المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

رَفعُ الحَاجِبِ عَن مُختَصَر ابْن الحَاجِب تأليف تَاج الدّين أبي نَصر عَبْد الوهَّاب - رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب - جـ ٤

[تاج الدين ابن السبكي - ابن الحاجب]

فهرس الكتاب

رَفعُ الحَاجِبِ عَن مُختَصَر ابْن الحَاجِب

تأليف

تَاج الدّين أبي نَصر

عَبْد الوهَّاب بن عَلي بن عَبْد الكافي السُّبْكي

(727 - 771 هـ)

تحَقيق وَتعِليق وَدِرَاسَة

الشيخ عَلي محمَّد معَوض

الشيخ عَادِل أحمد عَبد المَوجُود

الجزءُ الرابع

عالم الكتب

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

رَفعُ الحَاجِبِ عَن مُختَصَر ابْن الحَاجِب

ص: 3

عالم الكتب

للطباعة والنشر والتوزيع

بيروت - لبنان

ص. ب: 8723 - 11، برقيًا: نابعلبكي

هاتف: 819684 - 315142 - 603203 (01)

خليوي: 381831 (03)

فاكس: 603203 - 1 (961)

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة للدار

الطبعة الأولى

1419 هـ - 1999 مـ

يمنع طبع هنا الكتاب، أو أي جزء منه، أو اختزال مادته بطريقة الاسترجاع، كما يمنع الاقتباس منه أو التمثيل أو الترجمة لأية لغه أخرى، أو نقله على أي نحو، وبأية طريقة، سواء كانت إلكترونية أو ميكانيكية أو بالتصوير أو بالتسجيل أو خلاف ذلك، إلا بموافقة خطية مسبقة من الناشر.

ص: 4

‌مَفْهُومُ الغَايَةِ

(1)

مَفْهُومُ الْغَايَةِ قَالَ بِهِ بَعْضُ مَنْ لا يَقُولُ بِالشَّرْطِ، كالْقَاضِي وَعَبْدِ الْجَبَّارِ.

لِلْقَائِلِ بِهِ مَا تَقَدَّمَ، وَبِأَنَّ مَعْنَى: صُومُوا إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ آخِرُهُ غَيْبُوبَةُ الشَّمْسِ، فَلَوْ قُدِّرَ وُجُوبٌ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ آخِرًا.

الشرح: "قال به بعض من لا يقول بالشرط كالقاضي"

(2)

أبي بكر، فإِنه نص عليه في

(1)

مفهوم الغاية: هو ما يفهم من تقييد الحكم بأداة غاية كـ "إِلى"، و"حتى"، وغاية الشيء آخره، وذلك كما في قوله عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} فمنطوق الآية تحريم قربان النساء مدة زمان الحيض، وقبل الغسل، وتدل بمفهومها المخالف على جواز القربان منهن بعد انقضاء زمان الحيض، والاغتسال، وقوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . فمنطوقه أن عدم حِلِّ المطلقة ثلاثًا لمطلقها مغيا بنكاح الزوج الآخر لها، ومفهومه المخالف أنها تحل له بعد نكاح الزوج الآخر لها بشرطه، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا زَكَاةَ فِي مَالٍ، حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ" فالمنطوق عدم وجوب الزكاة في المال قبل حولان الحول عليه، والمفهوم المخالف وجوب الزكاة في المال بعد حولان الحول عليه، وقوله عز وجل:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَإِنه يفهم منه عدم وجوب الصيام في الليل. ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 46، والإِحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 66، ونهاية السول للأسنوي 2/ 205، وحاشية البناني 1/ 251، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 30، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 330، وتيسير التجرير لأمير بادشاه 1/ 100، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 181، والوجيز للكراماستي 24، المسودة (358).

(2)

اختلف الأصوليون والفقهاء في حجية، مفهوم الغاية، وبعبارة أخرى في القول به إِثباتًا ونفيًا على مذهبين:

المذهب الأول: أنه حجّة، بمعنى أن تقييد الحكم بالغاية يدلّ على انتفاء ذلك الحكم عما بعدها، وإليه ذهب جميع القائلين بمفهوم الصفة والشرط، وبعض من لم يقل بهما كحجة الإِسلام الغزالي، وعبد الجبار المعتزلي، والإِمام وأبي الحسين البصري، والقاضي أبي بكر الباقلانى، وبعض الأصوليين من الحنفية. =

ص: 5

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"التقريب"، "وعبد الجَبَّار"، ومن أجلهما أفردناه بالذكر بعد تضمُّن دليل الصفة له.

وصمم بعضهم كالآمدي، وطائفة من الحنفية على المنع "القائل به" رجلان: أحدهما من قال بالشرط أيضًا، فاحتج بمثل "ما تقدم" في الصفة، "وبأن معنى: صوموا إِلى أن تغيب الشمس" صوموا صومًا "آخره غيبوبة الشمس، فلو قدر وجوب بعده لم يكن آخرًا"، وهو خلاف المنطوق.

= في هذا يقول سليم الرازي: لم يختلف أهل العراق في ذلك.

وقال القاضي في "التقريب": صار معظم نفاة دليل الخطاب إِلى أن التقييد بحرف الغاية يدلّ على انتفاء الحكم عما وراء الغاية.

قال: ولهذا أجمعوا على تسميتها غاية.

المذهب الثَّاني: أنه ليس بحجة بمعنى أن تقييد الحكم بالغاية لا يدلّ على انتفاء الحكم عما بعدها، بل هو مسكوت عنه غير متعرض له بنفى أو إِثبات، وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، واختاره سيف الدين الآمدي طردًا لباب المنع من العمل بالمفاهيم. هذا حاصل الخلاف في حجية مفهوم الغاية، وقد اتضح لك أنه مفروض فيما وراء الغاية لا في الغاية نفسها. وذهب بعضهم إِلى أنه مَفْروض في الغاية نفسها بمعنى أن تقييد الحكم بالغاية هل يدل على انقضاء ذلك الحكم في الغاية نفسها أو لا يدلّ؟ فالذي يقول بمفهومها يقول بانتفاء الحكم يها، ومن لا فَلا، وهو مردود لتصريح؛ أكثر العلماء لا سيما المحققين منهم بأن النزاع هنا إِنما هو فيما بعد الغاية لا في الغاية نفسها، نعم في الغاية خلاف أيضًا، ولكنه خلاف آخر.

وحاصل هذا الخلاف هل الغاية داخلة في حكم المغيا أو خارجة عنه، وهو خلاف لا دخل له في هذا المقام، فإِن الكلام هنا في دلالة المخالفة وعدمها، والخلاف هناك في الدخول والخروج، وأين أحدهما من الآخر؟! فإِنه على التقدير الثَّاني لا يستلزم المخالفة؛ فإِن الخروج أعم من أن يدلّ على المخالفة، أو يكون مسكوتًا عنه بخلاف الأول، وهو ظاهر على أنا إِن قلنا بخروج الغاية عن المغيا يأتي خلاف المفهوم فيها أيضًا، وبالجملة فهما خلافان مُتَغَايران.

أحدهما: أن تقييد الحكم بالغاية، هل يدلّ على نفي الحكم عما بعدها أو لا؟.

والثَّاني: أن هذه الغاية، هل هي داخلة في حكم المغيا أو لا؟ ولا ربط لأحدهما بالآخر، والمبحوث عنه هنا هو الأول دون الثَّاني، والثَّاني يجتمع مع القول بالمفهوم وعدمه، كما أن النزاع الأول يجتمع مع القول بالدخول والخروج، ولا تنافي بينهما. ينظر: شرح مسلم الثبوت 432، والإِحكام للآمدي 2/ 155، وإِرشاد الفحول 182.

ص: 6

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهذا دليل ينفرد به من ينكر ما عدا الغاية ويقول بها.

قال القاضي في "التقريب" محتجًا له: ولهذا لم يحسن أن يقول قائل: اضرب المذنب حتى يتوب وهو يريد: واضربه وإِن تاب، وإِلا يلغو كلامه.

قال: وهذا من توقيف أهل اللُّغة معلوم، فكان بمنزلة قولهم: تعليق الحكم بالغاية موضوع للدلالة على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها.

واحتج القاضي أيضًا بالاتفاق على أنك تقدر في الغاية الطّهر فتقول في: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [سورة البقرة: الآية 222]، تقديره: فاقربوهن، وفي:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [سورة البقرة: الآية 230]: فتحل، ونحو ذلك.

وإِذا تأملت كلام القاضي وقوله: إِن هذا معلوم من توقيف أهل اللُّغة إِلى آخره ظهر لك منه أنه يدعى ثبوت الحكم فيما بعد الغاية وضعًا لفظيًّا، فليس عنده مفهومًا، بل منطوقًا، فاندفع إِيراد القُطب الشِّيرَازي حيث ردد في قول المصنّف لو قدر وجوب بعده لم يكن أخيرًا، فقال: لم يكن آخرًا للمأمور به، أو لمطلق الصوم؟

الأول مسلم، ولا يدفع الدعوى، والثَّاني ممنوع.

فنقول: إِذا كان الحكم ثابتًا فيما بعدها نطقًا استحال ورود اللَّفْظ بخلافه، ولا مخصصًا أو ناسخًا، ويخرج عما نحن فيه، فافهم.

فإِن قلت: فإِذن لا مفهوم للغاية عند القاضي، بل هي منطوق.

قلت: كذلك هو، ولذلك احتج إِلى إِفراده بالذكر كما علمت.

وإِنما حسن إِيراده في المفاهيم قول الأكثر: إِنه مفهوم، فسلكنا سبيلهم، وأوردناه، ولم نهمل جانب من ادّعى أنه منطوق، وأنه فوق الشَّرط والصفة، بل من أجله خصصناه بالذكر، وأفردناه، فهو كأنما قيل: لا يفيد.

وقيل: منطوق.

وقيل: مفهوم، [فهذه]

(1)

المفاهيم الأربعة الَّتي ذكرها سلفنا يظهر فيها نزاعهم، وأكثرها على القول بها.

(1)

في ب: وهذه.

ص: 7

وَأَمَّا مَفْهُومُ اللَّقَبِ فَقَالَ بِهِ الدَّقَّاق، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فإِنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ:"مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله" وَ"زَيْدٌ مَوْجُودٌ" وأَشْبَاهِهِ - ظُهُورُ الْكُفْرِ.

الشرح: "وأما مفهوم اللَّقب،

(1)

فقال به" أبو بكر "الدَّقَّاق" من الشَّافعية، وكذا أبو بكر الصَّيرفي منهم كما نقل السهيلي في "نتائج الفكر" في "باب العطف"، وهو غريب

(2)

.

وابن خُوَيز منداد من المالكية كما نقل المَازِرِيّ، "وبعض الحنابلة".

ومنهم من عَزَاهُ إِلى أحمد نفسه

(3)

.

(1)

مفهوم اللقب: هو ما يفهم من تعليق الحكم باللَّقب، والمراد بـ"اللقب" في اصطلاح الفقهاء والأصوليين: اللفظ الدال على الذات دون الصفة، فيشمل العلم بأنواعه الثلاثة عند النحويين، وهي الاسم، والكنية، واللقب، فاصطلاح الأُصُوليين في اللقب مغاير لاصطلاح النحويين مثال ذلك:"جاء زيد" مفهومه أن غير زيد لم يجئ، وقولنا: على زيد حج أي: لا على غيره. ويتضمن أيضًا اسم الجنس سواء كان إِفراديًّا، كما في حديث:"الماءُ مِنَ المَاءِ" مفهومه أنه لا غُسْلَ بغير إِنزال، أو جمعيًّا نحو:"في الغَنَمِ زَكَاةٌ" مفهومه: أنه لا زكاة في غير الغنم من الحيوانات، ومثل اسم الجنس اسم الجمع، كرهط، وقوم، ويشمل أيضًا المشتق الذي غلبت عليه الاسمية، كالطعام، كما يفيده تمثيل الإِمام الغزالي في المستصفى اللقب بحديث "لا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ".

قال ابن الحاج في تعليقه عليه: إِنه لا فرق بين قولنا: في الغنم زكاة، وفي الماشية زكاة؛ لأن الماشية، وإن كانت مشتقة؛ لكن لم يلحظ فيها المعنى يعني: الوصف، بل غلبت غليها الاسمية. ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 24، والإِحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 67، والتمهيد للأسنوي 261، والمنخول للغزالي 214، والمستصفى له 2/ 204، وحاشية البناني 1/ 252، والإِبهاج لابن السبكي 1/ 374، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 32، وحاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 330، والتحرير لابن الهمام 40، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 1/ 131، وحاشية التفتازاتي والشريف على مختصر المنتهى 2/ 182، وميزان الأصول للسمرقندي 1/ 579، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 97، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 1/ 141، وينظر: شرح تنقيح الفصول (271).

(2)

ينظر: نتائج الفكر بتحقيقنا.

(3)

اختلف العلماء في حجية مفهوم اللقب على مذاهب: =

ص: 8

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفرق بعض علمائنا بين أسماء الأنواع، فجعل لها مفهومًا، دون أسماء الأشخاص.

ووقع في كلام جماعة من أئمتنا كالشيخ أبي حامد، وابن السمعاني وغيرهما ذكر مفهوم الأعيان قالوا: وهو كقولك: في هذا المال زكاة، وعلى هذا الرجل حج قالوا:. وهو كاللَّقب.

قلت: وحذف المتأخرون هذه العبارة لاشتمال اللقب على معناها، "وقد تقدم" ذكر أنه مردود، أو ذكر الفرق بينه وبين الصفة بأنها لو أسقطت لم يختل الكلام، بخلافه، فلم يكن المقتضى لكونه حجة - وهو أنه لا فائدة لتخصيصه بالذكر - إِلَّا تخصيص الحكم قائمًا؛ إِذ الفائدة [استقامة]

(1)

الكلام.

= الأول: أنه ليس بحجة، أي أن تعليق الحكم باللقب لا يدلّ على نفي الحكم عما عداه، وهذا مذهب جمهور المتكلميءن والفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنفية، والحنابلة.

الثَّاني: أنه حجة أي: أن التعليق المذكور يدل على نفي الحكم عما عدا اللقب، وإليه جرى أبو بكر محمد بن جعفر القاضي المشهور بـ "الدقاق"، وأبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي من فقهاء الشافعية.

قَال سليم الرازي في "التقريب": صار إِليه الدقاق، وغيره من أصحابنا يعني: الشافعية، وكذا حكاه عن بعض الشافعية ابن فورك، ثم قال: وهو الأصح.

قال إِلكيا الطبري: إِن ابن فورك كان يميل إِليه، وحكاه السهيلي في "نتائج الفكر" عن أبي بكر الصيرفي، ونقل القول به عن ابن خويز منداد، والباجي، وابن القصار من فقهاء المالكية، ونقله أبو الخطاب الحنبلي في "التمهيد" عن منصوص أحمد، قال: وبه قال مالك، وداود، وبعض الشافعية اهـ.

هذا ما قاله أبو الخطاب الحنبلي في "التمهيد".

وقال القاضي عبد الوهاب، وهو من أئمة المالكية: إِن القول بمفهوم اللقب جحود لما هو معلوم ضرورة من اللغة.

وقال المازري: وهو من كبار المالكية: أشير إِلى مالك القول به؛ لاستدلاله في "المدونة" على عدم إِجزاء الأضحية إِذا ذبحت ليلًا بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قال: فذكر الأيام، ولم يذكر الليالي، وبهذا يتبين للناظر أن نسبة القول بمفهوم اللقب إِلى الإِمام مالك رضي الله عنه كما يقولها أبو الخطاب الحنبلي ليست على ما ينبغي.

(1)

في ت: استفاضة.

ص: 9

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وأيضًا فإِنه" لو كان حجّة "كان يلزم من" قول القائل: "محمد رسول الله وزيد موجود، وأشباهه ظهور الكفر"؛ لأن مفهومه نفي رسالة غيره من الأنبياء، ويلزم عدم وجود غير زيد، فيعم، فيكون ظاهره أنه نفى وجود الرّب تعالى.

وإِنما قال المصنّف: ظهور الكفر، ولم يقل: الكفر نفسه كما فعل غيره؛ لأن الكفر يستدعى كون القائل متنبهًا لدلالة اللفظ مريدًا.

ولذلك اعترض الآمدي

(1)

على من ألزم الكُفْر بهذا، فخلص المصنّف عن اعتراضه بما ذكره.

قلت: وقد تبع الآمدي في التمثيل بـ "زيد موجود، ومحمد رسول الله"، وأنت تعلم أنه قدم اختصاص المفاهيم بالإِنشاء، وما ذكره جملتان خبريتان لا مفهوم لهما إِلَّا إِذا قلنا: إِن المفاهيم تطرق الأخبار، ولا نحفظ في ذلك نقلًا عن الدَّقاق، ولا غيره من القائل بمفهوم اللقب.

فالصَّواب الإِلزام بضرب من الإِنشاء، وهو ما فعله الأقدمون.

حكى الأستاذ أبو إِسحاق: أن ابن الدقاق ألزم عدم إِيجاب الزكاة من وجوب الصلاة.

قال: فظهر له بطلانه، وتوقف فيه.

قلت: وليت شعري لم توقف ولم لا، قال: هذا مفهوم اللَّفظ، ولكن عارضه منصوص، كما أنّ من قال: أكرم الذات العابدة الموجودة أفهم بالصفة عدم إِكرام الذات الَّتي ليست بعابدة، ويلزم عليه ذات الباري - تعالى - فإِنها معبودة لا عابدة؟

فجوابنا في مفهوم اللَّقب كجوابكم في مفهوم الصِّفَةِ عن هذا.

وقد يقال؛ إِنَّ القائلين بمفهوم اللَّقب يمنعون أن تكون العَرَبُ تنطق بهذا؛ لأنه لا فائدة فيه، فهو ضربٌ من اللَّغو؛ إِذ الغرض أن لفظ الصفة لا فائدة له غير نفي الحكم عما عدا الملفوظ، فإِذا فرض أن لفظ الصفة لا فائدة له غير نفي الحكم عما عدا الملفوظ، فإِذا فرض أنه لا نفي فيه كما في قولك الفائدة في هذا المثال كان حشوًا.

(1)

ينظر: الإِحكام 3/ 90.

ص: 10

وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ الْقِيَاسِ؛ لِظُهُورِ الْأَصْلِ فِي الْمُخَالَفَةِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَسْتَلْزِمُ التَّسَاويَ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَلا مَفْهُومَ، فكَيْفَ بِهِ [هَا] هُنَا؟.

الشرح: "واستدلّ بأنه يلزم منه" لو كان حجّة "إِبطال القياس؛ لظهور الأصل" المقيس عليه "في المخالفة" للفرع، فإِنَّ النَّص الدَّال على حكم الأصل إِن تناول الفرع لم يكن فرعًا، بل كان ثابتًا بالنص كالأصل، وإِلَّا دلَّ المفهوم على انتفاء الحكم فيه، وكان إِثباته بالقياس مراغمًا للمفهوم فقوله مثلًا: البُرّ بالبر يفهم أن الزبيب ليس بربوي، فلو أَلحق به قياسًا بجامع الطعم راغم المفهوم.

"وأجيب بأن القياس يستلزم التساوي"؛ بين الأصل والفرع في المعنى، وإِذا حصل ذلك، دلّ على الحكم في الفرع بمفهوم الموافقة، وبطل مفهوم المخالفة كما علمت.

وهذا في المفهوم "المتفق عليه" بيننا، وهو الصفة والشرط، "فلا مفهوم" مخالفة مع التساوي؛ إِذ شرطه ألَّا يظهر أولوية مُسَاواة.

ولو كان في المفهوم القوي المتفق بيننا وبين من يثبت اللَّقب على أنه حجّة، "فكيف به ها هنا؟ " مع ضعفه والخلاف فيه.

والحاصل أن التعارض بين المفهوم والقياس غير متصوّر؛ لأن القياس مساواة، والمفهوم لا يكون أولى ولا مساويًا، وإِلَّا كان مفهوم موافقة لا مخالفة، فلا مفهوم إِذن مع المساواة، ولا قياس مع عدمها.

ولا يخفى عليك أنَّ هذا لا [ينهض]

(1)

إِلَّا على من يسلم أنّ شرط مفهوم المخالفة ألَّا تظهر [مساواة]

(2)

.

وكان أبي رحمه الله يقول: ولئن تخيل ثبوت المُخَالفة مع المُسَاواة، فللدّقاق أن يقول: المفهوم يدلّ على انتفاء ما عدا البُرّ مثلًا مطلقًا، والقياس إِنما يُلْحق ما شاركه في المعنى كالزَّبيب دون ما لم يشاركه كالرَّصاص، فغاية فعل القياس حينئذٍ تخصيص المفهوم، ولا بدع في تخصيص المَفْهُوم بالقياس، بل ولا المنطوق.

(1)

في ج: ينتهض.

(2)

في أ، ت: مساة.

ص: 11

قَالُوا: لَوْ قَالَ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ: لَيْسَتْ أُمِّي بِزَانِيَةٍ، وَلا أُخْتِي - تبَادَرَ نِسْبَةُ الزِّنَا إِلَى أُمِّ خَصْمِهِ وَأُخْتِهِ، وَوَجَبَ الْحَدُّ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ.

قُلْنَا: مِنَ الْقَرَائِنِ لا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.

الشرح: والقائلون بمفهوم اللَّقب "قالوا: لو قال لمن يخاصمه: ليست أمي بزانية، ولا أختي، تبادر" إِلى الفهم منه "نسبة الزنا إِلى أم خصمه وأخته، ووجب الحد" - حد القذف - "عند مالك وأحمد"، ولو لا ثبوت مفهوم اللّقب لما تبادر ذلك.

"قلنا": تبادر "من القرائن" الحالية، وهي الخصام، وإِرادة الإِيذاء "لا ممَّا نحن فيه" من المفهوم الذي يكون اللَّفظ ظاهرًا فيه لغة.

وعلى أنا لا نسلّم هذا الحكم، فمذهبنا: أنه ليس بقذف صريح، ولا كناية، بل لا نجعله - على الصحيح - كناية، وإِن ثبت له مفهوم؛ إِذ مذهبنا الصحيح فيمن قال: أما أنا فلست بزان، أنه ليس بقاذف وإِن نوى.

وقال الشيخ أبو حامد: يكون كناية، ولا خلاف في أنه غير صريح مع حصول المفهوم المتّفق عليه بين القائلين بالمفاهيم؛ لأن "أما" حرف شرط مع انضمام حصر المبتدأ في الخبر بقوله: أنا لست بزانٍ، وهذا على تقدير أنَّ المفاهيم يعمل بها في كلام النَّاس.

وكان أبي رحمه الله يقول: إِنما يعمل بها في كلام الشارع.

قلت: وهو ظاهر في المذهب، إِذ نقل الرافعي عن فَتَاوى القاضي الحسين من غير أن يتعقّبه بنكير، أنه لو ادّعى عليه غيره فقال: لا يلزمني تسليم هذا المال اليوم لا يجعل مقرًّا؛ لأن الإِقرار لا يثبت بالمفهوم.

قلت: ويمكن أن يقال: إِن قلنا: دلالة المفهوم بوضع اللِّسَان فهي والمنطوق سواء، فيعمل بها في كلّ كلام.

وإن قلنا بالشرع فلا يعمل بها إِلَّا في كلام الشَّارع، واعلم أن هذه هي المفاهيم الَّتي ذكرها الأصوليون.

ص: 12

وَأَمَّا الْحَصْرُ بِـ "إِنَّما" فَقِيلَ: لا يُفِيدُ.

وقيلَ: مَنْطُوقٌ.

وَقِيلَ: مَفْهُومٌ.

الأَوَّلُ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ مِثْلُ إِنَّ زيدًا قَائِمٌ، وَالزَّائِدُ كَالْعَدَمِ.

الثَّانِي: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [سورة طه: الآية 98] بِمَعْنَى مَا إِلَهُكُمْ إِلَّا الله، وَهُوَ المُدَّعي، وأمَّا مِثْلُ:{إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} ، وَ "إِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَضَعِيفٌ؛ لأِنَّ العُمُومَ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَلا يَسْتَقِيمُ لِغَيْر الْمُعْتِقِ وَلاءٌ ظَاهِرًا.

الشرح: "وأما الحصر" الذي يدعى بعضهم حصوله بـ "إِنما" فنقول: اختلف في "إِنما" هل تفيد الحصر؟

(1)

.

(1)

مفهوم الحصر هو ما يفهم من تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص، وله صيغ كثيرة منها:

1 -

النفي والاستثناء، نحو: لا عالم إِلا زيد، وما قام إِلا زيد، منطوقهما نفي العلم، والقيام عن غير زيد، ومفهومهما إِثبات العلم والقيام لزيد.

2 -

إِنما بالقصر نحو: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} أي فغيره ليس بإِله فمحل النطق في الآية هو الله، والمنطوق هو الألوهية، ومحل السكرت غير الله، والمفهوم هو انتفاء الألوهية وفي هذا يقول السعد: مفهوم المخالفة في "إِنَّما"، هو نفي الحكم عن غير المذكور في الكلام آخرًا، وهو أقوى من مفهوم الغاية، كما نَصَّ عليه الشافعي في الأم. فإِن قيل: قد أطبقوا على أن "إِنَّما" مقدرة بالنفي والاستثناء، وذلك يقتضي تساويهما فيما هو منطوق، وما هو مفهوم مع أنهم جعلوا في "إِنما" الإِثبات منطوقًا، والنفي مفهومًا. وعكس ذلك في النفي والاستثناء.

والجواب أن المعتبر في المنطوق والمفهوم صورة اللفظ، فلما نطق بأداة النفي مع الاستثناء جعل النفي منطوقًا للنطق به، ولما لم ينطق بها مع "إِنما" بل المنطوق به معها هو الجملة الموجبة جعل الإِثبات منطوقًا؛ لأنه المنطوق به، ولا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يعطي حكمه. ومن أمثلة هذا النوع قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"، "إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ"، "إِنَّمَا الوَلاءُ لِمَن أَعْتَقَ"، "إِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقسَمْ".

3 -

تعريف المبتدأ باللام، أو الإِضافة بأن يكون المبتدأ لفظًا كُلِّيًّا مُعَرَّفًا باللام، أو الإِضافة، ومخبرًا عنه بجزءٍ من جزئياته، نحو: العالم زيد، وصديقي زيد؛ فإِنه يفيد الحصر؛ لأن المراد بالعالم وصديقي: هو الجنس، فيدل على العموم إِذا لم يكن هناك قرينة تدل على العهد، فمنطوقهما: إِثبات العلم والصداقة لزيد. =

ص: 13

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فَقيل: لا تفيد".

"وقيل": تفيد.

ثم اختلف فقيل: "منطوق".

"وقيل": مفهوم.

وعلى هذا يتّجه ذكره في المفاهيم دون القولين.

وإنما ذهب إِلى هذا شِرْذِمَةٌ قليلون؛ فلذلك لم يذكر الأكثرون "إِنما" في باب المفاهيم، وإِن ذكروا الغاية.

والقول بأنها لا تفيد الحَصْر: هو رأي الآمدي، واختاره شيخنا أبو حيّان، واشتد نكيره على من يخالفه.

والقول بأنها تفيده هو رأي أبي إِسحاق الشيرازي، والغزالي، وإِلكيا، والإِمام الرازي وغيرهم.

واختاره أبي رحمه الله وقال: إِن المخالف فيه مستمرّ على لجاج

(1)

ظاهر.

ونقله ناقلون عن القاضي، والذي رأيته في "التقريب" أنها عنده محتملة لتأكيد الإِثبات، ومحتملة للحصر، وزعم أن العرب استعملتها لكلّ من الأمرين:

احتج "الأول" وهو النّافي بأن [قولنا]

(2)

: "إِنما زيد مثل: إِن زيدًا قائم" والزائد وهو لفظ "ما" كالعدم.

واحتج "الثَّاني" وهو القائل بأنه يفيد بمنطوقه بأن قوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ}

(3)

= ومفهومهما نفي العلم، والصداقة عن غير زيد. ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 50، والإِحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 67، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/ 43، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 182، 183، ونشر البنود للشنقيطي 1/ 96.

(1)

في أ، ب، ت: تحاج.

(2)

في أ، ب، ت: قومًا.

(3)

سقط في أ، ت، ج.

ص: 14

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[سورة طه: الآية 98] بمعنى: ما إِلهُكُم إِلا الله".

قوله: "وهو المدعى" يحتمل أن يكون من تمام الاستدلال الثَّاني [أي]

(1)

وإِذا كان المعنى: ما إِلهكم إِلا الله، فهو الحصر المدعي.

والأظهر: أنه ابتداء كلام من المصنّف تقريره: أن كلًّا من دليل الأول والثَّاني عين دعواه، فلا يفيد؛ لأن قول الأول: إِنما زيد مثل: إِن زيدًا، وقول الثَّاني: إِنما زيد بمعنى ما زيد إِلَّا كذا، عين الدعوى.

وللثاني أن يقول: ولو لم يكن المعنى: ما إِلهكم إِلا الله، لكان المعنى: الله إِلهكم، وهم [لم ينازعوا]

(2)

في ذلك إِنما كان الكلام في إِلهية غيره، فلم يكن ذلك نفس الدعوى.

وذكر أبي رحمه الله آيات كثيرة يتبادر فهم الخَصْم منها، ومن أوضحها:{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [سورة آل عمران: الآية 20].

قال: لو لم تكن هناك للحصر لكانت بمنزلة: وإن تولوا فعليك البلاغ، وهو عليه البلاغ تولوا، أم لم يتولوا.

قال: وإِنما المرتب على توليهم نفى غير البلاغ ليكون تسليةً له وإِعلامًا أن توليهم يضره.

وأما احتجاج من احتجّ على الحصر بتبادره إِلى الفَهْم في قوله صلى الله عليه وسلم {إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} ، "وَإِنَّمَا الوَلاءُ" لِمَنْ أَعْتَقَ"، وهما حديثان ثابتان في "الصحيحين" وغيرهما، "فضعيف؛ لأن العموم فيه" وهو الحصر واقع "بغيره"، "فلا يستقيم لغير المعتق ولاء ظاهر".

أي: أن الحصر نشأ من عموم الأعمال والولاء؛ إِذ معناه: كلّ عمل بِنِيَّةٍ، وكل ولاء للمعتق، وهو كفى موجب، فينتفى مقابله الجزئي السَّالب، وهو: بعض العمل بغير نية، وبعض الولاء ليس لمن أعتق.

(1)

سقط في ت.

(2)

في ج: لا ينازعون.

ص: 15

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كذا قرره القاضي عضد الدِّين الإِيجي، وهو حسن، وجعله بعضهم جواب سؤال مقدر تقريره: لو كانت "إِنما" للحصر؛ لما صحّ عمل بغير نِيَّة، ولا ثبت ولاء لغير المعتق للمحدثين، والتالي باطل؛ إِذ بعض الأعمال صحيح بغير نيّة، والولاء قد ثبت لوارث المعتق، وهو من تلقى

(1)

عن المعتق.

وجوابه: أنّ ذلك لغير هذا الحديث، ولكن ظاهر الحديث أن الولاء لا يكون لغير المعتق، وأن العمل لا يكون بغير نيّة مطلقًا.

وقد يجاب بالمنع فيقال: لا نسلم ثبوت عمل بغير نِيَّة، وما يذكر من عمل لا نية فيه، ليس المنتفى عنه إِلا النّية المقارنة لا مطلق النّية كما يحقق ذلك الفقيه، فيقول في قراءة القرآن مثلًا: لا يشترط فيها نيّة مقارنة؛ لتميزها بنفسها.

وأما أصل القصد فلا بد منه، وألَّا يكون [غافلًا]

(2)

، ولا نسلّم ولاء لغير المعتق، ووارثه يتلقى عنه، ويدعى أنه يثبت للمعتق ابتداء، ثم ينتقل عنه إِلى ورثته، ولا بدع في هذا، وإن كان المعتق [ميتًا]

(3)

.

كما قلنا في الدِّيَةِ على أحد القولين: إِنها تثبت للمقتول، ثم تنتقل إِلى الورثة. وليس لك دفع هذا بأنها على القول بثبوتها للمقتول تثبت في آخر جزء من حياته، فإِنه ما دامت فيه حياة مستقرة لا دية واجبة.

"تنبيه"

"ما" في "إِنما" ليست نافية، بل زائدة

كافّة موطّئة لدخول الفعل.

وزعم جمع من الأصوليين والبيانيين أنها نافية، وأن ذلك سبب إِفادة "إِنما" للحصر.

قالوا: لأن "إِن" للإِثبات "وما" للنفي، فلا يجوز توجيههما معًا إِلى شيء واحد؛ لئلا يتناقض.

ولا أن يقال: "إِن" تقتضى ثبوت غير المذكور، و"ما" تنفى المذكور؛ لأنه خلاف

(1)

في أ، ت: يكفي.

(2)

في أ، ت، ج: عاقلًا.

(3)

في أ، ت، ج: بنتا.

ص: 16

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الواقع والاتفاق، فيتعين أن يكون "إِن" لإِثبات المذكور، و"ما" لنفى غيره، وذلك هو الحصر.

وهذا مبنى على مقدّمتين باطلتين بإِجماع النُّحاة؛ إِذ ليست "إِن" للإِثبات، وإِنما هي لتأكيد الكلام إِثباتًا كان أو نفيًا نحو:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء: الآية 48]، وليست "ما" للنفي، بل هي كما ذكرناه.

وهي بمنزلتها في أخواتها "ليتما"، و "لعلما"، و"لكنما"، و"كأنما".

وقد نسب القَرَافي القول بأنها نافية لأبي على الفارسي في كتاب "الشيرازيات".

قال بعض أئمة النحو في زماننا: ولم يقل ذلك الفارسي في "الشيرازيات"[ولا غيرها، ولا قاله نحويٌّ غيره قال: وإِنما قال الفارسي في "الشيرازيات"]

(1)

: إِن العرب عاملوا "إِنما" معاملة النفي و"إِلّا" في فصل الضمير؛ كقول الفرزدق [الطويل] ....

....................... وإِنَّمَا

يُدَافعُ عَنْ أَحْسَابهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي

وهذا

(2)

كقول الآخر: [السريع].

قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتُهَا

(3)

مَا قَطَّرَ

(4)

الفَارِسَ إِلَّا أَنَا

(5)

وقال أخي الشيخ العلامة بهاء الدّين أبو حامد، تغمّده الله برحمته: لعلَّ القرافي أخذه من قول أبي علي في "الشِّيرَازيات" بعد ذكره، أن "إِنما" للحصر أن الحصر أيضًا في:"شرأهر ذاناب، وشيء جاء بك".

ثم قال: والأول أسهل من هذا؛ لأن معه حرفًا قد دلّ عندهم على النفي. انتهى.

ثم قال: وهذا ليس صريحًا في أنها والحالة هذه نافية.

قلت: هو ظاهر فيه.

(1)

سقط في ت.

(2)

في أ: فهذا.

(3)

في ج: وجارتها.

(4)

في أ: نظر.

(5)

في أ، ت: أما وفي ب، ح: أنا.

ص: 17

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فائدة ما تقدم في "إِنما" بكسر "إِن"، أما المفتوحة فزعم الزمخشري في الكلام على قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة الأنبياء: الآية 108] إِفادتها القصر.

وبه صرح التنوخي

(1)

في كتاب "الأقصى [القريب] "

(2)

، وردّ شيخنا أبو حيَّان على الزمخشري، بأنه يلزمه انحصار الوحي في الوحدانية.

واعترضه أخي الشيخ أبو حامد: بأن ذلك لازم، وإن لم تكن المفتوحة للحصر؛ لأن الإِلزام جاء من "إِنما".

ولو قلت: إِنما يوحي الوحدانية لزم ذلك.

قلت: وهو صحيح؛ إِلا أن لأبي حيان أن يقول: المعنى على قول الزمخشري: جميع ما يوحي أن إِلهكم ليس إِلَّا واحدًا فيلزمه: إِن إِلهنا واحد وقادرٌ، وحَيٌّ، وسميع، وبصير إِلى غير ذلك من الصِّفات الَّتي تثبتها، فيلزم من يدعى حصر المكسورة عدم إِيحاء غير الوحدانية، وهو باطل؛ لأنه يوحي إِليه أمور أخر.

ومن يدعى حصر المفتوحة أن الإِله ليس إِلَّا واحد، ولعل هذا الإِلزام مراد أبي حيان، وكان صواب عبارته أن يقول: انحصار الإِله في الوحدانية، ولكن المكان ضيق تَنْبُو عنه العبارات.

ولعلَّ الزمخشري إِنما ادَّعى الحَصْر لعدم مُبَالاته بهذا الإِلزام؛ فإِنه معتزلى لا يثبت الصفات السَّبعة.

(1)

علي بن محمد بن أبي الفهم داود بن إِبراهيم بن تميم، أبو القاسم التنوخي، ولد سنة 278 هـ، قاض أديب، شاعر، عالم بأصول المعتزلة، ولد بـ "أنطاكية" ورحل إِلى بغداد في حداثته، فتفقه بها على مذهب أبي حنيفة، وكان معتزليًّا وولي قضاء البصرة والأهواز، له ديوان شعر، توفي بـ "البصرة" سنة 342 هـ ينظر: وفيات الأعيان 1/ 353، وتاريخ بغداد 12/ 77، وإِرشاد الأريب 5/ 332 - 347، ويتيمة الدهر 2/ 105 - 115، والفوائد البهية 137، وفي مرآة الجنان 2/ 335، والأعلام 4/ 325.

(2)

في ج: الغريب.

ص: 18

وَأَمَّا مَفْهُومُ الْحَصْرِ فَمِثْلُ: صَدِيقِي زَيْدٌ وَالْعَالِمُ زَيْدٌ، وَلا قرِينَةَ عَهْدٍ.

فَقِيلَ: لا يُفِيدُ.

وَقِيلَ: مَنْطُوقٌ.

وَقِيلَ: مَفْهُومٌ.

الأَوَّلُ: لَوْ أَفادَهُ لأَفَادَ الْعَكْسَ؛ لِأَنَّهُ فِيهِمَا لا يَصْلُحُ لِلْجِنْسِ، وَلا لِمَعْهُودٍ مُعَيَّنٍ؛ لِعَدَمِ الْقَرِينَةِ، وَهُوَ دَلِيلُهُمْ، وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ لَكَانَ التَّقَدُّمُ يُغَيِّرُ مَدْلُولَ الْكَلِمَةِ.

الشرح: "وإِما" ما يقال فيه "مفهوم الحصر" حصر المبتدأ في الخبر "فمثل: صديقي زيد، والعالم زيد"، ولا يخفى أن النظم الطَّبيعي خلافه، والأصل قولك: زيد صديقي، لا صديقي زيد، فالعدول إِليه، "ولا قرينة عهد" هناك دالّة على أن المراد بالمبتدأ معهود هل يفيد الحصر؟.

اختلفوا فيه كخلافهم في "إِنما".

"فقيل: لا يفيد".

وقيل: يفيد.

ثم اختلف "فقيل: منطوق"، وهو رأي الغزالي والهراسي.

وقيل: مفهوم".

واحتج: الفريق "الأول" بأنه "لو أفاده، لأفاد العكس"، وهو زيد صديقي، وزيد العالم؛ "لأنه" أي المبتدأ "فيهما" أي في المثالين صديقي زيد، والعالم زيد "لا يصلح للجنس"، وهو الحقيقة الكلية؛ لأن الإِخبار عنها بأنها زيد الجزئي كاذب، "ولا لمعهود معيّن؛ لعدم القرينة" الصَّارفة إِليه كما فرضناه، فكان لما يصدق عليه الجنس مطلقًا، فيفيد أن كلّما صدق عليه العالم فهو زيد، وهو معنى الحصر، "وهو "[بعينه]

(1)

"دليلهم" على الحصر، فإِذا كان الدليل آتيًا في زيد العالم، كما أتى في: العالم زيد، وجب اشتراكهما في الحكم، ولا قائل بإِفادة الحصر في: زيد العالم.

"وأيضًا لو كان": العالم زيد للحصر، وعكسه ليس للحصر، "لكان التقديم يغير

(1)

في ت: يغيب.

ص: 19

الْقَائِلُ بِهِ: لَوْ لَمْ يُفِدْهُ لأُخْبِرَ عَنِ الأَعَمِّ بَالأَخَصِّ؛ لِتَعَذُّرِ الْجِنْسِ وَالْعَهْدِ، فَوَجَبَ جَعْلُهُ لِمَعْهُودٍ ذِهْنِيٍّ بِمَعْنَى الْكَامِل وَالْمُنْتَهِي.

مدلول الكلمة"، واللازم باطل؛ لأنه إِنما يتغيّر بالتقديم، والتأخير الهيئة التركيبية دون المفردات.

وأما الملازمة؛ فلأنه لا فرق بين الأصل وعكسه إِلَّا التقديم والتأخير، وقد ادَّعيتم تغاير المفهوم، فإِذا كان التَّقديم والتأخير لا يفيده، لم تصحّ الدعوى، بل كان المفهوم واحدًا.

قال القاضي عضد الدين: وقد يقال عليهما: إِنَّ الوصف إِذا وقع مسندًا إِليه قصد به الذّات الموصوفة به، وإِذا وقع مسندًا، قصد به كونه ذاتًا موصوفة، وهو عارض للأول، فاندفع الأول.

وأما الثَّاني: فإِن أردت بتغير المفهوم هذا القدر، منعنا بطلانه.

وإِن أردت غيره منعنا الملازمة.

الشرح: وأما إِفادته للحصر، [فاحتج]

(1)

، القائل بأنه لو لم يفده لأخبر عن الأعمّ بالأخص".

فإِن قلت: لم ادّعيت أنه يقع الإِخبار بالأعم عن الأخص؟.

قلت: "لتعذّر الجنس والعهد" الخارجي كما تقدّم، وإِذا تعذّر كان لما صدق عليه العالم والحيوان مثلًا في قولنا: العالم زيد، والحيوان إِنسان، فإِذا كان غير الإِنسان - وهو الفرس مثلًا - حيوانًا وغير زيد - وهو عمرو مثلًا - عالمًا كان الحيوان والعالم أعمّ من الإِنسان والفرس، وقد أخبرت عنه بهما.

فإِن قلت: وما وجه بطلان الثَّاني؟.

قلت: لأن الخبر الثَّابت للعام ثابت لجزئياته، فيلزم ثبوت الفرس للإِنسان، وعمرو لزيد.

وإِذا ثبت هذا بطل جعله للجنس وللعهد الخارجي لما تقدّم، ولما صدق عليه مع بقائه

(1)

في ج: واحتج.

ص: 20

[قُلْنَا: صَحِيحٌ وَاللَّامُ لِلْمُبَالَغَةِ، فَأَيْنَ الْحَصْرُ؟].

وَأُجِيبَ: بَلْ جَعْلُهُ لِمَعْهُودٍ ذِهْنِيٍّ مِثْلُ: "أَكَلْتُ الْخُبْزَ" وَمِثْل: "زَيْدٌ الْعَالِمُ" هُوَ الْمَعْرُوفُ.

وَأَيْضًا يَلْزَمُهُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ بِعَيْنِ مَا ذكرَ: [وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي: زيْدٌ الرَّجُلُ].

فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبَرُ بِالأَعَمِّ فَغَلَطٌ؛ لأَنَّ شَرْطَهُ التَّنْكيرُ.

فَإِنْ زَعَمَ أَن اللَّامَ لِزَيْدٍ فَغَلَطٌ؛ لِوُجُوبِ اسْتِقْلالِهِ بِالتَّعْرِيفِ مُنْقَطِعًا عَنْ زَيْدٍ، كالْمَوْصُولِ.

على العموم، "فوجب جعله لمعهود ذِهْنِيّ بمعنى الكامل والمنتهي"[أي]

(1)

: لما صدق عليه بعد تخصيصه بما يصلح أن يحمل عليه الحيوان، وزيد مثلًا من معين، وما ذاك إِلا لجعله لمعهود ذهني وهو شخص كامل، أو منتهٍ في العلم قد تصوره المخاطب، وتوهّمه عند [قول]

(2)

: العالم زيد.

وأجيب: بل جعله لمعهود بعض مثل: أكلت الخبز، فإِنا نجعل الألف واللام في الخبز للبعض، ومثل: زيد العالم هو المعروف.

وأيضًا يلزمه: زيد العالم [بعين]

(3)

ما ذكر. كذا بخط المصنّف.

الشرح: وفي "الحاشية" بخط غيره بدل هذا: "قلنا: صحيح واللام للمبالغة، فأين الحصر؟ " ويلزمه: زيد العالم، وهو الذي نصّ عليه سيبوبه: في زيد الرجل. انتهى ما في "الحاشية".

وتقرير الجواب: أن ما ذكرتم صحيح، ونحن قائلون به، ولكن لا يثبت مطلوبكم بل ينافيه؛ لأنه لم يحصل حصر العالم في زيد لما قررتم، بل كون زيد كاملًا أو منتهيًا في العلم.

(1)

في ت: إِلى.

(2)

في أ، ب، ج: قوله.

(3)

في ب: بعض.

ص: 21

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويكون حاصله: أن اللام للمبالغة في علمه لا لحصر العلم فيه.

وهو منصوص سيبوبه في قولنا: زيد الرجل، وهو منافٍ لما زعمتم.

وأيضًا، فإِنه يلزم في: زيد العالم، الذي لم يقل فيه بالحَصْرِ مثل ذلك، فيقال: يلزم الإِخبار عن العام بالخاصّ، وتبين الملازمة وانتفاء اللازم بما بينا به هناك.

"فإِن زعم" من يتوهّم الفرق بينهما "أنه يخبر بالأعم" عن الأخصّ من غير عكس "فغلط؛ لأن شرطه التنكير" أي: شرط الإِخبار عن الأخصّ بالأعم [تنكير الأعم]

(1)

؛ لتحصل الفائدة، فيقال: زيد حيوان، ولا يقال: زيد الحيوان، "وإِن زعم أن اللام في مثل: زيد" العالم لا يمتنع أن تكون للعهد الخارجي؛ إِذ يجوز أن تكون لزيد بقرينة التقدّم، بخلاف: العالم زيد؛ فإِنّه لا يجوز كون اللَّام فيه للعهد الخارجي؛ إِذ لا قرينة "فغلط" أيضًا؛ "لوجوب استقلاله" أي: استقلال الخبر الذي هو العالم "بالتعريف منقطعًا عن زيد كالموصول".

لأنّ "اللام" فيه موصولة: بمعنى الذي، والموصول مستقلّ بالتعريف من غير ذكر خارجي بالاتفاق، فإِن صرفه صارف إِليه يكون مجازًا.

ولأنه خبر عن زيد؛ فيجب استقلاله بالتعريف من غير احتياج إِلى زيد لكونه جزء كلام، فلا يحتاج إِلى الجزء الآخر في التعريف كالموصول، فإِنه يقع جزء كلام، ولا يحتاج في تعريفه إِلى الجزء الآخر.

وكذا هذا.

وإِذا كان مستقلًّا بالتعريف يتعذّر أن تكون اللام لزيد، وإِلَّا لم يكن مستقلًّا بالتعريف، فيمتنع أن تكون اللام فيه للعهد الخارجي.

"خاتمة"

المفاهيم أقسام:

الأول: مفهوم الصفة، ويدخل فيه مفهوم العدد كما قدمناه، ومفهوم العلة مثل: ما

(1)

سقط في ج.

ص: 22

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أسكر فهو حرام، ومفهوم الزمان مثل: سافر يوم الجمعة، ومفهوم المكان مثل: اجلس أمام زيد.

الثَّاني: مفهوم الشَّرط.

الثالث: مفهوم الغاية.

ومنهم من اقتضى كلامه جعله نطقًا، وعلى هذا لا مدخل له في المفاهيم.

الرابع: مفهوم اللقب، ويدخل فيه الاسم العلم نحو: قام زيد، واسم النوع نحو: في الغنم زكاة، وربما خص الأول باسم "مفهوم الأعيان" كما قدّمناه مع القضاء عليه بأن حكمه حكم اللقب، وقد تقدم ذلك كله.

والخامس: شيء يقال له: "مفهوم الحصر" أنكره قوم، وعدّه قوم نطقًا، وعلى هذين لا مدخل له في المفاهيم.

وقال قوم: له مفهوم، فعلى هذا يدخل كما عرفناك، ويدخل فيه "إِنما" ومثل: لا عالم إِلا زيد، ومثل:"تَحْرِيمُهَا التَّكْبِير، وَتَحْلِيلُهَا، التَّسْلِيمُ"، صديقي زيد.

ومنه: فصل المبتدأ من الخبر بضمير الفصل نحو: زيد هو القائم، وعليه قوله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [سورة الشورى: الآية 9] وقوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [سورة الكوثر: الآية 3]. وقوله تعالى: حكاية عن عيسى عليه السلام: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [سورة المائدة: الآية 117].

ومنه: تقدم المعمول نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة: الآية 5].

قد بالغ طوائف البيانيين في إِفادته الاختصاص، ورده قوم منهم ابن الحاجب في "شرح المفصل"، وشيخنا أبو حيان.

والذي يظهر لنا: أن التقديم يفيد الاهتمام، وقد يكون معه الاختصاص، وقد لا يكون، فإِنْ ظهر بدليل انتفاء جميع الفوائد عن التَّقديم سوى الحصر أفاد الحَصْر.

ثم شرطه ألَّا يكون المعمول مقدمًا وضعًا؛ فإِن ذلك لا يسمى تقديمًا حقيقة، وذلك كأسماء الاستفهام، وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة، وهي قوله تعالى:{أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [سورة الأنعام: 40، 41]، فإِن التقديم في

ص: 23

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأولى قطعًا ليس للاختصاص، وفي "إِياه" قطعًا للاختصاص فتأمله.

وإِذا تأملت هذه الخاتمة نقول لك: رب أمر يدلّ عليه اللفظ في محلّ نطقه بالنص، وآخر بالإِشارة، وثالث يدلّ عليه لا في محله وهو المفهوم، ورابع مختلف في أنه هل دلّ عليه في محله بالإِشارة، أو دلّ لا في محله، أو لم يدل أصلًا، فمن القسم الرابع "إِنما"، وحصر المبتدأ في الخبر، وتقديم المعمول ونحوها، فلا أحسب أحدًا يدّعى أنه نطق منصوص، بل قصاراه دعوى إِشارة النص.

فإِن قلنا: إِنه يدلّ بالإِشارة كان مترقِّيًا عن مراتب المفاهيم؛ إِذ دلالة النص أقوى من مفهومه.

ومنه أيضًا مفهوم الغاية، فإِذن أقوى المختلف في أنه مفهوم "ما" و "إِلا" كقولك: ما قام إِلا زيد، فإِنه صريح في نفي قيام غيره مقتضى لقيامه.

قيل بالمنطوق.

والأصح بالمفهوم، وهو أقوى المفاهيم؛ لأن "إِلَّا" موضوعة للاستثناء، وهو الإِخراج، فدلالتها عليه بالمنطوق، ولكن الإِخراج من عدم القيام ليس هو عين القيام، بل قد يستلزمه؛ فلذلك رجّحنا أنه مفهوم، ثم "إِنما"، والغاية، ثم حصر المبتدأ في الخبر، ثم الشَّرط؛ لأنه على القول به مفهوم، ولم يقل أحد: إِنه بالنطق، ثم الصفة المناسبة، ثم مطلق الصفة، ثم العدد، ثم تقدم المعمول.

وإِنما أخّرناه لما ذكرناه من أنه لا يفيد في كُلِّ أحواله.

ثم المحفوظ فيه عن القائلين به إِنما هو بلفظ الاختصاص لا الحصر.

وقدوهم المتأخرون أن الاختصاص الحصر بعينه، وفَاهَتْ بذلك ألْسِنَةُ الطَّالبين في علم المعاني والبيان، وفرق أبي رضي الله عنه في مصنفه المسمى بـ "الاقتناص" بينهما فقال: قد اشتهر أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص.

ومن الناس من أنكره، وقال: إِنما يفيد الاهتمام.

وقال سيبويه في "الكتاب" هم يقدمون ما هم به أعنى. ثم فهم كثير أن الاختصاص، الحصر، وليس كذلك، بل هما متباينان.

ص: 24

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والفضلاء لم يذكروا في تقديم المَعْمُول إِلّا لفظ الاختصاص منهم الزمخشري في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، وفي:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [سورة الزمر: الآية 14] وغيرهما من الآيات.

فإِن قلت: فما الفرق؟.

قلت: الاختصاص: افتعال من الخصوص، والخصوص مركّب من شيئين، أو أشياء، والثَّاني معنى منضمّ إِليه بفصله عن غيره، كـ "ضرب زيد"، فإِنه أخصر من مطلق الضرب.

فإِذا قلت: ضربت زيدًا أخبرت بضرب عام وقع منك على شَخْصٍ خاص، فصار ذلك الضرب المخبر به خاصًّا لما انضم إِليه مثل: ومن زيد؟ وهذه المعاني الثلاثة أعني مطلق الضرب، وكونه واقعًا منك، وكونه واقعًا على زيد - قد يقصدها المتكلم على السواء، وقد يترجّح قصده لبعضها، ويعرف ذلك بما ابتدأ به، فالمبتدأ به هو الأهم.

فإِذا قلت: زيدًا ضربت علمت أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود.

ولكل مركّب من خاص وعام جهتان:

فقد يقصد من جهة عمومه.

وقد يقصد من جهة خصوصة، وهذا هو الاختصاص.

وأما الحصر فمعناه إِثبات المذكور ونفى غيره، وهو زائد على الاختصاص، وإِنما جاء في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} للعلم بأن غيره لا يعبد، ولا يُسْتَعَان.

ألا ترى آيات لا يطرد ذلك فيها؟.

فإِنه قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [سورة آل عمران: الآية 83] لو جعل في معنى: ما يبغون إِلَّا غير دين الله، وهمزة الإِنكار داخلة عليه لزم أن يكون المنكر الحصر، لا مجرد بغيهم غير دينه، ولا شكّ أنه منكر أيضًا، وكذا غيرهما من الآي.

ثم قال: فليس الاختصاص الحصر، ولكنه قد يحصل منه.

والحصر أقسام:

أحدها: " [ما]

(1)

وإلا".

(1)

في أ: إِنما، وفي ب: بما.

ص: 25

‌مَبْحَثُ النَّسْخ

النَّسْخُ: الإِزَالَة، نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالنَّقلُ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ، وَنَسَخْتُ النَّحْلَ، وَمِنْهُ الْمُنَاسَخَاتُ.

فَقِيلَ: مُشْتَرَكٌ.

وَقِيلَ: لِلأَوَّلِ.

وَقِيلَ: لِلثَّانِي.

وَفِي الاِصْطِلاحِ: رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ، فَيَخْرُجُ الْمُبَاحُ بِحُكْمِ الأَصْلِ، وَالْرَّفعُ بِالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ، وَبِنَحْو: صَلِّ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ.

والثاني: "إنما".

والثالث: بالتقديم، وهو أدونها على تقدير القول به.

وهو في قوّة جملتين:

أحدهما: ما صدر به الحكم إثباتًا أو نفيًا، وهو المنطوق. والأخرى: ما فهم من التقديم.

والحصر يقتضي نفي المنطوق فقط دون ما دل عليه من المفهوم؛ لأن المفهوم لا مفهوم له.

فإذا قلت: أنا لا أكرم إلا إياك، أفاد التعويض بأن غيرك يكرم غيره، ولا يلزم أنك لا تكرمه.

وقد قال تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [سورة النور: الآية 3]؛ فأفاد أن العفيف قد ينكح غير الزَّانية، وهو ساكت عن نكاحه الزانية، فقال سبحانه بعده:{وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [سورة النور: الآية 3]. بيانًا لما سكت عنه في الأولى.

هذا مختصر من كلام الشيخ الإمام رحمه الله.

وحاصله: منع أن التخصيص الحصر، والقول بأن الحصم إنما يكون في بعض المواضع، وقد قدمت نحوه اختيارًا لي، وإنما أردت الاعتضاد بكلام شيخ الإسلام في زمانه - رحمه الله تعالى -.

ص: 26

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

«مسألة»

الشرح: "النسخ": له في اللُّغة معنيان: "الإزالة" يقال: "نسخت الشَّمسُ الظلّ".

"والنقل" يقال: "نسخت الكتاب" أي: نقلت ما فيه إلى آخر مع بقائه في نفسه، "ونسخت النّحل" أي: نقلتها من موضع إلى موضع، "ومنه المُنَاسَخَات" في المواريث أي: انتقال المال من وارث إلى وارث

(1)

.

(1)

ذهب علماء الأصول في تعريف النسخ مذاهب شتى، وعرفوه بتعاريف كثيرة، منها ما هو فاسد، ومنها ما هو صحيح كما قدمنا.

ونقتصر على تعريفات ثلاثة، وهي لإمام الحرمين، وللغزالي، ولابن الحاجب مع بيان المختار منها: تعريف إمام الحرمين: النسخ هو اللفظ الدال على انتفاء شرط دوام الحكم الأول. قال القاضي عضد الدين: ومعناه أن الحكم كان دائمًا في علم الله دوامًا مشروطًا بشرط لا يعلمه إلا هو، وأجل الدوام أن يظهر انتفاء ذلك الشرط للمكلف، فينقطع الحكم ويبطل دوامه، وما ذلك إلا بتوفيقه تعالى إياه، فإذا قال قولًا دالًا عليه، فذلك هو النسخ.

اعترض بوجوه: منها: أنه فسر النسخ باللفظ، وهو دليل النسخ لا هو قال:"نسخ الحكم بالآية والخبر"، ومنها: أنه غير مطرد؛ لدخول ما ليس بنسخ فيه، وهو قول العدل؛ "نسخ حكم كذ"؛ فإنه لفظ دال على ظهور انتفاء شرط الدوام، وليس بنسخ ضرورة، ومنها: أنه غير منعكس لخروج ما هو نسخ عنه؛ إذ قد يكون النسخ بفعله عليه الصلاة والسلام، ومنها: أنه تعريف الشيء بنفسه؛ لأنه فسر شرط دوام الحكم بانتفاء النسخ، فيكون الشرط انتفاء انتفاء النسخ، وهو حصول النسخ، فيكون حاصل كلامه أنه اللفظ الدال على حصول النسخ.

ويجاب عن الأول بأن إطلاق النسخ على اللفظ الدال عليه حقيقة اصطلاحية، فكما أن الحكم ليس إلا قول الله:"افعل كذا"، فكذا النسخ ليس إلا قول الله:"لا تفعل كذا"، وعن الثاني والثالث، بأن قول العدل وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدلان على ذلك القول، أي قول الله:"لا تفعل" فهما دليلا النسخ الدال بالذات لا هو أي النسخ بالذات.

وعرفه الغزالي بقوله: "النسخ هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا به مع تراخيه عنه".

ثم قال في شرح تعريفه هذا: "وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص؛ ليكون شاملًا للفظ والفحوي والمفهوم وكل دليل؛ إذ يجوز النسخ بجميع ذلك، وإنما قيدنا الحد بالخطاب المتقدم؛ لأن ابتداء إيجاب العبادات في الشرع مزيل حكم الفعل من براءة الذمة ولا يسمى نسخًا؛ لأنه لم يزل حكم خطاب، وإنما قيدنا بارتفاع الحكم ولم نقيد بارتفاع الأمر والنهي؛ =

ص: 27

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واختلف في حقيقته:

= ليعلم جميع أنواع الحكم من الندب، والكراهة، والإباحة، فجميع ذلك قد ينسخ. وإنما قلنا: لولاه لكان الحكم ثابتًا به؛ لأن حقيقة النسخ الرفع، فلو لم يكن هذا ثابتًا لم يكن هذا رافعًا؛ لأنه إذا ورد أمر بعبادة مؤقتة وأمر بعبادة أخرى بعد تقدم ذلك الوقت لا يكون الثاني ناسخًا، فإذا قال:"وأتموا الصيام إلى الليل" ثم قال: "في الليل لا تصوموا" لا يكون ذلك نسخًا، وإنما قلنا مع تراخيه؛ لأنه لو اتصل به لكان بيانًا وإتمامًا لمعنى الكلام، وتقديرًا له بمدة أو شرط، وإنما يكون رافعًا إذا ورد بعد أن ورد الحكم واستقر بحيث يدوم لولا الناسخ، وهو مع شرحه هذا والإطناب فِي بيان ما اختار، فإن تعريفه معترض بأربعة اعتراضات، بالثلاثة الأول التي اعترض بها على تعريف إمام الحرمين، ويجاب عنها بما أجبنا به سابقًا، وبرابع يخصه، وهو أن قول:"على وجه لولاه لكان ثابتًا به مع تراخيه" زيادة لا يحتاج إليها، أما لولاه لكان ثابتًا؛ فلأن الرفع لا يكون إلا إذا كان كذلك، وأما مع تراخيه عنه؛ فلأنه لولاه لم يتقرر الحكم الأول، فكان دفعًا لا رفعًا، كالتخصيص، ويجاب عنه بأن قوله: لولاه لكان ثابتًا" احتراز عن قول العدل: "إن حكم كذا قد نسخ"؛ فإنه وإن كان خطابًا دالًا على ارتفاع الحكم لكنه ليس هو بحيث لولاه لكان الحكم ثابتًا في نفس الأمر، وإن اعتقد المكلف ثبوته، مع أن دلالة الرفع على ما ذكر التزام، ولا يقدح في التعريف التصريح بما علم التزامًا، على أنه لو أريد بالدال الدال بالذات اندفعت الثلاثة، وبأن قوله مع تراخيه عنه احتراز عن الغاية ونحوها من المخصصات المتصلة.

وعرفه ابن الحاجب بقوله: "النسخ هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر".

فقوله: "رفع الحكم الشرعي" ليخرج المباح بحكم الأصل؛ فإن رفعه بدليل شرعي ليس بنسخ، وقوله:"بدليل شرعي" ليخرج رفعه بالموت والنوم والغفلة والجنون، وقوله:"متأخر" ليخرج نحو: صل ويمكن أن يعترض هذا التعريف بأن قوله: متأخر، ليخرج نحو: صل إلى آخر الشهر، عند كل زوال زيادة لا يحتاج إليها؛ فإن الحكم لم يثبت بأول الكلام؛ لأن الكلام بالتمام؛ فكيف يرفع. اللَّهم إلا أن يقال:"لا التصريح ودفع التوهم مما يقصد في الحدود"، وربما يقال عليه أيضًا كما يقال على سابقه:"إن الحكم كلام الله وهو قديم، وما ثبت قدمه امتنع عدمه، فلا يتصور رفعه".

ويجاب بأن المراد رفع تعلق الحكم أو الخطاب بالمكلف تنجيزًا، بحيث يصير مكلفًا بالفعل الذي لولا الرفع لبقي واستمر، فلو قال ابن الحاجب في تعريفه:"رفع تعلق الحكم الشرعي بدليل شرعي" لسلم من هذا الاعتراض. تعريف ابن الحاجب أدق؛ لأنه لا يرد عليه شيء من الاعتراضات السالف ذكرها، وبيان ذلك أنه جحل الجنس في التعريف هو الرفع، لا دليل الرفع =

ص: 28

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فقيل: مشترك" بين الإزالة والنَّقْلِ، وعليه القاضي، كما نصّ في "التقريب"، والغزالي.

= كما ذهب إلى ذلك غيره، فلا يرد الاعتراض الأول، لأنه اختار في تعريفه أن يكون الرفع بدليل شرعي، فيخرج قول العدل، ويدخل فعل الرسول، وبذلك يكون مطردًا منعكسًا، فلا يرد الاعتراض الثاني والثالث، وأيضًا لم يأت بالزيادة التي أتى بها الإمام، وهي قوله: "لولاه

إلخ"، فلا يرد الاعتراض الرابع.

وفي اصطلاح الفقهاء: "النسخ هو النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده".

ومعناه: أن الحكم له غاية ينتهي بانتهائها، لكن لما لم تكن تلك الغاية مبنية بالنص الدال على الحكم الأول، جاء النص الثاني متأخرا عن ورود الحكم الأول وبين تلك الغاية. فقولهم في التعريف:"مع التأخير عن مورده" احتراز عن البيان المتصل بالحكم الأول، سواء كان مستقلًا: كـ"لا تقتلوا أهل الذمة" عقب {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} متصلًا، أو غير مستقل، كالاستثناء، والغاية، والشرط، والوصف.

يرد على هذا التعريف ما ورد على تحريف إمام الحرمين، وهو أن النص دليل النسخ لا نفسه، وأن التعريف غير مطرد؛ لدخول قول العدل فيه وليس بنسخ، وغير منعكس؛ لخروج ما هو نسخ عنه، إذ قد يكون النسخ بفعله غليه الصلاة والسلام، ويجاب عن الأول بما أجبنا به سابقًا، وعن الثاني بأن قول الراوي:"نسخ حكم كذا" ليس بنص، فلا بأس بخروجه، وعن الثالث: بأنا لا نسلم خروج فعله عليه السلام من التعريف، بل هو داخل من حيث إنه أفاد حكمًا نصًا فيه، فإنه يوصف بما توصف به الألفاظ من الظاهر والمجمل.

ثم إن من تأمل في كتب الأصول يجد أن الفقهاء لجئوا إلى هذا التعريف فرارًا من الرفع؛ وذلك لأن الحكم قديم، والتعلق قديم، فلا يتصور رفع شيء منهما، وفساد هذا ظاهر؛ فإن انتهاء أمد الوجوب لا يتصور قع دوام الوجوب، وعدم دوامه هو رفعه، فقد قالوا بالرفع معنى، وأنكروه لفظًا، أو بعبارة أخرى أن الرفع لازم الانتهاء، فإن الحكم إذا انتهى ارتفع، وإذا كان القديم لا يرتفع فكذا لا ينتهي، وإذا كان المراد انتهاء تعلقه، فكذا المراد برفعه رفع تعلقه، فلا معنى لفرارهم من الرفع إلى الانتهاء.

والفرق بين الاصطلاحين: أن من تأمل في كلام الفقهاء يجد أن التعريف عندهم مبني على أن الحكم الأول مؤقت بوقت ظهر فيه الحكم الثاني في علمه تعالى، فليس هناك رفع، بل إنما هو بيان الأمد الذي وقت به، وهذا بخلاف التعريف عند الأصوليين، فإنه مبني على أن الحكم الأول غير مؤقت بل مطلق ارتفع بالنسخ، فهل بين التعريفين خلاف؟ "مذهبان": قال ابن=

ص: 29

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وقيل: للأول"، وعليه أبو الحسين، وهو المختار.

= الحاجب: "الخلاف لفظي"؛ لأن مرادنا بالرفع زوال التعلق المظنون استمراره قبل ورود الناسخ، وهو المراد بانتهاء أمد الحكم، وليس الفرار إليه؛ لأن قدم الحكم يأبى الرفع دون الانتهاء؛ لأن الانتهاء ليس إلا عدم وجود شيء بعد الأمد وهو الرفع ويأبى عنه القدم، فإذن ليس النسخ إلا انتهاء الحكم إلى أمد معين، وهو ارتفاع التعلق المظنون بقاؤه، فمثله مثل النخصيص غير أن الأول يكون في الأزمان، والثاني يكون في الأفراد.

وقال صاحب مسلم الثبوت: "الحق أن الخلاف معنوي"، وتحقيقه أن الخطاب المطلق النازل في علمه تعالى، هل كان مقيدًا بالدوام، فكان الناسخ رفعًا لهذا الحكم المقيد بالدوام؟ ولا يلزم التكاذب؛ لأن الإنشاء لا يحتمل الكذب، وإنما يرفع الثاني الأول، أو كان الخطاب في علمه تعالى مخصصًا ببعض الأزمنة، وهو الزمان الذي ورد فيه النسخ لكن لم ينزل التقييد عند نزول المنسوخ، فكان النسخ بيانًا لهذا الآن المقيد به الحكم عند الله تعالى، فالمعرف بالرفع ذهب إلى الأول وبيان الأمد إلى الثاني، والأول كالقتل عند المعتزلة، والثاني كالقتل عند أهل السنة والجماعة، في أن المقتول على الأول قد ارتفعت حياته بالقتل لولاه لبقي حيًا، وعلى الثاني القتل علامة مجيء الأجل، ولولاه لمات لمجيء أجله.

التحقيق: أن الخلاف لفظي، ولا يليق أن يكون بين الفريقين نزاع في هذا أصلًا؛ فإنه يلزم على كل أن يحكموا على الله تعالى بأمر لم يهد إليه الدليل، ولا حكمت به البديهة، وليس كل الأحكام مؤقتة في علم الله تعالى عند أحد، ولا الكل مؤبدًا عند أحد، فلا يتمكن أحد من إحدى الدعويين مطلقًا، فمن الذي يستطيع أن يقول: إن الخطاب المطلق في علمه تعالى كان مقيدًا بالدوام، أو يقول: كان مخصصًا ببعض الأزمنة؛ وأيضًا إن القائلين بأن النسخ بيان الأمد جوزوا نسخ الحكم المؤقت قبل مجيء وقته، ولا يمكن هذا إلا إذا كان رفعًا.

فالحق أن الحكم سواء كان مقيدًا بقيد التأبيد أم مطلقًا عنه أم مقيدًا بوقت لم ينزل التقييد به، أو نزل التقييد به له عمر عند الله تعالى إلى أجل معين مقدر ألبتة، والله سبحانه يعلم هذا الأجل بلا تقييد ولا تبديل في علمه تعالى، فإذا جاء ذلك الأجل أنزل حكمًا آخر، وارتفع الحكم الأوّل من البين، فالحكم المنسوخ ميت بأجله بإماتة الله سبحانه، وظهور الإماتة ليس إلا بهذا الرفع، فمن نظر إلى الأول عرف النسخ بانتهاء أمد الحكم المقدر عند الله تعالى، ومن نظر إلى الثاني عرفه برفعه، ينادي بهذا التحقيق قول الإمام فخر الإسلام:"وهو في حق صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم المطلق الذي كان معلومًا عند الله تعالى، إلا أنه أطلقه فصار ظاهره البقاء في حق البثر، فكان تبديلًا في حقنا بيانًا محضًا في حق صاحب الشرع".

ولا يظن أحد أنه يلزم على ذلك تعدد الحق، بل الحق واحد، فالمنسوخ حق في زمان العمل =

ص: 30

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وقيل: للثاني"، وعليه القَفَّال

(1)

.

= قبل النسخ، والناسخ حق في زمانه وقت العمل به، ولا تعدد أصلًا، ونسخ الشرائع بعضها بعضًا شاهد عدل على هذا. ينظر: البرهان لإمام الحرمين 2/ 1293، والبحر المحيط للزركشي 4/ 63، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 95، سلاسل الذهب للزركشي ص 290، والتمهيد للأسنوي ص 435، ونهاية السول له 2/ 548، وزوائد الأصول له ص 308، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 224، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 87، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 7، والمنخول للغزالي ص 288، والمستصفى له 1/ 107، وحاشية البناني 2/ 74، والإبهاج لابن السبكي 2/ 226، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 129، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 106، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 363، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 389، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/ 463، وأعلام الموقعين لابن القيم 1/ 29، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 49، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 621، 981، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 185، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 34، وشرح المنار لابن ملك ص 91، والموافقات للشاطبي 3/ 102، وتقريب الوصول لابن جزيّ ص 125، وشرح مختصر المنار للكوراني ص 91، ونشر البنود للشنقيطي 2/ 280، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص 462، وتهذيب اللغة 7/ 181، ولسان العرب 6/ 4407، وتاج العروس 2/ 282، ومعيار العقول في علم الأصول لابن المرتضى 1/ 172، وكشف الأسرار 3/ 154، وحواشي المنار (708)، والعدة 3/ 778، والحدود للباجي ص (49)، واللمع ص (30)، والوصول لابن برهان 2/ 7، وروضة الناظر (36)، والرسالة للشافعي (128) 139، والمغنى للخبازي (250)، والمسودة (195)، وشرح تنقيح الفصول (301)، والمنتهى لابن الحاجب (113).

(1)

وهل هو حقيقة في الإزالة مجاز في النقل، أو بالعكس، أو مشترك؛ ولكن هنا تنوعت الآراء في المعنيين يكون لفظ النسخ حقيقة وفي أيهما يكون مجازًا؛ فيه مذاهب حكاها العلامة أبو عمرو بن الحاجب من غير ترجيح، لكن ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني ومن تابعه إلى أنه حقيقة فيهما، فاسم النسخ مشترك بين هذين المعنيين.

وذهب القفال الشاشي إلى أنه حقيقة في النقل والتحويل.

وذهب الإمام الجويني إلى أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل، ويعلل ذلك بقوله:"لأن النقل أخص من الزوال" فإن النقل إعدام صفة وإحداث أخرى، وأما الزوال فمطلق الإعدام، وكون اللفظ حقيقة في العام مجازًا في الخاص أولى من العكس لتكثير الفائدة. =

ص: 31

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشَّرْعي بدليل شرعي متأخّر. فيخرج" بقيد "الشرعي" "المُبَاح بحكم الأصل"؛ إذ ليس حكمًا شرعيًّا.

[وقوله: (بدليل شرعي) ليخرج"

(1)

"الرفع بالنَّوم والغَفْلة"، والموت والجنون.

ويخرج بقوله: "متأخر" الرفع "بنحو: صلّ" عند كل زوال "إلى آخر الشَّهر" وهكذا حكم كلّ متّصل من المخصّصات شرطًا كان أو غايةً أو استثناء"

(2)

.

ولقائل أن يقول: هذا ليس برفع؛ لأنَّ الحكم لم يثبت بأول الكلام؛ إذ الكلام بآخره، فكيف يرفع؟.

ثم قيد التأخر يغني عنه قولنا: بدليل شرعي؛ فإنه لا بُدّ أن يتأخر عن الذي يرفعه، ثم المخصّص المتصل متأخر لفظًا.

= وقيل في الرد على ما ذهب إليه الإمام من التعليل: لا نسلم أن النقل أخص من الزوال؛ لأن الإزالة على ما قيل هي الإعدام، والإعدام يستلزم زوال صفة الوجود وتجدد أخرى وهي صفة العدم، وهما صفتان متقابلتان، متى انقضت إحداهما تحققت الأخرى. وإذا تعذر الترجيح كان القول بالاشتراك أشبه، ولعل هذا هو دليل من قال بالاشتراك، اللَّهم إلا أن يقال:"مراد الإمام تبدل الصفة الوجودية بصفة وجودية أخرى فيكون النقل أخص".

(1)

سقط في أ.

(2)

ويمكن أن يعترض هذا التعريف بأن قوله: "متأخر" ليخرج نحو: صل إلى آخر الشهر زيادة لا يحتاج إليها؛ فإن الحكم لم يثبت بأول الكلام؛ لأن الكلام بالتمام، فكيف يرفع؟ اللهم إلا أن يقال:"التصريح ودفع التوهم مما يقصد في الحدود، وربما يقال عليه أيضًا كما يقال على سابقه "إن الحكم كلام الله وهو قديم، وما ثبت قدمه امتنع عدمه؛ فلا يتصور رفعه".

ويجاب بأن المراد رفع تعلق الحكم أو الخطاب بالمكلف تنجيزًا كما حكى المصنف بحيث يصير مكلفًا بالفعل الذي لولا الرفع لبقي واستمر. فلو قال ابن الحاجب في تعريفه "رفع تعلق الحكم الشرعي بدليل شرعي" لسلم من هذا الاعتراض.

ص: 32

وَنَعْنِي بِالْحُكْمِ مَا يَحْصُلُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ الْمَشْرُوطَ بالْعَقْلِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ انْتِفَائِهِ قَطْعًا، فَلا يَرِدُ: الحُكْمُ قَدِيمٌ، فَلا يَرْتَفِعُ؛ لأَنَّا لَمْ نَعْنِهِ، وَالْقَطْعُ بِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ تَحْريمُ شَيْءٍ بَعْدَ وُجُوبِهِ انْتَفَى الْوُجُوب، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بالرَّفْعِ.

"الإِمَامُ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ظُهُورِ انْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِ الْحُكْمِ الأَوَّلِ، فَيَرِدُ أَنَّ اللَّفْظ دَلِيلُ النَّسْخِ [لا نَفْسُهُ] وَلا يَطَّرِدُ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْعَدْلِ: "نُسِخَ حُكْمُ كَذَا" لَيْسَ بِنَسْخِ، وَلا يَنْعَكِسُ؛ لأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِفِعْلِهِ عليه السلام. ثُمَّ حَاصِلُهُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى النَّسْخِ؛ لأِنَّهُ فَسَّرَ الشَّرْطَ بِانْتِفَاص النَّسْخِ، وَانْتِفَاءُ انْتِفَائِهِ حُصُولُهُ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ.

الشرح: "ونعنى بالحكم" في قولنا: رفع الحكم "ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن" ثابتًا، وهو تعليق الخطاب به تعلّق تنجيز؛ "فإن الوجوب المشروط بالعقل لم يكن ثابتًا عند انتفائه قطعًا، فلا يرد" حينئذ علينا اعتراض مَنْ قال: "الحكم قديم، فلا يرتفع"؛ لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه، فلا يتصوّر رفعه، ولا تأخره عن غيره.

وإنما قلنا: إنه لا يرد؛ "لأنا لم نعنه" أي: لم نَعْنِ القديم كما عرفت، فأمكن رفعه وتأخره "والقطع" حاصل "بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب، وهو المعنى بالرفع" وإذا كان هذا هو المُرَاد بالحكم والرفع كان إمكان رفعه وتأخره ضروريًّا.

الشرح: وقال "الإمام" في "البرهان": "اللَّفظ الدالّ على ظهور انتفاء شرط دَوَام الحكم الأول

(1)

، ويرد أن اللَّفظ دليل النسخ لا نفسه"، "ولا يطرد فإن لفظ العَدْل" القائل: "نسخ حكم كذا" يصدق عليه الحَدّ مع أنه "ليس بنسخ".

(1)

وقال القاضي عضد الدين: "ومعناه أن الحكم كان دائمًا في علم الله دوامًا مشروطًا بشرط لا يعلمه إلا هو. وأجل الدوام أن يظهر انتفاء ذلك الشرط للمكلف فينقطع الحكلم ويبطل دوامه، وما ذلك إلا بتوفيقه تعالى إياه. فإذا قال قولًا دالًا عليه فذلك هو النسخ.

ص: 33

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"ولا ينعكس؛ لأنه قد يكون بفعله صلى الله عليه وسلم، ثم" إنه تعريف الشيء بنفسه إذ "حاصله: اللَّفظ الدال على النسخ؛ "لأنه فسر الشرط" شرط دوام الحكم "بانتفاء النسخ"، حيث قال في "البرهان": ويرجع التقدير في الحكم الأول إلى أن الحكم ثابت بشرط ألَّا ينسخ، فإذا ظهر النَّسْخ لم يكن مقتضاه دفع ما تحقَّق ثبوته، ولكن كان الانتفاء شرط الاستمرار

انتهى.

فإذا كان مراده شرط دوام الأول انتفاء النسخ، "وانتفاء انتفائه حصوله"، فكأنه قال: النسخ: اللَّفظ الدَّال على النسخ، فعرف الشيء بنفسه.

"وقال الغزالى" في "المستصفى" تبعًا للقاضي حيث قال في "التقريب": النسخ "الخطاب الدَّال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدّم على وجه لولاه لكان ثابتًا مع تراخيه عنه"

(1)

.

[وقصد]

(2)

بالقيد الأوَّل تعميم كلّ خطاب كان من باب المنظوم أو غيره، والاحتراز عن الموت ونحوه مما يدلّ على ارتفاع الأحكام.

وبالتالي وهو "الخطاب المتقدم": الاحتراز عن الدال على ارتفاع حكم الفعل قبل ورود الشرع.

(1)

وقال في بيانه "وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملًا للفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل؛ إذ يجوز النسخ بجميع ذلك.

وإنما قيدنا الحد بالخطاب المتقدم؛ لأن ابتداء إيجاب العبادات في الشرع مزيل حكم الفصل من براءة الذمة ولا يسمى نسخًا؛ لأنه لم يزل حكم خطاب.

وإنما قيدنا بارتفاع الحكم ولم نقيد بارتفاع الأمر والنهي؛ ليعلم جميع أنواع الحكم من الندب، والكراهة؛ والإباحة فجميع ذلك قد ينسخ.

وإنما قلنا: لولاه لكان الحكم ثابتًا به؛ لأن حقيقة النسخ الرفع، فلو لم يكن هذا ثابتًا لم يكن هذا رافعًا؛ لأنه إذا ورد أمر بعبادة مؤقتة وأمر بعبادة أخرى بعد تصرم ذلك الوقت لا يكون الثاني ناسخًا فإذا قال:"وأتموا الصيام إلى الليل" ثم قال: "في الليل لا تصوموا" لا يكون ذلك نسخًا، وإنما قلنا مع تراخيه؛ لأنه لو اتصل به لكان بيانًا وإنما لمعنى الكلام وتقديرًا له بمدة أو شرط إنما يكون رافعًا إذا ورد بعد أن ورد الحكم واستقر بحيث يدوم لولا الناسخ.

(2)

في ب: قصدنا.

ص: 34

وَأُورِد: الثَّلاثَةُ الأُوَل، وَأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى وَجْهٍ

إلَى آخِرِهِ زِيَادَةٌ.

وَقَالتِ الْفُقَهَاءُ: النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى انْتِهَاء أَمَدِ الْحُكْمِ الشَّرْعِي مَعَ التَّأخُّرِ عَنْ مَوْرِدِهِ.

وَأُورِدَ: الثَّلاثَةُ [الأُوَلُ]، فَإِنْ فَرُّوا مِنَ الرَّفْع لِكَوْنِ الْحُكْمِ قَدِيمًا وَالتَّعَلُّقِ قَدِيمًا، فَانْتِهَاءُ أَمَدِ الْوُجُوبِ يُنَافِي بَقَاءَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى الرَّفْعِ، وَإنْ فَرُّوا؛ لأَنَّهُ لا يَرْتَفِعُ تَعَلّقٌ بِمُسْتَقْبَلِ لَزِمَهُمْ مَنْعُ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ كَالمُعْتَزِلَةِ وَإنْ كَانَ لأَنَّهُ بَيَانُ أَمَدِ التَّعَلُقِ بالْمُسْتَقْبَلِ الْمَظْنُونِ اسْتِمْرَارُه، فَلا بُدَّ مِنْ زَوَالِهِ.

وبالثالث: وهو "على وجه لولاه لكان مستمرًّا" الاحتراز عما إذا ورد الخطاب بحكم مؤقّت، ثم ورد عند تصرم ذلك الوقت بحكم مناقض للأول، فإنه لا يكون نسخًا للأول؛ لأنه انتهى.

وبالرابع: الاحتراز عن المتّصل كالاستثناء والشرظ والغاية.

وقد أطنب القاضي في "التقريب" في الانتصار لهذا الحد.

الشرح: "وأورد" عليه "الثلاثة الأول" وهي.

أنّ اللفظ دليل النسخ.

وقول العدل يدخل فيه.

وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم يخرِج عنه.

ورابع وهو "أن قوله: على وجه

إلى آخره زيادة" لا يحتاج إليها.

وأما قوله: "على وجه لولاه لكان ثابتًا"؛ فلأن الرفع لا يكون إلَّا كذلك، فقد أغنى لفظ الرَّفع عن هذا.

وأما قوله: "مع تراخيه عنه"، فإنما ذكره - كما عرفت - احترازًا من الاستثناء والشرط والغاية، وبذلك صرّح القاضي في "التقريب"، ولفظ "المتقدم" يدرأ النقض بذلك.

ص: 35

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولك أن تقول: ولفظ "الرفع" أيضًا يدفعه.

وأيضًا: فقولنا: "الدَّالّ" يتضمّن كونه مؤخرًا عنه، والاستثناء والغاية والشرط لا يرفع، وإنما يدفع، فلم جعلتم التأخر قيدًا في تعريفكم مع أن لفظ التراخي أجود منه؛ لأنّ الاستثناء متأخر، وكذا الغاية، والشرط المتأخر مخرجًا لها بخلاف التراخي؛ لأنه يفهم إخراج ما لا يعقب اللفظ؟

"[وقالت]

(1)

الفقهاء: النص الدَّال على انتهاء أمَدِ الحكم الشرعي مع التأخر عن مورده

(2)

، وأورد" عليهم "الثلاثة" الواردة على الحدّين السَّابقين

(3)

.

"وأيضًا فإن فرُّوا من الرفع لكون الحكم قديمًا والتعلّق قديمًا، فانتهاء أمد الوجوب

(1)

في ب: قال.

(2)

ومعنى ذلك أن الحكم له غاية ينتهي بانتهائها، لكن لما لم تكن تلك الغاية مبنبة بالنص الدال على الحكم الأول جاء النص الثاني متأخرًا عن ورود الحكم الأول وبين تلك الغاية، فقولهم في التعريف:"مع التأخير عن مورده" احتراز عن البيان المتصل بالحكم الأول، سواء كان مستقلًا كـ"لا تقتلوا أهل الذمة" عقب:"اقتلوا المشركين" متصلًا، أو غير مستقل، كالاستثناء، والغاية، والشرط، والوصف.

(3)

وهو أن النص دليل النسخ لا نفسه، وأن التعريف غير مطرد، لدخول قول العدل فيه، وليس بنسخ. وغير منعكس، لخروج ما هو نسخ عنه، إذ قد يكون النسخ بفعله عليه الصلاة والسلام. ويجاب عن الأول بما أجبنا به سابقًا؛ وعن الثاني بأن قول الراوي:"نسخ حكم كذا" ليس بنص، فلا بأس بخروجه، وعن الثالث بأنا لا نسلم خروج فعله عليه السلام من التعريف بل هو داخل من حيث إنه أفاد حكمًا نصا فيه؛ فإنه يوصف بما توصف به الألفاظ من الظاهر والمجمل.

ثم إن من تأمل في كتب الأصول يجد أن الفقهاء لجئوا إلى هذا التعريف فرارًا من الرفع؛ وذلك لأن الحكم قديم، والتعلق قديم، فلا يتصور رفع شيء منهما، وفساد هذا ظاهر؛ فإن انتهاء أمد الوجوب لا يتصور مع دوام الوجوب، وعدم دوامه، هو رفعه، فقد قالوا بالرفع معنى، وأنكروه لفظًا. أو بعبارة أخرى أن الرفع لازم الانتهاء؛ فإن الحكم إذا انتهى ارتفع. وإذا كان القديم لا يرتفع فكذا لا ينتهي. وإذا كان المراد انتهاء تعلقه فكذا المراد برفعه رفع تعلقه، فلا معنى لفرارهم من الرفع إلى الانتهاء.

ص: 36

الْمُعْتَزِلَةُ: اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، فَيَرِدُ مَا عَلَى الْغَزَالِيّ، وَالْمُقَيَّدُ بِالْمَرَّةِ بِفَعْلٍ.

ينافي بقاءه" أي: بقاء الوجوب "عليه" أي: على ما كان "وهو معنى الرفع"، فقد قالوا بالرفع معنى، وفروا منه لفظًا.

"وإن فروا لأنه] لا]

(1)

يرتفع تعلّق [بمستقبل]

(2)

"أي: لأن التعلق بفعل مستقبل لا يمكن رفعه، فإذا نسخ علم أنه لم يكن متعلّقًا به، "لزمهم" محذور آخر، وهو "منع النسخ قبل" وقت "الفعل"؛ لأنه إذا صدق أنما نسخ، فالخطاب لم يتناوله صدق بحكم عكس النقيض أن ما يتناوله الخطاب لا ينسخ، ولا شكّ أن الخطاب في قولك: صَلِّ يوم الخميس قد تناول الفعل على الجملة، فيجب ألَّا يمكن نسخه.

فكان مذهبهم في ذلك "كالمعتزلة".

"وإن كان" فِرَارهم من لفظ الرفع "لأن بيان أَمَد العلق بالمستقبل المظنون استمراره" قبل سماع الناسخ "فلا بد من زواله"، فإذان لا خلاف في المعنى.

الشرح: وقالت "المعتزلة: اللفظ الدَّال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتًا".

وهو كتعريف القاضي والغزالي، إلَّا أنهم لم يأتوا بلفظ الرفع.

"فيرد ما على الغزالي، والمقيد بالمرة"[الواحدة]

(3)

"بفعل" يرد عليهم، ولا يرد على الغَزَالي.

وصورته: يجب عليك الحج في عمرك مَرّة واحدة، وهو قد حجّ مرة، فإنه لفظ

(1)

سقط في أ، ب، ت.

(2)

في ت: بمستقل.

(3)

سقط في ت.

ص: 37

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[دَلَّكَ]

(1)

على أن مثل الحكم الثَّابت بالنص المتقدم - وهو الحج - زائل عنه على وجه لولاه لكان ثابتًا بحكم العموم الذي لا يدفعه التقييد بالمرة.

واعلم أن أئمتنا وأئمة المعتزلة قد أكثروا القول في تعريف النَّسْخ، وأنا أبدًا أستثقل الإكثار من ذكر التَّعَاريف، والاشتغال بتزييفها؛ فإن المعاني إذا لاحت لم يحسن بطالب التحقيق تضييع الأوقات في تحرير العبارة عنها، والأوقات أنفس من التنافس في ذلك.

وحاصل الخلاف يرجع إلى أن النسخ رَفْعٌ أو إثبات؟.

وفيه قولان مشهوران.

ثم كل ذي قول يرجع تعريفه إلى أصله، وإن اضطرب على أصله، فليس بخلاف من قبله، بل ربما أتى من اختلاف العبارات وقفة تصويبهم عما يرد عليها.

وموضع التشاجر هو أن النسخ رفع أو بيان؟.

والقول بأنه رفع هو رأي القاضي، والغزالي، وابن الأنباري، والآمدي، والمصنف، وجمع كثير، وإياه نختار.

وأقرب الحدود عندنا على هذا أن النسخ: رفع الحكم الشرعي بخطاب.

وقلنا: "بخطاب" ليخرج ارتفاعه بالموت ونحوه، وهو ما عرفه به ابن الأنباري. والقول بأنه بيان: رأى الأستاذ أبي إسحاق، وإمام الحرمين، والإمام، وأكثر الفقهاء، وقد عرفت ما نعني بالرَّفْع والبيان في أدراج الكلام، ووضح لك هو أن الخلاف بعده، وإن استعظمه مستعظمون.

ولقد ذكر ابن السَّمْعَاني حدّ القاضي أولًا، ثم حدّ الفقهاء ثانيًا، واقتضى كلامه أنهما عنده صحيحان مرضيان.

وللخلاف في أنه رفع أو بيان أصل أصيل، وهو اختلاف المتكلمين في أن زوال الأعراض بالذَّات أو بالضد؟.

فإن من قال ببقائها قال: إنما ينعدم الضِّد المتقدم لطريان الطَّارئ، ولولاه لبقى.

(1)

في ت: ذلك.

ص: 38

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومن لم يقل ببقائها قال: إنه لم ينعدم بنفسه، ثم يحدث الضد الطاريء، وليس له تأثير في إعدام الضد الأول.

ولا تحسبنّ موافقة الفقهاء للمعتزلة في أن النَّسْخ بيان جريًا على أصولهم، فإن المعتزلة إنما صاروا إلى ذاك لأن الحكم قول، والأقوال عندهم لا تبقى، فلا بد من تجدّدها.

ولو قيل ببقائها، فلا يمكنهم تفسيره بالرفع؛ إذ الأمر عندهم يتبع الصّفات إما الذاتية، وإما التابعة للحدث، وهي مستقرة ثابتة لا تتبدّل ولا تزول، فاستحال عندهم أن تكون رفعًا.

والفقهاء لا يوافقونهم على هذه الأصول، ولكن لم يعقلوا الرفع لكلام - الله تعالى - ففروا منه كما عرفت، ورجعوا إلى ما يتعلّق بالبيان

(1)

.

(1)

إن من تأمل في كلام الفقهاء يجد أن التعريف عندهم مبني على أن الحكم الأول مؤقت بوقت ظهر فيه الحكم الثاني في علمه تعالى، فليس هناك رفع بل إنما هو بيان الأمد الذي وقت به، وهذا بخلاف التعريف عناه الأصوليين؛ فإنه مبني على أن الحكم الأول غير مؤقت بل مطلق ارتفع بالنسخ فهل بين التعريفين خلاف؟:"مذهبان".

"والخلاف لفظي" لأن مرادنا بالرفع زوال التعلق المظنون استمراره قبل ورود الناسخ، وهو المراد بانتهاء أمد الحكم، وليس الفرار إليه لأن قدم الحكم يأبى الرفع دون الانتهاء؛ لأن الانتهاء ليس إلا عدم وجود شيء بعد الأمد وهو الرفع، ويأبى عن القدم؛ فإنه ليس النسخ إلا انتهاء الحكم إلى أمد معيد، وهو ارتفاع التعلق المظنون بقاؤه. فمثله مثل التخصيص غير أن الأول يكون في الأزمان، الثاني يكون في الأفراد.

قال صاحب مسلم الثبوت: "الحق أن الخلاف معنوي" وتحقيقه أن الخطاب المطلق النازل في علمه تعالى هل كان مقيدًا بالدوام، فكان النسخ رفعًا لهذا الحكم المقيد بالدوام، ولا يلزم التكاذب؛ لأن الإنشاء لا يحتمل الكذاب، وإنما يرفع الثاني الأول؟ أو كان الخطاب في علمه تعالى مخصصًا ببعض الأزمنة، وهو الزمان الذي ورد فيه النسخ لكن لم ينزل التقييد عند نزول المنسوخ: فكان النسخ بيانًا لهذا الآن المقيد به الحكم عند الله تعالى؛ فالمعرف بالرفع ذهب إلى الأول وبيان الأمد إلى الثاني. والأول كالقتل عند المعتزلة، والثاني كالقتل عند أهل السنة والجماعة، في أن المقتول على الأول قد ارتفعت حياته بالقتل لولاه لبقي حيًّا، وعلى الثاني القتل علامة مجيء الأجل ولولاه لمات لمجيء أجله. والحق كما قرره ابن الحاجب أن الخلاف لفظي.

ص: 39

وَالإِجْمَاعُ عَلَى الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ. وَخَالفتِ الْيَهُودُ فِي الْجَوازِ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الأَصْفَهَانِيُّ فِي الْوُقُوعِ.

لَنَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، وَإنِ اعْتُبِرَتِ الْمَصَالِحُ فَالْقَطْعُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأَوْقَاتِ. وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّهُ أَمَرَ آدَمَ عليه السلام بِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ، وَقَدْ حُرِّمَ ذَلِكَ باتِّفَاقٍ.

وَاسْتُدِلَّ بَإِبَاحَةِ السَّبْتِ، ثُمَّ تَحْرِيمِهِ، وَبِجَوَازِ الْخِتَانِ ثُمَّ إِيجَابِهِ يَوْمَ الْوِلادَةِ عِنْدَهُمْ، وَبِجَوَازِ الأُخْتَيْنِ ثُمَّ التَّحْرِيمِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ رَفْعَ مُبَاحِ الأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ.

ونظير الخلاف في أنه رفع أو بيان، الخلاف في الحدث هل نقول: انتقض به الوضوء، وهو رأى ابن القاص، وظاهر تبويب صاحب "التنبيه"، أو انتهى، وهو رأى أكثرهم مع اتفاق الكل على أنه لا ينعطف على ما مضى لا في النسخ ولا في [الحدث]

(1)

.

الشرح: إذا عرفت حقيقة النسخ فنقول: "الإجماع على الجواز والوقوع، وخالفت اليهود" غير العيسوية "في الجواز".

وكذلك بعض غُلاةِ الروافض، "وأبو مسلم الأصفهاني" صاحب "تفسير القرآن"، "في الوقوع"، وسنعرفك سرّ مذهبه.

"لنا: القطع بالجواز"، إذ لا يلزم من فرض وقوعه مُحَال.

"وإن اعتبرت المصالح" في التكاليف كما هو رأي القدرية، "فالقطع أن المصالح قد تختلف باختلاف الأوقات.

"وفي التوراة: أنه " - تعالى - "أمر آدم بتزويج بَنَاته من بَنِيهِ، وقد حرم ذلك باتفاق" وهو النسخ، فدلّ على وقوعه

(2)

.

(1)

في ب، ت، ج: الحديث.

(2)

ورد في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند الخروج من الفلك: {جعلت كل دابة حية مأكلًا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العُشب ما خلا الدم فلا=

ص: 40

قَالُوا: لَوْ نُسِخَتْ شَرِيعَةُ مُوسَى عليه السلام لَبَطَلَ قَوْلُ مُوسَى صلى الله عليه وسلم الْمُتَوَاتِرُ: هَذِهِ شُرِيعَةٌ مُؤَبَّدَةٌ.

قُلْنَا: مُخْتَلَقٌ.

قِيلَ: مِنِ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ، وَالْقَطْعُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ صَحِيحًا لَقَضَتِ الْعَادَةُ بِقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالُوا: إِنْ نَسَخَ لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً لَهُ فَهُوَ الْبَدَاءُ، وَإلَّا فَعَبَثٌ.

وَأُجِيبَ: بَعْدَ اعْتِبَارِ الْمَصالِحِ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأَزْمَانِ وَألأَحْوَالِ، كمنْفَعَةِ شُرْبِ دَوَاءٍ في وَقْتٍ أَوْ حَالٍ وَضَرَرِهِ في آخَرَ، فَلَمْ يَتَجَدَّدْ ظُهُورُ مَا لَمْ يَكُنْ.

قَالُوا: إِنْ كَانَ مُقَيّدًا فَلَيْسَ بِنَسْخٍ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى التَّأْبِيدِ لَمْ يُقْبَلْ؛ لِلتَّنَاقُضِ بِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ لَيْسَ بِمُؤَبَّدٍ، وَلأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَعَذُّرِ الإِخْبَارِ بالتَّأْبِيدِ، وَإِلَى نَفْي الْوُثُوقِ بتَأْبيدِ حُكْمٍ مَا، وَإلَى جَوَازِ نَسْخِ شَرِيعَتِكُمْ.

"واستدل" على الوقوع أيضًا "بإباحة" العمل يوم "السبت، ثم تحريمه، وبجواز الخِتَان، ثم إيجابه يوم الولادة عندهم، وبجواز الأختين، ثم التحريم. وأجيب: بأن" ما ذكرتم "رفع" للإباحة الثابتة بالعَقْل، وقد قدمنا أن رفع "مباح الأصل ليس بنسخ".

الشرح: واليهود "قالوا: لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر: هذه شريعة مؤبّدة، قلنا": هذا حديث "مُخْتَلَقٌ" مفترى على موسى عليه السلام.

= تأكلوه" ثم حرم منها كثير على لسان موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كما في السفر الثالث من التوراة، فلزم القول بالنسخ.

فإن قال الخصم في هذين الدليلين: "يحتمل أن أمر آدم والإباحة لنوح وذريته كانا مطلقين بظهور شريعة من بعده" قلنا: "الأمر لآدم والإباحة لنوح كانا مطلقين، والأصل عدم التقييد" .. وإن قيل: "إنه كان ذلك مقيدًا في علم الله تعالى بظهور شريعة أخرى .. قلنا: هذا هو النسخ بعينه" فإن الله تعالى إذا أمر بالفعل مطلقًا فهو عالم بأنه سينسخه، ويعلم وقت نسخه .. فتقييده في علمه لا يخرجه عن حقية النسخ.

وقد احتج عليهم بإلزامات أخرى، منها: تحريم الاصطياد وقتل الحيوان ولو بحق يوم السبت=

ص: 41

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"قيل: من ابن الراوندي

(1)

،

(2)

والقطع أنه لو كان عندهم صحيحًا لقضت العادة بقوله

= في شريعة موسى عيه السلام بعد إباحته إباحة مطلقة عن الغاية في شريعة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ومنها تحريم جمع الأختين في شريعة موسى عيه السلام وما بعدها من الشرائع بعد الإباحة في شريعة يعقوب عليه السلام؛ فإنه جمع بين الأختين. ومنها وجوب الختان عندهم يوم الولادة، وقيل: في الثامن في شريعة موسى عيه السلام بعد الإباحة في شريعة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

فإن قال الخصم ردًا لهذه الإلزامات الثلاث: "إن هذه الأمور لم يتعلق بها خطاب في شريعة، بل هذه كانت مباحة قبل التحريم والوجوب، ورفع مباح الأصل ليس بنسخ".

قلنا جوابًا عن هذا الرد: "التحقيق أن هذه المباحات مباحات شرعية، بدليل أن الله جل شأنه لم يترك الإنسان من منذ نشأته في حين من الأحيان سدى قال تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} ولم يمض وقت إلا وفيه شريعة نذير، وإذا كان فلا بد أن تكون هذه المباحات شرعية واردة في شرائع هؤلاء النذر؛ لذلك ذهب الإمام فخر الإسلام إلى بطلان القول بالإباحة الأصلية مستدلًا بالآية الكريمة السابقة.

ووجه الاستدلال بها: أن الإنسان لم يترك في حين من الأحيان سدىً بل هو مكلف بشريعة نبي من الأنبياء، فلا شك أن الأشياء منها ما كان على الوجوب، ومنها ما كان على التحريم، وهكذا، فالقول بالإباحة مطلقًا باطل، إلَّا بمعنى عدم المؤاخذة؛ لاندراس الشرائع زمان الفترة، وجعل هذا الجهل عذرًا. وأيضًا تلك الإباحات لما تقررت في تلك الشرائع وعلمت الأمة بها من غير نكير من النذر لها صارت بحكم التقرير أنها من أحكام تلك الشرائع، فيكون رفعها رفع حكم شرعي، وهو النسخ. كيف وقد جمع يعقوب بين الأختين وفعل النبي تشريع؟ وكذا الاصطياد والاختتان. فهذه الحجج ثابتة من غير أن يمسها أدنى شبهة من أدنى التلبيس.

(1)

أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين، الراوندي أو ابن الراوندي. فيلسوف مجاهر بالإلحاد، من سكان بغداد. نسبته إلى "راوند" من قرى "أصبهان". قال ابن خلكان: له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام. قال ابن كثير: أحد مشاهير الزنادقة. قال ابن حجر العسقلاني: زنديق شهير، كان أولًا من متكلمي المعتزلة ثم تزندق واشتهر بالإلحاد. قال ابن الجوزي: ملحد زنديق، وإنما ذكرته ليعرف قدر كفره. له كتاب في الرد على أهل التوحيد وكتاب في الطعن علي رسول الله. ومن كتبه أيضًا:"التاج" و"الزمرد". مات برحبة مالك بن طوق سنة 298 هـ. وقيل: صلبه أحد السلاطين بـ"بغداد".

ينظر: وفيات الأعيان 1/ 27، والبداية والنهاية 11/ 112، وكشف الظنون (1274)، والأعلام 1/ 267.

(2)

"ليعارض بها دعوى رسالة سيد العالم محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو كانت متواترة كما تدعون لنقلت إلينا =

ص: 42

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[له]

(1)

صلى الله عليه وسلم " ولاتخذوا ذلك، من أقوى العصم، ولو فعلوا ذلك لتناقله الناقلون تواترًا؛ لأن الأمور الخطيرة لا يخفي وقوعها؛ لتوفر الدواعي على نقلها.

"قالوا: إن نسخ لحكمة ظهرت له لم تكن ظاهرة له فهو البَدَاء، وإلَّا فعبث"، وكلاهما مستحيل على الرب، تعالى، وهذا الوجه هو عُمْدَتهم.

= من أحباركم الذين أسلموا، وهم أعرف الناس بهذه الشريعة، ككعب الأحبار، وابن سلام، ووهب بن منبه وغيرهم.

وما زعموا أن في النوراة (تمسكوا بالسبت ما دامِت السموات والأرض) فمدفوع بأنه لا تواتر في التوراة الكائنة الآن؛ لاتفاق أهل النقل على إحراق بختنصر أشعارها، وأنه لم يبق من يحفظها. بل ذكر أحبارهم "أن عزيرًا ألهمها فكتبها ودفعها إلى تلميذ ليقرأها عليهم فأخذوها من التلميذ" وبخبر الواحد لا يثبت التواتر. وبعضهم زعم أن التلميذ زاد فيها ونقص، فكيف يوثق بما هذا سبيله؟ ولذا لم تزل نسخها الثلاث التي بأيدي القضائية، والتي بأيدي السامرية، والتي بأيدي النصارى مختلفة في أعمار الدنيا وأهلها، ففي نسخة السامرية زيادة ألف سنة وكسر على ما في نسخه القضائية، وفي نسخة النصارى زيادة ألف سنة وثلاثمائة وفيها الموعد بخروج المسيح وبخروج العربي صاحب الجمل وارتفاع تحريم السبت عند خروجهما، على أن السامرية أنبأت بأن من هبوط آدم عليه السلام إلى الطوفان ألف سنة وثلاثمائة وسبع سنين. وأنبات العبرانية وهي التي بأيدي اليهود إلى زماننا بأن بين هبوط آدم والطوفان ألف سنة وخمسمائة وستًا وخمسين سنة؛ وهو باطل باتفاق، وأيضًا لو كانت هذه النقول صحيحة لكانت أقوى دليل يتمسكون به في محاجة الرسول ومعارضته في زمنه عليه الصلاة والسلام، وأيضًا يقال لهم:"كيف تدعون التواتر وأنتم مختلفون في فن الحديث فإن منكم من قال الحديث: "إن أطعتموني كما أمرتكم به ونهيتكم عنه ثبت ملككم كما ثبتت السموات والأرض" وليس في ذلك ما يدل على أحالة النسخ، على أننا لو سلمنا لهم صحة ما نقلوه فيحتمل أنه أراد من الشريعة التوحيد، ويحتمل أنه أراد بقوله: "مؤبدة" ما لم تنسخ بشريعة نبي آخر. ومع احتمال هذه التأويلات فلا يعارض قوله ما ظهر على يد النبيّ صلى الله عليه وسلم من المعجزات القاطعة الدالة على صدقه في دعواه الرسالة ونسخ شريعة من تقدم. كيف وأن لفظ التأبيد قد ورد في التوراة ولم يرد به الدوام كقوله: "إن العبد يستخدم ست سنين ثم يعتق في السَّابعة، فإن أبي العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبدًا" وكقوله في البقرة التي أمروا بذبحها:"هذه سنة لكم أبدًا" وكقوله: "قربوا كل يوم خروفين قربانا دائمًا".

(1)

سقط في أ، ب، ت.

ص: 43

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ تَقْيِيدَ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ بِالتَّأْبِيدِ لا يَمْنَعُ النَّسْخَ كَمَا لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا مِثْلُ: صُمْ رَمَضَانَ" ثُمَّ يُنْسَخُ قَبْلَه، فَهَذَا أَجْدَرُ.

وَقَوْلُهُ: "صُمْ رَمَضَانَ أَبَدًا" بِالنَّصِّ يُوجِبُ أَنَّ الْجَمِيعَ مُتَعَلَّقُ الْوُجُوبِ، وَلا يَلْزَمُ الاِسْتِمْرَار، فَلا تَنَاقُضَ كَالْمَوْتِ، وَإنَّمَا الْمُمْتَنِعُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاقٍ أَبَدًا، ثُمَّ يُنْسَخُ.

قَالُوا: لَوْ جَازَ لَكَانَ قَبْلَ وُجُودِهِ، أَوْ بَعْدَه، أوْ مَعَه، وَارْتِفَاعُهُ قَبْلَ وُجُودِهِ أَوْ بَعْدَهُ بَاطِلٌ وَمَعهُ أَجْدَرُ؛ لاِسْتِحَالَةِ النَّفْي وَالإِثْبَاتِ.

قُلْنَا: الْمُرَادُ أَنَّ التَّكْلِيفَ الَّذي كَانَ زَالَ كَالْمَوْتِ لا أَنَّ الْفِعْلَ يَرْتَفِعُ.

"وأجيب: بعد" تسليم "اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال، كمنفعة شرب دواء في وقت أو حال وضرره في آخر، فلم يتجدّد ظهور ما لم يكن" بل تجددت مصلحة لم تكن، فلم يلزم البَدَاء.

"قالوا: إن كان" المنسوخ "مقيدًا" بغاية، "فليس" زواله "بنسخ"، بل انتهى نهايته.

"وإن دلّ" الخطاب الأول "على التأبيد"[أي]

(1)

كان مؤبدًا "لم يقبل" النسخ؛ "للتناقض بأنه مؤبد" بدلالة الخطاب الأول "ليس بمؤبد" بدلالة النَّسْخ.

"ولأنه" إذا كان مؤبدًا أو جاز نسخه "يؤدي إلى تعذر الإخبار بالتأبيد"؛ إذ ما من عبارة تذكر له إلا وتقبل النسخ.

ونحن على قَطْع أن ذلك معنى نفس، وكل معنى نفس يمكن التعبير عنه، "وإلى نفى [الوثوق]

(2)

بتأبيد حكم ما" وقد ذكرتم أحكامًا مؤبدة كالصَّلاة، "وإلى جواز نسخ شريعتكم"؛ فإن دليلكم على تأبيدها الإخبار بذلك، فإذا جاز النسخ مع الإخبار به جاز نسخها.

الشرح: "وأجيب بأن تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع النسخ كما لو كان"

(1)

في ت: أو.

(2)

في ب، ت: الوقوف.

ص: 44

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الواجب "معينًا مثل: صم رمضان، ثم [ينسخ]

(1)

قبله" أي قبل دخول رمضان، "فهذا" لكونة غير متعين "أجدر"؛ إذ "في له: صم رمضان أبدًا" يقتضي إيجاب كل رمضان، وهو ظاهر في تناول أفراد الرمضانات لا نص.

وقوله: صم رمضان المعين نص، فإذا جاز النسخ فيه كان الظَّاهر أجدر بالجواز.

وقوله: صم رمضان أبدًا "بالنّص" على التأبيد "يوجب" أن الجميع متعلّق الوجوب، ولا يلزم" من ذلك "الاستمرار" أي استمرار الوجوب، "فلا تناقض".

"كالموت" فإن خطاب الملكلف بالوجوب يدز على أن جميع عمره - ولو كان مائة سنة - متعلّق الوجوب، لا أنه يستمر الوجوب مائة سنة.

وما ذكروه من جواز نسخ شريعتنا ظاهر السقوط؛ فإن كلامنا في الإنشاءات، وشريعتنا أخبر الصادق أنها لا تنسخ، والأخبار لا تنسخ، فهو هَذَيَانٌ لا يستحق أن يلتفت إليه، "وإنما [الممتنع]

(2)

أن يخبر بأن الوجوب باق أبدًا ثم ينسخ"؛ لأنه يلزم منه الكذب، ولا كذلك في الإنشاء.

"قالوا: لو جاز" النسخ "لكان" نسخ الفعل إما "قبل وجوده، أو بعده، أو معه، وارتفاعه قبل وجوده أو بعده باطل"؛ لأن رفع ما لم يوجد وما وجد وانقضى محال، "ومعه أجدر"، وأحق بالبطلان؛ "لاستحالة"[اجتماع]

(3)

"النفي والإثبات"، فيوجد ولا يوجد، وذلك المُحَال.

"قلنا: المراد" من النسخ "أن التكليف الّذي كان زال كالموت" يزول به التكليف الذي كان في الحياة "لا أن الفعل يرتفِع"، فلو فهم ما يعنيه بالارتفاع لم يورد هذا.

(1)

في أ، ت: ينسلخ.

(2)

في ج: للمتنع.

(3)

في أ، ت: إجماع.

ص: 45

قَالُوا: إِمَّا أنْ يَكُونَ الْبَارِي سبحانه وتعالى عَلِمَ اسْتِمْرَارَهُ أَبَدًا، فَلا نَسْخَ، أَوْ إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَلَيْسَ بِنَسْخٍ.

قُلْنَا: إِلَى الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ الَّذي عَلِمَ أنَّهُ يَنْسَخُهُ فِيهِ، وَعِلْمُهُ بِارْتِفَاعِهِ بِالنَّسْخِ لا يَمْنَعُ النَّسْخَ.

وَعَلَى الأَصْفَهَانِيِّ: الإِجْمَاعُ [عَلَى] شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِمَا يُخَالِفُهَا، وَنَسْخُ التَّوَجُّهِ وَالْوَصِيَّةِ لِلأَقْرَبِينَ بالمَوَارِيثِ، وَذَلِكَ كَثيرٌ.

الشرح: "قالوا: إما أن يكون الباري علم استمراره أبدًا، فلا نسخ"؛ وإلَّا لزم الجهل، "أو" عَلِمَ استمراره "إلى وقت معين، فليس بنسخ" أيضًا؛ لانتهائه بانتهاء مدّته.

"قلنا:" نختار أنه يعلم استمراره "إلى الوقت المعين الذي علم أنه ينسخه فيه، وعلمه بارتفاعه بالنسخ لا يمنع النسخ"، بل يثبته ويحققه.

"وعلى الأصفهاني: الإجماع على أن شريعتنا ناسخةٌ لما يخالفها، ونسخ التوجّه" إلى "بيت المقدس" بالتوجه إلى "الكعبة"، "والوصية" التي كانت واجبة "للأقربين بالمواريث"، وصوم عاشوراء برمضان، [وثبات]

(1)

الواحد للعشرة إلى [ثباته]

(2)

للاثنين، "وذلك كثير".

قال ابن السَّمْعَاني: [فإن]

(3)

لم يعترف بهذه الأشياء كان مكابرًا، واستحقّ أن يعرض عنه ولا يكلم.

وإن قال: لا أسميه نسخًا كان تعنّتًا لفظيًّا.

"فائدة"

أبو مسلم هو محمد بن الأصفهاني قال ابن السمعاني: وهو رجل معروف بالعلم، وإن كان قد انتسب إلى المعتزلة ويعد منهم، وله كتاب كبير في التفسير، وله كتب كثيرة، فلا أدري كيف وقع هذا الخلاف منه. انتهى.

(1)

في أ، ت: وبيان.

(2)

في أ، ت: بيانه.

(3)

في ت: فإنه.

ص: 46

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت: ووقفت على تفسيره وليس هو الجاحظ كما توهمه بعضهم، وإنما هو رجل من علماء المعتزلة.

[وأنا]

(1)

أقول: الإنصاف أن الخلاف بين أبي مسلم والجماعة لفظي، وذلك أن أبا مسلم يجعل ما كان مغيًا في علم الله - تعالى - كما هو مغيًا باللفظ، ويسمى الجميع تخصيصًا، ولا فرق عنده بين أن نقول:{أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [سورة البقرة: الآية 187]، وأن يقول: صوموا مطلقًا، وعلمه محيط بأنه سينزل: لا تصوموا وقت الليل.

والجماعة يجعلون الأول تخلصيصًا، والثاني نسخًا.

ولو أنكر أبو مسلم النَّسْخ بهذا المعنى لزمه إنكار شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإنما يقول: كانت شريعة السَّابقين مغياة إلى مَبْعَثِهِ عليه الصلاة والسلام، وبهذا يتضح لك الخلاف الذي حكاه بعضهم في أن هذه الشريعة مخصّصة للشرائع السابقة، أو ناسخة؟.

وهذا معنى الخلاف، وإياك أن يختلج في ضميرك أن ما أقر في هذه الشريعة على وفق ما كان قبل، باقٍ على حاله، وإذا كان البعض باقيًا يكون تخصيصًا، فليس شيء بِبَاقٍ، بل كُلُّ مشروع في شرعئا مفتتح التشريع غير منظور فيه إلى ما سبق، سواء أوافق أم خالف، وإنما معنى الخلاف ما ذكرناه.

وقد قال الشيخ الهندي: ليس من ضرورة القول بصحّة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، القول بصحّة النسخ حتى يلزم من أنكره إنكار النبوة، وذلك لاحتمال أن يقال: إن شرع الماضين كان مغيًا إلى ظهوره عليه الصلاة والسلام في اللفظ.

قلت: ولا حاجة إلى قوله: "في اللفظ" فقد يسميه منكره من المسلمين تخصيصًا، وإن لم يوجد في اللَّفظ كما قلناه، ويعود النزاع لفظيًّا كما قذمناه عن ابن السَّمْعَاني.

وما ادّعاه المصنّف من الإجماع على أن شريعتنا ناسخة صحيح، ولا ينافيه حكاية بعضهم الخلاف في أنها مخصصة أو ناسخة؛ لأن مرادنا بكونها ناسخة أن كلّ مأمور ومنهى في شرعنا مفتتح التَّشريع، وأنّ كلّ الشَّرَائع السابقة قد انتهى أمرها، والخلاف المحكى لفظي لا معنوي.

(1)

في ت: وإنما.

ص: 47

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ: جَوَازُ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ،

مِثْلُ: حُجَّوا هَذِهِ السَّنَةَ، ثُمَّ يَقُولُ قَبْلَهُ: لا تَحُجُّوا.

وَمَنَعَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالصَّيْرَفِيُّ.

وقد ادّعى القاضي في "التقريب": إطباق الأمة على أن النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون ناسخًا لشريعة من تقدمه، أو ناسخًا لبعضها، ومتعبدًا في الباقي بأمر ابتدئ به.

وأنكر أن يكون متابعًا، ذكره في باب النسخ، وفي مسألة التعلّق بشرائع الماضين، وسيكون لنا [عودة]

(1)

إلى ذكر ذلك عند الانتهاء إلى المسألة المذكورة إن شاء الله تعالى.

«مسألة»

الشرح: "المختار: جواز النَّسْخ قبل وقت الفعل، مثل: حجّوا هذه السّنة، ثم يقول قبله" أي قبل الوقت: "لا تحجوا

(2)

.

ومنع المعتزلة والصيرفي ".

(1)

في ت: دعوة.

(2)

إن القائلين بجواز النسخ اتفقوا فيما بينهم على جواز نسخ حكم الفعل بعد خروج وقته، واختلفوا في نسخ حكم الفعل قبل التمكن، ومعنى التمكن أن يمضي بعدما وصل الأمر إلى المكلف زمان يسع الفعل المأمور به. مثال ذلك ما لو قال الشارع:"في رمضان حجوا في هذه السنة" ثم قال قبل يوم عرفة: "لا تحجوا" فقد ذهب إلى جواز ذلك الأشاعرة وكثير من أصحاب الشافعي وأكثر الفقهاء وعامة أصحاب الحديث. ومنع من ذلك جماهير المعتزلة وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل. ينظر: شرح الكوكب 3/ 531، والمحصول 1/ 3/ 467، والمعتمد 1/ 406، والبرهان 2/ 1303، واللمع (31)، والتبصرة (260)، وجمع الجوامع 2/ 77، والآيات البينات 3/ 137، والمعتمد 1/ 406، والعدة 3/ 807، والمستصفى 1/ 112، والمنتهى ص 115، والإحكام للآمدي 3/ 115، وأصول السرخسي 2/ 61، وشرح العضد 2/ 190، فواتح الرحموت 2/ 61، وكشف الأسرار 3/ 169، وشرح التنقيح 307، والمسودة (207)، وإرشاد الفحول 187، ونشر البنود 1/ 293، والإبهاج 2/ 256.

ص: 48

لَنَا: ثَبَتَ التَّكْلِيفُ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ؛ فَوَجَبَ جَوَازُ رَفْعِهِ، كالْمَوْتِ.

وَأَيْضًا، فكُلُّ نَسْخٍ كَذَلِكَ؛ لأَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ الْوقْتِ وَمَعَهُ يَمْتَنِعُ نَسْخُهُ.

وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أُمِرَ بِالذَّبْحِ بِدَلِيلِ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [سورة الصافات: الآية 102] وَبِالإقْدَامِ وَبِتَرْوِيعِ الْوَلَدِ، وَنُسِخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ.

وَاعْتُرِضَ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُوَسَّعًا.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لا يَمْنَعُ رَفْعَ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْمُسْتَقْبَلِ؛ لأَنَّ الأَمْرَ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَانِعُ عِنْدَهُمْ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوَسَّعًا لَقَضَتِ الْعَادَةُ بِتَأْخِيرِهِ رَجَاءَ نَسْخِهِ أَوْ مَوْتِهِ؛ لِعِظَمِهِ.

واعلم أنّ هذه العبارة أعني قوله: "النسخ قبل وقت الفعل" قاصرة عن الغرض وإن قالها الأكثرون.

والأحسن في التعبير أن يقال: "يجوز نسخ الشيء قبل مضي مِقْدَار ما [يسعه]

(1)

من وقته؛ ليشمل ما إذا حضر وَقْت العمل، ولكن لم يمض مقدار ما [يسعه]

(2)

، فإن هذه الصّورة في محل النزاع أيضًا.

الشرح: "لنا: ثبت" بالدليل المتقدم في مسألة توجه الأمر قبل المباشرة "التكليف قبل وقت الفعل؛ فوجب جواز رفعه" بالنسخ "كالموت" أي كما يرفع بالموت؛ لأنهما سواء.

"وأيضًا، فكلّ نسخ كذلك" أي: قبل وقت الفعل، وقد اعترفتم بثبوت النسخ، فيلزمكم تجويزه.

وإنما قلنا: كلّ نسخ كذلك؛ "لأن الفعل" أي التكليف بالفعل "بعد الوقت ومعه يمتنع نسخه".

(1)

في ب: سبقه.

(2)

في ب: سبقه.

ص: 49

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أما بعده؛ فإما لأن التكليف بذلك الفعل المأمور به بعد مضي وقته ينتفي

(1)

؛ لانتفاء شرطه وهو الوقت، وإذا انتفى فلا يمكن رفعه؛ لامتناع رفع المعدوم.

وإما؛ لأن المكلّف إن كان أوقع المأمور به في وقته فقد أطاع، وإنْ لم يكن قد أوقع فقد عصى، وعلى التقديرين فلا نسخ.

وأما مع الوقت فلما سلمته الخصوم من امتناعه حينئذ مصيرًا منهم إلى لزوم تَوَارد النفي والإثبات حينئذ على [شيء]

(2)

واحد في زمان واحد.

وقد يقال على الأول: التكليف مقيد بعدم الموت عقلًا؛ فلا رفع.

وعلى الثاني أن الكلام فيما إذا لم يقع فعل من الأفراد التي تناولها التكليف، وليس كلّ نسخ كذلك، فلم يتوجّه الإلزام.

"واستدل" على المختار بدليل صحيح حاصله: التَّمَسُّك "بأن إبراهيم أمر بالذبح"، ونسخ عنه قبل التمكّن من الفعل، فأمر "بدليل:{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [سورة الصافات: الآية 102] وبالإقدام، وبِتَرْوِيعِ الولد"، ولو لم يكن مأمورًا به لكان حرامًا، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يقدمون على حرام، "ونسخ" لقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [سورة الصافات: الآية 107] "قبل التمكن"؛ إذ لو كان بعده لعصى بتأخيره.

"واعترض" بأنا لا نسلم أنه لو لم يفعل وقد حضر الوقت كان عاصيًا، وأسند المنع "بجواز أن يكون" الوقت "موسعًا"، فيحصل التمكن، ولا يعصى بالتأخير؛ لأنه موسع ثم ينسخ.

"وأجيب" أولا "بأن ذلك" أي: كون الوقت موسعًا "لا يمنع رفع تعلّق الوجوب بالمستقبل؛ لأن الأمر باقٍ عليه" في الوقت الموسع إذا لم يأت بالمأمور به، "وهو المانع عندهم" أي: بقاء الأمر عليه عند الخصم هو المانع من جواز النسخ حينئذ، فقد جاز ما منعوه؛ وهو المَطْلُوب.

وثانيًا: "بأنه لو كان موسعًا لقضت العادة بتأخيره" الذبح، "رجاء نسخه أو موته" ومثله مما تقضي العادة بتأخيره "لعظمه" على الأنفس.

(1)

في ت: لا ينتفي.

(2)

سقط في أ، ت.

ص: 50

وَأَمَّا دَفْعُهُمْ بِمِثْلِ: لَمْ يُؤْمَرْ، وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ، أَوْ أُمِرَ بِمُقَدِّمَاتِ الذّبْحِ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، أَوْ ذَبَحَ وَكَانَ يَلْتَحِمُ عَقِيبَه، أَوْ جُعِلَ صَفِيحَةَ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ، فَلا يُسْمَع، وَيَكُونُ نَسْخًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ.

الشرح: "وأما دفعهم" يعني الخصوم هذا الاستدلال "بمثل" قولهم: إن إبراهيم عليه السلام "لم يؤمر، وإنما توهم، أو أمر بمقامات الذّبح، فليس بشيء"؛ لقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وللإقدام والترويع، كما مَرَّ؛ ولقوله:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [سورة الصافات: الآية 106]، ولولا الأمر ما كان بلاءً مبينًا، ولقوله تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [سورة الصافات: الآية 107]، ولولا الأمر لما احتاج إلى الفِدَا.

ويرده من أصولهم أنه لو كان كذلك؛ لكان توريطًا لإبراهيم عليه السلام في الجهل بما يظهر [أنه]

(1)

أمر، وليس بأمر وهم لا يجوزون ذلك.

"أو ذبح" أي: وأما دفعهم بمثل أنه امتثل الأمر وذبح "وكان" كلما قطع جزءًا "يلتحم عقبه، أو جعل صفيحة نحاس أو حديد، فلا يسمع"؛ لأنه خلاف العادة والظَّاهر، ولو كان لنقل مثله نقلًا متواترًا.

[وأيضًا]

(2)

لو كان صفيحة لمنعت إمكان الذبح، فيصير مكلفًا بما لا يُطَاق، وهم لا يجوزونه، ثم قد نسخ، وإلا لأثم بتركه، "و" حينئذ "يكون نسخًا قبل التمكّن"، وأيضًا لو كان لما احتاج إلى الفِدَا.

وقد يقال: لعلّ الفداء لأجل الحياة الحاصلة مع الذّبح لا لنفس الذبح، ويكون الذبح قد وقع، ولكن لم يترتب عليه موت.

وهذا بحث، والإنصاف أنه لم يقع ذبح، ودعوى وقوعه مُبَاهتة عظيمة، ومما يدرأ قولهم: ذبح ولكنه التأم اتفاقهم على أن إسماعيل عليه السلام ليس [بمذبوح]

(3)

، واختلافهم في إبراهيم عليه السلام هل هو ذابح؟.

فقال قوم: هو ذابح؛ للقطع، والولد غير مذبوح؛ للالتئام

(4)

.

(1)

في أ، ت، ج: به.

(2)

سقط في أ، ت، ج.

(3)

في أ، ت، ج: مذبوح.

(4)

يذهب الواحدى إلى أن الذبيح إسحاق، وعنده أن هذا رأى الأكثرين، وعند الآخرين أنه=

ص: 51

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأنكره قوم وقالوا: ذابح ولا مذبوح مُحَال.

= إسماعيل، ورأى ثالث ينسبه إلى الزجاج يتوقف فيه عن الجزم بأيهما الذبيح، ولكنه يميل إلى أنه إسحاق مستدلًا بالآية {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} ثم يقول: أو لا خلاف في أنه إسحاق.

ولم يكن الواحدي هو القائل بأن الذبيح إسحاق، فلقد سبقه إلى هذا الرأي ابن جرير الطبري في تفسيره، فبعد أن ذكر آراء كل من الفريقين رجح بأن الذبيح إسحاق.

ولكنا نرى أن الواحدي وابن جرير ومن قال قولهما بأن الذبيح إسحاق قد جانبهما الصواب في هذا الأمر، فإن ظاهر الآيات والأحاديث والآثار الثابتة تدل على أن الذبيح إسماعيل، ولكن اليهود تسللوا إلى الرواية في الإسلام، فدسوا فيها بعض الروايات الضعيفة التي تدل على أنه إسحاق، وهذا من عداوة اليهود المتأصلة للعرب، فلقد أرادوا ألا يكون للجد الأعلى للنبي الأمي فضل أو مزية، حتى لا ينجر هذا الفضل إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبالتالي إلى الجنس البشري العربي، ولم يقف أمرهم عند حد الدس في الروايات الإسلامية، بل قام أسلافهم بتحريف التوراة ذاتها، حتى يتم لهم ما أرادوا، ولكن الله أبى إلا أن يغفلوا عما يدل على هذه الجريمة، والجاني - غالبًا - يترك ما يدل على جريمته، والحق يبقى له شعاع، ولو خافت، يدل عليه مهما حاول المبطلون إطفاء نوره وطمس معالمه، فقد حذفوا من التوراة لفظ إسماعيل، ووضعوا بدله لفظ إسحاق: ولكنهم غفلوا عن كلمة كشفت عن التزوير وعن هذا الدس المشين، ففي التوراة:(الإصحاح الثاني والعشرون) فقرة 3: فقال الرب: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقه على أحد الجبال الذي أقول لك".

وليس أدل على كذب هذا من كلمة: وحيدك، وإسحاق عليه السلام لم يكن وحيدًا قط؛ لأنه ولد ولإسماعيل عليه السلام نحو أربع عشرة سنة كما هو صريح في توراتهم في هذا، وقد بقي إسماعيل عليه السلام حتى مات أبوه الخليل، وحضر وفاته ودفنه، وإليك ما ورد في التوراة:

في سفر التكوين (الإصحاح السادس عشر الفقرة 16) ما نصه: وكان أبرام - يعني إبراهيم - ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام.

في سفر التكوين (الإصحاح الحادي والعشرون فقرة 5) .. وكان أبرام ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، وفي الفقرة 9 وما بعدها ما نصه: رأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح فقالت لإبراهيم:

اطرد هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابنى إسحاق، فقبح الكلام جدًّا في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام، ومن أجل =

ص: 52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإن قلت: كيف يستحيل عند المعتزلة إثبات ذابح ولا مذبوح مع قولهم: يجوز

= جاريتك في كل ما تقوله سارة اسمع لقولها؛ لأنه بإسحاق يدعى لك نسل، وابن الجارية أيضًا سأجعله أمة؛ لأنه نسلك إلى آخر القصة.

فما قولكم أيها اليهود المحرفون؛ وكيف يتأتى أن يكون إسحاق وحيدًا؟ مع هذه النصوص التي هي من توراتكم التي تعتقدون صحتها، وتزعمون أنها ليست محرفة؟

وقد دلت التوراة ورواية البخاري في صحيحه على أن الخليل إبراهيم أسكن هاجر وابنها عند البيت المحرم حيث بنى فيما بعد، وقامت مكة بجواره، وقد عبرت التوراة بأنهما كان في (برية فاران) وفاران: جبال بـ"مكة".

وهذا هو الحق أن قصة الذبح بـ"مكة" مسرحها وحيث يذبح الحجاج ذبائحهم اليوم، وقد حرفوا في النص الأول، وجعلوه جبل المرايا، وهو الذي عليه مدينة أورشليم بمدينة القدس العربية؛ ليتم لهم ما أرادوا، ولكن أبى الحق إلا أن يظهر تحريفهم.

وقد ذكر العلامة الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن كثير أن في بعض نسخ التوراة (بكرك) بدل من وحيدك وهو أظهر في البطلان، وأدل على التحريف؛ إذ لما لم يكن إسحاق بكرًا للخليل بنص توراتهم كما ذكرنا آنفًا؛ فالحق أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وهو الذي يدل عليه ظواهر الآيات القرآنية، فلا عجب أن ذهب إليه جمهرة الصحابة والتابعين، ومن بعدهم وأئمة الحديث منهم السادة العلماء: علي، وابن عمر وأبو هريرة، وأبو الطفيل، وسعيد بن جبير، ومجاهد والشعبي، والحسن البصري، ومحمد بن كعب القرظي، وسعيد بن المسيب، وأبو جعفر محمد الباقر، وأبو صالح، والربيع بن أنس، والكلبي، وأبو عمرو بن العلاء، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس. وفي زاد المعاد لابن القيم: أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهذا الرأي هو المشهور عند العرب قبل البعثة، وذكره أمية بن أبي الصلت في شعر له.

وقد نقل العلامة ابن القيم عن شيخه الإمام ابن تيمية في هذا كلامًا قويًا حسنًا، أحببت نقل خلاصته لما فيه من الحجة الدامغة قال: (ولا خلاف بينهم - أي النسابين - أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين، ومن بعدهم.

وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهًا، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول:(هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم) فإن فيه (أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره) وفي لفظ: وحيده ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي=

ص: 53

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اشتقاق اسم الفاعل لمن لم يقم به الفعل؟.

= بأيديهم (اذبح ابنك إسحاق) قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم؛ لأنها تناقض قوله: (اذبح بكرك ووحيدك) ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلّا أن يجعل فضله لأهله، وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق؟ والله تعالى قد بشر أم إسحاق به، وبابنه يعقوب فقال تعالى حكاية لقول الملائكة لإبراهيم لما أتوه بالبشرى:{لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [سورة هود: 70، 71]. فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، ويدل عليه أيضًا أن الله سبحانه ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات (الآيات من 103: 111).

ثم قال - تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} فهذه بشارة من الله تعالى له: شكرًا على صبره على ما أمر به، وهذا ظاهر جدًّا في أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنص فيه.

وأيضًا فلا ريب أن الذبيح كان بـ"مكة"، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة، ورمى الجمار تذكيرًا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بـ"مكة"، دون إسحاق وأمه، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل، وكان النحر بـ "مكة" من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل، زمانًا ومكانًا، ولو كان الذبح بالشام - كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة.

وأيضًا فإن الله سبحانه وتعالى سمى الذبيح حليمًا؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه عليمًا فقال تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}

إلى أن قال: {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 24 - 28].

وهذا إسحاق بلا ريب؛ لأنه من امرأته، وهي المبشرة به، وأما إسماعيل فمن السرية - يعني هاجر. وأيضًا فلأنهما بشرا به على الكبر، واليأس من الولد، وهذا بخلاف إسماعيل؛ فإنه ولد قبل ذلك.

وأيضًا فإن سارة امرأة الخليل صلى الله عليه وسلم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة، فإنها كانت جارية، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة، فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها، ويسكنها في أرض مكة؛ لتبرد عن سارة حرارة الغيرة، وهذا من رحمة الله تعالى بها ورأفته وإبعاده الضرر عنها، وجبره لها، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟ بل، =

ص: 54

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت: اسم الفاعل لا يطلق إلّا عند وقوع الفعل بالإجماع، ولكن هل يختصّ بمن قام لفعل، أو يطلق على من لم يقم به؟.

= حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتًا هذه وابنها منهم، وليرى عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد - آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامها مناسك لعباده المؤمنين ومنعبدًا لهم إلى يوم القيامة وذله وانكساره.

قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [سورة القصص: الآية 5]{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الجمعة: الآية 4].

وكذلك دلت الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين:

روى الحاكم في المستدرك وابن جرير في تفسيره وغيرهما عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال: (حضرنا مجلس معاوية، فتذكر القوم إسماعيل وإسحاق فقال معاوية: على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي فقال: يا رسول الله خلفت الكلأ يابسًا والمال عابسًا، هلك العيال، وضاع المال، فعد علي مما أفاء الله - تعالى - عليك يابن الذبيحين - فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فقال القوم: من الذبيحان - يا أمير المؤمنين؟ فقال: ابن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه، فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرًا، فخرج السهم على عبد الله، فأراد أن ينحره، فمنعه أخواله بنو مخزوم، وقالوا: أرض ربك وافد ابنك، ففداه بمائة ناقة، قال معاوية: هذا واحد، والآخر إسماعيل). وشهد شاهد من أهلها، وروى ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان يهوديًّا، فأسلم وحسن إسلامه، وكان من علمائهم فسأله: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن اليهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب" وهذا هو الحق الذي لا ينبغي أن يكون غيره.

وأما الحديث المشهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا ابن الذبيحين) فقد قال الإمام العراقي: إنه لم يقف عليه، ولا يعرف بهذا اللفظ، وعلى هذا فلا يحتج به، ولا يجوز روايته أو ذكره إلا مقترنًا ببيان حاله، وقد وردت روايات أخرى موقوفة، ومرفوعة في أن الذبيح إسحاق إلا أن المرفوع منها عن النبي صلى الله عليه وسلم والحق يقال - إما موضوع وإما ضعيف، فلا تثبت به حجة، والموقوف منها على الصحابة أو على التابعين إن صح سنده فهي من الإسرائيليات التي رويت عن أهل الكتاب الذين أسلموا بحسن نية، وحقيقتها أنها من دس اليهود وحسدهم للعرب أن =

ص: 55

قَالُوا: إِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ تَوَارَدَ النَّفْيُ وَالإِثْبَات، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلا نسخ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَلْ قَبْلَه، وَانْقَطَعَ التَّكْلِيفُ عِنْدَهُ كَالْمَوْتِ.

فيه الخلاف بيننا وبينهم.

وهنا عند هؤلاء أن الفعل لم يقع؛ لأنّ الفعل هو الذبح، وحقيقته على ما يقولون ثبوت مذبوح تزهق روحه.

الشرح: والخصوم "قالوا: إن كان" الفعل "مأمورًا به ذلك الوقت" الذي عدم الوجوب فيه، لزم كونه مأمورًا به في ذلك الوقت [وغير]

(1)

مأمور به فيه، و "توارد النفي والإثبات" على محلّ واحد، وهو محال.

"وإن لم يكن فلا نسخ"، أي: فلا يكون نفى الوجوب فيه نسخًا له.

= يكون لجدهم الأعلى فضل.

وقد اغتر بهذه الروايات التي لا تثبت أمام النقد، بعض العلماء كابن جرير الطبري، والقاضي عياض، والسهيلي، فذهبوا إلى أنه إسحاق، وتحير بعضهم في تعارض الروايات، ولم يستطع أن يرجع ويصل إلى الحقيقة، فتوقف في الجزم برأي في هذا الموضوع كالإمام السيوطي، بل بعضهم ذهب إلى أن الذبح وقع مرتين: مرة بـ"مكة" لإسماعيل، ومرة بـ"الشام" لإسحاق، والحق ما ذهب إليه جمهور الصحابة، والتابعين، والعلماء الراسخين من أنه إسماعيل، وأن الروايات في أنه إسحاق دسيسة يهودية، واختلاف ممنوع.

دعا إليه الحقد، والحسد للعرب، فلا تلق لذلك بالًا، وإن وجد في بعض كتب التفسير، والحديث والسير، والحق أحق أن يتبع.

ثم أيهما أشد وقعًا على النفس وأعظم بلاء: أن يؤمر إبراهيم بذبح إسحاق وله ولد آخر يجد فيه إبراهيم بعض المعوض عن الابن المذبوح؟ أم يؤمر بذبح ولده ووحيده وبكره الذي رزقه على كبر وأتى بعد طول انتظار وشدة اشتياق ولم يكن هناك بارقة أمل في أن يرزق إبراهيم بولد بعده؟

إن الله تعالى قد وصف واقعة الذبح هذه بأنها البلاء المبين، أي الابتلاء والاختيار المبين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، ولا ينطبق هذا الوصف ولا يتحقق هذا النبلاء إلا إذا كان الذبيح هو إسماعيل الابن الوحيد البكر.

(1)

سقط في أ، ت.

ص: 56

مَسْألَةٌ:

الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ مِثْلِ: صُومُوا أَبَدًا، بِخِلافِ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا.

وأجيب: باختيار أنه ليس مأمورًا به في ذلك الوقت.

قولكم: فلا نسخ.

قلنا: ممنوع؛ فإنه مأمور به قبل ذلك الوقت، ثم ورد تجويز تركه في وقت آخر متعلقًا كما لو مات قبل الوقت فانقطع عنه التكليف بالموت، فالتكليف وعدمه قبل الوقت في زمانين، فلا تناقض إلَّا أن متعلّقهما هو الفعل في وقت واحد، وذلك جائز، وهو محل النزاع.

وإليه أشار بقوله:

"وأجيب: لم يكن، بل قبله، وانقطع التكليف عنده كالموت".

«مسألة»

الشرح: قال "الجمهور: جواز نسخ" الخطاب المقيد بالتأبيد إذا كان إنشاء حقّ "مثل: صوموا أبدًا"

(1)

.

(1)

اختلف الأصوليون في جواز نسخ الفعل المقيد بالتأبيد، مثل:"صوموا أبدًا" فذهب الجمهور إلى جواز نسخه، وذهب إلى عدم جوازه شذوذ من الأصوليين، ولكل فريق حجة على ما ادعى .. أما الحكم المقيد بالتأبيد مثل "الصوم واجب مستمر أبدًا" فإنه لم يخالف أحد في عدم جواز نسخ ذلك.

إن هذا المثال وهو قولنا: "صوموا أبدًا" وما شاكله من كل مقيد بقيده لا يزيد في دلالته على جزئيات الزمان على قوله: "صم غدًا" في دلالته على جزئيات الزمن. إلا أن القيد في المقيس يتناول كل الأبد. وفي المقيس عليه البعض المعين، وبما أن نسخ نحو "صم غدًا" جائز اتفاقًا فكذا نسخ نحو "صوموا أبدًا" حيث لا فرق، بل المقيس أحرى بقبول النسخ؛ ولأنه إذا جاز ذلك مع قوة النصوصية فيما يتناوله، فهذا مع ظهوره واحتمال ألا يتناوله أولى بالجواز. ينظر: البرهان 2/ 1296، 1298، والمعتمد 1/ 413، والمحصول 1/ 3/ 491، والمنخول 290، والمستصفى 1/ 112، والتبصرة (255)، والوصول لابن برهان 2/ 27، والإحكام للآمدي 3/ 123، وشرح الكوكب 3/ 539، والمسودة (195)، وجمع الجوامع 3/ 85، وشرح =

ص: 57

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"بخلاف: الصوم واجب مستمر أبدًا"، فإنه يجوز نسخه.

واعلم أن قوله: إن الجمهور على جواز نسخ الخطاب المقيد بالتأبيد، صحيح.

وأما قوله: بخلاف: الصوم واجب مستمر أبدًا، فزيادة لم يصرح بها الآمدي ولا غيره، وإنما قال الآمدي: فإن قيل: لفظ التأبيد جار مجرى التَّنصيص على كل وقت من أوقات الزَّمان بخصوصه، والتنصيص على وجوب الفعل المتعيّن لا يجوز نسخه، فكذلك هذا.

وأيضًا، فإنا لو أمرنا بالعبارة بلفظ يقتضي الاستمرار جاز نسخ، فلو جاز ذلك مع التقييد بلفظ التأبيد لم يكن للتقييد معنى.

ثم قال: وأيضًا، فإن المخاطب إذا أخبر بلفظ التأبيد لم يجز نسخه، فكذلك في غير الخبر.

ثم أجاب عن الأول: بأنا لا نسلّم أن لفظ التأبيد يتنزل منزلة التنصيص، وإن سلم فلا نسلّم امتناع نسخه.

وعن الثاني: أن فائدة التأبيد تأكيد الاستمرار.

وعن الرَّابع: بمنع ذلك في الخبر أيضًا هذا كلامه.

فيحتمل أن يكون مراد المصنّف بقوله: بخلاف نحو: الصوم واجب مستمر أبدًا الخبر أي: يجوز نسخ المقيد بالتأبيد إذا كان إنشاء مثل: صوموا أبدًا، بخلاف ما إذا كان خبرًا مثل: الصوم واجب مستمر أبدًا.

وعلى هذا جرى شيخنا الأصفهاني وغيره.

ويتأيد هذا بأن المصنّف لما رأى الآمدي اعترض بالخبر، ثم التزمه بناء على أصله في جواز نسخ الأخبار، كما ستعرف حتى أن يتصور أنه موافق له على الالتزام أيضًا، وهو لا

= العضد 2/ 85، وشرح تنقيح الفصول (310)، وإرشاد الفحول (186)، ونهاية السول 2/ 609، والتحرير (385)، والتيسير 3/ 194، وكشف الأسرار 3/ 164، وفواتح الرحموت 2/ 68.

ص: 58

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يرى نسخ الخبر؛ فقال: بخلاف الخبر، والفرق بينهما واضح؛ يلزم من الخبر الخلف كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وإليه أشار إمام الحَرَمَيْنِ في أول النَّسْخ حيث قال: فإن قيل: لو قال الشَّارع: هذا الحكم مؤبّد لا ينسخه شيء، فهل تجوزون تقدير نسخه؟.

قلنا: لا؛ لأن تقدير وروده تجويز الخلف.

ولكن في هذا نظر من وجهين:

أحدهما: أنه له أراد الخبر لم يحتج إلى قوله: مستمر؛ فالفرق واضح بدون هذه اللَّفظة الموهمة شيئًا زائدًا.

والثاني: أن الخبر عنده لا ينسخ، قيد بالتأبيد أم لم يقيد، فلا يتجه الفرق؛ إذ البحث هنا عن التأبيد هل يمنع النَّسخ أم لا؟

والقائل قائلان:

قائل بأنه يمنعه، وهذا لا يفرق بين الإنشاء والخبر.

وقائل لا يمنعه، وإذا لم يمنعه في الإنشاء لم يمنعه في الخبر أيضًا.

والمنع في الخبر إنما نشأ من خصوص الخبر؛ لاقتضائه الخلف، لا من جهة أنه قيد بالتأبيد، فافهم ذلك؛ فلا جامع بين مسألة الخبر والتقييد بالتأبيد؛ لاختلاف المأخذ فيهما.

ويحتمل أن يكون فصل في الإنشاءات بين مقيد، ومقيد فجوَّز النسخ في أحدهما دون الآخر، فقال في التأبيد: المجعول قيدًا في فعل المكلف مثل: صوموا أبدًا بالجواز.

وقال في الثانية: المجعول قيدًا للوجوب، وبيانًا لمدة بقائه واستمراره إذا كان نصًّا مثل أن يقول: الصَّوم واجب مستمر أبدًا؛ لأنه لا يجوز.

وعلى هذا جرى القاضي عضد الدّين الإيجي، وهو الأظهر عندي.

والذي دعا المصنّف إلى ذلك أنه لما سأل السائلُ: إن لفظ التأبيد جار مجرى التنصيص، والتنصيص لا يجوز نسخه، [وأن]

(1)

التأبيد إذا ضمّ إلى الاستمرار، فلو جوز نسخه لم يكن له معنى، وأجاب الآمدي، بما رأيت، توسط المصنف في الجواب، فوافقه

(1)

في ب، وأن.

ص: 59

لَنَا: لا يَزِيدُ عَلَى: صُمْ غَدًا ثُمَّ يُنْسَخُ قَبْلَهُ.

قَالُوا: مُتَنَاقِضٌ.

قُلْنَا: لا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِيجَابِ صَوْمِ غَدٍ وَانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ قَبْلَه، كَالْمَوْتِ.

على أن لفظ التأبيد لا يتنزل منزلة التَّنصيص، ولا يمنع النسخ لكن لا مطلقًا، بل إذا لم يؤت معه بلفظ الاستمرار، ويجعل قيدًا في الوجوب.

وقال: بخلاف مثل: الصوم واجب مستمر أبدًا. هذا ما يظهر عندي.

ولقائل أن يقول: لا يصحّ له فرق؛ فإن قوله: الصوم واجب مستمر أبدًا، إذا لم يكن على وَجْهِ الخبر لا يزيد على: صوم غد واجب في النُّصوصية، ونحن نقول بجواز نسخ ذلك إذا لم يكن خبرًا، فلنقل بهذا بطريق أولى.

فالمختار أن الإنشاء يجوز نسخه وإن قيد بضروب من التأكيد، وانتهى إلى أقصى درجات النصوص، وعليه الجمهور.

وخالف بعض المتكلمين، ومن الحنفية أبو بكر الجصَّاص، وأبو منصور الماتريدي، وأبو زيد الدبوسي، والبرذويان الأخوان.

الشرح: "لنا": أن قوله: صوموا أبدًا، "لا يزيد" في دلالته على جزئيات الزمان "على: صم غدًا" في دلالته على صوم الغد، "ثم" قوله: صم غدًا "ينسخ قبله"، ولا يلزم مَحْذُور كما سبق مع قوّة النصوصية فيه، فـ"صم أبدًا" مع ظهوره واحتماله ألَّا يتناول أجدر.

ولك أن تقول: والصوم واجب مستمر أبدًا لا يزيد على: صم غدًا، كما عرفت.

نعم للخصم أن يقول: لا نسلم أنه يجوز نسخ: صم غدًا، وإذن لا تنهض الحجّة عليه.

وقد ادّعى بعض الحنفية الاتفاق على أنَّ التنصيص على وقت بخصوصه يمنع النسخ. صرح به عبد العزيز في شرح البزدوي المسمى بـ"كشف الأسرار" فليس بجيّد، فنحن أوّل من يمنع ذلك، وإنما استفدنا منه أنهم يمنعون نسخ: صم غدًا، فلا يستدلّ عليهم به.

والأولى في الاستدلال أن يقول: مِنْ شرط النّسخ أن يرد في الزمان الذي دلَّ الخطاب على ثبوت الحكم فيه ظاهرًا أو نصًّا، وقد بيّنا جواز النَّسخ قبل التمكّن، فنصوصية الخطاب الدَّالة على ثبوت الحكم لا تنافي النَّسْخ، بل هي شرط له على البدلية، ودلالة التأبيد سواء

ص: 60

مَسْأَلَةٌ:

الْجُمْهُورُ: جَوَازُ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.

لَنَا: أَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِ قَدْ تَكُونُ فِي ذلِكَ؛ وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ وَقَعَ كنَسْخِ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الْفِطْرِ، وَتَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأَضَاحِي.

قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [سورة البقرة: الآية 106].

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الخِلافَ فِي الْحُكْمِ لا فِي اللَّفْظِ. سَلَّمْنَا لكِنْ خُصِّصَ. سَلَّمْنَا، وَيَكُونُ نَسْخُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ خَيْرًا لِمَصْلَحَةٍ عُلِمَتْ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ، فَمِنْ أَيْنَ لَمْ يَجُزْ؟!.

أكانت ظاهرة أم نصًّا بشرط النَّسخ، وشرط الشيء لا ينافيه.

"قالوا: معنى التأبيد الدَّوام، والنسخ يقطعه، فهو إذن "متناقض"، فلم يَجُزْ على الله تعالى.

"قلنا": لا نسلّم التناقض؛ إذ "لا منافاة بين إيجاب" فعل مقيد بالأبد، وعدم أبدية [التكليف]

(1)

به، وذلك كما لا مُنَافاة بين إيجاب "صوم" مقيد بزمان مثل: صوموا "غدًا، وانقطاع التكليف قبله" كما يقال: صم غدًا ثم ينسخ قبله، وهو "كالموت"؛ إذ قد يتعلّق التكليف بصوم غد، ثم يموت قبله، فلا يوجد في غد التكليف.

والحاصل: أن كلّ تكليف وإن قيد بضروب التأكيد وألفاظ التأبيد فمعناه: ما لم ينسخ، كما أن معناه ما لم يعجز المكلّف بمرض أو موت ونحوهما.

«مسألة»

الشرح: قال "الجمهور: جواز النَّسْخ من غير بدل"

(2)

حقّ.

(1)

في أ، ت: التكلف.

(2)

اختلف الأصوليون: هل يجوز نسخ الحكم بلا بدل أم لا؟ ذهب الجمهور إلى الجواز، وخالف في ذلك بعض الظاهرية والمعتزلة محتجين بأنه تعالى قال في كتابه المبين:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ولا يتصور كونه خيرًا أو مثلًا إلا في بدل أو نقول: وجه الاستدلال أنه أخبر أنه لا ينسخ إلا ببدل، والخلف في خبر الصادق محال، وقال ابن =

ص: 61

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وخالف بعض المعتزلة والظَّاهرية.

"لنا: أن مصلحة المكلف قد تكون في ذلك"، إن قلنا برعاية المَصَالح، وإلَّا فلا إشكال.

"وأيضًا، فإنه وقع"، فكان جائزًا، وذلك "كنسخ وجوب الإِمْسَاك بعد الفطر" في الليل، "وتحريم ادِّخَار لحومِ الأضاحي".

"قالوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} "[سورة البقرة: الآية 106] " ولا يتصوّر كونه خبرًا ومثلًا إلَّا في بدل.

"وأجيب: بأن الخلاف في الحكم لا في اللفظ"، والمراد في الآية: نأت بلفظ خير منها، أو مثلها، وليس محل النزاع.

"سلمنا"[بأن]

(1)

المراد نأت بحكم، أو أن الخلاف يطرق اللفظ، "لكن" هو عام يقبل التخصيص، فلعله "خصص" بما نسخ بلا بدل.

"سلمنا" عدم تخصيصه، "ويكون نسخه بغير بدل خيرًا" للمكلف "لمصلحة علمت".

"ولو سلم أنه لم يقع" النسخ إلَّا إلى بدل، "فمن أين" تدلّ هذه الآية على أنه "لم يجز" عقلًا؟ وقصاراها الدلالة على عدم الوقوع، ولا يلزم منه عدم الجواز.

واعلم أن هنا مسألتين:

إحداهما: الجواز، وقد عرفتها.

والثانية: الوقوع، وقد اشتمل الكلام على دَعْوَاه حيث استدلّ به، وعليه الأكثرون.

ونقل عن الشافعي رضي الله عنه خلافه، وعبارته - كرم الله وجهه - في "الرسالة":

= برهان: ومأخذ الخلاف أن النسخ عندنا حقيقة في الرفع، مجاز في النقل، وعندهم حقيقة فيهما جميعًا. ينظر: سلاسل الذهب 299، والمحصول 1/ 3/ 479، والبرهان 2/ 1313، والمعتصد 1/ 415، وجمع الجوامع 2/ 87، والآيات البينات 3/ 155، والعدة 3/ 783، والإحكام للآمدي 3/ 125 (4)، وإرشاد الفحول (187)، وشرح الكوكب 3/ 545، والمستصفى 1/ 77، وشرح التنقيح (308)، والروضة (43)، والمسودة 198، والمنتهى (116)، وفواتح الرحموت 2/ 69، وشرح العضد 2/ 193، واللمع (32).

(1)

في ج: أن.

ص: 62

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وليس ينسخ فرض أبدًا إلا أثبت مكانه فرض كما نسخت قِبْلَة "بيت المقدس"، فأثبت مكانها "الكعبة"

انتهى.

وظاهرها: أنه لا ينسخ الفرض إلا ببدل هو فرض أيضًا.

وإنما أراد الشَّافعي بهذه العبارة - كما نبّه عليه أبو بكر الصَّيرفي في "شرح الرسالة" - أنه ينقل من حظر إلى إباحة، أو إباحة إلى حظر، أو تخيير على حسب أحوال الفروض، قال: ومثل ذلك المُنَاجاة، كما يناجي النبي صلى الله عليه وسلم بلا تقديم صدقة، ثم فرض الله - تعالى - تقديم الصَّدقة، ثم أزال ذلك، فردهم إلى ما كانوا عليه، فإن شاءوا تقرّبوا بالصدقة إلى الله - تعالى - وإن شاءوا ناجوه من غير صدقة قال: فهذا معنى قول الشَّافعي رضي الله عنه: فرض مكان فرض، فافهمه انتهى.

فقد وضح أن مراد الشَّافعي بالبدل الذي ذكر أنه لا يقع النسخ إلا به: انتقالهم من حكم شرعي إلى حكم شرعي، وذلك أعم من أن يعادوا إلى ما كانوا عليه مثل المُنَاجاة، وإليها أشار الصيرفي بقوله: رذهم إلى ما كانوا عليه. [أو]

(1)

يحدث شيء مغاير لذلك كما في نسخ التوجّه إلى "بيت المقدس" بالكعبة، وليس مراد الشافعي بالبدل: أنه لا بد من بدل غير [ما]

(2)

كانوا عليه، بل البدل أعم من ذلك.

والمقصود أنهم ينقلون من حُكْمٍ شرعي إلى مثله، ولا يتركون غير محكوم عليهم بشيء.

إذا عرفت ما أراده فنقول: هذا شيء لا ينبغي لمن له أدنى اطلاع على الشريعة أن يخالف فيه، فما في الشريعة مَنْسوخ إلَّا وقد انتقل عنه إلى أمر آخر هو حكم شرعي، ولو أنه إلا صيرورة ما كان واجبًا مباحًا وذلك بدل؛ إذ هو حكم أيضًا، فلم يترك الرب - سُبْحانه - عبارة هملًا، فالصور أربع:

إحداها: الجواز، ولا يخالف فيه إلَّا بعض المعتزلة والظاهرية.

والثانية: وقوعه بلا بدل أصلًا، بحيث يعود الأمر كهو قبل ورود الشَّرائع، مثل أن يقول: نسخت وجوب الصَّدقة عند المُناجاة، وصيرت الحال بعد النسخ غير محكوم فيه

(1)

في ب: إذ.

(2)

سقط في ت، ج.

ص: 63

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بشيء، بل هو كالأفعال قبل الشرع، وهذا مع جوازه لا يقع، ولا نحفظ أحدًا قال بوقوعه، وقائله مطلوب بتصديق دعواه بصورة يوردها، ولن يصل إلى ذلك.

والثالث: وقوعه ببدل من الأحكام الشَّرعية إما إحداث أمر مغاير لما كان واجبًا أو لا، كالكعبة بعد المقدس، أو الحكم بإباحة ما كان واجبًا كالمُنَاجاة والنسخ لم يقع إلا هكذا كما قال الشافعي، وهو قضية كلام القاضي، وهو الحق؛ فما من صورة نسخت إلا وقد انتقل عنها إلى حكم شرعي، ولو أنه إلا إباحة الترك إن كان ما تقدم وجوبًا كالصدقة عند المُنَاجاة، أو [تأصيل]

(1)

أمر آخر كالكعبة بعد "بيت المقدس".

والرابعة: وقوعه ببدل بشرط أن يكون تأصيلًا لأمر آخر، كالكعبة بعد "بيت المقدس"، وهذا المردود في الكتاب، ولم يشترطه الشافعي، ومن ذهب إليه بقول مردود عليه.

وإن رأيت أحدًا نقله عن الشَّافعي، فاعلم أنه لم يفهم مراد الشَّافعي بالبدل، وربما [أُتى]

(2)

أقوام من عدم عِرْفَانهم ما يعنيه اللَّافظ بلفظه.

وكلام إمام الحرمين في كتاب "التلخيص" مختصر "التقريب" و"الإرشاد"، للقاضي كالنص فيما قررنا؛ إذ قال بعد أن ذكر أنه يجوز النسخ إلى بدل ما نصّه: فإن قال قائل: كيف يتصور ذلك؛ ولو وجبت عبادة فمن ضرورة نسخ وجوبها إباحة تركها، والإباحة حكم من الأحكام، وهو بدل من الحكم الثابت أولًا، وهو الوجوب.

قلنا: من مذهب من يخالفنا أن العبادة لا تنسخ إلا بعبادة ولا يجوزون نسخها بإباحة، على أن ما طالبتمونا به يتصور بأن يقول الرب سبحانه: نسخت عنكم العبارة، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل ورود الشَّرائع، وهذا مما يعقل ولا ينكر.

فإن استروحوا في منع ذلك بقوله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [سورة البقرة: الآية 106]، وهذا تصريح بإثبات البدل.

قلنا: هذا إخبار عن أن النسخ يقع على هذا الوجه، وليس فيه ما يدل على أنه لا يجوز وقوع النسخ على غير هذا الوجه. انتهى.

(1)

في ب: بأصل.

(2)

في أ، ت: أبي.

ص: 64

مَسْأَلَةٌ:

الْجُمْهُورُ: جَوَازُ النَّسْخِ بأَثْقَلَ.

لَنَا: مَا تَقَدَّمَ، وَبِأَنَّهُ نُسِخَ التَّخْيِيرُ فِي الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ، وَالْحَبْسُ فِي الْبُيُوتِ بِالْحَدِّ.

قَالُوا: أَبْعَدُ فِي الْمَصْلَحَةِ.

قُلْنَا: يَلْزَمُكُمْ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ، وَأَيْضًا، فَقَدْ يَكُونُ عَلِمَ الْأَصْلَحَ فِي الْأَثْقَلِ كَمَا يُسْقِمُهُمْ بَعْدَ الصِّحَّةِ، وَيُضْعِفُهُمْ بَعْدَ الْقُوَّةِ.

فانظر كيف صرح بتسليم أن النسخ لا يقع إلا على هذا الوجه بعد أن جوّز وقوعه لا إلى بدل، وهو عين ما نقوله، وهو الحق الذي لا مِرْيَةَ فيه.

والظاهر: أنه من كلام القاضي في "التقريب" و"الإرشاد الكبير" الذي كتاب "التلخيص" فرع له، وأما "التقريب" و"الإرشاد الصغير" الذي وقفنا عليه، فلم يذكر فيه هذا، ولا "التلخيص" فرعه فإن "التلخيص" ملخص من الكبير دون الصغير على ما ظهر لي.

وإذا تأملت ما ذكرناه علمت أن الاستدلال بقوله: {مَا نَنْسَخْ

} على ما مرادنا صحيح.

وقوله: الآية في اللفظ تبع فيه الآمدي، وهو ضعيف؛ لأن المسألة في أعم من نسخ اللفظ، ثم إن لفظ الآية حكم شرعي لا يمسّه المحدث، ولا يقرؤه الجنب.

وقوله: إنه مخصص.

قلنا: ما ذكرت ليس فيه نسخ الحكم بلا بدل، بل ببدل هو أعم من عود الأمر إلى ما كان عليه، ونحن لا ننكر ذلك.

وقوله: "من أين لم يجز"؟ صحيح على من يمنع الجواز.

وفيصل الأمر: أن الجواز [لا ينكره]

(1)

، وليس في الآية دليلٌ على منعه، والبدل الذي نثبته لا ينبغي إنكاره، وبدل أخص معه لا ندّعيه.

(1)

في ب، ج: ننكره.

ص: 65

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

«مسألة»

الشرح: "الجمهور: جواز النسخ بأثقل" ووقوعه

(1)

.

ومنع بعضهم منه عقلًا.

وبعضهم سمعًا، وهو رأي أبي بكر بن داود.

وقيل: جائز ولكن لم يقع.

وفد حكى هذه الأقوال القاضي في "التقريب" وغيره.

وزعم الهِنْدِيّ أن من قال بالجواز قال بالوقوع، وليس بجيّد لما عرفت.

وذكر ابن بَرْهَان: أن بعضهم نقل المنع عن الشَّافعي، قال: وليس بصحيح.

"لنا: ما تقدم" من أن التكليف إن تبع المصالح، فلعلّ الأثقل أصلح، وإلَّا فواضح.

"وبأنه" وقع، والوقوع دليل الجواز وزيادة، وذلك أنه "نسخ التخيير في الصوم، والفِدْيَة" بتعين الصوم، "وصوم عاشوراء برمضان، والحَبْس في البيوت" في الزّنا "بالحد"، والصَّبر على أذى الكفار في أول الإسلام بإيجاب القتال.

"قالوا": التكليف بالأثقل "أبعد في المصلحة"؛ لانتقال المكلف من سهل إلى عسر.

"قلنا" - بعد تسليم مراعاة المصالح -: "يلزمكم في ابتداء التكليف"؛ لكونه نقلًا من عدم الحرج إلى المشقة والتقييد.

"وأيضًا، فقد يكون علم الأصلح" في الأثقل كما يسقمهم بعد الصحة، ويضعفهم بعد القوة".

(1)

اتفق الأصوليون على جواز نسخ الحكم بأخف، أو مساوٍ. واختلفوا في جوازه بأثقل، فالجمهور ذهب إلى جوازه عقلًا ووقوعه شرعًا، ومنع ذلك طائفة منهم الإمام الشافعي رضي الله عنه مفترقين إلى فرقتين: فرقة منعت جوازه عقلًا ووقوعه شرعًا، وفرقة منعت وقوعه شرعًا فقط. ولكل فريق أدلة على صحة مدعاه. ينظر: المعتمد 1/ 416، والمحصول 766، 1/ 3/ 480، والمستصفى 1/ 120، والتبصرة 258، وشرح الكوكب 3/ 550، والعدة 3/ 785، والإحكام للآمدي 3/ 126، وميزان الأصول 2/ 1000، وكشف الأسرار 3/ 187، والتلويح 2/ 36، وفتح الغفار 2/ 134، وإرشاد الفحول (188)، والإبهاج 2/ 238.

ص: 66

قَالُوا: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 28]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة: الآية 185].

