العلماء، وأتى في هذا الباب بالشيء الكثير من الشبه التي سماها حججًا وردودًا مع أنها لا تخرج في مجموعها عن شبه واهية لا تغنى من الحق شيئًا، ومكابرة لا تسيغها قوانين المناظرة.

هذا: والنزاع في حجية مفهوم الموافقة إثباتًا ونفيًا يرجع في المعنى إلى الخلاف في تحقق مفهوم الموافقة، وعدم تحققه؛ بمعنى أن القول بحجية مفهوم الموافقة يرجع في المعنى إلى القول بأن النص الدال على ثبوت الحكم في محل النطق، يدل على ثبوته أيضًا في محل السكوت؛ لاشتماله على المعنى الذي ثبت الحكم لأجله في محل النطق سواء كان محل السُّكوت أولى بالحكم من محل النطق، أو مساويًا له فيه.

والقول بعدم حجيته، كما قالت بذلك الظاهرية يرجع في المعنى إلى القول بعدم دلالة النص على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت الأولى، أو المساوي. هذا هو المراد بالنزاع في حجية مفهوم الموافقة إثباتًا ونفيًا، وليس المراد به ما يتبادر من ظاهر التعبير بالخلاف في الحجية من الاتفاق على تحقق مفهوم الموافقة، وأنَّ المنطوق له دلالة على المسكوت، والخلاف بعد ذلك إنما هو في حجية هذه الدلالة والعمل بها؛ إذ بعد تسليم تحقق الدلالة المذكورة لا يَتَأتَّى الخلاف في حجيتها، وإلا لزم القول بإسقاط نوع من أنواع الدلالات الشرعية مع التسليم بتحققها.

ص: 510

الْمُثْبِتُونَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتهُ وَعِرْضهُ": يَدُلُّ عَلَى أَنّ لَيَّ مَنْ لَيْسَ بِوَاجِدٍ لَا يُحِلُّ عُقُوبَتهُ وَعِرْضَه، وَفِي:"مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ" مِثْلَهُ.

وَقِيلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "خَيْرٌ لَهُ مِنَ أَنْ يَمْتَلِيءَ شِعْرًا الْمُرَادُ: الْهِجَاءُ وَهِجَاءُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الاِمْتِلاءِ مَعْنًى؛ لأِنَّ قَلِيلَهُ كَذَلِكَ، فَأُلْزِمَ مِنْ تَقْدِيرِ الصِّفَةِ الْمَفْهُومُ.

وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَهُمَا عَالِمَانِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ؛ فَالظَّاهِرُ فَهْمُهمَا ذَلِكَ لُغَةً.

قَالُوا: بَنَيَا عَلَى اجْتِهَادِهِمَا.

أُجِيبَ: بِأَنَّ اللَّغُةَ تَثْبُتُ بِقَوْلِ الأئِمَّةِ مِن أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلا يَقْدَحُ فِيهِمَا التَّجْوِيزُ.

وَعُورِضَا: بِمَذْهَبِ الأخْفَشِ.

وَأُجِيبَ: بِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَذَلِكَ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَمَنْ ذَكَرْنَاهُ أَرْجَح، وَلَوْ سُلَّمَ فَالْمُثْبِتُ أَوْلَى.

الشرح: واحتجّ "المثبتون" لمفهوم الصفة بأنه قد "قال أبو عبيد" القاسم بن سلام "في" قوله عليه السلام: "لَيُّ [الوَاجِدِ]

(1)

يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وعِرضَهُ".

وهو حديث رواه البخاري "تعليقًا" بغير صيغة الجزم، وأخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة أنه "يدلّ على أن في من ليس [بواجد]

(2)

لا يحلّ عقوبته وعرضه".

فلذلك قال "في" قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الكتب السّنة: "مَطْلُ الغَنِيّ ظُلْمٌ" مثله"، وقيل له في قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في "الصحيحين": "لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قيحًا يربه "خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا"

(3)

: المراد" بهذا: الشعر المذموم" الهجاء، وهجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: لو

(1)

في ت: الواحد.

(2)

في أ، ت: بواحد.

(3)

أخرجه البخاري 10/ 548، في كتاب الأدب: باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر (6155)، ومسلم 4/ 1769، وفي الشعر 7/ 2257.

ص: 511

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى؛ لأن قليله كذلك"، [واستدل به]

(1)

"فألزم من تقدير الصفة المفهوم"، واستدلّ به على أن قليل الشعر غير مذموم.

"وقال به الشَّافعي، وهما" أعني الشَّافعي، وأبا عبيد "عالمان بِلُغَةِ العرب، فالظاهر فيهما ذلك لغة"، ولا يخفى عليك أن هذا الدَّليل يدل على أن المفهوم حجة بوضع اللغة.

"قالوا: بنيا على اجتهادهما"، واجتهادهما ليس حجة على غيرهما.

"أجيب: بأن اللغة تثبت بقول الأئمة" ولا يقدح فيهما هذا التجويز".

قال أصحابنا: وأيضًا فأبو عبيد إنما فسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه على ما عرفه من لسان العرب لا على ما يعرض في خاطره، وقد كانوا يحترزون في تفسير الحديث أشدّ الاحتراز.

"و" قد "عورض" الاستدلال بالشَّافعي، والقاسم بن سلام "بمذهب الأخفش"؛ فإنه أنكر دليل الخطاب، وهو أيضًا من أهل اللغة.

"وأجيب بأنه" رأيٌ "لم يثبت كذلك".

فإن رأى الشافعي نقله الجمع العظيم، وهم أصحابه الذين طبقوا طبق الأرض، ورَأْى أبي عبيد نقله المعتنون بـ"غريب الحديث"، وهم عدد لا يحصى.

"ولو سلم فمن ذكرناه أرجح" من الأخفش.

"ولو سلم" التساوي "فالمثبت أولى".

ثم معارضة أبي عبيد بالأخفش ربما يسهل أمرها لأنهما ناقلان عن لسان العرب، وإن ترجح أبو عبيد بزيادة الثبت والعلم، وصحة السند إليه، وأنه مثبت.

وأما معارضة الشافعي به فمن الطَّامات الكُبَر؛ فإن الشافعي قرشى متين، ومنطقه طَبْعُهُ، وحملة [الشريعة]

(2)

يستدلون بقول أعرابي جلف بَوّال على عقبيه، فكيف لا يستدلّون بابن عم المصطفي عليه الصلاة والسلام، الذي تَفَقَّأت عنه بَيْضَةُ بني مضر، وثمرة الشجرة التي أظلت أهل البدو والحَضَر، ومن قال فيه الأصمعي: إن له لغة يحتج بها.

(1)

سقط في أ، ب.

(2)

في ج: الشرع.

ص: 512

وَأَيْضًا: لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ مَحَلِّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، وَتَخْصِيصُ، آحَادِ الْبُلَغَاءِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ مُمْتَنِعٌ، فَالشارعُ أَجْدَرُ.

اعْتُرِضَ: لا يَثْبُتُ بالوَضْعِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ.

وَأُجِيبَ بِأنَّهُ يُعْلَمُ بِالاِسْتِقْراءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلَّفظِ فَائِدةٌ سِوَى.

وَاحِدَةٍ تَعَيَّنَتْ. وَأَيْضًا: ثَبَتَتَ دِلالَة التَّنْبِيهِ بِالاِسْتِبْعَادِ اتِّفَاقًا؛ فَهَذَا أَوْلَى.

ولا حاصل لدفع إمام الحرمين هذه الطريق بأن الأعرابي منطقه طَبْعُه، والأئمة في مسالك النظر بالدليل مطالبون.

فإن الشافعي إن كان نطق بطبعه فهو حُجّة، وإن نقل عن عشرته فهو ثقة، ثم نَقْله أولى بالاعتبار من نقل الأحاديث.

الشرح: "وأيضًا لَو لم يدل" دليل الخطاب "على المُخَالفة، لم يكن لتخصيص محلّ النطق بالذكر فائدة، وتخصيص آحاد البلغاء لغير فائدة ممتنع، فالشارع أجدر".

وهذا هو الذي اعتمده الشّافعي رضي الله عنه وهو يدلّ على أنه حجّة بالشرع، وليس فيه ما يدل على أنه بوضع اللغة.

"واعترض" بأن الاستدلال بأنه لا فائدة سوى التخصيص على أنه وضع لذلك لا يستقيم؛ لما علم منه أنه "لا يثبت بالوضع بما فيه من الفائدة".

"وأجيب: بأنه يعلم بالاستقراء" من لغة العرب الذين هم فُرْسَان الكلام أنه "إذا لم يكن للفظ فائدة سوى واحدة تعينت"، فإِذًا لم يثبت الوضع بالفائدة، بل بالاستقراء للقاعدة الكلية: أن كلّ ما لا فائدة للفظ سواه تعين هو، "وأيضًا تثبت دلالة [التنبيه]

(1)

بالاستبعاد" المجرّد حيث قلنا؛ لو لم يكن للتعليل لكان ذكره بعيدًا من الشارع، فكان "اتفاقًا، وهذا أولى".

ولقائل أن يقول: هذا لا يتم إلّا إن كانت الدعوى ثبوت المفهوم بالشرع دون اللغة.

(1)

في أ، ت: البينة.

ص: 513

وَاعْتُرِضَ لِمَفْهُومِ اللَّقَبِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَوْ أُسْقِطَ لاخْتَلَّ الْكَلامُ؛ فَلا مُقْتَضَى لِلْمَفْهُومِ فِيهِ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ تَقْوِيَةُ الدِّلالَةِ حَتَّى لا يُتَوهَّمَ تَخْصِيصٌ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ فَرْعُ الْعُمومِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ؛ وَإِنْ سُلِّمَ فِي بَعْضِهَا خَرَجَ؛ فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَا شَيْء يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ سِوى الْمُخَالفَةِ.

الشرح: "واعترض" ثانيًا - والمعترض إمام الحرمين - "بمفهوم اللقب" أو يجيء فيه مثل ذلك، فيقال: لو لم ينف الحكم عَمَّا عداه لم يكن ذكره مفيدًا، فيلزم أن يعتبر، وهو غير معتبر عندنا.

"وأجيب: بأنه لو أسقط" اللّقب "لاختلّ الكلام"، فلم يصدق أنه لو لم يثبت المفهوم، لم يكن ذكره مفيدًا، "فلا مقتضى للمفهوم فيه"، بخلاف الضفة، فإن الكلام لا يختل بسقوطها.

"واعترض" ثالثًا بأن قولكم: لا فائدة إلَّا التخصيص ممنوع؛ "فإنَّ فائدته تقويةُ الدلالة حتى لا يتوهّم تخصيص" بما وراء الملفوظ، وأن الملفوظ خارج.

وحاصله: أنه لو قيل: "في الغنم زكاة" عمّ السائمةَ والمعلوفَة، وكان يجوز والحالة هذه إخراج السائمة؛ بالاجتهاد، فذكرت السائمة لينبه على أنه لا يجوز إخراجها؛ لأنها أولى.

فربّ صفة تأتي لتبين أنها أولى، فلم يتعين أن يكون إثباتها لأجل نفي الحكم عما عداه.

"وأجيب بأن ذلك فرع العموم".