قُلْنَا: إِنْ سُلِّمَ عُمُومٌ فَسِيَاقُهَا لِلْمَآلِ فِي تَخْفِيفِ الْحِسَابِ وَتَكْثِيرِ الثَّوَابِ، أَوْ تَسْمِيَةٌ لِلشَّيْءَ بِعَاقِبَتِهِ مِثْلُ:[الوافر]

لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوِا لِلْخَرَابِ

.......................

وَإنْ سُلِّمَ الْفَوْرُ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كَمَا خُصَّتْ ثِقَالُ التَّكَالِيفِ وَالابْتِلاءُ بِاتِّفَاقٍ.

قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [سورة البقرة: الآية 106]، وَالْأَشَقُّ لَيْسَ بِخَيْرٍ لِلْمُكَلَّفِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ بِاعْتبَارِ الثَّوَابِ.

الشرح: "قالوا: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 28]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة: الآية 185] ونحوه - يمنع النسخ بالأثقل.

"قلنا": لا نسلم العموم في كل تخفيف ويسر، "وإن سلم عموم فسياقها للمآل في تخفيف الحساب وتكثير الثواب"، لا في الحال؛ ولأن فعل الأثقل أقرب إلى تخفيف الحساب، وتكثير الثواب، "أو" أن تسمية الأثقل بالأخف "تسمية الشيء بعاقبته مثل" قول الشاعر:[الوافر]

لَهُ مَلَكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ

"لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ"

(1)

فإنه لما كان عاقبة الولادة للموت، والبناء للخراب، جعلهما غاية لهما، تسمية للشيء باسم عاقبته، كذلك عاقبة الأثقل نيل الثواب واليسر ودفع العقاب والعسر.

"وإن سلم الفور" أي: إرادة التَّخفيف واليسر في كلّ شيء يدخل فيه التخفيف، واليسر في الفور، "فمخصوص بما ذكرناه" من الصور المتضمّنة لنسخ الأخف بالأثقل، "كما خصت ثقال التكاليف" المبتدأة "والابتلاء" بالسقم ونحوه "باتفالق" ولو تم لهم هذا

(1)

البيت من الوافر، وهو للإمام علي في ديوانه 38، وخزانة الأدب 9/ 529، 530، وعجزه صدر بيت في ديوان أبي العتاهية 33، والحيوان 3/ 51.

ص: 67

مَسْأَلَةٌ:

الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَبِالْعَكْسِ.

وَنَسْخِهِمَا مَعًا. وَخَالَفَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ

(1)

.

وجب ألَّا يقع تكليف مبتدأ.

قال القاضي: بل يجب على دعواهم أن يسقط الواجب [بغير]

(2)

بدل أصلًا؛ لأنه أخف وأيسر من النسخ ببدل شاق وإن كان دون المرفوع.

"قالوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، والأشق ليس بخير للمكلف".

"وأجيب: بأنه خير باعتبار الثَّواب"؛ فإن الأثقل أكثر ثوابًا على ما قال عليه السلام لعائشة: "إِنَّمَا أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ"

(3)

.

(1)

اعتراف الخلق برحمة الخالق حيث جعل لكل زمان من القوانين ما يناسبه ولكل أمة من الأمم ما يكفل لها سعادتها وراحتها، فبقاء النص ماثلًا بين أعينهم مسلوب الحكم بعد أن كان معمولًا به لأكبر دليل على أنه تولى تربية الأمم، وتدرج بهم إلى الكمال الذي أعده لهم جل شأنه بتغيير الحكم الذي كان يناسب علة متأصلة في الأمة إلى حكم مناسب للدوام والاستقرار، وبذلك يزداد شكرنا، ويقوى امتثالنا للحكم واقتناعنا برحمته، فقد يكون انتقالًا إلى أخف، فنشكر نعمة التخفيف، وقد يكون انتقالًا إلى حكم أشد من الأول، فنشكر نعمة التهذيب لنفوسنا والتعريض للزيادة في مثوبتنا، فمن الأول نسخ عدة المتوفي عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر بعد أن كانت حولًا؛ إذ لو بقيت الآية الأولى معمولًا بها حتى الآن لكان ذلك مكرهًا فضليات النساء على التطوح وراء المآرب الدينئة؛ لأن النساء في الزمن الأول كن قادرات على الانتظار تلك المدة الطويلة، فلما عيل صبرهن بكر الغداة ومر العشى اقتضى النظام العادل أن يخفف ذلك من الطويل الشاق إلى هذا المدة القصيرة السهلة: ونسخ مصابرة الواحد عشرة في القتال بمصابرة اثنين؛ وذلك لقلة عدد المسلمين في صدر الإسلام، فلما تضاعف عددهم وقويت شوكتهم زال ذلك المانع، فخفف الله عليهم "ومن الثاني" تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة في صدر الإسلام، فجاءت الأحكام والآيات تستلها من نفوسهم رويدًا رويدًا حتى استقر أمرها على المنع البات، وفي ذلك من حسن المعاملة وبديع الصنع ما لا يخفى على أحد سوى من أحرم نعمة العقل، فهذي ما هذي، وافترى ما افترى.

(2)

في ب: بعد.

(3)

أخرجه الحاكم (1/ 471)، والدارقطني (2/ 286) من حديث عائشة، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

ص: 68

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فائدة"

لا خلاف في جواز النسخ بالأخف كنسخ العدّة حولًا بالعدّة أربعة أشهر وعشرًا، والمثلِ كاستقبال "بيت المقدس" بالكعبة.

وأما نسخ التخيير بين أمرين يتحتّم أحدهما فهو من الأثقل، وقد مَرّ مثاله.

«مسألة»

الشرح: "الجمهور على جواز نَسْخ التلاوة دون الحكم

(1)

، وبالعكس

(2)

، ونسخهما معًا.

وخالف بعض المعتزلة"

(3)

.

قلت: والخلاف في نسخهما معًا لا يتجه إلا ممن يمنع نسخ القرآن من حيث هو، والمقصود بهذا الخلاف الخاصّ إنما هو نسخ التلاوة دون الحكم والعكس، ويدل عليه قوله بعد ذلك قالوا: التلاوة مع حكمها كالعالميَّة

إلى آخره، فإنه ذكر من جانبهم الاستدلال - على منع أحدهما دون الآخر، لا على منعهما معًا، فدلَّ أنه مقصودهم.

وإنما الأصوليون لما ذكروا نسخ أحدهما دون الآخر دعاهم التَّقسيم إلى ذكر نسخهما معًا، وإن كان لا يخالف فيه أحد ممن يجوز وقوع النَّسْخ في القرآن.

(1)

معناه أن يزال النص الدال على الحكم بصرف الله تعالى القلوب عن حفظه مع بقاء العمل بالحكم.

(2)

ومعناه أن يزال الحكم بنقل العباد منه، ويبقى المنسوخ مقلدًا.

(3)

ينظر: المحصول 1/ 3/ 482، والإحكام للآمدي 3/ 129 (6)، والعدة 3/ 780، والمعتمد 1/ 418، وشرح الكوكب 3/ 553، والمستصفى 1/ 123، وأصول السرخسى 2/ 78، وشرح العضد 2/ 194، وكشف الأسرار 3/ 188، وفواتح الرحموت 2/ 73، وإرشاد الفحول 189.

ص: 69

لَنَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، وَأَيْضًا: الْوُقُوعُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: وَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ، "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ": وَنُسِخَ الاِعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -: رضي الله عنها كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ: "عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٌ"، فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ.

الشرح: "لنا: القطع بالجواز" في الأقسام الثلاثة.

"وأيضًا: الوقوع عن عمر: كان فيما أنزل: "الشَّيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة"

(1)

رواه الشافعي رضي الله عنه من حديث سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه.

واللفظ: "إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل: لا نجد حدّين في كتاب الله، فلقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، فوالذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة؛ فإنا قد قرأناها".

وللترمذي نحوه، وللبخاري ومسلم ما يقرب منه، فهذا مما نسخت تلاوته دون حكمه.

"ونسخ الاعتداد" في الوفاة "بالحول" الثابت بقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [سورة البقرة: الآية 240]، بقوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [سورة البقرة: الآية 234].

ومنسوخ الحكم دون التلاوة أمثلته كثيرة، والقول بأن هذا منها عليه جمهور المفسرين، فروى البُخَاري في الصحيح عن مجاهد: أنها غير منسوخة، وعليه أبو مسلم الأصفهاني، وأبي رحمه الله ولكن تناءت بهم الأنحاء كما حكيت في "التعليق" و"شرح المنهاج".

(1)

أخرجه الشافعي في "مسنده" ص 163 - 164، ومالك في "الموطأ" كتاب الحدود: بارب ما جاء في الرجم (10)(2/ 824)، والترمذي 4/ 38، أبواب الحدود، باب ما جاء في تحقيق الرجم على الثيب من حديث عمر بن الخطاب، وقال الترمذي: حديث عمر حديث حسن صحيح، وقد روى من غير وجه عن عمر.

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وعن عائشة رضي الله عنها " فيما رواه مسلم: "كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات" كذا في الكتاب، ولفظها "معلومات، بدل "محرمات"، "فنسخن بخمس" معلومات، وهذا منسوخ الحكم والتلاوة معًا

(1)

.

(1)

والرضيع أن يصل اللبن إلى جوف الطفل من معدة أو دماغ خمس رضعات متفرقات يقينًا، فإن ارتضع أقل من الخمس لم يثبت التحريم، نعم لو حكم حاكم لم ينقض قوله للخلاف، وكذا لا يثبت التحريم لو شك؛ في كونه رضع خمسًا أو أقل؛ لأن اليقين - وهو عدم التحريم - لا يرتفع بالشك خلافًا للإمام مالك رضي الله عنه حيث قال: يثبت بالشك احتياطًا.

وكون التحريم لا يثبت إلا بخمس رضعات، هو مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه وبه قال من الصحابة سيدنا عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن مسعود، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومن الفقهاء أحمد، وإسحاق، وحكاه ابن القيم عن الليث بن سعد، رضوان الله - تعالى - عليهم أجمعين.

وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أن التحريم يثبت برضعة واحدة، وبه قال من الصحابة سيدنا علي - كرم الله وجهه - وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، ومن الفقهاء مالك، والأوزاعي، والثوري - رضي الله تعالى عنهم -.

وذهب داود الظاهري: إلى أنه يثبت التحريم بثلاث رضعات. وبه قال من الصحابة سيدنا زيد بن ثابت، ومن الفقهاء أبو ثور رضي الله عنهم.

احتج إِمَامُنَا الشَّافِعِيّ، ومن وافقه بما رواه الإمام مسلم - رضي الله تعالى عنه - قال: حَدَّثنَا يَحْيَى بنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِل مِنَ الْقُرْآنِ عَشرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يحرمن، ثُمَّ نسخن بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ فِيمَا يقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ" وقد روى هذا الحديث أبو داود والنَّسَائي، والترمذي، وابن ماجة، وذكره الشافعي في مسنده فقال:

"أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ صُيِّرْنَ إِلَى خَمْسِ يُحَرِّمْنَ، فَكَانَ لا يَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ إلَّا مَنِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ".

فهذه الرواية صريحة في إناطة التحريم بخمس رضعات، وأنها ناسخة لغيرها، وأن الأمر قد استقر على ذلك. فلو لم تكن هي مناط الحكم لما كانت ناسخة لغيرها، لكن التالي، وهو عدم كونها ناسخة لغيرها باطل، فبطلَ ما أدى إليه وهو عدم كونها مناط الحكم، فثبت نقيضه، وهو أنها مناطة وهو المطلوب، الملازمة ظاهرة؛ إذ لو نيط الحكم بغيرها، لكان هو الناسخ =

ص: 71

وَالْأَشْبَهُ: جَوَازُ مَسِّ المُحْدِثِ لِلْمَنْسُوخِ لَفْظُهُ.

قَالُوا: التِّلاوَةُ مَعَ حُكْمِهَا كَالْعِلْمِ مَعَ الْعَالِمِيَّةِ وَالْمَنْطُوقِ مَعَ الْمَفْهُومِ، فَلا يَنْفَكَّانِ.

وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْعَالِمِيَّةِ وَالْمَفْهُومِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالتِّلاوَةُ أَمَارَةُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لا دَوَامًا فَإِذَا نُسِخ لَمْ يَنْتَفِ الْمَدْلُول، وَكَذلِكَ الْعَكْسُ.

قَالُوا: بَقَاءُ التِّلاوَةِ يُوهِمُ بَقَاءَ الْحُكْمِ، فَيُوقِعُ فِي الْجَهْلِ.

وَأَيْضًا، فَتَزُولُ فَائِدَةُ الْقُرْآنِ.

قُلْنَا: مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلا جَهْلَ مَعَ الدَّلِيلِ؛ لأِنَّ الْمُجْتَهِدَ يَعْلَمُ وَالْمُقَلِّدَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَفَائِدَتُهُ كَوْنُهُ مُعْجِزًا وَقُرْآنًا يُتْلَى.

الشرح: "والأشبه"، وهو أصح الوجهين عند أصحاب الشَّافعي:"جواز مسّ المحدث للمنسوخ لفظه"؛ خلافًا للآمدي.

قال أصحابنا: ولذلك تبطل الصَّلاة بذكره فيها.

وذكر الرَّافعي في أول باب حد الزنا: أن القاضي ابن كَجّ حكى وجهًا أنه لو قرأ قارئ آية الرجم في الصَّلاة لم تفسد.

= للعشر دونها. أما بطلان التالي الذي هو عدم كونها ناسخة؛ فلمخالفته لصريح النص، وهو "ثُمَّ نسخنَ بخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ" ويؤيد هذا المذهب، أنه لا يخالف ما دل على ربطه بغير الخمس من القليل والكثير، بل يكون تقييدًا له لا ناسخًا، بخلاف القول بالتحريم بالقليل والكثير، فإنه يخالف ما دل على نفي التحريم بالرضعة والرضعتين، وبخلاف القول بالتحريم بالثلاث؛ فإنه يخالف ما دل على الإناطة بالخمس، دون ما كان أقل منها.

واحتج النافي للعدد - وهم الحنفية والمالكية - بالكتاب، والسنة، والقياس.

أما الكتاب، فقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ومن أرضعت مرة واحدة يطلق على فعلها هذا الاسم "الرضاعة".

ويقال لها: أم أرضعت، فتدخل في عموم الآية، وبهذا احتج ابن عمر على ابن الزبير حين قال: لا تحريم إلا بخمس رضعات.

فقال: كتاب الله أولى من قضاء ابن الزبير.=

ص: 72

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما المنسوخ حكمه دون لفظه، فله حكم ما لم ينسخ بإجماع المسلمين.

والمانعون من جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس "قالوا" أولًا: "التلاوة مع حكمها كالعلم مع العالميَّة والمنطوق مع المفهوم" من حيث إن أحدهما لا يتحقق بدون الآخر، فكذلك الحكم مع التلاوة، "فلا ينفكان".

"وأجيب: بمنع" ثبوت "العالمية والمفهوم"؛ إذ لا نسلّم أن العالمية مغايرة لقيام العلم بالذّوات، ولا الملازمة بين المنطوق والمفهوم ليصحّ التمثيل، وإنما منعناه؛ لأنه فرع ثبوت الأحوال، ولسنا ممن يثبت الأحوال.

"ولو سلم" التغاير والتلازم؛ "فالتلاوة أمارةُ الحكم ابتداء، لا دوامًا" أي: يدل ثبوت التلاوة على ثبوت الحكم، ولا يدل دوامه، فلا يلزم من انتفاء الأمارة في طرف الدوام انتفاء ما دلَّت عليه، "فإذا نسخ" كونه يتلى "لم ينتف المدلول".

"وكذلك العكس"، ولا يلزم من انتفاء الحكم لأمارة تدلّ عليه انتفاء تلك الأمارة لدالة عليه.

والحاصل: أنه إذا نسخت التلاوة وَحْدَها فهو نسخ لدوامها، ودوامها ليس هو الدَّليل، وإذا نسخ الحكم وحده فهو نَسْخ للدوام، وهو غير مَدْلُول، فلا يلزم انفكاك الدَّليل

= وأما السنة: فمنها قوله صلى الله عليه وسلم "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاع مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" فأطلق ولم يقيد بعدد.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم "الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ" ولا شكَ أن الرضعة الواحدة تسد الجوعة.

ومنها: ما ثبت في الصحيحين عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. قال: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عني، قال: فتنحيت، فذكرت ذلك له، فقال: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتكُمَا" فنهاه عنها، رواه أحمد، والبخاري، وفي رواية "دَعْهَا عَنْكَ"، فلو لم يكن مطلق الرضاع محرمًا لسأله عن العدد، ولكنه قد أمره بتركها بادئ الأمر.

وأما القياس: فأفراده كثيرة. فمنها: قياسه على الوطء بشبهة وعقد النكاح بجامع أن كلًا يفيد التحريم المؤبد، فيعطي حكمه من عدم اعتبار العدد؛ ومنها: القياس على الإفطار في رمضان بجامع الوصول إلى الجوف، فيعطي حكمه؛ ومنها: القياس على حد الخمر بجامع أن كلًا متعلق بالشرب، فلا يناط بالعدد.

ص: 73

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ: جَوَازُ نَسْخِ التَّكْلِيفِ بِالْإِخْبَارِ بِنَقِيضِهِ

؛ خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.

والمدلول، بخلاف العالمية مع العلم، والمنطوق مع المفهوم إن ثبتا؛ لتلازمهما ابتداءً ودوامًا.

"قالوا" على منع نسخ الحكم دون التِّلاوة "بقاء التلاوة: يوهم بقاء الحكم، فيوقع في الجهل".

"وأيضًا [فتزول]

(1)

فائدة القرآن"؛ لأن فائدة اللفظ إفادة مدلوله، فإذا لم يقصد به بطلت فائدته، ويجب تنزيه القرآن عن كلام لا فائدة فيه.

"قلنا" أولًا: هذا "مبني على" أصل "التحسين" والتقبيح الباطل، "ولو سلم" فلا يتم قولك أولًا: فيه إيقاع في الجهل.

قلنا: "لا جهل مع الدَّليل؛ لأن المجتهد" عند نصب الدَّليل "يعلم" أنه منسوخ الحكم، "والمقلّد يرجع إليه" فانتفى الجهل.

قولك ثانيًا: تزول الفائدة.

قلنا: لا نسلّم، وإنما يلزم لو انحصرت الفائدة فيما ذكرت، وهو ممنوع، ففائدته أيضًا كونه كان أولًا مرادًا به المدلول، فليس كما يذكر لفظ ابتداء ولا يراد مدلوله، "وفائدته" أيضًا "كونه معجزًا وقرآنًا يتلى".

«مسألة»

الشرح: "المختار جواز نسخ التكليف بالإخبار"

(2)

بشيء بأن يقول: نسخت عنك تكليفي إياك بأن تخبر بالأمر الفلاني، ثم إما ألَّا يكلف بالإخبار بنقيض ما كان كلف به، بل ينسخ التكليف الماضي فقط، فهذا جائز بلا خلاف، سواء أكان المخبر عنه مما يتغير أم لا.

(1)

في ج: نزول.

(2)

ينظر: المعتمد 1/ 421، والإحكام للآمدي 3/ 131 - 132، وجمع الجوامع 2/ 85 - 86، والآيات البينات 3/ 154، وشرح الكوكب 3/ 541 - 542، وتيسير التحرير 3/ 196، وفواتح الرحموت 2/ 75.

ص: 74

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإما أن يكلف مع ذلك بالإخبار "بنقيضه".

فإن كان مما يتغير كما إذا قال: كلفتكم بأن تخبروا بقيام زيد، ثم يقول: كلفتكم بأن تخبروا بأن زيدًا ليس بقائم، فلا خلاف أيضًا في جوازه؛ لاحتمال كونه قائمًا وقت الإخبار بقيامه غير قائم وقت الإخبار بعدم قيامه.

وإن كان مما لا يتغيّر ككون السماء فوق الأرض مثلًا، فهو محلّ الخلاف.

ومذهبنا: الجواز؛ "خلافًا للمعتزلة".

واحتج لهم الآمدي بأنه كذب، والتكليف به قبيح، ثم قال: وهذا مبني على قاعدة الحُسْن والقُبْح الباطلة عندنا، وعلى هذا فلا مانع من التكليف بالخبر بنقيض الحق. انتهى.

فإن قلت: الكذب نقص، ونحن نوافق المعتزلة على أن قبحه عقلي؛ فينبغي لنا المنع من ذلك أيضًا.

قلت: قد لا يكون نقصًا؛ لتعلّق غرض به، وعلى تقدير كونه نقصًا، فإنما هو نقص في حق الكاذب، وهو المكلَّف بفتح اللام - وهو المخبر لا المكلّف بكسرها - وهو الله تعالى المكلف بالإخبار، ويجوز التكليف عندنا بما هو نقص في حقّ العبد لا سيما إذا تعلّق به غرض يصير به من حيث ذلك الغرض حسنًا.

بل لقائل أن يقول: لا التفات لهذا على قاعدة التَّحْسِين والتقبيح، بل ينبغي القول به على أصلنا وأصلهم.

أما على أصلنا فواضح.

وأما على أصلهم؛ فلأنه قد يتعلّق به قصد صحيح، فلا يكون نقصًا في حقّ المكلف ولا المكلف، وقد ذكر الفقهاء أماكن يجب الكذب فيها لتعلّق غرض شرعي به.

فلو قال متغلّب لضعيف: اكذب كذبة خفيفة، وإلَّا ضربت عنقك، وجب عليه [أن]

(1)

يقترحها، وما أظن المعتزلة يخالفون في ذلك.

وفي مذهبنا وجه أنه يجب التلفُّظ بكلمة الكفر عند الإكراه

(2)

عليها، ولا خلاف أنه

(1)

سقط في أ، ب، ت.

(2)

الإكراه: "هو إجبار أحد على أن يعمل عملًا بغير حق من دون رضاه بالإضافة، ويقال له، =

ص: 75

وَأَمَّا نَسْخُ مَدْلُولِ خَبَرٍ لا يَتَغَيَّر، فَبَاطِلٌ، وَالْمُتَغَيِّرُ كَإِيمَانِ زَيْدٍ، وَكُفْرِهِ مِثْلُهُ؛ خِلافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَاسْتِدْلالُهُمْ بِمِثْلِ:"أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِصَوْمِ كَذَا" ثُمَّ يُنْسَخُ بِرَفْعِ الخِلافِ.

يجب على المودع إذا طالبه ظالم بالوديعة أن يدفعه بالإنكار والإخفاء ما أمكنه، وإذا أنكر وحُلِّف جاز له أن يحلف، ثم تلزمه الكفَّارة على المذهب؛ لأنه كاذب، والكفَّارة منوطة بالكَذِبِ، فلا فرق بين أن يحنث أو لا، وكذلك من التَجَأ إليه مظلوم فَخَبَّأه في داره، وغير ذلك مما خاطب الله به عباده فيه بنقيض الصدق لتعلّق غرض صحيح، وهو حسن في قضايا العقول، فلا ينبغي لذوي الاعتزال إنكاره، هذا في نسخ التكليف بالإخبار.

الشرح: "وأما نسخ مدلول خبر" وثمرته، وهي المسألة الملقّبة بـ "نسخ الأخباري" بين الأصوليين

(1)

.

= المكره، ويقال لمن أجبر: مجبر، ولذلك العمل: مكره عليه، وللشيء الموجب للخوف: مكره به". ينظر قواعد الفقه ص 188.

(1)

من هنا أحب أن أتطرق لموضوع النسخ، فمنهم من ذهب إلى أن النسخ كما يكون في الأوامر والنواهي يكون في الأخبار، وينسب لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والسدى حيث قالا: "قد يدخل النسخ على الأمر والنهي وعلى جميع الأخبار، ولم يفصلا، وتابعهما على هذا القول جماعة.

قال أبو جعفر: "وهذا القول عظيم جدًّا يؤول إلى الكفر"؛ لأن قائلًا لو قال: "قام فلان" ثم قال: "لم يقم" ثم قال "نسخته""لكان كاذبًا".

وبعضهم ذهب إلى أن أمر الناسخ والمنسوخ موكول إلى الإمام، فله أن ينسخ ما شاء. وهذا القول أعظم؛ لأن النسخ لم يكن إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي من الله تعالى، إما بقرآن مثله على قول قوم، وإما بوحي من غير القرآن؛ فلما ارتفع هذا بموت النبيّ صلى الله عليه وسلم ارتفع النسخ.

ومنهم من ذهب إلى أن النسخ يكون في الأوامر والنواهي، وأما الأخبار فيفصل فيها بين ما فيه حكم فيجوز النسخ فيه، وبين ما لا حكم فيه فلا يجوز.

ومنهم من ذهب إلى أن النسخ يكون في الأوامر والنواهي خاصة.

وهذا المذهب حكاه هبة الله بن سلامة عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة بن عمار.

وهناك مذهب خامس عليه أئمة العلماء، وهو أن النسخ إنما يكون في المتعبدات؛ لأن لله عز وجل أن يتعبد خلقه بما شاء إلى أي وقت شاء ثم يتعبدهم بغير ذلك، فيكون من النسخ في الأوامر والنواهي وما كان في معناهما مثل قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً=

ص: 76

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإن كان مدلوله "لا يتغير فباطل" بالإجماع.

"والمتغير كإيمان زيد، وكفره مثله"، سواء أكان الخبر ماضيًا، أم مستقبلًا، وعدًا أم وعيدًا وفاقًا لأكثر المتقدمين.

وقال عبد الجبار، وأبو الحسين، والإمام الرازي، والآمدي: يجوز مطلقًا.

وقال قوم: إن كان مدلوله مستقبلًا جاز، وإلَّا فلا، واختاره البيضاوي في "منهاجه".

"واستدلالهم" أي: واستدلال المجوزين لنسخ مدلول الخبر، "مثل" أن يقول:"أنتم مأمورون بكذا، كصوم" رمضان مثلًا، "ثم ينسخ" حيث يجوز اتفاقًا "برفع الخلاف" بيننا وبينهم من حيث المعنى؛ لأنه نسخ لوجوب صوم رمضان، فليس بخبر، بل هو أمر أخبر عنه.

وأما مدلول الخبر، وهو وقوع الأمر فلم ينسخ، وإلى هذا أشار في "المنتهى" حيث قال: قالوا: إذا قال: أنتم مأمورون بصوم كل رمضان، جاز نسخه.

قلنا: لأنه بمعنى: "صوموا" فليس بخبر.

ثم قال: قالوا ثانيًا: لو قال: إنما يفعل كذا أبدًا، ثم قالا: أردت عشرين، جاز.

قلنا: تخصيص مَحْض باتقاق.

ولم يذكر هنا في "المختصر" دليل المنع، وذكره في "المختصر الكبير"، فقال: إن كان معنى الخبر بنصّ أو علم القصد إليه، فالخبر الثاني نفيضه، وهو باطل، وإن كان بظاهر، فالثاني تخصيص. يعني وليس بنسخ، والخلاف إنما هو في النسخ، فلا خلاف في المعنى.

واعلم أن القاضي في "التقريب" بنى الخلاف في المسألة على أن النسخ رفع أو بيان.

فإن قلنا: رفع، لم يجز نسخ الخبر قطعًا؛ لأن الخبر إن كان صادقًا كان الناسخ الرافع لبعض مدلوله كاذبًا، ضرورة أنه صدق، وإلا فهو كاذب.

= وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} وقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} فالأول مثال للخبر الذي بمعنى النهي؛ لأن المعنى؛ لا تنكحوا زانية ولا مشركة، والثانية مثال للخبر الذي بمعنى الأمر؛ لأن المعنى "ازرعوا" وهذا المذهب عزى إلى الضحاك بن مزاحم.

ص: 77

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإن قلنا: بيان للمراد اتَّجَهَ أن يقال: الخطاب - حينئذٍ - وإن دلَّ على ثبوت الأزمنة كلّها ظاهرًا، لكنه غير مراد من اللَّفظ، فلم يفض نسخ الخبر حينئذٍ إلى كذب.

ومَدَار الخلاف على أنه: هل يفضى إلى الكذب، فيمتنع، أو لا فلا؟

"فوائد"

الأولى: قد يقول من يجوِّز نسخ المستقبل دون الماضي: إن الكذب لا يتعلق بالمستقبل.

فإن قلت: وهل يقول أحد: إن الكذب يختصّ بالماضي؟

قلت: نعم، وهو المفهوم عن الشَّافعي رضي الله عنه ومن أجله قال: إنه لا يجب الوفاء بالوعد، وضعف سؤال من قال لصاحبه: غدًا أعطيك درهمًا، ثم لم يفعل كان كاذبًا؛ والكذب حرام، فكيف لا يوجبون الوفاء بالوعد؟ فقال: إنه والحالة هذه حاكم على أمر مستقبل، ولا كذب فيه، والوعد إنشاء لا خبر، وإنما يسمى من لم يَفِ بالوعد مخلفًا لا كاذبًا.

ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في صفة المُنَافق: "إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أَخلَفَ".

فسمَّاه: مخلفًا لا كاذبًا، ولو كان الإخلاف كذبًا دخل تحت عموم "إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ".

وقد صرح أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي

(1)

في كتاب "الأذكار" بأن الإخبار بضد الصدق إذا كان مستقبلًا يقال فيه: أخلف، ولا يقال: كذب.

قلت: وقد يقول القائل إذا لم يدخله الكذب: لا يكون خبرًا؛ لأن الخبر ما يقبل الصِّدق والكذب، وإذا لم يكن خبرًا خرجنا عن مسألة نسخ الأخبار.

(1)

عبد الرحمن بن إسحاق، النهاوندي، الزجاجي، أبو القاسم، ولد في "نهاوند". شيخ العربية في عصره، نشأ في "بغداد" وسكن "دمشق". نسبته إلى أبي إسحاق الزجاج. من كتبه:"الجمل الكبرى" و"الإيضاح في علل النحو "و"الزاهر" و"الأمالي" و"مجالس العلماء" وغيرها. - توفي بـ"طبرية"(من بلاد الشام) سنة 337 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 1/ 278، وبغية الوعاة (297)، والأعلام 3/ 299.

ص: 78

‌مَسْألَةٌ:

يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ،

كالعِدَّتَيْنِ، وَالْمُتَوَاتِر بالْمُتَوَاتِرِ وَالآحَادِ بِالآحَادِ، وَالآحَادِ بِالمُتَوَاتِرِ، وَأَمَّا نَسْخُ المُتَوَاتِرِ بِالآحَادِ فَنَفَاهُ الأَكْثَرُونَ، بِخَلافَ تَخْصَيصِ الْعَامِّ كمَا تَقَدَّمَ.

لنَا: قَاطِعٌ فَلا يُقَابِلُهُ الْمَظْنُونُ.

والظَّاهر عندنا: أن الخبر قد يتعلّق بالمستقبل كما يقول: سيخرج الدَّجَّال، ويصح فيه التصديق والتكذيب، والوعد إنشاء لا خبر؛ فليس مما نحن فيه.

والثَّانية: كلّ ما تقدم فيما هو خبر لفظًا ومعنى، أما ما هو خبر لفظًا لا معنى مثل:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ} [سورة البقرة: الآية 228]، فنسخه جائز في قول الأكثرين؛ فإنه ليس إلَّا صيغة الخبر استعملت على وجه التجوز في الأمر.

وخالف فيه أبو بكر الدَّقَّاق من أصحابنا، كما نقل ابن السَّمْعَاني، ولا وجه له.

الثالثة: نسخ الوعيد جائز، وممن صرح به من أصحابنا ابن السَّمْعَاني قال: ولا يعد ذلك خلفًا، بل عفوًا وكرمًا.

قلت: ونسخ الوعد لا يفضي إلى الكذب كما عرفت؛ لأنه إنشاء، ولكنه لا يقع؛ لأنه إخلاف في الإنعام، وهو على الرب - تعالى - مستحيل.

قال الأصمعي: سمعت أعرابيًّا يقول: سبحان مَنْ إذا وعد وفى، وإذا توعّد عفا.

«مسألة»

الشرح: ذكروا أنه يمتنع نسخ كلّ القرآن إجماعًا.

وأما نسخ بعضه فنقل عن أبي مسلم الأصفهاني منعه.

وقد عرفت أنه نقل عنه أيضًا منع النسخ رأسًا.

والحق أنه "يجوز نَسْخ القرآن بالقرآن كالعدتين"

(1)

وقد تقدّم الكلام عليها، "والمتواتر

(1)

اتفق القائلون بالنسخ على امتناع نسخ جميع القرآن؛ لأنه معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم المستمرة على التأييد؛ ولأن فيه الأخبار والقصص والأحكام التي لا يقبل حسنها أو قبحها السقوط. ينظر: =

ص: 79

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالمتواتر، والآحاد بالآحاد، والآحاد بالمتواتر.

وأما‌

‌ نَسْخُ المتواتر بالآحاد،

فنفاه الآكثرون، بخلاف تخصيص العام" المتواتر بالآحاد، فإنه جائز "كما تقدّم"

(1)

.

والفرق أن التخصيص بيان وجَمْعٌ بين الدليلين، والنسخ رفع وإبطال.

وظاهر كلام المصنّف أن الأكثرين نفوا الجواز وليس كذلك، بل إنما أنكروا الوقوع، ولم ينكر الجواز إلَّا الأقلون.

"لنا": المتواتر "قاطع، فلا يقابله المظنون"، وهو الآحاد.

ولقائل أن يقول: أولًا: هذا لو تم نفى [بقاء]

(2)

الجواز العقلي، وقد قلنا: إنْ الأكثرين عليه، وإنما ادعوا نفى الوقوع.

= البحر المحيط للزركشي 4/ 118، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 133، ونهاية السول للأسنوي 2/ 579، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 251، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 88، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 21، والمنخول للغزالي 292، والمستصفى له 1/ 124، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 3/ 139، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 111، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 390، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 4/ 505، والتحرير لابن الهمام 387، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 200، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 195، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 36، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 1005.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 109، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 1307، وسلاسل الذهب للزركشي 302، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 139، ونهاية السول للأسنوي 2/ 578، ومنهاج العقول للبدخشي 2/ 252، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 88، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 23، والمنخول للغزالي 292، والمستصفى له 1/ 124، والآيات والبينات لابن قاسم العبادي 3/ 139، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 111، والمعتمد لأبي الحسين 1/ 392، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 418، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/ 505، والتحرير لابن الهمام 388، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 36، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 1006، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 60.

(2)

سقط في ج.

ص: 80

قَالُوا: وَقَعَ فَإنَّ أَهْلَ قُبَاءَ سَمِعُوا مُنَادِيَهُ صلى الله عليه وسلم ألا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَاسْتَدَارُوا" وَلَمْ يُنكَرْ عَلَيْهِمْ. أُجِيبَ: عَلِمُوا بِالْقَرَائِنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

قَالُوا: كَانَ يُرْسِلُ الآحَادَ بِتَبْلِيغِ الأَحْكَامِ مُبْتَدَأَةً وَنَاسِخَةً.

وَأُجِيبَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا ذَكَرْنَاه، فَيُعْلَمُ بِالْقَرَائِنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

وثانيًا: أنه لا يتم؛ لأن المتواتر مظنون الدلالة بخلاف الآحاد؛ فتعادلا.

لا يقال حينئذ: يتعين أن يكون الآحاد مخصصًا، ولا خلاف فيه؛ لأن ذلك إنما يتعيّن إذا ورد قبل العمل بالعام المتواتر.

أما إذا ورد بعد العمل به، فيكون ناسخًا.

وأيضًا قال القاضي:. لا نسلّم أن المقطوع لا يدفع بالمَظْنُون قال: ألا ترى أن انتفاء الأحكام قبل ورود الشرائع مقطوع به عندنا، وثبوت الحظر أو الإباحة مقطوع به عند آخرين، ثم خبر الآحاد يرفع ذلك باتفاق؟.

وأيضًا فإنا مهما جَوَّزنا نسخ النص بخبر الواحد، فلا نسلّم مع ورود كون النَّص مقطوعًا به ذكره القاضي أيضًا.

ومراده: أن المقطوع به إنما هو أصل الحكم، لا دوامه، والنَّسْخ يرد على دوامه لا على أصله، وهو حسن.

فالحَق إثبات الجواز، وأما الوقوع، فقد أعلمناك أن الأكثرين نفوه، وخالف جماعة من أهل الظاهر.

وفصل القاضي والغَزَالي، فقالا بوقوعه في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم دون ما بعده.

ونقل القاضي إجماع الأمة على منعه بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإنما اختلفوا في زمانه.

وقال إمام الحرمين: أجمع العلماء على أن الثَّابت قطعًا لا ينسخه مظنون، ولم يتعرّض لزمان الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وعندي أن الفارق أن الأحكام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في معرض التغير بخلاف ما بعده؛

(1)

ينظر: البرهان 2/ 1311 (1147).

ص: 81

قَالُوا: {قُلْ لَا أَجِدُ} [سورة الأنعام: الآية 144] نُسِخَ بِنَهْيِهِ عَنْ [أَكلِ]"كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ"، فَالَخَبَرُ أَجْدَرُ.

أُجِيبَ: إِمَّا بِمَنْعِهِ، وَإمَّا بِأنَ الْمَعْنَى: لا أَجِدُ الآنَ. وَتَحْرِيمُ حَلالِ الأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَيَتَعَيَّنُ النَّاسِخُ بِعِلْمِ تَأَخُّرِهِ أَوْ بِقَوْلِهِ عليه السلام: هَذَا نَاسِخٌ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِثْلُ: "كنْتُ نَهيْتُكُمْ"، أوْ بِالإجْمَاعِ، وَلا يَثْبُتُ بِتَعْيِينِ الصَّحَابِيِّ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ عَنِ اجْتِهَادِ، وَفِي تَعْيِينِ أَحَدِ المُتَوَاتِرَيْنِ نَظَرٌ.

لاستقرار الأحكام، فكان لا قطع في زمانه، وبهذا يصح نقل الإمام الإجماع، وحكاية من حكى الخلاف، فإن من قال بالنَّسْخِ في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم يمنع القطع.

الشرح: والمجّوزون "قالوا: وقع فإن أهل "قباء" سمعوا مناديه صلى الله عليه وسلم، وهو آحاد: "أَلا إِنَّ القِبْلَةَ قد حُوِّلَتْ" فاستداروا، ولم ينكر عليهم".

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما الناس بـ "قباء" في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القِبْلَة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى "الشام" فاستداروا إلى "الكعبة" رواه البخاري ومسلم.

"أجيب: علموا" ذلك "بالقرائن نما ذكرناه" فيما مضى من أن خبر الواحد إذا انضمت إليه القرائن أفاد العلم.

"قالوا: كان صلى الله عليه وسلم يرسل الآحاد بتبليغ الأحكام مبتدأة وناسخة" من غير فرق بينهما، والمبعوث إليهم متعبّدون بتلك الأحكام، وربّما كان في الأحكام ما ينسخ متواترًا؛ لأنهم لم ينقلوا الفرق، وهو دليلُ جواز نسخ المتواتر بالآحاد.

"أجيب": بتسليم الإرسال والقول "إلّا أن يكون الخبر مما ذكرناه" وهو كونه ناسخًا للمتواتر، "فيعلم بالقرائن؛ لما ذكرناه" من أن المظنون لا يقابل القاطع، فلم يقبل الواحد بمجرّده من نسخ المتواتر.

الشرح: "قالوا" ثالثًا: قوله تعالى: " {قُلْ لَا أَجِدُ" فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ

} [سورة الأنعام: الآية 145]"نسخ بنهيه" صلى الله عليه وسلم الثابت في الكتب السّتة من حديث أبي ثعلبة "عن أكل كلّ ذي ناب من السِّبَاع، وهو خبر واحد، فإذا نسخ به القرآن، "فالخبر" المتواتر"أجدر".

"وأجيب: إما بمنعه" أي بمنع النَّسْخ في الآية، "وإما بأن المعنى لا أَجِدُ الآنَ"،

ص: 82

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والتحريم في المستقبل لا ينافيه حتى يلزم النَّسْخ به، غايته أن عدم التحريم يثبت بالآية، ولازم عدم التَّحريم بقاء البَرَاءة الأصلية لا ثبوت الإباحة الشرعية، والبراءة هي المرفوعة بالحديث، فالحديث محرم لحلال الأصل، "وتحريم حلال الأصل ليس بنسخ"؛ لأنه لم يرفع حكمًا شرعيًّا.

وحيث ذكرنا ما ينسخ به، فلنذكر ما يعرف به كون الحكم ناسخًا، وإليه الإشارة بقوله:"ويتعيّن الناسخ بعلم تأخره" عن المنسوخ.

"أو بقوله صلى الله عليه وسلم: هذا ناسخ أو ما في معناه"، أي: معنى هذا ناسخ "مثل" ما روى مسلم

في "الصحيح" من قوله صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ" عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا"

(1)

.

"وبالإجماع" على أنه ناسخ، وهذه الطرق الصحيحة في معرفة الناسخ.

ولقائل أن يقول: علم التأخير يشمل الأقسام التي يعرف بها النَّاسخ كلها؛ لأن كل ناسخ فهو معلوم التأخير.

فصواب العبارة أن يقال: يتعيّن الناسخ بعلم تأخّره، وله طرق: قوله عليه السلام: هذا ناسخ، أو ما في معناه، والإجماع.

"ولا يثبت بتعيين الصحابي؛ إذ قد يكون عن اجتهاد".

(1)

أخرجه مسلم 2/ 672 في كتاب الجنائز: باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه، حديث (106/ 977)، وأخرجه في الأضاحي (37/ 1977)، وأخرجه النسائي في المجتبي من السنن 11/ 310، 311 في باب الإذن في شيء منها (5651، 5652، 5653) وأخرجه ابن ماجة 1/ 501 في كتاب الجنائز: باب ما جاء في زيارة القبور، حديث (1571)، وقال البوصيري في "الزوائد": إسناده حسن، وأحمد في المسند 4/ 441، وأخرجه الترمذي بلفظ:"قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها؛ فإنها تذكركم بالآخرة" 3/ 370 في الجنائز: باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور، حديث (1054) وقال أبو عيسى: حديث بريدة حديث حسن صحيح. والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون بزيارة القبور بأسًا، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 76 في الجنائز، باب زيارة القبور، وفي 8/ 311، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 342، 344، وانظر: تلخيص الحبير 2/ 137.

ص: 83

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل: يثبت به.

وقال الكرخي: إن عين الناسخ كقوله: هذا نسخ هذا، فلا يقبل [كذلك]

(1)

، وإلا قُبِلَ؛ لأنه لولا ظهور النَّسخ فيه ما أطلق النسخ إطلاقًا.

قال الإمام الرَّازي: هو ضعيف، فلعله أطلق لغلبة ظنّه.

"وفي تعيين أحد المتواترين" لكونه ناسخًا للآخر بقول الصَّحابي "نظر" من حيث إنه نسخ للمتواتر بالآحاد، وبالمتواتر، والآحاد دليل كونه ناسخًا.

وما لم يغتفر ابتداء قد يغتفر تبعًا، كما يقبل الشَّاهدان في الإحصان، وإن رتب الرجم دون الزِّنَا، والنساء في الولادة دون النَّسب، وإن ترتب النسب.

وإذا قطعت يد المحرم لا فِدْيَة عليه للشعر الذي عليها والظّفر؛ لكونهما تابعين، وكذا لو كشط جلد الرأس فلا فدية.

ولو كان تحته امرأتان صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة، بطل النِّكَاح، ووجب المَهْر، ولو قتلها لم يجب المهر؛ لأن البُضْعَ عند القتل تابع غير مقصود.

والشُّفْعَة لا تثبت في الأشجار والأبنية بطرق الأصالة، وتثبت تبعًا للأرض إذا بيعت معها وهو كثير

(2)

.

(1)

في ب، ج: لذلك.

(2)

وهو الشقص المأخوذ، ويشترط فيه:

أولًا: أن يكون أرضًا، سواءً أبيعت وحدها أم بيعت مع ما يتبعها في مطلق البيع، كالبناء وتوابعه الداخلة في مطلق البيع؛ من الأبواب المنصوبة، والرفوف المسمرة، ومفتاح غلق مثبت، وحجري الطاحونة، أمّا الأسفل فلأنه ثابت، وأما الأعلى فبالتبع، وهكذا من كل منفصل توقف عليه نفع متصل كالهوديا، والجازية، والأشجار، وإن نص على دخولها؛ لأن التنصيص عليها لا يخرجها من التبعية عند الإطلاق؛ لخبر مسلم "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط".

والربعة: تأنيث الربع، والحائط هو الدار ومطلق الأرض، والحائط البستان، وأصول البقل التي تبقى سنتين فأكثر، وتجز مرارًا كالقت، والهندبا، وهو التبل، والنعناع؛ أو تؤخذ ثمرته مرة بعد أخرى كالشجر، والثمرة الظاهرة، وكذا الجزة الظاهرة عند البيع للبائع، سواء بلغ ما=

ص: 84

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال القاضي في "مختصر التقريب" لإمام الحرمين: لو قال: هذا الحديث سابق قبل؛ إذ لا مدخل للاجتهاد فيه، قال: والضابط ألَّا يكون ناقلًا، فيطالب بالحِجَاجِ.

وأما إذا كان ناقلًا فيقبل.

= ظهر أوان الجز أم لا، ولا يدخل في بيع الأرض ما يؤخذ دفعة واحدة كالشعير، وسائر الزروع، كالجزر والفجل والثوم والبصل؛ لأنه ليس للدوام والثبات، ويشترط في الشجر أن يكون رطبًا يقصد به الدوام، فلو كان شتلًا يقصد نقله لم تثبت فيه.

وشرط التبعية في البناء والشجر، أن يباعا مع ما حولهما من الأرض؛ فلو باع شقصًا من جدار وأسه لا غير، أو من أشجار ومغارسها لا غير، فلا شفعة؛ لأن الأرض هنا تابعة من حيث الغرض للمشتري، وليس المراد أنه باع الجدار، ودخلت الأرض تبعًا؛ لأنها لا تدخل إلا بالنص عليها، والأس: الأرض الحامل للبناء، والمغرس: الأرض الحاملة للشجر، ومحله حيث صرح بدخول الأساس، ودخول المغرس في البيع، وكانا مرئيين قبل ذلك، فإنه إذا لم يرهما وصرح بدخولهما، لم يصح البيع في الأصح، وما ذكروه في البيع من أنه لو قال:"بعتك الجدار وأساسه"، أنه يصح البيع، وإن لم ير الأساس، محمول على الأساس الذي هو بعض الجدار، أي الجزء الذي في الأرض من الجدار، وأمّا الأساس الذي هو مكان البناء فعين منفصلة، لا تدخل في البيع عند الإطلاق، فإذا صرح به اشترط فيه شروط البيع.

فإن كان الأساس والمغرس عريضين، بحيث يمكن جعل أس آخر أو شجرة أخرى فيه، ثبتت فيه الشفعة؛ لوجود الأرض التي تستتبع حينئذ مع إمكان القسمة، ولا شفعة في شجر أفرد بالبيع، ولو بتفصيل الثمن، كأن قال:"بعتك الأرض بكذا، والشجر بكذا".

ولو باع أرضًا عليها شجر جاف شرط دخوله في بيع الأرض لا تثبت فيه الشفعة؛ لانتفاء التبعية؛ لأنه لا يدخل في البيع عند الإطلاق، بل بالشرط، فلو أراد الشفيع أخذه قومت عليه الأرض مع الشجر، ثم بدونه، وقسم الثمن على ما يخص كلًّا منهما، كما لو باع شقصًا مشفوعًا وسيفًا.

ولو كانت الأرض مشتركة وفيها شجر لأحدهما فباعه مع نصيبه منها، فالشفعة له في الأرض بحصتها من الثمن، لا في الشجر؛ لأنه ليس مشركًا، ويبقى للمشترى في الأرض، وعليه نصف الأجرة للشفيع في مقابل النصف الذي له، دون ما يقابل النصف الذي انتقل إليه بالشفعة؛ لأن صاحبه كان يستحق الإبقاء فيه مجانًا، فتنتقل الأرض للشفيع مسلوبة المنفعة، كما لو باع أرضًا واستثنى لنفسه الشجر، فإنه يبقى بلا أجرة، وليس للشفيع تكليف المشتري قطع الشجر، ولا تملكه بالقيمة، ولا القلع مع غرامة أرش النقص؛ لأنه يستحق الإبقاء، فلو اقتسما الأرض، وخرج النصف الذي فيه الشجر لغير مالك الشجر، فالأرجح أنه يكلف أجرة =

ص: 85

وَلا يَثْبُتُ بِقَبْلِيَّتِهِ فِي الْمُصْحَفِ، وَلا بِحَدَاثَةِ الصَّحَابِيِّ، وَلا بِتَأَخُرِ إسْلامِهِ، وَلا بِمُوَافَقَةِ ألأَصْلِ، وَإذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ الْوَقْفُ لا التَّخْييرُ.

الشرح: "ولا يثبت" النَّاسخ "بقبليته في "وضع "المصحف"؛ فإن ترتيب الآيات ليس على ترتيب النزول، "ولا بحداثة" سن "الصّحابي"؛ لأن منقول حديث السّن قد يكون متقدمًا، وبالعكس "وبتأخر إسلامه"؛ لجواز أن يسمع متقدم الإسلام بعده، "ولا بموافقة الأصل" للحكم الذي رواه.

"وإذا لم يعلم ذلك" أي: النَّاسخ من المنسوخ لتعذّر السبيل إلى ذلك، "فالوجه الوقوف" عن العمل "لا التخيير".

وقال الآمدي: إن علم اقترانهما مع تعذُّر الجمع، فعندي أنّ ذلك غير متصوّر الوقوع، وإن جوزه قوم، وبتقدير وقوعه، فالواجب إما الوقوف عن العمل، أو التخيير إن أمكن.

= الجميع؛ لأنه لا حق لمالك الشجر الآن في الأرض.

وخرج بيع البناء والشجر في أرض محتكرة؛ لأنه كالمنقول بأن تكون الأرض موقوفة على من يبنى عليها، أو مملوكة، ويأذن الناظر أو المالك لشخص في البناء عليها بأجرة معلومة كل سنة مثلًا، في مقابلة منفعة الأرض من غير تقدير مدة، فهي كالخراج المضروب على الأرض كل سنة، واغتفر جهالة المدة للحاجة، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه في البناء الذي عليها، لم يثبت لشريكه فيه شفعة؛ لعدم ملك الأرض.

وتثبت الشفعة في ثمرة موجودة لم تؤبر عند البيع، وإن شرط دخولها في البيع، سواء تأبرت عند الأخذ أم لا؛ لأنها تتبع الأصل في البيع، فكذا في الأخذ بالشفعة، ولا نظر لطرو تأبره، لتقدم حقّه، وزيادته بالتأبير كزيادة الشجر، بل قال الماوردي:"يأخذه وإن قطع".

والتصريح بالشرط لا يخرج عن التبعية؛ لأنه تصريح بمقتضى العقد. أما الثمرة المؤبرة عند البيع، فلا شفعة فيها، كالشجر الجاف الذي شرط دخوله في البيع، بل تؤخذ بحصتها من الثمن، كالزرع المشروط دخوله في البيع، والجزة الظاهرة مما يتكرر؛ لأنها لا تدخل في مطلق البيع.

ويبقى كل ما لا يؤخذ من ثمر وزرع إلى أوان الجذاذ، والثمرة الحادثة بعد البيع إن لم تؤبَر عند الأخذ فله أخذها بالشفعة؛ لأنها تابعة للأصل في البيع، فتتبعه في الأخذ كالبناء والغراس، وإن أبِّرت عند الأخذ فلا شفعة فيها؛ لانتفاء التبعية.

ص: 86

‌مَسْالَةٌ:

الجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّة بِالْقُرآنِ،

وَللشَّافِعيِّ رحمه الله قَوْلانِ.

لنَا: لَوِ امْتَنَعَ لَكَانَ لِغَيْرِهِ، وَالأَصْلُ عَدَمُه، وَأَيْضًا: التَّوَجُّهُ إِلَى [بَيْتِ] الْمَقْدِسِ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِالْقُرْآنِ، وَالْمُبَاشَرةُ بِاللَّيْلِ كَذَلِكَ، و [صَوْمُ] يَوْمِ عَاشُورَاءَ.

وَأُجِيبَ بِجَوَازِ نَسْخِهِ بِالسَّنَّةِ، وَوَافَقَ الْقُرآنَ.

وَأُجِيبَ بَأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ تَعْيِينَ نَاسِخٍ أَبَدًا.

وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك. هذا كلامه.

فقول المصنّف: "وإذا لم يتم ذلك" يشمل ما إذا علم اقترانهما، وذلك لا يقع، وما إذا لم يعلم الحال، وما إذا علم أن أحدهما متأخر، ولكن جهل عينه، وما إذا علم عين المتأخر، ثم نسى.

وقد ذكر الفُقَهَاء [مثل]

(1)

هذه الأقسام في الجمعتين، والنِّكاحين، وعقد الإمامة لاثنين، وموت جماعة من الأقارب بالغرق أو الهدم.

واعلم أن المصنف قال في الاجتهاد: إنه يجوز تعادل الأمارات الظَّنية عند الجمهور؛ خلافًا لأحمد، والكرخي، وقال هناك: وأجيب: يُعْمَلُ بهما في أنهما [وقفا]

(2)

، أو بأحدهما مخيرًا، أو لا يعمل بهما.

قلت: وإذا علم عين المتقدم والمتأخر ثم نسى، فلا وجه للقول بالتخيير، إنما الوجه الوقف، وهو نظير كلام الفقهاء في النكاحين وغيره.

«مسألة»

الشرح: "الجمهور على جواز نسخ السنة بالقرآن

(3)

.

(1)

سقط في أ، ب، ت.

(2)

في ت، ج: وقعًا.

(3)

ينظر: الرسالة (106)، واللمع (33)، والتبصرة (264)، والمحصول (1/ 3/ 519)، والعدة 3/ 788، والمعتمد 1/ 424، والمسودة 201، والروضة (44)، وشرح الكوكب 3/ 562،=

ص: 87

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وللشافعي قولان:

"لنا: لو امتنع لكان".

إما لذاته، وهو باطل قطعًا.

وإما "لغيره، والأصل عدمه"، أي: عدم ذلك الغير.

"وأيضًا" قد وقع؛ إذ "التوجّه إلى [بيت]

(1)

المقدس" كان ثابتًا "بالسُّنة ونسخ بالقرآن، والمباشرة بالليل كذلك"، فإنها كانت محرمة على الصَّائم بالسنة، ثم نسخت بالقرآن [و "يوم]

(2)

عاشوراء" كذلك.

ولقائل أن يقول: الأول لا يثبت إلا الجواز العقلي، والشَّافعي لا ينكره كما سنحرره إن شاء الله تعالى.

والثاني: وهو دعوى الوقوع ممنوع، فقد حكى الحازمي

(3)

قولين للعلماء في أن التوجَّه إلى [بيت]

(4)

"المقدس" هل كان بالقرآن أو السُّنة؟.

قلت: والقول بأنه كان بالقرآن هو ظاهر كلام الشَّافعي، وعليه يدلّ قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [سورة البقرة: الآية 143]. الآية، فإن الضمير في "جعلنا""يعود على الله تعالى" وظاهره أنه جعل بالقرآن.

وأما المُبَاشرة بالليل فالذي ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الناسخ والمنسوخ": أن الأكل والشرب والجماع ليلة الصِّيام بعد أن ينام الإنسان كان محرمًا، ثم شُكِيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ

} [سورة البقرة: الآية 187] الآية.

= وجمع الجوامع 2/ 78، والآيات 3/ 139، والبرهان 2/ 1307، وأصول السرخسى 2/ 67، المنتهى 118، شرح العضد 2/ 195، تيسير التحرير 3/ 203، وكشف الأسرار 3/ 175، والإبهاج 2/ 270، وإرشاد الفحول (191)، وفواتح الرحموت 2/ 78.

(1)

سقط في أ، ب، ت.

(2)

في ج: صوم.

(3)

في ج: الجاوي، وفي ب: الخادمي:

(4)

سقط في أ، ب، ت.

ص: 88

قَالُوا: {لِتُبَيِّنَ} [سورة النحل: الآية 44]، وَالَنَّسْخُ رَفْعٌ لا بيَانٌ.

قُلْنَا: الْمَعْنَى: لِتُبَلِّغَ، وَلَوْ سُلَّمَ فَالَنَّسْخُ أَيْضًا بيَانٌ وَلَوْ سُلِّمَ فَأَيْنَ نَفْيُ الَنَّسْخِ؟.

قَالُوا: مُنَفرٌ.

قُلْنَا: إذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ فَلا نَفْرَةَ.

وكذلك ذكر أبو جعفر النحاس، ولم ير من قال: إن ذلك كان بالسّنة.

وأما إيجاب صوم عاشوراء ثم نسخه، فهو قول الحنفيّة، وحكاه عبد الرزاق في "مصنفه" عن علي، وأبي موسى.

والذي عليه أصحابنا: أنه لم يكن فرضًا قط، وقد بين ذلك البيهقي في "الخلافيات"، وأبو إسحاق الشيرازي في "النكت"، وغيرهما من علمائنا.

"وأجيب" عن دعوى الوقوع أيضًا "بجواز نسخه بالسُّنة، ووافق" نسخه بها "القرآن"، فاستغنى به عن نقلها.

"وأجيب" عنه: "بأن ذلك يمنع تعيين ناسخ أبدًا"، فلا يدعى ناسخ إلا ويمكن أن يقال: لعلّ النسخ واقع بغيره.

ولقائل أن يقول: جريان الاعتراض في أماكن كثيرة لا يدفعه، بل الجواب أن يقال: الأصل عدم غيره.

الشرح: والمانعون "قالوا": قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ "لِتُبَيِّنَ" لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ

} [سورة النحل: الآية 44] يقتضى أن شأنه البيان، "والنسخ رفع لا بيان"

(1)

.

(1)

وهو ينبني على مسألة بناء الأعراض.

فمن قال: بأن العرض يقبل البقاء والدوام قال: المنسوخ باق.

ومن قال: العرض لا يبقى زمنين قال: الحكم ينتهى بذاته كما ينتهي العرض.

وأنكر القرافي هذا البناء من جهة أن حكم الله هو خطابه القديم الواجب الوجود، فيستحيل عليه أن يكون عرضًا ولا مشاركًا للعرض في معنى وجودي، بل هو سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته، بل دوام الحكم بدوام تعلقه وانقطاعه بانقطاعه، وتعلق الصفات نسب وإضافات لا توصف، فإنها موجودة في الخارج ولا أعراض، فلا يستقيم. ينظر: الرازي 1/ 3/ 431.

ص: 89

مَسْأَلَةٌ:

الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَمَنَعَ الشَّافِعيُّ رضي الله عنه.

"قلنا: المعنى" من قوله: "لتبين": "لتبلغ، ولو سلم" أن المراد ظاهره، وهو البيان "فالنسخ أيضًا بيان".

لا يقال: قد أخبرتم فيما مضى أنه رفع؛ لأنا نقول وقت النزول في الجواب: يختار الناظر أي مذهب شاء، والسّر فيه أنه يقول: ماذا تقول لو قال خصمك مثلًا: النسخ بيان، فعليك إبطال أنّ النسخ بيان ليتثبت مقصودك، فافهم هذا ينفعك في أماكن كثيرة يتخيل الشَّادي فيها تناقض اتكلام، أو نقول: ليس المعنى بالبيان مقابل الرفع؛ بل تقييد المطلق وتخصيص العام؛ لأن ذلك أيضًا بيان كما سبق في باب البيان، والسُّنة تقييد وتخصّص.

"ولو سلم" أن النسخ ليس ببيان، "فأين نفى النسخ" في الآية؟.

"قالوا": نسخ السُّنة بالقرآن "منفر" عن النبي صلى الله عليه وسلم[الأغبياء] النَّاس؛ لأنهم ربما قالوا: لم يرض الله بالسُّنة.

"قلنا: إذا علم أنه" صلى الله عليه وسلم "مبلغ، فلا نفرة"؛ لأن الكُلّ من عند الله تعالى.

«مسألة»

الشرح: "الجمهور على جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر، ومنع الشافعي"

(1)

ونصه في "الرسالة": لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه كما كان المبتدئ بفرضه، وهو المزيل المثبت لما شاء منه جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه. انتهى.

وظاهره: نفى الوقوع فقط.

نعم قال: يبقى الجواز العَقْلي، الحارث بن أسد المحاسبي، وعبد الله بن سعيد

(2)

(1)

ينظر: الرسالة (108).

(2)

عبد الله بن سعيد، أبو محمد، المعروف بـ"ابن كُلَّاب". كان من كبار المتكلمين؛ ومن أهل السنة. وبطريقته وطريقة الحارث المحاسبي اقتدى أبو الحسن الأشعري وقد ألف كتبًا كثيرة في التوحيد والصفات. توفي بعد 240 هـ. ينظر: طبقات السبكي 2/ 51، ومعجم المؤلفين 6/ 59، ولسان الميزان 3/ 290، وهدية العارفين ص (440)، وابن قاضي شهبة 1/ 78.

ص: 90

لَنَا: مَا تَقَدَّمَ.

وَاسْتُدِلَّ بأَنَّ: "لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" نَسَخَ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبينَ، وَالرَّجْمُ لِلْمُحْصَنِ نَسَخَ الْجَلْدَ.

وأُجُيبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ نَسْخُ الْمَعْلُومِ بِالْمَظْنُونِ، وَهُوَ خِلافُ الْفَرْضِ.

قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [سورة البقرة: الآية 106]، وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ وَلأَنَّهُ قَالَ:"نَأْتِ"، وَالضَّمِيرُ لِلهِ تَعَالَى.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ الْحُكْمُ؛ لأَنَّ الْقُرْآنَ لا تَفَاضُلَ فِيهِ، فَيَكُونُ أَصْلَحَ لِلْمُكَلَّفِ أَوْ مُسَاوِيًا، وَصَحَّ "نَأْتِ" لأِنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِهِ.

والقلانسي، وهم من كبار أهل السُّنة.

وقيل: إنه رواية عن أحمد بن حنبل.

وقيل: المانع منه الشرع لا العَقْل، وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني.

وقيل: لم يمنع منه السمع أيضًا، ولكنه لم يقع، وهو قول ابن سُرَيج.

ونص الشَّافعي هذا الذي حكيناه لا يدلّ على أكثر منه.

الشرح: "لنا: ما تقدم" من أنه لو امتنع لكان لغيره، والأصل عدمه.

"واستدلّ: بأن" ما رواه النَّسَائي، وابن ماجه، والترمذي، وصححه من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ"

(1)

نسخ الوصية للوالدين والأقربين، والرجم للمحصن" ثابت بالسُّنة في أحاديث كثيرة، وهو قد "نسخ الجَلْد" الثابت بالقرآن.

"وأجيب: بأنه" لما كان حديث: "لا وصية لوارث"ورجم المحصن من أخبار الآحاد،

(1)

واختلف أهلُ العلم في الوصيَّة للوارثِ، فذهب بعضُهم إلى أنها باطلةٌ وإن أجازها سائرُ الوَرَثَةِ، كما أن الوصيَّةَ للقاتل باطلة وإن أجازها الورثة، وذهب أكثرُ أهل العلم إلى أن الورثةَ إن أجازوها جازت، وبه قال مالك والشَّافعي، كما لو أوصي لأجنبي بأكثرَ من الثلث، وأجازه الورثة جاز.

والإجازة تكون بعد موت الموصي، ولا حكم لإِجازة الوارث وردِّه في حياة المُوصي، أوصى رافع بن خديج أن لا تُكْشَفَ امرأتُه الفَزارِيَّةُ عما أغلِقَ عليه بابُها.

ص: 91

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولم يقل أحد من المتأخرين هنا: إن خبر الواحد ينسخ المعلوم، فحينئذ "يلزم" من الاحتجاج بهما "نسخ المعلوم بالمَظْنُون، وهو خلاف الفرض".

لا يقال: إذا جاز بخبر الواحد، فالمتواتر أحرى.

لأنا نقول: ما يقتضيه من التجويز بخبر الواحد لم يقولوا به، وما يقولون به لا يقتضيه.

نعم لقائل أن يقول: إذا وقع النسخ بالحَدِيثين، وقد ثبت أن الواحد لا ينسخ القرآن، علمنا أنهما متواتران؛ لوقوع الاتفاق على أن النسخ حاصل بهما، وأن الواحد لا ينسخ الكتاب، فانحصر الأمر في المتواتر.

ويؤيد هذا أن زماننا ليس زمان النسخ إنما زمن النسخ سالف الزمان، فلعله كان متواترًا إذ ذاك.

لكن جوابنا: أنا لا نسلم أن: "لا وصية لوارث" نسخ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: الآية 180]، إنما الناسخ لهذه الآية إن كانت منسوخة قرآن آخر، وقد عينه ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه حيث قال: النَّاسخ لها آيات المواريث في سورة "النساء"، فاندفع ما لعلّه يقال: من أن الأصل عدم غير ما ذكرناه بتعيين ابن عباس.

وقد صرح مالك بن أنس رضي الله عنه بهذا، نقله عنه القاضي عبد الوَهَّاب في "الملخص".

وأما المحصن فليس مما نحن فيه؛ لأنه تخصيص لعموم: "الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا"، والكلام في النسخ لا في التخصيص

(1)

.

(1)

معلوم أن التخصيص والنسخ يشتركان في أن كل واحد منهما بيان ما لم يرو باللفظ، إلا أنهما يفترقان في أمور، وهي: أن التخصيص يبين أن العام لم يتناول المخصوص، والنسخ يرفع بعد الثبوت، وأن التخصيص لا يرد إلا على إلعام والنسخ يرد عليه وعلى غيره. وأنه يجب أن يكون متصلا والنسخ لا يكون إلا متراخيًا، وأنه لا يجوز إلى أن لا يبقى شيء، والنسخ يجوز، وأنه قد يكون بأدلة السمع وغيرها، والنسخ لا يجوز إلا بالسمع. وأنه يكون معلومًا ومجهولًا، والنسخ لا يكون إلا معلومًا. وأنه لا يخرج المخصوص منه من كونه معمولًا به في مستقبل=

ص: 92

قَالُوا: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} [سورة يونس: الآية 15].

قُلْنَا: ظَاهِرٌ فِي الْوَحْي، وَلَوْ سُلَّمَ فَالسُّنَّةُ بِالْوَحْي.

والمانعون "قالوا": قال الله تعالى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [سورة البقرة: الآية 106]، والسُّنة ليست كذلك ولأنه قال: نأت، والضمير لله".

"وأجيب: بأن المراد" بالمنسوخ "الحكم"، لا اللفظ أي: بحكم خير من حكم الآية المنسوخة، وذلك لأنه وصف البدل بالخير، فاستحال أن يكون المراد اللفظ؛ "لأن القرآن لا تفاضل فيه، فيكون" حكم السّنة الناسخة خيرًا، أو مثلًا؛ لكونه "أصلح للمكلف أو مساويًا".

"وصح" لفظ {نَأْتِ} وإن كان النسخ بالسّنة؛ "لأن الجميع من عنده" سبحانه وتعالى.

ولقائل أن يقول: قد قدم المصنف في مسألة جواز النسخ من غير بَدَلٍ ما مقتضاه أن المراد من قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} : بخير في اللفظ لا الحكم، وقد عكس هنا.

ولعلّه إنما قال: وأجيب في الموضعين بصيغة التمريض لأجل هذا.

الشرح: "قالوا: قوله تعالى: "{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} [سورة يونس: الآية 15]، ينفي جواز التبديل عنه، والنسخ تبديل، فيبقى جوازه منه.

"قلنا" النص المذكور "ظاهر في "تبديل "الوحي" بأن يوضع لفظ ما لم ينزل مكان ما أنزل، فلا يدلّ على منع تبديل الحكم.

"ولو سلّم" أن المراد تبديل الحكم، "فالسنة، ثابتة "بالوحي"، وليست من تِلْقَاء نفس مَنْ لا ينطق عن الهَوَى، عليه أفضل الصلاة والسلام.

واعلم أن مسألتي: نسخ السّنة بالكتاب، والكتاب بالسُّنة معزيتان إلى الشافعي رضي الله عنه كما عرفت.

وقد حكى المصنّف عنه قولين في جواز نسخ السُّنة بالكتاب، والجزم بأن الكتاب لا

= الزمان، والنسخ يخرج المنسوخ عن ذلك. وأنه يرد في الأخبار والأحكام، والنسخ لا يرد إلا في الأحكام. وأن دليل الخصوص يقبل التعليل ودليل، النسخ لا يقبله.

ص: 93

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تنسخه السنة، وكذلك حكاه غيره.

وممن حكاه كذلك القاضي أبو الطيب الطَّبري في "شرح الكفاية"، وصرح بلفظ الجواز كما في الكتاب، ولم يصرح بأن الجواز، هل المراد به الجواز العَقلي أو السمعي، بل أطلق.

والمصنّف أراد العقلي حيث استدل بأنه لو امتنع لكان لغيره، والأصل عدمه.

وذكر الشَّيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" في نسخ القرآن بالسُّنة أنه لا يجوز من جهة السمع على قول الشافعي.

قال: ومن أصحابنا من منعه عقلًا، وهذا غير الصحيح.

وقال ابن السَّمْعَاني: نص الشافعي في عامة كتبه أن القرآن لا ينسخ بالسُّنَّة. قال: ثم اختلف الوجه على مذهب الشَّافعي أنه يمنع العقل منه أو الشرع؟

فالظاهر من مذهبه أنهما جميعًا: العقل والشرع يمنعان منه، والثاني أنه الشرع دون العقل. انتهى.

وقال إمام الحرمين: قطع الشَّافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ بالسُّنَة، وتردد قوله في نسخ السُّنة بالكتاب. انتهى.

وليس فيه كما ترى تصريح بمنع الجواز.

ومنهم من نقل للشَّافعي قولين في كلّ من نسخ السنة بالقرآن وعكسه.

والرافعي حكى في "باب الفدية" وجهين في نسخ السنة بالقرآن، أو قولين، التردد منه.

قال: وينسب المنع إلى أكثر الأصحاب.

إذا عرفت هذا فأقول والله المستعان: أما المنع عقلًا [فلا ينتهض]

(1)

، والذي عندي أن الشَّافعي لم يقله، ومقداره أجلّ من ذلك.

نعم حكاه القاضي في "مختصر التقريب" قولًا لبعضهم.

(1)

في أ، ب، ت: فلا ينهض.

ص: 94

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والقول بأن نسخ السُّنة بالكتاب جائز، ولكن لم يقع هو رأي ابن سُرَيْجٍ إمام أصحابنا.

فإن قلت: فهل هو القول المَنْسوب إلى الشَّافعي رضي الله عنه؟.

قلت: تمهل قليلًا، واعلم أن هذا مكان وقع فيه الخَبْط والخطأ على الشافعي قديمًا، واطْلخم الأمر حتى أفضى إلى انكفاف طائفة من المُغَالين في نصرة آرائه عنه، ونقل شمس الإسلام إلكيا الهراسي رحمه الله أن عبد الجَبَّار بن أحمد القاضي كان ينصر مذهب الشَّافعي في الأصول، فلما وصل إلى هذا المكان قال: هذا الرجل كبير، ولكن الحق أكبر منه، وفهم جماعة كلامه حق الفهم، وتابعوه، وصمموا على صحة مقالته.

وخص منهم بالتصنيف في المسألتين. الإمام الجليل أبو الطيب سهل ابن الإمام أبي سهل الصّعلوكي، وقد كان سهل إمام زمانه بإجماع النَّقلة، وكذلك الأستاذان الكبيران أبو إسحاق الإسفراييني، وأبو منصور عبد القاهر بن طاهر البَغْدَادي، فصنف كلّ منهم فيهما مصنفًا.

والذي أقوله: إن الشافعي لم يمنع الجواز العَقْلي، بل لم يتكلّم الشَّافعي في كتبه قطّ في الجواز العقلي.

والكلام فيه عنده تضييع الأوقات، يعرف ذلك منه من غرفه، ويجهله من جهله.

ثُمّ المنع العقلي إن أراد به قائله: أنه يلزم من فرض وقوعه مُحَال، فقد سفه نفسه، واستحق أن يعرض عنه.

وإن أراد أن العقل يقضي بقبحه، فهو معتزلي، والشَّافعي برئ من المقالتين، فمن قال: إنه بواحدة منهما فقد أعظم الفِرْيَةَ عليه.

ولو أراد الشَّافعي أن العقل يحسن أو يقبح لوقع ذلك من القاضي عبد الجَبَّار الذي هو شيخ المعتزلة في زمانه أعظم موقع.

فإن قلت: فقد قال ابن السَّمْعَاني: إن ظاهر مذهبه منع العقل والشرع جميعًا من ذلك.

قلت: يجب تأويل كلامه على أن يراد بالقياس القياس، والفقهاء كثيرًا يطلقون العقل، ويريدون ذلك كما قدّمنا في مسألة التحسين والتقبيح في صريح نقل الشيخ أبي إسحاق أنَّ الشَّافعي لا يمنعه إلَّا سمعًا كما رأيت.

ص: 95

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والقاضي أبو الطَّيب - كما عرفناك - أطلق الجواز، ويظهر أن يراد به السمعي؛ فإنه الذي نقله تلميذه الشيخ أبو إسحاق.

وإذا عرفت انتفاء إرادته نفى الجواز العَقْلي، فنقول: وراءه الجواز السمعي، فهل يقول الشافعي: إن الشَّرع منع منه، فامتنع سمعًا لئلا يتوهم بعض الأغبياء أن الله تعالى لم يرض بما سَنَّهُ نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا يحصل مقصود السمعية؟ صريح نقل الشيخ أبي إسحاق وغيره كما رأيت أن الشافعي قائل بذلك.

وأنا أقول: لم أجد مع تنقيبي عن ذلك في نصوصه تصريحًا به، ولكن القوم أئمة مذهبنا وأَدْرَى بمقالات إمامنا، ووراء الجواز السمعي الوقوع، وكل من منعه سمعًا قال: لم يقع لأن الشرع لا يرد بما يمتنع سمعًا.

فإن كان الشَّافعي يمنعه سمعًا فلا رَيْبَ في أنه يدعى عدم الوقوع.

وإن لم [يمنع]

(1)

فقال الأكثرون: وقع.

وقيل: لا، وهو منسوب إلى الشَّافعي، ووراء الوقوع أمرَ آخر، وهو أنه إذا وقع نسخ السُّنة بالكتاب، فعلى أي وجه يكون؟.

هل يشترط اقتران سنة مُعَاضدة للكتاب ناسخة، فنقول مثلًا: لا يقع نسخ السُّنة إلا بالكتاب والسُّنة معًا؛ لتقوم الحُجّة على الناس بالأمرين معًا، ولئلا يتوهّم [متوهم]

(2)

انفراد أحدهما عن الآخر؛ فإن الكُلّ في الحقيقة من عند الله؟!.

ولكن لبيان حكم الله سبحانه طريقان: طريق الكتاب، وطريق السُّنة، فليجتمعا في هذا الموضع إزالة لهذا المتوهّم؛ ولتقوم الحُجّة على النَّاس بهما، ولأمر ثالث، وهو انتقال المكلّفين من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُنته.

وفي ذلك فائدتان:

إحداهما: التنويه بقدره صلى الله عليه وسلم وإظهار عظمته، وهذه الفائدة في عكس هذه المسألة، وهي نسخ القرآن بالسنة أظهر منها فيها مع ظهورها في الموضعين؛ لأن سنته عليه الصلاة

(1)

في ج: يمنعه.

(2)

سقط في ت.

ص: 96

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والسلام إذا نسخت القرآن، فأنزل الله تعالى قرآنًا يوافقها، ففي ذلك من الإجلال والتَّعْظيم ما لا يخفي على ذي لُبّ.

والفائدة الثانية: وهي في مسألتنا التي نحن فيها نسخ السُّنة بالكتاب أظهر منها في عكسها، انتقال النَّاس من سنة إلى سنة، فيحصل له أجر عظيم؛ لأن من سن سُنّة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو صاحب السُّنن الحسنة كلّها، فله الأجور أبدًا لا يتناهى، وفي كلّ يوم يزداد من الأجور ما لا ينحصر، فإذا نسخ الله سُنّته، نسختها سُنَّة أيضًا ليحصل له الأجر.

وهذا الموضع - وهو أنه إذا وقع نسخ الكتاب بالسُّنة، وعكسه لا يقع إلَّا على هذا الوجه - لم يصرّح أهل الأصول بذكره، والشَّافعي قائل به، وهو الحَق إن شاء الله تَعَالى، ودليله الاستقراء، وهو سيّد العارفين بالشريعة والمطّلعين على منقولاتها، فلم يقله إلَّا عن ثبت.

وهذه نصوص الشَّافعي رحمه الله الشَّاهدة لقوله بهذا، وليس فيها ما يقتضى أنه يقول بشيء غيره كما عرفناك.

قال رضي الله عنه في "الرسالة" ما نصه: وهكذا سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسخها إلا سُنّة رسول الله، ولو أحدث الله لرسوله في أمر سنّ فيه [غير ما سَنَّ]

(1)

رسول الله صلى الله عليه وسلم لسن فيما أحدث الله إليه حتى يتبّيىن للنَّاس أنه له سُنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها. انتهى.

ومن صدر هذا الكلام أخذ من نقل عن الشَّافعي - والله أعلم - أن السُّنة لا تنسخ بالكتاب، والذي يظهر أنه إنما أراد ما ذكرناه.

وقوله: "ولو أحدث الله إلى آخره"، صريح في ذلك، وكذا قوله بعد ذلك ما نصّه:

فإن قلت: هل تنسخ السُّنة بالقرآن؟.

قيل له: لو نسخت السُّنة بالقرآن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سُنّة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسُنّته الأخيرة، حتى تقوم الحُجّة على النَّاس بأن الشيء ينسخ بمثله. انتهى.

(1)

سقط في أ.

ص: 97

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي: فإذا نسخ الشَّيء بمثله لم يكن للغَبِيّ أن يقول: كيف نخالف الكتاب والسنة؟.

وكذلك ما ذكره بعد ذلك إذ قال بعد أن تكلم على صلاة "ذات الرّقاع" ما نصه: وفي هذا دلالة على ما وصفت قبل في هذا الكتاب من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سَنّ سُنّة فأحدث الله تعالى في تلك السُّنة نسخًا [أو مخرجًا إلى سعة]

(1)

منها، سنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سُنَّة تقوم الحُجة على الناس بها حتى يكونوا إِنما صاروا من سُنَّةٍ إلى التي بعدها. انتهى.

فتأمل قوله: إنما صاروا من سُنَّة إلى سُنَّةِ التي بعدها.

فإن قلت: فما حاصل ما يقوله الشافعي؟.

قلت: إنه لا يقع نسخ الكتاب والسّنة إلَّا على هذا الوجه، وما عداه لا يقع، ولكنه لا يمتنع عقلًا.

وأما أنه يمتنع سمعًا فما حكيناه من النصوص لا يدلّ له، ولكن قد نقله من ذكرناه، وهم أدري. هذا تمام القول في نسخ الكتاب.

وأما عكسه فقد قدّمنا نصّ الشَّافعي فيه، وقلنا: إنه لا يدلّ على أكثر من نفي الوقوع، وحكينا فيه اختلاف أصحابنا.

وذهب الأستاذ أبو الطيب الصُّعْلوكي

(2)

، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وصاحبه الأستاذ أبو منصور، وهم من أَسَاطين أئمتنا - إلى أن العقل يجوز نسخ كل منهما بالآخر، ولكن الشرع مانع منه فيهما جميعًا، وبالله التوفيق.

(1)

في أ، ت: تجري بين سبعة.

(2)

سهل بن محمد بن سليمان بن محمد، الإمام شمس الإسلام، أبو الطيب ابن الإمام أبي سهل العجلي، الحنفي، الصعلوكي، النيسابوري، أحد أئمة الشافعية ومفتي "نيسابور". قال الحاكم: وهو أنظر من رأيناه. قال الشيخ أبو إسحاق: كان فقيهًا أديبًا، جمع رئاسة الدين والدنيا، وأخذ عن فقهاء "نيسابور" توفي سنة 404 هـ. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 181، وتهذيب الأسماء واللغات 1/ 238، وطبقات الفقهاء للشيرازي ص 100، ووفيات الأعيان 2/ 153.

ص: 98

‌مَسْأَلَةٌ:

الْجُمْهُورُ: أَنَّ الإِجْمَاعَ لا يُنْسَخُ.

لنَا: لَوْ نُسِخَ بِنَصٍّ قَاطِعٍ، أَوْ بإِجْمَاعٍ قَاطِعٍ كَانَ الأَوَّلُ خَطَأً، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَوْ نُسِخَ بِغَيْرِهِمَا فَأبْعَدُ لِلْعلْمِ بتَقْدِيمِ الْقَاطِع. قَالُوا: لوْ أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَي قَوْلَيْنِ فَإِجْمَاعٌ عَلَي أَنَّهَا اجْتِهَادِيَةٌ، فَلَوِ اتُّفِقَ [عَلَى] أَحَدِهِمَا كَانَ نَسْخًا. قُلْنَا: لا نَسْخَ بَعْدَ تَسْلِيمِ جَوَازِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.

«مسألة»

الشرح: "الجمهور: أن الإجماع لا ينسخ" أي: الحكم الثَّابت به لا يرفع

(1)

.

"لنا: لو نسخ" فإما "بنص قاطع أو بإجماع قاطع" أو بغيرهما.

فإن نسخ بهما "كان الإجماع خطأ"؛ لانعقاده بخلاف القاطع، "وهو باطل، ولو نسخ بغيرهما، فأبعد؛ للعلم بتقديم القَاطع"، فيلزم خطأ ذلك الإجماع كما في الأول مع تقديم الأضعف على الأقوى.

"قالوا: لو أجمعت الأمة على قولين، فإجماع على أنها اجتهادية، فلو اتفق على أحدهما" أي إجماعهم على أحد القولين، "كان" الإجماع الثاني على أحد القولين "نسخًا" للأول؛ لرفعه جواز الأخذ بكلّ من القولين الذي كان الإجماع الأول قد قام عليه.

"قلنا: لا نسخ"؛ لما تقدم أن الإجماع الأول مشروط [بعدم]

(2)

الإجماع الثاني، وهذا "بعد تسليم جوازه" أي: جواز وقوع مثل هذا الإجماع، "وقد تقدمت" هذه المسألة - أعني مسألة الإجماع على أحد القولين - في الإجماع.

(1)

ينظر: المعتمد 1/ 432، والمحصول 1/ 3/ 531، والعدة 3/ 826، والمستصفى 1/ 126، والإحكام للآمدي 3/ 145 (11)، وشرح التنقيح (314)، والإبهاج 2/ 277، وجمع الجوامع 2/ 76، والآيات 3/ 134، واللمع (33)، وأصول السرخسي 2/ 66، وشرح الكوكب 3/ 570، المسودة (224)، وكشف الأسرار 3/ 175، وفواتح الرحموت 2/ 81، وتيسير التحرير 3/ 207، وإرشاد الفحول (192).

(2)

في أ، ت: تقدم.

ص: 99

‌مَسْأَلَةٌ:

الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الإِجْمَاعَ لا يُنْسَخُ بِهِ

؛ لأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَنْ نَصٍّ فَالنَّصُّ النَّاسِخ، وَإنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ نَصٍّ وَالأوَّلُ قَطْعِيٌّ - فالإِجْمَاعُ خَطَأ، أَوْ ظَنِّيٌّ فَقَدْ زَالَ شَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ رُجْحَانُهُ.

قَالُوا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ رضي الله عنهما: كَيْفَ تُحْجِبُ الأمَّ بِالأَخَوَيْنِ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [سورة النساء: الآية 11]، والأَخَوَانِ لَيْسَا إِخْوَةً. فَقَالَ: حَجَبَهَا قَوْمُكَ، يَا غُلامُ.

قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ نَسْخًا بثُبُوتِ المَفْهُومِ قَطْعًا، وَأَن الآخَوَيْنِ لَيْسَا إِخْوَةً قَطْعًا، فيَجِبُ تَقْدِيرُ النَّصِّ، وإلَّا كَانَ الاجْمَاعُ خَطَأً.

«مسألة»

الشرح: "الجمهور: على أن الإجماع لا ينسخ به"؛ "لأنه إن كان عن نصّ فالنص الناسخ" في الحقيقة لا الإجماع.

"وإن كان عن غير نصّ، والأول" أي دليل المنسوخ "قطعي - فالإجماع خطأ"؛ لأنه على خلاف القاطع، فلا يتصّور؛ لأنه لا يتصور خطأ الإجماع، "أو ظني فقد زال شرط العَمَل به، وهو رُجْحانه"؛ لطريان الإجماع، وإذا انتفى رجحانه لم يفد الظَّن، فلا يثبت به حكم، فلا يتصور رفع ونسخ.

الشرح: "قالوا: قال ابن عباس لعثمان: كيف تحجب الأم بالأخوين، وقد قال الله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [سورة النساء: الآية 11]: والأخوان ليسا إخوة؟ ".

فقال: "حجبها قومك يا غلام"، كما تقدم في مسألة أقل الجمع، وهو تصريح بإبطال حكم القرآن بالإجماع، وذلك هو النسخ.

"قلنا: إنما يكون نسخًا بثبوت" نصّه "المفهوم قطعًا"، وأن الأخوين ليسا إخوة قطعًا" لا ظاهرًا؛ فإن ذلك لو ثبت بدليل ظاهر وجب حمله على غير ظاهره؛ دفعًا للنسخ، ولكن ليس كلّ واحد من ثبوت المفهوم، وأن أقل الجمع بثلاثة قطعي، "فيجب تقدير النص" الدَّال على الحجب، "وإلا كان الإجماع خطأ"؛ لكونه على خلاف القاطع، وحينئذٍ فالناسخ النص لا الإجماع.

ص: 100

‌مَسْألَةٌ:

المخْتَارُ: أنَّ الْقِيَاسَ الْمَظْنُونَ لا يَكُونُ نَاسِخًا وَلا مَنْسُوخًا.

أَمّا الأوَّلُ؛ فلأنَّ مَا قَبْلَهُ إِنْ كَانَ قَطْعِيًّا لَمْ يُنْسَخْ بِالْمَظْنُونِ، وَإنْ كَانَ ظَنِّيًّا تَبَيَّنَ زَوَالُ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ رُجْحَانُهُ؛ لأَنَّهُ ثَبَتَ مُقَيَّدًا كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا أَوْ لا.

«مسألة»

الشرح: في كون القياس ناسخًا ومنسوخًا

(1)

.

أما كونه ناسخًا فقيل: يجوز مطلقًا.

وقيل: إن كان جليًّا، وعليه الأنماطي

(2)

.

(1)

اعلم أن القياس المقطوع به هو ما يكون حكم أصله والعلة ووجودها في الفرع قطعيًّا، والمظنون ما لا يكون كذلك، بل يكون بعضها قطعيًّا والبافي ظنيًّا أو لا يكون واحد منهما قطعيًّا، والمختار عند المصنف أن القياس المظنون لا يكون ناسخًا ولا منسوخًا، أما الأول وهو أن القياس المظنون لا يكون ناسخًا؛ فلأن ما قبله، أي ما قبل القياس المظنون، وهو الذي ينسخ بالقياس المظنون، إن كان قطعيًّا لا يكون القياس المظنون ناسخًا؛ لأن المقطوع لا ينسخ بالمظنون وإن كان ما قبل القياس المظنون ظنيًّا تبين بالقياس المظنون زوال شرط العمل به وهو رجحانه؛ لأن العمل بالمظنون الذي هو قبل القياس المظنون مقيد برجحانه على معارضه، سواء كان المصيب واحدًا أو لا، وإذا زال شرط العمل به لم يكن ثابتًا، وإذا لم يكن ثابتًا لا يكون منسوخًا بالقياس المظنون؛ لأن النسخ بعد الثبوت، وأما الثاني وهو أن القياس المظنون لا يكون منسوخًا، فلأن ما بعد القياس المظنون قطعيًّا أو ظنيًّا تبين زوال شرط العمل بالقياس المظنون وهو رجحانه كما بينا في الأول، وإذا زال شرط العمل به لا يكون منسوخًا. وأما القياس المقطوع فينسخ بدليل مقطوع في حياة الرسول عليه السلام لأن حكم هذا القياس حكم النص القاطع، فكما جاز نسخ القاطع بالقاطع، فكذلك جاز نسخ القياس القطعي بالقاطع، وأما بعد الرسول عليه السلام فلو عمل مجتهد بالقياس القطعي لعدم اطلاعه على ناسخه، ثم اطلع على الناسخ تبين أنه كان منسوخًا في عهد الرسول.

القائلون بأن القياس المظنون يجوز أن يكون ناسخًا قالوا: صح التخصيص بالقياس المظنون فيصح النسخ به؛ لأن النسخ بيان كالتخصيص - أجاب بأن هذا الدليل منقوض بالإجماع والعقل وخبر الواحد، فإنه يجوز التخصيص بكل منها، ولا يجوز النسخ به.

(2)

ينظر: الإحكام للآمدي 3/ 148 - 149، والمستصفى للغزالي 1/ 126، والإبهاج 1/ 254، ونهاية السول 2/ 589، وشرح العضد 2/ 199، وجمع الجوامع 2/ 81، والآيات 3/ 150.

ص: 101

وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلأنَّ مَا بَعْدَهُ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا يُبيِّنُ زَوَالَ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَمَّا الْمَقْطُوعُ فَيُنْسَخُ بِالْمَقْطُوعِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيَتبَيَّنُ أَنّهُ كَانَ مَنْسُوخًا.

قَالُوا: صَحَّ التَّخْصِيصُ، فَيَصِحُّ.

قُلْنَا: مَنْقُوضٌ بِالإِجْمَاعِ، وَالْعَقْلِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ.

وقيل: إن كان في زمنه عليه الصلاة والسلام وعلّته منصوصة، وعليه الآمدي.

وأما كونه منسوخًا فقال الجمهور: يجوز في زمنه عليه الصلاة والسلام.

وخالف الحنابلة، وعبد الجبار.

وشرط الإمام الرازي وغيره في ناسخه: إن كان قياسًا أن يكون أجلي.

وأباه الآمدي كالتخصيص، وشرط أن تكون علّته منصوصة كما مرّ.

"والمختار" عند صاحب الكتاب: "أن القياس المظنون لا يكون ناسخًا، ولا منسوخًا".

"أما الأول؛ فلأن ما قبله" - عند صاحب الكتاب - "إن كان قطعيًّا لم ينسخ بالمظنون، وإن كان ظنيًّا تبين زوال شرط العَمَل به، وهو رجحانه؛ لأنه يثبت مقيدًا" - أي مشروطًا - بألا يترجّح عليه غيره، سواء "كان المصيب واحدًا أو لا"، فإذا ظهر راجح لم يكن رافعًا، فلم يكن ناسخًا؛ لأنه قبل ظهور الرَّاجح، لا حكم لما لم يظهر وبعده لا حكم للأول، فلا رفع على التَّقديرين؛ فلا نسخ.

الشرح: "وأما الثاني؛ فلأن ما بعده قطعيًّا أو ظنيًّا يبين زوال شرط العمل به. "وأما" القياس "المقطوع فينسخ بالمقطوع في حياته" صلى الله عليه وسلم.

وهو ما إذا نسخ حكم الأصل بنص، فيقاس عليه "أما بعده" صلى الله عليه وسلم "فيتبين أنه كان منسوخًا"، ولا سبيل إلى إنشاء النسخ؛ إذ ليس للأمة أن ينسخوا الأحكام.

والمجوّزون للنسخ بالقياس المظنون "قالوا: صَحّ التخصيص" به، "فيصح" النسخ بجامع أن كلًّا من النسخ والتخصيص تخصيص، فكون أحدهما في الأعيان والآخر في الأزمان لا أثر له، فلا يصلح [فارقًا]

(1)

.

(1)

سقط في ب.

ص: 102

الْمُخْتَارُ: جَوَازُ نَسْخِ أَصْلِ الْفَحْوَى دُونَه، وَامْتِنَاعُ نَسْخِ الْفَحْوَى دُونَ أَصْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُمَا.

لنَا أَنَّ جَوَازَ التَّأفِيفِ بَعْدَ تَحْرْيمِهِ لا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الضَّرْبِ، وَبَقَاءُ تَحْرِيمِهِ يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيمَ الضَّرْبِ، وَإلَّا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا مِنْهُ.

فإن "قلنا: منقوض بالإجماع، والعَقْل، وخبر الواحد"، فإن ثلاثتها تختص بها، ولا تنسخ.

"فائدة"

الخلاف في النسخ بالقياس جار فيما يجرى مجراه من الاستدلال وطرق الاجتهاد، كمفهوم المخالفة ونحوه، ذكره القاضي في "التقريب"، وعزا القول بالمنع من النسخ بالقياس، وما يجرى مجراه إلى أكثر الفقهاء والمتكّلمين، واختاره.

الشرح: "المختار: جواز نسخ أصل الفحوى دونه"، فيجوز نسخ التأفيف مثلًا دون الضرب في قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [سورة الإسراء: الآية 23]، "وامتناع نسخ الفحوى دون أصله"، فلا ينسخ الضرب دون التّأفيف

(1)

.

"ومنهم من جوزهما".

"ومنهم من منعهما".

"لنا: أن جواز التأفيف بعد تحريمه لا يستلزم جواز الضرب"، فجاز ثبوته دونه، "وبقاء تحريمه أن يستلزم تحريم الضرب، وإلّا لم يكن معلومًا منه" والأصل أن تحريم التأفيف ملزوم لتحريم الضَّرب،، وإلَّا لم يعلم منه من غير عكس؛ للأولوية في الفرع.

ونسخ الفَحْوَى دون أصله معناه: بقاء تحريم التأفيف، وانتفاء تحريم الضرب، فيوجد الملزوم مع عدم اللازم، وذلك محال.

وأما عكسه وهو انتفاء تحريم التأفيف مع بقاء تحريم الضَّرْب، فهو رفع للملزوم مع

(1)

ينظر: المعتمد 1/ 437، والمحصول 1/ 3/ 539، وشرح الكوكب 3/ 576، وجمع الجوامع 2/ 82، والآيات 3/ 151، والإحكام للآمدي 3/ 150، وشرح العضد 2/ 200، وشرح الكوكب المنير 3/ 576، والروضة (88).

ص: 103

الْمُجَوِّزُ دَلالَتَانِ، فَجَازَ رَفْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا.

قُلْنَا: إِذَا لَمْ يَكُنِ اسْتِلْزَامٌ.

الْمَانِعُ: الْفَحْوَى تَابعٌ، فَيَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ مَتْبُوعِهِ.

قُلْنَا: تَابعٌ لِلدَّلالَةِ لا لِلْحُكْمِ، وَالدَّلالَةُ بَاقِيَةٌ.

بقاء اللازم، وذلك لا يمنع.

ولقائل أن يقول: لم قلت: إن الضرب لازم لتحريم التأفيف مطلقًا، وإنما هو لازم عند الإطلاق؟

أما إذا صرح بتجوزه، فلا يلزم، ولذلك صح: اقتله ولا تستخف به، وإن كان أصل الاستخفاف يفهم عند إطلاق اقتله.

الشرح: واحتج "المجوِّز" لنسخ كل منهما مع بقاء الآخر، بأن الفحوى، وأصله "دلالتان" متغايرتان، "فجاز رفع كل منهما" بدون الآخر.

"قلنا": لا نسلّم دلالة التغاير على جواز رفع كلّ واحد منهما بدون الآخر، فإنما يتم ذلك "إذا لم يكن" بينهما "استلزام".

أما إذا كان كما هو الواقع هنا فلا؛ لاستحالة رفع اللازم مع بقاء الملزوم.

واحتج "المانع" لهما، فقال:"الفَحْوَى تابع، فيرتفع بارتفاع متبوعه"؛ لأنه لو بقى لم يكن تابعًا، فدل على ارتفاع الفحوى بارتفاع الأصل.

وأما الفحوى دون الأصل، فدليله ما ذكرتم.

"قلنا": الفحوى "تابع للدلالة لا للحكم، والدلالة باقية" بعد نسخ حكم الأصل؛ فإنّ دلالة اللّفظ لا تنتفى بارتفاع الحُكم، والمرتفع هو حكم تحريم التّأفيف لا دلالة اللفظ عليه، فالمتبوع وهو دلالة اللفظ لم يرتفع، والمرتفع وهو الحكم ليس بمتبوع.

ولو سلمنا أنه متبوع، فقولكم: رفع المتبوع يستلزم رفع التَّابع، منقوض ببقاء الجواز بعد نسخ الوجوب، فإنه تابع للوجوب، ولا يلزم من ارتفاعه ارتفاعه، فبطل قولكم بامتناع نسخ الأصل مع بقاء الفحوى.

وأما عكسه، فإنا نوافقكم عليه.

ص: 104

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فائدة"

أهمل في "المختصر" ذكر أن الفحوى تكون ناسخًا

(1)

، وهو مسطور حتى في "منهاج

(1)

أما الفحوى، وهو مفهوم الموافقة، فيجوز النسخ به، وقد ادعى الإمام الرازي، والآمدي الاتفاق عليه، وجرى عليه بعض شروح "المنهاج". وفي هذا يقول الإمام الرازي: لأن دلالته إن كانت لفظية فلا كلام، وإن كانت عقلية، فهي يقينية، فتقتضي النسخ لا محالة: نعم قال الإسنوي في شرح "المنهاج": وفيما قاله الإمام نظر؛ لأن الناسخ يجب أن يكون طريقًا شرعيًّا لا عقليًّا، ويجاب عما قاله الإسنوي بأن كون الدلالة عقلية لا يمنع من كونها طريقًا شرعيًّا؛ إذ معنى كون الدلالة عقلية أن العقل له مدخل فيها؛ لأنها من قبيل دلالة الالتزام، وأن النزاع في كونها لفظية أو عقلية خلاف لفظي، فالذي ينظر إلى أن اللفط باعتبار وضعه للمعنى الملزوم دال على اللازم يجعلها لفظية، وسماها كذلك.

ومن نظر إلى أن هذه الدلالة لا بد فيها من انتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم، وهذا أمر عقلي سَمَّاها عقلية، فلا خلاف إلا في التسمية؛ لأن كلا من دلالة اللَّفْظ والانتقال متحقق، والخلاف في وجهة النظر من أجل التسمية فقط.

هذا خلاصة ما قاله الآمدي، والإمام الرازي من الاتفاق على جواز النسخ بالفحوى.

وقال الجلال المحلى في شرحه على "جمع الجوامع" بعد نقل الاتفاق المتقدم ما نصه: "وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي - كما قال المصنف - المنع به "يعني المنع من النسخ به" بناءً على أنه قياس، وأن القياس لا يكون ناسخًا" اهـ.

وقال في "مسلم الثبوت": ونقل أبو إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني الخلاف قال شارحه: كذا في كتب الشافعية، والتحقيق فيه أنه إن كانت الدلالة على حكم الفرع بوضع الكلام له، بأن يقول الواضع: وضعت هيئة تركيب لإفادة حكم المنطوق، وما هو مشارك له في المناط من غير نظر ورأي، فيصح كونه ناسخًا ومنسوخًا؛ لكونه مدلولًا لكلام الشارع كالمنطوق، وإن لم يكن الكلام موضوعًا له، وإنما يستفاد الحكم بوجود العلة الموجبة للحكم، كما يقول به قائل كونه قياسًا جليًّا، فينبغي أن يكون حكمه كحكم القياس في الناسخية والمنسوخية، فإن جاز هناك جاز ههنا. وإلا لا، وكذا الحال في بقاء حكم أحدهما دون الآخر اهـ. قال بعض محققي الحنفية: وهذا يوافق ما قاله الشافعية في كتبهم؛ لأن من نقل الخلاف، وحكي منع النسخ به بناه على أنه قياس، وليس هذا من الحقيقة في شيء، بل التحقيق: أن هناك فرقًا بين ما يسميه الحنفية دلالة النص، والشافعية مفهوم موافقة، وفحوى، وبين القياس؛ فإن العلة في الأول مفهومة لغة، ويفهمها المجتهد، وغير المجتهد، بخلاف القياس؛ فإن فهم العلة فيه خاص بالمجتهد، والذي سمي دلالة النص عند الحنفية، أو مفهوم الموافقة، والفحوى عند =

ص: 105

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيضاوي"، وادعى الإمام والآمدي الاتفاق عليه، وليس بجيد؛ فالخلاف موجود نقله أبو إسحاق الشيرازي، وأبو المظفر بن السمعاني وغيرهما، بناء على أن الفحوى قياس، والقياس لا يكون ناسخًا.

"فائدة"

عرفت حكم مفهوم الموافقة.

وأما مفهوم المُخَالفة

(1)

، فيجوز نسخه مع نسخ الأصل، وبدونه، وقد بَيّناه في "شرح

= الشافعية قياسًا، وإن قال: إن الحكم إنما يستفاد بوجود العلة الموجبة للحكم؛ لكنه يفرق بين الفحوى والقياس بما ذكرنا في العلة، فيجعل علة الفحوى مفهومة من اللغة. دون علة القياس، فكان النزاع في التسمية فقط، وبذلك تعلم أن الحق ما قاله الإمام في "المحصول"، والآمدي في "الإحكام" ألا ترى: أن جمهور العلماء قالوا: - إذا نسخ حكم أصل القياس لا يبقى حكم الفرع الثابت بالقياس على هذا الأصل، وإن تنازعوا في أن هذا نسخ، أو ليس بنسخ؟ فأنت ترى اتفاق الكل على أنه إذا نسخ حكم الأصل لا يبقى حكم الفرع، وإنما الخلاف في كونه نسخًا، أو ليس بنسخ فقط، وأما الفحوى، وأصله الذي هو المنطوق فقد اتضح أن المختار أو الحق أنه يجوز نسخ أحدهما مع بقاء الآخر. فكيف يمكن لأحد أن يجعله قياسًا من كل وجه، ويبنى على ذلك منع النسخ بها؟

وأما ما قد قيل من أن حكم الفرع يبقى عند انتساخ حكم الأصل، ونسب للحنفية فهو خطأ؛ لأن الحنفية صرحوا بأن النص المنسوخ لا يجوز القياس عليه، ولهذا جعلوا من شروط القياس ألا يكون حكم الأصل منسوخًا، فكان من لوازم نسخ حكم الأصل نسخ حكم الفرع فيما هو قياس يختص الوقوف على علته بالمجتهد، بخلاف مفهوم الموافقة، أو الفحوى، أو دلالة النص.

(1)

وأما مفهوم المخالفة؛ فيجوز نسخه مع نسخ الأصل، وهو واضح، وذلك كنسخ وجوب الزكاة في الغنم السائمة، ونفيه عن المعلوفة معًا المستفادين من حديث:"فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ" ويرجع الأمر في السائمة إلى مسألة: إذا نسخ الوجوب بقي الجواز، كما يرجع الأمر في المعلوفة إلى ما كان قبل مما دل عليه الدليل العام بعد الشرع من تحريم للفعل إن كان مضرة، أو إباحة له إن كان منفعة، فليس المعنى منه أن يرتفع العدم، ويحصل الحكم الثبوتي، بل المعنى منه أن يرتفع العدم الذي كان شرعيًّا، ويرجع إلى ما كان عليه من قبل، وهذا التمثيل إنما هو على سبيل الفرض والتقدير، فإن التمثيل يكتفي فيه بمثل ذلك، كما هو مقرر، وكذا يجوز نسخه بدون الأصل: أي: مع بقاء الأصل، وهو واضح أيضًا، كنسخ مفهوم حديث: =

ص: 106

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنهاج"

(1)

.

وذكره القاضي عبد الوَهَّاب في "الملّخص"، وابن السَّمعاني وقال: دليل الخطاب

= إنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ" فإن مفهومه، وهو عدم وجوب الغسل عند عدم الإنزال نسخ بقوله عليه الصلاة والسلام: "إِذَا الْتَقَى الْختَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ" وبقي أصله، وهو وجوب الغسل من الإنزال؛ فإن مفهوم الحديث الأول عدم وجوب الغسل من غير إنزال، وإن التقى الختانان.

والحديث الثاني يدل بمنطوقه على وجوب الغسل بالماء الختانين، وإن لم يكن إنزال، فهو معارض لمفهوم الأول وآت بعده، فكان ناسخًا لهذا المفهوم، وأما منطوقه، وهو وجوب الغسل من الإنزال فباقٍ لم يطرأ عليه نسخ، ولا تبديل؛ فثبت بهذا نسخ المفهوم مع بقاء أصله.

وأما نسخ الأصل بدونه، أي: مع بقاء مفهوم المخالفة، فاختلف فيه على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز، واختاره الصفي الهندي وصاحب "جمع الجوام"؛ لأنه تابع له، فيرتفع بارتفاعه، ولا يرتفع الأصل لارتفاع المفهوم.

هذا ما قالوه في توجيه القول بالمنع، وفيه نظر من وجهين:

أحدهما: أن المفهوم تابع للمنطوق في الدلالة. أي: من حيث دلالة اللفظ عليه معه لا من حيث ذاته، حتى يلزم من ارتفاع المنطوق ارتفاع المفهوم، ودلالة اللفظ على المنطوق باقية لم ترتفع، وإن ارتفع الحكم بدليل منفصل؛ فإن دلالة اللفظ لا تزول بنسخ حكمه.

فإن أجاب المستدل عن ذلك: بأنه إذا ارتفع تعلق حكم المنطوق سقط اعتبار دلالة اللفظ عليه، فسقط ما يترتب على اعتبارها من فهم الحكم في محل السكوت.

قلنا: لا نسلم سقوط اعتبار الدلالة بارتفاع تعلق الحكم، بل يجوز أن تبقى مع ذلك معتبرة؛ لإفادة حكم المفهوم.

ثانيهما: أن ما ذكرتم يجري في نسخ الأصل بدون الفحوى، فيقال فيه: الفحوى تابع لأصله، فيرتفع بارتفاعه، وإلا لم يكن تابعًا له، مع أنكم قلتم بجواز نسخ الأصل مع بقاء الفحوى، فظهر أن هذا الذي تمسك به المانع لم يتم له.

القول الثاني: أنه يجوز؛ لأنهما حكمان غير متلازمين في الثبوت فضلًا عن تغايرهما في الحقيقة، فلا يلزم من ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر، فالحق أن مفهوم المخالفة كمفهوم الموافقة في جواز نسخ الأصل دون المفهوم وبالعكس. هذا حاصل القول في بيان مذاهب العلماء وأدلتهم في نسخ المفهوم موافقًا كان، أو مخالفًا بدون أصله، وبالعكىس، وقد بان لك أن القول الراجح الذي تم دليله، وسلم عن المعارضة بدفع ما ورد عليه، ورد دليل مقابله هو القول بجواز نسخ المفهوم دون الأصل، وبالعكس.

(1)

ينظر: الإبهاج 2/ 258.

ص: 107

مَسْألَةٌ:

‌الْمُخْتَارُ: أَنَّ نَسْخَ حُكْمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ لا يَبْقَى معَهُ حُكْمُ الْفَرْعِ.

يجوز نسخ موجبه، ولا يجوز النسخ بموجبه؛ لأن النص أقوى من دليله

(1)

.

قلت: وأما نسخ الأصل بدون مفهوم المُخَالفة، فأظهر الاحتمالين عند الشيخ الهندي: أنه لا يجوز؛ لأن دلالته باعتبار القَيْدِ، فإذا بطل تأثيره، بطل ما بنى عليه، وفيه ما سبق.

«مسألة»

الشرح: "المختار: أن نسخ حكم أصل القِيَاسِ لا يبقى معه حكم الفرع".

وخالفت الحنفيّة

(2)

.

(1)

ولا بد للنسخ من المعارضة. وجرى عليه صاحب "جمع الجوامع"، وصاحب "لب الأصول". وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي كما قال الجلال المحلى أيضًا: الصحيح الجواز؛ لأنه في معنى النطق.

أقول: وفيما ذهب إليه الشيرازي نظر؛ لأنه إن أراد بقوله: "لأِنَّهُ فِي مَعْنَى النُّطْقِ" أنه في معناه من حيث القصد والإرادة، فمسلم، ولا يفيد؛ لأن هذا لا ينافي ضعفه عن معارضة النص، كما قال المانعون.

أما إن أراد أنه في معناه من حيث القوة، فممنوع؛ للاتفاق على حجية المنطوق، والاختلاف في حجية المفهوم المخالف، والمتفق عليه أقوى من المختلف فيه قطعًا.

والذي نراه حقًّا هو ما ذهب إليه المانعون من عدم جواز النسخ به، فإن قيل: لِمَ رجحتم في مبحث التخصيص بالمفهوم جوازه بمفهوم المخالفة، ورجحتم هنا عدم جواز النسخ به، مع أن كُلًّا من التخصيص والنسخ، لا بد فيه من المعارضة؟

فالجواب: لأن التخصيص فيه إعمال للدليلين، فلم يشترطوا فيه التعادل بينهما، بل اكتفى فيه بكون المفهوم دليلًا شرعيًّا، بخلاف النسخ؛ فإنَّ فيه إبطالًا لأحدهما، فكان فيه "ضروريًّا.

(2)

ينظر: البرهان 2/ 1313، والإبهاج 1/ 257، ونهاية السول 2/ 611، والتبصرة (275)، والعدة 3/ 820، والإحكام للآمدي 3/ 152 (16)، وشرح الكوكب 3/ 573، والوصول لابن برهان (2/ 57 - 60)، والمسودة (213 و 220)، وجمع الجوامع 2/ 89، والتحرير 395، والتيسير 3/ 215، وفواتح الرحموت 2/ 86، والروضة ص 46.

ص: 108

لَنَا: خَرَجَتِ الْعِلَّةُ عَنِ الاِعْتِبَارِ، فَلا فَرْعَ.

قَالُوا: الْفَرْعُ تَابعٌ لِلدَّلالَةِ لا لِلْحُكْمِ، كَالْفَحْوَى.

قُلْنَا: يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ زَوَالُ الْحِكْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، فَيَزُولُ الْحُكْمُ مُطْلَقًا؛ لاِنْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ. قَالُوا: حَكَمْتُم بِالْقِيَاسِ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ عِلَّةٍ.

قُلْنَا: حَكَمْنَا بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ لاِنْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.

وإذا قلنا: لا يبقى، فقد وقع في كلام بعضهم تسميته نسخًا.

وليس بجيّد، فلقد أجاد المصّنف في قوله: لا يبقى، وعدوله عن أن يقول: نسخ معه حكم الفرع؛ لما علمت من أن أصحابنا لا يقولون: إن حكم الفرع ينسخ باعتبار حكم الأصل، بل يزول حكمه؛ لزوال كون العلّة معتبرة، والحكم إذا زال لزوال علّته لا يقال: إنه منسوخ.

وما أحسن قول إمام الحرمين في "التلخيص": إذا ثبت حكم من الأحكام في مسألة مثلًا بخبر، ثم استنبطنا منه علة فألحقنا بالمنصوص ما ليس بمنصوص قياسًا، ثم نسخ الأصل الذي منه استنبطنا القياس. فيتداعى ذلك إلى ارتفاع القياس المستنبط عنه. انتهى.

وقول المصنّف: "لا يبقى" نظير قول الإمام: "يتداعى"، والعباراتان سديدتان.

ومن عبر بـ "النسخ" فقد وهم، وأتى من سوء التعبير فقط، ولم يرد حقيقة النسخ.

الشرح: "لنا: خرجت العلة" المستنبطة بنسخ الأصل "عن الاعتبار، فلا فرع"، وإلا لزم ثبوته بلا دليل؛ لأن دليله العلة، والفرض انتفاؤهما.

وإن شئت قل: لا، حكمُ الأصل أصل للعلّة، فإذا بطل بطلت، فلا فرع.

"قالوا" أولًا: "الفرع تابع للدّلالة لا للحكم، كالفحوى".

"قلنا: يلزم من زوال الحُكم زوال الحكمة المعتبرة"؛ لأنها لو بقيت لبقى الحكم، "فيزول الحكم مطلقًا؛ لانتفاء الحكمة"، ولا كذلك مفهوم الموافقة؛ إذ لا يلزم من انتفاء الحكمة المحرمة للتأفيف، انتفاء الحِكْمة المحرمة للضرب؛ إذ لا يلزم من ارتفاع الأقوى ارتفاع الأضعف.

"قالوا" ثانيًا: الحكم لا يفتقر إليها في دوامه؛ لأن إسلام الطّفل معلّل بإسلام أبيه،

ص: 109

‌مَسْألَةٌ:

الْمُخْتَارُ: أَنَّ النَّاسِخَ قَبْل تَبْلِيغِهِ صلى الله عليه وسلم لا يَثْبُتُ حُكْمُهُ.

ولا يلزم من زوال إسلام الأب زواله، وإن لزم فقد "حكمتم بالقياس على انتفاء الحكم بغير علّة"؛ لأنكم تقولون: يرتفع حكم الفرع قياسًا على رفع حكم الأَصْل، وليس هنا علّة جامعة بينهما موجبة للرفع.

"قلنا": الحكم مفتقر في دوامه إلى دوام احتمال حكمته المعتبرة، وإسلام الأب ليس من هذا، ونحن لم نرفع حكم الفرع بالقياس على الأصل، وإنما "حكمنا بانتفاء الحكم لانتفاء علّته"، وذلك نوع آخر من الاستدلال يحتاج إلى أصل وفرع وجامع.

نعم علمنا عدم اعتبار العلّة ببطلان حكم الأصل، لا أَنَّا قسنا الفرع في عدم الحكم على الأصل بجامع عدم العلة.

"فائدة"

بَنَتِ الحنفية على أصلهم، كما ذكر القاضي أبو الطيب، وإمام الحرمين في "التلخيص" وغيرهما فرعين:

أحدهما: أنه لا يجوز التوضّؤ بالنبيذ المسكر النَّي، وإنما يجوز به إذا كان مطبوخًا وقد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّي، وألحق به المطبوخ، قياسًا، ثم نسخ التوضؤ بالنّي، وبقي التوضّؤ بالمطبوخ.

والثاني: ادعوا أنه يوم عاشوراء كان يجب صومه، ويجوز إيقاع النية فيه نهارًا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء أن من لم يأكل فليصمه، فَدَلَّ على أنه يجوز إيقاع الصوم بنيَّة من النَّهار، وألحق به رمضان من حيث إنه صوم، ثم نسخ صوم يوم عاشوراء، وبقي القياس مستمرًا في رمضان.

«مسألة»

الشرح: و"المختار: أَنَّ الناسخ قبل تبليغه صلى الله عليه وسلم " الأمة "لا يثبت حكمه" في حقهم.

وقيل: يثبت

(1)

.

(1)

ينظر: البرهان 2/ 1312، والوصول لابن برهان 2/ 65، والمستصفى 1/ 120، والمنخول =

ص: 110

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والخلاف إذا بلغ جبريل عليه السلام وألقاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأرض، ولم يتمكن أحد من المكلّفين من العلم به.

ووراءه صور:

إحداها: ألَّا ينزل إلى الأرض، ولا بلغ جنس البشر كما إذا أوحى الله - تعالى - إلى جبريل عليه السلام ولم ينزل.

والثانية: أن ينزل ولكن لم يلقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في هاتين الصورتين أنه لا يتعلق به حكم.

والثالثة: أن يبلغ جنس المكلفين من البَشر، ولكن في غير دار التكليف كالسَّماء، ثم يرفع كفرض خمسين صلاةً ليلة المِعْرَاج، فإنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع، فهل يكون ناسخًا؟

فيه نظر.

يحتمل ألّا يثبت حكمه؛ إذ لم يتعلق.

ويحتمل أن يقال بثبوته؛ لأنه بلغ بعض البشر، وعليه يدلّ كلام ابن السمعاني، إذ قال: فرض الله خمسين صلاةً ليلة المعراج، ثم نسخه قبل أن يُعْلِم به الأمّة، قال: ولكن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم به، واعتقد وجوبه، فلم يقع النَّسْخ له إِلَّا بعد علمه، واعتقاده. انتهى.

فانظر كيف سَمَّاه نسخًا، ولو لم يثبت لم يسم منسوخًا.

والرابعة: أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، ولا يبلغ الأمة، فإن تمكنوا من العلم به ثبت حكمه في حقهم قطعًا، وإلَّا فهو محلّ الخلاف.

والجمهور: أنه لا يثبت لا بمعنى الثَّاني كالنَّائم، ولا نحفظ أحدًا قال بثبوته بالمعنى الأول.

= (301)، والتبصرة 282، واللمع (35)، وشرح الكوكب 3/ 580، والإحكام للآمدي 3/ 153، والقواعد والفوائد 157، ونهاية السول 2/ 611، والتمهيد له (435)، وجمع الجوامع 2/ 90، وشرح العضد 2/ 201.

ص: 111

لنَا: لَوْ ثَبَتَ لأَدَّى إِلَى وُجُوبٍ وَتَحْرِيمٍ؛ لِلْقَطْعِ بِأنَّهُ لَوْ تَرَكَ الأوَّلَ أَثِمَ.

وَأَيْضًا، فَإنَّهُ لَوْ عَمِلَ بِالثَّانِي عَصَى اتِّفَاقًا.

وَأَيْضًا: يَلْزَمُ قَبْلَ تَبْلِيغِ جِبْرِيلَ عليه السلام، وَهُوَ اتِّفَاقٌ.

قَالُوا: حُكْمٌ، فَلا يُعْتبَرُ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ.

قُلْنَا: لا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ.

وذكر القاضي في "التقريب" أن الخلاف لفظي، وذكر في مختصره أن القائلين بثبوته يقولون؛ لو قدر ممن لم يبلغه الناسخ إقدام على الحكم الأول، كان زللًا وخطأ، بيد أنه لا يؤاخذ به، ويعذر لجهله.

الشرح: "لنا: لو ثبت" حكم الناسخ قبل التبليغ، "لأدى إلى" مُحَال، وهو اجتماع "وجوب وتحريم؛ للقطع بأنه لو ترك" المكلف الحكم "الأول" قبل التبليغ "أثم"، والغرض أن الوجوب ثابت.

"وأيضًا، فإنه لو عمل بالثاني" قبل إعلامه "عصى اتفاقًا"، ولو ثبت حكمه لكان ممتثلًا غير عاص.

"وأيضًا: يلزم" من ثبوته في حق الأمة "قبل" أن يبلغهم إذا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ثبوته قبل "تبليغ جبريل"؛ لأن الحالتين سواء في وجود الناسخ، وعدم علم المكلف به، فإذا كان وجوده مقتضيًا لحكمه، وعدم علم المكلف لا يصلح مانعًا، فثبت حكمه عملًا بالمقتضى السَّالم عن المعارض، "وهو "أي: اللازم الذي هو ثبوته قبل تبليغ جبريل باطل، وقد وقع على بطلانه من علماء الأمة "اتفاق".

ولقائل أن يقول: قولكم: يؤدي إلى اجتماع وجوب وتحريم.

قلنا: قد بَيّنا الخلاف إنما هو في الثبوت في الذمة، والثابت هو النَّاسخ دون المنسوخ. قولكم للقطع بأنه لو ترك الأول أَثِمَ.

قُلْنا: لا نسلم أنه يأثم بتركه.

نعم: يتجه تأثيمه على جرأته حيث أقدم ظانًّا التحريم، كما نقول فيمن وطئ زوجته يظن أنها أجنبية، فإنه لا يأثم إلا على الجُرْأة.

ص: 112

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قولكم: لو عمل بالثَّاني عصى اتفاقًا.

قلنا: هو كالأول.

قولكم: يلزم قبل تبليغ جبريل عليه السلام.

قلنا: الفارق أنه إذ ذاك لم يبلغ أحدًا من جنس المكلّفين، فلا يساوي ما إذا بلغ، والذين قالوا بثبوت الحكم، وإن لم يبلغ لو أحكم "فلا يعتبر علم المكلّف"، كما إذا بلغ بعض المكلفين دون بعض، فإنه ثبت في حقّ الكل، مع أن فيهم من لم يبلغه.

فلنا: قولكم: علم المكلف غير معتبر مسلم، ولكن وراء عدم العلم أمران.

أحدهما: عدم التمكّن.

والثَّاني: التمكن مع عدم العلم.

والذي نمنعه إنما هو الثبوت مع عدم التمكّن.

والصورة التي أوردتموها، وهي ما إذا بلغ بعض المكلفين حصل فيها التمكن، فإذن "لا بد من اعتبار التمكن، وهو منتف" في مسألتنا، فلا ثبت الحكم، لا لعدم علمه، بل لعدم تمكنه من العلم، وإلا يلزم تكليف الغافل.

ولقائل أن يقول: إن أردت باعتبار التمكّن الامتثال، فمسلم، ولا نزاع فيه كما عرفت.

وإن أردت الاستقرار في الذِّمَّة، فممنوع، فقد يستقر الشيء في ذمّة من لم يعلم به.

"فوائد"

الأولى: قال إمام الحرمين في "مختصر التقريب": هذه المسألة قطعية.

وذهب بعضهم إلى إلحاقها بالمجتهدات حتى نقلوا فيها قولين من القولين في الوكيل إذا عزل، ولم يبلغه العَزْل.

الثانية: نظير الخلاف في المسألة اختلاف أصحابنا في صور:

منها إذا [عزل]

(1)

الموكل وكيله وهو غائب، انعزل في المال على الأصح.

(1)

سقط في أ، ت.

ص: 113

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفي قول: لا حتى يبلغه الخبر، كالنسخ.

ومنهم من عكس، وخرج مسألة النسخ على مسألة الوَكَالَةِ كما نقلناه عن "مختصر التقريب"، وإليه أشار القاضي في "التقريب".

قال الرافعي: ولا فرق بين النسخ وما نحن فيه؛ لأن حكم النسخ إما إيجاب امتثال الأمر الثاني، وإما إخراج الأول عن الاعتداد به، فالإيجاب لا يثبت قبل العلم؛ لاستحالة التكليف بغير المَعْلُوم، وهذا النوع لا يثبت في الوَكَالَةِ؛ لأن أمر الموكل غير واجب الامتثال، والنوع الثاني: ثابت هناك أيضًا قبل العلم حتى يلزمه القضاء، ولا تبرأ ذمته بالأول.

قال أبي رحمه الله: وهذا الذي قاله الرافعي من لزوم القضاء في النسخ بعيد؛ لأن أهل "قباء" أتاهم الخبر بنسخ القِبْلَةِ وهم في الصلاة فاستداروا، ولو ثبت الحكم في حقهم قبل ذلك لقضوا.

وقد استشهد هو في باب "استقبال القِبْلَةِ" بقضية أهل "قباء" على أنه ينحرف في أثناء الصلاة إلى جهة الصَّواب، إذا قلنا: لا يجب القضاء.

والذي قاله في "استقبال القِبْلَةِ" هو ما عليه جمهور الأصوليين.

بخلاف ما ذكروه في الوِكَالَةِ فإنه لا يتأتى إلا على القول المرجوح: أن الحكم يثبت في حقه، ولو لم يبلغه الخبر لكنه لا يأثم؛ لأنه معذور.

فإن قلت: فما الفارق بينه وبين الوكيل حيث ينعزل على الصحيح وإن لم يبلغه الخبر؟

قلت: فرّق أبي رحمه الله بأن الاعتداد بالعبادة حق الله تعالى، والله - تعالى - قد شرط العلم في الأحكام؛ بدليل أنه لا يقع منه التكليف بالمستحيل، والعقود حق الموكّل، فلم يشترط العلم.

فإن قلت: إنما [شرط]

(1)

الرب - تعالى - العلم في خِطَابِ التكليف لا في خطاب الوضع، والاعتدادُ بالعبادة من خطاب الوضع.

(1)

في ج: اشترط.

ص: 114

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت: بل هو راجع إلى خطاب التكليف، وليس كالضمان المتعلّق بالذمة.

واتفق الأصحاب فيما لو وكله بيع عبده، أو إعتاقه، فباعه الموكل، أو أعتقه: أنه ينعزل ضمنًا.

روى البيهقي في أمةٍ أمر مولاها رجلًا ببيعها، ثم بَدَالَهُ فأعتقها، وقد بيعت الجارية، وكان عتقها قبل بيعها، فقضى عمر رضي الله عنه بعتقها، وبردّ ثمنها، وأخذ صداقها لما كان قد وطئها، فهذا دليل على الانعزال الضمني، فيلحق به الصريح.

ومنها: لو عزل القاضي ولم يعلم، ففيه الخلاف.

ومنهم من جزم هنا بعدم الانعزال.

وكذلك لو مات مُسْتنيبه، وقلنا: ينعزل بموته الخلاف فيه أيضًا.

ولو عتقت الأمة وهي في الصَّلاة، ولم تعلم، ولم تكن ساترة ما يجب سَتْره على الحُرّة فقولان. انتهى.

ولو أذن الراهن للمرتهن في البيع، ورجع ولم يعلم، ففي صحته قولان.

ولو أعاره للغِرَاسِ أو البناء، ورجع ولم يعمل، فغرس أو بنى، فهل يكون محترمًا فيخيّر بين الخصال، أو يقلع مجانًا؟

وجهان.

ولو رجعت الواهبة نوبتها في هبتها، ولم يعلم الزوج، فطريقان.

ولو أعاره ثمار بُسْتَانه ورجع، ولم يعلم، فالخلاف.

ولو قال: من ردّ عبدي الآبق

(1)

فله كذا، ورجع، ثم رده من لم يعلم بالرجوع ففي استحقاقه الجُعْل وجهان.

ولو قتل من عهده حربيًّا أو مرتدًا، فَبَانَ أنه كان قد أسلم، ولم يعلم، ففيه الخلاف.

ولو عفا الوارث ولم يعلم الجلاد، ففيه الخلاف.

(1)

الآبقُ: وهو مملوك فَرَّ من مالكه قصدًا مُعَنِّدًا. ينظر: أنيس الفقهاء ص 189، والصحاح 4/ 1445، والقاموس المحيط 3/ 215.

ص: 115

‌مَسْألَةٌ:

الْعِبَادَاتُ الْمُسْتقِلَّةُ لَيْسَتْ نَسْخًا،

وَعَنْ بَعْضِهِمْ: صَلاةٌ. سَادِسَةٌ نَسْخٌ. وَأَمَّا زِيَادَةُ جُزْءٍ مُشْتَرَطٍ، أَوْ زِيَادَةُ شَرْطٍ، أَوْ زِيَادةٌ تَرْفَعُ مَفْهُومَ الْمُخَالفةِ، فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَالْحَنَفِيَّةُ: نَسْخٌ.

وَقِيلَ: الثَّالِثُ نَسْخٌ.

عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ غَيَّرْتَهُ حَتَّى صَارَ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ شَرْعًا، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الْفَجْرِ، وَكَعِشْرِينَ عَلَى الْقَذْفِ، وَكَتَخْييرٍ فِي ثالِثٍ، بَعْدَ اثْنَيْنِ، فنَسْخٌ.

وَقَالَ الغَزَالِيُّ رحمه الله: إِنِ اتَّحَدَتْ كَرَكْعَةٍ فِي الْفَجْرِ فَنَسْخٌ، بِخِلافِ عِشْرِينَ فِي الْقَذْفِ.

وَالْمُخْتَارُ: إِنْ رَفَعَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَنَسْخٌ؛ لأنَّهُ حَقِيقَتُه، وَمَا خَالَفَهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ.

الثالثة: القائلون بأن النسخ لا يثبت في حقّ من لم يبلغه متفقون على أنه مخاطب بحكمه الأول، إلا أن يبلغه، ثم اختلفوا: هل يتصف بكونه ناسخًا قبل البلوغ، كما أن الأمر أمر للمعدوم على شَرْطِ الوجود، أو لا يتصف إلا بعد البلوغ؟

قال القاضي في "مختصر التقريب": وهو راجع إلى اختلاف عبارة، قال: وإنما الخلاف الحقيقي مع الذين قدّمنا ذكرهم - يعني القائلين: إن الحكم يرتفع عمن لم يبلغه الناسخ.

قلت: وقد قدّمنا عن "التقريب" أنه قال فيه: إنَّ الخلاف في هذا لفظي، والأظهر أنه معنوي.

«مسألة»

الشرح: في الزيادة على النَّص هل هي نسخ؟

قال أبو عمرو: "العبادات المستقلّة ليست نسخًا

(1)

.

(1)

قسم الغزالي الزيادة على أصل المشروع إلى ثلاثة أقسام: "الأول": زيادة لا تعلق بالمشروع الأول. كما إذا أوجب الصلاة والصوم، ثم أوجب الزكاة والحج. وهذا لا شبهة في أنه ليس=

ص: 116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وعن بعضهم: صلاة سادسة نسخ".

"وأما زيادة جزء مشترط، أو زيادة شرط، أو زيادة ترفع مفهوم المخالفة، فالشافعية

= بنسخ؛ لأن النسخ رفع وتبديل، وحكم المزيد عليه لم يتغير؛ إذ أن وجوبه باق كما كان.

"الثاني" زيادة تتصل بالمزيد عليه اتصال اتحاد يرفع التعدد والانفصال، كما لو زيد في صلاة الصبح ركعتان، فهذا نسخ، لأن حكم الركعتين كان الإجزاء والصحة، ثم ارتفع بالزيادة، والركعتان وإن كانتا باقيتين في ضمن الأربع لكن حكمها قد ارتفع.

"الثالث" زيادة بين المرتبتين فلا هي منفصلة تمام الانفصال كالأولى، ولا متصلة تمام الاتصال كالثانية، وتأتي على ثلاثة وجوه "أحدها" أن تكون مع الأولى جزئين لعبادة، ويشترط الزيادة في الأولى، فلا تعتبر إذا أفردت ولم تضم إليها الزيادة، كزيادة ركعة في الفجر. "ثانيها" أن تجعل الزيادة شرطًا للأولى كالطهارة في الطواف. "ثالثها" أن ترفع مفهوم المخالفة للأولى، مثل إيجاب الزكاة في المعلوفة بعد قوله "في الغنم السَّائمة زكاة".

وهذا القسم المتنوع إلى هذه الوجوه الثلاثة محل نزاع بين الأئمة، فقالت الشافعية والحنابلة:"إنها ليست بنسخ مطلقًا"، وقالت الحنفية: نسخ مطلقًا" وقال قوم: "الثالث وهو ما يرفع مفهوم المخالفة نسخ دون الأولين، وهما الجزء المشترط والشرط .. وقال القاضي عبد الجبار:"الزيادة إن غيرت الأصل تغييرًا شرعيًّا حتى صار وجوده كالعدم فنسخ، كزيادة ركعة أو ركوع أو سجود. وإن لم يكن كذلك، بل فعله معتد به دون الزائد وإنما يلزم ضمه إليه فلا يكون نسخًا، كزيادة التغريب على الجلد والعشرين على الحد. كذا نقله الإمام الآمدي عن عبد الجبار حكمًا وتمثيلًا، إلَّا أن الآمدي زاد على هذا أنه يقول: "إن التخيير في ثلاث خصال بعد التخيير في خصلتين يكون نسخًا أيضًا.

وقال أبو الحسين البصري: إن كان الزائد رافعًا لحكم ثابت بدليل شرعي كان نسخًا، سواء كان ثبوته بالمنطوق أو المفهوم، وإن كان رافعًا لما ثبت بدليل عقلي .. أي البراءة الأصلية فلا يكون نسخًا. قال الرازي:"وهذا التفصيل أحسن من غيره".

ثم مثل بعضهم لهذا المذهب بمثالين: "الأول" فيما لو كانت الزيادة رافعة كحكم شرعي مثل زيادة ركعة على ركعتين يكون نسخًا؛ لأنها رفعت حكمًا شرعيًّا، وهو وجوب التشهد عقب الركعتين "والثاني" وهو ما إذا كانت الزيادة رافعة لحكم عقلي مثل زيادة التغريب على الجلد، فليس بنسخ؛ لأن عدم التغريب كان ثابتًا بمقتضى البراءة الأصلية، ونقل الآمدي عن صاحب هذا التفصيل وهو أبو الحسن البصري أن المثالين جميعًا ليسا بنسخ .. أما الثاني فواضح .. وأما الأول" فلأن التشهد إنما محله آخر الصلاة لا بعد الركعتين بخصوصهما، وخالف ابن الحاجب فجعلهما معًا من باب النسخ معللًا ذلك بأن الزيادة فيهما كانت حرامًا ثم زالت.=

ص: 117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والحنابلة: ليس بنسخ.

والحنفية: نسخ.

وقيل: الثالث نسخ".

"عبد الجَبَّار: إن غيرته حتى صار وجوده كالعدم شرعًا، كزيادة ركعة في الفجر، وكعشرين [على]

(1)

القَذْفِ، وكتخيير في ثالث بعد اثنين فنسخ.

= الحق الثابت عن صاحب هذا التفصيل هو التفصيل.

يترتب على هذا الخلاف .. أن الشافعية أثبتوا زيادات على الكتاب بخبر الواحد؛ لأنهم لم يعتبروا ذلك نسخًا. وذلك بين في مواضع كثيرة كما في الأمثلة التي قدمناها، وكما في جعل التحريم في الرضاع بخمس رضعات مع إطلاق القرآن، وكما في اشتراط الفاتحة لصحة الصلاة مع اقتضاء عموم الكتاب لإجزاء ما تيسر من القرآن، بخلاف الحنفية فإنهم لا يرون ذلك.

والحق في ذلك ما ذهب إليه الشَّافعية حيث يترتب على اتباع مذهب الحنفية خلل عظيم، فإن كثيرًا من شروط المعاملات لم يشترطها القرآن وجاءت بها السنة، ومع هذا فقد جعل الحنفية صحة تلك متوقفة عليها .. وإليك مثالًا يوضح ذلك: قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وهذا مطلق ينتظم البيع بشرط وبغير شرط، ومع هذا فقد قال الحنفية بفساد بيع وشرط عملًا بالحديث .. مع أن البيع عقد جائز بمقتضى إطلاق الكتاب، وليس هناك من فرق بين هذا وبين قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} حيث لم يروا تقييد صحة الطواف بالحديث القائل: "الطواف بالبيت صلاة" ولم يروا تقييد قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ومن ذلك كثير يحوجهم في أكثر الأحيان أن يتكلفوا إجابات بعيدة اللهم إلا أن يقولوا إن القيود التي يفيد بها مطلق الكتاب إن ثبتت بالسنة الصحيحة تعتبر بيانًا متصلًا بنص الكتاب وليس من النسخ في شيء، فكأن الله سبحانه شرع أصل العبادة أو العقد ثم وكل إلى رسوله المبين عنه بيان مشروط كل منهما، وهذا هو المراد. ينظر: البرهان 2/ 1309 - 1311، والمحصول 1/ 3/ 543، وشرح العضد 2/ 202، والمعتمد 1/ 437، والمستصفى (1/ 117)، والمنخول (299 - 300)، والإحكام للآمدي 3/ 155 (18)، والترياق النافع 1/ 244 - 245، وشرح تنقيح الفصول 317، والتبصرة (276)، وجمع الجوامع 2/ 91، والروضة (41)، وإرشاد الفحول 194، والمسودة 207، وتيسير التحرير 3/ 218، والتلويح 2/ 318، وأصول السرخسى 2/ 82، والعدة 3/ 814، وميزان الأصول (2/ 101).

(1)

في ج: في.

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال الغزالي: إن اتحدت كركعة في الفجر، فنسخ، بخلاف عشرين في القذف".

والمختار: إن رفعت حكمًا شرعيًّا بعد ثبوته بدليل شرعي، فنسخ؛ لأنه حقيقة، وما خالفه ليس بنسخ".

اعلم أن الله - تعالى - إذا تعبدنا بشيء ثم بآخر.

فالآخر إما مستقل أي: عبادة منفردة بنفسها عن العبادة المزيد عليها، أو لا.

والأول المستقل، وهو إما أن يكون من غير جنس الأول، كزيادة وجوب الزكاة على الصلاة، فليس بنسخ بالإجماع.

أو من جنسه، كزيادة صلاة على الصَّلوات الخمس، فليس بنسخ أيضًا عند الجماهير.

وقال بعض أهل "العراق": إنه نسخ، ولم يذكر المصنف علّتهم، وقد اعتلّوا بأنها تغير الوسط.

وأنا أقول: إنْ عمم القوم ذلك في كلّ عبادة مستقلّة من جنس ما سبق وجوبه، ولم يخصوه بزيادة الصَّلاة السَّادسة، فهو واضح السقوط، واعتلالهم بجعله الآخر غير آخر لا ينفعهم؛ لأن كون الشيء آخرًا أمر عقلي لا ينسخ، وإن خصّوه بالصورة المذكورة، وأرادوا بكونها تغير الوسط جعلها المتوسط بين الشيئين غير وسط، فهو أيضًا ساقط؛ لأن ذلك أمر حقيقي، والنسخ إنما يرد على الحكم الشرعي، ثم لا اختصاص له بزيادة صلاة سادسة، بل يجري في كل مزيد.

وإن أرادوا به نسخ الأمر الوارد بالمُحَافظة على الصَّلاة الوسطى، فأقول:

إن كانت الوسطى علمًا على صلاة بعينها إما الصبح، أو العصر أو غيرهما، وليست "فُعْلَى" من المتوسّط بين الشيئين، فهو أيضًا ساقط؛ إذ لا يلزم من زيادة صلاة ارتفاع الأمر بالمحافظة على تلك الصلاة الفاضلة.

وإن كانت الوُسْطَى المتوسطة بين الصلوات، فالذي يظهر حينئذٍ أن الأمر يختلف بما يزاد، فإن زيدت واحدة، فهي ترفع الوسط بالكلّية، ويتّجه ما ذكروه؛ لأن الوسط حينئذٍ وإن كان أمرًا حقيقيًّا إلا أن الشرع ورد عليه وقرره، فيكون نسخًا للأمر الشرعي، وإن زيدت ثنتين ونحوهما مما لا يرفع الوسط، فلا نسخ، وإنما خرجت الظهر مثلًا عن أن يكون وسطًا، وكونها كانت الوسطى أمر حقيقي اتفاقي لا يرد النسخ عليه.

ص: 119

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والأمر بالمحافظة على الوسط شيء وراء ذلك، وهو لم يزل، بل هو بَاقٍ.

القسم الثَّاني: ما ليس بمستقلّ، كزيادة ركعة أو ركوع، وزيادة صفة في رَقَبّةِ الكَفَّارة، كالإيمان، وزيادة جلدات على جلدات حدّ واحد، إلى غير ذلك من الزيادات.

فذهبت الشافعية والحنابلة وجماعة من المعتزلة كالجُبَّائي، وأبي هاشم إلى أنها لا تكون نسخًا.

وقالت الحنفية: إنها نسخ، واختاره بعض أصحابنا، وادّعى أنه مذهب الشَّافعي.

واحتج عليه بأن قوله عليه الصلاة والسلام: "المَاءُ مِنَ المَاء"

(1)

صار منسوخًا بقوله: "إذَا الْتَقَى الخِتَانَانِ"؛ وإنما صار منسوخًا بالزيادة، لا الأصل.

قال: ابن السَّمعاني: وهذا غلط؛ لأن: "المَاءَ مِنَ المَاء" إنما دلّ من حيث دليل الخطاب، وهو نسخ للمفهوم، لا للنص من حيث الزيادة.

قلت: وهذا واضح، ولا يقال: فليكن هذا هو المذهب المفصل بين ما نفاه المفهوم وما لم ينفه؛ لأن القائل بهذا التفصيل يجعل ما نفاه المفهوم نسخًا للنَّص، ونحن لا نجعل

(1)

من حديث أبي سعيد الخدري؛ أخرجه مسلم في الصحيح 1/ 269 في كتاب الحيض (3) باب إنما الماء من الماء (21) حديث (80/ 343) و (81/ 343) وقال مسلم معقبًا على الحديث عن ابن الشخير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضًا كما ينسخ القرآن بعضه بعضًا. ثم افتتح بابًا يلي باب "إنما الماء من الماء" وسماه باب "نسخ الماء من الماء" وأخرجه أحمد في المسند 3/ 47 وابن خزيمة في الصحيح 1/ 117 في الطهارة باب إيجاب الغسل من الإمناء

(233، 234)، والطبراني في الكبير 4/ 317، أخرجه ابن حبان كما في الإحسان من حديث أبي 2/ 244 (1170) وفي الموارد حديث (228)، وأخرجه الدارمي 1/ 194 كتاب الطهارة: باب "الماء من الماء"، وأخرجه الترمذي من حديث أبي بن كعب 1/ 184 في أبواب الطهارة: باب ما جاء أن الماء من الماء حديث (110، 111) وقال أبو عيسى: (هذا حديث حسن) وإنما كان الماء من الماء في أول الإسلام ثم نسخ بعد ذلك. وهكذا روى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبيّ بن كعب، ورافع بن خديج. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم على أنه إذا جامع الرجل امرأته في الفرج وجب عليهما الغسل وإن لم ينزلا، وأخرجه أبو داود 1/ 54 في الطهارة: باب في الإكسال، حديث (214، 215)، وأخرجه الدارقطني 1/ 126 في كتاب الطهارة: باب نسخ قوله: "الماء من الماء" حديث (1).

ص: 120

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ذلك نسخًا للنص، ولا تعلّق له به.

وإنما هو نسخ للمفهوم، ولا يستلزم نسخ النَّص.

والكلام في هذه المسألة إنما هو فيما يجعل نسخًا للنص، ولم يقل أحد منا بذلك في دليل الخطاب إلّا ما حكاه ابن السّمعاني، وهو غريب ضعيف.

وقال قوم: إن كانت الزيادة قد أفادت خلاف ما استفيد من مفهوم المخالفة، كانت نسخًا، كإيجاب الزَّكاة في معلوفة الغنم؛ فإنه يفيد خلاف مفهوم: في السّائمة زكاة، وإلا فلا.

وقال القاضي عبد الجَبَّار

(1)

: إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرًا شرعيًّا، بجث صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة كما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه، ووجب استئنافه، كزيادة ركعة على رَكْعتي الفجر، كان ذلك نسخًا أو كان قد خُيِّرَ بين فعلين، فزيد فعل ثالث، فإنه يكون نسخًا، فتحريم ترك الفعلين السَّابقين، وإلا فلا، كزيادة التغريب على الجَلْدِ، وزيادة عشرين جلدة على حد القاذف.

وزيادة شرط منفصل في شرائط الصَّلاة، كاشتراط الوضوء.

هذا مذهبه ذكرناه بعبارة الآمِدِيّ من نسخة صحيحة مقروءة على الآمدي، وعليها خطه، وسننبّه على ما وقع في الكتاب في ذلك.

وقال قوم: إن كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتّصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال كزيادة ركعتين، فنسخ، وإلا كزيادة عشرين جَلْدة فلا، وهو رأي الغزالي.

وقال آخرون: إن كانت الزيادة مغيرة [لِحُكْمِ]

(2)

المزيد عليه في المستقبل، كزيادة التغريب في المستقبل على الحد، وزيادة عشرين جلدة على حَدِّ القاذف، كانت نسخًا، وإلا فلا، وسواء أكانت الزيادة لا تنفكّ عن المزيد عليه، كما لو أوجب علينا سَتْر الفَخْذ، فإنه يجب ستر بعض الركبة؛ لأنه مقدمة الواجب.

أو كانت الزيادة عند تعذّر المزيد عليه، كإيجاب قطع رجل السارق بعد قطع يديه،

(1)

ينظر مصادر المسألة.

(2)

في أ، ت: بحكم.

ص: 121

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهو رأي الكَرْخي وأبي [عبد الله]

(1)

البَصْري، ولم يذكره في "المختصر".

فهذه المذاهب هي المنقولة في المسألة.

وقال القاضي في "مختصر التقريب": إن تضمّنت الزيادة رفعًا، فهو نسخ، وإلا فلا.

وذكر أن ذلك يتبين بالأمثلة، وأخذ في تَعْدَاد صور عدها.

وقال في كتاب "التقريب" نحو ذلك.

وحذا حذوه أبو الحسين البَصْري، فقال في "المعتمد" ما حاصله: إن كان الزائد رافعًا بحكم شرعي كان نسخًا، سواء ثبت بالمنطوق أم المفهوم، وإن كان ثابتًا بدليل عقلي كالبراءة الأصلية، فلا.

واستحسنه الإمام الرَّازي، واختاره الآمدي، والمصنف، وهو قضية اختيار إمام الحرمين، ولا رَيْبَ عند هؤلاء في أن الزيادة تزيل أمرًا كان قبلها، ولكنهم ينظرون في المزال: هل هو حكم شرعي، فيكون نسخًا وإلا فلا.

وأنا أقول: لا حاصل لهذا التفصيل، وليس هو بواقع في محلّ النزاع، فإنه لا رَيْبَ في أن ما رفع حكمًا شرعيًّا كان نسخًا؛ لأنه حقيقته، ولسنا هنا في مقام أن النسخ رفع أو بيان.

وما لا فليس بنسخ، فالقائل: إني أفرق بين ما رفع حكمًا شرعيًّا، وما لم يرفع كأنه قال: إن كانت الزيادة نسخًا، فهي نسخ، وإلّا فلا، وهذا كما تراه.

وإنما حاصل النزاع بينهم في أن الزيادة هل ترفع حكمًا شرعيًّا، فتكون نسخًا، أو لا فلا، فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكمًا شرعيًّا لوقع على أنها نسخ، أو على أنها لا ترفع، لوقع على أنها ليست بنسخ.

فالنزاع في الحقيقة في أنها هل هي رفع أم لا؟

ولذلك أكثر الأئمّة في المسألة من تَعْدَاد الأمثلة ليعتبرها النّظر، ويردها إلى مقارّها، ويقضي عليها بالنسخ إن كانت رفعًا، وبعدمه إن لم تكن.

(1)

في ب: عبيد الله.

ص: 122

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولي وراء هذا التقرير كلام آخر فأقول: قولنا: الزيادة هل هي نسخ ليس معناه، إلا أنها هل هي نسخ للمزيد عليه نفسه؟

فلا يتجه حينئذٍ قول من يقول: إن رفعت حكمًا شرعيًّا كانت نسخًا؛ لأنه ليس كلامنا في أنها هي هي نسخ [من حيث هو أم لا؟ إنما كلامنا في نسخ خاص، فهل هي نسخ]

(1)

للمزيد عليه أم لا؟

والمزيد عليه حكم شرعي بلا نَظَرٍ، فهل الزيادة رافعة له، فيكون منسوخًا، أو لا فلا. هذا حرف المسألة ولكنهم توسّعوا في الكلام فذكروا ما إذا رفعت المزيد عليه وما إذا رفعت غيره، فاعرف ذلك.

ولنعد إلى لفظ الكِتَابِ قوله: "زيادة جزء مشترط" قد يعترض بأن الجزء داخل الماهية، والشرط خارجها، فكيف نصفه به؟ وهذا سهل؛ فإن مراده بالشرط هنا: ما لا بد منه.

قوله: عبد الجبار إلى آخره نقول: التمثيل بزيادة ركعة على ركعتين واضح؛ لأنه لو أتى بركعتين بعد زيادة ركعة كان وجودهما كالعَدَمِ، ووجب الاستئناف.

وأما المثالان الآخران، فَمَدْخُولان.

أما الأول؛ فلأنه لو أتى بعد زيادة عشرين بالثمانين لم يكن وجودهما كالعدم، وإنما يلزم أن يَضُمّ إليها عشرين. وما يقال: شرط الضربات أن تكون متوالية، فلو أتى بثمانين منفصلة عن عشرين، لم بكف ضَمّ عشرين إليها - تكلف محض، ثم إنه قد يجلد في يوم ثمانين، وفي اليوم الذي يليه عشرين، وذلك مجزئ. قاله الأصحاب، إنما الممتنع تفرقة لا يحصل بها إيلامٌ وتنكيل، وزجر، كما إذا ضربه في كل يوم سوطًا أو سوطين.

وضبط إمام الحرمين التفريق فقال: إن كان بحيث لا يحصل من كلّ دفعة ألم له وقع، كَسَوْط وسوطين في كلّ يوم، لم يجز، وإن كان يؤلم ويؤثر بماله وقع، فإن لم يتخلل زمن يزول فيه الألم الأول كفى، وإن تخلل لم يكف على الأصح.

ولن يقدم المُجَادل إذا تكلّف صورة من هذا يصحّ بها التمثيل، ولكنه تكلف، وليس

(1)

سقط في ج.

ص: 123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من شأن ذوي التحقيق.

والصواب: أن هذا مثال للقسم الثَّاني، وهو ما لا يغير المزيد عليه، بل يكون على حاله، ولا يكون نسخًا عند القاضي عبد الجَبَّار، وهذا مثاله، وقد مثل له الآمدي به، وبزيادة التغريب على الجلد كما أسلفناه في حكاية كلام الآمِدِي عن عبد الجبار.

والظاهر أن المصنّف يتبعه، ولكن العلم استطرد به على وجه الغلط.

وأما زيادة تخيير في ثالث بعد اثنين، وهو المثال الثاني من المثالين، فالنظر فيه من جهة أن المصنّف لم يحك مذهب عبد الجَبَّار على النحو الذي حكاه الآمدي، وذلك أن الآمدي حكى أن عبد الجبار يقول: إن الزيادة إنما تكون نسخًا إذا غيرت المزيد عليه تغييرًا شرعيَّا، ثم ذكر للتغير الشَّرعي صورتين:

إحداهما: أن يصير المزيد عليه وجوده كالعدم، كزيادة ركعة على ركعتين.

والثانية: أن يكون قد خير بين فعلين، فزيد ثالث، فإنه يكون نسخًا، [كتحريم]

(1)

ترك. الفعلين السَّابقين.

مثاله: لو خير أولًا بين الإعتاق والصيام، ثم ضم إليهما الإطعام. هذا مذهب عبد الجَبَّار، كما يظهر من كلام الآمدي، وإن كان نقل الإمام الرازي عنه يساعد نقل المصنف.

والصورة الثانية قسيمة للصورة الأولى، التي يصير وجود المزيد عليه بعد الزيادة لو وجد بمفرده كالعدم.

والمصنّف ظن أنَّ مذهب عبد الجبار أن تغيير المزيد عليه تغييرًا شرعيًّا هو أن يعتبر وجوده كالعدم، وليس كذلك، بل التغيير الشرعي على قسمين كما أوضحناه.

فلو أن المصنّف قال: عبد الجَبَّار: إن غير به حتى صار وجوده كالعدم شرعًا، أو كان مخيرًا بين فعلين فزيد ثالثا، كزيادة ركعة في الفَجْرِ، وتخيير في ثالث بعد اثنين فنسخ، لكان كلامًا صحيحًا جاريًا على منهاج ما نقله الآمدي.

(1)

في ج: لتحريم.

ص: 124

فَلَوْ قَالَ: "فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ" ثُمَّ قَالَ: "فِي الْمَعْلُوفَةِ الزَّكَاةُ" فلا نَسْخَ، فَإِنْ تُحُقِّقَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مُرَادٌ فَنَسْخٌ، وَإِلَّا فَلا، وَلَوْ زِيدَ رَكْعَةٌ فِي الصُّبْح فنَسْخٌ؛ لِتَحْريمِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ وُجُوبِها.

الشرح: وإذا عرفت أن الزيادة ليست بِنَسْخٍ إذا لم تتضمّن رفعًا، "فلو قال:"في السَّائمة الزكاة"، ثم قال:"في المَعْلُوفة الزكاة"، فلا نسخ"؛ لعدم رفع الحكم، "فإن تحقق" أن المفهوم مراد من قوله: السَّائمة "فنسخ، وإلّا فلا"؛ لأن الرفع إنما يكون بعد الثبوت، والغرض أنه لم يثبت، فالموجود اندفاع المفهوم لا ارتفاعه.

"ولو زيد رَكْعَة في الصبح، فنسخ؛ لتحريم الزيادة" على الرَّكعتين، "ثم وجوبها"، وذلك التحريم حكم شرعي، وقد ارتفع بالوجوب.

وخالف أبو الحسين البصري في ذلك.

ورد الآمدي هذا الدَّليل بأنه إنما يصحّ لو كان الآمر بالركعتين مقتضيًا للنهي عن الزيادة عليهما، وليس كذلك، بل أمكن أن يكون مستفادًا من دليل آخر، فزيادة ركعة لا يكون ناسخًا.

قلت: فهو صحيح؛ فإن الكلام في أنّ الزيادة هل هي نسخ للمزيد، لا في كونها نسخًا لأمر آخر كما نبهنا عليه فيما مضى؟

وقال الإمام الرَّازي: إن ذلك يكون نسخًا؛ لوجوب التشهُّد عقيب الرَّكعتين، فإنه حكم شرعي.

ووافقه الآمدي.

ولأبي الحسين أن يقول. وجوب التشهّد عقيب الرَّكعتين ليس لخصوص كونه عقيبهما، بل لعموم آخرية الصَّلاة، وإذا لم يكن هذا الخصوص مقصودًا، فلا يكون محكومًا به شرعًا؛ فلا يكون رفعه رفعًا لشرعي، فلا يكون نسخًا.

سلمنا: أنه بخصوصه مقصود لكنه لم يرتفع، وإنما نقل محلّه من موضع إلى موضع، وفي جعل مثل هذا نسخًا نظر.

سلمنا: أنه يرتفع، ولكن كلامنا في نسخ العبارة المزيد عليها، وهي الركعتان لا في نسخ التشهد.

ص: 125

وَالتَّغْرِيبُ عَلَى الْحَدِّ كَذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: مَنْفِيٌّ بِحُكْمِ الأَصْلِ.

قُلْنَا: هَذَا لَوْ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ.

فإذن المختار ما قال أبو الحسين: أَنَّ زيادة رَكْعَة ليس بنسخ للرّكعتين؛ لأنهما قارّتان لم يرتفعا، ولا لإجزائهما؛ لأنهما يجزيان، ولكن قبل الزيادة بانفرادهما وبعدها مع الرَّكْعَة الأخرى، فلم يرتفع أداؤهما بالكلية، وإنما ارتفع إجزاؤهما بدون الرّكعة الزائدة، وذلك تابعٌ لنفي وجوبهما، ولا لوجوبهما؛ لبقائه كما ذكرناه، ولا لوجوب التشهد وتحريم الزيادة لما عرفت.

الشرح: "والتَّغْريب" إذا زيد "على الحَدّ كذلك"، فعند المصنف أنه نسخ؛ لتحريمه إذ كان تحريم التغريب.

"فإن قيل: منفي بحكم الأصل.

قلنا: هذا" إنما يتم "لو لم يثبت تحريمه"، ولكنه ثبت، والتَّحريم بدليل شرعي، فيكون الإيجاب رفعًا لثابت بدليل شرعي، وهو النسخ.

ولقائل أن يقول: ليس كلامنا إلّا في أنه هل هو نَسْخ للمزيد عليه الذي هو الجلدات لا غير، ثم لا نسلّم أن التغريب كان حرامًا بالشرع.

وحينئذ نقول المُخْتَار: أن زيادة التَّغريب لا تكون نسخًا؛ لأنه لا يزيل إلا نفي وجوب ما زاد على المائة، وهذا النفي غير معلوم بالشَّرع؛ لأن إيجاب المائة قدر مشترك بين إيجابها مع نفي الزَّائد وثبوته، وما به الاشتراك لا إشعار له بما به الامتياز، فإيجاب المائة لا إشعار له بالزيادة نفيًا وإثباتًا إلَّا أن نفي الزيادة معلوم بالعَقْل؛ لأنه من البَرَاءَةِ الأصلية، ورفع الثابت بالعقل ليس بنسخ، وأما كون الثمانين مجزئة، وكونها وحدها كمال الحَدّ، وكون الإمام لا يأثم بترك التَّغْريب، وكونه بحيث يجب الاقتصار عليه، فكلها أحكام عقلية، فلا يكون زوالها نسخًا، فيجوز قبول خبر الواحد فيه، كما يجوز قبوله في إثبات عبادة مستقلّة مع كونه يزيل كون العِبَادَاتِ الواجبات قبلها كلّ الواجبات إلى غير ذلك، فإن كونها كل الواجبات وغير ذلك أمر عقلي.

ولو كان كما قال المصنف من أن تحريم الزيادة ثابت بالشَّرْع لما جاز قبول خبر الواحد في نسخه، والتَّغريب ثابت بأخبار الآحاد، وكان يلزمه ألَّا يقبله؛ لتضمنه نسخ القرآن.

ص: 126

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهذا بخلاف ما لو قال الله: حَدّ الزنا مائة بلا زيادة، أو كمال حدّه مائة، فإن ذلك يكون نسخًا لا مَحَالة؛ لأنه رفع ما ورد عليه الشَّرع وحكم به وقرره.

فإن قلت: أليس رفع إيجاب التَّغْريب كون الفاء للجزاء في قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} [سورة النور: الآية 2]؛ إذ الجزاء ما يكون كافيًا، وكونه كافيًا على لسان الشَّرْع يمنع وجوب غيره شرعًا، فيكون برفعه رفعًا لما ثبت شرعًا.

قلت: أما كون الفاء للجزاء، فممنوع، وإنما هي للترتيب والتَّعْقيب [والسَّببية]

(1)

نحو: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} [سورة هود: الآية 45] فقال: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [سورة المؤمنون: الآية 14]، {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [سورة القصص: الآية 15]، ثم إنها تستعمل في الجزاء باعتبار التعقيب؛ إذ الجزاء يوجد عقيب الشرط، فلا دلالة لها على خصوصية الجزاء.

سلّمنا أنها للجزاء، ولكن لا نسلم أن الجزاء ما يكون كافيًا، وسنده أنه يصحّ قولك: هذا كل الجزاء أو بعض الجزاء، ولو كان اسمًا للكافي لكان الأول تكرارًا، والثاني بعضًا.

سلمنا لكن إنما يكون نسخًا لو ثبت أن ورود الخبر كان بعد حضور وقت العمل بالنَّص؛ إذ بتقدير وروده قبل، يكون دليلًا على أنه لم يرد منه حقيقته، ورفع حكم الدليل إنما يكون نسخًا بعد ثبوت حكمه واستقراره، أما قبل فلا؛ لاحتمال أن يقال:[إنه ما]

(2)

أريد به ذلك الحُكْم، واللَّفظ مستعمل على وجه التجوز، ولم يبين إذ ذاك؛ فإن تأخير البيان جائز إلى وقت الحاجة، والحَمْل على ذلك أولى من حمله على النسخ.

سلّمنا لكن نحن إنما نقبل الخبر بتقدير ألا يكون في النص ما يدلّ على نفي مدلوله، فلو ثبت أن فيه ذلك لم نقبله، كما عُرِفَ.

فإن قلت: أليس إن المائة إذا وجبت وسكت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذكر التغريب، ثم ذكره في ثاني الحال، كان سكوته أولًا سكوتًا عن البيان وقت الحاجة، والسّكوت عن البَيَانِ وقت الحاجة بيان، أن ما وقع [عند]

(3)

السكوت، فليس محكومًا به،

(1)

في أ، ت، ج: والتنبيه.

(2)

في ج: إنما.

(3)

في ج: إنما حصل به.

ص: 127

فَلَوْ خُيِّرَ فِي الْمَسْحِ بَعْدَ وُجُوبِ الْغَسْلِ فَنَسْخٌ؛ لِلتَّخْيِيرِ بَعْدَ الْوُجُوبِ.

وَلَوْ قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [سورة البقرة: الآية 282] ثُمَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ بِشَاهِدٍ وَيمِينٍ فَلَيْسَ بِنَسْخِ؛ إِذْ لَا رَفْعَ لِشَيْءٍ، وَلَوْ ثَبَتَ مَفْهُومُهُ وَمَفْهُومُ {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [سورة البقرة: الآية 282]؛ لَيْسَ فِيهِ مَنْعُ الْحُكْمِ بِغَيْرِهِ.

فيكون الشَّارع بالسكوت عن ذكر التغريب نافيًا له، فإذا أثبت في ثاني الحال كان رفعًا لما ثبت شرعًا، وهو حقيقة النَّسْخ.

قلت: لا نسلم أن السكوت عن التغريب سكوت عن البَيَانِ وقت الحاجة؛ فإنه لم يثبت أنه لما سكت عن ذكر التغريب كانوا محتاجين إلى بيان حَدِّ الزاني.

سلمنا، ولكنه سكوت عما لم يحكم الشرع بإيجابه، وهو منتفٍ بالبراءة الأصلية.

قولكم: فيكون الشارع بالسكوت نافيًا له.

قلنا: ليس معنى كونه نافيًا له إلّا أنه لم يجب شرعًا، ونحن قائلون بهذا، وكل باقٍ على البراءة الأصلية، فهو غير واجب شرعًا فلا يكون رفع كونه لم يجب شرعًا، رفعًا لحكم شرعي، وهذا لا يفرق بين ما لم يجب شرعًا، فالبراءة الأصلية كافيةٌ فيه، وما وجب عدمه شرعًا، وليس السّكوت على تقدير تسليمه دالًا إلا على الأول، وهو أنه لم يجب التغريب شرعًا لا على الثاني، وهو أن عدم التغريب واجب، فافهم ذلك.

ورأيت عبد العزيز الحنفي صاحب كتاب "كشف الأسرار" ردّ السؤال بأنه يلزم عليه إيجاب عبادة أخرى؛ فإن سكوته عليه الصلاة والسلام بعد إيجاب عبادة يدل على أن غيره ليس بواجب، بمنزلة ما لو نص عليه.

وما ذكرته أمتن؛ فإن للسَّائل أن يتخلص عن الإلزام بان العبادة الأخرى لا ارتباط لها بالعبادة الأولى، فلا يكون السكوت عنها ثابتًا لشيء، ولا دالًّا عليه، وهذا بخلاف التغريب مع الجلدات؛ فإن كلًّا مخهما داخل تحت الحَدّ، فكان السكوت عن التغريب كأنه سكوت عن بعض الحد.

الشرح: "ولو خير في المَسْحِ" على الخفين وغسل الرجلين "بعد وجوب الغسل" على التعيين "فنسخ"؛ خلافًا للإمام الرَّازي، والآمدي.

ص: 128

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإنما قلنا: إنه نسخ؛ "للتخيير بعد الوجوب"؛ فإن التَّخيير والتعيين حكمان شرعيّان، وقد رفع الأول الثاني.

"ولو قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [سورة البقرة: الآية 282] ثم ثبت الحكم بالنص بشاهد ويمين، فليس بنسخ؛ إذ لا رفع لشيء" من مدلول الآية.

"ولو ثبت مفهومه" أي مفهوم شهيدين، "ومفهوم: فإن لم يكونا رَجُلين؛ إذ ليس فيه منع الحكم بغيره". هذا كلام المصنف، ولم يقرره الآمدي على هذا الوجه.

وما فعله المصنّف حسن جدًّا، وحاصله أن أصحابنا قبلوا خبر الواحد، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشَّاهد واليمين.

وردّه الحنفية قائلين: إنه خبر واحد ناسخ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [سورة البقرة: الآية 282] قالوا: فإن الأمر كان دائرًا بين اثنين، فزيد ثالث، والزيادة نسخ.

وخبر الواحد لا ينسخ الكتاب.

وهو أضعف؛ لأن الآية والحديث لم يَتَوَاردا على محل واحد؛ إذ الآية في الأمر باستشهاد شَهِيدين، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان، والحديث في الحكم بشاهد ويمين، والاستشهاد غير الحكم.

ويزداد ما ذكره المصنّف حسنًا بأن يقول: ثم إن الأمر بالاستشهاد أمر إرشاد، فالله - تعالى - أرشد إلى الأكمل، والأكمل استشهاد شهيدين رجلين أو رجل وامرأتين إن لم يكونا رجلين، والشاهد واليمين دون ذلك؛ لأن أقل الأحوال كونه مختلفًا فيه، والإرشاد إنما يكون إلى الأكمل، وسيظهر لك نفع هذا التقرير إن شاء الله تعالى.

سلمنا أن مقتضى الآية: أنه - تعالى - أوقف الحكم على شاهدين، فليس في ذلك إلَّا أن شهادتهما حُجّة.

فلم قلتم: إنّ شهادة غيرهما لا تكون حُجّة، وإليه أشار في الكتاب، بقوله: فليس بنسخ؛ إذ لا رفع؟

لا يقال: مفهوم: "فإن لم يكونا رجلين" ومفهوم: شهيدين، يقضي بالانحصار فيهما، ويمنع الشاهد واليمين.

ص: 129

وَلَوْ زِيدَ فِي الْوُضُوءِ اشْتِرَاطُ غَسْلِ عُضْوٍ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ وُجُوبُ مُبَاحِ الأَصْلِ.

قَالُوا: لَوْ كَانَتْ مُجْزِئَةً ثُمَّ صَارَتْ غَيْرَ مُجْزِئَةٍ.

قُلْنَا: مَعْنَى "مُجْزِئَةٍ" امْتِثَالُ الأَمْرِ بِفِعْلِهَا، وَلَمْ يَرْتَفِعْ، وَارْتَفَعَ عَدَمُ تَوَقُّفِهَا عَلَى شَرْطٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إِلَى حُكْمِ الأَصْلِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا.

لأنا نقول: إن ثبت أن هذا مفهوم، فهو إنما يمنع استشهاد الشاهد واليمين، ونحن قائلون بذلك، أو نمنع الإرشاد إلى ذلك، ونحن قائلون به أيضًا في كل حالة، ولو أنه إلا خوفًا من قاضٍ حنفي يضيع حق الشافعية حين لا يجدون على حقوقهم إلا شاهدًا ويمينًا وقاضيًا حنفيًّا.

سلمنا أنه يمنع من الحكم بشاهد ويمين، ولكن لم قلتم: إن هذا المفهوم مراد من الخطاب، والنسخ إنما يتطرّق إلى مقتضى الخطاب بعد ثبوته.

سلمنا بثبوته، ولكن النسخ إنما يكون لمفهوم الخطاب لا للخطاب نفسه.

ولم قلتم: إن هذا لا يجوز.

سلمنا، ولكن ذلك لا يليق بمذهب من رَدّ الخبر؛ فإنه لا يقول بالمفاهيم.

الشرح: "ولو زيد في الوضوء اشتراط عضو "على الأعضاء السِّتة، "فليس بنسخ"؛ خلافًا لقوم؛ "لأنه إنما حصل وجوب مباح الأصل"، وليس بنسخ.

"قالوا: كانت" الطَّهارة قبل هذه الزيادة "مجزئة، ثم صارت غير مجزئة" إلا بها، فقد ارتفع إجزاؤها، وهو حكم شرعي.

"قلنا: معنى مجزئة: امتثال الأمر لفعلها، ولم يرتفع، وارتفع عدم توقفها على شرط آخر، وذلك مستند إلى حكم الأصل".

والحنفية فرضوا هذا الفرع في نية الوضوء، ولعلمائنا في ردّ كلامهم طرق شَتّى، وهذا منها مبني على أن النية لم توجد بقضية الترتيب الواقع في القرآن، على ما هو مقرر في الخلافيات.

ص: 130

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وكذلك لو زيد في الصَّلاة، ما [لم يكن فعله محرمًا]

(1)

، فليس بنسخ أيضًا؛ لأنه لم يحصل إلَّا وجوب مباح الأصل.

وأهمل المصنّف فرعًا خطيرًا، وهو تقييد الرقبة المطلقة بالإيمان.

وأعظم مقاصد الحنفية بأن الزيادة نسخ: التوصل إلى ردّ أخبار صحيحة بأنها خبر واحد يقتضي زيادة على القرآن، والزيادة نسخ؛ فلا يقبل.

وكلّ مقدّمة من هذه المقدمات تنقطع دونها إباط المَطِيّ، وبها توصّلوا إلى ردّ أحاديث تعيّن الفاتحة في الصَّلاة، والشاهد واليمين، وإيمان الرقبة، واشتراط النية في الوضوء إلى غير ذلك، مع مُنَاقضتهم لأصولهم؛ إذ قالوا: يشترط في ذوي القُرْبَى الحاجة، وهو زيادة على القرآن، ومخالف للمعنى أيضًا كما قدمناه في موضعه.

وقالوا: إنَّ القَهْقَهَةَ تنقض الوضوء مستندين إلى أخبار ضعيفة، وهي زيادة على نواقض الوضوء المذكورة في الكتاب العزيز.

فما بالهم قبلوا أحاديث ضعيفة، وزادوا بها على القرآن، وتركوا أحاديث الفاتحة مع صحّتها؛ ولو أنها في جانبهم لَتَطَاولوا وقالوا: هي مشهورة، وحكمها حكم المتواتر، فلتنسخ القرآن، ولقد ادّعوا الشهرة فيما هو دونها من الأحاديث، بل فيما ليس بصحيح، فإني رأيت منهم من يدّعي شهرة أحاديث القَهْقَهَةِ، فياللهِ وللمسلمين من غدير؛ فإنه من هؤلاء.

قال الأستاذ أبو منصور البغدادي: ومن زاد الخلوة على الآيتين الواردتين في الطَّلاق قبل المَسِيسِ في إيجاب العدّة، وتكميل المهر بخبر عمر رضي الله عنه مع مخالفة غيره له، وامتنع عن الزيادة على النص بخبر صحيح، كان حاكمًا في دين الله - تعالى - برأيه.

ونقض عليهم الأستاذ أبو منصور أيضًا بأن زيادة التغريب إن كانت نسخًا لزمكم أن يكلون إدخال نبيذ التَّمْر بين الماء والتراب نسخًا لآيتي الوضوء والتيمم، وهو مساو لزيادة التغريب وأنظاره بما تقدم.

وإن انفصلوا عن هذا بأن نبيذ الثَّمْرِ داخل في عموم الماء كقوله عليه الصلاة والسلام: "ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ".

(1)

بياض في أ، ب، ت.

ص: 131

‌مَسْأَلَةٌ:

إِذَا نَقَصَ جُزْءُ الْعِبَادَةِ أَوْ شَرْطُهَا، فَنَسْخٌ لِلْجُزْءِ وَالشَّرْطِ لَا لِلْعِبَادَةِ.

وَقِيلَ نَسْخٌ لِلْعِبَادَةِ.

عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ كَانَ جُزْءًا لَا شَرْطًا.

لنَا: لَوْ كَانَ نَسْخًا لِوُجُوبِهَا افْتقَرَتْ إِلَى دَلِيلٍ ثَانٍ، وَهُوَ خِلَافُ الإِجْمَاعِ.

قَالُوا: ثَبَتَ تَحْرِيمُهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَبِغَيْرِ الْرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ ثَبَتَ جَوَازُهَا أَوْ وُجُوبُهَا بِغَيْرِهِمَا.

قُلْنَا: الْفَرْضُ إِنْ تَحَدَّدَ وُجُوبٌ.

[قيل]

(1)

: قيل لهم: فيكون حينئذ رافعًا لإطلاق: "فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ"؛ ضرورة أنه لا يجوز التوضؤ به عند وجود غيره من المياه، وتقييد مدلول النّص المطلق نسخ للنص عندهم.

«مسألة»

الشرح: "إذا نقص جزء العبادة أو شرطها، فنسخ للجزء والشرط لا [للعبادة]

(2)

.

قال ابن السمعاني: وإليه ذهب جمهور أصحاب الشافعي.

"وقيل: نسخ للعبادة"

(3)

.

وفصّل القاضي "عبد الجَبَّار" فقال: نسخ "إن كان [جُزْءًا]

(4)

، لا شرطًا.

(1)

سقط في ب، ت، ج.

(2)

في ب: للصلاة.

(3)

ينظر: اللمع (34)، والتبصرة 281، والمعتمد 1/ 447، والمحصول 1/ 3/ 557، ونهاية السول 2/ 609، وشرح الكوكب 3/ 584، والإحكام للآمدي 3/ 162، والمستصفى 1/ 116، والمسودة 2/ 2، وروضة الناظر (42)، وشرح تنقيح الفصول (320)، وجمع الجوامع 2/ 93، والتحرير 397، وفواتح الرحموت 2/ 95، وإرشاد الفحول (196).

(4)

في أ، ت: جزاءً.

ص: 132

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لنا: لو كان نسخًا لوجوبها افتقرت" في إيجاب باقيها بعد المنقوص.

"إلى دليل ثَان"؛ لأن الفرض أنها منسوخة بالنقصان، "وهو خلاف الإجماع".

"قالوا": الصَّلاة التي نقص جزؤها كركعتين مثلًا، أو شرطها كالوضوء "ثبت تحريمها بغير طهارة، [وبغير]

(1)

الركعتين، ثم ثبت جوازها أو وجوبها بغيرهما"، وذلك حقيقة النسخ.

"قلنا:" عندنا ما يعارض هذا، فنقول:"الغرض" أنه "لم يتجدّد وجوب"، وإذا تعارض فالأصل عدم النسخ.

"فائدتان"

الأولى: الصَّلاة كانت إلى "بيت المقدس"، ثم إلى "الكعبة".

[فعندنا]

(2)

النسخ ورد على صفتها دون أصلها، ففرض الصلاة باقٍ، وإنما تغير الوجه فحسب.

وعند الخصوم على أصلها ففرض الصلاة مبتدئًا بالأمر الثاني.

الثانية: إذا نقصت العبادة ما لا يتوقف صحتها عليه، كسُنّة من سننها، ومثَّله الغزالي بالوقوف على يمين الإمام، وستر الرأس لم يكن نسخًا للعبادة بالاتفاق كما نقله قوم، وأول كلام الغزالي في "المستصفى" يوهم جريان الخلاف فيه.

وقد يقال: إن قلنا: إن العبادة مركبة من السّنن والفرائض، كان القول بأن نقصان السّنة نسخ لها كالقول في نقصان الجزء.

وإن قلنا: مختصة بالفرائض، فلا.

وصنيع الفقهاء يدل على أنها مركبة من الفرائض والسنن جميعًا حيث يذكرون في صفة الصلاة سننها، وحيث يقولون: باب فروض الصلاة وسننها.

(1)

في أ، ب، ت، ج: لغير.

(2)

في ج: فعند.

ص: 133

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ: جَوَازُ نَسْخِ وُجُوبِ مَعْرِفَتِهِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ

؛ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَهِيَ فَرْعُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ.

وَالْمُخْتَارُ: جَوَازُ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَّالِيفِ؛ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ" ا. هـ.

"لَنَا: أَحْكَامٌ كَغَيْرِهَا.

قَالُوا: "لَا يَنْفَكُّ عَنْ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُهُمَا، وَينْقَطِعُ التَّكْلِيفُ بِهِمَا وَبِغَيْرِهِمَا، واللهُ أَعْلَمُ.

«مسألة»

الشرح: "المختار: جواز نسخ وجوب معرفته" تعالى، "وتحريم الكفر وغيره"

(1)

من الظّلم والكذب؛ "خلافًا للمعتزلة، وهي فرع التحسين والتَّقبيح"؛ فإنهم لما ذهبوا إليه قالوا: من الأحكام ما لا يقبل النسخ، وهو ما كان بذاته، أو اللازم ذاته حسنًا أو قبيحًا، لا يختلف باختلاف الأزمان، كحسن معرفة البَاري - تعالى - وشكر المنعم، والعدل، وقبح الكُفْر والظّلم والكذب الضَّار، وهو سديد على أصلهم، ولكنه عندنا أصل باطل، فلا جرم أنا خالفناهم.

واتفقنا نحن وإياهم على جواز زَوَال التكاليف بأسرها عن المكلف؛ لزوال شرطه كالعقل، وأنه لا يجوز أن ينهى الله - تعالى - المكلف عن معرفته، إلَّا إذا جوَّز تكليف ما لا يُطَاق؛ لأن نهيه عنها يستدعي معرفة النَّهي، وفي ذلك معرفة الناهي، ففي امتثال النهي ضد مقتضاه، وهو تكليف ما لا يطاق.

"والمختار: جواز نسخ جميع التكاليف؛ خلافًا للغزالي" والمعتزلة

(2)

.

الشرح: "لنا: أحكام كغيرها"، فجاز نسخها.

(1)

ينظر: نهاية السول 2/ 614، وشرح الكوكب 3/ 586، وجمع الجوامع 2/ 90، والإحكام للآمدي 3/ 164، والمعتمد 1/ 400، والمستصفى 1/ 122، وكشف الأسرار 3/ 163، وتيسير التحرير 3/ 193، وفواتح الرحموت 2/ 67، وشرح العضد 2/ 203.

(2)

ينظر: الإحكام للآمدي 3/ 164، ونهاية السول 2/ 616، وشرح الكوكب 3/ 586، وجمع =

ص: 134

‌كتاب القياس

القياس مِيزَان العقول، وميدان الفُجُول، ونحن نرى أن نُرْخي فيه العِنَان طويلًا، ونبسط فيه المَقَال قليلًا، فإنه مَنَاط الاجتهاد، ومنبع الآراء، والكافل بتفاصيل الأحْكام عند تَشَاجر الغوغاء، والمسترسل على جميع الوَقَائع، والموجود إذا فقدت النصوص، واختلفت الأقوال، وظنّ ضيق المسالك، وانسداد الذَّرائع.

"الْقِيَاسُ: التَّقْدِيرُ وَالْمُسَاوَاةُ.

"قالوا: لا ينفكّ عن وجوب معرفة النسخ والناسخ"، فيجب معرفته [ضمنًا]

(1)

، وهو نوع من التكليف، فلو انتفت؛ جميع التكاليف لم ينتف لما ذكرناه، فبطل القول بانتفائها جملة.

"وأجيب بأنه، كما ذكرتم لا بُدّ من معرفة المكلف النسخ والناسخ، ولكن لا يمتنع أنه "يعلمهما، وينقطع التكليف" بعد معرفته "بهما"؛ لانقطاعه بعد الفعل اتفاقًا، "وبغيرهما" لا طاعة عليهما، فلا يبقى تكليف أصلًا.

ولقائل أن يقول: لم سلمتم أن نسخ جميع التكاليف يستدعي معرفة النسخ والناسخ؟.

والحَقّ أنه غير مسلم، وإنما يستدعي ذلك لو كلف بأن يعرف أنه غير مكلّف.

أما إذا لم يكلف، فليس إلَّا رفع التكليف جملةً، وليس من شرط ذلك أن يعلم به العبد، "والله المستعان".

الشرح: فنقول: هو في اللغة

(2)

: "التقدير والمُسَاواة" تقول: قِسْتُ الشيءَ بالشيء

= الجوامع 2/ 89، والمستصفى 1/ 123، والمسودة (200)، وفواتح الرحموت 2/ 68.

(1)

في ب: ضمنيًا.

(2)

ينظر: مباحثه في: البرهان لإمام الحرمين 2/ 743، والبحر المحيط للزركشي 5/ 5، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 167، وسلاسل الذهب للزركشي ص 364، والتمهيد للأسنوي ص 463، ونهاية السول له: 4/ 2، وزوائد الأصول له ص 374، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 3، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 211، والتحصيل من =

ص: 135

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي: قدّرته على مثاله.

ويقال: بينهما قيس رُمْح، وقَاسُ رمح، أي: قَدْرُ رمح.

وفي الحديث: "لَيْسَ مَا بَيْنَ فِرْعَوْنَ مِنَ الفَرَاعِنَةِ وَفِرْعَوْنَ هذِهِ الأُمَّةِ قَيْسُ شِبْرٍ".

والقَيْس والقَيْد سواء.

وفي حديث أبي الدَّرْدَاء: "خَيْرُ نِسَائِكُمُ الَّتِي تَدْخُلُ قَيْسًا".

أي: أنها إذا مشت قاست بعض خُطَاها ببعض، فلا تعجل فعل الخَرْقَاء، ولا تبطئ، ولكنها تمشي مشيًا وسطًا معتدلًا، فكأن خُطاها متساوية.

وفي حديث الشَّعْبي: "أنه قضى بشهادة القَائِسِ مع يمين المَشْجُوج"، الَّذي يقيس الشَّجَّة، ويتعرّف غورها بالميل الذي يدخله فيها ليعتبرها.

وكان أبي رحمه الله يقول: من قال: القياس: التَّقدير والمساواة فيه مُسَامحة في شيئين.

= المحصول للأرموي 2/ 155، والمنخول للغزالي ص 323، والمستصفى له 2/ 228، وحاشية البناني 2/ 202، والإبهاج لابن السبكي 3/ 3، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 2، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 239، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 195، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 528، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 7/ 368، 8/ 487، وأعلام الموقعين لابن القيم 1/ 101، والتحرير لابن الهمام ص 415، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 263، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 117، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 789، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 196، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 247، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 52، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 212، وشرح المنار لابن ملك ص 103، والوجيز للكراماستي ص 64، وتقريب الوصول لابن جزيّ ص 134، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 198، وشرح مختصر المنار للكوراني ص 103، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص 479، والصحاح للجوهري 3/ 968، والمصباح المنير 2/ 521، وأصول الشاشي (325)، والعدة 1/ 174، والحددود للباجي (69)، والمنتهى لابن الحاجب 122، وشرح التنقيح 383، وروضة الناظر 145، ونبراس العقول 9 - 13.

ص: 136

وفي الاصطلاح: مساواة فرع الأصل في علة حكمه.

أحدهما: إطلاق التقدير، وليس كل تقدير قياسًا ألا ترى إلى قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [سورة الأعلى: الآية 2 - 3].

أي: جعله في نفسه ذا قدر مخصوص، وليس معناه: قدره [بغيره]

(1)

، إلَّا أن يرد إليه بتأويل.

والثاني: أن المساواة صفة المَقِيس، والقياس صفة القَائِس وفعله، فلو قال موضعها: التسوية كان أولى، هذا معناه في اللغة.

الشرح: "وفي الاصطلاح" عند المُخطئة

(2)

، وهم القائلون: بأنَّ المصيب واحد:

(1)

سقط في ت.

(2)

من العلماء من جعل الحقائق الشرعية تشمل الصحيح والفاسد، ومنهم من خصها بالصحيح دون الفاسد، كما أن منهم من يقول إن كل مجتهد في الفروع مصيب، ومنهم من يقول: إن المصيب عند الاختلاف واحد، ويسمى الفريق الأول بالمصوّبة، والثاني بالمخطئة، ولهاتين المسألتين الخلافيتين أثرهما في تعريف القياس.

فإما أن يراد تعريفه على رأي المصوبة مع اختصاصه بالصحيح أو شموله للفاسد، أو على رأي المخطئة كذلك، فهذه صور أربع لا بد من النظر إلى التعريف بناء عليها:

"الصورة الأولى" أن يراد تعريف القياس على رأي المصوبة مع اختصاصه بالصحيح، وفي هذه الصورة يكفي التعريف السابق ولا يحتاج إلى زيادة قيد "في نظر المجتهد" وذلك لأن المصوبة يعتقدون أن المساواة التي أدى إليها نظر كل مجتهد هي المساواة في الواقع؛ إذ ليس لله تعالى في كل مسألة حكم معين قد يصيبه المجتهد وقد يخطئه، فالناظر إلى تعريف القياس السابق إن فهم المساواة في الواقع لم يضر لأنها ملازمة للمساواة في نظر المجتهد؛ إذ لا واقع سواه عندهم. هذا ما يؤخذ من مسلم الثبوت خلافًا لما في "المختصر" و"التحرير" من لزوم زيادة القيد المذكور في هذه الصورة.

ووجه ذلك صاحب التحرير وشارحه "بأن إطلاق المساواة يتبادر منه المساواة في نفس الأمر وافقت نظر المجتهد أولا، وليس لدى المصوبة مساواة في نفس الأمر أصلًا، فيصير الإطلاق كقيد مخرج لجميع أفراد المحدود؛ فيكون التعريف باطلًا" اهـ.

"وفيه عندي نظر" فإن المصوبة يقولون: إن كل مجتهد مصيب، ولا معنى للإصابة إلا موافقة الواقع فهم لا ينفون وجود حكم في نفس الأمر، وإنما ينفون وحدة الحكم وتعينه في نفس الأمر، ويقولون: إن الحكم في نفسه متعدد بتعدد الآراء، لكنهم اختلفوا أهذا الحكم أزلي أم =

ص: 137

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حادث بحدوث هذه الآراء؟ فعلى الرأيين توجد مساواة في الواقع حادثة أو قديمة، وهذا الواقع يطابقه نظر المجتهد حتى لو اجتهد ثانيًا ورجع كان الرأي الأول كالحكم المنسوخ، فيكون صوابًا قبل الرجوع عنه، فقول صاحب التحرير: (إن إطلاق المساواة يتبادر منه المساواة في الواقع وافقت نظر المجتهد أم لا! إن أراد أن ذلك يتبادر إلى المخطئ فلا يضر المصوبة لأنهم لا يراعون مذهبه، وإن أراد أنه يتبادر إلى المصوب فغير صحيح؛ لأن المصوبة؛ لا يقسمون الواقع إلى موافق وغيره، وقول شارحه:"إنه ليس لدى المصوبة مساواة في نفس الأمر أصلًا" فيه نظر كما علمت.

وبهذا تبين أته لا حاجة إلى زيادة هذا القيد على رأي المصوبة في هذه الصورة، بل لا تصح زيادته؛ لأنه يشمل النظر الصحيح والفاسد، فإذا زيد في التعريف شمل القياس الفاسد مع أن الفرض في هذه الصورة تخصيصه بالصحيح.

"الصورة الثانية": أن يراد تعريف القياس على رأي المصوبة مع شموله للفاسد، وهنا يقال: كيف يتصور أن يكون لدى المصوبة قياس فاسد مع أنهم يقولون: إن كل مجتهد مصيب؟.

"ويمكن الجواب" بأن القياس الذي يسوقه المجتهد للإلزام مثلًا وهو لا يعتقد صحته فاسد عندهم لأنهم إنما يصوبون ما اعتقد المجتهد صحته يقينًا أو ظنًّا، فإن أريد التعريف الشامل لهذا لم يكف التعريف السابق؛ لأنه يتبادر منه المساواة في الواقع، وهي إنما توافق نظر المجتهد الذي يعتقد صحته فقط، فلا بد أن يزاد قيد "في نظر المجتهد" فإنه يشمل النظر الذي يعتقد صحته والذي لا يعتقد صحته، فإذا قيدت به المساواة شملت المساواة الموافقة للواقع والمخالفة له؛ فصح أن يعرف بها القياس الشامل للصحيح والفاسد.

"الصورة الثالثة": أن يراد تعريف القياس على رأي المخطئة مع اختصاصه بالصحيح، وهذا قيل فيه: إنه يكفي فيه التعريف السابق من غير ملاحظة القيد المذكور؛ لأن المساواة متى أطلقت انصرفت للمساواة في الواقع؛ فيخرج القياس الفاسد الذي ظهر للمجتهد فساده، أما القياس الفاسد الذي لم يظهر للمجتهد فساده فمن العلماء من أخرجه أيضًا؛ لأنه غير مطابق للواقع، ومنهم من جعل التعريف شاملًا له؛ بناء على أن المراد "المساواة في الواقع حقيقة أو حكمًا" وهذا الذي لم يظهر فساده مساوٍ في الواقع حكمًا.

"والذي أراه" أنه يجب شمول التعريف للفاسد الذي لم يظهر فساده؛ وذلك لأمرين:

"أحدهما": أن الفاسد الذي لم يظهر فساده معمول به عند من يعمل بالقياس، ومنكر عند من ينكره، فحجيته موضع نزاع عند الفريقين؛ فينبغي شمول التعريف له؛ لأن المقصود تعريف القياس الذي يتنازع الفريقان في حجيته ولو في الجملة. =

ص: 138

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= و"ثانيهما": أن المساواة في الواقع إما أن يفرض علم المجتهد بها أو ظنه إياها، فعلى فرض علمه بها لا يمكن النزاع في حجيتها؛ إذ لا يعقل أن يسلم إنسان أن حكم الأصل معلل بالعلة الفلانية حقيقة، وأن هذه العلة موجودة في الفرع حقيقة من غير مانع ثم ينكر ثبوت حكم الأصل في الفرع، وعلى فرض ظنه إياها تكون مساواة في الواقع ظاهرًا، فتشمل المساواة الصحيحة في الواقع حقيقة والفاسدة التي لم يظهر فسادها. فلو اختص التعريف بالحالة الأولى، وهي حالة العلم لم يصح؛ لأنه يكون مقصورًا على محل الوفاق، ولو اختص بالحالة الثانية وهي حالة الظن لم يصح أيضًا؛ لأنه حينئذ يكون مقصورًا على محل النزاع.

فالواجب إذًا أن يشمل الحالتين؛ فيكون بعضه محل نزاع وبعضه محل وفاق، وعلى هذا يشمل الفاسد الذي لم يظهر فساده.

ومن هنا يعلم أن من خص التعريف بالصحيح لا بد أن يريد به الصحيح ظاهرًا؛ ليدخل فيه الفاسد، قبل ظهور فساده وإلا كان قاصرًا، فإذا لم يذكر في تعريفه قيد "في نظر المجتهد" فلا بد أن يريد "بالمساواة" المساواة في الواقع حقيقة أو حكمًا؛ لئلا يكون تعريفه غير جامع.

لكن الذي يتبادر من المساواة هو المساواة حقيقة، فعلى هذا لا يكفي التعريف السابق بل لا بد أن تقيد المساواة فيه بما يبين عمومها للفاسد الذي لم يظهر فساده بأن يقال "ولو حكمًا" أو "ولو ظنًّا".

"الصورة الرابعة"، أن يراد تعريف القياس على رأي المخطئة مع شموله للفاسد، وفي هذه الصورة لا بد من زيادة القيد المذكور، فالتعريف به يشمل كل مساواة في نظر المجتهد، سواء أكان صحيحًا أم فاسدًا، وسواء أعلم فساده أم لا، لكنه يخرج المساواة الواقعية التي لا يراها المجتهد، فهو وإن أفاد الشمول للفاسد قد أخرج بعض الصحيح. كذا يؤخذ من مسلّم الثبوت.

"وأجاب شارحه" بأنه لا بأس بخروج هذه الصورة لأنه لا يتعلق بها غرض.

"أقول": هذه الصورة فرضية لا وقوع لها أصلًا، سواء أراد بعدم رؤية المجتهد عدم اطلاعه على المساواة أو عدم اعتقاده صحتها؛ لأنه لو وقع أمر يساوي في الواقع أمرًا آخر في علة حكمه، ولم يطلع أحد من المجتهدين على هذه المساواة أو اطلعوا عليها جميعًا ولم يعتقدوا صحتها لزم حكمهم على ذلك الأمر بما يخالف الأمر الآخر؛ فتجتمع الأمة على الخطأ؛ وهذا باطل، والصورة المذكورة لا يضر خروجها عن التعريف؛ لأنها لا وجود لها.

"وصفوة القول"؛ أن قيد "في نظر المجتهد" إنما تلزم زيادته إن أريد شمول التعريف للقياس الصحيح والفاسد، سواء على رأي المصوبة أم المخطئة، فإن أريد اختصاصه بالقياس الصحيح =

ص: 139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"مُسَاواة

(1)

فَرْعِ الأصل

(2)

في

= وجب حذفه عند المصوبة والمخطئة، لكن يزاد بدله عند المخطئة "ولو حكمًا" أو "ولو ظنًّا" على ما أوضحته.

"فإن قلت": أيهما أرجح تعميم التعريف للصحيح والفاسد أو تخصيصه بالصحيح؟.

"قلت": أما في مقام إثبات الحجية فالأرجح تخصيصه بالصحيح ولو ظنًّا؛ لأنه هو المتنازع فيه بين مثبتي القياس ومنكريه، وأما في مقام المناظرة فالأرجح تعميمه للصحيح والفاسد وإن علم فساده، لأن المتناظرين يسمون كلًا منهما قياسًا؛ ألا تراهم يقولون: هذا قياس مع الفارق، وهذا قياس في مقابلة النص، فيسمون كلًا منهما قياسًا؛ مع قولهم بفساده؟

(1)

"مساواة" فهو جنس في التعريف يشمل كل مساواة بين أمرين، سواء أكانت مساواة في علة الحكم أم في غيرها، كمساواة زيد لعمرو في الفضائل، ومساواة الثوب للثوب في الجنس أو لنوع أو المقدار، وقد عبر الآمدي عن هذا العنصر بكلمة "الاستواء" ولا فرق بينها وبين كلمة "المساواة" في المعنى.

(2)

وأما التعبير "بالفرع والأصل" فقد أورد عليه الكمال أنه يستلزم الدور؛ فيكون فاسدًا.

"وبيانه": أن تصور الفرع والأصل متفرع على تصور القياس؛ لأن الفرع هو المقيس والأصل هو المقيس عليه، فمعرفتهما متوقفة على معرفة القياس؛ لأن معرفة المشتق متوقفة على معرفة المشتق منه، وأخذهما في التعريف يقتضي توقف القياس عليهما فقد توقف كُلٌّ على الآخر من جهة التصور؛ فيلزم الدور.

وأجيب عنه بجوابين:

"الأول" أن المراد بالفرع محل الحكم المطلوب إثباته فيه، وبالأصل محل الحكم المعلوم ثبوته فيه، فالمراد بهما ذات الفرع وذات الأصل مع قطع النظر عن وصفهما العنواني وهو الفرعية والأصلية، ولا يخفى أن تصورهما بهذا المعنى ليس موقوفًا على تصور القياس؛ فلا دور.

"نعم" كان يلزم الدور لو أريد بالفرع المقيس وبالأصل المقيس عليه؛ لأن تصورهما بهذا المعنى هو المتوقف على القياس.

"ونوقش هذا الجواب" بأن هذا المراد خلاف مقتضى ظاهر اللفظ؛ لأن المتبادر من إطلاق الوصف "فرع وأصل" إرادة الذات مع ما قام بها من ذلك المعنى، فإرادة الذات مجردة عنه عناية ينبو عنها التعبير بالوصف، خصوصًا في مقام التعريف، فهو جواب غير سديد.

"الثاني" أن المأخوذ في التعريف "الأصل والفرع" بالمعنى اللغوي. =

ص: 140

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

علّة

(1)

حكمه"، كمساواة النبيذ للخَمْرِ في علَّة التحريم، فالأصل الخمر، والفرع النَّبيذ، والعلَّة الإسكار.

ولقائل أن يقول: القياس فعل القائس، والمساواة نتيجةُ فعله لا نفس فعله. و - أيضًا - لفظ الفرع والأصل يوهم أنّهما وجوديان، والقياس يجري في المَعْدُومين جريانه في الوجوديين، ثم إنا لا نعرف أن هذا فرع وذاك أصل، إلا بكون هذا مقيسًا على ذلك، فإطلاق الفرع عليه. قيل: آيلٌ إلى الدور، فلو قال: حمل معلوم على معلوم لمساواته في علّة حكمه، كان أولى.

= فالمراد بالأصل ما بني عليه غيره، وبالفرع ما بني على غيره، وهما بهذين المعنيين لا يتوقف تصورهما على تصور القياس، وإنما يتوقف على تصور القياس تصورهما بالمعنى الاصطلاحي "أي المقيس والمقيس عليه". وليسا مأخوذين في التعريف بهذا المعنى، فلا دور. ولا يخفى أن ذلك كله لا يدفع توهم الدور، فالأولى عدم استعمالهما في التعريف، فالتعبير بالمحلين أولى.

(1)

"والعلة". هي الوصف الذي علم بالنص أو الاستنباط أن الحكم على المحل الآخر كان من أجله، وهل معنى المساواة في العلة وجود مثل علة حكم المحل الآخر في الأول، أو وجود عينها؟ اختلفوا في ذلك:

فذهب العضد وغيره إلى الأول.

وذهب الكمال وغيره إلى الثاني.

"ووجهة القول الأول" أن ثبوت عين علة المحل الآخر في الأول لا يتصور؛ لأن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين، فالإسكار القائم بالخمر لا يتصور أن يقوم بالنبيذ.

"ووجهة القول الثاني" أن علة حكم المحل الآخر لا يراد بها الوصف الجزئي بل الكلي، وهو بعينه ثابت في المحل الأول، فمناط حرمة الخمر الإسكار مطلقًا؛ لأنه المشتمل على المفاسد التي من أجلها حرم الخمر، وليس المناط الإسكار بقيد كونه إسكار خمر؛ لأن المفاسد لا تختص؛ ولأنه لو كان كذلك لكان قاصرًا على الخمر، والوصف القاصر لا يصلح علة للقياس.

ص: 141

وَيَلْزَمُ الْمُصَوِّبةَ زِيَادَةٌ "فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ"؛ لأَنَّهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ تبَيَّنَ الْغَلَطَ وَالرُّجُوعَ؛ بِخِلَافِ الْمُخَطِّئَةِ، وَإنْ أُرِيدَ الْفَاسِدُ مَعَهُ قِيلَ: تَشْبِيهٌ.

وَأُورِدَ:‌

‌ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ

؛ فَإِنَّهُ لا يُذْكَرُ فِيهِ عِلَّةٌ.

وَأُجِيبَ: إِمَّا بِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمُسَاوَاةَ فِيهَا.

الشرح: "ويلزم المصوّبة" وهم القائلون: بأنّ كل مجتهد مصيب "زيادة" قَيْد آخر في التعريف، وهو:"في نظر المجتهد"؛ لأنَّه صحيح"، عندهم، "وإن تبين الغلط والرجوع" بسببه؛ إذ ذلك لا يقدح فيه عندهم.

بل يقولون: انقطع حكمه لدليل آخر حدث، فإذن لا يلزم المصوبة المُسَاواة إلا في نظر المجتهد، ويلزمهم هذه الزيادة، "بخلاف المخطئة".

هذا إذا حددنا القياس الصحيح، "وإن أريد الفاسد معه" لم تشترط المساواة لا في نفس الأمر، ولا في نَظَرِ المجتهد.

"وقيل: تشبيه" فرع إلى آخره، فإن التشبيه أعمّ من حصول المُسَاواة.

ولو قيل: تسوية بدل تشبيه، كان أحسن؛ ليناسب لفظ المساواة.

"وأورد" على عكس الحدّ: "قياس الدّلالة؛ فإنه" قياس مع أنه "لا يذكر فيه علَّة"، بل هو قسيم قياس العلَّة، والجامع فيه دليل العلَّة لمُلَازمته لها.

مثاله: المسروق عَيْن يجب ردّها قائمة وإن قطع فيها؛ فيجب ضَمانها تالفةً كالمغصوب؛ فإن وجوب الرد ليس علّة الضمان في سورة المغصوب.

الشرح: "وأجيب: إما بأنه"، أي: قياس الدلالة

(1)

"غير مُراد"، فإنا لا نعني بلفظ

(1)

قياس الدلالة: هو ما لا تذكر فيه العلة بل يذكر فيه ما يدل عليها، وهو الوصف الملازم لها.

"مثاله" قول الشافعية لإثبات أن المسروق يجب ضمانه هالكًا وإن قطعت يد السارق فيه: "المسروق يجب على السارق رده إذا كان قائمًا وإن قطعت يده فيه، فيجب ضمانه إذا هلك وإن قطعت يده فيه أيضًا؛ قياسًا على المغصوب؛ بجامع وجوب الرد في كل" فقاسوا المسروق على المغصوب في وجوب الضمان حال الهلاك بجامع وجوب الرد حال القيام في كل. وإنما =

ص: 142

وَأُورِدَ:‌

‌ قِيَاسُ الْعَكْسِ،

مِثْلُ: لَمَّا وَجَبَ الصِّيَامُ فِي الاِعْتِكَافِ بِالنَّذْرِ، وَجَبَ بِغَيْرِ نَذْرٍ.

عَكْسُهُ: الصَّلَاةُ لَمَّا لَمْ تَجِبْ فِيهِ بِالنَّذْرِ، لَمْ تَجِبْ بِغَيْرِ نَذْرٍ.

القِيَاس عند الإطلاق إلا قياس العلّة، ولا نطلقه على قياس الدّلالة إلا مقيدًا.

"وإما بأنه يتضمَّنُ المساواة فيها"، أي: في العلّة لا يستلزم الجامع لها، فإن المساواة في وجوب الضَّمان دلَّت على قَصْد الشارع حفظ المال بهما، وهو العلّة، فإذن قياس الدلالة داخلٌ في الحد؛ فإن المساواة موجودة فيه ضمنًا، ولا فَرْقَ بين أن توجد ضمنًا أو يصرح بها.

الشرح: "وأورد" على عكس الحَدّ - أيضًا - "قياس العكس"

(1)

، فإنه قياس،

= كان ذلك من قياس الدلالة؛ لأن وجوب الرد ليس هو علة وجوب الضمان في سورة المغصوب بل هو ملازم للعلة ودال عليها "وهي التعدي على مال الغير" فظهر بهذا أن الجمع في القياس المذكور بملازم العلة، لا بنفس العلة فكان قياس دلالة.

"مثال آخر" قياس النبيذ على الخمر في الحرمة بجامع الرائحة المشتدة في كل؛ فإن الرائحة المشتدة ليست هي العلة، بل العلة ملازمها "وهو الإسكار".

(1)

أوضح ذلك فأقول: قياس العكس: هو إثبات نقيض حكم معلوم في معلوم آخر لوجود نقيض علته فيه، وهاك مثالًا يوضحه:

اتفق الحنفية والشافعية على أن الإنسان لو نذر أن يعتكف صائمًا كان الصوم شرطًا في صحة الاعتكاف، واتفقوا كذلك على أنه لو نذر أن يعتكف مصليًا لم تكن الصلاة شرطًا في صحة الاعتكاف وبالضرورة يكون الحكم كذلك في حالة عدم نذرها معه. ثم اختلفوا في الاعتكاف بدون نذر الصوم معه.

أيكون الصوم شرطًا لصحته أم لا؟.

ذهب الحنفية إلى أنه شرط. وذهب الشافعية إلى أنه ليس بشرط. استدل الحنفية على مذهبهم بقياس هذا نظمه:

"لمّا وجب الصوم شرطًا للاعتكاف بنذره معه، وجب بدون نذره معه كالصلاة لمّا لم تجب شرطًا للاعتكاف بنذرها معه لم تجب بغير نذرها معه".

فالأصل المقيس عليه الصلاة والحكم عدم وجوبها شرطًا بغير نذرها، والعلة عدم وجوبها شرطًا بنذرها. =

ص: 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والتَّعْرِيف لا يتناوله، وهو: إثبات نقيض حُكْمِ الشيء في شيء آخر؛ لافتراقهما في العلَّة.

"مثل" قول الحَنَفِي: "لما وجب الصِّيَام في الاعتكاف بالنَّذْرِ

(1)

، وجب بغير نذر،

= والفرع الصوم، وحكمه الوجوب شرطًا في حال عدم نذره، والعلة وجوبه شرطًا بنذره. فقد أثبتوا نقيض حكم الأصل في الفرع، لتناقضهما في العلة.

(1)

الصيام ليس من شرط الاعتكاف، ولكن الأفضل أن يعتكف بصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في شهر رمضان، وهذا صحيح ثابت في الصحيحبن من رواية ابن عمر، وعائشة، وأبي سعيد الخدري، وصفية أم المؤمنين وغيرهم من الصحابة، فإن اعتكف بغير صوم جاز؛ لحديث عمر رضي الله عنه إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية: فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: "أوْفِ بِنَذْرِكَ" ولو كان الصوم شرطًا لم يصح بالليل وحده، وهذا الحديث رواه مسلم والبخاري. وفي رواية للبخاري:"أوْفِ بِنَذرِكَ اعْتكِف لَيْلَةَ" وفي رواية لمسلم قال: يا رسول الله إني نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِأنْ أعْتكِفَ يَوْمًا. قَالَ: "اذْهَبْ، فَاعْتكِفْ يَومًا".

أما الأحكام، فقال الشافعي والأصحاب: الأفضل أن يعتكف صائمًا، ويجوز بغير صوم، وبالليل وفي الأيام التي لا تقبل الصوم، وهي العيد والتشريق. هذا هو المذهب، وبه قطع الجماهير في جميع الطرق، وحكى الشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين وآخرون قولًا قديمًا أن الصوم شرط، فلا يصح الاعتكاف في يوم العيد والتشريق، ولا في الليل المجرد.

قال إمام الحرمين: قال الأئمة: إذا قلنا بالقديم لم يَصِحَّ الاعتكاف بالليل لا تبعًا ولا منفردًا. ولا يشترط الإتيان بصوم من أجل الاعتكاف، بل يصح الاعتكاف في رمضان، وإن كان صومه مستحقًا شرعًا مقصودًا، والمذهب أَنَّ الصَّومَ ليس بشرط. فإذا قلنا بالمذهب فنذر أن يعتكف يومًا هو فيه صائم، أو أيامًا هو فيها صائم لزمه الاعتكاف بصوم بلا خلاف، وليس له إفراد الصوم عن الاعتكاف، ولا عكسه بلا خلاف. صرح به المُتَوَلِيُّ، والبَغوِيُّ وآخرون قالوا: ولو اعتكف هذا الناذر في رمضان أجزأه؛ لأنه لم يلتزم بهذا النذر صومًا، وإنما نذر الاعتكاف بصفة، وقد وجدت، وكذا لو اعتكف في غير رمضان صائمًا عن قضاء، أو نذر، أو عن كفارة أجزأه؛ لوجود الصفة، أما إذا نذر أن يعتكف صائمًا، فإنه يلزمه الاعتكاف والصوم، وهل يلزمه الجمع بينهما؟ فيه وجهان مشهوران.

أحدهما: لا يلزمه، بل له إفرادهما.

قال أبو علي الطبري: وأصحهما: يلزمه، وهو قول جمهور الأصحاب، وهو المنصوص في =

ص: 144

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عكسه: الصَّلاة لما لم تجب فيه"، أي: في الاعتكاف "بالنَّذْرِ، لم تجب بغير نذر".

فالأصل: الصَّلاة في الاعْتِكَافِ، والفرع: الصوم فيه، وحكم الصلاة: أنها ليست

= الأم، فعلى هذا لو شرع في الاعتكاف صائمًا، ثم أفطر لزمه أن يستأنف الصوم والاعتكاف،

وعلى الأول يكفيه استئناف الصوم، ولو نذر اعتكاف أيام وليال متتابعة صائمًا، فجامع ليلًا، ففيه هذان الوجهان.

أصحهما: يستأنفهما.

والثاني: يستأنف الاعتكاف دون الصوم؛ لأن الصوم لم يفسد، ولو اعتكف في رمضان أجزأه على وجه أبي علي الطبري عن الاعتكاف، وعليه أن يصوم، ولا يجزئه على الصحيح المنصوص، بل يلزمه استئنافهما، ولو نذر أن يصوم معتكفًا فطريقان:

أحدهما وبه قال أبو محمد الجويني: لا يلزمه الجمع بينهما، بل له تفريقهما وجهًا واحدًا؛ لأن الاعتكاف لا يصلح وصفًا للصوم، بخلاف عكسه؛ فإن الصوم من مندوبات الاعتكاف.

وأصحهما وبه قال الأكثرون: فيه الوجهان السابقان، ولو نذر أن يصلي معتكفًا، أو يعتكف مصليًا لزمه الاعتكاف والصلاة، وفي لزوم الجمع بينهما طريقان:

أحدهما: أنه على الوجهين في من نذر الاعتكاف صائمًا، وأصحهما لا يجب الجمع بينهما، بل له التفريق وجهًا واحدًا، والفرق أن الصوم والاعتكاف متقاربان في أن كُلًّا منهما كف بخلاف الصلاة، فإنها أفعال مباشرة لا تناسب الاعتكاف، فلم بشترط جمعهما، ولو نذر أَنْ يصلي صلاة يقرأ فيها سورة معينة لزمه الصلاة، وقراءة السورة، وفي لزوم الجمع بينهما وجواز التفريق الوجهان السابقان، ولو نذر أن يعتكف شهر رمضان ففاته، لزمه اعتكاف شهر آخر، ولا يلزمه الصوم بلا خلاف.

وقال مالك وأبو حنيفة: إن الاعتكاف لا يصح بغير صوم، واستدلوا بما رواه الزُّهْرِيُّ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بصَوْم": ولما روى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي نَذَرْتُ اعْتِكافَ يَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فقال رَسُولُ اللهِ: "اعْتكِفْ وَصُمْ" وأمره بالصوم، فدل هذا من فعله على أن الاعتكاف لا يصح إلا بصوم، ودليلنا قوله تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ، الآية فكان على ظاهره، وعمومه في كل معتكف.

وروى طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيسَ عَلَى المُعْتكِفِ صَوْمٌ إلّا أنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ". =

ص: 145

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بشرط في الاعْتِكَافِ، لا بالأَصَالَةِ ولا بالنَّذر؛ إذ لو نذر أن يعتكف مصليًا لم يلزمه الجَمْع، والثابت في الصوم نقيضه، كما أن الثابت في الأصل نفي كون الصَّلاة شرطًا، وفي الفرع إثبات كون الصوم شرطًا، فحكم الفرع نقيض حكم الأصل.

ومثل قول الشَّافعي لمحمد بن الحسن في مُنَاظرات جرت بينهما، وقد قال محمد: لا قَوَدَ على من شَارَكَ الصَّبي؛ لأنه شارك مَنْ لا يجري عليه القَلَم: يلزمك إيجاب القَوَد على من شَارَك الأب؛ لأنه شارك من يجري عليه القَلم.

ونظيره قولنا: إذا قلنا في المفوّضة: لا يجب المَهْر بالعَقْدِ بوطئ، وجب مهر المِثْل؛ لأنه لو لم يجب المهر بالوَطْء في النكاح الصَّحيح عند نفيه، لما وجب عند شرطه، كالزِّنا، فإنه لمّا لم يجب المَهْر فيه شرطًا، لم يجب أصلًا.

والأصح أن أخْمَص قدمي الحُرّة من العورة؛ لثبوته بين ظاهرهما وباطنهما، كما [يستوي]

(1)

بين ظاهر اليَدَيْن وباطنهما في الخروج عن حد العورة.

وقال الشَّافعي رضي الله عنه في زكاة الخُلْطة: ولما لم أعلم مخالفًا إذا كان ثلاثة خُلَطَاء، لو كان لهم مائة وعشرون شاةً [أخذت]

(2)

منهم واحدة، وصدقوا

(3)

صدقة الواحد، فنقصوا المساكين شَاتَيْنِ من مال الخُلَطَاء الثلاثة، الذين لو تفرّق مالهم، كان فيه ثلاث شِيَاهٍ، لم يجز إلا أن يقولوا: لو كان أربعون بين ثلاثة كانت عليهم شاة؛ لأنهم صدقوا الخُلَطَاء صدقة الواحد. انتهى لفظ "المختصر".

= وروى يحيى بن سعيد عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فأمر أن يُضْرَبَ له بناء، فخرج فرأى أرْبَعَةَ أبَنِيَة؟ فقال لمن هذه الأبنية، فقيل: هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لعائشة، وهذا لحفصة، وهذا لزينب، فنقض اعتكافه، واعتكف العشر الأول من شوال؛ فدل على جواز اعتكاف يوم الفطر، وأنه يجوز بغير صوم، وأما رواية الزهري عن عائشة:"لَا اعْتِكَاف إِلَّا بصَوْمٍ" فمعناه لا اعتكاف كاملًا إلا بصوم، أو لمن نذر اعتكافًا بصوم، وأما حديث ابن عمر، فليس بصحيح، وإنما الصحيح رواية: اعتكاف ليلة.

(1)

في ج: يسوّي.

(2)

في أ، ج، ت: أجزأت.

(3)

في ب: وتصدقوا.

ص: 146

وَأُجِيبَ: بِالأَوَّلِ، أَوْ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُسَاوَاةُ الاِعْتِكَافِ بِغَيْرِ نَذْرٍ فِي اشْتِرَاطِ الصِّيَامِ لَهُ بِالنَّذْرِ بِمَعْنَى:"لَا فَارِقَ"، أَوْ بِالسَّبْرِ؛ وَذُكِرَتِ الصَّلاةُ لِبَيَانِ الإِلْغَاءِ، أَوْ قِيَاسِ الصِّيَامِ بِالنَّذْرِ عَلَى الصَّلَاةِ بِالنَّذْرِ.

فقاس وجوب واحدة من أربعين لثلاثة خُلَطَاء، على سقوط اثنتين في مائة وعشرين لثلاثة خلطاء.

وقال القاضي أبو الطيب في "تعليقه" في تعليل أنَّ الصبح لا يقصر: شفع؛ فلا يصير وترًا، كما أن الوتر لا يصير شفعًا، يعني: صلاة المغرب، وقياس العكس في كلام أئمّتنا كثير جدًّا.

الشرح: "وأجيب" بثلاثة أجوبة: إما "بالأول" من جوابي قياس الدّلالة، وهو: أنه غير مراد.

"أو بأن" قياس العَكْس فيه مساواة من وجهين:

أحدهما: أن "المقصود مساواة الاعْتِكَاف بغير نَذْرٍ في اشتراط الصوم له" بالاعتكاف "بالنَّذْر" في اشتراط الصَّوم، فإن الاعنكافين مُتَسَاويان فيه، "بمعنى: لا فارق، أو بالسَّبْر".

وتقرير "لا فارق": أن تقول: النذر يلغي؛ لأنه غير مؤثر كما في الصلاة إذ وجوده وعدمه سواء، فتبقى العلة الاعتكاف المشترك.

وتقرير السَّبر: أن العلَّة إما الاعتكاف، أو الاعتكاف بالنَّذْرِ، أو غيرهما، والأصل عدم غيرهما، وكونه بالنَّذر لا يصلح علّة ولا جزء علة؛ لأنه غير مؤثر بدليل ثبوته في الصَّلاة بدون الحكم، فالصَّلاة لم تذكر للقياس عليها، وإنما "ذكرت الصَّلاة لبيان الإلغاء" إلغاء الفارق، أو إلغاء أحد أوصاف السَّبْر، فلا تجب المُسَاواة لها، فلا يضرّ عدمها.

"أو قياس الصِّيَام بالنذر على الصلاة بالنذر" في أنها لا تجب بالنَّذْر، ولا تأثير للنذر في وجوبها، فكذا الصِّيام، ويلزمه أن يجب بدون النَّذر، كما يجب مع النذر، وإلا لكان للنذر فيه تأثير، فالَّذي فيه القياس حصلت فيه المساواة، والذي فيه عدم المساواة لازمٌ له، فلا يضرّ، وهذا هو الوجه الثاني من الوَجْهَيْنِ اللذين أشرنا إلى أن فيهما التزام أن في قياس العكس مساواة.

ص: 147

وَقَوْلُهُمْ: بَذْلُ الْجُهْدِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُمْ: الدَّلِيلُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْحَقِّ، وَقَوْلُهُمْ: الْعِلْمُ عَنْ نَظَرٍ - مَرْدُودٌ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ، وَبِأَنَّ الْبَذْلَ حَالُ الْقَائِسِ، وَالْعِلْمَ ثَمَرَةُ الْقِيَاسِ.

أَبُو هَاشِمٍ: حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ بِإِجْرَاءِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ، وَيُحْتَاجُ:"بِجَامِع".

الشرح: "وقولهم": القياس "بَذْلُ الجهد في استخراج الحق:

وقولهم: الدليل الموصل إلى الحق.

وقولهم: العلم عن نظر" تعاريف كل منها "مردود"

(1)

؛ لانتقاضه "بالنص والإجماع"؛ لأن مُقْتَضاهما قد لا يكون ظاهرًا، فيبذل الجهد في استخراج الحقّ منهما، كما يجتهد في صيغ العموم، والإطلاق والتَّقييد، وتصحيح السَّند ونحوه.

"و" يختصّ الأول، وهو قولهم: بَذْل الجهد "بأنّ البذل حال القائس" لا نفس القياس، إذ القياس: الدليل المَنْصُوب من جهة الشارع، نظر فيه القائس أم لا. كذا قال الشَّارحون، والذي يظهر أن القياس فعل القائس.

"و" يختصّ الثالث، وهو قولهم: العلم عن نَظَرٍ، بأن "العلم ثمرة القياس"، لا نفس القياس.

الشرح: و "قال أبو هاشم"

(2)

: القياس: "حمل الشيء على غيره بإجْرَاءِ حكمه عليه، ويحتاج" أن يزيد "بجامع" وإلا فالحَمْل بغير جامع ليس قياسًا.

ولقائل أن يقول: لفظ الحَمْل مغنٍ عن ذكر الجامع؛ إذ لا حمل إلا بما يتخيل جامعًا.

واعلم أن أبا هَاشِمٍ إنما عرف القياس من حيث هُوَ، ولم يخص الصحيح منه بتعريف، فلو قال: بجامع، لاختصّ بالصَّحيح، فإذن حَدّه صحيح.

وقوله: الشيء، جارٍ على أصله في أنَّ المعدوم شئ، فلا يورد عليه اختصاص الشيء بالموجود.

(1)

ينظر: مصادر تعريف المسألة.

(2)

ينظر: مصادر تعريف المسألة.

ص: 148

وَقَوْلُ الْقَاضِي: حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِأمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا - حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ حَمْلَ ثَمَرَتِه، وَإِثْبَاتَ الْحُكْمِ فِيهِمَا مَعًا، لَيْسَ بِهِ، بَلْ هُوَ فِي الْأَصْلِ بِدَلِيلٍ غَيْرِهِ، وَبِجَامِعٍ كَافٍ.

الشرح: "وقول القاضي

(1)

: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما، من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما" قول "حسن، إلا أن حمل" معلوم على معلوم "ثمرته" لا نفسه، "وإثبات الحكم فيهما معًا ليس به"، "وبجامع كافٍ" كذا قال المصنّف.

واعلم أن عبارة القاضي في "التقريب": حمل أحد المَعْلُومَين على الآخر في إيجاب بعض الأحكام لهما، أو انتفائه عنهما بأمر جمع بينهما فيه، أيّ أمر كان، من إثبات صفة وحكم لهما، أو نفي ذلك عنهما. انتهى.

وهو كما نقل في الكتاب، إلَّا أن المصنّف جعل قوله: من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما، من تمام الحَدّ، واعترضه بأن قوله: بجامع كافٍ، وأنت ترى عبارة "التقريب" ظاهرها أنَّ آخر الحد قوله: بأمر جمع بينهما فيه.

وقوله: أي أمر كان إلى آخره، جارٍ مجرى تفسير الأمر الذي يجمع بينهما فيه، أي: ذلك الأمر أعم من الضفة والحكم ثبوتًا ونفيًا، فلا اعتراض عليه.

ولنشرح الحَدّ: فإن المحقّقين من أصحابنا عليه، فنقول:

قال في "التقريب": إنه قال: "أحد المَعْلُومين"؛ ليتناول الموجود والمعدوم، ولو قال: شيء على شيء، لاختصّ بالموجود على أصله. ولم يعبر بالفرع والأصل؛ لأنهما وجوديان، أو لإيهام أنهما وجوديان. وقد رُدَّ القياس في الإعدام.

والمراد بـ"حمل

(2)

معلوم على معلوم": إلحاقه به.

(1)

بنظر: مصادر تعريف المسألة.

(2)

فمعنى في الأصل:

جعل الشيء ثابتًا، فيكون معنى إثبات الحكم على هذا جعل الحكم ثابتًا في محله بعد أن لم يكن كذلك، غير أن المراد به هنا إدراك ثبوت الحكم في الفرع؛ لأن الإدراك هو الذي يكون =

ص: 149

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله: "في إثبات حكم

" إلى آخره، بيان لهذا الإلحاق؛ فإن الحمل والإلحاق له جِهَاتٌ كثيرة، فتبيّن أنه في هذه الجِهَةِ، ولهذا حذف بعضهم اللَّفظ الأول، وهو: الحَمْل، واكتفى بالثاني، فقال: القياس: إثبات حكم معلوم لمعلوم.

قال أبي رحمه الله: وإذا تؤمّل كل منهما وجد حَدّ القاضي أولى منه؛ لأن إثبات الحكم في الفرع نتيجةُ القياس لا عينه؛ لأنك تقول: ألحقت هذا بهذا، فأثبت حكمه له، وحقيقة الإلحاق: اعتقاد المساواة، فأول ما يحصل في نفس القاض العلّة المقتضية للمساواة، ثم ينشأ عنها اعتقاد المساواة، والقباس هو هذا الاعتقاد، أو حكم مستند إليه، وهو حكم المُعْتقد في نفسه بما اعتقده من مُساواة أحد الأمرين للآخر، وهو إلحاقه به في الجِهَةِ المذكورة، وهو ثبوت ذلك الحكم أو نفيه.

قال: وبهذا يندفع إيراد من أورد أن الحكم في الأصل ثابت قبل القياس، فكيف قال: في إثبات حكم لهما؟.

قلت: وهو المذكور ثانيًا في الكتاب، حيث قال: وإثبات الحكم فيهما معًا ليس به.

قال: فالقياس إنما هو الحَمْل والاعتقاد، وهو اعتقاد المُساواة، والحكم بها في ذلك

= من المجتهد، وأما الإثبات بمعنى جعل الحكم ثابتًا في الفرع بعد أن لم يكن، فإنما يكون من الشارع؛ إذ لا حكم إلا لله تعالى بالإجماع؛ فلا يصح إرادته في التعريف.

والمراد بإدراك الثبوت الذي فسرنا به الإثبات: "حكم الذهن بأمر على أمر" سواء أكان جازمًا أم راجحًا، فيشمل "القياس القطعي" كما إذا قطع القائس بعلية العلة في الأصل وبوجودها في الفرع عن دليل كقياس الضرب على التأفيف في الحرمة بجامع الإيذاء في كل، فإنه قياس قطعي؛ للقطع فيه بعلية العلة وبوجودها في الفرع. "والقياس الظني" بأن ظن القائس علية العلة في الأصل أو ظن وجودها في الفرع لدليل ظني، كقياس التفاح على البر في الربوية بجامع الطعم في كل، فإنه قياس ظني؛ لأن علية الطعم مظنونة فقط؛ لاحتمال علية الاقتيات والادخار كما قال بها بعض الأئمة.

هذا حاصل ما قاله الأسنوي وغيره في بيان معنى الإثبات:

"وأنت خبير" بأن الإثبات بهذا المعنى لا يشمل القياس الفاسد الذي علم فساده كالمسوق للإلزام؛ لأن سائقه لا يدرك ثبوت الحكم أصلًا، وإنما يفرضه فرضًا.

فالذي يظهر لي أنه إن أريد شمول التعريف القياس الصحيح والفاسد، فلا بد أن يفسر الإثبات "بملاحظة الثبوت" سواء أكانت هذه الملاحظة على سبيل الإدراك أم على سبيل الفرض.

ص: 150

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثبوتًا أو إثباتًا، فإن المثبت للحكم في الحقيقة هو الله - تعالى - وبهذا الاعتبار هو في الأصل، أو الفرع قبل القياس الذي هو فعل القائس، ويطلق الإثبات على الاعتقاد والاسْتِدْلَال، وبهذا الاعتبار هو ثابت في الأصل قبل القياس، وفي الفرع بعده.

وقوله: "في إثبات حكم"، أورد عليه: أن القياس قد يكون في العقليات، فتثبت به الصفة، كما يثبت الحكم.

وجوابه: أن الثابت بالقياس الحكم بالصفة لا نفس الصفة، وبهذا يندفع سؤال يورد على القاضي - أيضًا - فيقال: إن كانت الصفة مندرجة في الحكم، كان قوله بعد ذلك: بأمر يجمع بينهما فيه من حكم أو صفة - زائدًا، وإن لم تكن مندرجةً، كان الحد ناقصًا؛ لعدم اندراجها مع الحكم.

وتَحْريرُ اندفاعه أنا نقول: ليست مندرجةً، وليس الحد ناقصًا؛ لأن الثابت بالقياس الحكم بها لا هِيَ.

قلت: وقد عرفت أنَّ المصنّف اعتمد هذا السؤال، حيث قال: وبجامع كافٍ، وهذا جوابه على تقدير أن يكون القاضي جعل من إثبات صفة وحكم

إلخ، من تَتِمَّةِ الحد والأظهر خلافه، كما قدمناه.

وقوله: أو انتفائه، دَعَاه إلى ذلك - كما صرح به في "التقريب" - أن الإلحاق قد يكون في الإثبات، كحُرْمَةِ النَّبِيذ بالقياس على الخَمْرِ، وقد يكون في النفي، كعدم طَهُورِيَّة الخَلّ بالقياس على الدهن.

وقوله: بأمر جمع بينهما فيه، لا بد منه في تحقيق ماهيَّة القياس.

وقوله: من "إثبات صفة أو حكم

" إلى آخره، "من" هذه لبيان الجِنْسِ، وهو شرح للأمر الجامع، وقد ذكرنا أنه ليس من تمام الحَدّ.

وقوله: أو انتفائه عنهما، أي: نفي حكم أو صفة عن الأصل والفرع، فيكون ذلك النفي جامعًا. هذا تمام شرح الحد.

وقد اعترض بأمور:

أولها: أنه جعل الحَمْل جنسًا، وهو غير صادقٍ على القياس؛ لأنه ثمرة القياس، لا نفس القياس.

ص: 151

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهو ضعيف؛ لأن المراد بالحمل: التسوية، لا ثُبُوت الحكم في الفرع، والتسوية نفس القياس لا ثمرته.

وثانيها: أنه يشعر بأن إثبات الحكم فيهما معًا بالقِيَاسِ، وليس كذلك؛ فإن الحكم في الأصل ثابت بغيره.

وبعضهم أجاب عنه بأن: الناشئ عن القياس إثباته للمجموع، وهو ساقط؛ فإن القياس لا يلاحظ المَجْموع، وإنما يلاحظ الفَرْع فقط، وأنا أظن أن المصنّف استشعر الجواب، ودفعه بقوله: معًا، في قوله: وإثبات الحكم فيهما معًا ليس به، وهو حقّ؛ فإن إثبات الحكم فيهما معًا هو إثباته للمجموع، وليس هو فعل القائس ولا مراده، إنما مراده: إثبات حكم الفَرْعِ فقط، والجواب الصَّحيح عنه بما قدّمناه عن أبي رحمه الله.

وثالثها: أن قوله: بجامع - كافٍ، وما وراءه زيادة لا حاجة إليها.

وقد أجاب عنه أبي رحمه الله بما عرفت.

وقلنا نحن: إنه ليس من تمام الحَدّ، وقد ارتضى صاحب الكتاب هذه الإيرادات، واقتصر على ذكرها، وقد تبيّن لك اندفاعه.

ورابعها: أنه ينبغي أن يزيد على قوله: "بأمر يجمع بينهما فيه": في نظر المجتهد؛ ليندرج الفاسد؛ فإن الجامع في ظنّ القائس لا في نفس الأمر، والحَدّ لماهيَّة القياس الَّذي هو أعم من الصَّحيح والفاسد.

وأجاب عنه الآمدي: بالتزام أن الحد مختصّ بالصحيح، وكأنّ المصنّف اعتمده، ولذلك بدأ هو في القياس بتعريف الصَّحيح فقط، ولم يذكر هذا الاعتراض، وهذا ساقط؛ فإن الواجب تعريف القياس من حَيْثُ هو، ثم تخصيص صحيحه بتعريف؛ ليتميز عن فاسده.

والإيراد من أصله مندفع، فإن القاضي إنما قال: بأمر يجمع بينهما فيه، كما صرح به في كتاب "التقريب"، وفي "مختصر التقريب"؛ ليندرج الفاسد، وقال: لم يقل: بوجوب الجمع بينهما، ولا بتضمن [ولا نقيض]

(1)

؛ لئلا يختصّ بالصحيح، وشرط الحد إذا أطلقه أن يَنْطَوِي على الصحيح والفاسد، وأطال في ذلك، وتبعه إمام الحرمين، والغزالي.

(1)

في ج: ولا يقتضي.

ص: 152

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإن قلت: هذا واضح عند التَّعبير بقولنا: يجمع بينهما فيه، كما نقلتموه عن القاضي؛ لأنّا قد نجمع بما ليس بجامعٍ في نفس الأمر، فيكون فاسدًا، أما عند التعبير بقولنا: بجامع، فلا يصدق إلا على الصحيح؛ لأنّ الجامع إذا تحقّق كان صحيحًا.

قلت: قد علمت أن القاضي لم يقل: بجامع، بل: بأمر يجمع بينهما فيه، فاندفع هذا، ثم نقول: وَهَبْ أنه قال: بجامع، لا يرد ما ذكرتم؛ فإن معناه: بجامع يجمع بين الأمرين، وسمَّيناه جامعًا؛ لجمع القائس به الأمرين، كما يسمى النَّصْل

(1)

قاطعًا؛ لأنا نقطع به، ولا يلزم من جَمْعه به بين الأمرين لظنه أنه مشترك بينهما، كونه في نفس الأمر مشتركًا بينهما.

وقد قال الغزالي - بعد أن ارتضى هذا التعريف -: ثم إن كان الجامع موجبًا للاجتماع في الحُكْم، كان صحيحًا، وإلا كان فاسدًا. انتهى.

وهو صريح فيما قُلْته من: أن الجامع يطلق، وإن لم يكن الاجتماع موجودًا.

وخامسها: اعتراض ذكره أبي - رحمه الله تعالى - وهو أن قول القاضي: "أو نفيه حَشْو".

وقوله: ليندرج الإلحاق في الثبوت والنفي - ضعيف؛ فإن الإلحاق في النفي إنما هو في الحكم بالعَدَمِ، لا في نفس العَدَمِ، والحكم بالعدم ثبوتيّ لا عدميّ، كالحكم بالوجود؛ ألا ترى أنا نقول: الحكم خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين، وهو ثبوتي وإن كان منه عدم التَّحْريم وعدم الحلّ، فالعدم إنما هو في المحكوم به، أو في نفس العِبَادة، كقولنا: لا يحرم، ومعناه: يحل؟!

فإن قلت: عدم الحرمة أعمّ من الحلّ.

قلت: نعم، ولكن عدم الحُرْمة الذي لا حلّ معه هو العدم العَقْلي، وذلك لا يثبت بالقياس، ولا يقاس عليه شرعًا، وعدم الحرمة المستند إلى الشرع هو الحل بعينه. هذا كلام أبي، وهو اعتراض واقع لا مَحِيصَ للقاضي عنه.

(1)

في أ، ب: الفصل.

ص: 153

وَقَوْلُهُمْ: ثُبُوتُ حُكْمِ الْفَرْعِ - فَرْعُ الْقِيَاسِ، فَتَعْرِيفُهُ بِهِ دَوْرٌ.

قال: وقول القاضي بعد ذلك: "أو انتفائه عنهما"، أي: نَفْي حكم أو صفة عن الأصل والفرع - كما عرفت - لا بد منه، بخلافه فيما سبق؛ لأن الحكم لا يكون إلا إثباتًا - كما عرفت - وأمّا الجامع فقد يكون نفيًا محضًا، نعم هذا في نفي الصِّفَة ظاهر؛ لأنه قد يكون مناسبًا لإثبات حكم وجودي أو عدمي.

وأما نفي الحكم، فإن كان بالشَّرع فهو إثبات، وإلا فهو عَقْلي محضٌ، وبقاء على البراءة الأصليَّة، فلا يصلح أن يكون علّة في حكم شرعي.

الشرح: قوله: "وقولهم: ثبوت حكم الفَرْعِ فرع القياس، فتعريفه به دور".

هذا اعتراض ذكره الآمدي، وزعم أنه مشكلٌ لا مَحْيصَ للفاضي عنه، وهو: أن حكم الفرع متفرعٌ على القياس، وليس ركنًا في القياس؛ لأن نتيجة الدليل لا تكون ركنًا فيه؛ للزوم الدور، وقد أخذه قيدًا حيث قال: إثبات.

لا يقال: هذا الاعتراض هو ما ذكره المصنف أولًا، حيث قال: الحمل ثَمَرَةُ القياس لا نفس القياس، وهذا لأن الحمل والإثبات واحد؛ لأنا نقول: الحمل هو فعلك الناشئ عن المُسَاواة، فإذا اطلعت عليها حملت، والقياس نفس المساواة، فإذن لولا وجود القياس الذي هو المساواة، لما حملت، وأمّا الإثبات فهو نفس الثبوت، أو ملزوم الثبوت.

واعلم أن هذا كلام ذكرناه على مَسَاق طريقة المصنف، وقد بناه على ما في ذهنه من أن القياس نفس المساواة، وهو دليلٌ شرعي موجود في نفس الأمر اعتمده القائس أم لا، وأن الحمل فعل القائس، وهو متأخّر عن القياس، وأنَّ الإثبات غير الحمل؛ لأنه إن كان لثبوت فواضح، وإن كان ملزوم الثبوت، فهو فعل الله - تعالى - وليس هو وظيفة القائس؛ فإن وظيفة القائس الحمل لا الإثبات، ولم يذكر الآمدي لهذا الاعتراض جوابًا، بل فخم أمره، كما عرفناك.

ص: 154

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَحْدُودَ الْقِيَاسُ الذِّهْنِيّ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْفَرْعِ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ لَيْسَ فَرْعًا لَهُ.

الشرح: وجوابه من وجوه:

أحدها: ما ذكره الشيخ الهِنْدِيّ، وهو أن المأخوذ في الحد الإثبات لا الثبوت، والمتفرع عن القياس الثبوت لا الإثبات

(1)

.

والثاني: ما ذكره المصنّف، وهو على تقدير تسليم أن الثبوت مأخوذ قيدًا في الحد.

وتقريره: أن ثبوت حكم الفَرْعِ الجزئي الخارجي فرع للقياس الجزئي الخارجي، والذي نريد تعريفه هو القياس الذهني.

أي: الماهية العقلية للقياس، وحكم الفرع الذهني، أي: تعقل حقيقة الفَرْعِ، وكذا الخارجي، وهو حصول الحكم الجزئي، ليس شيء منهما فرع القياس الذهني، أي: لا يتوقّف على تعقّل ماهية القياس، فلا دور، وإليه أشار بقوله:"وأجيب: بأن المحدود القياس الذِّهْني، وثبوت حكم الفرع الذهني والخارجي ليس فرعًا له".

وحاصله: أن الثبوت المأخوذ ركنًا، ليس فرعًا، والثبوت الذي هو فرع لم يُؤْخذ ركنًا.

والثالث: ما نذكره نحن فنقول: الحقّ أن الإثبات والثبوت الذي هو أَثَرُهُ ثابتان قبل القِيَاسِ الذي هو فعل القَائِسِ، ضرورة قدم الحكم، وإنما القائس بالقياس اعتقد المُسَاواة، فأول ما يحصل في نفس القائس العلّة، ثم ينشأ عنها اعتقاد المُسَاواة، والقياس هو هذا الاعتقاد، أو حكم مستند إليه، كما قَدَّمناه.

(1)

قلت وهذا حقا "وإيضاح" أنا لا نسلم أن التعريف مشتمل على الدور لأن الإثبات عين القياس لا ثمرته وثمرته إنما هي الثبوت المترتب على الإثبات فلا دور.

"ويناقش" بأن الإثبات إدراك المجتهد ثبوت الحكم في الفرع وذلك الثبوت حاصل قبل الإدراك وإلا لما أدركه، فلا يكون الثبوت مترتبًا على الإدراك ولا ثمرة له.

"ويجاب عن هذه المناقشة" بأن الثبوت السابق على الإثبات هو الثبوت في نفس الأمر والثبوت المترتب على الإثبات هو الثبوت المستند إلى العلة أو هو تقرر الحكم ووجوب العمل به للمجتهد ولمن قلده. =

ص: 155

وَأَرْكَانُهُ: الْأَصْل، وَالْفَرْع، وَحُكْمُ الْأَصْلِ، وَالْوَصْفُ الْجَامِعُ.

الْأَصْلُ:

الأكْثَرُ: مَحَلُّ الْحُكمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ.

وَقِيلَ: دَلِيلُهُ.

وَقِيلَ: حُكْمُهُ.

وَالْفَرْعُ: الْمَحَلُّ الْمُشَبَّهُ.

وَقِيلَ: حُكْمُهُ.

وَالْأَصْلُ: مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ؛ فَلَا بُعْدَ في الْجَمِيعِ؛ وَلذَلِكَ كَانَ الْجَامِعُ فَرْعًا لِلأَصْلِ، أَصْلًا لِلْفَرْعِ.

الشرح: "وأركانه: الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع".

وأما اعتقاد حكم الفرع فثمرته، وجعل الشَّارحون الثمرة نفس حكم الفرع، وهو مردود - عندنا - كما عرفت.

الشرح: أما "الأصل" فقال "الأكثر": إنه "محلّ الحكم المشبه به"، كالخمر في قياس

= "وفي هذا الجواب بشقيه نظر".

"أمّا الشق الأول، وهو أن المترتب على الإثبات هو الثبوت المستند إلى العلة ففيه أن الثبوت المذكور سابق أيضًا على الإثبات لأن العلة إذا وجدت في الفرع ثبت فيه الحكم ثبوتًا مستندًا إليها ثم يدرك المجتهد وجودها في ذلك الفرع فيدرك ثبوت الحكم فيه، فهذا الثبوت كان مستندًا إلى العلة قبل إدراك المجتهد له كما عرفت. فلا يكون نتيجة للإدراك.

"وأما الشق الثاني" وهو أن المترتب على الإثبات هو التقرر ووجوب العلم ففيه أن التقرر المذكور ليس هو النتيجة الوحيدة التي تؤخذ من سائر الأدلة الشرعية، فالكتاب والسنة والإجماع كل منها ينتج أولًا إدراك المجتهد الحكم وثانيًا تقرره ووجوب العمل به، فادعاء أن نتيجة القياس هي الثانية وحدها خروج به عن سنن سائر الأدلة.

وبهذا يتبين أن هذا الجواب الثاني عن إيراد الآمدي لم يتم أيضًا.

ص: 156

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النَّبِيذ عليه.

وقيل: دليله.

"وقيل: حكمه" والفرع: المحل المشبه كالنَّبِيذِ. وقيل: حكمه، ولم يقل أحد: إنه دليله، وأنّى ودليله القياس؟ "والأصل" لا يخفى أنه "ما يبتنى عليه غيره، فلا بعد في الجميع"؛ لأن حكم الفرع مبني على كلّ واحد من الأمور الثلاثة، "ولذلك" أي: لأجل أن الأصل ما يبتني عليه غيره، جاز كون الشيء الواحد أصلًا بالنسبة إلى شيء، فرعًا بالنسبة إلى آخر، و "كان الجامع فرعًا للأصل أصلًا للفرع"، وهو معنى قول الإمام الرازي: الحكم أصل في محل الوِفَاقِ، فرع في محل الخلاف، والعلة بالعكس.

واعلم أن ما ذهب إليه الأكثرون من أن الأصل محل الحكم المشبه به، والفرع المحلّ المشبه، وهو رأي الفقهاء والنُّظَّار، وبان القياس إلى الفقهاء مرجعه، فساعدهم الأصوليون فيه على مصطلحهم، وجَرَوْا في الباب على مقتضاه، فلا يطلقون الأصل والفرع إلا على ما يطلقه عليه الفُقَهَاء؛ لئلا يختبط الذِّهْن بين الاصطلاحات، فاحفظ ذلك

(1)

.

(1)

اختلف العلماء في حكم الفرع هل هو عين حكم الأصل أو مثله على مذهبين:

"الأول": ما ذهب إليه أبو منصور الماتريدي وصاحب "المنهاج" وشارحاه الأسنوي وابن السبكي والعضد في شرح المختصر من أن الحكم الثابت في الفرع مثل الحكم الثابت في الأصل لا عينه.

"الثاني": ما ذهب إليه صاحب "التحرير" وغيره من أن الحكم الثابت في الفرع هو بعينه الثابت في الأصل لا مثله.

"وجه المذهب الأول" أن حكم الأصل باعتبار قيامه به جزئي مشخص، والواحد الشخصي يستحيل قيامه بمحلين، فيتعين ألّا يكون الحكم القائم بالفرع عين الحكم القائم بالأصل، بل هو مثله؛ لاتحادهما في النوع أو الجنس واختلافهما بالعوارض.

"ووجه المذهب الثاني" أن الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى أي كلامه النفسي، وكلامه النفسي، جزئي حقيقي مشخص لا تعدد فيه؛ لأنه وصف متحقق في الخارج قائم بذاته تعالى، غاية ما في الأمر أن له إضافات وتعلقات متعددة، فباعتبار إضافته إلى الأصل يسمى حكم الأصل وباعتبار إضافته إلى الفرع يسمى حكم الفرع، فالذات واحدة، والتعدد إنما هو في الإضافة والتعلق، ولا يخفى أن المتعدد في الإضافات والتعلقات لا يوجب التعدد في الحكم؛ بدليل أن قدرته تعالى لها تعلقات متعددة بتعدد المقدورات مع أنها صفة واحدة لا تعدد فيها اتفاقًا. =

ص: 157

‌شُرُوطُ حُكْمِ الأَصْلِ

وَمِنْ شَرْطِ حُكْمِ الْأَصْلِ:‌

‌ أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا،

وَأَلَّا يَكُونَ مَنْسُوخًا؛ لِزَوَالِ اعْتِبَارِ الْجَامِعِ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَرْعٍ؛ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ والْبَصْرِيِّ.

«مسألة»

الشرح: "ومن شروط حُكْمِ الأصل: أن يكون شرعيًّا"، بناء على أن القياس لا يجري في اللُّغات والعقليات

(1)

.

"وألَّا يكون منسوخًا"

وإلا لم يبن الفرع عليه؛ "لزوال اعتبار الجامع" في نظر الشارع، فلا يتعدّى الحكم به.

فإن قلت: قد تقدّم عن الحنفية أنه إذا نسخ حكم الأصل [يبقى]

(2)

حكم الفرع، فلم

= هذا حاصل ما وجه به صاحب التحرير مذهبه، وقد ناقش أهل المذهب الأول فيما وجهوا به مذهبهم بما حاصله:"أن استحالة قيام الواحد الشخصي بمحلين إنما هو في قيام العرض الشخصي بالجوهر، كقيام البياض السخصي بثوب معين مثلًا يمتنع معه أن يقوم بعينه بغير الثوب المذكور؛ لأنه هو الذي يوجب التشخص والتعدد، وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في القيام بمعنى التعلق والإضافة لأنه هو الذي يكون في قيام الأحكام بمحالّها، وهذا لا استحالة فيه، لأنه بهذا المعنى لا يقصي التشخص والتعدد؛ فثبت بهذا أن حكم الفرع هو عين حكم الأصل لا مثله" اهـ.

"والذي أراه" أن كلًا من المذهبين على إطلاقه غير مسلّم، بل الأمر في ذلك يرجع إلى المراد بالحكم المذكور في التعريف.

فإن أريد به النسبة التامة كما ذهب إليه الأسنوي كان متعددًا ضرورة تعدد النسب بتعدد الأطراف والمحال، فيكون حكم الفرع مثل حكم الأصل لا عينه؛ لأن النسبة المتعلقة بالفرع غير النسبة المتعلقة بالأصل، وحينئذ يتعين لفظ مثل في التعريف.

وإن أريد بالحكم الخطاب أو المحكوم به، فإن نظر إليه مع الإضافة كان متعددًا، وتعين حينئذ لفظ مثل في التعريف أيضًا؛ لأن حكم الفرع باعتبار إضافته إليه غير حكم الأصل باعتبار إضافته إليه. وإن نظر إليه وحده مع قطع النظر عن الإضافة كان واحدًا، وتعين حينئذ حذف "مثل" من التعريف؛ لأن حكم الفرع عين حكم الأصل.

(1)

إذا تأملت التعريفات السابقة وجدت أنها مشتملة على أركان أربعة.

(2)

في أ، ب: بنفي.

ص: 158

لَنَا: إِنِ اتَحَّدَتْ، فَذِكْرُ الْوَسَطِ ضَائِعٌ؛ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي:"السَّفَرْجَلُ: "مَطْعُومٌ"؛ فَيَكُونُ رِبَوِيًّا؛ كَالتُّفَّاحِ، ثُمَّ نَقِيسُ التُّفَّاحَ عَلَى الْبُرِّ، وَإنْ لَم تَتَّحِدْ فَسَدَ؛ لأَنَّ الأُولَى لَمْ يَثْبُتِ اعْتِبَارُهَا، وَالثَّانِيَةَ لَيْسَتْ في الْفَرْع؛ كَقَوْلِهِ: "فِي الْجُذَام: عَيْبٌ يُفْسَخُ بِهِ الْبَيْعُ؛ فَيُفْسَخُ بِهِ الْنِّكَاحُ؛ كَالْقَرَنِ وَالرُّتَقِ"، ثُمَّ يَقِيسُ الْقَرَنَ عَلَى الْجَبِّ؛ لِفَوَاتِ الاِسْتِمْتَاعِ.

لا يجوزون القِيَاس على الأصل المنسوخ، وقد قالوا: ببقاء حكم الفرع؟.

قلتُ: لأنهم بَنَوا ثَمّ على أصلهم في أن البقاء غير محتاجٍ إلى العلة، فقالوا في جواب قول أصحابنا: العلّة فرع الحكم في الأَصْل، والفرع فرعها، فإذا بطل الأصل بطلت العلّة؛ لأنّها مبنية عليه.

قلنا: متى إذا كان الحكم مفتقرًا إليها دوامًا أو مطلقًا؟ الأول مسلّم، والثاني ممنوع، وهذا لأنّ الباقي غير مفتقرٍ إلى العلّة حالة البقاء - عندنا - وحينئذٍ لا يلزم من زوال العلّة زوال الحكم. هذا كلامهم، وبه يندفع السُّؤال عنهم؛ إذ لو قِسْنَا فرعًا آخر على الأصل المنسوخ، لكُنَّا ابتدأنا إعمال العلّة، وهي منسوخةٌ، بخلاف ما بني عليها في وقت كونها باقيةً، فإنه يبقى وإن زالت؛ لعدم احتياجه في بقائه إليها.

"وأنْ يكون" حكم الأصل "غير فرع" عن أصل آخر

؛ "خلافًا للحَنَابلة والبصري".

الشرح: "لنا": أن العلّة الجامعة بين حكم الأصل وأصله "إن اتحدت" مع العلة الجامعة بينه وبين فرعه "فذكر [الوسط]

(1)

"وهو الثاني "ضائع" حَشْو؛ لحصول الغرض بدونه، وذلك "كالشَّافعية" إذا قال قائلهم "في السَّفَرْجَل: مطعوم فيكون ربويًّا كالتفاح، ثم يقيس" القائل "التفاح على البُرّ" بجامع الطّعم؛ فذكر التفاح ضائع. "وإن لم تتّحد فسد" القياس، "لأن الأولى" أعني: التي بين الفرع المتنازع فيه والأصل الذي هو فرع - "لم يثبت اعتبارها"؛ لثبوت الحكم في الفرع بغيرها، "والثانية" وهي العلّة التي بين الأصل وأصله "ليست" موجودةً "في الفرع" المتنازع فيه.

"كقوله" أي: قائل الشَّافعية "في الجُذَام: عيب يفسخ به البيع، فيفسخ به النِّكَاح، كالرَّتَق والقَرَن، ثم" إذا منع كون الرَّتَق والقَرَن مما ثبت الفسخ في البيع "يَقيس القَرَن"

(1)

في ت: الواسط.

ص: 159

فَإِنْ كَانَ فَرْعًا يُخَالِفُهُ الْمَسْتَدِلُّ؛ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي الصَّوْم بنِيَّةِ النَّفْلِ: "أَتَى بِمَا أمُرَ بِهِ" فَيَصِحُّ؛ كفَرِيضَةِ الْحَجِّ - فَفَاسِدٌ؛ لأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ اعْتِرَافَهُ بِالخَطَإِ فِي الْأَصْلِ.

والرَّتَق "على الجَبّ بفوات الاسْتِمْتَاع"، ففوات الاستمتاع هو الذي يثبت لأجله الحكم في الرَّتَق والقَرَن، وهو غير موجود في الجُذَام، والثابت في الجُذَام، وهو كونه يفسخ به البَيْع، لم يثبت اعتباره، وهذا مثال ضَرَبْنَاه، وردُّ المَجْبُوب في البيع - عندنا - إنما هو لنُقْصان عين المبيع نقصانًا يفوت به غرض صحيح، وهو انْسِلَالُهُ من حدّ الرجال ذوي الشَّهَامة، لا لفوات الاستمتاع؛ إذ لا استمتاع بذكر العِنِّينِ، ولذلك لا يثبت الرد بكونه عِنّينًا؛ خلافًا للصَّيْمَرِي، وإمام الحرمين.

وأما إثبات الفسخ بالجَبّ في النكاح، فلفوات الاسْتِمْتَاع، فتغايرت العلتان.

وإذا أردت مثالًا جامعًا للصورتين، فقل: الوضوء عبادةٌ، فيشترط فيه النِّيّة كالتيّمم، فيقال: لم شرطها في التيمم؟ فتقول: لأنه عبادةٌ كالصلاة، فتتحد العلّة، أو تقول أولًا: طهارة كالتيمم، ثم تقول: إنه عبادة كالصلاة، فلا تتحدّ.

الشرح: وهذا فيما إذا كان حكم الأصل فرعًا يوافقه المستدلّ، ويخالفه المعترض، "فإن كان فرعًا يخالفه المستدل" ويوافقه المعترض، "كقول الحنفي في الصوم بنِيّة النفل"، أي: بنيةٍ مطلقةٍ: "أتى بما أمر به فيصح، كفريضة الحج"، وهو لا يقول بصحّة فريضة الحَجّ بنيّة النفل، بل خصمه هو القائل به، "ففاسد؛ لأنه متضمن اعترافه بالخَطَأ في الأصل"؛ وهو إثبات الصحّة في فريضة الحَجّ، والاعتراف ببطلان إحدى مقدّمات دليله اعتراف ببطلان دليله، فلا يسمع.

فإن قلت: فهل يصحّ على وجه الإلزام للخصم؟.

قلت: لا؛ لوجهين:

أحدهما: أن [يقول]

(1)

: العلّة في الأصل عندي غير ذلك، ولا يجب ذكرى لها، وله أن يتبرع بذكرها، ويقول: الحج في العبادات كالعِتْقِ في التصرُّفات في القوة والتغليب، ولهذا ينعقد مع مُنَافيه، ويجب المُضِيّ في فاسده، فجاز أن ينصرف فيه مطلق النِّية إلى

(1)

في ت: كفوت.

ص: 160

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفرض؛ ولأنه يجوز في الحَجّ أن يحرم إحرامًا موقوفًا بين جنس الحجّ والعُمرة، ثم يصرفه إلى ما شاء، ولا كذلك في الصوم؛ فدلّ أنهما مفترقان.

والثاني: أن يقول: إنما يلزم خَطَئي في أحد الأمرين من الأصل أو الفرع على الإبهام، لا في الفرع على التَّعيين، وهو مطلوَبك، فإن عدت وطلبت التَّسْجيل عليّ بالخطأ في مبهم، لم يسمع، ولو سمع لكان لي - أيضًا - أن أعود فأقرر أني مصيب في الموضعين بطريقة أذكرها.

"فائدة"

ما ذكره الأصوليون من أن شرط حكم الأصل - أن يكون غير فرعٍ، مخصوص - عندي - بما إذا لم يظهر للوَسَطِ فائدة ألبتة، كما مثل في قياس السَّفَرْجَل على التُّفَّاح، والتفاح على البُرّ.

أما إذا ظهرت له فائدة، فلا يمنع - عندي - أن يقاس فرع على فرع، فقولهم: إن كل فرع قِيسَ على فرع، فالعلّة فيه إما متحدّة فيكون حشوًا، أو لا، فيفسد - نقول عليه: بين الأمرين واسطة، وهي: أن يكون حكم الفرع المَقِيس عليه الذي هو وسط أظهر أو أولى، وظهوره إما لشهرة أو لغيرها، وأَوْلَوِيته ممكنة أيضًا.

ولا يقال: لو كان أولى لم يَجُزْ قياس الفرع عليه؛ لأنه لا يلزم من ثبوت الحكم للأولى به؛ ثبوته لما ليس بأولى، لعدم المُسَاواة؛ لأن جواب هذا قد عرف عند تقسيم القياس إلى أَوْلَى ومُسَاو وأَدْوَن.

إذا عرفت هذا، فربّ فرع لأصل ذلك الأصل يظهر فيه الحكم أقوى من ظهوره فيه، وهكذا إلى أن يتناهى الحال إلى مَرَاتب كثيرة، بحيث لوقيس الفَرْعُ الأول الذي هو فرع الفرع على الأصل الأول، لاستنكر في بادئ الرَّأي جدًّا، بخلاف ما إذا جعل مندرجًا هكذا، وهذا مكان دقيق جدًّا، لا يفهمه إلا الجامعون بين دَقَائِقِ الفقه وحقائق الأصول.

فإذا قال قائل: - مثلًا -: التفاح ربويّ قياسًا على الزَّبِيب، والزبيب ربوي قياسًا على التَّمْر، والتمر ربوي قياسًا على الأُرْز، والأرز ربوي قياسًا على البُرِّ، لم يكن مبعدًا، إذا قصد بقياس التفاح على الزبيب الوصف الجامع بينهما، وهو الطعم، وبقياس الزبيب على التَّمْر: الطعم، مع الكيل، وبالتمر على الأَرْز: الطعم والكيل مع التقوت، وبالأرز على البُرّ: الطعم والكيل والقُوت الغالب، ولو قاس ابتداء التفاح على البر، ولم يتدرج بالطريقة

ص: 161

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التي ذكرناها لم يسلم من مَانِعٍ يمنعه علّية الطّعم، فجمع بين الزبيب والتَّمرية مع الكَيْلِ، وانتهى إلى ما ذكرناه، ثم أخذ يسقط وصف الكَيْل والقوت عن الاعتبار بالطريقة التي يعرفها أهل السَّبر والتَّقْسيم؛ إذ ثبت له دعوى أن العلة الطعم فحسب، ووضحت وضوحًا لم يكن ليتضح إيضاحه لو قاس التّفاح ابتداء على البر. ولا يقال - هنا -: إن الوسط ضائع، بل له فائدة جليلة، وهي التدرج ليثبت المراد، كما ذكرناه، وهذا القسم لم يذكره الأصوليون، وفي كتاب "السلسلة" للشيخ أبي محمد منه الشيء الكثير، وأنت إذا نظرت كتب الفِقْهِ وجدت فيها مباني كثيرة.

فإذا قال قائل: التفاح ربوي قياسًا على السَّفَرْجل، والسفرجل قياسًا على البِطِّيخ، والبطيخ قياسًا على البر، لم يكن محسنًا، بل مطولًا من غير فائدة، والوسط ضائع حَشْو؛ لأن نسبة السَّفرجل والبطيخ والتفاح إلى البر واحدة، لا كيل ولا قوت في الجميع، بل الطعم فقط، فأي معنى لتوسّط السفرجل والبطيخ؟.

إذا فهمت هذا، فلنذكر مثالًا للقسم الأول، فنقول: إذا أتت أَمَتُهُ بولد ادّعت أنها ولدته على فِرَاشِهِ، وأنكر، فالقول قوله، فإن نكل، فالظاهر ردّ اليمين عليها، فإن نكلت، فهل تنتهي الخُصُومة وينقطع النسب عنه، أو يوقف الأمر إلى أن يبلغ الولد فيحلَّف؟ فيه وجهان:

قال الشيخ أبو محمد: إنهما مبنيان على الوجهين فيما إذا ادّعى السَّيد أنه جَنَى على العبد المرهون جنايةً توجب المال، واستحلف الجاني، فنكل، وردّت اليمين على الرَّاهن، فتنتهي الخُصُومة، أو يرد على المُرْتهن لتعلّق حقّه بالعبد؟.

فإن قلت: لم لا كان العكس في البناء، فبنى الوجهان في هذه على الوجهين في تلك؟.

قلت: لأن التردُّد في مسألة الجناية أظهر منه، وأولى في مسألة الولد، وهذا لأنَّ رد اليمين على المرتهن يمكن في الحال، وتتتهي الخُصَومة، بخلاف ردّها على الصَّبي، فإنه يلزم منه إيقاف الأمر إلى بلوغه، ولا يلزم من ردّ اليمين على الثالث الممكن فصل الأمر به في الحال، ردّها على ثالث يلزم من ردّها عليه إيقاف الأمر في الخُصُومات؛ ألا ترى أنه لو أقام وليّ اليتيم بيّنة بدين لليتيم على مَيّت، أنه يقضى له به، ولا ينتظر بلوغ الصّبي ليحلَّف، سواء قلنا: التحليف واجب أم مستحبّ؛ لئلا يلزم من تأخُّر الحكم ضياع الحق، و - أيضًا -

ص: 162

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فالنسب حق لله تَعَالى، وتعلّق حقّ المرتهن بالعين المرهونة حق يختصّ به، فلا يلزم من الرد على المرتهن في مَحْضِ حقه الرد على الولد الذي لا يتمحّض حقه في النسب.

فإن قلت: ما ذكرتموه من أن التردد في مسألة الجناية أظهر إن لم يصح، فلا تعلّق لكم فيه؛ لأنه لم يظهر ترجحُ أحد للبنائين على الآخر، وإن صحّ كان فارقًا مانعًا من قياس المبني على المبنى عليه، فنقول - مثلًا -: لا يصح قياس تحليف الولد على تحليف المرتهن للمعنيين الذين أبديتموهما.

قلت: المعنيان لا ينتهضان فارقًا مانعًا من صحّة القياس؛ لما يقال عليهما: من أن تعلّق حق الثالث إن كان موجبًا لصيرورته خصمًا أوجب ردّ اليمين عليه، سواء أمكن تحليفه في الحال أم لا، كالغائب، ولكنه ينتهض موجبًا لظهور الحكم في المبني عليه أقوى من ظهوره في المَبني، وهو - حينئذٍ - يصلح للترجيح فقط، ولهذا ترى الأصحاب كثيرًا ما يصحّحون في المبني خلاف ما صحّحوه في المبني عليه، فافهم.

قال الشيخ أبو محمد: والوجهان في مسألة دَعْوَى الجناية على العَبْدِ المرهون [مبنيان]

(1)

على وجهين فيما إذا أقرّ الراهن بأنّ العبد المرهون كان قد جنى قبل الرهن وادعاها المجني عليه، وأنكر المرتهن.

وقلنا: إنه يصدق بيمينه، فلم يحلَّف.

وقلنا: برد اليمين على الراهن، فنكل، فهل ترد على المجني عليه؟.

قلت: وإنما كانت هذه المسألة أصلًا لتلك؛ لأن تحليف المجنى عليه - هنا - أظهر من جِهَةِ أنه المدعى الذي يثبت له الحق إذا توجّه، بخلاف المرتهن، بل الأصح عند الرافعي: أن المرتهن لا يخاصم، ومن جهة أن حقّ الجناية آكَدُ وأقوى من حق المرتهن، فكان حق المرتهن - بكونه فرعًا لمسألة المجني عليه - أولى وأجدر من العكس، كما أن مسألة الولد بكونها فرعًا لمسألة المرتهمن أولى، ثم لو قِسْنَا ابتداء مسألة الولد على مسألة المجني عليه، لبعد؛ لأنها تَنْأى عنها من الأوجه التي أبديناها، بخلاف ما إِذا قِسْنَاها على مسألة المُرْتهن، فإنها إنما تَنْأى عنها من وجهين فقط كما عرفت وقياس الفرع على أصل لا ينأى منه إِلّا من وجهين، لا يخفى أنه أولى من: قياسه على أصل ينأى عنه من

(1)

سقط في ب.

ص: 163

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وجوه؛ لبعد الشّبه بينهما، هذا مع أنّ هذا التنائي وإن تعدّدت وجوهه لا يخدش أصل القياس - كما عرفت - بل نجعله من قسم الأَدْوَن، فافهم ما يلقى إليك.

قال: والوجهان في تَحْلِيف المجني عليه مَبْنِيّان على قولين فيما إذا أوصى لأم ولده بقيمة عَبْدٍ، فقتل قبل قَسَامَةٍ، ومات السيد قبل القَسَامة، ونكل وارثه عن اليمين، هل ترد اليمين على أم الولد؟.

قلت: وهذا بناء واضح؛ لأن بناء الوجهين على القولين ظاهر السَّبب، فإن القولين عند المخرجين بمنزلة النَّصين عند المجتهدين.

قال: والقولان في هذه المسألة مَبْنِيّان على قولين في أن من باع نَخلَةً من إنسان، فأفلس المشتري، وهي مطلقة، فاختار البائع عين ماله، وتَأَبَّرَتِ النخلة واختلف المتبايعان، فقال المشتري: أبّرتها قبل أن فسخت العَقْد، والثمرة لي، وقال البائع: بل فسخت قبل التَّأبير، والثمرة لي، فعرضنا اليمين على المشتري؛ ليعمل بقوله، فنكل، هل ترد اليمين على الغُرَمَاء؟.

قلت: وإنما بنينا على القَوْلَيْن في هذه، ولم يعكس؛ لأنّ حقّها آكد وأقوى من حق الغرماء؛ بدليل أن لها الدعوى - على المذهب - سواء قلنا: إنها تقسم أم لا، ولو وقع نكول حلِّفت، والأصحّ أنه ليس للغرماء الدعوى، سواء قلنا: يحلفون أم لا.

قال: والقولان في مسألة الغُرَمَاءَ مَبْنِيَّان على قولين فيما إذا مات وعليه دين، وأقام الوارث شاهدًا واحدًا على دين مورثه على إنسان، ونكل عن اليمين، هل ترد على الغريم؟

قال الرَّافعي: وهذه مسألة طويلة طولها الشيخ، قال: وقد يقال: بناء الوجهين في مسألة على قولين في أخرى معهود، فأما بناء قولين في مسألة على قولين، ووجهين على وجهين، فلا يكاد يترجّح على عكسه.

قلت: وإنما لا يكاد يترجّح إذا فرض التساوي من كل وجه، وأما مع ما أبديناه فيرجّح.

وإذا عرفت هذا فاعرضه على كل مباني تَكَاثرت، فإن وضح معنى فقهي كما قلناه في هذا المثال، فهو الغاية القُصْوى، وإلا فاعلم أن له سببين:

أحدهما: أن يكون الناظر قد تردّد في فرع بعد شدة الاجتهاد على رأس، ثم عرض له

ص: 164

وَمِنْهَا: أَلَّا يَكُونَ مَعْدُولًا بِهِ عَن [سَنَنِ] الْقِيَاسِ؛ كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ، وَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ.

وَمِنْهُ: مَا لا نَظِيرَ لَه، كَانَ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ؛ كَتَرخُّصِ الْمُسَافِرِ؛ أَوْ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ كَألْقَسَامَةِ.

فرع آخر مثله، فيلحقه به، ويكون سبق التردّد في الفرع موجبًا لجعله أصلًا، ولا يحتاج في البناء عليه إلى استحضار ما فعله في الأول من النَّظر والبحث.

والثاني: أن يكون التردّد في الفرع الأول حصل لمن تقدّمه من الأئمّة، فظهر له مساواة الثاني له، وإن لم يظهر عنده تمام النَّظر الموجب للتردد في الأول، بل ربما لم يظهر له إلا أحد الرَّأيين، ولم يدر ما الموجب للرَّأي الآخر، مع ظنه مساواة الحادثة التي وقعت له للحادثة التي تقدم فيها رأيان لمن تقدّمه، فيقيسها على الحادثة الأولى، ويخرج فيها الخلاف، وإن لم يعرف مَثَاره، وهنا وإن لم يظهر تَرْجِيح أحد البنائين على عكسه، ولكنه قد يقع البناء ونسبة أحد هذين الأمرين، فاعرفه.

الشرح: "ومنها" أي: ومن شروط حكم الأصل: "ألّا يكون معدولًا به عن سَنَنِ القياس" لتعذر التعدية - حينئذٍ - وهو قسمان:

الأول: ما لا يعقل معناه، وهو ضربان:

أحدهما: ما استثني عن قاعدة عامة "كشهادة خُزَيْمة".

والثاني: ما لم يستثن، كتقدير [نُصُبِ]

(1)

الزكاة، "وأَعْدَاد الركعات، ومقادير الحدود والكَفّارات".

القسم الثاني: ما يعقل معناه ولا نَظِيرَ له، فلا يجري فيه القياس - أيضًا - لعدم النظير، وهو - أيضًا - ضربان؛ لأن معناه إما أن يكون ظاهرًا أَوْ لا، وإلى هذا القسم أشار بقوله:"ومنها ما لا نَظِير له، كان له معنى ظاهر، كَرُخَصِ المسافر، أو غير ظاهر، كالقَسَامة".

هذا كلام المصنّف، وهو صريح في أن أَيْمَان القَسَامة معقولة المعنى، ولكن معناها خَفِيّ، بخلاف شهادة خُزَيْمة، ومقادير الحدود، وفيه نظر، ومنهم من لم يورد التقسيم على هذا الوجه.

(1)

في ج: نصاب.

ص: 165

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فوائد"

الأولى: المعدول عن سَنَنِ القياس هو الخارج عن المعنى، فلا يَنْطَبِق إلا على ما خرج عن المعنى، لا لمعنى، فيخرج عنه شيئان:

أحدهما: ما شرع ابتداء لا لمعنى، فإنه لم يدخل حتى يقال: خرج.

والثاني: ما استثني من معقول المَعْنَى لمعنى، كالعَرَايَا استثنيت من الرّبَوِيّات لحاجة الفقراء، وفي تسمية كل من هذين الشَّيئين بـ"المعدول به عن سَنَنِ القياس" تجوز، وبه صرح الغزالي في "المُسْتَصْفَى".

الثانية: قولهم: "رُخَصُ المسافر المعللة بدفع المشقّة لا يتأتى فيها القياس لعدم النظير" - ممنوع؛ فقد يوجد النظير في الحَمَّالين وغيرهم من ذوي المَشَقَّات التي هي أظهر من المسافر، لا سيّما المسافر ذو الرَّفَاهية.

فإن قلت: فلم لا يتأتى القياس فيها؟.

قلت: لأن المشقّة حكمة، والسفر مظنة، والتعليل إِنما يكون بالمَظَانّ؛ لانضباطها دون الحكم، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

الثالثة: لا يقال: سيأتي أن القياس يجري في الحدود والكَفَّارات، والرُّخَص والتقديرات، وهو منافٍ لهذا؛ لأنّ المراد هنا مقادير الحدود والكَفّارات، فلا يجرى القياس فيها، وإن جرى في أصل الحدود.

الرابعة: ما شرع مستثنى مقتطعًا عن القواعد العَامة، ولكنه معقول المعنى، صريح كلام المصنف: أنه لا يقاس عليه، وهو ما ذهب إِليه بعض الحنفية، والذي عليه جمهور أصحابنا وجمهور الحَنَفِيّة أنه يجوز القياس عليه، والحنفية لا يسمونه - والحالة هذه - معدولًا به عن القياس.

وقال محمد بن شُجَاع [الثلجي]

(1)

من الحنفيّة: إن ثبت المستثنى بدليل قطعي جاز القياس عليه، وإلا فلا.

(1)

في أ: البلخي.

ص: 166

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال الكَرْخِي: إن كانت جملة المستثنى منصوصة أو مجمعًا عليها، أو موافقة لبعض الأصول جاز القياس، وإلا فلا.

وللإمام الرَّازي تفصيل، حاصله: أنه يطلب التَّرْجيح بينه وبين غيره، وقد بسطنا هذا الكلام في "التَّعْليقة" بسطًا وافيًا.

ومن أمثلة المستثنى لمعنى: تجويز بيع الرُّطَب بالتَّمْرِ في العَرَايا، فإنه على خلاف قاعدة الربويات - عندنا - واقتطع عنها لحاجة المَحَاويج، وذلك ثابت في حديث زيد بن ثَابتٍ رضي الله عنه في أناس مَحَاويج شَكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نَقْد بأيَديهم يبتاعون به رطبًا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول تَمْرٍ من قُوتِهِمْ من التمر "فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعوا العَرَايا بِخَرْصِها من التمر الذي في أيديهم، ثم يأكلونها رطبًا"

(1)

.

قال أصحابنا: والعنب بالزبيب كالتمر، ثم اختلفوا على وجهين حكاهما المَاوَرْدِي:

أحدهما - وعليه ابن أبي هريرة -: أنه قياس.

والثاني - وعليه المحاملي وابن الصباغ -: أنه بالنَّص؛ لأن زيدًا روى أنه عليه الصلاة والسلام أَرْخَصَ في العَرَايا، والعَرَايا: بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب.

والصحيح اشتراك الأَغْنِيَاء والفقراء في العَرَايا.

وقيل: يختص بالفقراء، فإن صح ورود الحديث في المَحَاويج، فما إلحاق الأغنياء بهم إلا بالقياس.

واختلف أصحابنا في بيع الرّطب على النَّحْل بالرطب على الأرض، والصحيح لا يجوز مطلقًا.

والئاني: يجوز، وعلى هذا هو بالقياس.

والثالث: الفرق بين النوع الواحد، فيمتنع فيه، والأنواع فلا، ومنهم من أجرى

(1)

أخرجه البخاري (4/ 449) كتاب البيوع، باب بيع المزابنة (2188)، ومسلم، كتاب البيوع: باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا (60/ 1539).

ص: 167

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأوجه في بيع الرّطب بالرطب، وإن كانا جميعًا على الأرض، كـ"المتولى"

(1)

وغيره، فحيث جوز، فهو قياس صحيح، وهو قياس أَدْوَن أيضًا.

ومن أمثلته - أيضًا - ما شرع من صاع التَّمر مع المُصَرَّاة بدل اللَّبن، استثناء من قاعدة ضمان المِثْلِ بالمِثْلِيّات، والمتقوّم بالقيمة لمعنى عَقلناه، وقِسْنَا عليه - على الصحيح من المذهب - إذا رد المُصَرَّاة يعيب غير التَّصْرِيَةِ

(2)

، فإنه يرد معها - أيضًا - صاعًا في تمر بدل اللبن.

(1)

عبد الرحمن بن مأمون بن علي بن إبراهيم، النيسابوري، الشيخ أبو سعيد المتولي، تفقه بـ"مرو "على الفوراني، وبـ"مرو الروز" علي القاضي الحسين. وبرع في الفقه والأصول والخلاف. قال الذهبي: وكان فقيهًا محققًا، وحبرًا مدققًا. وصنف كتابًا في أصول الدين، وكتابًا في الخلاف، ومختصرًا في الفرائض. ولد بـ"نيسابور" سنة 406 هـ. وكانت وفاته بـ"بغداد" في شوال سنة 478 هـ. ودفن بمقبرة باب أبرز. ينظر: الأعلام 4/ 98، ووفيات الأعيان 2/ 314، وطبقات الشافعية للسبكي 3/ 223، وشذرات الذهب 3/ 358، وابن قاضي شهبة 1/ 247، والبداية والنهاية 112/ 128.

(2)

قال أبو عبيد: المصراة: هي الناقة أو البقرة، أو الشاة. تصري اللبن في ضرعها، أي يجمع، ويحبس، ومنه يقال: صريت اللبن، وصريته بالتخفيف والتشديد. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: التصرية أن تربط أخلاف الناقة، أو الشاة، وتترك من الحلب اليومين، والثلاثة، حتى يجتمع لها لبن، فيراه مشتريها كثيرًا، فيزيد في ثمنها.

قالوا: فظاهر قول أبي عببد أن المصراة مأخوذة من التصرية، وهي الجمع.

وظاهر قول الشافعي: أنها مأخوذة من الصر وهو الربط، ثم ضعفوا قول الشافعي: بأنه لو كانت مأخوذة من الصر؛ لكان يقال لها: المصررة؛ لأن لامها حينئذ راء لا ياء. والذي يتراءى في نظري أن قول الشافعي لا يخالف قول أبي عبيد؛ بدليل أنه قال: التصرية أن تربط أخلاف الناقة، حتى يجتمع لها اللبن، فبين أن معنى التصرية هو الجمع.

غاية ما في الأمر تكفل بزبادة بيان طريقهم في هذا الجمع، وعادتهم السائدة فيه بينهم، فقال: أن تربط الأخلاف اليومين والثلاثة، وفي معنى التصرية: التحفيل، وقد وردت بعض الروايات الصحيحة مصرحة بهذا اللفظ أيضًا، ومنه قيل لمجامع الناس: محافل.

والفقهاء كلهم على أن التصرية للبيع حرام؛ لأنها غش، وخداع، ومكر سيء، واحتيال على أكل أموال الناس بالباطل، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:"مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا".

وكلهم كذلك على أن بيع المصراة مع ذلك صحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحكم ببطلان بيعها، وإنما جعل فقط الخيار لمبتاعها، وهو لا يكون إلا في عَقْدٍ صحيح. =

ص: 168

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الخامسة: عرفت أن الوارد استثناء إذا كان معقول المعنى، يجوز القياس عليه عندنا؛ وادعى إمام الحرمين: أن المستثنى لا يكون معقول المعنى، وأن ما يعقل معناه لا يستثنى،

= وإنما اختلفوا في هَلْ يثبت لمشتريها الخيار أم لا يثبت؟ فأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وبقولهما يفتى في المذهب الحنفي: على أنه لا خيار للمشتري في شرائه المصراة، بل البيع لازم له، وعليه الإمساك بالثمن المتفق عليه. والشافعية، والمالكية، والحنابلة، والظاهرية، وزفر وأبو يوسف من الحنفية، وبعد ذلك جماهير العلماء على أن للمشتري الخيار بين الرد، وبين الإمساك بالثمن المتفق عليه، إذا كانت المصراة من بهيمة الأنعام، ولم يكن المشتري عالمًا بالتصرية وقت الشراء.

حجة أبي حنيفة، ومحمد: أن مطلق البيع يقتضي صفة السلامة، فيكون لازمًا ما دام قد تحقق مقتضاه، وبانعدام اللبن بالكلية لا تذهب صفة السلامة، فبقلتها من باب أولى، فلا رد بالتصرية؛ لأنها عِبَارَةٌ عن ظهور قلة اللبن.

وقد اعترض الجمهور على ذلك بأن التصرية، وإن لم تكن عيبًا لكن فيها تدليس، وتغرير بالمشتري، وهو يثبت له حق الرد، كمن اشترى قفة ثمار، فوجد في أسفلها حشيشًا مثلًا، حيث يكون له حق الرد للتغرير.

وقد أجاب الحنفية عن هذا الاعتراض بجوابين: أولهما - بأن المشتري في المصراة مغتر لا مغرور؛ لأن كبر الضرع قد يكون لغزارة اللبن، وقد يكون لغزارة اللحم، فتكتم على أمر كان يمكنه أن يعلم من البائع اغترار منه بكثرة اللبن، وهذا بخلاف قصة الثمار لا معنى لها إلا على أن كل ما فيها ثمر، فالمشتري فيها مغرور لا مغتر ومضلل عليه لا ضال.

وثانيهما: بالفرق على فرض أن المشتري هنا أيضًا مغرور بأن التقرير في قصة الثمار بنقص المقدار، وهو عيب، وهذا بخلاف التصرية.

أما المنقول: فما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تصِرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَينِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا، وَصَاعًا مِن تَمْرٍ". وهو حديث متفق عليه.

وللبخاري وأبي داود: "منِ اشْترَى غَنَمًا مُصَرَّاةً، فَاحْتَلَبَهَا، فانْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِها صَاعٌ مِن تَمْرٍ" ولمسلم: "إذَا مَا اشترَى أَحَدُكُمْ لقحةً مُصَرَّاةً، أو شَاةً مُصَرَّاةً، فَهُوَ بِخَير النَّظَرَين بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا، إمَّا هِيَ، وَإِلَّا فَلْيَرُدَّهَا، وَصَاعًا مِن تَمْرٍ".

وللجماعة إلا البخاري: "مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَهُوَ مِنْهَا بِالخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّامٍ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَمَعَهَا صَاعًا مِن تَمرٍ لا سَمْرَاءَ". =

ص: 169

وَمِنْهَا:‌

‌ أَلَّا يَكُونَ ذَا قِيَاسٍ مُرَكَّبٍ.

وهو لا ينكر مسألة العَرَايا، ولكن أظنه يمنع المعنى فيها، وفي مثل الكَرْم يجعله من باب النص، كما هو وجه قدّمناه عن المحاملي وابن الصَّباغ.

وقد أورد الإِمام على نفسه تحمل العاقلة والمُصَرّاة، وأجاب بأنهما غير معقولي المعنى، وقد بسطنا الكلام عليه في "التَّعليقة" بما يغني عن الإِعادة.

الشرح: "ومنها" أي: ومن شروط حكم الأصل "ألّا يكون ذا قياس مركّب".

اعلم أن من الشروط: كون الحكم متفقًا عليه مخافة أن يمنع، فيحتاج القائس إِلى إثباته عند توجّه المنع إِليه، فيكون الشروع فيه انتقالًا من مسألة إلى أخرى، ثم اختلفوا في كيفيّة الاتفاق عليه.

فقيل: بشرط أن يكون متفقًا عليه بين الأمة.

وقيل: يكفي اتفاق الخَصْمَين.

وقيل: يشترط اتفاق الخَصْمَين واختلاف الأمة، حتى لا يكون مجمعًا عليه، وهو رأي

= هذه الروايات كما ترى كلها صحيحة متفق على صحتها، وكلها عن أبي هريرة رضي الله عنه وهي صريحة، ونص في ثبوت الخيار للمشتري إذا ما اشترى مصراة فاحتلبها، فإنه بخير النظرين، إما أن يمسك بالثمن المتفق عليه، وإما أن يرد، لا تحتمل غير هذا ألبتة، ومن حملها غيره فقد تكلف مركبًا صعبًا.

وقد روى هذا الحديث بطرق غير هذه بعضها جيد، وبعضها ضعيف، وفي بعضها زيادة، وفي بعضها نقص، وفي بعضها تغيير وتبديل، ففي بعضها: صاع من تمر، وفي بعضها صاع فقط، وفي بعض آخر: مثل أو مثلي لبنها قمحًا، وهذه الروايات بعضها عن ابن عمر، وبعضها عن أنس، وبعضها عن ابن مسعود رضي الله عنه وإن كان الصحيح عن ابن مسعود موقوفًا عليه، وبعضها عن رجل من الصحابة، وهي بسند جيد، وكلها: قوية، وجيدة وضعيفة متظاهرة متضافرة في ثبوت الخيار للمشتري إذا كان اشترى مصراة، فاحتلبها فظهر له أمرها، وافتضح له عوارها.

وأما المعقول: فأثبتوا الرد بالتصرية قياسًا على ما لو سود شعر الجارية الشمطاء، فباعها فانكشف للمشتري حالها، حيث يكون له حق الرد؛ للتضليل عليه؛ وعلى ما لو حبس البائع ماء الرحى، ثم أرسله عند بيعها تغريرًا بالمشتري بجريان مائها على الدوام، حيث يكون له الرد أيضًا، وذلك لوجود التدليس، والتغرير في التصرية أيضًا. =

ص: 170

وَهُوَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِمُوَافَقَةِ الْخَصْمِ فِي الأَصْلِ، مَعَ مَنْعِهِ عِلَّةَ الأَصْلِ، أَوْ مَنْعِهِ وُجُودَهَا فِي الأَصْلِ، فَالأَوَّلُ: مُرَكَّبُ الأَصْلِ؛ مِثْلُ: "عَبْدٌ"، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْحُرُّ، كَالْمُكَاتَبِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ الْعِلَّةُ جَهَالَةُ الْمُسْتَحَقِّ مِنَ السَّيِّدِ وَالْوَرَثَةِ، فَإِنْ صَحَّتْ، بطَلَ الْإِلْحَاق، وَإنْ بَطَلَتْ، مُنِعَ حُكْمُ الأَصْلِ، فَمَا يَنْفَكُّ عَن عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ أَوْ مَنْعِ الأَصْلِ.

الآمدي، وسمي هذا النَّوع من القياس بـ"القياس المركب"، والصَّحيح: أن المركّب أخصّ منه، وهو: أن يكون الحكم متفقًا عليه بين الخصمين، لكن لعلّتين مختلفتين، أو لعلّة يمنع الخصم وجودها في الأصل، وعلى هذا جرى الآمدي والمصنّف - فقال:

"وهو: أن يستغني" المستدل "بموافقة الخَصْم في الأصل"، إما "مع منعه علة الأصل، أو "موافقته عليها، ولكن مع "منعه وجودها في الأصل، فالأول" يقال له: "مركّب الأصل"، وهو:"مثل" قول الشَّافعي - فيما إذا قتل الحُرّ عبدًا -: المقتول "عبد، فلا يقتل به الحر، كالمُكَاتب" إذا قتل وترك وفاء، ووارثًا مع المولى.

فإن أبا حنيفة يقول هنا: لا قِصَاصَ، فيلحق العبد به - هنا - بجامع الرِّقّ، فالشافعي لا يحتاج إلى إِقامة الدليل على عدم القِصَاص في هذه الصورة؛ لموافقة خصمه، "فيقول الحنفي "ناقضًا عليه ما جعله الشَّافعي علة - وهو الرق -:"العلّة جَهَالة المستحق من السيد والورثة".

قالت الحنفية: والسيد والورثة وإن اجتمعوا في هذه الحالة على طلب القِصَاصِ لا يزول الاشْتِبَاه؛ لاختلاف الصَّحابة في مكاتب يموت عن وفاء.

قال بعضهم: يموت عبدًا، فتبطل الكتابة.

وقال بعضهم: يؤدّي بدل الكتابة من اكتسابه، ويحكم بِعِتْقِهِ في آخر جزء من حياته، فقد اشتبه الولي مع هذا الاختلاف، فامتنع القصاص.

فإِن اعترض عليهم: بأنكم لا بد أن تحكموا - في هذه الحالة - بأحد هذين القولين، إما بموته عبدًا، أو حرًّا، وأيًّا ما كان، فالمستحقّ معلوم.

قالوا: نحن نحكم بموته حرًّا، بمعنى: أنه يورث، لا بمعنى: وجوب القصاص على قاتله الحرّ؛ لأن حكمنا بموته حرًّا ظنّي؛ لاختلاف الصَّحَابة، والقصاص ينتفي بالشُّبْهَة، وهذه جهالة تصلح دارئة للقصاص، ولا يمتنع علمنا بمستحق الإرث المالي.

ص: 171

الثَّانِي: مُرَكَّبُ الْوَصْفِ؛ مِثْلُ: تَعْلِيقٍ لِلطَّلَاقِ. فَلَا يَصِحُّ قَبْلَ النِّكَاحِ، كَمَا لَوْ قَالَ:"زَيْنَبُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ"، فَيَقُولُ الْحَنِفيُّ: الْعِلَّةُ عِنْدِي مَفْقُودَةٌ فِي الْأَصْلِ، فَإِنْ صَحَّ، بَطَلَ الْإِلْحَاقُ، وَإلَّا مُنِعَ حُكْمُ الْأَصْلِ؛ فَمَا يَنْفَكُّ عَنْ مَنعِ الْأَصْلِ أَوْ عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ.

هذا تقرير هذا المثال، فاعتمده واجتنب تقرير الشَّارحين، وحاصل أمر الحنفية أنهم أوجبوا القِصَاص على حُرّ قتل عبدًا، ولم يوجبوه على حر قتل حرًّا، وهو المكاتب الذي ترك وفاء، فإنه عندهم يموت حرًّا، ولا يقتل قاتله، وتمام قول الحنفي: إنه إذا عرفت أن العلّة عندي الجَهَالة، "فإن صحت، بطل الإلحاق"؛ لعدم المشاركة في العلّة، "وإن بطلت منعت حكم الأصل".

وقلت: يقتل الحُرّ بهذا المكاتب لعدم المانع، "فما ينفك" الحنفي في هذه الصورة "عن عدم العلّة في الفرع" على تقدير كونها الجهالة، "أو منع" الحكم في "الأصل" على تقدير أنها الرّق، فلا يتمّ القياس على التقديرين.

الشرح: "الثاني" يقال له: "مركب الوصف"، وسمي بذلك لكونه خلافًا في نفس الوصف، "مثل: تعليق الطلاق، فلا يصح فقبل النكاح، كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق، فيقول الحنفي: العلة" الموجبة للوقوع في الفرع "عندي" هي التعليق، وهي "مفقودة في الأصل".

فإن قوله: زينب التي أتزوجها طالقٌ، تنجيزٌ لا تعليقٌ؛ فإما أن يصح عدم التعليق في الأصل، أو لا يصح.

"فإن صح، بطل الإلحاق"؛ إذ لا يلحق تنجيز بتعليق؛ لعدم الجامع، "وإلا منع حكم الأصل"، وهو عدم الوقوع في قوله: زينب التي أتزوجها طالق؛ لأني إنما منعت الوقوع؛ لأنه تنجيز، فلو كان تعليقًا، لقلت به، "فما ينفك عن" عدم العلّة في الأصل، أو "منع الأصل".

واعلم أن كل موضع يستدلّ فيه باتفاق الطَّرفين، يتأتى فيه أنه ذو قياس مركّب؛ فإن الخصم لا يعجز عن إظهار قَيْد يختص بالأصل، ويدعي أن ذلك هو العلة عنده، ولا سبيل لك إلى دفعه بالدليل على أن علتك هي العلة عنده، بل لو قال: علّتي غير ذلك، ولم يعينها، سمع منه، فإذن طريق ثبوت ذلك هو اعترافه.

ص: 172

فَلَو سَلَّمَ أَنَّهَا الْعِلَّةُ وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ، أَوْ أَثْبَتَ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ انْتَهَضَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، لاِعْتِرافِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَثْبَتَ الْأَصْلَ بِنَصٍّ، ثُمَّ أَثْبَتَ الْعِلَّةَ بِطَرِيقِهَا؛ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْبَلْ لَمْ تُقْبَلْ مُقَدِّمَةٌ تَقْبَلُ الْمَنْعَ.

وَمِنْهَا: أَلَّا يَكُونَ دَلِيلُ حُكْمِ الأصْلِ شَامِلًا لِحُكْمِ الْفَرْع.

الشرح: "فلو سلم أنها العلّة، وأنها موجودة" في الأصل، فذاك، فللمستدلّ أن يثبت وجودها في الأصل بدليل من عَقْل أو حس أو شرع، وإليه أشار بقوله:"أو أثبت" المستدلّ "أنها موجودة".

فإذا فعل المستدل أحد هذين الطريقين "انتهض الدليل عليه؛ لاعترافه" بصحّة الموجب في الصورتين، وثبوته في سورة ما إذا سلم أنها موجودة.

وأما في سورة ما إذا لم يسلم، فلقيام الدليل عليه، فلزمه القول بموجبه "كما لو كان مجتهدًا" ينظر في المسألة على سبيل الاجتهاد؛ فإنه لا تسعه المخالفة عند قيام الدليل.

واعلم أن ما ذكرناه فيما إذا كان حكم الأصل متفقًا عليه بين الخَصْمَيْنِ غير مجمع عليه بين الأمة، وراءه حالتان:

إحداهما: أن يكون مجمعًا عليه، ولا كلام فيه، وقد قدمنا عن الآمدي منع هذا، وأنه يشترط ألَّا يكون مجمعًا عليه، قال: فإنه متى كان مجمعًا عليه بين الأمة لم يتمكن الخصم من منعه.

والثانية: ألَّا يكون مجمعًا عليه، ولا متفقًا عليه بين الخصمين، بل حاول المستدل إثبات حكم الأصل بنصّ، ثم أثبت العلّة بطريق من طرقها.

فقيل: لا يقبل ذلك منه، بل لا بُدّ من الإجماع بين الخَصْمَيْن؛ لضم الكلام عن الانتشار.

والأصح: قبوله، وإليه أشار بقوله:"وكذلك لو أثبت الأصل بنص، ثم أثبت العلة بطريقها" من إجماع، أو نص، أو سَبْر أو إحالة لأعلى الأصح؛ لأنه لو لم يقبل لم يقبل" في المُنَاظرة "مقدمة تقبل المنع"، وبطل أن اللازم واضح.

وبيان الملازمة: أن من يمنع ذلك، ويشترط في حكم الأصل الإجماع، إنما دعاه إلى

ص: 173

‌شُرُوطُ عِلَّةِ الأَصْلِ

مَسْأَلَةٌ:

وَمِنْ شُرُوطِ عِلَّةِ الأَصْلِ:‌

‌ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ،

أَيْ: مُشْتَملَةً عَلَى حِكْمَةٍ مَقْصُودَةِ لِلشَّارعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ؛ لأِنَّهَا إِذا كَانَتْ مُجَرَّدَ أَمَارَةٍ، وَهِيَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ - كَانَ دَوْرًا.

ذلك، حيث حصول الانتقال، وانتشار الكلام، وهذا لا يخص حكم الأصل، بل يعم كل مقدمة تقبل المنع.

الشرح: "ومنها" أي: ومن شروط حكم الأصل "ألّا يكون دليل حكم الأصل شاملًا لحكم الفرع"، وإِلَّا لم يكن جعل أحدهما أصلًا، والآخر فرعًا أَوْلَى من العكس

(1)

.

مئاله: الذُّرَة رِبَوِيّ قياسًا على البُرّ، بجامع الطَعْم، فيمنع البُرّ، فيقول: قال عليه الصلاة والسلام: "لا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ".

فإن تناول الطعام للبر كتناوله للذرة. وقد نجز الكلام على شروط الأصل.

«مسألة»

الشرح: "ومن شروط علّة الأصل: أن تكون بمعنى البَاعِثِ

(2)

، أي مشتملة على حكمة

(1)

ينظر: نهاية السول 4/ 300، وشرح العضد 2/ 229، وجمع الجوامع 2/ 252، وشرح الكوكب المنير 502، وإرشاد الفحول (208)، والتحرير 462، والتيسير 4/ 33، وفواتح الرحموت 2/ 290.

(2)

العلة: تأتي بكسر العين وبفتحها:

أما بالكسر: فإنها تأتي بمعنى المرض، يقال: اعتلَّ العليل علة صعبة، من عل يعل، واعتل: أي مرض، فهو عليل، وأما بالفتح فإنها تأتي بمعنى الضرة وبنو العلات: بنو رجل واحد من أمهات شتى، وإنما سميت الزوجة الثانية علة؛ لأنها تعل بعد صاحبتها، من العلل الذي يعني به الشربة الثانية عند سقي الإبل، والأولى منهما تسمى النهل.

ويقال: هذا علة لهذا، أي سبب، وفي حديث عائشة: فكان عبد الرحمن يضرب رجلي بعلة الراحلة، أي بسببها.

أما العلة عند علماء الأصول فلها تعريفات كثيرة منها:

أنه يراد بها:

ص: 174

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقصودة للشارع من شرع الحكم"، من تحصيل مصلحة أو تكميلها، أو دَفْع مَفْسَدة، أو تقليلها، "لأنها إذا" لم تكن كذلك، بل "كانت مجرّد أمارة" لم يكن له فائدة إلا تعريف الحكم، وإنما يعرف بها الحكم إذا لم تكن منصوصةً أو مجمعًا عليها، وإلا عرف الحكم بالنص والإجماع.

فإن قوله - مثلًا -: الحُرْمة في الخمر معللة بالإسكار، تصريح بحرمة الخَمْرِ، فلا

= الوصف المؤثر في الأحكام لجعل الشارع لا لذاته، ومما صار على ضرب هذا التعريف الإمام الغزالي وبعض الأصوليين، قال حجة الإسلام قدس الله سره ونوّر ضريحه: والعلة في الأصل: عارة عما يتأثر المحل بوجوده؛ ولذلك سمي المرض علة، وهي في اصطلاح الفقهاء على هذا المذاق.

وقال أيضًا: العلة عبارة عن موجب الحكم، والموجب: ما جعله الشرع موجبًا، مناسبًا كان أو لم يكن، وهي كالعلل العقلية في الإيجاب، إلا أن إيجابها بجعل الشارع إياها موجبة لا بنفسها، وقال أيضًا: والعلة موجبة، أما العقلية فبذاتها، وأما الشرعية فبجعل الشرع إياها موجبة على معنى إضافة الوجوب إليها، كإضافة وجوب القطع إلى السرقة، وإن كنا نعلم أنه إنما يجب بإيجاب الله تعالى أنه يراد بها المعرف للحكم، والذين صاروا إلى هذا التعريف يجعلونها بهذا المعنى - علمًا - على الحكم، فمتى ما وجد المعنى المعلل به عرف الحكم، حتى إن بعضهم صرّح بكونها كذلك، فقال:"ما جعل علمًا على حكم النص، وعنوا بقولهم: علمًا" الأمارة والعلامة؛ وبهذا تكون العلة: إما على وجوب الحكم في الفرع والأصل معًا، أو علامة على وجوده في الفرع فقط، كما يرى بعض الأصوليين.

كما أنهم أيضًا أشاروا إلى أن العلة غير مؤثر حقيقة، بل المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى، ويردون بذلك على من يقول: إنها هي المؤثر.

وممن ذهب إلى هذا التعريف: الإمام البيضاوي وكثير من علماء الأحناف وبعض فقهاء الحنابلة.

والثالث: أن العلة: هي الوصف المؤثر بذاته في الحكم.

وبعبارة أخرى: هي الموجب للحكم بذاته بناء على جلب المصالح أو دفع المفاسد التي قصدها الشارع. وهذا التعريف ذكره الأصوليون عن جماهير المعتزلة.

قال أبو الحسين البصري في المعتمد:

وأما العلة في اصطلاح الفقهاء: فهي ما أثرت حكمًا شرعيًّا، وإنما يكون الحكم شرعيًّا إذا كان مستفادًا من الشرع. ينظر: الصحاح للجوهري: 5/ 1773، وتهذيب اللغة للأزهري 1/ 105،=

ص: 175

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يكون قد عرف بالعلّة، "فلم يَبْقَ"

(1)

إلا أن يعرف بها، "وهي مستنبطة من حكم الأصل"، ولو كان كذلك "كان دورًا"؛ لأن المستنبطة لا تعرف إلا بثبوت الحكم، فلو عرف ثبوت الحكم بها، كان دورًا واضحًا.

ولقائل أن يقول: لا نسلم أنها إذا كانت منصوصةً لا تعرف حكم الأصل، بل العلّة المعرف، وهي تعرف حكم الأصل والفرع.

وسترى تحقيق هذا - إن شاء الله - عند قول المصنّف: الشافعية: حكم الأصل ثابت بالعلة، سلمنا أنها في الأصل لا تعرف، ولكنها معروفه بالأصل، معرفة في الفرع، فلا دور.

وقد ارتضى المصنّف هذا من قبل، حيث قال: ولذلك كان الجامع فرعًا للأصل أصلًا للفرع.

وأما تفسير العلّة بـ "الباعث"، فشيء قاله الآمدي، وحاد به عن مسلك أئمّتنا أجمعين، وهو عندنا من ذوي المَذَاهب؛ لإِفضائه إلى تعليل أفعال الرَّب بالأغراض، فلو عرف قائله غائِلَتَه لأبعد عنه، فإنه شرّ من مذهب القدرية؛ فإن الرب - تعالى - لا يبعثه شيء على شيء.

= وترتيب القاموس 3/ 300، ولسان العرب 4/ 3079 - 3080.

والبحر المحيط للزركشي 5/ 111، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 185، ونهاية السول للأسنوي 4/ 53، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 50، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 114، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 222، والمستصفى للغزالي 2/ 287، 335، وحاشية البناني 2/ 231، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 32، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 47، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 272، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 246، والتحرير لابن الهمام ص 431، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 3/ 302، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 281، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 217، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 62، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 243، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 825، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 210، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 141.

(1)

سقط في ب.

ص: 176

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإن قلت: ليس الباعث بهذا التفسير، بل المشتمل على حكمة مقصودة للشارع من شرع الحكم.

قلت: قولك: مقصود للشَّارع من شرع الحكم، معناه: أنه لأجلها شرعه، وهذا هو الباعث والداعي.

وحاصله أنك تقول: إن الرب - تعالى - حرم الخَمْر - مثلًا - لأجل الإِسكار، وذلك هو الفعل لغرض الذي تَنزَّه الباري - تعالى - عنه؛ لأن من فعل فعلًا لغرض لا بد أن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إليه أولى من لا حصوله، وإلا لم يكن غرضًا، وإذا كان أولى، اكتسب به فاعله صفة مَدْح، ويكون حصول تلك الأولوية لله - تعالى - متوقفةً على الغَيْرِ، فتكون ممكنة غير واجبة، فيكون كماله - تعالى - ممكنًا غير واجب، وهو باطل.

لا يقال: حصول ذلك الغرض، ولا حصوله مستويان بالنِّسبة إلى الله - تعالى - ولكن متفاوتان بالنسبة إِلى العبد، فيفعله - تعالى - لا بغرضه، بل لغرضهم؛ لأنا نقول: فعله لذلك الفِعْلِ ليحصل غرضهم، إِن كان أولى من لا فعله، جاء حديث الاستكمال، وإن لم يكن فتحصيل الغرض إِن كان لتحصيل غرض آخر لهم، كان الكلام فيه كالأول، وتسلسل.

فالحق الأَبْلَجُ ما عليه سلف هذه الأمة: من أن أحكام الله - تعالى - لا تعلل.

فإن قلت: فقد اشتهر قول الفقهاء: علّة الحكم الفلاني كذا، أو الباعث على كذا وكذا، فما الجامع بينه وبين قول المتكلّمين بعدم التعليل؟.

قلت: لم يعن الفقهاء بالعلّة، المؤثر، كما عناه المعتزلة، ولا الباعث على التشريع، كما عناه الآمدي، وإنما عنوا أن العلّة باعثة للمكلّف على الامتثال، فحفظ النفوس يبعث [المكلف]

(1)

على فعل القِصَاص، الذي حكم به الله - تعالى - لباعث

(2)

بعثه فيه. نبه عليه الشيخ الإمام الوالد تغمّده الله برحمته.

(1)

في ب: المكلفين.

(2)

في أ، ب: الباعث.

ص: 177

وَمِنْهَا: أَنْ يكُونَ وَصْفًا ضَابِطًا لِحِكْمَةٍ لَا حِكْمَةً مُجَرَّدَةً؛ لِخَفَائِهَا، أَوْ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا، وَلَوْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهَا، جَازَ عَلَى الأصَحِّ.

وَمِنْهَا:‌

‌ أَلَّا تَكُونَ عَدَمًا فِي الْحُكْمِ الثُّبُّوتِيِّ.

الشرح: "ومنها" أي: ومن شروط العلة "أن تكون وصفًا ضابطًا لحكمة

(1)

، لا حكمة مجردة؛ لخفائها" كالرضا في البَيْعِ، ولذلك شرطت الصيغ للعقود؛ لكونها ظاهرة منضبطة، "أو لعدم انضباطها" كالمشقّة، فإن لها مَرَاتب، وهي تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال اختلافًا شديدًا، فنيطت بالسَّفَرِ لانضباطه.

"ولو" وجدت حكمة مجردة، وكانت ظاهرة بنفسها، منضبطة بحيث "أمكن اعتبارها، جاز" اعتبارها، وربط الحكم بها "على الأصح"؛ لأنا نعلم قطعًا أنها هي المقصودة للشارع، وإنما عدل عن اعتبارها لمانع خفائها، أو اضطرابها دَرْءًا للتَّشَاجُرِ والتنافس، فإاذا زال المانع، جاز اعتبارها.

وقيل: لا يجوز.

الشرح: "ومنها: ألا تكون عدمًا في الحكم الثّبوتي"؛ وفاقًا للآمدي، وخلافًا للإمام

(1)

الحكمة لغة: عبارة عن: معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم، ومن هنا سمي العالم حكيمًا؛ لأنه صاحب حكمة متقن للأمور، ومن أقرب التعريفات اللغوية إلى معناها الاصطلاحي قولهم: إنها ما تعلقت بها عاقبة حميدة، وهي بخلاف السفه، وتأتي أيضًا بأنها العلم الذي يمنع ما يقبح إلى ما يحسن.

الحكمة اصطلاحًا:

أطلق علماء الأصول الحكمة على شيئين اثنين:

فالجمهور يطلقها على ما يترتب على التشريع من جلب مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها، وبعض الأصوليين يرى أنها: الأمر المناسب نفسه، وعليه فإن المصلحة أو المفسدة أنفسهما يطلق عليهما هذا اللفظ عندهم.

ومن خلال تعاريف العلة والحكمة نستطيع أن نفرق بين العلة والحكمة، فعلة الحكم: هي الوصف الذي جعله الشارع مناطًا لثبوت الحكم، حيث ربط الشارع به الحكم وجودًا وعدمًا؛ بناء على أنه مظنة لتحقيق المصلحة المقصودة للشارع من شرع الحكم.

أما الحكمة: فهي المصلحة نفسها؛ ولذلك فإنها قد تتفاوت درجاتها في الوضوح والانضباط، وقد تخفى فلا تكون معلومة للعباد أصلًا. ينظر: لسان العرب 2/ 951.

ص: 178

لنَا: لَوْ كَانَ عَدَمًا لكَانَ مُنَاسِبًا أَوْ مَظِنَّتَهُ.

وَتَقْرِيرُ الثانِيَةِ: أن العدمَ الْمُطْلَقَ بَاطِلٌ، وَالْمُخَصَّصُ بِأَمْر إِنْ كَانَ وُجُودُهُ مَنْشَأَ مَصْلَحَةٍ فَبَاطِلٌ، وإنْ كَانَ مَنْشَأَ مَفْسَدَةٍ، فَمَانِعٌ وَعَدمُ الْمَانِع لَبْسَ عِلَّةً، وَإنْ كَانَ وُجُودُهُ يُنَافِي وُجُودَ الْمُنَاسِبِ، لَمْ يَصْلُحْ عَدَمُهُ مَظِنَّةً لِنَقِيضِهِ؛ لأِنَّهُ إِنْ كَانَ ظَاهِرًا تَعَيَّنَ بِنَفْسِهِ، وَإنْ كَانَ خَفِيًّا فَنَقِيضُهُ خَفِيٌّ، وَلَا يَصْلُحُ الخَفِيّ، مَظِنَّةَ للخَفِيِّ وَإنْ لَمْ يَكُنْ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.

الرّازي وأتباعه

(1)

.

الشرح: "لنا: لو كان" الوصف "عدمًا، لكان مناسبًا أو مظنّته، واللازم باطل بقسميه.

وتقرير الأول، وهي الملازمة: أنه لا بُدّ أن يكون بمعنى الباعث؛ لأن العلة الباعث، وهو إِما نفس الباعث، وهو المناسب، أو أمر مشتمل عليه، وهو المَظِنّة.

الشرح: "وتقرير الثانية": أي: بطلان اللازم "أن العدم" المعلل به إما أن يكون العدم "المطلق"، فالتعليل به "باطل" قطعًا؛ لعدم تخصيصه بمحلّ وحكم، ولاستواء نسبته إلى الكل، أو العدم المخصص، أي: المقيّد، "والمخصص بأمر" إما أن يكون وجود ذلك الأمر منشأ لمصلحة أو لمفسدة، أو لا يكون، "إن كان وجوده منشأ مصلحة، فباطل" أن يكون عدمه مناسبًا، أو مظنة مناسب؛ لأن اعتبار عدمه تفويت لتلك المَصْلَحة، فلا يصلح مقصودًا.

"وإن كان منشأ مفسدة" وعدمه عدم "مانع، وعدم المانع ليس علة"، بل لا بد معه من مُقْتض، فلو قال قائل: أكرمت زيدًا؛ لأنه لا ماء من إكرامه، عُدّ سَخَفًا، بل لا بد له من ذكر المقتضي، هذا إِذا كان وجوده منشأ لمصلحة أو مَفْسَدة، حتى يكون عدمه مناسبًا، وإن لم يكن كذلك حتى يكون عدمه مظنّة.

فإما أن يكون وجوده منافيًا للمناسب أو لا، "فإن كان وجوده ينافي وجود المناسب"،

(1)

ينظر: المحصول 2/ 2/ 438، وشرح التنقيح (411)، وشرح العضد 2/ 232، وجمع الجوامع 2/ 261، والمنتهى 130، وتيسير التحرير 4/ 37، وفواتح الرحموت 2/ 292، ونشر البنود 2/ 153، والإبهاج 3/ 161.

ص: 179

وَأَيْضًا: لَمْ يُسْمَعْ أَحَدٌ يَقُولُ: الْعِلَّةُ كَذَا أَوْ عَدَمُ كَذَا.

فهو بحيث يستلزم وجوده عدم للمناسب، ولا بد أن يستلزم عدمه وجود المُنَاسب؛ لتحصل الحكمة به، وحينئذ يكون هو نقيض المناسب.

ويكون حاصله: أنه كلما عدم نقيض المناسب، فالحكم كذا، ويجعل عدم نقيض المُنَاسبة مظنّة لوجود المناسب، وهذا لا يصح؛ لأن نقيض المناسب إن كان ظاهرًا، أَغْنَى عن المظنة بنفسه، وكان هو العلّة بالحقيقة، وإليه أشار بقوله: "لم يصلح عدمه مظنة لنقيضه؛ لأنه إن كان ظاهرًا تعيّن بنفسه، وإن كان خفيًّا فنقيضه

(1)

"، وهو ما عدمه مظنة - أيضًا - "خفي" لاستواء النقيضين في الجَلَاءِ والخَفَاءِ.

وإليه أشار بقوله: وإن كان خفيًّا، فنقيضه خفي "ولا يصلح الخَفِيّ مظنة للخفي، وإن لم يكن" منافيًا لمناسب، فالمناسب يحصل عند وجوده كما يحصل عند عدمه، "فوجوده" يكون "كعدمه"، ولا خصوصية لأحدهما به، فلا يكون عدمه خاصّة مظنة للمصلحة، فلا تصلح علة، وقد فرضناه علة، وهذا خلف.

ولنوضح ذلك بمثال، فنقول: إِذا قلنا: بيع الآبِقِ باطل؛ لعدم القدرة على التسليم، فبطلانه إِما لأن في البطلان مصلحة، فيلزم من اعتبار عدمه تفويتها، أو مفسدة، فغايته أن الإِبَاقَ مانع، فما المقتضي للبطلان؟.

وإما لا لهذين، فإما أن يكون منافيًا لمناسب البطلان كما لا يملك مثلًا، فإن بيعه مناسب للبُطْلَان.

الشرح: "وأيضًا" مما يدلّ على أنه لا يعلل الثبوتي بالعدمي: أنه "لم يسع أحد" من العلماء "يقول: العلّة كذا، أو عدم كذا، مع كثرة السَّبْرِ والتقسيم، ولو كان حقًّا لسمع ولو قليلًا.

ولقائل أن يَقُولَ: قد سمع كثيرًا، كما قالوا في بيع الآبِقِ: باطل؛ لعدم القدرة على التسليم، وعلة تصرف الولي في موليه المجنون: عدم التمييز، وهو مما لا ينحصر.

(1)

في ب: يقتضيه.

ص: 180

وَاسْتُدِلَّ: بِأَنْ لَا عِلَّةَ عَدَمٌ، فَنَقِيضُهُ وُجُودٌ، وَفِيهِ مُصَادَرَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ.

قَالُوا: صَحَّ تَعْلِيلُ الضَّرْبِ بِانْتِفَاءِ الاِمْتِثَالِ.

قُلْنَا: بِالْكَفِّ: وَأَلَّا يَكُونَ الْعَدَمُ جُزْءًا مِنْهَا لِذَلِكَ.

وَ‌

‌أَلَّا تَكُونَ الْمُتَعَدِّيَةُ المحَلَّ وَلَا جُزْءًا مِنْه،

لامْتِنَاعِ الإْلْحَاقِ؛ بِخِلَافِ الْقَاصِرَةِ، قَالُوا: انْتِفَاءُ مُعَارَضَةِ الْمُعْجِزَةِ جُزْءٌ مِنَ الْمُعَرِّفِ لَهَا، وَكَذَلِكَ الدَوَرَانُ وَجُزْؤُهُ عَدَمٌ.

قُلْنَا: شَرْطٌ لَا جُزْءٌ.

الشرح: "واستدل بأن" العلّة وجودية، فلا يتّصف بها العدم، وذلك لأن "لا علة عدم"؛ لصدقه على المعدوم، "فنقيضه" وهو العلة "وجود"، وإلا ارتفع النَّقيضان "وفيه مصادرة، وقد تقدم مثله" في مسألة الحسن والقبح.

والمجوّزون "قالوا: صحّ تعليل الضرب"، وهو وجودي "بانتفاء الامتثال"، وهو عدمي.

قلنا: لا نسلّم أن التعليل بانتفاء الامتثال، بل "بالكَفّ" عن الامتثال، وهو ثبوتي.

الشرح: "وألّا تكون المتعدية المحل ولا جزءًا منه؛ لامتناع الإلحاق، بخلاف القَاصِرَةِ. قالوا: انتفاء معارضة المعجزة جزء من المعرف [بها]

(1)

، وكذلك الدَّوَرَان، وجزؤه عدم. قلنا: شرط لا جزء"، كذا بخط المصنّف، ووقع في نسخ الشَّارحين تقديم وتأخير وزيادة، ونحن نشرح ما وجدناه بخطّه.

وحاصله: أن العلّة تنقسم إِلى متعدية، وهي التي تتجاوز الأصل، وتوجد في غيره، وقاصرة لا تتعدّاه.

أما المتعدّية فيشترط فيها: ألا تكون هي المَحَلّ، ولا جزءًا من المحل خاصًّا به؛ لامتناع إِلحاق الفرع بالأصل - حينئذ - إذ يمتنع أن يتحقق في الفرع محل حكم الأصل، أو

(1)

في ج: لها.

ص: 181

وَالقَاصِرَةُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ صَحِيحَةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَالأَكْثَرُ عَلَى صِحَّتِهَا بِغَيْرِهِمَا، كَتَعْلِيلِ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ بِجَوْهَرِيتِهِمَا؛ خِلَافًا لأِبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه.

جزؤه الخاصّ به، بخلاف القاصرة، فإنه يجوز كونها المحل، أو جزءه الخاص؛ إِذ لا تعدى، فلا مانع.

وجوز بعضهم التعليل بالجزء؛ محتجًا بأن معرفة كون المعجز معجزًا أمر وجودي. وهو [معلل]

(1)

بالتحدّي بالمعجز، مع انتفاء المعارض، فهذه علّة جزؤها عدم، وكذلك الدوران علة لمعرفة كون المَدَارِ علة، وهي وجودية، والدوران مشتمل على جزء عدمي؛ لأنه عبارة عن الوجود مع الوجود، والعدم مع العدم، فأحد جزءيه عدم.

وجوابه: أن العدم في الصورتين شَرْط لا جزء.

واعلم أنّ الخلاف إِنما هو في الجزء الخاصّ، ولذلك قيدناه في كلامنا، وأما الجزء العام، فيجوز التعليل به بلا خلاف، كتعليل ربوية البُرّ بالطعم.

الشرح: "والقاصرة بنصِّ أو إِجماع صحيحة"، أي: يجوز التعليل بها "باتفاق"، نقله جماعة، منهم: القاضي أبو بكر، وأغرب القاضي عبد الوَهَّاب المالكي فنقل الخلاف.

"والأكثر على صحتها"، وإن كانت علّتها معروفة "بغيرهما"، أي بغير النص والإِجماع، وهو رأي الشافعي، ومالك، وأحمد، والقاضي أبي بكر، والقاضي عبد الجَبَّار، والإِمامين، والآمدي، وغيرهم

(2)

.

وذلك "كتعليل" الشافعية "الرِّبَا في النَّقْدَين بجوهريتهما".

ومنهم من يقول: بثمنيّتهما، أي: كونهما أَثْمَان الأشياء.

ومقتضى عبارة الرافعي، وأسعد [الميهني]

(3)

: أن العبارتين سواء في المعنى،

(1)

في ب: يتعلل.

(2)

ينظر: البرهان 2/ 81، والمعتد 2/ 269، والمحصول 2/ 2/ 3، والتبصرة، 452، والمستصفى 2/ 345، والتلويح 2/ 66، وفواتح الرحموت 2/ 276، والمنتهى (126)، وروضة الناظر (69)، والمسودة 411، ونشر البنود 2/ 138.

(3)

أسعد بن أبي نصر بن الفضل، مجد الدين، أبو الفتح الميهني، ولد سنة 461، وكان إمامًا=

ص: 182

لَنَا: أَنَّ الظَّنَّ حَاصِلٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ لأِجْلِهَا، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالصِّحَّةِ؛ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا.

والصواب اختلافهما؛ فإن الثمنيّة عبارة عن كون المَحَلّ يتعامل به عادة، وهذه الحالة منتفية في الحُلِيّ، وهو ربوي، فلو كانت الثمنية هي العلّة لقصرت عن بعض مجازي الحكم، بخلاف الجَوْهَرِيّة، فإنها عامة في كل محل يصلح لأن يتخذ ثمنًا "غالبًا"

(1)

، فالتعبير بـ "الجوهرية" كما في الكتاب أصح، وهو ما ذكره الغَزَالي في "تحصين المأخذ" وغيره من المحققين.

ونظيره: تعين الماء لرفع الحدث وإزالة الخبث.

قال بعض أصحابنا: إنه لاختصاصه بنوع من اللَّطَافَةِ والرقة والتفرد في التركيب، الذي لا يشاركه فيها سائر المَائِعَاتِ، وهاتان قاصرتان، وقد علل بهما.

"خلافًا لأبي حنيفة"، وأبي عبد اللّه البَصْرِي، وبعض أصحابنا، ولذلك عندنا وجه: أن ربوية الذهب والفضة، واختصاص الماء بالرفع والإزالة ليس لمعنى، بل مجرّد تعبّد.

الشرح: "لنا: أن الظن حاصل" عند اجتهاد الناظر في طلب العلّة إِذا أدّاه اجتهاده إِلى أن العلة هي الوصف القاصر "بأن الحكم لأجلها، وهو المعنى بالصحة، بدليل صحة المنصوص عليها"، فإنه إِذا حصل الظن في المنصوص عليها "بأن الحكم لأجلها" صحّ التعليل بها، والاستنباط استخراج لما يحاكي المنصوص، ثم المجتهد إِذا نقب عن العلّة لا يدري أيَقَعُ على متعدّية أو قاصرة؟ والقاصرة لا يدري أيجدها منصوصة أو مستنبطة، فما المانع من استخراجها بالاستنباط؟.

= كبيرًا في الفقه والخلاف، وله في الخلاف طريقة مشهورة، تفقه على أبي المظفر السمعاني، وأخذ الأصول عن أبي عبد الله الفراوي، ورحل إلى غزنة من نواحي الهند، وانتفع الناس به وبطريقته الخلافية.

توفي سنة 527. ينظر: طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 299، ووفيات الأعيان 1/ 187، والبداية والنهاية 12/ 200، وفي أ، ج: الميهي.

(1)

في ج: غاليًا.

ص: 183

وَاسْتُدِلَّ: لَوْ كَانَتْ صِحَّتُهَا مَوْقُوفَةً عَلَى تَعْدِيَتِهَا، لَمْ تَنْعَكِسْ؛ لِلدَّوْرِ، وَالثَّانِيَةُ اتِّفَاقٌ.

وَأُجِيبَ: بِأنَّهُ وَقْفُ مَعِيَّةٍ.

قَالُوا: لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً، لَكَانَتْ مُفِيدَةً، وَالْحُكْمُ فِي الأَصْلِ بِغَيْرِهَا، وَلَا فَرْعَ.

الشرح: "واستدلّ" بدليل ذكره بعض أصحابنا، واعتمده أسعد الميهني في "التعليقة"، وهو أن العلّة "لو كانت صحتها موقوفة على تعديتها، لم تنعكس" أي لم تكن تعديتها موقوفة على صحّتها؛ للدور.

"والثانية" أي: بطلان الثاني "اتفاق"؛ لتوقّف تعديتها على صحتها بالإِجماع.

"وأجيب" أولًا: بما ذكره القاضي الرَّشيد أبو طالب الأصفهاني من أصحابنا في "طريقته": بأنكم إِن أردتم بالتَّعدية الموقوفة على صحّة العلة ثبوت الحكم بها في الفرع، فمسلم، ولكن لا نسلّم أن التعدية بهذا الاعتبار شرط في صحة العلة.

وإن أردتم وجودها في الفرع لا غَيْر، فلا دَوْر؛ فإِن صحة العلة وإن كان مشروطًا بوجودها في غير محل النص، فوجودها فيه غير متوقّف على صحتها في نفسها.

وتبعه الآمدي في "تعليقته" في الخلاف، وفي "الإحكام" أيضًا.

وزاد ما اقتصر عليه المصنّف، وهو: أنا لو سلمنا الدور، أجبنا "بأنه وقف معيّة"، كتوقّف كل من المُتَضَايقين على الآخر، وإذا كان كذلك لم يُنَاف توقف التعدية على الصحة، فلا امتناع فيه.

وأقصى ما تشبّث به المانعون من القاصرة، أن "قالوا: لو كانت صَحِيحة، لكانت مقيدة" لامتناع الحكم من غير فائدة، لكنها غير [مفيدة]

(1)

؛ لأن فائدتها منحصرة في إثبات.

قال أبو زيد الدّبوسي: لأن الفائدة منحصرة في علم أو عمل، والتعليل بالرأي والاجتهاد لا يكون موجبًا علمًا، وإنما صير إِليه لفائدة العمل، فإذا [لم يتعد]

(2)

، لم يفد

(1)

في أ: مقيدة.

(2)

في أ، ب: لم ينعدم.

ص: 184

وَرُدَّ بِجَرَيَانِهِ فِي الْقَاصِرَةِ بِنَصٍّ، وَبِأَنَّ النَّصَّ دَلِيلُ الدَّلِيلِ، وَبِأَنَّ الْفَائِدَةَ مَعْرِفَةُ الْبَاعِثِ الْمُنَاسِبِ؛ فَيَكُونُ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ، أَوْ إِذَا قُدِّرَ وَصْف آخَرُ مُتَعدٍّ، لَمْ يتَعَدَّ إِلَّا بِدَلِيل عَلَى اسْتِقْلالِهِ.

عملًا، لا في الأصل ولا في الفرع، وذلك ظاهر، "والحكم في الأصل" ثابت "بغيرها، ولا فرع"؛ إِذ هي قاصرة، فلا فائدة.

"وردّ" بوجوه أربعة:

الشرح: "بجريانه في القاصرة بنص" أو إِجماع، مع جوازه اتفاقًا، فلو صح ما ذكروه، كان النص عليها [عَبَثًا]

(1)

، وإجماع الأمة عليها خطأ؛ فإِنها لو لم تكن حقًّا، لما أجمعت الأمة عليها.

"وبأن النَّص دليل الدليل"، فإنه دليل العلّة، والعلة دليل الحكم، فإذن الحكم [في الأصل]

(2)

ثابت بالعلة، فقولهم: إِنه ثابت بالنص لا بالعلّة، لا يستقيم، وسيتضح هذا - إِن شاء الله تعالى - عند قول الشافعية: حكم الأصل بالعلة.

"وبأن الفائدة" غير منحصرة فيما ذكرتم من إِثبات الحكم بها، بل ثمَّ فوائد: منها: "معرفة الباعث المناسب" للحكم، "فيكون أدعى إلى المقبول" والانقياد مما لا يعقل له معنى، ولو سلّمنا أنه لا يكون أَدْعَى إلى القبول، إِلا أن مجرد الاطلاع على الباعث إِحاطة بعلم كنا غافلين عنه، وهو فائدة، وخرج بهذا قول أبي زَيْدٍ: إنها لا تفيد علمًا.

فإن قلت: هذا ظنّ لا يقين.

قلت: سيبحث عن ذلك.

ومنها: أنها تفيد منع حمل الفرع على الأصل، كما أن المتعدية تفيد إثبات الحمل؛ لأنا إذا علمنا أنها قاصرة منعنا القياس.

فإن قلت: هذه الفائدة حاصلة بألا نجد الحكم معللًا بمتعدية، سواء وجدناه معللًا بقاصرة، أو غير معلل أصلًا.

قلت: بتقدير أن يوجد في الأصل وصف مناسب للحكم متعد، يمتنع تعدية الحكم

(1)

في أ، ج: عينًا.

(2)

في أ: بالأصل.

ص: 185

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

به، إِلا بشرط التَّرْجيح، ولو لم يكن الحكم معللًا بالقاصرة، لزم تعدية الحُكْم بالمتعدية من غير شريطة، فكان المنع من القياس في هذه الصورة إِنما جاء من التعليل بالقاصرة، لي هذا كله أشار بقوله "وإذا قدر وصف آخر متعدّ، لم يعد إِلا بدليل" دالّ "على استقلاله" بالعلّية، وأن القاصرة منتفية، بخلاف ما إِذا لم تكن القاصرة، فَأَنى يعدّى الحكم بمجرد وجدان الوصف المناسب المتعدّى، من غير افتقار إِلى دلالة دليل على استقلاله؟

فإن قلت: هذا إِنما يلزم لو جاز التعليل بالقاصرة مع وجود المتعدية، وهو ممنوع؛ فإان التعليل بالقاصرة - عند من يراه - مشروط بانتفاء المتعدية.

قلت: لا نسلّم ذلك، وكلام أصحابنا كالصَّريح في جواز اجتماع القاصرة والمتعدية، وإليه أشار ابن السَّمْعَاني وغيره، ولو كان مشروطًا بذلك، لما تصور وقوع التعارض بينهما؛ إِذ هو فرع اجتماعهما.

وقد اختلف أصحابنا فيما إذا وقع التعارض بينهما.

فقيل: ترجح المتعدية، وقيل: القاصرة.

وقيل بالوقف.

فإن قلت: الجمهور على رُجْحَان المتعدية، فينبغي إِذا وجد وصف مناسب متعدّ، يحكم به من غير افتقار إِلى دلالة دليل على استقلاله، وحينئذ تنتفي الفائدة التي ذكرتموها في القَاصِرَةِ.

قلت

(1)

: إنما ترجح المتعدية على القاصرة إِذا تساويا من كل وجه، إِلا وجهي القصور والتعدّي.

أما لو ترجحت القاصرة بإجماع عليها أو غيره، فهي أرجح، فالفائدة باقيةٌ، وقد تترجّح القاصرة بوجه يقابل وجه التعدّى، فيتعادلان، فتكون الفائدة الوقف، ومنع المتعدية من التعدي.

ومنها: أنها تزيد النص قوة ويتعاضدان. ذكرها القاضي أبو بكر، قال: وكذلك سبيل كل دليلين اجتمعا في مسألة، فالفائدة اجتماع دليلين، ويكون الحكم ثابتًا بالعلّة والنص جميعًا.

(1)

في ب: فإن قلت.

ص: 186

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد اعترض أبو زيد هذا: بأن التعليل لا يصحّ لتعيين حكم النص، فكيف يصح لإِبطاله؟، وهذا يتضمّن إِبطال حكم النص؛ لأنه كان ثابتًا بالنَّص على الاستقلال، فبطل ثبوته على هذا الوجه؛ لصيرورته ثابتًا به وبغيره، قال: فإن لم يتضمّن الإِبطال، فلا بد أن يتضمّن التغيير، ولا يجوز تغيير حكم النّص المعلول بغلبة الظن.

وأجاب ابن السَّمْعَاني: بأنه لا تغيير في هذا أصلًا؛ لأن الحكم كما كان لم يتبدل باقٍ على إِضافته إِلى النص، غاية الأمر أنه توالى دَلِيلان على حكم واحد، وذلك كما إِذا أضفنا خبر الواحد إِلى الكتاب، لا يجوز أن يقال: إِن في ذلك إِبطالًا للكتاب.

ومنها: أن المكلف يقصد الفعل لأجلها، فيحصل له أَجْرَان: أجر قصد الفعل للامتثال، وأجر قَصْدِ الفعل لأجلها، فيفعل المأمور به لكونه أمرًا، [وللعلة]

(1)

. ذكرها أبي رحمه الله.

وذكر الشيخ أبو إِسحاق الشِّيرَازي فائدة أخرى، وهي أنه إِذا حدث هناك فرع، فيعلق على العلّة، ويلحق بالمنصوص عليه

(2)

.

ورده إمام الحرمين بما حاصله: أن المسألة مفروضةٌ في القاصرة، ومتى حدث فرع يشاركها في المعنى خرجت عن أن تكون قاصرة

(3)

.

وقد تكلّمنا عليه في "التعليقة"، وذكرنا في الأخير أن الأظهر منعه، وقد خرج بتحقّق هذه الفوائد قول أبي زيد: إنها لا تفيد عملًا ولا علمًا.

ثم نقول: سلمنا أنها لا تفيد عملًا.

فلم قلت: لا تفيد علمًا؟

قولك: لأن الرأي والاجتهاد لا يكون موجبًا علمًا.

قلنا: تريد بالعلم ما هو أعم من الظن واليقين، أو اليقين فقط؟

إن أردت الأول فمسلم، أو الثاني، فممنوع، وهذا لأنا كما نطلب العلّة لنعمل بها، أو

(1)

في ج: العلة.

(2)

ينظر: التبصرة 452.

(3)

ينظر: البرهان 2/ 1083.

ص: 187

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لنتيقن أنها علّة، كذلك نطلبها لنظنّ أنها علّة، وغاية ما يقولون على هذا: إن العمل بالظن خلاف الأصل، خالفناه في العمليات؛ للاحتياج إِليه، فليبق على الأصل فيما عداها.

ونحن نقول: بل العمل بالظَّن في الشرعيات مطلقًا واجب، ومن جملتها أن الحكم معلل، ولو صانعنا القوم، لكنا بسبيل من أن نقول: ظن أن الحكم معلل من جملة العمليات أيضًا؛ وهذا لأنّ العمل أعم من أعمال القلوب التي من جملتها الظن وغيرها.

سلّمنا أن العمل بالظن - فيما لا عمل فيه - ممتنع، وإن ظن أن الحكم معلل بكذا ليس بعمل، ولكنا نقول: هذا كله إِنما يتم لو كان الاستنباط - أبدًا - لا يؤدّي إِلى العلم، ولم قلتم ذلك فربّ اجتهاد يؤدّي إِلى يقين العلة كما يؤدي إِلى ظنها؟

ثم قال علماؤنا: لو سلّمنا كل ما ذكروه، ولكن المستنبط "للعلّة"

(1)

طالب لها، وهو في حال الاستنباط لا يدري أمتعديّة علة الحكم أم قاصرة؟.

فيقال له: لا تتكلف هذا الطَّلب، ثم إِذا اطَّلع على القاصرة بظنّ أو يقين، لم يجز أن يدرأها بهذه الخيالات، وقد جوزوا النص عليها والإجماع، ولو كانت عبثًا لما جاز ذلك.

"فائدة"

قد علمت أن "العلة"

(2)

إما محل الحكم" أو جزؤه، أو وصفه اللازم، كثمنيّة الذهب والفضة، ولا تعدى في أحد منها، أو جزؤه العام، كإسكارية الخَمْرِ، وهذا مكان التعدّى، [ونفي]

(3)

التعليل بمجرّد الاسم، كما لو عللنا كون النقدين ربويين بأن اسمهما ذهب وفضة.

وقد ادّعى الإمام الرازي وأتباعه - منهم الشيخ الهِنْدي - الاتفاق على أنه لا يجوز التعليل به، وليس كما ادّعوه، فالخلاف في المسألة معروف بين أصحابنا، ورأى أبي إِسحاق الشيرازي: الجواز.

وقال ابن السَّمْعَاني: قال الأصحاب: الاسم ضربان:

(1)

في أ، ب: للغة.

(2)

في ب: للعلة.

(3)

في أ: وبقي.

ص: 188

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأول اسم اشتقاق، وهو إِما من فعل، كالضَّارب والقاتل، فيجوز جعله علّة في قياس المعنى، وإما من صفة، كالأبيض والأسود، فهذا الاسم من علل [الأشباه]

(1)

الصُّورية، فمن احتج بالشبه الصوري احتج به، وقد قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في الكلاب:"اقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ"

(2)

، فجعل السواد علمًا على إِباحة القتل.

والثاني: اسم لقب، وهو إِما مستعار، كـ "زيد وعمرو"، لا يدخله حقيقة ولا مَجَاز؛ لجواز أن ينقل اسم زيد إلى عمرو وبالعكس، فلا يجوز التعليل به، أو اسم لازم، كالرجل والمرأة، ففي جواز التعليل به وجهان، قال: والصحيح - عندي - أنه لا يجوز التعليل بالأَسَامي بحال؛ لأنها تشبه الطرود.