وتقريره: أن قولكم: "ذكر السَّائمة لينبّه على أنها لا تخرج" فرع تعميم لفظ "الغنم" في قوله: "الغنم السَّائمة"، وأن المعنى: في الغنم لا سيما السَّائمة زكاة، ولو كان كذلك وجب إخراج زكاة المعلوفة والسَّائمة لفظًا؛ لاندراجها تحت العموم، ولم تتميز السَّائمة إلَّا بأنها لا تخرج بالاجتهاد، [وهذا]

(1)

"لا قائل به"؛ فإن الناس بين قائل بدلالة هذا اللفظ

(1)

في ت: وكذا.

ص: 514

وَاعْتُرِضَ بِأَن فَائِدَتَهُ ثَوَابُ الاِجْتِهَادِ بالْقِيَاسِ فِيهِ.

وَأُجِيبَ: بِأنَّهُ بِتَقْدِيرِ الْمُسَاوَاةِ يَخْرُجُ وَإِلَّا انْدَرَجَ. واسْتُدِلَّ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَصْرِ لَزِمَ الاِشْتِرَاكُ إِذْ لا وَاسِطَةَ، وَلَيْسَ للاشْتِرَاكِ؛ بِاتِّفَاقٍ.

وَأُجِيبَ: إِن عَنَى السَّائِمَةَ فَلَيْسَ مَحَلَّ النِّزاعِ، وَإِنْ عَنَى إِيجابَ الزَّكَاةِ فِيهَا فَلَا دَلالَةَ لَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

على انتفاء الحكم فيما عدا السَّائمة، وهم أصحاب المفاهيم، وقائل بأنه مسكوت عنه، وهم المنكرون.

أما القول بأنه داخل فخارق للإجماع، فإذن لا عموم إجماعًا حتى يدعى أن ما ذكر فائدة.

"ولو سلم" العموم "في بعضها" أي في بعض الصور "خرج" عن محل النّزاع، "فإن الغرض أنه لا شيء يقتضي تخصيصه" بالذِّكْر "سوى المخالفة".

فإن كان التَّخصيص لغرض سوى هذا لم يكن له مفهوم؛ وهذا كما في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [سورة الإسراء: الآية 31] جاء لئلا يتوهم أنه لم يرد، وليدل على ما عداه بطريق أولى.

فاعتمدْ هذا التقرير.

الشرح: "واعترض" أيضًا - والمعترض القاضي في "التقريب" - "بأن فائدته""ثواب الاجتهاد بالقياس فيه"، وهو إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق لمعنى خارج، وهذه فائدة.

"وأجيب: بأنه" لا قياس إلا عند المساواة، و "بتقدير المساواة يخرج" عن صورة المسألة؛ لأن صورة المفهوم الذي فيه نتكلم ألَّا يكون المسكوت مساويًا ولا أولى بالحكم، "وإلَّا" فإن انتفت المساواة والأولوية "اندرج" فيما لا فائدة له إلَّا نفي الحكم؛ لانتفاء فائدة القياس.

"واستدلّ" على المطلوب بدليل غير مرضى، فقيل:"لو لم يكن" ذكر الوصف "للحصر" أي: دالًّا على نفي الحكم عما عَدَاه "لزم الاشتراك" بين المسكوت والمنطوق في الحكم؛ "إذ لا واسطة" بين الاختصاص والاشتراك، "وليس" التخصيص "للاشتراك باتفاق"، بل غايته أنه محتمل، فثبت الاختصاص، أعنى الحصر.

ص: 515

الإِمَامُ: لَوْ لَمْ يُفِدِ الْحَصْرَ لَمْ يُفِدِ الاِخْتِصَاصَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لأَنَّهُ بِمَعْنَاه، وَالثَّانِيَةُ مَعْلُومَةٌ، وَهُوَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ؛ فَإنَّهُ إِنْ عَنَى لَفْظَ السَّائِمَةِ فَلَيْسَ مَحَلَّ النِّزاعِ، وَإِنْ عَنَى الْحُكْمَ الْمُتَعَلقَ بِهَا فَلَا دَلالَةَ [لَهُ] عَلَى الْحَصْرِ، وَيَجْرِيَانِ مَعًا فِي اللَّقَبِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.

"وأجيب: إن عنى" هذا القائل "السَّائمة" بالحصر أي: أن وصف السَّائمة منتفٍ عن المَعْلُوفة، "فليس محلّ النزاع"، بل ذلك واقع بلا شكّ.

"وإن عنى" بالحصر أن "إيجاب الزكاة" منحصر "فيها" فلا نسلّم أن اللَّفظ لو لم يدلّ عليه لتعين الاشتراك، بل ثَمّ واسطة، وهي عدم التعرض لأحدهما لا بنفي ولا بإثبات، "فلا دلالة على واحد منهما".

والحاصل: أنه يلزم من عدم الاختصاص الاشتراك، ولا يلزم من عدم إفادة الاختصاص الاشتراك، وإفادته له.

الشرح: واحتجّ "الإمام" على إثبات المفهوم بأنه "لو لم يفد" التقبيد بالوَصْفِ "الحصر لم يفد الاختصاص به دون غيره"، واللازم منتفٍ، فكذا الملزوم، والملازمة بيّنة؛ "لأنه بمعناه" أي: لأن اللازم بمعنى الملزوم؛ إذ لا معنى للحصر فيه إلا اختصاصه به دون غيره، فإذا لم يحصل الاختصاص لم يحصل الحصر.

"والثَّانية معلومة" أي: وانتفاء اللازم معلوم؛ للعلم الضروري أنه يفيد اختصاص الحكم بالمذكور.

"وهو" أي: هذا الدليل "مثل ما تقدم" من الدَّليل قبله.

"فإنه إن عنى لفظ السَّائمة"، وأنه منتفٍ في المعلوفة، "فليس محل النزاع".

"وإن عنى الحكم المتعلّق بها"، وأنه منتفٍ في المعلوفة، "فلا" نسلّم صحة الملازمة؛ إذ لا "دلالة له على الحَصْر"، ولا يلزم من لزوم أحد الأمرين دلالة اللفظ على أحدهما.

واعلم أنا لم نَرَ هذا الدَّليل في كلام الإمام، وقد عرفناك أن مختاره في المسألة التفصيل.

"ويجريان" أي: هذان الاستدلالان "معًا في "مفهوم "اللَّقب، وهو باطل"، فلو صحا لصح.

ص: 516

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ووجه جريانهما أن يقال: لو لم يكن اللَّقب للحصر، لكان الاشتراك، واللازم باطل، ولو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص، ولكنه أفاد فأفاد. هكذا قرر الشَّارحون هذا الدليل وجوابه.

ولقائل أن يقول: إذا كان معنى الحَصْر الاختصاص، فكيف يحسن بذي نَظَرٍ أن يجعل اللازم هو الملزوم، وكيف يحسن قوله:"إن انتفاء اللازم معلوم" مع كونه والحالة هذه محل النزاع؟

وقول المصنّف: إنه مثل ما تقدم فيه نظر؛ فإنَّ اللازم هناك الاشتراك، وهنا عدم إفادة الاختصاص، ولو كان مثله لأغنى ذكر الأول عنه.

والوجه عندي أن يقال: المراد بـ "الاختصاص" تخصيص الوصف بالذّكر كالسَّائمة مثلًا، وبـ "الحصر" انتفاء الحكم عما عدا المنطوق.

وبين الاختصاص والحصر فَرْق سنذكره عند ختام المَفَاهيم إن شاء الله - تعالى - من كلام الحَبْرِ الذي لم يسمح الدهر منذ ثلاثمائة عام بنظيره فيما ندين الله به.

ثم تقرير الدليل أن يقال: لو لم يفد التقييد بالوصف الحصر، لم يفد الاختصاص شيئًا، و"الاختصاص" مرفوع، و"شيئًا" مفعول أفاد حذف اختصارًا لكنه مقيد قطعًا.

وألا يكون ذكره لغوًا، وإن أفاد شيئًا تعين أن يكون هو الحَصْر؛ إذ لو أفاد غيره لم يكن صورة المسألة؛ لأن صورتها ألَّا يكون هناك فائدة غير نفي الحكم.

ولو اختصر هذا الدليل لقيل: لا بد لتخصيص الوصف بالذكر من فائدة، وما عدا نفي الحكم منتفٍ بالغرض، فتعين أن يكون هو.

وأشار إلى أنه لا بد من فائدة بقوله: والثانية معلومة.

وإلى بيان الملازمة بقوله: لأنه بمعناه أي: لأن الاختصاص بالذكر بمعنى الحصر في هذا المقام، وكما دلَّ الحصر على الانتفاء ينبغي أن يدلّ الاختصاص بالذكر.

فإن قلت: فما وجه كونه بمعناه؟

قلت: إنه لا فائدة إلَّا نفي الحكم، ولا بد من فائدة، فتعين أن يكون التخصيص لنفي الحكم كما أنه لا فائدة في الحصر إلا نفي الحكم.

ص: 517

وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: الْفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةُ أَئِمَّةٌ فُضلاءُ، نَفَرَتِ الشَّافِعِيَّة، وَلَوْلا ذلِكَ مَا نَفَرَتْ.

وأُجِيبَ بِأَنَّ النَّفْرَةَ مِنْ تَرْكِهِمْ عَلَى الاِحْتِمَالِ كَمَا يُنْفَرُ مِنَ التَّقْدِيم أَوْ لِتَوَهُّم الْمُعْتقِدِينَ ذلِكَ.

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [سورة التوبة: الآية 80] فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "لأزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ" فَفُهِمَ أَنَّ مَا زَادَ بِخِلافِهِ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ.

وَأُجِيبَ بِمَنع فَهْمِ ذلِكَ؛ لأِنَّهَا مُبَالَغَةٌ، فَتَسَاوَيَا، أَوْ لَعَلَّهُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْجَوَازِ، فَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ.

وتقرير الجواب أن يقال: هذا مثل ما تقدَّم، فإنهما اشتركا في المأخذ، وهو أنه لا بد من فائدة لكن لم جعلتم اللَّازم في الأول الاشتراك، وفي الثاني عدم الفائدة؟

فنقول: إن عنيتم بالذي لا بد له من فائدة لفظ السَّائمة، فليس محلّ النزاع؛ إذ النزاع إنما هو في تعليق الحكم به لا في مجرد لفظ.

وإن عنيتم الحكم المتعلّق، فلا دلالة لتخصيصه بالذكر على الحصر، بل غايته أن يجعل السائمة منطوقًا، والمعلوفة مسكوتًا عنها.

والحاصل أن المستدل يصور أن المعلوفة إما أن تجب فيها الزكاة، فيتناول المنطوقة، فلا يكون لذكر السَّائمة فائدة، أوْ لا، فيثبت مفهوم المخالفة.

ونحن نقول: هناك واسطة، وهي أن يكون مسكوتًا عنها.

وفائدة اختصاص الوصف بالذكر صيرورة المَعْلُوفة غير محكوم فيها بشيء.

وفرق بين عدم الحُكْم اللازم من تخصيص الوصف بالذكر، والحُكْم بالعدم الذي يدعي من يقول بالمفهوم ثبوته.

ولقائل أن يقول: تضمّن الجواب دعوى أن لذكر الوصف فائدة غير انتفاء الحكم عما عدا الملفوظ، وهي صَيْرُورَةُ المعلوفة مسكوتًا عنها.