قلت: وما [ذكروه]

(3)

حسن، إِلا أنه ليس الكلام في المشتق مما يصحّ تعليله به، [فقد صرح الإِمام الرازي، وغيره بأنه معلل بما منه الاشْتِقَاق، ولا في المشتقّ مما في تعليله به،

(4)

خلاف، كالشبه الصوري، فإن الخلاف يطرقه من قبل أنّ المشتق منه هل يصح أن يعلل به؟ وإنما الخلاف في اسم اللَّقب.

(1)

في أ: الاشتباه.

(2)

أخرجه أحمد في المسند 5/ 54، 56، 57، والدارمي في السنن 2/ 90، كتاب الصيد، باب في قتل الكلاب، وأبو داود في السنن 3/ 267، كتاب الصيد (11) باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره (1)، الحديث (2845)، والترمذي في السنن 4/ 80، كتاب الأحكام والفوائد (19) باب ما جاء من أمسك كلبًا ما ينقص من أجره (4) الحديث (1489)، وفي 4/ 78، باب ما جاء في قتل الكلاب (3)، الحديث (1486) والنسائي في المجتبي من السنن 7/ 185 كتاب الصيد والذبائح، باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها (10)، وابن ماجه في السنن (2/ 1069)، كتاب الصيد (28) باب النهي عن اقتناء الكلب إلا كلب صيد (2) الحديث (3205).

* قيل: الأسود البهيم: الذي لا يكون فيه شيء من البياض. قال أبو سليمان الخطابي: معنى هذا الكلام أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كره إفناء أمة من الأمم، وإعدام جيل من الخلق؛ لأنه ما من خلق لله عز وجل إلا فيه نوع من الحكمة، وضرب من المصلحة. يقول: إذا كان الأمر على هذا، لا سبيل إلى قتلهن كلهن، فاقتلوا شرارهن، وهي السود البهم، وأبقوا ما سواها؛ لتنتفعوا بهن في الحراسة.

(3)

في ب: ذكر.

(4)

سقط في ب.

ص: 189

وَفي النَّقْضِ، وَهُوَ وُجُودُ المُدَّعَى عِلَّةَ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ.

ثَالِثُهَا: يَجُوزُ فِي الْمَنْصُوصَةِ لَا الْمُسْتَنْبَطَةِ.

وَرَابِعُهَا: عَكْسُهُ.

وَخَامِسُهَا: يَجُوزُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ بِمَانِعٍ، وَلَا عَدَمِ شَرطٍ.

وَالمُخْتَارُ: إِنْ كَانَتْ مُسْتَنبطَة، لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِمَانِع أَوْ عَدَمِ شَرْطٍ؛ لأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ عِلِّيَّتُهَا إِلَّا بِبَيَانِ أحَدِهِمَا؛ لأَنَّ انْتِفَاءَ الْحُكْم، إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ - الْمُقْتَضِي، وَإنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً، [فَـ] بِظَاهِرٍ عَامٍّ فَيَجِبُ تَخْصِيصُهُ كعَامٍّ وَخَاصٍّ، وَيجبُ تَقْدِيرُ الْمَانِعِ.

الشرح: قوله: "وفي النَّقْض، وهو: وجود المدّعي علة مع تخلف الحكم"، مذاهب:

أحدها: أنه يجوز مطلقًا، فلا يقدح في العلّة، فلا يكون الاطراد من شروطها.

والثاني: لا يجوز، فيكون قادحًا، ويشترط الاطراد.

الشرح: "وثالثها: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة.

ورابعها: عكسه.

وخامسها: يجوز في المستنبطة، وإن لم يكن مانع ولا عدم شرط.

والمختار: إِن كانت مستنبطة لم يَجُزْ إِلا بمانع، أو [عدم]

(1)

شرط؛ لأنها لا تثبت علّيتها إِلا ببيان أحدهما؛ لأن انتفاء الحكم إِذا لم يكن ذلك"، أي إِذا لم يكن أحدهما حاصلًا، يكون "لعدم المقتضى، فإن كانت منصوصة، فبظاهر"؛ إِذ لو كان بقاطع، لم يتخلّف الحكم عنه "عام"؛ إذ لو كان خاصًّا لمحل الحكم، لم يثبت التخلّف، وهو خلاف المقدر، "فيجب تخصيصه، كعام وخاص" تعارضا، "ويجب تقدير المانع".

(1)

سقط في ب.

ص: 190

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اعلم أن الكلام في النقض من عَظَائم المشكلات أصولًا وجدلًا، وأنا مورد - إن شاء الله تعالى - ما فيه مقنع وبلاغ، فأقول: إِذا وجد ما ادّعاد المعلل علة في صورة من الصور، والحكم منفيّ فيها، فذلك هو ما نتكلّم فيه، ومن يجعله قادحًا في الوصف مبطلًا عقيته، يسميه "نقضًا".

وأما من لا يراه قادحًا، فلا يسمح بإطلاق هذا الاسم عليه، ولكن يعبر عنه بـ "تخصيص العلّة".

ولقد بالغ أبو زيد الدّبوسي في الرد على من يسميه [نقضًا]

(1)

، وذكر ما لا يوافق عليه، وأبان عن مزيد تعصّب.

هذا صنيع المتقدّمين، وأما المتأخرون، فلا يَتَحاشون من تسيته بكل من الاسمين، يرونهما كاللَّقب له، سواء قيل بأنه قادح أم لا.

إِذا عرفت هذا، فنقول: العلّة إِما منصوصة قطعًا، أو ظنًّا، أو مستنبطة، وتخلّف الحكم عنها إِما لمانع، أو فوات شرط، أو دونهما، فصارت الصور تسعًا، من ضرب ثلاثة في ثلاثة.

وقد اختلف في النقض، هل هو قادح في العلية؟ على مذاهب

(2)

:

أحدها: أنه يقدح مطلقًا، وهو المنسوب إِلى الشَّافعي رضي الله عنه وأصحابه، ويعده

(1)

في ب: نقصًا.

(2)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 261، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 977، وسلاسل الذهب للزركشي 361، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 215، 4/ 77، ونهاية السول للإسنوي 4/ 145، وزوائد الأصول له 396، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 103، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 127، والتحصيل من المحصول 2/ 209، والمنخول للغزالي 404، وحاشية البناني 2/ 295، والإبهاج لابن السبكي 3/ 84، والآيات البينات 4/ 116، وحاشية العطار 2/ 341، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 284، 293، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 659، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 138، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 218، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 85، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 1069، وتقريب الوصول لابن جزي 142، والتبصرة (466)، وكشف الأسرار 4/ 32، وشرح التنقيح (399)، ونزهة الخاطر 2/ 321.

ص: 191

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أصحابنا من جملة مرجّحات مذهب الشَّافعي على غيره من المذاهب، ويقولون: عِللُهُ سليمة عن الانتقاض، جاريةٌ على مقتضاها، لا يصدّها صادّ.

والثاني: لا يقدح مطلقًا، وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد رحمهم الله.

والثالث: يقدح في المُسْتنبطة دون المنصوصة.

والرابع: لا يقدح في المستنبطة إِذا كان بمانع أو عدم شرط، دون المنصوصة. حكاه المصنف، وإليه أشار بقوله: عكسه.

والخامس: لا يقدح في المُسْتنبطة، ولو بلا مانع أو عدم شرط، دون المَنْصُوصة. هذا ما حكاه في الكتاب.

والسادس: وهو اختيار الإِمام الرازي: أنه يقدح مطلقًا، إلا فيما إذا كان واردًا على سبيل الاستثناء عن علّة معلومة.

والسابع: إن كانت علّة [حَظْر]

(1)

، لم يَجُزْ تخصيصها، وإلا جاز. حكاه القاضي عن بعض المعتزلة.

ولإِمام الحرمين مذهب ثَامِن، وللغزالي مذهب تاسع، حكيناهما في "التعليقة"، وتكلمنا عليهما بما فيه الكِفَايَة، وحذفناهما هنا اختصارًا.

والعاشر: أنه لا يقدح في المَنْصُوصة بنص قَطْعِي، ويقدح فيما عدا ذلك، وهذا مذهب محقق الوجود، وإن كنت لا تجده مصرحًا به على هذا الوجه.

وسببه: أنه لا يمكن أن يوجد، فعاد مساويًا لمذهب القائلين: بأن [النقض]

(2)

قادحٌ مطلقًا؛ لعدم وجدان هذه الصُّورة النادرة. هذا هو السِّر في عدم تصريح النَّقَلَةِ به، وإذن هو المذهب الأول المنسوب إِلى الشافعي، وهو الذي نختاره ونرتضيه.

واختار المصنّف: أنه يجوز في المستنبطة في صورتين، فلا يقدح فيهما، وهما ما إِذا

(1)

في ج: خطر.

(2)

في أ، ب: النص.

ص: 192

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كان التخلّف لمانع، أو انتفاء شرط، ولا يجوز في صورة واحدة، فيقدح فيها، وهي ما إِذا كان التخلف دونهما.

وأما المنصوصة، فإذا كان النص ظنيًّا، وقدر مانع، أو فوات شرط، جاز، ولا يجوز في القطعي في صوره الثلاث، أي: لا يمكن وقوعه كما شرحناه عليه؛ لأن الحكم لو تخلف لتخلّف لدليل، وهو لا يمكن أن يكون قطعيًّا؛ لاستحالة تَعَارُضِ [القطعيين]

(1)

، إِلا أن يكون أحدهما ناسخًا، ولا ظنيًّا؛ لأنّ الظني لا يعارض القَطْعي، وهذا الذي اختاره المصنّف نحو مما اختاره الآمدي.

والمنع في النص القَطْعِي إِذا لم يكن مانع، ولا فوات شرط، ظاهر، وأما إِذا كان مانع، أو فات شرط، فلا وجه للمنع إِذا كان ذلك المانع أو الشَّرط عليه دليل؛ لأنه حينئذ يكون ذلك الدَّليل مخصصًا للنص القَطْعي، اللهم إِلا أن تقدر دلالة النَّص على جميع الأفراد قطعية، فيصح ما قاله؛ لأنه حينئذ لا يمكن التخلف.

وحاصله: أنه في النَّص القطعي لا يمكن ورود النَّقض، وفي الظَّني يمكن، وقال: إِنه يقدر إذ ذاك مانع، ولا حَاجةَ إِلى ذلك، فقد يكون تعبّدنا بالدليل الدَّال على التَّخصيص من غير ظُهُور معنى، فيمكن النقض، ولا يكون قادحًا، وفي المستنبطة يجوز حيث مانع أو فُقْدَان شرط، ولا يجوز فيما سواهما، ففيما سِوَاهما يكون قادحًا، ولا يكون النَّقض قادحًا في شيء من المواضع الممكن وجدانها إلا في هذا المكان، وهو ما إِذا استنبطت علّة، وتخلّف الحكم عنها لا لمانع، و [لا]

(2)

لفوات شرط، فيستدل حينئذ بالتخلف لا لفسادها.

فينبغي أن ينحصر الكلام، ويقال: النقض يَقْدَحُ في العلة إِذا كانت مستنبطةً، ولم يكن مانع ولا فوات شرط، ولا يقدح فيما سوى ذلك، وأنت ترى اختيار صاحب الكتاب، وأما نحن، فعلى أن النَّقض يقدح مطلقًا مُصَمِّمُون، وهو رأي إِمامنا ومطلبينا رضوان الله عليه، وعليه القاضي أبو بكر، وأبو الحسين البَصري، وجماهير المحققين.

والرأي شرح ما في الكتاب على الاخْتِصَار، ثم المُنَاضلة عن المذهب المختار.

(1)

في أ، ب: اللفظين.

(2)

سقط في أ، ب، ج.

ص: 193

لنَا: لَوْ بَطلَتْ لَبَطَلَ الْمُخَصِّصُ.

وَأيْضًا: جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.

وَلَبَطلَتِ الْقَاطِعَة، كَعِلَلِ الْقِصَاصِ وَالْجَلْدِ وَغَيْرِهِمَا.

أبُو الْحُسَيْنِ: الْنَّقْضُ يَلْزَمُ فِيهِ مَانِعٌ أَوِ انْتِفَاءُ شَرْطٍ، فَيَتبيَّنُ أَنَّ نَقِيضَهُ مِنَ الأُولَى.

قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْبَاعِثِ؛ وَيَرْجِعُ النَزَاعُ لَفظِيًّا.

قَالُوا: لَوْ صَحَّتْ، لَلَزِمَ الْحُكْمُ.

وَأُجِيبَ: بِأَن صِحَّتَهَا كَوْنُهَا بَاعِثَةً، لَا لُزُومُ الْحُكْمِ؛ فَإنَّهُ مَشْرُوطٌ.

الشرح: قال صاحب الكتاب: "لنا: لو بطلت" العلّية بالتخلّف "لبطل المخصّص" الوارد على العام، وانْسَدّ بابه؛ إِذ لا فرق بين تخصيص العلّة، وتخصيص العام، وكما أن التخصيص لا يقدح في العموم اللفظي، كذلك لا يَقْدَح في العموم المعنوي، وهو عموم العلة.

"وأيضًا" إنه "جمع بين الدليلين" دليل الاعتبار؛ إِذ يعمل بكونها علة في غير صورة النَّقض، ودليل الإِهدار، إِذ يعمل به في محلّه، وهو صورة النَّقْض، فوجب المصير إِليه.

"و" أيضًا: لو بطلت "لبطلت" العِلَلُ "القاطعة، كعلل القِصَاصِ والجَلْد وغيرهما"؛ لأن المفروض مُنَافاة التخلّف للعلية؛ إِذ لا مانع سواه، لكن العلل القاطعة لا تبطل؛ إِذ لا يبطل كون علّة القِصَاص القتل العَمْد العدوان، بأن الأَبَ لا يُقَادُ بولده، ولا أن علة الجلد الزِّنا، بالتخلف في الأب يزني بجارية ابنه.

الشرح: وقال "أبو الحسين"، ومن وافقه من مانعي تخصيص العلة:

أولًا: "النقض يلزم فيه مانع، أو انتفاء شرط، وإذا كان كذلك، "فيتبين أن نقيضه"، أي: نقيض المانع، أو انتفاء الشرط، وهو عدم المانع أو وجود الشرط، جزء "من" العلة "الأولى التي ادّعى أنها علّة؛ لأنه لا يترتب الحكم بدونهما، فالعلّة المجموع.

"قلنا: ليس" انتفاء "ذلك المعارض" من الباعث" الذي هو العلّة، "ويرجع النزاع=

ص: 194

قَالُوا: تَعَارَضَ دَلِيلُ الاِعْتِبَارِ وَدَلِيلُ الإِهْدَارِ.

قُلْنَا: الاِنْتِفَاءُ لِلْمُعَارِضِ لَا يُنَافِي الشَّهَادَةَ.

قَالُوا: تَفْسُدُ كَالْعَقْلِيَّةِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْعَقْلِيَّةَ بِالذَّاتِ، وَهَذِهِ بِالْوَضْعِ.

لفظيًّا"؛ لأنّه يفسر العلّة بما يستلزم وجوده وجود الحكم، فيكون ما ذكره جزءًا، ونحن نفسرها حينئذ بالباعث، فيجوز النقض.

"قالوا" ثانيًا: "لو صحّت" العلّة المنقوضة "للزم الحكم" في صورة التخلّف؛ لأن المعلول يلزم علّته.

"وأجيب بأنَّ صحتها كونها باعثة، لا لزوم الحكم؛ فإنه مشروط" بحصول الشرط، وانتفاء المانع.

الشرح: "قالوا" ثالثًا: "تعارض دليل الاعتبار، وهو: وجود الحكم، "ودليل الإِهدار" وهو: التخلّف، فتساقطا، ويبقى الوصف كما كان قبل الاعتبار، فلا يعمل بدليل العلّية، وهو المطلوب.

قال علماؤنا: ولو لم تسقط لتَكَافَأَت الأدلّة؛ فإن من قال في محاولة [تحليل]

(1)

النبيذ: مائع كالماء، وهو لا يبالي بلزوم الخَمْرِ نقضًا، فللمعترض أن يقول: مائع؛ فيحرم كالخمر، ولا يباي بالنقض، فتكافأ الدليلان.

"قلنا: الانتفاء"، أي: الإِهْدَار في صورة التخلّف إنما هو "للمعارض"، وهو المانع، أو انتفاء الشَّرْط، والانتفاء للمعارض "لا ينافي الشَّهَادة" من الشرع باعتبار الوصف، فلا يكون النَّقض منافيًا [لكونها]

(2)

علة.

"قالوا" رابعًا: "تفسد"

(3)

بالنقض "كالعقلية".

(1)

في أ: تخليل.

(2)

في ج: لكونه.

(3)

في أ: تقييد.

ص: 195

الْمُجَوِّزُ فِي الْمَنْصُوصَةِ: لَوْ صَحَّتِ المُسْتَنْبَطَةُ مَعَ النَّقْضِ، لَكَانَ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ صِحَّتِهَا؛ فكَانَ دَوْرًا.

وَأُجِيبَ: بِأنَّهُ دَوْرُ مَعِيَّةٍ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ اسْتِمْرَارَ الظَّنِّ بِصِحَّتِهَا عَنْدَ التَّخَلُّفِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَانِعِ، وَتَحَقُّقُ الْمَانِعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ظُهُورِ الصِّحَّةِ، فَلَا دَوْرَ، كَإِعْطَاءِ الْفَقِيرِ يُظَنُّ أَنَّهُ لِفَقْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْطِ آخَرَ، تَوَقَّفَ الظَّنُّ، فَإِنْ تبَيَّنَ مَانِعٌ، عَادَ؛ وإِلَّا زَالَ.

قَالُوا: دَلِيلُهَا: اقْتِرَانٌ؛ فَقَدْ تَسَاقَطَا؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

الْمُجَوِّزُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ: المَنْصُوصَةُ دَلِيلُهَا نَصٌّ عَامٌّ؛ فَلَا تُقْبَلُ.

وَأُجِيبَ: إنْ كَانَ قَطْعِيًّا، فَمُسَلَّمٌ، وَإنْ كَانَ ظَاهِرًا، وَجَبَ قَبُولُهُ.

الْخَامِسُ: الْمُسْتَنْبَطَةُ عِلة بِدَلِيل ظَاهِرٍ؛ وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ مُشَكَكٌ، فَلا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ.

وأجيب: بأن العقلية" علّة "بالذات"، وما بالذات لا ينفك، "وهذه بالوضع"، فجاز انفكاكها.

الشرح: واحتج "المجوّز" للنقض "في المنصوصة" بأنه "لو صحّت المستنبطة مع النَّقْض لكان لتحقق المانع"؛ لأن التخلّف لغير مانعٍ يقتضي كونها غير علّة بلا شك، "ولا يتحقق" وجود المانع "إلا بعد صحَّتها"؛ لأنه لولا صحّتها لكان عدم الحكم مستندًا إِلى عدم العلّة، لا إِلى وجود المانع، "فكان دورًا".

"وأجيب: بأنه دور معيّة"، لا دور تقدم وتأخر، فلا يمتنع، وهو جواب جَدَلي.

"والصواب في "الجواب: "أن [استمرار]

(1)

الطن بصحّتها عند التخلّف يتوقّف على المانع، وتحقّق المانع يتَوقّف على ظهور الصحّة، فلا دور"؛ لأن المتوقف على المانع إنما هو استمرار الظَّن، والمتوفف عليه المانع إِنما هو ظهور الصحّة، وذلك "كإعطاء الفقير لظن أنه لفقره، فإِن لم يعط" فقيرًا "آخر، توقف الظن، فإن تبين مانع عاد، وإلا زال".

"قالوا ثانيًا: "دليلها اقتران" من الحكم بها، وكما شهد لها بالاعْتِبَار في صورة عدم

(1)

في أ، استمر.

ص: 196

وَأُجِيبَ: تَخَلُّفُ الْحُكمِ ظَاهِرٌ أَنهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، وَالْمُنَاسَبَةُ وَالاسْتِنْبَاطُ مُشَكَّكٌ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الشَّكَّ فِي أَحَدِ الْمُتقَابِلَيْنِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الآخَرِ.

قَالُوا: لَوْ تَوَقَّفَ كَوْنهَا أَمارَةً عَلَى ثبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ لَانعَكَسَ، وَكَانَ دَوْرًا، أَوْ تَحَكُمًا.

التخلف، شهد عليها بالإِهدار في صورة التخلّف، "فقد تساقطا"؛ لتعارضهما، "وقد تقدم" الجواب عنه، بأن الانتفاء لمعارض لا يقدح.

الشرح: واحتج "المجوّز" للنقض "في المستنبطة" فقال: "المنصوصة دليلها نصّ عام"، فيتناول محل النقض صريحًا، فتثبت فيه العلّية صريحًا، "فلا يقبل" النَّقض؛ إِذ يلزم إِبطال النَّص، بخلاف المستنبطة، فإن دليلها الاقتران مع عدم المَانِعِ، ولا تخلّف عنه.

"وأجيب: إِن كان" النَّص العام "قطعيًّا"، فمسلم" أنه لا يقبل التخصيص، "وإن كان ظاهرًا وجب قبوله"، وتقدير المانع، كما ذكرناه.

واحتجّ من مذهبه القول "الخامس" أعني: جواز التخلُّف في المستنبطة بغير مانع، ولا فوات شرط، فقال:"المستنبطة علّة بدليل ظاهر" يوجب ظنّ العلية، "وتخلف الحكم مشكك" في علّيتها، "فلا يعارض الظاهر"؛ إذ الظنّ لا يرفع بالشك.

الشرح: "وأجيب: بالمُعَارضة، وتقريرها: أن يقال: "تخلّف الحكم ظاهر" في دلالة "أنه" أي: أن الوصف "ليس بعلّة، والمناسبة والاستنباط" كلاهما "مشكك"، فلا يعارضان الظَّاهر، وهذا جواب جدلي.

"والتَّحقيق: أنَّ الشَّك في أحد المُتقابلين يوجب الشك في الآخر"، فإذا كان التخلف يورث الشَّك في عدم العلّية، أورث الشَّك في العلية؛ إذ حقيقة الشك أن المتقابلين محتملان على السَّواء، فإذن قولك: العلّية مظنونة بدليلها، وعدم العلية مشكوك بدليله، كلام متناقض.

"قالوا" ثانيًا: "لو توقف كونها أَمَارةً على ثبوت الحكم" بها، "في محلّ آخر لانعكس"، أي: أن ثبوت الحكم بها في المَحَلّ الآخر متوقفًا على كونها أمارة، "وكان دورًا"، إن انعكس، "أو تحكمًا" إن لم ينعكس؛ لعدم الأولويّة.

ص: 197

وَأُجِيبَ: بِأنَّهُ دَوْرُ مَعِيَّةٍ.

وَالْحَقُّ: أَنَّ اسْتِمْرَارَ الظَنِّ بِكَوْنِهَا أَمَارَةً يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَانِعِ أَوْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَهُمَا عَلَى ظُهُورِ كَوْنِهَا أَمَارَةً.

الشرح: "وأجيب: بأنه دور معيّة"، فلا يمنع، وليس بجيّد؛ إِذ لا تعلم علّيتها على هذا التقدير إلا بثبوت الحكم بها في جميع صوَرِ وجوده، وهو الاقتران، فلو علم ثبوت الحكم بها، كان دور التقدم الممتنع قطعًا؛ إذ ما به الشيء يعلم قبل العلم بالشيء.

والحقّ في الجواب: أن الدليل إِذا دل على علّية الوصف، لم يفتقر إِلى التتبع في الصور، بل يثبت ابتداء عند قيام المُنَاسبة أو غيرها من أدلة العلم، والوقوف على التخلف وعدمه يقع في أثناء العلّة، ففرق بين ابتدائها ودوامها، وإليه أشار بقوله:"والحق: أن" الدور غير لازِم؛ لأن "استمرار الظّن بكونها أمارةَ" على الحكم "يتوقف على" ثبوت "المانع" في صورة التخلف، ليقوم عُذْر التخلف؛ وإلا فلِم تخلف الحكم؟.

"أو" يتوّقف على "ثبوت الحكم" في الصورة، "وهما" أعني: كلا من ثبوت المانع على تقدير التخلّف، وثبوت الحكم على تقدير عدمه متوقفان "على ظهور كونها أمارة"، فلا دور، وقد مضى مثله.

هذا شرح ما في الكتاب، وقد أعلمناك أن الحق عندنا أن النقض قادح مطلقًا، وعُمْدَتُنَا وجوه:

أولها: وهو المعتمد، ما ذكره في الكتاب عن أبي الحُسَين، ولنقرره على وجه أبسط من الأول، فنقول: العلّة معرف الحكم، وتخصيصها يمنع من كونها معرفًا في ذلك المخصّص، وإذا لم تكن معرفًا فيه، لم تكن علّة له، وإذا لم تكن علة له، كان إِطلاق القول بأنها علة على وجه التعميم في كل الصور غير سديدٍ، فمن قال مثلًا: علة تحريم بيع الذَّهَبِ متفاضلًا الوزن، ثم جوز بيع الرّصَاص بالرصاص مع وجود الوَزْن، قيل له: أَبِنَصٍّ قلت ذلك، أم بعلة هي أقوى من علة تحريم بيع الذهب بالذهب؟.

فإن قال: بعلة، ثم بيّن وجه قياس الرصاص على أصل مُبَاح بيع بعضه ببعض، فيقول: ليس العلّة حينئذ في الذهب مجرّد الوزن، بل الوزن مع عدم ذلك الوصف المَجْعُول

ص: 198

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

علّة للإباحة؛ إذ لو وجد في الذهب لما قلنا: بالتحريم، فإن قال الخَصْم: أنا أَشترط نفي ذلك الوصف، إِلا أني لا أسميه جزءًا من العلّة، وإن كان التحريم لا يحصل بدونه.

قلنا: هَبْ أنك لا تسميه، إِلا أن وِجْدَانه مما لا بد للعلّة منه.

والتحقيق: أنه جزء؛ لأن انتفاء المانع وَوِجْدَان الشرط جزء من العلّة التَّامة، والعلة المعرفة لا فرق بينها وبين التَّامة إِلا أنها لا توجد الحكم، وإنما يوجد عندها وهو لا يوجد عندها، إِلا بعد وجدان الشرائط، وانتفاء المانع.

وإن قال: بنصّ، فيقال له: هل علمت علة إِباحته؟.

فإن قال: علمت، قلنا له: كما قلنا أولًا، وإن لم يعلم، فمعلوم أن علة ذلك مقصورة على الرّصاص لا تتعدّاه؛ إذ لو تَخَطّته، لنصب الله علمًا على ذلك؛ ليعلم ثبوت حكمها فيما عدا الرّصاص، وإذا كان كذلك، لم يعلم تحريم الذهب بالذهب إلا لأنه موزون وليس برصاص، فبطل كون العلّة مجرد الوَزْنِ، فثبت أن التخصيص يخرج العلة عن كونها أمارة.

وإن قال: الرصاص ورد مستثنى لا علّة له، فيقال: العلّة هي المعرّف، وهي لم تعرف إِلا فيما يرد مستثنى، فهي حينئذ فيما عدا الرّصَاص كونه موزونًا، لم يرد مستثنى، لا مطلق كونه موزونًا، فقد لاح كالصَّبَاح أن النقض قادحٌ، وأنه لا فرق بين ما وَرَدَ مستثنى، وما لم يرد، ولا بين المنصوصة [و]

(1)

المستنبطة.

وقوله في الكتاب: العلة: الباعث.

قلنا: أولًا لا نسلم، وثانيًا سلمناه، ولكن ليس الباعث مثلًا مجرّد الوزن، بل الوَزْن مع القَيْدِ الآخر، وهو واضح فيما تقدم، فقد لاح وظهر أنّ النقض قادح، سواء أفسرت العلّة بالمعرف، أم الباعث، أم المؤثر.

وقوله: يرجع النزاع لفظيًّا.

قلنا أولًا: إِنما يتم هذا، لو كان كونها باعثًا لا يتوقّف على وجود الشَّرائط، وانتفاء الموانع، فإنه حينئذ يتحقّق الباعث، وإن لم يوجد ذلك، ونحن قد منعنا هذا.

وقلنا: إِنما تكون باعثًا عند وجود الشَّرَائط، وانتفاء الموانع وثانيًا: أنا لا نسلّم على

(1)

سقط في ب.

ص: 199

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تقدير تسميتها باعثًا، وإن لم توجد الشَّرائط، وتنتفي الموانع رجوع النزاع لفظيًّا، وسنقرر ذلك إِن شاء الله تعالى أحسن تقرير.

وثانيها: تعارض دليل الاعتبار والإِهدار، وقد مضى.

وقوله: "علّة الانتفاء للمعارض لا ينافي الاعتبار" ممنوع، وسَنَدُ المنع قد عرفته.

وثالثها: قياس الشرعية بالعقلية، وقوله في الفرق:"تلك بالذَّات، وهذه بالوضع" في غاية السّقوط؛ فإن الشرعية وإن كانت بالوَضْعِ، لكنها على حسب ما وضعت، ونحن نقول: إِنما وضعت عند وجود الشَّرَائط، وانتفاء الموانع، لا مطلقًا، ونقول: وضعت لتناسب العقليّة، وتحاكيها، في أن الحكم يتعقبها أنّي وجدت.

ورابعها: أنّ العلّة طريق الحكم، فلا يجوز أن تكون موصّلةً في مكان، غير موصلة في آخر؛ إِذ الطريق لا يختلف، فإن من ظن أن زيدًا في الدَّار بخبر رجل بعيد من الكذب، لا يجوز أن يخبره ذلك الرّجل بأن عمرًا في الدار، ثم لا يظنّه صادقًا، إِلا إِذا حصل مانع، وحينئذ تبيّن أنه لم يكن ظن صدقه أولًا لمجرد أنه بعيد من الكذب، بل لذلك مع ضميمة انتفاء المانع.

وخامسها: أن وجود العلّة مع عدم حكمها مناقضةٌ؛ بدليل عدّ العقلاء، فإن من قال: سامحت فلانًا لأنه بَصْري، ثم لم يسامح غيره من البصريين، بادر القوم بالاعتراض عليه بالنَّقض، فإن اعتذر بعَدَاوة غيره له، قيل له: هلّا قلت: سامحته؛ لأنه بصري وليس بعدوّ؟.

وسادسها: وهو معتمد القَاضِي أبي بكر: أن معتمدنا في القياس، إنما هو فعل الصحابة رضي الله عنهم، وقد تحقّقنا تمسكهم بالعلل المطردة دون المخصّصة، ومن تمام قول القاضي: إِنه لا يتمسّك بالظنون، ولو استتبّ دليل علي جواز النقض، وهو ظني، فالقاطع إِنما قام على جواز المطّردة دون المنصوصة.

وسابعها: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82].

قال علماؤنا: والنقض من الاختلاف، فدلّت المناقضة على أن الدليل ليس من عند الله، وما لا يكون من عند الله، لا يحتج به.

ص: 200

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وثامنها: قوله تعالى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]، فقد نقض الرب تعالى عليهم في دعواهم عموم عدم الإنزال بصورة خاصّة، وهي الإِنزال على موسى، فلو لم يكن قادحًا لم تبطل دعواهم، ولأصحابنا دلائل أُخَر يطول شرحها.

ولنتعقّب كلام الخُصُوم، فنقول: قولهم: لو بطلت لبطل المخصص.

قلنا: لفظ العموم لفظ لُغَوِي، يصدق على الكُلّ والبعض؛ بدليل استعمال أهل اللُّغة له على الوجهين، ولهذا لا يبادر إلى العمل به حتّى يبحث عن المخصّص، فصار اللَّفظ العام لا يستقرّ قراره المُرَاد به بنفسه، إِلا بعد السَّبر والنظر في الأدلة، فلم [يمتنع]

(1)

بذاته على المقصود له.

وأما المعنى، فشيء له مقصود خاصّ، ومتى قام الدليل على صحّته بالتأثير، استقرّ المُرَاد به، فلا يجوز أن يختلف المعنى المؤثّر، وإذا اختلف تغيّرت صفته، وإذا تغيّرت صفته، تغيرت سمته.

قال ابن السَّمْعَانِي: وعندي أن الجواب بحرفٍ واحدٍ، وهو أن العام كان حجّة فيما يتناوله بنفس اللَّفظ، وذلك التناول فيما وراء المخصّص لا يبطل بالتخصيص.

وأما العلّة فكانت حجّة بالتأثير المفيد لقوة الظَّن، وهذا يبطل بالتخصيص

(2)

، وعلى هذا يظهر لك الجواب عن العلّة المنصوصة أيضًا؛ لأن صحّتها بالنَّص، فلم يضره التَّخصيص الواقع عليه.

وأما المستنبطة فصحّتها بالتأثير، وشرطها الجَرَيَان؛ لئلا تضعف قوة الظَّن الواقع بها، فيمتنع [تعليق]

(3)

الحكم به، وعلى أن طائفة من أصحابنا سووا بين العلّتين في المنع من التَّخصيص، وعلى التسليم، قد ظهر لك الجَوَاب ظهورًا قويًّا. اهـ كلام ابن السَّمْعَاني.

والصحيح عندنا: أنه لا فرق بين المَنْصُوصة والمُسْتَنْبطة، كما أسلفناه، ولقد قال

(1)

في ج: يفتقر.

(2)

سقط في ب.

(3)

في ب: تطبيق.

ص: 201

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القاضي في "مختصر التَّقْريب": من فرق بينهما فقد تحكم.

قلت: وقول ابن السَّمْعَاني: "صحّة المُسْتنبطة بالتأثير، والمنصوصة بالنَّص" ضعيف، والمُسْتنبطة ليست إِلا حاكية المَنْصُوصة، والمجتهد يستخرجها، وعنده أنَّ الشرع أقامها، ولا فرق بينها وبين المَنْصُوصة إِلا ورود المَنْصُوصة على لسان الشَّرع نطقًا، وأن المجتهد لا صنع له فيها، بخلاف المُسْتَنبطة، فإن كان ثَمَّ تأثير، فهو في الموضعين بجعل الشّارع، نعم أصل جواب ابن السَّمْعَاني حسن؛ فإِن الجريان في الصُّور المشتملة على العلّة من المعنى الَّذِي نسبة الأفراد كلّها إِليه على حدّ سواء، وهو منصوب علامة، والعلامة أبدًا تطرد، فحيث تخلف، تبيّن أنها لم تكن علامة.

وأما اللفظ العام، فهو محتمل لأنْ يراد به الخاصّ، وأن يراد الشمول، ولا معنى يعضد أحد المحملين بخلاف العلّة، فإن فهم المعنى يساعد على التعميم، وعندي [أنا]

(1)

أنه لا فرق بين تخصيص اللفظ العامّ والعلة، فاِن اللفظ العام إِذا خصّ، تبين لنا أنّ اللَّافِظ لم يرد أولًا باللفظ إِلا بعض أفراده، والمعلل أيضًا إِذا ذكر وصفًا غير مطرد، تبين أنه لم يرد إلا ما وراء المحل الخارج، فإن فرض لفظ عام مصرح فيه بالتعميم، وأنه مراد منه فنحن نمنع تَخْصِيصه، كما نمنع تخصيص العلّة المقطوعة المنصوصة، كما نبَّهْنَاك عليه في أوّل المسألة.

فإن قلت: فالعام الظاهر يجوز تخصيصه بلا نَظَرٍ، والعلة لا يجوزون تخصيصها.

قلت: نحن لا ننكر أن المعلل يطلق مثلًا أن القَتْل العَمْد المَحْض العدوان أمارة القِصَاص، ويريد فيما عدا الأب، وما أشبهه، وإنما نقول: إِن ذلك انقطاع في مجلس المُنَاظرة، إذ أطلق في مكان التَّفصيل، وهذا بخلاف الشَّارع إذا أطلق العام، وأراد الخاص، فإن الأحكام راجعةٌ في اختياره وإرادته، فإذا أتى بلفظ عام، وأراد به الخاص، فلا اعتراض فيه.

وقوله في الكتاب: إِن صحة النَّقض جمع بين الدليلين عجيب؛ فإنّا لا نسلم انتهاض العلّية ما لم تسلم عن النَّقض، فدعوى انتهاضها دليلًا مصادرة على المطلوب.

وقوله: "لو بطلت المَخْصُوصة، لبطلت القاطعة إِذا [خصّت] "

(2)

صحيح، ولا فرق.

(1)

في أ: أما.

(2)

في أ، ت: خفيت.

ص: 202

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قوله: "علّة القصاص: القَتْل، العَمْد العدوان، ولا تبطل بالأبوة" ممنوع، بل انتفاء الأبوة جزء من العلّة، كما عرفت.

فإن قلت: لقد هَوّلتم أمر النقص، والخَطْب فيه يسير؛ لأنه لا ريب في أنه إِذا تخلّف الحكم في صورة، كانت العلّة معم فًا فيما عدا تلك الصُّورة، ولكن هل يقال: إن تعريفها [في تلك الصّورة باقٍ، ولكن صدمه ما قطع عمله، أو أنه خاصّ بما وراء]

(1)

تلك الصورة، ولا علّية لها فيها أصلًا؟.

وذلك خلاف لفظي، وهذا ما قاله المصنف، حيث قال: ويرجع النزاع لفظيًّا.

قلت: ليس الخلاف بلفظي، بل يترتّب عليه أولًا فائدة عظيمة، وهي مسألة التعليل بعفتين، كما سنقرره إِن شاء الله تعالى عند الكلام فيها.

وثانيًا: انقطاع الخَصْم؛ فإن النقض من عَظَائم أبواب الجَدَل، والمراد منه انقطاع الخَصْم، ولا يسمع منه بعد ذلك دعوى أنه إِنما أراد بالعموم الخُصُوص، وباللَّفظ المطلق ما وراء محلّ النَّقض؛ لأنه يشبه الدَّعْوَى بعد الإِقرار، فلا تسمع إِلا ممن له قدرة الإِنشاء في الموضعين، فالخلاف في أن النَّقض هل يقدح؟ معنوي.

والقائلون: بجواز تخصيص العلّة يقولون: يقبل قوله: لم أرد هذه الصورة، أو هذه من النَّقض الذي لا يلزمني الاحتراز عنه، بخلاف مُنكريها، فإنهم يقولون: هذا لا يسمع منك؛ فإن كلامك مُطْلق، وأنت بسبيل من الاحتراز، فلم لا احترزت؟.

ومتى ترتب الانْقِطَاع وعدمه على أن النقض هل يقدح؟ كان الخلاف معنويًا، وبهذا تبيّن لك الفرق بين العامّ والخاصّ إذا وقع في كلام الشارع وغيره، فإنه في كلام الشّارع واقع ممن له الإِنشاء في الموضعين، فله أن يقول: أردت بالعام الخاصّ، ولا معترض عليه، فإنه لو قال: يستحبّ الحكم ورفعته، لوجب الإِصْغَاء إليه، فكيف بهذا؟.

أما مَنْ ليس له ذلك من المجتهدين والمناظرين وغيرهما، فإذا أطلقوا لفظًا عامًّا، ثم قالوا: أردنا الخُصُوص.

قلنا لهم: إرادتكم تنفعكم في أنفسكم، ولكنا لا نقبلها منكم؛ إِذ اللفظ لا ينبئ

(1)

سقط في ت.

ص: 203

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عنها، وأنتم في مَجَالس الجِدَال، والنَّظر بتصحيح الكلام مطالبون، وعلى النَّقِيرِ والقِطْمِيرِ محاسبون.

قال الأستاد أبو إسحاق فيما نقله عنه إمام الحرمين في "التدريس": إطلاق الألفاظ العامّة والمراد بها [النقض]

(1)

شائع.

وأما المعلل منا إِذا علّل بلفظ عام، وأتى بصيغة علّة شاملة، فلا يقبل منه أصلًا إذا نقض عليه كلامه، وقال: إِنما أردت كذا؛ إذ لو جوّزنا ذلك، لما تصور إِبطال علة قط؛ إِذ لا يعجز أحد عن إِظهار مراد له، بخلاف إِطلاق صاحب الشرع الألفاظ العامة؛ إِذ له أن يفعل ذلك، والفَرْق أن الواحد منا إِنما جلس ليفهم صاحبه ويفهم عنه، وصاحب الشرع له أن يُبيِّن، وأن يؤّخر البيان إِلى وقت الحاجة، ويخاطب بمجمل، ولا يجوز لواحد منا أن يعلّل بعلّة مجملة، ويفسرها.

قال: ومن العلماء من جوز ذلك، قال: ومجوزه لا يميّز. انتهى.

فإن قلت: فقضية هذا أن العلة المنصوصة يجوز تخصيصها؛ لورودها في كلام الشارع الذي له الإنشاء.

قلت: نقول: إِذا وردت في كلام الشارع تبيّن أنه لم يرد محلّ النقض، وأنه إِنما جعلها علة فيما وراءه، وذلك مسموع منه، بخلاف غيره؛ فإنه لا يسمع منه قوله بعد الإِطلاق: إِنما أردت أنها علّة فيما وراء ذلك المخرج، ولو ورد دليل قطعي على أن العلّة هذا، وأنها تعمّ مواردها قطعًا، ثم ورد نقض، لقلنا: إِنه لا يقدح، ولكنا نقول: ذلك مستحيلٌ كما سبق؛ لاستلزامه تعارض قاطعين، أو قاطع وظني.

فحاصل المَسْألة: أنه هل يسمع من الجَدَلي قوله: أردت بالعموم الخصوص أو لا؟ القائلون بتخصيص العلّة يسمعونه، ونحن لا نسمعه، والصواب معنا؛ إِذ هو كمدع بعد الإِقرار، ولا فرق بين العموم والخصُوص في اللَّفظ والعلّة، فمن قال: قام الناس، حسن أن يقال له: لم يقوموا جميعًا؛ لأن زيدًا منهم، وهو لم يقم. سلمنا أن اللفظ العام يسمع من قائله إِرادة الخاصّ، إلا أن الفرق بينه وبين العلّة أن عمومها معنوي، كما تقدم.

(1)

في أ: النقص.

ص: 204

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإن قلت: قد أنكرتم تخصيص العلل، وناقضتم في مسائل كثيرة، منها: المُصَرَّاة والعَرَايا، وضمان الجَنِين بالغُرّة، وضرب الدِّيَة على العَاقِلَة.

وعلّل الشافعي تحريم الخمر بالشدّة، [وقاس]

(1)

عليها تحريم النَّبِيذ.

وللخمر ثلاثة أحكام: التحريم، والتفسيق، والحد، فطرد عليه في الفرع في الحَدّ دون الفِسْق؛ إذ قبل شهادة شارب النَّبيذ.

قلت: أما أنا فأقول في جوارب هذا كلّه ما قدمته من أن العلة ليست موجودةً في محلّ النقض، فأقول مثلًا: كلّ مِثْلي يضمن بمثله، إِلا في المُصَرّاة، وإنما لم يذكره الفقهاء؛ لأنه نادر، ومعلوم الاستثناء، فإذا قال الفقيه: المِثْلِيّ يضمن بالمِثْلِ، يعرف أنه لم يقصد ذلك المستثنى، وأقول مع ذلك: لو جلس في مجلس النظر وقال: كل مثلي مضمون بمِثْلِهِ، لكان لخصمه أن يقول: يرد عليك المُصَرّاة، ولا ألتفت إِلى أنك لم تردها. نعم أقول: إِذا كان المستثنى مشهورًا، بحيث يعرف الخَصْم أنه لم يرد، فاللَّائق أن لا تشَاحح فيه.

وقد أجاب أصحابنا عن هذه المَسَائل، وأمثالها بأجوبة كثيرة، وما ذكرناه طريقة جَدَلية بمنع [بعض]

(2)

النقض، وأنت أيها الفقيهُ لا ترى مستثنى من قاعدة إِلا وهناك معنى يمتاز به عن سائر الأفراد، ينعطف قيدًا في العلّة، فاعتبر ذلك في كل مكان، يتضح لك ما ذكرناه، وتعلم أنه لا سبيل إِلى [نقض]

(3)

العلة.

ونقول مثلًا: النَّبيذ حرام قياسًا على الخمر بجامع الإِسكار، نطلق الإِسكار علّة في التحريم، والحدّ، وإسكار الخمر الخاصّ علّة التفسيق، فلم تنتقض علّة، ولئن سئلنا عن فقه هذا.

قلنا: انظر ماذا يعلل به الفقيه قَبُول الشهادة، وألحقه بالعلة، وهذا سبيلك في كل خارج من أصل لمعنى، وما خرج لا لمعنى ينعطف منه أيضًا قيد، وهو عدم الاستثناء؛ فإن العلّة مطّردة لجعل الشارع، فإذا قطع اطرادها في مكان، قطع علتها فيه، فهي إنما تكون علة فيما وراءه، فاحفظ ما ألقيت إِليك تدفع به شبهات الخصوم أجمعين على اختلاف مقالاتهم.

(1)

في أ، ب، ت: وقياس.

(2)

في أ، ب، ت: البعض.

(3)

في أ، ت: بعض.

ص: 205

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد أجاب إِمام الحرمين عما ورد مستثنى: بأنه غير مَعْقُول المعنى، وهو كالشَّاذ، فلا يورد على القاعدة الكلية؛ فإن عادة الأئمة ترك الشَّاذ على شذوذه يعدونه كالخارج عن المنهاج.

وذكر ابن السَّمْعَاني أجوبة أصحابنا عن هذا، وحاصلها: أننا لا ننكر وجود مواضع في الشرع، وتخصيصها بأَحْكَام تخالف أجناسها؛ بدليل شرع في ذلك الموضع بخصوصه، فيكون ذلك [الموضع]

(1)

مسلمًا، ولا يطلب له معنى، ولا يصدم هو أصلًا، مثل عوض الفبن في المُصَرَّاة، وكما [أنَّا]

(2)

لا نقيس عليه غيره، كذلك لا نخصّ به أصلًا.

والقول الملخص: أ ن ما نخصّ به العلة المعنوية إِذا عرف معناه، فهو ممنوع؛ لأنه إِذا افثرق الموضعان بعلّة مؤثرة، تبيّن لنا أنّ المعلل في [نصبه]

(3)

العلّة التي خص منها هذا الموضع لم يستوف الحجّة.

والحاصل أن التخصيص يفوت قوة الظَّن بالأمارة، وإنما يفوت قوة الظَّن إِذا استند المَخْصُوص إلى معنى كاستناد المَخْصُوص منه.

فأما إذا لم يستند إِلى معنى أصلًا، فلا يفوت بذلك قوّة الظن ولا يورد نقضًا؛ لأن قوة الظن لم تَفُتْ، وذلك شاذ خارج عن المِنْهَاج المستقيم. انتهى.

قلت: وهذا متلقى من إمام الحرمين، إلا أن إمام الحرمين جعل المستثنى أبدًا غير معقول، والمُخْتَار عند أئمّتنا أنه قد تعقل معناه، وابن السَّمْعَاني جرى على طريقة الأصحاب، وقد أحسن.

وحاصله: أنه إِن كان معنى قدح لمعارضة معنى لمعنى، فمن لم يحترز عنه يوجه الاعتراض نحوه، ون كان لا معنى، فهو شاذ لا يورد نقضًا، كما لا يقاس عليه.

ولقائل أن يقول: إِنما لا يقاس عليه لفوات المَعْنَى الذي هو رابطة القياس.

وأما انعطاف قيد منه كما عرفت، فهو عندي يرد نقضًا في الصورتين.

(1)

سقط في ب.

(2)

سقط في أ.

(3)

في ب: نصيبه.

ص: 206

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله: قوة الظن لم تَفُتْ.

قلنا: بالنسبة إِلى المخصوص أو غيره؟ إِن كان بالنسبة إِلى المخصوص، فقد فات بالكلّية، وإن كان بالنسبة إِلى غيره، فصحيح، لكن انضم إِليه شرط انتفاء ما استثني.

وفَيْصَلُ الأمر عندنا: أن مجلس المُنَاظرة مَبْنِيٌّ على المُشَاحّة، والمُحَاقّة، وعدم التفات الخَصْم إلى الإِرَادَات والمَقَاصد، ونظيره من قال لامرأته: أنت طالق.

ثم قال: أردت من وثاق، فإنا نحكم بالطَّلاق، ونقول: إِن كنت في نفس الأمر صادقًا لم يقع، ولكنا لا نبني إِلا على الألفاظ، وأمثال هذا يكثر.

ومن شبه القائلين بتخصيص العلّة: أنها أمارة، والأَمَارَةُ قد تتخلف، ولا تخرج بالتخلّف عن كونها أمارة، وهذا كالغَيْمِ الرطب أمارة على المَطَرِ، ولربما يختلف أحيانًا، ولقد تقدمت هذه الشُّبْهة في إدْرَاج كلماتنا، وذكرنا ما يدرؤها، ولكنا أردنا أن نخصّها هنا بمزيد النَّظَر فنقول: العلّة إِن فسرت بالمؤثر، كما يقوله من يقول بذلك، فلا رَيْبَ في أن التخلّف يمنع تأثيرها فيه؛ إِذ لا تأثير لها مع التخلف، وإن فسرت بالباعث - كما يقول الآمدي والمصنف - فهي في محلّ التخلّف غير موجودة، وإلا لزم أمران:

أحدهما: أن يشرع الحكم على خلاف المَصْلحة، والعقلاء في أفعال الشَّارع على قولين:

أحدهما: تعليلها بالمصالح.

والثاني: عدم التعليل.

أما التعليل بعدم المصالح، فلم يَقُلْ به عاقل.

وثانيهما: أن تكون باعثة في وقت دون آخر مع اتحاد الجهة.

فإن قلت: بل هي موجودة، ولا يلزم ما ذكرتم؛ لأن وِجْدَانها إِنما يعمل حيث لا تَعَارض، وكونها باعثةً إنما يظهر أثره حيث لا مانع.

قلت: فالعمل لها حينئذ إنما هو حيث لا مُعَارضة، والبعث إِنما هو حيث لا مانع، فليكن جزءا من العلّة، ولتنتف العلّة بهما، وإن كانت أمارة - وعليه بنى السَّائل كلامه - فمتى انتفى الحُكْم في بعض المَوَاضع لعلة، شرطنا في كونها أَمَارة انتفاء تلك العلّة، أو انتفاء

ص: 207

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[المَوْضع]

(1)

الذي لم يوجد فيه حكمها، وما ذكر من تكرُّر وجود الغَيْمِ ولا مطر، مع أن كونه أمارة لم تزل.

قال ابن السَّمْعَاني في رده الأمارة: وإن لم تزل إلَّا أنه لا بُدّ أن تضعف بما ذكرناه، ولا بد في الأَمَارَةِ من توفير القوة من كل وجه؛ لأن هذا ظن [يبيّن]

(2)

حكمًا شرعيًّا، فلا بُدّ من بلوغه نهاية القوة، وألا يتوهم قوة في الظَّن وراء قوّته حتى تعلق به الحكم الشرعي، وذلك بوجود الاطِّرَاد حتى لا تخلف هذه الأمارة في موضع ما، فإذا أخلفت لم تتوفر القوة من كل وجه.

قال: وهذا جواب حسن [اعتمدته]

(3)

، وهو محلّ الاعتماد.

قلت: فقد بَانَ بُطْلان تخصيص العلّة، سواء أفسرت بالمؤثر أم الباعث أم الأمارة.

وذكر أبو علي بن عمار الموصلي من أصحابنا: أن أبا الوفاء بن عقيل الحنبلي

(4)

استدل على جواز تخصيص العلّة بقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام قَالُوا: {يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف: 78]، قال: فهذه العلّة التي قصدوا بها إِطلاقه من يد العزيز [موجودة]

(5)

في حق كل واحد منهم.

قلت: والجواب: أنه لم يكن في ذِهْنِهم أنَّ العزيز يعرف إخوتهم للذي أخذه،

(1)

في ب: الموانع.

(2)

في ب: يثير.

(3)

في ب: اعتد به.

(4)

علي بن عقيل بن محمد بن عقيل، البغدادي الظفري، أبو الوفاء، ويعرف بـ "ابن عقيل" ولد سنة 431 هـ. عالم العراق، وشيخ الحنابلة بـ "بغداد" في وقته. كان قوي الحجة، اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته. وكان يعظم الحلاج، فأراد الحنابلة قتله، ثم أظهر التوبة. من تصانيفه:"كتاب الفنون" و"الواضح في الأصول" و"الفرق" و"الفصول" وغيرها. توفي سنة 513 هـ. ينظر: شذرات الذهب 4/ 35، وغاية النهاية 1/ 556، ولسان الميزان 4/ 243، والأعلام 4/ 313.

(5)

في أ: بوجوده.

ص: 208

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والاحتراز من محلّ النقض إِنما هو لدفع المعترض به، فحيث لا يعترض، لا يجب الاحْتِرَاز عنه لفظًا، ويكفي إِرادته.

فالعلّة: إن له أبًا شيحًا كبيرًا، وأنه صغير يصدر عليه من الحزن ما لا يصدر على الكبير، فحذف هذا القيد مع إِضماره، وإن في حذفه لفائدة جليلة؛ إِذ لم يكن لهم قصد في التعريف بإخوتهم له.

وقد ذكرت في "التَّعليقة" قواعد كثيرة يطلقها أصحابنا في الفِقْهِيَّات، ويستثنى مها صور، مثل قول أصحابنا: المثلى يضمن بالمثل المتقوم بالقيمة، من لم يجن لم يطالب، لا فرق في ضمان المتلف بين العلم والجهل، متى ضاقت الأمور اتَّسعت، اليقين لا يرفع بالشَّك، متى تعرض أصل وظاهر فقولان:

أصحّهما: العمل بالأصل، الرخص لا تناط بالمعاصي، النهي إن رجع إلى شرط أو ركن أفسد أوجب أعظم الأمرين بخصوصه، لا يوجب أهونهما بعمومه، ما اجتمع الحَلَال والحرام إِلا وغلب الحَرَام، الميسور لا يسقط بالمَعْسُور، كلّ ما لا يعلم إِلا من جهة الشخص يقبل قوله فيه، من كان القول قوله في شيء، كان القول قوله في صفته، الضَّرر لا يزال بالضرر، ما تميز بنفسه لا يحتاج إلى نية، ما اقتضى عمده البُطْلان، اقتضى سهوه السُّجود، ما يسقط بالتوبة يسقط حكمه بالإكراه، وما لا فلا، وكل ما جاز بيعه فعلى متلفه يغتفر في الدَّوَام ما لا [يغتفر]

(1)

في الابْتِدَاء، العصبة كل ذكر ليس بينه وبين الميت أنثى، لا يزيد البعض عن الكُلّ، كل من جهل حرمة شيء مما يجب فيه الحد وفعله لا يحد، وإن علم الحرمة وجهل وجوب الحد وجب الحد، لا تصح الجهالة إلا على معلوم الوَطْء لا يخلو عن [مهر]

(2)

أو عقوبة، لا تصح الدعوى إلا من مطلق التصرف، كل عقد تقاعد عنه مقصوده بطل من أصله، الأصل براءة الذمة، الضرورات تبيح المَحْظُورات، من ملك الإِنشاء ملك الإِقرار، ومن لا فلا، كل عيب يوجب الرد على البائع يمنع الرد إذا

(1)

في ب: يفتقر.

(2)

في أ، ب، ج: عقر، وكلاهما صحيح.

ص: 209

وَفِي الكَسْرِ، وَهُوَ وُجُودُ الْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ.

حدث عن المشتري وما لا فلا، فاسد كلّ كصحيحة في الضَّمان وعدمه، فرض العين لا يؤخذ عليه عوض، من أتي معصية لا حَدَّ فيها ولا كفارة وجب عليه التعزيز، حكم الدّبر حكم القُبُل، ما كان صريحًا في بابه ووجد نفاذًّا في موضوعه، لا يكون صريحًا في غيره ولا كِنَيَة، كل ما لا صرح به أبطل، فإذا أضمره كره، إذا أتلف المشتري من المبيع قبل القبض كان من ضمانه، ما جاز بيعه جاز رهنه، وما لا فلا، لا يدخل عبد مسلم في ملك كافر ابتداء، لا يصير الحال مؤجلًا، لا يجب الوطء على الزوج، الإكراه يسقط أثر التصرف وغير ذلك كما ذكرت في "التعليقة"، وعددت ما يستثنى من ذلك كله، وعقدت فيه فصلًا ينتفع به المبتدئ.

وقلت: إِن الأصحاب إِنما يطلقون ذلك للغالب، حتى إِذا وجدت صورة وشكّ فيها، أعطيت حكم الأعَمّ الأغلب، ولو أطلق مُطْلق ذلك في مجلس النَّظر لكان في رَهِينَةِ خصمه إن شاء أخذه وأَفْحَمَه، وإن شاء وفَك أَسَاره، والله - تعالى - يُلْبسُنا من الدِّينِ شعاره، ويُسْبلُ علينا دِثَارَهُ.

الشرح: وقد ذكر المصنّف بعد النَّقْض الكَسر، والنَّقْض المَكْسور.

وعرف الكسر: بوجود الحكمة المقصودة من شرع الحكم، مع تخلّف الحكم عنها.

فالنقض - حينئذ -: تخلّف الحكم عن العلة.

والكسر: تخلّفه عن حكمها، وقد تبع في هذا الآمِدِيّ، والأكثرون يفسرون الكسر بما فسّرا به هما النقض المكسور، ونحن نسير مع المصنف على مصطلحه، مع التنبيه على كلام غيره، فنقول: قال قوم: إِن الكسر يبطل العلّية، واختار المصنف أنه لا يبطل، وإليه أشار بقوله:"وفي الكسر، وهو وجود الحكمة المَقْصُودة مع تخلّف الحكم" خلاف، هل يبطل العلية

(1)

؟

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 278، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 212، 4/ 80، ونهاية السول للأسنوي 4/ 204، وزوائد الأصول له ص 397، ومنهاج العقول =

ص: 210

المُخْتَارُ: لا يُبْطِلُ؛ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي الْعَاصِي بِسَفَرِهِ: مُسَافِرٌ فَيَتَرَخَّصُ كَغَيْرِ الْعَاصِي، ثُم يُبيِّنُ المناسَبَةَ بِالْمَشَقَّةِ، فَيُعْتَرَضُ بِصَنْعَةِ شَاقَّةٍ فِي الْحَضَرِ.

لنَا: أن الْعِلَّةَ السَّفَرُ؛ لِعُسْرِ انضِبَاطِ الْمَشقَّةِ وَلَمْ يَرِدِ النَّقْضُ عَلَيْهِ.

قَالُوا الْحِكْمَةُ هيَ الْمُعْتبَرةُ قَطْعًا، فَالنَّقْضُ وَارِدٌ.

قُلْنَا: قَدْرُ الْحِكْمَةِ الْمُسَاويَةِ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ مَظْنُونٌ، وَلَعَلّهُ ...........

الشرح: "المختار: لا يبطل، كقول الحَنَفِيّ في العاصي بِسَفَرِهِ: مسافر، فيترخّص كغير العاصي، ثم

(1)

يبين المُنَاسبة بين العاصي بسفره وغيره، "بالمشقة" الحاصلة لكل مسافر، "فيعترض بصنعة شَاقَّةٍ في الحضر"، كالحَمَّالين وغيرهم؛ فإن المشقة موجودة ولا ترخص.

"لنا: أن العلّة السفر" دون المشقة "لعسر انضباط المشقة"؛ فالمشقّة وإن كانت المقصودة ليست بعلّة - لما ذكرناه - فإِنها مختلفة باختلاف الأشخاص والأحوال اختلافًا كثيرًا، "ولم يرد النَّقض عليه"، أي: على السَّفر الذي هو العلّة، فوجب العمل به.

"قالوا: الحكمة هي المعتبرة قطعًا"، والوصف معتبر تبعًا لها، "فالنقض وارد"؛ لاعتراضه ما هو المقصود.

الشرح: "قلنا: قدر الحكمة المساوية" لحكمة الأصل، "في محل النقض مظنون"؛

= للبدخشي 3/ 106، وغاية الوصول ص 128، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 216، والمنخول للغزالي ص 410، وحاشية البناني 2/ 303، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 126، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 348، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 283، أحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 661، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 221، 2/ 269، والتمهيد لأبي الخطاب 4/ 168، والمسودة 4295.

(1)

في أ، ب، ت: لم.

ص: 211

لِمُعارضٍ، وَالْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الأَصْلِ قَطعًا، فَلَا يُعَارِضُ الظَّنُّ الْقَطْعَ حَتَّى لَوْ قَدَّرنَا وُجُودَ قَدْرِ الحِكْمَةِ أَوْ أكثَرَ قَطْعًا، وإنْ بَعُدَ أَبْطَلَ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ حُكْمٌ آخَرُ أَلْيَقُ بِهَا، كَمَا لَوْ عُلِّلَ الْقَطْعُ بِحِكْمَةِ الزَّجْرِ، فَيُعْتَرَضُ بالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ أَزْيَدُ لَوْ قُطِعَ، فَيَقُولُ: ثَبَتَ حُكْمٌ أَلْيَقُ بِهَا يَحْصُلُ بِهِ، وَزِيَادَةٌ، وَهُوَ القَتْلُ.

إِذ من الجائز أن يكون القَدْر الموجود في محلّ النقض أقلّ من القدر الموجود في الأصل، وعلى تقدير المُسَاواة لا يلزم وجود الحكم.

"ولعله" أي: تخلف الحكم "لمعارض"، فيكون وجود قدر الحكمة المُسَاوية لحكمة الأصلِ في محل النقض بدون معارض مظنونًا، "والعلة في الأصل موجودة قطعًا، فلا يعارض الظن القطع، حتى لو قدرنا وجود قدر الحِكْمَةِ، أو أكثر قطعًا.

وإن بعد" هذا التقدير "أبطل" العلة "إِلا أن يثبت حكم آخر أَلْيَق بها" أي: بصورة النقض "كما لو علل القَطْع" في السّرقة "بحكمة الزَّجر، فيعترض بالقَتْل العمد العدوان"، ويقال: ينبغي أن يجب فيه القطع - أيضًا - "فإن الحكمة" فيه "أزيد لو قطع"، ومع ذلك لا يقطع القاتل عمدًا.

فنقول: ثبت حكم أليق بها"، أي: بصورة النقض "يحصل به" المقصود، "وزيادة، وهو القتل"، فإنه يحصل به إبطال اليد وما عداها.

هذا كلام المصنّف في الكسر، وهو متدافع؛ لأنه عَرّفه أولًا: بتخلّف الحكم عن الحكمة، ثم قال: إن قدر الحكمة المُسَاوية في محل النقض مظنون، وهذا الظّن إِما أن يعتبر أو لا، إن لم يعتبر - فحينئذ - لم يتخلف الحكم عن الحكمة، ولم يوجد الكسر، فقولكم: الكسر لا يبطل العلية ساقط؛ لأن الذي لا يبطل ليس الكسر - على ما ذكرت - وإن اعتبر فقد تخلف.

وقد قلتم - آخرًا: نعم إن تحقّق التخلّف أبطل، ولا نعني بالكسر إلا ما تحقق فيه التخلّف، أو نعطي المَظْنُون حكم المتحقّق.

وعليه ينبني قولكم أولًا: الكسر تخلّف الحكم عن الحكمة، فقد لاح بهذا أن تخلّف الحكم عن الحكمة إِذا جوّز التعليل بها كتخلفه عن العلّة، فلنعترض على المذاهب السَّابقة

ص: 212

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في النقض، ونمتحن كلّ مذهب بنظيره.

والحاصل: أن تخلّف الحكم عن الحكمة كالنَّقض، وظنّ التخلّف غيره، إِن لم يعط حكمه، ومُسَاو له إن أعطي، فليس لابن الحَاجِبِ أن يورده على التقديرين. هذا الكسر على مصطلح الآمِدِيّ والمصنف.

وقال الأكثرون من الأصوليين والجَدَليين: الكسر عبارة عن إِسقاط وَصْف من أوصاف العلّة المركبة، وإخراجه عن الاعتبار.

وقال الشيخ أبو إسحاق في "الملخّص": وهو سؤال مَلِيحٌ، والاشتغال به ينتهي إِلى ببان الفِقْهِ، وتصحيح العلّة، وقد اتّفق أكثر أهل العِلْمِ على صحته، وإفساد العلة به، ويسمونه النَّقْض من طريق المَعْنَى، والإِلزام من طريق الفقه، وأنكر ذلك طائفة من الخُرَاسانيين.

وللكسر صورتان:

إحداهما: أن يبدل ذلك الوصف الخاصّ بوصف عام، ثم ينقضه عليه.

والثانية: ألا يفعل ذلك، بل يعرض عن ذلك الَّذِي أسقطه بالكلية، ويذكر صورة النقض، وله أمثلة:

منها: أن يقول شافعي في إِثبات صلاة الخَوْف: صلاة يجب قَضَاؤها، فيجب أَدَاؤها، كصلاة الأَمْن.

فيقول المعترض: خصوص كونها صلاة مُلْغى لا أثر له؛ لأن الحَجّ كذلك، فلم يَبْقَ إلا الوصف العام، وهو كونها عبادة، وينقضه، فهذا كسر، ثم هو بالخيرة بين أمرين:

إما أن يأتي بكَسْره على الصورة الأولى، فيلزمه التعليل بكونه عبادة، ويقول: كأنك قد قلت: عبادة، إِلى آخر ما ذكرت، ويلزمك صوم الحَائضِ، فإنه عبادة يجب قضاؤها، ولا يجب أداؤها، بل يحرم.

وأما على الصُّورة الثانية، فنقول: إذا سقط وصف الصَّلاة الذي هو أحد أوصاف

ص: 213

وَفِي‌

‌ النَّقْضِ الْمَكْسُورِ،

وَهُوَ نَقْضُ بَعْضِ الأَوْصَافِ:

الْمُخْتَارُ: لَا يَبْطُلُ كقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله في بَيْعِ الْغَائِبِ: "مَبِيعٌ مَجْهُولُ

علّتك، فلم يبق إِلا قولك: يجب قضاؤها .. إلخ، وليس كلّ ما يجب قضاؤه يجب أداؤه بدليل الحائض.

ومنها: أن يقول شافعي في بيع ما لم يره المُشْتري: مبيع مجهول الصِّفة عند العاقد، فلا يصح، كما لو قال: بعتك عبدًا، فيقول المعترض: ينكسر بزيد إِذا نكح امرأة لم يرها، فإنه يصح مع كونها مجهولةَ الصِّفة عند العاقد، فهذا كثير؛ لأنه نقض من جهة المعنى؛ إِذ النكاح في الجَهَالة كالبيع؛ بدليل أن الجَهْل بالعَيْنِ في كل منهما يوجب الفَسَاد. وهذا المثال ذكره الشيخ أبو إِسحاق، وابن السَّمْعَاني وغيرهما، وإيّاه أورد المصنّف، كما ستراه - إن شاء الله تعالى" - تبعًا للآمديّ.

وإذا أردت تنزيله على الصُّورة الأولى، قلت: خصوص كونه بيعًا ملغى؛ لأن المرهون كذلك، فبقي كونه عقدًا، الذي هو وصف يعمُّهما، وهو منقوض بالنِّكاح. أو على الثانية قلت: لا أثر لكونه مبيعًا بدليل المرهون؛ فسقط هذا الجزء، ولم يبق إلا مجهول الصفة إلخ، وهو منقوض بالنكاح.

ومنهما: أن يقول شافعي في كَفَّارة العَمْد: قتل من يضمن بَدِيَةٍ أو قصاص بغير إِذن شرعي، فيجب كَفارته كالخَطَأ، فيعترض بأن خصوص كونه يضمن بالدِّيَةِ أو القصاص ملغى؛ لأنها تجب على السَّيد في قتل عَبْدِهِ، فبقي كونه آدميًّا، أو يسقط القَيْد، وبقي ما عداه، وهو منقوض بالحَرْبِيّ والمرتد، وقاطع الطريق، والزَّاني المحصن.

وهذا حاصل القول في الكَسْر، وقد وضح أنه نقض يرد على المعنى، كما ذكر أستاذ أرباب الجَدَل أبو إِسْحَاق الشِّيرَازي، وتبعه ابن السَّمْعَاني وغيره، وهو معنى كلام المصنّف - هنا - وفي الاعتراضات إِذ قال الكسر نقض المَعْنَى، ولا مخالفة بين كلاميه، وسيظهر لك ذلك بتقرير كلامه، فنقول:

الشرح: قال في الكتاب: "وفي النقض المَكْسُور، وهو نقض بعض الأوصاف" خلاف.

ص: 214

الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَاقِدِ حَالَ الْعَقْدِ؛ فَلَا يَصِحُّ؛ مِثْلُ: "بِعْتُكَ عَبْدًا" -، فَيُعْتَرَضُ بِمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يَرَهَا.

لنَا: أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَجْمُوعُ: فَلَا نَقْضَ، فَإِنْ بَيَّنَ عَدَمَ تَأْثِيرِ كَوْنِهِ مَبِيعًا، كَانَ كَالْعَدَمِ، فَيَصِحُّ النَّقْض، وَلَا يُفِيدُ مُجَرَّدُ ذِكْرِهِ دَفْعَ النَّقْضِ.

"المختار: لا يبطل، كقول الشافعي في بيع الغَائِبِ: مبيع مجهول الصِّفَة عند العاقد حال العَقْدِ، فلا يصح، مثل: بعتك عبدًا، فيعترض بما لو تزوّج امرأة لم يرها" وربما يفهم من قول المصنّف: إِنه نقض بعض الأَوْصَاف، اختصاصه بالصُّورة الثانية، وليس كذلك، بل هو أعم منها؛ لأن إخراج البعض أعم من أن يبدله بعد الإِخراج، كما في الصورة الأولى، أو يعرض عنه كما في الثانية، وقد تقررت صورة بيع الغائب على الوجهين، كما مَرّ، وربما لم يتأت إِلا الصورة الثانية؛ لعدم إِمكان الإِبْدَال.

ومثل له الشيخ أبو إِسحاق في "الملخّص" بقول الحَنَفِيّ في النِّية في الوضوء: سبب يتوصّل به إِلى الصلاة، لا على وجه البَدَل فلا تجب النية فيه كإزالة النجاسة.

فنقول: لا أثر لقولك: لا على وجه البدل؛ لأنَّ الأصول والأبدال في باب النية في الشرع واحد؛ بدليل الكَفَّارات لما افتقرت إلى النية استوى أصلها وبَدلها، والعدد لما لم تفتقر، استوى أَصْلُهَا وبدلها، وسقط هذا القَيْد، وينكسر ما بقي بالتّيمم؛ فإنه سبب يتوصّل به إِلى الصلاة ويفتقر.

فإن قلت: قد ظهر بما قررتم أنَّ الكسر الذي هو عند المصنف مسمّى بالنقض المكسور، كالنقض، فكيف اختار المصنف أنه لا يبطل؟

ولم لا فصل كما فعل؟ ثم قال: لأنه قرر إيراد المثال هكذا: [مبيع]

(1)

.. إلخ، فيكسره المعترض، بما لو تزوّج امرأة لم يرها، والمعترض إِذا اعترض هكذا، لم يقدح، لما ذكره في الكتاب؛ إذ قال:

الشرح: "لنا: أن العلّة المجموع" بعض الأوصاف "فلا نقض"؛ إذ يلزم تخلّف الحكم عن المجموع الذي هو علة، ثم قال المصنف: "فإن [تبين]

(2)

عدم تأثير كونه مبيعا، كان" ذلك القَيْد "كالعدم، فيصحّ النقض، ولا يفيد مجرّد ذكره دفع النقض". هذا كلامه،

(1)

في أ، ب، ن منع.

(2)

في ج: بين.

ص: 215

وَأَمَّا الْعَكْس، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لاِنْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، فَاشْتِرَاطُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنعِ تَعْلِيلِ الحُكْمِ بِعِلّتينِ؛ لاِنْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ دَلِيلِهِ.

ونحن نقول: الكَسر هو أن تبيّن

إلي آخر ما ذكرت، فهو إِذن نقض، وإليه يرشد قولك فيما بعد: الكسر نقض المعنى، فلا خلاف بيننا وبين المصنف.

والحاصل: أنه لا يقدح في العلية إِذا أتى به على غير وَجْهِهِ، ويسمى - إِذ ذاك - بـ "النقض المكسور"، كما زعم المصنّف والآمدي، والكلام معهما في شيئين:

أحدهما: أنه إذا لم يقدح؛ لأنه لم يأت به على وَجْهِهِ، وكل اعتراض هكذا، ولا اختصاص للكسر بذلك.

والثاني: أَنَّهُمَا سمياه بـ "النقض المَكْسور"، وهو اسم لا يعرفه الجَدَليون، فإنهم لا يعرفون إِلا الكَسْر، وهو عبارة عن أن يبين عدم التأثير، فإن مشى المصنّف على مصطلحهم - وإليهم المرجع في ذلك - فلا حَاجَةَ إِلى قوله: فإن بين .. إلخ، فإنه ليس المعنى به إِلا أن يبين.

وذكر الآمدي: [أنَّ الأكثرين على أن الكَسْر لا يقدح، وليس كذلك، فقد نقل الشيخ أبو إسحاق][على]

(1)

أنّ الأكثر على أنه قادح، ونحن قد بَيّنا أنه قد نقض، فالكلام فيه كالكلام في النقض سواء بسواء.

والشيخ الهِنْدِيّ قال: الكسر: نقض يرد على بعض أوصاف العلّة، وذلك هو ما عَبَّر عنه الآمدي بـ "النقض المكسور".

ثم قال: - أعني الهِنْدي -: وهو مردودٌ عند الجماهير، إِلا إذا بين الخصم إلغاء القيد، ونحن لا نعني بالكسر إلا إذا بيّن.

أما إِذا لم يبين، فلا خلاف في أنه مَرْدُود، كيف وهو كلام غير موجه؟ "، وكلّ ما كان كذلك فهو رد على قائله.

الشرح: "وأما العكس" في العِلَلِ فيطلق باعتبارين

(2)

:

(1)

سقط في ب.

(2)

والخلاف يلتفت على جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين، فإن منعناه واشترطنا الاتحاد فالعكس لازم؛ لأن الحكم لا بد له من علة، وإن جوزناه وكانت له علل، فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعضها بل عند انتفاء جميعها.=

ص: 216

وَنَعْني انْتِفَاءَ الْعِلْمِ أَو الظَّنِّ؛ لأِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاء الدَّلِيلِ عَلَى الصَّانِعِ انْتِفَاؤُه.

الأول: مثل قول الحَنَفِي: لما لم يجب القَتْل بصغير المُثَقّل، لم يجب بِكَبِيرِهِ؛ بدليل عكسه، فإنه لما وجب بكبير [الجَارحِ]

(1)

، وجب بصغيره.

والثاني: "وهو" المراد هنا "انتفاء الحكم لانتفاء العلّة".

أما الأول فلا يشترط في العلّة اتفاقًا؛ إذ لا مانع من ورود الشَّارع بوجوب القِصَاصِ بكلّ [جارح]

(2)

، وأن تخصيص وجوبه في المُثَقّل بالكبير منه.

وأما الثاني "فاشتراطه مبني" كما ذكر القاضي أبو بكر والجَمَاهير "على منع تعليل الحكم بعلّتين"، فمانع التعليل بعلتين يشترطه؛ لأنه - حينئذ - لا يكون للحكم إلا دليل واحد، فينتفي عند انتفاء العلة "لانتفاء الحكم عند انتفاء دليله.

ونعني" بانتفاء الحُكم: "انتفاء العلم أو الظَّن" به، لا انتفاء نفس الحكم؛ "لأنه لا يلزم من انتفاء الدَّليل على الصَّانع انتفاؤه"، بل انتفاء العِلْم به فقط.

قال إِمام الحرمين في "التَّدريس": ثم الذَّين اشترطوا العَكس اختلفوا، فمنهم من قال: لا بد من عكس على العموم، كما شرطنا الاطِّراد عمومًا.

وقال الأستاذ أبو إسْحَاق: يكتفي بالعكس ولو في صورة واحدة.

= وقد ذكَر الغزالي هذا التفصيل، وجعله مذهبًا له في المسألة.

وقال صاحب الفائق: لا ينبغي أن يقع فيما ذكر خلاف. ينظر: سلاسل الذهب 389 - 390، والبرهان 2/ 842، والمحصول 2/ 355، والإبهاج 3/ 119، والمستصفى (2/ 344)، والمنخول (411)، وروضة الناظر (178)، وجمع الجوامع 2/ 303، والإحكام للآمدي (3/ 216)، وتيسير التحرير 4/ 22، 153.

(1)

في أ، ب، ت: الخارج.

(2)

في ب، ت: خارج.

ص: 217

‌تَعْلِيلُ الحُكْمِ بِعِلَّتيْنِ

مَسْأَلَةٌ:

وَفِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتينِ أَوْ عِلَلٍ كُلٌّ مُسْتقلٌّ:

ثَالِثُهَا لِلْقَاضِي: يَجُوزُ فِي الْمَنْصُوصَةِ لَا الْمُسْتَنْبَطَةِ.

وَرَابِعُهَا: عَكْسُهُ.

وَمُخْتَارُ الإِمَام: يَجُوزُ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ.

«مسألة»

الشرح: "وفي تعليل الحكم بعلّتين، أو علل كل مستقل:

ثالثها للقاضي: يجوز في المَنْصُوصة لا المستنبطة.

ورابعها: عكسه، ومختار الإمام: يجوز، ولكن لم يقع.

هذه عبارته، واخْتِياره: الجواز والوقوع؛ لأنه سيقول: لنا: لو لم يجز لم يقع، وقد وقع

(1)

.

(1)

ينظر: البرهان 2/ 819، والمعتمد 2/ 267، والمحصول 2/ 2/ 367، والمستصفى 2/ 342، والمنخول 392، وجمع الجوامع 2/ 385، والإحكام للآمدي 3/ 218، وشرح العضد 2/ 223، ونزهة الخاطر 2/ 337، والروضة (178)، والمسودة 417، الوصول لابن برهان 2/ 262، وكشف الأسرار 4/ 45، ونهاية السول 4/ 183، 195، والتمهيد (481)، وتيسير التحرير 4/ 23، وشفاء العليل (514 - 536)، وفواتح الرحموت 2/ 282.

ص: 218

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واعلم أنه ليس في باب القياس أشكل من الكلام على التَّعليل بعلّتين، ونحن نتوسّط في إِيراده، فلا نُسْهب ولا نوجز، بل نأتي بما فيه مَقْنع وبلاغ، ونتوخّى طريق الحقّ على ما يظهر لنا، والله المستعان.

فنقول: يجوز تعليل الحكم الواحد نوعًا المختلف شخصًا بعلل مختلفة وفاقًا، كتعليل إباحة قتل زيد بِرِدَّته، وعمرو بالقِصَاصِ، وخالد بالزنا بعد الإِحصان، فلا يقع على صفة خاصّة وهي الرَّجْم، ولا عبرة بإِيماء من أَوْمَأَ إِلى جريان الخلاف هنا، وهذا في العِلَلِ الشرعية.

أما العقلية، فلأهل الكلام خلافٌ في ذلك، وهذا كله في الواحد بالنوع، أما الواحد بالشخص، فلا خلاف في امتناع تعليله بعلل عَقْلية.

وأما بعلل شرعية - وهو مسألة الكتاب - وذلك كتحريم المحرمة الحائض.

وزاد إِمام الحَرَمَيْنِ في كلّ من "مختصر التقريب" و"البرهان " و"التدريس": الصَّائمة، وعبارته في "مختصر التقريب": وذلك كمثل المرأة يجتمع فيها الإِحرام والحَيْض والصوم.

وقيل: إِن ذلك سهو؛ لاستحالة مُجَامعة الصوم شرعًا للحَيْض، ويحتمل أن يريد أن المَرْأة قد يجتمع فيها وَصْفان، وتَعْتورها حالتان، مُقْتضيتان للتحريم، إما إحرام وحيض، أو إَحرام وصوم.

ولذلك قال في "البرهان": مثل تحريم المرأة الواحدة بعلّة الحَيْض والإِحرام والصيام والصلاة.

فمراده: اجتماع وَصْفين، وذلك كالصِّيَام مع الصلاة، أو إلإِحرام مع الحَيْضِ، ونحو ذلك، لا أن الأربعة تجتمع، وكذا إِباحة قتل الشَّخص الواحد بردّته، وقتله الموجب للقصاص.

ورأى الغَزَالي أن يمثل بمن لمس ومَسّ وبال في وقتٍ واحد، ومن أرضعتها زوجة أخيك وأختك - أيضًا - أو جمع لبنهما وانتهى إِلى حلق المُرْضع في لحظة واحدة.

ولم يختر التمثيل باجتماع رضاع ونسب، قال: لئلا يقال: ترجّح النسب لقوته أو ردّة وحيض.

قال: لئلا يتوهّم - هنا - تعدّد التحريمات، أو قتل وردة، قال: لئلا يقال: المستحق

ص: 219

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قتلان، أو قتل شَخْصَين، أو باع حرًّا بشرط خيار مَجْهول، قال: لئلا يقال: عليه البُطْلان الحُريّة دون الخيار، قال: وهذه أَوْهَام ربّما تنقدح في بعض المواضع، قال: وإنما فرضناه في اللَّمْس والمَسّ والخُؤُولة والعُمُومة؛ لدفع هذه الخَيَالات

(1)

.

هذا كلام الغزالي ظنًّا منه أن ما مثل به واضح في اجتماع علّتين شرعيتين، وسنتكلم معه إِذا انتهينا إِلى الحِجَاجِ.

إذا عرفت هذا، ففي المسألة مذاهب:

أحدها: جواز التَّعْليل بعلّتين مطلقًا، ووقوعه، وهو رأي الجماهير، منهم: القاضي كما نص عليه في "التقريب" وفي "مختصره" أيضًا.

والثاني: المنع مطلقًا، واختاره الآمِدِي، ونقله عن القاضي وإمام الحرمين.

والثالث: أنه يجوز في المَنْصُوصة دون المستنبطة، وهو رأي الأستاذ أبي بكر بن فورك، واختيار الإِمام وأتباعه، وإليه يرشد كلام الغزالي في "المُسْتَصفى"، وإن كان أطلق تصحيح الجَوَاز في صدر المسألة إطلاقًا، ولذلك أطلق في "الوسيط" عند الكلام في زوائد المبيع، ونقله في الكتاب عن القَاضِي، ولعل ذلك مأخوذ من إِمام الحرمين، فإنه قال في "البرهان: إن للقاضي إِليه صفوًا ظاهرًا في "التقريب"، ولعلّه يريد "التَّقريب الكبير"، وأما "التقريب" الذي وقفنا عليه، فليس فيه إِلا ما ذكرناه، فحصلنا على ثلاثة آراء منقولةٍ عن القاضي.

والرَّابع: عكسه، حكاه المصنّف، ولم أره لغيره، وسبق له في النَّقض نظيره.

والخامس: ونقله في الكتاب عن إِمام الحرمين: أنه جائز غير واقعٍ، وكلام المصنف بعد ذلك صريح في أن المراد بالجواز: الجَوَاز العَقْلي، وأن إِمام الحرمين يقول بامتناعه حيث يقول: لو لم يكن ممتنعًا شرعًا، لوقع، ولو نادرًا - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - وهو نقل صَحِيح، بخلاف ما نقله الآمِدِيّ عنه؛ لأنه قال في "البُرْهَان: ليس ممتنعًا عقلًا وتسويغًا، ونظرًا إِلى المصالح الكلية، ولكنه ممتنع شرعًا.

وإذا عرفت هذه المذاهب، فهل هي جارية في التعليل بعلّتين، سواء كانتا متعاقبتين أم معًا، أو هو مختص بالمعية؟

(1)

في أ: الحالات.

ص: 220

لنَا: لَوْ لم يَجُزْ لَم يَقَعْ، وَقَدْ وَقَعَ، فَإِن اللَّمْسَ، وَالْبَوْلَ، وَالْغائِطَ، وَالمَذْيَ يَثْبُتُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الحَدَثُ، وَالقِصَاصُ، والرِّدَّةُ يَثْبُتُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَتْلُ.

قَوْلُهُمُ: الأَحْكَامُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلذَلِكَ يَنْتَفِي قَتْلُ الْقِصَاصِ، وَيَبْقَى الآخَر، وَبِالْعَكْسِ.

كلام المصنّف صريح في الأول، وسنعقد للثاني كلامًا يختصّ به، حيث يقول القائلون بالوُقُوع، وكلام غيره يقتضي الثَّاني، ويساعده تمثيل الغَزَالي بمن لمس وبال في وقت واحد، وصرح به الآمدي في الجواب عن جواب دَلِيل المانعين الآتي ذكره في الكتاب، وسأتكلم في ذلك إن شاء الله.

واعلم أنا نتكلّم على كلّ مذهب بما تصل إليه قدرتنا، إِلى أن يثبت لنا ما نختاره، فنقول:

الشرح: احتج من قال بالجَوَاز مطلقًا - وهو رأي صاحب الكتاب - بوجهين:

أحدهما: ما أشار إِليه في الكتاب بقوله: "لنا: لو لم يَجُزْ لم يقع، وقد وقع؛ فإن اللمس والبَوْل، والغائط، والمَذْي، [يثبت]

(1)

بكلّ واحد منها الحَدَث. والقصاص، والردة يثبت بكل منهما القتل".

واعترض: بأن النِّزَاع في الحُكْم الواحد، وفي هاتين الصُّورتين الأحكام متعددة؛ لأن القتل بالردَّة غير القَتْل بالقِصَاص، فلذلك [ينتفي]

(2)

القَتْل بالرِّدة، ويبقى الآخر فيما إِذا كان القاتل ارتد بعد القتل، ثم أسلم قبل القِصَاصِ، وبالعكس، أي: ينتفي القتل بالقِصَاصِ فيما إِذا عفا الوفي عن القصاص، ويبقى الآخر، وإليه أشار بقوله:

الشرح: "قولهم: الأحكام متعدّدة، ولذلك ينتفي قتل القِصَاص، ويبقى الآخر، وبالعكس.

قالوا: وأيضًا فإن القتل قصاصًا حق للآدمي، وله أحكام تخصّه، من جواز إِسقاطه، وأن له بدلًا، وأنه يستوفي بما قتل، وأنّ إسقاطه مندوب إِليه، إلى غير ذلك، والقَتْل ردّةً حقّ الله - تعالى - وله - أيضًا - أحكام تخصّه، وأجاب في الكتاب عن الأول فَقَالَ:

(1)

في ح: ثبت.

(2)

في ب: ينبغي.

ص: 221

قُلْنَا: إضَافَةُ الشَّيْءَ إِلى أَحَدِ دَلِيلَيْهِ لَا تُوجِبُ تَعَدُّدًا، وَإلَّا لزم مغايرة حدث الْبَوْلِ لِحَدَثِ الْغَائِطِ.

الشرح: قلنا: إِضافة الشَّيء إلى أحد دليليه ألا يوجب تعددًا، وإلا لزم مُغَايرة حدث البول لحدث الغائط".

والجواب بعينه يأتي في قولنا: هذا حق الله، وذاك حَقّ الآدمي.

ولقائل أن يقول: قولكم: إِضافة الشيء إِلى أحد دليليه لا يوجب تعددًا في الشيء.

قلنا: أثبتوا شيئًا [متعددًا]

(1)

، ثم قولوا هذا؛ فإِنا ننازع في أن الموجود شيء واحدٌ أو شيئان.

قولكم: وإلا يلزم مُغَايرة حدث البَوْل لحدث الغائط.

قلنا: إن أردتم مُغَايرة الخاصّين، فهو نفس مُدّعانا.

وإن أردتم ما بينهما من القَدْرِ المشترك، فليس بلازم، ولا يعترض شيئًا مما نحن فيه؛ فإن القَدْرَ المشترك بين الشَّيئين لا يوجب اتّحَادهما، وكلامنا في ذَيْنك الشَّيئين، لا في القدر المشترك بينهما.

وهذا الجواب مما استقلّ به المصنف، والآمدي لم يذكره، والاعتراض ذكره إِمام الحرمين، فقال: وقال من يخالف هؤلاء: إِنما يناط بالعلل تحريمات، ولكن لا يظهر أثر تعدده، وقد يتكلف المتكلف فيجد بين كل تحريمين تفاوتًا، وهذا بيِّن في القَتْل؛ فإن من استحق قصاصًا وقتلًا، فالمستحقّ قتلان، ولكن المحلّ يضيق عن اجتماعهما، ولو فرض سقوط أحدهما لبقي الثَّاني، فلا يكاد يصفو تحقيق تعليل حكم واحد بعلّتين تصويرًا.

وما ذكره حقّ، فما من مكان إِلا والخَصْم بسبيل من أن يدعي فيه تعدد الأحكام، وإتيانه بوجه واضح يدلّ له، وربّما لاح في بعضها وظهر ظهورًا بينًا، ومن أماكن ظهوره كفَلَقِ الصّبح: حديث البول والغائط اللذين ادّعى المصنف اتحادهما، وجعل ذلك كالأصل الممهّد ليقيس عليه - كما عرفت - وبينهما اختلاف يظهر أثره فيما إِذا نَوَى رفع أحدهما، ففي المسألة أوجه:

(1)

في أ، ب: متجددًا.

ص: 222

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أصحها: صحّة وضوئه مطلقًا.

والثاني: عكسه.

والثالث: إِن لم ينف ما عداه صح، وإلا فلا.

والرَّابع: إن نوى رفع الأول صح، وإلا فلا.

والخامس: إن نوى رفع الأخير صح، وإلا فلا، فالقول بعدم الصِّحة يشهد للتعدُّد، وإلا فلو وجد الاتحاد لصح، وكان من عيّن بعض الأحداث بمنزلة من أطلق الحدث إِطلاقًا، والقول بالصّحة لا ينفيه؛ لأنَّ من قواعد الفقهاء: أنه لا يتجرأ حدث، ذا ارتفع واحد ارتفع الآخر، فذلك لمأخذ غير ما نحن فيه.

وقد قال الآمِدِيّ

(1)

: أما المَسّ اللَّمْس وباقي الأسباب، فالأحداث المرتّبة عليها متعدّدة على رأي لنا، وعلى هذا فلو نوى رفع حدث واحد منها لارتفع الباقي اهـ.

وظاهره: أن لنا رأيًا، أنه يرتفع المنوي دون غيره، ولا يعرف هذا عن أحد، ولو قيل به، لكان نصًّا في تعدّد الأحكام واضحًا، نعم: لنا وجه فيما إِذا نوى اسْتِبَاحة صلاة بعينها دون غيرها أنه لا يصحّ الوضوء لها فقط، وذلك لا يعكر على قاعدة الأصحاب في أن الحدث لا يتجزأ، فلذلك قال به بعضهم، بخلاف الأول.

إِذا عرفت هذا، فقد بالغ قومٌ في الرَّد على من يدعي تعدّد الأحكام.

وقال القاضي أبو بكر في موضع: إِنه ركيك جدًّا.

وقال في آخر: إِنه هَذَيان يدني قائله من جحد الحَقَائق والبداهة.

قال: فإن المعوّل فيه على أن القَتْل مختلف، وهذا معلوم الفَسَاد ضرورة؛ فإِنا نعلم أن القَتْل في الردة مجانس للقتل في القصاص، ولا يختلف القتلان في حقيقتهما، فالمصير إِلى ادعاء اختلافهما جحد الضرورة، ولو ساغ ذلك لساغ أن يقال في العَقْلِيَّات: إِن العلم إِذا قام بزيد، أوجب كونه عالمًا؛ إِذ قد تغاير المَحَلّان وتباين الذّاتان، وهذا يفضي إِلى طَيّ الحقائق، وقلب الأَجْنَاس، فاستحال المَصِير إِلى القول باختلاف القَتْل، فلا يبقى لهم - بعد ذلك - معتصم إِلا الاعتراف بعين ما أريد بهم، وهو أن يقولوا: القصاص خالف قتل المرتدّ من حيث إِنه وجب بالقَتْل، وذلك وجب بالردة.

(1)

ينظر الإحكام: 3/ 220.

ص: 223

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلنا: فالآن وضح الحَقّ، ونطقتم به، ولم تشعروا؛ فإِنا أوضحنا تماثل القَتْل حقيقة.

هذا كلام القاضي، ذكره في فصل العَكْس.

ولقائل أن يقول: هنا أمور: القتل وأسبابه من ردّة، وقَتْل، وزنا بعد إِحصان، واستحقاق القَتْل، ونحن لم ندّع التعدد في القتل الذي هو محكوم به، بل في الحكم نفسه، والأسباب مختلفة بلا شَك، والقتل متحد بلا شك، كما ذكره القاضي.

وأما استحقاقه، فنقول: إِنه متعدد، فكل سبب يقتضي استحقاقًا غير الاستحقاق الحاصل بالسَّبب الآخر، فالحاصل استحقاقات، وظاهرها يقتضي تعدّد المستحق، ولكن ضاق عنه المحل - كما قدمناه - ويكفي حصول استحقاقات شاهدًا على أن الأحكام متعدّدة.

والحاصل: أنا إِنما ادَّعينا تعدّد الأحكام، لا تعدّد المحكوم به.

واعلم أن أجمع كلام في الرد على من يدعي تعدّد الأحكام، كلام الإِمام في "المحصول"، فأذكره وأتعقّبه، فأقول: قال: الدَّليل على أن الحكم واحد أن إِبطال حياة الشَّخص الواحد أمر واحد، فهو إِما أن يكون ممنوعًا منه من جهة الشَّرع بوجه ما، فهو الحرمة، أو لا فهو الحل، وإذا كانت الحياة واحدةً، كانت إِزالتها أيضًا واحدة، فكان الإِذن في تلك الإِزالة واحدًا.

فإن قلت: الفعل الواحد يجوز كونه حلالًا من وجه، حرامًا من آخر، وحينئذ يجوز أن يتعدّد حكم الحل لتعدد جهاته، فيكون الشَّخص الواحد مُبَاحَ الدَّم من حيث إِنه مرتد، وإنه زانٍ محصن، وإنه قاتل.

قلت: حُرْمة الشيء من وجه، وحلّه من آخر غير معقول؛ لأن الحلّ هو تمكين الشَّرع من الفعل، ولا يتحقق هذا [المعنى]

(1)

إِلا إِذا لم يكن فيه وجه يقتضي المنع أصلًا، بل ليس من شرط الحُرمة أن يكون حرامًا من جميع جِهَاته؛ لا الظلم حرام، مع أن كونه حادثًا وعرضًا، وحركة لا يقتضي الحرمة.

وحينئذ نقول: حلّ الدم على هذا الوجه يستحيل تعدّده؛ لأن هذا الإِطلاق يستحيل أن يتعدّد، والعلم بذلك ضروري. هذا كلام الإِمام.

(1)

في جـ: للمعنى.

ص: 224

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولقائل أن يقول: سلمنا أن إِبطال حياة الشَّخص الواحد أمر واحد.

ولكن لم قلت: إِن ما يكون طريقًا إِلى الشيء يجب أن يكون واحدًا؟.

والحكم الذي كلامنا فيه ليس [نفس]

(1)

إِبطال حياة الشخص، بل الطريق إِليه؟؛ ألا ترى أن حياة الشخص الواحد يمكن إِبطالها بضرب عنقه، وقدّه نصفين، وأمور كثيرة، فلم ادعيت أن ما نحن فيه ليس كذلك؟.

فإن إباحة القتل بالردَّة، وهو طريق واحد إلى إبطال الحياة، وحكمه أن يقتله الإِمام ما لم [يَتُبْ]

(2)

، وليس له إِسقاطه، وإباحته بالقِصَاص أن يتمكن الولي من قتله بمثل الطَّريق التي صدرت عنه، أو بالسَّيف، وله العَفْو.

وإباحته بالزنا أن يرجم، ولا يتبع إِذا هرب، فهذه طرق مختلفةٌ، غير أنها اشتركت في أمرٍ واحدٍ، وذلك لا يوجب اجْتِمَاع العلل على حكم واحدٍ، وأيضًا عصمة دم المرء المعصوم دمه حكم شرعي، وهو مشروط بأمور:

منها: الإِسلام، أو الذمة، ويناقضها الكُفْر مع الحِرَابة.

ومنها: العِفَّة، ويضادها الزِّنَا.

ومنها: العَدْل، ويضاده القَتْل ظلمًا، ويختل كل واحد منهما بواحد من هذه الأفعال.

قال إمام الحرمين في تقدم الأمن [بالعفة]

(3)

استمكانًا من تقدير [التعدد]

(4)

في الموجبات بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف.

قلت: ونظير هذا في الأمور العقلية أن حياة الشَّخص الواحد مشروطةٌ بشروط: منها: بقاء الأعضاء الرَّئيسة على أَمْزِجَتِهَا المعينة.

ومنها: إِيصال بعضها ببعض، وغير ذلك، وكل ما يحصل في البدن مبطلًا لواحد من هذه الشروط يصير سببًا لإبطال الحياة لا جَرَم أن تعددت أسباب إِبطال الحياة، فإذا فرضنا اجتماع عدّة منها، لا نقول: إن العلل الكثيرة تواردت على معلول واحد.

(1)

سقط في أ، ج.

(2)

في أ، ت: يثبت.

(3)

في ب: بالفقه.

(4)

في ب: التعذر.

ص: 225

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإِذا فرضنا دفعةً واحدة: حَزّ رقبة شخص، وقدّه نصفين من شخصين معًا، لا يقال: اجتمع هاتان العلّتان على معلول واحد؛ إِذ لا يتصور ذلك في العلل التامّة المؤثرة، وكل ما ذكر عذرًا في هذه الصّورة كان عذرًا لنا في دفع ما ذكر من الدَّليل، ولسنا بالمُعْتذرين عن العلل العقلية؛ إِذ لا حقيقة لها عندنا، وتحقيق ذلك في علم الكلام، ولكنا نُحِيلُ الأمر على الإمام.

ومما يوضح أن الأصحاب يدعون تعدّد الأحكام أن ابن الحَدّاد قال فيما إِذا بيع شِقْص فعفا أحد الشَّفيعين، والآخر غائب، ثم مات الغائب بعد عفوه، والعافي الحاضر وارثه: كان له أن يأخذ بالشُّفْعَة؛ فإِنه وإن عفا أول مرة، فإِنما يأخذ من وجه غير الوجه الذي عَفَا منه؛ ألا ترى أنه لو عفا عن قاتل أبيه، وقد قتل القاتل أيضًا ابن أخي العافي، فمات أخوه، وهو وارثه، كان له أن يقتله بابن أخيه؛ لأنه وإِن عفا عن دم أبيه، لم يَعْفُ عن دم ابن أخيه، ودم أبيه غير دم ابن أخيه؟.

ووافق الأصحاب ابن الحَدّاد في الفُتْيَا، ومنعوه السَّببية؛ لأنه إِذا عفا عن دم الأب، فلا يعود إِليه أبدًا، ولا يجوز القتل به، فأما قتله، فبسبب قتل آخر ثبت له، وأما في مسألتنا، فإِنه عفا عن شُفْعَةٍ ثبتت له بِعَقْدٍ، ثم يعود إِليه ذلك الحق بعينه إِرثًا؛ لأنه لما عفا ثبت لأخيه عين ذلك الحق، ثم عاد بالمِيرَاث. [ذكره]

(1)

الشيخ أبو عَلِيّ عن الأصحاب، وهو يشهد لتعدّد القتل، وإِلا كان في نفسه واحدًا، وإِن اختلفت الإِضافة والعفو أولًا إِنما هو عن قتل مضَاف للأب، لا عن مُطْلق القتل.

وأما قوله: إِن الحل لا يتحقق إِلا إِذا لم يكن فيه وجه يقتضي المنع أصلًا، فإِن أراد إِذا لم يكن في موضع الحلّ، فمسلّم، ولا يجد به نفعًا، وإِن أراد من كل وجه، فممنوع، بل تثبت الإِباحة مُضَافة إِلى سببها، والحُرْمة مضافة إِلى سببها، كما تقرر في الصَّلاة في الدَّار المَغْصُوبة، فإِذا عقل اجتماع الوُجُوب والتَّحْريم هناك، عقل اجتماع التَّحريم والإِباحة هنا.

فالحَقّ في هذه المسألة اجتماع إِباحات، كل إِباحة مضافة لِسَبَبِهَا، كما يجتمع تحريمات في الزَّاني بذات المحرم صائمًا في الحرم، في الإِحرام بالحج؛ لتعدّد الأسباب،

(1)

في أ، ت، ج: ذكر.

ص: 226

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولو لم تتعدّد، كان التحريم واحدًا، فيستوى إِثمه وإِثم من زنى بأجنبية مفطرًا، لا في الحرم، ولا [في]

(1)

الإِحرام.

لا يقال: جاز أن يكون أحد التَّحريمين أغلظ؛ لأنا نقول: تلك الغِلْظة إِنما هي بهذه الزِّيَادات، ولا نعني بتحريم آخر شيئًا غيرها، فلا يستوي رجل أتى امرأة حلالًا ظنّها بعض الأجانب، وهو حقًّا معتدى، مع محرم وطيء أمةً متعمدًا يوم الخميس بـ "مكة" في المسجد، ومن أجل تعدّد الحرمات وقع الانفصال عن سؤال من قال: قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: الآية 230]، مع ما تمهّد من مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها، يقتضي حلها إِذا نكحت زوجًا غيره، وهي إِذ ذاك زوجة الغير، لا سبيل إِلى تحليلها، ووجه الانفصال: أن الزائل بنكاحها زوجًا غيره تحريم الثلاث، والباقي التحريم الناشئ عن كونها أجنبيةً، الكائن مع تحريم الطَّلاق، ففي اجتماع الثلاث تحريمان زال أحدهما بالنكاح، وبقي الآخر، فوضح أن الحق اجتماع الحرمات، والإِباحات، والوجوبات باجتماع الأسباب.

وأما قوله: "الظلم حرامٌ، مع أن كونه حادثًا وعرضًا وحركة" لا يقتضي الحرمة، وهو شاهد لنا، ومخالف لما ذكره؛ إِذ قد أثبت التحريم من وجه دون وجه.

وكذا نقول في الإِباحة: إِنها تختص ببعض الوجوه، وتحصل متعدّدة بتعدّد الوجوه والأسباب، لا فرق بينهما.

ثم قال الإِمام: قولكم: الدليل على التغايُرِ أنه لو أسلم - يعني: القاتل المرتد - زال أحد الحكمين، وبقي الآخر.

قلنا: لا نسلّم أنه يزول أحد الحكمين، بل يزول كون ذلك الحكم معللًا بالرّدة، فالزائل ليس هو نفس الحلّ، بل وصف كونه معللًا بالردة.

ولك أن تقول: لو لم يزل ذلك الحل، لكان مستمرًا بدون علّة؛ فإِنه لا أثر للزائل في المستمر، بل التَّحقيق أن الحلّ المضاف إِلى الردة زال، وبقي حل آخر.

ثم قال: قولكم: ولي الدَّم مستقلّ بإِسقاط أحد الحكمين.

(1)

سقط في أ، ب، ت.

ص: 227

وَأَيْضًا: لَوِ امْتَنَعَ لامْتَنَعَ تَعَدُّدُ الأَدِلَّةِ؛ لأَنَّهَا أَدِلَّةٌ.

قلنا: ممنوع، بل هو متمكّن من إِزالة أحد الأسباب، فإِذا زال ذلك السَّبب، زال انْتِسَاب ذلك الحكم إِليه، لا الحكم نفسه.

ولك أن تقول: السبب هو كونه قتل من يعاديه، وذلك لا يزول بشيء من أفعال الولي، إِنما الزائل بِعَفْوِ الولي وجوب القصاص الذي هو أثر السَّبب، وليس الولي متمكنًا إِلا من إِزالة الحلّ الثابت له، وهذا الزوال يستدعي سببًا، ولا سببًا غير عفوه، فالذي زال بالعفو ما كان ثابتًا، وليس هو إِلا الحلّ.

ثم إِنا نقول: إِن كان الزائل بالعفو شيئًا آخر غير حلّ القتل، فموجب القاتل ظلمًا هو ذلك الشيء؛ لأن العفو يسقط موجب الجِنَايَةِ، فإِن كان موجب الجناية غير الحلّ، فلا يلزم اجتماع العِلَلِ على حكم واحدٍ، وهكذا نقول في سائر الصُّور المذكورة من اجتماع الإِحرام والحيض، وفي صورة الرِّضَاع، ونحوها، فاعتبره.

الشرح: الوجه الثاني من الوجهين اللذين استدلّ بهما من قال باجتماع علّتين: ما أشار إِليه في الكتاب بقوله: "و أيضًا: لو امتنع" التعليل بعلّتين "لامْتَنَعَ تَعدّد الأدلة؛ لأنها"، أي: العلل الشرعية "أدلة": لكونها معرفة للأحكام، وتعدّد الأدلة غير ممتنع. هذا كلام المصنف، وسنعيده غير مرة.

ولقائل أن يقول: العلة إِما أن تكون عندك بمعنى المعرف، أو شيء آخر، فإِن فسرتها بـ"المعروف" - كما هو الصَّواب - فهي والأدلّة سواء، والخلاف فيهما واحد، والخصم ناطق بامتناع تعدّد الأدلّة، والحاصل أن المعرفات الأدلّة، فلا يقاس الشيء على نفسه.

وإن فسرتها بشيء آخر، إِما الباعث أو غيره، فالمُلازَمة غير قائمةٍ؛ لوضوح الفرق، وعند هذا نقول: كان أحقّ معنى به تفسير العلّة، ثم نذكر بعده الاختلاف.

وأصحابنا كلهم يقولون: إِنها الأمارة، والمصنّف والآمدي يفسّرانها بـ "الباعث"، فإِن جرى المصنف على مِنْهَاجه، فالمذاهب التي حكاها أَجْرَاها في غير موضعها؛ لأن أصحابنا أجمعين لا يفسّرونها إِلا بـ"المعروف"، منهم: القاضي، وإمام الحرمين اللذان صرّح باسمهما.

وأيضًا: لا يصحّ القياس لوجدان الفَارِقِ بين الأَمَارة والباعث.

ص: 228

الْمَانِعُ: لَوْ جَازَ لَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ؛ لأَنَّ مَعْنَى اسْتِقْلالِهَا ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِهَا، فَإِذا انْفَرَدَت ثَبَتَ الْحَكْمُ بِهَا، فَإِذَا تَعَدَّدَتْ تَنَاقَضَتْ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى اسْتِقْلالِهَا أَنَّهَا إِذَا انْفَرَدَتِ اسْتقَلَّتْ؛ فَلا تَنَاقُضَ فِي الْتَعَدُّدِ.

وأيضًا: قوله: لأنّها أدلّة، مدخول؛ لأنّ الأدلّة: المعرف بلا رَيْبٍ، وما هي والحالة هذه إِلا بواعث.

الشرح: واحتج "المانع" من التَّعْليل بعلّتين مطلقًا بثلاثة أوجه:

أحدها: وإليه الإِشارة بقوله: "لو جاز، لكانت كلّ واحدة مستقلّة غير مستقلة؛ لأن معنى استقلالها: ثبوت الحكم بها، فإِذا تعددت تناقضت".

وهذا ما اعتمده الآمدي، وتقريره أن يقال: لو علل الحكم الواحد بعلّتين، لم يخل إِما أن تستقلّ كلّ واحدة بالتَّعْليل، أو لا تستقلّ، بل لا تتمّ إِلا بمجموعهما، أو تستقلّ إِحداهما به دون الأخرى، والأقسام الثلاثة باطلةٌ، فالتعليل بعلل باطل.

أما الأول: فلأنه لا معنى لكون الوَصْف علّة مستقلة إِلا أنه علّة له دون غيره، فلو كانت كلّ واحدة منها مستقلّة بهذا التفسير لزم ألا تكون كلّ واحدة منها علّة، فضلًا عن أن تكون مستقلة.

وأما الثاني: فلأنه على نَقِيضِ ما فَرض من الملزوم، فكان باطلًا، وبتقدير ألّا يكون باطلًا، قالمقصود حاصل؛ لأنه حينئذ لا يكون ذلك الحكم معللًا إِلا بعلّة واحدة.

وأما الثالث: فللزوم تَرْجِيح أحد الجَائزين، وبتقدير ألا يكون جائزًا، فالمقصود حاصل على ما عرف.

الشرح: "وأجيب: بأن معنى استقلالها: أنها إِذا انفردت استقلّت، فلا تناقض في التعدد"، أي: ليس معنى استقلالها ما ذكرت، بل إِنها إِذا انفردت استقلّت بالعلّية، فيجوز أن تكون كلّ واحدة منها حالة الانفراد مستقلة، وحالة الاجتماع غير مستقلة، فلا يلزم التناقض حالة التعدُّد؛ لعدم استقلال كلّ منها حينئذ.

فالتناقض إِنما نشأ من استقلالها حالة التعدّد، و "حينئذ فقد فسرنا الاستقلال بخلاف ما فسرتموه.

ص: 229

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والآمدي قد أجاب في "الإِحكام"

(1)

غير هذا الجواب، بأنَّ الكلام مفروض في حالة الاجتماع دون الانفراد، والتَّقسيم في حالة الاجتماع، على ما سبق.

ولكن الشيخ الهِنْدِيّ ضعفه: بأنه ليس معنى قولنا: "إِنه لو وجد منفردًا حالة الاجتماع، حتى يكون فرض حالة الاجتماع" منافيًا له.

بل معناه: أن العلة المستقلّة ماله هذه الحيثيّة، ومعلوم أن فرض حالة الاجتماع لا ينافي هذا المفهوم، ويرجع حاصل الكلام حينئذ إِلى أنه لم لا يجوز حينئذ أن يكون [الحكم]

(2)

معللًا بكلّ واحد من العلل المختلفة التي شأنها أنه لو وجدت واحدة منها وحدها لاستقلت [بالإِيجاد]

(3)

؟.

ومعلوم أن التقسيم المذكور في الدَّليل لا يبطل هذا الاحتمال. انتهى.

ولقائل أن يقول: هذه العلّة التي شأنها أنها لو انفردت لاستقلّت كلّ واحدة منها، لا بُدَّ أن يكون لها شأن إِذا اجتمعت؛ لأن الحكم على العلل من حيث هي أعم منه حالة الانفراد والاجتماع، فإذا قضيت على حالة الانفراد بقضاء، فبماذا تقضي على حالة الاجتماع؟.

فإِن قضيت بأن شأنها استقلال كلّ واحدة عند الانفراد، وعدم الاستقلال عند الاجْتِمَاع، فالمستقلّ حالة الاجتماع مجموعها، لا كلّ فرد، ونحن لا نعني بالعلّة إِلا ما يستقل، فلا علّة حينئذ إِلا المجموع، وهو واحد، فأين اجتماع علل على معلول واحد؟.

وإِن قضيت بأنَّ شأنها الاستقلال في الحالتين، عاد التقسيم بحاله.

والحاصل: أن العلل التي شأنها الاستقلال حالة الانفراد، لا نسلّم أنها حال الاجتماع عِلَل، بل علّة واحدة، ونحن لا ننكر عللًا، بحيث لو انفرد كلّ منها أفاد، وإِنما ننكر الاستفادة من كلّ فرد فرد حالة الاجتماع، كما ستعرف تحقيقه.

فقد وضح أن الدليل صحيح، منتهض على امتناع اجتماع علّتين على معلول واحد،

(1)

ينظر: الإحكام 3/ 218.

(2)

في ت: تحكم.

(3)

في أ، ب، ت: الاتحاد.

ص: 230

قَالُوا: لَوْ جَازَ لاجْتَمَعَ الْمِثْلانِ، فَيَسْتَلْزِمُ النَّقِيضَيْنِ؛ لأَنَّ الْمَحَلَّ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا غَيْرَ مُسْتَغْنٍ، وَفِي التَّرْتِيبِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.

قُلْنَا: فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَأَمَّا مَدْلُولُ الدَّلِيلَينِ فَلا.

وهو كما ذكره الآمدي وجارٍ سواء أفسرت العلة بالأمارة أم الباعث، واقتصر الآمدي على ذكره؛ لأنه لو أورد دليلًا يختصّ بالأمارة، لكان على خلاف ما يفسر هو به العلّة، أو بالباعث، لكان في غير محل تنازع القوم؛ إِذ هم لا يتنازعون إِلا فيما هو مصطلحهم، فأورد دليلًا يأتي على المذهبين.

الشرح: والوجه الثاني: ما أشار إِليه بقوله: "قالوا: لو جاز لاجتمع المِثْلان، فيستلزم النقيضين؛ لأن المحلّ يكون مستغنيًا غير مستغن، وفي الترتيب تحصيل الحاصل".

وفي عبارته قَلَق، فلنقرر الوجه واضحًا، ثم نشرحها، فنقول: اجتماع علّتين على معلولٍ واحد يفضي إِلى أحد أمور ثلاثة، إِما اجتماع المِثْلين، أو تحصيل الحاصل، أو نقض العلّة.

وبيان الملازمة: أنه إِذا وجدت علّة من تلك العلل، لا بد أن تقتضي حصول الحكم، وإِلا يحصل النقض، سواء اقتضت غيره أم لم تقتض شيئًا؛ لوجدان التخلّف، وهو باطل؛ لما تقدم.

فإِذا حصلت العلّة الثانية، فإِن اقتضت حصول ذلك الحكم بعينه لزم تحصيل الحاصل، أو مثله، لزم اجتماع المِثْلَين، ويلزم على تقدير اقتضائها غير الحكم، ومثله: أن يكون مقتضاها غير مقتضى الأولى، فلم يتواردا على مَعْلُول واحد، وهو المدعى، وكذلك فيما إِذا اقتضت مثله؛ لأن مثل الشيء غيره، وهنا مَعْلُولان لا معلول واحد، وهذا دليل ناهض، سواء حصلت العلّتان معًا، أم على التعاقب، إِلا أنّ المعيّة تختص باجتماع المثلين، ولا يأتي فيها تحصيل الحاصل، وأنت ترى المصنّف كيف قرر هذا الدليل على وجه آخر.

وتقريره أن يقال: لو جاز التَّعليل بعلّتين مستقلتين، لزم اجتماع المثلين، أو تحصيل الحاصل؛ لأنّ العلتين، إِما أن تكونا معًا أو على الترتيب، فإِن كانتا معًا، يلزم اجتماع المثلين؛ لأن وجود العلّة المستقلة ملزومة لمعلولها، فيلزم من كلّ واحدة منهما مثل ما لزم من الأخرى، فيلزم اجتماع المثلين، وإن كانتا على التَّرْتيب يلزم تحصيل الحاصل، ولم

ص: 231

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يحتج إِلى بيان تحصيل الحاصل؛ لظهوره، وبيّن استحالة اجتماع المثلين، فإِنه يستلزم التناقض؛ لأن محل التعليل [يعني]

(1)

الحكم، يكون مستغنيًا عن كلّ واحدة منهما غير مستغن؛ لأنّ حصول الحكم بكلّ واحدة منهما يوجب الاستغناء عن الأخرى.

واعترضه بعض الشَّارحين: بأن الجمع بين المِثْلَيْن لا اختصاص له بالمعيّة، ولا تحصيل الحاصل بالترتيب؛ إِذ لو حصلت العلّتان معًا، أو ترتيبًا، فإِن كان تأثير الكلّ في واحد معيّن، كان تحصيل الحاصل، وإِن كان في غيره لزم اجتماع المثلين.

وزيّفه شيخنا شمس الدِّين الأَصْفهاني رحمه الله بأن اختصاص تحصيل الحاصل بالترتيب [ظاهر]

(2)

؛ لأنّ العلّتين إِذا حصلتا معًا، كان فعلهما أيضًا معًا، فلا يتصوّر تحصيل الحاصل في فعل واحد منهما؛ لأن تحصيل الحاصل إِنما يتصور إِذا حصل شيء بعد حصوله مرة أخرى.

قال: وأما اجتماع المِثْلين، وإِن كان لا اختصاص له بالمعيّة، إِلا أنه لما كان الترتيب مستلزمًا لتحصيل الحاصل، وتحصيل الحاصل أظهر فسادًا من اجتماع المِثْلين، لم يتعرض في التَّرْتيب لاجتماع المثلين، بل بين استلزامه لما هو أظهر فسادًا منه.

ثم قال المعترض: ولم يحتج في لزوم الاستغناء وعدمه إِلى توسُّط الجمع بين المِثْلَيْن، وهذا حقّ.

وقد أجاب في الكتاب عن هذا الوجه بقوله: "قلنا": اجتماع المِثْلَين، أو تحصيل الحاصل إِنما يلزم من العلّتين المستقلتين "في العلل العقليّة" المفيدة لوجود المعلول. "فأما" في العلل الشرعية التي هي دلائل الأحكام، فلا؛ ولأنها "مدلول الدليلين، فلا" بعد، ولا امتناع في دليلين على مدلول واحدٍ.

وفي هذا الجواب من النَّظر ما قدمناه؛ فإِن المعترض يقول: إِن فسرت العلّة التي فيها نتحدث بـ "المعرف"، فلا نسلم جواز اجتماع دليلين لشخص واحد، وهو محل النزاع، أو الباعثِ، فالفرق بين الدَّليلين والباعثين قائم، ولو أن المصنّف أجاب هنا بأن قولكم: العلّة

(1)

في أ: معنى.

(2)

سقط في ب.

ص: 232

قَالُوا: لَوْ جَازَ لَمَا تَعَلَّقَ الأئِمَّةُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا بِالتَّرْجِيحِ؛ لأَنَّ مِنْ ضَرُورَتِهِ صِحَّةَ الاِسْتِقْلالِ.

المستقلة ملزومة لمعلولها، غير مسلّم فيما نحن فيه من العلل الشرعية؛ إِذ الملزوم لمعلوله إِنما هو العقلية.

أما الشرعية فلا نعني باستقلالها ذلك، بل إِنها إِذا انفردت لزمها المعلول، فكان جاريًا على المنهاج الأول الذي [سلكه]

(1)

في الجواب عن الدليل الأول.

فإِن قلت: وماذا يجديه هذا، وقد أوضحت بطلانه آنفًا؟

قلت: يقول: لا نسلّم أنها تستلزم معلولها، بل قد يتخلّف عنها المعلول، وغاية ما يلزم نقض العلة، وهو غير قادح في العلية إِذا كان لمانع كما في مسألتنا.

فإِن حصول الحكم أولًا مانع من حصوله ثانيًا، وحصوله بإِحدى العلّتين إِذا وقع معًا، مانع من حصوله بالأخرى، وعندي هذا يظهر لك أنه لا بد من أخذ النقض قسمًا من أقسام الدليل، ويقال: اللازم من التعليل بعلّتين تحصيل الحاصل، أو اجتماع المثلين، أو النقض، كما أوردناه نحن، ويظهر لك - أيضًا - أنه إِنما يتم عند من يجعل النَّقض قادحًا مطلقًا، سواء أكان لمانع أم لا - وهو رأينا - ويظهر لك - أيضًا - أن التعليل بعلّتين من فروع مسألة النَّقْض كما قدمناه في النقض.

الشرح: الوجه الثالث: ما أشار إِليه في الكتاب بقوله: "قالوا: لو جاز لما تعلّق الأئمة في علّة الربا بالترجيح؛ لأن من ضرورته صحة الاستقلال".

وتقريره: أن الأمة اجتمعت على منع التعليل بعلّتين، فدلّ أنه لا يجوز، وإنما قلنا: إِن الأمة اجتمعت؛ لأن القياسيين أجمعوا، وهم علماء الأمة الذين يعتبر خلافهم ووفاقهم.

وأما من ينكر القياس، فلا يقيم أهل التَّحقيق بخلافه ووفاقه وزنًا، وإِنما ادَّعينا إِجماع القياسيين؛ لأن السَّلف الماضين اختلفوا في الرِّبا وعلّته اختلافًا بينًا، ولم يتركوا متخيلًا إِلا وأبدوه، مع إِطباقهم على اتِّحَاد العلّة فيه، وإِمكان أن يقال: إِن العلل متعددة، وأن يجعل الكَيْل والطّعم والقوت عللًا مجتمعة على معلول واحد، ولم يبد ذلك منهم أحد، ولا قاله فيهم قائل، فدلّ على منع التعدّد.

(1)

في أ، ب: تسلكه.

ص: 233

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثم نندفع في إِيضاح هذا التقرير، فنقول: كلّ من الطّعم، والكَيْل، والقُوت معنى مخيل يصلح أن يناط به الحكم، وليس من شرط اجْتِمَاع العلل ألا يكون بعضها أرجح من بعض، بل جاز أن تكون علّتان إِحداهما أنسب، وأرجح، وأكثر تخيلًا، ولا يلزم من رجحان إِحداهما بطلان الأخرى، بل قد يتعاضدان؛ فإِن الترجيح إِنما يبطل به عند التعارض، أما عند التعاضد فلا، بل ولا فائدة في تطلبه، وقد تطلبوا التَّرجيح، وهذا لا شكّ فيه ولا ريب، فإِن كلّ ذي علّة يذهب في ترجيحها كلّ مذهب، فلولا اعتقاد امتناع التعدد لما تطلبوا الترجيح، بل كانت مناسبة كلّ واحدة من هذه الأشياء كافية في كونه علة، ومناسبة الآخر لا تمنع، ويجتمع العلّتان على المعلول الواحد.

وقد علمنا أن كلّ من أبدي وجهًا، وأخذ في ترجيحه على وجه صاحبه اكتفى بذلك مبطلًا لعلّة صاحبه، وما ذلك إِلا لامتناع التعدُّد، وإِلا كان صاحبه بسبيل من أن يقول: هَبْ أن ما أبديته أنسب وأرجح، إِلا أنه لا تعارض بيننا، فليكن المعنيان علّتين.

وقد علم كلّ ذي لبّ، أن من ضرورة التَّرْجيح استجماع شرائط الصِّحة، فإِنما يرجح أحد الأمرين على الآخر عند اجتماعهما، ما لو انفرد كلّ واحد منهما [وعَرَا]

(1)

عن صاحبه - لعمل بمقتضاه، كما تقول في الحديثين المُتَعَارضين والبيّنتين المتعارضتين.

وحاصل هذا الوجه عند الاختصار: أنهم قد بحثوا في التَّرْجيح بين الطّعم، والكَيْل، والقوت، ولو لم يكن كلّ من الثلاثة مناسبًا مخيلًا، بحيث لو انفرد عمل به، لما وقع البحث في الترجيح؛ فإِنه لا ترجيح بين باطل وصحيح، إِنما الترجيح عند تعارض الصَّحيحين كما عرفت، وإِذا كان كلّ واحد منهما مناسبًا مخيلًا، فلا وجه للتَّرْجيح إِلا مع التعدد، فإِن الترجيح الذي قلنا: إِنه وقع منهم بيّن علل الرِّبا، إِما أن يكون لأن أحد الوصفين أنسب وأخيل من الآخر، أو لأن الآخر باطل بالكلية.

والأول باطل؛ لأنّ راجحية أحد الوصفين على الآخر لا تخرج الآخر عن كونه وصفًا مناسبًا مخيلًا صالحًا للعلّية، وإِذا لم تخرجه، وليسا متعارضين فأي فائدة في قولنا: هذا أرجح؟

وبحثنا عن ذلك البحث الشَّديد الشَّائع الذَّائع المستفيض بين السلف الماضين.

(1)

في أ، ج: عزا.

ص: 234

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وللمناظر أن يقول: هب أن ما أبديته أرجح، ولكن لم يتعارضان ويتناظران؟

والثاني: وهو أن يكون البحث لِبُطْلان الآخر، فبطلانه لا جائز أن يكون لكونه غير مناسب مخيل؛ إِذ الفرض أنه مناسب مخيل، ولولاه لما وقع التَّعَارض، فما بقي إِلا لأن يكون لأن مجرد إِبداء وصف أنسب منه يخرجه عن الاعتبار؛ لعدم جواز تعدُّد الأوصاف.

هذا منتهى الوجه وغايته، وقد تضمن أمورًا:

أحدها: إِجماع القياسيين على اتِّحَاد علّة الرِّبا. والثاني: تطلبهم الترجيح، وتعصبهم فيه.

والثالث: أن الترجيح إِنما يكون بين صحيحين لو انفرد كلّ منهما لعمل به.

والرابع: أنّ كلا من علل الرِّبا صحيح [مناسب]

(1)

لو لم يلح للمجتهد سواه لعمل به.

وقد أجيب عن هذا الدليل بأوجه:

أحدها: وهو ما ارتضاه إِمام الحرمين في "البرهان"، و"الأساليب" - منع وقوع الإِجماع، وتبين سَنَد المنع يتوقّف على معرفة قاعدته في الربويات، فنقول: حاصل رأيه الميل إِلى اتباع النص، وإِثبات الرِّبا في كلّ مَطْعُوم بقوله عليه الصلاة والسلام:"لا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ".

قال: وأما [النَّقْدَان]

(2)

فمنصوصان، وتحريمهما غير متعدّ، فلا ضرورة تحوج إِلى ادعاء علّة قاصرة، وحينئذٍ فالإِجماع على اتّحاد العلّة إِنما هو من القائلين بالتعليل في هذه المسألة، وقد وضح أن الأمة كلها لم تقل بالتعليل، بل منهم من أجرى مورد النَّص مورد التعبد، وقال في قوله عليه الصلاة والسلام:"لا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ": إِنه في حكم اللَّقب؛ لعدم صلاحية الطّعم للعلية، وعلية الطّعم لا تثبت بانتفاء ما عَدَاه من الأوصاف، بل لا بُدّ من إِثبات مناسبته في نفسه، وعلى هذه الطريقة إِمام الحرمين، وإِجماع القياسيين مع مُخَالفة بعض المجتهدين ليس بإِجماع، وهذا معنى قوله في "البرهان" أولًا: إِجماع أهل

(1)

في أ، ت، ج: يناسب.

(2)

في ب: التقديران.

ص: 235

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القياس على اتحاد علّة الرِّبا، ومراده - هنا - بأهل القياس: الذين ذهبوا إِلى التعليل، لا كلّ من قال: القياس حجّة، ثم نتكلم عليه من أوجه.

منها: أن تعليل ربا الفضل ليس مقطوعًا به عند المحقّقين

(1)

، وليس منكر تعليله منتسبًا إِلى جحد القياس.

فانظر قوله: "ليس منكر تعليله منتسبًا إِلى جَحْد القياس"، يتضح لك أنه إِنما أراد من قاس في هذا الموضع، لا من قاس مطلقًا.

وقد فهم الشيخ الهِنْدِيّ عنه خلاف ذلك، وليس بِجَيِّدٍ، فلو أراد مطلق من قال بالقياس، [لا ينتهض]

(2)

الإِجماع؛ إِذ منكر أصل القياس لا تقدح مخالفته في الإِجماع، كما قرر إِمام الحرمين وغيره.

وقد أنكر الإِمامان: عبد الله بن مَسْعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما ربا الفَضْل، وتبعهما من التابعين: عطاء بن أبي رباح، وفقهاء المَكّيين، وكل هؤلاء يقولون: بأن القياس حجّة متبعة، وقاعدة مشروعة

(3)

.

(1)

ينظر: البرهان 1/ 821.

(2)

في ب: ينهض.

(3)

لا خلاف بين العلماء في أن الرِّبا يكون في البيع أو السلم أو القرض غير أن جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار يرون أن الرِّبا نوعان. أحدهما: ربا النسيئة، كبيع ذهب بفضة إِلى أجل، أو بيع إِردب قمح بمثله إِلى أجل كذلك.

وثانيهما: ربا الفضل، وهو ما يسمى ربا النقد، كبيع إِردب من البر بإِردب ونصف منه يدًا بيد. وخالف في ذلك ابن عباس وأسامة بن زيد من الصحابة وكذلك ابن عمر حيث قالوا: إِنه لا ربا إِلا في النسيئة، فيحل عندهم أخذ درهم بدرهمين إِذا كان يدًا بيد، وليس التفاضل عندهم بمحرم حينئذ.

هكذا كانوا يقولون، ثم صح عنهم أنهم رجعوا عن ذلك إِلى قول الجمهور.

استدلّ الجمهور بالكتاب والسنة، أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} ووجه الدلالة فيه أن لفظ الرِّبا عام يتناول جميع أفراد ما يصدق عليه اسم الرِّبا، فيكون الكل محرمًا. وأما السنة: فما ثبت في الصحاح من كتب السنة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذهب بالذهب مثلًا بمثل يدًا بيد، والفضل ربا، والفضة بالفضة مثلًا بمثلٍ يدًا بيد، والفضل =

ص: 236

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ربا، والحنطة بالحنطة مثلًا بمثلٍ يدًا بيد، والفضل ربا، والملح بالملح مثلًا بمثل يدًا بيد والفضل ربا، والشعير بالشعير مثلًا بمثل يدًا بيد والفضل ربا، والتمر بالتمر مثلًا بمثلٍ يدًا بيد والفضل ربا" وهذا حديث مشهور تلقاه العلماء بالقبول والعمل به، ومثله حجة في الأحكام ومداره على أربعة من الصحابة رضوان الله عليهم وهم عمر بن الخطاب وعبادة بن الصامت ومعاوية بن أبي سفيان وأبو سعيد الخدري مع اختلاف ألفاظهم.

ووجه الدلالة فيه: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "مثلًا بمثلٍ" يدل بمفهومه على أن الزيادة لا تحل، سواء أكانت حالة أو مؤجلة، ثم تأكد هذا المعنى بتصريحه عليه الصلاة والسلام بقوله:"والفضل ربا" فصار ربا الفضل مندرجًا تحت أنواع الرِّبا. وقد حرم الله الرِّبا في كتابه فكان هذا حرامًا.

ومثل ذلك ما جاء في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أرْبَى" وهذا نص في الموضوع.

دليل المروي عن ابن عباس ومن معه:

استدلّ لهم الفخر الرازي بما يأتي:

أولًا: بالكتاب: وهو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ووجه الدلالة فيه أن لفظ البيع عام يتناول بيع الدرهم بالدرهمين، والربا خاص بربا النسيئة الذي كان مشهورًا في الجاهلية.

والحديث عنده خبر آحاد لا ينهض مخصصًا للآية.

ثانيًا: بالسنة: وهي حديث أسامة عند الشيخين وغيرهما بلفظ: "إِنما الرِّبا في النسيئة" وزاد مسلم عن ابن عباس: "لا رِبَا فِيمَا كانَ يَدًا بيدٍ" وأخرج الشيخان عن أبي المنهال "قال: سألت زيد بن أرقم والبراء بن عازب عن الصرف فقالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا" ووجه الدلالة في هذه الأحاديث:

أن الرواية الأولى قد قصرت الرِّبا المحرم على ربا النسيئة فقط. والرواية الثانية نصت على نفي الرِّبا عما إِذا كان يدًا بيد. أما الرواية الثالثة فقد صرحت بأن النهي عن الرِّبا في حالة الدين فقط، ويؤخذ منه بطريق المفهوم إِباحته عند المنجزة.

وقد ناقش الجمهور أدلة المنسوب إِلى ابن عباس ومن معه بعدة مناقشات منها:

1 -

لا نسلم أن لفظ الرِّبا في الآية خاص؛ بل عام أيضًا، فكلما أحلت الآية كلّ بيع إِلا ما أخرجه الدليل حرمت كلّ ربا كذلك، ولا شك أن في ربا الفضل زيادة كربا النسيئة، بل هي فيه أوضح. ولذا سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم ربا بقوله:"فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى" فيكون مشمولًا بالآية.

2 -

لو سلمنا أن لفظ الرِّبا خاص بربا النسيئة، فقد ألحقت السنة المشهورة به ربا الفضل، وليس صحيحًا كون الحديث خبر آحاد - كما يقول الرازي - بل هو مشهور يصح الاحتجاج به في الأحكام، وتجوز الزيادة به على الكتاب عند الحنفية.

3 -

وأما رواية مسلم عن ابن عباس فموقوفة عليه.

ص: 237

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 4 - ورواية الشيخين عن أبي المنهال لا دلالة فيها على حلّ ربا الفضل. أما عند القائلين بعدم حجية المفهوم فظاهر، وأما القائلون بحجيته فيخصصونه بحديث أبي سعيد السابق على أن هذا من كلام الراوي.

5 -

أجابوا عن حديث أسامة بعدة إِجابات منها:

أولًا: إِنه منسوخ، وهذه إِجابة ضعيفة؛ لأن النسخ لا يثبت إِلا بدليل تاريخي، ولم يوجد.

وأقوى من هذا الأجوبة التالية، وهي:

ثانيًا: أن لفظ الرِّبا في حديث أسامة محمول على الرِّبا الأغلظ، فليس القصر حقيقيًّا، بل هو إِضافي، أو ادعائي.

ثالثًا: أن مفهوم حديث أسامة عام يشمل حلّ التفاضل في هذه الأصناف، وغيرها. وحديث أبي سعيد خصص هذا المفهوم، فمنع بمنطوقه التفاضل في الأصناف الربوية.

وقريب من هذا ما أجاب به الشافعي رضي الله عنه من أن حديث أسامة مجمل وحديث أبي سعيد وعبادة مبيّن، فوجب العمل بالمبيّن وتنزيل المجمل عليه.

رابعًا: وهناك تأويل آخر لحديث أسامة يجبب به بعض الفقهاء، وهو أنه كان إِجابة لمن سأل عن بيع الحنطة بالشعير، أو الذهب بالفضة فنقل الراوي الإِجابة، ولم ينقل السؤال؛ إِما لعدم علمه، أو لعدم اشتغاله بنقله.

قال صاحب المبسوط: "وتأويل حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن مبادلة الحنطة بالشعير والذهب بالفضة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا رِبا إِلَّا في النَّسِيئةِ" فهذا بناء على ما تقدم من السؤال، فكان الراوي سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمع ما تقدم من السؤال أولم يشتغل بنقله".

ويتبين جليًّا من الأدلة السابقة، وتوجيهها ومناقشاتها رجحان مذهب الجمهور. على أن ما نسب إِلى ابن عباس، ومن معه ثبت رجوعهم عنه، ولم يصدر ابن عباس في هذا الرأي الذي رآه أولًا فيما ينسبه إِليه الناسبون عن سنة عملية رآها بنفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حفظها منه، بل كان اجتهادًا منه، ولذا لما بين له أبو سعيد الخدري خطأه في ذلك لم يقو على الدفاع عن رأيه، ولم يبين لأبي سعيد سنة حفظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، بل اعترف لعمر وابنه أنهما حفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يحفظ، ورجع عن رأيه، بل استغفر الله منه، وعده ذنبًا أذنبه، فلا يليق بفقيه عنده مسكة من دين أن يرتب ثمرة على رأي رجع عنه صاحبه، ولا يعده خلافًا، بل يجب المصير إِلى رأي الجمهور فيد الله مع الجماعة.

ص: 238

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وثانيها: منع قضية التَّرْجيح، وهو مما سلكه إِمام الحرمين في "الأساليب"، وحاصله: أن الترجيح إِنما يقع بين علّتين صحيحتين تستقلّ كلّ منهما لو انفردت - كما ذكرناه - والمعلل بالطعم - مثلًا - معتقد بطلان ما سواه، ولا ترجيح بين صحيح وفاسد.

قال: و - أيضًا - فإِنا لا نبعد في وضع القياس أن تصحّ علّتان لحكم واحد؛ إِذ الحكم الواحد يجوز أن يعلل بعلل، وإِنما تتناقض العلّتان إِذا تناقض حُكْمَاهما، بأن كانت إِحداهما محرمة، والأخرى مبيحة، فإِذا فرض لحكم واحد علّتان، ولا تناقض بين موجبيهما فكيف يتعارضان؟

ولا يبعد عندنا تعليل حكم واحد بعلّتين، إِحداهما أخيل من الأخرى، وإِن كان ذلك بين العلّتين المتناقضتين يقتضي ترجيحًا.

فإِن قيل: إِذا قررنا ثبوت الطّعم والكيل جميعًا، فتختلف فروع العلتين.

قلنا: لا يضر ذلك، فلا تناقض فيه.

فإِن قيل: الطعم يقتضي نفي الرِّبا عن الحَصْر، والكيل يقتضي نفي الرِّبا عن السَّفَرْجل.

قلنا: هذا القَدْر تناقض بين العلّتين في العكس، والانعكاس ليس شرطًا في العلل السَّمعية، وإِنما تنعكس العلّة الشرعية إِذا تجرّدت، ولم تنتصب دلالة أخرى سواها في ثبوتها وانتفائها، فيجب أن يثبت الحُكم بثبوتها، وينتفي انتفائها، فإِذا فرضنا علّتين لم يبعد أن تنتفي إِحداهما، وتخلفها الأخرى.

ثم قال: وحاصل الكلام في ذلك أنا لو قَدّرنا ثبوت العلّتين، فلا معنى للتَّرْجيح، فإِنهما يثبتان مع ترجّح إِحداهما، وإِن قدرنا فساد إِحداهما، [فَتَرَجُّح]

(1)

العلة الصحيحة على الفاسدة لَغْو من الكلام لا طائل تحته.

هذا كلامه في "الأساليب"، والحاصل: منع تطلّبهم الترجيح، وادعاء أنهم إِنما بحثوا في إِبطال ما عدا المدعى عليه.

وثالثها: سلّمنا أنه معلل، ولكن جاز أن يجمع القِيَاسيون في أصل على اتِّحَاد العلة

(1)

في ب: فترجيح.

ص: 239

فقال: وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلإِبْطَالِ لا لِلتَّرْجِيحِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَللإِجْمَاعِ عَلَى اتِّحَادِ الْعِلَّةِ هَاهُنَا، وَإِلَّا لَزِمَ جَعْلُهَا أَجْزَاءً.

الْقَاضِي: لا بُعْدَ فِي الْمَنْصُوصَةِ، وَأَمَّا الْمُسْتَنْبَطَةُ فَتَسْتَلْزِمُ الْجُزْئِيَّةَ؛ لِرَفْعِ التَّحَكُّمِ، فَإِنْ عُيِّنَتْ بِالنَّصِّ رَجَعَتْ مَنْصُوصَةً.

فيه، ثم يتنافسوا في طلبها، وهذا إِذا وقع في مكان لم يلزم بُطْلان التعليل بعلّتين مطلقًا.

وذكر إِمام الحرمين هذا الجواب في "البرهان"، ولم يزيفه، ولكنه ضعفه في "الأساليب"، وقال: هذا كلام من يكتفي بظواهر الأمور، ولا يبغي الغَوْص فيها، ونحن نعلم أنه لم يثبت خبر أو أَثر، أو ظاهر كتاب في أن علّة الرِّبا ينبغي أن تكون واحدة أن يجمعوا على اتِّحَاد العلّة من حيث إِن ذلك ممتنع كونه، فإِنا قد أثبتنا بقواطع الأصول فيها أن ذلك جائز غير ممتنع، فدلّ أنهم إِنما قضوا باتِّحَاد العلة من حيث اعتقد كلّ فريق بطلان علة من يخالفه بالطرق التي تتضمن البطلان عنده. انتهى.

فهذه الأجوبة الثلاثة هي المعتمدة في الجواب عن هذا الدليل، وطريق اختصارها أن نقول: لا نسلم وقوع إِجماع على اتحاد العلّة؛ لأنّ وقوعه فرع كون الرِّبا معللًا، وقد منع بعض الأئمّة التعليل رأسًا، فكيف يستقيم الإِجماع؟

وهذا أصح الأجوبة، وهو معتمد إِمام الحرمين. سلمنا وقوع الإِجماع على الاتحاد، ولكنهم إِنما بحثوا في بطلان ما عدا المدعى علّة؛ لأنه إِذا قام الإِجماع على الاتحاد، وكان - هناك - أوصاف وجب النظر فيما يبطل منها؛ ليتعيّن الآخر للعلّية. سلّمنا أنهم بحثوا عن علّية نفس المدّعى كونه علّة، ولكن لما وقع الإِجماع على الاتحاد، احتيج إِلى النظر في جميع ما يتخيّله النَّاظر علّة؛ لينظر أرجحه فيعيّن للعلّية، وقد اقتصر في الكتاب على ذكر هذين الجوابين.

الشرح: "وأجيب: بأنهم تعرضوا للإِبطال لا للترجيح، ولو سلم" تعرضهم للتَّرْجيح "فللإِجماع على اتحاد العلة - هنا - وإِلا لزم جعلها أجزاء"؛ لأنهم لما أجمعوا على الاتحاد، لزم الجزئية؛ لأن جعل أحدهما علّة من غير ترجيح باطل، فتعيّن الجزئية، ولا قائل بها.

واحتج القائل بجواز التَّعْليل بعلّتين منصوصتين، ومنع المستنبطتين، وعليه - كما نقل المصنف - "القاضي" بأنه "لا بعد في" تعدّد "المنصوصة"؛ لأن العلل الشرعية أمارات، ولا

ص: 240

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَحَالِّ أَفْرَادِهَا، فَتُسْتَنْبَطُ.

يبعد نصب علامتين. "وأما المستنبطة فتستلزم الجُزئية؛ لرفع التحكم، فإِن عينت

(1)

بالنص رجعت منصوصة".

وتقريره: أنه لو جاز تعدّد المستنبطة، لزم إِما كونها أجزاء للعلّة، لا العلّة، أو منصوصة لا مستنبطة، وهما باطلان؛ لأنهما خلاف الفرض؛ إِذ الفرض أنها مستنبطة ومستقلة.

وبيان الملازمة: أنّ تلك العلل إِما ألا يعين بالنص كونها عللًا، فيلزم الجزئية، أي: كونها أجزاء للعلّة لرفع التحكم؛ إِذ ليست إِحداهما أولى من الأخرى؛ لأن المناسبة واقتران الحكم كما دلَّا على أن الطعم - مثلًا - علَّة، كذلك دلا على أنه الكيل أو القوت، وهذا على تقدير مناسبة هذه

(2)

الأوصاف كلها، فظهر لزوم التحكم لو لم يحمل على الجزئية، "وإِن عينت بالنص رجعت منصوصة".

الشرح: "وأجيب: بأنه يثبت الحُكم في محال أفرادها، فتستنبط".

وتقريره: أنا لا نسلّم لزوم التحكّم، وإِنما يلزم لو لم يثبت الحكم بها في محال أفرادها، أي: بكل منها منفردة، أي: إِذا انفرد كلّ

(3)

أثبت الحكم، فيستنبط بالمناسبة والاقتران إِذ ذاك أنها هي العلّة، ثم إِذا وقع الإجماع قضى على كلّ بالعلية؛ لأنا وجدناه في حالة الانفراد مؤثرًا، فلو لم يقض على كلّ وصف في حالة الاجتماع بالعلّية، لزم التحكّم، أو خروج الكُلّ عن العلية، وسيأتي - إِن شاء الله تعالى - ما يوضحه عند الكلام فيما إِذا اجتمعت، والمصنّف قد قدم أنه لا يعني باستقلال العلّة إِلا أنها بحيث لو انفردت لثبت الحكم بها، وهذه رأيناها إِذا انفردت يثبت الحكم بها، فعرفنا أنها علّة، ولم ينتف هذا العرفان باجتماعها مع علَّة أخرى، وهذا التقرير يساعد بعض المُسَاعدة عبارة المصنّف في "المنتهى" حيث يقول: لا يبعد أن يثبت الحكم بكلّ واحدة، فيستنبط.

(1)

في جـ: عنيت.

(2)

في ب: كلّ هذه.

(3)

في ب: كلّ منها.

ص: 241

الْعَاكِسُ: الْمَنْصُوصَةُ قَطْعِيَّةٌ، وَالْمُسْتَنْبَطَةُ وَهْمِيَّةٌ، فَقَدْ يَتَسَاوَى الإِمْكَانُ.

وَجَوَابُهُ وَاضِحٌ.

وَقَالَ الإِمَامُ: إِنَّهُ النِّهَايَةُ الْقُصْوَى وَفَلَقُ الصُّبْحِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا شَرْعًا، لَوَقَعَ عَادَةً وَلَوْ نَادرًا". لأَنَّ إِمْكَانَهُ وَاضِحٌ، وَلَوْ وَقَعَ لَعُلِمَ، ثَمَّ ادَّعَى تَعَدُّدَ الْأَحْكَامِ فِيمَا تَقدَّمَ.

الشرح: واحتجّ "العاكس" أي: القائل بجواز مستنبطتين لا منصوصتين، فقال: العلة "المنصوصة قطعية"، فلو كانت كلّ واحدة علة مستقلة، لزم اجتماع المثلين، أو تحصيل الحاصل على سبيل القطع، "والمستنبطة" علّيتها "وهميّة"، أي: غير قطعيّة، "فقد يتساوى الإِمكان"، أي: إِمكان التعليل بالنسبة إِلى كلّ واحد منهما، فلا يمكن ألا تجعل واحدة منها علّة؛ لبقاء الحكم بلا علّة، ولا أن تجعل العلّة واحدة؛ لعدم الأولويّة للتساوي، ولا أن يجعل المجموع علّة مستقلة؛ لثبوت الاستقلال في محالّ أفرادها، فتعيّن أن يكون كلّ واحدة علَّة مستقلة.

الشرح: "وجوابه واضح": لأنا لا نسلّم أنَّ المنصوصة قطعية، ولو سلم، فلا نسلِّم امتناع العلل الشرعية القطعية؛ لأنَّهَا دلائل، ويجوز اجتماع الأدلّة القطعية على مدلول واحد.

الشرح: "و" أما "الإِمام" فدليل ما ذكر في "البرهان"، "قال: إِنه النهاية القُصْوى وفَلَق الصبح، لو لم يكن ممتنعًا شرعًا، لوقع عادة، ولو نادرًا؛ لأن إِمكانه واضح: ولو وقع لعلم، ثم ادعى تعدّد الأحكام فيما تقدم".

وعبارته في "البرهان"

(1)

: إِن أَبَى الطالب إِلا استعجالَ الصَّواب في هذه المسألة، فليثق بامتناع اجتماع علّتين لحكم واحد، والدليل القاطع

(2)

فيه - قبل الانتهاء إِلى المباحثة عن أسرار الاستدلال - أن ذلك لو كان ممكنًا، وقد طال نَظَرُ الناظر، واختلاف مسالك الاعتبار

(1)

ينظر: البرهان (2/ 831)(789).

(2)

في ب: يقاطع.

ص: 242

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في المَسَائل، وما اتفقت مسألة إِلا والمختلفون فيها يتنازعون في علّة الحكم، ومن تدبّر موارد الشَّريعة ومَصَادرها، اتضح له ما نقول على قرب.

ومن أمثلة ذلك: مسألة الرِّبا، ومن ادعى أنها مختصّة من بين سائر المسائل باتفاق وإِجماع على اتِّحَاد العلّة فيها، فقد أحال الأمر على إِبهام، والمنصف لا يستريب في أن خوض النُّظَّار في مسألة الرِّبا، كخوضهم في غيرها من المَسَائل، ولما ثبت الخِيَارُ للمعتقة تحت الرقيق، وكان ذلك مجمعًا عليه، والإِجماع مستند

(1)

إِلى الحديث، ثم اختلف العلماء في إِثبات الخيار للمُعْتقة تحت الحر، ومنشؤ اختلافهم في ذلك من اختلافهم في تَعْلِيل الخيار في حقّ المُعْتقة تحت الرقيق، فاعتل أبو حنيفة: بأنها ملكت نفسها، وزعم أن ذلك يجري في حق المعتقة تحت الحُرّ، وأبطل الشَّافعي هذا التعليل، واعتلّ بالضرر، على ما يحرره أصحابه وأصحابنا، وكذلك الأمر في كلّ مسألة يبحث الناظر عنها، ونحن نقول - بعد هذا التنبيه -: تعليل الحكم الواحد بعلّتين ليس ممتنعًا عقلًا وتسويغًا ونظرًا إِلى المصالح الكلية، ولكنه ممتنع شرعًا، وآية ذلك أن إِمكانه من طريق العَقْل في نهاية الظّهور، فلو كان هذا ثابتًا شرعًا لأمكن وقوعه على حكم النَّادر، والنادر لا بد أن يقع على مرور الدُّهور، فإِذا لم يتفق وقوع هذا في مسألة، ولم يتشوّف إِلى طلبه طالب، لاح كفلق الإِصباح أن ذلك ممتنع شرعًا، وليس ممتنعًا عقلًا. انتهى.

وفيه نظر من وجوه:

أحدها: منع ظهور إِمكان التعليل بعلّتين، فلا بد له من دليل، وسنقيم نحن واضح الدلالة على امتناعه عقلًا.

وثانيها: أن نقول: ما دللت به على الامتناع الشَّرْعي بعينه دالّ على الامتناع العقلي، فيقال: لو لم يمتنع عقلًا، لوجب في مستقرّ العادة أن يقع ولو نادرًا، [فتعيّن]

(2)

ما قلت.

وثالثها: أنه لا يلزم من جوازه شرعًا وقوعه، نعم الإِنصاف أنه يغلب على الظَّن أن الجائز شرعًا لا بد أن يقع ولو نادرًا، ولكن غلبة الظَّن لا تفيد في مسائل أصول الفقه لا سيّما هذه القاعدة العُظْمَى، ولا سيما عند إِمام الحرمين؛ فإِنه ممّن اشتد نكيره على من

(1)

في ب: مسند.

(2)

في أ، ت، ج: تعين.

ص: 243

وَالْقَائِلُونَ بِالْوُقُوعِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فَالْمُخْتَارُ: كُلُّ وَاحِدَةٍ عِلَّةٌ.

وَقِيلَ: جُزْءٌ.

وَقِيلَ: الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ لا بِعَيْنِهَا.

يستند إِلى الظن في مسائل أُصُول الفقه، ثم إِنه ادَّعَى أن هذا الدَّليل قاطع؛ إِذ قال في مفتاح كلامه: والدليل القاطع فيه، كما رأيت.

ورابعها: تمثيله باختلاف الإِمامين في المُعْتقة تحت الرَّقيق، بناء على اختلافهم في العلة، كلام ضعيف؛ فإِن الأمر لا ينتهي مع أبي حَنِيفَةَ إِلى الترجيح؛ فإِنا نرى معناه فاسدًا، وكذلك رأيه في المعنى الذي نبديه نحن، فكل يعتقد بطلان علّة صاحبه، وكذلك كلّ مسألة يتنازع الناس في العلة فيها، يحتمل أن يكون ذلك لاعتقاد ضيق المحل عن الوفاء بالعلل على ما ذكره.

ويحتمل أن يكون لاعتقاد كلّ واحد من الفريقين ضعف معنى الآخر وبطلانه، وهذا الاحتمال أَرْجَح، وقد ضعف الإِمام مسلك التَّرْجيح في مسألة الرِّبَا بهذا الوجه كما عرفت، فلا يتحصّل من هذا شيء ينتفع به، إِلا أن يقع الاتفاق في مسائل على صحّة التعليل بمعانٍ لو انفردت لم يتّفق أهل الإِجماع على الامتناع من الجمع، ولن نجد إِلى ظن ذلك سبيلًا، فضلًا عن القطع به.

وخامسها: أن دعواه عدم وقوعه في الزمن الطويل - ممنوعة؛ فإِنَّ الخصم يبدى الصور التي عرفها، وكما يدعي الإِمام تعدُّد الأحكام فيها، يدّعي هو اتحاد الحكم، وحينئذٍ لا نسلم عدم الوقوع، فيحتاج الإِمام إِلى دليل غير هذا.

الشرح: وأما "القائلون بالوقوع إِذا اجتمعت، فالمختار: كلّ واحدة علَّة.

وقيل: جزء. وقيل: العلة واحدة لا بعينها"

(1)

.

هذا كلام المصنّف، وهو صريح في أن الخلاف الذي قدمه في العلل من حيث هي، وهذا مخصوص بحالة الاجتماع، وإِلا ظهر - عندنا - أن الخلاف لا يطرق حالة التَّعاقب، بل يختص بحالة الاجتماع - كما قدمناه - ويلزم من شموله حَالَةَ التعاقب أن يكون في الأمّة من

(1)

ينظر: نهاية السول 4/ 313، وشرح الكوكب 499، وتيسير التحرير 4/ 28، وفواتح الرحموت 2/ 286.

ص: 244

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يمنع أن اللَّمس والمَسّ - مثلًا - ليسا بعلّتين، وإِن وجد أحدهما بمفرده، بل لا علّة إِلا واحد فقط، فلا يكون للحدث - مثلًا - غير علّة واحدة، وهذا لا يقوله أحد.

فإِن قلت: وكيف يلزم؟.

قلت: لأنه ادَّعى أن الحدث شيء واحد، وظاهر كلامه: أن ذلك أمر متفق عليه؛ حيث جعله مقيسًا عليه في قوله: وإِلا لزم مُغَايرة حدث البول للغائط، وإِذا كان سببًا واحدًا، ولم يعلل حكم بأكثر من علَّة، لزم ألا يكون عليه إِلا أمارة واحدة، ولا مخلص للمصنّف عن هذا الإِيراد إِلا أن يدعي تعدّد الأحداث، كما ادعيناه، وحينئذٍ فلا نسلم له اتِّحَاد حدث البَوْل والغائط، وإِلا ظهر عندنا ما عرفت، فنقول: صلاحية كلّ واحد من البول والغائط والمَذْي والنّوم لتعريف الحدث، لا خلاف فيه، وعِرْفَان الحدث بكلّ منها إِذا انفرد لا خلاف فيه، وإِنما الخلاف فيما إِذا اجتمعت، فالقائلون بجواز اجْتِمَاع علّتين متفقون على أنها - والحالة هذه - علل مستقلة، ومعنى استقلالها - عند المصنّف - أنها لو انفردت لاستقلت كما سبق.

والقائلون بامْتِنَاعِهِ مختلفون فيما إِذا اجتمع مَسّ ولَمْسٌ، فقال قوم: كلّ واحد - والحالة هذه - جزء علَّة.

وقال آخرون: العلّة واحدة لا بعينها، فخرج لنا من هذا أن هذه المذاهب التي حَكَاها المصنّف - هنا - ليست للقائلين بالوقوع، والمَذْهَبان الآخران رأيان لمن منع الوقوع. هذا إِن اختصّ الخلاف بحالة الاجتماع، وإِن شمل حالة التَّعَاقُب، فمن يجوز التعليل بعلّتين حالة التعاقب، لا يلزم جَعْلهما حالة المعيّة مستقلّين، وهذه المذاهب جارية عنده في المعيّة بلا شكّ.

وأما المانع، فلا سبيل له إِلى القول بالاستقلال حالة المعيّة، بل هو متمكّن من أحد قولين: الجزئية، أو أن العلّة أحدها لا بعينه، والمصنّف لم يتعرض للمانعين: ماذا يفعلون حالة الاجتماع؟.

ويتلّخص من هذا: أن المختار من هذه المذاهب لا يعرف أحد قال بخلافه فيمن جوّز التعليل بعلّتين، والقولان الآخران قولان لمن منع، لا لمن جوز.

ثم استدلّ المصنّف على ما اختاره، ولم يكن محتاجًا لذلك هنا، وإِنما حاجته إِلى

ص: 245

لَنَا: لَوْ لَمْ تَكُنْ كُلُّ وَاحِدَةٍ عِلَّةً، لَكَانَتْ جُزْءًا، أَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ وَاحِدَةً، وَالأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِثُبُوتِ الاِسْتِقْلالِ.

وَالثَّانِي: لِلتَّحَكُّمِ.

وَأَيْضًا: لامْتَنَعَ اجْتِمَاعُ الأَدِلَّةِ.

الاستدلال على وقوع التعليل بعلّتين، فإِذا انتهض له ذلك، ثبت أنها إِذا اجتمعت علل مستقلةٌ بالمعنى الذي فسّر به الاستقلال، من أنها إِذا انفردت استقلت، سواء أكان ما فسر به الاستقلال صحيحًا أم فاسدًا.

وإِنما قلنا: إِن ذلك يثبته أصل الوقوع، كما قلناه من اتفاق القائلين بأصل الوقوع على أنها إِذا اجتمعت فهي مستقلة، أو لأن الخلاف مخصوص بحالة الاجتماع، وقد ذكر وجهين:

الشرح: أحدهما: ما أشار بقوله: "لنا: لو لم تكن علّة، لكانت جزءًا، أو كانت العلة واحدة"؛ إِذ لا قائل بغير ذلك، "والأول باطل؛ لثبوت الاستقلال"، ولو كانت جزءًا لم تكن مستقلة.

الشرح: والثَّاني - أيضًا - باطل، للتحكم؛ إِذ لا أولوية لإِحداهما على الأخرى.

ولقائل أن يقول: ليس الأول باطلًا بما ذكرت؛ لأنَّ الاستقلال إِنما هو حالة الانفراد، ولا الثاني؛ لأن التحكم إِنما يلزم أن لو قضينا على واحد بعينه.

أما إِذا قضينا على أحدهما، لا بعينه فلا؛ إِذ هو وصف صالح لهما.

فإِن قلت: متى قضينا على أحدهما، فقد دفعنا أحدهما مع الاستواء.

قلت: دفعنا أحدهما لمُعَارضة صاحبه، ولكنا لا نعرف أقواها حتى نعرف عين الدَّافع من المدفوع، فجعلنا محلّ القضاء مبهمًا.

واعلم أن القائل بأن العلّة أحدهما لا بعينه، فرّ من التحكم كما سيأتي، فلو كان يلزمه التحكم، لكان وقع فيما فَرَّ منه.

الشرح: والثاني: ما أشار إِليه بقوله: "وأيضًا"، لو لم تكن كلّ واحدة علّة عند

ص: 246

الْقَائِل بِالْجُزْءِ: لَوْ كَانَتْ كُلٌّ مُسْتقِلَّةً، لاجْتَمَعَ الْمِثْلانِ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَأَيْضًا: لَزِمَ التَّحَكُّمُ؛ لأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ بِالْجَمِيعِ فَهُوَ الْمُدَّعَى، وَإِلَّا لَزِمَ التَّحَكُّمُ.

وَأُجِيبَ: ثَبَتَ بِالْجَمِيعِ كَالأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ.

الْقَائِلُ لا بِعَيْنِهَا: "لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَزِمَ التَّحَكُّمُ أَوِ الْجُزْئِيَّة، فَيَتَعَّينُ.

الاجتماع "لامتنع اجتماع الأدلّة" على مدلول واحد؛ لأن العلل الشرعية أدلّة، وقد كرر هذا غير مرة، وعرفت ما فيه.

الشرح: واحتج "القائل بالجزء"، أي: بأنّ كلّ واحد منها جزء علّة حالة الاجتماع، بوجهين أحدهما:(لو كانت كُلٌّ مستقلة، لاجتمع المثلان) قال المصنّف: (وقد تقدم) في الدَّليل الثَّاني للمانعين من التَّعْليل بعلّتين، وهو صحيح، ولكن بشرط أنْ يضمّ إِليه: أنه لو كان أحدهما علّة، لزم التحكُّم، وفيه ما عرفت هنا.

والثاني: ما أشار إِليه بقوله: "وأيضًا: لزم التحكُّم؛ لأنه إِن ثبت بالجميع، فهو المدعى"؛ إِذ تكون العلّة الجميع، وكلّ واحد جزء، "وإِلا لزم التحكّم"؛ لأنّ ثبوته - حينئذٍ - بواحد، وليس واحد أرجح من واحد.

"وأجيب: ثبت بالجميع"[معنى]

(1)

كلّ واحد "كالأدلّة العقليّة والسمعية"، فإِنَّ المدلول يثبت بكلّ منها، فلا يلزم التحكُّم، وهو ضعيف؛ لأنَّ في ثبوته بكلّ واحد منها اجتماع المثلين - كما سبق - والمقيس عليه - وهو الأدلّة العقليّة والسمعية - هو المقيس بعينه، فإِنه متى اجتمع دليلان عقليّان، أو سمعيان على مدلول واحدٍ، وكان الخلاف قائمًا في أنهما معرفان أو معرف واحد، أو المعوف أحدهما لا بعينه.

الشرح: واحتجّ "القائل": بأن العلّة أحدهما "لا بعينها"، فقال:"لو لم يكن كذلك لزم التحكّم أو الجزئية"، أي: كون كلّ واحدة جزءًا للعلة، "فيتعين" أن تكون العلّة واحدة، ولم يتعرّض في الكتاب لجوابه بناء على أنه يعلم مما سبق.

وقد تناهى القول فيما أورده صاحب الكتاب في التَّعليل بعلّتين، وحَانَ أن نَبُوحَ

(1)

في ج: بمعنى.

ص: 247

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالمختار عندنا فنقول: قد علم من أصلنا أنّ العلل الشرعية معرّفات، ولا بدع أن ينصب الله - تعالى - شيئين أو أكثر لتعريف شيء واحد، كنصبه المسّ واللمس معرفين للحدث، ولما كانت العلّة بمعنى المعرف، كان كون الوصف علّة دائرًا مع كونه معرفًا وجودًا وعدمًا، وربما كان علّة بالنسبة إِلى زيد دون عمرو، ضرورة أنه عرف زيدًا ولم يعرف عمرًا، وهذا كالمسّ واللّمس كلّ منهما يعرف الحدث لمن لم يكن به عارفًا، وإِلا يلزم تحصيل الحاصل، فربما عرف المس زيدًا، وعرف اللمس عمرًا، وربما اجتمعا في شخص واحد وعرف شخص بمسه دون لمسه، وعرف آخر بلمسه دون مسه، فقضى كلّ منهما عليه بالحدث مستندين إِلى معرفين، ولم يعرف كلّ واحد، منهما معرف صاحبه ما هو، أو عرف أن معرف صاحبه غير معرفه، وهذا مما لا خَفَاءَ فيه، وربما وقع اللَّمس والمس متعاقبين، فلم يعرف الثاني شيئًا، إِلا أن يعرف به من لم يعرف بالأول، وربما اجتمع المَسّ واللَّمس والعرفان بهما لشخص واحد في وقت واحدٍ، وهذا هو محلّ الخلاف، فهل يكون عرفانه بالحدث مستندًا إِلى كلّ منهما أو لا؟.

عندي أن استناده إِلى كلّ واحد منهما مستحيل عقلًا، لأن كلّ واحدة منهما في حالة الاجتماع إِن لم تعرف فليست بعلّة، وهذا كما لو كانت سابقة - بلا رَيْب - عند من عرف بهما جميعًا.

وإِن عرفت، فإِما أن تعرف شيئًا غير ما عرفته صاحبتها، وليس مثلًا لما عرفته صاحبتها، فلم تجتمع علّتان على معلول واحد، بل على معلولين، وهذا كما يقول من يدّعي تعدد الأحكام، فإِنه بقول: إِذا وقع المسّ واللمس معًا، وعرف العارف بهما معًا عرف [حدثين

(1)

مستندين إِلى علتين، وحدثُ المسّ غير حدث اللَّمس، وإِن كان بينهما قدر مشترك.

وإِما أن تعرف شيئًا غير ما عرفته صاحبتها، ولكنه مماثل له، فهو كالأول في أنه لم تجتمع علّتان على معلول واحد، مع زيادة لزوم اجتماع المثلين.

وإِما أن تعرف شيئًا هو نفس ما عرفته صاحبتها، وهذا موضع الأَنَاةِ والتَّمَهُّل، فيحتمل أن يقال به، ولا يلزم تحصيل الحاصل، عبارة عن حصوله بعد وقوع حصوله، ومع المعيّة

(1)

في أ، ب، ت: حدين.

ص: 248

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لا يأتي ذلك؛ إِذ هو إِنما حصل [بهما]

(1)

معًا، ولا اجتماع المِثْلين؛ لأنه ليس - هنا - غير شيء واحد، ويحتمل أن يقال: لو عرفت واحدة مع أن الأخرى معرفة، لم تكن مستقلّة، وهو خلاف المفروض.

فإِن قلت: المعنى باستقلالها أنها لو انفردت استقلت.

قلت: كأنك تقول: العلّة شيء شأنه الاستقلال حالة الانفراد، ونحن نسألك عن شأنه حالة الاجتماع.

فإِن قلت: الاستقلال - أيضًا - لم يكن للتفصيل معنى، وكأنك تقول: هي مستقلّة في الحالتين.

وإِن قلت: عدم الاستقلال، يقال: فنحن لا ننكر اجتماع وصفين لا يستقلّان حالة الاجتماع، وإِنما ننكر اجتماع مستقلّين يحصلان المعلول معًا.

أما إِذا لم يستقلا، أو استقلّ واحد بالنسبة إِلى شخص دون آخر، فلا ننكر هذا أبدًا.

فإِن قلت: العلّة مستقلّة في الحالتين، ولكن إِنما يظهر أثر استقلالها حالة الانفراد، أما حالة الاجتماع فلا.

قلت: هنا يرجع الخلاف لفظيًّا، فإِني لا أنكر وضعًا لا يظهر استقلاله، بل ولا يظهر أثر مدخله في العلّية.

فإِني أقول: من لمس وعرف بلمسه، ثم مس، لم يعرفه المس شيئًا ألبتة، ولكني مع ذلك أقول: إِن كان لا يظهر أثرهما، فلا يحصل ألبتة، وإِن ظهر أثر أحدهما معينًا، فهو ترجيح من غير مرجّح، وهو - أيضًا - غير ما نحن فيه؛ إِذ لم تجتمع علّتان على معلول واحدٍ، وإِن ظهر أثر أحدهما مُبْهمًا، فهو من قول القائلين بامتناع اجتماع علّتين؛ إِذ لم يؤثر غير واحد، فأين اجتماع علّتين؟.

فوضح أنه لا يتصوّر اجتماع معرفين يعرفان على وجه الاستقلال من كلّ منهما في حالة واحدة لشخص واحد.

ووضح - أيضًا - أنه لا بدع في اجتماع معرفين، وإِن عرفا على وجه الاستقلال في حالتين، أو لشخصين، ولكن تسميتهما معرفين - هنا - إِنما هو باعتبار ذَاتَيْهمَا، وبعض

(1)

في ت: لهما.

ص: 249

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أحوالهما، ولكن هذا ليس من المختلف فيه، ولا يتّجه فيه نزاع، فمن شاء أن يطلق، [إِنما]

(1)

نمنع عقلًا اجتماع علّتين على معلول واحد، فلا حرج عليه؛ إِذ لا نعني باجتماع عِلَّتين إِلا الصُّورة الأولى، وهي تعريف الشَّخص الواحد في الوقت الواحد على وجه الاستقلال.

فإِن قلت: فما تقولون في رجل أحدث، ثم أحدث ثانيًا حدثًا على حدث لم يتخللهما طَهَارة، أتقولون: إِن الحدث الثاني لم يفعل شيئًا؟.

قلت: كذلك نقول، نعم من لم يعلم بالأول، وإِنما علم بالثَّاني يقضي بحدث المحدث ظانًّا استناده إِلى الحدث الثاني، كما ستعرفه، ويشهد لما قلناه: أن أصحابنا قالوا - تفريعًا على القديم -: إِن سبق الحدث لا يبطل الصَّلاة؛ لأنه لو أخرج باقي الحدث عمدًا، لم تبطل صلاته على الأصح؛ لأن الحَدَث لا يؤثر بعد نقض الطَّهارة، بل نص الشافعي في القديم: أنه لو ابتدأ حدثًا ثانيًا عامدًا، لم تبطل؛ لأنه حدث يرد على حدث، فلم يؤثر في الأول.

وقال المتولي: إِن هذا هو الصَّحيح من المذهب، دلّ ذلك على أن الثاني لم يفعل شيئًا.

فإِن قلت: فما قولك في اجتماع علّتين لشخص واحد في حالة واحدة؟.

قلت: اعلم أولًا أن هذه العِلَلَ الشرعية المنصوبة معرفات، إِذا انفردت كانت علَّة مستقلة، وإِذا اجتمعت، وفعلت شيئًا مغايرًا لما فعلته صاحبتها، ولو أنه مثله، كانت مستقلّة أيضًا.

وإِن ظهر عند اجتماعهما شيء واحدٌ، وذلك شيء لا يظهر أبدًا، فهي إِذ ذاك جزء علّة، [ولا]

(2)

يبعد أن تكون جزءًا في موضع، ومستقلّة في موضع، وجزءًا بالنسبة إِلى شخص، ومستقلّة بالنِّسبة إِلى آخر، فافهم ذلك، فهو في المعرّفات واضح جَلِيّ.

ولا يقال: إِذا كانت جزءًا، فيلزم من ارتفاعها ارتفاع العلّة، ضرورة ارتفاع الكُل بارتفاع أحد جزئيه، فلو اجتمع مسّ ولمس - مثلًا - ونوى رفع أحدهما، وقدّرنا أنه يرتفع

(1)

في أ، ب، ت: أنا.

(2)

في ت: وأن.

ص: 250

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بمجرّده مع بقاء الآخر - كما ظنه الآمدي رأيًا لبعض أصحابنا - يلزم ارتفاع أصل الحدث؛ لأنا نقول: إِنما يرتفع بارتفاع الجزء الكُلّ المتضمن لذلك الجزء، أما جزء هو في حالة الاجتماع جزء عند الانفراد كلٌّ، فلا يرتفع أثره؛ لأنه إِذا ارتفع كونه جزءًا، فقد خلف الكُل المرتفع بارتفاع الجُزْء كل آخر يستقل بالعلّية، وهو الجزء المنفرد، هذا إِن قلنا: إِنه يبقى بارتفاع أحد الجزئين ما كان.

وإِن قلنا: يرتفع به الحدث الطَّارئ عن الكُلّ، ويبقى مع الجزء الباقي الذي هو كلّ في نفسه حدث آخر، فلا سؤال أصلًا.

وعند هذا أقول: إِذا اجتمع وَصْفَان ظهر بعدهما حكم شرعي، كالمَسّ واللمس يظهر بعدهما الحَدَث، فالحال مُحْتَمِلٌ لأن يكون الظَّاهر حدثين، لا حدثًا واحدًا، وعلى هذا فلا اجتماع لعلّتين، ولأن يكون الظَّاهر حدثًا واحدًا - عند من يجعل الأحكام واحدة - فالوصفان في هذه الحالة أجزاء للعلّة، والعلة مجموعهما عند من عرف بهما، المعني باجتماعهما.

أما من لم يعرف إِلا بأحدهما، فالعلّة بالنسبة إِليه ما عرف به، ولا يصدق اجتماعهما بالنسبة إِليه، فوضح لك أنه يمتنع عقلًا اجتماع علّتين مستقلتين على الوجه الذي [وصفناه]

(1)

، وأنَّ غاية ما يفرض اجتماع وصفين، وأنت إِذ ذاك بسبيل من جعلهما جزئي علّة، ومن جعل النَّاشيء عنهما شيئين لا شيئًا واحدًا، فلا اجتماع لعلّتين على معلول واحد أبدًا.

فإِن قلت: لقد ظهر لي بهذا امتناع كونهما علّتين في حالة الاجتماع، فما يمنع من علّتين في حالة التعاقب؟.

قلت: قد عرفت أنَّ الخلاف فيما يظهر مخصوص بحالة الاجتماع، وعلى ما ذكر المصنّف [يطرق]

(2)

حالة التَّعَاقُب، ولا فرق بينهما على هذا الدليل الذي تَنْحُوه؛ فإِن الوصف الثاني لم يستقلّ بالتعريف، بل إِذا تعاقبا، فإِما أن يقال: المعرف هو الأول وحده، أو لما انضمّ الثاني إِلى الأول صَارَا جزئي علّة، أو يقال بتعدُّد الأحكام، فالحكم الحاصل بالثَّاني غير الأوّل، أو يقال: صارت العلّة أحدهما لا بعينه، فلم تجتمع علّتان على الأوجه

(1)

في ب: وضعناه.

(2)

في ت: يطرد.

ص: 251

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأَرْبعة، فلا وثوق باجْتِمَاع علّتين في هذه الصورة على وجه الاستقلال، إِلا إِذا قام البُرْهان على اتِّحَاد الحكم، وأن كلا منهما عرف مستقلًا بالتعريف، وهيهات ثم هيهات أن يتم ذلك، كالقول باتِّحَاد الحكم، وإِن كان - عندنا - من المحتملات، إِلا أنه مرجوح، والقول باستقلال كلّ من الوصفين بالتعريف عند انضمامهما واجتماعهما محال عقلًا، ولسنا نمنع من العَقْل ولا الشرع ولا الواقع نصب عَلامتين أو أكثر على شيء واحد، إِنما نمنع حصول العِرْفان بهما جميعًا للشَّخص الواحد، فافهم ما يلقى إِليك.

فإِن قلت: بماذا ينفصل رأيكم عن مذهب الإِمام؟.

قلت: الإِمام يجوز الوقوع عقلًا، ويمنعه شرعًا، وظاهر كلامه منع اجتماع معنيين يصلحان لتعليل حكم واحد، سواء أوجدا دفعة واحدة، أو متعاقبين، وأنا أمنع عقلًا وقوع معنيين يجتمعان فيعلل بهما الشَّخص العارف بهما حكمًا واحدًا منسوبًا في تعليله إِلى كلّ منهما على سبيل الاستقلال، ولا أمنع لا عقلًا ولا شرعًا معنيين يصح استناد الحكم الواحد تارة إِلى هذا وتارة إِلى هذا، وتارة إِلى المجموع، وأقول: إِن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأوقات والأشخاص؛ لأن العلل الشرعية معرّفات، وهي على حَسَب تعريفها، فحيث وجد التعريف كانت علَّة، وحيث انتفى لم تكن، وربما لم يكن لها مدخل في العلّية بالنسبة إِلى بعض الأشخاص، أو بعض الأوقات، فربما كان الوَصْف في وقت جزء علّة، وفي آخر علّة، وفي آخر لا مدخل له في التَّعْليل أصلًا.

وأقول أيضًا: أما معنيان يَصْلحان للتعليل، فإِني وإِن لم أمنع من ذلك عقلًا ولا شرعًا، إِلا أنه لم يقم عندي قاطع على وجوده؛ لاحتمال تعدّد الأحكام، فقد عرفت مذهبنا، ومغايرته لمذهب الإِمام.

فإِن قلت: فما تفعلون في المسّ واللمس وأمثالهما؟

قلت

(1)

: إِن لم يحصلا معًا، فإِنا بطريقان:

أحدهما: إِضافة الحكم إِلى السَّابق، والثاني: دعوى تعدد الأحكام، ثم أقول: أنا وإِن أضفت الحُكْم إِلى السابق، فإِنما هو بالنسبة إِلى العارف بهما، أما من

(2)

لم يعرف إِلا بالثَّاني، فالعلَّة في حقه اللاحق دون السَّابق؛ لأنه الذي عرفه، والعلة - إِبتداء - المعرف.

(1)

في ت: فإِن قلت.

(2)

في ت: أما حق.

ص: 252

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما الإِمام، فلا يتجه له إِلا القول بتعدّد الأحكام؛ إِذ هو يمنع شرعًا معنيين يصلحان للتعليل، سواء اجتمعا أم لا.

وأما إِن حصل المعنيان معًا، فإِنا بسبيل من طرق، وكذلك الإِمام:

أحدها: دعوى تعدد الأحكام.

والثاني: دعوى أنها - والحالة هذه - أجزاء علة.

والثالث: أن العلة أحدها لا بعينه.

والرابع: أن أتعلق بأشدّ الوصفين مناسبة، وهذا إِذا لم يكونا مستويين، وهو أحسن الطرق [وأنفعها]

(1)

، ويستدعي في كلّ وصفين اجتمعا نظرًا يخصهما.

(1)

في أ، ب، ت: وأنفعهما.

ص: 253

مَسْأَلَةٌ:

وَالْمُخْتَارُ: جَوَازُ تَعْلِيلِ حُكْمَيْنِ بِعِلَّةٍ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَأَمَّا الْأَمَارَةُ فَاتِّفَاقٌ.

الشرح: "والمختار: جواز تعليل حكمين بعلَّة" إِذا كانت "بمعنى: الباعث، وأما الأمارة فاتفاق".

وَسَنَسْرِدُ فُرُوعًا من هذا الجِنْسِ؛ يَطْرَبُ عند سماعها الفقيه، ومَنْ شاء أن يكتُبَهَا في هذا الشَّرْحِ؛ فدونه.

ومن شاء تركها؛ فلا عليه، والأحسن كتابتها؛ فإِنَّها نافعةٌ، فدونكها!

فإِن قلتَ: لو اجتمعَ وصفان أعم، وأخص، كلٌّ منهما صالحٌ للتعليل يظهر أثره بخصوصه: كإِعتاق الرَّاهِنِ ذي اليَسَارِ مثلًا، إِذا فرضنا أن المالكيَّة مِنْ حيثُ هي علَّةٌ مستقلةٌ، ثمَّ فرضناها بِقَيْدِ اليَسَارِ علَّةً، فما الصلَّةُ إِذا اجتمعا فيما إِذا أعْتَقَ رَاهِنٌ مُوسِرٌ.

قُلْتُ: نسلكُ فيه ما سلكناه كما عرفت، فلنا أنْ نقول: العِلَّةُ "مجموع الوصفين، فإِنْ قُلْتَ: فقد عارض أحدُ الوصفين - وهو المالِكِيَّةُ - تعلُّقَ حقِّ المُرتَهنِ.

قلتُ: يسقطُ ذلك الوصف، ويصيرُ معنا عِلَّةً مستقلةً بعد أنْ كانت جزءًا، وهي وصف اليسار، ولا يكونُ المالكيَّةُ هنا عِلَّةً، ولا جُزْءَ عِلَّةٍ، بل محلًّا للعِلَّةِ، فإِنَّ العتقَ إِنما يكونُ من مالك، فإِنْ قُلْتَ: ما تقولون فيما إِذا اجتمع شخصان على قتل شخص بأنْ جزَّا رقبته، كيف الحال؟ إِنْ قُلْتُم كلٌّ منهما جُزْءُ عِلَّةٍ، فلا توجبون القصاص على واحدٍ منهما؛ إِذْ لم يصدرِ القتلُ من واحدٍ منهما، وإِنْ قُلْتُمْ: "صَدَرَ قتلان؛ فوجب قتلان، فهذا يخالِفُ المحسوس؛ فإِنَّ المَقْتُولَ واحد، والقتلُ حقيقةٌ واحدةٌ.

قلت: لنا سلوكُ كلٍّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ.

ص: 254

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أمَّا الأَوَّلُ فنقول: كلُّ واحدٍ جُزءُ عِلَّةٍ، وإِنَّمَا وَجَبَ القصاص؛ لأنَّه صدر منه وصفٌ يستقلُّ بالعلية مِنْ حيثُ هو، ولم يخرجه عن الاستقلال إِلا فِعْلُ صاحبه الَّذِي لا تَعَلُّقَ له به، فلا يَدْفَعُ عنه أثرَ القِصَاصِ، ولا يُقَالُ - والحالة هذه -: أنَّهُ غير قاتل؛ لأنَّهُ أتى بفعل يُزْهِقُ الرُّوحَ، ووقع الزُّهُوق بعده، فلا فرقَ بين أن يشارِكَهُ في القابليَّةِ فعل شخص غيره، أوْ لا.

فالقِصَاصُ واجبٌ على كُلِّ مَنْ أَتَى بفعل مُزْهِقٍ وقع بعده الزُّهوق، سواء أكانَ مُسْتَنِدًا إِليه، أم إِليه وإِلى ما عَضَّدَه، إِذا كان ذلك الفعلُ كُلًّا في نفسه جزء لضميمةِ الفِعْل الآخَرِ إِليه.

والمراد بكونه كلًّا في نفسه: أنَّهُ مُزهِقٌ بنفسه "بذاته"، وهذا كلُّهُ إِذا قلنا بالمذهَبِ الصَّحيح: أن القصاص يجب على الجَمَاعَةِ بقتل الواحد، ووراءَهُ شيئان:

أحدُهُما عن أبي حَفْصِ بنِ الوكيل: إِثبات قول أن الجماعة لا يُقتلون بالواحد، والثاني: نَقَلَ [الماسرجس]

(1)

والقفَّالُ قولًا عن القديم: أن الوليَّ يَقْتُلُ واحدًا من الجماعةِ أيُّهُم شاءَ، ولا يَقْتُلِ الجميعَ، وعلى هذين لا معنى لِلْبَحْثِ، ولذلك إِنَّما هو على المذهب في أن الجماعة كالعَشْرَةِ مثلًا إِذا تمالئوا على قَتْلِ شَخْصٍ، استحقَّ أولياءُ المقتول دمَ كُلِّ واحدٍ منهم، أمَّا إِذا قلنا بما ذهب إِليه الحليميُّ: من أن المُسْتَحِقَّ للوليِّ العُشْرُ من دَمِ كُلِّ واحدٍ، إِلَّا أنَّهُ لمَّا لم يمكن استيفاؤه، إِلَّا باستيفاء الباقي؛ مكنَّاهُ من استيفائه فلا كلام أيضًا؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ. من الجماعة إِنَّما وَرَد فعله على عُشْرٍ غيرِ العُشْرِ الَّذِي ورد عليه فعلُ صاحبهِ، فلا يُتَخَيَّلُ هنا اجتماعُ علَّتَيْنِ على شيءٍ واحد، هذا آخر الكَلامِ على مساق الطَّريقةِ الأُولى.

وأمَّا الثَّانيةُ فنقول على مساقها: صدر قتلان، ولكنَّ المحلَّ ضاق عنهما فلم يلح في الخارج إِلا مقتول واحد، وإِن حصل القتلان، وليس في هذا مخالفة للمحسوس، وإِنما مخالفة المحسوس لو قلنا: قتل رجلان، ونحن لم نقل ذلك، والمقتول واحد بلا ريب، وإِنَّما قلنا: صدر قتلان، ولا يلزم من صدور قتلين حصول مقتولين؛ فإِنَّ حصولَ المقتولين يستدعي المحلَّ، وهو هُنا فائت؛ إِذْ ليس إِلَّا واحد، وسلوك هذه الطَّريقةِ فيما نحنُ فيه من صورة الاجتماع على القتل أوضح من الأولى، فليسلكها الفقيه، ولذلك يجبُ القصاصان،

(1)

في ج: السرخس.

ص: 255

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويقتلُ القاتلان، ونسمِّيهما قاتلين حقيقةً، واسم الفاعل حقيقة فيما قامَ به الفعل، فلو لم يَقُمِ القَتْلُ بكلِّ واحدٍ منهما؛ لم يسُمَّ قاتلًا حقيقةً، ولم يَجِبْ عليه قِصَاصٌ. فإِنْ قلتَ: فينبغي على مَسَاقِ ما قرَّرتُمُوهُ أنْ يجبَ على كُلِّ واحدٍ من القاتلين دِيَّةٌ كَامِلَةٌ إِذا آلَ الأَمْرُ إِلى الدِّيَةِ ولا قائِلَ به، وإِنما يَجِبُ الحصَّة. قلتُ: أمَّا على الطَّرِيقة الأولى فلا يلْزَمُ ذلك؛ إِذ الصادِرُ قتل واحدٍ، ولا يَجِبُ في مقابلة القتل الواحد إِلَّا قِصَاصٌ أو دِيَة، لكن القِصَاص لما وَجَبَ، واسْتَدْعى محلًا يجب، وليسَ أحد القاتلين أولى من الآخر، والتَّحري في القصاصِ غير مُمْكن: احتُمِل أن يسقط رأسًا ويَعْدِل إِلى الدِّية، وذلك هو القَوْل الَّذِي حكاهُ ابن الوَكِيل، واحتُمِل أن يُوجب على واحدٍ يُعَيِّنُهُ الوَليُّ؛ لأنَّ القصاصَ موضوع للتشفِّي، ودرء القَتْل، والتَّشَفِّي يحصُلُ باختيار الوليِّ من يُريدُه، ودَرْء القتلِ حاصِلٌ بإِيجابِ نَفْسٍ في مقابلةِ نَفْسٍ، وهو القولُ الآخر، واحْتُمِل أن يُوجَبَ على كلِّ واحدٍ؛ لأنَّ القَوْل بسُقُوطِهِ مؤدٍ إِلى أن يُتَّخَذَ الاشْتِرَاكُ ذَرِيعَةً إِلى سَفْكِ الدِّمَاء، ولن نَعْدَم واحدًا صاحبًا يوافِقُهُ على فُجُورِهِ، وإِيجابُهُ على من يُعَيِّنُهُ الوَلِيُّ فيه إِضرارٌ بأحَدِ الشُّرَكَاءِ زائِدٌ على رِفْقَتِهِ مع مُسَاوَاتِهِ لهم فيما اقْتَرَفُوه، ولا يَلِيق ذلك بِمَحَاسِن الشَّرِيعَةِ، وكانَ الأَخْذُ بمجامع المصالِح إِيجَابَ القِصَاصِ على الكُلِّ؛ لئلَّا يؤدِّي إِسْقاطُهُ إِلى اتِّخاذ الشركَةِ ذَرِيعةً في سَفْكِ الدِّمَاء، ثمَّ نقولُ: إِيجابُ القِصَاصِ على الجَمَاعةِ بقتلِ الواحِدِ ليس مُنقاسًا من كلِّ الوُجُوه، جارِيًا على مِنْهَاج المُقابلةِ والمماثَلَةِ من كلِّ ناحيةٍ، بل فيه معنىً مَصْلَحِي شَهِدَ له قَتْلُ عُمَر رضي الله عنه خَمْسةً أو سَبْعَةً برجُل قَتلُوهُ غِيلةً، وقوله: لو تمالأَ عليه أهْلُ صَنْعاء لقَتَلْتُهُمْ جميعًا، وهذا الاحْتِمَالُ الثَّالثُ هُوَ الصَّحيح، فإِذا آل الأمْرُ إِلى الدِّيةِ لم يُضْطَرَّ إلى إِيجابِ كلِّها؛ لإِمكان التَّحرِّي فيها، ورعاية المماثَلَةِ من كُلِّ الوُجُوهِ والعدل، فتحصَّلنا من هذا أنَّه على أنَّه لمَّا لم يَكُنْ درْءُ القِصَاص ولا المُماثلة من كلِّ وجهٍ، اغتفرنا إِيجابَهُ للمصالحِ الكُلِّيَّةِ، وفي الدِّيَة أمكنَتِ المماثلَةُ فلَمْ يعدلْ عنها، ولذلك لمَّا تخيَّل بعضُهُم إِمْكَانَ التَّماثُل في الجِرَاحَاتِ قَضَى به، فلإِمام الحَرَمَيْنِ احتمالانِ فيما إِذا اشْتَرَكَ جماعةٌ في مُوَضِّحَةٍ، بأن تحامَلُوا على الآلَة وَأجْرَوْهَا معًا:

أحدهما: أَنَّهُ يُوزَّعُ عليهم، ويُوَضَّحُ من كُلِّ واحِدٍ منهُم قَدْر حِصَّتِه؛ فإِن الموَضِّحَةَ قَابِلةٌ للتَّجْزِئَةِ، والقِصَاص جارٍ في أجزائِهَا، فصارَ كما لو أتْلَفُوا مالًا يُوزَّعُ عليهم الغُرْمُ.

والثَّاني - وَبه أَجَابَ صاحب "التَّهْذِيب" -: أنَّه يُوضَّحُ من كُلِّ واحدٍ منهُم مثل تلك المُوَضِّحَةِ؛ لأنَّه لا جزء إِلَّا وكُلُّ واحدٍ منهم جَانٍ عَلَيه، فإِن قُلْت: فقد أجْروا هذَيْن

ص: 256

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الاحْتِمَالَيْن فيما إِذا آل الأَمْرُ إِلى الْمَالِ، هَلْ يَجِبُ الأَرْشُ موزَّعًا عليهم؟ وهو المذكُورُ في التَّهْذِيب، أو يَجِبُ عَلى كُلِّ واحدٍ أَرْشٌ كامِلٌ؟ قال إِمام الحَرَمَيْن: وهو الْأَقْرَب، وهذا يخْدشُ ما قَرَّرْتُمُوة من التَّجزي في المَالِ. قُلْت: لا؛ لأِنَّ القَوْلَ بإِيجَابِ أَرْشٍ كاملٍ مَأْخَذهُ أنَّه صَدَر من كُلِّ واحدٍ مُوَضِّحَةٌ، فَغَايَرَ مُوضِّحَةَ صاحِبِه، ويُمْكن فَصْلُها عَنْها كما قيل في الاحْتِمَال الأوَّلِ من توزيع قِصَاص الْمُوَضِّحَةِ، فلا تعلق بِهذَا لما نحنُ فيهِ. هذا مُنْتَهى الْكَلامِ على الطَّرِيقَة الأُولَى، وأمَّا على الطَّرِيقَةِ الثَّانِيةِ فكَذِلك نقول: لما صدر قَتْلان وكانَ المَقْتُول واحدًا، والدِّيَةُ بَدل المَقْتُول بِسَبَبِ القتلِ، لا بدل القتل نَفْسِهِ، وإِنَّمَا تقابل النَّفس الواحدة بديةٍ واحدةٍ، لا بدياتٍ؛ أتقولونَ: التَّوزيع فيها بخلاف القِصَاصِ أَوْجَبْنَا ذلك، فَإِنْ قلت: أتقولونَ بأنَّ الدِّيَةَ ليست بدلًا عن القتل؟ قلتُ: نعم، فالمقتول يُقَابَلُ بقصاصٍ، أو ديةٍ، وتختلف دِيَتُهُ مقدارًا، وتغليظًا بحسبه، والقتلُ يقابل بكفارةٍ، فإِنْ قلتَ: إِذا كان الصَّادرُ عند اجتماع القاتلين على القتل قتلًا واحدًا؛ فلا ينبغي أن يجب القصاصُ على شريك الأب؛ لأَنَّهُ لم يستبدَّ بالقتل، ولم يصدر عنه في حالة الشَّركَةِ بتمامه؛ إِذْ هو جزء علَّة، وإِذا كان الحَاصِلُ قتلين؛ فينبغي أَنْ يَجِبَ على شريك الخاطِئ؛ لأنَّهُ صدر منه قتل محضٌ عمدٌ عدوان من حيث كونه مُزْهِقًا للرُّوح، فلا ينبغي أنْ يسقط عنه القِصَاصُ برفقته لقتل آخر لم يحصل منه القتلُ على هذه الصِّفَةِ؛ قُلْتُ: قد قُلْنَا ما يُعْرَفُ منه أَنَّ شريك الأَب، وإِن كان الصَّادِرُ منه حالَة الشّركةِ جزء علَّة إِلَّا أنَّهُ إِنما جعله جزء علَّةِ مشاركة [وإِلا فهو في نفسه مستقلّ بالزهوق، وشركته وقعت لمن لا يَسْقُطُ الضمانُ بشركته]

(1)

، فَلَمْ يَسْقُطْ عنهُ شيئًا، والحاصلُ أنَّهُ أتى بعلَّةٍ مستقلَّةٍ لو انفردت وضمَّها إِلى مَنْ لا ينفعه ضَمُّها إِليه، فلم يعط حكم الجزئيَّةِ تلك الحالة، بل حكم الاستقلال لمأخذ فقهيٍّ لا تَعَلُّقَ للأُصوليّ به، وشريك وإِن أَتَى على التقدير الآخر بقتل غير قتل صاحبه، إِلا أَنَّ القتلين تواردَا على محلٍّ واحدٍ، فأعطيا حكم الواحد فقهًا، والواحد يسقط إِذا وقعت فيه صفة لو وقع كلُّهُ موصوفًا بها؛ لم يجب قصاص، وذلك كلُّه لمآخذ فقهيةٍ لا لمَا نحنُ فيه، فقاعدة مذهبنا أَنَّ كلَّ نفسين اشتركا في قتلِ واحدٍ لم يخل من أحوال:

أحدها: أن يكون كلّ منهما لو انفرد بقتله اقْتِيدَ بِهِ.

والثاني: عكسهُ.

(1)

سقط في أ، ب، ت.

ص: 257

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثَّالثُ: أن يكون على أَحَدِهِمَا القَوَدُ دون شريكه، فإِن كان كلُّ واحدٍ منهما ممَّنْ يجبُ عليه القَوَدُ لو انفرد مثل: حرَّين قتلا حرًّا، أو عبدين قتلا عبدًا، أو مشركين قتلا مشركًا، فيقتل كلُّ واحدٍ منهما، وإِن كانَ عكسُهُ مثل أَنْ قتلاه خطأً، أو قتل مسلمان كافرا، أو حُرَّان عبدًا، أو أب وجدّ قتلا ولدًا، أو أبوان قتلاه، فلا قَوَدَ عليهما، وأَن أحدهما لا قَوَد عليه لو انفرد لم يَخلُ الَّذي لا قَوَدَ عليه.

أَمَّا أن يكونَ مضمون الفصل أوَّلًا، فإِن كان مضمونَ الفعلِ؟ نظرت، فإِنَّ سقُوطَ القَوَدِ عنه لمعنى في نفسه، فالقود واجبٌ على شريكه كشريك الأَبِ، وشريك الصَّبيِّ، والمجنونِ، إِذا قلنا: عَمْدُهَا عَمْدٌ، وهو أصحُّ القولين، وإن كان سقوطُ القَوَدِ عنه لمعنًى في فعله؟ فلا قود على شريكه كشريكِ الخاطِئ، والصَّبي، والمجنون إِذا قلنا: عمدها عمد في حكم الخطأ، أو كانا بحيث لا تمييز لَهُمَا بحالٍ، فإِنَّ القَفَّالَ، ومن تابعه - كالبغويِّ - قالوا: "إِنَّ عمدَهَا في هذه الحالة خطأ، وشريكهما شريكٌ خاطئٌ قطعًا، قالوا وإِنَّمَا الخلافُ في أَنَّ عمدها هل هو عمدٌ في صبيٍّ يعقل عقل مثله، وفي مَجْنُونٍ له نوعُ تمييز وإِن كان فعل شريكه غير مضمون مثل: أن شارك سَبْعًا في قتل إِنسان، أو شارك رجلًا في قتل نفسه مثل: أنْ جرحه، وجَرَح نفسه، أو جرحه مرتدٌ ثمَّ أَسْلَمَ، وجرحه آخرُ في حال إِسْلامِهِ فإِنَّهُ لا ضمان على أَحَدِهِمَا بحال، وهل يكون على شريكه القَوَدُ وفيه قولان: أَحدهما لا؛ لأَنَّهُ أحسنُ حالًا من شريك الخاطِئِ، فإِنَّ الخاطئ يضمن بوجهٍ، والسَّبعُ لا ضَمَانَ في فعله بوجهٍ، ويجبُ نصف الدِّيَةِ، وَأَصَحُّهما الوجوبُ؛ لأَنَّهُمَا عامدان، لا قَوَدَ على أحدهما لا لمعنًى في فعله، فهو كشريك الأب، فإِنْ قُلْتَ: لو أجمع شخصان على قَتْلِ شخص بفعلين لو انفردَ كُلٌّ من الفعلين لم يقتله، وإِنَّمَا حصل قتله من مجموع الفِعْلَيْنِ، وكان كلٌّ مِنَ الفعلين جزءَ علَّةٍ لا استقلال له بالكليَّةِ في حالةٍ من الأحوال، فإِنَّهُ يجبُ القِصَاصُ عليهما؛ إِذا كان الفعلان جرحين، كما لو قطع هذا يَدَه، والآخر رِجْلَهُ؛ فقد وَجَبَ القصاص في هذه الصُّورَةِ على مَنْ لم يَأْتِ بعلَّةٍ، ولا بِجُزْء علَّةٍ تكون علَّة إِذَا انفردت، وما ذكرتموه يأباه؛ إِذْ قلتم: إِنما وجب على الشَّرِيكَيْنِ؛ لإِثبات كُلٍّ منهما بجزء عِلَّةٍ إِذَا استقلَّتْ.

قلت: اعلم أَنَّ للجروح نكايات في البَاطِنِ لا ندري غورها، وَرُبَّ مقطوع اليد استمرَّ به ألمُ قطع اليد إِلى أَنْ مات منه، ووجب القِصَاصُ على قاطعه، فلسنا ذا يقين بأَنَّ الجرح لو انفرد لم يستقل، وأيضًا فلو لم يوجب القصاصَ هنا لاتَّخذ النَّاسُ الاشتراك ذريعةً إِلى القتل، فلا بِدْعَ في اتِّفَاقِ عَشَرةٍ على قطع عشرة من الأعضاء كلٌّ منها لو انفرد لم يقتل،

ص: 258

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويقتلُ حالة الاجْتِمَاعِ لا محالةَ؛ فأوجبنا القصاص حسمًا للباب لا لِشَيْءٍ ممَّا نحنُ فيه، وقد سبق نظيره في أصل الاشتراك على القَتْلِ.

فإِنْ قلتَ: فما رأيكم في جماعةٍ ضربوا واحدًا بسياط، أو عصا حقيقة، ولم يكن ضرب كلِّ واحدٍ منهم قاتلًا، كما لو اجتمعَ عدد كثير فضربه كلُّ واحدٍ منهم ضربةً، فمات؟.

قلت: فيه ثلاثةُ أوجه:

أَحَدُهَا: لا قصاص، ومَنْ عداه شركاؤه، ولا قصاص على شركاء الخَطَإِ وشبه العمد، وهذا بخلاف الجراحَاتِ، فإِنَّها تقتضي القصاص، ولها نِكَايَاتٌ باطنةٌ.

والثَّاني: يجب؛ لئلا يصير ذلك ذريعة إِلى سفك الدماء.

والثالث: الفرق بين أن يتواطئوا على هذا الفعل، فيجب القصاص أو لا، فلا يجب، وهو اختيار القاضي الحُسَيْنِ.

فإِن قلتَ: فقد قالوا في شاهدي الزُّورِ إِذا رجعا أَنَّهُ يجب عليهما القِصَاصُ مع أَنَّ كلًّا منهما لو انفرد بالشَّهادةِ؛ لم تقبل شهادته، ولا فرق بينه وبين مسألة السِّياطِ مع جريان الخلاف هناك، وعدم جريانه هنا.

قُلْتُ: الفرقُ بينهما أَنَّ شاهد الزُّور كشريك الأب؛ فإِنه آتٍ بفعل من جهته لا نقض فيه أَلبتة، وإِنَّمَا الشَّارع لم يلتفت إِليه إِلَّا بضميمة آخر إِليه وعدم التِفَات الشَّارع إِليه، إِذَا كان منفردًا لا يوجب نقصًا فيما فعله، بخلاف السِّيَاطِ؛ فإِنَّ صاحبها يشبه شريك الخاطئ؛ فإِنَّ سياطه مقصّرة عن الزُّهُوقِ بنفسها، والحاصل: أَنَّ الضَّاربَ بالسَّوْطِ لم يأت بفعل مستقلٍّ بالإِزهاق، ولا قصد به الإِزهاق، والشَّاهدُ أَتَى بفعل قصد به الإِزهَاقَ، وهو لولا عدم التفات الشَّارع إِليه مزهق، فكان بمنزلة من أَزْهَقَ بفعله سواء؛ لأَنَّهُ لم يدع شيئًا من مقدوره بل جاء بالشَّهادة الباتَّةِ الجازمةِ كشريك الأب سواء، ولم تثبت شهادته وصف ينقضها، بخلاف شريك الخاطِئِ. هذا ما خَطَرَ لي في الفرق، والسُّؤال قوي، فإِنْ قلْتَ: فما تَقُولونَ فيما إِذَا جرحه رجلان جرح أحدهما مزفف دون الآخر؟.

قلتُ: يجب القِصَاصُ على المزفف؟ لأَنَّهُ قطع عمل صاحبه؟ ولم يجعل له مدخلًا في الصلة، فإِن قُلْتَ: فلو كان جرح أحدهما مزففًا، وشكَّكنا في الآخر هل هو مزفف؟ قُلْتُ:

ص: 259

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نقل الرَّافِعِيُّ في "باب الصَّيْدِ والذَّبائح" عن القَفَّالِ: إِنَّهُ يجب القصاصُ عليهما؟ وأَنَّ إِمام الحرمين قال: هذا بعيد، والوجه تخصيص القصاص بصاحبِ المزففة، فإِنْ قلتَ: إِذا مهدتم أنَّهُ لا يعلّل حكم بأكثر من علَّةٍ، فما معنى اعتلال المانعين من اجتماع علَّتين بوجوه وهو حكم واحد؟ وكذلك ما شاع بين علماء الأُمَّةِ وحملة الشَّريعة من قولهم في مسائل كثيرةٍ: الدَّليلُ على هذا الكتابُ والسنَّةُ والإِجْمَاع، وكذلك قولهم: قد يجتمع أَدلَّةٌ على مدلولٍ واحد، وقولهم: ويجوز اجتماع الأَمَارَاتِ والمعرفات على شيْءٍ واحد، وهو شائع ذائع بين الفرق لا ينكره إلّا مباهت؟ قُلْتُ: قد عرَّفناك أنَّا لا ننكر نصبَ دلائل على مدلولٍ واحد وعلامات على معرّفٍ واحد، وإِنَّمَا ننكر أَنَّهَا اجتمعت لشخصٍ واحد في حالةٍ واحدة، وحصل له العرفانُ؛ إِذْ ذاك يكونُ عارفًا بكلٍّ منها على حسب الاستقلال هذا الَّذي نشدِّدُ النّكير فيه، وإِلَّا فكم من أمارات على شيْءٍ واحد، بل وبراهين قاطعة كلٌّ لو انفرد لأفَادَ، ولم يقل وَاحِدٌ: إِنِّي عرفتُ حكمَ هذه المسألة مِنْ دلائل مجتمعةٍ كلٌّ منها عرفني. هذا لم يصرّح به أحد، ولن تجد مساغًا إِلى نقله عن إِمَامٍ، وإِنَّمَا مرادهم أنَّ هذه الدلائل كلٌّ منها يفيدُ المقصودَ لمن عرف به، فإِنْ عرف به وحده أفاده، وكان إِذْ ذاك دليلًا نَاهِضًا مستقلًّا، وإِنْ عرف به مع غيره كان جزءًا من الدَّليل إِذا اتَّحَدَ المعروف، وليس في ذلك كبير أمر، ولقد يَكَادُ يرجع النِّزَاعُ فيه لفظيًّا، ولك أَنْ تسمي العللَ المجتمعة لشخص واحد أجزاء مستقلَّة بالنِّسبةِ إِليه، وإِليها في نفسها، وكذلك ينبغي أنْ يفهم من قول مَن يقولُ من الفقهاء: هذه عللٌ لمعلول واحد؛ فإِنَّ مراده: أَن كلا يستدلُّ به على المعلول أَمَّا أنَّهَا إِذا اجتمعت فهل حصل بمجموعها، أو بكلِّ فرد منها، أو بواحد منهم إِلى غير ذلك من الاحتمالات، فهذا شيْءٌ لا يتكلَّمُ فيه الفقيه، ولا تعلُّقَ له به، وهو مسألة اجتماعِ العلَّتينِ على معلولٍ واحد، [ولذلك فإِن الغزالي في "الوَسِيطِ" قال: قد تجتمعُ علَّتَانِ على معلولٍ واحدٍ]

(1)

ومراده في "الوَسِيطِ" ما يريده الفقيهُ من أنَّ كلًّا من الوصفين صالح لإِفادَةِ الحكم، وذكر في "المُسْتَصْفَى" في الأصول امتناع ذلك في المستنبطةِ، ومراده امتناع حصولُ العرفان بكلٍّ منهما على حدتِهِ، والتَّأثير بكلٍّ منهما، فإِنَّ الغزاليَّ يقولُ: العِلَلُ مؤثراتٌ بجعل اللهِ سبحانه وتعالى وإِذْنِهِ، والحاصل أَنَّهُ تكلم في كلِّ فنٍ بحسبه، وليس له أَنْ يخلطَ، فيناقض - ولا لأحد أنْ يتوهَّم مناقضته في كلامه، وكذلك ذكر إِمَامُ الحرمين في "البُرْهَانِ في

(1)

سقط في ج.

ص: 260

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أصول الفقه" أَنَّهُ يمتنع شرعًا اجتماعُ علَّتَيْنِ؟ وذكر في "الأساليب" في الخلافيّات أَنَّهُ لا يبعد في وضع القياس أن يصحَّ علَّتانِ بحكمٍ واحد؛ إِذ الحكمُ الواحد يجوز أن يعلَّلَ بعلل، ولا يمتنعُ ذلك. اننهى، فينبغي لذي الفطنة أَنْ ينظر في كلِّ موضع بحسبه، فإِن قُلْتَ: ما تقولون فيما إِذا استولد الرَّجُلُ مدبرته؟.

قلتُ: قال الرَّافعِيّ: الَّذي أورده أكبرُ سلف الأَصحاب وخلفهم: أَنَّهُ يبطل التَّدبير؛ لأن الاستيلادَ أقوى، فيرتفع به الأضعفُ كما يرتفعُ ملك النِّكاح بملك اليمين، فإِن قُلْتَ: فما تقولونَ في تدبير المستولدةِ.

قُلْتُ: لا يصحُّ - قال الرَّافِعِيُّ: لأَنَّهَا تستحقُّ العِتْقَ بالموت بجهة هي أقوى من التدبيرِ، وفي طريقة الصَّيْدَلانيِّ أَنَّهُ لا يبطل التَّدْبِير، [وقال الرُّويَانِيُّ في "الكَافِي" وقيل: لا يقول ببطلان التَّدبير]

(1)

، فيكون لعتقِها يَوْمَ موتِ السَّيِّدِ سببان، وعلى هذا جرى الإِمامُ والغزاليُّ مع اعتراف الإِمَامِ بأَنَّهُ لا أثر لبقاء التَّدبير، ولكنَّهُ يدخل في الاستيلاد كما لو طرأت الجنابَةُ على الحَدَثِ.

فإِن قلتَ: كيف قال الإِمامُ هنا باجتماع علَّتين، وهو يمنع اجتماعهما شرعًا؟ قلتُ: قد قال: إِنَّه لا أثر لبقاء التَّدْبيرِ، وذلك دليل على ما أقوله: من المحذور اجتماعُ علَّتينِ يعرفان، أو يؤثِّران، فحيثُ لا يحصل التأثيرُ لم يجتمع، وإِن اجتمعَ وصفان لكلٍّ منهما صلاحية التَّأثير والتَّعريف حالة الانفراد.

فإِن قُلْتَ: ما تقولونَ فيما إِذا اجتمعَ وصفان أحدهما أكثر تأثيرًا من الآخر هل يعملهما أو يطرح الضَّعيفَ؟!.

قُلْتُ: حيثُ أمكن إِعمالهما، فلا سبيل إِلى العدول عنه، وحيث لا فالإِعمال للأقوى.

مثاله: القاتل المرتدّ، عليه قتلان ضاق المحلُّ عنهما، فلم يكن استيفاءُ غير قتل واحد، ولم يضيق عن أحكامهما وآثارهما فاجتمعا، فيقدَّمُ حقُّ الآدمي لا لأن حقَّ الآدميِّ آكدُ؛ فإِنِّي لا أرى تقديمَ حقِّ الآدمي كما قرَّرته في موضعه؛ لأَنَّهُ لما اجتمع الحقَّان، ولم يتعارض القصدان، إِذْ ليس غرض الآدميِّ سوى التَّشفي بالاقتصاص سلمناه إِلى وليّ الدَّمِ ليستولي منه، فيحصل المقصدان في ضمن ذلك مقصد الآدمي بالتَّشَفي، والمقصد الشَّرعي

(1)

سقط في ج.

ص: 261

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بتطهير الأرض من المرتدين؛ فإِنَّهُ ليس المقصد الشَّرعيُّ إِزهاقَ الأرواح بخصوصه، إِنَّمَا المقصد الشَّرعيُّ زوال الرّدة ومفسدتها العظمى، فإِنْ هو حصل بالإِسلام فذاك، وإِلا تعيَّنَ القتلُ طريقًا لدرء فسادِهَا، وتقبل عن حقِّ الآدمي مع جريان أَحكام المرتدِّين عليه في الحياة وبعد الممات؛ وهذا لأَنَّهُ أمكن إِعمال آثار العلَّتين.

أَمَّا في صورة المستولدة إِذَا دبرت فلا يظهر للتّدبير أثر ألبتة، فإِنْ لاحت للمنفعة فائدة في التَّدبير تزيد على الاستيلاد، ولا يدفعها الاستيلادُ عملنا بها، فإِن قلتَ: ما تقولون في المشتركين في القتل هل يجبُ على كلِّ واحد منهم كفَّارةٌ، أو يجب على الكلِّ كفارة يتوزعونها؟!

قلتُ: الأَصَحُّ أنَّهُ يجب على كُلِّ واحدٍ كفارة؛ لأَنَّ الكفَّارَةَ لا تتبعّض فأشبهتِ القصاصَ، والوجه الآخر: وجوب كفارة واحدة كالشُّركاء في قتل الصَّيْدِ يلزمهم جَزَاءٌ واحد.

فإِنْ قلتَ: فما الفارِقُ بينه وبينَ الصّيد؟.

قلتُ: ما قدَّمناهُ من أَنَّ الدِّيَةَ بدل عن المقتول لا عن القتل، وكذلك الجزاء بدلٌ عن الصَّيْدِ لا عن الاصطياد قال تعالى:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [سورة المائدة: الآية 95] أي جزاء ما قتل، لا جزاء قتله أَمَّا الكفَّارة فبدل عن القتل؟ فلذلك وَجَبَ على كُلِّ واحد بدل القتل، وهو الكفَّارة، ولم يتعذّر التعدد فيها، فتعددت بالنِّسْبَةِ إِلى تعدُّدِ القاتلين على الصَّحيح، فإِنْ قُلْتَ: إِذا قرَّرت امتناع اجتماع علَّتين، فماذا يفعل في الوصفين إِذَا اجتمعا؟.

قُلْتُ: لي في كلِّ وصفين فصاعدًا حصل اجتماعُهُمَا طرقٌ ثلاثةٌ لم يخلُ عنها ما سطَّرنَاهُ في هذه الجملة الأُولى: أَنْ أَدَّعِي تعدُّدَ الأَحكام، وأنا بسبيل من ادِّعَاءِ ذلك في كُلِّ صورة، وسبق فيه قول بليغ.

والطَّريقُ الثَّاني أَنْ أَسلم اتحاد الحكم، ولكن أقول: لما ضاق المحلُّ عن الحكمين لم يضق عن آثارهما، فآثارهما باقية، وربَّمَا اختلفت فظهرت فَائِدَتُهَا كما في القاتل المرتدّ، وربَّمَا لم يختلف بخصوصِ ذلك الموضع الواقعة فيه كما في المستولدة إِذا دبّرت، وقلنا: يصحُّ تدبيرها.

والطَّرِيقُ الثَّالِثُ؛ أنْ أنظر إِلى الوصفين فاعمل أخيلهما وأشبهما، وأطرح الآخر بالكليَّة، وهذا إِنَّمَا أفعله إِذَا لم يظهر للآخر فائدةٌ أصلًا كما في تدبير المستولدة، فإِنَّ

ص: 262

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الصَّحيح بطلانه؛ لأَنَّهُ لا يظهر لثبوته أثر وثَمَّ أقوى منه، وهو الاستيلاد، فأعملناه وألغينا التَّدبيرَ، وهذا في حقِّ العارف بوقوع الوصفين أَمَّا مَنْ لم يعرف إِلا أحدهما، فهو يعرف به عند موت السيِّد المعتق، فمن لم يعرف إِلَّا التَّدبيرَ يعرف عند موت السيِّد عتق الأمة وإِنْ كان وصفُ التَّدْبِيرِ ملغىً عند العارف بالاستيلادِ، فإِنَّهُ إِنَّمَا ألغاه لعدمِ احتياجه إِليه بإِسناده، إِلى ما هو أقوى منه، وكونه لا يظهرُ له أثر البتة.

أَمَّا المحتاجُ إِليه فكيف نلغيه، وأَمَّا إِذَا ظهر له أثر كوصف الرِّدَّةِ المنضمِّ إِلى القتل، فكيف يلغى ونحن نحتاج إِليه في جعل مالِ المرتدّ فيئًا، وعدم الصَّلاةِ عليه إِلى غير ذلك من أحكَامِ المرتدِّين، فإِنْ قلت: فما قولكم في الطِّفْلِ المجنون، فإِنَّ الولاية ثابتةٌ عليه، وهي قضيَّةٌ واحدة معللَّة بالجنون والصِّبَا؟

قلتُ: أَنَا أَقول في هذا: إِنَّ الثَّابت حجر الصَّبي، ولا أثر لحجر المجنونِ هنا رأَسًا؛ لأَنَّ الجنون طارِئٌ على الصَّبيِّ فيصادف محجورًا عليه، فلا يقتضي شيئًا: كمن مَسَّ ثُمَّ لَمَسَ لم يفعل لمسُهُ شيئًا، ولو فرضت الصَّبِيَّ ولد مجنونًا، فهكذا أقول، إِذِ الصِّبا وصفٌ ذاتيٌ له، والجنونُ عرضيٌّ، فكان التّعلق بالذَّاتي أولى، فإِنْ قلت: لِمَ لا تقولُ هنا بأَنَّ كلًّا من الوصفين جزءُ علَّةٍ؟ قُلْتُ: هذا ممكن، ولكني إِنَّمَا أقوله حيثُ لا يترجَّحُ أحدُ الوصفين على الآخر، أَما عند ترجُّحِ أحد الوصفين مع ظهور فائدة للوصف الآخر فإِنِّي أطرح الأضعف، فإِذَا بَلَغَ مجنونًا زال حجر الصِّبا، وخلفه حجر الجنون، فَإِنْ قُلْتَ: وهلّا قُلْتَ: يثبتُ هنا حجران؟ قُلْتُ: هذا أيضًا ممكِنٌ، وقد قلنا: إِنَّا بسبيل في كُلِّ صورة من الطُّرق الثَّلاث، وإِن ترجح في بعض الصُّوَرِ واحد منها بخصوص تلك الصُّورَةِ.

واعْلم أَنَّ إِمَامَ الحرمين قد أجاب عن الولاية على الطّفل المجنون فقال: الوِلايَةُ الثَّابِتَةُ على المجنون ضروريَّةٌ؛ إِذْ لا يتوقّع من المجنون تصرُّف، وفهم ونظم عبادة، والولاية على الصَّبيِّ المميز لمكان الغبطة، وطلب الأصلح، فإِنَّ الصَّبيَّ يعقل ما يقولُ ويفعل، ومن كان أَنيسًا بتأَصُّلِ الولايات لم يعدم فرقًا بين الولاية على المجنون، والولاية على الصَّبي المميز، فإِنْ فرض صبي غير مميز فهو المجنونُ بعينة، ولا أثَرَ للصِّبا، ولا يقع به تعليل، فإِنَّ الولاية الحقيقة بالصِّبَا هي ولاية الاستصلاح، وقد تناهى الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه في الغَوْصِ على ما ذكرنا حتَّى لا يرى توريث ذي قرابتين بالقرابتين جميعًا إِذَا كانت أحدهما أَقْرَبَ من الأخرى، وقالوا: القُرْبُ الأقربُ يعدم أثَر القربِ الأبعد حتَّى كَأَنَّهُ ليس قربًا، فكذلك الصِّبا

ص: 263

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مع سقوط التَّمييز ليس معتدًّا به. انتهى، والَّذي فهمته منه أَنَّهُ يقولُ. حجر الجنون واقعٌ في محلِّ الضَّرُورَةِ لتدارك حال المجنون، وليس لخصوصِ الجُنُونِ فيه مدخل في العليَّةِ، بل العلَّةُ أَنَّهُ لا تميز، فاضْطَر إِلى نصب من يقومُ بأَمره ويتكفل بمعاشه، وهذه العلَّةُ تشملُ مَنْ قام به وصف الجنون، ومن لم يقم إِذَا كان مساويًا للمجنون في عدمَ التَّمْيِيزِ كالطِّفْلِ الرَّضيع، فالحجرُ على الصَّبِيِّ الَّذي لا يميِّزُ هو الحجر على المجنون بعينه، ولم يرد أَنَّ وصف الجنون قائمٌ به، ولا غرض له في ذلك؛ إِذْ خصوصُ الجُنُونِ لا مدخل له في إِثَارَةِ الحكم، وإِنَّمَا هو وصف منضبط مشتملٌ على الحكمة الَّتي هي عدم التَّمييز، وبها نيطَ الحكمُ في الحقيقة، فالنَّظَرُ لعموم عدم التَّمييز لا بخصوص الجنون، وحجر الصبي الَّذي يميّز واقع في محلِّ الاستصلاح؛ لنقصان نظره، فالعلَّةُ في القاع الحجر عليه نقصان النَّظر لا خصوص كونه صبيًّا، وبهذه العلَّةِ الَّتي هي نقصان النَّظَرِ وعدم سداده، واستكماله، فوقع الحجرُ على السُّفَهَاءِ، وإِنِ افتَرَقَ حكم حجر الصِّبا والسَّفه، فذاك الأَمْرُ غير ما نحن فيه، وإِذَا كان حجر الصَّبِيِّ المميز لنقصان النَّظَرِ لا للصِّبا وهو مصلحي لم يصحَّ اجتماعُهُ مع حجر عدم التَّمييز الَّذي هو ضروريٌّ، فلا يقال: اجتمعَ هذان الوصفان، وهذه طريقةٌ حسنة قويَّةٌ؛ فإِنَّ إِمامَ الحرمين يمنع تَصَوُّرَ اجتماع الحجرين؛ لأن أحدهما معلَّلٌ بنقصان النَّظَرِ، والآخر بعدمه، ونقصان النَّظَرِ يستدعي حصول أصل النَّظر، وهو لا يجتمع مع عدم النَّظَرِ، فلم يجتمع وصفان حتَّى نضطر إِلى أَنَّا هَلْ نُعْمِلُ أقواهما، أَو نخالف بين حكمهما، ونقولُ آثارهما مختلفة أَو غير ذلك، ونظير ذلك ما قاله الإِمَامُ أيضًا في قَسْمِ الصَّدقات: لا يختلف علماؤُنَا في أَنَّ الجمع بين أَسْهُمِ الفقر، والمسكنة محال من جهة أَنَّ الفقر والمسكنة يتناقضان، فلا يتصوَّرُ اجتماعهما لشخص، وهو صحيح؛ فَإِنَّ المسكنة معها وجدان شيْءٍ، والفقرُ عدم الوجدان، ولا يجتمع عدمُ الوجدان مع الوجدان، وإِنْ قلَّ، وقوله: ولا أثر للصِّبا ولا يقع به تعليل صحيح، ومراده: أَنَّ التَّعليل هنا بوصف عدم التّمييز، ولم يرد أَنَّ التَّعليل واقع هنا بخصوص الجُنُونِ، ويدلُّ له قوله: فإِنَّ ولاية الصَّبِيّ هي ولاية الاستصلاح، أي وولاية الاستصلاحِ لا تجتمعُ مع ولاية الضَّرورة؛ لأن الاستصلاح شرط عدم الضَّرورة، وعدم الضَّرورة مع الضَّرورة نقصان، وإِن فرض اجتماع الوصفين فإِنَّا نَدْرَأ الأضعف، وهو المصلحي، وننظر إِلى الأَقوى، وهو الضروريُّ، وقوله: وقد تناهى الشَّافعيّ

إِلخ أي غاصَ على معنى ما يحاوله من عدم اجتماع علَّتَيْنِ فقال في القَرَابَتَيْنِ إِذَا اجتمعا في شَخْصٍ: إِنَّهُ لا يرث إِلَّا بالأقرب إِذَا كانت إِحداهما أقرب، وقطع النَّظَر عن القرابة الأُخرى حتَّى كأَنَّهَا

ص: 264

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ليست بقرب، فكذلك الصَّبي إِذَا لم يكن معه تمييز يقطع عنه النَّظر بالكليَّة، ولكن في القرابتين اجتمع وصفان بلا شكٍّ، وفي حجر الضَّرورة والاستصلاح قد يقال: إِنهما لا يتعارضان؛ لأَنَّ تعارضهما فرع تخيل اجتماعهما، وهما لا يجتمعان، وقد يقالُ: يتعارضان، فيكونان كالقرابتين كما عرفت، وقد اعترض ابن الأَنْبَارِيِّ شارح "البُرْهَانِ" على إِمَامِ الحرمين بمِا لا أرتضيه، فأنا أحكيه وأتعقَّبُهُ قال: هذا الَّذِي تكلفه إِنَّمَا هو لما قرَّرَهُ من امتناع تعليل الحُكْمِ بعلَّتَيْنِ، فعرض مسائل يتأتى له الجواب عنها.

وأَمَّا المسائلُ العشرة كما صورناه في الخؤولة، والعمومة، والبول، والغائط، والمس، واللمس، فإِنه لهم يتعرض له بالغرض، وأَمَّا الولاية فإِنَّهَا ثبتت بالصِّغَرِ، والجنون جميعًا، وقوله: أحدهما استصلاحية، والأخرى ضرورية، فيقال له: هذا نَظَرٌ في العلَّةِ، وأمَّا حقيقة الولاية فلا اختلاف فيها، ولا تعدد بحال؛ فإِنَّ معنى الولاية منع استبداد الشَّخْصِ بِالتَّصَرُّفِ، وإِقامة غيره ناظرًا له، وَأَمَّا قوله: إِنْ كان لا يميز يعني الصغير، وهذا المجنون بعينه، هذا ليس كذلك عند الفقهاء، ولا الأطبَّاء؛ فإِنَّ الجنون حالة تثبت للشَّخص، وليس الجنون عبارة عن فقدان العقل بحال؛ فإِنَّهُ لو كان كذلك كان النَّائِم، والغافل مجنونين، وإِذا رجع إِلى صفة ثبتت للمحلّ، فهذه الصِّفَةُ لا تلزمُ الصَّبِيَّ الَّذي لا يميّز، فإِذا اتَّصَفَ بها مع صغره، وعدم تمييزه، فعلى من يُحَالُ حكمُ الولاية؟ لا يصحّ الحوالة على أحدهما دون الآخر؛ لظهور تأثيرهما جميعًا، ولا يصحُّ أَنْ يجعلا جزءين؛ لثبوت الاستقلالِ لكُلِّ واحد مِنْهُمَا، فكلُّ ما ذكره في منع تعليل الحكم بعلَّتين غير صحيح، وأَمَّا قوله: إِن الشَّافِعِيَّ لا يرى توريث ذي قرابتين بالقرابتين جميعًا، فليس هو كذلك على الإِطلاق؛ فإِنَّ ابني العم إِذَا كان أحدهما أخًا لأمٍّ؛ ورث بالقرابتين، وَإِنَّمَا ذلك مخصوصٌ عند العلماء بما إِذا كانت إِحدى القرابتين أقرب من الأُخْرَى، وما ذاك لاستحالة تعليل الحكم بعلَّتَيْنِ، بل لأَنَّ البعيدَ نزله الشَّرع منزلة القريب عند عدم القَرِيبِ، وإِذَا نزل منزلته لم يصحَّ أن يرث معه "انتهى".

وَأَنَا أقول: قولكم: فرضَ مسائل يتأتى له الجواب عنها، وأهمل العشرة: قلنا: سنبين إِنْ شاء اللهُ تعالى هو أنها عليه. قولكم: الولايةُ تثبتُ بالصِّغَرِ والجنون معًا، قلنا: هذا موضع النِّزَاعِ. قولكم: إِنَّ قَوْلنَا: أحد إِحداهما استصلاحية، والأخرى ضروريَّة نظر في العلَّة أي وذلك لا يستلزم عدمَ ثبوتها.

ص: 265

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلنا: هو وَإِنْ كان نظرًا في العلَّة إِلا أَنَّهُ يلزم منه عدم ثبوتهما؛ لأَنَّا بيّنا أَنَّ حجر الاستصلاح لا يمكن اجتماعه مع حجر الضَّرُورَةِ، فكان مرادنا من قولنا: حجر الضَّرورة وحجر الاستصلاح: أَنَّهُ لم يجتمع وصفان.

سلّمنَا أَنَّ الوصفين اجتمعا، ولكن أردنا أَنَّ أقواهما يعمل به، وهو حجر الضَّرورة، فَكَأَنَّا قلنا، الصَّبِيُّ المجنون فيه وصفان:

أحدهما يقتضي أعظمَ الحجرين، والآخر يقتضي أهونهما، فأعملنا الأعظم إِذْ لم يظهر للأضعف معه تأثير ألبتة.

قَوْلُكُمْ: فإِذَا اتَّصفَ الصَّغير بعدم التَّمييز فَعَلى مَنْ يُحالُ حكمُ الولاية؟ قلنا: يُحال على فيها، بل هي مختلفة، وولاية الصَّبِي غير ولاية الجنون، وأحكامهما مختلفة. وقد كرَّرْنَا هذا غير مرَّةٍ، فأي معنى لإِعادَتِهِ، سلَّمْنَا اتِّحادَهَما، ولكنا هنا لم ندّع وقوع حجرين أصلًا، وإِن كنَّا بسبيل من ذلك إِذَا قلنا بتعدُّدِ الولاية، وإِنَّمَا ادَّعينا هنا: أَنَّا لا نسلمُ اجتماعَ الوصفين، وإِن سلَّمْنَاه؛ فلا نسلم إِعمالهما، بل الإِعمال واقع لأقواهما فقط، فالواقعُ أقوى الحجرين، فالولاية متّحدة، والمؤثرة فيها أقوى الوصفين، وهو عدم التَّمييز، وما ذكرتموه من أَنَّ الصَّغِيرَ ليس هو المجنون بعينه صحيح، ولكنَّ الإِمام لم يرد خصوص الجُنُونِ، ولا غرض له فيه؛ لأن الشَّارع كما أسلفناه إِنَّمَا ربط الحكم بعدم التَّمييز، فأراد الإِمام: أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذي لا يميز لا وجه لذكر صغره؛ لأن عدم التَّمييز كافٍ في إِشارة الحكم، وسمَّاه المجنون بعينه توسعًا، ويظهر ذلك بتأَمُّل كلامه كما أوضحناه.

قَوْلُكُمْ: فإِذَا اتَّصَفَ الصَّغير بعدم التَّمييز فَعَلى مَنْ يُحالُ حكمُ الولاية؟ قلنا: يُحال على أقواهما، وإنْ لم يكن أقوى جعلناهما جزءين، وثبوت الاستقلالِ حالة الانفراد لا يمنع كونهما جزءين حالة الاجتماع، كما أسلفناه، وقولكم: فكُلُّ ما ذكره في منع التَّعليل بعلَّتَيْن غير صحيح - دعوى لا دليل عليها، وقولكم في القرابة: ليس ما ذكره على إِطْلاقِهِ، وإِنَّمَا ذلك إِذَا كانت إِحداهما أقرب. قلنا: سبحانَ اللهِ، "وقد صرَّحَ الإِمَامُ بهذا، وصورة ابني العم الَّتي ذكرها مشتملة على هذا، ثمَّ نقول: قولكم: من ابْنَيِ العمِّ أحدهما أخ لأم يرث بالقرابتين؛ لأَنَّ البعيد نَزَّلَهُ الشَّرع منزلة القريب لا لاجتماعُ علَّتين؛ قلنا: بجهتين جهة الفرض، فيرث بها السُّدس، وجهة التَّعصيب، فيرث بها نصفَ الباقي، فليس هنا اجتماع وصفين على موصوف واحد، بل اجتماعُ وصفين على موصوفين، وليس ممَّا نحن فيه في

ص: 266

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

شيْءٍ، وعند هذا أَقُولُ: لعلَّ مرادَ الإِمام أَنَّ ابْنَ العمِّ إِذا كان أخًا لأم يأخذ المال كُلّهُ لكونه أقرب، ولا يأخذُ الآخر شيئًا، وهو قولٌ للشَّافعي رضي الله عنه ويدلُّ على أَنَّ هذا هو مراد الإِمام قوله: قالوا: القربُ الأقرب يعدم أَثَرَ القرب الأبعد حتَّى كأنه ليس قربًا، وإِنَّمَا يعدم أثره إِذا لم يورثه به شيئًا، أَمَّا إِذا ورثه به فلم يعدم، فصورة ابن العم إِذَا كان أخًا لأم وتقديمه بجميع الميراث على ابن العم الآخر - على قول - هي مراد الإِمَامِ، وقد أعدموا فيها على هذا القَوْلِ حظَّ ابن العمِّ الآخر، وجعلوا قربه كَأَنَّهُ ليس بقرب، وإِرادة الإِمام لهذا أولى من إِرادته لما تخيله ابن الأنباري؛ إِذْ ليس ثمَّ اجتماع علَّتين على معلول واحد كما عرفت فإِن قلت: إِذا لم يكن ثمَّ اجتماعٌ على معلول واحد فلم لا تمنعون من فيه صفتا استحقاق في الزَّكَاةِ أن يأخذ بهما فإِنَّ المذهب الصَّحيح أَنَّهُ إِنَّما يعطى بأحدهما فقط؟

قُلْتُ: ذاك لأَنَّ الله - تعالى - عطف المستحقِّين بعضهم على بعض، والعَطْفُ يقتضي المغايرةَ، فليس المنع من إِعْطَائِهِ بالصَّفتين مقتضيا لإِعمال علَّتين على معلولٍ واحد؛ لأَنَّهُ على تقدير القولِ به لا يأخذ شيئًا واحدًا بالصَّفَتَيْنِ، بل شيئين كلٌّ منهما بِصِفَةٍ كما عرفت، واعلم أَنَّهُ لو كان الخلافُ في أَنَّ تعليل الحكم الواحد بعلَّتَيْنِ جاريا سواء أكان ذلك الواحدُ واحدًا بالنَّوْع، أم واحدًا بالشَّخْصِ - كما أشار إِليه بعض الأُصوليين - اتَّجَهَ أَنْ يقال: الإِعْطَاء بصفتين والتَّوْريث بقرابتين قد يسندان إِلى ذلك، فإِنَّ ابن العمِّ مثلًا إِذا كان أخًا للأمّ، فيكونُ السَّبب في إِرثه الَّذي هو قدر مشترك بين إِرث الإِخوة للأم [وإِرث العصوبة - بسببين الإِخوة للأم]

(1)

وبنوة العمّ، فيجتمعان على أصل التَّوريث، وإِنِ اختلفت صفة الوراثة باختلافهما، ولكنَّ الصَّواب أن الخلافَ مختصٌّ بتعليل الحكم الواحد بالشَّخص، وأَنَّهُ يسوِّغ تعليل الواحد بالنَّوْعِ بعلَّتين وفاقًا كما ذكرناه في صدر المسألة. فإِن قُلْتَ: بماذا ينفصلون عن الخُؤُولة والعمومة وعن البول والغائط؟ قلت: سبحان اللهِ، قد عرفت أَنَّا بسبيل من أَنْ نقولَ بتعدُّدِ الأحكام، ومن أن نقول بكونها أجزاء للعلَّةِ في حالة الاجتماع، وإِن استقلَّت في حالة الانفراد وغير ذلك ممَّا عرفت، ولا تزيد صورة الخؤولة والعمومة والرّضاع وغيرها ممَّا ذكره الغَزَالِيُّ كما حَكَيْنَاهُ عنه في صدر المَسْأَلَةِ - على صُورَةِ القاتل المرتدِّ، وغيرها ممَّا أوردناه إِلَّا بأَنَّهُ لا يظهر أثر الخُؤُولَةِ والعمومة؛ لعدم افتراق أَحكامهما، فمن هذا: ظنّ أَنَّ الحكم يتَّحدُ فيهما، وأَنَّهُ لا يمكن القولُ فيها بتعدُّدِ الأحكام كما سبق، والظَّاهِرُ أَنَّ القولَ

(1)

سقط في جـ.

ص: 267

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بتعدُّدِ الأحكام فيها أيضًا ممكنٌ، وعدم تخالف الآثار لأَمْرٍ اتِّفَاقي لا للاتِّحادِ، ولقد تعدَّى شَارحُ البرهان ابن الأنباري طوره فقال:"المصير إِلى أن القتل الواجب بالقتل، يعدم بعدم القتل وَإِنَّمَا الواجب عند عدم القتل قتل آخر" خيالٌ ضعيف؛ فإِن استحقاق الدَّم قضية واحدة معقولة، لا تعدُّدَ فيها انتهى، وفد عرفت فيما مضى أَنَّ الحقَّ أَنْ ثمَّ استحقاقين، وأَنَّ الضعيف خياله هو لا خيال إِمام الحرمين، وأَنَّ قول إِمام الحرمين: القتل الواجب بالقتل، وَإِنَّمَا الواجب عند عدم القتل قتل آخر، ولكن المحلّ يضيق عن القتلان، ويفوت بإِيقاع واحد منها - صَحِيحٌ لا غبار عليه، ثمَّ قال ابْنُ الأَنباري: ولكن هذا الخيال يتأتى له في هذا، فما الجواب إِذَا وجد البولَ، وفقدَ الغائط، أو بالعكس بالإِضافة إِلى انتقاض الطَّهارة، فهل يُتَصَوَّرُ أَنْ يقال: وجوب الوضوء المرتَّبِ على البول يفوت، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ: وجوب آخر مرتب على الغائط؟ هذا مُحَالٌ لا يقوله لَبِيبٌ: انتهى.

وقد عرفت أَنَّه الحق ولا استحالة، وعدم تصوره إِيَّاهُ يدلُّ على ضعف خياله، ثمَّ اعترض على الإِمام حيث قال: التحريم بالحيض والإِحرام والرّدة والعدة بأَنَّ الردَّة لا تجامع الإِحرام شرعًا، وقد تكلَّمْنَا في هذا كما في صورة الصَّوْمِ، والحيض، ولا مشاحة في الأمثلة، وقد بان لك هوان الخُؤولة، والعمومة، والبول، والغائط، والمس، واللَّمس، وأَنَّهُ لا عسر فيها على خلاف دعوى ابن الأنباري السَّابق حكايتها عنه، ولقد تكرَّر من كلماتنا في إِدراج هذه الجملة ما يَدْرَأُ هذه الخيالات أجمع، ثُمَّ إِنَّا نسألُ ابنَ الأنباري هنا قائلين ماذا تقولُ في رجلٍ قال لامرأته الَّتي يملك عليها الطَّلقات الثَّلاث: إِن كلّمتِ رجلًا فأنْتِ طالق، وإِن كلّمت أسود، فأنت طالق، وإِن كلَّمتِ طويلًا فأنت طالق، فكلَّمت رَجُلًا جمعت له الخلال الثَّلاث؛ فإِنَّهُ لا محالة في وقوع الثَّلاث عليها، ولو أَنَّهُ لا يملك عليها غير طلقة واحدة وقال هذا الكَلامَ لمجموعه، فكلَّمَتْ هذا الجامع الصِّفات كلها لم يقع إِلا طلقة بلا ريبٍ، وانتفاء الطَّلقتين ليس إِلَّا لضيق المحلِّ بلا ريب؛ بدليل تأثيرها إِذا لم يضق المحلّ، ومدفوع الواحدة لا يصحُّ استناده إِلى كُلِّ واحدة بمفردها؛ لأن المطلق جعل كُلَّ صفةٍ علةً مستقّلة موجبًا لطلقة واحدة مغايرة للطَّلْقَةِ الَّتي توجبها الصِّفَةُ الأخرى، فلا يتأتى مخالفته، وهو ذو الإِنشاء، وجعل الطَّلقة مستندة إِلى غير ما أسنده هو إِليها، ولا سبيل إِلى دفع الواحدة، فليس غير جعل الوقوع مستندًا إِلى أحد الأوصاف لا بعينه، وهو رأي بعض القائلين بامتناع التَّعليل بعلّتين، أو القول بأَنَّ الأوصاف أجزاء للعلَّةِ، وهو المذهب الآخر لهم. لا يُقَالُ: فذو الإِنشاء المعلّق لم يجعل كُلَّ صفة إِلا علّة مستقلَّة، فكيف جعلتموها

ص: 268

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أنتم جزء علَّةٍ؟ نقول: لأنا نقول: جعلنا إِيَّاها جزء علَّة لا ينافي استقلالها كما عرفت في خلال الكَلامِ؛ فإِنها تعرف مَنْ لم يعرف إِلَّا بها، وهي بالنِّسْبَةِ إِليه مستقلَّة، فمن عرف أَنَّهَا رأت رجلًا قضى عليها بالطلاق، وإِنْ لم يعرف بسواده، ولا طوله، والعلَّة عنده رؤية رجل، وعند العارف بالخلال كُلهَا المجموع، فهذا [مُتأتٍ]

(1)

لنا ثانيًا لا إِشكال فيه، وهذه الصُّورَةُ عسرة على ابن الأنباري وغيره ممن يُجَوِّزُ اجتماعَ علَّتَيْنِ مستقلَّتين ينشأ الحكم عنهما على وجه الاستقلال لكلٍّ منهما، ولا انفصال لهم عنها، وما أبدوه من الصُّوَرِ ليس فيه شيْءٌ من العسر وللهِ الحَمْد، فإِن قُلْتَ: ما تقولونَ فيما إِذَا شرط في العَقْدِ ما يوافق مقتضاه كقوله في عقد الرَّهْنِ: بشرط أَنْ يُبَاعَ في حقِّكَ، فإِنَّ القاضي أَبَا الطّيِّبِ. والماوردي، وغيرهما من العراقيين قالوا: لا يلغو الشَّرط بل يفيدُ تأكيد ما يقتضيه العقد، وعبارة المحاملي في المجموع: كان الرَّهن صحيحًا والشَّرط صحيحٌ.

قُلْتُ: قد قال الإِمامُ والغزاليُّ في البيع والرَّهْنِ: إِنَّهُ لغو، وعلى هذا سقط السُّؤَال، وأَمَّا على القول بِأَنَّهُ صحيح مؤكّدٌ فنقول: الاشتراط عِلّةٌ أفادت مزيدَ القُوَّةِ، وقضيةُ العقد علَّة أفادت أَصْلِ الحكم، فلم يتوارد علَّتان على معلول واحد؛ لأَنَّ عقد الرَّهْنِ مثلًا أفاد البيع في الوفاء، واشتراط ذلك أَفَادَ تأكيد البيع، وتأكيد البيع غيره، ونظير المسألةِ تدبيرُ المستولدة، وقد سبق، والصَّحيحُ إِلغاء الشَّرط والحالة هذه كما ذهب إِليه الإِمامُ والغزالي معًا؛ لأنَّ شرط مقتضى العقد لا يضرُّ العقد، ولا ينفعه وقال الإِمَامُ: الشَّرْطُ هو الَّذي يقتضي زيادة على مقتضى العقد، وصرحا في الرَّهن بأَنَّهُ لغو. فإِنْ قُلْتَ: لنا في اليمينين إِذا حنث الحَالِفُ فيهما بفعل واحد، كما إِذا حلف لا يأكل خُبْزًا، وحلف لا يأكلُ طعام زيد؛ فأكل خبزه خلاف في أَنَّهُ هل يجبُ كفارة، أو كفارتان، فعلى القَوْلِ باتِّحَادِ الكفارة، وجد حانث حنثا واحدًا بيمينين، والدَّليلُ على وحدة الحنثِ اتحاد الكفَّارة، ولو تعدَّدَ لَتَعَدَّدَتْ؛ إِذْ لم يضق المحلّ عن إِيجاب كفَّارَتَيْنِ فأكثر. قلْتُ: إِنَّمَا وجد حنث بيمين لا بيمينين، وبها يتخل اليمين الأخرى، فيخيل من انْحِلالِ اليمين الأخرى اجتماع يمينين، وليس كذلك وهذه كلمات أوردها إِمام الحرمين، ولا نرى إِخلاء هذا المجموع عنها فنحكيها، ونتكلَّمُ عليها بحسب ما ييسره اللهُ تعالى:

(1)

في ج: إِثبات.

ص: 269

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال: العِلَّةُ المعنويَّةُ إِذَا اطَّردت؛ فإِنَّها كما تشعر بالحكم في اطرادها قد تشعرُ عَدَمَهَا بِعَدَمِ الحكم على حال، ولكن لا يبلغُ إِشعار العدم بانتفاء الحكم مبلغ إِشعار الوجود بالوجود، وسبب ذلك أَنَّه لا يمتنعُ في وضع المعاني أَنْ يناط الحكمُ بعلل تجوُّزًا إِنْ كُنَّا ادَّعينا فيما تقدَّم أَنَّ ذلك غير واقع، وأَنَّ ما ظنه الخائضون في هذا الفنِّ تقدَّم حكمًا معلّلًا بعللٍ في التَّحقيق أحكام، وهو كقولهم: تحريم المحرّمة الصَّائِمَةِ المعتدّةِ الحائض معلّل بهذه العِلَلِ المُزْدَحِمَةِ، وقد ذكرنا أَنَّ كُلَّ قضيَّةٍ من هذه القضايا توجب حكمًا مغايرًا لحكم القضيَّةِ الأُخْرَى، فلن يعدم الآنس بالفقه استمكانًا من تقدير التَّعَدُّدِ في الواجبات بوجوهٍ ترشد إِلى التَّغَايُرِ والاختلاف، وقد يظن الظَّان في هذا المقام أَنَّ المسئول إِذَا فرض الكلام في طرف من أطراف المسألة لغرض، وإِيضاح كلام، فصورة الغرض تختص بعلَّة، ويشملها مع سائر الأطراف علَّة عامة، وإِذا كان كذلك فقد علَّلَ الحكم في هذا الطَّرف بعلَّة خاصَّةٍ، وحينئذٍ هي مقصود الفارض، وعلَّة عامَّة. وهذا على حسنه غير صاف مِنَ القَذَا والكدر. "انتهى".

وحاصل كلامه أنَّهُ يورد أسئلة رُبَّمَا يخيل للناظر فيها اجتماع علَّتَيْنِ ثُمَّ ينفصل عنها بدع الاجتماع، فذكر مسائل الفرض، ومعنى الفرض من حيث الجملة أَنْ يشتمل سؤالُ السَّائل صورًا، فيفرض المجيب الكلام في بعضها كصورةٍ واحدة منها، فيدلُّ عليها، ويستفاد من الاستدلال الجواب عن سائر الصُّوَرِ المندرجة تحت السُّؤَالِ، وهذا شائعٌ في أبواب الجَدَلِ، وقد يَتَعَلَّقُ به كثير غرض؛ أَمَّا لضبط الكلام ودفعه عن الانتشار، فإِنَّهُ في القليل من الصُّوَرِ أقلُّ انتشارًا مِنْهُ في الكثير، وأَمَّا أن تلك الصُّورَة الّتي فرضها يندفع عنه فيها أسئلة لا تندفع لو ذكر سواها، ومثال ذلك إِذَا سئل عن نفوذ عتقِ الرَّاهِنِ ففرض كلامه في المعسر، فهذا فارض كلامه في صورة شملها السُّؤَال، وإِذا عرفت هذا، فقد يتخيّل منه اجتماع علَّتين؛ لأَنَّهُ إِن لم يكن محلّ الفرض ممتازًا بوجه ما عن بقيَّةِ الصُّوَرِ لم يكن لفرض الكلام فيه معنى، وإِنْ لم يشارك بقيَّة الصُّوَرِ في معنى يقتضي الحكم لم يكن إِلى التَّعميم سبيل؛ فلزم من ذلك أَنْ يكون ممتازًا عن بقيَّة الصَّوَرِ، بمعنى أوجب للفارض أَنْ يفرض الكلامَ فيه، ومشاركًا في معنى يقتضي الحكم، فتكون ذا معنين:

أحدهما مختصٌّ بمحل الفرض وبقيَّة الصُّوَرِ، ولذلك صحَّ عمومُ الحكم وشموله، وهذا وجه يخيل لزوم تعليل الحكم بعلَّتَيْنِ، وهو معنى قول الإِمَام فقط علَّل الحكم بعلَّةٍ

ص: 270

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خاصة، وهي مقصود الفارض، وأُخْرَى عامّة، وهي الَّتي صحَّ لأجلها تعميم الحكم، وقوله: وهذا على حسنه غير صافٍ عن القذى والكَدَرِ صحيح؛ فإِنَّ المكان مشكل، وعبارته في "البرهان" مشكلة، وأصعب من ذلك أَنَّهُ أَراد الإِيضاح، وافتتح بمثال لا يطابق، فازداد الإِشْكَال، ولهذا إِنِّي هنا أحاول إِيضاح كلامه وحلّه، ثمَّ قال: وأَنَا أضربُ في ذلك أَمْثِلَةً توضِّحُ الفرض فأقول: إِذَا قدم الغاصب إِلى إِنسان مضيفٍ طعامًا مغصوبًا فأكله المضيفُ ظانًّا أَنَّ الطَّعَامَ ملك المقدم المضيف، فقرار الضَّمَانِ في قول الشَّافعيّ على المقدم، ومعتمد هذا القول تقرير التغرير، وكون الغرور مناطًا للضَّمَانِ، وقد قال أَبُّو حنيفة: لو أكره الغاصبُ إِنسانًا على تَنَاوُلِ ذلك الطَّعام، فالقرارُ على الطَّاعِمِ وإِنْ كان مجبرًا مكرهًا كما إِذا كان مختارًا في التناول، وإِذا فرض الفارض الكلام في صورة الإِكراه، فهذه الصُّورة لا يجري فيها عموم التَّعليل بالتغرير؛ إِذ الاختيار يُنَافي الاغترار، ومن ضرورة الاغترار فرض اختيار في المغرور مع استناد اختياره إِلى اغتراره، فأَمَّا المجبر المكره، فلا يتصوَّر بصورة مغترٍّ، وإِن فرض منه ظن، فليس ذلك الاغترار المعتبر، فهذا النَّوْعُ من الفرض غير مرضٍ من جهة أَنَّهُ مجانب لمحلِّ السُّؤَالِ أوّلًا، والفرض المستحسن هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم سؤال السَّائل، وذلك محمول على استشعار انتشار الكلام في جميع الأطراف، وعدم وفاء مجلس واحد باستتمام الكلام فيها، فإِذا فرض المجيب في طرف فيستفيد بالفرض فيه التَّقريب على قرب، وهاهنا تعرض المجيب للكلام فيما لم يشتمل عليه سؤال السَّائل لم يكن في الكلام وجه إِلَّا البناء؛ إِذْ له أَن يثبت كلامًا في غير محلِّ السُّؤَالِ، فليس من فَنِّ الفَرْضِ، وَإِنَّما هو بناء، ولستُ أَرَى للبناء في المسأَلَةِ الَّتي فرضناها وجهًا أيضًا؛ فَإِنَّهُ إِذا ثبت أَنَّ الضَّمَانَ لا يستقرُّ على المكره، فكيف يبنى عليه عدم القرار على المُخْتَارِ الطَّاعم، ولا معتمد في التَّقْرِير على المختار إِلا الاغترار، وهو مفقودٌ في الإِجبار، وشرط البناء جمع فقيه بيّن ما عليه البناء، وبين محلّ السُّؤَالِ. نعم [أساء]

(1)

أبو حنيفة إِذ قرَّر الضَّمان على مَنْ لا اختيار له إِساءةً لا ارتباط لها لآخذ الكلام في صورة الغُرُورِ. "انتهى". وإِيضاحه أَنَّ أبا حنيفة رضي الله عنه يرتب الضَّمَان علي مباشر الإِتلاف دون المسبب، وإِنَّما دعاه إِلى هذا حكمه بأَنَّ المكره على القتل يتوجَّه عليه القصاص دون المكره، وجعل المكره بكسر الراء في معنى الآلة، ولذلك أسقط عنه القصاص، وما ذكره في سقوط أثَرِ السَّبَبِ مع

(1)

في ح: أشار.

ص: 271

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المباشرة فقه إِذِ السبب أضعف، ولكن مصيره إِلى أن المكره كالآلة ضعيف مع توجه النَّهي نحوه، إِذَا عرف هذا المأخذ فقال أَبُو حَنِيفَة: الآكلُ يضمنُ لمباشرته، ولا ضمان على الضار؛ لأَنَّهُ متسبب، وقال الشَّافِعِيُّ: الضَّمَانُ على المقدم الضار، فإِنَّ التَّغرير من أسباب الضَّمان، فإِذا سُئِلَ الشَّافعيُّ عن ضمان المغرور، وقضى بأَنَّهُ لا ضَمَانَ عليه فطولب بالدَّلِيلِ فقال: أفرض الكلام في المكره، فهذه الصُّورَةُ لا تَصْلُحُ للفرض، فَإِنَّا قد بَيَّنَّا أَنَّ الفرض إِنَّمَا يكونُ عند شمول السُّؤال صورًا يفرض المجيب الكلام في بعضها لغرض له في ذلك.

أَمَّا إِذَا كان الَّذي فرض الكلام فيه ليس يندرج تحتَ سؤال السَّائل، فهذا انتقالٌ إِلى مسألةٍ أخرى، وإِضراب عن محلِّ السُّؤال، وذلك لا يقعُ في أبواب الفرض بحال؛ لا يقال: إِنَّ الإِضراب عن السُّؤَالِ لا يتحقَّقُ؛ فإِنَّ المكره يصحُّ أن يعتقد أَنَّ الطَّعَامَ ملك المكره، ويكون أَيْضًا مغرورًا، وإِذا صَحَّ أن يكون مغرورًا؛ فقد اندرج تحت السُّؤَالِ؛ فإِنَّ السؤال: هل يضمن المغرور [أَوْ لا؟ لأَنَّا: نقول المفهوم من المغرور]

(1)

أَنَّهُ لم يدعه إِلى الإِقدام على الأَكْلِ إِلَّا الضَّرورة، ومن ضرورة الاغترار بقاء الاختيار، والاختيار يُنَافِي الإِجْبَارَ، وهذا لا يتحقَّقُ معه الاغترار فإِنْ فرض من المكره ظَنّ على بعد؛ فليس هو الحامل على التَّنَاوُلِ، وَإِنَّمَا جاء أمرًا اتفاقيا لا أثر له في الحُكْمِ بحالٍ، وإِلى هذا أشار الإِمَامُ بقوله: وإِنْ فرض منه ظنّ؛ فليس ذلك الاغترار المعتبر، وإِذا لم يصحّ أَنَّهُ مغرور غرورًا حمله على التَّنَاوُلِ تعيَّنَ أَنَّ الحامل الإِكراه، وهو مفقود في المغرور، فلا يلزمُ من سقوط الضَّمَانِ عن المكره سقوطه عن المختار ذي الغرر، فلا يصحّ أن يقع هذا في أقسام الفرض بحال؛ إِذِ الفَرْضُ المستحسن توجه الكلام نحو طرف يدخلُ تحت سُؤَالِ السَّائِلِ كما عرفت. هذا تقرير كلامه إِلى قوله: ومهما تعرض المجيب.

واعْلَمْ أَن المذهب الصَّحيح المشهور في الجديد أَنَّ قرار الضَّمَانِ في مسألة التغرير على الآكل دون المضيّف على خلاف ما ذكره الإِمام، ولكن جرت عادَةُ أصحابنا في مسائل الخلاف أَنْ ينصروا القولَ المرجوح إِذَا كان الخصم يدعي أَنَّهُ في غاية السُّقُوطِ تبينا لقوله على الجملة، وأَنَّهُ منقاس وإن كان الأَصَحُّ مقابله، ومرادهم بهذا تأييد أقوال الشَّافِعِيِّ وأنها جميعًا جارية على منهاج القياس، وإن كان بعض الأقيسة أجلي وأوضح من بعض، وأَنَّهُ ليس في أقواله ما يدرؤه النَّظَرُ بالكليَّة ويسجل عليه بضعف البصيرة فيه، وكذلك في كُتُبِ

(1)

سقط في ج.

ص: 272

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الخلافيَّاتِ نصروا هذا القَوْلَ مع اعترافهم بصَّحةِ مقابلته، ومرادهم بنصرته ما ذكرناه، وينبغي أَنْ نقرّ عبارة الإِمام هنا في قول الشَّافِعِيِّ، ويكونُ لفظ "قول" منونًا مع التنكير، ولعلَّهَا عبارته، وإِنَّمَا الأولى من اللَّامين في قولنا: للشَّافِعِيِّ افترقت مع أختها، فتوهمت الفاء، وقد شرح ابن الأنباري شارح "البرهان" المسألة على أَنَّ مذهب الشَّافِعِيِّ أَن الغرار على المقدّم، وليس كذلك، وإِنَّمَا هو قول ينصر في كتب الخلاف للبحث، ويتبين أنَّهُ منقاسٌ على الجملة، وقد نصره الإِمامُ في "الأَساليب" مع تصريحه ثَمَّ بأن ظاهِر القِيَاسِ خلافه، وإِذا قرأت عبارة الإِمام في "البرهان" على ما ذكرناه جريت على سبيل الحقِّ عند أصحابنا، فإِنْ قلت: فقد وافقتم أَبَا حنيفة في النَّظَرِ إِلى المُبَاشَرَةِ دون السَّبَبِ.

قُلْتُ: أبو حنيفة رضي الله عنه كما قدَّمْنَاهُ يجعل المتسبب كالآلة، ونحن لا نوافقه في هذا؛ إِذْ هو مَأْثُومٌ ومطالبٌ أيضًا وإِن لم يكن الغرار عليه، ويجبُ عليه القصاصُ كما يجب على المكره. فإِنْ قُلْتَ: فلكم قولان في إِيجَابِ القصاص على المكرَهِ - بفتح الرَّاء - مشهوران وإِنْ كان أَصَحَّهُمَا الوجوب، والمذهب إِيجابه على المكره بكسرها، وفيه قول ضعيف جدًّا أضعف من القول بعدم الإِيجَابِ على المكرَه بفتح الراء، وهذا منكم تقديم للسَّبَبِ على المباشر. قُلْتُ: المباشرةُ والسَّبَبُ إِذَا اجتمعا، فقد تغلب المباشرة على السَّبَبِ بأن رَمَاهُ من شاهقٍ، فتلقَّاهُ رجل بالسَّيْفِ، وقدَّهُ نصفين وهنا يصير السَّبَبُ مغلوبًا، وتختص المباشرةُ بالقصاص، وقد ينعكس الحال فتصيرُ المباشرة مغلوبة، وذلك بأَنْ تخرجها عن كونها عدوانًا مع توليده لها مثل: إِنْ شهدوا عليه بما يوجبُ الحَدَّ فقتله القاضي، أو جلده، فالقصاصُ على الشّهُودِ فقط، وقد يتعادلان كالإِكْرَاهِ، فالقصاصُ عليهما على المذهب، والسَّبب أولى هنا بوجوب القصاص وإِنِ اشترك في أصل الوجوب، وإِنَّمَا كان السَّبَبُ هنا أولى؛ لصيرورة المباشرة معه كالآلة.، فضعيف بالنِّسْبَةِ إِليه، وإِنْ لم يكن كالآلة مِنْ كُلِّ وجْهٍ؛ بدليل قيام الإِجْمَاعِ على أَنَّهُ مأثوم، وأيضًا فإِنَّهُ قدم هوى نفسه وإرادة بقائها على نفس غيره مع اشتراكهما في أصل العِصْمَةِ، وكان من المستحسن المأمور به بذلها والحالة هذه، فَلَمَّا لم يفعل ذلك نَاسَبَ مؤاخذته، فالقَائِلُ بأَنَّهُ لا يجب عليه القِصَاصُ صيره كالآلة من كُلِّ وجه، والحقُّ خلافه لما ذكرناه، ولكنَّهُ تقاعد عن رتبة الأمر، ولولا أَنَّ حقيقة المباشرة من حيثُ هي مقدّمة على حقيقة السَّبَبِ من حيث هو لما ساويناه به، فهو إِن تقاعد عنه بالوجه الَّذي أبديناه، فقد ساواه من هذا الوجه، ولم يصلْ به هذا الوجه إِلى أن يُسَاوِيه من كُلِّ

ص: 273

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وجه، بل وصل به إِلى المُسَاوَاةِ في أصل وُجُوبِ القِصَاصِ، لا في أَنَّهُمَا بالنِّسْبَةِ إِليه على حدٍّ سواء، فافْهَمْ ما يلقى إِليك!. وإِذَا عرفت ذلك فَلَمَّا كانت مؤاخذة كلٍّ من المُكْرِهِ والمكْرَه بالقِصَاصِ ممكنة؛ لأَنَّ من أصولنا قتلَ الجَمَاعَةِ بالواحد عند الاشتراك، وهذان كالمشتركين، وهما آثمان - أوجبنا القِصَاصَ عليهما، وهذا لا يتأتى لنا في ضمان المتلفات؛ لأَنَّهُ لا سبيل إِلى إِيجَابِ بديلين عن متلف واحد، فَأَوْجَبْنَا بدلًا واحدًا، ومكّنا صاحبه من مطالبة كُلٍّ منهما، ولكن جعلنا القَرَارَ فيه على واحد ثُمَّ نظرنا، فوجدنا المباشرة فيه في مسألة التَّغرير مختارًا، وقد اتَّصلت به المنفعة، فَأَلْقَيْنَا عِبْءَ القرار عليه، وما ذلك إِلّا لأَنَّ حقيقة المباشرة تغلبُ حقيقة السَّبَبِ، ولم يعارضها هنا ما يصيرها مغلوبة، ولو أَنَّ المباشر مُكْرَهٌ لا اختيار له: كمن أُكْرِهَ على إِتلاف المال، لكان القرار على المكره المتسبب؛ لضعفِ المباشرة بالنِّسْبَةِ إِليه جدًّا، فإِنَّهُ إِذَا أكره أنتج له الإِتلاف، وضعفت مباشرته مؤاخذة، وما أبديناه هو الصَّحِيحُ في المذهب، ووراءه خلاف لا يخفى، وأخذه إِذَا فهم ما قَدَّمْنَاه، فعن القاضي أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّ الضَّمان في مسألة الإِكراه على الإِتلاف، فيقرر عليهما، وأَنَّهُمَا يجعلان كالشَّريكين كما في الإِكراه على القتل، وفي وجه آخر أَنَّ الضَّمَانَ على المكره المتلف دون المتسبب بخلاف القِصَاصِ؛ فإِنَّهُ عظيم الخطر، فأوجزنا فيه كلًّا منهما، ولنا قول مشهور في مَسْأَلَةِ الغرور أَنَّ الضَّمَانَ يستقرُّ على الغار، وهو ما عزاهُ الإِمَامُ إِلى الشَّافِعِيِّ كما عرفت، وناظر عليه في كِتَابِ "الأَسَالِيبِ" مع اعترافه فيه بأَنَّ ظاهر القياس مقابله، فإِنْ قُلْتَ: إِذَا مهدتم في التغريرات القرار على الطَّاعم، فلم قلتم فيمن غَرَّ بحريَّةِ أَمَة: إِنَّ قرار قيمة الولد على الغار هذا هو المَذْهَب الصَّحِيح؟

قُلْتُ: لأَنَّ الزَّوْجَ لم يوجد منه شَيْءٌ إِلا التَّسَبُّب إِلى وجود الولد، فَأَمَّا انعقادهُ حُرًّا فمن أثَرِ الغُرُورِ المحضِ، فكان الرُّجُوعُ على الغَارِّ به، بل لنا قول حَكَاهُ الحناطيُّ أَنَّهُ لا يطالب المغرور أصلًا؛ لأَنَّهُ معذور، وَأَمَّا على صورة الغُرُورِ بِالطَّعَامِ لِلضَّعِيفِ، فَالْغَاصِبِ، وإن غَرَّ، ولكن المتلف الضّيف، فكان الغار متسببًا والضّيف مباشرًا، والمباشرة تغلب السَّبَب هنا كما قدّمته، فإِن قُلْتَ: لو قدمَ الطَّعَام المسمومَ، أو دعا الضَّيْف إِلى داره وفي دهليزها بِئْر، الغالب أَنَّ الدَّاخِلَ يمرُّ عليها إِذَا أتَاهُ؛ فأكل، أو أَتَاهُ غير عالم بالحال هل يجب القِصَاص، فإِن قلتم بالوُجُوبِ، فقد قدَّمتم السَّبَبَ على المباشرة؛ لأَنَّهُ الَّذِي باشر هلاك نفسه، ومع ذلك أوجبتم القِصَاصَ على الغارِّ؟ قُلْتُ: في ذلك قولان:

ص: 274

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَحَدُهُمَا: المنع، وهو ما ذكر الرَّافعي أَنَّ الإِمام وغيره مال إِلى ترجيحه، وأَنَّهُ قياس مسائل التَّغرير، وعبر عنه النَّوَوِيُّ في متن "الرَّوْضَةِ" بلفظ الأَظْهَرِ، وعلى هذا سقط السُّؤَال.

والثَّاني: الوُجُوبُ.

قال الرَّافِعِيُّ: ورجَّحَهُ الرّويانِيُّ وغيره، وعلى هذا فلعلَّ الفرقَ أَنَّهُ لو لم يوجب القِصَاصَ فأَتت النَّفْسُ الَّتي يجبُ فيها القِصَاص، وذهبت من غير قِصَاصٍ، وآل الأمرُ إِلى أَنَّ مَنْ يريدُ قتل شخصٍ يغره، ويدبر بذلك القِصَاصِ عن نفسه، فأوجبنا لذلك القِصَاصِ، وهذا لا يتأتى في إِتْلافِ المال؛ فإِنَّهُ إِذا لم يجب على الغَارِّ؛ وجب على المغرور، فلا يضيعُ المالُ على وجه صاحبه، وهنا لا سبيل إِلى أَنْ يجب للمقتول على نفسه القِصَاص، ولا إِلى ضياعها مع وجود مَنْ يمكن الحوالة عليه، واعتدائه بإِتْيَانِهِ بفعل يوقع في الهَلاكِ غالبًا كالإِكراه، وهو التغْرير، ولهذا المعنى ضعف ينزلها عن درجَةِ السَّبب، فلاحَ لك بهذا أن المكرِهَ - بكسر الراء - أشد حالًا من المكرَه بفتحها، ولمَّا شارك المأمور في باب القِصَاصِ في الإِثْم ألحقْنَاه به في إِيجَاب القِصَاص، ولمَّا فارقه في الإِتلافَاتِ حيث أُبيحَت له، لم يلْحَقْه به في الضَّمَان، نحن مضطَرون إِلى عدم إِلحاقِهِ أيضًا؛ إِذ إِلحاقُهُ به في قرار الضَّمَان يؤدِّي إِلى إِيجاب عِوَضَيْن عن معوَّض واحد، بل ولم يلحقْهُ به من أصل المُطَالبَةِ على وجه ذَهَبَ إِليه بعض أصحابِنَا، قال: لأنَّه أقدم على مُبَاح له، فكيف تتَّجِهُ مؤاخذته والطلبة؟! فَسَّرَ القائل الأوَّل من فوات النَّفْس مجَّانًا؛ وقال: تجب الدِّية على الأصحِّ، وإِن قلنا: لا يجب القِصَاصُ؛ خَوْفًا من فوات النَّفس مجَّانًا، فإِن قلت: فالصَّحِيحُ أنَّه إِذا قدمَ الطَّعَام الْمَغْصُوب إِلى مالِكِه، فأكله جاهِلًا يبرأ الغاصِبُ من الضَّمَان، وهذا تَفويت لمال المالك من غير بَدَل.

قلت: لأنَّه انتفع وأكله، وذلك هو الْبَدَل، فأنَّى يستَوِي هذا والمغرورُ بقَتْل نفسه؛ وقد أَطَلْنَا فيما هو كالدَّخِيل فيما نَحْنُ فيه، فلنَعُدْ إِلى ما كُنَّا بِصَدَدِه من النَّظَر في كلام الإِمَامِ فنقولُ: وأَمَّا قوله: "وَمَهْمَا تعرَّض المجِيب إِلى آخِره" فمرادُهُ أَنَّهُ إِذَا تَقَرَّرَ أن من سُئِل عن ضمان المغرُورِ، فأخذ صُورَة الإِكراه، وفرض الكلام فيها - لم يكن كلامُهُ في صورة يشْملُهَا محلُّ السُّؤال، وإِنَّما ذلك بناء، والبناءُ هو أَنْ يأخذ المجيب صورةً لا يَشْمَلُها محلُّ السُّؤَال، ليبنيَ عليها موضعَ السُّؤَال ويتوصَّل بتقريرها إِليه يُسمَّى مَنْ فعل ذلك بانيًا وممهدًا ويسمى الفعلُ بناءً وتمهيدًا، وللبناء صورتَان:

إِحداهما: أنْ يكون محلُّ النِّزَاع فرعًا لمسألةٍ منصُوصٍ عليْهَا، فيفتقر المُسْتَدِّلُ إِلى فرض الكلام في الأصْل الَّذِي يُعْتبر محلُّ النِّزَاع به، فإِذَا نُوزع فيه أسنده إِلى التَّوقُّفِ، فإِذا

ص: 275

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اسْتَفاض له الحُكْمُ فيه اعتبر المَسْأَلَةَ به، وهذا البناء مقبولٌ عند الجماهير، وقال بَعْضُ النَّاسِ: لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الأصْلُ متفَقًا عليه بين الخَصمَيْن،، وليس بشيءٍ.

والصُّورة الثَّانية: أن تكونَ فرعًا لمسألة لا نصَّ فيها، ولا يسلِّمها الخَصْم، فيفتقر المسْتَّدِلُ إلى اعتباره بغيره، ثُمَّ اعتِبَار مسألة النِّزَاع به، فقد اختلفوا في صِحَّةِ هذا، وَالَّذِي أراه أَنَّه صَحِيحٌ، وللمستدِلِّ التَّوَصُّل إلى غرضِهِ بكلِّ طريقٍ، فإِنْ سلمت، وإلَّا قَامَ عليهما دليلهُ.

وقوله: ولستُ أَرَى للبِنَاء وجْهًا، يريد أَنَّ المسْتَدِل لو أخَذَ جانبَ البِنَاء، فلا يجد به نَفْعًا، وَدَلَّ عليه بما أشَارَ إِلْيه من أن الضَّمان لو ثَبَتَ إنَّما يستقرُّ على المُكْرَه بفتح الرَّاءِ، فلا يَصِحُّ أن يبْنَى عليه عدم القرارِ على المُخْتَار الطَّاعِمِ. هذا كلامُ الإمَامِ، والمذْهَبُ الصَّحِيح: استقْرَارُ الضَّمَان على المُكْرِه - بكسر الرَّاءِ -، وهو الآمر لا المأمور، وقد ذكرنا هذا فيما تقدَّم، وما ذكره في حق أبي حنيفةَ لا يختصُّ به، بل يعُمُّ كلَّ من قال بمقَالَتهِ، وهو وَجْهٌ عندنا أَعنى: أَنَّ الضَّمان يجِبُ على المتلِفِ للمال، وإن كان مُكْرَهًا دون الآمِرِ المُكْرِهِ، وقد قدَّمنا حكايَتَه، وقولُ الإِمَامِ: لا اختيار له، فكيف يوجِبُ عليه الضَّمان؟! لك أَنْ تَقُولَ: ليس العِلَّة من انتِفَاء الضَّمَان مجرّد كَوْنه غير مُخْتَارٍ، بل عدمُ الاخْتِيَار مع أَنَّ الفِعْلَ مباحٌ له، وإلَّا فالمأمُور بالقَتْل عليه القِصَاص، وإنْ كان مُكْرَهًا، ثمَّ قولك: لا اختيارَ لَهُ رُبَّما يُفْهَم منه سَلْبُ القُدْرةِ بالكُلِّيَّة، وتنزيلُ الشَّخْص منزلةَ الآلة بالكُلِّيَّة، كما لو حُمِل الشَّخْصُ وأُلْقى على مال رجلٍ فأتلَفَه، وهذا لا يقول أحدٌ بصلاحيته للضَّمان، وإنَّما الكلامُ في المُكْرَهِ على الإتْلاف، وليس هو آلة من كل وجْهِ، ولا نعلم أحَدا ذَهَبَ إلى ذلك؛ وأمَّا ما نَحْنُ فيه فلا إسَاءةَ فيه، كيفَ ونحن نُوجِبُ ضمان المُتْلفات على النَّائِم والغَافِل وهو أبْعَد عن الاخْتِيَار من المُكْرَهِ؟ ثُمَّ قال الإمامُ رحمه الله: ونحن نَعْرِضُ صورةً من الفرض المُسْتَحْسَنِ يَتبَيَّنُ بها قصَارَى المقْصُودِ، فنقول: إذَا سألَ السَّائِل عن نفود عِتْقِ الرَّاهن، فَسُؤَالُهُ يعمُّ المُعْتِقَ المعسِر، والموسِرَ، فإذا رَأى المسئول فَرْضَ الكلامِ في المُعْسِر فمحمل كلامِهِ ينْدَرجُ تحت سُؤال السَّائِل، والفارِضُ يستفِيدُ بالفَرْض في المُعْسِر أمرين:

أحدهما: دفعُ أَسْئِلة قد يَعْتَاص الجوابُ عنها على البكْم الذي لا تُطَاوِعُهُ العِبَارَةُ؛ فإنَّ من أسْئِلةِ الخصْمِ سريانَ العِتق إلى ملْكِ الشريكِ، فإذا كان يسْرِي سُلْطَانٌ إلى غير ملك المُعْتِق، فقد يبعد بنُوهُ عن محَلِّ ملكه مع صِحَّةِ عبارته، وإذا وقَعَ الفَرْضُ في المُعْسِر، فلا

ص: 276

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يلزم في أطْرَافِ الكلامِ سريَانُ العِتْقِ؛ فإنَّ عتق المُعْسِر غير سارٍ على أصلِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فهذه فائِدةٌ، وأعلى منها أَنَّ الخصْمَ قد يَتَمَسَّكُ في أطْرَاف الكلامِ في أن قيمة العبد في غَرَضِ الماليَّةِ نازلةٌ منزلةَ العبد، فليس الرَّاهِنُ المُعْتِقُ مفوتًا على المُرْتَهنِ غرضه من الاسْتِيثَاقِ بالماليَّةِ إذا أقام قيمةَ العبدِ رَهْنًا مقامه، وهو غير معترض على مَحَلِّ حقِّ المُرْتَهنِ، وهذا الفنُّ من الكلامِ لا حقِيقَة له، إِذْ ليس هو مذَهَب من يَنْقلُ عِتْقَ الرَّاهن، فإِنَّ عِتْقَهُ لا ينفذ عند من ينفذُهُ؛ لإِمْكَان إقامَةِ القِيمَةِ مقام المقومِ، بل سبب نُفُوذِه صِحَّةُ عبارتِهِ وثبوتُ ملكِهِ، فيسْتَفيدُ الفارِضُ يفرضه دفعَ هذا الكلام الواقِعِ فضلة لا أثَرَ لها، فليكن قصد المحققِ إِذَنْ فرض مثل ذلك. "انتهى". وهو واضِحٌ، فَإنَّ السَّائل إِذا سأل عن نفوذ عِتْقِ الراهن، عَمَّ سؤالهُ كلًّا من المُوسِر والمُعْسِر، فإذَا فرض المُجِيبُ الكلامَ في المُعْسِر، كان ذلك فَرْضًا صَحِيحًا، وقد يتخيَّل في هذه الصُّورةِ مَعنَيَيْن:

أحدُهُمَا: يخصُّ محلَّ الفرضِ، ولذلك اختار الفارِضُ الفَرْضَ فِيه.

والثَّاني: يعمُّ الموسِرَ، ولذلك يَصحُّ أَنْ يعمَّ الحُكْمُ الصُّورَتَيْن جميعًا، وبيانُهُ في المِثال المَذْكُور: أَنَّ الرَّاهن إِذَا نَفَذَ عِنْقُه، وهو مُعْسِرٌ، فقد أبْطَل حَقّ المرتهن من المرهون نَفْسه، وهو أمرٌ مقصودٌ، وأبطل أيضًا حقَّه من المالية، وإِبطالُ حقِّ غير المرهُونِ هي العلة العامَّةُ؛ لأنَّها تَتَناوَلُ المُعْسِرَ والموسِرَ، وأَمَّا قَطْع الماليَّةِ فيختصُّ بِها المُعْسِرَ إِذْ لا قدرةَ لَهُ على قيمةِ المرهُونِ لقيمَها مقامَه، فإذا فرض الفارِضُ الكلامَ في المعسر استفاد الأمْرين اللَّذين ذكرهُما الإمام، وقوله: وهذا الفنُّ من الكلام لا حقيقةَ له - صَحِيحٌ، لما ذكره من أَنَّ القائل بنفوذ عِتْقِ الرَّاهن - وهو الحنفي - لا يقتل بالماليَّة، فيكون أخْذُهُما في الكلام فضلة لا وَجهَ لها، واعْلَم أن لِلشَّافِعِي رضي الله عنه أقوالًا في نُفُودِ عتق الرَّاهِنِ، أصحُّها ثالِثُها، وهو التَّفْرِقة بين المُعْسِرِ والمُوسِرِ، ولكن القولَ الذِي ينصر في كُتُب الخِلافِ هو القَوْلُ بعدم النفوذ مُطْلَقًا، وعليه ناظر الإِمَامُ في "الأساليب" وأسعد المهيني في "التعلِيقةِ" وغيرهما، والحنفية يقولون بنفوذِهِ مُطْلَقًا، والمسألةُ بينَنَا وبينَهُمْ تدور على حَرْفٍ واحدٍ، وهو أَنَّ حُكْمَ الرَّاهن ماذا؟ فعندنا حُكْمهُ تعلُق الدين بالعين، وصَيْرُروَة المُرْتَهن أحَق ببيعها، وإذا تعلَّق الحقُّ بالعين فالعِتْقُ يلاقي العَيْنَ فيمتنع، وعِندْهم

ص: 277

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حكمُ الرَّاهن إثبات يد المرْتَهن، وأمَّا العَيْنُ فخالِصَةٌ للرَّاهِنِ غير مَشُوبَةٍ بحقِّ الغير، فالعِتْقُ يلاقي العَيْنَ الحالِيَّةَ عن حقِّ الْغَيْرِ فينفذ فلم يَنْظُرِ الإمَامَان الشَّافعيُّ وأَبو حنيفة إلى معنى المالِيَّةِ، وإنَّما اعتمد على معنى قَطْعِ الماليَّةِ مالكٌ رحمه الله، ولم يلتفِتْ إلى عَيْن الرَّاهِنِ، وقال: ليس تعيينُهُ مقْصودًا لِنَفْسِه، بل الْغَرَضُ الوُصُول إلى المالِ، يحرِّرون عبارة فيقولون: مكلف أضافَ العِتْقَ إلى مملوكةٍ فَنَفَذَ، كما إِذا أعتق عَبْدَه المأذونُ والعبد الجاني والمكاتِب، وإِذا كان مَبِيعًا ولم يقْبِضْه، أو كان مُسْتأجرًا ثم يقولون: قولنا: "مكلفٌ" معنًى مؤثِرٌ؛ لأنَّه ينبئ عن كَمَال الحالِ وعدم الحجر وإطلاقِ التَّصرف، وذلك يقتضي صِحَّةَ التَّصَرُّف، بخلاف الصبي المَحْجُورِ عليه؛ لنُقْصَان رأيه، وكذلك قولنا: إضافة إلى ملكه؛ فإنه يُنْبِئُّ عن تمهيد المحلِّيَّة، فإِن تأثير المملوكِيَّةِ في إثباتِ المحلِّيَّة، فإِذا تقرَّرت الأهْلِيَّةُ والْمَحَلِّيَّةُ صحَّ العقدُ لهذا بسائر العقود الشرعية وسائر المحال الحِسَيَّةِ، يدل عليه أن الأهلِيَّةَ والمحلَيَّة إِذا تقررت اقتضَتْ إِطلاقَ التَّصَرُّف ما لم يمنع مانعٌ، ولا مانع هنا يقدر إلا يد المرتهن، واليد غير مُشْتَرطةٍ لنُفُوذِ العِتْقِ بدليل المكاتب والمأذُون، فإنَّهُما في بدأ نفسهما، والآبِقُ؛ إذ لا يدلُّ عليه شرعيَةٌ ولا حُكْمِيَّةٌ، وكذلك المَبِيعُ قَبْل قبضهِ، فإذا لم يشْتَرط من نفوذِ اليَدِ فلا مانع من النفوذ.

وأمَّا أصحابنا فيقولون: تصرف يُبْطِلُ حَقَّ المُرْتَهنِ من العين فيبطُل كالبَيْعِ، وهذا صحيحٌ؛ فإِنَّ حقَّ المرتهن من العين لازمٌ لا يقدر الرَّاهِنُ على إِبطاله، ولهذا لو صرَّح وقال: أبطَلْتُ حقَّك، لا يَصِحّ، وهذه جملةٌ لا نِزَاع فيها، وهي أن الحق لازِمٌ إِذا تعلَّق بعين، فلا يجوزُ إبْطالَهُ قصدًا، إِنما الشأنُ في إِثبات كَوْنِ هذا التَّصَرُّفِ مُبْطِلًا لحقِّ المرتهن قصدًا، ويدلُّ له أن الرهن حقٌّ ماليٌّ تعلَّق بالعين، ولهذا يورثُ كما يورثُ أعيان الأموالِ، وإذا كان من حقوقِ الأموال والعِتْقِ إسقاطُ الماليَّة، فإسقاطُها بحقوقِها وتوابِعِها أيضًا، فإنَّه يجبُ عليه القيمةُ لهذا المرتهن، فلولا أنه أبطل حقَّهُ لما وجَبَ ذلك، فإنَّ من تَصَرَّف في خالِصِ ملْكِهِ وتعدَّى إِلى ملك غيره لا بقَصْد لا ضمانَ عليه، كمن حفرَ بِئْرًا من خالِصِ مِلكِه، وتعدَّى ذلك إلى دار جارِهِ فانهدمَتْ لا شيء

ص: 278

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عليه، وكذلك من قتل مَنْكُوحه غيره لا يضْمَنُ قيمة بُضْعِها، لما كان القتل ملاقِيًا للدم الذي لا حَقَّ لِلزَّوْج فيه، فتأدِيَتُهُ إلى فوات حقه لا يوجب ضمانًا عليه، فينبغي أن يكونَ هنا كذلك ويدلُّ [ذلك]

(1)

له لو أذِن المرتهن للمراهن في العِتْقِ سقط حقُّهُ من العينِ، ولا يغرم له القيمة، فلولا أن تصرفه بالعتقِ يُبْطل حقَّهُ قصدًا لما سقط؛ بدليل أن أحدَ الشَّريكين في العَبْدِ إِذا أَذن لشريكهِ في عِتْق نصيبِه فأعتقَ نصيبَ نَفْسِه، نفذ وسرى، وغرمه قيمة نصيبه. هذا خلاصة كلام الأصحاب، وهم يمنعون الحنفيَّة أن المحليَّة وُجِدَت، ويقولون: أنَّما محلُّ العِتق محلٌّ فارغٌّ عن حقِّ الغير، ولو سلَّمُنا المحلِّية من حيثُ العينية والماليَّة، إلَّا أن حقَّ المرتَهن يمنع النفوذ، فهو كالبيع لا يصِحُّ مع وِجْدان المالِيَّة والأهلية أيضًا، وأجابُوا عن بَقِيَّةِ كلماتِهِم بما هو مَوْجودٌ في الخلافِيَّات، ولا تعلق لتَعْلِيقَتِنا هذه به، وقال الإمام رحمه الله: والآن نذكرُ في هذا الفن الغرض الذي استَفْتَحْنا القَوْلَ في الفرضِ لأَجله فنقول: يتجه للفارض في المُعْسِر أن يقولَ: استأصَلَ المُعْتِقُ المعسر لو نفذ عِتقه حق المرتهن بكَمَاله، مُشيرًا إلى أنَّه لا يجد ما يبذله غارمًا فيظهر كلامُه من جهة الاستئصال، والسَّبب إلى قطع حقٍّ لازم للمرتهن من الاستِثاق بالكُلِّيَّة، وهنا وقفةٌ محتومةٌ على طالب الغايات، فنقول: من منع نُفُوذ العِتق يكتفي فيما يقرِّرُهُ بأن نُفُوذ العتق لو قِيلَ به أدى إلى قَطْع حقٍّ لازمٍ للمرتهن من غير الرَّهن، فإذا كَفَى هذا فأيُّ حاجةٍ إِلى التعرُّض لقطع الماليَّةِ، وحسن الطَلَبَةِ في القيمةِ، ويوشك لم لم يَتفطَّن الفارِضُ أنه يقعُ في المَحْذُور الذي نَبَّهْنا عليه الآن، وهو التَّعَلُّق بما لا اعتبار به، ولا دَفْعَ له. انتهى.

ومرادهُ أن الفارِضَ في المُعسِر إنَّما يحسن منْهُ الإِشارةُ إِلى قطع سؤال الماليَّة، وإمكان إقامةِ القيمة مقامَ المرْهون لو كان يتعلق إلى معنى الماليَّة، وهو لا يستنِدُ إلى ذلك؛ إذ عِلَّةُ المانع من النُّفوذ قطع حقِّ المرتهن من عين الرَّهن، ولا نظر عنده إلى الماليَّة كما قدَّمناه، وإذا كان مأخذه، فأيُّ حاجةٍ به إلى التَّعَرُّضِ لقطع المالية؛ فوضح أن التَّعَرُّضَ لها فضلَةٌ في الكلام لا أثر لها، ثم قال: ما المانع

(1)

سقط في ج.

ص: 279

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مِن ازدِحام عِلَّتَيْن في هذه الصُّورةِ إحداهما: قطع المالية بالكُلِّيَّةِ، والثَّانِيَةُ: قطع الحقِّ المُرْتَهنِ من العَيْنِ المخصوصةِ، فيكون امتِناع النُفُوذِ معلَّلًا بِعِلَّتَيْن: عِلةٌ خاصَّةٌ، وهي قطع المالية، وأخرى عامَّةٌ، وهي قطعُ الحقِّ من عَيْنِ العبد؛ فإنَّ هذا مما يعمُّ الموسِرَ والمُعْسِرَ؛ وإنَّما سُقْنا هذا الكلام مع فوائد حجَّة فيه لهذا الغَرَضِ، ونحن نَقُولُ: هذا ليسَ بِشَيْءٍ؛ فإنَّ المالِيَّةَ ليست مَرْعِيَّةً في حقِّ المُرْتهن، وإنَّما المُعْتَبر اختِصَاصُ استِحْقَاقِ اسْتيثاقِهِ بعينٍ يتمسَّك بها، إِذا اعترض له توقُفَات العسْرِ في الدين الذي يقع في الذِّمَّةِ، هو بابٌ مسْتَوفٍ بالعَيْن الَّتِي استمسك بها، وهذا غَرَضُ الرَّهن، وإذا لم يكن الراهن مطالبًا بالدين فقد خرج عن مقصود الرهن ولهذا السّر لا يجوز رهْنُ الدِّيْن، نعم لو فرض من الرَّاهِن إِتْلاف الرَّهْن فالشَرْع يتقاضاه أن يقيم قيمته مقامه؛ إِذْ مسلَكُ الشَّرع إثباتُ الضَّمان جُبْرانًا لكل فائِتٍ، فلا ينبغي أن نعُدَّ قضايا الشَّرع في مظانِّ الضَّرورات من القضايا الوضعيَّة في تأسيس الأصول. "انتهى"، ومرادهُ أن العلَّة واحدةٌ، وهي قطعُ المُرتهن عن عين المرهون، ولا أثر للماليَّةِ عنده، وإِتما المعتبرُ حقّ التَّعيين، ولذلك يثبتُ استحقاقُ الاختصاصِ بالعين المقبوضة عند طريان العسر على الدَّين الواقع في الذمة حتى لو قال الغرماء، لا نفسخ لتقدُّمك بالثَّمنِ لم تلزمه الإِجابة، بل له الفسخُ والرُّجوع إلى عين ماله والحالةُ هذه على أصحِّ الوجهين، والثاني لا، وبه قال مالك رحمه الله جريًا على أصله في النَّظر إِلى معنى الماليَّة، قال: ولو رجعتِ المطالبَةُ في الرَّهْنِ على الذِّمَّةِ، لفات مقصود الوثيقة؛ إِذِ المقصودُ منها استخلاص الحقِّ من غير المرهونِ عند تَعَذُّرِ الوفاء، قال: ولهذا السِّرِّ لا يجوزُ رهنُ الدّين: أي على أَصَحِّ الوجهين. وقوله: نعم

إلخ". جواب عن سؤال مُقدَّر كأن قائلًا يقولُ له: إِذا كنت تنظرُ إِلى عَيْنِ المرهون فقط، وتقطع النَّظَرَ عن معنى الماليَّةِ، فلماذا إذا أتلف الرَّاهن المرهون يلزم إِقامةُ قيمته مُقَامَهُ؟ وجوابه ما أشار إليه من أَنَّ القيمةَ في معنى البَدَلِ عن الأصل، فلا يجمع بين البَدَلِ والمُبَدلِ، والبدلُ هو الأصل، وهو قطع حقَ المرتهن من العين، فإِنَّهُ إِذَا حفظت العينُ عليه؛ ففي ذلك حفظ الماليَّةِ ضمنًا، وإِنَّما يعودُ إلى التَّمسُّك بالماليَّةِ عند فواتِ العَيْنِ، فرجع إلى البدل جَبْرًا للغائب، ولا يصحُّ أَنْ يجمعَ بين الأصْلِ والبدل، ولذلك إِنَّا في الأَمْوَالِ

ص: 280

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نُحَافِظُ على الأعيان، ولا نقولُ: يجب الضَّمَانُ مع إِمكان رَدَّها، بل نطلبُ رَدَّها بحسب الإِمْكانِ، فإِذا تَعَذَّرَ ذلك رجعنا إِلى الماليَّةِ، ثم قال الإمامُ: وهذا يناظر عندي مَسْلكي في توزيع العِوَضِ على مختلفين في أحد شقَّي العقدِ عند مَسِيسِ الحاجةِ في شفعة لو فرض تلفٌ في أحد العِوَضَيْنِ، وقد زَلَّ جماهيرُ الفقهاء، فاعتقدوا أَنَّ التَّوْزِيعَ مقصودُ العقد كما نبَّهْتُ عليه في مسألة العجوة، وهذا ذللٌ وسوءُ مدرك؛ فإِنَّ العقد ما أنشئ على التَّوْزِيعِ، وأَنَّما هو أمرٌ ضروريٌ أحوج إثبات الشُّفْعَةِ إليه. انتهى. ووجه المناظَرَةِ والمشابهةَ ظاهرة على مسلكه، وذلك أَنَّهُ لما قرر أنَّهُ لا ينبغي أَنْ يعد قضايا الشرع في مظانِّ الضَّرُوراتِ من القواعد الأصليَّةِ أَنَّ الرُّجُوعَ إلى المالسَّةِ عند تلف المرهون ممَّا دعت إليه الضَرورة جبرانًا للفائت - لأَنَّ الماليَّة مقصودة ابتداء - شبه هذا بمسألة مد عجوة، فإِن التَّوزيعَ عنده فيها ليس من قضيَّةِ العقد، وَإنَّما هو شيءٌ جرت إليه الأَحكَام، ودعت إليه الضَّرُورة، فالمشابهةُ واضحةٌ على مسلكه، وإِنَّما هو مسللك حاد به عن سبيل الأصحاب، وأَنا أبدي هنا في ذلك كلامًا مختصرًا مشتملًا على فوائد جَمَّة.

فأقول: إِذَا باع مال الرّبا بجنسه، ومع أحدهما غيره - مِمَّا فيه الرِّبا أو مِمَّا لا ربا فيه، فهذه قاعدةُ عَجْوَةٍ، ومذهبنا البُطْلانُ فيها خلافًا لأبي حنيفة رضي الله عنه ولسنا هنا في مَقَامِ المجادَلَةِ على مذهبنا بل في حكاية ما يتعلَّقُ بما نحنُ فيه، فنقولُ: قاعِدَتُنَا هذه مبنيَّةٌ على أصلين أحدهما أَنَّ الجهلَ بالمُماثَلَةِ لحقيقة المفاضلة، وهو أصل تمهد في باب الرِّبا مبنيٌّ على أصلِ آخر عظيمِ الفائدة جليل العائدة، وهو أَنَّ الأصل عندنا، وعند المالكيَّةِ في بيع الربويّات بجنسها، أو بما يشاركها في علَّةِ الرِّبَا التَّحريم، إِلَّا ما قامَ الدَّلِيلُ على إباحته، وهذا أصلٌ مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَبِيعُوا الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَلَا الوَرِقِ بالْوَرِقِ إِلَّا وزنًا مِثْلًا بِمِثْلٍ من سَوَاءٍ بِسَوَاءٍ

(1)

لفظ مسلم من حديث ابن مسعود، وفي حديث عُبَادة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَنْهَى عَنْ بَيعِ الذَّهَبِ بَالذَّهَبِ، والفِضَّةِ بَالفِضَّةِ وَالْبُرِّ بالْبُرِّ، والشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحِ بِالمِلْحِ إِلَّا سَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ، أوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبى" وهو لفظ

(1)

تقدم.

ص: 281

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مسلم أيضًا، وأحادِيثُ أُخرُ مستقصاةٌ في مواضعها، ووجه الاستدلال أنَّهُ صلى الله عليه وسلم صدَّرَ بالنَّهي، ثُمَّ استثنى منه، والأصلُ عند الحنفيَّة الجواز؛ لاندراجه في جملة عُقُودِ البَيْع، ويجعلون عقُودَ الرِّبا، وسائر ما نهى عنه مخرجًا من ذلك الأصْلِ، وهذا المأخذ نافعٌ جدًّا في مظانِّ الاشتباه، وتعارُضِ المآخذ، فَنَحْنُ نحرِّمُ إذْ ذاك، وهم يُحلِّلُون، وعليه تدورُ مسألة بيع الحِفْنَةِ بالحفنتين، ولا يستريبُ أخو الإِنثاف في أَنَّ مذهبنا هنا أوجه من مذهبهم؛ لأنَّا أخذنا بالأَصْلِ القريب، وهو الرِّبا، وهم أخذوا بالأصْلِ البعيد، وهو البيع، والرُّجوع إلى أقرب أصلٍ أولى مِنَ الرُّجوعِ إِلى مِنَ البعيد، وهذا إِنْ سَلِمَ لهم دخول الرِّبا في البيع، والخلاف في دخول العُقودِ الفاسدة تحت الألفاظ معروفٌ، فهذا أحدُ الأصلين اللَّذين عليهما بنينا قاعدة مد عجوة. والأصْلُ الثَّاني أَنَّ اختلاف العِوَضَيْنِ من الجانبين، أَوْ من أَحَدِهِما يوجبُ اعتبارَ القِيمَةِ، وتوزيع الثَّمَنِ عليهما بالقيمة يومَ العقد كما إِذَا باع عَبْدًا، وثوبًا ثمَّ خرج أحدهما مستحقًّا، فإِنَّهُ يرجعُ بقيمة المستحقّ من الثَّمَنِ لا بنصف الثَّمَنِ، والشَفيع إِنَّما يأخذُ بما تناوله حالة العقد فلو أَنَّ التَّوزيعَ حاصلٌ حين العقد، لم يصحَّ، وكما في ردِّ البعض بالعيب وتلف البعض عند البائع، قال أصحابنا: ولولا التَّوزيع في الابتداء ما نوزع في الانتهاء، ولا سبيل إِلى أَنْ يقال: ينزل التَّوزيع؛ لأنَّهُ مُؤَدٍّ إلى بطلان البيع، فإِن العقدَ إِذَا كان له مقتضى حُمِلَ عليه، سواء أَدَّى إلى فساد العقد أو صلاحه، كما إِذَا درهمًا بدرهمين لما كان مقتضى العقد مقابلة جميع الثَّمَنِ حمل عليه، وإنْ أَدَّى إِلى فَسادِهِ وَلَمْ يحمل على أَنَّ أَحد الدِّرهمين هبة والآخر ثمن ليصحَّ العقد ولم يرتض إِمامُ الحرمين هذه الطَّريقة، وقال: العقدُ لا يقتضي في نفسه توزيعًا مفصلًا، بل مقتضاه: مقابلة الجملةِ، أو مقابلة الجزء الشَّائِعِ مِنمَّا في أحد الشِّقَّيْنِ بمثله مِمَّا في الشِّق الآخر بِأَنْ يقال: ثُلُثُ المُدِّ وثلثُ الدِّرْهَمِ يقابل ثلثي المُدَّيْنِ يعني: إِذا باع مُدًّا ودرهمًا بِمُدَّيْنِ، ولا ضرورة إِلى تكلّف توزيع يُؤَدِّي إِلى التَّفاضل، وإِنَّمَا يصار إلى: التوزيع في مسألةِ الشُّفْعَةِ لضرورة الشفعة قال: والمعتمدُ عندي في التَّعْلِيلِ: أنَّا تَعَبَّدْنَا بالمماثَلَةِ تحقيقًا، وإذا باع مُدًّا ودرهمًا بِمُدَّيْنِ لم تتحقّق المماثلة، فيفسد العقد، وقالَ في "الأسَالِيبِ": هذا أُسْلُوبُ المسألة، وهو في نهاية الظُّهُورِ والوُضُوح، وإذا قَالُوا: نَحْنُ نقابل الدِّرْهَمَ بِمُدٍّ ونقابل مُدًّا بِمُدٍّ؛ ليصحَّ العقدُ كانُوا متحكِّمين حائدين عمَّا يقتضيه العقدُ من إِيهامِ

ص: 282

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المقابلة، ولو جاز التحكمُ بالتَّعيين الَّذِي ذكروه، ومقتضى العَقْدِ الإِشاعةُ - فالتَّوزيعُ الَّذي ذكره الأصحابُ أمثل، والمصيرُ إِليه أولى، وكلاهما باطِلانِ عندنا".

انتهى كلامه في "لأَسالِيبِ"، وقد انتصرَ الرَّافِعِيُّ لطريقة الأصْحابِ فَقَالَ: لناصِرِيهَا أَنْ يقولوا: أَلَيْسَ قد ثبت التَّوْزِيعُ المنفصل في مسألة الشُّفْعَة، لولا كونه قضيّة العقد، لكان ضمُّ السَّيْفِ إِلى الشَّقْصِ من الأسباب الدَّافعة للشُفْعَةِ، فإِنَّها قد تندفع بعوارض، قال: وَأَمَّا قوله. إِنَّا تَعَبَّدْنا بتحقيق المُماثَلَةِ، فللخصم أَنْ يقولَ: تعبّدنا بتحقيق المُماثَلَةِ فيما إِذا تمحضت مقابلة شيْءٍ منها بجنسه، أم على الإِطْلاقِ؟ إِنْ قلنا بالثَّاني، فممنوع، وإِنْ قلنا بالأَوَّل، فمسلمٌ، لكنَّهُ ليس صورة المَسْألَةِ.

قال أبي رحمه الله في "شرح المهذب"، والاعتراض الأَوَّلُ

حتَّى قال: وَأَمَّا الاعتراض الثَّاني فضعيف، ولا سيما في الَّذِي قرضه وهو إِذَا باع مُدًّا، ودرهمًا بمددّين؛ فإِنَّهُ يصحُّ في هذه الصُّورِ أَنَّهُ باع تمرًا بتمرٍ، لأن التَمْرَ الَّذِي مع الدّرهم مبيع قطعًا ولا مقابل له إِلَّا تمر، ومتى صدق أنَّهُ باع تمرًا بتمرٍ، وجبت المماثلة بالنَّصِّ، ولمحض المقابلة قيد لم يدّل عليه دليل. انتهى.

قلت: وعندي وقفةٌ في الموافقة على صِحَّةِ الاعتراض الأوَّلِ؛ إِذْ للإمام أَنْ يقولَ: لا يلزمُ من كون التوْزِيعِ ليس من قضيَّةِ العقد أَنْ يندفع العقد، واندفاعها بعوارض لا يقتضي اندفاعُهَا بهذا، ولِمَ قلتم: إِن هذا العارض مُسَاوٍ للعوارض الَّتِي بها تندفع الشُّفْعَة، وهذا والإمام في "الأساليب" ذكر اعتراض الرَّافعي بعينه، أجاب عنه حيثُ قال بعد أَنْ حكى عن الأصحاب: إِن التوزيعَ مقتضى العقد، واستدل عليه بما اشترى عقارًا مشفوعًا، وسيفًا بألفٍ

المسألة: فإنْ قالوا: ليس هذا التوْزيع مقتضى العقد، ولكن ألجأتْنَا إِلى تقديرها ضرورةُ الشُّفْعَةِ، ولا ضرورة بنا إلى التَّوزيع في صورةِ النِّزَاعِ، ثم قال الإِمَامُ: أَجاب الأَئِمَةُ عن هذا بأنْ قالوا: اجعلوا ضمُّ منقول إِلى العقار مسقطًا للشُّفُعَةِ؛ فإِن الشفعة تسقطُ بطرق، ثُمَّ قال: وما ذكره الأئِمَّةُ من إلزامهم إِبطال الشُّفْعَةِ غير سديد؛ فإِنَّ هذه الطَّريقة لو أبطلت الشُفعة لما بقيت شفعة الشَّفيع؛ إِذْ لا

ص: 283

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يعسر إِدخال شيءٍ من المنقولات في الصَّفْقَةِ، وإِنْ قلَّتْ قسمته، وكلُّ ما يحسم قاعدة أصلًا، وتطرق الضَّرَرُ إِلى النَّاس، فهو مردودٌ، والهِبَةُ وإنْ كانت تقطعُ الشُّفُعَةَ فهي نادرة، ولا تسمحُ بها النُّفُوس، ولو سقطت الشُّفْعَةُ بضمِّ منقولٍ إِلى العقار لما اندفع ضرر يتداخل، ولما ثبتت الشُّفْعَةُ أَصلًا. انتهى كلام الإِمام، فلا معنى لإيرَادِ الرَّافعي عليه سؤالًا قد أورده هو، وأَجَابَ عنه، وَأمَّا ابنُ الرِّفْعَةِ فاعترضَ على الإِمامِ في جعله العُمْدَةَ فِي التَّوْزِيعِ منسوبة إلى الأصحاب بأنَّهَا عمدة الشَّافِعِيِّ أيضًا، وعلمك محيطٌ بأنَّ هذا ليس اعتراضًا، فإِنَّ الإِمَامَ لم يدَّعِ أَنَّ الشافعي لم يعتمد على هذا، ولا يلزم من اعتماد الأصحاب إِيَّاهُ أَنَّ الشَّافعي لم يعتمده، بل الذي يظهر خلافه؛ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُم لا يطيقون على اعتماد أمر إلَّا والشَّافعى إليه رمز إن لم يكن قد صَرَّحَ به، وعبارةُ الشَافِعِيِّ رضي الله عنه في الأُمِّ: وإنَّما كرهت هذا - يعني مَسْأَلة مدّ العجوة - من قِبَبِ أَنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا جمعت وشيئين مختلفين، وكلُّ مَبِيعٍ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ. "انتهى"، وله نصوصٌ أخر كثيرةٌ متوافقة على هذا، وقد ساقها الشيْخُ الإِمَامُ رحمه الله في تكملة "شَرْحِ المُهَذبِ"، وباللَّهِ العِصْمَة، وقد وَضَحَ بهذا أَنَّ كُلًّا من اعتراض الرَّافعي، وابن الرِّفْعَةِ على الإمام مدفوعٌ. نعم قول الإمام: إِنَّ طريقة التَّوزيع هي طريقةُ الأصحاب، قد ينازع فيه من قبل الأصحاب مختلفون، فمنهم من تعلَّقَ بحديث فضالةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وهو معروفٌ، ومنهم مَنْ تعلَّقَ بطريق التَّوزيع قال: قال الإِمامُ أَسْعَدُ الميهني: وقد نصَّ الشَافعيُّ على أَنَّ الصَّفْقَةَ إذا اشتملت على مالين مختلفي القيمة في أَحَدِ جانبيها؛ توزع ما يقابلُ المختلف القيمة على قدرِ قيمته مِنَ الثَّمَنِ، وَيُخَيَّرُ بين أَنْ يظهرَ الفضل، وأَنْ يجهل التَّماثل، والكُلُّ مُبْطِلٌ للعقد. قُلْتُ: وقد حكينا نصَّه، وله نصوصٌ أخرى، كثيرة كما ذكرناه، وقد أطلنا بما لا يتعلَّقُ بالغرض الَّذي كُنَّا فيه، وكان المقصودُ منه أَنَّ قضايا الشَّرْعِ في مظانِّ الضَّرُوراتِ لا تُعَدُّ من القضايا الوضعيَّةِ كما في التوزيعِ على رأي الإِمَامِ، فإِنَّهُ إِنَما يحتاج إليه وقتَ الضرُورَةِ، فلا ينبغي أَنْ تعدّ من القواعد الممهدة، واللهُ المستعان، وليس للمستدل أَنْ يستدلَّ بالتَّوزيع فيما إِذَا فرض استحقاق أو عيب في أحد المبيعين وَرَدَ حيثُ ينسب الثَّمَنُ ويرجع بالقيمة؛ فإِنَّ هذا أمرٌ ضَرُورِيٌّ دعت إليه الحاجة عند الاستحقاق، وكذلك الأخذُ بالشُّفْعَةِ، فلا يظنّ

ص: 284

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَنَّ ذلك مقتضى الأصول عند انعقادها، ولذلك يحكمُ بثبوت اختصاصِ الإملاك بالإملاك، وتوقف النَّقْلِ على الاختيار، ولا يقدحُ في ذلك إلزام التقويم في مسألة عتق الشَّرِيكِ إِلى غير ذلك من مظانِّ الضَّرُورَاتِ، واللهُ المستعانُ.

ثمَّ قال الإمام: اعتقد الفارضُ في الرَّاهن المُعْسِرِ أَنَّ الفَضْلَ بينه وبين المُوسِرِ صائر إلى الرَّاهِنِ إذا كانَ مُوسرًا ينفذ إعاقته، ويلزمه إحلال القيمةِ محلَّ العبدِ، وإن كانَ معسرًا لا ينفذ إعتاقه؛ لتعذر تغريمه، وإمضاء الإعتاق فيه، لو قدر نفوذه إِلى إِبْطَالِ اختصاص المرتهن باستيثاقه بالكليَّةِ، وشبه ذلك بتفصيل مذهبه في تَسْرِيَةِ عتق الشَرِيكِ إذا كان مُوسِرًا، ومنع تسريته إذَا كان معسرًا، فاتِّحَادُ العلَّةِ على هذا المَذْهَبِ أوضح؛ فإِنَّ صاحبه متشوِّقٌ إلى اعتبار انقطاع علقةِ المرتهِنِ من غير الرَّهْنِ عنده وقع أصلًا، ولذلك ينفذ عتق المُوسِرِ الرَّاهِنِ، فلم ينتظم على المسلكين علَّتان عامَّة، وخاصَّة في صورة الفرض. "انتهى"، ومراده أَنَّ الفارض إِنْ يعتقدُ التَّفْرِقَةَ بين الرَّاهِنِ المعسر والموسر كما هو أَصَحّ أقوالِ الشَّافعيِّ رضي الله عنه ففرض عدم النفُوذِ في المعسر لذلك، واعتلّ بأنَّ المعسر يتعذّر تغريمه، فيقضي عتقه لو نفذ إِلى إِبطال اختصاص المرتهن بالكليَّةِ، وشبه سريان العتق إلى حق المرتهن بسريانه مِنْ نصيب أحد الشرِيكَيْنِ إِلى الآخر في عتق الشُّرَكَاءِ، وحرَّر عن ذلك عبارة فقال: مُفَوِّتُ حَقِّ الغير غير مقيم شيئًا مقامه، فلا ينفذ إعتاقه كالشَّريك المعسر؛ فإِنَّهُ لا سريانَ لعتقه لهذه العلَّة الجامعة، وهي تفويت حقِّ الغير عليه من غير بَدَلٍ، وهنا قد يتخيَّلُ اجتماع علَّتَيْنِ، وهما بطلانُ حَقِّ المرتهن من العين، وبطلان حقّه بالكليَّةِ قال الإِمَامُ: فاتِّحاد العلَّةِ على هذا المذهب أوضح؛ لأَن صاحبها إِنَّما يعلل بانقطاع علقة المرتهن وهي متحدة وتحرير العبارة على هذا أن يقال: تصرف يقطع علقة الغير بالكليةِ، فمنع أصله سريان عتق المعسر، وإذا اتَّحدت العلَّةُ لم ينتظم على المسلكين علَّتانِ عامَّة وخاصة في صورة الفَرْضِ، فلا يتخيل اجتماعُ عِلتَيْنِ، ثمَّ قال الإِمَامُ: وممَّا نجريه مثالًا في ذلك أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِذا فرض الكَلامَ في مسألة ضمان المَنَافِعِ في طرف الإتلاف وطرف ما يرتضيه فيه، فقد يعتقدُ الفطن أَنَّهُ يجتمع في هذا الفرض معنيان:

أحدهما: الإِقْدَامُ على الإتلاف، وهو من أَقْوَى أسباب الضَّمَانِ، ولذلك اختار

ص: 285

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفَارضُ تعيين هذا الطّرف، وتخصيص بالكلام المختص به، وقد اجتمع فيه الإِتْلافُ والتَّلَفُ تحت اليد العادية، وهذا أقرب مسلك في تخييل اجتماع معنيين بحكمٍ واحدٍ، ونحن نَقُولُ: العلَّةُ فِي الضَّمَانِ تَحْتَ الإتلاف في هذه الصورة فحسب، فإن التلف الحاصل تحت اليد العادية إِنَّمَا يُضَمَّنُ من جهة اعتداء ذي اليَدِ ومنعه لحق مستحقه. فثار، الضَّيَاع الَّذِي وقع سماويًّا في اطراد معنى المعتدي مشبهًا بالإتلاف، وإِذا تحقَّقَ الإتلافُ لم يبق لتخيل التَّلَفِ على دوام المنع المشبه بالإتلاف معنى، والإِتلافُ هو المُشَبَّهُ به، واعتقاد اجتماع المشبه والمشبَّهِ به في صورة واحدةٍ مُحَالٌ. "انتهى". وحاصل المِثَالِ أَنَّ الإتلاف مضمن، والتَّلف أيضًا عند أصحابنا مضمن إِذَا كان تحت اليد العادية، وإذا كان كُل منهما سببًا مستقلًا في الضَّمانِ، فقد يجتمعان في صورة الإتلاف؛ إِذْ كُلُّ متلف تالف، فيعلل المتلف بعلتين: خاصة، وهي الإتلاف، وعامة هي التلف تحت اليد العادية، والجواب عن هذا من وجه: أحدها أنَّا لا نُسَلِّمُ أْنَ كُل متلف تالف؛ وذلك لأنَّ المفهوم من التَلَفِ أَنّهُ هلك بنفسه من غير جناية جانٍ، والمفهومُ من الإتلاف أَنَّهُ هلك بجناية جانٍ فكيف يصحُّ اجتماعهما؟ وهذا الجواب ذكره ابنُ الأنْبَارِيَّ، وقد ينازعُ فيه، ويقال: التَّلَفُ مطاوع الإِتْلَافِ، وهو من حيثُ هو أعمُّ من أَنْ يهلَك بنفسه، أو في ضمن الإتلاف من الجَانِي، وثانيها: أنَّا نَقُولُ: الإِتْلَاف والتلفُ هنا جزاء علَّةٍ كما سبق نظيره.

وثالثها، وهو المعتمدُ: ما ذكره الإمام، وحاصله: أَنَّ التضْمِينَ بالإِتلافِ أَمْرٌ مناسب لائحُ الظُّهُورِ، فَمَنْ أَقْدَمَ على إِتْلافِ شيْءٍ كان تغريمه مناسبًا، وأَمَّا التَّلَفُ الَّذِي يقع بآفة سماويّةٍ، فلا يظهر فيه هذه المناسبة، ولذلك لا يستقلُّ التَّلَفُ بالتَّضْمِينِ، بل إِنَّمَا يضمن إذا كانت تحت يد عاديةٍ، فصحابنا يضمنون مَنْ تلف الشيْءُ تحت يده إذا كانت يدُهُ يَدَ عدوانٍ لما عرف من موضعه، لا لأنَّ موضع التَّلَفِ يقتضي ذلك، بل بضمِيمَةِ العدوان، والسَّبَبُ الدَّاعي لهم إلى ذلك منه الظَّالمينَ من الاعتداء والاستيلاء على الأموال، فإِذَا حصل معنى مناسب مستقلٌّ جاز على مناهج القِيَاسِ، وهو الإِتْلاف، فالإِحَالَةُ عليه لا على التَّلَفِ، فالتَّلَفِ لا يصلح للعلِّيةِ إِلَّا إِذَا لم يكن ثمَّ إتلاف، أَمَّا إذا كان فهو العِلَّة، وقد زاد الإِمَامُ هذا تحقيقًا فَقَالَ: إِنَّا إنما

ص: 286

لَنَا: لَا بُعْدَ فِي مُنَاسَبَةِ وَصْفٍ وَاحِدٍ لِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.

نضمن بالتَّلَفِ تشبيهًا له الإتلاف، لكونه صادرًا تحتَ يدٍ عاديةٍ، فإِذَا حصل الإِتْلَافُ المشبه به لا يجتمع معه المشبه؛ لامتناع اجتماع المُشَبَّه والمشبَّه به في صورةٍ واحدةٍ، ويخطر لي في هذا مزيدُ تقرير، وهو: أَنَّ الإِمَامَ إِنَّمَا مَثَّلَ بالإِتْلَافِ والتَّلَفِ لما قدَّمَ أَنَّ مَظَانَّ الضَّرُورَاتِ لا تلحق بالقَوَاعِدِ الوضعيَّةِ، أي: فالتَّضْمِينُ بالتَّلَفِ إِنَّما هو في أماكن الضَّرُورَاتِ لا تلحق بالقَوَاعِدِ الوضعيَّةِ أي: فَالتَّضْمِينُ بالتَّلَفِ إِنَما هو في أماكن الضَّرُورَةِ إِذا كانت اليدُ عاديَّة؛ فإنَّا نحتاجُ إِلى التَّضْمِينِ منعًا لذوي الاعتداءِ بخلاف التَضْمِينِ بالإِتْلَافِ.

وعبارة الآمدي

(1)

: أنه مما لم يعرف فيه خلاف، وذلك كما لو قال: طلوع فَجْرِ رمضان يعرف وجوب الامتثال والصّبح.

وكما يقول أصحابنا: لا يجوز الجمع بتيمُّمٍ واحد بين صلاتي فَرْض، ولا يجوز للمعترض التيمم قبل دخول الوقت، والعلّة فيهما أنه تيمم للفرض في وقت هو مُسْتغن عنه، فلم يصح تيمُّمه، كما لو تيمم مع وجود الماء.

الشرح: "لنا" على جواز تَعْليل حُكْمين بعلّة باعثة: أنه "لا بعد في مُنَاسبة وصف واحد لحكمين مختلفين"، وأكثر، كالحَيْض يناسب المَنعْ من الصَّلاة، والطواف

(2)

، وقراءة

(1)

ينظر: الإحكام 3/ 220 (13).

(2)

من أركان الحج الطواف بالبيت؛ لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، والمراد به: طواف الإفاضة؛ لانعقاد الإجماع على ذلك، ولهذا الطواف أسماء غير ذلك منها: طواف الزيارة، وطواف الفرض، وقد يسمى طواف الصَّدَر بفتح الدال.

والأشهر: أن طواف الصدر هو طواف الوداع.

ومحل طواف الإفاضة بعد الخروج من عرفة؛ ولهذا سمي طواف الإفاضة، ويدخل وقته بنصف ليلة النحر، لمن وقف قبله، قياسًا على رمي جمرة العقبة، ولا آخر لوقته؛ إذ الأصل عدم التأقيت إلا إذا دلّ دليل على ذلك، ولا دليل ثمّة.

ويسن تأخيره إلى بعد طلوع الشمس للاتباع، وتكره تأخيره عن يوم النحر، وفي تأخيره عن أيام التشريق كراهة شديدة، وعن خروجه من مكة كراهة أشد.

ويشترط لصحة الطواف شروط عشرة: =

ص: 287

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= " الأوّل" الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر، ومن نجاسة لا يعفى عنها، في البدن والثوب والمكان الذي يمشي فيه الطائف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ" وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما حاضت؛ وهي محرمة: "اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي"، فلا يصح الطواف بدون الطهارة مما ذكر. ومن أحدث أو تنجس بدنه أو ثوبه أو مطافه في أثناء الطواف، تطهّر، وبنى على طوافه من الموضع الذي حصل فيه شيء مما ذكر وإن تعمّد وطال الفصل؛ إذ لا تشترط فيه الموالاة كالوضوء، ويندب له الاستئناف خروجًا من الخلاف.

ويعفى عما يشقّ الاحتراز عنه في المطاف من زرق طيور وغيرها، حيث لا رطوبة، ولا تعمّد للمشي عليه.

"الثاني": ستر العورة عند القدرة عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَان"، فلا يصح الطواف بدون سترها، مع القدرة عليه، ويصح مع العجز عنه، كما لو صلّى كذلك.

ولو زال الستر في أثناء الطواف جدّد، وبنى على طوافه من الموضع الذي حصل فيه زواله، وإن تعمده وطال الفصل، ويندب له أن يستأنف خروجًا من الخلاف.

والعورة هنا: هي العورة في الصلاة، فهي في حق الذكر والأمة ما بين السرّة والركبة، وفي حق الحرّة جميع بدنها إلا الوجه والكفّين.

"الثالث": البدء بالحجر الأسود؛ للاتباع، فلو بدأ بغيره، كأن ابتدأ بالباب لم يحسب له ما طافه قبل، فإذا وصل إلى الحجر الأسود ابتدأ منه، وحسب له الطواف من حينئذ.

"الرابع": محاذاة كل الحجر أو بعضه بجميع المنكب الأيسر للاتباع، فمن بدأ في طوافه بالحجر، ولم يحاذه بجميع منكبه: بأن تقدّم جزء منه عليه إلى جهة الباب؛ لم يعتد بطوفته إلا من حين وصوله إلى الحجر، ومحاذاته بجميع منكبه الأيسر، وصفة المحاذاة - كما في المَجْمُوعِ - أن يستقبل البيت، ويقف بجانب الحجر من جهة الركن اليماني، بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه، ومنكبه الأيمن عند طرفه، ثم ينوي الطواف، ثم يمشي مستقبل الحجر مارًا إلى جهة يمينه، حتى يجاوزه، فإذا جاوزه انفتل وجعل يساره إلى البيت، ولو جعل هذا من الأوّل، وترك استقبال الحجر جاز، ولكن فاتته الفضيلة، ولا يجوز استقبال البيت في الطواف إلا في هذا.

"الخامس": جعل البيت عن اليسار، مع المرور جهة الوجه؛ للاتباع، فلو جعله الطائف عن يمينه، ومشى أمامه أو استقبله أو استدبره، وطاف معترضًا، أو جعله عن يمينه أو يساره، ومشى القهقري؛ لم يصح طوافه.

"السادس": عدم الصارف إلى غرض آخر، فإن صرف الطائف الطواف لغيره، كان أسرع في مشيه؛ خوفًا من أن تلمسه امرأةٌ؛ أو ليرى صاحبًا له ضرّ، ولا يضر التشريك، كأن يقصد بمشيه الطواف، وطلب غريم. =

ص: 288

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= " السابع": كونه سبع مرات يقينًا؛ للاتباع، فلو ترك من السبع شيئًا، وإن قلّ لم يكف، ولو شك في العدد بنى علي الأقلّ إن كان الشكّ في أثنائه، بخلاف ما إذا كان بعد الفراغ منه؛ فإنه لا يضر.

"الثامن ": كونه في المسجد الموجود حال الطواف، ولو في هوائه أو على سطحه، ولو كان السطح أعلى من البيت، فإن طاف خارج المسجد لم يكف.

"التاسع": نية الطواف إن لم يشمله نسك، بخلاف ما إذا شمله نسك، كطواف الركن، والقدوم، فلا يحتاج إلى نية؛ لشمول نيَّة النّسك له.

وطواف الوداع لا بدّ له من نية؛ لوقوعه بعد التحلّل؛ ولأنه ليس من المناسك.

"العاشر": كونه خارج البيت، بأن يكون جميع البدن خارجًا عن البيت، فلو وقع الطواف في البيت لم يكف؛ لأنه في هذه الحالة طائف في البيت لا به، وقد قال تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، ومن البيت "الشّاذَرْوان والحِجْر"، فلا بد أن يكون الطائف خارجًا عنهما، وعن هوائهما، فلو وضع الطائف رجله على الشاذَرْوان حال مروره أو مدّ يده وهو سائر في هوائه، أو في هواءِ الحِجْر لم يصح طوافه من حينئذ، فيلزمه أن يعود إلى محل وضع الرجل أو مدّ اليد، ثم يبنى على ما فعله، وليس الثوب كالبدن، فلا يضرّ مروره على الشاذروان، ولا دخوله إحدى فتحتي الحِجْر حال المرور، وإن كان يتحرك بحركته.

والشاذروان هو الخارج عن عرض جدار البيت، تركته قريش؛ لقلّة المنفقة والمصاريف، وهو مرتفع من الأرض بنحو ثلثي ذراع.

والحِجْر، ويقال له: الحطيم ما بين الركنين الشاميين عليه جدار، قصير على صورة نصف دائرة.

ثم إن هذه الشروط المتقدّمة ليست خاصة بطواف الإفاضة الذي هو الركن؛ بل هي شروط لكل طواف.

ولا يشترط في الطائف أن يطوف بنفسه.

فلو حمل رجل محرمًا من صبي أو مريض أو غيرهما وطاف به، فإن كان الطائف حلالًا أو محرمًا، وقد طاف عن نفسه حسب الطواف للمحمول، وإن كان محرمًا ولم يطف عن نفسه نظر، فإن قصد الطواف عن نفسه فقط، أو عنهما معًا، أو لم يقصد شيئًا وقع عن الحامل؛ لأنه الطائف، ولم يصرفه عن نفسه، وإن قصده عن المحمول وقع عن المحمول، وسواء في الصبي المحمول حمله وليّه الذي أحرم عنه أو حمله غيره، ولو حمل شخص محرمين وطاف بهما، وهو حلال أو محرم، وقد طاف عن نفسه، وقع عن المحمولين جميعًا كما لو طاف على دابّة.

ص: 289

"قَالُوا: يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ؛ لأَنَّ أَحَدَهُمَا حَصَّلَهَا.

وَأجِيبَ: بِأَنَّهُ إِمَّا أنْ تَحْصُل أُخْرَى أَوْ لَا تَحْصُلَ إِلَّا بِهِمَا.

وَمِنْهَا: أَلَّا تَتَأخَّرَ عَنْ حُكْمِ الأصْلِ.

لَنَا: لَوْ تَأَخَّرَتْ لثَبَتَ الحُكْمُ بِغَيْرِ بَاعِثٍ، وَإنْ قُدِّرَتْ أَمَارَةً. فَتَعْريفُ الْمُعَرَّفِ.

القرآن والوَطْء، ومسّ المصحف، والجلوس في المسجد، وعبوره للحَائِض إن لم تأمن التَّلويث، وكذا إن أمنت على وجه، وكذا للاسْتِمْتَاع بما بين السُّرَّةِ والرُّكبة على الصَّحيح

(1)

إلى غير ذلك من أحكام الحَيْضِ، وكالسَّرقة فإنها تناسب القطع زجرًا للسَّارق، حتى لا يعود ولغيره؛ ليتعظ فَيَرْتَدِعَ، وتناسب التغريم جَبْرًا لصاحب المال، وأمثلته تكثر.

الشرح: "قالوا: يلزم تحصيل الحَاصِل؛ لأن أحدهما" أي: أحد الحُكْمين "حصلها" أي: حصل الحِكْمَةَ المقصودة من الوصف، فيكون محصّلها من الحكم الثاني تحصيلًا للحاصل. وإنما قلنا: إِنه حصّلها؛ لأنه لو لم يحصلها لم يكن مناسبًا، وهو خلاف الفرض.

"وأجيب: بأنه إنما تحصل" بذلك الوَصْف حكمة "أخرى، أو" قد تكون الحكمة المقصودة من الحكمين "لا تحصل إلا بهما"؛ لأن الوصف إِذا ناسب حكمين لم تحصل المصلحة إلا بهما، وما حصله أحدهما يكون جزءها.

"ومنها" أي: و‌

‌من شروط علّة الأصل "ألا تتأخر عن حكم الأصل"،

سواء أفسرت بـ "البَاعِثِ"، أم المعرّف، أي: لا يكون ثبوتها متأخرًا عن ثبوت حكم الأصل، كما يقال - فيما أصابه عَرَق الكلب -: أصابه عَرَقُ حيوان نَجِس، فيكون نجسًا كَلُعَابِهِ، فيمتنع كون عرق الكلب نجسًا، فيقال: لأنه مستقذرٌ. فإن استقذاره إِنما يحصل بعد الحكم بنجاسته، وقد خالف قوم في هذا الشرط.

الشرح: "لنا: لو تأخرت" العلّة عن الحكم "لثبت الحكم بغير باعث" على تقدير تفسيرها بـ "الباعث"، وقد فرضنا تأخّرها عن الحكم، وهو محال، "وإن قدر" أنّ العلة "أمارة" لا باعث، "فتعريف للمعرف"؛ لأنّ المفروض معرفة الحكم قبل ثبوت علَّته.

(1)

في أ: على الصحيح: وكذا محل المشتراة.

ص: 290

وَمِنْهَا: أَلَّا تَرْجِعَ عَلَى الأصْلِ بِالإِبْطَالِ، وَأَلَّا تَكُونَ الْمُسْتَنْبَطَة بِمُعَارِضٍ فِي الأصْلِ.

وَقِيلَ: وَلَا فِي الْفَرْعِ.

الشرح: "ومنها: ألا ترجع على الأصل"

(1)

الذي استنبط منه "بالإبطال"، أي: لا يلزم منها بُطْلان الحكم المعلّل بها؛ فإِن الحِكم أصلها، فلو أبطلته؛ لبطلت إِذ الفرع يبطل ببطلان أَصْله، وقد سبق في التأويلات البعيدة أمثلة ما يرجع على الأصل بالإبطال، وللشَّافعي قولان في جواز عَوْدِهَا على الأصل بالتَّخْصيص، ولا خلاف في جواز عوده عليه بالتَّعميم، كما يستنبط من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"

(2)

، أن العلّة تشويش الفِكْر، وتعديه إلى كل مُشَوّش للفكر، وذلك باب القياس كله.

"وألا تكون" العلة، أي: ومن الشروط: ألا تكون "المستنبطة" معارضة "بمعارض" موجود "في الأصل" صالح للعلّية، وليس موجودًا في الفرع

(3)

، فإنه متى كان في الأصل وصفان مُتَعَارضان يقتضي كلّ منهما نقيض حكم [الآخر]

(4)

، لم يصحّ إِعمال واحد منهما إِلا بمرجّح، مثاله: قول الحَنَفِي في التبييت: صوم عَيْن، فيتأدّى بالنية قبل الزَّوَال، كالنفل فنقول: صوم فرض فيحتاط فيه، ولا يبنى على السهولة.

(1)

ينظر: الإحكام للآمدي 3/ 226 (18)، وشرح العضد 2/ 228، وشرح الكوكب المنير (500)، وجمع الجوامع 2/ 247، ونهاية السول 4/ 301، وإرشاد الفحول (208)، والتحرير (461)، والتيسير 4/ 31، وفواتح الرحموت 2/ 289.

(2)

متفق عليه من حديث أبي بكرة، أخرجه البخاري في الصحيح 13/ 136 كتاب الأحكام (93) باب هل يقضي القاضي

(13) الحديث (7158) واللفظ له، وأخرجه مسلم في الصحيح 3/ 1342 - 1343 كتاب الأقضية (30)، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، الحديث (16/ 1717). وأبو داود 3/ 302 في كتاب الأقضية، باب: القاضي يقضي وهو غضبان، حديث (3589)، والترمذي 3/ 620 في أبواب الأحكام، باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان حديث (1334)، وقال أبو عيسى:"هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي 8/ 23 في كتاب: آداب القضاء، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يتجنبه، وفي 8/ 247 باب: النهي عن أن يقضي في قضاء بقضائين.

(3)

ينظر: شرح الكوكب (501)، والإحكام للآمدي 3/ 225، وجمع الجوامع 2/ 249، وشرح العضد 2/ 228، وفواتح الرحموت 2/ 290، والتحرير (462)، وإرشاد الفحول (208)، وتيسير التحرير 4/ 32.

(4)

في أ، ت: الأخرى.

ص: 291

وَقِيلَ: مَعَ تَرْجِيحِ الْمُعَارِضِ.

"وقيل: ولا في الفرع"، أي: ويشترط - أيضًا - ألا يكون في الفَرْعِ وصف معارض؛ وذلك لأن المقصود من إِثبات علّة الأصل ثبوت الحكم في الفرع، فَإذا عورضت في الفرع بوصف آخر، لم يثبت الحكم؛ لأنه من حيث إِنه معارض منافٍ يلحقها بأصل آخر، مثاله في: مَسْحُ الرأس ركن في الوضوء، فيسنّ على أصح القولين تَثْلِيثه، كغسل الوجه، فيعارض الخصم بقوله: مسح، فلا يسنّ تثليثه، كالمسح على الخفين.

الشرح: "وقيل

(1)

: مع الترجيح" أي: قيد ما ذكر "مع تَرْجيح المعارض"، وهذه نسخة المصنّف، وفي بعض النسخ: وقيل: إنما يشترط ألّا تُعَارَضَ المستنبطة بمعارض في الأصل، أو في الأصل والفرع جميعًا، على اختلاف المذهبين، تَرْجِيح المعارض، أي: إذا كان ذلك المعارض راجحًا، فإنه - حينئذ - يبطل عمل الوَصْف الآخر المرجوح.

أما إِذا لم يكن راجحًا فلا، وهذا ضعيف؛ لأن الرَّاجحية كما تبطل عمل الوصف الآخر، كذلك المُسَاواة؛ إِذ لا ترجيح لأحد المُتَسَاويين على الآخر. هذا تقرير ما في الكتاب، والذي فهمناه من أن المراد بالمعارضة المُنَافاة، وهو الحَقّ، والشارحون فهموا أن المراد بالمعارضة: الإِثبات بوصف آخر لا ينافي، وربما تأيّد هذا بعبارة الآمديِّ في "المنتهى" التي سأحكيها، وهو فاسد.

أما أولًا؛ فلأنه حمل للمعارض على خلاف ظاهره؛ [فإن ظاهر التعارض التنافي مع إِمكان إِجرائه على ظاهره]

(2)

.

وأما ثانيًا؛ فلأن المعارض إِذا كان غير منافٍ، فقول المصنف فيما بعد: لا يشترط نفي المعارض في الأصل والفرع.

إن أراد به المعارض المنافي، فهو واضح الفساد؛ إذ لا بد في صحة العلة من نفي ما ينافيها.

وإن أراد المعارض غير المنافي، فهو تَكْرَار، وما يقال من أنّ معنى قوله - هناك -: إنه لا يشترط نفي المعارض فيهما جميعًا، وما اشترطه - هنا - نفي المعارض في الأصل فقط -

(1)

في أ، ب، ت: وقيد.

(2)

سقط في ج.

ص: 292

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تكلّف من غير احتياج إِليه، وخلاف ظاهر اللفظ، وتَكْرار أيضًا؛ لأنه قد قضى - هناك - بأن الفرع لا يشترط فيه ذلك، حيث قال بصيغة التَّمْرِيض: وقيل: ولا في الفرع، ومتى لم يشترط في الفرع، لم يشترط في الأَصْل والفرع جميعًا، فلا معنى لإِعادته.

وأما ثالثًا: فلأنه لو كان المراد من المُعَارض - هنا - غير المُنَافي، لم يمتنع اجتماعهما، ويكونان علَّتين، ورأى المصنف التعليل بعلّتين مستقلتين.

فإن قلت: تجويز العلَّتين المستقلَّتين لا يوجب القضاء على كلّ وصفين اجتمعا بالاستقلال في العلّية؛ لجواز أن العلّة أحدهما، أو أنهما جزءا علّة، والعلّة مجموعهما، أو الاستقلال، وإذا تساوت هذه الاحتمالات، لم يقض بواحد منها بخصوصه إِلا بدليل.

لا يقال: إِذا كانت إِحداهما أَخْيَلَ وَأَنْسَبَ من الأخرى، فلم لا ترجح؟.

لأنا نقول: إِنما ترجّح الأخيل عند التنافي، ولا تنافي بينهما؛ لإمكان إِعمالهما بالجزئية والاستقلال، وأنّ العلة أحدهما.

قلت: من علل بعلتين قضى بالاستقلال حيث وجد وصفين مناسبين؛ إذ مجرد المناسبة يوجب ظن العلية، واجتماع علّتين - على هذا الرَّأي - لا يستحيل، فمن ظن أن المعلل بعلَّتين يتوقّف عند وجدان وصفين صالحين للاستقلال على القضاء عليهما بذلك إِلى أن يقوم دليل عليه، فهو من البعيدين عن معرفة أصول الفقه.