وقلتم: فرض المسألة يأباه؛ ولكن تم سقط دليلكم السايق حيث قلتم: وأيضًا لو لم

ص: 518

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يدل لم يكن [لتخصيص]

(1)

محل النطق فائدة.

وإن لم يتم كان هذا الدَّليل هو ذلك الدليل.

وقول المصنّف: "إن هذين الدليلين يجريان في اللَّقب" فيه نظر قدمه، وهو أن اللقب لو أسقطه لاختل الكلام، فما باله لم ينبه عليه هنا؟ ولا يخفى ما في هذا الكتاب من التعسُّف.

الشرح: "واستدلّ" أيضًا "بأنه لو قيل: الفقهاء الحنفية أئمة فضلاء، نفرت الشَّافعية، ولولا" فهمها من "ذلك" الحصر "ما نفوت".

وهذا دليل لائق بمن يدعي أن دليل كون المفهوم حجَّة [العرف]

(2)

العام لا وضع اللغة ولا الشرع.

"وأجيب: بأن النّفرة من تركهم على الاحتمال كما تنفر من التقديم، أو لتوهّم المعتقدين ذلك"، فيقرب من ذلك عبارة يتوهم منها بعض النَّاس نفي الفضل عنهم.

وقد تمَّت الدلائل المختصة بمفهوم الصفة المغاير للعدد والشرط والغاية ما بين: مرتضٍ، ومزيف، ودالّ على أنه باللُّغة، أو الشرع، أو العرف، فلنذكر ما يختصّ بغيره، وما يشمل مفهوم - الصفة من حيث هو، عددًا كان، أو شرطًا، أو تقييدًا، بوصف أو غاية، فنقول:"واستدل" على مفهوم العدد

(3)

"بقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [سورة

(1)

في ت: التخصيص.

(2)

في ت: الفرق.

(3)

إذا علق حكم بعدد معين نحو: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ، فهل يدل ذلك على نفي الحكم عما عدا ذلك العدد أولا؟ اختلف العلماء في ذلك على طريقين:

الطريق الأول: أنه يدل، واليه ذهب مالك ونقله عن الشافعي أبو حامد، وأبو الطيب الطبري، والماوردي وغيرهم، ونقله أبو الخطاب الحنبلي في "تمهيده" عن أحمد بن حنبل، وبه قال داود الظاهري، وكذا الطحاوي، وصاحب "الهداية"، والكرخي، ورضي الدين صاحب "المحيط" من الحنفية.

الطريق الثاني: أنه لا يدل، وإليه ذهب أصحاب الشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابه، وابن داود، والمعتزلة، والأشعرية، والقاضي أبو بكر الباقلاني، واختاره إمام الحرمين والإمام البيضاوي في "المنهاج"، وجرى عليه الإمام الرازي في "المحصول" والآمدي في "الإحكام". والآن يجدر =

ص: 519

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بنا قبل الخوض في حجج الفريقين المتنازعين أن نوضح أن محل النزاع مقيد بالقيود الآتية:

الأول: أن يكون المذكور هو العدد نفسه، كاثنين، وثلاثة وعشرة .... الخ.

وأما ذكر المعدود، فلا نزاع في أنه لا مفهوم له، فقوله صلى الله عليه وسلم:"أُحِلَّتْ لَنَا مَيتَتَانِ وَدَمَانِ" لا يدل على عدم حل ميتة أخرى، وإِنما كان الخلاف في العدد لا في المعدود؛ لأن - العدد صفة في المعنى، فقولنا:"في خَمْسٍ مِنَ الإِبلِ شَاةٌ" في معنى قولنا: في إِبل خمس، بجعل خمس صفة للإِبل، وهي إِحدى صفتي الذات؛ لأن الإِبل قد نكون خمسًا، وقد تكون غير ذلك، فلما قيد وجوب الشاة فيها بالخمس، فهم أن غيرها بخلاف ذلك، بخلاف المعدود فإِنه لما لم يذكر معه أمر زائد يفهم منه انتفاء الحكم عما عداه صار كاللقب، واللقب لا فرق فيه بين أن يكون واحدًا، أو مثنى، أو جمعًا. ألا ترى أنك لو قلت رجال لم يتوهم أن صيغة الجمع عدد، ولا يفهم منها ما يفهم من التخصيص بالعدد، فكذلك المثنى؛ لأنه اسم موضوع لاثنين، كما أن الرجال اسم موضوع لما زاد على ذلك، فلهذا لم يكن قوله صلى الله عليه وسلم "ميْتَتَان؛ يدل على نفي حِلِّ ميتة ثالثة، كما أنه لو قال: أحلت لنا ميتة لم يدل على عدم حلّ ميتة أخرى، نعم إِذا أريد بالمعدود العدد كان محل خلاف كالعدد نفسه، وتفصيل ذلك أن المثنى من جنس تارة يراد به ذلك الجنس، ويكون جانب العدد مغمورًا معه، وتارة يراد به العدد من ذلك الجنس، ويظهر هذا بأنك إِذا أردت الأول قلت: جاءني رجلان لا امرأتان، فلا ينافي ذلك أن يكون جاءه رجال ثلاثة؛ لأن المراد بالمثنى هنا الجنس لا العدد، وإذا أردت الثَّاني قلت: جاءني رجلان لا ثلاثة، فلا ينافي ذلك أن يكون جاءه نسوة؛ لأن المراد هنا العدد من ذلك الجنس، وكذلك الحال في المفرد تقول: جاءني رجل لا امرأة في الأول، أو جاءني رجل لا رجلان في الثَّاني، فإِن كان في الكلام قرينة لفظية، أو حالية تبين المراد اتبعت، وعمل بحسبها، وإلا فلا دليل فيه لواحد منهما، فمن الأول حديث "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ" لأنه سيق لبيان حلّ هاتين الميتتين، وليس فيه إِشعار بحكم ما سوى ذلك، فكان المقصود منه المعدود لا العدد، ومن الثَّاني قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ" لأن قوله: "إِذَا بَلَغَ" قرينة دالة على أنه أريد التقييد بهذا القدر المخصوص، فكانت صفة العدد فيه هي المقصودة، ولذلك صح التمسك به عند القائلين بالمفهوم.

الثَّاني: ألا يكون المقصود من ذكر العدد التكثير، أما إِذا قصد به ذلك كالسبعين والألف، وغيرهما ممَّا جرى مجراهما في قصد التكثير، والمبالغة في لسان أهل اللغة، فإِنه لا يدل على التحديد، ولا يكون له مفهوم اتفاقًا. قاله ابن فورك.

الثالث: ألا يقصد بذكر العدد المعين التنبيه به على ما زاد عليه، وإِلا فلا يدل التقييد به على =

ص: 520

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التوبة: الآية 80] " فقال صلى الله عليه وسلم: "لأزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ"

(1)

، وهو أفصح من نطق بالضاد "أن ما زاد بخلافه"، وذلك مفهوم عدد، ومفهوم الصفة أدل منه، فإِذا ثبت هذا فما ظنّك بمفهوم الصفة؟.

أو نقول: ومفهوم العدد مفهوم صفة، فإِذا ثبت الخاصّ ثبت العامّ، "والحديث صحيح" متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم، فلا يغرنك قول الغزالي: الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح؛ فإِنه تلقّاه من إِمام الحرمين، والإِمام تلقَّاه من القاضي، ولو علموا أنه في الصحيحين لما قالوا ذلك على أن عبارة القاضي في "التقريب": هذا الخبر من أخبار الآحاد الذي لا نعلم ثبوتها فلا حجة فيه، يعني في المسائل الأصولية على عادته في تطلّب القواطع. وإِذا وضح هذا الدَّليل فنقول: لمفهوم العدد صورتان:

لأنه إِما أن يدّعي دلالته على الزائد، أو الناقص، وصورة ثالثة وهي دعوى دلالته عليهما، وهذا دَليل على الزائد، وسنذكر دليلًا على النَّاقص.

= أن ما عداه حكمه بخلافه كحديث "إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خبثًا" فإِن في العدد المذكور تنبيهًا على أن ما زاد عليه أولى بعدم حمل الخبث؛ لأن ما زاد على القلتين فيه القلتان وزيادة، وتعليق الحكم بالقلتين إِنما كان لمعنى الكثرة الدافعة للخبث، وإِذا كانت هذه الكثرة متحققة في القلتين كانت متحققة فيما زاد عليهما من باب أولى، فيكون الحكم في محل السكوت ثابتًا بمفهوم الموافقة الأولى، وهذا القيد الأخير، وإِن كان معلومًا ممَّا سبق إِلَّا أننا أوردناه هنا زيادة في الإِيضاح. ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 37، والبرهان لإِمام الحرمين 1/ 466، والتمهيد للأسنوي 252، ونهاية السول له 2/ 221، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 39، وحاشية البناني 1/ 251، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 30، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 328، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 100.

(1)

حين هم بالصلاة على عبد الله بن أُبي بن سلول زعيم المنافقين؛ فإِنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فهم من قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} أن ما زاد على السبعين مخالف له في الحكم، وذلك مفهوم العدد، وإِذا كان فهم واحد من أهل اللسان حجة، فكيف بفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَثَبَتَ بهذا مفهوم العدد، وهو المطلوب.

والحديث أخرجه الطبري في "تفسيره"(10/ 138) من حديث ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 224) وعزاه لابن مردويه عن عروة بمعنى حديث ابن عباس.

ص: 521

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ لِعُمَرَ رضي الله عنهما: مَا بَالنا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء: الآية 101]؟ - فَقَال عُمَرُ: تَعَجَّبْتُ مِمَّا تَعَجَّبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُهُ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: "إِنَّمَا هِيَ صَدَقَة تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" فَفَهِمَا نَفْيَ الْقَصْرِ حَالَ عَدَمِ الْخَوْفِ، وَأقَرَّ عليه الصلاة والسلام عُمَرَ.

وَأُجِيبَ بِجَوَازِ أَنَّهُمَا اسْتَصْحَبَا وُجُوبَ الْإِتْمَام؛ فَلا يَتَعَيَّنُ.

وأما الثَّالثة: فإِذا قام الدَّليلان [ثبت]

(1)

.

"وأجيب": إِما "بمنع فهم ذلك؛ لأنها" أي السبعين "مبالغة" في نفي المغفرة، ومن عادة العَرَبِ المبالغة بلفظ السَّبعين، "فتساويا" حينئذٍ، أعني ذكر العدد وعدمه؛ لأنه ليس مقصودًا، وإِنما المقصود المبالغة، فلا فرق بين السبعين وما زاد، وإِذا كان كذلك فلا جائز أن يكون عليه السلام فهم أن ما زاد على السَّبعين بخلافه؛ لأن ذلك إِنما يتخيل حيث يكون المقصود العدد الخاص، وهو لم يكن المقصود، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يفهم إِلا المقصود.

"أو" يسلم أن العدد مقصود، ونقول: إِن الزائد على السبعين "لعلّه باقٍ على أصله في الجواز، فلم يفهم منه"، بل قال: لأزيدن" لأن الأصل جواز الاستغفار، وكونه مظنة الإِجابة، فالفهم من حيث إِنه الأصل لا من التَّخصيص بالذكر.