وقد أفصح الآمدي في كتابه "منتهى السُّول" بذلك، إِذ قال: وألَّا تكون المستنبطة لها مُعَارض في الأصل لا وجود له في الفرع، إِلا على رأي من يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين.

فاقتضى أنّ من يجوز علتين لا يشترط ذلك، إِذا كان معنى المعارض غير المنافي، وهو مراد الآمِدِي بالمعارض، ولا يصحّ أن يكون مراد المصنف، كما ذكرناه.

وكذلك إمام الحرمين صرح في "البرهان" ببناء المسألة على التعليل بعلّتين، وكفى بكلامه حجّة.

فإن قلت: فقد أطلق إمام الحَرَمَيْنِ والآمدي المعارضة، وأرادا بها المعارض الذي لا ينافي.

ص: 293

‌وَألَّا تُخَالِفَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا.

‌وألَّا تَتَضَمَّنَ الْمُسْتَنْبَطَةُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ.

قلت: نعم، ولكن ببناء ذلك على التعليل بعلّتين، والمصنف يرى جوازه، فلذلك لم نحمل المُعَارضة في كلامه على ما ينافي، بل على ظاهرها؛ خوفًا عليه من الفساد، فإن المعارض إذا لم يناف، وجوزنا التعليل، فلا يقدح بلا ريب.

وأما رابعًا؛ فلأنه لو كان المُرَاد من المُعَارض ما لا يُنَافي، لم يتّجه اشتراط ذلك في الفرع أصلًا؛ لأنه إِذا وجد فيه وصف آخر لا ينافي، فعملهما واحد، فأي معنى لاشتراط نفيه؟

وهذا بخلاف ما إِذا كان منافيًا؛ فإن اشتراطه قد يتجّه من جهة أن العمل يختلف، ويتنافى مقتضاهما.

واعلم أن المراد بقولنا: شرط العلة ألَّا تُعَارِضَ، أي: شَرْطَ صحّتها وعملها، أما ذاتها فتوجد مع كونها مرجوحة.

الشرح: "وألَّا تخالف نصًّا أو إِجماعًا"؛ لأنهما أولى من القياس.

مثال مخالفة النص: قول الحنفي: المرأة مالكةٌ لبُضْعِهَا، فيصحّ نكاحها بغير إِذن وليّها، قياسًا على بيع سلعتها، وهذه علةّ تخالف نصّ قوله عليه الصلاة والسلام:"أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَليِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ"

(1)

.

ومثال الإجماع: قياس صلاة المُسَافر على صومه في عدم الوُجُوب، بجامع السَّفر الموجب للمَشَقَّة، وهذه علَّة تخالف الإجماع.

الشرح: "وألَّا تتضمّن المستنبطة زيادة على النَّص"، بأن يكون النَّصّ دالًّا على علية

(1)

أخرجه أبو داود 2/ 229، كتاب النكاح: باب في الولي (2083)، والترمذي 3/ 408 كتاب النكاح: باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وابن ماجة 1/ 605، كتاب النكاح: باب لا نكاح إلا بولي (1879)، وابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص 305، كتاب النكاح: باب ما جاء في الولي والشهود (1248)، وأحمد 6/ 66، والشافعي 2/ 11، كتاب النكاح: الباب الثاني فيما جاء في الولي (19)، والدارمي 2/ 137، كتاب النكاح: باب النهي عن النكاح بغير ولي، والحاكم 2/ 168، كتاب النكاح: باب أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وذكر له متابعة.

ص: 294

وَقِيلَ: إِنْ نَافَتْ مُقْتَضَاهُ.

‌وَأَنْ يَكُونُ دَلِيلُهَا شَرْعِيًّا.

‌وألَّا يَكُونَ دَلِيلُهَا متَناوِلًا حُكْمَ الْفَرْعِ

بِعُمُومِهِ، أَوْ بِخُصُوصِهِ مِثْلُ:"لَا تَبِيعُوا الطعَامَ بِالطعَامِ"، أَوْ: "مَنْ قاءَ أوْ رَعَفَ.

وصف، ويزيد الاستنباط على ذلك الوصف قيدًا

(1)

.

الشرح: وقيل: إِنما يشترط ذلك "إن نافت" الزيادة "مقتضاه"، وهذا ما ذكره الآمِدِيّ، وهو الصحيح عندي، وإنما يتجه الأول لو كانت الزيادة على النص نسخًا، وليس كذلك عندنا، وفي بعض النسخ: وقيد موضع.

وقيل: والمقيِّد هو الآمدي، كما ذكرناه.

"وأن يكون دليلها شرعيًّا"، وهذا إِذا كان القياس في الشرعيات.

أما إذا كان في العقليات، أو اللغويات، وقلنا بصحته، فلا.

الشرح: "وألَّا يكون دليلها متناولًا حكم الفرع بعمومه أو بخصوصه"، ففي العموم "مثل" ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام:"لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بالطعَامِ" إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ" وهو حديث لا يعرف بهذا اللَّفظ، ولكن في "صحيح مسلم": "الطَّعَامُ بُالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ"

(2)

، وهو بمعناه؛ فإنه دالّ على علّية الطعم.

فلو قلنا: التُّفاح ربوي قياسًا على البُرّ بجامع الطّعم، فإنه علة بهذا الحديث، لم يصح.

"أو "في خصوصه، مثل قوله عليه الصلاة والسلام:"مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فَلْيَتَوَضأ"

(3)

.

وهو حديث ضعيف.

(1)

ينظر: شرح الكوكب المنير (52)، شرح العضد 2/ 229، جمع الجوامع 2/ 250، التحرير 462، التيسير 4/ 33، إرشاد الفحول (208).

(2)

تقدم.

(3)

أخرجه ابن عدي في الكامل 1/ 288، 5/ 1928، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 142 وبلفظ: =

ص: 295

لَنَا: تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ، وَرُجُوعٌ.

قَالُوا: مُنَاقَشَةٌ جَدَلِيَّةٌ.

وَالْمُخْتَارُ: جَوَازُ كَوْنِهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا إِنْ كَانَ بَاعِثًا عَلَى حُكْمِ الأصْلِ؛ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ لَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ؛ كَالنَّجَاسَةِ فِي عِلَّةِ بُطْلانِ الْبَيْعِ.

وروي من حديث عبد الرَّزاق، عن ابن جريج، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو منقطع؛ لأنَّ والد ابن جُرَيْجٍ لا صحبة له.

فلو قيل في القَيْيء: خارج من غير السَّبيلين، [فينقض](1) كالخارج منهما، ثم استدلّ على أنّ الخارج منهما ينقض بهذا الحديث، لم يصح.

الشرح: "لنا: تطويل بلا فائدة"، وذلك في الأول واضح؛ لإِمكان الإِثبات به من غير التَّعَرُّض لشيء آخر، وهو في الثاني تطويل، "ورجوع" عن القياس؛ لأنَّ الحُكْم - حينئذ - ثبت بدليل العلّة، لا بها، فلم يثبت الحكم بالقياس.

"قالوا": هذه "مناقشة جدليّة"، وهي لا تقدح في صحّة القياس؛ لأنّ المناقشة الجدليّة

= "من أصابه قيء أو رعاف، أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة باب: ما جاء فيمن أحدث في الصلاة

حديث (1222).

لفظ ابن ماجه، وأعله غير واحد بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج، ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب ابن جريج فرووه عنه عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وصحح هذه الطريق المرسلة محمد بن يحيى الذهلي والدارقطني في العلل وأبو حاتم، وقال: رواية إسماعيل خطأ، وقال فيه ابن معين: حديث ضعيف.

وقال ابن عدي: هكذا رواه إسماعيل مرة، وقال مرة عن ابن جريج عن أبيه عن عائشة، وكلاهما ضعيف.

وقال أحمد: الصواب عن ابن جريج عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.

ورواه الدارقطني من حديث إسماعيل بن عياش أيضًا عن عطاء بن عجلان وعباد بن كثير عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وقال بعده: عطاء وعباد ضعيفان، وقال البيهقي: الصواب إرساله وقد رفعه أيضًا سليمان بن أرقم عن ابن أبي مليكة وهو متروك، وانظر: نصب الراية 1/ 38، 2/ 61.

ص: 296

وَالْمُخْتَارُ: جَوَازُ تَعَدُّدِ الْوَصْفِ وَوُقُوعِهِ؛ كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ.

ترجع إلى بيان أوضاع الأدلّة، وليس فيها مُبَاحثة فِقْهِيّة، ولم يجب المصنّف عن هذا، وهو سؤال الآمدي.

وجوابه أن يقال: لا نسلّم أنها مناقشة جدليّة، بل مُبَاحثة فقهيّة، وذلك أن الحكم كان في الأول مستندًا إِلى النص؛ فإنّ التُّفاح داخلٌ تحت عموم الطَّعام، فجعله المناظر مستندًا إلى القياس، وحكم القياس والعموم مختلف.

وفي الثاني: كان قياسًا، فعاد منصوصًا، ولربّ غرض يتعلّق بذلك - وحينئذ - نقول: إن وَضَح في التطويل مقصد فِقْهِيّ، فهو مقبول، وإلا فلا، وهذا هو المختار، والتطويل فيه ذو فائدة.

الشرح: "والمختار: جواز كونه حكمًا شرعيًّا إن كان باعثًا على حُكْمِ الأصل، لتحصيل مصلحة"؛ إذ لا يبعد أن يكون ترتيب أحد الحُكمين على الآخر يستلزم حصول مصلحة لا يستقلّ بها أحدهما، وإن لم يكن باعثًا على حكم الأصل فلا؛ لأنه لا أولوية لأحدهما بالنسبة إلى الآخر في التعليل؛ لتساويهما في أنه لا واحد منهما باعث.

ولك أن تقول: قد يرجّح الفاعل المختار أحدهما بالإرادة، وينصبه معرفًا، ويقول: مهما رأيتموني حرمت الشيء الفلاني، فقد أبحت الشَّيء الفلاني، وحذف المصنّف هذا القسم؛ لأن العلّة عنده - أبدًا - لا تكون إِلا بمعنى الباعث، وإن كان باعثًا ولكن لا لجلب مَصْلحة، بل لدفع مَفْسَدة، فذلك لا يجوز التَّعْليل به، وإليه الإِشارة بقوله "لا لدفع مفسدة، كالنَّجَاسة في علّة بطلان البيع"؛ لأن حكم الأصل لو اشتمل على المَفْسَدة، لما شرعه الشارع.

ولك أن تقول: قد يشرع حكم مشتمل على مَفْسَدة؛ لأنها أخفّ من مفسدة غيرها يحصل لو لم يشرع، كما يُبَاح للمضطر أكل مال الغَيْر مع اشتماله على مَفْسَدَة إتلاف مال الغير؛ خوفًا من وقوع مفسدة أكثر منها، وهي هَلَاك النفس، وبالجُمْلة هذا مكان مشكل، وتبع المصنف كلام الآمدي في هذا الاختيار، وكلام الآمدي أشكل منه، وقد حذف منه المصنّف شيئًا، فلينظر كلامه في "الإِحكام"، فإن بعضه لم أتصوره، وبعضه فاسد مَبْنِي على معتقد في أنّ العلة في الأصل لا يجوز أن تكون بمعنى المعرف.

ص: 297

لَنَا: أَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْوَاحِدُ يَثْبُتُ بِهِ الْمُتَعَدِّدُ مِنْ نَصٍّ، أَوْ مُنَاسَبَةٍ، أَوْ شَبَهٍ، أَوْ سَبْرٍ، أَو اسْتِنْبَاطٍ.

قَالُوا: لَوْ صَحَّ تَرْكُهَا لَكَانَتِ الْعِلِّيَّةُ صِفَةً زَائِدَةً؛ لأَنَّا نَعْقِلُ الْمَجْمُوعَ، وَنَجْهَلُ كَوْنَهَا عِلَّةً، وَالْمَجْهُولُ غَيْرُ الْمَعْلُومِ.

والحق أن العلة المعرف أبدًا، وعلى هذا يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، وهو رأي الإِمام الرازي.

وقال قوم: لا يجوز مطلقًا، والخلاف مَبْني على تفسير العلة.

الشرح: ‌

‌"والمختار: جواز تعدّد الوصف ووقوعه،

كالقَتْلِ العمد العدوان"، علّة للقصاص، وهو رأي الجمهور، ومنعه قوم.

وقال بعضهم: لا يجوز أن تزيد الأوصاف على خمسة، نقله أبو إِسحاق الشيرازي، وحكاه عن حكايته الإِمام في "المحصول"، وجعل موضع خمسة سبعة، وكأنها تصحيف في نسخته.

الشرح: "لنا: أَنَّ الوجه الذي ثبت به" كون الوصف "الواحد" علة "ثبت به المتعدّد من نصّ، أو مناسبة، أو شبه، أو سَبْر، أو استنباط"، فكما صَحّ في الواحد، صحّ في المركّب، وليت شعري ماذا يصنع المانع في القَتْل العمد العدوان من حيث كونه مُزْهِقًا، الصادر من مكلف على مُكَافئ، ليس بولد، إلى غير ذلك؛ إِذ لا يمكنه نفي ذلك، ولا التَّعلُق بواحد من هذه الأوصاف وحده، فمن استقرأ الشَّرِيعة علم أن أكثر عللها مركبة، وما أرى للمانع مخلصًا إِلا [أن]

(1)

يتعلّق بوصف منها، ويجعل البقية شروطًا فيه، لا أجزاء، ويؤول الخلاف إِذ ذلك إلى اللفظ.

الشرح: "قالوا: لو صحّ تركيبها، لكانت العلّية صفة زائدة" على ذات العلّة المركبة، والتالي باطل، والملازمة بيّنة؛ "لأنا نعقل المجموع" من تلك الأوصاف من حيث هو، "ونجهل كونها علة، والمجهول غير المعلوم"، وغير جزئه، فتكون العلة زائدة، وإلا يجب من تعقُّل تلك الأوصاف تعقل العلية.

(1)

في ت: لمن.

ص: 298

وَتَقْرِيرُ الثَّانِيَةِ أنَّهَا إِنْ قَامَتْ بِكُلِّ جُزْءٍ، فكُلُّ جُزْءٍ عِلَّةٌ، وَإنْ قَامَتْ بِجُزْءٍ فَهُوَ الْعِلَّةُ.

وَأُجِيبَ: بِجَرَيَانِهِ فِي الْمُتَعَدِّدِ بِأنَّهُ خَبَرٌ أَوِ اسْتخْبَارٌ.

وَالْتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَعْنَى الْعِلَّةِ: مَا قَضَى الشَّارعُ بِالْحُكْمِ عِنْدَهُ لِلْحِكْمَةِ، لَا أَنَّهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَيْسَتْ وُجُودِيَةً لاِسْتِحَالَةِ قيَام الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى.

الشرح: "وتقرير الثانية" أي: بطلان التَّالي أن العلية التي فرضناها وصفًا زائدًا بقوله: "إنها إن قامت بكل جزء" من أجزاء المرّكب على حدة، "فكل جزء علة" مستقلة، وهو خلاف المفروض، وأيضًا فيلزم قيام الصِّفة الواحدة بمحال كثيرة.

"وإن قامت بجزء" واحد منها "فهو العلة" دون غيره، والفرض خلافه، وإن قامت بمجموعها، بمعنى: أنه قام ببعضها جزء، وببعضها الآخر جزء آخر، لزم أن يكون للعلّية ثلث ونصف، وربع.

وأجيب عن هذا: بأنها قامت بالمَجْمُوع من حيث هو مجموع، واعترض عليه بأنه - حينئذ - لا بُدّ للمجموع من وحدة لها يكون المجموع مجموعًا، وينقل الكلام من العلية إِلى تلك الوحدة، ويلزم التسلسل، وضعِّف بأن الوحدة من الأمور الاعْتِبَارية، ولا يستحيل التَّسَلْسُل فيها، وحكى المصنّف في الجواب نقضًا إجماليًا، فقال:

الشرح: "وأجيب: بجريانه"، أي: جريان هذا الدَّليل بعينه "في المتعدّد"؛ أي: في كل متعدّد "بأنه خبر واستخبار"، فإن كل واحد من الخبر والاستخبار صفة المتعدّد بلا خلاف، وهي زائدة؛ لأنا نعقل مجموع ذلك المتعدّد، ونجهل كونه خبرًا أو استخبارًا، والمجهول غير المعلوم، فالصفة - حينئذ - إِما قائمة بكل جزء، إِلى آخر ما ذكره في الدليل.

الشرح: "والتحقيق" في الجواب: "أن معنى العلّة: ما قضى الشَّارع بالحكم عنده للحكمة"، فكأن الشارع قال: مهما وجدت هذه الأَوْصَاف مجموعة، فاعلموا أن الحكم الفلاني حاصل في ذلك المحلّ.

ص: 299

"قَالُوا: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ كُلِّ جُزْءٍ عِلَّةً لِعَدَمِ صِفَةِ الْعِلِّيَّةِ؛ لاِنْتِفَائِهَا بِعَدَمِهِ، وَيَلْزَمُ نَقْضُهَا بِعَدَمٍ ثَانٍ بَعْدَ أَوَّلٍ لاِسْتِحَالَةِ تَجَدُّدِ عَدَمِ الْعَدَمِ" ا. هـ.

"وَأُجِيبَ: بِأَنَّ عَدَمَ الْجُزْءِ عَدَمُ شَرْطِ الْعِلَّةِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَهُوَ كَالْبَوْلِ بَعْدَ اللَّمْسِ، وَعَكْسِهِ؛ وَوَجْهُهُ: أَنَّهَا عَلامَاتٌ، فَلا بُعْدَ فِي اجْتِمَاعِهَا ضَرْبَةً وَمُتَرَتِّبَةً، فَيَجِبُ ذَلِكَ" ا. هـ.

وإنما قال المصنف: للحكمة، إِشارة إِلى ما يعتقده من أن معنى العلَّة: الباعث لا المعرّف، ولا يفترق الحال - هنا - "لا أنها صفة زائدة"؛ فإن قضاء الشَّارع بالحكم عند الوصف ليس صفة للوصف، فضلًا عن أن تكون صفة زائدة، "ولو سلم" أنّ العلة صفة زائدة، "فليست وجوديةً؛ لاستحالة قيام المعنى بالمعنى"؛ لأن العلية عرض، ومجموع الأوصاف - أيضًا - عرض، فيلزم قيام العَرَضِ بالعَرَضِ، وهو محال، فدل أنها ليست وجودية، ولا يخفى أن هذا إِنما يتم إِذا منعنا قيام العَرَض بالعرض.

الشرح: "قالوا": لو كان المركّب علة "يلزم أن يكون عدم كلّ جزء علة لعدم صفة العلّية؛ لانتفائها بعدمه"؛ فإنه متى انتفى جزء من المركّب، انتفت العلّية، "ويلزم" - حينئذ - "نقضها بعدم ثانٍ بعد أول"، فإن عدم الجزء الثَّاني بعد الأول، لا يلزم منه عدم العلّية؛ لأن العلية انعدمت بالأول، فلم يلزم من الثاني شيء؛ "لاستحالة تجدد عدم المعدوم"، الذي هو العلّية المعدومة بانتفاء الجزء الأول، فتمهّد وِجْدَان العلة بلا مَعْلول؛ لأن عدم كل جزء علّة عدم العلية، وقد وجد عدم جزء، ولم يوجد عدم العلّية، وذلك عين النقض.

الشرح: "وأجيب: بأن عدم الجزء" لا نسلّم أنه علّة لعدم العلّية، بل هو "عدم شرط العلة" لا وجود كلّ جزء شرط العلية، وعدم الشَّرْط ليس علة لعدم المَشْرُوط، فلا يكون عدم الجزء موجبًا لعدم العلية، فلا يلزم النقض.

وأوجه من هذا أن يقال: إنما يكون عدم كل جزء علّة لعدم العلية، إِذا لم يكن مسبوقًا بعدم قبله، وهذا ما أشار إليه بقوله:"ولو سلم" أن عدم كلّ جزء علة لعدم العلية، "فهو كالبول"، يقع "بعد [اللمس]

(1)

وعكسه"، في أن كلًّا منهما علّة للحدث، إِن لم يسبقه صاحبه.

(1)

في أ، ت: المس.

ص: 300

وَلا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِالأَصْلِ، وَلَا انْتِفَاءُ مُخَالَفَةِ مَذْهَبِ صَحَابِيٍّ، وَلا الْقَطْعُ بِهَا فِيِ الْفَرْعِ عَلَى الْمُخْتَارِ فِي الثَّلاثَةِ، وَلَا نَفْيُ الْمُعَارِضِ فِي الأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَإِذَا كَانتْ وُجُودَ مَانِعٍ، أَوِ انْتِفَاءَ شَرْطٍ، لَمْ يَلْزَمْ وُجُودُ الْمُقْتَضِي.

"ووجهه: أنها" أي: العلل الشرعية "علامات، فلا بعد في اجتماعها ضَرْبَة" أي: دفعة واحدة، "ومرتبة"، فلا يلزم النَّقْض، وإليه أشار بقوله:"فيجب ذلك"، أي: حتى يجب النقض.

ولقائل أن يقول: دعوى الخَصْم أن التركيب يلزم منه نقض العلّة العقلية، ونقضها مُحَال، فلا وجه لقولهم: هو كالبَوْلِ بعد اللَّمس وعكسه؛ إِذ تلك كما ذكرتم علامات، فليس فيما ذكرتم دفع لازم، فالوجه في الجواب أن يقال: العلَّة العقلية لا وجود لها - عندنا - فلا يقال: يلزم نقضها.

وأما العلل الشَّرعية، فإن نقضها لمانع لا يقدح فيها عند المصنّف؛ لأن سبق انعدام الجزء الأول قبل الثاني مانع من صَيْرُورَةِ عدم الثَّاني علّة لعدم العلية كما قلناه.

والحاصل: أن نقض العلة العقلية لا وجود له؛ لأنه فرع وجودها، ونقض الشَّرْعية لا يضر إذا كان لمانع.

الشرح: "ولا يشترط" في علّة الأصل "القطع بالأصل"، أي: بحكم الأَصْل، بل يجوز أن يكون حكمه مظنونًا، والعمل بالظن واجب.

"ولا" يشترط أيضًا، "انتفاء مخالفة مذهب صحابي"؛ لأن قول الصَّحَابي - عندنا - ليس بحُجّة، وإن سلم أنه حُجَّة، فلعلّ مستنده في المُخَالفة علّة مستنبطة من أصل آخر - أيضًا - فلا يدفع ظن العلية فيما جعل علّة.

"ولا القطع بها"، أي: بوجودها "في الفرع"، بل يكفي الظن "على المختار في الثلاثة"، وخالف في كل منها من لا يعبأ به.

"ولا" يشترط - أيضًا - " [نفي]

(1)

المُعَارض في الأصل والفرع"، والمراد

(1)

في أ، ت: في.

ص: 301

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بـ "المعارض" هنا: أن يقابل وصف المستدلّ بوصفٍ آخَرَ صالح للعلّية لا ينافيه، كما لو قيل: الزَّبيب مطعوم، فيكون ربويًا، قياسًا على البُرّ، فيعارض الخَصْم علة الطعم بعلّة الكيل، فهي صالحة لمُجَامعتها فيما فيه النزاع؛ إِذ الزبيب مطعوم مَكِيلٌ، فنفي هذا المعارض عند المصنّف وسائر من يجوز [التعليل]

(1)

بعلتين لا يشترط.

أما مَنْ لا يجوز التعليل بعلَّتين - وأنا من أشدّهم تصميمًا في ذلك - فيشترط، ويقول: لا بدّ للمستدلّ من نفي ما عدا الوصف المدعي علة بطريقة السَّبر والتقسيم، وهذا ما ارْتَضَاه إمام الحرمين، وبالغ ابن السَّمْعَاني في الرد عليه، وسبب ذلك اختلافهما في جواز التَّعْليل بعلَّتين، فابن السَّمْعَاني يجوز ذلك، والإِمام يمنعه، ومع المنع لا معنى للرّد؛ إِذ لا يتّجه سوى الاشتراط، والإِمام صَرّح بالبناء، فلا وجه للرد عليه حينئذ.

فإن قلت: ولم حمل المعارض - هنا - على ما لا ينافى، وهو خلاف ظاهر المعارض؟.

قلت: جمعًا بين كلامه السابق، حيث قال: وألَّا يكون بمعارض، وهنا، وأيضًا فمن منع التعليل بعلَّتين يراه معارضًا منافيًا؛ إذ لا يصحّ عنده التعلّق بوصفين، فتسميته معارضًا - عنده - تسمية حقيقية، وقد صرح إِمام الحرمين ببناء هذا على التَّعْليل بعلتين، وكذلك الآمدي، كما عرفت.

وإذا نظرت كلامنا - هنا - وفي قوله: وألَّا يكون بمعارض، نَظَرَ المنصفين، عرفت أنه الحق المبين، وإن كان مخالفًا لكلام الشَّارحين، وأنا حملنا المُعَارضة على حقيقتها في الموضعين، أما هناك فواضح، وأما هنا، فبالنِّسْبة إلى مانع التعليل بعلتين.

"وإذا كانت" العلّة لانتفاء الحكم، "وجود مانع" كعدم وجوب القِصَاصِ على الأب؛ لمانع الأبوة، "أو انتفاء شرط"، كعدم وجوب الرَّجْم؛ لعدم الإِحْصَان الذي هو شرط وجوب الرجم، "لم يلزم وجود المقتضي"، وهو اختيار الإِمام في "المَحْصول" وأتباعه؛ خلافًا للآمدي. وتعليل الحكم العَدَمِيّ بالوصف الوجودي يسمى تعليلًا بالمانع.

(1)

في أ، ت: التعليق.

ص: 302

لَنَا: أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى الْحُكْمُ مَعَ الْمُقْتَضِى كَانَ مَعَ عَدَمِهِ أَجْدَرَ.

قَالُوا: إِنْ لَمْ يَكُنْ فَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ لاِنْتِفَائِهِ.

قُلْنَا: أَدِلَّة مُتَعَدِّدَةٌ.

الشرح: واحتج المصنّف لما اختاره فقال: "لنا: أنه إذا انتفى الحكم مع" وجود "المقتضي كان" انتفاؤه "مع عدمه أجدر"، ولك أن تقول: ولكن نسبته إِلى عدم المقتضي أولى من نسبته إلى وجود المانع، وأقل مقدّمات.

"قالوا: إن لم يكن" وجود المقتضي قائمًا، "فانتفاء الحكم لانتفائه"، لا لوجود المانع، أو انتفاء الشرط.

"قلنا": عدم المقتضِي ووجود المَانعِ، وانتفاء الشرط "أدلة متعددة" ولا يمتنع اجتماعها.

ولك أن تقول: فالاستناد - حينئذ - إِليها جميعًا، والذي ادّعَاه المصنف أولًا: الاستناد إِلى وجود المانع، أو انتفاء الشَّرط فقط، وأن ذلك قد يجامع انتفاء المقتضي، والمختار قول الآمدي: ومتى كان عدم المقتضي قائمًا، فالإحَالَةُ عليه أوْلَى.

ص: 303

مَسْأَلَةٌ:

الشَّافِعِيةُ: حُكْمُ الأصْلِ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا البَاعِثَةُ عَلَى حُكْمِ الأصْلِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ: بِالنَّصِّ؛ وَالْمَعْنَى: أَن النَّصَّ عَرَّفَ الْحُكْمَ؛ فَلَا خِلَافَ فِي المَعْنَى.

«مسألة»

الشرح: قالت "الشافعية: حكم الأصل

(1)

"، أي: المُعَلّل، ولذلك قال: الأصل، وإنما يذكر الأصل في مُقابلة الفرع، والعلة الجامعة.

أما التعبدي، فلا مدخل له في كتاب القِيَاس، "ثابت بالعلّة، والمعنى: أنها الباعثة على حُكمِ الأصل، والحنفيَّة: بالنَّص.

والمعنى: أن النص عرف الحُكم بلا خلاف في المعنى" كذا ذكره المصنّف وغيره، وأنا أقول: هذه مسألةٌ معروفةٌ بالخلاف قديمًا بين أصحابنا والحنفية.

فقال أصحابنا: إنه ثابت بالعلَّة، ورد بأنّ هذا لا يتأتى إلا إذا فسرت العلّة بـ "المؤثر" أو "الباعث"، فإن كونه منصوصًا - حينئذ - لا ينافي أن يكون معللًا بهذا المعنى.

(1)

واعلم أن الخلاف في هذه المسألة آيل إلى اختلاف في اللفظ، وذلك أن قول أصحابنا بأن الحكم ثابت بالعدة لا يريدون به أن العلة معرفة له بالنسبة إلينا ضرورة أنها مستنبطة منه وأنها لا تعرف دون معرفته، وإنما يريدون به أنها الباعثة للشارع على إثبات الحكم في الأصل وأنها التي لأجلها أثبت الشارع الحكم وأصحاب أبي حنيفة غير منكرين لذلك، وحيث قالت الحنفية: إن العلة غير مثبتة للحكم لم يريدوا بذلك أنها ليست باعثة، وإنما أرادوا بذلك أنها غير معروفة لحكم الأصل بالنسبة إلينا، وأصحابنا غير منكرين لذلك، فلا خلاف في المعنى بل في اللفظ.

ينظر: الإحكام للآمدي 3/ 229.

ص: 304

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أما إن فسرت بِـ"المعرف" فكونه منصوصًا عليه ينافي التعليل بهذا المَعْنَى، وعلى هذا جرى المصنّف، وقال: إِنما عَنَت الشَّافعية أنها بمعنى البَاعِث، ونحن - مَعَاشِرَ الشافعية - لا نفسّر العلة بـ"الباعث" أبدًا، ونشدد النكير على من يفسرها بذلك، وإنما نفسرها بـ "المعرف"، ونحن نقول: ليس معنى كونها معرفًا إلا أنها نصبت أمارة يستدلّ بها المجتهد على وِجْدَان الحكم، إذا لم يكن عارفًا به، ويجوز أن يتخلّف في حقّ العارف، كالغيم الرّطب أمارة على المَطَر، وقد يتخلّف فإذا عرف الناظر - مثلًا - أن الإِسْكَار علّة التحريم، وهو حيث وجده قضى بالتَّحْريم.

غاية ما في الباب: أن العالم يعرف تحريم الخَمْر غير الإِسكار؛ لاطِّلَاعه على النَّص، ولكن هذا لا يوجب ألا يكون الإسكار معرفًا، بل هو منصوب معرفًا، فقد يعرف بعض العوام علّية الإسكار للتحريم، ولا يدري هل الخَمْر المنصوص أو النَّبِيذ، أو غيرهما من المسكرات.

فإذا وجد الخمر قضى فيه بالتحريم مستندًا إِلى وجدان العلّة، ومستفيدًا ذلك منها، فقد وضح بهذا أنّ العلّة قد تعرف حكم الأصل بمجردها، وقد تجتمع - أيضًا - في التعريف هي والنَّص، على رأي من يجوز اجتماع معرفين.

وإذا تمهّد لك هذا، علمت أن العلَّة "المعرف" في الأصل والفرع جميعًا، وأن نسبة الأصل والفرع إلى العلة على حدّ سواء، لا فرق بينهما، إِلا أن بعض النَّاس سبق لهم معرفة حكم الأصل من غير العلّة، فلم تعرفهم العلّة شيئًا، ونحن لم نقل: المعرف يعرف كل أحد، بل إنما يعرف من ليس بعارف؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وتخلف التعريف بالنِّسْبة إلى العارف لا يخرج الأمارة عن كونها أمارة، ولذلك بعض النَّاس يعرف حكم الفرع من العلّة دون بعض، فإن كثيرًا من النَّاس إنما يعرفون حكم الفرع من [المفتي]

(1)

وإن لم يعرف العلة أصلًا، فكم من عامّي يعرف من المفتين أن الزبيب ربوي، ولا يدري العلّة، فقد لاح كَفَلَق الصُّبح أن العلة المعرف في الأصل والفرع، وليس الدّور بلازم.

وقالت الحَنَفِيّة: ثابت بالنص، فإن أرادوا أن النص أنشأ الحكم، فهو خطأ؛ فإن

(1)

في أ: المعنى.

ص: 305

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الحاكم في الحقيقة هو النَّاصّ، والنَّصّ من العبارات الدَّالة على ما في النَّفس.

وإن أرادوا أنه عرفه، وهو إِنما يعرف من عرف منه.

أما من عرف من العلّة فلم يعرفه، كما قررناه، وربّ عارف من الأمرين جميعًا عند من يتعلق بعلّتين، وكما أن النَّص عرفنا الحكم النفسي، كذلك عرفنا أن العلة تعرف الحُكْم النفسي أيضًا.

والفرع والأصل جميعًا بالنسبة إلى الحكم النفسي سواء، وإنما أوجب لأحدهما أن يسمى أصلًا وروده على لسان الشرع كما ذكرناه.

فإن قلت: فهل الخلاف لفظي، كما في الكتاب؟

قلت: لا، بل يترتب عليه فوائد كثيرة، لولا طَلَبي الاختصار في هذا الشرح لأَوْقَفتُكَ منها على العَجَب العُجَاب.

ومن أدناها: التعليل بالقاصرة، فمنعوه لذلك؛ فإنهم يزعمون أَنْ لا فائدة فيها، وأن عرفان الحكم في الأصل واقع بالنص، فلا تُجْدِي هي شيئًا، ونحن نُجَوّزه، ونذكر من فوائدها تعريف الحكم المنصوص أيضًا.

ومنها: أنه هل من [شروط]

(1)

العلّة ألا يكون ثبوتها متأخرًا عن ثبوت حكم الأصل؟ نحن نشترط ذلك، ونقول: لو تأخّر لكان الحكم في الأصل ثابتًا بلا مثبت؛ لأن مثبته العلة، أو يلزم أن يكون تعبدًا، ثم انقلب معقولَ المَعْنى، وهذا لا يضر؛ فإن المعنى كان موجودًا وقت ثبوت الحكم، فإن صلح لأن يتعلّق به ثانيًا، فقد صلح أولًا.

فإن قلت: إذا فعله الشَّارع كان منصوصًا، والكلام في المُسْتَنْبطة، والخصوم لا يشترطون ذلك؛ لأن حكم الأَصْل ثابت عندهم بالنَّص، وهو موجود إن لم توجد العلّة، ونحن بعد هذا نلزمهم إيجاب النية في الوضوء.

فنقول: عِبَادَةٌ تستباح بها الصلاة، فتتعين لها النية كالتيمُّم.

فإن قالوا: حكم التيمم كان بعد الوضوء؛ لأن آية التيمّم إنما نزلت بعد الوضوء، فلو قِسْتُم الوضوء عليه لقستموه على أصل لم يكن وقت وجوب الوضوء.

(1)

في أ، ت: شرط.

ص: 306

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلنا: هو وإن لم يكن، ولكن لما كان مبَيَّنًا به الجامع الذي هو العلّة، وظهر لنا أنّ الحكم كان مستندًا إِليه، فيلحق به ما اشتمل عليه.

وقد توسّعت الحنفية في أصلهم هذا، أعني: دَعْوَاهم ثبوت الحكم بالنَّص، وبالغوا فقال بعضهم: كما يثبت الحكم في الأصل بالنَّص ثمّ يستخرج منه معنى تعدّي إلى الفرع، وإن كان الحكم لم يثبت بذلك المعنى، بل يثبت بالنص - كذلك يجوز ذكر علّة في الأصل لا يثبت بها الحكم فيه، وتعدّى إلى الفرع، مثل قولهم: الشَّهَادة على السَّرقة لا تقبل عند تقادم العَهْدِ؛ لأنه حد من حدود الله تعالى، فأشبه الزِّنَا، حيث لا تقبل الشَّهَادة عليه عند تقادم العَهْد، وليست العلّة في الأصل هذا.

وإنما العلة فيه: توهم الطَّعن في شهادتهم؛ لأنهم لما لم يشهدوا، فقد اختاروا السّتر، فإذا شهدوا بعد ذلك، فالظاهر أن الحامل لهم على ذلك ضِغْن في القلب، وهذا لا يوجد في البَيّنة على السرقة، فإنه لا بد من الدَّعْوَى فيها، فقاسوا السّرقة على الزنا بغير المعنى الذي ثبت به الحكم في الأصل.

وقال أصحابنا: التعليل بمثل هذا باطل؛ لأن إِقامة الدليل على صحّة العلة لا بد منه، ولا يمكن إِقامة الدليل على صحّة هذه العلة؛ إِذ لا تأثير لها، فإنه إِذا لم يكن الحكم ثبت في الأصل بها، فكيف في الفرع؟

وهم يقولون: الأصل لا يثبت فيه الحكم بالعلة كما عرفت.

ص: 307

‌شُرُوطُ الفَرْعِ وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ ثُبُوتُ الحُكْمِ فِيهِ

شُرُوطُ الْفَرْعِ: مِنْهَا أَنْ يُسَاوِيَ فِي الْعِلَّةِ عِلَّةَ الأصْلِ.

الشرح: "منها: أن يساوي" الفرع "في العلّة علة الأصل"

(1)

، ولو قال: أن تكون العلّة موجودة فيه بِتَمَامِهَا، لكان أحسن؛ لإِيهمام لفظ المُسَاواة أن الزيادة تضرّ، فيخرج قياس الأولى.

والتحقيق: أن المراد بالمساواة: حصول المعنى بتمامه، والزِّيادة لا تنافيه.

فإن قلت: فيخرج قياس الأَدْوَن، كالتفاح على البُرّ، بجامع الطعم.

قلت: نحن لا نعني بقياس الأَدْوَن أن يكون المعنى فيه أقل منه في الأصل، وإلا لم يَجوُزْ؛ لجواز أن يكون الحُكْم في الأصل مستندًا إِلى المعنى الموجود فيه بتمامه، فلا يجوز أن يلحق به ما لم يوجد فيه المَعْنَى بتمامه.

وإنما المعنى به: أن يعلم حصول المعنى المظنون فيه بتمامه.

وقولنا: "المظنون"، إِشارة إلى أن العلّة في الأصل قد يكون مقطوعًا بها، كالإِسْكَار في الخَمْرِ، وقد تكون مظنونةً، كالطعم في البُرّ، فإذا كانت مقطوعة ووجدت في الفرع، كان القياس فيه قياس مُسَاواة، لا قياس أدون؛ وإن كانت مظنونةً، فوجد فرع يشتمل عليها، ولا يشتمل على الوَصْفِ الآخر المحتمل للعلّية، وإن كان مرجوحًا فقياس الفرع - حينئذ - قياس أَدون، لأنه ليس ملحقًا بالأصل إلا على تقدير أن العلة فيه كذا مع احتمال غيره، فلم [يكن] لإلحاقه به من القوة ما لإلحاق الفرع المشتمل على الأوصاف المحتملة كلها.

(1)

ينظر: الإحكام 3/ 331، ونهاية السول 4/ 328 - 329، وشرح العضد 2/ 233، والروضة 169.

ص: 308

فِيمَا يُقْصَدُ مِنْ عَيْنٍ أَوْ جِنْسٍ؛ كالشِّدَّةِ فِي النَّبِيذِ، وَكَالْجِنَايَةِ فِي قِصَاصِ الأطْرَافِ عَلَى النَّفْسِ.

وَأَنْ يُسَاوِيَ حُكْمُهُ حُكْمَ الأصْلِ فِيمَا يُقْصَدُ مِنْ عَينٍ أَوْ جِنْسٍ؛ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِي الْمُثَقَّلِ عَلَى المُحَدَّدِ، وَكَالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ فِي الصَّغِيرَةِ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهَا فِي الْمَالِ.

وأنا أضرب لك مثالًا أبيّن لك به مقصودي، فأقول: إِذا قررت أن الطّعم علة الربويات ظنًّا، فأنت غير قاطعٍ بخطأ من يعلّل بالقوت أو الكَيْل، وإنما أنت ظانّ، فإذا ألحقت بالبر الزبيب، بجامع الطّعم، وهذا قياس المُسَاواة؛ لأنه مَطْعُوم مُقْتَات مكيل، فهو ربوي على التقادير كلها، وإن ألحقت به التفاح، لم يكن ربويًا إِلا على تقدير واحد، وهو الطعم، وما كان ربويًا على جميع التقادير راجح على ما لا يكون ربويًا إِلا على تقدير واحد. هذا المراد بقياس الأَدْوَن، فافهم، وقد قررته كذلك في "شرح المِنْهَاج"، والمساواة لا بد منها، وإلا فلا سبيل إِلى تعدي الحكم، ولا يتحقّق القياس.

الشرح: ولتكن مُسَاواة الفرع في العلّية لعلّة الأصل واقعة "فيما يقصد"، أي: في الوصف الذي هو مقصود في العلّة "من عين أو جنس"، أي: سواء أكان ذلك الوَصْف المقصود عين العلة أو جنسها، فالعين:"كالشّدّة في النبيذ"، حيث يقاس بها على الخمر؛ فإنها بعينها موجودة في النَّبيذ، كما هي موجودة في الخَمْرِ، فقد وجد في الفرع - وهو النَّبيذ - عين علّة الأصل، والمراد عينها بحسب النَّوع، لا بحسب الشَّخص؛ إذ لا سبيل إِلى وجدان شخص علّة الأصل في الفرع، وإلا اتحد، "و" الجنس "كالجناية في" قياس "قِصَاص الأطراف على" قصاص "النَّفس"، فإن علة قصاص الأَطْرَاف مساوية لعلّة قصاص النفس في الجناية التي هي مقصودة، والجناية جنس علّة قصاص النفس.

الشرح: ومن شرائط الفَرْع "أن يساوي حكمه حكم الأصل فيما يقصد" كونه وسيلة للحكم "من عين أو جنس" أي عين الحكم أو جنسه، فالأول "كالقصاص في النفس بالمُثَقّل" إِذا قيس "على المحدد"، فإن وجوب القصاص بالمُثَقّل بعينه يساوي وجوب القصاص بالمُحَدّد. والثاني "كالولاية في النكاح في الصغيرة" يقاس "على المولى عليها في المال"؛ فإن ولاية النكاح مساويةٌ لولاية المال في جنس الولاية.

ص: 309

وأَلَّا يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَلَا مُتَقَدِّمًا عَلَى حُكْمِ الأصْلِ، كَقِيَاسِ الْوُضُوءِ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي النِّيَّةِ؛ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ حُكْمِ الْفَرْعُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْعِلَّةِ؛ لِتَأَخُّرِ الأصْلِ.

نَعَمْ: يَكُونُ إلْزَامًا.

وَقِيلَ: وَأَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ ثَابِتًا بِالنَّصِّ فِي الْجُمْلَةِ لَا التَّفْصِيلِ.

وَرُدَّ بِأَنَّهُمْ قَاسُوا: "أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ" عَلَى الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ وَالظِّهَارِ.

الشرح: "وأَلَّا يكون منصوصًا عليه"

(1)

، وإلا لكان حكمه ثابتًا بالنص لا بالقياس، وهذا إِذا كان ذلك الحكم المنصوص عليه مخالفًا للقياس واضح، وإلا لزم تقديم القِيَاس على النص، ووضوحه بالنسبة إِلى أنه لا فائدة للقياس، ولا يعمل به، وإلا فهو قياس في نفسه صحيح، ولذلك نقول: إِذا تعارض القياس والنص، فالنص مقدّم، وإنما يتعارضان عند صحتهما.

وأما إِذا كان النص على موافقة القياس، فإما أن يكون النص الدَّال على ثبوت حكم الفرع هو بعينه الذي دَلّ على حكم الأصل، فينبغي أن يكون القياس باطلًا؛ إذ ليس جعل تلك الصورة أصلًا، والأخرى فرعًا أَوْلى من العكس؛ فإن نسبة دلالة النص إليهما على السواء، وإما أنْ يكون غيره، وفهم الشَّارحون أن هذا القسم هو مراد المصنّف، نظرًا من جهة أن الأكثرين في هذا القسم على الجواز؛ لأن تَرَادف الأدلّة على مدلول واحد جائز.

ومنع بعضهم من قياس المنصوص عليه مطلقًا؛ لقصّة مُعَاذ، فإنها بما فيها من صيغة "إن" الشرطية، كما اقتضت مشروعية القياس عند فقدان النص، أفهمت عدم مشروعيته عند الوجدان.

"ولا متقدمًا على حكم الأصل، كقياس الوضوء على التيمُّم في النِّيَّة"؛ لأن التعبُّد بالتيمم إنما ورد بعد الهِجْرَةِ، وكان التعبُّد بالوضوء قبلها، وإنما [اشترطنا]

(2)

ذلك "لما يلزم

(1)

ينظر: المحصول 2/ 2/ 499، الإحكام للآمدى 3/ 232، المستصفى 2/ 331، جمع الجوامع 2/ 228، نهاية السول 4/ 133، تيسير التحرير 3/ 300، حواشى المنار 767، 771، إرشاد الفحول (209)، فتح الغفار 3/ 16، فواتح الرحموت 260، المدخل 312، كشف الأسرار 3/ 302.

(2)

في أ، ت: اشترط.

ص: 310

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من" ثبوت "حكم الفرع قبل ثبوت العلّة، لتأخر الأصل"، ولو صار هذا، لكان ثابتًا بل دليل، ضرورة أن دليله إِنما هو القياس على ذلك الأصل، والقياس متأخّر عن الأصل، فيكون الفرع ثابتًا متقدمًا على دَلِيلِهِ بمرتبتين.

"نعم": لا يمتنع أن "يكون إلزامًا" للخصم؛ لتساوي الأصل والفرع في المعنى.

وفي كتب الإمام وأتباعه ما يقتضي تجويزه أيضًا، وإذًا كان على حكم الفرع دليل آخر، وبه صرح الهِنْدِيّ، وهو ضعيف؛ لأنه خارج عما نحن فيه؛ إذ ليس الفرع - حينئذ - فرعًا للأصل الذي فيه نتكلّم.

وغاية قولنا أنه لا يصح تفرعه عن أصل متأخر، وهذا سواء أكان له دليل آخر ثبت حكمه، أم لم يكن.

"وقيل: وأن يكون الفرع ثابتًا بالنَّص في الجملة، لا التَّفصيل"، ويطلب بالقياس تفصيله، فلولا العِلْم بورود ميراث الجدّ جملة، لما جاز القِيَاس في توريثه مع الإخوة. قاله أبو هاشم وأتباعه.

"ورد بأنهم قاسوا: أنت عليَّ حَرَام، على الطلاق واليمين والظِّهَار"، ولم يوجد في ذلك نصّ يدلّ على الحكم لا جُمْلة ولا تفصيلًا.

ص: 311

‌مَسَالِكُ العِلَّةِ

مَسَالِكُ الْعِلَّةِ: الأوَّلُ: الإجْمَاعُ.

الثَّانِي: النَّصُّ.

وَهُوَ مَرَاتِب: الأَوَّلُ: صَرِيحٌ؛ مِثْلُ لِعِلَّةِ كَذَا، أَوْ لِسَبَبِ كَذَا، أَوْ لأجْلِ، أَوْ مِنْ أَجْل، أَوْ كي، أَوْ إِذَنْ، وَمِثْل:"لِكَذَا، أَوْ أَنْ كَانَ كَذَا، أَو بكَذَا".

الشرح: أي: الطرق الدَّالة على أن الوصف علة:

‌"الأول: الإجماع

(1)

"، فإِذا أجمعوا على علّية وصف، قطعيًّا أو ظنيًّا، ثبتت عليته، ومثاله: قوله عليه الصلاة والسلام: "لَا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"

(2)

.

قال القاضي أبو الطيب: أجمعوا أن النهي فيه؛ لأن الغضب يشغل قلبه.

الشرح: الثاني: النص، والمعنى به - هنا -: ما دل من الكتاب والسُّنة على العلّية، سواء أكان بالصراحة، أم بالإيماء

(3)

.

الشرح: "وهو مراتب":

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 184، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 233، ونهاية السول للأسنوي 4/ 75، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 119، والمستصفى للغزالي 2/ 293، وحاشية البناني 2/ 262، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 76، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 305، التحرير لابن الهمام ص 464، تيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 39، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 233، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 69، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 210، ونشر البنود للشنقيطي 2/ 248.

(2)

تقدم.

(3)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 186، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 233، =

ص: 312

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأول: "صريح"، وهو ما وضع دالًّا على العلية، ثم إن هذا الوضع إِما أن يكون بحيث لا يحتمل غير العلّية، أو بحيث يحتمل غيرها احتمالًا مرجوحًا، وذلك ممكن، إِما بأن يضعه الواضع كذلك، أو يضعه للأول، ثم يستعمل في معنى آخر استعمالًا قليلًا، فإذا ورد لفظ بعد ذلك، كان صريحًا في الأول، مع احتماله للثاني.

فالذي لا يحتمل غير العلّية، "مثل: لعلّة كذا، أو لسبب، أو لأجل، أو من أجل" كقوله - تعالى -:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [سورة المائدة الآية: 32]، وقوله عليه الصلاة والسلام:"إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ البَصَر"

(1)

. رواه الشيخان.

"أو: "كي"، وتارة تكون مجرّدة عن حرف النفي، مثل:{كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [سورة طه: الآية 40]، وتارة تصحبها، مثل:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [سورة الحشر: الآية 7].

وذكر ابن السَّمعاني: أن "لأجل" و "كي" دون ما قبلهما في الصراحة.

"أو: "إذن"" قال عليه الصلاة والسلام لأبي بن كَعْبٍ

(2)

- وقد قال له: أجعل لك صلاتي كلها: "إِذَنْ يَغْفِر اللهُ لَكَ ذَنْبَكَ كُلَّهُ"، وفي رواية: "إِذَنْ يَكْفِيكَ اللَّهُ هَمَّ الدُّنْيَا

= ونهاية السول للأسنوي 4/ 59، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 119، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 187، وحاشية البناني 2/ 263، والإبهاج لابن السبكي 3/ 41، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 76، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 305، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 234.

(1)

أخرجه البخاري كتاب الاستئذان: باب الاستئذان من أجل البصر حديث (6241)، والترمذي (2709)، والنسائي كتاب القسامة: باب 47، وأحمد (5/ 330)، والحميدي في "مسنده"(924)، والشافعي في "مسنده" (201) من حديث سهل بن سعد الساعدي وأخرجه البخاري كتاب الديات: باب من اطلع في بيت

(6901) ومسلم في الآداب رقم (40، 41) بلفظ: إنما جعل الإذن من قبل البصر.

(2)

أبي بن كعب بن قيس بن عبيدة بن يزيد بن معاوية بن مالك بن النجار، الأنصاري الخزرجي، أبو المنذر المدني، سيد القراء، كتب الوحي، وشهد بدرًا وما بعدها، له مائة وأربعة وستون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة. وعنه ابن عباس وأنس وسهل بن سعد وسويد بن علقمة ومسروق وخلق كثير. وكان ربعة نحيفًا أبيض =

ص: 313

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَالآخِرَة"

(1)

.

والذي يحتمل غير العلّية احتمالًا مرجوحًا على ضربين:

أحدهما: أن يذكر العلية بحرف من حروف التَّعْليل، قد يقصد به غير العلّية، وإليه أشار بقوله:"ومثل: لكذا" نحو: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة إبراهم: الآية 1].

"أو: "أنْ كان كذا"" - بفتح أن - لأن ذلك في تقدير: "اللام" فهي في الحقيقة لام مقدّرة، ويشبه أن تكون دون الظاهرة، ونظيرها: المفعول له، مثل: ضربته تأديبًا.

وفي الحديث الصحيح في قضية الزبير، قول الأنصاري الذي كان يخاصمه للنبي صلى الله عليه وسلم:"أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ"

(2)

.

وقرأ بعض حفاظ "المُخْتصر": "أنْ" - بالكسر - وهو وهم؛ فإنها بالكسر لا ترد للتعليل، وإنما ترد للشرط والنفي وزيادة، وإن فهم التعليل في الشرطية، فهو من ترتيب الحكم على الوصف، لا من الحرف.

"أو "بكذا"" مثل: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الواقعة: الآية 24]، وقد تأتي "اللام"

= الرأس واللحية، وقد أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأ عليه رضي الله عنه. وكان ممن جمع القرآن، وله مناقب جمة رحمه الله تعالى. وتوفي سنة عشرين أو اثنتين وعشرين أو ثلاثين أو اثنتين وثلاثين أو ثلاث وثلاثين. وقال بعضهم: صلى عليه عثمان رضي الله عنه. وينظر ترجمته في: أسد الغابة: ت 33، وتهذيب التهذيب: 1/ 187، وتقريب التهذيب: 1/ 48، والإصابة: 1/ 16، والثقات: 3/ 5، وتاريخ ابن معين: 1564، والجرح والتعديل 2/ 290، وسير أعلام النبلاء: 1/ 389، ومشاهير علماء الأمصار: 12، وتلقيح الفهوم: 364، وأسماء الصحابة الرواة:25.

(1)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(5/ 218)، وعزاه لعبد الرزاق في "تفسيره".

(2)

أخرجه البخاري (5/ 42 - 43) في الشرب والمساقاة: باب سكر الأنهار (2359)، (2360، 2361)، وفي الصلح: باب إذا أشار الإمام بالصلح (2708)، (8/ 254) كتاب التفسير: باب "فلا وربك لا يؤمنون" حديث (4585)، ومسلم (4/ 1829 - 1830) في الفضائل: باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم (129/ 2357) من طريق عروة بن الزبير عن الزبير بن العوام.

ص: 314

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

و"أنّ" و"الباء" لغير التعليل، ولكن حقيقتها التعليل، لنقل أهل اللغة ذلك، ولتبادر الذهن إِليه، وأهمل المصنف ذكر "إنَّ" وهي - أيضًا - للتعليل، نحو {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [سورة نوح: الآية 27] وقوله عليه الصلاة والسلام: "الثُّلُث، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إنْ تَذَر وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ ..

(1)

"الحديث؛ متفق على صحته؛ ومنه قوله: [الوافر]

لَقَدْ زَادَ الحَيَاةَ إِلَيَّ حُبًّا

بَنَاتِي إِنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ

(2)

قلت: ومن الحروف ما يستعمل في التعليل، وهو مشهور فيه، ولم يذكره الأصوليون، نحو "إذ".

قال ابن مالك: تجيء للتعليل، ومنه:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [سورة الكهف: الآية 16]{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ} [سورة الأَحقاف: الآية 11]: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} [سورة الزخرف: الآية 39]، {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [سورة المائدة: الآية 20]، {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [سورة النساء: الآية 72]، {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [سورة الأحزاب: الآية 9].

(1)

أخرجه البخاري (5/ 363): باب أن يترك ورثته أغنياء (2742)، ومسلم (3/ 1250) كتاب الوصية: باب الوصية بالثلث (5/ 1628)، من حديث سعد.

(2)

البيت لخالد القناني [الوافر]

وبعده:

أُحَاذِرُ أَنْ يَرَينَ الْفَقْرَ بَعْدِي

وَأَنْ يَشْرَبْنَ دَنَقًا بَعْدَ صَافِ

وَأَنْ يَعْرَينَ إِنْ كُسِيَ الجَوَارِي

فَتَنْبُو الْعَيْنُ عَنْ كَرَمٍ عِجَافِ

وَلَوْلا ذَاكَ قَدْ سَوَّمْتُ مُهْرِي

وَفِي الرَّحْمنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِ

أَبَانَا مَنْ لنَا إنْ غِبْتَ عَنَّا

وَصَارَ الحَيُّ بَعْدَكَ فِي اخْتِلافِ

ينظر: الكامل للمبرد 3/ 167.

ص: 315

أَوْ مِثْلُ: "فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ"، {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [سورة المائدة: الآية 38]، وَمِثْلُ قَوْلِ الرَّاوِي:"سَهَا؛ فَسَجَدَ""وَزَنَى مَاعِزٌ؛ فَرُجِمَ" سَوَاءٌ الْفَقِيهُ وَغَيْرُهُ؛ لأِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْهَمْهُ لَمْ يَقُلْهُ.

وَتَنْبِيهٌ وَإيمَاءٌ، وَهُوَ الاِقْتِرَانُ بِحُكْمٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ [هُوَ] أَوْ نَظِيرُهُ ........

وقول الشاعر: [البسيط]

فَأَصْبَحُوا قَدْ أَعَادَ اللهُ نِعْمَتَهُمْ

إِذْ هُمْ قُرَيْشٌ وَإذْ مَا مِثْلَهُمْ بَشَرُ

(1)

وذكر ابن مالك: أن سيبويه أشار إلى هذا، ونازعه شيخنا أبو حَيّان رحمه الله وقد أنكر التَّبْرِيزي

(2)

صاحب "التَّنْقيح" كونها للتعليل.

الشرح: والثاني: أن تذكر العلّية بتعليق الحكم على الوصف بالفاء، وهو نوعان:

أحدهما: أن تدخل "الفاء" على العلة، ويكون الحكم متقدمًا، وإليه أشار بقوله:"مثل: "فإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ" يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخُبُ دَمًا

" الحديث الذي يذكر الأصوليون أنه ورد في قَتْلَى أحد، وأنا لا أحفظ هذا اللفظ في رواية، ويروي الفرضي في مسند أحمد بن حنبل من حديث جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في قتلى أحد: "لَا تُغَسِّلُوهُمْ؛ فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ أَوْ كَلْمٍ، أَوْ كُلّ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ القِيَامَةِ"

(3)

، وفي إسناده رجل مجهول يسمى:

(1)

البيت من البسيط، وهو للفرزدق في ديوانه 1/ 185، وتخليص الشواهد ص 281، والأشباه والنظائر 2/ 209، والجني الداني 189، 324، 446، والدرر 2/ 103، 3/ 105، وشرح أبيات سيبويه 1/ 162، وشرح التصريح 1/ 198، وشرح شواهد المغني 1/ 237، 2/ 782، والمقاصد النحوية 2/ 96، والمقتضب 4/ 191، والهمع 1/ 124، ومغني اللبيب 363، 517، 600، وأوضح المسالك 1/ 280، ورصف المباني 312، ومغني اللبيب 82، وشرح الأشموني 1/ 122، والمقرب 1/ 102، وخزانة الأدب 4/ 133، 138.

(2)

مظفر بن أبي محمد بن إسماعيل بن علي الراواني، الشيخ أمين الدين، أبو الخير التبريزي. ولد سنة 558 هـ. وتفقه بـ"بغداد" على ابن فضلان، ثم حج وقدم "مصر" ودرس بالمدرسة الناصرية. قال السبكي: كان من أجل مشايخ العلم بـ "مصر" فقيهًا، أصوليًّا، عابدًا، زاهدًا، من مصنفاته "سمط الفوائد" واختصر "المحصول" سماه "التنقيح". ومختصره المعروف، وغيرها. توفي بـ "شيراز" سنة 621 هـ. ينظر: طبقات الشافعية للسبكي 5/ 156، وهدية العارفين 2/ 463، وابن قاضي شهبة 2/ 91.

(3)

أخرجه أحمد 3/ 299 من طريق الزهري عن ابن جابر عن جابر بن عبد الله مرفوعًا.

ص: 316

لِلتَّعْلِيلِ - كَانَ بَعِيدًا؛ مِثْلُ: "وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ"، فَقَالَ:"أَعْتِقْ رَقَبَةً"؛ كَأنَّهُ قِيلَ: "إذَا وَاقَعْتَ، فكَفِّرْ"، فَإِن حُذِفَ بَعْضُ الأوْصَافِ فَتَنْقِيحٌ، وَمِثْلُ:"أيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ"؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ:"فَلَا، إِذْنَ".

بـ "عبد ربّ".

والثاني: أن تدخلها على الحُكم، وتكون العلّة متقدمة.

قال الإِمام: ويشبه أن تكون أقوى في الإِشعار بالعلّية من عكسه، ونازعه النقشواني.

وذلك إما في كلام الشارع، مثل:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [سورة المائدة: الآية 38]، أو كلام الراوي، وإليه أشار بقوله:"ومثل قول الراوي: "سَهَا، فَسَجَدَ"" رواه أبو داود، والترمذي، بإسناد حسن غريب، من حديث عمران بن حُصَين.

"وزنى ماعزٌ، فرُجِمَ"، وحديث زنا ماعز ورجمه متفق على صحته، ولكن هذا اللَّفظ - وهو مطلوبه - لا أعرفه، و"سواء الفقيه وغيره" في ذلك؛ "لأن الظاهر أنه لو لم يفهمه، لم يقله"، ولا يخفى أن الوارد في كلام الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم أقوى مما ورد في كلام الرَّاوي، والراوي الفقيه أولى ممن ليس بفقيه.

الشرح: "و" الثاني من مراتب النص: "تنبيه وإيماء

(1)

، وهو: الاقتران" أي: اقتران الوَضف "بحكم لو لم يكن هو"، أي: الوصف، "أو نظيره للتعليل، كان" ذلك الاقتران "بعيدًا من الشَّارع ينزه عنه فَصَاحته وإتيانه بالألفاظ في مواضعها، ثم هو - أَعني: الإِيماء - على أَرْبَعَةِ أوجه:

(1)

الإيماء والتنبيه لفظان يتقارب معناهما لغة، فالإيماء في اللغة بمعنى الإشارة، مأخوذ من ومَأَ إلَيْهِ يَمَأُ ومئًا: أشار وقال الليث: "الإيماء أن تُومِئَ برأسك أو بيدك كما يومئ المريض برأسه للركوع والسجو".

أما التنبيه: فإنه يأتي بمعنى القيام والانتباه من النوم، يقال: نبهه وأنبهه من النوم، فتنبه وانتبه.

أما عند علماء الأصول: فكثير منهم استعمله في مفهوم واحد، وهو أن يكون التعليل مفهومًا من لازم مدلول اللفظ وصفًا، من هنا يخالف النص الصريح؛ لأن الصريح ما يكون اللفظ فيه دالًا بوضعه على التعليل، أما الإيماء فإنه يدل بلازمه، وبلفظ آخر فإن اللفظ في الإيماء لا يكون موضوعًا للتعليل، وإنما يفهم التعليل فيه من السياق أو القرائن اللفظية الأخرى، بخلاف الصريح، وقد ضبط علماء الأصول ذلك بضابط أن كل اقتران بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدًا، فيحمل على التعليل دفعًا للاستبعاد. =

ص: 317

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأول: أن يحكم عقيب علمه بصفة المحكوم عليه، وقد أنهى إِليه المحكوم عليه حاله "مثل": قول الأعرابي: ""وَاقَعْتُ أَهْلِي في نهار رَمَضَان، فقال:"أَعْتِقْ رَقَبَةً"

(1)

" والحديث في الكتب السّتة، لكن بغير هذه الصيغة، أما بهذه الصيغة، ففي سنن ابن ماجه فقط، "كأنَّه قيل: إِذا واقعت فَكفِّر"، أو أعتق رَقَبَةً؛ لكونك واقعت.

فإن قلت: يحتمل أن يكون ابتداء كلام، أو جواب سؤال، أو زجرًا للسَّائل عن الكلام، كقول السَّيد لعبده - إِذا سأله عن شيء -: اشتغل بشأنك.

= وقد قسم علماء الأصول الإيماء إلى خمسة أنواع، وبعضهم وصل به إلى الستة، وبعضهم فرع على كل فرع تفريعات كثيرة. ينظر: لسان العرب 6/ 4926، 4332، والصحاح 1/ 82 وينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 197، وسلاسل الذهب للزركشي 371، ونهاية السول للأسنوي 4/ 63، وزوائد الأصول له 384، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 61، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 119، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 188، والمنخول للغزالي 343، والمستصفى له 2/ 288، وحاشية البناني 2/ 266، والإبهاج لابن السبكي 3/ 44، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 80، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 309، وحاشية التفازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 234، والكوكب المنير للفتوحي 576.

(1)

متفق عليه، من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري في الصحيح 4/ 163 كتاب الصوم (30) باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر (30) الحديث (1936) وفي 10/ 503 كتاب الأدب (78)، باب التبسم والضحك (68)، الحديث (6087) وفي 11/ 595 - 596، كتاب كفارات الأيمان (84) باب قوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [سورة التحريم: آية (2)]، الحديث (6709)، وباب من أعان المعسر في الكفارة (3)، الحديث (6710)، وباب يعطي في الكفارة عشرة مساكين (4)، الحديث (6711)، ومسلم في الصحيح 781 - 782 كتاب الصيام (13) باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (14)، الحديث (81/ 1111) وأخرجه أبو داود 2/ 313 في كتاب الصوم، باب كفارة من أتى أهله في رمضان حديث (2390، 2391، 2392، 2393) والترمذي 3/ 102 في أبواب الصوم: باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان، حديث (724) وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي في الكبرى 2/ 11، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أبي هريرة فيه، وابن ماجة 1/ 534 في كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا في رمضان حديث (1671)، وأخرجه أحمد في المسند 2/ 241، 516، والدارمي 2/ 11 في كتاب الصوم، باب في الذي يقع على امرأته في شهر رمضان نهارًا.

ص: 318

وَمِثَالُ النَّظِيرِ: لمَّا سَأَلَتْهُ الخَثْعَمِيَّةُ: "إِنَّ أَبِي أَدرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ، أَيَنْفَعُه، إِنْ حَجَجْتُ عَنْهُ؟ " فَقَالَ: "أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟ " فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَنَظِيرُهُ فِي السُّؤَالِ كَذَلِكَ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الأصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْعِلَّةِ.

قلت: غَلَبَةُ الظن بالتعليل قائمة من غير التفات إِلى هذه الاحتمالات، و - أيضًا - فكان يلزم خلوّ السُّؤال عن الجواب، وتأخير البَيَان عن وقت الحاجة، فإن الغالب أن السائل إنما سأل عن حاجته.

"فإن حذف" من الوصف المقترن بالحكم "بعض الأوصاف" التي لا مدخل لها في العلية، منْ ورود الحكم في يوم كذا للشَّخص الفلاني، وإخراج هذه الأوصاف عن الاعتبار، "فتنقيح" المناط، أي: إِذا ضممنا هذا الحَذْف إِلى ما نحن فيه كان إِيماء بتنقيح المَنَاط.

والثاني: أن يقدر وصفا الشارع، لو لم يكن تقديره للتعليل، لكان بعيدًا، سواء أكان التقدير في محل السؤال، أم في نظيره.

ففي محل السؤال، "مثل" قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن بيع الرُّطَب بالتمر: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا [يَبِسَ]

(1)

؟. قالوا: نعم، فقال:"فَلا إذَنْ""

(2)

.

رواه أبو داود، والتِّرْمذي، والنسائي، وابن مَاجَه.

وقال الترمذي: حسن صحيح، وصحّحه ابن خزيمة، والحاكم، فلو لم يكن تقدير نُقْصَان الرطب بالجَفَاف لأجل التعليل لكان تقديره بعيدًا؛ إِذ لا فائدة فيه حينئذ، والجواب يتمّ بدونه.

الشرح: "ومثال" التقدير في "النظير": ما روي أنه صلى الله عليه وسلم "لما سألته الخَثْعمية: إن أبي أدركته الوَفَاةُ وعليه فريضة الحَجّ، أينفعه إِن حججت [عنه]؟

(3)

فقال: "أَرأَيتِ لَوْ كَانَ عَلَى

(1)

في ت: بيع.

(2)

تقدم.

(3)

سقط في أ، ت.

ص: 319

وَقِيلَ: إِن قَوْلَهَ عليه الصلاة والسلام لمَّا سَألَهُ عُمَرُ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ [ثُمَّ مَجَجْتَهُ]، أكَانَ ذَلِكَ مُفْسِدًا؟ " فَقَالَ: لَا" مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا هُوَ نَقْضٌ لِمَا تَوَهَّمَهُ عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ إِفْسَادِ مُقَدِّمَةِ

أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أكَانَ يَنْفَعُهُ؟ قالت: نعم

(1)

، فنظيره في المسئول كذلك".

"وفيه تنبيه على الأصل"، الذي هو دين الآدمي على الميت، "والفرع" وهو: الحج الواجب عليه، "والعلة" وهي: قضاء دين المَيّت، فقد جمع عليه الصلاة والسلام فيه أركان القياس كلها، وحديث الخَثْعَمِيَّة ثابت في الكتب السّتة، ولكنه ليس بهذا السّياق، نعم في ابن ماجه: أن امرأة من خثعم، قالت: يا رسول الله إِن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يركب، أفأحجّ عنه؟، قال: "نَعَمْ؛ فإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْن فَقَضَيْتِهِ

(2)

، والغرض يحصل بهذا السِّياق أيضًا.

وفي "الصحيحين": جاءت امرأة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إِن أمي ماتت وعليها صَوْم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال:"أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟، قالت: نعم، قال: "فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ"

(3)

.

الشرح: "وقيل: إن قوله عليه الصلاة والسلام لما سأله عمر عن قبلة الصائم: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ أكَانَ ذَلِكَ مُفْسِدًا؟ "، فقال

(4)

: لا" من ذلك، أي: من أمثلة ما نحن

(1)

أخرجه البخاري (4/ 192) كتاب الصوم، حديث (1953)، ومسلم (2/ 804) حديث رقم (155/ 1148) من حديث ابن عباس.

(2)

فقد ألحق النبيّ صلى الله عليه وسلم حج البنت عن أبيها العاجز بقضائه دين الآدمي عنه في الإجزاء أو الوجوب، بجامع أن كلًا منهما تفريغ البنت ذمة أبيها العاجز عن الدين، وهذا قياس أولوي أيضًا، وإن لم يصرح في الحديث بما يقتضي الأولوية.

(3)

فقد ألحق النبيّ صلى الله عليه وسلم قضاء البنت دين الله عن أمها المتوفاة بقضائها دين الآدمي عنها في القبول أو الوجوب بجامع أن كلًّا منهما تفريغ ذمة الأم المتوفاة عن الدين، وهو قياس أولوي، لأن الله أحق بالوفاء من الآدمي، فتفريغ الذمة عن دينه أحق بالقبول أو الوجوب من تفريغها عن دين الآدمي.

(4)

أخرجه الدارقطني 4/ 157، وله ألفاظ. ينظر: تلخيص الحبير 4/ 39، 208، ونصب الراية 4/ 95، 96، 390.

ص: 320

الإفْسَادِ، لَا تَعْلِيلٌ لِمَنْعِ الإفْسَادِ؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُتَخَيَّلُ مَانِعًا، بَلْ غَايَتُهُ أَلَّا يَفْسُدَ.

فيه من التقدير في النَّظير، والحديث رواه أبو داود، والنسائي، وضعفه أحمد.

وقال النسائي: إنه منكر، ولفظه عليه الصلاة والسلام "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ مِنَ المَاءِ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ "، قال عمر: قلت: لا، قال:"فمه"

(1)

.

ووجه كونه مثالًا لما نحن فيه: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الوصف في نظير المسئول، وهو: المَضْمَضَة التي هي مقدّمة الشرب، ورتب عليه الحكم، وهو عدم الإفساد، ونبّه على الأصل، وهو الصوم مع المَضْمَضَة، والفرع، وهو الصوم مع القُبْلة، فيكون من ذلك.

"وقيل": ليس مما نحن فيه، و"إنما هو نقض لما توهّمه عمر من إفساد مقدّمة الإفساد" أي: إِفساد القُبْلة التي هي مقدمة الجِمَاع، الذي هو مفسد فإن عمر رضي الله عنه توهّم أن القُبْلة تفسد كما يفسد الجِمَاع، فنقض عليه الصلاة والسلام الإِفساد؛ "إذ ليس فيه" أي: التمضمض بالماء "ما يتخيل" أن يكون "مانعًا" من الإفساد، فإن التمضمض إِن لم يصلح مفطرًا، فأقلّ أحواله ألا يكون مانعًا من الفِطْرِ، وإليه أشار بقوله:"بل غايته ألا يفسد"، أي: غاية المضمضة ألا تكون مفسدة للصوم، ولا ينتهي حالها إلى أن نمنع الفطر، كالأبوّة في القِصَاص - وحينئذٍ - فلا تصلح أن تكون علّة لعدم الفطر، فلا يصح ما ذكر مثالًا لما نحن فيه.

وهذا كلام موجه، قاله الآمدي

(2)

، ولكن الأول هو قول ابن السَّمْعَاني، والغزالي، والإمام، وغيرهم من المحققين، وكلهم قد مثل به.

وقد رد الهِنْدِيّ كلام الآمدي فقال: في قوله عليه الصلاة والسلام: "أرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ": تنبيه على الوصف المشترك بين المَضْمَضَةِ والقبلة، وهو عدم حصول المقصود منهما، وذلك صالح للعلّية، وإن لم يكن مناسبًا لعدم اشتراط المُنَاسبة في الوصف الموميء إِليه.

وعندي في هذا نظر؛ فإن هذا لو تم، لزم أن يحال عدم الإِفطار على وجود القُبْلَةِ

(1)

ينظر: التخريج السابق.

(2)

ينظر: الإحكام 3/ 238.

ص: 321

وَمِنْهَا أَنْ يَفْرُقَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ بِصِفَة مَعَ ذِكْرِهِمَا، مِثْلُ:"لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَللْفَارِسِ سَهْمَان"، أَوْ مَعَ ذِكْرِ أَحَدِهِمَا، مِثْلُ:"الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ"، أَوْ بِغَايَةٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ مِثْلُ:{حَتَّى يَطْهُرْنَ} [سورة البقرة: الآية 222]، و {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [سورة البقرة: الآية 237]، وَمِثْلُ ذِكْرِ وَصْفِ مُنَاسِبٍ مَعَ الْحُكْم؛ مِثْلُ:"لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"، فَإنْ ذُكِرَ الْوَصْفُ صَرِيحًا وَالْحُكْمُ مُسْتَنْبَطٌ مِثْلُ:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [سورة البقرة: الآية 275] أَوْ بِالْعَكْسِ.

والمضمضة، وليس كذلك، بل إِنما هو محال على عدم المُفْطر من جماع وغيره، وشرب، سواء اشترطنا مناسبة الوصف، أم لا.

الشرح: "ومنها: أن يفرق" صلى الله عليه وسلم "بين حكمين"، وهذا هو الثالث من وجوه الإِيماء، ثم تفرقته عليه الصلاة والسلام بين الحُكْمين، إما "بصفة مع ذكرهما مثل": قوله عليه الصلاة والسلام: "لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ".

وهذا اللفظ لا أعرفه، والذي في "الصحيحين": أنه عليه الصلاة والسلام "جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهمًا"

(1)

، وبه يقول أصحابنا.

وفي لفظ للبخاري: "للفرس سهمين، وللرَّاجل سهمًا.

وفي سنن الدارقطني:

(2)

"جعل للفارس سهمين، وللراجل سهمًا".

"[أو مع]

(3)

ذكر أحدهما، مثل:"القَاتِلُ لَا يَرِثُ"

(4)

"وهو حديث رواه الترمذي، وقال: لا يصح.

(1)

أخرجه البخاري 7/ 553 في كتاب المغازي: باب غزوة خيبر، حديث (4228)، وأخرجه أبو داود 3/ 75 في الجهاد: باب في سُهْمَان الخيل (2733)، وأخرجه الترمذي 4/ 105 في أبواب السير في سهم الخيل، حديث (1554) وقال: حسن صحيح، وابن ماجة 2/ 952 في الجهاد، باب: قسمة الغنائم حديث (2854)، وأحمد في المسند 2/ 2، 62.

(2)

أخرجه الدارقطني 4/ 106 من حديث ابن عمر.

(3)

في ت: أوقع.

(4)

أخرجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه الترمذي في السنن 4/ 425 كتاب الفرائض (30) باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل (17) الحديث (2109)، وأخرجه النسائي، ذكره المزي في تحفة الأشراف 9/ 333 الحديث (12286) في الفرائض، وقال المحقق:(في الكبرى)، وأخرجه ابن ماجة في السنن 2/ 913 كتاب الفرائض (23) باب ميراث القاتل (8) الحديث (2735)، وأخرجه الدارقطني في السنن 4/ 96 كتاب الفرائض الحديث (86)، وأخرجه =

ص: 322

"فَثَالِثُهَا: الأوَّلُ إِيمَاءٌ لَا الثَّانِي: فَالأوَّلُ عَلَى أَنَّ الإيمَاءَ اقْتِرَانُ الْوَصْفِ بِالْحُكْمِ، وَإنْ قُدِّرَ أَحَدُهُمَا.

"أو" يفرق بينهما "بغاية، أو استثناء، مثل:{حَتَّى يَطْهُرْنَ} [سورة البقرة: الآية 222] و {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [سورة البقرة: الآية 237].

أو شرط، مثل:"فَإذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ"، أو بلفظ يجري مجرى الاستدراك، مثل:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [سورة المائدة: الآية 89]، يدل على أن التعقيد علة المؤاخذة، والمعتمد في هذا النوع من الإِيماء على أنه لا بُدّ للتفرقة من فائدة، وجعل الوصف سبب التفرقة فائدة، والأصل عدم غيرِه.

"ومثل: ذكر وصف مناسب مع الحكم"، وهو الرابع من وجوه الإيماء، "مثل": قوله - عيه الصلاة والسلام -: ""لَا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"، رواه الشافعي، ولفظه: "لَا يَحْكُمُ الحَاكِم، أَوْ لَا يَقْضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ"، والجماعة لفظهم: "لَا يَقْضِي حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ"، ففيه تنبيه على أن الغضب علة؛ لأنه يشوش الفكر، كذا قيل: والحق: أن العلَّة المعنى المشترك، وهو تَشْويش الفِكْر، والوصف المذكور علة بمعنى: أنه مشتمل عليه، فيلحق به ما في معناه، كالجائع والحَاقِنِ، ويخرج عنه سواه، كالغضب إِذا كان لله تعالى، ذكره إِمام الحرمين، والبَغَوِي، وغيرهما.

وهذا كله إذا ذكر الحكم والوصف معًا، "فإن ذكر الوصف صريحًا، والحكم مستنبط، مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [سورة البقرة: الآية 275] ".

فإن الوصف الذي هو حل البيع مصرح به، والحكم، وهو الصحة غير مذكور، بل مستنبط من الحل، "أو بالعكس"، وهو كثير، منه أكثر العلل المستنبطة، نحو: "لَا تَبِيعُوا البُرَّ بِالبُرِّ.

الشرح: "فثالثها"، أي: ثالث المَذَاهب في هذين القسمين: أن "الأوّل" وهو ذكر الوصف، "إيماء، لا الثاني"، ومنهم من ادَّعى الاتفاق على [أن]

(1)

الثاني ليس إِيماء.

= البيهقي في السنن الكبرى 6/ 220 كتاب الفرائض؛ باب: لا يرث القاتل.

(1)

سقط في أ، ت.

ص: 323

وَالثَّانِي عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِمَا.

وَالثَّالِثُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْمُسْتَلْزِمِ لَهُ كَذِكْرِهِ، وَالْحِلُّ يَسْتَلْزِمُ الصِّحَّةَ.

وَفِي اشْتِرَاطِ الْمُنَاسَبَةِ فِي صِحَّةِ عِلَلِ الْإِيمَاءِ ثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ إِنْ كَان الْتَّعْلِيلُ فُهمَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ، اشْتُرِطَتْ.

"فالأول" وهو القول: بأن كلا منهما إِيماء، بناء "على أن الإيماء اقتران الوَصْف بالحكم، وإن قدر أحدهما.

والثاني: على أنه لا بد من ذكرهما" صريحًا "والثالث على أن ذكر المستلزم له كذكره"، أي: مبني على أن إِثبات مستلزم الشيء يقتضي إثباته، والعلة تستلزم المَعْلُول، كالحل للصّحة، وإِليه أشار بقوله: "والحل يستلزم الصّحة"، بخلاف إثبات لازم الشيء؛ إِذ الإِثبات فيه لملزوم.

الشرح: "وفي اشتراط المناسبة في صحّة علل الإِيماء".

ثالثها: المختار إن كان التعليل فهم من المناسبة"، مثل: "لَا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"، "اشترطت"؛ لأن حقيقته ذكر وصف مناسب.

فلو قلنا: لا يشترط فيه المناسبة، مع أنه لا يتحقّق إِلا بها لكان تناقضًا، وأما سواه من الأقسام فلا، والمُرَاد من المُنَاسبة ظهورها.

وأما نفسها فلا بد منها في العلة الباعثة، دون الأمارة المجرّدة.

ص: 324

المَسْلَكُ الثَّالِثُ

‌الثَّالِثُ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ،

وَهُوَ حَصْرُ الْأَوْصَافِ فِي الْأَصْلِ، وَإِبْطَالُ بَعْضِهَا بِدَلِيلِهِ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي، وَيَكْفِي:"بَحَثْتُ فَلَمْ أَجِدْ"، أَوِ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهَا، فَإِن بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا آخَرَ، لَزِمَ إِبْطَالُهُ لَا انْقِطَاعُهُ وَالْمُجْتَهِدُ يَرْجِعُ إِلَى ظَنِّهِ، وَمَتَى كَانَ الْحَصْرُ وَالإِبْطَالُ قَطْعِيًّا فَقَطْعِيٌّ، وَإِلَّا فَظَنِّيٌّ.

الشرح: "وهو حَصْرُ الأوصاف في الأصل"

(1)

المقيس عليه، "وإبطال بعضها بدليله،

(1)

السِّبْرُ والسَّبْرُ: الأصل واللون والهيئة والمنظر، يقال: إنه لَحَسَنُ السِّبْرُ: إذا كان حسن السحناء والهيئة، والسحناء اللون، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى: حسن الوجه، ويقال: سبرت الجرح أسبره: إذا نظرت ماغوره.

والتقسيم: لغة: قسم الشيء: جزّأه وفرّقه، وهي القسمة، والقسِم بالكسر: النصيب والحظ.

والسبر عند علماء الأصول: اختبار الوصف في صلاحيته وعدمها للتعليل به.

والتقسيم عندهم: حصر الأوصاف المحتملة للتعليل، بأن يقال: العلة إما كذا وإما كذا. ينظر: لسان العرب 3/ 1920 - 1921، 5/ 3628، 3631، ومختار الصحاح 2/ 675، 5/ 2011. وينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 222، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 815، وإحكام الآمدي 3/ 243، ونهاية السول للإسنوي 4/ 128، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 121، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 205، والمنخول للغزالي 350، والمستصفى 2/ 295، وحاشية البناني 2/ 270، والإبهاج لابن السبكي 3/ 77، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 84، وحاشية العطار 2/ 313، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 46، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 236، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 857، وتقريب الوصول لابن جزي 145، وإرشاد الفحول للشوكاني 213.

ص: 325

وَطُرُقُ الْحَذْفِ مِنْهَا الإِلْغَاء، وَهُوَ بيَانُ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْمُسْتَبْقَى فَقَطْ، وَيُشْبِهُ نَفْيَ الْعَكْسِ الَّذِي لا يُفِيدُ وَلَيْسَ بِهِ؛ لأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ: لَوْ كَانَ الْمَحْذُوفُ عِلَّةً لا تَبْقَى عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَإنَّمَا قُصِدَ: لَوْ كَانَ الْمُسْتَبْقى جُزْءَ عِلَّةٍ، لَمَا اسْتَقَلَّ، وَلَكِنْ يُقَالُ: لا بُدَّ مِنْ أَصْل لِذَلِكَ، فَيُسْتَغْنَى عَنِ الأوَّلِ.

فيتعيّن الباقي" للعلّية، "ويكفي" المستدلّ أَن يقول: "بحثت" عن الأوصاف "فلم أجد" غير ما ذكر وسمع منه ذلك لعدالته وكونه أهلًا للمُنَاظرة.

"أو" يقول: "الأصل عدم ما سواها" كذا بخطّ المصنف "أو"، وهو صحيح "فإِن بين المعترض وصفًا، لزم" المستدلّ "إبطاله" حتى يتم الاستدلال "لا انقطاعه" كذا بخط المصنّف، أي: لا يلزم انقطاعه؛ إِذ غايته منع مقدّمة من مقدمات دليله، ومقتضاه أن يلزمه الدّلالة عليها دون الانْقِطَاع، وإلا كان كل منع قطعًا، فإِذا أبطل ما اعترض به، سلم حصره، وكان له أن يقول: هذا مما علمت أنه لا يَصْلح، فلم أدخله في حصري.

وقيل: ينقطع؛ لأنه ادّعى حصرًا ظهر بطلانه، وعندي: أنه ينقطع إِن كان ما اعترض به مساويًا في العلّية لما ذكره في حصره وأبطله؛ لأنه ليس ذكر المذكور وإبطاله أولى من ذكر المَسْكُوت عنه المساوي له، وإن كان دونه، فلا انقطاع؛ لأن له أن يقول: هذا لم يكن عندي مخيلًا ألبتة، بخلاف ما ذكرته وأبطلته، وما ذكرناه هو فيما إِذا كان مستدلًّا على غيره.

"والمجتهد يرجع إِلى ظنه"، فمهما غلب على ظَنّه حصر الأوصاف، وبطلان البعض كفاه.

"ومتى كان الحَصْر والإِبطال قطعيًّا، فقطعي" أي: فالتعليل قطعي، "وإلا فظني".

الشرح: "وطرق الحذف"، أي: حذف بعض الأوصاف، وإبطال كونه علّة.

"ومنها: الإِلغاء، وهو بيان إثبات الحُكم بالمستبقى فقط"، فيعلم أن المحذوف لا أثر له، وهو "يشبه نفي العَكْس الذي" تقدّم أنه "لا يفيد" في مسألة أن العَكْس لا يشترط في العلّة.

وإنما أشبهه من حيث يثبت به عدم عليّة الوصف المحذوف بثبوت الحكم بدونه في صورة، كما يقول - مثلًا -: وصف القوت في الرّبويات ملغى؛ لأن المِلْح ربوي، وليس مقتاتًا، "وليس به" أي: هو الإِلغاء، وإن أشبه نفي العكس فليس إِياه؛ "لأنه لم يقصد" بالحذف أنه "لو كان المَحْذُوف علة لانتفى" الحكم "عند انتفائه، وإما قصد: لو كان"

ص: 326

وَمِنْها: طَرْدُهُ مُطْلَقًا؛ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ كَالذكُورِيَةِ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ.

وَمِنْها: أَلَّا تَظْهَرَ مُنَاسَبَتُه، وَيَكْفِي الْمُنَاظِرَ: بَحَثْت، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّ الْمُسْتَبْقَى، كَذَلِكَ، ويُرَجَّح بِهِ سَبْرُ الْمُسْتَدِلِّ بِمُوافَقَتِهِ لِلتَّعْدِيَةِ.

المحذوف جزء علّة، لكان "المستبقى جزء علّة"، ولو كان المستبقى جزء علّة، "لما استقلّ" بالحكم في تلك الصورة، وقد استقلّ، "ولكن يقال: لا بد من أصل لذلك، فيستغنى عن الأول" أي: مجرد إِثبات الحكم بالوَصْفِ المستبقى بدون الوَصْف المحذوف في صورة، لا يلزم كون الوَصْف المستبقى علّة؛ إِذ غاية الإِلغاء أن يفيد أن الوصف المحذوف ليس بعلّة مستقلة، بل لا بد لذلك من أصل يفيد استقلال الوَصْف المستبقى في العلّية، وحينئذٍ يستغنى عن الإلغاء، ويكون ذكره تطويلًا بلا فائدة، ومثل ذلك قبيح في مجلس النَّظر، وهذا بحث ذكره الآمدي.

ومثاله: إِذا قلنا: التفاح ربوي قياسًا على البُرّ بجامع الطعم، فيقال: لم قلتم: إن البرربوي لكونه مطعومًا؟

إنما هو ربوي للقوت مثل، فيقول: القوت باطل؛ لأن الملح ربوي، وليس بقُوتٍ، فيقال: قِسِ ابتداء على المِلحِ، تسقط عنك مؤنة التعليل بالقوت.

الشرح: "ومنها: طرده" أي: يكون الوصف طرديًا من جنس ما علم من الشَّارع إلغاؤه، إما "مطلقًا" أي: في جميع أحكام الشرع، "كالطّول والقصر"، فإِنه لم يعتبر في القصاص، ولا الكَفَّارة، ولا الإِرث، ولا العِتْق، ولا التقديم للصَّلاة، ولا غيرها، فلا يعلل به حكم أصلًا، "أو بالنسبة إِلى ذلك الحكم"، وإن اعتبر في غيره "كالذكورية في أحكام العِتْقِ"؛ إذ هي مُلْغَاة فيه مع كونها معتبرةً في الشهادة، والقضاء، وولاية النكاح، والإرث، فلا يعلل بها شيء من أحكام العِتْقِ.

الشرح: "ومنها: ألا تظهر مناسبة"، أي: لا يظهر للوصف المحذوف وجه مُنَاسبة، "ويكفي المناظر" أن يقول:"بحثت" فلم أجد بينه وبين الحكم مناسبة، "فإن ادّعى" المعترض "أن" الوصف "المُسْتبقى كذلك"، فذلك مسموع منه، إِن لم يكن قد سبق منه تسليم مُنَاسبة كلّ واحد من الوصفين.

ص: 327

وَدَلِيلُ الْعَمَلِ بِالسَّبْرِ وَتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ وَغَيْرِهِمَا؛ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ عِلَّةِ؛ لإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ.

ثم يحتاج المستدل إِلى إِثبات مرجّح يترجّح به سَبْره على سَبْر المعترض، بأن يبين أنّ سبره موافق لتعدية الحكم، وسبر المعترض قاصر، وإليه أشار بقوّله:"ويترجّح سبر المستدلّ بموافقته للتعدية"، وهو بناء على أنّ المتعدية أَرْجَح من القاصرة، وهو المختار، وليس للمستدلّ أن يبين المُنَاسبة بين المستبقى والحكم؛ لأنه - حينئذٍ - انتقال من السّبر إلى المناسبة.

الشرح: "ودليل العمل بالسّبر، وتخريج المناط وغيرهما: أنه لا بد من علّة لإِجماع الفقهاء على ذلك".

وإنما خصّ بعض الفقهاء بالذِّكْر؛ لأنهم يجعلون اقترانها بالعلّة بطريق اللّطف، وغيرهم كالمعتزلة يجعلها بطريق الوجوب، فانتهض إِجماع الأمة الفقهاء بما ذكرناه، وغيرهما بطريق أولى، وهذا ضعيف؛ فإِنا لا نسلم أن كل حكم معلل، ويجوز ورود ما لا معنى له، فللرب - تعالى - أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وقد تقدمت الإِشارة إلى هذا في البرهان الذي أسلفناه على أن أفعاله - تعالى - لا تعلل، وهذا مقرر في أصول الدِّيَانات.

ورأيت شيخ الإِسلام عز الدين بن عبد السَّلام قال في أجوبة مسائل سئل عنها - ونقلها من خطّ تلميذه الشيخ تاج الدين بن الفرْكَاح

(1)

- ما نصّه: الله - سبحانه - يفعل ما يشاء من غير تَقْيِيدٍ بحكمة ولا علّة؛ فإِن الحكم في العلل يعود إلى مصالح العباد، ولا يجب عليه إِصلاح، ولا يتضيّق عليه تصرفه بِحَجْرِ حاجر، ولا منع مانع، وما أجهل من يعتقد أن الله

(1)

عبد الرحمن بن سباع بن ضياء، العلامة الإمام، مفتي الإسلام، تاج الدين، أبو محمد، الفزاري، البدري، المصري الأصل، الدمشقي، الفركاح، ولد في ربيع الأول سنة 624 هـ. وتفقه في صغره على الشيخين: ابن الصلاح وابن عبد السلام، وكانت الفتاوي تأتيه من الأقطار. قال الذهبي: فقيه الشام، درس وناظر وصنف وانتهت إليه رئاسة المذهب كما انتهت إلى ولده برهان الدين، وكان من أذكياء العلم، وممن بلغ رتبة الاجتهاد. من مصنفاته:"الإقليد لدرء التقليد". توفي سنة 695 هـ. ينظر: شذرات الذهب 5/ 413، وطبقات الأسنوي (366)، وفوات الوفيات 1/ 250، وطبقات السبكي 5/ 60، وطبقات ابن قاضي شهبة 2/ 173.

ص: 328

وَلِقَوْلهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وَالظَّاهِرُ التَّعْمِيم، وَلَوْ سَلَّمْنَا، فَهُوَ الْغَالِبُ؛ لِأَنَّ التَّعَقُّلَ أَقْرَبُ إلَى الأنْقِيَادِ، فَلْيُحْمَلْ عَلَيْهِ، وَقَدْ ثَبْتَ ظُهُورُهَا، وَفِي الْمُنَاسَبَةِ.

وَلَوْ سُلِّمَ، فَقَدْ ثَبَتَ ظُهُورُهَا بالْمُنَاسَبَةِ؛ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي الْجَمِيْعِ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ فِي عِلَلِ الْأَحْكَامِ.

سبحانه وتعالى لا يجوز أن يخلق شيئًا من المخلوقات إلا أن يكون في جَلْب نَفْع أو دفع ضرّ، تالله لقد تيمموا شاسعًا، وتحجروا واسعًا. انتهى.

وذكر نحوه المصنّف، فإِنه كذلك بخطّ الشيخ عز الدين، وبسط الجَوَاب، وأتى بمعنى ما ذكره الشيخ عزّ الدين، وعندي صورة خطها بخط الشيخ تاج الدين.

وقد يقال: الَّذي فيه أنه لا يجب عليه، والمدعى أنه لا يقع إِلا بحكمة لا أنه لا يجوز إلا بحكمة، فليس فيه إلا الرد على المعتزلة فقط.

والجَوَاب: أنه لو ادّعى أنه لا يقع إِلا هكذا، للزم التضيُّق أيضًا، وإن ادعى مدّع تلقي ذلك من الاستقراء، لم يسلم من المُنَازعة في كثير من الأَحْكام، والذي كنت أسمع الشيخ الامام الوالد رضي الله عنه يقوله: إِن المعتزلة يوجبون رعاية المصالح، والفقهاء يقولون: لا يجب، ولكن لا يقع إلا بحكمة، والمتكلمون من أهل السُّنة يقولون: قد يقع بحكمة، وقد يقع ولا حِكْمة، وهو الحق، وحسبك إمام الناس معقولًا ومنقولًا، وشيخ السُّنة فروعًا وأصولًا.

الشرح: "ولقوله" - تعالى -: " {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)]} [الأنبياء: 107]، والظاهر التعميم"، أي: مراعاة مَصَالحهم في كلّ مشروع؛ إِذ لو أرسل بحكم لا مصلحة فيه لم تَتَحَقّق الرحمة، وهذا ضعيف؛ لأن المصلحة ثابتةٌ بمشروعية كل حكم، وإِن لم يظهر وجهها في بعض الأحكام، أو كانت [تعبدًا]

(1)

، مع فوات القياس في التعبديات.

"ولو سلمنا" عدم الإِجماع على اقتران الحكم بالعلّة، وعدم دلالة الآية عليه "فهو الغالب"؛ لأن التعقل أقربُ إلى التقييد، فيحمل عليه"، إلحاقًا للفرد بالأعم الأغلب، فثبت أنه لا بُدّ للحكم من علة، "وقد ثبت ظهورها" بما ذكرناه من المسلك سبرًا كان أو تخريج مَنَاط، أو غيرهما.

(1)

في أ، ت: بعيدًا.

ص: 329

‌الرَّابِعُ: الْمُنَاسَبَةُ وَالْإِخَالَة،

وَتُسَمَّى تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ، وَهُوَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إِبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ ذَاتِهِ لَا بِنَصٍّ وَلَا غَيْرِهِ؛ كَالْإِسْكَارِ فِي التَّحْرِيمِ، وَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِي الْقِصَاصِ.

وَالْمُنَاسِبُ: وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ يَحْصُلُ عَقْلًا مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ.

فَإِنْ كَانَ خَفِيًّا أَوْ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ، اعْتُبِرَ مُلَازِمُهُ وَهُو الْمَظِنَّةُ؛ لأَنَّ الغَيْبَ لَا يُعَرِّفُ الْغَيْبَ؛ كَالسَّفَرِ لِلْمَشَقَّةِ، وَالْفِعْلِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ عُرْفًا بِالْعَمْدِ في الْعَمْدِيَّةِ.

"وفي المناسبة"؛ خاصّة يقال: "ولو سلم" عدم العلّية، "فقد ثبت ظهورها بالمناسبة"، لأنها بمجرّدها يغلب ظنّ العلّية - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - ثم يقال في المُنَاسبة وغيرها: ذا ثبت ظهورها، وحصل ظنّ علّيتها، "فيجب اعتبارها في الجميع؛ للإِجماع على وجوب العَمَلِ بالظَّن في علل الأحكام"، ولا يخفي مما سطرناه أنه لا يشترط في الوَصْفِ المنتفي مناسبة، وقد خالف كثير من أصْحَابنا في ذلك، وعلى هذا فالسَّبْر عندهم من جملة المناسبة.

الشرح: "الرابع: المناسبة" يزاد فيها "الإِخالة"؛ لأنَّهُ بالنظر إليه يُخَال أنه علة، "ويسمى: تخريج المناط

(1)

"؛ لأنَّهُ إِبداء ما نيط به الحكم، "وهو: تعيين العلة" في الأصل "بمجرد إِبداء المناسبة" بينها وبين الحكم "من ذاته"؛ أي: ذات الأصل "لا بنصّ ولا غيره" من إجماع أو غيره، "كالإِسكار في التحريم، والقتل العَمْد العدوان في القصاص".

الشرح: "والمناسب: وصف ظاهر منضبط"، بحيث "يحصل عقلًا من ترتيب الحُكْم عليه ما يصلح أن يكون مقصودًا، من حصول منفعة، أو دَفْع مفسدة".

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 257، والإحكام. في أصول الأحكام للآمدي 3/ 280، ونهاية السول للإسنوي 4/ 142، وزوائد الأصول له 379، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 100، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 122، والإبهاج لابن السبكي 3/ 83، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 115 وحاشية العطار 2/ 317، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 4 والموافقات للشاطبي 4/ 96، وتقريب الوصول لابن جزي 141، ونشر البنود للشنقيطي 2/ 164.

ص: 330

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فالظَّاهر المنضبط: احتراز عن الوضف الخفي، وما لا ينضبط.

وقولنا: "بحيث" لا بد منها، وإن أهملها الآمدي والمصنف، فالظاهر أنهما أراداها، وإلا يلزم أن يكون اعتبر في ماهيّة المناسبة ما هو خارج عنها، وهو اقتران الحُكْم للوصف، وهو خارج بدليل قولنا: المُنَاسبة مع الاقتران دليل العلّة، ولو كان الاقتران داخلًا، لما صحّ هذا.

وما يصلح أن يكون مقصودًا: احتراز عن الوصف المُسْتبقى في السَّبر، والمَدَار في الدوران، وغيرهما.

وقوله: "من حصول مصلحة، أو دفع مفسدة" بيان لقوله: ما يصلح.

واعترض الشيخ الهِنْدِي: بأنه إن عني بقوله: يحصل من ترتيب الحكم علته، أنه يلزم من ترتيب ما يقتضيه الوصف من الحكم بحسب مناسبته له، فيلزم تعريف الشيء بنفسه؛ لأن تعريف المناسب إنما هو باعتبار مناسبته فتعريفه بالمناسبة تعريف للشيء بنفسه، وإِن عني به غيره فليبينه. سلمنا، ولكن لا حاجة إِلى هذا القيد، بل يكفي أن يقال: يلزم من حصوله حصول الحكم المستلزم لحصول ما يصلح أن يكون مقصودًا للشارع؛ لأنّا إِذا علمنا الوصف وحده، والحكم وحده، وما يصلح أن يكون مقصودًا وحده، علمنا من وجود الوصف مقارنة الحكم له، وحصول ما يصلح أن يكون مقصودًا، والمقارنة إِنما تراد لاعتبار المناسبة، لا لتحقيق ماهيّتها.

وأما أنه يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودًا للشارع، فذلك زائد على ماهية المناسبة.

وأيضًا فإنه غير جامع؛ لأن التعليل بالحكمةء الظاهرة المنضبطة جائز على المختار عند المصنّف، والوصفيّة غير متحقّقة فيها، مع تحقق المناسبة.

"فإن كان" الوصف المذكور "خفيًّا، أو غير منضبط اعتبر ملازمه"، وهو وصف ظاهر منضبط ملازمه، فيجعل معرفًا للحكم، "وهو المظنة"، فيوجد بوجوده، ويعدم بعدمه، سواء أكانت الملازمة عقلية أم لا، وإنما لم يعتبر هو؛ لأنّه لا يعلم، فكيف يعلم به الحكم؟ وإليه أشار بقوله:"لأن الغيب لا يعرف الغَيْب، كالسّفر للمشقّة"؛ فإن المشقّة مناسبة

ص: 331

وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْمُنَاسِبُ: مَا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ يَقِينًا وَظَنًّا؛ كَالْبَيْعِ وَالْقِصَاصِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحُصُولُ وَنَفْيُهُ مُتَسَاوِيَيْنِ؛ كَحَدِّ الْخَمْرِ.

لترتيب الترخُّص، واعتبارها في نفسها متعذّر؛ لعدم انضباطها، فنيط الترخُّص بملازمها، وهو السَّفر، "والفعل المقضي عليه عرفًا بالعَمْد في العمدية" بأن القَتْل العمد العدوان مناسب لشرع القِصَاص، لكن وصف العَمْد خفي؛ لأن القصد وعدمه أمر يقيني لا يدرك شيء منه، فنيط القِصَاص بما يلازم العمدية من أفعال مخصوصة يقضي بالعرف عليها بكونها عمدًا.

الشرح: وقال أبو زيد الدّبوسي - ضرغام أصحاب الرأي -: "المُنَاسب: ما لو عرض على العقول تلقته بالقَبُول"، وهو معترف بأنه لا يمكن إِثباته في المُنَاظرة؛ إذ يقول الخَصْم: لا يتلقَّاه عَقْلي بالقبول،، وتلقي عقلك له لا يلزمني

(1)

.

"وقد يحصل المقصود من شرع الحكم يقينًا و" قد يحصل "ظنًّا".

فاليقيني: "كالبيع"؛ فإِنه إذا كان صحيحًا، حصل منه الملك، الذي هو المقصود يقينًا.

"و" الظَّني مثل: "القصاص" للانْزِجَارِ، فإن مشروعيته تقلل الإِقدام على القتل العَمد العدوان، وعليه نبه قوله - تعالى -:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].

"وقد يكون الحصول ونفيه متساويين، كحدّ الخمر"، فإِن حصول المقصود الَّذي هو حفظ العَقْل، وانتفاءه منه متساويان، فإن استيلاء ميل الطباع إِلى شرب الخَمْر يقاوم خوف عقاب الحَدّ، ولهذا نجد كثرة الممتنعين عنه مقاومة لكثرة المقدمين.

واعترضه الهِنْدِي: بأن ذلك إِنما هو للتَّسَامح في إِقامة الحدود، وأما مع إقامتها فلا، ونحن إنما نعتبر كونه مُفْضيًا إِلى المقصود - أولًا - على تقدير رعاية المشروع، لا بمجرد تشريع الحكم.

ولك أن تقول: ولو فرضنا رعاية المشروع، لكان إقامة حد الخمر أقل منعًا للشاريين،

(1)

ينظر: شفاء العليل 2/ 188، والإحكام للآمدي 3/ 248، والمحصول 2/ 2/ 217، والإبهاج 3/ 59، ونهاية السول 3/ 58، ونبراس العقول (267).

ص: 332

وَقَدْ يَكُونُ نَفْيُهُ أَرْجَحَ، كَنِكَاح الآيِسَةِ لِمَصْلَحَةِ التَّوَالُدِ.

وَقَدْ يُنْكَرُ الثَّانِي وَالْثَّالِثُ.

لنَا: أَنَّ الْبَيْعَ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ إِلَي التَّعَاوُضِ، وَقَدِ اعْتُبِرَ وَإِن انْتَفَى الظَّنُّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَالسَّفَرُ مَظِنَّةُ الْمَشَقًةِ، وَقَدِ اعْتُبِرَ، وَإن انْتَفَى الظَّنُّ فِي الْمِلْكِ الْمُتَرَفِّهِ.

أَمَّا لَوْ كَانَ فَائِتًا قَطْعًا؛ كَلُحُوقِ نَسَبِ الْمَشْرِقِيِّ بتَزوُّجِ ...........

من إِقامة القصاص للقاتلين، ولا يخفى أن الخوف من إِزهاق الروح أعظم من خوف ثمانين جلدةً.

الشرح: "وقد يكون نفيه أَرْجَحَ، كنكاح الآيِسَةِ لمصلحة التوالد"، فإِن مقصود النكاح الذي هو التَّوالد على ما قال صلى الله عليه وسلم:"تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا، فَإنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ"، قد يحصل من نكاح الآيِسَةِ، وحصوله منها مرجوح بالنسبة إلى عدم حصوله.

وجعل المصنّف الأول والثاني، وهما: اليقيني والظَّني قسمًا واحدًا؛ لأنهما لا ينكران، وحينئذٍ يكون القِسْمان الأخيران ثانيًا وثالثًا، والصَّحيح جواز التعليل بكل الأقسام.

الشرح: "وقد ينكر الثاني والثالث، لنا: أنَّ البيع مظنّة الحاجة إلى التعاوض، وقد اعتبر" شرعه، "وإن انتفى الظن" ظن الحاجة إلى التَّعَاوض "في بعض الصور"، فربّ بائع سلعة لا يحتاج إلى عوضها، ومُشْتر غير محتاج إِلى ما اشتراه، ويصح تعاوضهما إِجماعًا، "و" كذلك "السفر مظنّة المشقّة، وقد اعتبر.

وإن انتفى الظن من الملك المترفه"، فذاك مثال للمناسب، وهذا لمظنّة المناسب، وهما دليلان على أنه يكفي في صحّة التعليل مجرد احتمال حصول المقصود، وكل هذا فيما إذا كان حصول المقصود محتملًا أولى وأخرى.

الشرح: "أما لو كان فائتًا قطعًا، كلحوق نسب المَشْرقي بتزويج المَغْرِبية" الذي يقول به أبو حنيفة، "وكاستبراء جارية يشتريها بائعها في المَجْلس، فلا يعتبر؛ خلافًا للحنفية"، فإنا نعلم قطعًا عدم العُلوق منه في الأولى، وبراءة الرَّحم في الثانية، فلا وجه لاعتباره.

فإن قلت: فلم توجبون - مَعَاشر الشافعية - الاستبراء والحالة هذه؟.

ص: 333

مَغْرِبِيَّةٍ، وَكَاسْتِبْرَاءِ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا بائِعُهَا فِي الْمَجْلِسِ، فَلَا يُعْتبَرُ؛ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.

وَالْمَقَاصِدُ ضَرْبَانِ: ضَرُورِيٌّ فِي أَصْلِهِ، وَهُوَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ؛ كَالْخَمْسَةِ الَّتي رُوعِيَتْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ: حِفْظِ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْلِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ؛ كَقَتْلِ الْكُفَّارِ، وَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْمُسْكِرِ وَجَلْدِ الزَّانِي، وَحَدِّ السَّارِقِ والْمُحَارِبِ.

وَمُكَمِّلٌ لِلضَّرُورِيِّ، كَحَدِّ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ.

وَغَيْرُ ضَرُورِيٍّ: حَاجِيٌّ؛ كَالْبَيْعِ، وَالإجَارَةِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَبَعْضُهَا

قلت: لمجرد نقل الملك، على ما عرف في الفِقْهِيّات، وهو يؤول إِلى ضرب من التعبُّد، فالحاصل أنه لا يصحّ قياس في كل من الصورتين، والفُتْيَا في أحدهما للتعبُّد المحض، وظني أنّ الإِتيان بمثالين لهذا؛ فإن المقصود إِذا كان نافيًا قطعًا منه لا مدخل للتعبُّد فيه، كمسألة المشرقي والمغربية، فلا وجه للقول به، ومنه ما دخله ضرب من التعبُّد كالاستبراء، فالقول به فيه بالتعبُّد لا بالقياس.

الشرح: "والمقاصد" التي يشرع لها الأحكام "ضربان" ضروري وغيره:

الأول: الضروري، وهو قسمان:"ضروري في أصله، وهي أعلى المراتب" في إفادة ظن الاعتبار "كالخمسة التي رُوعِيَتْ في كل ملّة: حفظ الدين، والنفس، والعقل والنسل، والمال، كَقْتِل الكفار" حفظًا للدين، "والقصاص" للنفس، "وحدّ المسكر" للعقل، "وحد الزنا" للنسل، "وحَدّ السارق والمحارب" للمال.

"ومكمل للضروري، كحدّ قليل المسكر"؛ لأنَّهُ داعٍ إلى كثيره، فمن حام حَول الحمى يوشك أن يُوَاقِعَهُ.

الشرح: "و" الثاني: "غير ضروري" وهو - أيضًا - قسمان: "حاجي" وغيره، والحاجي إما حاجي في نفسه، أو مكمل، فالحاجي في نفسه "كالبيع، والإِجَارة، والقِرَاض، والمُسَاقاة"، فلا يظنن الظَّان أن المعاوضة ضرورية؛ إِذ ليس يلزم من فوات واحد من هذه الأمور فوات شيء من الضرورات الخمس، وادّعى الإمام أن البيع ضروري.

ثم هذه الأمور ليست من مرتبةٍ واحدةٍ، بل متفاوتة، "وبعضها آكد من بعض"، ولربما

ص: 334

آكَدُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا؛ كَالإِجَارَةِ فِي تَرْبِيَةِ الطِّفْلِ، وَشِرَاءَ الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ لَهُ وَلغَيْرِهِ.

وَمُكَمِّلٌ لَهُ؛ كَرِعايَةِ الْكَفَاءَةِ، وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الصَّغِيرَةِ؛ فَإِنَّهُ أَفْضَى إِلَى دَوَامِ النِّكَاحِ.

وَغَيْرُ حَاجِيٍّ، وَلَكِنَّهُ تَحسِينِيٌّ؛ كَسَلْبِ الْعَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ لِنَقْصِهِ عَنِ الْمَنَاصِبِ الشَّرِيفَةِ؛ جَرْيًا عَلَى مَا أُلِفَ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ.

رقي بعضها إِلى حد الضرورة، وذلك نادر، فلذلك أطلقنا الجَاجِيّ على القسم مطلقًا باعتبار الأغلب، وإلى هذا أشار بقوله:"وقد يكون ضروريًا، كالإِجَارَةِ على تربية الطفل، وشراء المطعوم والملبوس له و" كذا شراؤه "لغيره".

والمكمل للحَاجِيّ، وإليه أشار بقوله:"ومكمل له، كرعاية الكَفَاءَةِ، ومهر المِثل في الصَّغيرة، فإنه أفضى إلى دوام النكاح"، فكان من مكملات مقصود النِّكاح.

الشرح: "و" القسم الثاني: ما هو "غير حَاجِيّ، لكنه تَحْسيني"، وهو قسمان:

أحدهما - وعلى ذكره اقتصر المصنّف، ما يقع على غير مُعَارضة قاعدة معتبرة، "كَسَلْبِ العبد أهليّة الشهادة، لنقصه عن المَنَاصب الشريفة؛ جريًا على ما ألف من محاسن العادات".

والثاني: ما يقع معارضًا لقاعدة، كالكتابة، فإِنها مستحسنة من حيث كونها مكرمة، ووقعت ناقضة لقاعدة امتناع معاملة السَّيد عبده، ومقابلته ماله بماله.

واعلم أنه قد يقع في كل من هذه الأقسام ذكر ما يظهر كونه منه، وعكسه، وما يستوي الأمران فيه.

فالأول: كوجوب القِصَاصِ بالمُثَقَّل؛ إذ يظهر أنه من المصالح الضَّرورية في حفظ النفوس؛ لأنَّهُ لو لم يجب لَفَاتَ المقصود منها؛ لأن من يريد قتل إنسان يعدل عن المحدد دَرْءًا للقصاص عن نفسه، وليست في المُثَقّل زيادة مُؤْنَةٍ على المُحَدّد، حتَّى يقال: لا يكثر بسببها القَتْل، بل المُثَقّل أسهل وجودًا من المحدد.

والثاني: كإيجاب القصاص - على أحد الوجهين عندنا - بالقتل بِغَرْزِ الإبرة في غير مَقْتَلٍ، بحيث لا يعقب ألمًا وَوَرمًا ظاهرًا، وكذا إبانة فَلْقَة خفيفة من اللحم، على ما ذكره

ص: 335

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إمام الحرمين، ونظائر ذلك، فإنه يظهر أنه ليس من الضَّروري؛ إِذ لا يفضي إِلى الهلاك إلا نادرًا، فأشبه السّوط.

والثالث: كإِيجاب القِصَاصِ على الجماعة بقتل واحد

(1)

؛ لاحتمال إِلحاقه بالمصالح

(1)

اختلف العلماء رضي إله عنهم فيما يجب في قتل الواحد بالجمع. قال القاضي أبو علي: فيه مذاهب، فمذهب الشافعي رحمه الله أنه يقتل العدد بالواحد، ذهب إليه من الصحابة عمر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء والحسن البصري، ومن الفقهاء مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد واسحاق.

قال: وذهبت طائفة إلى أن الجماعة إذا قتلوا واحدًا كان لولي المقتول قتل واحد من الجماعة أيهم شاء، ويأخذ من الباقين الدية بالحصة. ذهب إلى هذا عبد الله بن الزبير ومعاذ والزهري وابن سيرين.

قال: وذهب قوم إلى أن الجماعة إذا قتلوا واحدًا سقط القود رأسًا، ولم يكن عليهم غير الدية. ذهب إليه ربيعة وداود.

فمن قال: إن الجماعة لا يقتلون بالواحد احتج بقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} . ولم يقل: أحرارًا بحر. ولم يقل: أنفسًا بنفس؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: لا يحلُ دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث:

كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفسًا بغير نفس. وهذا ما قتل نفسًا. وأيضًا ما روى جبير عن الضحاك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا يقتل اثنان بواحد. وهذا نص، قالوا: ولأنها نفس خرجت عن فعل مشترك، فوجب إلا يجب القود، أصله إذا اشترك في قتل عامد ومخطئ. قالوا: ولأن الواحد لا يكافئ في الجماعة؛ ولأنه لو اشترك جماعة في سرقة فسرقوا كلهم نصابًا لم يقطعوا، كذلك ها هنا. ولأن الجماعة إذا اشتركوا في قنل صيد كان على الكل جزاء واحد. قلنا: الجواب عن ذلك وصحة ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله وأصحابه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، أراد به إذا علم من عزم على القتل أنه إذا قتل قُتل كف عن القتل؛ لئلا يقتل به، فكان ذلك ردعًا له وزجرًا، ولو قيل: إن الجماعة لا تقتل بالواحد لكان هذا ذريعة إلى أنه إذا شاء قتل إنسان قتله لأن يمضي ويشارك في قتله غيره؛ لسقوط القود عنه. فلما كان ذريعة إلى ذلك قلنا لم يجز، إلا أن يقتل الجماعة بالواحد، قالوا: فعلى هذا ينبغي أن تقتلوا من شارك غيره في قتل الخطأ؛ لأنَّهُ لا يشاء شاءٍ قتل غيره إلا قتله في مشاركة الخطأ. قلنا. لا يتصور ذلك؛ لأنَّهُ إذا وطأه في ذلك فقد صار قاصدًا عامدًا.

وأيضًا ما روى أبو شريح الكعبي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من =

ص: 336

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الضرورية؛ إذ لو لم نوجبه لاسْتَعَان كلّ من أراد قتل إِنسان بصديق يشاركه، فتبطل فائدة مشروعية القِصَاصِ، واحتمال خروجه عنه؛ لاحتياجه إلى مشاركة غيره، والظَّاهر أن ذلك الغير لا يشاركه، فلم تساو المصلحة - هنا - المَصْلحة في وجوب القصاص في المُنْفرد، ومن أجل نزول هذا القسم عن الأول، كان في المذهب قول استنبطه أبو حَفْصِ بن الوكيل

(1)

: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد.

وقول آخر عن القديم: أن ولي الدم يقتل واحدًا يختاره من الجماعة، ويأخذ حصّة الآخرين، ولا يقتل الجميع.

= هذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلًا، فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية. ومن للجنس تقع على القليل والكثير، فقد جعل لأهل القتيل القتل بالقتل سواء قتله قليل أو كثير. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قتل خمسة أو سبعة بواحد.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تقتل المائة بالواحد.

قال البندنيجي في تعليقه: وما قالاه - ربيعة وداود - خالفا فيه إجماع الصحابة؛ لأنهما في المسألة على قولين: أحدهما: تقتل الجماعة كلهم بالواحد. والثاني: يقتل الواحد منهم، ويؤخذ من الباقين بالحصة من الدية.

فمن قال: إن الجماعة إذا قتلوا واحدًا سقط القود بكل حال، فقد أحدث قولًا ثالثًا، وأحدث قولًا خلاف الإجماع.

وما استدلوا به من قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فأدخل الألف واللام للجنس، فكأنه قال: جنس النفس بجنس النفس، وقوله: لا يقتل اثنان بواحد في رواية جبير عن الضحاك فهو مرسل لا نقول به. وروى البيهقي والدارقطني عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر أَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخَر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك. وفي رواية معمر عن إسماعيل بن أمية يرفعه:"اقتلوا القاتل، واصبروا الصابر" يعني احبسوا الذي قتل حتَّى الموت. ينظر: الاعتناء 2/ 957.

(1)

عمر بن عبد الله بن موسى، أبو حفص بن الوكيل الباب، شامي. قال أبو حفص المطوعي: هو فقيه جليل الرتبة من نظراء أبي العباس وأصحاب الأنماطي، وممن تكلم في المسائل وتصرف فيها فأحسن ما شاء. ثم هو من كبار المحدثين والرواة وأعيان النقلة. مات بعد 310 هـ.

ينظر: طبقات الفقهاء للشيرازي ص (90)، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 215 وطبقات الفقهاء للعبادي ص (43)، وطبقات ابن قاضي شهبة 1/ 97.

ص: 337

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولا خلاف بين أصحابنا في وجوب القِصَاصِ بالمُثقل، ومن أجل تعاليه عن الثَّاني كان الخلاف فيه أضعف منه في الثاني.

ص: 338

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ: انْخِرامُ الْمُنَاسَبَةِ؛ لِمَفْسَدَةٍ

تَلْزَمُ رَاجِحَةً أَوْ مُسَاوِيَةً.

لَنَا: أَنَّ الْعَقْلَ قَاضٍ بِأَنْ لَا مَصْلَحَةَ مَعَ مَفْسَدَةٍ مِثْلِهَا.

«مسألة»

الشرح: "المختار انْخِرَام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية"، وهو رأي الشيخ الهِنْدِي، وخالف فيه الإمام وأصحابه

(1)

.

"لنا: أن العقل قاضٍ بأن لا مصلحة" في الشيء "مع" اشتماله على "مفسدة مثلها"، ولهذا إِذا أخذ واحد يسعى لتحصيل مثل هذه المصلحة، ينسبه أهل العقل إِلى السَّفه، وكذلك إِذا كان للبلد الذي يقصده المُسَافر طريقان، يقصر في أحدهما، ولا يقصر في الآخَر، فسلك الأبعد لغير غَرَضٍ، لم يقصر في أصح القولين، وإذا ثبت انخرام المَصْلَحة بالمَفْسَدَة المساوية، فبالزائدة أولى.

(1)

رجح الرازي وأتباعه أنها لا تنخرم، والمختار عند الآمدي وابن الحاجب وغيرهما انخرامها.

والخلاف يلتفت على أن النقض في العلة هل يقدح أم لا؟.

فإن قلنا: يقدح، انخرمت، وإلا فلا. ينظر: سلاسل الذهب 374، 375، والمحصول 2/ 2/ 232، والمنتهى لابن الحاجب ص (134)، والإبهاج 3/ 71، وجمع الجوامع 2/ 286، والإحكام للآمدي 3/ 254 والمسودة (438)، وروضة الناظر (163)، وفراتح الرحموت 2/ 264 ونبراس العقول (319).

ص: 339

قَالُوا: الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تَلْزَمُ مَصْلَحَةً وَمَفْسَدَةَ تُسَاوِيهَا أَوْ تَزِيد، وَقَدْ صَحَّتْ.

قُلْنَا: مَفْسَدَةُ الْغَصْبِ لَيْسَتْ عَنِ الصَّلَاةِ، وَبِالْعَكْسِ، ولَوْ نَشَأَا مَعًا عَنِ الصَّلَاةِ، لَمْ تَصِحَّ، وَالتَّرْجِيحُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَسَائِلِ، وَيُرَجَّحُ بِطَرِيقٍ إجْمَالِيٍّ، وَهُوَ أنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ رُجْحَانُ الْمَصْلَحَةِ، لَزِمَ التَّعَبُّدُ بِالْحُكْمِ.

الشرح: "قالوا: الصلاة في الدار المَغْصُوبة تلزم مصلحة ومفسدة تساويها، أو تزيد"؛ لأن المصلحة لا تزيد على المفسدة، وإلا لما حرمت، فيجب مُسَاواة المفسدة، أو زيادتها، فلو انخرمت المُنَاسبة بذلك، لما صحت الصلاة، "وقد صحت".

"قلنا: مفسدة الغَصْب ليست عن الصَّلاة، وبالعكس؛ فإنه لو شغل المكان من غير أن يصلى لأثم، ولو أدَّى الصَّلاة في غير المغصوب لصحت، والكلام إِنما هو في مصلحة ومفسدة لشيء واحد.

والدليل على أنهما معًا لم ينشأَا من شيء واحد: أنه لو فرضناهما ناشئين من نفس الصلاة لوجب ألا تصح قطعًا، كما في صوم يوم العِيدِ، وذلك لتعارض الدَّاعي إلى الأمر بها، والصَّارف عنه، مع المساواة، أو رُجْحَان الصارف، والأمر عند ذلك محال، انخرمت المناسبة أولا، إِذ لا نزاع في بُطْلَان حكمها، وقد أشار إلى هذا بقوله:"ولو نشأا معًا عن الصلاة، لم تصح".

وإذا عرفت أنه لا بد من رُجْحان المصلحة على المفسدة عند تعارضهما، فلا بد من الترجيح، "والترجيح يختلف باختلاف المسائل"، وينشأ من خُصُوصياتها ما لا يحيط بمجموعها، وربّ شيئين يَتَعَارضان في مسائل، ولا يقع التَّرْجيح بينهما، إِلَّا في خصوصيات المَسَائل، كما قيل: لا يطلق تَرْجيح بين القولين: في أن الرَّجْعة هل تقطع الزوجية؟

وأن الإبراء هل هو إسقاط أو تمليك؟

وأن النذر هل يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه؟، وإنما ينظر في كل فرع بخصوصه.

"ويرجّح" - أيضًا - "بطريق إجمالي" شامل لجميع المسائل، "وهو أنه لو لم يقدر رُجْجان المصلحة" على المفسدة في محلّ النزاع "لزم" أن يكون الحكم ثبت فيه من غير مُرَاعاة مصلحة، وهو "التعبد بالحكم" وذلك على خلاف الأصل.

ص: 340

وَالْمُنَاسِبُ: مُؤَثِّرٌ، وَمُلَائِمٌ، وَغَرِيبٌ، وَمُرْسَلٌ؛ لأِنَّهُ إِمَّا مُعْتبَرٌ أَوْلَا؛ فَالْمُعْتبَرُ بنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ هُوَ الْمُؤَثِّر، وَالْمُعْتبَرُ بِتَرْتِيب الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ فَقَطْ إِنْ ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ: اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي جِنْس الْحُكْمِ أَوْ بِالْعَكْسِ، أوْ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ فَهُوَ الْمُلَائِم، وَإلَّا فَهُوَ الْغَرِيبُ، وَغَيْرُ الْمُعْتبَرِ: هُوَ الْمُرْسَلُ.

الشرح: "والمناسب" تحته أنواع، نقول قبل ذكرها: اعلم أنّ للجنسية في الحكم والوصف مَرَاتب، بحسب الخُصُوص والعموم، فأما في الحكم فأعمّ أجناسه: كونه حكمًا شرعيًّا، ثم الوجوب، ثم وجوب العِبَادات، ثم وجوب الصَّلاة.

وأما في الوصف، فكونه وصفًا يُنَاط به الحكم، فيدخل فيه المُنَاسب وغيره، ثم المُنَاسب، ثم الضروري منه، ثم الضروري في حفظ الدين، والأوصاف إِنما يلتفت إِليها إذا ظنّ اعتبار الشارع إِياها، وكلما كان التفات الشَّارع إِليه أكثر، كان ظن كونه معتبرًا أقوى، والأخصّ أبدًا آكد، فيقدم على الأعم.

إِذا عرفت هذا، فأنواع المناسب:"مؤثر، وملائم، وغريب، ومرسل؛ لأنَّهُ إما معتبر" في نظر الشارع؛ أي: اعتبر عينه في عين الحُكم "بنص أو إجماع"، وذلك "هو المؤثر" سمي بذلك؛ لظهور تأثيره.

أو يعتبر لا بنص ولا إِجماع، بل بترتب الحكم على الوَصْف فقط، وإليه أشار بقوله:

"والمعتبر بترتيب الحكم على وفقه فقط"، و - حينئذٍ - "إن ثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه" أي: عين الوصف، "في جنس الحكم، أو بالعكس"، وهو جنس الوصف في عَيْنِ الحكم، "أو" اعتبار "جنسه في جنس الحكم، فهو الملائم، وإلا" أي: وإِن لم يثبت بنصّ أو إِجماع واحد منها، بل اعتبر الشَّارع عين الوصف في عين الحُكْم بترتيب الحكم عليه فقط، "فهو الغريب، وغير المعتبر هو المرسل".

ص: 341

فَإِن كَانَ غَرِيبًا أَوْ ثَبَتَ إِلْغَاؤُه، فَمَرْدُودٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مُلَائِمًا، فَقَدْ صَرَّحَ الإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - بِقَبُولهِ، وَذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُما اللَّهُ.

وَالْمُخْتَارُ رَدُّه، وَشَرَطَ الْغَزالِيُّ فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً، فالأَوَّلُ كَالتَّعْلِيلِ بالصِّغَرِ فِي حَمْلِ النِّكَاحِ عَلَى الْمَالِ فِي الْوِلَايَةِ؛ فَإِنَّ عَيْنَ الصِّغَرِ مُعْتَبَرٌ فِي جِنْسِ حُكْمِ الْوِلَايَةِ بِالإِجْمَاعِ.

الشرح: ثم هو ينقسم باعتبار إِلى: مرسل ملائم، ومرسل غريب؛ لأنه إِن اعتبر جنسه البعيد في جنس الحُكْم، فهو الملائم، وإلا فالغريب، وباعتبار آخر، إلى: ما علم من الشارع إلغاؤه، وما لم يعلم.

"فإن كان غريبًا، أو ثبت إلغاؤه، فمردود اتفاقًا"، ولا يظن أن مالكًا رضي الله عنه ولا غيره من العلماء يخالف [هنا]

(1)

.

ولقد قال إمام الحرمين: لا نرى التَّعلُّق بكل مصلحة، مع أن من جملة ذلك ما لم يعلم إِلغاؤه، فكيف نقول بما علم إِلغاؤه

(2)

.

"وإن كان ملائمًا، فقد صرح الإمام والغزالي

(3)

بقبوله، وذكر عَنْ مالك والشافعي"، والذي صحّ عن مالك أنه اعتبر جنس المصالح مطلقًا، ولا كذلك الإِمام والغزالي؛ فإِنهما لا ينسحبان على هذا المذهب، بل قد بالغ الإمام في "البرهان" في الرد على مالك.

وأما الشافعي رضي الله عنه فإِنه لا ينتهي إلى مقالة مالك، ولا يستجيز الثَّنائي والإفراط في البعد، وإنما يسوغ تعليق الإحْكام بمصالح يراها شَبِيهَةً بالمصالح المعتبرة وفاقًا، وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول، قارّة في الشريعة، وإمام الحرمين يختار نحو ذلك.

الشرح: "والمختار" عند الأكثر، منهم المصنّف: "رده، وشرط الغَزَالي فيه أن تكون

(1)

في ت: هذا.

(2)

ينظر: البرهان 2/ 1132.

(3)

ينظر: المستصفى 2/ 297.

ص: 342

وَالثَّانِي: كَالتَّعْلِيلِ بِعُذْرِ الْحَرَجِ فِي حَمْلِ الْحَضَرِ بِالْمَطَرِ عَلَى السَّفَرِ فِي الْجَمْع؛ فَإِنَّ جِنْسَ الْحَرَجِ مُعْتَبَرٌ فِي عَيْنِ رُخْصَةِ الْجَمْعِ.

وَالثَّالِثُ: كَالتَّعْلِيلِ بِجنَايَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِي حَمْلِ الْمُثَقَّلِ عَلَى الْمُحَدَّدِ في الْقِصَاصِ؛ فَإِنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ مُعْتبَرٌ فِي جِنْسِ الْقِصَاصِ؛ كَالأَطْرَافِ وَغَيْرِهَا.

المصلحة ضرورية"، لا حاجية، "قطعيَّةً"، لا ظنية، "كلية"، لا جزئية؛ أي: مختصّة بشخص، كما إِذا تَتَرَّس الكفار بأُسَارَى المسلمين، وعلمنا أنَّا إِن لم نرم الترس استأصلوا المسلمين المتترس بهم وغيرهم، وإن رميناه اندفع قطعًا، مع قتلنا - إِذ ذاك - مسلمًا من دون جَرِيمةٍ صدرت منه.

وإنما يعتبر - والحالة هذه - لأنا لو كففنا عن التّرسِ لسلطنا الكُفّار على جميع المسلمين، فيقتلوهم، ثم يقتلون الأُساري أيضًا، فحفظ المسلمين أقرب إِلى مقصود الشرع؛ لأنا نقطع أنّ الشرع يقصد تقليل القَتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإِمكان، فإِن لم نقدر على الحَسْمِ، فقد قدرنا على التَّقْليل، وكان هذا التفاتًا إِلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودةً بالشرع، لا بدليل واحدٍ، بل بأدلة كثيرة، ولكن تحصيل هذا المَقْصد، بهذا الطريق، وهو قتل من لم يذنب، لم يشهد له أصل معين، فينقدح اعتبار هذه المَصْلحة باعتبار الأوصاف الثلاثة، وهي كونها ضروريةً، قطعية، كلية، فليس في معناها ما لو تَتَرَّس الكفار في قلعة بمسلم، فإِنه لا يحل رمي الترس؛ إِذ لا ضرورة بنا إِلى أخذ القَلْعَةِ، فنعدل عنها، ولا إِذا لم نقطع بظَفرِهم بنا، فإِنها ليست قطعية، بل ظنية، ولا رمي بعض المسلمين من السفينة لنَجَاةِ بعض؛ إذ ليست كلية، ولعل المصلحة في بقاء من القي دون من بقي.

واعلم أن الغزالي إنما اشترط القَطْع، للقطع بالقول بالمرسل - والحالة هذه - لا لترجيح القول به، بل هو يرجّح القول به وإن لم ينته إلى القطع، وقد قال في كثير من كتبه كـ"المُسْتَصْفى" و"شفاء العليل" وغيرهما، بأن الظن القريب من القطع نازل منزلةَ القطع، وهو الصواب، فلقد حكى أصحابنا في مسألة التترس وجهين من غير تصريح منهم باشتراط القَطْع، وعللوا وجه المنع بأن غاية الأمر أن نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا يُبَاح بالخوف، وهذا تصريح بِجَرَيانِ الخلاف في صورة الخوف، ولا قاطع فيه، فالمناسب في حالة القَطْعِ مجزوم باعتباره، وإنما الخلاف في حالة الخوف، فاعرف ذلك، ولنذكر أمثلة أقسام المناسب:

ص: 343

وَالْغَرِيبُ: كَالتَّعْلِيلِ بالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ لِغَرَضٍ فَاسِدِ فِي حَمْلِ الْبَاتِّ فِي الْمَرَضِ عَلَى الْقَاتِلِ فِي الْحُكْمِ بِالْمُعَارَضَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ؛ حَتَّى صَارَ تَوْرِيثُ الْمَبْتُوتَةِ كَحِرْمَانِ الْقَاتِلِ.

وَكَالتعْلِيلِ بِالاِسْكَارِ فِي حَمْلِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ؛ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ بِهِ.

"فالأول" وهو: تأثير عين الوصف في جنس الحُكْم "كالتعليل بالصّغر؛ في حمل النكاح على المال في الولاية" بجامع الصغر، "فإن عين الصّغيرة معتبر في جنس الولاية بالإِجماع"، فالوصف الصغير، وهو أمر واحد، والحكم الولاية، وهو جنس يجمع ولايتي النكاح والمَال اللذين هما نوعان من التصرف.

الشرح: "والثاني" وهو: اعتبار جنس الوَصْف في [عين]

(1)

الحكم، "كالتعليل بعذر الحَرَجِ في حمل الحضر بالمطر على السفر في "قولنا: يجمع بين الصَّلاتين بالمطر قياسًا على السفر، بجامع الحرج، فالحكم رُخْصة "الجمع" وهو واحد، والوصف: الحرج، وهو جنس يجمع الحاصل بالسَّفر والمطر وهما نوعان له، وقد اعتبر، "فإن جنس الحرج معتبر في [عين]

(2)

رُخْصَةِ الجمع.

والثالث" وهو: اعتبار جنس الوَصْفِ في جنس الحكم "كالتعليل بجناية القتل العَمْد العدوان، في حمل المُثَقّل على المُحَدّد في القصاص"، فالحكم مطلق القصاص، وهو جنس يجمع قصاص النفس والطرف، والوصف جناية العَمْد العدوان، وهو جنس يجمع الجِنَاية في النفس والطّرف والمال، وقد اعتبر؛ "فإن جنس الجناية معتبر في جنس القصاص، كالأطراف وغيرها"، فهذه أمثلة المناسب الملائم.

الشرح: "والغريب كالتعليل بالفعل المحرم لغرض فاسدٍ في حمل البَاتّ في المرض على القاتل في الحكم بالمُعَارضة بنقيض المقصود حتَّى صار توريث المَبْتُوتَةِ، كحرمان القاتل"، كما يقول المالكي، وهو قول قديم لنا: من بتّ طلاق امرأته فرارًا من أنها تَرِثُه،

(1)

في أ، ت: غير.

(2)

في أ، ت: غير.

ص: 344

وَالْمُرْسَلُ: الَّذِي ثَبَتَ إِلْغَاؤُهُ؛ كَإِيجَابِ شَهْرَيْنِ ابْتِدَاءً فِي الظِّهَارِ.

وتَثْبُتُ عِلِّيَّةُ‌

‌ الشَّبَهِ

بِجَمِيع الْمَسَالِكِ، وَفِي إِثْبَاتِهِ بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ نَظَرٌ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا تَثْبُتُ مُنَاسَبَتُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ، وَيَتَمَيَّزُ عَنِ الطَّرْدِيِّ بِأَنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ،

تورث منه قياسًا على القاتل، حيث عورض بنقيض مقصوده، وهو أن يرث؛ فحكم بعدم إِرثه، والجامع بينهما كونهما فعلًا محرمًا لغرض فاسد، وهذا له وجه مناسبة، وفي ترتيب الحكم عليه تحصيل مصلحة، وهو [نهيهما]

(1)

عن الفعل المحرم، لكن لم يشهد له أصل بالاعتبار، بنصّ أو إِجماع.

ومثاله على مذهبنا إثبات الشفعة للشريك مُعَاملة له بنقيض مقصوده، إِذ باع الأجنبي ولم يؤذن شريكه، فهذا مثال للغريب المرسل.

وأما الغريب غير المرسل، فقد أشار إِلى مثاله بقوله:"وكالتعليل بالإسكار"؛ لكونه مناسبًا "في حمل النَّبِيّذِ على الخمر على تقدير عدم النَّص بالتعليل"؛ أي: النص على أن الإِسكار علة، فإن الشّارع اعتبر عين الإسكار في عين التحريم على الإِسكار فقط؛ لأن التقدير عدم النَّص على عليته، ولم يثبت بنص أو إِجماع اعتبار عين الإِسكار في جنس تحريم الخمر، ولا عكسه، ولا جنسه في جنسه.

الشرح: "والمرسل: الَّذي ثبت إلغاءه كإيجاب شهرين ابتداء في "كَفّاة "الظِّهَار" على من يسهل عليه إِعتاق الرقبة في قضاء أربه، ولقد سفه ذوُو الأحلام والنُّهي من حملة الشريعة صنيع يحيى بن يحيى المَغْربي، حيث أفتى ملكًا جامع في نهار رمضان: بصيام شهرين متتابعين، معتذرًا بأنه لو أمره بالعِتْقِ، لاستحقره في قضاء شهوته، وقالوا: هذه مخالفة للنّص؛ فإن الشارع أوجب الإِعتاق أولًا، ولم يلتفت إلى ذلك.

الشرح: "وتثبت علية الشّبه بجميع المسالك" من الإِجماع، والنَّص، والسَّبر، والتقسيم، "وفي إثباته بتخريج المناط"، وهو المناسبة "نظر".

(1)

في أ، ت: نهيها.

ص: 345

وَعَنِ الْمُنَاسِبِ الذاتِيِّ بِأَنَّ مُنَاسَبَتَهُ عَقْلِيَّةٌ وَإنْ لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ؛ كَالإسْكَارِ فِي التَّحْرِيمِ.

مِثَالُهُ: طَهَارَةٌ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ، فَيَتَعَيَّنُ لها الْمَاءُ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، فَالْمُنَاسَبَةُ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، وَاعْتِبَارُهَا فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ وَالصَّلَاةِ مُوهِمٌ.

وَقَوْلُ الرَّادِّ لَهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا أَوْلا:

والحق: أنه لا يثبت؛ لأن المناسبة قسيم الشّبه، فكيف يثبت بها؟

"ومن ثم قيل" في تعريف الشبه: "هو الذي لا تثبت مناسبته إلا بدليل منفصل"، وهذا بخلاف المُنَاسبة، فإِن علتها ثابتة بالذات.

"ومنهم من قال: ما يوهم المُنَاسبة"، وليس بمناسب، وهو نسبة الوَصْف الطَّرْدي من حيث إِنه غير مناسب، ونسبة المناسب من حيث الْتِفات الشرع إليه، "ويتميز عن الطَّرْدي بأن وجوده كالعَدَم"، كما يقال في الخلّ: مائع لا تبنى القَنْطَرة على جنسه، فلا يزيل الخبث كالزيت، فإن ذلك مما أَلْغاء الشَّارع قطعًا، بخلاف الذُّكورة والأُنُوثة، فإنه اعتبر في بعض الأحكام.

"و" تميز "عن المناسب الذاتي بأن مناسبته عقليّة وإن لم يرد شرع، كالإِسكار في التحريم"؛ إذ العَقْل يدرك مناسبته له، بخلاف الشبه، وقد وضح لك بهذا أن الشبه منزلةٌ بين منزلتي المُنَاسبة والطردي، وهذا ما لا خلاف فيه، وإِن تكاثر التَّشَاجر في تعريف هذه المنزلة، ومع هذا لم أجد لأحد تعريفًا صحيحًا، وقد اعترف إمام الحرمين: بأنه لم تتحرّر فيه عبارة مستمرة في صناعة الحُدُود.

وما أحسن قول ابن السَّمْعاني: قياس المعنى تحقيق، والشّبه تقريب، والطرد تَحكّم.

ثم قال: قياس المعنى ما يناسب الحكم ويستدعيه، ويؤثر فيه، والطَّرد عكسه، والشبه: أن يكون لفرع بحادثة أَصْلان، فيلحق بأحدهما بنوع شبه مقرب؛ أي: يقرب الفَرْع من الأصل في الحكم المطلوب من غير تعرّض لبيان المعنى.

الشرح: "مثاله": قولنا في إزالة الخَبَث: "طهارة تُرَاد للصّلاة، فيتعين لها الماء كطهارة الحَدَثِ، فالمناسبة" بين كونها طَهَارة تراد للصَّلاة وتعين الماء "غير طهارة، واعتبارها في مسّ المصحف والصلاة موهم" للمناسبة.

ص: 346

وَالأَوَّلُ: مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ بِهِ.

وَالثَّانِي: طُرِدَ: فَيُلْغَى.

أُجِيبَ: مُنَاسِبٌ، وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ الْمُنَاسِبُ لِذَاتِهِ، أَوْلَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا.

"وقول الرَّاد له: إما أن يكون مناسبًا أولا، والأول مجمع عليه"؛ أي: على القول به "والثاني: طرد، فيلغى".

"أجيب" بأنه: "مُنَاسب" بالتّبع، لا بالذَّات، "والمجمع عليه المناسب لذاته" وأجيب: بخطّ المصنّف من غير "و"، فهي خبر قوله:"وقول الرَّاد له".

قال: "أولا واحد منهما" أي: سلمنا أنه غير مناسب، ولكن لا يلزم أن يكون طردًا؛ لأن بين المناسب والطَّرد واسطة، وهي هو، ويتميز عن كل منهما بما ذكرناه.

واعلم أنّ الناس اختلفوا في قياس الشبه

(1)

بعد إِجماعهم على أنه لا يُصَار إِليه مع إِمكان قياس العلّة، فظاهر مذهب الشافعي قبوله.

قال ابن السَّمعاني: وقد أشار إلى الاحتجاج به في مواضع من كتبه، وأقرب شيء في ذلك قوله في إِيجاب النِّية في الوضوء: كالتيمم طَهَارتان، فكيف يفترقان؟ وتابعه على ذلك أكثر الأصحاب.

ورده القاضي أبو بكر، والصَّيْرفي، وأبو إِسحاق المَرْوَزِيّ، وأبو إِسحاق الشيرازي من أصحابنا، وأبو زيد الدّبوسي، وغيره من الحنفية.

ونازع القاضي أبو بكر والشَّيخ أبو إِسحاق في صحّة القول بقياس الشّبه عن الشافعي،

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 229، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 159، وإحكام الآمدي 3/ 271، ونهاية السول للإسنوي 4/ 105، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 88 وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 125، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 201، والمنخول للغزالي 378، والمستصفى له 2/ 301، وحاشية البناني 2/ 286، والإبهاج لابن السبكي 3/ 66، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 103، وحاشية العطار 2/ 331، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 298، وأعلام الموقعين لابن القيم 1/ 115، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 53، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 864، وتقريب الوصول لابن جزي 139، وإرشاد الفحول للشوكاني 219.

ص: 347

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال الشيخ أبو إِسحاق: إِنما أراد ترجيح إِحدى العلّتين في الفرع بكثرة الشبه.

ثم اختلف القائلون بقياس الشَّبه، فمنهم من اعتبره مطلقًا، ومنهم من شرط في اعتباره [إرهاق]

(1)

الضرورة إلى الحكم في واقعة لا يوجد فيها إِلَّا الوصف الشبهي، ومنهم من شرط في اعتباره أن يجتذب الفَرْع أصلان، فيلحق بأحدهما بِغَلبةِ الأشباه، ويسمونه - والحالة هذه - قياس غلبة الأشباه، وهذا ما يدلّ عليه نص الشافعي، وقد حكيت نصه في "شرح المنهاج".

ومنهم من يعتبر الأَشْبَاه الحكمية، ثم الراجعة إِلى الصفة.

ومنهم من يسوي بينهما.

ومنهم من قال: إِنما يعتبر شبه الأحكام فقط دون شبه الصورة، كرد وَطْء الشبهة إِلى النكاح في سقوط الحدّ، ووجوب المهر؛ لشبهه بالوَطْء في النكاح في الأحكام، ونقله ابن السَّمْعَاني عن أصحابنا، ونقله غيره عن الشافعي نفسه.

ومنهم من اعتبر شبه الصورة - أيضًا - كقياسنا الخَيْل على البِغَال والحَمِيرِ في سقوط الزَّكَاة، وقياسهم في حُرْمة اللحم.

وقال الإِمام في "المحصول": المعتبر حصول المُشَابهة فيما يظن أنه مستلزم لعلّة الحكم، أو علّة للحكم، سواء أكانت المُشَابهة في الصورة أو المعنى.

[قال أبو إسحاق المروزي]

(2)

في "أصوله": إنا لا نعني بـ "قياس الشّبه" أن يشبه الشيء بالشَّيء من وجه أو أكثر؛ لأنَّهُ ليس في العالم شيء إلا وهو يشبه شيئًا آخر من وجه أو أكثر من وجه، لكن نعني: أنه لا يوجد شيء أشبه به منه، فلا يوجد شيء أشبه من الوضوء بالتيمُّم، فيلحق به.

ولقد أكثر الأَصْحَاب في الاحتجاج لقياس الشَّبه، وأصح ما ذكروه مَسْلَكَان:

أحدهما: أن قياس المعنى إنما صير إليه؛ لإِفادته الظن، فكل ما أثار ظنًّا يلحق به، وقياس الشبه يفيد الظَّن، وقضوا على من أنكر ذلك بالعناد.

(1)

في ت: إنزهاق.

(2)

في أ، ت: قال القاضي أبو حامد المروزي.

ص: 348

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واعترض ابن الأَنْبَاري

(1)

أولًا: بأنه قياس في الأُصُول، فلا يسمع.

وثانيًا: بمنع إِثارة الظَّنِّ، ودعوى العناد لا تنهض حجة.

والثاني: أنه لو لم تَخلُ واقعة عن حكم، قالوا: ومن مارس مسائل الفِقْهِ، وترقى عن رتبة الثَّنَائي فيها، علم أنَّ المعنى [المخيل]

(2)

لا يعم المسائل، وكثير من أصول الشرع تخلو عن المعاني، خصوصًا في العبادات وهيئاتها، والسِّيَاسات ومقاديرها، وشرائط المُنَاكحات والمعاملات.

قال إِمام الحرمين: بل لو قلت: لا يطرد على الأخالة عُشر المَسَائل، لم تكن مجازفًا.

وإذا لم يعم المسائل احتجنا إلى قياس الشبه، ولا يلزمنا الطرد؛ لأنا في غُنْيَةٍ عنه، إذ هو منسحب على جميع الحوادث، "فلم يكن من داعٍ إلى الطرود، فوضح أن القول بالشبه في محلّ الضرورة، ولولا الضَّرورات لما شرع أصل القياس، وهذا واضح؛ فإِن القياس إِنما شرع لعدم وفاء النصوص بالحادثات.

وقال ابن السَّمْعَاني في آخر قياس الشّبه: الأول بذل الجهد في طلب المعنى، وزعم أنّ باذل الجهد فيه نجده لا في أفراد من المسائل وردت بها نصوص، وأجمعت الأمة على تقربها من المعاني، قال: فأما عامة الأَحْكَام، فالشارع الحكيم لم يخلها من المعاني المؤثرة في تلك الأحكام، فإن أعوز المجتهد وجود المعنى، فحينئذٍ يرجع إلى الشّبه.

قلت: وهذا لا نزاع فيه؛ إِذ لم يقل أحد بالشّبه إِلَّا عند تعذُّر قياس المعنى، وهذا في الحقيقة قول من قال: إنما يرجع إلى الشبه عند إرهاق الضرورة، والله أعلم.

(1)

عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد، كمال الدين، أبو البركات، ابن الأنباري، النحوي، ولد في ربيع الآخَر سنة 513 هـ. تفقه بـ"بغداد" بالنظامية على أبي منصور بن الرزاز، وأخذ العربية، واللغة عن الجوالياقي، وبرع حتَّى صار شيخ العراق. من تصانيفه:"الانتصار" و"أخبار النحاة" و"الجمل في علم الجدل" و"ديوان اللغة" وغيرها. توفي في شعبان سنة 577 هـ. ينظر: الأعلام 4/ 104، ووفيات الأعيان 2/ 320، وفوات الوفيات 1/ 262 وطبقات السبكي 4/ 248، وابن قاضي شهبة 2/ 10، والبداية والنهاية 12/ 310.

(2)

في أ، ت: المختل.

ص: 349

‌الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ

ثَالِثُهَا: لَا يُفِيدُ بِمُجَرَّدِهِ قَطْعًا وَلَا ظَنًّا.

الشرح: ويسمى: "الدّوران"

(1)

وهو أن يوجد الحكم عند وجود وصف، وينعدم عند عدمه، وفيه مذاهب:

أحدها: أنه يفيد القَطْع بالعلّية.

وربما قيل: لا دليل فوقه.

وثانيها - وعليه الأكثرون، منهم الإِمام وأتباعه: أنه يفيد الظن، ولقد شغف به أصحابنا العراقيون، وكان القاضي أبو الطيب يدعي فيه القطع.

وأنا أقول: لعلّ من ادعى القَطْع فيه ممن يشترط ظهور المُنَاسبة في قياس العِلَلِ مطلقًا، ولا يكتفي بالسَّبر، ولا الدوران بمجرده، وعلى ذلك جمهور أصحابنا، فإِذا انضم الدوران إِلى المناسبة، رقي بهذه الزيادة إِلى اليقين، وإلا فأي وجه لتخيل القطع في مجرّد الدّوران؟

و"ثالثها": هو اختيار ابن السَّمْعاني، والغزالي، والآمدي، والمصنف - "لا يفيد

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 43 وسلاسل الذهب للزركشي 387، ونهاية السول للإسنوي 4/ 117، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 88، 91، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 126، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 203، والإبهاج لابن السبكي 3/ 72، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 111، وحاشية العطار 2/ 33 وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 49، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 216، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 85 وتقريب الوصول لابن جزي 140، وإرشاد الفحول للشوكاني 221.

ص: 350

لَنَا: أَنَّ الْوَصْفَ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ، إِذَا خَلَا عَنِ السَّبْرِ أَوْ عَنْ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ غَيْرِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - جَازَ أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِلْعِلَّةِ؛ كَرَائِحَةِ الْمُسْكِرِ؛ فَلَا قَطْعَ، وَلَا ظَنَّ.

وَاسْتَدَلَّ الْغَزَالِيُّ رحمه الله بأَنَّ الاِطِّرَادَ سَلَامتُهُ مِنَ النَّقْضِ، وَسَلَامَتُهُ مِنْ

بمجرده ظنًّا ولا قطعًا"، والمعنى: لا يفيد ظن العلّية ولا القطع بها، لا أنه لا يفيد الحكم، بل قد يثبت الحكم بالدَّوران، بل وبالطَّرد وحده، كما سيأتي في كلام المصنّف في أول الاستدلال في التلازم بين ثبوتين أنه يثبت بالطرد، ويقوي بالعكس.

الشرح: "لنا: أن الوصف المتّصف بذلك" إِنما يكون مجردًا "إذا خلا عن السَّبر"، وهو أخذ غيره معه وإبطاله، "أو عن أن الأصل عدم غيره، أو غير ذلك" من مناسبة أو شبه، وإذا خلا عن ذلك، فكما يجوز كونه علّة، "جاز أن يكون ملازمًا للعلة، كرائحة المسكر" المخصوصة، فإنها دائرة معه وجودًا وعدمًا، وليست علة، ومع قيام هذا الاحتمال، "فلا قطع، ولا ظن" يحصل، ويكون الحكم بالعلّية فيه تحكمًا، وإن التفت إِلى السبر أو غيره، فليس ذلك من محل النِّزَاع؛ إِذ النزاع في الدّوران المجرد، وهذا ذكره القاضي في "التقريب"، إِلَّا أنه لم يقل: إِنه يمتنع الظن بأن الدّوران علة.

والحق: أنه يمنع القطع دون الظن، وهذا احتمال مرجوحٌ، والقول باحتياجه في إفادته الظن [إِلى]

(1)

السبر وغيره.

وقال الشيخ الهِنْدِي: إِنه لو تم لقدح في أكثر الأدلّة، كالمناسبة وغيرها؛ لأن المستدلّ إذا أبدي مناسبة وصف، يقول الخصم: إنما يعمل به لو سلم عن المُعَارض، ولا سبيل إِلى دَفْع ذلك إِلَّا بالأصل، أو السَّبر والتقسيم، ويلزم من ذلك الانتقال من تلك الطريقة إِلى غيرها.

الشرح: "واستدلّ الغزالي"، كما حكاه المصنف تبعًا للآمدي، "بأن الاطِّرَاد سلامته من النَّقْض" الذي هو أحد مفسدات العلّة، "وسلامته عن مفسد واحدٍ لا توجب انتفاء كل مفسد"، فربما لم يسلم عن مفسد آخر، "ولو سلم" سلامته عن كلّ مفسدة "فلا صحّة إِلَّا

(1)

في ت: في.

ص: 351

مُفْسِدٍ وَاحِدٍ لَا تُوجِبُ انْتِفاءَ كُلِّ مُفْسِدٍ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا صِحَّةَ إِلَّا بِمُصَحِّحٍ، وَالْعَكْسُ لَيْسَ شَرْطًا فِيها؛ فَلَا يُؤَثِّرُ.

وَأُجِيبَ: قَدْ يَكُونُ لِلاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ؛ كَأَجْزَاءِ الْعِلَّةِ.

وَاسْتُدِلَّ: بِأَنَّ الدَّورَانَ فِي الْمُتَضَايِفَيْنِ؛ وَلَا عِلَّةَ.

بمصحّح"، وهذا كما لو سلمت شَهَادة المَجْهُول عن قادح، لا يدلّ على كونها حجّةً، ما لم تَقُمْ بَيّنة التزكية.

ومن قال: دليل صحّتها انتفاء المُفْسد، يعارض بأن دليل فسادها انتفاء المصحّح، "والعكس ليس شرطًا فيها"؛ لما تقدم من أنه لا يشترط في العقة الانعكاس، "فلا يؤثر".

واعلم أنَّ ذكر الدليل على هذا الوجه - أعني: أنّ الاطراد السلامة عن مفسد آخر - لم أره لِلْغَزَالي ولا لغيره ممن تقدّمه، وإنما ذكره الغزالي ردًّا على من قال: إِن سلامة العلّة عن مفسد دليل صحّتها، ثم لما ذكر الدَّوَرَان استدلّ على فساده بجواز كونه ملازمًا، كما استدلّ المصنّف، نعم وزاد فقال: وهذا لأن الوجود عند الوجود طردٌ مَحْض، وزيادة العكس لا تؤثر؛ لأن العكس ليس بشرط انتهى.

وهذه الزيادة دليل مستقلّ على فساد الدّوَرَان، ذكره القاضي أبو بكر وغيره ممن تقدم الغزالي.

وقال إِمام الحرمين: إِنه من التَّشَدُّق [والتَّفَيْهُق]

(1)

الذي يستدل به من لا يعد من الرَّاسخين.

وأجاب عنه: بأن المجموع يغلب على الظّن، قال: وإن زعم أنه لا يغلب انتسب إلى العناد.

الشرح: وإلى الجواب أشار المصنّف بقوله: "وأجيب: قد يكون للاجتماع تأثير كأجزاء العلة.

(1)

في أ، ت: التفهيق.

ص: 352

وَأُجِيبَ: انْتَفَتْ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ مَانِعٍ.

قَالُوا: إِذَا حَصَلَ الدَّوَرَانُ وَلَا مَانِعَ مِنَ الْعِلَّةِ - حَصَلَ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ عَادَةَ؛ كَمَا [لَوْ] دُعِيَ إِنْسَانٌ بِاسْمٍ، فَغَضِبَ، ثُمَّ تُرِكَ، فَلَمْ يَغْضَبْ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ - عُلِمَ أَنَّهُ سَبَبُ الْغَضَبِ حَتَّى أَنَّ الأَطْفَالَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ.

قُلْنَا: لَوْلَا ظُهُورُ انْتِفَاء غَيْرِ ذَلِكَ بِبَحْثٍ أَوْ بأَنَّهُ الْأَصْلُ - لَمْ يُظَنَّ، وَهُوَ طَرِيقٌ مُسْتقِلٌ، وَيَقْوَي بِذَلِكَ.

واستدلّ" - أيضًا - "بأن الدَّوران" موجود "في المُتَضَايفين" كالأبُوّة والبنوة، فإِنه كلما تحقق أحدهما تحقق الآخَر، وكلما انتفى انتفى، "ولا علة".

"وأجيب": بأنَّ الدوران إِنما يفيد العلّية بشرط عدم المانع، وفي المُتَضَايفين "انتفت" العلية "بدليل خاص مانع"، وهو كون كل منهما مع الآخَر.

"قالوا: إِذا حصل الدوران ولا مانع من العلّة، حصل العلم أو الظَّن عادة، كما لو دعي إِنسان باسم، فغضب، ثم ترك، فلم يغضب، وتكرر ذلك، علم أنه سبب الغضب، حتَّى أن الأطفال يعلمون ذلك"، ويتبعونه في الدُّرُوب قصدون إغْضَابه، فيدعونه، ولولا أنه ضروري لما [يتأتي]

(1)

للأطفال.

الشرح: "قلنا: لولا ظهور انتفاء غير ذلك ببحث" أي: بأن يكونوا بحثوا عما سِوى ذلك فلم يجدوا، "أو بأنه الأَصْل"؛ أي: الأصل عدم غيره، "لم يظن، وهو طريق مستقل" من غير احتياج إِلى الدوران "و" إن كان "يقوي بذلك"، وأما حصول العلم أو الظَّن بمجرد الدَّوَرَان فلا، ولا يلزم من إِفادة الشيء تقوية الظَّن الحاصل بغيره إِفادته ظنًّا بمجرده، ولك أن تقول: من أنكر حصول الظَّن منه مع تجرّده، قرب من العِنَادِ، والأطفال يقطعون بما ذكرناه، من غير استدلال بالسَّير ولا غيره.

واعلم أن المصنّف لما قرر أن الدَّورَان لا يفيد، لم يحتج أن يذكر أنّ الاطِّراد بمجرده لا يفيد؛ لأنَّهُ إذا لم يفد الدَّوران، مع أنه طرد وزيادة، فبطريق أوْلى لا يفيد الطَّرد بمجرده.

وقد قال بعضهم بإِفادة الظن بمجرده، وهو ظن.

(1)

في أ، ت: يأتي.

ص: 353

‌أَقْسَامُ القِيَاسِ

وَالْقِيَاسُ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ: فَالْجَلِيُّ مَا قُطِعَ بِنَفْي الْفَارِقِ فِيهِ كَالأمَةِ وَالْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ.

وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِيَاسِ عِلَّةٍ، وَقِيَاسِ دَلَالَةٍ، وَقِيَاسٍ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ:

فَالْأَوَّلُ: مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالْعِلَّةِ.

الشرح: "وينقسم" باعتبار العلّة "إلى قياس علّة

(1)

، وقياس دلالة، وقياس في معنى قطع بنفي الفارق فيه، كالأمة والعبد في العِتْق" في التقويم على معتق الشِّقْص ونحوه، فإنا نقطع بعدم اعتبار الشَّارع الذكورة والأُنُوثة فيه، ونقطع أَنْ لا فارق سوى ذلك

(2)

.

ومن الجَلِيّ - أيضًا - عند أصحابنا: ما كان احتمال الفَارِقِ فيه احتمالًا ضعيفًا بعيدًا كل البعد، كإِلحاق العَمْيَاء بالعَوْرَاءِ في حديث المنع من التضحية بالعَوْرَاءِ.

والخَفِيّ بخلافه، ومن أصحابنا من يقول: هو جَلِيّ، وواضح، وخفي، فالجَلِيّ: الأول، والخفي: قياس الشبه، والواضح: ما بينهما، وهذه أمور اصطلاحية.

الشرح: "وينقسم" باعتبار العلّة "إلى قياس علّة، وقياس دلالة، وقياس في معنى الأصل"؛ لأنَّهُ إِما أن يكون بذكر الجَامِعِ، أو بإلغاء الفارق، إن كان بذكر الجامع، فذلك الجامع إن كان هو العلّة، فهو قياس العلة، وإليه أشار بقوله:"فالأول: ما صرح فيه بالعلّة، والثاني" أي: قياس الدّلالة: "ما يجمع فيه بما يُلَازمها، كما لو جمع بأحد مُوجبي العلّة في

(1)

ينظر: الإحكام للآمدي 4/ 3، والمحصول (2/ 2/ 173)، وإرشاد الفحول (222)، وجمع الجوامع 2/ 338 وفواتح الرحموت 2/ 320.

(2)

ينظر: المصادر السابقة.

ص: 354

وَالثَّاني: مَا يُجْمَعُ فِيهِ بِمَا يُلَازِمُهَا؛ كَمَا لَوْ جُمعَ بِأَحَدِ مُوجِبَيِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ؛ [لِمُلَازَمَةِ الآخَرِ لَهُ]؛ كَقِيَاسِ قَطْعِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ عَلَى قَتْلِهَا بِالْوَاحِدِ بِوَاسِطَةِ الاِشْتِرَاكِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ.

وَالْثَّالِثُ: الْجَمْعُ بِنَفْي الْفَارِقِ.

الأصل لمُلَازمة الآخَر، كقياس قطع الجَمَاعة بالواحد على قَتْلها بالواحد، بواسطة الاشْتِرَاك في وجوب الدِّيَةِ عليهم"، فإن الجامع الذي هو وجوب الدِّيَةِ على الجماعة يلازم العلّة في الأصل، وهي القَتْل العَمْد العدوان.

وموجبه الآخَر وجوب القِصَاصِ، فقد جمع بينهما بأحد موجبي العلّة الذي هو وجوب الدِّيَة؛ ليستدلّ به على موجبها الآخَر، وهو وجوب القصاص عليهم.

واعلم أن الأولى أن يمثل للجمع بما يلازم العلّة، بقياس النَّبِيذِ على الخمر، بجامع الرائحة الملازمة، وللجمع بأثر من آثارها، بقولنا في المُثَقِّل: قتل أثِمَ به صاحبه من حيث كونه قتلًا، فأوجب القصاص كالجَارحِ، وللجمع بحكم من أحكامها، كمسألة قطع الأيدي باليد الوَاحِدَةِ التي ذكرها المصنّف؛ فإن وجوب الدِّيَةِ على المباشر، لا نفس العلّة الموجبة للقصاص، ولا لازمها، بل من أَحْكامها، وكأن المصنف أطلق اللازم - هنا - على ما هو أعم من اللَّازم الحقيقي، والأثر والحكم، ومما يوضّح لك عدم اللُّزوم الحقيقي: أنك تجد صورًا يُنْبِيكَ الفقيه عن إِيجاب القصاص فيها دون الدِّيَةِ، كما إِذا وجب على شخص القِصَاص، فقطع المستحق أطرافه، فإنه ليس له بعد ذلك إِلَّا القتل دون الدِّيَةِ، وكما إِذا قتل الذمي مرتدًّا.

وأيضًا فموجب القَتْلِ العَمْد القصاص عينًا لأحد الأمرين منه أو الدِّية على المذهب الصحيح، فليست الدِّية موجبة، وإنما هي تدلّ على موجبه.

وأما وجوب الدِّيَة حيث لا قِصَاصَ، فكثير شهير.

وإن كان بإِلغاء الفارق، فهو القِيَاسُ في معنى الأصل، ويسمى "تنقيح المَنَاط"، وإليه أشار بقوله:"والثالث: الجمع بنفي الفارق".

ص: 355

يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ؛ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ وَالنَّظَّامِ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَقَالَ الْقَفَّال، وَأَبُو الْحُسَيْنِ: يَجِبُ عَقْلًا.

لَنَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَمْ يَقَعْ، وَسَيَأْتِي.

قَالُوا: الْعَقْلُ يَمْنَعُ مِمَّا لا يُؤْمَنُ فِيهِ الْخَطَأُ.

وَرُدَّ بِأَنَّ مَنْعَهُ هُنَا لَيْسَ إِحَالَةً، وَلَوْ سُلِّمَ فَإِذَا ظَنَّ الْصَّوَابَ لَا يَمْنَعُ.

قَالُوا: قَدْ عُلِمَ الأَمْرُ بِمُخَالَفَةِ الظَّنِّ؛ كَالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَالْعَبِيدِ، وَرَضِيعَةٍ فِي عَشْرِ أَجْنَبِيَّاتٍ.

قُلْنَا: بَلْ قَدْ عُلِمَ خِلَافُهُ؛ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَالشَّهَادَاتِ، وَغَيْرِهَا، وَإنَّمَا مُنِعَ لِمَانِعٍ خَاصٍّ.

الشرح: "يجوز التعبُّد بالقياس

(1)

؛ خلافًا للشيعة والنظام، وبعض المعتزلة.

وقال القفال، وأبو الحسين: يجب عقلًا

(2)

.

(1)

فمعناه التكليف به، وهل المراد إيجابه أو إيجاب العمل بمقتضاه؟ جري الآمدي وأكثر شراح المختصر على أن المراد به إيجاب الشارع نفس القياس، ويلاحظ أن المراد بالقياس هنا "إثبات الحكم في الفرع" لا "المساواة في العلة" لأن التكليف إنما يكون بفعل المكلف، وعلى هذا فالمتعبد بالقياس هو المجتهد فقط، والذي وقع التعبد به هو القياس بمعنى "الإثبات". وجرى العضد في شرح المختصر على أن المراد به إيجاب العمل بمقتضى القياس "وهو حكم الفرع الذي ثبت به". فالمتعبد بالقياس على هذا هو جميع المكلفين لا خصوص المجتهد، والذي وقع التعبد به هو العمل بمقتضى القياس، "فإن قلت": إن مقتضاه قد يكون الندب أو الكراهة أو الإباحة، فكيف يكون العمل به واجبًا على الإطلاق؟ "قلنا: المراد بإيجاب العمل بمقتضى القياس "إيجاب اعتقاد مقتضاه"، سواء أكان ذلك المقتضي وجوبًا أم غيره.

(2)

بمعنى أن الدليل العقلي المحض دل على أنه أمر ثابت لا يتصور انتفاؤه. وإلى هذا ذهب أبو الحسين البصري المعتزلي والقفال الشاشي الشافعي كما حكى المصنف رحمه الله.

وهذا المذهب مبني على القول بوجوب فعل الصلاح والأصلح على الله تعالى، وبناؤه على هذا القول ظاهر بالنسبة لأبي الحسين، لأنَّهُ معتزلي، وأما بالنظر للقفال وهو من فقهاء أهل السنة فوجهه أنه كان قائلًا بالاعتزال في أول أمره ثم رجع إلى مذهب الأشعري كما قال ابن السبكي =

ص: 356

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لنا: القطع بالجواز"؛ إِذ لا يلزم من فرض وقوعه محال

(1)

، وأنه لو لم يَجُزْ لم يقع، وسيأتي" أنه وقع

(2)

.

"قالوا: العقل يمنع مما لا يؤمن فيه الخَطَأ"، والقياس لا يؤمن فيه ذلك، فيكون ممنوعًا عقلًا.

"ورد: بأن منعه هنا ليس إِحالة"، أي: منع العَقْل مما لا يؤمن فيه الخَطَأ ليس إِحالة لذلك، بل غايته تَرْجيح التَّرك عليهم، وأنتم ادّعيتم الإِحالة، فدليلكم غير مُلَاقٍ محل النزاع، ثم إِن مثله لا يمتنع التعبُّد به شرعًا.

"ولو سلم" أن منعه عنه إِحالة لذلك في الجملة، فلا نسلّم أن منعه ثابت في جميع الصور، بل هو مختصّ بما لا يغلب فيه جانب الصّواب.

= في الطبقات نقلًا عن الحافظ ابن عساكر.

فعلم من هذا أن ما يحكى عن الإمام القفال في الأصول من المذاهب التي لا تصح إلا على قواعد المعتزلة إنما ذهب إليها حينما كان على مذهبهم، وأنه لما رجع عنه لا بد أن يكون قد رجع عنها.

"الثالث": أي أن التعبد بالقياس ممتنع عقلًا في شريعتنا خاصة، وإليه ذهب النظام من المعتزلة. أو في جميع الشرائع، وإليه ذهب الشيعة الإمامية وجماعة من معتزلة بغداد وجماعة من الخوارج. ومعنى الامتناع عقلًا عند الفريقين أن الدليل العقلي المحض يدل على استحالته أي كونه أمرًا منتفيًا لا يتصور ثبوته.

وقد عبر بالاستحالة كثير من العلماء كالغزالي والبيضاوي وغيرهما. وعبر ابن السبكي في جمع الجوامع بقوله: "ومنعه قوم عقلًا" وفسره محشيه البناني بقوله: "أي عدوه محالًا لا يتصور وقوعه" اهـ لكن الشيخ الشربيني في تقريره فسر الامتناع عقلًا بالقطع بأن الشارع لا يجعله دليلًا حيث قال: "وليس المراد أنه مما لا يتصور وقوعه" اهـ. ينظر: المحصول 2/ 2/ 29.

(1)

لأنَّهُ لو فرض أن الشارع قال: إذا وجدت أيها المجتهد محلًا مشاركًا لآخر في علة حكمه، فأثبت فيه حكمه أو لا تثبته بذلك، لم يلزم من كلا الفرضين محال لا لنفسه ولا لغيره بالضرورة. ولا يرتاب أحد في أنه ما لا يلزم من وقوعه ولا عدم وقوعه محال أنه جائز عقلًا، وبهذا يعلم أن التعبد بالقياس جائز عقلًا لا مستحيل، ولا واجب.

(2)

"أما الأولى" فلأن الممتنع ما لا يتصور في العقل وجوده فلا يقع "وأما الثانية" فللأدلة الدالة على الوقوع من الكتاب والسنة وإجماع بعض الصحابة مع موافقة الباقين، فهو إذًا غير ممتنع عقلًا؛ فيكون جائزًا.

ص: 357

النَّظَّامُ: إِذَا ثَبَتَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ؛ كَإِيجَابِ الْغُسْلِ وَغَيْرِهِ بِالْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ، وَغَسْلِ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ، وَنَضْحِ بَوْلِ الصَّبِيِّ، وَقَطْعِ سَارِقِ الْقَلِيلِ دُونَ غَاصِبِ الْكَثيرِ، والْجَلْدِ بِنِسْبَةِ الزِّنَا دُونَ نِسْبَةِ الْكُفْرِ، وَالْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ دُونَ الزِّنَا، وَكَعِدَّتَي الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ، وَالْجَمْع بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ؛ كَقَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا أَوْ خَطَأَ، وَالرِّدّةِ وَالزِّنَا، وَالْقَاتِلِ، وَالْوَاطِئِ فِي الَصَّوْمِ، وَالْمُظَاهِرِ فِي الْكَفَّارَةِ - اسْتَحَالَ تَعَبُّدُهُ بِالْقِيَاسِ.

وأما إِذا كان الصواب راجحًا فلا يمنع، وإليه أشار بقوله:"فإذا ظن الصواب لا يمنع"، فالعَقْل يقضي بالعمل عند ظنّ الصواب، وإن أمكن الخطأ، وإلا لتعطّلت أكثر المَصَالح؛ فإن الجزم متعذّر في الأكثر.

"قالوا: قد علم الأمر بِمُخَالفة الظَّن، كالشَّاهد الواحد، والعَبِيد، ورضيعة" اختلطت، واشتبهت "في عشر أجنبيات"، حيث يحرم مع قيام الظَّن بصدق العدل الواحد، والعبيد الأَتْقِيَاءِ، وأن المنكوحة غير الرَّضِيعَةِ، وكذلك ما لا يُحْصَى في الشريعة من ظنون لا تعتبر.

"قلنا: بل علم خلافه، كخبر الوَاحِدِ، وظاهر الكتاب، والشهادات وغيرها"، كحكم القاضي، وفتوى المُفْتِي، واجتهاد المجتهد في المَاءِ، والثوب، والقِبْلَةِ، وقِيَمِ المُتْلَفَاتِ، وما لا يُحْصَر، بحيث لا يشكّ البادئ في الفقه أنّ الصور التي يترك فيها العمل بالظَّن قليلة جدًّا بالنسبة إِلى الصور المعمول بالظَّن فيها "وإنما منع" من العمل بالظَّن فيها، "لمانع خاص".

وفي قوله: "لمانع"، إشارة إِلى أن الأصل العمل بالظُّنون في الفروع، وخالف قوم في ذلك، وتظهر فائدة الخلاف في مكان يشكّ هل يكتفي فيه بالظن؟.

فمن يقول: الأصل العمل بالظَّن، يكتفي فيه، جريًا على الأصل، ومن يمنع، يتوقّف.

الشرح: واحتجّ: "النظام" بأنه: "إِذا ثبت ورود الشَّرْع بالفرق بين المتماثلات، كإِيجاب الغُسْل وغيره"، كالمنع من قراءة القرآن "بالمَنِيّ دون البَوْلِ، وغسل بول الصَّبية، ونَضْح بول الصبي، وقطع سارق القَلِيل دون غَاصِب الكثير، والجَلْد بنسبة الزنا دون نسبة الكُفْر، والقَتْل بشاهدين دون الزِّنَا، وكعِدَّتي الموت والطلاق"، فالأولى بالأشهر، والثانية بالأَقْرَاء لذات الأَقْرَاء.

ص: 358

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"والجمع بين المختلفات، كَقَتْلِ الصيد"، فإنه لا يفترق فيه الحال بين أن يكون "عمدًا أو خطأ، والردة والزنا"، إِذا كان بعد الإحصان في القَتْل، "والقاتل، والواطئ في الصوم، والمُظَاهر" من امرأته "في"إيجاب "الكَفَّارة" عليهم"استحال تعبُّده بالقياس"؛ لأن القياس إِلحاق النظير، وهو ضدّ ذلك، فأنى يجتمعان

(1)

؟.

(1)

إليك توضيح ذلك فنقول:

1 -

أنه فرض الغسل من المني، وأبطل الصوم بإنزاله عمدًا "دون البول" مع استوائهما في الخروج من السبيلين.

2 -

أنه أوجب الغسل من بول الصبية "دون بول الصبي" إذا اكتفى فيه بالنضح مع تساويهما في النجاسة والاستقذار.

3 -

أنه رخص في قصر صلاة المسافر الرباعية "دون الثنائية والثلاثية" مع استواء الكل في الحقيقة؛ إذ كل منها صلاة مفروضة في السفر.

4 -

أنه أوجب على الحائض قضاء الصوم "دون الصلاة" مع استوائهما في الفرضية.

5 -

أنه حرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا كانت حرة، وجوزه إلى الشابة البارعة الجمال إذا كانت أمة" مع استوائهما في الأنوثة، بل مع كون النظر إلى الأمة المذكورة أقرب إلى الفتنة.

6 -

أنه أوجب قطع سارق ربع دينار "دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاصبها" مع استواء الكل في أخذ المال ظلمًا، بل هؤلاء أشد ظلمًا كما هو ظاهر.

7 -

أنه جعل دية اليد خمسمائة دينار أو خمسين من الإبل "مع أنه قطعها في ربع دينار" ففرق بين اليدين في القيمة مع استوائهما في النفع.

8 -

أنه أوجب حد الفرية وهو ثمانون جلدة على من قذف غيره بالزنا "دون من قذفه بالكفر" وهما مستويان في الإيذاء، بل الثاني شر من الأول.

9 -

أنه اكتفى في ثبوت الفتل والكفر بشاهدين "دون ثبوت الزنا" مع استواء الكل في الجناية، بل الزنا دونهما.

10 -

أنه فرق في العدة "بين الموت والطلاق" مع استواء الرحم فيهما.

11 -

أنه أباح للرجل أن يتزوج أربعًا "ولم يبح للمرأة إلا التزوج برجل واحد" مع وجود الشهوة وقوة الداعي من الجانبين.

12 -

أنه جوز للرجل أن يستمتع من أمته بالوطء وغيره "ولم يجوز للمرأة أن تستمتع من عبدها بوطء ولا بغيره" مع استوائهما في ملك اليمين.

13 -

أنه أوجب الزكاة في خمس من الإبل "وأسقطها من عدة آلاف من الخيل" مع استواء الصنفين في النفع. =

ص: 359

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 14 - أنه قطع يد السارق "ولم يقطع لسان القاذف ولا فرج الزاني" مع أن كلًا منها آلة للمعصية.

15 -

أنه أوجب على الرقيق "نصف حد الحر" مع أن حاجته إلى الزجر عن المحرمات كحاجة الحر.

16 -

أنه أوجب على من نذر الطاعة أن يفي بها "وجوز لمن حلف على فعلها أن يتركها ويكفر عن يمينه" مع أن كلًّا منها قد التزم فعلها لله تعالى.

17 -

أنه حرم صوم أول يوم من شوال "وفرض صوم آخر يوم من رمضان" مع تساوي اليومين في أن كلًّا منهما زمان.

18 -

أنه فضل بعض الأزمنة والأمكنة على بعض مع استوائها في الحقيقة؛ ففضل ليلة القدر ويوم عرفة على غيرهما مع استواء الجميع في كونه زمانًا، وفضل مكة والمدينة وبيت المقدس على سائر الأمكنة مع استواء الجميع في كونه مكانًا.

وأمّا النوع الثاني، وهو ما جمع فيه بين المختلفات فمن صوره:

1 -

أنه جمع بين الخطأ والعمد "في ضمان الأموال" مع اختلافهما في التعدي.

2 -

أنه جمع بين العاقل والمجنون، والطفل والبالغ "في وجوب الزكاة" مع اختلافهم بالتكليف وعدمه.

3 -

أنه جمع بين الماء والتراب "في جواز التطهر بكل منهما" مع اختلافهما في الحقيقة والخواص؛ فإن الماء منظف، والتراب ملوث.

4 -

أنه جمع بين زنا المحصن والردة "في إيجاب قتل مرتكبهما" مع تفاوتهما في مقدار المعصية.

5 -

أنه جمع بين الميتة وذبيحة المجوسي وصيد المحرم "في تحريم كل منها" مع أن الميتة قد انحبس فيها الدم بخلافهما.

فهذه الصور وأضعافها وأضعاف أضعافها يثبت بها أن شريعتنا قد جاءت بالتفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات؛ فتمت الصغرى.

1 -

أَمَّا الغسل من إنزال المني دون البول؛ فلما يحدثه إنزال المني من الثقل والكسل والفتور. وقد صرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال يعيد إلى البدن قوته، ويخلف عليه ما تحلل منه. ففرض الاغتسال منه في غاية الحكمة، بخلاف البول؛ فإن البدن لا يتأثر بخروجه هذا التأثر، فلم يفرض الغسل من خروجه، وأيضًا خروج البول يتعدد كل يوم ففي فرض الغسل منه حرج ومشقة عظيمة بخلاف المني.

وأمّا إبطال الصوم بإنزال المني عمدًا دون البول؛ فلأن مبني الصّوم محاربة الشهوتين شهوة البطن وشهوة الفرج، وفي إنزال المني عمدًا مخالفة لذلك فأبطل الصوم، بخلاف البول فإنه لا =

ص: 360

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= منافاة بينه وبين مقصود الصوم، فافترقا في علتي هذين الحكمين، فوجب افتراقهما في الحكمين وإن تماثلا في أنهما فضلتان خارجتان من القبل، فهذا تماثل في صفة لا أثر لها.

2 -

وأما غسل الثوب من بول الصبية ونضحه من بول الصبي؛ فلأنهما يختلفان من وجهين: "أحدهما" أن بول الصبي ينزل متفرقا، فيشق غسل ما أصابه كله بخلاف الصبية.

"وثانيهما: أن بول الأنثى أثبت وأنتن من بول الذكر، وسببه حرارة الذكر ورطوبة الرحم، فالحرارة تخفف من نتن البول وتذيب منها ما لا يحصل مع الرطوبة، وهذان معنيان مؤثران يحسن اعتبارهما في الفرق بينهما، فليست علة النضح مطلق النجاسة التي يتماثل فيها النوعان، بل النجاسة مع هذين المعنيين، وهما يختلفان فيهما، فالتفرقة بينهما تفرقة بين مختلفين لا متماثلين.

3 -

وأما قصر الصَّلاة الرباعية في السفر دون الثنائية والثلاثية؛ فلقيام الفارق بينها؛ إذ ليس المعنى الداعي إلى القصر هو مجرد كونها صلاة مفروضة في السفر، وإنما الداعي الحقيقي أن هذه رخصة شرعت تخفيفًا على المسافر، ولا شك أن الذي يناسبه التخفيف إنما هو العدد الكثير دون القليل، فالصلاة الرباعية تحتمل الحذف لطولها، بخلاف الثنائية فإن القصر يجحف بها على أنها لو قصرت لعادت إلى ركعة واحدة، وهذا ليس له نظير في أصل مشروعية الصلاة، وأما الثلاثية فلا يمكن تشطيرها، وحذف ثلثيها مخل بها، وحذف ثلثها يخرجها عن حكمة شرعها وترًا؛ فإنها شرعت لتكون وتر النهار كما قال صلى الله عليه وسلم:"المغرب وتر النهار، فأوتروا صلاة الليل".

4 -

وأما إيجاب قضاء الصّوم على الحائض دون الصلاة؛ فلأن الصلاة تتكرر في كل يوم خمس مرات، وفي إيجاب قضائها على الحائض مشقة لا تحصل في قضاء الصوم الذي فرض في شهر واحد من السنة كلها، فهما وإن تماثلا في كونهما فرضين، فقد افترقا بعظم المشقة في قضاء الصَّلاة دون الصوم؛ فافترق حكمهما لذلك.

5 -

وأمّا تحريم النظر إلى العجوز الشوهاء إذا كانت حرة وإباحته إلى الشابة البارعة الجمال إذا كانت أمة، فإن كان المراد النظر ولو بشهوة ولو أدى إلى الفتنة فالقول بإباحته كذب على الشارع.

وإن كان المراد النظر بلا شهوة حيث لم تحس منه فتنة فذلك إنما يباح للأمة دون الحرة لوجهين:

"أحدهما": أن الأمة يحتاج إلى امتهانها واستخدامها داخلًا وخارجًا، ففي تحريم النظر إليها حرج بخلاف الحرة.

"وثانيهما" أن تحريم النظر فيه شيء من التكريم، وهو أليق بالحرة من الأمة التي أهانها =

ص: 361

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الشارع بالرق الذي هو في الأصل جزاء الكفر.

6 -

وأما قطع السارق دون المختلس والمنتهب والغاصب؛ فلأن السّارق ينقب الدار ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز منه بغير ذلك، فلو لم يشرع قطعه لكثرت السرقة وعظم الضرر، بخلاف المختلس والمنتهب والغاصب، فإن المختلس يأخذ المال على حين غفلة من مالكه من حرز مثله، فالمالك هو المفرط؛ إذ لو تيقظ وتحفظ لما مكّن المختلس من ماله والمنتهب يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم، والغاصب بغير انتهاب واختلاس وسرقة كجاحد الوديعة ومزور العقد ونحوهما يمكن الاحتراز منه بالإشهاد على الوديعة وكتابة العقد والشكوى عند الحاكم، فهؤلاء جميعًا لا يعاقبون بالقطع؛ لإمكان الاحتراز عنهم بخلاف السارق، فالتفرقة بينه وبينهم تفرقة بين مختلفات لا متماثلاث.

7 -

وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمائة دينار أو خمسين من الإبل، فهما حكمان في غاية الحكمة؛ إذ في الأول احتياط للأموال أدى إلى إهانة سارقها وقطعه في هذا المقدار الضئيل ليأمن الناس شره، وفي الثاني احتياط للأطراف أدى إلى تغريم الجاني عليها هذا المقدار الكبير؛ لئلا يستهين بغرامة الجناية إذا كانت قليلة، فيعيث في الأرض فسادًا، فيد السارق ويد المجنى عليه ليستا متماثلتين؛ بل الأولى يد ظالم، والثانية يد مظلوم، فالتفرقة بينهما تفرقة بين مختلفين لا متماثلين.

وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال شعرًا فقال:

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

وأجابه الفقهاء بأجوبة من النثر والشعر لا تخرج عما قلناه، ومنها ما روى عن الإمام الشافعي أنه أجابه بقوله:

هناك مظلومة غالت بقيمتها

وها هنا ظلمت هانت على الباري

8 -

وإما إيجاب ثمانين جلدة على من قذف غيره بالزنا دون من قذفه بالكفر؛ فلأن الزنا يفارق الكفر من جهتين:

"إحداهما أنه يقع في الخفاء غالبًا دون الكفر، فمن قُذِف بالزنا حامت حوله الشبهة؛ إذ ليس لدى الناس مانع من تصديق القاذف، فكان الحد من الشارع زاجرًا له قائمًا مقام التكذيب، بخلاف المقذوف بالكفر؛ فإن حاله شاهدة بتكذيب القاذف؛ إذ لو كان صادقًا لما اختص بالعلم به، فلم يشرع الحد عليه.

"وثانيتهما" أن الزنا لكونه مبنيًّا على الشهوة البهيمية وخيانة الناس بعضهم بعضًا يتعير به، بخلاف الكفر فإنه مبني على خطأ يعتقده صاحبه صوابًا، فلا يتعير به. فالقذف بالزنا فيه إيذاء أعظم من القذف بالكفر لا سيما إذا كان المقذوف امرأة، فشرع الحد في الأول دون الثاني =

ص: 362

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= لذلك، فالقذفان وإن اشتركا في التحريم وزاد القذف بالكفر عن القذف بالزنا لكونه رميا بما هو أعظم جرمًا، إلا أن هذا الوصف الذي اشتركا فيه ليس هو مناط الحد، بل مناطه القذف بأمر يسرع تصديق الناس له، ويلحق العار بصاحبه، وهذا خاص بالقذف بالزنا، فالتفرقة بينه وبين القذف بالكفر تفرقة بين مختلفين لا متماثلين.

9 -

وأما اكتفاؤه في ثبوت القتل والكفر بشاهدين دون ثبوت الزنا ففي غاية الحكمة؛ إذ في الاكتفاء بالشاهدين على الكفر احتياط للدين؛ كيلا يجترئ أحد على إعلان الكفر وإضلال الناس. وفي الاكتفاء بهما في القتل احتياط للنفس التي حرمها الله؛ كيلا يفلت المجرم عند قلة المطلعين على جريمته، وفي اشتراط الأربعة في الزنا احتياط لستر الفاحشة التي من شأنها الستر والتي يؤدي كشفها إلى إلحاق العار الدائم بالمشهود عليه وبغيره ممن يتصلون به، وربما أدى إلى جرائم أخرى، ولذا توعد الله تعالى من أحب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.

10 -

وأما فرقه في العدة بين الموت والطلاق؛ فلأن بينهما فرقًا مشتملًا على حكمة عظيمة ذلك أن عدة الوفاة لم تشرع لبراءة الرحم وإلا لما وجبت على غير المدخول بها ولا على الصغيرة والآيسة، وإنما شرعت تحريمًا للعقد "حيث بلغ غايته ولم ينقطع بطلاق ولا فسخ" ورعاية لحق الزوج المتوفى وتفجعًا عليه، فلم يكن بد من ضرب مدة لذلك، وأولى المدد بذلك المدة التي يعلم فيها وجود الولد وعدمه، فإنه يكون أربعين يومًا نطفة ثم أربعين علقة ثم أربعين مضغة، فهذه أربعة أشهر ثم ينفخ فيه الروح في الطور الرابع؛ فقدر بعشرة أيام لتظهر حياته بالحركة إن كان ثم حمل، وقدرت هذه المدة في حق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها، لأنه لا بد في الثلاثة من ضرب مدة، فإذا التمست مدة سوى هذه كان ذلك تفريقًا بين أحكام الباب الواحد من غير داع؛ وهذا لا يجوز.

وأمّا عدة الطلاق فإنها لا يمكن تعليلها بما سبق؛ لأنها إنما اختصت بالمدخول بها "لو كانت لحرمة العقد أو لحرمة الزوج لشملت غير المدخول بها" وإنما شرعت هذه العدة لحكم:

"إحداها" رعاية حق الزوج في الرجعة؛ باتساع زمنها إذا كان الطلاق رجعيًّا لئلا يفوته إمساكها، وعقوبته بتطويل المدة إذا كان الطلاق بائنًا؛ فإنه ينتظر حتَّى تمضي العدة ثم تُزَوَّجْ بآخر ثم يطلقها ثم تمضي عدتها منه.

"ثانيتها" رعاية حق الزوجة في النفقة والسكنى مدة بعد الطلاق.

"ثالثتها" رعاية حق الولد بالاحتياط في ثبوت نسبه أو لا يختلط بغيره.

"رابعتها" رعاية حق من يريد التزوج بها بعد الطلاق بألّا يسقي ماءه زرع غيره، فلهذه الحكم لم يكن بدّ من مدة تتربصها المرأة بعد الطلاق، ولا يكفي لهذه الحقوق قرء ولا شهر واحد، =

ص: 363

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وإن كانا يكفيان لمعرفة براءة الرحم، فزيدت إلى ثلاثة أقراء أو ثلاثة أشهر رحمة بأرباب هذه الحقوق، وإنما اكتفى في الطلاق بذلك دون الوفاة احتياطًا للمتوفي؛ لأنه لو جعلت عدة المتوفى عنها ثلاثة أقراء أو ثلاثة أشهر فربما تزوجت عقبها ثم وضعت ولدًا للمتوفي؛ فيضيع نسبه لوفاة صاحب الحق، بخلاف المطلق؛ فإن مطلقته إذا تزوجت بعد انقضاء عدتها ثم وضعت ولدًا له أمكنه معرفته غالبًا.

11 -

وأما إباحته للرجل أن يتزوج بأربع وعدم إباحته للمرأة أن تتزوج بأكثر من واحد مع وجود الشهوة وقوة الداعي من الجانبين، فذلك من كمال حكمة الشارع؛ فإن بين الرجل والمرأة فرقًا من جهات:

"الأولى" أن زواج المرأة باثنين أو أكثر يضيع الأنساب، ويؤدي إلى تشاحن الأزواج وقتل بعضهم بعضًا، بخلاف زواج الرجل باثنتين أو أكثر؛ فإن الأنساب معه محفوظة.

"الثانية" أن المرأة لما كانت مخبأة في العادة كان مزاجها أبرد من مزاج الرجل، وحركتها الظاهرة والباطنة أقل من حركته، فلذا كانت شهوتها أقل؛ لأن منبع الشهوة إنما هو الحرارة والقوة، فلم يبح لها أن تتزوج بأكثر من واحد حرصًا عليها أن تزول حرارتها وقوتها بالكلية، وما يتخيل من كثرة شهوة المرأة فإنما هو خيال باطل، ومنشؤه أن المرأة الخالية من الأعمال تلتفت إلى الشهوة؛ لعدم اشتغالها بغيرها، فتظن كثرتها والواقع أنها أقل من الرجل بكثير.

"الثالثة" أن الرجل لما كان دائب السعي في المصالح الخارجية يركب الأخطار ويجوب القفار، كان متعرضًا لكل بلية ومحنة، فعوض عن ذلك بإباحة تزوجه بأربع، بخلاف المرأة فإنها يأتيها رزقها وهي مخبوءة في بيتها، فلم يبح لها أكثر من زوج واحد، والغيرة التي تحدث لها من زواج زوجها بغيرها ليست أعظم أثرًا مما يتحمله الرجل من المشاق.

"الرابعة" أن الرجال يقلون والنساء يكثرن؛ لتعرض أولئك للأخطار والحروب دون هؤلاء، فمن الحكمة إباحة أن يتزوج الرجل أربعًا؛ لئلا تضيع نساء كثيرات.

"ولعلّ قائلًا يقول": لا ضياع للنساء؛ إذ يجب إلزام أولياء أمورهن بالإنفاق عليهن. "والجواب" أن النساء وإن أمكن كفايتهن من جهة النفقة لم يمكن كفايتهن من حيث قضاء الشهوة المركبة فيهن إلا بالزواج، وإلّا لجأن إلى البغاء، وسرى شره بين الأمة، فلا ضمان إلا بإباحة تعدد الزوجات للرجل.

12 -

وأما تجويزه للرجل أن يستمتع من أمته بالوطء وغيره، وعدم تجويزه للمرأة أن تستمتع من عبدها بوطء ولا غيره مع استوائهما في ملك اليمين؛ فلأن الفطرة قاضية بأن يكون للرجل المستمتع سلطان على المرأة المستمتع بها، فأبيح للرجل أن يستمتع بأمته؛ لأن سلطان استمتاعه بها يوافق سلطان ملكه إياها. ولم يبح للمرأة أن تستمتع بعبدها؛ لأنَّهُ يقضي أن =

ص: 364

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يكون قاهرًا لها حاكمًا عليها، وهذا مناف لملكها إياه وسلطنتها عليه، ولم يمنعها الشارع إذا شاءت أن تعتقه وتدعوه إلى الزواج بها، فهذا أمر لا ينفر منه الطبع السليم، بخلاف ذلك.

13 -

وأما إيجابه الزكاة في خمس من الإبل واسقاطه إياها عن عدة آلاف من الخيل مع استواء الصنفين في نفع مالكهما؛ فلأن بين الإبل والخيل فرقًا يقتضي إيجاب الزكاة في أحدهما دون الآخر، وذلك أن الإبل تراد للدر والنسل والأكل وحمل الأثقال والمتاجر والانتقال عليها من بلد إلى بلد، فهي معدة للنفقة كالذهب والفضة، وأما الخيل فإنما خلقت للكر والفر والطلب والهرب، فهي معدة لإقامة الدين وجهاد أعدائه كآلات السلاح والحرب، فمن حكمة الشارع أن يفرق بين ما أعد للنفقة وما أعد لإعلاء كلمة الله، فيوجب الزكاة في الأول تطهيرًا له، ويعفو عن الثاني ترغببًا في اقتنائه، ولذا تجب الزكاة في الخيل إذا اتخذت للتجارة؛ لأن المقصود بها حينئذ النفقة، فهي كالإبل المقتناة للدر والنسل، فالشارع الحكيم جمع بينهما في وجوب الزكاة حيث كانت الحكمة تقتضي الجمع، وفرق بينهما في ذلك حيث كانت الحكمة تقتضي الفرق.

14 -

وأما قطعه يد السارق دون فرج الزاني ولسان القاذف؛ فلأن السارق يأخذ المال خفية من حرز مثله، فلا يمنع شره إلا بقطع يده الذي يعطل حركته بعض التعطيل، فيسهل ضبطه إذا عاود السرقة، وفي هذا أيضًا مزجرة له؛ لأنَّهُ كلما نظر إلى يده المقطوعة تذكر السبب، فخشي أن يعاود السرقة فيقطع منه عضو آخر. وأمَّا الزاني فلم يقطع فرجه لأمور:

"أحدها" أنه إن تأتي القطع في الرجل لم يتأت في المرأة، فإن شرع في الرجل دون المرأة كان منافيًا للعدالة، بخلاف اليد؛ فإنه يمكن قطعها في السارق والسارقة.

"ثانيها" أن الفرج آلة النسل، وفي قطعه تعطيل للنسل المقصود تكثيره، بخلاف قطع اليد؛ فليس فيه تعطيل لأمر مقصود شرعًا.

"ثالثها" أن الزاني مستمتع بجميع بدنه لا بالفرج وحده، فقطع الفرج فيه إخلاء لباقي البدن عن العقوبة، بخلاف السارق؛ فإنه لم يباشر السرقة إلا بيده، فكان من الحكمة قطعها دون فرج الزاني، وإذا لم يعاقب الزاني بقطع فرجه لما ذكر، كان من الحكمة معاقبته بما فرض الشارع من جلد وتغريب للبكر ورجم للمحصن، فإن المحصن قد تزوج فعلم ما يقع به العفاف عن الفروج المحرمة، وباشر ذلك بنفسه، فزال عذره من جميع الوجوه، فعوقب بالرجم لما في فعله من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التعارف والتناصر، فيكثر هلاك الحرث والنسل، فكانت تلك الفعلة أشبه شيء بقتل النفس الذي لا زجر لفاعله إلّا بالقصاص، وأمّا البكر فلم يعلم ما علمه المحصن ولم يباشر ما باشر من الزواج الذي يقع به العفاف، فحصل له من العذر ما أوجب التخفيف عنه، وإن كانت فعلته تؤدي إلى الجرائم التي في فعلة المحصن فلذا =

ص: 365

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عوقب بجلد مائة وتغريب عام إيلامًا لجميع بدنه الذي استمتع بالحرام وردعًا له عن المعاودة إليه وبعثًا له على الاقتناع بما رزق الله من الحلال.

وأما القاذف فمفسدة قذفه لا تساوى مفسدة السرقة ولا الزنى، فمن الحكمة أن يكون حده أقل من حدها، فعوقب بجلد ثمانين، وفي ذلك زجر له وردع لغيره، ولم يقطع لسانه؛ لما في قطعه من الإسراف في العقوبة من غير داع، ولما فيه من تفويت ذكر الله ودعائه، وهما من أعظم مقاصد الشرع.

15 -

وأما إيجابه علي الرقيق نصف حد الحر، فالحكمة فيه أن نعمة الله على الحر أتم؛ لأنَّهُ لم يجعله تحت قهر غيره، فكان شكره لله أوجب، ووقوع المعصية في حقه أقبح، فإذا شرعت له عقوبة كان من الحكمة أن تخفف على العبد؛ لئلا يجتمع فيه ذل العبودية ونقص التصرف وشدة العقوبة، فكان على النصف من الحر في ذلك إقامة للذل والنقص مقام النصف الآخر.

16 -

وأما إيجابه على من نذر الطاعة أن يفي بها، وتجويزه لمن حلف على فعلها أن يتركها ويكفر عن يمينه، فالحكمة فيه أن النذر التزام للطاعة فيجب الوفاء به، سواء أكان مطلقًا نحو: لته علي أن أصلي ركعتين، أم معلقًا على شرط نحو: إن شفي الله مريضي فعلي أن أتصدق بدينار.

وأما اليمين فليست التزامًا للطاعة: وإنما هي حث لنفسه على فعلها، وهذا الحق ينحل إما بفعلها وإما بالتكفير، ولو سلم أنها التزام فهي التزام بالله، لا التزام للّه وفرق بينهما، فإن الالتزام باللّه معاهدة للنفس مع الاستعانة بذكر الله، والالتزام لله معاهدة لله، فالإخلال بالثاني فيه نقض للمعاهدة بينه وبين ربه فلم يجز أصلًا، والإخلال بالأول ليس فيه ذلك وإنما فيه إخلال بكمال تعظيمه اسم الله حيث لم يوقع ما اقترن به، فجاز مع الكفارة، وهذا إنما يكون إذا لم يحلف على فعل واجب أو ترك حرام، فإن حلف على أحد هذين كان الإخلال به إخلالًا بالتعظيم ومعاهدة الله معًا؛ لأن كل مؤمن قد عاهد الله بإيمانه ألّا يفعل محرمًا ولا يترك واجبًا، فإذا حلف على فعل الواجب أو ترك الحرام فقد ضم إلى معاهدة الله، معاهدة النفس مع الاستعانة بذكر الله فإذا أخل بذلك كان آثمًا؛ لترك معاهدة الله، ووجبت الكفارة للإخلال بكمال تعظيم اسم الله.

17 -

وأما تحريمه صوم أول يوم من شوال وفرضه صوم آخر يوم من رمضان، فالحكمة فيه أن آخر يوم من رمضان خاتمة الشهر الذي أمر الله بصيامه، فصيامه إتمام لما أمر الله به، فهو فرض، وأول شوال يوم جعله الله عيدًا وسرورًا وشكرًا منه للصائمين على امتثالهم أمره، فهم أضيافه، والجواد يحب من ضيفه أن يقبل قِرَاه، ويكره أن يمتنع من قبول ضيافته إلا بإذنه، فحرم صومه لذلك، ولئلا تؤدي إباحته إلى الاستدراك على الشارع بالزيادة على ما شرع، =

ص: 366

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فليس اليومان متساويين في المعنى الذي من أجله كان الصوم واجبًا أو حرامًا، وإنما اشتركا في أن كلًّا منهما زمان بين طلوع الفجر وغروب الشمس، وهذا اشتراك في معنى لا شأن له بالحكم.

18 -

وأما تفضيله بعض الأزمنة والأمكنة على بعض مع استواء الكل في الحقيقة، فليست علته هي حقيقة كونه زمانًا أو مكانًا، وإنما العلة التي اقتضت التفضيل هي ما وقع ويقع في تلك الأزمنة والأمكنة من الأمور الجليلة العظيمة القدر التي اختصت بها، فمثلًا "ليلة القدر" نزل فيها القرآن الكريم، وجعلت ميعادًا لنزول الملائكة والروح فيها بإذن ربهم تحمل ما تفضل الله به على الخلائق من النعم والرحمات فكانت العبادة فيها أفضل حتَّى يكون حظ العبد فيها أوفر. "ويوم عرفة" اختص بأن يقف فيه الجم الغفير من الخلائق ملبين، "ومكة" فضلت، لاختصاصها بالبيت الحرام والمشاعر العظام. "والمدينة" لاختصاصها بهجرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أولًا، وضمها جسده الشريف أخيرًا؛ ولأن أهلها أول من بايعه صلى الله عليه وسلم ونصره. "وبيت المقدس" لاختصاصه بالمسجد الأقصى أولى القبلتين ومجمع الأنبياء ومنتهى إسرائه صلى الله عليه وسلم ومبدأ عروجه إلى الملأ الأعلى.

19 -

أما جمعه بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال مع اختلافهما في التعدي، فالحكمة فيه أن الضمان علته الإتلاف لا التعدي، ولا شكَّ أن المخطئ والعامد قد اشتركا في الإتلاف، فوجب اشتراكهما في الضمان، وهذا من ربط الأحكام بأسبابها، وهو مقتضى العدل الذي لا تتم المصلحة إلا به، ولو لم يجب الضمان على المخطئ لأتلف كل إنسان ما شاء، وادعى الخطا وعدم القصد، وهذا بخلاف الإثم والعقوبة، فإن مبناهما التعدي فلم يأثم المخطئ ولا يعاقب؛ لعدم تعديه، فالجمع بين الخطأ والعمد في الضمان جمع بين متماثلين في الإتلاف الذي هو علة الحكم، وإن اختلفا في التعدي فهو اختلاف في معنى لا تأثير له.

وأما جمعه بين العاقل والمجنون، والطفل والبالغ في وجوب الزكاة مع اختلافهم بالتكليف، فهو حكم اجتهادي لا نص فيه، وهو محل نزاع بين الأئمة، والقائلون به رأوا أن الزكاة من حقوق الأموال لا الأشخاص؛ لأن ملك المال لا يتوقف على التكليف، فيستوي فيه العاقل والمجنون، والصبي والبالغ. وهذا المال يحتاج إلى التطهير بإخراج جزء منه للفقراء ونحوهم، فالزكاة تتعلق به كما يتعلق به الإنفاق على زوجته وأقاربه ورقيقه.

وأما جمعه بين الماء والتراب في التطهير مع أن الأول منظف والثاني مقذر، فإن أراد جمعه بينهما في جواز التطهير في حالة واحدة، فغير مسلم؛ إذ التراب لا يطهر إلا عند فقد الماء أو العجز عن استعماله بمرض أو نحوه، وإن أراد أنه جمع بينهما في أصل جواز التطهير وإن كان الأول في حال القدرة والثاني في حال العجز، فمسلم، ولا يضر كون الأول منظفًا والثاني =

ص: 367

وَرُدَّ: بِأَنَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ؛ لِجَوَازِ انْتِفَاءِ صَلَاحِيَّةِ مَما تُوُهِّمَ جَامِعًا أَوْ وُجُودِ الْمُعَارِضِ فِي الأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ، وَلاِشْتِرَاكِ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي مَعْنًى جَامِعٍ، أَوْ لاِخْتِصَاصِ كُلٍّ بِعِلَّةٍ لِحُكْمِ خِلَافِهِ.

الشرح: "وُردّ: بأن ذلك لا يمنع الجواز"؛ أي: جواز التعبُّد بالقياس، أما الفرق بين المتماثلات، فإِن المتماثلات إِنما يجب اشتراكها في الحُكْمِ؛ إذا صلح ما يه الاشتراك علّة للحكم، ليصلح جامعًا، ولا يكون له معارض في الأصل يقتضي حكمًا غيره، ولا في الفرع أقوى يلحقه بأصل غير ذلك الأصل؛ وذلك غير معلوم فيما ذكر من الصور؛ "لجواز انْتِفَاءِ صلاحية ما يوهم جامعًا لأن يكون جامعًا، "أو وجود المُعَارض في الأصل أو الفرع"؛

= مقذرًا، لأن التطهير الأصلي علة التنظيف باستعمال مادة سهلة الحصول عليها، وهي الماء، والتطهير البدلي عند العجز عن المادة المنظفة السهلة الحصول علته إظهار الخضوع للّه تعالى باستعمال مادة سهلة الحصول عليها أيضًا، وهي التراب. وفي جواز التطهير بالتراب، حكمة أخرى وهي "أنه تعالى خلق أبانا آدم من الماء والتراب وكذلك خلق كل واحد منا؛ فإن أصل النطفه الأغذية الراجعة إلى الماء والتراب، فالتراب أخو الماء في أصالته لنا؛ فالتطهير به مذكر للإنسان بأصله، ممكن له من العبودية، مانع له من الكبر" وكفى بذلك تطهيرًا للنفس حيث فقد المطهر المنظف للبدن.

وأما جمعه بين زنا المحصن والردة في إيجاب القتل مع تفاوتهما في مقدار الخطيئة، والحكمة فيه أن الزاني والمرتد اشتركا في مفسدة تقتضي زوال كل منهم عن وجه الأرض، فالأول جني على البضع جناية توجب اختلاط الأنساب وضياعها، ومتى ضاعت زالت النصرة والتعاون، وكثر التشاحن والقتل، فوجب قتله صيانة للمجتمع من التفكك، والثاني جني على الدين جناية توجب العداوة والبغضاء بينه وبين المؤمنين، وربما اقتضى التهاون معه اقتداء كثيرين به؛ فتزول النصرة والتعاون، ويكثر التشاحن والقتل فوجب قتله، صيانة للمجتمع عن التفكك أيضًا. فالعلة التي اقتضت قتلهما أن كلًّا منهما مفسدة تؤدي إلى تفكك الأمة وكثرة القتل والشحناء بين أفرادها غير أنهما افترقا في أمر هو أن الزنا قد يجلب العار الذي لا يزول، بخلاف الردة" فكان القتل فيه بالرجم الذي هو أشد من قطع الرقبة بالسيف، فالجمع بين الزنا والردة في القتل جمع بين متماثلين في علة القتل، والتفرقة بينهما في كيفية القتل للفرق بينهما في مقدار العلة فهي في الزنا أشد، وأما الفرق بينهما في مقدار المعصية فلا شأن له في هذه العقوبة الدنيوية، وإنما يظهر أثره في العقوبة الأخروية حيث يخلد المرتد في النار دون الزاني. وبهذا تبين أن شريعتنا إنما فرقت بين أحكام الأمور التي تباينت عللها، وجمعت بين أحكام الأمور التي اتحدت عللها أو تماثلت؛ وبذلك سقط دليل النظام.

ص: 368

قَالُوا: يُفْضِي إِلَى الاخْتِلَافِ، فَيُرَدُّ؛ لِقَوْلِهِ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ

} [النساء: 82]، وَرُدَّ بِالْعَمَلِ بِالطوَاهِرِ، وَبِأَنَّ الْمُرَادَ التَّنَاقُض، أَوْ مَا يُخِلُّ بِالْبَلَاغَةِ، فَأَمَّا الأَحْكَامُ فَمَقْطُوعٌ بِالاِخْتِلَافِ فِيهَا.

قَالُوا: إِنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، فَكَوْنُ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ حَقًّا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإنْ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا، فَتَصْوِيبُ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ مَعَ الاِسْتِوَاء مُحَالّ.

ومراده بـ"المعارض" - هنا -: المنافي، كما تقدم في قوله: وألّا تكون المستنبطة بمعارض.

أما [الجمع]

(1)

بين المُخْتلفات، فلعلّه فيما ذكر "لاشتراك المُخْتلفات في معنى جامع"، هو علة الحكم في الكل؛ إِذ لا يمتنع اشتراك المُخْتلفات في صفات ثبوتية، "أو لاختصاص كلّ بعلة لحكم خلافه"، أي: يقتضي حكم المخالف الآخَر، فإِن العلل المختلفة لا يمتنع أنْ توجب في المَحَال المختلفة حكمًا واحدًا، وقد ردُّت شُبْهة النَّظَّام بأوجه شَتّى:

منها: أن غاية ما أورد أَمارات تخلف الحكم عنها، وذلك لا يقدح في كونها أَمَارة، كالغَيْمِ الرطب أمارة المطر، وقد يتخلّف، ذكره ابن السَّمْعَاني.

ومنها: أنا لا ندعي أَنَّ الشريعة بِأَسْرِهَا معقولة المَعْنَى، بل فيها التعبُّدي وغيره، والقياس إِنما يكون حيث يعقل المَعْنَى، وعلى أَنَّ المعنى فيما إذا ورد لائح، فالمَنِيّ والبول وإن اتفقا في كونهما خارجين من مخرجٍ واحد، فقد استويا في إِيجاب الطهارة ولم يفترقا بحيث جعل في أحدهما طهارة بالماء، وفي الآخَر كَفَّارة بالمال، نعم افترقا في الغُسْل وغيره؛ لأنَّ خروج المَنِيّ نادر لا تَعُمّ به البَلْوَى، فلم يكن في إِيجاب أشدّ الواجبين فيه زيادة كُلْفة، وتأمّل ما بعده من الصور تَلْفَ معناه لائحًا، فلا نطيل.

الشرح: "قالوا": القياس "يفضي إلى الاختلاف"؛ لاختلاف القرائح والفطر، "فيرد، لقوله" تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

دلّ على أن ما هو من عند الله لا يوجد فيه اختلاف، فما يوجد فيه اخْتِلاف لا يكون من عند الله، والقياس فيه الاختلاف، فلا يكون من عند الله.

"ورُدّ بالعمل بالظواهر"؛ فإن فيها اختلافًا بِحَسَب أنظار المجتهدين وغيرها، ومع ذلك يجب العمل بها.

(1)

في ت: يجمع.

ص: 369

وَرُدَّ بِالظَّوَاهِرِ، وَبِأَنَّ النَّقِيضَيْنِ شَرْطُهُمَا الاِتِّحَاد، وَبِأَنَّ تَصْوِيبَ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ لَا بِعَيْنِهِ جَائِزٌ.

قَالُوا: إنْ كَانَ الْقِيَاسُ كَالنَّفْي الأَصْلِيِّ، فَمُسْتَغْنًى عَنْه، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا، فَالْظَّنُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ.

وَرُدَّ بِالظَّوَاهِرِ، وَبِجَوَازِ مُخَالفةِ النَّفْي الأَصْلِيِّ بِالظَّنِّ.

"وبأن المراد" من الاختلاف المنفي عن القرآن "التناقض" فيه، "أو ما يخلّ بالبَلَاغة"؛ خشية إلا يكون على نَمَطٍ واحد من البلاغة، وهذا هو الحَق، فالقرآن في نفسه لا اختلاف فيه أصلًا.

"فأمّا" غالب "الأحكام، فمقطوع بالاختلاف" بين الأمة "فيها".

"قالوا: إذا اختلفت الأَقْيِسَةُ في نظر المجتهدين، فحينئذ "إِن كان كلّ مجتهد مصيبًا، فكون الشيء ونقيضه حقًّا محال، وإن كان المصيب واحدًا، فتصويب أحد الظنين مع الاستواء محال".

الشرح: "ورُدّ" أولًا: بالنقض "بالظواهر"؛ فإِن الاجتهاد ليس مختصًّا بالقياس.

وثانيًا: "بأن النقيضين شرطهما الاتحاد"، ولم يوجد ها هنا: لأن الحكم على كل مجتهد بالإصابة، إنما هو بالنسبة إليه ومن قلده دون غيره.

"و" ثالثًا: بأن تصويب أحد الظَّنين لا بعينه جائز"، ونحن إِذا قلنا: المصيب واحد، لا نعيّن واحدًا لتصويب حتَّى يلزمنا التَّحكُّم.

"وقالوا: إن كان القياس" يقتضي في الوَاقِعَةِ حكمًا "كالنَّفْي الأصلي، فمستغنى عنه" بالتمسُّك بالنفي الأصلي، "وإن كان" يقتضي "مخالفًا للظَّن"، وهو القياس "لا يعارض اليقين"، وهو البراءة الأصلية.

"ورُدّ: بالظواهر"؛ فإن ما ذكر آتٍ فيها، "ويجوز مُخَالفة النَّفي الأصلي بالظَّن"، كما خولف به في الشهادة والأَقَارِيرِ، وغير ذلك.

فإن قلت: كيف ترجّح المظنون على المقطوع؟.

قلت: المقطوع به في البَرَاءَةِ الأصلية، إِنما هو أصلها دون دَوَامها، وهذا شأن كلّ استصحاب، والمرتفع بالظَّن إنما هو الدّوام، والظَّن الطارئ عليه أقوى من الظَّن المستفاد

ص: 370

قَالُوا: حُكْمُ اللّه يَسْتَلْزِمُ خَبَرَهُ عَنْه، وَيَسْتَحِيلُ بِغَيْرِ التَّوْقِيفِ.

قُلْنَا: الْقِيَاسُ نَوْعٌ مِنَ التَّوْقِيفِ.

قَالُوا: يَتَنَاقَضُ عِنْدَ تَعَارُضِ عِلَّتَيْنِ.

وَرُدَّ: بِالظَّوَاهِرِ، وَبِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدًا رُجِّحَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وُقِفَ عَلَى قَوْلٍ، وَتُخُيِّرَ عِنْدَ الْشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَإِنْ تَعَدَّدَ فَوَاضِحٌ.

منه، فإِنما رجّح في الحقيقة أقوى الظنين.

ولك الرد - أيضًا - "بجواز مُوَافقة القياس للنَّفي الأصلي، ويجتمع دليلان، أو يكون الحكم مستفادًا من قبل الشرع بالقِيَاسِ، وتلك فائدة، فللحكم الشَّرْعي آثار لا تظهر في البراءة الأصلية، ولا مانع من اجتماع دَلِيلَين على حكم الحادثة: البراءة الأصلية والقياس.

الشرح: "قالوا: حكم الله" في الواقعة المعيّنة بالوجوب أو الحُرْمة، ونحوهما "يستلزم خبره عنه"؛ لأنا لا نعلم إِلَّا من جهته، "ويستحيل" العلم به "بغير [التوقيف]

(1)

على خبره؛ لأنَّهُ تكليف الغافل، والقياس لا يجدي؛ لأنَّهُ من فعلنا، لا من توقيف الشَّارع، فكيف يدرك به ما لا يعلم إِلَّا من جهة الشارع؟.

"قلنا: القياس نوعٌ من التوقيف" فإِنه إذا شرع كان طريقًا دالا على حكم الله تعالى، والذي هو من فِعْلِ القائس ترتيبه المقدّمات، أما الحكم ففعل الله تعالى.

"قالوا: يتناقض عند تَعَارض علّتين"، تقتضي كلّ واحدة منهما نقيض حكم الأخرى، فإنه على القول بالقياس يجب اعتبارهما، وإثبات حكمهما، قيلزم التناقض.

"ورد: بالظواهر"، فإن ما ذكر آت فيها، "وبأنه إن كان" الذي تعارضت عنده العلّتان رجلًا "واحدًا"، أو في وقت واحد "رجّح" بالطريق المعروفة في التَّرَاجيح "فإن تعذّر، وقف على قول، ويخير عند الشَّافعي وأحمد"، فلا تناقضٍ، "وإن تعدّد" المجتهد أو الوقت "فواضح"، إذ يعمل كل أحد بما غلب على ظنّه، وفي كل وقت كذلك.

(1)

في أ، ت: التوقف.

ص: 371

الْمُوجِبُ: النَّصُّ لَا يَفِي بِالأَحْكَامِ؛ فَقَضَى الْعَقْلُ بِالْوُجُوبِ، وَرُدَّ: بِأَنَّ الْعُمُومَاتِ يَجُوزُ أَنْ تَفِيَ؛ مِثْلُ: "كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ.

الشرح: واحتجّ "الموجب" للعمل بالقياس عقلًا، بأن "النَّص لا يفي بالأحكام"؛ أذ الحوادث لا تنتهي، والنّصوصات محصورة، والأصل المنسحب على الوقائع بأجمعها الكافل بالوفاء بها هو القياس، "فقضى" فيه "العَقْل بالوجوب".

"ورد: بأنَّ العمومات يجوز أن تفي، مثل: كلّ مسكر حرام".

ولقائل أن يقول: جواز الإِتيان بلفظ عامّ لا يمنع، ونحن لا نمنع في قضية العَقْل أن يقول الله سبحانه: كلّ ما لا تجدون فيه نصًّا بخصوصه، فحكمي فيه كذا وكذا، فلا يصلح قولكم: العُمُومات يجوز أن تفي ردًّا، إِلَّا على من يدعي أنه يتعذّر الإِتيان بلفظ يعمّ ما لا يتناهى، وذلك لم نقله.

إِنما الذي ادّعيناه أن النصوصات الموجودة بين ظَهْرَانينا لا يمكن وَفَاؤها بالحوادث؛ إِذ ليس فيها لفظ عام فيما لا يوجد عليه نصّ بخصوصه، فاحتيج إلى القياس.

قال ابن السَّمْعَاني وغيره: ونحن نعلم بطريق القَطْعِ وجود حوادث لا تدلّ عليها النصوص بوجه ما.

وقال إمام الحرمين: من أنصف لم يشكل عليه إذا نظر في الفَتَاوي والأقضية أن تسعة أعشارها صادرةٌ عن الرأي المَحْض، ولا تعلّق لها بالنصوص ولا بالظواهر.

فإن قيل: يستصحب الحال فيما لا دليل فيه، ولا يحتاج إِلى القياس.

قلنا: قد عُرِفَ ما في ذلك، وعلى أنا نقول: اسْتِصْحَاب الحال في العقود مع الاختلاف متعذّر متناقض.

قال ابن السَّمْعَاني: لأنَّهُ ما من حكم يستصحب فيه لإثباته، إِلَّا ويعارضه ما يوجب نفيه؛ ألا ترى أنه إذا وقع الاختلاف في فسخ النِّكَاح بالعَيْب، فالاستصحاب من أحد الجافبين يوجب الفَسْخ، ومن الجانب الآخَر يمنعه، وكذلك الجَارِيَةُ الثيب يَطَؤُهَا المشتري، ثم يجد بها عيبًا، ويريد ردّها، فإِن الاستصحاب في أحد الجانبين يوجد الرد دون الآخَر، فثبت أن الضرورة إلى مشروعية القياس متحقّقة، نعم القول بإِيجاب المعقول باطل؛ لما تقرر في قاعدة التَّحسين والتَّقبيح.

ص: 372

‌مَسْأَلَةٌ:

الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ قَائِلُونَ بِالْوُقُوع،

إِلَّا دَاوُدَ، وَابْنَه، وَالْقَاسَانِيَّ، وَالنَّهْرَوَانِيَّ، وَالأَكْثَرُ: بِدَلِيلِ السَّمْعِ، وَالأَكْثَرُ: قَطْعِيٌّ خِلَافًا لِأَبِي الْحُسَيْنِ.

«مسألة»

الشرح: "القائلون بالجواز قائلون بالوقوع

(1)

، .........................

(1)

يمكن أن نجمل المذاهب إلى أربعة مذاهب:

"المذهب الأول": أن التعبد بالقياس واقع شرعًا بدليل السمع فقط، وإليه ذهب الجمهور، لكنهم اختلفوا، فذهب أكثرهم إلى أن الدليل قطعي، وذهب بعضهم كالآمدي والرازي إلى أنه ظني.

"المذهب الثاني": أنه واقع شرعًا بدليلي السمع والعقل. وإليه ذهب أبو الحسين البصري والقفال الشاشي وطائفة من الحنفية والشافعية، غير أنهم اختلفوا: فذهب أبو الحسين إلى أن الدليل ظني، وذهب الباقون إلى أنه قطعي، واختاره صاحب المسلّم.

"المذهب الثالث": أنه غير واقع شرعًا، إما بدليل سمعي يدل على عدم الوقوع، وإما بعدم الدليل السمعي الدال على الوقوع، وهذا المذهب نسبه أصحاب المنهاج والمختصر والمسلم وغيرهم إلى داود الظاهري، ونسبه الغزالي والبزدوي والكمال والشوكاني وغيرهم إلى الظاهرية جميعًا، ونقل بعضهم عن الظاهرية خلاف ذلك، ولا حاجة إلى الإطالة ببيانه.

هذا، وقد عبر بعضهم عن المذهب المذكور بالامتناع شرعًا، وذلك لورود ما يدل على حظ القياس، ومنعه على زعم القائلين بذلك، والمحظور يمتنع التعبد به شرعًا كما لا يخفى.

"المذهب الرابع": أنه غير واقع بدليلي السمع والعقل. وإليه ذهب الشيعة الإمامية والنظام وبعض الخوارج وبعض المعتزلة.

هذه مذاهب العلماء إجمالًا في وقوع التعبد بالقياس شرعًا وعدم وقوعه. وهناك مذاهب أخرى =

ص: 373

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

................................. إلا دَاوُدَ، وابنه

(1)

، والقَاسَاني والنَّهْرَواني"، كذا أطلق المصنّف النقل عنهم، وسبقه إِلى ذلك ابن السَّمْعَاني، والآمدي ذكر أنهم وافقوا على وقوع ذي العلّة المنصوصة، أو المومئ إِليها، وهو الأصح في النقل عنهم، وكذلك لا ينكرون قياس الأولى، ولا يصحّ عن أحد من القائلين بالجَوَازِ إِنكار وقوع القياس بجملته، إِلَّا عن أبي محمد بن حَزْمٍ من أئمة الظاهرية.

ثم قد ذهب بعض القِيَاسيين إِلى أن ما صار إِليه القاساني والنَّهْرَواني، ومن وافقهما، ليس قولًا بالقياس، بل هو تَبِيعٌ للنَّص، وعلى هذا يصحّ النقل عنهم في إِنكاره جملة، والصحيح أن ذلك قول بنقض القياس.

وقال أبو الفضل بن عبدان

(2)

من أصحابنا: شرط صحّة القياس حدوث حادثة تؤدّي الضرورة إِلى معرفة حكمها.

ثم اختلف القائلون بالوقوع في أَنَّ ثبوته: هل بدليل السمع أو العقل؟ والأكثر: بدليل السَّمع.

= تفصِّل بين صور القياس، وهي قسمان: قسم يقول بوقوع التعبد به إلّا في صورة أو أكثر، وقسم يقول بعدم وقوعه إلا في صورة أو أكثر.

(1)

محمد بن داود بن علي بن خلف، الظاهري، أبو بكر. ولد سنة 255 هـ. أديب مناظر، شاعر. قال الصفدي: الإمام ابن الإمام، من أذكياء العالم. كان يلقب بـ"عصفور الشوك" لنحافته وصفرة لونه. وهو ابن الإمام داود الظاهري الذي ينسب إليه المذهب الظاهري. من كتبه:"الزهرة" و"أوراق من ديوان" و "الوصول إلى معرفة الأصول". توفي مقتولًا بـ"بغداد" سنة 297 هـ. ينظر: النجوم الزاهرة 3/ 171، وتاريخ بغداد 5/ 256، والوافي بالوفيات 3/ 58 واللباب 2/ 100، والأعلام 6/ 120.

(2)

عبد الله بن عَبْدان بن محمد بن عبدان، أبو الفضل الهمداني، شيخ همدان وعالمها، ومفتيها. رجل أشعري على السنة. أخذ عن أبي بكر بن لال وغيره، وصنف كتابًا في الفقه سماه "شرائط الأحكام"، وله مختصر سماه "شرح العبادات" ذكر في أوله عقيدته. مات في صفر سنة 433 هـ. ينظر: الأعلام 4/ 229، وطبفات الشافعية 3/ 204، وشذرات الذهب 3/ 251، وطبقات الشافعية لابن هداية ص (48)، وابن قاضي شهبة 1/ 208.

ص: 374

لَنَا: ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ جَمْع كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَإِنْ كَانَتِ التَّفَاصِيلُ آحَادًا، وَالْعَادَةُ تَقْضِي بِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَاطِعٍ، وَأَيْضًا: تَكَرَّرَ وَشَاعَ، وَلَمْ يُنْكَرْ، وَالْعَادَةُ تَقْضِي بِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مِثْلِهِ وِفَاقٌ.

فَمِنْ ذَلِكَ: رُجُوعُهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي قِتَالِ ............

واختلفوا: هل هو قطعي أو ظَنّي؟ "والأكثر: قطعي؛ خلافًا لأبي الحسين".

ثم اختلف أئمّتنا في تَعْيين الدليل الدَّال عليه، وتشعبوا شعوبًا وقَبَائل، والمعتمد من الطرق الاستدلال بعمل الصحابة رضي الله عنهم ثم اختلف سالكوه، فمنهم من زعم: قيام الإجماع منهم جميعًا إجماعًا قوليا، ولم يذكره في الكتاب، بل ذكر فريقين آخرين سالكي هذه الطريقة.

الشرح: فقال: "لنا: ثبت بالتَّواتر عن جمع كثير من الصَّحَابة العمل به عند عدم النَّص، وإن كانت التفاصيل" المروية في ذلك "آحادًا"، فالقدر المشترك منها متواتر.

"والعادة تقضي بأن مثل ذلك لا يكون إِلَّا بقاطع"، فدلّ على قيام قاطع عليه، وليس في هذه الطريقة ادّعاء وقوع إِجماع، لا سكوتي ولا قولي.

"وأيضًا: تكرر وَشَاع" فيما بينهم، "ولم ينكر، والعادة تقضي بأنّ السكوت في مثله وفاق"، وهذا إِجماع سكوتي، وهو أقوى من جميع الإِجماعات السّكوتية؛ لأنها في أَمْرٍ جزئي، وهذا في أصل عظيم في الشَّرِيعة، فربَّ ساكت في بعض الحَوَادث الجزئية غير ساكت على اعتماد أمر عظيم، فلا يَمْتَرِي ذو لُبّ أن السكوت على القواعد العظيمة أدلّ على الموافقة من السّكوت على فرع جزئي، وإلى هذا أشار بقوله: في مثله؛ لينبّه على أنه قد يوافق - هنا - من لا يقول بالسّكوتي.

ثم أخذ يذكر شيئًا مما جرى بيبن الصَّحَابة في ذلك، وهذا باب تضيق عنه الأَوْرَاق، ولكنه أشار إلى النَّزْرِ اليَسِيرِ.

الشرح: "فمن ذلك: رجوعهم إلى أبي بكر" الصديق - "رضي الله عنه في قتال بني حنيفة على الزكاة"، وقوله: والله لأُقَاتِلَنَّ من فَرَّقَ بين الصلاة والزكاة"

(1)

، وهو قياس منه

(1)

أخرجه البخاري (2/ 109 - 110) كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة، ومسلم (1/ 51 - 52) =

ص: 375

بَني حَنِيفَةَ عَلَى الزَّكَاةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ بَعْضِ الأَنْصَارِ في أُمِّ الآبِ: تَرَكْتَ الَّتِي لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ، وَرِثَ الْجَمِيعُ؟؟! فَشَرَّكَ بَيْنَهُمَا، وَتَوْرِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه الْمَبْتُوتَةَ بِالرَّأْي، وَقَوْلُ عَلِيٍّ لِعُمَر رضي الله عنهما لَمَّا شَكَّ فِي قَتْلِ الْجَمَاعة بِالْوَاحِدِ: أَرَأَيْتَ لَوِ اشْترَكَ نَفَرٌ فِي سَرِقَةٍ؟!.

للزكاة على الصلاة، وهذا الأثر متفق على صحته

(1)

.

= كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، حديث (32)، وأبو داود (2/ 198 - 199) حديث (1556)، والترمذي (5/ 3 - 4) رقم (2606، 2607)، والنسائي (5/ 14 - 15، 6/ 4 - 6) وأحمد (1/ 11) من حديث أبي هريرة.

(1)

وصورة هذا الاجتهاد "قياس خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب أخذ الزكاة من الأغنياء للفقراء ونحوهم كما يؤخذ من المستصفى والإحكام، أو قياس الزكاة على الصلاة في وجوب قتال الممتنعين عن أدائها" كما يؤخذ من شرح المختصر ومن المستصفى أيضا".

"ووجه الأول: أن الله تعالى قال لنبيه الكريم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} فأوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم أخذ الزكاة من الأغنياء، لصرفها، في مصارفها لأنه إمام الأمة، فقاس أبو بكر نفسه على الرسول؛ فأوجب على نفسه أن يأخذ الزكاة من الأغنياء، فلما امتنع بنو حنيفة، ولم يكن للأخذ منهم وسيلة سوى القتال؛ أوجب قتالهم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فوجوب الأخذ مبني على القياس السابق بجامع الإمامة العظمى ووجوب القتال للممتنعين من لوازمه.

"ووجه الثاني" أن وجوب أخذ أبي بكر الزكاة من الأغنياء كان أمرا مقررًا معلومًا بين الصحابة، لكن إذا امتنع الأغنياء ولم يكن للأخذ منهم وسيلة سوى القتال فهل يجب القتال، للتوصل إلى هذا الأخذ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؟، أو يمتنع؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وهؤلاء الممتنعون قد قالوا: لا إله إلا الله، فدماؤهم معصومة، فلا يقاتلون. هذان أمران متعارضان، فلا بد من الجمع بينهما إما بتخصيص وجوب الأخذ بما إذا تأدى بغير قتال، أو بتخصيص عصمة الدم بمن أمكن استيفاء الحق منه بدون قتال، ولا بد من ترجيح أحد هذين التخصيصين، فرجح أبو بكر التخصيص الثاني لأن العصمة قد خصصت بمن لم يجتمعوا على ترك الصلاة؛ إذ كان مقررا لديهم وجوب قتال من اجتمعوا على تركها، فقاس الزكاة على الصلاة في وجوب القتال على تركها بجامع أن كلا منهما شعار ديني عظيم يؤدي الاجتماع على تركه إلى فساد كبير. هذا ما ظهر لي في توجيه كل من الرأيين. =

ص: 376

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"ومن ذلك: قول بعض الأنصار" وهو: عبد الرحمن بن سَهْلٍ البدري لأبي بكر رضي الله عنه "في أم الأب: تركت التي لو كانت الميتة ورث الجميع؟! فشرك أبو بكر "بينهما"، وهذا مرويّ من طريق يحيى بن سعيد الأَنْصَارِي

(1)

، عن القاسم بن محمد بن أبي بَكْر: أن رجلًا مات وترك جَدَّتَيْهِ، أم أبيه، وأم أمه، فأتوا أبا بكر رضي الله عنه فأعطى أم الأم السّدس، دون أم الأب

(2)

، الأثر، وهو منقطع جيد.

= "والذي أراه" أن في هذه المسألة قياسين:

"أحدهما" قياس أخذ خليفة رسول الله الزكاة إذا أمكن بدون قتال على أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إياها في هذه الحالة، بجامع استيفاء الإمام الأعظم حق المسلمين في كل.

"وثانيهما" قياس قتال المجتمعين على ترك الزكاة على قتال المجتمعين على ترك الصلاة في الوجوب، بجامع أن كلًّا منهما وسيلة للواجب الذي يؤدي الاجتماع على تركه إلى فساد كبير.

وأنه رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر بالخلافة بعده، ومبني هذا العهد أنه قاس تعيينه لمن بعده بالعهد على تعيين المسلمين له بالبيعة في الجواز، بجامع صدور ذلك ممن هو أهل الحل والعقد، فالمسلمون عند فقد الخليفة هم أهل الحل والعقد، والخليفة عند وجوده هو صاحب الحل والعقد لرضا المسلمين به.

وأنه جاءت إليه جدتان، فأعطى الميراث أم الأم دون أم الأب، فقال له رجل من الأنصار من بني حارثة يقال له عبد الرحمن بن سهل:"يا خليفة رسول الله قد أعطيت الميراث التي لو ماتت وهو حي لم يرثها، وتركت التي لو ماتت وهو حي لورث كل مالها إذا انفرد"؟ فجعل الميراث بينهما. ينظر: المستصفى ج 2 ص 242، وأعلام الموقعين ج 1 ص 260، والأعلام ج 1 ص 256، والتقرير ج 3 ص 246، والمسلم ج 2 ص 313، والإحكام ج 3 ص 81.

(1)

يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة بن الحارث بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، الأنصاري النجاري، أبو سعيد، المدني، القاضي. قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث حجة، ثبت. وعده الثوري في الحفاظ وابن عيينة في محدثي الحجاز الذين يجيئون بالحديث على وجهه. قال: العجلي: مدني، تابعي، ثقة، له فقه، وكان رجلًا صالحًا، وكان قاضيًا على "الحيرة". توفي سنة 143 أو 144 هـ. ينظر: سير الأعلام 5/ 468، وتراجم الأحبار 4/ 227، وتاريخ الإسلام 6/ 149، وتاريخ بغداد 14/ 101، والجرح والتعديل 9/ 620، والكاشف 3/ 256، وتهذيب التهذيب 11/ 221 (360)، وتهذيب الكمال 3/ 1500، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 149.

(2)

والتشريك مبني على قياس أم الأب على أم الأم في استحقاق السدس، بجامع أن كلًّا منهما أم أصل وارث، فإذا تزاحمتا مع التساوي في الدرجة اشتركتا فيه، ولعله وقف أولًا على نص =

ص: 377

وَمِنْ ذَلِكَ: إِلْحَاقُ بَعْضِهِمُ الْجَدَّ بِالأَخِ، وَبَعْضِهِمْ بِالأَبِ، وَذَلِكَ كَثيرٌ.

"وتوريث عمر المَبْتُوتَة بالرأي"

(1)

كذا بخط المصنف، وإنما هو:[عثمان]

(2)

، رواه مالك والشَّافعي بسند صحيح.

"وقول علي لعمر - لما شك في قتل الجَمَاعة بالواحد -: أرأيت لو اشترك نَفَرٌ في سرقة". وهذا ذكره الأصوليون، وهو لا يُعْرَف، وإنما المعروف عن عمر في جماعة قتلوا صبيًّا:"لو تَمَالأَ عليه أهل صَنْعَاءَ لقتلتهم".

الشرح: "ومن ذلك: إلحاق بعضهم الجَدّ بالأخ"

(3)

، وهو قول عمر، وعثمان،

= خاص بأم الأم فأعطاها السدس كاملًا، فلما نبهه الأنصاري "إلى أن أم الأب أحق منها؛ لأنها لو ماتت لورث هذا الميت كل مالها لو كان حيا؛ لأنه ابن ابنها، بخلاف أم الأم؛ فإنها لو ماتت لم يرثها؛ لأنه ابن بنتها" تنبه رضي الله عنه إلى ذلك؛ فشرك بينهما في السدس.

(1)

ومبناه قياس بت الرجل طلاق امرأته في مرض موته على قتل الشخص مورثه في إلغاء المقصود الباطل من كل منهما بجامع أن كلا منهما إضرار بالغير للتوصل إلى ما لا يحق شرعًا، فالبت إضرار بالزوجة بقطع الزوجية للتوصل إلى حرمانها من الميراث في الوقت الذي تعلق فيه حقها بالتركة، وذلك لا يحق للزوج، وقتل المورث إضرار به بإزهاق روحه؛ للتوصل إلى الاستعجال بأخذ الميراث في الوقت الذي لا يحق للوارث أخذه فيه؛ لأنه لو لم يقتله لعاش بحسب الظاهر.

والأثر أخرجه البيهقي (7/ 363) من طريق سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب قال في الذي طلق امرأته وهو مريض قال: ترثه في العدة، ولا يرثها.

وقال البيهقي: هذا منقطع، ولم يسمعه مغيرة من إبراهيم.

(2)

في أ، ت: عمار، وهو خطأ.

(3)

اختلفوا في توريث الإخوة مع الجد، فمنهم من حجبهم به كأبي بكر وأبي موسى الأشعري وابن عباس وابن الزبير وغيرهم. ومنهم من ورثهم معه كزيد بن ثابت وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود على اختلاف بينهم في كيفية التوريث. واختلافهم في هذه المسألة مستند إلى القياس من غير شك؛ لأنه لا جائز أن يقولوا بلا مستند؛ لئلا يلزم اتفاقهم على خطأ وضلالة، =

ص: 378

فَإِنْ قِيلَ: أَخْبَارُ آحَادٍ في قَطْعِيٍّ، سَلَّمْنَا: لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ بغَيْرِهَا، سَلَّمْنَا: لَكِنَّهُمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، سَلَّمْنَا أَن ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نكِيرٍ دَلِيلٌ وَلا نُسَلِّمُ نَفْيَ الإنكارِ، سَلَّمْنَا لَكِنَّهُ لا تَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، سَلَّمْنَا لَكِنَّهَا أَقْيِسَةٌ مَخْصُوصَةٌ.

وعلي، وابن مَسْعُود، وأبي موسى الأَشْعَري، وزيد بن ثَابت رضي الله عنهم "وبعضهم بالأب"، وهو قول أبي بكر، وابن عَبَّاس، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وعائشة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وابن الزبير رضي الله عنهم.

وتقديم بعضهم الإخوة عليه - وهو غريب - روي عن عبد الرحمن بن غنم الأَشْعَرِيّ، وهو صحابي في قول.

"وذلك كثير" لا ينحصر، ولا ينكره إِلا مُبَاهت، أو عَارٍ عن معرفة الآثار، وأصح هذه الطرق الأولى، وهي ادّعاء الإِجماع القولي، ولا أعني به: أن كلًّا منهم صرح بأنه حجّة، بل إِنهم افترقوا إِلى مصرح بذلك، وعامل به، وليس فيهم من فقد الأمرين.

ولقد جنح إِمام الحرمين إِلى ما قلناه، والمصنّف أهمل ذكر هذه الطريقة - كما عرفت - ثم قال:"فإن قيل: أخبار آحاد في قطعي"، فلا تكفي.

= وهم أعدل الأمة وأورعها، ولا أن يكون مستندهم البراءة الأصلية؛ لأنها لا تتصور هنا؛ فإن المال المتروك لا بد أن يورث، ولا أن يكون مستندهم نصًّا؛ لأنه لو كان لدى أحد منهم نص لأظهره؛ فإن من عادتهم إظهار ما يعلمون من النصوص حتى في غير المسائل الخلافية، فما بالك بالمسائل الخلافية التي يقطع النص فيها عرق الخلاف؟ ولو أظهره لاشتهر ونقل، لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله؛ لتعلقه بمسألة كثر وقوعها واشتهر النزاع فيها، ولو نقل لعرفه الفقهاء والمحدثون، لكنهم لم يعرفوه كما يعلم بتصفح كتبهم، فلم ينقل ولم يشتهر؛ فلم يظهر؛ فلم يوجد؛ فتعين أن يكون مستندهم القياس.

فمن رأى حجب الإخوة بالجد قاس الجد على الأب بجامع أن كلًّا منهما أصل عاصب.

ومن رأى توريثهم معه قاسه على أحدهم في عدم حجبه إياهم بجامع الاستواء في الإدلاء بالأب. وقد ورد في هذه المسألة ما يدل على أن اختلافهم كان عن قياس، فمن ذلك ما أخرجه طلحة في مسند أبي حنيفة عنه عن جعفر بن محمد الصادق أن عمر شاور عليًّا وزيد بن ثابت في الجد مع الإخوة فقال له عليّ: "أرأيت يا أمير المؤمنين لو أن شجرة انشعب منها غصن ثم انشعب من الغصن غصن أيهما أقرب إلى أحد الغصنين؟ أصاحبه الذي خرج منه أم =

ص: 379

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"سلمنا" أنها متواترة، وأن الآحاد كافيةٌ فيها، بناء على أن المسألة ظنية، "لكن يجوز أن يكون عملهم بغيرها"، أي: بغير الأَقْيِسَةِ، من نصّ أو سنة أو غيرها، فليس الأمر منحصرًا في القياس.

"سلّمنا" أن ذلك عمل بالقياس، "لكنهم بعض الصحابة"، فلا يكون حجة.

= الشجرة؟ ". وقال زيد: "لو أن جدولًا انبعث منه ساقية، ثم انبعث من الساقية ساقيتان أيهما أقرب إلى إحدى الساقيتين؟ أصاحبتها أم الجدول؟.

ومقصود عليّ بالتمثيل بيان أن الجد والأخ متساويان في الإدلاء بالأب، فالجد، هو المشار إليه بالشجرة، والأب هو المشار إليه بالغصن الذي انشعب منها، وهو الذي أشير إليه بقوله:"أحد الغصنين" والأخ هو المشار إليه بالغصن الذي انشعب من الغصن وهو الذي أشير إليه بقوله: "أصاحبه" ولم يُشَر إلى الميت في هذا التمثيل.

ومقصود زيد بالتمثيل ما ذكر غير أن الجد فيه هو المشار إليه بالجدول، والأب هو المشار إليه بالساقية، والميت وأخاه هما المشار إليهما بالساقيتين المنبعثتين منها. وقد أشير إلى الميت بإحدى الساقيتين، وإلى أخيه بصاحبتها. والتمثيلان المذكوران لم يقصد بهما القياس على الشجرة والجدول حتى يرد عليه أنه ليس من القياس المتنازع فيه، وإنما قصد بهما بيان التساوي بين الجد والأخ في قرب القرابة الذي هو علة القياس. "وحاصله" قياس الجد مع الإخوة على أحد الإخوة في مشاركته إياهم، وعدم حجبه لهم بجامع المساواة في قرب القرابة.

وورد في بعض الروايات ما يدل على أن المقصود بالتمثيل بيان أن الأخ أولى من الجد بالميراث "ووجهه" أن تعلق الغصن الأخير بالغصن الأوسط أشد من تعلق الشجرة بهذا الغصن الأوسط؛ لأن الغصن الأخير محتاج إلى الغصن الأوسط أشد احتياج؛ إذ يتغذى منه وييبس بيبسه، بخلاف الشجرة فإنها لا تحتاج إلى هذا الغصن الذي خرج منها، إذ لا تتغذى منه ولا تيبس بيبسه، وكذلك تعلق إحدى الساقيتين الأخيرتين بصاحبتها التي تشاركها أشد من تعلق الجدول بكل منهما، فإن الساقيتين تشتركان في الحاجة إلى الساقية الوسطى وتيبسان بيبسها وتمتلئان بامتلائها، وأمّا الجدول فإنه لا يحتاج إلى كل منهما ولا إلى أصلهما، فعلى هذا يكون الأخ أشد ارتباطًا بأخيه الميت من الجد، فيكون أولى منه بالميراث. وكان هذا رأي زيد بن ثابت أولًا. ثم رجع عنه إلى القول بالمشاركة، ولعلّ السّر في رجوعه معارضة هذا المرجح للأخ بمرجح للجد، وهو أصالته وقيامه مقام الأب في أحوال كثيرة، وهي معارضة قوية، فلذا شرك بينهما مع ترجيح الجد أحيانًا على ما يعلم من الميراث.=

ص: 380

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"سلمنا: أن ذلك" أي: عمل البَعْض "من غير نكير دليل، ولا نسلم نفي الإِنكار"، فلقد روى أن أبا بكر رضي الله عنه قال في الكَلالَةِ

(1)

: أيّ سماء تُظِلّني، وأي أرض

= ومن ذلك أن ابن عباس أنكر على زيد بن ثابت قوله: إن الجد لا يحجب الإخوة فقال: "ألا يتقي الله زيد بن ثابت؛ يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أب الأب أبًا" اهـ. وحاصله أنه أقر زيدًا على قياس ابن الابن على الابن في حجبه الأخ؛ بجامع أن كلًّا منهما فرع عاصب، وأنكر عليه أنه لم يقس أب الأب على الأب في حجبه الأخ؛ بجامع أن كلًّا منهما أصل عاصب، وهذا من ابن عباس قول بالقياسين جميعًا.

ومن ذلك أن عمر قال لعثمان: "إني قد رأيت في الجد رأيًا، فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه فقال عثمان: نتبع رأيك فإنه رشد، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي كان" اهـ والرأي هنا هو القياس. وكان أبو بكر يجعل الجد أبًا، وهو المراد بالشيخ في هذا الأثر.

(1)

كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة، واختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها عبارة عمن سوى الوالدين والولد، وهذا هو المختار والقول الصحيح، وأما عمر رضي الله عنه فإنه كان يقول: الكلالة من سوى الولد، وروي أنه لما طعن قال: كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له، وأنا أستحي أن أخالف أبا بكر، الكلالة من عدا الوالد والولد، وعن عمر فيه رواية أخرى، وهي التوقف، وكان يقول: ثلاثة لأن يكون بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم لنا أحب إلى من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، والربا. والذي يدل على صحة قول الصديق رضي الله عنه وجوه: الأول: التمسك باشتقاق لفظ الكلالة، وفيه وجوه:

الأول: يقال: كلت الرحم بين فلان وفلان: إذا تباعدت القرابة، وحمل فلان على فلان ثم كل عنه: إذا تباعد، فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه.

الثاني: يقال: كل الرجل يكل كلًّا وكلالة: إذا أعيا وذهبت قوته، ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة لا من جهة الولادة، وذلك لأنا بينا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير، فيكون فيها ضعف، وبهذا يظهر أنه يبعد إدخال الوالدين في الكلالة؛ لأن انتسابهما إلى الميت بغير واسطة.

الثالث: الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، ومنه الكل لإحاطته بما يدخل فيه، ويقال: تكلل السحاب إذا صار محيطًا بالجوانب، إذا عرفت هذا فنقول: من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة؛ لأنهم كالدائرة المحيطة بالإِنسان، وكالإكليل المحيط برأسه: أما قرابة الولادة فليست كذلك؛ فإن فيها يتفرع البعض عن البعض، ويتولد البعض من البعض، كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد، ولهذا قال الشاعر: =

ص: 381

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تُقِلّني إذا قلت في كتاب الله بِرَأْيي؟ "

(1)

.

وعن عمر: "إياكم وَأَصْحَاب الرأي

(2)

"، إِلى غير ذلك من آثار كثيرة

(3)

.

= نسب تتابع كابرًا عن كابر

كالرمح أنبوبًا على أنبوب

فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة، وهي كالإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، فإنما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب إليه، فثبت بهذه الوجوه الاشتقاقية أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالدين والولد.

الحجة الثانية: أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا مرتين، في سورة النساء: أحدهما في الآية (12) والثاني في آخر السررة، وهو قوله:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة من لا ولد له فقط، قال: لأن المذكور هاهنا في تفسير الكلالة: هو أنه ليس له ولد. إلا أنا نقول: هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد؛ وذلك لأن الله تعالى حكم بتوريث الإخوة والأخوات حال كون الميت كلالة، ولا شك أن الإخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فوجب ألا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين.

الحجة الثالثة: أنه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة ثم أتبعها بذكر الكلالة، وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة من عدا الوالدين والولد.

الحجة الرابعة: قول الفرزدق:

ورثتم قناة الملك لا عن كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

دل هذا البيت على أنهم ما ورثوا الملك عن الكلالة، ودل على أنهم ورثوها عن آبائهم، وهذا يوجب ألا يكون الأب داخلًا في الكلالة، والله أعلم. ينظر: تفسير الرازي 9/ 179، 180.

(1)

أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/ 165، وأبو عبيد في فضائل القرآن.

(2)

أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2/ 134) من طريق عامر الشعبي عن عمرو بن حريث وقال: قال عمر بن الخطاب فذكره، وذكره العراقي في تخريج أحاديث مختصر المنهاج ص 33 وعزاه للبيهقي في المدخل.

(3)

منهما: "أ" ما رواه البيهقي في المدخل عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "اتقوا الرأي في دينكم، إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، اتهموا الرأي على الدين".

"ب" وما رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه". =

ص: 382

وَالْجَوَابُ عَنِ الأوَّلِ: أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ فِي الْمَعْنَى كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

وَعَنِ الثانِي: الْقَطْعُ مِنْ سِيَاقِهَا بِأنَّ الْعَمَلَ بِهَا.

"سلمنا" نفي الإِنكار، ولكنه لا يدل على الموافقة"، كما عُرِفَ في الإِجماع السكوتي.

"سلمنا" دلالة عملهم بها على كونها حُجّة "لكنها أقيسة مخصوصة" ومدعاكم وجوب العمل بكل قياس، فمن أين التعميم؟.

الشرح: "والجواب عن الأول: أنها متواترة في المعنى، كشَجَاعة علي.

وعن الثاني القطع من سياقها بأن العمل بها"، ولقد كان لِحِجَاجِهِمْ ومُنَاظرتهم المنتهى.

قال ابن السَّمْعَاني: ويستحيل عادة على عدد كثير يهتمُّون بنقل كلام من يعظمونه حتى ينقلوا ما لا يتعلّق به حكم شرعي، أن يهملوا إِظهار ما اشتدت الحَاجَة إِليه، مما يتعلّق به حكم، ووقع فيه النِّزاع، ويفارق هذا ترك نقل سَنَدِ الإجماع للانتهاء من أن الإجماع حجة لا خلاف معه.

= "ج" وما رواه الطبراني عن ابن مسعود أنه قال: "لا أقيس شيئًا على شيء فتزل قدم بعد ثبوتها".

"د" وما رواه هو والبيهقي عنه أيضًا أنه قال: "يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فينهدم الإسلام وينثلم".

"والجواب عنه" أن الذين نقل عنهم إنكار القياس هم الذين نقل عنهم العمل به، وهذان النقلان متعارضان ظاهرًا ولا سبيل إلى العمل بهما من كل وجه؛ لأنه تناقض، ولا إلى إهمالهما من كل وجه؛ لأنه خلاف الأصل؛ إذ الأصل في الأدلة الإعمال، ولا إلى العمل بأحدهما دون الآخر لأنه ترجيح بلا مرجح، فيتعين التوفيق بينهما بحمل العمل بالقياس على القياس الصحيح المستجمع لشرائط الحجية، وحمل إنكاره على القياس الفاسد الذي لم يستجمع شرائط الحجية كأن يكون صادرًا ممن لم يبلغ درجة الاجتهاد أو مخالفًا للنص الثابت أو ليس له أصل يشهد له بالاعتبار.

ص: 383

وَعَنِ الثَّالِثِ شِيَاعُهُ وَتَكْرِيرُهُ قَاطِعٌ عَادَةً بِالْمُوافَقَةِ".

وَعَنِ الرَّابعِ: أَنَّ الْعَادَةَ تَقْضِي بِنَقْلِ مِثْلِهِ.

وَعَنِ الْخَامِسِ مَا سَبَقَ فِي الثالِثِ.

الشرح: "وعن الثالث: شياعه وتكرّره قاطع عادة بالموافقة"، فليس الاستدلال بمجرّد قول البعض، بل بقول البعض، وموافقة الباقين التي قضت العَادَة بحصولها.

الشرح: "وعن الرابع" وهو: منع عدم الإِنكار "أن العادة تقضي بنقل مثله"، أي: مثل الإِنكار لو وقع، فعدم نقله دليل على عدم وقوعه، وما نقل عن الشَّيخين وغيرهما محمول على القياس الفَاسِد؛ فإن القاطع قائم بعدم الذَّم؛ في صور غير مَحُصورة، ومنقول عمن نقل عنهم الذَّم، فتعين الحمل على ذلك جمعًا بين الدليلين.

الشرح: "وعن الخامس: ما سبق في الثالث"، من أن استدلالنا بعدم الإِنكار مع الشيوع والتكرار، وذلك دالّ.

ولك أن تقول: سلمنا أنه دالّ، ولكن لم قلت: إنَّ دلالته قطعية؟

ولا يتم مقصودك إلا بإثبات دلالة قاطعة، وهذا واضح لا سيّما عند من يقول بأنّ الإِجماع السكوتي ظني، ومنهم المصنف.

وإمام الحرمين لا يرد عليه هذا.

أما أولًا: فلأنه جَنَحَ إلى إثبات الإجماع القولي في المسألة كما هو رأينا.

وأما ثانيًا؛ فلأن السُّكوتي عنده في الصورة التي يختاره فيها قَطْعي، وقد قال - هنا -: ذكرنا في مسألة الانتشار أنه لا يجوز السُّكوت مع طول الزمان، [وتذاكر]

(1)

أهْله، وإن كان الأمر مظنونًا، فكيف يسوغ في مطّرد العرف تصرف علماء الصَّحابة في مذاهب الاجتهاد على الدَّوَام من غير فُتُورٍ فيه، ثم يسكت عليه من يعتقد بطلانه؟! انتهى.

(1)

في أ، ت: تدارك.

ص: 384

وعنِ السَّادِسِ: الْقَطْعُ بِأنَّ الْعَمَلَ لِظُهُورِهَا، لا لِخُصُوصِهَا؛ كَالظَّوَاهِرِ.

الشرح: "وعن السَّادِس: القطع بأن العمل" بها كان "لظهورها"، وإثارتها الظن "لا لخصوصها، كالظواهر" كلها التي عَمِلُوا بها من الكتاب والسُّنة، فإنا على قطع بأن عملهم إنما كان لظهورها، وما كانوا يجتهدون إلا لتحصيل الظَّن.

ولإمام الحرمين سؤال لو قرر عليه السُّؤال السَّادس في كلام المصنّف، كان موجهًا، وهو أنكم مَعَاشر القياسيين لا تصححون كل نظر، ومتعلّقكم فيما صححتموه إِجماع الأولين، ولا تنقلون فيه لفظًا جامعًا مانعًا، حتى يكون مرجوعكم فيما تأتون وتذرون، وتصححون وتبطلون، وإلَّا فالأقاصيص المتفرقة لا ضبط لها، فكيف انضبط لكم منها ما لا يصح وما يفسد؟، وقد اعترفتم بأنْ لا مدرك غير التعلّق بما صدر منهم.

قال إِمام الحرمين

(1)

: وهذا سؤال مُشْكل، ذكره في "دلائل الكلام" على القَاساني والنَّهْرَواني، حيث لم يقبلا القياس إِلا في المكانين اللذين أشرنا إِليهما آنفًا.

ثم أجاب: بأنَّا نعلم بالضَّرورة أن النظر الذي حكمت به الصحابة زائد على ما اعترف به هؤلاء بأضعاف مُضَاعفة، وآلاف مؤلّفة، وقد ثبت نظر أنكروه، أي: على الجُمْلة، وذلك هو قُصَارى مدعانا هنا، وما من طريق تذكر إِلّا ويستدل عليه بخصوصه على حسب الإِمكان، ولك نقل هذا الجواب إلى - هنا - فتقول: قد ثبت قياسهم على الجُمْلة، وهو المدعي، أما النظر إِلى كل مأخذ بخصوصه، فلسنا له الآن.

ولك - أيضًا - أن تقول: إِنا نقطع بأن العمل بها إنما كان بحصول الظن، لا بخصوصها، كما ذكر المصنف، وهو سَدِيدٌ.

فإن قلت: يلزمكم العمل بكل قياس.

قلنا: إنما يلزمنا العمل بكلّ قياس يحصل ظنًّا، ونحن نلتزمه، أما ما لا يثير ظنًّا، كالطرد، فلا يلزمنا.

ولقد أورد ابن السَّمعاني سؤال إمام الحرمين هذا على أصل الاستدلال بإجماع

(1)

ينظر: البرهان 2/ 779 - 780.

ص: 385

وَاسْتُدِلَّ: بِمَا تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ مِنْ ذِكْرِ الْعِلَلِ لِيُبْتَنَى عَلَيْهَا؛ مِثْلُ: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ؟ "، "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ [إِذَا جَفَّ]؟ "؛ وَلَيْسَ بِالْبَيِّنِ.

وَاسْتُدِلَّ: بإلْحَاقِ كُلِّ زَانٍ بِمَاعِزٍ.

وَرُدَّ: بِأنَّ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: "حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ" أَوْ للإِجْمَاعِ.

وَاسْتُدِلَّ: بِمِثْلِ: "فَاعْتَبِرُوا"، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْاتِّعَاظِ، أَوْ فِي الأمُورِ الْعَقْلِيَّةِ مَعَ أَن صِيغَةَ "افْعَلْ" مُحْتَمِلَةٌ.

الصحابة كما أوردناه، وعَزَاه إِليه مصرحًا باسمه وهو قليل التَّصْريح باسمه، مع كثرة نقله عنه.

ثم قال: لا أدري كيف وجه الإشكال؟، وهذه الآثار صرّحت بالمصير إِلى الرأي من الصحابة بالانضباط فيما اتفقوا عليه.

فإن قيل: لم يصرحوا بعلم.

قلنا: قد ذكرنا محاجتهم بضرب الأمثلة، وعلى التنبيه منهم على العلة والقياس، وقد وجد، ثم قال: ونعين مسألة واحدة، وذكر مسألة الحرام واختلافهم فيها على الأقوال المعروفة، ثم قال: فوجب القطع بأنهم أرادوا ما ذكرناه أو ما يجري مجراه معنى من رأي تشابه الرأي في مسألة الحرام، وهو دون الرأي في العلل المنصوصة وقياس الأولى ونحوهما.

الشرح: "واستدلّ" على التعبد بالقياس "بما تواتر معناه من ذكر العِلَل لتبني عليها" الأحكام، "مثل:"أرأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ؟ "، "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ؟ ".

وقد تقدم هذان الحديثان وما شابههما، "وليس" الاستدلال بذلك "بالبَيّن" في الدلالة على المقصود؛ فإنه لعل المقصود من ذكر العلة الوقوف على الحكمة، لا أن يقاس عليها، ولذلك جوزنا التعليل بالقاصرة، والحق أن هذا احتمال منع القطع دون الظهور، فيمنع الاكتفاء بهذا الوجه حجة على القياس.

"واستدلّ" - أيضًا - "بإلحاق كل زانٍ" محصن "بِمَاعِزٍ" في الرَّجْم، وصدر هذا الإِلحاق من جميع الأمة، فدلّ على القياس.

ص: 386

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"ورُدّ بأن ذلك لقوله" عليه الصلاة والسلام: "حُكْمِي عَلَى الوَاحِدِ، حُكْمِي عَلَى الجَمَاعَةِ

(1)

.

وقد قلنا غير مرة: إِن الحديث وإن لم يصح، فمعناه مجمع عليه.

"أو للإجماع" على أن كل زانٍ محصن حكمه حكم مَاعِزٍ، لا للقياس.

"واستدلّ بمثل: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: الآية 2].

والاعتبار: المُجَاوزة، وهو محقق في القياس، فيشمله؛ بدليل صحّة الاستثناء، بأن

(1)

قال الحافظ ابن كثير في "تحفة الطالب" ص (286) حديث (180): لم أره بهذا قط، وسألت عنه شيخنا الحافظ جمال الدين أبا الحجاج المزي وشيخنا الحافظ أبا عبد اللّه الذهبي مرارًا، فلم يعرفاه بالكلية.

وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" ص (200) حديث (1) نقلًا عن العراقي في تخريج البيضاوي: لا أصل له، وقد ذكره أهل الأصول في كتبهم الأصولية، واستدلوا به فأخطأوا.

وقال العلامة نور الدين علي بن محمد ملا على القاري في "الأسرار المرفوعة": وأنكره المزي والذهبي. وقال الزركشي: لا يعرف ص (14)، حديث (430).

وقال الجلال السيوطي في "الدرر المنتثرة" ص (132) حديث (198): لا يعرف. وقال السخاوي في المقاصد الحسنة: ليس له أصل ص (416). وقال ابن الربيع في "تمييز الطيب من الخبيث" ص (81) حديث (544): ليس له أصل. وقال الزركشي: لا يعرف بهذا اللفظ لكن معناه ثابت، رواه الترمذي والنسائي من حديث مالك عن محمد بن المنكدر عن أميمة بنت رقيقة

إلخ انتهى. وحديث أميمة رضي الله عنها أخرجه الترمذي 4/ 151 - 152 في أبواب السير: باب ما جاء في بيعة النساء حديث (1597). وقال أبو عيسى (هذا حديث حسن صحيح) وأخرجه النسائي 14918 في كتاب البيعة: باب بيعة النساء، وأخرجه أيضًا في السنن الكبرى في التفسير وفي السير، انظر: تحفة الأشراف 11/ 269، وأخرجه الإمام مالك 2/ 982 في كتاب البيعة: باب ما جاء في البيعة حديث (2) ولفظه: عن أميمة بنت رقيقة أنها قالت: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة بايعنه على الإسلام، فقلن: يا رسول اللّه نبايعك على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيما استطعتن وأطقتن" قالت: فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة".

ص: 387

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يقال: فاعتبروا إلا في الشيء الفلاني، والاستثناء دَلِيلُ الشمول أولًا، فيكون مشروعًا، ثم إذا شرع كان واجبًا؛ لعدم القائل بالفَصْل في القياس. هذا تقرير الاسْتِدلال من قوله: فاعْتَبِرُوا

(1)

.

(1)

إن الله تعالى أمر بالاعتبار، وهو في اللغة: رد الشيء إلى نظيره كما حكى عن ثعلب من أئمة اللغة، وهذا يشمل الاتعاظ، وهو رد الحوادث المستقبلة التي يفرض الإنسان وقوعها منه إلى الحوادث الماضية وإعطاؤها حكمها في الجزاء كما في مورد الآية "وهو إخراج بني النضير من المدينة إلى الشام وقذف الرعب في قلوبهم وإخراب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين؛ جزاء لهم على كفرهم واغترارهم بحصونهم" ويشمل القياس الشرعي، وهو رد المحل المسكوت عن حكمه الشرعي إلى المحل المنصوص على حكمه، وإعطاء الأول حكم الثاني؛ لوجود علته فيه، كإعطاء البنتين حكم الأختين في الميراث، وهو "إرث الثلثين" بجامع أن كل صنف منهما اثنتان اجتمعتا ممن يستحق النصف عند الانفراد.

فكل من هذين النوعين وسواهما من أنواع الرد إلى النظير يقال له: اعتبار، ومما يؤيد إطلاق الاعتبار على النوع الثاني، وهو القياس قول ابن عباس رضي الله عنهما في قياس الأضراس على الأصابع:"عقلها سواء، اعتبروها بها" أي ردّوا الأضراس إلى نظائرها وهي الأصابع، فأثبتوا لها استواءها في الدية كما أثبتموه في الأصابع؛ لأن التفاوت بينها يشق ضبطه، فأطلق ابن عباس الاعتبار على القياس الشرعي والأصل في الإطلاق الحقيقة، فالاعتبار المأمور به عام شامل لجميع أفراد هذين النوعين وسواهما وإن كان واردًا على سبب خاص وهو ما حصل لبني النضير؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالقياس الشرعي إذا مأمور به في ضمن الأمر بالاعتبار، والأمر للوجوب فيكون تحصيله واجبًا على من هم أهل لذلك وهم "المجتهدون"؛ لأن غيرهم عاجز عن ذلك، فيكون العمل بمقتضاه واجبًا على جميع المكلفين؛ لأنه لم يجب لذاته بل للتوصل إلى العمل به، ولا معنى للتعبد به إلا إيجابه أو إيجاب العمل بمقتضاه، فيكون التعبد به واقعًا في الشرع بهذا الدليل السمعي، ويمكن أن يقرر على قواعد المنطق؛ ليتضح وجه إنتاجه للمطلوب، ولتتبين موارد الاعتراضات عليه فيقال: القياس اعتبار؛ وكل اعتبار مأمور به شرعًا؛ وكل مأمور به شرعًا متعبد به شرعًا، فالقياس متعبد به شرعًا بهذا الدليل وهو سمعي لتوقف مقدمته الثانية على السمع فالتعبد بالقياس واقع شرعًا بهذا الدليل السمعي.

وأمَّا طريقة الحنفية في الاستدلال بالآية فهي ذات وجهين: "أحدهما" منطوقي أصلي.

"والثاني" مفهومي تنزلي. =

ص: 388

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال المصنف: "وهو ظاهر في الاتِّعَاظِ"؛ لِغَلَبَتِهِ فيه، ولدلالة سياق الآية عليه، فإن الله - تعالى - قال:{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا} [سورة الحشر: الآية 2]، والمناسب - هنا - أن يكون الاعتبار، لا أن يكون المراد: فقيسوا الذّرة على البُرّ؛ إذ لو فرض ذلك، لكان ركيكًا من الكلام، ينزه عنه كلام الله تعالى.

واعلم أن أصحابنا استدلُّوا بهذه الآية خلفًا عن سَلَفٍ، والحق عندي فيها أنها غير مفيدةٍ للقطع، ولكنها تفيد الظن، وما ذكر من الرَّكَاكَةِ، قد ذكر أصحابنا: أنه إنما يتأتى، لو قيل: فقيسوا الذُّرَة على البُرّ، ولا يجيء فيما إِذا أتى بلفظ عام، كما هو فيما نحن فيه؛ فإن الاعتبار أعم من الاتِّعَاظ، وقياس الذُّرَة على البر، فما في ذلك شيء من الركاكة، بل هو في أعلى مقام الفَصَاحة؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو سئل عمن ابتلع حَصَاة في نهار رمضان، لم يكن أن يقول في جوابه: من جامع فعليه الكفارة؛ إِذ لا دخول لصورة السُّؤال تحت هذا

= "أما الوجه المنطوقي الأصلي" فحاصله أن قول الله تعالى: {فاعتبروا} أمر بالاعتبار، والاعتبار هو رد الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس الشرعي. وكل ما هو رد الشيء إلى نظيره. ولا شك أن سوق الآية للاتعاظ بما حصل لبني النضير من إخراجهم من ديارهم وقذف الرعب في قلوبهم وإخراب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ عام كما قلنا، فبدل على الاتعاظ عبارة وعلى القياس إشارة؛ لأن الاتعاظ ثابت بطريق المنطوق مع كون سياق الكلام له، والقياس ثابت بطريق المفهوم أيضًا من غير أن يكون سياق الكلام له.

"وأنت ترى" أن هذا الوجه لا يخالف طريقة الجمهور المتقدمة إلا في تقسيم دلالة الأمر في الآية إلى دلالة عبارة على الاتعاظ، ودلالة إشارة على القياس الشرعي. والقصد من هذا التقسيم بيان نوع دلالة الآية على وجوب القياس عند الحنفية، وهو لا يقتضي تغيير شيء من المقدمات التي ركب منها الدليل على طريقة الجمهور، ولذا يرد عليه كل ما ورد على طريقتهم من كون المراد بالاعتبار في الآية الاتعاظ، وكونه غير عام وغير ذلك ممَّا سبق. والجواب هو الجواب، فلا داعي إلى تكراره.

"وأما الوجه المفهومي التنزلي" فحاصله: أنا لو سلمنا ما يقول المعترض من أن الاعتبار في الآية معناه الاتعاظ، فغاية ذلك أنها لا تدل على حجية القياس بطريق المنطوق الإشاري، لكنها تدل بطريق مفهوم الموافقة، وهو المسمى دلالة النص.

ص: 389

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اللفظ، ويحسن كل الإحسان أن يقول: من أفطر فعليه الكَفّارة؛ فإن فيه الجواب وزيادة فائدة.

وعند هذا نقول: إن أراد المصنف أنه ظاهر في الاتِّعَاظ، غير ظاهر في القياس، فهو ممنوع، بل هو ظاهر فيهما جميعًا، نعم دخول الاعتبار أظهر؛ لأنه يشبه خصوص السَّبب الذي دخوله تحت اللَّفْظ أظهر، وإذا كان ظاهرًا فيهما، حسن الاستدلال به لمن يكتفي بالظُّهور في المسألة، ولمن يريد أن يضم إِليه ظواهر أخر يصل مَجْمُوعها إِلى القطع ممن لا يكتفي بالظهور.

وإن أراد: ظاهر في الاتِّعَاظ، مع ظهوره في القِيَاسِ، لم يجده نفعًا.

فإن قلت: يفيده عدم الاسْتِدْلال به، فإنه لا يكتفي بالظَّن في المسألة.

قلت: هو غني عن دعوى الظُّهُور، فإِن مجرد الاحتمال يدفع القَطْع، وهو قائم بلا ريب.

ولنعد إِلى حل كلامه: سلمنا أنه ظاهر في القياس، سواء أكان ظهوره فيه مساويًا لظهوره في الاتِّعَاظ أو لا، كذا ينبغي أن يقرر، ولا يقرر على أَنّا: سلّمنا أنه غير ظاهر في الاتِّعَاظ؛ فإِنه تسليم لشيء لم يدعه أحد، ونقول بعد هذا التسليم: هو ظاهر في القياس في الأمور العَقْلية، كما يقال في إِثبات الصانع: اعتبر بالدار، هل يمكن حدوثها من غير صانع.

فما ظنك بالعالم، وليس ظاهرًا في القياس الشرعي، وإليه أشار بقوله:"أو في الأمور العقلية"، ثم ذكر ما يمنع القطع في الآية، فقال:"مع أن صيغة "افعل" محتملة"، وهو صحيح؛ فإِن موارده [كثيرة - كما عرفت في مَوْضعه - ولكنا نقول: من مواردها]

(1)

ما يقطع بانتفائه - هنا - كالتهديد ونحوه، فإنه لا يتجه - هنا - غير الوجوب والنَّدب والإِباحة، وإذا كانت الصيغة - هنا - مترددة بين هذه المحامل لا رابع لها، فنقول: أيًّا ما كان، حصل الغرض، أما أن يكون الوجوب، فواضح، وأما إن كان الندب، أو الإِباحة؛ فلأنه يستفاد منه أصل المشروعية، ومتى تثبت مشروعية العمل بالقياس، ثبت وجوبه؛ إِذ لا قائل بالفصل، نعم لو قال المصنّف: مع أن الآية محتملة، صح، ودفع القطع.

(1)

سقط في ت.

ص: 390

وَاسْتُدِلَّ: بِحَدِيثِ مُعَاذٍ؛ وَغَايَتُهُ الظَّنُّ.

وذكر أصحابنا - أيضًا - من الآيات قوله - تعالى -: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء: الآية 83].

قالوا: والاستنباط هو: الاستخراج للمعنى المودع في النَّص، فيبرز ويظهر، وهو يشمل القياس، وهاتان الآيتان: آية الاعتبار. وآية الاستنباط، أظهر ما تعلّق به من الآي، والبحث فيها يطول

(1)

.

الشرح: "واستدلّ بحديث معاذ"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ

(1)

إن الله عز وجل ذكر في قرآنه الكريم آيات كثيرة ذكر فيها عللًا للأحكام؛ لتبتنى عليها غيرها في سائر محالها، وإني أكتفي منها بهذه الشواهد الآتية.

1 -

قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} آية 179 من سورة البقرة. قاله بعد قوله: "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى" وقد بيّن بهذا أن علة وجوب القصاص ما فيه من المحافظة على الأنفس؛ لأن مريد القتل ظلمًا إذا علم أنه سيقتص منه كف عما كان معتزمًا عليه من قتل صاحبه، فسلمت حياته وحياة صاحبه.

2 -

وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [سورة البقرة: الآية: 222]، بين الله عز وجل في هذه الآية أن علة وجوب اعتزال النساء في المحيض كونه أذى.

3 -

وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [سورة البقرة: الآية 282]. بين الله عز وجل في هذه الآية أن العلة في قيام المرأتين مقام الرجل الواحد ضعف ذاكرة النساء.

4 -

وقال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [سورة النساء: الآية 3] بين الله عز وجل في هذه الآية أن خوف الظلم في القسم بين الزوجات علة لوجوب الاقتصار على واحدة.

5 -

وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة المائدة: الآية 38]. بين الله عز وجل في هذه الآية أن السرقة علة في وجوب قطع اليد.

6 -

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [سورة المائدة: الآية 57]. بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن اتخاذ دين الإسلام هزوًا ولعبًا علة في تحريم اتخاذ المتصفين به أولياء. =

ص: 391

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قَضَاء؟ "، قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قال: فبسُنّة رسول الله، قال: "فَإنْ لَمْ تَجِدْ؟ "، قال: أجتهد رأيي، ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال: "الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ"

(1)

رواه أحمد، وأبو داود،

= 7 - وقال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة: الآية 76]، بين الله في هذه الآية أن العلة في إنكار عبادة الأصنام كونها لا تملك لعابديها ضرًّا ولا نفعًا.

8 -

وقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [سورة الأنعام: الآية 108]، كان المسلمون يسبون آلهة المشركين، فنهاهم الله عن ذلك، وبين أن العلة في النهي تأدية سبهم إلى سب الله سبحانه وتعالى.

9 -

وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [سورة الإسراء: الآية 76] نهى الله تعالى عن التقييد والإسراف، وبين أن العلة في النهي تأديها إلى اللوم والحسرة.

10 -

وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [سورة الإسراء: الآية 53]. أمر الله سبحانه في هذه الآية نبيه الكريم أن يأمر المؤمنين بملاينة المشركين في الكلام مبينًا علة الأمر بالملاينة، وهي أن الشيطان يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض؛ ليوقع بينهم الشقاق

إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها تعليل الأحكام.

وتقرير الاستدلال بهذه الآيات أن يقال: "لو لم يكن القياس حجة لما ذكر اللّه عز وجل العلل للأحكام؛ لتبتني عليها في سائر محالها؛ لكن التالي باطل، فبطل المقدم؛ فثبت نقيضه وهو أن القياس حجة.

"أما الملازمة" فبيانها أنه يلزم من ذكر الله تعالى العلل للأحكام في محال لتبتني عليها الأحكام في سائر المحال، إذنه ببناء الأحكام على العلل؛ وهو القياس، ويلزم من الإذن به حجيته، ولا شك أن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم؛ فيلزم من عدم حجية القباس عدم ذكره سبحانه وتعالى العلل للأحكام لتبتني عليها، وهذا هو معنى الملازمة.

"وأما بطلان التالي" فدليله الآيات القرآنية الكثيرة التي ذكر الله فيها العلل للأحكام في محالّ؛ لتبتني عليها الأحكام في سائر محالها.

(1)

وجه الاستدلال بهذه القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذًا على العمل بالرأي حيث قال له عقب قوله: أجتهد رأيي "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ" والرأي هو القياس؛ لأن الاجتهاد بالرأي في كلام معاذ لا يخلو إما أن يحمل على الاجتهاد بالاستنباط من الكتاب =

ص: 392

النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ لا يَكْفِي في التَّعَدِّي دُونَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ.

وَقَالَ أَحْمَد، وَالْقَاشَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، والْكَرْخِيُّ: يَكْفِي.

وَقَالَ الْبَصْرِيُّ: يَكْفِي فِي عِلَّةِ التَّحْرِيمِ لا غَيْرِهَا.

والترمذي، ولكن قال البخاري: لا يصح.

وقال الترمذي: ليس إسناده - عندي - بمتصل

(1)

.

قال المصنف: "وغايته" إفادة "الظن"، وهذا صحيح، وإنما سلك بعضهم في إفادته الظن من قبيل أنه لا يلزم من صحّة القياس لمعاذ، صحته لغيره، فإن قِيسَ غيره عليه، لزم الدور، ثم كيف يقاس بمعاذ الذي هو أعلم النَّاس بالحلال والحرام من هو دونه؟.

وجواب هذا: أنه لا قائل بالفَصْلِ، وأن الحكم على الواحد حكم على الجَمَاعَةِ.

الشرح: ‌

«مسألة»

"النَّص على العلة لا يكفي في التعدّي دون التعبد بالقياس"،

سواء أكان في الفعل، مثل: أكرم زيدًا لعلمه، أو الترك، مثل: الخمر حرام لإِسكاره، وهو رأي المحققين، كالأستاذ، والغزالي، والإمام وأتباعه، والآمدي

(2)

.

= والسنة، أو على الاجتهاد بالرأي المحض الذي لا يستند إلى أصل من الكتاب أو السنة، أو على الاجتهاد برد القضية التي لا نص فيها إلى ما في الكتاب والسنة بطريق القياس.

لا جائز أن يحمل على الأول؛ إذ لو كان كذلك لكان قضاء بالكتاب والسنة، فيكون داخلًا فيما قبله في القصة، فلا يصح جعله مقابلًا للقضاء بهما وموقوفًا على فقد الحكم فيهما. ولا جائز أن يحمل على الثاني، إذ لو كان كذلك لما أقره النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه عمل في دين الله بالهوى والتحكم؛ فتعين الثالث، وهو الجمل على العمل بالقياس، وقد أقره صلى الله عليه وسلم، فيكون القياس حجة شرعية؛ وهو المطلوب.

(1)

ينظر البرهان 2/ 774 - 785، المعتمد 2/ 753، المستصفى 2/ 2/ 272، شرح العضد 2/ 253، المنخول 326، التبصرة (436)، والمحصول 2/ 2/ 164، المنتهى (140)، الإبهاج 3/ 24، جمع الجوامع 2/ 210، الإحكام للآمدي 4/ 74، تيسير التحرير 4/ 11، فواتح الرحموت 2/ 316، روضة الناظر (154)، نبراس العقول (169).

(2)

اعترض على هذا الحديث باعتراضات منها: ضعف إسناده كما بينا في تخريج الحديث "وأجيب عنه" بأن جهالة أصحاب معاذ في هذا الحديث لا تنافي صحته؛ وذلك لثلاثة أوجه: "الأول" أنهم وإن جهلت أسماؤهم فهم أصحاب معاذ، فلا يضر الحديث ذلك؛ لأن هذا =

ص: 393

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وقال أحمد" في رواية "والقَاشَاني، وأبو بكر الرازي، والكَرْخِي"، والشيخ أبو

= الوصف يدل على شهرته، وأنه حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمّى، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، ولا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث، وقد قال بعض أئمة الحديث، "إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به".

"الثاني" أن أهل العلم قد نقلوا هذا الحديث واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا وصية لوارث" وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميته" وقوله: "إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع" وقوله: "الدية على العاقلة" وإن كانت هذه الأحاديث لم تثبت من جهة الإسناد، ولكن لمّا تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعًا غنوا عن طلب الإسناد له. كذا قال أبو بكر الخطيب.

وقال الغزالي: هذا حديث تلقته الأمة بالقبول ولم يظهر أحد فيه طعنًا ولا إنكارًا، وما كان كذلك لا يقدح فيه كونه مرسلًا، بل لا يجب البحث عن إسناده اهـ. ولهذه الشهرة أطلق جماعة من الفقهاء كالباقلاني وأبي الطيب الطبري وإمام الحرمين عليه الصحة، وقد احتج به الشافعي على حجية القياس. وجاء في كشف الأسرار:"إن مثبتي القياس أبدًا كانوا يتمسكون به في إثبات القياس، ونفاته كانوا يشتغلون بتأويله، فكان ذلك اتفاقًا منهم على قبوله" اهـ.

"الثالث" أن هذا الحديث معتضد بشواهد صحيحة تقويه، وتبلغ به درجة القبول. قال ابن أمير الحاج: قال شيخنا الحافظ: وله شاهد صحيح الإسناد لكنه موقوف ثم أسنده - يعني شيخه - من طريق الدارمي ثم البيهقي، عن عبد الله بن مسعود قال:"لقد أتى علينا رفاق وما نسأل ولسنا هناك ثم بلغنا الله ما ترون، فإذا سئل أحدكم عن شيء فلينظر في كتاب الله، فإن لم يجد في كتاب الله فلينظر ما اجتمع عليه المسلمون، فإن لم يكن فليجتهد رأيه ولا يقل أحدكم إني أخشى؛ فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهة، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وفي الباب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو حديث ابن مسعود دون ما في أوله وآخره، أخرجه الدارمي والبيهقي بإسناد صحيح. وأخرج البيهقي عن زيد بن ثابت أنه قال ذلك لمسلمة بن مخلد لمّا سأله عن القضاء، وإسناده حسن اهـ.

"الاعتراض الثاني والجواب عنه":

قالوا: إنه خبر واحد ورد في إثبات أن القياس حجة وهو مما تعم به البلوى، وخبر الواحد فيما تعم به البلوى لا يقبل. =

ص: 394

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إسحاق الشِّيرَازي، وأبو الحسين البَصْرِي:"يكفي"، ونقله الأكثرون عن النَّظَّام، منهم الآمدي.

= " والجواب عنه من وجهين":

"الأول" أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى يقبل على الصحيح كما هو مقرر في محله.

"الثاني" أنه خبر مشهور؛ لتلقي الأمة له بالقبول، فهو يفيد الطمأنينة؛ وهي فوق ظن الآحاد؛ لأنها اليقين بالمعنى الأعم، فيقبل فيما تعم به البلوى على فرض أن خبر الواحد المجرد عن الشهرة لا يقبل في ذلك.

"الاعتراض الثالث والجواب عنه":

قالوا: إنه مناف للعقل؛ فلا يقبل، وذلك أن مقتضى تولية النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا على اليمن أنه عليه السلام يعلم اتصافه بأهلية الولاية، فهو إذا يعلم ما يقضي به، وحينئذ لا يكون لسؤاله عما يقضي به معنى.

"ويجاب عنه" بأن السؤال كان قبل التولية عند إرادتها؛ ليستكشف به النبي صلى الله عليه وسلم صلاحية معاذ لها، وعلى فرض أنه وقع بعد التولية، فهو للتأكد أو لإعلام غيره بتوليته.

"الاعتراض الرابع والجواب عنه":

قالوا: إنه مناف للقرآن الكريم، فإنه يدل على أن الحكم قد يفقد من كتاب الله تعالى مع أن الله يقول:{ما فرطنا في الكتاب من شيء} {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} وهاتان الآيتان تدلان على أنه ما من حكم إلا وهو في كتاب الله تعالى، وهذا ينافي فقدان الحكم منه، فيكون الحديث مردودًا؛ لمنافاته القرآن.

"وأجيب عنه" بأن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ كما عزى إلى عامّة المفسرين، وعلى فرض أن يراد به القرآن الكريم فليس المقصود بالآيتين أنه يدل على كل حكم بالنص عليه بخصوصه، فهذا باطل بالاستقراء، وإنما المقصود بهما أنه يدل علي كل حكم إما بالنص عليه وإما بالنص على الأصل الذي يؤخذ منه، وقد دل على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام في أقواله، ومن أقواله هذا القول المبين صحة الاحتجاج بالقياس عند عدم النص على الحكم بخصوصه، فلا منافاة بين فقدان الحكم من كتاب الله نصًّا وبين وجدانه فيه بالدلالة على أصله.

"الاعتراض الخامس والجواب عنه":

قالوا: إنه مناف للدليل الدال على جواز نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة، وهذا الدليل صحيح، فمنافيه باطل، وبيان منافاته له أنه يدل على أن الحكم متى وجد في كتاب الله وجب العمل به، ولا ينتقل إلى السنة إلا عند فقده منه، فالسنة إذًا لا تخصص الكتاب ولا تنسخه، وإلا ما توقف العمل بها على فقده. =

ص: 395

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= " ويجاب عنه" بأن مراد معاذ بكتاب اللّه الكتاب الذي لا معارض له ولا ناسخ، ويجب حمله على ذلك ضرورة الجمع بين تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ على ذلك وبين الدليل الدال على جواز نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة.

"الاعتراض السادس والجواب عنه":

قالوا: سلمنا أنه صحيح وأنه حجة، لكن لا نسلم التقريب، فإنه إنما يدل على صحة الاجتهاد بالرأي، وهو كما يكون بالقياس يكون بالاستدلال بخفي النصوص وبالتمسك بالبراءة الأصلية، ولفظ "أجتهد رأيي" ليس عامًّا، فلا يمكن حمله على الجميع، وليس حمله على الاجتهاد بالقياس أولى من غيره.

"ويجاب عنه" بأن لفظي "كتاب الله وسنة رسول الله" عامان شاملان للجلي والخفي من النصوص، فالاستدلال بخفي النصوص استدلال بالكتاب والسنة، فلا يصح حمل الاجتهاد في القصة عليه؛ لأنه موقوف على فقد الحكم في الكتاب والسنة، ولا يصح حمله على التمسك بالبراءة الأصلية؛ لأنه معلوم لكل عاقل، فليس فيه بذل جهد أصلًا، فلم يبق إلا الاجتهاد بالقياس؛ فيتعين حمله عليه.

"الاعتراض السابع والجواب عنه":

هذا الاعتراض ممن يقولون: إن القياس حجة فيما علته منصوصة فقط، قالوا: سلمنا أنه يدل على حجية الاجتهاد بالقياس لكن القياس ينقسم إلى ما علته منصوصة وإلى ما علته مستنبطة، ولفظ "أجتهد رأيي" مطلق، ويكفي في حجيته حمله على أحدهما، وقد حملناه على ما علته منصوصة.

"وأجيب عنه" بأن المقصود من الاستدلال بالحديث إثبات حجية القياس في الجملة لا إثبات حجية كل قياس. فمن يقول: إن الحكم فيما علته منصوصة يثبت بالنص لا بالقياس، فهذا حجة عليه؛ حيث يتعين على رأيه أن يراد بالاجتهاد القياس فيما علته مستنبطة، ومن يقول: إن الحكم فيما علته منصوصة لا يثبت بالنص بل بالقياس، فهذا حجة عليه إن كان ينكره. هكذا أجاب بعض الأصوليين.

ومقتضى هذا الجواب أن من أثبت القياس فيما علته منصوصة فقط لا يكون الحديث حجة عليه.

"وعندي" أن هذا الحديث حجة عليه، والمقصود بالاستدلال به إثبات حجية كل قياس، وذلك

أن قوله: "أجتهد رأيي" هو المرتبة الثالثة بعد الكتاب والسنة، وقد اكتفى النبي عليه السلام بها ولم يسأله عن مرتبة رابعة، والاستقراء يدل على أن الوقائع التي لم ينص على أحكامها في الكتاب والسنة منها ما نص على علته ومنها ما لم ينص، فلو كان اجتهاده في منصوصة العلل فقط لسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما يصنع إذا لم يجد نصًّا على العلة يجتهد فيه، لكنه لم يسأله عن =

ص: 396

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وقال البَصْري: يكفي في علة التحريم لا غيرها".

واعلم أنَّ القائلين بأنه يكفي، يحتمل مذهبهم أمرين:

أحدهما: أن يكون ذلك لاقتضاء اللَّفظ إِياه بعمومه، وهذا ما نقله الغَزَالي والآمِدِيّ عن النظام.

= ذلك؛ فدل على أن مراده الاجتهاد في كل ما لم ينص على حكمه في الكتاب والسنة. فقوله: "أجتهد رأيي" وإن كان مطلقًا باعتبار اللفظ لكنه عام بهذه التعزية.

"الاعتراض الثامن والجواب عنه":

قالوا: سلمنا أنه يدل على حجية القياس لكن لا نسلم أنه عام لجميع المجتهدين؛ لأنه لا يلزم من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم العمل بالقياس بالنسبة لمعاذ تقرير العمل به بالنسبة لغيره من المجتهدين؛ لجواز أن يكون ذلك خصوصية له، فلا يكون القياس حجة عامة لجميع المجتهدين.

"ويجاب عنه" بأنه يلزم من التقرير بالنسبة لمعاذ التقرير بالنسبة لغيره؛ لأن الأصل عدم الخصوصية؛ إذ التكاليف الشرعية عامة لا تختص بشخص دون شخص ولا جماعة دون جماعة، فلا يصار إلى الخصوصية إلَّا لدليل، ولا دليل هنا.

"الاعتراض التاسع والجواب عنه":

قالوا: سلمنا أن الحديث يدل على تقرير العمل بالقياس بالنسبة لمعاذ وغيره، لكن لا نسلم أنه يدل على ذلك في جميع الأزمان، وإنما كان ذلك قبل نزول قول الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} للحاجة إليه وقتئذ؛ لعدم وفاء النصوص بجميع الأحكام، أما بعد نزولها فلا حاجة إليه؛ لأن الآية دلت على أن الله بين لنا جميع الأحكام بالتنصيص عيها، فلا محل للقياس؛ لأنه مشروط بفقدان النص.

فالخلاصة أن القياس كان حجة قبل نزول الآية ثم نسخت حجيته بعد نزولها، ومدّعاكم أنه حجة في كل زمان.

"وأجيب عنه" بأن الحديث دل على حجية القياس من غير تقييد بوقت دون وقت، فيبقى على إطلاقه؛ لأن التقييد خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا لدليل، وما ذكرتم من الآية لا يصلح أن يكون مقيدًا لإطلاق الحديث؛ لأنها محمولة على إكمال الأصول والقواعد الكلية دون الفروع وتفاصيلها؛ للقطع بأن النصوص لم تشتمل على تفاصيل جميع الفروع. ولئن سلمنا أن الآية عامة في الأصول والفروع وأن الله تعالى بين لنا كل ما نحتاج إليه في كل زمان، لكن لا نسلم أن هذا يقتضي عدم الحاجة إلى القياس ونسخ حجيته؛ لأن البيان المذكور تارة يكون بغير واسطة كما في الأحكام المنصوصة، وتارة يكون بواسطة كما إذا بين لنا مناط الأحكام =

ص: 397

لنَا: الْقَطْعُ بِأنَّ مَنْ قَالَ: "أَعْتقْتُ غَانِمًا؛ لِحُسْنِ خُلُقِهِ"، لا يَقْتَضِي عِتْقَ غَيْرِهِ مِنْ حَسَنِي الْخُلُقِ.

قَالُوا: "حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لإِسكَارِهِ" مِثْلُ: "حَرَّمْتُ كُلَّ مُسْكِرٍ".

وَرُدَّ: بِأنَّهُ لَو كَانَ مِثْلَه، عَتَقَ مَنْ تَقَدَّمَ.

قَالُوا: لَم يَعْتِقْ؛ لأَنَّهُ غَيْرُ صَرِيحٍ، وَالْحَقُّ لآدميٍّ.

قُلْنَا: يَعْتِق بِالصَّرِيحِ، وَبالظَّاهِرِ.

والثاني: أن يجعل التَّنْصيص على العلّة أمرًا بالقياس، وهو نقل الأكثرين عن الذاهبين إلى هذا القول، وقد أتى المصنف بعبارة تشمل الاحتمالين، حيث قال: لا يكفي في التعدي، فإن التعدي؛ عن النصوص قد يكون بالقياس، وقد يكون بالتعميم، ثم إنه لم يعز القول بأنه يكفي إلى النظام، وأراد ذلك - والله أعلم - لسؤال يورد، وهو أنه كيف يجامع إنكاره التعبد بالقياس قوله - هنا - بهذه المقالة؟

والسؤال - عندي - ساقط؛ فإنه إن كان رأيه ما نقله الغَزَالي، والآمدي من التعميم، فليس ذلك من القياس في شيء.

وإن كان الثاني، فغايته القضاء بأن قضية النص على العلّة الأمر بالقياس، وليس فيه ما يقتضي وقوع ذلك، ولا جواز وقوعه، وما تقدم منه استحالة وقوعه من غير تعرُّض إلى أن اللفظ لو وقع، ماذا مدلوله؟ فلم يتوارد الكلامان على [محل]

(1)

واحد.

الشرح: "لنا: القَطْع بأن من قال: أعتقت غانمًا لحسن خلقه، لا يقتضي عِتْق غيره من حسني الخلق"، من عبيده، ولو كفى التَّنصيص على العلّة في التعدية، لعتق غيره ممن شاركه في حسن الخلق.

ولك أن تقول: هذا مُنْقدح، إن كان الخصم يدعي أن التعميم من قضية اللفظ، كما هي طريقة الآمدي في النقل عن النَّظام، فإن قوله حينئذٍ: أعتقته لحسن خُلقه، بمنزلة: أعتقت كل حسني الخلق.

= المنصوصة لكي نقيس عليها ما لم ينص عليه منها، فيكون القياس محتاجًا إليه لإثبات تلك الأحكام حتى بعد نزول الآية الكريمة.

(1)

في أ، ت: مخر.

ص: 398

قَالُوا: لَوْ قَالَ الأَبُ: "لا تَأْكُلْ هَذَا؛ لأِنَّهُ مَسْمُومٌ"، فُهِمَ عُرْفًا الْمَنع مِنْ كُلِّ مَسْمُومٍ.

قُلْنَا: لِقَرِينَةِ شَفَقَةِ الأَبِ بِخِلافِ الأَحْكَامِ؛ فَإنَّهُ قَدْ تُخَصُّ لأِمْرٍ لا يُدْرَكُ.

قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْمِيمِ لَعُرِّي عَنِ الْفَائِدَةِ.

وَأُجِيبَ: بِتَعَقُّلِ الْمَعْنَى فِيهِ، وَلا يَكُونُ التَّعْمِيمُ إِلَّا بِدَلِيلٍ.

أما إن كان يدعي التعدية؛ لأن التنصيص أمر بالقياس، فلا يتأتَّى، فإن الشارع تعبدنا بالقياس، فلذلك عمّمنا بالعلة، بخلاف غيره.

"قالوا: حرمت الخمر لإسكاره، مثل: حرمت كل مسكر"، فيكون عامًّا.

"وُردَّ: بأنه لو كان مثله، عتق من تقدم"، والاتِّفَاق أنه لا يعتق، ثم الدليل إِنما يتوجه على تقدير أن مدعى الخصم أن التعميم باللَّفظ كما عرفت.

أما إن ادعاه أمرًا بالقياس، فواضح بأنه ليس مثله.

"قالوا: لم يعتق"؛ فيما نحن فيه؛ "لأنه غير صريح، والحق لآدَمِيّ".

"قلنا: يعتق بالصريح والظاهر"، ولا يفترق الحال بين حق الآدَمِيّ وغيره إذا كان مأخوذًا من اللفظ.

"قالوا: لو قال الأب: لا تأكل هذا؛ لأنه مَسْمُوم، فهم عُرْفًا المنع من كل مسموم.

قلنا: لقرينة شَفَقَة الأب" المقتضية لمنع الولد من كل مُؤْذٍ، "بخلاف الأحكام، فإنه قد تخص لأمرٍ لا يدرك".

ثم نقول: سلمنا أنه يفهم منه عرفًا، ولكن ذلك للإتيان بالعلة، لا من اللفظ، ولا لأن النص عليها أمر بالقياس.

"قالوا: لو لم يكن" التنصيص على العلّة "للتعميم" في جميع الصّور "لعُرّى" التنصيص "عن الفائدة"؛ لحصول الحكم في المنصوص بمجرد النص.

"وأجيب: بتعقُّل المعنى فيه"، أي: فائدته تعقُّل المعنى المقتضي للحكم؛ لأنه أسرع إلى الانقياد، "ولا يكون التَّعميم" في الحكم "إلا بدليل" آخر.

أو يقال: الفائدة فهم العلّة؛ ليقاس عليها.

ص: 399

قَالُوا: لَوْ قال: الإسْكَارُ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ، لَعَمَّ؛ فكَذَلِكَ هَذَا.

قُلْنَا: حَكَمَ بِالْعِلَّةِ عَلَى كُلِّ إِسْكَارٍ، فَالْخَمْرُ وَالنَّبِيذُ سَوَاءٌ.

الشرح: "قالوا: لو قال: الإسكار علّة التحريم لعمّ، فكذلك - هنا -" أي: قوله حرمت الخمر لإِسكاره؛ لأن "اللام" للتعليل، ولا فرق بين أن يذكر التّعليل باسمه، أو بحرف يدل عليه، فيجب أن يكون عامًّا.

"قلنا": لا نسلّم اتحاد معنى العبارتين؛ فإن قولك: الإسكار علّة الحُرْمة لفظ "حكم بالعلّة على كل إِسكار" إذا ذكرت الإسكار معرفًا بـ "اللام"، وهو للعموم، "فالخمر والنَّبيذ" بالنسبة إليه "سواء".

ولقائل أن يقول: إن أردت بالمُسَاواة بين الخَمْر والنبيذ مساواتهما في أنهما - والحالة هذه - منصوصان، وهو طاهر العبارة، ويؤيده قول الآمدي: يكون التحريم ثابتًا في كل الصور بجهة العموم، وهذا ممنوع؛ وذلك لأن قولنا: الإِسكار علّة التحريم، ليس المراد به كل تحريم، بل تحريم الخمر، "والألف واللام" في التحريم للعهد، وهذا واضح.

وقولنا: علة تحريم الخمر الإِسكار، لا يوجب صَيْرُورَة النّبيذ منصوصًا، وإن أردت المساواة في أصل الحكم، فكذلك كل فرع مع الأصل، سواء أكانت العلّة فيه منصوصةً أم لا، وهذا مكان مُعْضل، والذي يظهر فيه عند التحقيق، أن قولنا: حرمت الخمر لإِسكاره، يحتمل أن تكون العلّة مطلق الإِسكار، حتى يعدي إِلى النبيذ، ومحتمل لأن تكون العلة خصوص إِسكار الخمر احتمالًا قويًّا، بحيث إنه لو لم يرد الأمر بالقياس لما قِسْنا - والحالة هذه - ولكن ورود الأمر بالقياس من قبيل التَّنصيص على العلة قرينة رجحت الاحتمال الأول.

وأما قولنا: علة حرمة الخمر الإِسكار، فمحتمل - أيضا - لأن يكون المراد الإِسكار الخاص، ولكنه احتمال مَرْجُوح، وليس كهو في الصِّيغَة الأولى، ومع ذلك إلحاق النبيذ - والحالة هذه - قياس لا نص، على خلاف ما ظهر من عبارة الكتاب والآمِدِيّ.

ولقد حاول الإِمام في "المحصول" أن يجعله رُتبة متوسطة بين القياس والنص، وتبعه القاضي سِرَاج الدين في "التحصيل"، وعبارة "التحصيل": لو قال ذلك، لم يكن قياسًا؛ إذ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول، أي: من غير أن يتأخَّر العلم ببعض الأفراد عن العلم بالآخر، فلم يتميّز الأصل عن الفرع، حتى يقاس أحدهما على الآخر، وهذا ليس بالنص،

ص: 400

الْبَصْرِيُّ: مَنْ تَرَكَ أكْلَ شَيْءٍ لأَذَاه، دَلَّ عَلَى تَرْكِهِ كُل مُؤذٍ، بِخِلافِ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ.

قُلْنَا: إِنْ سُلِّمَ فَلِقَرِينَةِ التأذِّي، بِخِلافِ الأحكامِ.

ولا القياس، بل بطريق العلم بالعلّة، وهو الاستدلال بالنص.

ولقائل أن يقول: لا نسلم أن ذلك بقياس، وقولكم: لم يتميّز الأصل عن الفرع مندفع؛ فإنه إذا قال: علة حرمة الخمر الإسكار، فالحرمة في الخمر أصل، والعَمَل بها يحصل حال ورود النص، ثم بعد ذلك يحصل العلم بحرمة كل مسكر، وكل ما كان غير الخمر يكون فرعًا، والعلم بحرمته متأخّر عن العلم بحرمة الخمر، وربما لا يعلم كون الشيء مسكرًا إِلا بعد حين، فلا تعلم حُرْمته، فإِذا جزب ووجد مسكرًا، علم تحريمه، فكيف لا يكون العلم به متأخرًا؟.

فإن قلت: نحن ندعي عدم تأخر العلم بحرمة كل مسكر حكمًا كليًّا، لا العلم بواحد واحد من الجزئيات المندرجة، فإنها داخلة في الحكم المعلوم، فالعلم بحرمة الجزئيات المَخْصُوصة لا يستفاد من الأصل الذي هو الخَمْر، بل من المقدمة الكلية التي هي العلم بتحريم كل مُسْكر، والعلم بهذه المقدّمة لا يتأخّر.

قلت: بل العلم بها - أيضا - متأخر؛ لأنا نعلم أولا حُرمة الخمر، ثم كون الإِسكار علّة بتنصيص الشَّارع، ثم يحكم بتحريم كل مسكر حكمًا مترتبًا على هذا العلم بالعلّية، والحكم في كل قياس كذلك، فإِن المجتهد يعلم حكم الأصل، ثم يستنبط العلّة، ثم يحكم بمقدمة كلّية شاملة لجميع صور تلك العلة.

الشرح: واحتج أبو عبد الله "البصري" على مذهبه: بأن "من ترك أكل شيء لأَذَاهُ؟ " كمن ترك أكل رُمَّانة حامضة لحُمُوضتها، "دلّ على تركه كل مُؤذٍ، بخلاف من تصدّق على فقير" لفقره، لا يدلّ على أنه يتصدق على كل فقير، أو من أكل رُمَّانة حامضة لحموضتها لا يدلّ على أكله كل رمانة حامضة.

"قلنا": لا نسلم أنه - مثلًا - إذا أكل واحدةً لحموضتها يدل على أكله الكل، وذلك لاحتمال أن يكون الدَّاعي لا مطلق حُمُوضة هذه الرمانة الخاصة.

و"إن سلم، فلقرينة التَّأذِّي"، وكون ترك المُؤذى مطلقًا مَرْكُوزًا في الطِّبَاع،

ص: 401

‌مَسْألةٌ:

الْقِيَاسُ يَجْرِي فِي الْحُدُودِ وَالْكَفارَاتِ، خِلافًا لِلْحنفيَّة.

وخصوصية ذلك المؤذي مُلْغَاة عقلًا، "بخلاف الأحكام"، فإنها قد تختص بمحالها لأمور لا تدرك.

فإن قلت: لو كان احتمال الخصوصية معتمدًا، لما قيس فرع على أصل فيه هذا الاحتمال.

قلت: قد قدمنا أن ورود التعبُّد بالقياس قرينة تدفع هذا الاحتمال، ولا ينتهي مع ذلك دفعه إِلى صيرورته منصوصًا.

«مسألة»

الشرح: "القياس يجري في الحدود والكَفَّارات"

(1)

والرُّخَص

(2)

، والتقديرات عند الشافعي وأكثر أهل العلم؛ "خلافًا للحنفيَّة"، ولهذا منعوا من قطع النَّبَّاش، وإيجاب الحَدّ على اللُّوطِيّ، وإيجاب الكَفَّارة في قتل العَمدِ.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 57، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 895 - 896، والتمهيد للأسنوي 463، وزوائد الأصول له 376، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 45، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 242، والمنخول للغزالي 375، وحاشية البناني 2/ 204، والإبهاج لابن السبكي 3/ 30، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 5، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 243، والمسودة 398، وشرح تنقيح الفصول 415، وكشف الأسرار 3/ 304، وشرح العضد 2/ 254، وتخريج الزنجاني 309، وحواشي المنار 766.

(2)

اختلف العلماء في جريان القياس في الحدود والكفارات هل يجري فيها القياس، فمنع علماء الحنفية جريان القياس فيها، وأجازه من عداهم. =

ص: 402

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= استدل الحنفية أولًا بأن في شرع الحدود، والكفارات تقديرًا لا يعقل معناه إلا بطريق السمع، وذلك كأعداد الجلد، وتعيين ستين مسكينًا، وغير ذلك مما لا سبيل إلى إدراك معناه إلا من جهة السمع، وحينئذ لا يجري القياس فيها، كما لا يجري في المقدرات كأعداد الركعات، ومقادير الزكاة.

وأجيب بأن هذا الدليل إنما يكون مفيدًا إذا كان المقصود جريان القياس في جميع الحدود والكفارات، وليس كذلك؛ لأنا لا نوجب القياس في كل حد أو كفارة، فإن منها ما لا يُعْقَلُ معناه، بل لا نوجب القباس فيها وفي غيرها إلا فيما يعقل معناه، لأن المجتهد لا يمكنه تعدية حكم الأصل إلى الفرع إلا فيما يكون معقول المعنى؛ ليمكنه تعرف الجامع بينهما، فإذا وجد أصل وعرفت علة حكلمه، فمعقولية التقادير دأبًا لبست ممتنعة، بل هي واقعة، كما قيس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد بجامع القتل العمد العدوان، وقياس النباش على السارق في وجوب القطع بجامع أخذ مال الغير من حرز خفية، فإن العلة والحكمة فيهما معلومتان، وأما ما لا يعلم فيه المعنى، فلا خلاف في عدم جريان القياس فيه كما في غير الحدود والكفارات، فلا دخل لخصوصية الحدود والكفارات في امتناع القياس.

واحتجوا ثانيًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ادْرءوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ ما اسْتَطَعْتُمْ) واحتمال الخطأ في القياس شبهة يجب درء الحد به، وحينئذ لا يجري القياس في الحدود وأجيب بأنه منقوض بخبر الواحد، والشهادة؛ فإنه احتمال الخطأ، والخلاف متحقق فيهما؛ لأنهما لا يفيدان القطع، واحتمال الخطأ والخلاف شبهة، فكان اللازم أن يدرأ الحد بهما، ولم يدرأ، فدل ذلك على أن احتمال الخطأ في القياس لا يؤثر في ثبوته، وتحققه، كما لا يؤثر احتمال الخلاف في الشهادة، وحينئذ يكون القياس جاريًا في الحدود والكفارات من غير نظر إلى احتمال الخطأ؛ لأنه لا تأثير له.

والمجيزون لجريان القياس فيها قالوا أولًا: إن الدليل الدال على حجية القياس عام في جميع الأقيسة لا فرق بين الحدود والكفارات وغيرهما، فوجب العمل فيهما، كما وجب في غيرهما.

وقال الحنفية: لا نسلم أن أدلة حجية القياس عامة، بل هي مخصصة بانتفاء المانع، ووجود الشرائط إذ لا بد أن تتحقق فيه، حتى يوجد القياس، فالقياس في الحدود والكفارات من هذا القبيل؛ لأن التقدير مانع عقلي، فلا يجري فيها القياس.

وقالوا ثانيًا: قد حد في الخمر بالقياس في زمن الصحابة - رضوان الله عليهم -: حين تشاوروا فيه فقال علي - كرم الله وجهه - إذا شَرِبَ سَكِرَ، وإذَا سَكِرَ هَذِى، وإِذَا هَذِى افْتَرى، فأرى عليه =

ص: 403

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حد الافتراء" فقاس السكر على القذف في ترتيب وجوب جلد ثمانين بجامع كونه مظنة للافتراء، فأقام مظنة الشيء مقامه، وما قيل من أنه قاس شارب الخمر على القاذف بجامع الافتراء ليس بسديد؛ لأن الافتراء غير متحقق في الشارب، وإنما هو مظنة كالمشقة في السفر.

فيؤخذ مما تقدم أن إجماع الصحابة على حد الخمر بالقياس قام دليلا في المتنازع فيه، وهو جريان القياس في الحدود، كما أن الدليل الدال على حجية القياس قام دليلا عليه بعمومه من حيث إنه من أحكام الشرع.

ورد الحنفية هذا الدليل فقالوا: إنه لم يحد في الخمر بالقياس، بل بالإجماع المزيل لشبهة القياس، ولا يلزم من جواز القياس المزال الشبهة جوازه مطلقًا.

ويظهر أن هذا رد ضعيف؛ لأنهما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ادْرَءُوْا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ مَا اسْتَطَعْتُمْ" واحتمال الخطأ في القياس شبهة يجب أن يدرأ به الحد، وبعد ذلك قالوا: إن الإجماع أزال شبهة القياس، ومقتضى هذا أنه لا محظور في إثبات حد الخمر بالقياس حيث إن شبهة القياس قد زالت، فيكون دليلهم غير عام في الحدود والكفارات؛ لخروج حد الخمر منه؛ لجريان القياس فيه، فالصواب ما جرى عليه المثبتون للقياس في الحدود والكفارات؛ لرجحان أدلتهم وعدم توجه نقض عليها، وإن الإجماع قد انعقد بالاستدلال بالقياس، واستدل أصحاب الإجماع به في حد الخمر، فلم يكن مزال الشبهة، كما ادعى الحنفية، وإنما زالت شبهته بعد تقرير الإجماع، فعلم من عمل أهل الإجماع أن الشبهة الراسخة في القياس غير مانعة عن العمل به في الحدود، وذكر الحنفية أيضًا أن الحد على شرب الخمر ثبت بأدلة سمعية، ولم يكن بالقياس.

بيان ذلك: أن استدلال علي - كرم الله وجهه - بحضرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومشهد من الصحابة مع عدم إنكارهم عليه يفيدان أن التعبد بالقياس في الحدود كان جائزًا عندهم، وهذا لا ينافي اجتماع أدلة سمعية عليه.

ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر، والتحقيق أن الأدلة السمعية ما دلت على أن حد الشرب ثمانون، وإنما ثبت ذلك بالقياس لا غير، ويؤيده ما روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أهل الشرب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي، والنعال، والعصي، حتى توفي، فكان أبو بكر رضي الله عنه يجلد أربعين، حتى توفي إلى أن قال: فقال عمر رضي الله عنه: ماذا ترون؟ فقال علي - كرم الله وجهه -: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون، فعلم من ذلك أن تحديد ثمانين بالقياس لا بأدلة سمعية.

ثم قال الحنفية: إن المقصود من ثبوته بأدلة سمعية أن حده كان أخذًا بإشارات رسول اللّه =

ص: 404

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= - صلى الله عليه وسلم وأمر الزيادة والنقصان فيه موقوف على فساد الزمان وصلاحه، ولذا زادوا شيئًا فشيئًا، ثم أجمعوا على ثمانين منعًا للزيادة عليه عند ظهور فساد شديد، فمراتب الحدود كانت مأخوذة من صاحب الشرع والرأي؛ لتعيين كل عدد بحسب الزمان، ويؤيد هذا ما روى البخاري عن السائب بن يزيد، قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمْرة أبي بكر وصدر من خلافة عمر - رضي الله تعالى عنهما - فنقوم إليه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا، حتى كان آخر إمْرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين.

والظاهر أن هذا الدليل لا يفيد في إثبات المطلوب؛ لأنهم استندوا أولًا على أنه لا يدرك المعنى فيها لاشتمالها على تقديرات لا تعقل، وقد تقدم أنه يدرك المعنى في بعضها، كقياس القتل بمثقل على القتل بمحدد، وقياس النَّباش على الصادق؛ فإن كلًّا منهما يدرك المعنى فيه، واستندوا ثانيًا على الحديث المتقدم، وبنوا عليه أن القياس شبهة، فيدرءوا به الحد، وقد ثبت أن هذه الشبهة لا تؤثر في ثبوت القياس كما لا يؤثر عليه الخلاف الحاصل في الشهادة، وإذًا يكون تقدير حد الشرب ثبت بالقياس، وما قيل من أنه ثبت بالإجماع فغير ظاهر؛ لأنهم لم يجمعوا على أن حد الشرب ثمانون، وإنما أجمعوا على أن الشارب كالمفتري، فيحد ثمانين، كما ثبت من الروايات الدالة على ذلك صراحة، وقد ادّعى الحنفية: أن حد الشرب ثبت بالدليل السمعي لا بالقياس مع أنهم لم ينقلوا دليلا من الشارع يثبتون به مُدَّعَاهُم، والظاهر أنه لم يكن لديهم دليل سمعي، ولو كان عندهم دليل من الشارع، لتمسكوا به، غاية الأمر أنهم قالوا: إن حده أُخذ بإشارات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وما استندوا إليه من رواية البخاري عن السائب بن يزيد لا يكون دليلًا لهم؛ لأن غاية ما يفيده هذا الخبر تطور الحد بحسب الزمن إلى أن انتهى إلى ثمانين في خلافة عمر رضي الله عنه. فإنهاؤه ثمانين ليس من طريق السمع، ولا أخذًا بإشارات رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بل المنقول أنهم قاسوا السكر على القذف في وجوب جلد ثمانين، كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم أخذوا بقول علي - كرم اللّه وجهه - حين تشاوروا في حد الشرب، فقال على: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، على المفتري ثمانون؛ فظهر أن القياس يجري في الحدود والكفارات كغيرها من باقي الأحكام. ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 62، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 895، 896، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 54، والتمهيد للأسنوي 463، ونهاية السول له 4/ 35، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 42، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 242، والمنخول للغزالي 375، والمستصفى له 2/ 334، وحاشية البناني 2/ 204، والإبهاج لابن السبكي 3/ 30، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 5، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 243، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 622،=

ص: 405

لَنَا: أَنَّ الدَّلِيلَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ، وَقَدْ حُدَّ فِي الْخَمْرِ بِالْقِيَاسِ.

وَأَيْضًا: الْحُكْمُ لِلظَّنِّ، وَهُوَ حَاصِلٌ كَغَيْرِهِ.

قَالُوا: فِيهِ تَقْدِيرٌ لا يُعْقَل، كَأعْدَادِ الرَّكَعَاتِ.

قال أبو الحسن [الكرخي]

(1)

: ولا فرق بين الكَفَّارات الجارية مجرى العقوبات، والتي لا تجري.

ومنعوا - أيضًا - من إثبات النصب بالقياس، وفرعوا عليه عدم الوجوب في [الفِصْلان]

(2)

وصغار الغَنَمِ، وزعموا أن اليمين الغَمُوس ليست بيمين حقيقة، وأن إِيجاب الكفارة فيها إِنما هو بالقياس على غيرها.

قالوا: ونحن نمنع القِيَاس في الكَفَّارات، فتمنع، ومنعوا من تحريم المثلث الشديد بالقياس على الخمر.

الشرح: "لنا: أن الدليل" الدَّال على حجية القياس "غير مختصّ" بما وراء ما استثبتوه بل هو شامل لها شموله لغيرها، "وقد حدّ" الشارب "في الخَمْر بالقياس"، في عصر الصَّحابة رضي الله عنهم لما رجعوا إلى حكم علي - كرم الله وجهه - في قوله:"إذا شرب سكر، وإذا سكر هَذِيَ، وإذا هذي افترى، وحد المُفْترى ثمانون"

(3)

.

= والتحرير لابن الهمام 490، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 103، وإرشاد الفحول للشوكاني 223، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 241.

(1)

في أ، ت: الكوني.

(2)

في أ، ت: الفضلات.

(3)

حديث عمر: أنه استشار، فقال علي: أرى أن يجلد ثمانين؛ لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وحد المفتري ثمانون، فجلد عمر ثمانين، أخرجه مالك في الموطأ 2/ 842 (2) والشافعي عنه عن ثور بن زيد الديلي أن عمر .. فذكره، وهو منقطع؛ لأن ثورًا =

ص: 406

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وأيضًا" فإن "الحكم" إِنما هو "للظن، وهو حاصل" - هنا - فكان حجة "كغيره" من أخبر الآحاد، والظَّواهر التي ثبتت بها الحُدود والكَفَّارات.

= لم يلحق عمر بلا خلاف، لكن وصله النسائي في الكبرى، والحاكم 4/ 376 من وجه آخر عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة لم يذكر ابن عباس وفي صحبته نظر؛ لما ثبت في الصحيحين؛ البخاري (6773) حديث (37/ 1706) ومسلم (3/ 1331) عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر، ولا يقال: يحتمل أن يكون عبد الرحمن وعلي أشارا بذلك جميعًا؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن علي في جلد الوليد بن عقبة أنه جلده أربعين، وقال: جلد رسول اللّه أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي، فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر ولم يعمل بها، لكن يمكن أن يقال: إنه قال لعمر باجتهاده ثم تغير اجتهاده.

(تنبيه) قال ابن دحية في كتاب "وهج الجمر في تحريم الخمر". صح عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أكتب في المصحف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ثمانين، وهذا لم يسبق هذا الرجل إلى تصحيفه، نعم حكى ابن الطلاع أن في مصنف عبد الرزاق أنه عليه السلام جلد في الخمر ثمانين، قال ابن حزم في الإعراب: صح أنه صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر أربعين، وورد من طريق لا تصح أنه جلد ثمانين.

وقال ابن القيم: ولم ينفرد عليّ بهذا القياس، بل وافقه عليه الصحابة قال الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن وبرة الصلتي قال: بعثني خالد بن الوليد إلى عمر فأتيته وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف متكئون في المسجد، فقلت له: إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الناس انبسطوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فما ترى؟ فقال عمر: هم هؤلاء عندك؟ قال: فقال عليّ: أراه إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون.

فاجتمعوا على ذلك فقال عمر: بلغ صاحبكم ما قالوا، فضرب خالد ثمانين، وضرب عمر ثمانين قال: وكان عمر إذا أتى بالرجل القوي المنتهك في الشراب ضربه ثمانين، وإذا أتى بالرجل الذي كان منه الزّلة الضعيف ضربه أربعين، وجعل ذلك عثمان أربعين وثمانين، قال ابن القيم: وهذه مراسيل ومسندات من وجوه متعددة يقوي بعضها بعضًا، وشهرتها تغني عن إسنادها. اهـ.

فهذا من علي رضي الله عنه قياس للشرب على القذف في كون الحد ثمانين بجامع الافتراء في=

ص: 407

قُلْنَا: إذَا فُهِمَتِ الْعِلَّة، وَجَبَ؛ كَالْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ، وَقَطْعِ النَّبَّاشِ.

قَالُوا: [قَالَ]: "ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ".

وَرُدَّ: بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالشَّهَادَةِ.

"قالوا: فيه تقدير لا يعقل" معناه، "كأعداد الرَّكعات"، ونُصُب الزكوات، فلا يتأتى فيه القياس؛ إِذ القياس فرع تعقّل المعنى، وزخرفوا قولهم: بأن الحَدّ للزجر، والكَفَّارة لتكفير الإثم، وما يقع به الرّدع [وتكفير]

(1)

المآثم لا يعلمه إلا الله تعالى.

الشرح: "قلنا: إِذا فهمت العلّة وجب" القياس، والكلام إِنما هو على تقدير فهم العلّة وقولهم: لا تهتدي العقول إِلى الزَّجر والكَفَّارة، ممنوع، بل كلما يمكن استخراج معنى مؤثر، يفهم منه العلّة "كالقتل بالمُثَقَّل" قياسًا على [المحدد]

(2)

لحكمة بقاء النفس.

"قالوا: قال" النبي صلى الله عليه وسلم: "ادْرَءُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ"، وقد تقدم الكلام على الحديث في خبر الواحد.

قالوا: واحتمال الخطأ في القياس فيه يشابه الحدود لما فيه من شائبة العُقُوبة، والخطأ شبهة، فيدرأ به الحد.

"ورد" بأن ذلك منقوض "بخبر الواحد، والشهادة" إِذا ثبتت بها الحدود والكَفَّارات مع عدم الانتهاء إلى القطع والنقض بالشهادة فقط أولى؛ فإن منهم من لم يقبل خبر الواحد في الحدود، كما تقدم نقله في الكتاب عن الكَرْخي والرازي.

= كل، وإن كان الافتراء في الشرب تنزيليًّا وفي القذف حقيقيًّا. وهذا القياس مبني على إقامة مظنة الشيء مقام الشيء التفاتًا إلى أن الشرع قد نزل مظنة الشيء منزلته في بعض الصور، كما أنزل النوم منزلة الحدث في نقض الوضوء، وأنزل الوطء منزلة حقيقة شغل الرحم في إيجاب العدة، وأنزل الخلوة بالأجنبية منزلة الزنا في الحرمة، وليس القصد من هذا القياس إثبات الحد؛ فإن الحد يدرأ بالشبهة ولذا لم يحد المختلي بالأجنبية، وإنما القصد منها إثبات كون الحد ثمانين بعد معرفة أن أصل الحد على الثرب ثابت بالنص.

(1)

في ت: وتكفر.

(2)

في أ، ت: المحسد.

ص: 408

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومما يرد عليهم: استعمالهم القياس في القِصَاصِ، مع أنه يدرأ بالشُّبهة.

ولقد تتبع الشافعي رضي الله عنه مذاهبهم، وأبَان أنهم لم يَفُوا بشيء مما ذكروه.

"فرع"

إِذا قال لامرأته: أنت علي حرام،

فأصح القولين: وجوب الكفارة إِذا لم يَنْوِ شيئًا، كما إذا قال ذلك لأمته؛ إِذ يجب فيه الكَفَّارة على الأصح أيضًا، وهو من الأقيسة في الكفارات؛ إذ الآية، وهي قوله - تعالى - {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [سورة التحريم: الآية 1] إلى آخرها، إِنما نزلت في أَمَةٍ، وهي مارية

(1)

، على ما ذكره الشَّافعي، وألحقنا بها الزوجة في إِيجاب الكفارة.

قال الشافعي: لأنه تحريم فَرْجَين حلين بما لم يحرما به.

"فائدة"

نحن وإن جوزنا القياس في الحدود، والكَفَّارات، والرُّخَص والتقديرات على الجملة، فلا ننكر وِجْدان ما لا يعلل ويلتحق بمحض التَّعبد، وعلى هذا فلا بد من أمارة يعرف بها القسم الذي يجري فيه التعليل من غيره.

وجماع القول - عندنا - أن كل حكم يجوز أن يستنبط منه معنى مخيّل من كتاب أو نصِّ سُنة، أو إِجماع، فإِنه يعلل، وما لا يصح فيه هذا فلا يعلل، سواء أكان من الحدود والكَفَّارات أم غيرها.

فإن قلت: هل يصح إِثبات حَدّ مبتدأ، أو كَفّارة مبتدأة بالقياس؟.

(1)

مارية بنت شمعون القبطية، أم إبراهيم، من سرارى النبي صلى الله عليه وسلم مصرية الأصل، بيضاء. ولدت في قرية "حفن" من كورة "أنصنا بمصر" وأهداها المقوقس القبطي (صاحب الإسكندرية ومصر) سنة 7 هـ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فولدت له إبراهيم، فقال:"أعتقها ولدها". ولما توفي النبي تولى الإنفاق عليها أبو بكر ثم عمر. وماتت سنة 16 هـ في خلافة عمر بالمدينة، فرؤي وهو يحشد الناس بنفسه لحضور جنازتها. ينظر: أسد الغابة 5/ 543، والإصابة (كتاب النساء) ت (984)، والأعلام 5/ 255.

ص: 409

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت: لا يصح، ولكن ليس لما يتوهّمون من نفي القياس في الحدود والكَفَّارات، بل لأنه لا طريق توصل - هنا - إِلى فهم العلّة، ولو صحّ لنا معنى في ذلك، لما تحاشينا من التعلُّق به، فافهم هذا، واجمع به بَيْنه وبين قول المصنف فيما سبق: إن من شرط الأصل ألَّا يكون معدولًا به عن سنن القياس، كمقادير الحدود والكفارات.

واعلم أن نفس مقادير الحدود والكَفّارات لا يفهم فيها معنى، فكيف يصح القياس فيها؟

وهذا بخلاف أصل الحدود، فنحن إِنما نمنع القياس حيث لا يعقل المعنى، وذلك في مقادير الحدود، والكَفَّارات لا أصلها.

وإذا عُرِفَ هذا، فاعلم أن أئمتنا قالوا: من الأحكام ما يعلّل جملة وتفصيلًا، وهو كل ما يمكن إِبداء معنى في أصله وفرعه، وما يعلل جملة دون تفاصيله؛ لعدم اطّراد التعليل في التفاصيل، وما يعلل تفاصيله دون جملته، كالكتابة والإجارة، وفروع تحمل العَاقِلَة، فلا يظنن الظَّان أن إِلحاقنا [الكتابة]

(1)

الفاسدة - مثلا - بالصحيحة حَيْد عن سنن الصواب، متعلقًا بأن الكتابة غير معقولة المعنى، فكيف يقاس فيها؟.

فإنا إِنما قسنا في تفاصيلها المعقولة دون جملتها، وتحقيق هذا يظهر في موضعه من الخلافيات، وله في "شرحنا الكبير" بَسْط تام، وما لا يجري التعليل في جُمْلته ولا تفاصيله، كالصَّلاة وما تشتمل عليه من قيام، وسجود، وركوع، وقعود، وربما يدخل في هذا القسم الزكوات، ومقادير الأنْصِبَةِ والأَوْقَاص.

وكذلك قيل: لا مَجَال للقياس في الأحداث وتفاصيلها، والوضوء وتفاصيله.

وقيل: بل الوضوء معقول المعنى، ولسنا - هنا - لتحقيق ذلك، وغرضنا أن هذه الأقسام الأربعة واقعة في الشريعة، وانفصال ما يعلل مما لا يعلل تفصيلًا عسر جدًّا، وفيه تَلاطُم أمواج الآراء، وافتراق أنْظَار العلماء.

(1)

في أ، ت: الكفارة.

ص: 410

‌مَسْألَةٌ:

لا يَصِحُّ الْقِيَاسُ فِي الأسْبَابِ.

لنَا: أَنَّهُ مُرْسَلٌ؛ لأِن الْفَرْضَ تَغَايُرُ الوَصْفَيْنِ، فَلا أَصْلَ لِوَصْفِ الْفَرْعِ.

وَأَيْضًا: عِلَّةُ الأَصْلِ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْفَرْعِ، فَلا جَمْعَ.

وَأَيْضًا: إنْ كَانَ الجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ حِكْمَةً؛ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّتِهَا، أَوْ ضَابِطًا لَهَا - اتَّحَدَ السَّبَبُ وَالْحُكْم، وَإنْ لَمْ يَكُنْ جَامِعٌ، فَفَاسِدٌ.

«مسألة»

الشرح: "لا يصح القياس في الأسباب"

(1)

عند الآمدي والمصنّف والبَيْضَاوي، وزعم الإمام في "المحصول" أنه المشهور، وطائفة من الحنفية.

(1)

إن القياس لا يجرى في الأسباب ونسب إلى كثير من علماء الحنفية، وصححه الآمدي وتبعه ابن الحاجب، وألحق بعضهم الشروط والموانع بالأسباب. استدل المانع على ذلك بأن القياس فيها تخرجها عن أن تكون كذلك؛ إذ يكون المعنى المشترك بينها وبين المقيس عليها هو السبب، والشرط والمانع لا خصوص المقيس عليه، والمقيس.

وأجاب المجوزون: بأن القياس لا يخرجها عما ذكر، والمعنى المشترك فيه، كما يكون علة لها، يكون علة لما ترتب عليها.

فنذكر مثال القياس في الأسباب فنقول: قياس اللواط على الزنا في سببية كل منهما؛ لوجوب الحد بجامع أن كلًّا منهما إيلاج فرج في فرج محرم شرعًا مشتهى طبعًا، ومثال المانع: قياس النفاس على الحيض في أنه مانع من جواز الصلاة معه كالحيض، والجامع كون كل منهما أذى، ومثال الشرط اشتراط نية الوضوء على اشتراط نية التيمم بجامع أنه بكل منهما يتميز العبادة عن العادة. ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 66، وسلاسل الذهب للزركشي 367، وفي أصول الأحكام للآمدي 4/ 56، ونهاية السول للأسنوي 4/ 49، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 43، 3/ 49، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 242، وحاشية البناني 2/ 205، والإبهاج لابن السبكي 3/ 34، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 5، وتخريج الفروع =

ص: 411

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال أكثر الشافعية: يصح.

والمختار - عندي - إن قلنا: بعود السَّببية إلى الأحكام، صح، وإلا فالوقف، ومثاله: قياس اللّواط على الزنا في إِيجاب الحد.

وقال أصحابنا: الشارع في إِحياء الموات

(1)

ما لم يتمه متحجّر، ويفيده التحجّر أنه يصير أحق به، ولا يفيده الملك على المذهب.

وعللوا إِفادته الأحقية: بأنه إِذا أفاد الإِحياء الملكَ، وجب أن يفيد الشروع فيه الأحقية، كالاستلامِ مع الاشتراء.

فقوله: "لنا": أي: على ما اختاره "أنه" قياس "مرسل"؛ لأن وصف الفرع، وهو [سببية]

(2)

اللِّواط - مثلًا - مرسل؛ "لأن الفرض تغاير الوصفين"، أعني: وصفي الأصل والفرع، "فلا أصل لوصف الفرع" مشهود له بالاعتبار، إِنما المشهود له بالاعْتبار وصف الأصل، وهو سببية الزنا، وإذا لم يكن له أصل، كان مرسلًا، فلا يقبل.

ولقائل أن يقول: تغاير الوَصفَيْنِ بالشخص لا يضر، كما في إِلحاق النبيذ بالخمر، وبالنوع غير حاصل؛ لاشتراك الأصل والفرع في أن كلًّا منهما إِيلاج في فَرْجٍ محرم شرعًا مُشْتَهى طبعًا.

قال: "وأيضًا علة الأصل"، وهي حفظ النَّسْل بسبب الزِّنا "منتفية في الفرع، فلا جمع" بينهما، فلا قياس.

ولك أن تقول: إنما العلّة إيلاج فَرْج كما قلناه، وما ذكرتم هو الحكمة فقط.

= على الأصول للزنجاني 309، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 245، وحاشية التفتازاني والشريف على مختضر المنتهى 2/ 255، وإرشاد الفحول للثسوكاني 222، وشفاء العليل (603)، والتبصرة (440)، وشرح التنقيح (414)، والمنتهى (141)، ونبراس العقول 1/ 132.