وهذا الجواب هو الصحيح، وأما الذي قبله فذكره القاضي بناء على اعتقاده أن الحديث لم يصح.

وقد قلنا: إِنه صحيح.

ولذلك قال المصنّف: والأوجه لمنع الفهم بعد ثبوت الحديث، فلو اقتصر المصنّف - رحمه ا لله - على هذا كان أولى.

الشرح: "واستدلّ" على الشرط "بقول يعلى بن أمية لعمر: مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا، وقد قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [سورة النساء: الآية 101]؟ فقال عمر: تعجّبت ممَّا تعجبت منه فسألته صلى الله عليه وسلم فقال: "إِنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ"،

(1)

في ج: ثبتت.

ص: 522

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ففهما نفي القصر حال عدم الخوف، وأقر صلى الله عليه وسلم عمر" على ما فهم، فكان دليلًا على صحة المفهوم.

أخبرنا أبي - تغمّده الله برحمته - قراءة عليه، وأنا حاضر في الرَّابعة، أنا أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الحافظ بقراءتي عليه، أنا الشَّيخان يحيى بن أبي [مسعود]

(1)

بن العميرة، والأعز بن الفضائل بن العليق قال ابن العميرة: أخبرتنا شهدة بنت أبي نصر الإِبري

(2)

، وقال ابن العليق: أنا أبو الحسين عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر بن يوسف، أنا أبو غالب محمد بن الحسن الباقلّاني، أنا أبو علي بن شاذان، أنا عثمان بن السّماك، وسعيد بن إِسحاق، وأبو سهل بن زياد قالوا: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا إِدريس عن [ابن]

(3)

أبي عمار عن عبد الله بن ثابتة عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إِن خفتم، وقد أمن الناس؟ فقال: عجبت ممَّا عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ"، أخرجه مسلم عن جماعة عن إِدريس [به]

(4)

، وأخرجه أيضًا أبو داود، والترمذي، وابن ماجه.

"وأجيب بجواز أنهما استصحبا وجوب الإِتمام" حالة الأمن؛ فإِن الأصل الإِتمام، خولف في الخوف للآية فبقي في غيره، "فلا يتعين" أن يكون الفهم لدليل الخطاب، فلا يقوم به حجّة.

ولا يخفى عليك أن هذا مفهوم الشَّرْط، لا مفهوم الصّفة، ولعل الغرض به إِلزام من لا يفصل بينهما، أو أن مفهوم الصفة لما كان مفتاح المفاهيم توسع فيه، وذكرت أدلّة غيره

(1)

في أ، ج: السعود.

(2)

شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج بن عمر الإِبري، فقيهة، في العلماء من عصرها. ولدت، بـ "بغداد" سنة 482 هـ. وأصلها من "الدينور". روت الحديث، وسمع عليها خلق كثير، وطار صيتها، وتزوج بها ثقة الدولة ابن الأنباري. وعرفت بـ "الكاتبة" لجودة خطها. توفيت بـ "بغداد" سنة 574 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 1/ 226، والدرر المنثور (256)، والأعلام 3/ 187.

(3)

سقط في ت.

(4)

سقط في ب، ت.

ص: 523

وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ أَكْثَرُ فكَانَ أَوْلَى؛ تَكْثيرًا لِلْفَائِدَةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ تَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ يَدُلُّ عَلَى الْوَضْعِ.

وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ دَوْرٌ؛ لِأَنَّ دِلالَتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى تَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ وَبِالْعَكْسِ - يَلْزَمهُمْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ دَلالَتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى تَعَقُّلِ تَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ عِنْدَهَا لا عَلَى حُصُولِ الْفَائِدَةِ.

كالعدد الذي أشرنا إِليه آنفًا في: "إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ"، والشرط المشار إِليه بهذا، والغاية الدَّاخلة في الدَّليل المشار إِليه بقوله: واستدل على مفهوم المخالفة مطلقًا غاية كان أم غيرها" ممَّا تقدم الاستدلال له بخصوصه.

الشرح: "واستدل بأن فائدته أكثر"؛ فإِن إِثبات المذكور، ونفى غيره أكثر فائدة من إِثباته فقط، "فكان أولى تكثيرًا للفائدة".

"وما قيل" اعتراضًا على هذا الاستدلال "من أنه دور" لأن دلالته" أي: دلالة اللفظ على نفي الحكم عما عداه "تتوقّف على تكثير الفائدة"؛ إِذ به تثبت، "وبالعكس" أي: لا يحصل تكثير الفائدة إِلَّا بدلالته على النفي عن الغير، فاعتراض مردود؛ لأنه "يلزمهم في كلّ موضع" يثبت الشيء لفائدة، سواء أكان وصفًا أم حكمًا شرعيًّا أم غيرها، فلو صح لم يثبت الشيء لفائدة أصلًا، فتنتفي المقاصد والحكم، وهو ظاهر البطلان، وهذا ردّ جَدَلي.

"وجوابه" الحقيقي "أن دلالته تتوقّف على تعقّل تكثير الفائدة عندها، لا على حصول الفائدة".

وحاصله: أن الموقوف والموقوف عليه غير متَّحدين وإِن اتّحدا لفظًا؛ فلا دَوْرَ، وبين عدم الاتحاد بأن المتوقّف عليه الدّلالة على تكثير الفائدة عقلًا أي: إِن تعقل أنه لو دل لكثرت الفائدة لا علي تكثير الفائدة عينًا، وهو حصولها، والمتوقف على الدلالة هو تكثير الفائدة عينًا لا عقلًا، أي: حصولها في الواقع لا تعقل حصولها عنده.

ص: 524

وَاسْتُدِلَّ: لَوْ لَمْ يَكُن مُخَالِفًا لَمْ يَكُن السَّبْعُ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا" - مُطَهِّرَةً؛ لأِنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصلِ مُحَالٌ، وَكَذلِكَ:"خَمْسُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمْنَ".

الشرح: "واستدلّ" لدلالة مفهوم العدد على الناقص بأنه أيضًا "لو لم يكن" المسكوت عنه الناقص "مخالفًا" للمذكور في الحكم "لم يكن السبع في "ما روى مسلم في صحيحه من "قوله صلى الله عليه وسلم: "طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبعًا

" الحديث - "مطهرة"؛ لأن الطَّهارة إِن حصلت بدون السّبع فلا تحصل بالسبع؛ "لأن" ذلك "تحصيل" للحاصل، وإِن تحصيل "الحاصل مُحَال.

وكذلك" ما رواه مسلم من قول عائشة رضي الله عنها: "كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات .. "

(1)

الأثر.

وإليه أشار بقوله: "خمس يحرمن "، فإِنه يلزم ألَّا تكون الخمس محرمة؛ لأن الحرمة تحصل بدون الخمس فلتحصل بالخمس، وإِلَّا يلزم تحصيل الحاصل.

فإِن قلت: لم أخر المصنّف هذا الدليل الدَّال على نفي الناقص عن الدَّال على نفي الزائد، ولم لا جمعهما؟

قلت: لأنه لم يذكر له جوابًا، فأراد الختام به، أو لأنه رأى أن جوابه واضح.

وقد قال الآمدي في جوابه: لا يلزم من كون الغسلات السَّبع غير دالَّة على نفي الطَّهارة فيما دونها، ومن كون الرّضعات الخمس غير دالَّة على نفي الحرمة فيما دونها أن يكون المحلّ قبل [السابعة]

(2)

طاهرًا، ولا أن يكون ما دون الخمس محرمًا؛ لجواز ثبوت النجاسة والحرمة قبل ذلك بدليل غير المفهوم.

قلت: بل لا بد من دليل على كونها قبل ذلك طاهرة ومحرمة؛ لأن الطَّهارة والحرمة لا يثبتان إِلَّا بدليل.

(1)

أخرجه مالك في الموطأ 2/ 608، كتاب الرضاع: باب جامع ما جاء في الرضاع (17)، ومسلم 2/ 1075، كتاب الرضاع: باب التحريم بخمس رضعات (24 - 1452).

(2)

في أ، ت: الساعة.

ص: 525

النَّافِي: لَوْ ثَبَتَ لثَبَتَ بِدَلِيلٍ، وَهُوَ عَقْلِيٌّ وَنَقْلِيٌّ

إِلَى آخِرِهِ.

وَأُجِيبَ بِمَنع أشْتِرَاطِ التَّوَاتُرِ وَالْقَطْعِ بِقَبُولِ الآحَادِ، كَالْأَصْمَعِي أَوِ الْخَلِيلِ، أَو أَبِي عُبَيْدَةَ أَوْ سِيبَوَيْه.

قَالُوا: لَوْ ثَبَتَ لثَبَتَ فِي الْخَبَرِ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: فِي الشَّامِ: "الْغَنَمُ السَّائِمَةُ" لَمْ يَدُلَّ عَلَى خِلافِهِ قَطْعًا.

وَأُجِيبَ بِالْتِزَامِهِ وَبِأَنَّهُ قِيَاسٌ، وَلا يَسْتَقِيمَانِ.

الشرح: واحتج "النَّافي" لدليل الخطاب أولًا بأنه "لو ثبت لثبت بدليل، وهو عقلي ونقلي"، وكلاهما منتفٍ "إِلى آخره" أي: إِلى آخر هذه الشُّبْهة بأن يقال: والعقلي منتف، والنقلي إِما متواتر عن العرب؛ وهو غير موجود، أو آحاد؛ وهي لا تفيد.

وهذا الوجه اعتمده القاضي أبو بكر في "التقريب".

"وأجيب" عنه "بمنع اشتراط التواتر والقطع" من علماء الأمة "بقبول الآحاد" من الثقات فيما ينقلون عن العرب "كالأصمعي، أو الخليل، أو [أبي عبيدة]

(1)

، أو سيبويه" واعتمادهم فيما يروونه يدلّ على أنهم لا يشترطون التواتر.

"قالوا" ثانيًا: "لو ثبت لثبت في الخبر، وهو باطل؛ لأن من قال: في "الشام" الغنم السائمة لم يدل على خلافه قطعًا"، وكذا إِذا قال: زيد الطويل في الدار لا يدل على أن زيدًا القصير ليس فيها.

وبيان الملازمة: أن الذي به ثبت في الأمر، وهو الحذر من عدم الفائدة قائم في الخبر بعينه.

"وأجيب: بالتزامه، وبأنه قياس" في اللغة فلا يسمع، "ولا يستقيمان".

أما الالتزام؛ فلأنه مُكَابرة، وأيضًا فقد صرح أئمتنا القائلون بالمفهوم أنهم لا يقولونه في الأخبار.

وأما القياس؛ فممنوع؛ لأن مثل هذا استقرائي لا قياس.

(1)

سقط في ت.

ص: 526

وَالْحَقُّ الْفَرْقُ بِأَنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ غَيْرُ مُخْبَرٍ بِهِ، فَلا يَلْزَمُ أَلَّا يَكُونَ حَاصِلًا، بِخِلافِ الْحُكْمِ؛ إِذْ لا خَارِجِيَّ لَهُ فَيَجْرِي فِيهِ ذلِكَ.

قَالُوا: لَوْ صَحَّ لَمَا صَحَّ "أَدُّوا زَكَاةَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ" كَمَا لا يَصِحُّ: "لا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ، وَأضْرِبْهُ"؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَللتَّنَاقُضِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَائِدَةَ عَدَمُ تَخْصِيصِهِ، وَلا تَنَاقُضَ فِي الظَّوَاهِرِ.

الشرح: "والحق" في الجواب "الفرق" بين الإِنشاء والخبر، "بأن الخبر وإِن دلَّ على أن المسكوت عنه غير مخبر به، فلا يلزم ألَّا يكون حاصلًا" في الخارج؛ لجواز أن يكون حاصلًا ولم يخبر عنه؛ لأن الخبر يفتقر إِلى خارج، وهو متعلّقه "بخلاف الحكم؛ إِذ لا خارجي له فيجري فيه ذلك" أي: حتى يجري فيه ذلك فإِن وجوب الزَّكاة هو نفس قوله: "أوجبت" فإِذا انتفى هذا القول فيه فقد انتفى وجوب الزَّكاة فيه، ولا يلزم من انتفاء قولك: في الشَّام الغنم السائمة انتفاء كونها في "الشام"، بل قد تكون وأنت لم تخبر عنها.

وفي قول المصنّف: الخبر وإِن دلَّ على أن المسكوت غير مخبر به مناقشة، فإِنه لا يدلّ على المسكوت ألبتة.

فالصواب أن يقال: وإِن لم يدلّ على المسكوت بشيء.

ولقائل أن يقول: في الجواب رجوع إِلى نفي المفهوم، وكونه سكوتًا، وعدم حكم، وهو مذهب الخصم.

وابن السَّمعاني فرق بأن المخبر قد يكون له غرض في الإِخبار بأن في "الشام" غنمًا سائمة مثلًا، أو أن زيدًا الطويل في الدار، ولا يكون له غرض في الإِخبار عن غير "الشام"، ولا غير زيد الطويل، فخصهما بالإِخبار كذلك.

وأما الشَّارع في مقام الإِنشاء، فغرضه أن يبين جميع الأحكام الَّتي كلفنا بها.

فإِذا قال: زكوا عن الغنم السَّائمة علمنا أنه لو كانت الزكاة في جميع الغنم تعلق بمطلق الاسم.

"قالوا" ثالثًا: "لو صحّ" القول بالمفهوم "لما صحّ" أن يقال "أدُّوا زكاة السَّائمة

ص: 527

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والمعلوفة، كما لا يصح" أن يقال في مفهوم المُوَافقة:"لا تقل له أُفٍّ، واضربه؛ لعدم الفائدة"؛ إِذ يكفيه حينئذ أن يقول: في الغنم زكاة.

"وللتناقض"؛ فإِن قوله: أدّ زكاة السائمة، على ما يقولون ينفي المعلوفة، وقوله: والمعلوفة تنفي السَّائمة فيتناقضان أيضًا.

"وأجيب": بأن مفهوم المُخَالفة ليس كمفهوم الموافقة؛ لأن ذاك قطعي، وهذا ظني.

وأما ما ذكر في بيانه فلا نسلّم عدم الفائدة، بل ندعي "أنّ الفائدة عدم تخصيصه" أي تخصيص المعلوفة والحالة هذه بالاجتهاد، ولا نسلم وجود التناقض؛ إِذ "لا تناقض في الظَّواهر"، وبهذا فارق الفحوى فإِنها قطعية.

وننبّهك هنا على شيء ينفعك، وهو أنَّ المعاني المستفادة من اللفظ تقع استفادتها منه من وجهين:

أحدهما: من جهة لفظه.

والثَّاني: من جهة معناه.

فالمستفاد من اللَّفظ، يسمى منه ما لا احتمال فيه "نصًّا"، وما فيه احتمال "ظاهرًا"، وما يستفاد من جهة إِشعاره وبحثه على قسمين أيضًا:

ما لا احتمال فيه أصلًا.

وما فيه احتمال، لكنه ظاهر في أحد محتمليه.

فالأول: يستدلّ به وفاقًا.

والثَّاني: فيه خلاف، فتلخص من ذلك أن ما لا احتمال فيه يعمل به قطعًا، سواء أدلّ عليه لفظ الخطاب أم معناه.

وما فيه احتمال مع الظّهور يعمل به إِن كان لفظيًّا بلا خلاف، وإن كان معنويًّا ففيه الخلاف.

وتبين لك أن مفهوم المخالفة ظاهر، فلا يمنع التصريح بخلافه.

ص: 528

قَالُوا: لَوْ كَانَ لَمَا ثَبَتَ خِلافُهُ لِلتَّعَارُضِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُه، وَقَدْ ثَبَتَ فِي نَحْوِ:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} .

أُجِيبَ بِأَنَّ الْقَاطِعَ عَارَضَ الظَّاهِرَ فَلَمْ يَقْوَ، وَتَجِبُ مُخَالَفَةُ الأَصْلِ بِالدَّلِيلِ.

الشرح: "قالوا" رابعًا: "لو كان" المفهوم حقًّا "لما ثبت خلافه، للتعارض" حينئذٍ بين المفهوم ودليل خلافه؛ "والأصل" في التعارض "عدمه، وقد ثبت في نحو: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [سورة آل عمران: الآية 130] "؛ إِذ مفهومه، عدم النهي عن أكله لا على هذا الوجه، والنهي ثابت عن الرِّبا قليله وكثيره، وهذا الوجه اعتمده الآمدي.

"وأجيب" بمنع المُلازمة.

وقوله: يلزم التَّعارض ممنوع؛ "فإِن القاطع" الدَّال على تحريم الرِّبا مطلقًا "عارض الظاهر"، وهو دليل الخطاب "فلم [يَقْوَ]

(1)

"الظَّاهر على معارضته، بل اضْمَحَلَّ دونه، فعمل القاطع عمله، ولم يوجد تعارض، ولو سلّمنا وقوع المعارضة لكن يجب المصير إِليه عند قيام الدليل، كما أن الأصل البراءة، ويخالفها [لدليل]

(2)

، فإِذن "يجب مخالفة الأصل بالدليل".

ويمكن دفع الدَّليل بأن قوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ليس من محلّ النزاع؛ لأنه خرج مخرج الغالب أن الرِّبا إِنما يؤكل كذلك.

"تَنْبِيهَاتٌ"

الأول: ما نقله المصنّف عن أبي عبيد سبقه إِليه الآمدي، وابن السمعاني، وغيرهما.

ونقله القاضي في "التقريب"، وإِمام الحرمين، وغيرهما عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، وكلاهما من أئمة اللغة، فلا معنى للتحرير في ذلك.

الثَّاني: أصل وضع الصفة أن تجيء إِما للتخصيص في النكرات، وللتوضيح في المعارف نحو: مررت برجل عاقل، [وبزيد]

(3)

العالم.

(1)

في أ، ت: يقوم.

(2)

في ت، ج: الدليل.

(3)

في أ: ويريد، وفي ت: يزيد.

ص: 529

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد تجيء لمجرّد الثناء، أو الدوام، أو التوكيد، أو التخمين مثل: زيد المسكين.

وقد يعبر عن التخصيص بـ "الشَّرْط"، وعن التوضيح بـ "التعريف" و"الكاشف".

ومن أماكن التردّد بين التوضيح والتخصيص قوله تعالى: {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [سورة النحل: الآية 75].

فإِن كان لتوضيح دلَّ لمذهبنا على أن العبد لا يملك.

وإِن كان للتخصيص، دلّ للمالكية، وكأنه تعالى إِنما ضرب المثل بهذا العبد الذي لا يقدر لا بكل عبد.

وكذا قوله عليه السلام لصفوان لما استعار منه: "بَلْ عَارِيَةٌ مَضمُونَةٌ"

(1)

. إِن كان لتوضيح دلّ على أن العارية تضمن أبدًا، وأن هذا شأنها، وهو مذهبنا.

وإِن كان للتخصيص دلّ لأبي حنيفة على أنها لا تضمن إِلا بالشرط، وكذا إِذا قال الرجل لزوجته: إِذا تظاهرتُ من فلانة الأجنبية، فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها، وظاهر منها هل يصير مظاهرًا من الأولى؟ فيه وجهان:

(1)

اختلف أهلُ العلم في ضمان العارية، فذهب جماعةٌ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم إِلى أنها مَضمونة على المستعير، رُوي ذلك عن ابن عبَّاس وأبي هريرة، وهو قولُ عطاء، وبه قال الشافعي وأحمد.

وذهب جماعة إِلى أنها أمانة في يد المستعير، إِلا أن يتعدَّى فيها، فيضمن بالتعدِّي، يُروى ذلك عن علي، وابن مَسعود، وهو قول شريح، والحسن، وإِبراهيم النخعيّ، وبه قال سفيان الثوري، وأصحاب الرأي وإِسحاق بن راهويه، وقال مالك: إِن ظهر هلاكه لم يضمن، وإِن خفي هلاكه ضمن.

والحديث أخرجه أبو داود 3/ 296، في البيوع: باب في تضمين العارية (3562) وأحمد في المسند 3/ 401، و 6/ 465، في مسند صفوان بن أمية رضي الله عنه، والحاكم في المستدرك 2/ 47، في البيوع: باب أد الأمانة، والبيهقي في السنن 6/ 89 في العارية: باب العارية مضمونة، وعزاه في التحفة للنسائي في الكبرى 4/ 190، وأخرجه الدارقطني في السنن 3/ 39 - 40، وأعله ابن حزم في المحلى 9/ 171 بشريك، وتبعه ابن القطان، وقال ابن دقيق العيد بعد أن عزاه إِلى المستدرك: لعله علم حال أمية. قال ابن الملقن: ذكره ابن حبان في الثقات، والحديث صحيح بشواهده.

ص: 530

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أحدهما: نعم، ويجعل الوصف بالأجنبية توضيحًا.

والثَّاني: لا، ويكون لفظ الأجنبية للشرط.

الثالث: قال ابن السمعاني: إِذا اقترن بالحكم المعلّق بالصفة حكم فقد اختلف قول الشَّافعي في دليل المقيد بالصفة هل يصير مستعملًا في المطلق على قولين.

ومثاله قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [سورة الأحزاب: الآية 49]، وكان نصه أن لا عدة على غير المدخول بها، ودليله وجوب العدّة على المدخول بها، ثم قال:{ومتّعوهن} ، فهل تكون المتعة معطوفًا على العدة في اشتراط الدخول فيها؟ على قولين:

أحدهما: تصير بالعطف مشروطة.

والثَّاني: لا، ويجري قوله:"ومتعوهن" على إِطلاقه.

الرابع: لم يفرد المصنّف مفهوم العدد بالذكر، بل وقع ذكره في أثناء مفهوم الصفة في قوله:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} .

وفي قوله عليه السلام: "إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا"، كما تقدم.

وقد صرح ابن السَّمعاني بأنه دليلٌ مستعمل، وأنه مثل الصفة سواء، وإِلى هذا أشار الشيخ أبو حامد، وغيره فلعلّ المصنّف إِنما أشار إِليه في مفهوم الصّفة لذلك، وكأنه رأى اسم الصّفة ينطلق عليه، وإِن اختص هو باسم العدد.

وكلام القاضي في "التقريب" يقرب من هذا الصَّنيع، وكذلك أكثر أصحابنا.

وممَّا يوضح لك هذا ما تقدّم عن البَصْري في الحكم بالشاهدين، فإِنه أشار إِلى قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [سورة البقرة: الآية 282]، قيد بشهيدين قال: فدلّ أن الشهيد الواحد لا يكفي.

وأنت ترى هذا من مَفَاهيم العدد، وقد جعله ممَّا له دليل، وعدّه من الصفة، وما ذلك إِلا لما ذكرناه من انطلاق اسم الصفة عليه.

وهذا المكان من أسرار هذا المختصر الَّتي غفل عنها شارحوه، فإِياك أن تظن أنه أهمل مفهوم العدد بعد أن ذكره في قوله: وهو أقسام: الصفة، والشرط، والغاية، والعدد، بل قد ذكره في الصفة؛ لأنه منها، وحكى فيه الخلاف المحكي فيها، وأشار إِلى أنه داخلٌ

ص: 531

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فيها، وإِنما جاء ذكره ابتداء لتميزه باسم يخيل أنه قسيم، وإِنما هو قسم من جملة أقسام مفهوم المُخَالفة، وهو الصفة.

والقول بأن مفهوم العدد حجّة هو المنقول عن الشافعي، [وممن]

(1)

نقله الشيخ أبو حامد الإِسفراييني والمَاوَرْدي، في باب "بيع الطعام قبل أن يستوفي"، وإِمام الحرمين، والغزالي.

وقال آخرون: لا يدلّ، وهو رأي منكري الصفة، فالخلاف الخلافُ؛ لأن العدد فرد من أفراده.

وقد قلنا: إِن المصنّف لذلك أدرجه فيه، ولذلك لم يعد ذكره بخلاف الشَّرط والغاية، فإِنه أعادهما لمخالفة بعض النَّاس في الصفة دونهما.

وأما الصفة فلم ينكرها أحد مع القول بالعدد، وإِنما بعضهم عكس.

وممن أنكر العدد الإِمام الرَّازي بعد تفصيل ذكره فيه حاصله كما هو: أنه لا يدلّ.

وكان أبي رحمه الله يقول: التحقيق عندي أن الخلاف في مفهوم العدد، إِنما هو عند ذكر نفس العدد، كاثنين وثلاثة، أما المعدود فلا يكون مفهومه حجّة، كقوله عليه السلام:"أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ"

(2)

، فلا يكون عدم تحريم ميتة ثالثة مأخوذًا من مفهوم العدد.

ثم ذكر تمثيل الأصوليين بقوله عليه السلام: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ" ولم يرتضه؛ لأنه ليس فيه اسم العدد، واعتلّ بأن العدد نسبة الصفة، والمعدود نسبة اللقب.

وما ذكره إِن لم يكن تنقيح مَنَاط فهو تفصيل حسن.

الخامس: مفهوم الحال لم يذكره أكثر المتأخرين؛ لأنه من جملة مفهوم الصفة أيضًا.

(1)

في أ: عمن.

(2)

أخرجه ابن ماجة في السنن (2/ 1101 - 1102)، كتاب الأطعمة: باب الكبد والطحال (3314)، والدارقطني في السنن 4/ 271 - 272، كتاب الصيد والذبائح والأطعمة (25) والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 254، كتاب الطَّهارة: باب الحوت يموت في الماء والجراد، وفي 9/ 257، كتاب الصيد والذبائح باب ما جاء في أكل الجراد والشافعي في ترتيب المسند 2/ 173، كتاب الصيد والذبائح (607)، وأحمد في المسند.

ص: 532

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومعناه: تقييد الخطاب بالحال مثل: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [سورة البقرة: الآية 187].

وقد أفرده ابن السمعاني بالذكر وقال: إِنه كالصفة.

السادس: ما قدمناه من مفهوم الصفة صورته: ما إِذا ذكرت ذات، ثم ذكرت صفتها، مثل: الغنم السائمة، والرجل القائم.

أما إِذا ذكر الاسم المشتق مثل القائم فقط، أو السائمة فقط، فهل هو كالصفة أو لا مفهوم له؛ لأن الصفة إِنما جعل لها مفهوم؛ لأنه لا فائدة لها إِلَّا نفي الحكم، والكلام بدونها لا يختلّ، وأما المشتقّ فكاللقب يختل الكلام بدونه.

اختلف أصحابنا في ذلك كما حكاه الشَّيخ أبو حامد، وابن السَّمعاني، وغيرهما، وعبارة ابن السمعاني: الاسم المشتق من معنى كالمسلم، والكافر، والوارث، والقاتل يجري مجرى تعليقه بالصّفة في استعمال دليله في قول جمهور أصحاب الشَّافعي.

وقال بعضهم: ينظر في الاسم المشتق، فإِن صلح للعليّة استعمل دليله، وإِلا فلا.

قلت: وهذا غير ما يقوله المتأخرون: المعلق باسم مشتق يعلل بما منه الاشتقاق؛ فإِن ذلك نظر في العلّة، ولا يلزمها الانعكاس، وهذا نظر في دليل هذا اللفظ، فافهم ذلك.

السَّابع: ردّ ابن السَّمعاني على إِمام الحرمين حيث فرق بين الوصف المناسب وغيره بأنه خلاف مذهب الشَّافعي، وبأن العلَّة ليس من شرطها الانعكاس.

ولك أن تقول: الإِمام لم يلتزم مذهب الشَّافعي هنا.

وأما الانعكاس فقد أورده هو على نفسه، وأجاب بما حاصله:[إِن]

(1)

قضية اللسان هي الدَّالة عند إِحالة الوَصْفِ على ما عداه، بخلافه.

وزعم أن هذا وضع اللِّسَان [ومقتضاه والحالة هذه]، وما كان من مقتضيات اللِّسَان]

(2)

فبخلاف العلل المستنبطة، ثم لا يقدح في هذه الصِّفة الجارية مجرى التعليل بمعنى

(1)

في ت: إِنه.

(2)

سقط في ت.

ص: 533

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مستنبط؛ فحيل بما يقدح به في العِلَلِ المستنبطة؛ لأن هذه كلفظ أصَّله صاحب الشَّرع في الأحكام، فيتصرف فيه كيف. شاء، بخلاف ما نظنّه نحن ونستنبطه، فإِن القَوَادح إِذا تطرقت إِليه أشعرت بخطئنا فيما استنبطناه.

واعترضه شارحًا كلامه المازري وابن الأنباري.

أما ابن الأنباري فقال: فهم التعليل من الصفة المناسبة صحيح، وأما استفادة أنه حكم بالنقيض على غيره، فلا يحصل من التعليل؛ إِذ لا يستفاد من التعليل إِلا معرفة البَاعِثِ، فإِذا قلت: أكرم زيدًا لم يفهم النهي عن إِكرام غيره، فإِذا زدت ذكر العلّة في إِكرامه لا يصير له بالزيادة مفهوم لم يكن قبل ذلك، وهذا واضح.

قال: فمن زعم أن دلالة اللفظ تزيد عند تعليله، فليس على بَصِيرَةٍ من أمره.

وأما المازري فسلّم الدلالة على النفي عند التَّعليل، ولكن قال: القائلون بدليل الخطاب يقولون: إِن الصفة لم ترد في الشَّرع إِلَّا للإِشعار بأنَّ ما عداها في الحكم بخلافها، سواء عرفنا نحن المُنَاسبة أم لم نعرفها، ولا حاجة لنا إِلى معرفتها بعد نصب الشَّارع الوصف، فلهذا أطلق القوم الجواب في الصفة.

قلت: واعتراض ابن الأنباري بارد؛ فإِنَّ الإِمام قد نقل أن الصيغة تدل على النفي عند ذكر العلة، والنقل لا يمنع، ولا سيما من مثل هذا الإِمام.

وقوله: العلة لا تزيد مفهومًا - ممنوع، فقد تذكر العرب الباعث للتنبيه على انتفاء الحكم عند الانتفاء.

وأما ما ذكره المَازِرِيّ فالإِمام يقول بأن الصفة لا يعرف كونها للتَّعليل إِلَّا عند فهم المناسبة، ويمتنع قولهم: إِنها لم ترد في الشَّرع إِلا للتعليل.

ويقول حيث وردت لذلك: لاحت عليها آثار المُنَاسبة، وهذا ينبنى على أنه هل ظهور الإِحالة من شروط العلّة المستنبطة أو لا؟

والإِمام يدّعى أنه شرط، وهي مسألة معروفة في القياس.

ص: 534

‌مَفْهُومُ الشَّرْطِ

وَأَمَّا مَفْهُومُ الشَّرْطِ فَقَالَ بِهِ بَعْضُ مَنْ لا يَقُولُ بِالصِّفَةِ.

وَالْقَاضِي، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ، وَالْبَصْرِيُّ عَلَى الْمَنْعِ.

لِلْقَائِلِ بِهِ مَا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ.

وَأُجِيبَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا.

قُلْنَا: أَجْدَرُ إِنْ قِيلَ بالاتِّحَادِ، وَالأَصْلُ عَدَمُهُ إِنْ قِيلَ بِالتَّعَدُّدِ.

وَأُورِدَ: "إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا".

وَأُجِيبَ بِالأَغْلبِ وَبِمُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ.

الشرح: "وأما مفهوم الشرط

(1)

فقال به بعض من لا يقول بالصفة" وكل القائلين

(1)

مفهوم الشرط هو ما يفهم من تعليق الحكم على شيء بأداة شرط كـ "إِنْ" و"إِذا" مما يدل على سببية الأول، ومسببية الثَّاني، كما في قوله عز وجل:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، فإِنه يفهم منه عند القائلين بمفهوم المخالفة أن غير أولات الأحمال من المطلقات طلاقًا بائنًا لا يجب الإِنفاق عليهن؛ لأن المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، وإِنما قيدنا الطلاق البائن؛ لأن المطلقة طلاقًا رجعيًا يجب الإِنفاق عليها في العدة حاملًا كانت، أو لا بالإِجماع، والخلاف إِنما هو في المبانة. والشرط في اللغة هو العلامة وجاء منه: أشراط الساعة أي: علاماتها، وفي العرف العام ما يتوقف عليه وجود الشيء، وفي اصطلاح المتكلمين: ما يتوقف عليه تحقق الشيء، ولا يكون مندرجًا في ذلك الشيء، ولا مؤثرًا فيه. وفي اصطلاح النحاة: ما دخل عليه شيء من الأدوات المخصوصة الدالة على سببية الأول ومسببية الثَّاني ذهنًا، أو خارجًا، سواء كان علَّة للجزاء مثل "إِن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، أو معلولًا مثل "إِن كان النهار موجودًا، فالشمس طالعة" أو غير ذلك مثل "إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ" ويسمى شرطًا لُغَوِيًا أيضًا؛ لأن المركب من إِن وأخواتها، ومن مدخولها لفظ مركب وضع لمعنى يعرف من اللغة، وإِن كان النحوي يبحث عنه من وجه آخر، وهو المقصود بالذات هنا، لا الشرعي كالطهارة للصلاة، ولا العقلي كالحياة للعلم، ولا العادي كنصب السُّلَّمِ لصعود السطح، وإِنما كان المقصود هو النحوي؛ لأن الكلام هنا فيما يفهم من تعليق الحكم على شيء بأداة مخصوصة، كما هو مقتضى تعريف مفهوم الشرط وهذا إِنما يتأتى =

ص: 535

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بها

(1)

وهو إِذن أقوى، والإِمام ينازع في كونه أقوى إِذا كانت الصِّفة مناسبة "والقاضي" أبو بكر، "وعبد الجَبَّار، والنَصْري" والغزالي مصرُّون "على المنع""القائل به" رجلان كما عرفت، أحدهما من قال بالصفة أيضًا، فحجّته "ما تقدم" في مفهوم الصِّفة من: مقبول، ومزيف، فعاوده.

"وأيضًا" دليل يختص به هذا المفهوم، ويقتصر عليه الرّجل الثَّاني الذي أنكر الصفة وأثبته، ومن أجله أقررنا مفهوم الشَّرْط بالذكر بعد أن تضمّنه مفهوم الصفة، وهو أنه إِذا كان شرطًا فهذا معناه؛ لأنه "يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط".

= في خصوص الشرط، النحوي على ما لا يخفى. ينظر: حاشية البناني 1/ 251، والإِبهاج لابن السبكي 1/ 380، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 30، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 329، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 100، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 180، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/ 155، وميزانه الأصول للسمرقندي 1/ 580، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 98.

(1)

ينبغي أن نحرر محلّ النزاع في هذا المقام، ومجمل القول في ذلك: أنه لا نزاع بين العلماء في انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه، وإنما في الدال على هذا الانتفاء هل هو التعليق بالشرط، أو البراءة الأصلية؟ وبيان ذلك أن في تعليق الحكم بالشرط مثل:"إِن دخلت الدار فأنت طالق" أمورًا أربعة:

الأمر الأول: ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط.

الأمر الثَّاني: عدم الجزاء عند عدم الشرط.

الأمر الثالث: دلالة التعليق على الأول.

الأمر الرابع: دلالته على الثَّاني.

واتفق العلماء على الثلاثة الأول، وإنما في الأمر الرابع بعد الاتفاق على أن عدم الجزاء ثابت عند عدم الشرط.

فعند القائلين بالمفهوم ثبوته لدلالة التعليق عليه، وعند النفاة ثابت بمقتضى البراءة الأصلية، فالنزاع إِنما هو في دلالة حرف الشرط على العدم عند العدم، لا على أصل العدم عند العلم، فإِن ذلك ثابت قبل أن ينطق الناطق بكلام، وهذا الكلام في سائر المفاهيم.

قال أبو زيد الدبوسي، وهو من المنكرين له: انتفاء المعلق حال عدم الشرط لا يفهم من التعليق، بل يبقى على ما كان قبل ورود النفي.

ص: 536

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وأجيب": بأنا لا نسلّم أن المشروط في الشَّرط اللغوي يعدم بعدمه؛ لأنه "قد يكون سببًا" وأن يغلب استعمالها في السببية.

"قلنا:" كونه سببًا "أجدر" وأدلّ على ما يدّعيه من الانتفاء عند الانتفاء "إِن قيل بالاتحاد" أي: بوجوب اتحاد السَّبب، أو بجواز تعدّده.

أما عند الاتِّحَاد؛ فلأنه إِذا انتفى [المسبّب]

(1)

لامتناع المسبب بدون سببه، بل هو مع عدم السَّبب أجدر بالانتفاء من المشروط؛ لانتفاء شرطه مع وجود السَّبَب، "والأصل عدمه" أي: عدم تعدّد السبب "إِن قيل بالتعدّد".

فإِذا انتفى فقد انتفى السَّبب مطلقًا، فينتفى المسبب.

"وأورد" على سبيل النقض: " {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [سورة النور: الآية 33] "؛ فإِنه شرط، لقوله:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} ، ولا ينتفى الحكم بانتفائه؛ إِذ يحرم الإِكراه إِن أردن التَّحصين أم لم يردن.

"وأجيب بالأغلب" أي: أنه ممَّا خرج مخرج الأغلب؛ إِذ الغالب أن الإِكراه يكون عند إِرادة [التَّحصن]

(2)

، فلا مفهوم له كما تقدَّم.

"ومعارضة الإِجماع" أي: وأجيب: بمعارضة الإِجماع القائم على تحريم الإِكراه على البغاء مطلقًا بمفهوم "إِن أردن"، والمفهوم إِذا عارضه الإِجماع اضمحلّ.

وأحسن من الجوابين أن يقال: لا يتصوّر الإِكراه عند عدم إِرادة التَّحصين؛ لأنه حمل المرء على ما يكره.

‌تنبيه

لا خلاف في انتفاء الحكم عند انتفاء الشَّرْط، ولكن هل الدَّال على الانتفاء صيغة الشرط أو البقاء على الأصل؟

قال من جعل الشَّرط حجة بالأول.

(1)

في ج: السبب.

(2)

في أ، ت: التحصين.

ص: 537

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال من أنكره بالثاني.

والحنفية يختلفون في مفهوم الشَّرط:

فذهب الكَرْخي وغيره منهم إِلى الاحتجاج به.

وأنكره أبو زيد الدبوسي

(1)

وقال: انتفاء المعلق حال عدم الشَّرط لا يفهم من [التعلق]

(2)

، بل يبقى على ما كان قبل ورود النص؛ قال أبو زيد:[وحاصل]

(3)

الخلاف يرجع إِلى أن الشرط هل يمتنع به انعقاد علَّة الحكم؟

فعندنا: يمتنع.

وعندهم: لا.

فإِذا لم يكن الشَّرْط عندهم ممَّا يمتنع انعقاد العلّة كانت العلّة موجودة، وكانت موجبه للحكم، والشرط منع [دخول]

(4)

الحكم.

قال: وعندنا لما كان الشَّرط يمنع انعقاد العلّة لم تكن العلّة موجودة حتى توجب الحكم، فلم يتصوّر إِسناد منع الحكم إِلى الشرط.

وقد احتجّت الحنفية على قولهم بأن: التعليق دخل على السَّبب، لا على الحكم؛ فإنَّ السبب قوله: أنت طالق، والتعليق دخل عليه، فإِن [قوله]

(5)

. أنت طالق تطليق، وقد علقه بدخول الدار؛ ألا ترى أنه قصد التطليق [عند دخول الدار، لا في الحال؟ وهذا لأنه جعل التَّطليق]

(6)

جزاء لدخول الدَّار، والجزاء في اللغة يتعلّق وجوده بوجود الشرط؛ فإن من قال

(1)

عبد الله بن عمر بن عيسى، أبو زيد الدبوسي أول من وضع علم الخلاف وأبرزه إِلى الوجود، كان فقيهًا باحثًا، نسبته إِلى دبوسية بين بخاري وسمرقند، له تأسيس النظر والأسرار، ووفاته سنة 430 هـ في بخارى عن 63 سنة. ينظر: وفيات الأعيان 1/ 253، واللباب 1/ 410، وشذرات الذهب 3/ 245، والبداية والنهاية 12/ 46، وكشف الظنون 1/ 334، والأعلام 4/ 109.

(2)

في ج: التعليق.

(3)

في أ، ت: وحاصله.

(4)

في ج: وجود.

(5)

سقط في ت.

(6)

سقط في ت.

ص: 538

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لغيره: إِن أكرمتني أكرمتك، أو أكرمك إِن أكرمتني، فقد علّق التزام إِكرامه بإِكرام صاحبه إِياه، كذلك هنا جعل [التطليق]

(1)

جزاء دخول الدَّار، فتعلق وجود التطليق بوجود دخول الدَّار، فيكون التعليق على العدم قبل الدُّخول؛ فدلّ أن الشَّرْط امتنع به انعقاد العلّة.

تنبيه

[إِنه]

(2)

إِذا دخل الشَّرط على الطَّلاق وعلّقه منع تعلقه وصوله إِلى محله، والعلة الشرعية لا تصير علّة إِلا بوصولها إِلى محلّها، ولا تكون علّة إِذا قصرت عن محلها. وهذا بخلاف البيع على أن البائع بالخيار، أو على أن المشترى بالخيار؛ فإِن كلمة "على [أن] "

(3)

وإِن كانت كلمة شرط لكن عملها خلاف كلمة التعليق، وهو كلمة "إِن"، فإِنك إِذا قلت: أزورك إِن زرتني كنت معلقًا وجود زيارتك بزيارة صاحبك.

وإِذا قلت: أزورك على أن تزورني كنت معلقا زيارة صاحبك بزيارتك، وتكون

زيارتك سابقة على زيارة صاحبك.

وإِذا كانت كلمة "على أن" عملها خلاف عمل كلمة "إِن" فلا توجب كلمة "على أن" تعليق نفس البيع، بل توجب تعليق أمر آخر هو المطلوب من البيع، وهو الملك، فيتعلّق حكم البيع - أعني الملك - بالاختيار.

وأما نفس البيع فانعقد في الحال، يدلّ عليه أن في مسألتنا دخلت كلمة الشَّرط على السبب؛ لأنه قال: إِن دخلت الدار فأنت طالق، وفي البيع لم تدخل كلمة الشَّرْط على السَّبب، إِنما نجَّز البيع تنجيزًا، ثم أثبت لنفسه فيه خيارًا، وحكمه ما عرف في الشَّرع من امتناع اللزوم وعدمه.

وقال أبو زيد في "تقويم الأدلّة": قوله لعبده: إِن دخلت الدّار فأنت حر، الحرية قبل دخول الدّار منعدمة؛ لانعدام العلّة، لا لانعدام الشرط ها هنا بعد وجود سببها؛ لأن قوله:

(1)

في أ، ب: التطلق.

(2)

سقط في ت.

(3)

سقط في ت.

ص: 539

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أنت حر كما لا يعمل حتى تتم الصيغة، فقوله: أنت حر لا يعمل حتى يحلّ محلًّا صالحًا للتحرير، فإِنه لو أضافه إِلى ميتة أو بهيمة لغا.

فقوله: إِن دخلت الدّار منع وصول هذا الإِيجاب إِلى العبد؛ لأنه تعلّق بالدخول، فلا يصل إِليه قبل وجوده، كالقِنْدِيلِ المعلّق بحبل لا يكون واصلًا إِلى الأرض، وإِذا لم يصل إِلى محله لم يصر قوله: أنت حر علّة، بل كان يعرض أنه يصير علّة بالوصول إِليه عند وجود الشرط، كالرّمي لا يكون سببًا للقتل قبل وقوع السهم في المرمى، ولكن يعرض أن يكون علَّة إِذا وصل إِلى محله.

وعرفهم في هذا أن الشرط يحول بين العلّة ومحلها، فلا يصير معه علَّة؛ لأنه داخل على أصل العلّة، لا على الحكم، بخلاف شرط الخِيَارِ والأجل، فإِنهما يدخلان على الحكم على ما ذكرنا.

ولهذا لو حلف ألَّا يبيع فَبَاعَ بأجل، أو شرط خيار حنث، ولو حلف لا يطلق فعلّق الطلاف لم يحنث.

قال: ولهذا جوزنا تعليق الطلاق بالملك؛ لأنّه ليس بطلاق؛ لأن ما كان معلقًا بالشرط غير واصل إِلى المرأة على ما ذكرنا، وإِنما هو يبين ويصير طلاقًا عند الشرط، فاعتبر الملك - حينئذٍ؛ لأن الملك - أعني ملك النكاح شرط الطلاق لا اليمين، ومحل اليمين هو الذمة مثل اليمين بالله.

قال: ولهذا الأصل لا يجوز تعجيل الكَفَّارة قبل الحنث؛ لأن اليمين سبب الكَفَّارة بشرط الحنث، فقبل الشرط لا يكون سببًا، ويكون ابتداء وجوب الكَفَّارة حين الحنث، فلا يتصور الأداء قبله، كما لا يتصوّر الأداء قبل اليمين، وكما لا يتصوّر تعجيل الصوم.

قال: وفرْقهم بالبدني والمالي ساقط؛ لأن الكَفَّارة عبادة، والعبادة عبارة عن فعل العبد ماليًّا كان أو بدنيًّا، وإِنما يختلف محلّ الفعل، فالمالي ما يكون محله المال، والبدني ما محلّ فعله البدن.

وأما الواجب ففعل من العبد في الحالين بإِيجاب الله تعالى.

قال: وهذا بخلاف دين العبد الذي يجب عوضًا؛ لأن الواجب هناك هو المال، والتسليم لنفس الواجب؛ لأن المستحقّ لصاحبه مال بإِزاء حقه، وليس المستحق لصاحبه

ص: 540

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فعل؛ لأنه لا حق للعبد في فعل العبد.

وأما الباري - عَزَّ اسمه - فما استحق على العبد إِلَّا العبادة، وهي فعل يفعله العبد.

قال: وعلى هذا الفصل نقول في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [سورة النساء: الآية 25]: إِن الله - تعالى - أباح الأمة عند عدم الطول، وما حرمها عند وجوده، بل لم يذكره أصلًا، فاستبيح نكاحها في هذه الحالة بسائر الآيات.

هذا حاصل كلام أبي زيد.

ودليلنا على أن الشرط يدلّ على انتفاء الحكم عند انتفائه، وقد قدمناه.

ولكن لما أورد علينا أنه قد يكون سببًا أجبنا بأنه حينئذٍ أجدر وأدل كما عرفت.

وهنا قد علمت أن أصحابنا لا يجعلون السَّبب منتفيًا عند انتفاء الشرط، وإِنما عمل ذلك الحنفية.

ولما كان غرضنا في الأصول إِثبات المفهوم فقط، قلنا: كونه سببًا أدلّ.

وإِذا جئنا إِلى تحقيقات الفروع ما نعناهم انتفاء السببية، وذكرنا ما يدرأ كلماتهم ويمخضها، فنقول: الشرط لا يؤثر في العلّة، وإِنما يؤثر في حكمها؛ فإِنّ من قال لامرأته: أنت طالق إِن دخلت الدّار، فقوله: إِن دخلت لا يؤثر في قوله: أنت طالق، بل في حكمه؛ فإِنه يمنع ثبوت حكمه ولا يمنع ثبوته؛ فإِن قوله: أنت طالق ثابت مع الشرط، كما هو ثابت بدونه، ولكن حكمه لا يثبت لأجل الشرط، فكان أثر الشرط في منع حكم العِلة، لا في نفس العلّة.

والدَّليل عليه: أنه لو لم يقترن به الشَّرط ثبت حكم العلّة، وقوله: أنت طالق ثابت في الصورتين، ولكن الحكم منعدمٌ عند عدم الشرط، ويثبت عند وجوده.

فثبت أن عمل الشرط في الحكم فحسب، وتحقيق هذا الفصل أن سبب الطلاق قوله: أنت طالق، وقد وجد هذا بصورته سواء وصل به قوله: إِن دخلت أو لا، وكلمة "إِن" يجوز أن تدخل على السَّبب فتعلقه كما قالوا، ويجوز أن تدخل على الحكم، فيكون عمله تأخير الحكم.

والدَّليل على جواز ذلك: أنه كما يجوز أن يكون معنى قوله: إِن دخلت الدار فأنت طالق سببًا يجوز أن يكون المعنى: إِن دخلت الدار أنت طالق وقوعًا ونزولًا؛ لأن النَّازل في

ص: 541

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المحلّ والواقع قوله: أنت طالق.

ألا ترى أنه إِذا اتَّصل الحكم بالسَّبب تكون هي طالقًا من حيث الوقوع، وإِذا لم يتّصل، وتعلّق بالدخول تكون هي طالقًا من حيث السبب.

والحرف على هذا أن المعلّق هو الطَّالقية نزولًا لا الطَّالقية سببًا.

فثبت قطعًا أنه يجوز أن يدخل الشرط على الحكم، ويجوز أن يدخل على السبب.

فنقول: دخوله على الحكم لمنعه أولي؛ لأن قوله: أنت طالق كلمة مستقلّة صحيحة لثبوت التَّطليق، أو لثبوت عقد الطَّلاق، وإِيصال حكمه؛ ألا ترى أنه لو لم يعلقه بالشرط ثبت كلاهما، فإِذا وصل بالشَّرْط نمنع الحكم لضرورة الشرط، ولا ضرورة في منع السبب، وانعقاده علّة، فانعقد السبب وتأخر الحكم؛ ولأن الطلاق عَقْد شرعي له حكم، وقد وجدنا في أصول الشَّرع وحود عقد بصورته، وتأخر حكمه، ولم نجد في أصول الشَّرع وجود عقد بصورته وتأخر العقد عنه، وهذا لأن عقد التطليق قوله: أنت طالق مضافًا إِلى المحلّ، فإِذا وجد وتحقق، فكيف يحكم بتأخره؟.

نعم يجوز أن يتأخر حكمه؛ لأنه لم يوجد، فأما تأخر عقد الطَّلاق مع وجوده بصورته من أهله في محله، فمحال.

وخرج على هذا قوله: إِن أكرمتني أكرمتك؛ لأنه لا يتصوّر دخوله إِلَّا على الإِكرام فحسب، وها هنا يتصوّر دخوله على الحكم [لا على]

(1)

السبب، وهذا لأن الإِكرام شيء واحد، فلا بد إِذا علّق بشيء أن يتأخر.

وأما هنا فإِنه عقد شرعي له حكم، فيجوز أن يدخل على الحكم فيتأخر، ويتنجّز العقد.

وهذا فصل عظيم أطال فيه أصحابنا النفس في خلافيات الفُرُوع، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ.

وقولهم: إِن الطَّلاق ما ينزل في محلّه.

قلنا: قد اتّصل بالمحلّ بقوله: أنت طالق، وهذا كافٍ للاتصال سببًا، وأما الاتصال

(1)

في ج: وعلي.

ص: 542

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوعًا ونزولًا، فيكون عند الشرط.

وأنت ترى ماذا من عظائم المسائل ينبنى على هذا الأصل بيننا وبين الخصوم، فعليك بحفظه.

وكان أبي - تغمده الله برحمته - يقول في قولك مثلًا: إِن دخلت الدار فأنت طالق: إِن هذا إِنشاء للتعليق، لا تعليق للإِنشاء؛ فإِن الإِنشاءات يستبعد تعليقها.

قال: وإِنما قلنا ذلك؛ لأن القضية المَجْعُولة جواب الشرط سواء أكانت خبرية أو إِنشائية فيها أمران:

أحدهما: نسبة أحد جزئيها إِلى الآخر.

والثَّاني: الحكم بتلك النِّسْبة.

وهذا الثَّاني هو المنقسم إِلى: الإِخبار، والإِنشاء، وكلّ منهما يستحيل تعليقه؛ لأنهما نوعان من أنواع الكلام، يستحيل وجودهما حيث لا كلام.

والشرط قد يوجد حين يكون الشَّارط ساهيًا ونائمًا وغير متكلّم، فيستحيل كون الإِنسان منشئًا ومخبرًا حيث لا يكون متكلمًا، فالتعليق إِنما هو في النسبة الحاصلة بين جزئي الجملة، يعني أن تلك النسبة موقوفة على ذلك الشرط.

والشخص المعلّق حاكم بتعليقه بذلك إِما خبرًا، وإِما إِنشاء، فحكمه حاصل الآن.

ولذلك إِذا قال: إِن قام زيد قام عمرو حسن تصديقه وتكذيبه الآن، فيقال: ليس إِن قام زيد قام عمرو، فالموقوف على دخول الدَّار هو الطلاق لا التطليق؛ فإِن الطَّلاق هو انقطاع العِصْمة، وهو انفصال ناشيء عن التَّعْليق ووجود الصفة، وهذا معنى قول الفقهاء: الصِّفة وقوع الإِيقاع.

وأما التَّطليق فهو تصرف الزوج تارةً بالتنجيز، وتارة بالتَّعليق، فإِذا وجد المعلق عليه وجد أثره، وهذا معنى قول الفقهاء: التعليق مع الصفة تطليق، وليس معناه: أن الصفة جزء من التَّطليق الذي هو فعل الزوج، وإِنَّمَا معناه: أنه عند ذلك يصدق التَّطليق، كما لا يصدق عليه حقيقة إِلا عند حصول العلم، وتخلّل الزمان بين التعليق والصفة لا يقدح في ذلك.

وقد أطال أبي رحمه الله في تقرير ذلك في كتابيه في الرد على ابن تيمية في مسألة

ص: 543

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الطلاق: كتاب "التحقيق" وكتاب (رافع الشقاق)، ولا مزيد على نفاسته، وبه يتحقق ما يقوله علماؤنا من أن سبب وقوع الطَّلاق موجود مع التعليق.

ومن أصحابنا من يقول: سببه التَّعْليق والصفة جميعًا، وليس بشيء، بل الصفة شرط فقط.

والحنفية يقولون: التَّعليق يصير إِيقاعًا في ثاني الحال كما عرفت، وعليه يتخرج أمهات من المسائل كما عرفناك.

وكنت أسمع أبي رحمه الله يقول: استنبطت من التَّدبير والوصية أن من علّق الطلاق بصفة لا يقدر أنه منشيء للطلاق عند وجودها كما يقول الحنفيّة؛ إِذ لو كان كذلك الموصى والمدبر يقدر تصرفه حال الموت، وهو حينئذٍ غير مالكٍ للتصرف، بل التصرف حال اللَّفظ والحكم مستند إِليه.

قلت: وهذا حسن ينضم إِلى ما تقدم.

وإِن مَوَّه مُمَوِّه بأن يعتق حال الموت، وهو في حال موته مالك، والتفت على أن العلة مع المعلول.

دفعنا هذا التمويه بقولك: إِن متّ ودخلت الدار فأنت حر، فإِنه صحيح، ودخول الدار يتراخي عن الموت، فلو قدر عنده إِيقاع لقدر بعد حصول الموت قطعًا.

ومن فروع الفقه [المبنية]

(1)

على مفهوم الشَّرط أن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [سورة الطلاق: الآية 6] يدل عندنا بالمفهوم على أن النفقة لا تجب عند عدم الحمل، فلا نفقة للمعتدة الحِائل؛ خلافًا لهم.

ومسألة نكاح الأمة لمن لم يستطع طولًا تقدمت في خلال الكلام، وفي المسائل كثرة فلا نطيل.

تمّ الجزء الثالث من كتاب رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب

ويليه الجزء الرابع وأوله مفهوم الغاية

(1)

في ت: المثبتة.

ص: 544