(1)

قال الرافعي في الشرح الصغير: الموات: الأرض التي لا ماء لها ولا ينتفع بها أحد، وقال الماوردي والروياني: حدّ الموات عند الشافعي ما لم يكن عامرًا ولا حريما لعامر ينظر: مغني المحتاج 2/ 361.

(2)

في أ، ت: سنة.

ص: 412

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال: "وأيضًا إِن كان الجامع بين الوَصْفين"، وهما الزنا واللِّواط

(1)

"حكمة على" تقدير "القول بصحتها"، أي: بصحّة التعليل بها، وذلك عند كونها ظاهرة منضبطة، "أو"

(1)

من المعلوم أن من زنى من رجل، أو امرأة، وكان محصنًا حكمه الرجم، وهذا الحكم بعينه ثابت فيمن فَعَلَ فِعْلَ قوم لوط، ويرجم اللائط، والملوط به متى كانا مكلفين.

ويشترط في الرجم باللواطة بالنسبة للفاعل تكليفه.

وبالنسبة للمفعول تكليفه، وتكليف الفاعل.

ومن هذا يستنتج أن الفاعل لو كان هو المكلف فقط لم يرجم المفعول.

وأن الفاعل لو كان غير مكلف لم يرجم واحد منهما كما لو كانا غير مكلفين. ولما كانت اللواطة من فظائع الأمور، وكان المرتكب لها مخالفًا للسنن الإلهية، وقد عاقب الله قوم لوط بأشد أنواع العذاب قال تعالى في حقهم:{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ" رواه الخمسة إلا النسائي.

حكم الإمام مالك في اللواطة بالرجم، وهو مذهب الشعبي، والزهري ومالك، وأحمد، وإسحاق، والشافعي في قول له، وذهب جمع أنه يحرق بالنار منهم أبو بكر، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الله.

وذهب سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، والثوري، والأوزاعي والإمام يحيى، والشافعي في قول له أنه كالزنا.

وذهب أبو حنيفة، والشافعي في قول له، والمرتضى، والمؤيد بالله إلى أنه يعزر اللوطي فقط.

ولم يشترط ما اشترطه في الرجم في الزنا من الإحصان، والإسلام، والحرية، واختلفوا في الفاعل المكره، فقيل: يرجم بناء على المشهور من أن الانتشار اختيار، وقيل: لا يرجم؛ لأن الإكراه شبهة تدرأ الحد.

أما المفعول المكره فينبغي ألا يرجم قولًا واحدا.

إذا كان المرتكب لهذه الجريمة ممن لم يبلغوا الحلم، وقد كان مميزًا، فعقابه التأديب بما يراه الإمام زاجرًا.

إذا زنى الكافر أو لاط ثم أسلم سقط تأديبه في الزنا، وسقط الحد عنه في اللواطة، وذلك لأن الإسلام يجب ما قبله إذا كان من حقوق الله تعالى: قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ولذلك لا يسقط عنه حد السرقة؛ لكونها من حقوق المخلوق.

فإن قيل: قد ذكرت أن المرجوم يجب أن يرجم بحجارة متوسطة لا بحجارة كبيرة؛ لئلا يتشوه جسمه، ولا بحجارة صغيرة؛ لئلا يطول تعذيبه، فهلا يجوز أن يعدم بالرصاص، أو بالشنق =

ص: 413

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وصفًا "ضابطًا لها" على تقدير امتناع التَّعْليل بها،" [اتحد]

(1)

الحكم والسبب"، واستغنى عن الالْتِفَات إلى الوصفين، وصار القياس في الحُكْمِ المرتب على الجملة، وهي الجامع بينهما، وإذا اتحدا، فأين الأصل والفرع؟.

"وإن لم يكن" بين الوصفين "جامع" من حِكْمَةٍ منضبطة، أو مظنَّة "ففاسد"، أي: فالقياس فاسد؛ لخلوّه عن الوصف المشترك.

وحاصل هذا: أن القياس لا بُدَّ أن يكون لوصف مشترك، وإلا فلا جامع بين الأصل والفرع، فلو قسنا اللِّوَاط على الزنا، فلا بد من مشترك هو علّة الموجبية [والسَّببية]

(2)

، وحينئذٍ فالسَّبب المشترك لا خصوص الزنا - مثلًا - فلا يكون كل واحد من الزنا واللّواط سببًا؛ لاستناد الحكم إِلى المشترك دون الخصوصية، ومن شرط القياس بقاء حكم الأَصْل، وهو زائل؛ لأن المقيس عليه - حينئذٍ - يخرج عن أن يكون مقيسًا عليه، فإذن جريان القياس في الأَسْبَاب يقتضي ألا يكون السَّبب الذي هو أصل سببًا، وذلك خلف.

فإن قلت: هذا منقوض بالقياس في الأحكام.

قلت: لا؛ لأن الأصل فيه غير موجب للحكم، بخلاف السَّبب، فإنه موجب؛ فإِضافة الموجبيّة إِلى القدر المشترك، لا يجامع الإِضافة إِلى السبب الذي هو الأصل على سبيل الخصوصية.

ولقائل أن يقول: العلّة الحقيقية هي الحكمة والحَاجَة، لكنها لما لم تكن منضبطة

= حيث لا يكون تشويه في الجسم، ولا طول في التعذيب؟

قلنا: إن الرجم في الإسلام جاء لحكمة سامية، وهي أن الرجم بالحجارة جاء من جنس الذنب المقترف؛ فإن من يرتكب هذا الأمر المنكر إنما يكون جزاؤه الإعدام مصحوبًا بالإهانة، والاحتقار، وأنت عليم بأن الرجم يوجد فيه من الإهانة ما لا يوجد في غيره من أنواع القتل، وتوجد فائدة أخرى للرجم إن كان موجبه ثابتًا بالإقرار، وهي أنه ربما يرجم في إقراره في أثناء الرجم، ولا توجد هذه الفرصة لو كان القتل بالرصاص أو بالشنق مثلًا.

(1)

في أ، ت: الحد.

(2)

في أ، ت: السنية.

ص: 414

قَالُوا: ثَبَتَ الْمُثَقَّلُ عَلَى الْمَحَدَّدِ، وَاللِّوَاطُ عَلَى الزِّنَا.

قُلْنَا: لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ؛ لأَنَّهُ سَبَبٌ وَاحِدٌ ثَبَتَ لَهُمَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَان، وإيلاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ.

جعل الوصف علة، بمعنى: أن يعرفها، وإذا تحقّق هذا، وضح أن السؤال صحيح، والاحْتِجَاج ضعيف، فنقيس اللواط على الزنا.

ونقول: إنما أوجب الزنا الحد للوصف المشترك، فعدى الموجبية من الزنا إلى اللواط؛ لأن الزنا إِنما صار موجبًا؛ لتعريفه الجملة الموجبة للحد، وهي الحاجة المناسبة إِلى [مشروعيته]

(1)

، واللواط يشارك الزنا في ذلك، فيلزم من كون الزنا علّة، معرفة كون اللواط كذلك.

وقوله: "إن الموجب - حينئذٍ - للحد إِنما [هو مشترك]

(2)

"ممنوع؛ فإن المشترك صالح لأن يكون علّة [لغلبة]

(3)

الوصف، ولا يصلح أن يكون علة للحكم؛ لما ذكرناه.

سلّمنا صلاحية المشترك لأن يكون علّة للحكم، ولكن لم لا يجوز أن يكون علّة [لغلبة]

(4)

الوصف أيضًا ويكون الحكم مستندًا إِلى المشترك استناد الأثر إِلى المؤثر، وإلى الوصف [استناد]

(5)

الشَّيء إِلى المعرف، وذلك هو الواقع في سائر الأحكام المعلّلة، فهي مستندة إلى الحاجة استناد الأثر إِلى المؤثر، وإلى الوصف استناد المعرَّف إلى المعرف.

الشرح: والمجوزون "قالوا: ثبت" قياس "المُثَقَّل على المُحَدّد" في القصاص، "واللواط على الزنا" في الحد، وهو قياس في الأسباب.

قال: "قلنا: ليس بمحلّ النزاع؛ لأنه سبب واحد ثبت لهما بعلّة"، أي: الحكمة "واحدة، وهي القَتْل العَمْد العدوان" من غير نظر إِلى خصوصية المحدد، "وإيلاج فَرْج في فرج" من غير نظر إلى خصوصية الزنا، وكلامنا إنما هو في شيئين، ولك أن تقول: قد عرف ضعف هذا الجواب بما قررناه.

(1)

في أ، ت: شرعيته.

(2)

في أ، ت: هو المشترك.

(3)

في أ، ت: لعلية.

(4)

في أ، ت: لعلية.

(5)

في أ، ت: إسناد.

ص: 415

‌مَسْألةٌ:

لا يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي جَمِيعِ الأحْكَامِ.

لنَا: ثَبَتَ مَا لا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ؛ كَالدِّيَةِ، وَالْقِيَاسُ فَرْعُ الْمَعْنَى.

وَأَيْضًا: قَدْ تَبَيَّنَ امْتِنَاعُهُ فِي الأسْبَابِ وَالشُّرُوطِ.

قَالُوا: مُتَمَاثِلةٌ، فَيَجِبُ تَسَاوِيهَا فِي الْجَائِزِ.

قُلْنَا: قَدْ يَمْتَنِعُ أَوْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ النَّوع لأِمْرٍ، بِخِلافِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَهُما.

«مسألة»

الشرح: "لا يجرى القياس في جميع الأحكام" خلافًا لشذوذ

(1)

.

"لنا: ثبت ما لا يعقل معناه، كالدِّية" في الخطأ وشبه العَمْد على العاقلة، "والقياس فرع المعنى".

(1)

اختلف العلماء في جواز ثبوت جميع الأحكام الشرعية بالقياس، فذهب قوم إلى أنه لا يجوز ثبوتها بالقياس؛ لأن منها ما لا يدرك معناه، كوجوب الدية على العاقلة، وجريان القياس في مثله متعذر؛ لأن القياس فرع تعقل المعنى المعلل به الحكم في الأصل، وقيل: يجوز ثبوتها بالقياس على معنى أن كلًّا من الأحكام صالح لأن يثبت بالقياس. هذا هو مراد القائل بجواز القياس في كل الأحكام لا أن الأحكام جميعها يجوز أن تكون ثابتة بالقياس بحيث يجتمع جميعها في ثبوتها به، إذ لا يصح ذلك؛ لأنه لا بد في كل قياس من أصل مقيس عليه يثبت حكمه بغير القياس، فلا يتصور جريان القياس في الكل؛ لخروج الأصول المقيس عليها، ووجوب الدية على العاقلة له معنى يدرك، وهو إعانة الجاني فيما هو معذور فيه، كما يعان الغارم لإصلاح ذات البَيْن بما يصرف إليه من الزكاة، والذي يظهر من كلام الفريقين أنه لا خلاف في الحقيقة، وإنما الخلاف لفظي؛ لأن الأول ينفي جريان القياس في كل الأحكام بالفعل بناء على أن منها ما لا يدرك معناه.

والثاني جوز القياس فيها بمعنى أن كل حكم صالح لأن يثبت بالقياس بأن يدرك معناه فإذا أدرك معناه، جاز أن يثبت بالقياس؛ لأن القياس فرع تعقل المعنى بناء على رأي الجمهور: أن =

ص: 416

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولك أن تقول: القول بأن ضرب الدِّيَة على العاقلة غير معقول، هو رأي إِمام الحرمين، وقد نوزع فيه، وهو محقّق في "شرحنا الكبير"، و"شرح المنهاج".

"وأيضًا: قد تبيّن امتناعه في الأسباب والشروط"، ككون النية شرطًا في الوضوء، قياسًا على التيمم.

ولك أن تقول: إن كانا من الأحكام، فلا نسلّم امتناع القياس، وإلا فليس مما نحن فيه، ولم يتقدم للشرط ذكر.

"قالوا": الأحكام "متماثلة، فيجب تساويها في الجائز"، أي: في جواز القياس عليها؛ لحصول المُمَاثلة.

"قلنا: قد يمتنع" القياس، "أو يجوز في بعض النوع لأمر" مخصوص بذلك النوع، "بخلاف المشترك بينهما"، وهو مُطْلق الحكم، فإنها وإن تَسَاوت فيه، فقد حصلت المُمَايزة بالخصوصيات.

والحاصل: أن هذا القدر، وهو الاشتراك في الجِنْس، لا يوجب التماثل، وإلا لقيس كل شيء على كل شيء.

= الأحكام التي لم يعقل معناها لها معنى في الواقع، وإن كنا لم ندركه، وهذا لا يخالف فيه الأول، ولا نِزَاعَ له فيه، فتم أن لا خلاف بين الفريقين.

ص: 417

‌الاعْتِرَاضَاتُ الوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ

الْاعْتِرَاضَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعٍ أَوْ مُعَارَضَةٍ، وَإلَّا لَمْ تُسْمَعْ، وهِيَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُون.

الاسْتِفْسَار، وَهُوَ: طَلَبُ مَعْنَى اللَّفْظِ لإِجْمَالٍ أَو غَرَابَةٍ، وَبيانُهُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ بِصِحَّتِهِ عَلَى مُتَعَدِّدٍ، وَلا يُكَلَّفُ بَيَانَ التَّسَاوِي لِعُسْرِهِ.

وَلَوْ قَالَ: التَّفَاوُتُ يَسْتَدْعِي تَرْجِيحًا بِأمْرٍ، وَالأصْلُ عَدَمُهُ - لَكَانَ جَيِّدًا.

«مسألة»

الشرح: "الاعتراضات" كلّها "راجعة إلى منع" في المقدمات، "أو معارضة" في الحكم، "وإلا لم تسمع"، فإنه إذا صحَّت المقدِّمات، ووقعت السّلامة عن المعارض، حصل الغرض.

ولقائل أن يقول: كلّها راجعة إِلى المنع وحده؛ لأن المعارضة منع للعلة عن الجريان، "وهي خمسة وعشرون" اعتراضًا.

الشرح:‌

‌ الأول: "الاسْتِفْسَار

(1)

، وهو: طلب معنى اللفظ"، وإما "لإجمال" كالقُرْء، "أو غرابة" كما إِذا قال في الكَلب الذي لم يعلم: خراش لم ينل، فلا تطلق فَرِيسَته، كالسَّيِّد، والخراش: الكلب، ولم ينل: لم يَجْتئز، ولا تُطْلق:[لا تُبَاح]

(2)

، والفَرِيسة: الصيد، والسَّيِّد: الذئب.

"وبيانه" أي: بيان اشتمال اللفظ على إجماله، أو غرابة "على المعترض".

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 317، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 60، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 135، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 258.

(2)

في أ، ت: لانباخ.

ص: 418

وَجَوَاُبهُ: بِظُهُورِهِ فِي مَقْصُودِهِ بِالنَّقْلِ، أَوْ بِالْعُرْفِ، أَوْ بِقَرَائِنَ مَعَه، أَوْ بِتَفْسِيرِهِ وَإذَا قَالَ: يَلْزَمُ ظُهُورُهُ فِي أَحَدِهِمَا؛ دَفْعًا لِلإجْمَالِ، أَوْ قَالَ: يَلْزَمُ ظُهُورُهُ فِيمَا قَصَدْتُ؛ لأِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي الآخَرِ اتِّفَاقًا، فَقَدْ صَوَّبَهُ بَعْضُهُمْ.

وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِمَا لا يَحْتَمِلُهُ لُغَةً فَمِنْ جِنْسِ اللَّعِبِ.

وقيل: بل على المستدلّ؛ لأنه لما كان شرط ظهور الدَّليل عدم إِجماله أو غَرَابته، فنفيهما إِذن شرط في الدليل، وبيان شرط الدَّليل على المستدلّ.

والصحيح: الأول؛ لأن الأصل عدم الإِجمال والغرابة، فليبرهن عليه المعترض، "بصحته" أي: بيان صحّة إِطلاق اللفظ "على" معنى "متعدد، ولا يكلف ببيان التساوي"، أي: تساوي إِطلاق اللفظ على المعاني المتعددة "لعسره.

ولو قال" المعترض في بيان التَّسَاوي - متبرعًا بذلك -: "التفاوت" منتف؛ لأنه "يستدعي ترجيحًا بأمر، والأصل عدمه، لكان جيدًا".

"وجوابه" أي: جواب المستدلّ "بظهوره في مقصوده بالنَّقل"، كما إذا اعترض في قوله: الوضوء قُرْبَة، فلتجب فيه النية، بقوله: الوضوء يطلق على النَّظَافة، وعلى الأفعال المخصوصة، فيقول: حقيقته الشرعية الأفعال المخصوصة.

"أو بالعرف"، كالدَّابة، "أو بقرائن معه"، مثل: قُرْء تحرم فيه الصلاة، فيحرم الصوم، فقرينة تحريم الصَّلاة فيه، يدل على أن المراد به الحيض.

وفي الغريب، مثل: طَلّة زوجت نفسها، فلا يصحّ، فقرينة: زوجت نفسها، تدل على أن الطّلّة: المرأة.

"أو بتفسيره" بمقصوده إن لم يستنّ له ما ذكرناه، فيقول: مرادي المعنى الفلاني، ولا بد أن يفسره بما يحتمله اللفظ، وإن بعد مثل يخرج في الفطرة الثور، ويفسره بالقطعة من الأقط.

"وإذا قال" المستدلّ: "يلزم ظهوره في أحدهما دفعًا للإجمال"، وإذا كان كذلك، لزم أن يكون ظاهرًا في مرادي؛ للاتفاق على أنه غير ظَاهِرٍ في غيره، فقد رده بعضهم؛ لأنه رجوع إلى أن الأصل عدم الإجمال بعد ما دلّ المعترض على أنه مجمل.

"وصوّبه بعضهم"، وذلك حيث لا يكون اللفظ مشهورًا بالإِجمال.

أما إذا اشتهر بالإِجمال، كالعَيْن، والقُرْءِ، والجَوْن، فلا تصحّ فيه دعوى الظهور

ص: 419

فَسَادُ الاِعْتِبَارِ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ لِلنَّصِّ.

وَجَوَابُهُ: الطَّعْن، أَوْ مَنْعُ الظُّهُورِ، أَوِ التَّأوِيل، أَوِ الْقَوْل بِالمُوجِبِ، أَوِ الْمُعَارَضَةُ بِمِثْلِهِ، فَيَسْلَمُ الْقِيَاس، أَوْ يُبَيَّنُ تَرْجِيحُهُ عَلَى النَّصِّ بِمَا تَقَدَّمَ؛ مِثْلُ ذَبْحٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، كَذَبْحِ نَاسِي التَّسْمِيَةِ، فَيُورِدُ:"وَلا تَأْكُلُوا"؛ فَيَقُولُ: مُؤَوَّلٌ بِذَبْحِ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ بِدَلِيلِ: "ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ الْمُومِنِ، سَمَّى أَوْ لَم يُسَمِّ"، أَوْ بِتَرْجِيحِهِ لِكَوْنِهِ مَقِيسًا عَلَى النَّاسِي الْمُخَصَّصِ بِاتِّفَاقٍ، فَإِنْ أُبْدِي فَارِقًا فَهُوَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ.

أصلًا، ذكره الشريف، وهو واضح.

"وأما تفسيره بما لا يحتمله لغة، فمن جنس اللعب" عند المصنّف وطائفة، فلا بسمع.

وقيل: يسمع؛ لأن غاية الأمر أنه ناطق بلغة غير معلومة - قال الحواري من أصحابنا: وهو الحق.

قال العَمِيدي: لا يلزمه التفسير أصلًا، وهذا كله إِذا لم يكن اللفظ مشهورًا، فالحزم تبكيت المعترض، وفي مثله:[سِرْ]

(1)

فتعلم، ثم ارجع فتكلم. قاله أبو بكر التوقاني.

الشرح:‌

‌ الثاني: "فساد الاعتبار"

(2)

وهو: مُخَالفة القياس للنص" إِذ لا ينتهض القياس حجّة مع معارضة النص، وهذا في النَّص الجلي، ولا بد أن تتذكر - هنا - تعارض الخبر والقياس.

"وجوابه: الطعن" في سند النص، "أو منع الظهور"، أي: ظهور النَّص من مقصد المعترض، "أو التأويل" للنص، "أو القول بالموجب، أو المعارضة بمثله" من النصوص، "فيسلم القياس" - حينئذٍ - "أو يبين" المستدلّ "ترجيحه على النص بما تقدم" في خبر الواحد، "مثل" قولنا في متروك التسمية:"ذبح" صدر "من أهله في محله"، فيحلّ، "كذبح نَاسِي التسمية، فيورد" المعترض: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [سورة الأنعام: الآية 121].

(1)

في أ، ت: مر.

(2)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 319، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 62، وحاشية البناني 2/ 324، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 151، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 367، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 259.

ص: 420

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويقول: قياسك فاسد الاعتبار لمعارضته هذا النص، "فيقول" المستدلّ: هذا "مؤول بذبح عَبَدَةِ الأوثان" تعبيرًا عن الجنس باسم معنى يلازمه غالبًا؛ فإن عدم ذكر الله عند ذبح أهل الشّرك أمر غالب، وإذا انقدح الاحتمال، صير إِليه، "بدليل" ما ذكر من قوله صلى الله عليه وسلم:"ذِكْرُ اللهِ عَلَى قَلْبِ المُؤمِنِ، سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمّ"

(1)

وأنا لا أحفظ هذا اللفظ، وإنما روى ابن عدي من رواية مروان بن سَالِم

(2)

- وهو ضعيف - عن الأَوْزَاعِيّ، عن يحيى بن أبي كثير

(3)

، عن

(1)

قال الحافظ ابن كثير: لم أر هذا الحديث في شيء من الكتب الستة، وإنما روى الحافظ أبو أحمد بن عدي في كامله، والدارقطني قريبًا من هذا من حديث مروان بن سالم الجزري القرفساني عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يذبح وينسى أن يسمى؟ فقال: اسم الله على فم كل مسلم". فهذا الحديث ضعيف؛ لأن مروان بن سالم هذا قال أحمد بن حنبل والنسائي والعُقيلي: ليس بثقة، وقال البخاري: منكر الحديث، وكذلك قال مسلم وأَبو حاتم الرازي، وقال أبو عروبة الحراني: كان يضع الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس حديثه بالقائم، وقال ابن حبان: بطل الاحتجاج به، وقال ابن عدي: عامة حديثه لا يتابعه الثقات عليه، وقال النسائي مرة والأزدي والدارقطني: متروك. ومعناه في الصحيحين، وهو عند البخاري في كتاب البيوع: باب من لم ير الوسواس ونحوها من الشبهات عن عائشة رضي الله عنها "أن قومًا قالوا: يا رسول الله إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سموا الله عليه وكلوا" وفي كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد ذبيحة الأعراب ونحوهم، ولفظه: "سموا عليه أنتم وكلوه" انظر تحفة الطالب ص 441 - 444.

(2)

مروان بن سالم الغفاري، أبو عبد الله الشامي، الجزري، مولى بني أمية قال النسائي: متروك الحديث، وقال: قال البخاري ومسلم: منكر الحديث. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: منكر الحديث جدًّا، ضعيف الحديث ليس له حديث قائم. وقال أبو عروبة الحراني: كان يضع الحديث. وقال ابن عدي: عامة حديثه لا يتابعه عليه الثقات. قال ابن حبان: يروى المناكير عن المشاهير ويأتي عن الثقات بما ليس من حديث الأثبات، فلما كثر ذلك من روايته بطل الاحتجاج بأخباره. ينظر: تاريخ البخاري الكبير 7/ 373، والجرح والتعديل 8/ 1256، وضعفاء ابن الجوزي 3/ 113، والمعرفة والتاريخ 3/ 41، والضعفاء الصغير (353)، وتهذيب التهذيب 10/ 93.

(3)

يحيى بن أبي كثير الطائي، مولاهم، أبو نصر اليمامي. روى عن: أنس وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهلال بن أبي ميمون وخلق. وروى عنه: ابنه عبد الله وأيوب السختياني =

ص: 421

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أبي سَلَمةَ

(1)

، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرَّجل منا يذبح وينسى أن يسمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اسْمُ اللهِ عَلَى فَمِ كُلِّ مُسْلِمٍ"

(2)

.

وفي حديث البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمّ"، ولا يعرف له إِسناد.

وفي مراسيل أبي داود عن الصَّلت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَبيحَةُ المُسْلِمِ حَلالٌ، ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْه، إِنَّهُ إِنْ ذَكَرَ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ"

(3)

.

والصّلت

(4)

هو: السّدوسي، ثِقَةٌ، ولو أبدل المصنف هذا الحديث بما في الصحيح: من أن قومًا قالوا: يا رسول الله، إِن قوما يأتوننا باللَّحم، ما ندري أذكروا اسم الله أم لا؟،

= ويحيى بن سعيد الأنصاري وطائفة. قال العجلي: ثقة، كان يعد من أصحاب الحديث. وقال أبو حاتم: إمام لا يحدث إلا عن ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان من العباد. مات سنة 129 هـ. ينظر: الأنساب 13/ 522، وطبقات ابن سعد 5/ 404، وتراجم الأحبار 4/ 237، ولسان الميزان 6/ 274، وميزان الاعتدال 4/ 402، والجرح والتعديل 9/ 599، وتهذيب التهذيب 11/ 268 (539)، والكاشف 3/ 266، والبداية والنهاية 10/ 34.

(1)

أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف، الزهري، المدني.

روى عن: أبيه وعثمان بن عفان وطلحة وعبادة بن الصامت وخلق. وروى عنه: ابنه عمر وأولاد إخوته سعد بن إبراهيم وعبد المجيد بن سهل وزرارة بن مصعب وطائفة. قال ابن سعد: كان ثقة فقيهًا كثير الحديث. قال أبو زرعة: ثقة إمام. وقال ابن حبان في الثقات: كان من سادات قريش. وقال علي بن المديني وأحمد وابن معين وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وأبو داود: حديثه عن أبيه مرسل. مات سنة 94 هـ. ينظر: طبقات ابن سعد 15/ 323، وتقريب التهذيب 2/ 430، والوافي بالوفيات 15/ 323، وتهذيب الكمال (3610)، وتذكرة الحفاظ (63)، وتهذيب التهذيب 12/ 115 (537).

(2)

تقدم.

(3)

أخرجه أبو داود في المراسيل ص 278، رقم (378).

(4)

الصلت السدوسي، مولاهم، تابعي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذبيحة. وعنه: ثور بن يزيد الرحبي. وذكره ابن حبان في "الثقات" قال ابن حجر: لكنه ذكره في أتباع التابعين. وقال ابن حزم: مجهول. ينظر: لسان الميزان 7/ 248، والثقات 6/ 471، وميزان الاعتدال 2/ 320، وتاريخ البخاري الكبير 4/ 300، وخلاصة تهذيب الكمال 1/ 472، وتهذيب الكمال 2/ 613، وتقريب التهذيب 1/ 370، وتهذيب التهذيب 4/ 437.

ص: 422

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا عَلَيْهِ وَكُلُوا"

(1)

- لكان أَوْلَى.

"أو بترجيحه" أي: بترجيح المستدل المقيس على المقيس عليه "لكونه مقيسًا على الناسي المخصص" من الآية، لحل ذبيحته "اتفاقًا" بين الإِمامين: الشافعي، وأبي حنيفة بأن المتذكر أقرب إِلى مقصود الذكر، فكان ذبحه بالحلّ أولى.

"فإن أبدي فارقًا" بين المقيس والمقيس عليه، "فهو" سؤال آخر، "من المعارضة"، وليس من فساد الاعتبار.

واعلم أن المِثال الجامع لأجوبة دعوى الخَصْمِ فساد الاعتبار في دعواهم فساد قياسنا المُثَقَّل على المُحَدَّد، لمعارضة ما رواه علي - كرم - الله وجهه - من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا قَوَدَ فِي النَّفْسِ وَغَيْرِهَا إِلَّا بِحَدِيدَةٍ"، فيطعن في سنده بأن يقول: رواية [معلى]

(2)

بن هلال

(3)

، عن أبي إِسحاق، عن عاصم بن ضمرة

(4)

، عن علي.

ومعلى قال ابن معين: كان يَضَعُ الحديث، ويمنع ظهوره في مقصدهم بأن يقول: من مجملاته الظاهرة أنه لا يقع الاستيفاء إِلا بِحَدِيدَةٍ، كما ذهب إِليه بعض العلماء.

وتأوله: بأن لا قَوَدَ يعم النفس وغيرها إِلا بحديدة، بخلاف المُثَقّل؛ إِذ ليس له من النكايات الباطنة ما للمحدد، فليس عمومه كعموم المحدد؛ ألا ترى أن الضرب بعصى خفيفة لا يوجب القصاص، والجرح اليسير يوجب، ويقول بموجبه، وذلك فيما إِذا قتل بحديدة، فلا يُقَادُ منه إِلا بحديدة، ونعارضه بما في "الصحيحين": من أن يهوديًا رَضَخَ رأس

(1)

أخرجه البخاري (7/ 168) كتاب الذبائح والصيد: باب ذبيحة الأعراب

رقم (5507) وابن ماجة (3174) من حديث عائشة.

(2)

في أ، ت: يعلى.

(3)

معلى بن هلال بن سويد، الحضرمي. ويقال: الجعفي - أبو عبد الله، الطحان، الكوفي، روى عن: أبي إسحاق السبيعي ومنصور بن المعتمر وسهيل بن أبي صالح وخلق. وعنه: عبد السلام بن حرب وإسماعيل بن زكريا والعسكري وغيرهم. قال عباس الدوري عن ابن معين: ليس بثقة كذاب. وقال البخاري: تركوه. وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود: غير ثقة ولا مأمون. ينظر: تهذيب الكمال 3/ 1355، وخلاصة تهذيب الكمال 3/ 46، والكاشف 3/ 164، وتاريخ البخاري الكبير 7/ 396، وضعفاء ابن الجوزي 3/ 132، وتهذيب التهذيب 10/ 240 (437).

(4)

عاصم بن ضمرة السلولي، الكوفي. عن علي. وعنه: حبيب بن أبي ثابت والحكم بن عتيبة.

ص: 423

‌الثَّالِثُ: فَسَادُ الْوَضعِ،

وَهُوَ كَوْنُ الْجَامِع ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ؛ مِثْلُ: مَسْحٌ فيُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَار، كَالاسْتِطَابَةِ فَيَرِدُ أَنَّ الْمَسْحَ مُعْتَبَرٌ فِي كراهَةِ الْتَّكْرَارِ عَلَى الْخُفِّ.

وَجَوَابُهُ: بِبِيَانِ الْمَانِعِ؛ لِتَعَرُّضِهِ لِلتَّلَفِ، وَهُوَ نَقْضٌ إِلَّا أَّنهُ يُثْبِتُ النَّقِيضَ، فَإنْ ذَكَرَهُ بِأصْلِهِ فَهُوَ الْقَلْب، فَإِنْ بَيَّنَ مُنَاسَبَتَهُ لِلنَّقِيضِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ مِنَ الْوَجْهِ الْمُدَّعَي، فَهُوَ الْقَدْحُ فِي الْمُنَاسَبَةِ، وَمِنْ غَيْرِهِ لا يَقْدَحُ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ لِلْوَصْفِ جِهَتَانِ، كَكَوْنِ المَحَلِّ مُشْتَهًى يُنَاسِبُ الإِبَاحَةَ لإِرَاحَةِ الْخَاطِرِ، وَالتَّحْرِيمَ لِقَطْعِ أَطْمَاعِ النَّفْسِ.

امرأة بين حجرين، فقتلها، "فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حَجَرَيْنِ"

(1)

، ويرجح قياسًا باعْتِضَادِهِ بالحديث، وغير ذلك من المرجَّحات.

الشرح: "الثالث: فساد الوَضع"، وقد جعله بعضهم هو وفساد الاعتبار واحدًا، وهي طريقة أبي إِسحاق الشيرازي

(2)

.

"وهو: كون الجامع ثبت اعتباره بنصّ أو إِجماع في نقيض الحكم"، والشيخ أبو إسحاق جعل بدل "الإِجماع" الأصول، أي: أن الأصل المقيس عليه يشعر بنقيض الحكم، وكذلك إِمام الحرمين، مثل قولهم: قتل العَمْد لا يوجب الكَفَّارة؛ لأنه معنى يوجب القتل، فلا يوجب الكفارة كالردة، فيقال: وجوب القتل يدلّ على تغليظ حكمه، فكيف يجعل سببًا لإسقاط الكفارة.

= وثقه ابن المديني وابن معين، وتكلم فيه غيرهما. قال خليفة: مات سنة أربع وسبعين ومائة.

ينظر: تهذيب التهذيب 5/ 45 (77)، وتقريب التهذيب 1/ 384 (13)، وتاريخ البخاري الكبيو 6/ 482، والجرح والتعديل 6/ 345، وميزان الاعتدال 2/ 352، وخلاصة تهذيب الكمال 2/ 18.

(1)

أخرجه البخاري كتاب الطلاق ب 24، ومسلم في القسامة ب 15، وأبو داود في الديات ب 10، والترمذي في الديات ب 6، وابن ماجة في الديات ب 24، وأحمد (2/ 162، 182، 202، 267).

(2)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 319، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 63، والمنخول للغزالي ص 415، وحاشية البناني 2/ 321، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 149، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 145، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 260، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 96، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 1070.

ص: 424

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وجوابه: وإن تبين أنه إِذا تغلظ من وجه، لم يجب معه تَغْليظ آخر.

قال: "مثل" قولنا في مسح الرأس: "مسح فيسنّ فيه التكرار، كالاستْتِطَابة"؛ إِذ يستحبّ فيها عند المالكية الثلاث وإن حصل النَّقَاء بدون الثلاث، وهو وجه عندنا.

"فيردّ: أن المسح معتبر في كراهة التكرار على الخُفّ"، فلو كان كونه مسحًا علّة التكرار، لما كان علّة عدمه في مسح الخفّ للإِتلاف فقط، ولا مدخل لكونه مسحًا في العلّية، وفي المثال نظر من أوجه:

أحدها: أنكم قلتم: إِنه علة عدمه كراهة التَّكْرَار بالعلة، وفي كراهة التكرار الإِتلاف فقط، ولا مدخل لكونه مسحًا في [العلة]

(1)

.

والثاني: سلمنا، ولكن ذلك من جِهَةِ المُنَاسبة المشعرة بنقيض الحكم، كما ذكرناه في كَفّارة القتل العمد، ولا نص هنا ولا إِجماع، والمصنف لم يذكر سواهما.

والثالث: أنه لا يتأتى على الصحيح عندنا؛ إِذ الصحيح إِيجاب ثلاث مَسْحات حصل النقاء بدونها أم لم يحصل.

والأولى أن يمثل بقول الحَنَفي في تنجيس سُؤْرِ السباع: سَبُع ذو ناب، فكان سُؤْره نجسًا كالكلب، فنقول: علقت على العلة ضد مقتضاها؛ لأن كونه سبعًا علّة الطَّهَارة بدليل أنه صلى الله عليه وسلم دُعِيَ إلى دار قوم، فأجاب دون دار آخرين، وقال: "إن فِي دَارِهِمْ كلْبًا.

فقيل: وفي دار الذين أجبتهم هرة، فقال:"الهِرَّةُ سَبُع"

(2)

، فجعل السبع علة الطهارة، ذكره الشيخ أبو إِسحاق في "الملخص".

قال: "وجوابه: ببيان" تحقق "المانع" عن التكّرار في الخُفّ؛ "لتعرضه للتلف" بالتكرار، بخلاف صورة النزاع، "وهو "أعني: هذا السؤال "نقض" للعلّة؛ إذ قد وجد المدعي علّة مع تخلف الحكم "إلا أنه" نقض خاصّ؛ لأنه "يثبت" أن "النقيض"، أعني:

(1)

في أ، ت: العلية.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 32) وأحمد (2/ 442)، والدارقطني (1/ 63)، والبيهقي (1/ 51 - 52) من طريق عيسى بن المسيب عن أبي زرعة عن أبي هريرة مرفوعًا.

وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 45) وقال: وفيه عيسى بن المسيب، وثقه أبو حاتم، وضعفه غيره.

ص: 425

[الرَّابعُ]: مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ،

وَالصَّحِيحُ لَيسَ قَطْعًا لِلْمُسْتَدِلِّ بِمُجَرَّدِهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَنْعِ مُقَدِّمَةٍ، كَمَنْعِ العِلَّةِ فِي الْعِلِّيَّةِ وَوُجُودِهَا، فَيُثْبِتُهَا بِاتِّفَاقٍ.

وَقِيلَ يَنْقَطِعُ لاِنْتِقَالِهِ.

وَاخْتَار الْغَزَالِيُّ رحمه الله اتِّبَاعَ عُرْفِ المكَانِ.

وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ: لا يُسْمَع، فَلا يَلْزَمُهُ دِلالَةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ؛ إِذْ لا تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى خَصْمِهِ مَعَ مَنْعِ أَصْلِهِ.

كراهة التَّكرار - مثلًا - وكون السبعية علّة الطهارة، "فإن ذكره" أي: ذكر المعترض النقض "بأصله" أي: بأصل المستدّل، "فهو القَلْب، وإن بين مناسبته للنقيض من غير أصل من الوجه المدعي، فهو القَدْح في المناسبة"؛ إذ الوصف الواحد لا يناسب النَّقيضين من جهة واحدة، "ومن غيره"، أي: وإِن بين مناسبة الوصف للنقض من غير الوجه المدعي، فذلك "لا يقدح" في مناسبة الوصف للحكم؛ "إِذ قد يكون للوصف جهتان"، تناسب بإحداهما الإِباحة وبالأخرى التحريم، "ككون المحلّ [مُشْتهى] "

(1)

فإنه "يناسب الإباحة، لإراحة الخاطر، والتَّحريم لقطع أطماع النفس".

الشرح: الاعتراض: "الرابع: منع حكم الأصل

(2)

، والصحيح" أنه "ليس قطعًا للمستدلّ؛ لأنه كمنع مقدمة" من مقدّمات القياس، "كمنع العلّة في العلّية"، كذا بخطّ المصنف، أي: منع علّية ما ادعاه علة "ووجودها"، أي: ومنع وجودها في الفَرْعِ، [فيثبتها]

(3)

المستدلّ؛ ولا يعد منقطعًا، فلذلك منع حكم الأصل؛ لكونه إِحدى المقدمات التي يتوقّف عليها القياس.

ووجهه: أنه لما تصدى لإِثبات حكم الفرع المتوقف على ثبوت حكم الأصل، لم يكن بالاستدلال عليه تاركًا لما شرع فيه.

"وقيل": بل "ينقطع؛ لانتقاله" عن إِثبات حكم الفرع إلى الأصل، "واختيار الغزالي اتباع عرف المكان" الذي هو فيه، ومصطلح أهله.

(1)

في أ، ت: منهى.

(2)

ينظر: الإحكام للآمدي 4/ 64، وشرح العضد 2/ 262، وإرشاد الفحول (230).

(3)

في أ، ت: فيبينها.

ص: 426

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وقال" أبو إِسحاق "الشِّيرَازي": إن المنع "لا يسمع، فلا يلزمه دلالة عليه، وهو بعيد؛ إذ لا تقوم الحُجّة على خَصْمه مع منع أصله" على أن الموجود في كتابي "الملخّص" و"المعونة" للشيخ أبي إِسحاق سماع المنع.

قال: ثم المانع إما ألَّا يختلف مذهبه في المنع، فجوابه من أوجه:

أحدها: تفسير الحكم بما سلم، كقول الحَنَفي: الإِجارة عَقْد على منفعة، فتبطل بالموت كالنِّكاح، فيمنع الأصل؛ إِذ النكاح لا يبطل بالموت، وإنما يتم، فيقول: أردت بقولي: يبطل، أنه يرتفع، ولا خلاف فيه، فيسقط المنع.

والثاني: أن يبين موضعًا يسلم فيه، كقولنا: الوضوء عبادة، شرع لها الاختتام باليَسَار، فشرط فيها الترتيب، كالصلاة.

فيقول المخالف: لا أسلم أن الترتيب شرط في الصَّلاة؛ فإنه لو ترك أربع سَجَدَات من أربع ركعات، فأتى بهنّ في آخر صلاته أجزأه، فنقول: لا خلاف أنه إِذا قدم الرّكوع على القراءة، أو السُّجود على الركوع لا يصح، وهذا كافٍ في التسليم.

والثالث: أن يدل عليه، كقولنا: الخِنْزِيرُ حيوان نجس في حال حياته، فيغسل منه سبعًا كالكلب، فيمنعون الأصل، فيدلّ عليه بحديث:"إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ .. ".

وإما أن يختلف مذهب المانع، بأن كان لأمامه قولان، أو لأصحابه وَجْهَان، فجوابه من الأوجه المذكورة، ويزيد بتبيين أنّ الصحيح من مذهبه التسليم، كما يقول فيمن تطوع بالحَجّ، وعليه فرضه:[أحرم]

(1)

وعليه فرضه، فانصرف إِلى ما عليه، كما إِذا أطلق النِّيّة، فيمنع الخصم مستندًا إِلى رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يكون تطوعًا، فيجيب بأن الصحيح من مذهبه ما ذكرناه.

وإما ألّا يعرف مذهب إمامه، كقول الحنفي في الكافر يسلم على أكثر من أربع: لا يختار أربعًا منهن؛ لأنَّهُ جمع محرم في نكاح، فلا يخير فيه بعد الإسلام.

دليله: إِذا جمعت المرأة بين زوجين، فإنها لا تخيّر بين الزوجين، فيقول الشَّافعي:

(1)

في أ، ت: إحرام.

ص: 427

وَالْمُخْتَارُ: لَا يَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ بِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَعْتَرِضَ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ صُورَةِ دَلِيلٍ صِحَّتُهُ.

قَالُوا: خَارجٌ عَنِ الْمَقْصُودِ الأَصْلِيِّ.

قُلْنَا: لَيْسَ بِخَارجٍ.

[الْخَامِسُ]: التَّقْسِيم،

وَهُوَ: كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ، وَالْمُخْتَارُ وُرُودُه، مِثَالُهُ فِي الصَّحِيحِ الحَاضِرِ: وُجِدَ السَّبَبُ بِتَعَذُّرِ الْمَاء، فَسَاغَ التَّيَمُّم، فَيَقُولُ: السَّبَبُ تَعَذُّرُ الْمَاءَ أَوْ تَعَذُّرُ الماءِ فِي السَّفَرِ أَوِ الْمَرَضِ.

هذه المسألة لا نصّ فيها لأصحابنا، ويحتمل ألّا نسلمه.

قلت: إذا أسلمت على زوجين، ووقع عقدهما معًا، لم تقرّ مع واحد منهما، سواء اعتقدوا جوازه أم لا.

وفيما إذا اعتقدوه وجه: أنَّ المرأة تختار أحدهما، وإن وقع النكاحان مرتبين، فهي زوجة الأول.

الشرح: "والمختار: لا ينقطع المعترض" إذا استدلّ المستدلّ على محل المنع، "بمجرد الدلالة، بل له"؛ أي: للمعترض "أن يعترض" على دليلٌ محلّ المنع؛ "إذ لا يلزم من "وجود "صورة دليلٌ صحّته"، فإِن لم يصح، فكيف ينقطع المعترض؟

وقال قوم: ينقطع "قالوا": لأنّ اشتغاله بالاعتراض على دليلٌ المنع "خارج عن المقصود الأصلي" الذي هو ثبوت الحكم في الفرع.

"قلنا: ليس بخارج"؛ لأن حكم الأصل إِحدى المقدّمات التي عليها ينبني المقصود الأصلي.

الشرح: الاعتراض "الخامس التقسيم

(1)

، وهو كون اللفظ مترددًا بين أمرين" متساويين:"أحدهما: ممنوع"، والآخر مسلم.

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 664 وشرح العضد 2/ 262.

ص: 428

الأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَحَاصِلُهُ مَنْعٌ يَأْتِي، وَلَكِنَّهُ بَعْدَ تَقْسِيمٍ، وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِمْ فِي [الْمُلْتَجِئَ إِلَى الْحَرَمِ]: وُجِدَ سَبَبُ اسْتِيْفَاءِ الْقِصَاصِ، فيَجِب، مَتَى: مَعَ مَانِعِ الاِلتِجَاءِ إِلَى الْحَرَمِ أَوْ عَدَمِهِ فَحَاصِلُهُ طَلَبُ نَفْي الْمَانِعِ، وَلَا يَلْزَمُ.

[السَّادِسُ]: مَنْعُ وُجُودِ المُدَّعَى عِلَّةً فِي الأَصْلِ

؛ مِثْلُ: حَيَوانٌ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا، فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ، فَيُمْنَعُ.

وَجَوَاُبهُ: بِإِثْبَاتِهِ بِدَلِيلِهِ مِنْ عَقْلٍ، أوْ حِسٍّ، أَوْ شَرْعٍ.

"والمختار: وروده".

وقيل: سؤال الاسْتِفْسَار كافٍ، فلا يرد.

"مثاله": قولنا "في" تيمم "الصحيح الحاضر" لفقد الماء: "وجد السّبب" سبب التيمم "لتعذر الماء، فساغ التيمم" قياسًا على المسافر والمريض، بجامع امتناع اسْتِعْمَال الماء، "فيقول" المعترض:"السبب" مطلق "تعذّر الماء، أو تعذر الماء في السَّفر أو المرض، الأول ممنوع"، فلا نسلم أن مُطْلق تعذّر الماء مبيح للتيمم، والثاني مسلم، ولا يبيح المقصود.

"وحاصله؛ أي: حاصل التقسيم "منع يأتي" أي: يتوجه، "ولكنه" منع خاص؛ إِذ هو واقع "بعد تقسيم" قسموه تقسيمًا.

"وأما" إِذا ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ المستدلّ عليهما "نحو قولهم" يعني: أصحابنا "في" مسألة "الملتجئ إِلى الحرم: وجد سبب استيفاء القِصَاص"، وهو القتل العَمْد العدوان، "فيجب"" استيفاؤه، فالمعترض يقول: "متى" يجب "مع مانع الالتجاء إلى الحرم، أو "مطلقًا، مع الالتجاء و"عدمه" الأول: ممنوع.

والثاني: مسلم، ولكن لم قلت: إِن الالتجاء ليس مانعًا؟.

"فحاصله: طلب" المعترض من المستدلّ بيان "نفي المانع" عن الاستيفاء، "ولا يلزم" المستدلّ ذلك، فلا يكون مقبولًا.

وأما إِذا كان اللفظ ظاهرًا في أحد الاحتمالين، فلا وجه لسؤال التقسيم.

الشرح: الاعتراض "السَّادس: منع وجود" الوصف "المدّعي" كونه

(1)

"علّة في

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 70، وشرح العضد 2/ 263.

ص: 429

[السَّابعُ]: مَنْعُ كَوْنِهِ عِلَّةً، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْئِلَةِ

؛ لِعُمُومِهِ وَتَشَعُّبِ مَسَالِكِهِ، وَالْمُخْتَارُ قَبُولُه، وإلَّا أَدَّى إِلَى اللَّعِبِ فِي التَّمَسُّكِ بِكُلِّ طَرْدٍ.

قَالُوا: الْقِيَاسُ رَدُّ فَرْعٍ إلَى أَصْل بِجَامِعٍ، وَقَدْ حَصَلَ.

قُلْنَا: بِجَامِعِ يُظَنُّ صِحَّتُهُ.

الأصل مثل" ما يقال على لسان الشَّافعية في الكلب: "حيوان يغسل من ولوغه سبعًا، فلا يطهر بالدِّبَاغ كالخِنْزِيرِ، فيمنع" وجوب الغُسل سبعًا من ولوغ الخنزير.

ثم اختلفوا في أنه هل يسوغ للمعترض تقرير المنع، أو يجب عليه الإقتصار عليه؟ بعد اتفاقهم على أنه لا يسوغ له المنع إِلا إذا اعتزى إِلى ذي مذهب يرى المنع.

والمختار: إِن كان المنع خفيًّا، بحيث يخشى نسبة المانع إِلى المُكَابرة، مكّن من تقريره، وإلا فلا.

"وجوابه: بإثباته" أي: بإِثبات وجود الوصف المدّعي علة في الأصل "بدليل من عَقْل، أو حس، أو شرع" على حسب الوَصْف في كل مسألة، ففي العقل، كما نقول: نكحت نفسها مع وجود الوَلِيّ، فلا يجوز، قياسًا على ما إِذا نكحها أجنبي، بجامع الافتيات الضَّار بالأولياء.

فجوابه: أن العقل قاض بأن من افتيت عليه اشتغل باله، وهو ضرر.

وفي الحس، كما يقال: لا نسلّم وجود الافتيات، فيقال: بدليل أنَّا نشاهد وجهه متمعّرًا، وفي الشرع قد مثل له المصنّف بمثال للمنع الظَّاهر، ومن أمثلة المنع الخفي:

قولنا في الوضوء: عبادة يبطلها الحَدَث، فكان الترتيب شرطًا فيها كالصَّلاة، فيمنع كون الحدث مبطلًا للصلاة، وإنما يبطل الطهارة، وببطلانها تبطل الصلاة.

فنقول: لا خلاف بيننا أنه لو سبقه الحَدَث، فانصرف ليتوضّأ، ثم أحدث في طريقه أن صلاته تبطل، وليس هناك طَهَارة، فدلّ على أن الحدث يبطل الصلاة على الانفراد، والطهارة على الانفراد.

قال الشيخ أبو إسحاق: وله الجواب - أيضًا - بالتفسير، بأن يفسر ذلك بمعنى مسلم موافق للفظ العلّة، كما يقول: أريد بقولي: يبطلها الحدث، أن الحدث يمنع إتمامها، والاحتسابَ بما مضى منها.

ص: 430

قَالُوا: عَجْزُ الْمُعَارِضِ دَلِيلُ صِحَّتِهِ؛ فَلَا يُسْمَعُ الْمَنْعُ.

قُلْنَا: يَلْزَمُ أنْ تَصِحَّ كُلُّ صُورَةِ دَليلٍ؛ لِعَجْزِ الْمُعْتَرِضِ، وَجَوَاُبهُ: بِإثْبَاتِهِ بِأَحَدِ مَسَالِكِهِ، فَيَرِدُ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فَعَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ: الإِجْمَالُ وَالتَّأْوِيلُ وَالمُعَارَضَةُ وَالْقَوْلُ بالْمُوجِبِ، وَعَلَى السُّنَّةِ: ذَلِكَ وَالطعْنُ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ أَوْ مَوْقُوفٌ: وَفِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ، أَوْ قَوْلِ شَيْخِهِ: لَمْ يَرْوِهِ عَنِّي، وَعَلَى تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ مَا يَأتِي، وَمَا تَقَدَّمَ.

الشرح: الاعتراض "السَّابع: منع كونه علّة

(1)

، وهو من أعظم الأسئلة لعمومه" في كل ما يدعي علة، "وتشعّب مسالكه"، فإن طرق العلية مختلفة كثيرة، وهو سؤال المطالبة، فاِذا أطلق لفظ المُطَالبة، لم يفهم منه في عرفهم سواه، ومتى أريد غيره ذكر مقيدًا، فيقال: المطالبة بكذا.

"[والمختار]

(2)

: قبوله، وإلا" فلو لم يقبل "أدّى" الحال "إلى اللعب في التمسُّك بكل طرد" من الأوصاف، كالطول والقصر، فإِن المستدل يأمن المنع، ويتعلّق بما شاء من الأوصاف.

"قالوا: القياس ردّ فرع إِلى أصل بجامع، وقد حصل"، ففيم المنع؟.

"قلنا: رد فرع إلى أصل "بجامع يظن صحته"، والوصف الطَّردي مظنون الفساد.

"قالوا: عجز المعارض" عن الاعتراض على الوصف "دليل صحّته"، كما في المعجزة، "فلا يسمع المنع"؛ إذ منع الصحيح فاسد.

"قلنا: يلزم" بما ذكرتموه "أن يصحّ في كل صورة دليل"، وإن لم يكن دليلًا في نفس الأمر "بعجز المعترض" عن الاعتراض عليه، ولا قائل به، فالأدلّة لا تصح بعجز ضعفاء النظر عن تزييفها.

قلت: لكنهم ينقطعون، و [هذا]

(3)

المقصد من الجدل.

"جوابه: يإثباته"؛ أي: بإِثبات كونه علة "بأحد مسالكه" المتقدم بيانها، "فيرد على كل منها ما هو شرط" في صحة دلالته على علية الوصف "فعلى ظاهر الكتاب" إِذا تمسّك به

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 71، وشرح العضد 2/ 263.

(2)

في أ، ت: والمجاز.

(3)

في أ، ت: وهو.

ص: 431

[الثَّامِنُ]: عَدَمُ التَّأْثِيرِ، وَقُسِّمَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:[الأَوَّلُ]: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ؛ مِثَالُهُ: صَلَاةٌ لَا تُقْصَر، فَلَا يُقَدَّمُ [أَذَانُهَا] كَالْمَغْرِبِ؛ لأَنَّ عَدَمَ الْقَصْرِ فِي نَفْيِ التَّقْدِيمِ طَرْدِيٌّ، فَيَرْجِعُ إِلَى سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ.

[الثَّانِي]: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الأَصْلِ؛ مِثَالُهُ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ: مَبِيعٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، فَلَا يَصِحُّ كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ؛ فَإِنَّ العَجْزَ عَنِ التَّسْلِيمِ مُسْتقِلٌّ، وَحَاصِلُهُ مُعَارَضَةٌ فِي الْأَصْلِ.

في علية الوصف "الإِجمال" المتردّد بين شيئين لا يصحّ التمسّك به؛ إذ شرطه الظهور في المقصود، "والتأويل"، فيقول: الآية مؤولة بغير ما ذكرت أنه معناها، "والمعارضة" بظاهر آخر، "والقول بالموجب"، ويرد "على السُّنة ذلك" كله، "و" يزاد "الطَّعن" في الخبر "بأنه موسل، أو موقوف، وفي رواية ضعيفة" كذا بخطّ المصنف؛ أي: يزداد الخبر بالنسبة إِلى رواية ضعف الراوي، والقرآن سالم من ضعف الراوي؛ إِذ هو متواتر، "أو قول شيخه: لم يروه عنّي.

"و" يرد "على تخريج المَنَاط ما يأتي" في الاعتراض التاسع، "وما تقدم" في المسلك الرابع من مسالك العلّة.

الشرح: الاعتراض "الثَّامن: عدم التَّأْثير"

(1)

وهو: إِبداء وصف لا أثر له، "وقسم أربعة أقسام":

ما لا تأثير له مطلقًا، وما لا تأثير له في ذلك الأصل، وما اشتمل عليه قيد لا تأثير له، وما لا يظهر فيه شيء من ذلك، ولكن لا يطّرد في محلّ النزاع، فيعلم من ذلك عدم تأثيره.

ولكل قسم اسم: "عدم التأثير في الوصف، مثاله": قولهم في الصبح: "صلاة لا تقصر، فلا يقدم أذانها كالمغرب؛ لأنَّ عدم القَصْر في نفس التقديم طَرْدي" لا مناسبة له ولا شبه، فلا يعتبر، ولذلك كان الحكم الذي هو منع تقديم الأذان على الوصف موجودًا فيما قصر من الصلوات، "فيرجع" حاصله "إلى سؤال المطالبة"، بالدلالة على كون العلة علة.

الشرح: "الثاني: عدم التأثير في "ذلك "الأصل" بأن يقع الاستغناء عنه فيه بوصف

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 284 والبرهان لإمام الحرمين 2/ 1001، وسلاسل الذهب للزركشي 396، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 73، ونهاية السول للإسنوي =

ص: 432

[الثَّالِثُ]: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الحُكْمِ؛ مِثَالُهُ فِي الْمُرْتَدِّينَ: مُشْرِكُونَ أَتْلَفُوا مَالًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا ضَمَانَ كالْحَرْبِيِّ، وَدَارُ الْحَرْبِ عِنْدَهُمْ طَرْدِيٌّ، فَيَرْجِعُ إلَى الأَوَّلِ.

آخر "مثاله" أن يقال على لسان الشَّافعية "في" منع "بيع الغائب: مبيع غير مَرْئِيّ، فلا يصح كالطَّير في الهواء" بجامع عدم الرُّؤية؛ "فإِن العجز عن التسليم" في الطير "مستقلّ" بإِثارة الحكم؛ لكونه غير مَرْئي، وإِن ناسب نفي الصِّحة، لا تأثير له هنا.

وحاصله: أنه "معارضة في الأصل" بإبداء علة أخرى، وهي العجز عن التسليم، ولذلك بناه بانون على التعليل بعلتين.

الشرح: "الثالث: عدم التأثير في الحكم" المعلل، وهو ضربان:

أحدهما: ألَّا يكون له تأثير أصلًا، لا في الأصل ولا في الفرع، ولا يفيد المحلل ذكره نفعًا، فيكون ملغى، وعليه اقتصر المصنّف.

ووجه تسميته عدم التأثير في الحكم: أنه لا مدخل له في الحكم، ولا تعلّق له به.

"مثاله" قولهم "في المرتدين: مشركون أتلفوا مالًا في دار الحرب

(1)

، فلا ضمان" عليهم "كالحربي، ودار الحَرْب - عندهم - طردي"، ولا فائدة في ذكره؛ فإِن من أوجب الضمان أوجبه مطلقًا، ومق نفاه نفاه مطلقًا، سواء أكان في دار الحَرْب أم غيرها، "فيرجع إلى" القسم "الأول"؛ لأنَّه مطالب بتأثير كونه في دار الحَرْبِ.

= 4/ 183، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 105، 117، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 129، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 216، والمنخول للغزالي 411، وحاشية البناني 2/ 307 والإبهاج لابن السبكي 3/ 111، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 134، وحاشية العطار 2/ 352، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 261، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 265.

(1)

هو على خلاف دار الإسلام يعني ما غلب فيها غير المسلمين، قال في النهر: وينبغي أن يكون ما ليس بدار حرب ولا إسلام ملحقًا بدار الحرب، كالبحر الملح؛ لأنَّهُ لا قهر لأحد عليه، وفي رد المحتار: ويلحق بها البحر الملح ونحوه كمفازة ليس وراءها بلاد الإسلام. وفي الدر المختار: لا تصير دار الإسلام دار حرب إلا بأمور ثلاثة: بإجراء أحكام أهل الشرك وباتصالها بدار الحرب وبأن لا يبقى فيها مسلم أو ذميّ آمنًا بالأمان الأولا، ودارُ الحرب تصير دار الإسلام بإجراء أحكام أهل الإسلام فيها.

ص: 433

[الرَّابِعُ]: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْفَرْعِ مِثَالُهُ: زَوَّجَتْ نَفْسَهَا، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ زُوِّجَتْ مِنْ غيْرِ كُفْءٍ، وَحَاصِلُهُ كَالثَّانِي.

وَكُلُّ فَرْضٍ جُعِلَ وَصْفًا فِي الْعِلَّةِ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِطَرْدِهِ مَرْدُودٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ عَلَى الْمُخْتَارِ فِيهِمَا.

الثاني: ألَّا يكون له تأثير فيهما، ولكن لذكره فائدة، كقول من اعتبر العدد في الاسْتِجْمَار بالأحجار: عبادة متعلّقة بالأحجار، لم يتقدّمها معصية، فاعتبر فيها العدد كرمي الجِمَار، فقوله: لم يتقدّمها معصية، عدم التأثير في الأصل والوصف، والمعلل مضطر إِلى ذكره؛ إذ لو حذفه لانتقضت علّيته بالرجم؛ فإِنه عبادة تتعلّق بالأحجار، ثم لا يعتبر فيها العدد، وهو كالذي قبله في رجوعه إِلى الأول، وربّ وصفِ ذكره فائدة إِلَّا أن المعلل لا يضطر إليه، ويسمى الحَشْو، فإن اغْتفر له ذكر ما اضطر إليه، اغتفر له هذا، وإِلا ففيه خلاف.

ومثاله: قولنا في الجمعة: تصح بغير إِذْنِ الإِمام؛ لأنها صلاة مفروضة، فلم تفتقر إقامتها إلى [إذن]

(1)

، كالظُّهر، فيقول: قولك: مفروضة، حشو؛ إِذ لو اقتصرت على قولك: صلاة، [لم]

(2)

ينتقض بشيء، فنقول: هذا قَيْد زائد لا لإثبات الحكم، بل لتقريب الفرع من الأصل، وتقوية الشبه بينهما؛ إِذ الفرض بالفرض أشبه من غيره به.

الشرح: "الرابع: عدم التأثير في الفرع" من جِهَةِ أنّ الوصف لا يطّرد في جميع صور النزاع، وهو - أيضًا - ضربان:

أحدهما: أن يتحقّق الخلاف فيه بدونه.

"مثاله" قولهم: "زوجت نفسها" من غير كُفْءٍ، "فلا يصح، كما لو زُوّجت" - بضم الزاي - مبني لما لم يسم فاعله، كذا ضبطه المصنف "من غير كُفْءٍ"، فالتزويج من غير كُفْءٍ وإن ناسب البطلان إلا أنه لا اطّراد له في كل صور النزاع؛ إذ النزاع فيمن زوجت نفسها مطلقًا.

والثاني: ألّا تظهر له مناسبة في الفرع ألبتة، وهو أولى بعدم القبول من الذي قبله؛

(1)

في أ، ت: إذنه.

(2)

سقط في أ، ت.

ص: 434

[التَّاسِعُ]: الْقَدْحُ فِي الْمُنَاسَبَةِ

بِمَا يَلْزَمُ مِن مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ أَوْ مُسَاوِيَةٍ، وَجَوَابُهُ بِالتَّرْجِيحِ تَفْصِيلًا أَوْ إِجْمَالًا كَمَا سَبَقَ.

لأنا إِذا لم نقبل الأول مع ظهور مُنَاسبته في بعض الصور، لتحقّق الخلاف في البعض الآخَر بدونه، فإِنا لا نقبله، ولم تظهر له مُنَاسبة مطلقًا أولى وأجدر، وهذا قولنا في [الثَّيب]

(1)

الصغيرة: حُرّة صغيرة ذهبت بَكَارَتُهَا بالجِمَاعِ، فلا تزوج بغير رِضَاهَا كالبالغة بذهاب البَكَارَةِ؛ لأنا نقبله، في الفرع، فإنه لا يناسب؛ ألا ترى أنَّ المال والولاية على الغلام لا فرق فيهما بين الثيب والبكر؟!

واعلم أنّ المصنّف لم يفصح بذكر هذا المثال، وكأنه لما ذكر من أنه دون الأول، وإذا رد الأول، ردٌّ هذا بطريق أولى، فلهذا اقتصر على الأول، وقبوله مبني على قبول الفرض، وسنذكره، والفرض تخصيص بعض الأفراد بالحجاج، كما إِذا قال المَسئول عن نفوذ عتق الراهن: أفرض الكلام في المعسر، أو عمن زوجت نفسها: أفرض فيمن زوجت من غير كُفْء.

وقد علمت رجوع القِسْم الأول والثالث إِلى منع العلة، والثَّاني والرابع إِلى المعارضة في الأصل بعلّة أخرى، وقد مر الأول، وسيأتي الثاني - إن شاء الله تعالى - فإِذن عدم التأثير ليس سؤالًا برأسه، ولما كان حاصل القسم الرابع وجود قيد طَرْدِي في الوصف المعلل به، وهو كونه غير كُفْءٍ، ذكروا عده في الفرض، فقال:"وكل فرض جعل وصفًا" أي: قيدًا "في العلة، مع اعترافه" أي: المستدلّ "بطرده، مردود"؛ لاعترافه بأنه لا مدخل له في التعليل، "بخلاف غيره" لما لم يعترف بأنه وصف طردي، فإنه غير مردود؛ لجواز تعلّق غرض صحيح به، كرفع النَّقض الصريح إِلى النقض المكسور، كما ذكرناه في مسألة الاسْتِجْمَار، والأول من حيث إِنه أعرف بعدم تأثيره، لا يجديه التَّفوُّه به نفعًا، كما في مسألة المرتدين، وما ذكرناه من الرد نفيًا وإثباتًا ليس مجمعًا عليه، بل "على المختار فيهما".

الشرح: الاعتراض: "التاسع: القَدْحُ في المُنَاسبة بما يلزم"

(2)

عن الوصف المدعي مناسبته "من مفسدة راجحة"، على المَصْلحْة التي من أجلها فضى عليه بالمُنَاسبة، "أو مساوية" لها.

(1)

في أ، ت: النبت.

(2)

ينظر: الإحكام 4/ 75، وشرح العضد 2/ 267.

ص: 435

[العَاشِرُ]: الْقَدْحُ فِي إِفْضَاء الحُكْمِ إِلَى الْمَقْصُودِ،

كَمَا لَوْ عَلَّلَ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّأْبيدِ بِالْحَاجَةِ إِلَى ارْتِفَاع الْحِجَابِ المُؤَدِّي إِلَى الْفُجُورِ، فَإِذَا تَأَبَّدَ انْسَدَّ يَابُ الطَّمَع الْمُفْضِي إِلَى مُقَدِّمَاتِ الهَمِّ وَالنَّظَرِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى ذَلِكَ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: بَلْ سَدُّ بَابِ النِّكَاحِ أَفْضَى إِلَى الْفُجُورِ، وَالنَّفْسُ مَائِلَةٌ إِلَى الْمَمْنُوعِ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ التَّأْبِيدَ يَمْنَعُ عَادَةً بِمَا ذَكَرْنَاهُ: فَيَصِيرُ كَالطَّبِيعِيِّ؛ كَالأُمَّهَاتِ.

[الْحَادِيَ عَشَرَ]: كَوْنُ الْوَصْفِ خَفِيًّا

كَالرِّضَا وَالْقَصْدِ، وَالْخَفِيُّ لَا يُعرِّفُ الخَفِيَّ.

وَجَوَابُهُ: ضَبْطُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الصِّيَغِ وَالأَفْعَالِ.

"وجوابه: بالْترجيح" ترجيح المَصْلحة على المفسدة "تفصيلًا أو إِجمالًا كما سبق" في المناسبة.

الشرح: الاعتراض: "العاشر: القدح في" صلاحية "إفْضَاء الحُكْم إِلى المقصود

(1)

، كما لو علل حرمة المُصَاهرة على التَّاْبيد" في حق المَحَارم "بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب" بين الرجال والنساء المحارم، وهو أعني: ارتفاع الحِجَاب "المؤدي إِلى الفجور، فإِذا تأبد" التحريم بين المَحَارم "انسدّ باب الطَّمع المفضي إِلى مقدمات الهَمّ، والنظر المفضي إِلى ذلك" الفجور.

فيقول المعترض: بل سدّ باب النكاح أفضى إِلى الفجور"، والقَلْب يطلب من يَجُور ويعتدي، "والنفس مائلة إِلى الممنوع" وبكل شيء يشتهيه طلاوة مدفوعة إلا عن المدفوع.

الشرح: "وجوابه: أنَّ التأبيد يمنع عادة" عن ذلك؛ "لما ذكرناه" من انسداد باب الطَّمع، "فيصير" لتطاول الأمر، وتماديه "كالطبيعي" بحيث لا يبقى المحلّ مشتهي "كالأمهات".

الشرح: الاعتراض "الحادي عشر: كون الوَصْف كالرّضا والقصد خفيًّا، فإِنهما من الأوصاف الباطنة الخفيّة، فلا تصلح للعلّية

(2)

.

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 75، وشرح العضد 2/ 267.

(2)

ينظر: الإحكام 4/ 76، وشرح العضد 2/ 267.

ص: 436

[الثَّانِيَ عَشَرَ]: كَوْنُهُ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ

؛ كَالتَّعْلِيلِ بِالْحِكَمِ وَالْمَقَاصِدِ كَالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَالزَّجْرِ؛ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الأَشْخَاصِ وَالأَزْمَانِ وَالأَحْوَالِ.

وَجَوَابُهُ: إِمَّا أَنَّهُ يَنْضَبِطُ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِضَابِطٍ، كَضَبْطِ الْحَرَجِ بِالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ.

[الثَّالِثَ عَشَرَ]: النَّقْضُ

كَمَا تَقَدَّمَ.

"وجوابه: ضبطه بما يدلّ عليه من الصيغ"، كضبط الرّضا بصيغ العقود، "والأفعال" الدالة على الإِزهاق في وجوب القصاص.

الشرح: و"الثاني عشر: كونه" مضطربًا "غير منضبط

(1)

، كالتَّعْليل بالحكم والمقاصد كالحَرَج" يجعل علّة في الفطر، "والمَشَقّة" في القصر "والزَّجر" في التَّعْزير، "فإِنها"مضطربة "تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال"، ودأب الشَّارع فيما هذا شأنه ردّ الخلق إِلى المَظَانّ؛ درءًا للتَّشَاجُرِ.

الشرح: "وجوابه: إِما أنه منضبط بنفسه"، وقد قدم المصنّف أنه يجوز التَّعْليل بالحكم المنضبطة، "أو بضابط، كضبط الحَرَجِ بالسفر ونحوه" كضبط الزَّجْرِ في الزنا بمائة جلدة، وفي القذف بثمانين.

الشرح: وهو ثبوت الوَصْف في صورة مع انتفاء الحكم فيها، ويمكن في جواب منع كل واحد منهما، فهو ضربان

(2)

.

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 76، وشرح العضد 2/ 268.

(2)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 261، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 977، وسلاسل الذهب للزركشي 361، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 215، 4/ 77 ونهاية السول للإسنوي 4/ 145، وزوائد الأصول له 396، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 103، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 127، والتحصيل من المحصول 2/ 209، والمنخول للغزالي 404، وحاشية البناني 2/ 295، والإبهاج لابن السبكي 3/ 84، والآيات البينات 4/ 116، وحاشية العطار 2/ 341، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 284، 293 وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 659، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 138، وحاشية التفتازاني والشريف =

ص: 437

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأول: منع وجود الوصف في صورة النقض، وذلك لا يكون معاندة وصدًّا بالمُكَابرة، بل يكون بناء على وجود قيد مناسب غير حاصل في صورة النَّقض، ثم ذلك القيد إِما أن يكون جليًّا أو خفيًّا.

فالجلي مثل: النَّبَّاش آخذ لِنِصَابٍ تام من حِرْز مثله عدوانًا، فيكون سارقًا، فإِن نقض بما إِذا سرق الكَفَن من قبر في حِيَازة، حيث لا يجب القَطْع على الأصح.

قلنا: ليس ذلك في حِرْز مثله.

والخفي إِما أن يكون معناه واحدًا أو متعددًا، إِما بطريق التواطؤ، أو التشكيك، أو الاشتراك، كما ذكرت في "شرح المنهاج".

[قالوا]

(1)

: مثل قصر الصلاة: رُخْصة شرعت للتخفيف، فلا يتحتّم الأخذ بها، كالإِفطار في الصوم، فإن نقض بأكل المَيْتَةِ للمضطر، حيث يجب على الأصح.

قلنا: لم يشرع - حينئذ - للتخفيف، بل للضرورة، وقيام البيِّنة.

والمتعدد بالتواطؤ مثل: يحج عن الميت المستطيع، وإن لم يوص؛ لأنَّهُ حقّ لازم عليه، فيقضي عنه كالدّين، فإن نقض بالصَّلاة والصوم.

قلنا: الحق اللازم مَقُول على المالي وغيره [بالتواطؤ]

(2)

، والأول المقصود بالتَّشكيك، مثل: المتولّد بين الظِّبَاء والغنم: حيوان متولد بين ما لا زكاة فيه، وما فيه زكاة، فلا يزكي، كما إذا كانت الأمهات ظباء، فإن نقض بالمتولد بين السَّائمة والمَعْلُوفة من البقر والغنم.

قلنا: ما لا تجب فيه الزكاة مقول بالتَّشْكيك على ما لا تجب فيه بحال، كـ"الظباء"، وما تجب فيه من حيث الجملة كالمَعْلُوفة، وبالاشتراك مثل: جمعِ الطَّلاق

= على مختصر المنتهى 2/ 218، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 85، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 1069، وتقريب الوصول لابن جزي 142.

(1)

في أ، ت: فالواحد.

(2)

في أ، ت: بالمتواطئ.

ص: 438

وَفِي تَمْكِينِ الْمُعْتَرِضِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ إِذَا مُنِعَ، ثَالِثُهَا: يُمَكَّنُ مَا لَمْ يَكُنْ حُكْمًا شَرْعِيًّا.

وَرَابِعُهَا: مَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ أَوْلَى بِالْقَدْحِ.

قَالُوا: لَوْ دَلَّ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ بِدَلِيلٍ مَوْجُودٍ فِي مَحَلِّ الْنَّقْضِ، ثُمَّ مُنِعَ وُجُودُهَا؛ فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: يَنْتقِضُ دَلِيلكَ - لَمْ يُسْمَعْ؛ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ نَقْضِ الْعِلَّةِ إِلَى نَقْضِ دَلِيلِهَا؛ وَفِيهِ نَظَرٌ.

أَمَّا لَوْ قَالَ: يَلْزَمُكَ إِمَّا انْتِقَاضُ دَلِيلِهَا - كَانَ مُتَّجِهًا.

في قُرْء واحد، فلا يكون مبتدعًا كما لو طلقها ثلاثًا في قرءٍ واحدٍ، مع الرَّجعة بين الطّلقتين، فإِن نقض بما لو طلقها ثلاثًا في الحيض.

قلنا: المراد من القرء الطهر.

الشرح: "وفي تمكين المعترض من الدّلالة على وجود العلّة" في صورة النقض "إذا منع" وجودها فيه - كما ذكرناه - مذاهب:

أحدها، وعليه الأكثر، منهم الأمام الرازي وأتباعه: لا؛ لأنَّهُ انتقال من مسألة قبل تمامها إِلى أخرى، وقلب القاعدة بِصَيْرُورَةِ المعترض مستدلا، والمستدلّ معترضًا.

وثانيها: نعم؛ لأن فيه تحقيق النقض، فكان من متمماته.

و"ثالثها: وَيُمَكَّنُ؛ ما لم يكن حكمًا شرعيًّا" حكاه المصنّف، ولم يوجد لغيره.

ووجهه: أن التخلف في الحكم العقلي قادح، فيحصل من تمكينه فائدة، بخلَاف الشرعي؛ لجواز أن يكون التخلف لوجود مانع، أو فوات شرط، وقُصَارى المعترض إِثبات الوصف، ثم لا يجديه؛ لأن التخلف لذلك لا يقدح في العلل الشرعية عند الجمهور.

"ورابعها": قاله الآمدي أنه يمكن "ما لم يكن" للمعترض "دليل أولى بالقدح" من النقض، فإِن أمكنه القَدْح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا، وقد ملت إِلى هذا في "شرح المنهاج".

والمختار - عندي الآن - قول الأكثرين.

الشرح: "قالوا" يعني: الجَدَليين جميعًا، و"لو دلّ المستدل على وجود العلّة" في محلّ التعليل "بدليل موجود في محلّ النقض، ثم منع" بعد ذلك "وجودها" في صورة

ص: 439

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النقض، "فقال المعترض: ينتقض دليلك" على العلة، "لم يسمع" منه هذا الاعتراض؛ "لأنَّهُ انتقال من نقض العلّة" نفسها "إلى [نقض]

(1)

دليلها".

مثاله: قول الحنفي في مسألة التَّبْييت: أتى بمُسَمَّى الصوم، فصح كما في النفل، واستدلّ على وجود الصوم بالإِمساك مع النية، فنقول: العلّة منتقضة بما إِذا نوى بعد الزوال، فيقول: لا نسلم وجود العلة فيه، فنقول: ينتقض دليلك الذي استدللت به على وجود العلّة في محل التعليل.

قال المصنف: "وفيه نظر"؛ لأن المعترض في مكان دفع العلّة، [فليمكن]

(2)

له بالقَدْح فيها تارة، وفي دليلها أخرى، ولا يكون انتقالًا ممنوعًا. "أما لو قال" المعترض ابتداء - بعد أن دلّ المستدل بالدليل الموجود في صورة النقض -:"يلزمك إما انتقاض علّتك" إن اعتقدت وجوب الصوم في صورة الناقض، "أو انتقاض دليلها" إن لم تعتقد، "كان متجهًا".

الضرب الثاني: منع تخلّف الحكم في صورة النقض، بأن يكون الحكم ثابتًا فيها [جزمًا]

(3)

على رأي المستدل إِن كان مجتهدًا، أو إِمامه إن كان مقلدًا، أو على الصحيح في مذهبه، أو على وجه اقتضى رأيه في مجلس المُنَاظرة التزامه، والتخلّف قد يكون ظاهرًا، وهو واضح، وقد يكون خفيًّا.

والخفي إِما تحقيقي أو تقديري، فالتَّحْقيقي فيما يحرم فيه بالمنع، مثل: السَّلَم عقد معاوضة، فلا يشترط فيه التَّأجيل كالبيع، فإِن نقض بالإِجارة قلنا: الأجل ليس شرطًا لصحة عقد الإِجارة، وإِنما جاء فيها لتقرير المعقود عليه، وهو الانتفاع بالعَيْنِ، وعلى وجه مثل: ثيّب صغيرة، فلا يجوز إجْبَارها كالبالغ، فينتقض بالثيب المجنونة، حيث لا يجوز تزويجها في الأَصَحّ، فيمنعه، وهو وجه في المذهب.

والتقديري مثل: رقّ الأم علّة رق الولد، فينتقض بولد المَغْرُور بحريّة الجارية، فإِن رقّ الأم موجود مع انعقاد الولد حرًّا، فنقول: رقّ الولد مقدر الوجود؛ إِذ لو لم يقدر لم تجب قيمته، فإن الحر لا قيمة له، ولذلك حكي وجه: أنه ينعقد رقيقًا، ثم يعتق على

(1)

أ، ت: بعض.

(2)

في أ، ت: فليكن.

(3)

في أ، ت: حرامًا.

ص: 440

وَلَوْ مَنَعَ الْمُسْتَدِلُّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ فَفِي تَمْكِينِ الْمُعْتَرِضِ مِنَ الْدِّلَالَةِ.

"ثَالِثُهَا: يُمَكَّنُ مَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ أَوْلَى.

وَالْمُخْتَارُ: لَا يَجِبُ الاِحْتِرَازُ مِنَ النَّقْضِ.

وَثَالِثُهَا: إِلَّا فِي الْمُسْتَثْنَيَاتِ.

لنَا: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الدَّلِيلِ، وَانْتِفَاءُ الْمُعَارضِ لَيْسَ مِنْهُ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ وَارِدٌ وَإِنِ احْتَرَزَ اتِّفَاقًا.

المغرور، حكاه الرَّافعي في كتاب "العتق"، وجزم في "النِّكَاح" بخلافه.

وهل للمستدلّ منع التخلّف في الصورة التي لا يعرف في مذهبه نقلًا فيها؟.

قال القاضي أبو الطيب: لا.

وقال تلميذه الشيخ أبو إِسحاق: نعم، ومثل له بقول الحنفي: يجب على القَارِنِ إِذا قتل صيدًا جزاءان؛ لأنَّهُ أدخل النقض على إِحرام الحُجّ والعُمْرة، فكان كمن أحرم بالحج فقتل صيدًا، ثم بالعُمْرة فقتل صيدًا، فينتقض بما إِذا أحرم المتمتع بالعمرة، فجرح صيدًا، ثم بالحج فجرحه ثم مات، فمِانه أدخل النقض على الحج والعمرة، ولا يلزمه جزاءان، فيقول المخالف: لا أعرف في هذا نصًّا.

الشرح: "و" اعلم أنه "لو منع المستدلّ تخلّف الحكم" حيث يجوز له ذلك، "ففي تمكين المعترض من الدّلالة" على التخلّف مذاهب:

الشرح: "ثالثها: التمكين ما لم يكن" للمعترض "طريق" إِلى القدح "أولى" من النَّقض، "والمختار" عند المصنّف من أقوال: أنه "لا يجب" على المستدلّ "الاحتراز" في دليله "عن النقض" وثانيها: الوجوب، وهو الصحيح عندي.

الشرح: "وثالثها": أنه يجب "إِلَّا في" الصور "المستثنيات" كالعَرَايا.

واحتج لمختاره فقال: "لنا: أنه سئل عن الدليل"، وهذا حق، قال:"انتفاء المعارض ليس منه"، وهذا ممنوع.

قال: "وأيضًا، فإنه" لا ينفعه الاحتراز عن صورة النقض؛ إِذ النقض "وارد، وإن احترز" عنه "اتفاقًا" بأن يقول المعترض: هذا وصف طَرْدي، والباقي منتقض؛ وعلى هذا

ص: 441

وَجَوَابُهُ: ببيانِ مُعَارضٍ اقْتَضَى نَقِيضَ الْحُكْمِ أَوْ خِلَافَهُ لِمَصْلَحَةٍ، كَالْعَرَايَا وَضَرْبِ الدِّيَةِ، أَوْ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ آكَدَ، كَحِلِّ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ: فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ بِظَاهِرٍ عَامٍّ، حُكِمَ بِتَخْصِيصِهِ وَبِتَقْدِيرِ الْمَانِعِ كَمَا تَقَدَّمَ.

‌الرَّابِعَ عَشَرَ: الْكَسْر،

وَهُوَ نَقْضُ الْمَعْنَى، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالنَّقْضِ.

فإِنَّ [القيد]

(1)

المحترز به كيف يكون طرديًّا، وهو من تمام العلّة؟.

"وجوابه" أي: جواب النَّقض إِذا تحقّق التخلف "ببيان مُعَارض اقتضى نقيض الحكم" كانتفاء الحُكْم، "أو خلافه"، وفي بعض النسخ "لمصلحة"، وليست في أصل المصنّف، ولا لها وجه - أيضًا - فإِن صورة النقض قد تخرج بعيدًا، "كالعَرَايا وضرب الدّية" على العاقلة.

فإِن الأول خرج من قاعدة: امتناع بيع الرطب بالتمر.

والثاني: من أن من لم يجنّ لم يطالب؛ لمعارض، وهو النص الخاص فيهما.

ثم قيل: إنهما معقولا المعنى، وقيل: لا.

"أو" يجاب بأن الحكم انتفى "لدفع مفسدة آكد" من المصلحة، "كحلّ الميتة للمضطر"؛ فإِن حفظ مهجته آكد من اجتناب الميتة.

"فإن كان التعليل" منصوصًا "بظاهر عام"، وقد تخلّف الحكم في صورة النَّقض عنه "حكم بتخصيصه، وتقدير المَانِعِ، كما تقدم" من وِجْدَان معارض اقتضى نقيضه، أو خلافه لا لمعنى يعقل، أو لمعنى، وهو مصلحة، أو دفع مفسدة، أو علم أنه إِذا تحقّق النقض، وهو وِجْدَان الوصف مع تخلّف الحكم، فلا جواب له عند من يراه قادحًا مطلقًا، وهو الحقّ عندنا، وإنما الجواب على المَذَاهب الأُخر فيه، كما سبق.

الشرح: "الرابع عشر: الكسر، وهو نقض المعنى، والكلام فيه كالنقض"، فلا يفيد

(2)

.

(1)

في ح: العبد.

(2)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 278، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/ 212، =

ص: 442

‌الْخَامِسَ عَشَرَ: الْمُعَارَضَةُ فِي الأَصْلِ

بِمَعْنًى آخَرَ: إِمَّا مُسْتقِلٌّ كَمُعَارَضَةِ الْطَّعْمِ بِالْكَيْلِ، أَو الْقُوتِ، أَوْ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ؛ كَمُعَارَضَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ بِالْجَارحِ، وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهَا.

لَنَا: لَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً، لَمْ يَمْتَنِعِ التَّحَكُّمُ؛ لأَنَّ الْمُدَّعي عِلَّةً لَيْسَ بِأَوْلَى بِالْجُزْئِيَّةِ أَوْ بِالاسْتِقْلَالِ مِنْ وَصْفِ الْمُعَارَضَةِ.

الشرح: "الخامس عشر: المُعَارَضَةُ في الأصل بمعنى آخر"

(1)

غير المعنى الذي أَبْدَاه المستدل، وهو "إما" معنى "مستقل" بالتعليل "كمعارضة" معنى "الطّعم" إِذا أخذه المستدلّ علة في الربوي "بالكَيْلِ أو القُوت"؛ فإِن كلًّا من الطّعم والكيل والقوت مستقل "أو غير مستقل" بل داخل في العلّة، "كمعارضة القَتْل العَمْد العدوان" في المُثَقّل "بالجارح"؛ فإِن المعترض لا يجعل الجارح مستقلًّا، بل جزءًا من العلة.

وقد اختلف في قبول المُعَارضة، وبناها رادّها على منع التَّعليل بعلّتين. "والمختار قبولها.

لنا: لو لم تكن مقبولةً لم يمتنع التحكم"، وهو التَّرْجيح بلا مرجّح، واللازم باطل، فالملزوم مثله، والملازمة حق؛ "لأن" الوصف "المدعى" كونه "علة ليس بأولى بالجزئية، أو الاستقلال من وصف المعارضة".

= 4/ 80، ونهاية السول للأسنوي 4/ 204، وزوائد الأصول له ص 397، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 106، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 128، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 216، والمنخول للغزالي ص 410، وحاشية البناني 2/ 303 والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 126، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 348، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 283، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 661، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 221، 2/ 269.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 33 والبرهان لإمام الحرمين 2/ 1050، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 80، والمنخول للغزالي ص 416، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 153 وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 146، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 270، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 90، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 1070.

ص: 443

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وتقرير هذا: أن المستدلّ إِذا أبدى علة، فالمعترض تارة يعارض بأخرَى مستقلة، وتارة يبدي ما يزعمه جزءًا، ويقول: إن المستدل أهمل جزء العلّة.

وتارة يعارض بنقيض ما ذكره المستدلّ، ويقول: العلّة بعض ما ذكرت؛ لأنَّهُ مناسب، كما أن كلّ ما ذكرت مناسب، فجعلك الكل هو العلّة دون [البعض]

(1)

ترجيح بغير مرجّح.

مثال الأول: أن يعتل بالطّعم، فيعارضه بالكيل.

ومثال الثاني: أن يعتل الشَّافعي بالقَتْلِ العَمْدِ العدوان، فيعارضه الحنفي بالجَارِح.

ومثال الثَّالث: أن يعتل الحنفي بالقَتْلِ العمد العدوان بجارح، فيعارضه الشافعي بالقَتْلِ العَمْد العدوان فقط؛ فإِنه على حدته مناسب.

فإِذا قال الحنفي - مثلًا -: لا يجب القِصَاصُ في المُثَقّل؛ لأن العلّة في الوجوب قتل عَمْد عدوان بجارح، والجارح - هنا - منتفٍ، فتنتفي العلّة، وإذا انتفت العلّة انتفى المعلول.

قال الشافعي: لم قلت: إن العلة مجموع ما ذكرت؟ بل بعضه، والجارح زائد، وإِذن فالعلّة موجودة، فيجب القصاص في المُثَقّل، وهذه المعارضة مقبولة في صورها الثلاث؛ لأن الوصف المدعي كونه علّة ليس بأولى بالجزئية إِذا جعله المستدلّ جزءًا، من الاستقلال إِذا عورض به، فليس جعل الحَنَفِي القَتْل العَمْد العدوان جزءًا، أولى من جعل الشَّافعي إِياه مستقلًّا؛ فإِنه مناسب بنفسه، وليس أولى بالاستقلال، إِذا ادّعاه مستقلًّا من الجزئية إذا عورض بها، فليس جعل الشَّافعي القتل العَمْد العدوان مستقلًّا أولى من جعل الحنفي إِياه جزءًا، وليس - أيضًا - أولى بالاستقلال من العلّة التي عورض بها.

وقيل: إنها مستقلة، كالكَيْل إِذا عورض به الطعم.

والحَاصِلُ: أن ما يأتي به المستدلّ مناسب، وما يعارضه به المعترض - أيضًا - مناسب، فليس التمسُّك بأحدهما أولى من عكسه، ولا يخفى عليه أن المعارضة - هنا - ليس المُرَاد بها العلّة المقتضية، بخلاف ما يريده المستدلّ، كما يفهم من الدَّليلين المتعارضين، بل العلّة الصالحة لأن يتعلّق بها في الحكم، كما صلحت علة المستدل، وينشأُ الخلاف

(1)

في أ، ت: النقض.

ص: 444

فَإِنْ رُجِّحَ بِالْتَّوْسِعَةِ، مَنَعَ الدِّلَالَةَ، وَلَوْ سُلِّمَ، عُورِضَ بأَنَّ الأَصْلَ انْتِفَاءُ الأَحْكَامِ وَبِاعْتِبَارِهِمَا مَعًا.

وَأَيْضًا، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مَبَاحِثَ الصَّحَابَةِ، كَانَتْ جَمْعًا وَفَرْقًا.

قَالُوا: اسْتِقْلَالُهُمَا بِالْمُنَاسَبَةِ يَسْتَلْزِمُ التَّعَدُدَ.

قُلْنَا: تَحَكُّمٌ بَاطِلٌ، كمَا لَوْ أَعْطَى قَرِيبًا عَالِمًا.

عنهما في الفرع، لا في الأصل، فمِاذا اتفقا - مثلًا - على أن البُرّز ربوي، واعتلّ أحدهما بالطعم وبين وجه مناسبته، كان للمعترض أن يقول: لم لا تعلقت بالكيل وهو - أيضًا - مناسب وتبين ذلك؟! وإِذا لَاحَتْ مناسبتها، وَضَح أنّ التعليق بأحدهما، وترك الآخَر تحكم. هذا ما فهمته من عبارة الكتاب، وهي قَلِقَةٌ عاصية.

الشرح: "فإن رجح" استقلال وصف المستدلّ إِذا ادّعاه مستقلًّا "بالتوسعة" في الأحكام "منع الدلالة" دلالة التوسعة على الأَرْجَحِيّة؛ فإِن العلة لا ترجح بكثرة فروعها عند المحققين.

"ولو سلم، عورض بأن الأَصْل انتفاء الأحكام"، فالجزئية جاريةٌ على الأصل، فيتعارضان.

"و" عورض - أيضًا - "باعتبارهما معًا" أي: اعتبار وصفي المستدلّ والمعترض، فإِن اعتبارهما معًا أولى من إِلغاء أحدهما؛ لأنَّهُ جمع بين دليلين.

"وأيضًا، فلما ثبت" أي: وتقبل المُعَارضة - أيضًا - لما ثبت من "أن مباحث الصَّحابة كانت جمعًا" بين مفترقين، "وفرقًا" بين مجتمعين، ومن نظر في آثارهم وجد الكَثِيرَ من ذلك، وما ذلك إلا بتعميم بعضيّة وصف، وتخصيص بعضية آخر، وهو إِجماع منهم على إِبداء وصف فارق وقَبُوله، وهو المراد.

والمانعون من قبول المُعَارضة "قالوا": لو قبلت، لزم "استقلالها بالمناسبة"، وذلك "يستلزم" تعدّد العلل على معلول واحد، وهو باطل، وإنما استلزام "التعدد"؛ لأنّ العلة إِذا قبلت من المُعَارض بها، صارت في الرّبوي - مثلًا - الطّعم الذي ذكره المستدلّ، والكيل أو القوت الذي ذكره المُعَارض، وفي القِصَاصِ القتل العَمْد العدوان فقط، والقَتْل العَمْدْ العدوان بجارح؛ وتظهر فائدة هذا حالة انتفاء الجَارحِ، فإِن القصاص يثبت لأن غاية الأمر انتفاء العلّة المركّبة من الجارح وغيرة، وثم علّة أخرى، فيتعلّق بها.

ص: 445

وَفِي لُزُومِ بيَانِ نَفْي الْوَصْفِ عَنِ الْفَرْعِ:

ثَالِثُهَا: إِنْ صَرَّحَ، لَزِمَ.

لَنَا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ فَقَدْ أَتَى بِمَا لَيْسَ يَنْتَهِضُ مَعَهُ الدَّلِيل، فَإِنْ صَرَّحَ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا صَرَّحَ.

"قلنا": بل إِسناد الحكم إِلى أحد الوصفين دون المجموع "تحكّم باطل"؛ لتساويهما، "كما لو أعطي قريبًا عالمًا"، فإِن إِسناد الإِعطاء إِلى القرب أو العلم تحكّم لمناسبة كل منهما.

الشرح: "وفي لزوم بيان نفي الوَصْف" أي: في أنه هل يلزم المُعْترض بيان نفي الوَصْف الذي عارض به في الأصل "عن الفرع"؟ مذاهب:

أحدها: اللزوم؛ لتنفعه دعوى التَّعليل به؛ إِذ لولاه لم تَنْتَفِ العلة في الفرع، وإذا لم تنتف العلة في الفرع، ثبت الحكم فيه، وحصل مطلوب المستدل.

وثانيها: لا يلزمه؛ لأن غرضه هدم ما ادعاه المستدلّ [علة]

(1)

، وهذا القدر يحصل بمجرد إبدائه.

و"ثالثها"، وهو المختار:"إن صرح" المعترض بالفرق بين الأصل والفرع "لزم" المعترض النفي، وذلك كما لو قال: لا يلزم مما ذكرت ثبوت الحُكْم في الفرع؛ لوجود الفرق بينه وبين الأصل، وإلا فلا.

"ولنا: أنه إِذا لم يصرح" بالفرق، "فقد أتى" المعترض "بما لا ينتهض معه الدليل" الذي أبْدَاه المستدلّ، فلا يلزمه بيانه؛ لأن غرضه عدم انْتِهَاض الدَّليل، لا بيان الفرق، حتَّى لو ثبت مَطْلُوب المستدلّ بدليل آخر، لم يكن إِلزامًا له، "فإن صرح" بالفَرْقِ "لزمه الوفاء بما صرح"[لالتزامه]

(2)

؛ فإن من التزم أمرًا - وإن لم يجب عليه ابتداء - جرى على قضية التزامه.

(1)

في أ، ت: عليه.

(2)

في أ، ت: لإلزامه.

ص: 446

وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَصْلٍ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ نَفْيُ الْحُكْمِ؛ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ، أَوْ صَدُّ الْمُسْتَدِلِّ عَنِ التَّعْلِيلِ بِذَلِكَ.

وَأَيْضًا، فَأَصْلُ الْمُسْتَدِلِّ أَصْلُه، وَجَوَابُ الْمُعَارَضَةِ: إِمَّا بِمَنْعِ وُجُودِ الْوَصْفِ.

أَوِ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِهِ إِنْ كَانَ مُثْبِتًا بِالْمُنَاسَبَةِ أَوْ الشَّبَهِ، لَا بِالسَّبْرِ.

الشرح: "والمختار: أن" المعترض "لا يحتاج إِلى أصل"، يبين تأثير الوَصْف الذي عارض به، ويشهد له بالاعْتِبَارِ، كما يقول: العلة الطّعم دون القُوتِ، بدليل المِلْحِ، وإنما لا يحتاج، مع أن المناسبة بدون الاقْتِرَانِ لا تدلّ على العلية؛ "لأن حاصله" أي: حاصل سؤال المعارضة أحد أمرين: "نفي الحكم" في الفرع؛ "لعدم العلة"، ويكفيه ألّا يثبت علّيتها، ولا يفتقر إلى إِثبات علّية ما أبداه، "أو صدّ المستدل عن العليل بذلك" الوصف؛ لجواز تأثير هذا، والاحتمال كافٍ، فهو لا يدعي علية ما أَبْدَاه، حتَّى يحتاج إِلى شهادة أصل.

"وأيضًا"، فإن سلم احتياجه إلى أصل، "فأصل المستدل" وهو: البُرّ الذي قاس عليه التّين - مثلًا - "أصله"، ولا يحتاج إِلى أصل آخر، فاِن أصل المستدلّ كما شهد لوصفه يشهد لوصف المعنيين؛ لاشتماله على وصفيهما، فحصلت المُنَاسبة مع الاقتران، فإِن دلَّ البُرّ على كون الطعم علّة؛ لمناسبة الطعم الموجودة فيه المقترنة بشهادة الشرع أنه ربوي، دلّ على كون القوت علّة؛ لمناسبته الموجودة فيه، المقتزنة بشهادة الشَّرْع أنه ربوي.

"وجواب المعارضة" بوجوه: "إما منع وجود الوصف" في الأصل، فنقول - مثلًا - لو عورض بالكيل: لا نسلم أنه مكيل؛ لأن العِبْرَةَ بعادة زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وكان إذ ذاك موزونًا.

الشرح: قوله: "أو المُطَالبة بتأثيره إِن كان مثبتًا بالمناسبة أو الشبه، لا بالسَّبْرِ"؛ أي: وللمستدلّ الجواب عن المُعَارضة، بأن يطالب المُعْترض بتأثير الوَصْفِ الذي عارض به، فيقول: لم قلت: إِن ما عارضتني به مؤثر؟.

وليس له المُطَالبة بتأثيره على الإطلاق، بل بشرط أن يكون قد أثبت وصفه الَّذي عورض فيه بالمناسبة أو [الشّبه]

(1)

، فإِن كان أثبت وصفه بطريقة السَّبر والتقسيم، فليس له

(1)

في أ، ت: السببية.

ص: 447

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أن يطالب المعترض بالتأثير؛ فإِن مجرد الاحتمال كافٍ في دفع السَّبر، فعليه أن يدفعه لتثبت له طريقة التَّقسيم، وقد قدم المصنّف هذا في السَّبْر حيث قال: فإن بين المعترض وصفًا آخر، لزم إِبطاله، فإن كان ادّعى مثلًا، علية الطّعم بقي القوت والكَيْل - مثلًا - فعورض بالوَزْنِ، لم يكن له أن يطالب بتأثير الوَزْنِ، بأن مجرد احتمال كونه علّة يكفي في إِبطال التقسيم، فليدفعه هو ببيان عدم صلاحيته للعلّية.

هذا تقرير كلامه، وبه [يظهر]

(1)

أنَّ مراده بقوله: إِن كان مثبتًا أن يكون مثبتًا من جهة المستدلّ، وعليه جرى الآمدي، والمصنف في "المنتهى"، لا إن كان مثبتًا من جهة المعترض، كما قرره الشَّارحون؛ فإنه مع مخالفته لصريح كلام المصنّف والآمدي، لا وجه له؛ إِذ المعترض ليست وظيفته الإثبات، بل هَدْم كلام المستدلّ، ونفي ما يثبته، كما ذكر المصنف قريبًا، حيث يقول: لأنّ حاصله نفي الحكم، بل لو أن المعترض أخذ يثبت علّية الوصف الذي عارض به، من غير مُطَالبة المستدلّ، لكان غاصبًا منصب الاستدلال، فلا يسمع، ولذلك يمنع المعترض بمنع وجود الوَصْفِ في الفرع من تقرير ذلك - كما ليأتي في كلام المصنّف - وأيضًا فالمعترض لا يمكنه أن يدعي أنّ وصف المعارضة هو العلّة؛ لأنا إِنما قبلنا المُعَارضة لما يلزم على ردّها من التحكّم؛ فإِنه ليس أحد الوصفين أَوْلَى من الآخَر بالاعتبار من غير مرجّح، فلو كان مدعيًا أن وصفه هو العلة، لكان مدعيَا رُجْحَان وصفه، وهو - حينئذ - تحكّم، فما الذي رجّح وصفه على وصف المستدل، مع أن شاهدهما بالاعتبار واحد؟.

فإن ذكر مرجّحًا من خارج، فذلك أمر آخر ليس من المُعَارضة، وأيضًا فربما كان مقصوده بوصف المُعَارضة أنه مُسَاوٍ لوصف المستدلّ، مع كونه لم [يقل]

(2)

به، وإن كان المعتوض يعتقد أن كلًّا منهما لا يصلح، بل ربما اعتقد أن الحكم في المسألة [تعبدي]

(3)

، وأراد أن يقابل بعض الأَوْصَاف ببعض؛ ليدرأ الكل، وتثبت له دعوى التعبد.

(1)

في أ، ت: ظهر.

(2)

في أ، ت: يعقل.

(3)

في أ، ت: تعبد.

ص: 448

أَوْ بِخَفَائِهِ، أَوْ عَدَمِ انْضِبَاطِهِ، أَوْ مَنع ظُهُورِهِ، أَوِ انْضِبَاطِهِ، أَوْ بَيَانِ أَنَّهُ عَدَمُ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ؛ مِثْلُ الْمُكْرَهِ عَلَى الْمُخْتَارِ بِجَامِعِ الْقَتْلِ، فَيُعْتَرَضُ بِالطَّوَاعِيَةِ؛ فَيُجِيبُ: بِأَنَّهُ عَدَمُ الإِكْراهِ الْمُنَاسِبُ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ طَرْدٌ، أَوْ يُبيِّنُ كَوْنَهُ مُلْغًى، أَوْ يُبَيِّنُ اسْتِقْلَالَ مَا عَدَاهُ فِي صُورَةٍ بِظَاهِرٍ أَوْ إِجْمَاعٍ؛ مِثْلُ:"لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ" فِي مُعَارَضَةِ الْمَطْعُومِ بِالْكَيْلِ، وَمِثْلُ:"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" فِي مُعَارَضَةِ التَّبْدِيلِ بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِيمَانِ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لِلتَّعْمِيمِ.

الشرح: "أو "يجيب المستدلّ على الوصف الذي عورض به "بخفائه، أو عدم انضباطه، أو منع ظهوره"، أو منع "انضباطه"، فلا تثبت علّيته؛ لوجوب كون الوصف ظاهرًا منضبطًا، "أو بيان أنه عدم معارض في الفرع".

أي: ويحصل جواب المعارضة أيضًا بببان أنّ وصف المعارضة ليس وصفًا وجوديًّا، وإنما هو عبارة عن عدم المُعَارض في الفرع، والعَدَم لا يكون علة ولا جزءًا من العلة، كما قدمه المصنّف حيث قال في شروط العلّة: ومنها: ألّا تكون عدمًا في الحكم الثبوتي، وذلك "مثل" قياس "المكره على المختار" في وجوب القِصَاصِ "بجامع القَتْل" العَمْد العدوان، فيعترض المعترض "بالطّواعية"؛ فإنها مناسبة لإِيجاب القصاص، فلا تكون العلّة القَتْل العَمْد العدوان فقط، بل بقيد الاختيار، "فيجيب" المستدلّ عن وصف الطواعية "بأنه عدم الإِكراه المناسب لنقيض الحكم، وذلك" أي: عدم الإِكْرَاه "طرد"، فالإكراه يناسب نقيض الحُكْمِ، وهو عدم القِصَاصِ، فيكون الإِكراه معارضًا في الفرع الذي هو المُكره؛ لكونه يناسب عدم وجوب القِصَاصِ الذي هو نقيض الحكم، فيكون عدم الإِكراه عدم مُعَارض في الفرع، فلا يكون جزء علّة، بل وصفًا طرديًا؛ لأنَّهُ عدم، "أو يبين" المستدلّ من حال الوصف "كونه ملغى" لا مدخل له في العلّية، "أو يبين استقلال ما عداه" من الأوصاف دونه "في صورة" إما "بظاهر" من النصوص، "أو إجماع"، فيمتنع لذلك أن يكون علّة في محلّ التعليل، وإلا لزم إلغاء المستقل واعتبار غيره، "مثل": ما إذا اعتل المستدلّ في الربا بالطعم، فاعترض بالكَيْل، فبين استقلال الطعم بظاهر ما رواه المصنف فيما سلف من قوله عليه الصلاة والسلام:"لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ"، فيحصل له الجواب، "في معارضة الطّعم بالكَيْل.

ومثل" ما روى البخاري وغيره عن ابن عَبَّاس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من بَدّلَ دِينَهُ

ص: 449

وَلَا يَكْفِي إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي صُورَةٍ دُونَهُ؛ لِجَوَازِ عِلَّةٍ أُخْرَى.

فَاقْتُلُوهُ"

(1)

إذا ذكرناه في توجيه القَوْلِ الصَّحيح: من أن من بَدَّل دينًا باطلًا بباطل، كالنَّصراني يتهوّد، يقتل أو يسلم.

وقلنا "في" الجواب عن "مُعَارضة التبديل بالكُفْر بعد الإِيمان" العلة: تبديل الكفر بالإِيمان لا مطلق التَّبْديل، فقال المستدلّ: بل مطلق التبديل؛ لظاهر الحديث.

قوله: "غير [متعرض]

(2)

للتعميم" - منصوب على الحَالِ - وحاصله: أن هذا إِنما هو في حال كون المستدلّ غير متعرض لتعميم الحُكْمِ، فلو عمم بأن قال: فثبت ربوية كلّ مطعوم، أو اعتبار كلّ تبديل؛ للحديث، لم يسمع؛ لأن ذلك إِثبات للحُكْمِ بالنَّصّ دون القياس، والكلام إِنما هو في القياس، فلو ثبت العموم لَضَاعَ، نعم لا يضره كونه عامًّا إِذا لم [يتعرّض]

(3)

للتعميم ولم يستدلّ به، فربّ مستدلّ بالقياس على ما عليه نصّ، ولربما فر المستدلّ - هنا - من الاستدلال بالنَّصّ؛ لأن قضية التعميم منتقضةٌ بدليل: من بَدَّلَ دين الكفر بالإِسلام، فإِنه لا يقتل، ولعل المصنّف إنما أورد مثالين للنَّص؛ لينبه على أنه في أحد المثالين يستدل بالقياس، غير [متعرّض]

(4)

للتعميم، مع وجه أنه في الدليل كما في "لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ".

فإن التعميم موجود فيه، ولا نقض عليه؛ إِذ لا مطعوم إلا وهو ربوي عند المعتلّين بالطعم، وفي الثَّانية لا يوجد التعميم في الدليل، مثل حديث التبديل على ما بَيّناه.

الشرح: "ولا يكفي" في بيان استقلال ما عدا وصف المُعَارضة "إثبات الحكم في صورة دونه؛ لجواز" وجود "علّة أخرى" يثبت الحكم في تلك الصورة بها، وإن كان قد ثبت في محل النزاع بوصف المُعَارضة، بناء على جواز التَّعْليل بعلّتين؛ ولأنه لا يلزم من وجود الحكم مع انتفاء العلّة فسادها، بناء على أن العكس غير شرط في العلة.

(1)

تقدم.

(2)

في أ، ت: معترض.

(3)

في أ، ت: يعترض.

(4)

في أ، ت: معترض.

ص: 450

وَلذَلِكَ لَوْ أَبْدَى أَمْرًا آخَرَ يَخْلُفُ مَا أَلْغَى، فَسَدَ الإلْغَاء، وَيُسَمَّى تَعَدُّدَ الْوَضْعِ لِتَعَدُّدِ أَصْلَيْهِمَا، مِثْلُ: أَمَانٌ مِنْ مُسْلِمِ عَاقِلٍ، فَيَصِحُّ كَالْحُرِّ؛ لأِنَّهُمَا مَظِنَّتَانِ لإِظْهَارِ مَصَالِحِ الإيمَانِ، فَيَعْتَرِضُ بِالْحُرِّيَةِ؛ فَإِنَّهَا مَظِنَةُ الْفَرَاغِ لِلنَّظَرِ، فَيَكُونُ أكمَلَ، فَيُلْغِيهَا بِالْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ.

فَيَقُولُ: خَلَفَ الإِذْنُ الْحُرِّيَةَ؛ فَإِنَّهَا مَظِنَّةٌ لِبَذْلِ الْوُسْعِ، أَوْ لِعِلْمِ السَّيِّدِ بِصَلَاحِيتِهِ.

فإن قلت: قد قدم المصنف في السَّبر والتقسيم - أن من [طرق]

(1)

الحَذْف الإِلغاء، وهو بيان ثبوت الحكم بالمُسْتبقى فقط، وهذا يقتضي أن ينتفي بإثبات الحكم في صورة دونه هنا.

قلت: ثبوت الحكم في صورة قد يكون مستندًا إِلى العلّة التي ادّعاها المستدل، وهو ما قدمه في السبر والتقسيم، وأشار إليه بقوله: فقط؛ أي: بالوصف المستبقى لا بغيره، "ذا ثبت مستندًا إِليه لا إِلى غيره كفى، ويعرف اسْتناده إِليه بالإِجماع، أو بظاهر من النُّصُوص، كما قدمناه قريبًا، وقد ثبت ولكن لا يعرف اسْتِنَاده إِلى أنه علة، وهو ما ذكره هنا، فلا يكفي لما ذكرناه.

الشرح: "وكذلك لو أبدى أمرًا آخر"؛ أي: لو أنّ المعترض أورد أمرًا آخر "يخلف ما ألغي"؛ أي: يخلف الوصف الذي ألْغَاه المستدل، ويقوم مقامه "فسد الإِلغاء" إِلغاء الوصف المعارض به. وفي قولنا: فسد الإلغاء، تجوز ولطيفة، أما التجوّز؛ فلأن الوصف الذي أفسدناه بالإِلغاء هو الفاسد، وأتى المعترض بخلفه، فالإِلغاء صحيح، والمَلْغى هو الفاسد، ولكن المعترض لما لم يكن له مقصد في إِثبات وصف بخصوصه؛ لأنَّهُ ليس مثبتًا، ولا مدعيًا، ولا وظيفته ذلك - كما عرفناك - عبرنا بفساد الإِلغاء؛ ليعلم أن المراد فساد غرض المعترض من المعارضة بصحّة إِلغاء ما أَبْدَاه، فإذا أتى ببدله، فسد هذا الإِلغاء الذي هو وارد على غرض المعترض من هَدْم قاعدة المستدلّ، وإن لم يتضمّن إثباته، لخلف الوصف إفساد ذلك الوصف الأول، بل تضمن إِثباته بالخلف اعترافه بفساده، وفي الحقيقة الذي فسد أولًا

(1)

في أ، ت: طرف.

ص: 451

وَجَوَابُهُ: الإِلْغَاءُ إِلَّا أَنْ يَقِفَ أَحَدُهُمَا، وَلَا يُفِيدُ الإِلْغَاءُ لِضَعْفِ الْمَعْنَى مَعَ تَسْلِيمِ الْمَظِنَّةِ، كَمَا لَوِ اعْتُرِضَ فِي الرِّدَّةِ بِالرُّجُولِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا مَظِنَّةُ الإِقْدَامِ عَلَى الْقِتَالِ، فَيُلْغِيهَا بِالْمَقْطُوع الْيَدَيْنِ، وَلَا يَكْفِي رُجْحَانُ الْمُعَيَّنِ وَلَا كَوْنُهُ مُتَعَدِّيًا؛ لاِحْتِمَالِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَجِئُ التَّحَكُّم، وَالصَّحِيحُ: جَوَازُ تَعَدُّدِ الأُصُولِ لِقُوَّةِ الظَّنِّ بِهِ، وَفِي جَوَازِ اقْتِصَارِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ قَوْلَانِ، وَعَلَي الْجَمِيعِ فِي جَوَازِ اقْتِصَارِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ قَوْلَانِ.

وصف المُعَارضة، ثم لم ينهض جانب المُعْترض بإِبدائه الخلف، لا بتصحيحه ما أفسد، فهذا هو السر في قولنا: فسد الإِلغاء، وهو اللَّطِيفة التي أشرنا إِليها، ولو قال: زالت فائدة الإِلغاء، كان أولى.

"ويسمى" فساد الإِلغاء بالوجه المذكور "تعدّد الوضع؛ لتعدّد أصلها"؛ أي: أصلي العلّة، لأنها تعددت بأصلين؛ لأن المعترض أورد الوصف، فلما ألغي، عوضه بآخر وصار معللًا بكل منهما على وضع؛ أي: مع قيد، [فإن]

(1)

شئت فاجعل الضَّمير في: "أصلها" عائدًا على المُعَارضة، لتعدد أصل المعارضة؛ لأنها تعدّدت بأمرين، وهما الوَصْفَان اللَّذان أوردهما.

"مثل" قولنا - مستدلين فيما إِذا أمّن العبد حربيًّا -: "أمان من مسلم عاقل، فيصح، كالحر؛ لأنهما" أي: الإسلام والعقل "مظنّتان لأظهار مصالح الإيمان"، فيظهر أن الأمان الصَّادر من المسلم العاقل مصلحة، فيعتبر، "فيعترض" المعترض "بالحريّة" مدعيًا أنها جزء العلّة.

فالعلة: أمان المُسْلم العاقل الحر، لا المسلم العاقل فقط؛ "فإنها أي: الحرية "مظنّة الفراغ للنظري في وجوه المَصْلَحة، والعبد مَشْغُول بخدمة مولاه، "فيكون" النظر بها "أكمل"، فلا يجوز قياس العَبْد على الحر لذلك، "فيلغيها" المستدل "بالمأذون له في القتال"؛ فإن الحنفية وافقوا على صحّة أمانه، "فيقول" المعترض: "خلف الإذن الحرية" في صورة المأذون، "فإنه" أي: الإِذن "مظنّة لبذل الوسع" في النظر؛ إِذ لا شاغل له بعده عن النَّظَرِ، "أو لعلم السَّيد بصلاحيته" للأمان، وإلا لم يأذن له.

(1)

في أ، ت: وإن.

ص: 452

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وجوابه: الإلغاء"، إلغاء الوصف الذي جعله المعترض خلفًا للإلغاء، فإن أبدى وصفًا آخر، كان جوابه الإلغاء أيضًا، وهكذا "إلى أن يقف أحدهما"، إما المستدل؛ لعجزه عن الإلغاء، أو المعترض؛ لعَجْزِهِ عن ثبوت غرضه، فينقطع، وفي هذا المقام تظهر الرِّجال، ويبين فُرْسَان الجدال.

"ولا يفيد" المستدلّ "الإِلغاء" إلغاء الوصف المُعَارض به في الأصل "بضعف المعنى"؛ أي: ببيان أن المعنى فيه ضعيف، مع تسليم وجود "المظنّة، كما لو اعترض في الرّدة" من لا يقتل المرأة "بالرّجولية"، وزعمها جزء العلّة في قتل المرتدّ، "فإنه" أي: وصف الرُّجُوليَّةِ "مظنّة الإقدام على القتال، فيلغيها بالمقطوع اليَدَيْنِ"؛ فإن الرّجولية فيه ضعيفة، مع أنه يقتل اتفاقًا، وإنما لم يفده؛ لأنَّهُ لما سلم كونها مظنّة، لم يضرّه ضعفها في صورة، كالسَّفر لما كان مظنّة المَشَقّة، ثبت الحكم على وفقه في المُسَافر المترفه.

"ولا يكفي" في جواب المعارضة "رُجْحَان" الوصف "المعيّن" الذي أَبْدَاه المستدلّ على المعارض به بجهة من جِهَاتِ الترجيح، "ولا كونه متعديًا" إِذا كان وصف المعترض قاصرًا، خلافًا لزاعمي ذلك.

وإنما قلنا: لا يكفي "لاحتمال الجزئية"؛ أي: احتمال كونه جزء علّة، وبعضُ أجزاء العلّة يجوز أن يترجح على بعض، كما في القَتْل العَمْد العدوان؛ فإِن القتل أولى من الأخيرين، وكذا المُتَعَدّى إن ترجّح بالتَّوْسعة، ترجّح القاصرة بموافقة الأصل، ولو سلم الرُّجْحَان، لم يلزم أن يكون مستقلًا؛ لاحتمال أن يكون القاصر جزءًا، وإذا احتمل كون وصف المُعَارضة جزءًا، "فيجيء التحكّم" بتقدير الحكم باستقلال وصف المستدل، دون وصف المعترض.

"والصحيح: جواز تعدد الأصول"، أصول المستدلّ المقيس عليها "لقوة الظَّن به"؛ خلافًا لمن منعه، معتلًّا بأنه يلزم منه التَّشْريع مع حصول المقصود بواحد.

"وفي جواز اقتصار المُعَارضة" في الأصل "على أصل واحد" إِذا أبدى المستدل أصولًا - وقلنا: بأنه صحيح - "قولان":

أحدهما: الجواز؛ لأن المستدلّ قصد إِلحاق الفرع بجميع الأصول، فإِذا فرق المعترض بين الفرع، وأصل من الأصول، فقد تم مقصوده من إِبطال غرض المستدلّ.

ص: 453

‌السَّادِسَ عَشَر: الترْكِيبُ

؛ تَقَدَّمَ.

‌السَّابِعَ عَشَرَ:

التَّعْدِيَة،

وَتَمْثِيلُهَا فِي إِجْبَارِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ: بِكْرٌ، فَجَازَ إِجْبَارُهَا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ، فَيُعَارَضُ بِالصِّغَرِ، وَيُعَدِّيهِ إِلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ، [وَ] يَرْجِعُ بِهِ إِلَى الْمُعَارَضَةِ فِي الأَصْلِ.

والثاني: عدم الجواز؛ لأنَّهُ إِذا عارض في بعضها، يبقى ما لم يعارض فيه صحيحًا، وقصد المستدلّ يحصل به.

"وعلى" القول بوجوب المُعَارضة في "الجميع، [ففي]

(1)

جواز اقْتِصَار المستدلّ" في الجواب "على أصل وَاحِدٍ قولان".

أحدهما: الجواز؛ لحصول المطلوب به.

والثاني: المنع؛ لأنَّهُ التزم الجَمِيع، فلزمه الدفاع عنه، واعلم أنا سنذكر في الفَرْق قولًا يتصل بما أوردناه في المُعَارضة، وينضم إليه.

الشرح: الاعتراض: "السَّادس عشر: التركيب"، وقد "تقدّم" في شروط حكم الأصل

(2)

.

الشرح: "السَّابع عشر: التعدية"

(3)

وهو: أن يعارض في الأصل، ثم يقول للمستدلّ: علّتي تؤدّي إلى فرع مختلف فيه، كما أن علّتك تؤدّي إلى فرع مختلف فيه، فليس إِحداهما أولى من الأخرى.

"ويمثلها" قولنا: في [إِجبار]

(4)

البِكْرِ البالغ: بكر، فجاز إِجبارها، كالبكر الصغيرة، فيعارض بالصغر"، ويقول: أنت استنبطت من الأَصْل: أن البَكَارة علّة، وأنا استنبطت: الصِّغَر، فقد تساوت الأقدام في الأصل، فإِن تعدت البَكَارة إِلى البالغ، فالصغر "مُتعَدٍّ إِلى [الثَّيِّبِ]

(5)

الصغيرة".

(1)

سقط في أ، ت.

(2)

ينظر: الإحكام 4/ 8 وشرح العضد 2/ 274.

(3)

ينظر: الإحكام 4/ 8 وشرح العضد 2/ 274 - 275.

(4)

في أ، ت: إخبار.

(5)

في أ، ت: النبت.

ص: 454

الثَّامِنَ عَشَرَ: مَنع وُجُودِهِ فِى الْفَرْعِ مثْلُ: "أَمَانٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ [فِي مَحَلِّهِ] " كَالْمَأْذُونِ، فَيَمْنَعُ الأَهْلِيَّةَ.

وَجَوَابُهُ: بِبيَانِ وُجُودِ مَا عَنَاهُ بِالأَهْلِيَّةِ كَجَوَابِ مَنْعِهِ فِي الأَصْلِ، وَالصَّحِيحُ مَنْعُ السَّائِلِ مِنْ تَقْرِيرِهِ؛ لأِنَّ الْمُسْتَدِلَّ مُدَّعٍ؛ فَعَلَيْهِ إِثْبَاتُهُ؛ لِئَلَّا يَنْتَشِرَ.

التَّاسِعَ عَشَرَ:

"و" هذا السؤال "يرجع إِلى" سؤال "المعارضة في الأصل"، مع زيادة التعرض للتساوي في التعدية، دفعًا لترجيح المتعيّن بالتعدية؛ فلا يكون سؤالًا آخر.

الشرح: "الثامن عشر: منع وجوده"؛ أي: وجود الوَصْف المعلل به "في الفرع، مثل" قولنا في أمان العَبْدِ: "أمان صدر من أهله"، فيصح "كالمأذون" له في الحرب، "فيمنع الأهلية.

وجوابه: ببيان وجود مَا عَنَاهُ بالأهلية"، ثم بيان وجوده في الفَرْع، لحس أو عقل، أو شرع"[كجواب]

(1)

منعه في الأصل"، وقد مَرّ في منع وجوده في الأَصل، فنقول: المراد بـ"الأَهْلِيَّة كونه مظتة لرعاية مصلحة الأمان، وهو بإسلامه وبلوغه كذلك عقلًا.

"والصحيح: منع السائل" أي المعترض "من تقريره" الجزئية، يعني: الأَهْلِيّة توصلًا إِلى عدم وجود الوصف في الفرع؛ "لأن المستدلّ مدع" وجودها، فوظيفته إِثبات ما ادّعاه، "فعليه إِثباته؛ لئلا ينتشر" الجِدَال، كذا بخطّ المصنّف، وظاهره أنها علة واحدة لوجوب الإثبات.

وفي "المنتهى": لأن المستدلّ مدع، فعليه إِثباته، ولأنه ينتشر، والذي يظهر أن علة وجوب إِثباته على المستدلّ ادعاؤه، وعلية منع المعترض من إِثباته الانتشار، فهما علّتان لحكمين مختلفين.

الشرح: ‌

‌"التاسع عشر: المُعَارضة في الفَرْعِ

بما يقتضي نقيض الحكم"

(2)

فيه، بان يقول: ما ذكرت من الوصف، وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفَرْعِ، فعندي وصف آخر

(1)

في أ، ت: لجواب.

(2)

ينظر: الإحكام 4/ 89، وشرح العضد 2/ 275.

ص: 455

الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَ الحُكْمِ عَلَى نَحْوِ طُرُقِ إِثْبَاتِ العِلَّةِ.

وَالْمُخْتَارُ: قَبُولُهُ؛ لِئَلَّا تَخْتَلَّ فَائِدَةُ الْمُنَاظَرَةِ.

قَالُوا: فِيهِ قَلْبُ التَّنَاظُرِ.

وَرُدَّ: بِأَنَّ الْقَصْدَ الْهَدْمُ.

وَجَوَابُهُ: بِمَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، وَالْمُخْتَارُ، قَبُولُ التَّرْجِيحِ أَيْضًا: فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَل، وَهُوَ الْمَقْصُودُ.

وَالْمُخْتَارُ: لَا يَجِبُ الإيمَاءُ إِلَى التَّرْجِيح فِي الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّهُ خَارجٌ عَنْه، وَتَوَقُّفُ الْعَمَلِ عَلَيْهِ مِنْ تَوَابعِ وُرُودِ الْمُعَارَضَةِ لِدَفْعِهَا، لَا أَنَّهُ مِنْهُ.

يقتضي نقيضه فيتوقف دليلك، وهو المعنى بـ"المعارضة" إِذا أطلقت، ولا بد من بنائه على أصل بجامع يثبت علّيته، وله الاسْتِدْلَال في إِثبات علّيته بما يشاء من المسالك "على نحو طرق إِثبات" المستدلّ "العلة"، فيصير هو مستدلًّا، والمستدل معترضًا، فتنقلب الوَظِيفَتَانِ، وقد اختلف فيه.

"والمختار: قبوله؛ لئلا تختل فائدة المُنَاظرة"، وهي: ثبوت الحكم؛ لأنَّهُ لا يتحقق بمجرد الدليل، ما لم يسلم عن المعارض.

والمانعون من القَبُول "قالوا: فيه قلب التناظر"؛ إذ يصير المعترض مستدلًّا وبالعكس.

"ورد: بأن القَصْد" من استدلال المُعْترض "الهدم" لا إِثبات ما يقتضيه دليله، فكأنه يقول: دليلك قاصر عن إِفادة مدّعاك؛ لقيام المُعَارض، وهكذا دليلي، فعليك إِبطاله ليسلم دليلك، وحينئذٍ لم يلزم صَيْرُورته مستدلًّا، وإن تصور بصورة المستدل، وكيف يصير مستدلًّا قاصدًا إِثبات ما يقتضيه دليله، مع اعترافه بأنه معارض؟

والمعارضة من الطرفين، وكل يبطل الآخَر.

مثاله: المسح رُكْن في الوضوء، فيسنّ تثليثه كالوجه، فيعارض قائلًا: مسحٌ، فلا يُسَنّ تثليثه، كالمسح على الخفين.

"وجوابه": أن يقدح فيه المستدلّ "بما يعترض به" المعترض "على المستدلّ" لو قدر المستدلّ متمسكًا به؛ لأن المعترض صار مستدلًّا وبالعكس.

ص: 456

‌الْعِشْرُونَ: الْفَرْقُ،

وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِحْدَى الْمُعَارَضَتَيْنِ، وَإلَيْهِمَا مَعًا عَلَى قَوْلٍ.

فالجواب: فإِن عجز عن القدح، فقد اختلفوا في جواز دفعه بالترجيح.

"والمختار" وبه جزم أكثر أصحابنا: "قبول الترجيح أيضًا، فيتعين العمل" به ترجيحًا للراجح على المرجوح، "وهو المقصود".

"والمختار": أنه "لا يجب" على المستدلّ "الإِيماء إِلى التَّرْجيح في الدليل؛ لأنَّهُ" أي: الترجيح "خارج عنه"؛ أي: عن الدَّليل، والمستدلّ مطالب بالدليل فقط، "وتوقف العمل" بالدليل "عليه" أي: على التَّرْجيح إِنما كان لأنَّهُ "من توابع ورود المُعَارضة لدفعها، لا أنه" جزء "منه" أي: من الدَّليل، وإِذا لم يكن جزءًا من الدَّليل، يكون ذكره فيه حشوًا عريًّا عن الفائدة، فليجتنب ذكره إِلَّا عند الاحتياج إِليه، وهو وقت إِبداء المعارض.

الشرح: الاعتراض "العشرون: الفرق" بين الأصل والفرع

(1)

، وهو [راجع]

(2)

إِلى إِحدى المُعَارضتين" إما في الأصل، وإِما في الفرع، "أو إليهما معًا على قول" لبعضهم.

وقيل: إنما هو مُعَارضة علة الأصل بعلّة معدومة في الفرع فقط.

مثاله: قول الحنفي في التَّبِيت: صوم عين فيتأدّى بالنية قبل الزَّوال، كالنفل، فيقال: ليس المعنى في الأصل ما ذكرت، بل إِن النفل بنى على السُّهُولة، فجاز بِنِيّة متأخّرة، بخلاف الفرض، وقد عرفت أن المصنف ذكر أن الفرق راجع إِلى إِحدى المعارضتين أو إِليهما؛ أي: فحكمه قبولًا وردًّا يظهر من حكمهما.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 302، والبرهان 2/ 1060، وسلاسل الذهب للزركشي 403، والإحكام للآمدي 4/ 90، ونهاية السول للأسنوي 4/ 224، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 135، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 132، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 219 والمنخول للغزالي 417، وحاشية البناني 2/ 319، والإبهاج لابن السبكي 3/ 134، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 146، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 363، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 89، وتقريب الوصول لابن جُزَي 143.

(2)

في أ، ت: راجح.

ص: 457

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وذكر إِمام الحرمين: أن الكلام في الفَرْقِ وراء المعارضة، وأنّ خاصته وسرّه فقه يناقض قصد الجمع.

قال: ردّ الفرق لا يرد المعارضة، بل خاصته الفرق.

وقد اختلف في قَبول الفَرْق، فمنهم من قبله، وزعمه من أرفع الأسئلة.

قال الشيخ أبو إسحاق في "الملخص": إنه أفقه شيء يجرى في النَّظر، وبه يعرف فقه المسألة.

ومنهم من رَدّه.

قال ابن السَّمْعَاني: هو عند المحققين أضعف سؤال يذكر، وليس مما يمس العلّة التي نصبها المعلل بوجه ما.

وذكر إمام الحرمين: أنَّ الصحيح الذي ارْتَضَاه كل منهم: أن التحقيق قبوله؛ لأن شرط صحّة علة الخَصْم خلوّها عن المعارضة.

قال: وحقيقة هذا الكلام أنَّ المعلل لا يستقرّ كلامه ما لم يبطل بمسلك السَّبر كل ما عدا علّته، مما يقدر التعليل به، فإذا علل ولم يسبر، فعورض بمعنى في الأصل، فكأنه طُولِبَ بالوفاء بالسَّبر، ثم ذكر أنه راجع إلى منع التعليل بعلّتين.

وذكر أن القاضي استدلّ على قبوله، بأنَّ السلف كانوا يجمعون، ويفرقون، ويتعلّقون بالفرق كما يتعلّقون بالجمع، كما في قصّة الجارية المُومِسَةِ التي أجهضت الجنين، وقد أرسل إليها عمر بن الخَطّاب رضي الله عنه يهدّدها، فإن عمر استشار الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، فقال عبد الرحمن بن عوف: إنما أنت مؤدّب، ولا أرى عليك شيئًا.

وقال علي: إن لم يجتهد فقد غشك، وإن اجتهد فقد أخطأ، أرى عليك الغرّة

(1)

،

(1)

ومفاد هذا الأثر أن عثمان وعبد الرحمن بن عوف قاسا الإرسال الذي نشأ عنه إسقاط الجنين فزعًا على التأديب المشروع من الزوج أو السيد أو الأب أو المعلم إذا نشأ عنه الموت بلا تعدّ في عدم إيجابه الدية، بجامع أن كلا منها فعل قصد به التأديب المشروع، وأن عليًّا رضي الله عنه قاسه على قتل الخطأ في إيجاب الديّة على العاقلة، بجامع أن كلا منهما فعل نشأ عنه القتل بلا قصد، وقد وافق عمر عليًّا على ذلك.

ص: 458

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فكأن عبد الرحمن بن عوف حاول أن يشبه تأديبه - بالمُبَاحات التي [لا تعقب]

(1)

ضمانًا، وجعل الجامع أنه فعل ماله أن يفعله، فاعترضه علي، وتشبّث بالفرق، وأبان أنَّ المباحات المضبوطة النِّهَايات ليست كالتَّعْزِيرَات التي يجب الوقوف عليها، دون ما يؤدّي إلى الإتلاف، قال: ولو تتبعنا معظم ما يخوض فيه الصَّحَابة، وجدناه كذلك.

وقد بالغ ابن السَّمْعاني في الرد على الإمام في هذا الكلام، وحكى مجموع كلامه وقال: قوله: شرط صحّة العلّة خلوّها عن المعارضة، ليس بشيء؛ لأنّ المعارضة إنما تقدح في حكمين مُتَضَادين.

أما إذا ذكرت علّتان بحكم واحد، فلا تقدح، ولا تسمّى معارضة.

وقوله: لا يصحّ تعليل المعلل ما لم يبطل كلًّا ما عدا علّته، فيقال له: من قال هذا؟ ولأي معنى يجب؟

وإنما يجب عليه أن يذكر علّة مخيلة في الحكم مناسبة له، ثم إذا وجد فرعًا ألحقه بالأصل الذي استنبط منه العلّة.

وأما السبر والتقسيم وإبطال ما عدا الوصف الذي ذكره، فليس بشيء.

قال: وقد نسب هذا إلى أبي بكر بن البَاقِلَّاني، قال: ومن كلف المعلل هذا، ورام تصحيح العلّة بهذا الطريق، فقد أعلمنا من نفسه أن الفِقْهَ ليس من بابه، ولا من شأنه، وأنه دخيل فيه، مدّع له، قال: وقد بَيّنا بُطْلَان طريق السَّبر، قال: وقوله: إنه التزم ذلك، ليس كذلك، فأين في تعليل المُعَلّل التزام إبطال كلّ علّة سوى علّته؟ فهذا من التُّرَّهَات والخُرَافات، وكذلك قول من يقول: إن تعليل الأصل بعلّتين لا يجوز.

قلت: وأنت ترى النِّزَاع بين ابن السَّمْعَاني والإمام في هذا راجع إلى نزاعهما في التعليل بعلّتين، فإذا استتب للإمام منع ذلك، ظهر كل ما ادَّعَاه، ولم يتوجّه كلام ابن السَّمْعَاني عليه، والإمام مصرح بأن ذلك مبني على منع التعليل بعلتين.

ثم قال ابن السَّمْعَاني: وأما الذي حكاه عن ابن البَاقِلَّاني، فقد حاول شيئًا بعيدًا؛ لأن

(1)

سقط في أ، ت.

ص: 459

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفرق والجمع على الوجه الذي يخوض فيه لم ينقل عن الصَّحابة أصلًا، وإنما كانوا يتتبعون التأثيرات، والذي نقل عن عبد الرحمن بن عوف معنى صحيح، والذي أشار إليه عليّ في معنى الضَّمَان ألطف منه، والمراد من كلامه: أنه وإن كان يباح له التَّأديب، ولكنه مشروط بالسَّلامة؛ لأنَّهُ أمر ليس بِحَتْمٍ، بل يجوز فعله وتركه، فيطلق فعله بشرط السلامة.

قال: فليس هذا الكلام من الفرق والجمع الذي نحن فيه بسبيل، فلا ندري كيف وقع الحال في هذا الخبط من هذا القائل؟

وإن وقع الفرق، فنحن لا ننكر الفَرْق بالمعاني المؤثرة، وترجيح المَعْنَى على المعنى، وإنما الكلام في شيء وراء هذا، وهو أنَّ المعلل إذا ذكر علّة، قام له الدَّليل على صحّتها، ففرق الفارقُ بين الأصْل والفرع بمعنى، فإن كان فرقًا لا يقدح في التأثير الذي لوصف المعلّل في الحكم، فهو فرق صورة، ولا يلتفت إليه، وإن فرق بمعنى مؤثّر في حكم الأصل، فغايته التَّعْليل بعلّتين.

وإن بين الفارق معنى مؤثرًا في التفريق بين الفرع والأصل، فالقادح بيان معنى مؤثّر في الفرع يفيد خلاف الحكم الذي أفاده المَعْنَى الأول، فلا بدّ لهذا من إسناده إلى أصل، وحينئذٍ تكون معارضة، ولا يكون الفرق الذي يقصد بالسؤال، ونحن بَيّنا أن المعارضة قادحة. انتهى.

وأنت تراه كيف لا يجعل المُعَارضة في الفرع فرقًا

(1)

، فالنزاع فيها معه لفظي، وقد يجوز أن المُعَارضة في الفرع قادحةٌ بلا خلاف، فليسمها ابن السَّمْعَاني بما شاء.

وأما المعارضة في الأصل فهي مَبْنِيّة على التعليل بعلّتين - كما سبق في مكانها - فلا وجه للإطناب فيها بعد تحقّق البناء.

ثم قال الإمام: ولن يتبيّن مدرك الحَق في الفرق إلا بتفصيل نبديه فنقول: ربّ فرق يلحق جمع الجامع بالطَّرد، وإن كان لولاه لكان الجمع فقيهًا، فما كان كذلك فهو مَقْبُول مجمع عليه.

ومن آية هذا التقسيم: أن الفارق يعيد جمع الجامع، ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره.

مثاله: قول الحنفي في مسألة البيع الفاسد: معاوضة جَرَتْ على تَرَاضٍ، فيفيد ملكًا كالصحيحة، فيقول الفارق: المعنى في الأصل جَرَيَانها على وفق الشرع، [فنقلت]

(2)

الملك

(1)

في ب: قادحة فرقا.

(2)

في أ، ت: ينغلب.

ص: 460

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالشَّرْع، بخلاف الفاسدة، فينتهض الكلام إذن، وفي صاحبه بتحقيقه مبطلًا إخالة كلام المعلل وما ادّعاه من إشعاره بالحكم.

ومن خصائصه: إمكان البوح منه بالغرض لا على سبيل الفرق، بل على سبيل المفاقهة، بأن يقول: لا تَعْوِيلَ على التراضي، بل المتبع الشرع في الطرق الناقلة، إلى آخر ذلك، على ما يعرفه الفقيه، ومما يقع مدانيًا لهذا أن الحَنَفي إذا قال: طَهَارة بالماء، فلا تحتاج إلى نِيّة، كإزالة النَّجَاسة، فالفارق [يعيد]

(1)

كلامه ويزيد قليلًا، ويقول: المعنى في الأصل أنه طَهَارة بالماء عَيْنِيّة، والوضوء طهارة حُكْمِتة، ومقصوده أن يخرم فقه الجامع، ويلحقه بالطَّرد؛ أي: فإن نسبة كونه طَهَارة بالماء إلى إيجاب النية، وعدم إيجابها على السَّواء، وهذا يبين كونه طردًا.

قال: وهذا محطوط عما استشهدنا به، أولًا من جهة أنَّا نرى مَدَار الكلام في هذه المَسْألة على الأشباه، وقد يظنّ الحنفي أن الطَّهَارة بالماء أشبه بالطَّهَارة بالماء، والفارق ليس يدعي مسلكًا فقهيًّا، وإنما يدعي تشبيهًا، وإنما مَثَار النِّزَاع في المسألة الأولى: هل يعتبر اتِّباع التَّرَاضي أو اتباع الشرع؟

فليفهم الفاهم ما يلقى إليه من حقائق الكلام، ومما نجريه - مثلًا - أن المالكي إذا قال: الهبة عَقْد تمليك، فيرتب على صِحَّة الإيجاب والقبول فيها الملك، كالمُعَاوضة.

فإذا قال الفارق: المعاوضة متضمّنها النزول عن المعوض والرِّضا بالعوض، وذلك يحصل بنفس العَقْدِ، والتبرع بدل لا يقابله عوض، فلنشترط فيه الإقباض المشعر بكمال الرِّضا ونهايته، لم يكن هذا الفرق مبطلًا بالكلية فقه الجَمْع، ولكن سرَّه أن الجَامِعَ أبدي الجمع بوصف عام، والفارق يفرق بوجه خاصّ، فإن لم يبطل ما أبْدَاه من خصوص الفرق الفقه في عموم الجمع، فهذا ما ينازع فيه الأصوليون. هذا كلام الإمام.

وحاصله: أن الكلام في الفرق إنما هو حيث لا يكون مبطلًا فقه الجمع، فإن أبطله فقد تبيَّن أن ما ذكر المستدلّ من الجمع ليس بصحيح، فيكون مقبولًا بلا نظر.

ثم قال: إن الفرق إذا أبطل فقه الجمع، فلا شكَّ في كونه اعتراضًا، والفرق والجمع

(1)

في أ، ت: يقيد.

ص: 461

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إذا ازدحما على فرع وأصل في محلّ النزاع فالمختار فيه عندنا: اتباع الإخالة، فإن كان الفرق [أخْيل]

(1)

، بطل الجمع، وإن كان الجمع أخيل سقط الفرق، وإن استويا، أمكن أن يقال: هما كالعلّتين المتناقضتين إذا بنيا على صيغة التساوي، وأمكن أن يقال: إن الجمع مقدم من جهة وقوع الفَرْقِ بعده، غير مناقض له، والجامع يقول: لم ألتزم انْسِدَاد مسالك الفروق.

قال: وحاصل القول في مذاهب الجَدَلِيين يئول إلى ثلاثة مذاهب:

أحدها: ردّ الفرق جملة، ورد المُعَارضة - أيضًا - في الأصل والفرع.

والثاني، وهو منسوب إلى ابن سريج، واختاره الأستاذ أبو إسحاق: أن الفرق ليس بسؤال على حِيَالِهِ واستقلاله.

وأما المعارضة في الفرع فهي مقبولة.

والثالث، وهو الصحيح: أن الفرق مَقْبُول، وليس الغرض منه مُقَابلة علّة الأصل بعلة، وإنما الغرض منه مناقضة الجَمْع، ثم المنقول منه ينقسم إلى ما يبطل فقه الجَمْع، ويلحقه بالطرد، ومنه ما لا يبطل فقه الجمع بالكُلّية، ولكنه يشتمل على فِقْهٍ آخر مناقض لقصد الجامع، ثم ذلك ينقسم إلى زائد في [الإخالة]

(2)

على العلّة، وإلى مساوٍ له.

قال: والقول الوجيز ينتظم بفرع وأصل، ومعنى رابط بينهما على شرائط معلومة، والفرق معنى يشتمل على ذكر فرع وأصل، وهما يفترقان [فيه]

(3)

، وهذا يقع على نقيض غرض الجمع، ومن ضرورته معارضة الأصل والفرع، ولكن الغرض منه مُضَادّة الجامع بوجه فقهي، أو بوجه شبه، إن كان القياس من فنّ الشّبه.

فعلى هذا لو سمى مسم الفرق "معارضة"، لم يكن بعيدًا، ولكن ليس الغرض منه الإتيان بمُعَارضتين على الطَّرد والعكس، بل فقه ينتظم من مُعَارضتين، يشعر بمفارقة الفَرْعِ

(1)

في أ: اختل.

(2)

في أ، ت: الإحالة.

(3)

سقط في أ، ت.

ص: 462

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأصل على مُنَاقضة الجمع، فهذا سرٌّ الفرق، ومن وفر حظّه من الفِقْهِ، وذاق حقيقته، اسْتبَانَ أن المُعَارضة الكُبْرَى التي عليها مُتَشَاجر الفقهاء هو الفرق والجمع، والجامع - أبدًا - يأتي بما [يخيل اقتضاء]

(1)

الجَمْع، ويأتي الفارق بأخصّ منه مع الاعتراف بالجمع الذي أَبْدَاهُ الجامع، ويبين الفارق أن الفرع والأصل إذا افترقا في الوجه الخَاصّ، كان الحكم بافتراقهما أوقع من الحُكْمِ باجتماعهما في الوصف، ثم يتجاذب الجامع والفارق أطراف الكلام.

هذا حاصل كلام الإمام، وهو حق، ومختصره أن الفرق قد يعود على الجمع بالإبطال، ويلحقه بالطرد، وذلك لا يردّ، وقد لا يفيد شيئًا، وذلك هو المردود، والنزاع فيما توسط بين هاتين المنزلتين، والمتبع فيه [الإخالة]

(2)

،

وقد اعترض عليه بأن ما يلحق جمع الجامع بالطَّرد، ليس مما نحن فيه من الفروق؛ فإنه عند النظر لا يبقى للجامع فقهًا بحال.

وجواب هذا: أن من الجوامع ما يظهر كونه طردًا، كالطول والقصر، وذاك لا رَيْبَ في أنه ليس جامعًا، وهو طردي، وليس الفرق فيه مما نحن فيه، ومنها ما يظهر كونه فقهيًّا، وهو موضع الفرق، ومنها ما يتوسّط بين [المَكَانتين]

(3)

، فيحسبه الجامع فقهيًّا، [ويخال]

(4)

الفارق كونه طرديًّا، وهذا من أماكن الفروق، إلا أن القَبُولَ فيه متّجه؛ إذ الفارق بين لحاقه بالطرديات، وإن لم يظهر حاله في بادئ الأمر، وقد مثل له بمسألة البَيْعِ الفاسد، وأشار إلى ما ذكرناه بقوله: ربّ فرق يلحق جمع الجامع بالطّرد، ولولاه كان الجمع فقهيًّا، فهذا صريح في أنّ المراد ما يظنّ في باديء الرأي كونه مخيلًا مناسبًا، فينتهض الفرق قاطعًا أثره، لا ما هو طرد ظَاهِر، فلا يقال عليه: ليس هذا مما نحن فيه.

قال ابن السَّمْعَاني: والمثال الذي ذكره في مسألة البَيْعِ الفاسد ليس مما يتكلّم فيه في شيء؛ لأن البيع الذي لا يمكن فيه إثبات المشروعية لا يكون مفيدًا للملك عند أحد من

(1)

في أ، ت: يحيل اقتصار.

(2)

في أ، ت: الإحالة.

(3)

في أ، ت: المكاتبين.

(4)

في أ، ت: ويحال.

ص: 463

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العلماء، وهم لا يعتمدون على مجرد المعنى الذي ذكره، لكن يثبتون وصفًا من المشروعية في البيع الفاسد الذي وقع فيه الاختلاف، فيقولون: هو مشروع بأصله غير مشروع بوصفه، فلهذا أوجبوا الملك، ونحن ننفيها من كلّ وجه، فنقول: لا يفيد الملك؛ لأنى المشروع في المِلْكِ لا يثبت إلا بسبب مشروع، فعلى هذا يقع تنازع الخُصُوم.

قلت: وللإمام أن يقول إذا استتب لنا نفي المَشْرُوعية كان المثال مما نحن فيه، ونحن من وراء تقريره.

ثم قال ابن السمعاني: وأما مسألة النيَّة في الوضوء، فعندنا قولهم: طهارة بالماء، علّة باطلة، ما لم يثبتوا المعنى المؤثر في ذلك.

وقول من قال من أصحابنا: طهارة حكمية - أيضًا - باطل، ما لم يبين، وعلى الجملة لا يتصوّر بوجه سؤال الفرق، بمعنى بيان علّة أخرى في الأصل للحكم، نعم إذا عكس ذلك المعنى في الفرع، وبين تأثيره في الحكم على خلاف ما تقتضيه العلة الأولى، وبين له أصلًا، فحينئذٍ تكون معارضة.

قلت: قوله: باطل ما لم يبين المعنى المؤثر، فيه نظر؛ فإن القائس - هنا - لا يدعي أنه قياس علّة، حتَّى يطالب بالتَّأْثير، وإنما قُصَارى دعواه أنه قياس شبه، فيبين الفارق أنه طرد، وأن قوله: طهارة بالماء، فلم يفتقر إلى النّية، بمنزلة قولك: فاحتاجت إلى النية، ولم يذكر ابن السَّمعاني مسألة الهِبَةِ.

ولم يعترض المالكية أن يقول: لو كانت كالمُعَاوضة، لما بطلت بموت الوَاهِبِ قبل القبض، وأنتم تقولون: تسقط بموته، ولا مُشَاحّة في الأمثلة بعد إيضاح المقصود.

ثم قال ابن السَّمْعَاني: ونحن لا نُبَالِي بغضب من يغضب بسبب إفساد الفروق على ما اعتادته المتفقّهة الذين لا يرجعون إلى تحقيق، ورضوا بصور يتنصبون للذّب عنها، والدفاع عن حَرِيمِهَا، ويتصالحون عليها من الجانبين، ويظنون أن ذلك هو الفقه المطلوب في المسائل، والفقه منهم في البُعْدِ، كبعد الإنسان من مَنَاط الثُّرَيَا، والذي ادعاه هذا الذي حكينا قوله، أن فيما قلته بيان سرّ الفرق، ولا ينكشف من سرّه إلا الذي قدمناه، ومن حاول توجيه سؤال الفرق إِلا بمعارضة المعنى في الأصل، فقد رَامَ شيئًا بعيدًا، وطلب ما لا يوصل إليه بحيلة ما. انتهى.

ص: 464

[الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ]: اخْتِلَافُ الضَّابِطِ فِي الأَصْلِ وَالْفَرْعِ

؛ مِثْلُ: تَسَبَّبُوا بِالشَّهَادَةِ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ كَالْمُكْرِهِ.

فَيُقَالُ: الضَّابِطُ فِي الْفرْعِ الشَّهَادَة، وَفِي الأَصْلِ الإِكْرَاه، فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسَاوِي، وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْجَامِعَ: مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ التَّسَبُّبِ المَضْبُوطِ عُرْفًا، أَوْ بِأَنَّ إِفْضَاءَهُ فِي الْفَرْعِ مِثْلُه، أَوْ أَرْجَحُ كَمَا لَوْ كَانَ أَصْلُهُ الْمُغْرِي لِلْحَيَوَانِ؛ فَإِنَّ انْبِعَاثَ الأَوْليَاء عَلَى الْقَتْلِ طَلَبًا لِلتَّشَفِّي أَغْلَبُ مِنِ انْبِعَاثِ الْحَيَوَانِ بِالإِغْرَاء بِسَبَبِ نَفْرَتِهِ، وَعَدَمِ عِلْمِهِ، فَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ أَصْلَي التَّسَبُّبِ؛ فَإِنَّهُ اخْتِلَافُ فَرْع وَأَصْلٍ، كَمَا يُقَاسُ الإِرْثُ فِي طَلَاقِ الْمَرِيضِ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَنع الإِرْثِ، وَلَا يُفِيدُ أن التَّفَاوُتَ فِيهِمَا مُلْغًى لِحِفْظِ النَّفْسِ؛ كَمَا أُلْغِيَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ قَطْع الأَّنْمُلَةِ وَقَطْع الرَّقَبَةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِلْغَاء الْعَالِمِ إِلْغَاءُ الْحُرِّ.

ولا يخفى ما فيه من التعريض بأستاذ الأستاذين، وشيخ الفقهاء والمحقّقين، وابن السَّمعاني وإن [كان]

(1)

حَبْرًا لا يُسَاجل، إلا أنه لم يأت في كلامه بما يدفع كلام الإمام بوجه، كما عرفت.

الشرح: الاعتراض "الحادي والعشرون: اخْتِلَافُ الضَّابِطِ في الأَصْل والفرع"

(2)

، مع اتحاد [حكمهما]

(3)

، "مثل" قولنا في شهود الزُّور بالقصاص:"تسببوا بالشهادة" إلى قتل عَمْد، "فوجب القصاص كالمُكْره" - بكسر الراء - "فيقال": الضابط في الأصل والفرع مختلف؛ لأن، "الضابط في الفرع الشهادة، وفي الأصل الإكراه"، وهما وإن اشتركا في مقصود الزجر، "فلا يتحقق التساوي"؛ لاحتمال أن ما وجد من التَّسبب في ضابط الأصل راجح على ما وجد منه في ضابط الفرع، فلا يمكن تعدية الحكم.

"وجوابه: أن الجامع: ما اشتركا فيه" أي: القَدْر المشترك بينهما "من التسبّب" إلى القتل "المضبوط عرفًا، أو بأن" يبين أن "إفضاءه" أي: إفضاء الضَّابط إلى المقصود "في الفرع مثله" أي: مثل إفْضَاء ضابط الأصل إلى المقصود، "أو أرجح" منه، وحينئذٍ يلزم أن

(1)

سقط في أ، ت.

(2)

ينظر: الإحكام 4/ 91، وشرح العضد 2/ 276.

(3)

في أ، ت: حكمتها.

ص: 465

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يكون أولى بثبوت الحكم، مثال رُجْحَان ضابط الفرع على ضابط الأصل، "كما لو كان أصله؛ أي: أصل القياس "المغرى للحيوان" بأن يقول المستدلّ: تسببوا بالشهادة إلى القتل، فوجب القصاص زجرًا عن التسبُّب، قياسًا على وجوب القِصَاص على من أغرى حيوانًا على آدَمِيّ، بأن طرحه في زرِيبَةٍ فيها سَبُع، فإن إفضاء ضابط الفرع إلى المقصود أرجح من إفضاء ضابط الأصل إليه؛ "فإن انبعاث الأولياء على القتل" بسبب الشهادة "طلبًا" منهم "للتَّشَفِّي"، والأخذ بِثَأْرِ المقتول "أغلب من انْبِعَاثِ الحيوان بالإغْرَاء" على القتل "بسبب نَفْرته" من الآدمي، "وعدم علمه" بالإغراء.

وأما من أغرى كَالمُكْرَه - بفتح الراء - فعلمه بأنه إن لم يقتل قتل، يغريه على الإقدام طلبًا لخلاص نفسه، وبالجملة تبين تساوي الإفضائين، أو غلبة إفضاء الفرع، "ولا يضر اختلاف أصلي التسبُّب"، وهو كون أحدهما شهادة، والآخر إكراهًا، أو إغراء؛ "فإنه" أي: فإن اختلاف أصل التسبُّب في الحقيقة "اختلاف فرع وأصل".

وحاصله: قياس التسبب بالشهادة عليه بالإغراء والإكراه، والأصل لا بُدّ من مخالفته للفرع، ثم لا تضرّ تلك المُخَالفة، "كما يقاس الإرث في طَلَاق المريض" مرض الموت زوجته طلاقًا بائنًا "على" حرمان "القاتل الإرث" بجامع الغرض الفاسد؛ مُعَاملة لكل منهما بنقيض مقصوده، فإنه قياس سالم عن الاعتراض باختلاف الضَّابط، مع أن الأصل عدم الإرث، والفرع الإرث، ولم يضرّ الاختلاف، نعم يضر هذا القياس أنه - كما قدم المصنّف - من الغريب المرسل الأصل، ولكن ردّه بذلك لا يدفع صحة التمثيل به هنا.

"ولا يفيد" المستدلّ أن يقول في الجواب: "إن التفاوت فيهما"؛ أي: بين ضابط الأصل والفرع "ملغى" مراعاة "لحفظ النّفس، كما ألغي التفاوت بين قطع الأَنْمُلَة" إذا سَرَتْ إلى النفس، "وقطع الرقبة" في وجوب القِصَاصِ لحفظ النفس، وإن كان قطع الرقبة أشدّ إفضاء إلى الموت من قطع الأَنْمُلَةِ، وإنما لم يفده ذلك؛ لأنَّهُ لا يلزم من إلغاء تفاوت القاتل إلغاء كل تفاوت، "فإنه لم يلزم من إلغاء" وصف "العالم" بدليل قتله بالجاهل "إلغاء الحر"؛ إذ لا يقتل الحر بالعبد، ولا إلغاء وصف الإسلام بدليل أنه لا يقتل مؤمن بكافر.

ص: 466

‌الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَصْلَحَةِ

كَقَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ: أَوْلَجَ فَرْجًا فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٍ شَرْعًا، فَيُحَدُّ كَالزَّانِي؛ فَيُقَالُ: حِكْمَةُ الْفَرْعِ الصِّيَانَةُ عَنْ رَذِيلَةِ اللِّوَاطِ، وَفِي الأَصْلِ دَفْعُ مَحْذُورِ اخْتِلَاطِ الأَنْسَابِ، فَقَدْ يَتَفَاوَتَانِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، وَحَاصِلُهُ مُعَارَضَةٌ.

وَجَوَاُبهُ كَجَوَابِهِ بِحَذْفِ خُصُوصِ الأَصْلِ.

‌"[الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ]: مُخَالَفَةُ حُكْمِ الْفَرْعِ لِحُكْمِ الأَصْلِ

؛ كَالْبَيْعِ عَلَى النِّكَاحِ وَعَكْسِهِ.

الشرح: الاعتراض "الثاني والعشرون: اخْتِلَافُ جنس المَصْلَحة"

(1)

مع اتحاد الضابط في الأصل والفرع، "كقول الشافعية" في اللَّائط:"أولج فَرْجًا في فرج مُشْتهى طبعًا محرم شرعًا، فيحد كالزاني".

"فيقال": الضَّابط وإن كان متحدًا، لكن الحِكْمَةَ مختلفة؛ إذ "حكمة الفرع الصيانة عن رذيلة اللِّوَاط.

وفي الأصل: دفع محذور اختلاط الأنساب" المفضي إلى ضياع الأولاد.

"فقد يتفاوتان في نَظَرِ الشرع"، فيناط الحكم بإحدى الحكمتين دون الأخرى، "وحاصله معارضة" في الأصل لإبداء خصوصية فيه، كأنه قال: بل العلّة ما ذكرت، مع كونه مؤديًا إلى اختلاط الأنساب.

"وجوابه كجوابه" في المُعَارضة، وذلك "بحذف خصوص الأَصْل" عن درجة الاعتبار بطريق من الطُّرق، فتكون العلّة القدر المشترك، أو يبين أن حكمة الفرع مثل حكمة الأصل أو أكثر، كما في مسألتنا، فإن الزنا وإن أدّى إلى ضياع المولود المؤدّي إلى انقطاع النَّسل، فاللِّوَاط يؤدّي إلى عدم الولادة بالكُلّية، وهو أفضى إلى انقطاع النسل من الضياع.

الشرح: الاعتراض "الثالث والعشرون: مُخَالفَةُ حكم الفَرْع لحكم الأصل"

(2)

، فلا يصح معه القياس؛ لأن من شرط القياس اتحاد الحكم، وهو عبارة عن تَحْصِيلِ مثل حكم

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 91 - 92 وشرح العضد 2/ 277.

(2)

ينظر: الإحكام 4/ 92، وشرح العضد 2/ 277 - 278.

ص: 467

وَجَوَابُهُ: بِبَيَان أَنَّ الاخْتِلَافَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي اخْتِلَافُهُ شَرْطٌ لَا فِي [الحُكْمِ وَبَيَانٍ].

[الرَّابِعُ والْعِشْرُونَ]: الْقَلْبُ:

قَلْبٌ لِتَصحِيحِ مَذْهَبِهِ وَقَلْبٌ لإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ صَرِيحًا، وَقَلْبٌ بِالاِلْتِزَامِ:

الأَوَّلُ: لُبْثٌ، فَلَا يَكُونُ قُرْبَةً بِنَفْسِهِ؛ كَالْوُقُوفِ بِـ"عَرَفَةَ"، فَيَفُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ؛ كالْوُقُوفِ بـ"عَرَفَةَ".

الثَّانِي: عُضْوُ وُضُوءٍ، فَلَا يُكْتَفَي فِيهِ بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ؛ كَغَيْرِهِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبُعِ.

الأصل في الفرع، ومعلوم أنّ ذلك لا يتحقّق بدون الاتحاد، وذلك "كالبيع" إذا قيس "على النكاح وعكسه" في صورة بجامع، فيقول المعترض: الحكم مختلف؛ فإن عدم صحّة البيع حرمة الانتفاع بالبَيْعِ، وفي النكاح حرمة المُبَاشرة، ونحو ذلك من اختلاف الأحكام.

"وجوابه: ببيان" اتحاد الحُكْمين نوعًا، أو جنسًا، و"أن الاختلاف" بين حكمي الأصل والفرع "راجع إلى المحلّ" محل الحكم "الذي اختلافه شرط"، فإن الفرع ما لم يكن مخالفًا للأصل، لا يصح القياس، "لا" أن الاختلاف بينهما واقع "في الحكم" حتَّى يضر، وفي مسألتنا قد وقع الاتفاق في البُطْلان، وهو شيء واحد، وهو عدم ترتُّب المقصود من العقد عليه، فلم يضر اختلاف المحلّ، كما قلنا.

الشرح: الاعتراض "الرابع والعشرون: القَلْب"

(1)

قلب الدَّليل عبارة عن دعوى أن ما ذكره المستدلّ عليه لا له، في تلك المسألة على ذلك الوجه، وهو ثلاثة أقسام:"قلب"

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 289، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 1032، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 93، ونهاية السول للإسنوي 4/ 210 ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 106، 129، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 130، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 217، والمنخول للغزالي 414، وحاشية البناني 2/ 311، والإبهاج لابن السبكي 3/ 127، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 137 وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 359، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 282 وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 623، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 162 وتقريب الوصول لابن جزي 142.

ص: 468

الثَّالِثُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بالْمُعَوَّضِ؛ كَالنِّكَاحِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ؛ لأِنَّ مَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ، قَالَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَإِذَا انْتَفَى اللَّازِم، انْتَفَى الْمَلْزُوم، وَالْحَقُّ أَنَّهُ نَوعُ مُعَارَضَةٍ اشْتَرَكَ فِيهِ الأَصْلُ وَالْجَامِعُ، فكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.

يذكره المعترض "لتصحيح مذهبه، وقَلْب لإبطال مذهب المستدلّ صريحًا، وقلب" لإبطاله "بالالتزام".

وإن شئت قلت: القلب قسمان:

الأول: لتصحيح مذهب المعترض.

والثاني: لإبطال مذهب المستدلّ، وهو ضربان: ضرب بالصَّراحة، وضرب بالالتزام.

"الأول": القلب لتصحيح مذهب المعترض، وهو ضربان:

أحدهما، وعلى ذكره اقتصر المصنف: ألّا يدل مع ذلك بالصّراحة على بطلان مذهب المستدل، كقول الحنفي: الاعتكاف: "لُبْث" في محلّ مخصوص، "فلا يكون قربة بنفسه، كالوقوف بـ"عرفة"، وغرضه التعرض لاشتراط الصوم فيه، ولكنه لم [يتمكن]

(1)

من التصريح باشتراطه؛ إذ لو صرح به لم يجد أصلًا، "فيقول الشافعي": لبث في محل مخصوص، "فلا يشترط فيه الصوم، كالوقوف بـ"عرفة".

وثانيها: أن يدل على الأمرين معًا، كقول الشافعي في بيع الفُضُولي: عَقْد في حق الغير بلا ولاية ولا اسْتِنَابَة، فلا يصح كما إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه، فيقول الخصم: عَقْد إلى آخره، وكان صحيحًا، كما إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه.

و"الثاني" كقوله في مَسْحِ الرأس: "عضو وضوء، فلا يكتفي فيه بأقلّ ما ينطلق" عليه اسم المسح، "كغيره" من أعضاء الوضوء، "فيقول الشَّافعي: فلا يتقدر بالرُّبع"، كغيره.

"الثالث": كقوله في بيع الغائب: "عقد مُعَاوضة، فيصح مع الجَهْلِ بالعوض كالنكاح، فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه خِيَار الرؤية" كالنكاح، فقد تعرض المعترض لإبطال مذهبه بالالتزام؛ لأنَّهُ أبطل لازم الصحة، وهو خيار الرؤية؛ "لأن من قال" في بيع

(1)

في أ، ت: يستمكن.

ص: 469

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الغائب "بالصحة، قال بخيار الرُّؤية"، فالخيار لازم للصّحة، "فإذا انتفى اللازم"، وهو خيار الرؤية "انتفى الملزوم"، وهو الصّحة، "والحَقّ" في القَلْب "أنه نوع مُعَارضة اشترك فيه الأَصْل والجامع، فكان أولى بالقَبُول" من سائر المُعَارضات.

قال علماؤنا: المُعَارضة قد تكون بعلّة أخرى، وهي ما عدا القَلْب، وقد تكون بعلّة المستدل نفسها، وهي القلب، وتسمى مُشَاركة في الدليل.

قال أبو علي الطبري: وهو من أَلْطَفِ ما يستعمله المناظر.

فإن قلت: قدم المصنف أن المعارضة المصطلح عليها المعارضة في الأصل بمعنى آخر، إما مستقل أو غير مستقل، وهذه معارضة بنفس ذلك المعنى.

قلت: تلك المعارضة المصطلح على إطلاق اسم المُعَارضة عليها، وهذه ضرب من مُطْلق الاعتراضات، ولعلّ المصنف أشار بقوله: نوع معارضة، ولم يقل: معارضة - إلى ذلك، وأيّده بقوله: اشترك فيه الأصل والجامع، فكان أولى بالقَبُول، يعني: من المعارضة المصطلح عليها.

واعلم أنه يخرج من كلام أئمّتنا خلاف في أنّ القلب هل يفسد العلة؟.

ويبين أنه لا يصح التعلّق بها لواحد منهما، أو هو تسليم؛ لأن الجامع دليلٌ، واختلاف في أنه دليلٌ للمستدلّ أو علته، والأول هو ظاهر قول من قال من أصحابنا: القلب [شاهد]

(1)

زور، كما يشهد عليك.

وقول ابن السمعاني: توجيه سؤال القَلْبِ أن يقال: إذا علق على العلّة ضد ما علقه المستدل من الحكم، فلا يكون أحد الحكمين أولى من الآخَر، ويبطل تعليقهما بهما.

والثاني: وهو ظاهر تسميته معارضة، فإن المعارضة لا تفسد [العلة]

(2)

، بل تمنع من التعلق بها إلى أن يثبت رُجْحَانها من خارج، وقد اختلف الَّذين قبلوا سؤال المعارضة في قسم من إبطال مذهب المستدلّ بالالتزام، يقال له:"قلب المُسَاواة"، وهو أن يكون في الأصل قسمان:

(1)

سقط في ت.

(2)

في أ، ت: بالعلة.

ص: 470

[الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ]: الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ، وَحَقِيقَتُهُ:

تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ.

أحدهما: مُنْتَفٍ في الفرع باتفاق الخصمين.

والآخر متنازع فيه بينهما، فإذا أراد أن يثبته في الفرع قياسًا على الأصل، فيقول المعترض: يجب التسوية بينهما في الفرع بالقياس على الأصل، ويلزم من وجوب التَّسوية في الفرع عدم ثبوته فيه، كقولهم في طلاق المُكْرَه: مكلّف مَالِكٌ للطلاق، فيقع طلاقه كالمختار، فيقول: فيستوى بين إقراره وإيقاعه كالمختار، ويلزم من هذا ألا يقع طلاقه؛ لأنَّهُ إذا ثبت المُسَاواة بين الإقرار والإيقاع، وكان الإقرار غير معتبر بالاتِّفَاق، كان الإيقاع - أيضًا - غير معتبر.

وكقولهم في نِيَّةِ الوضوء: طَهَارة بالماء، فلا تفتقر إلى النية، كإزالة النجاسة، فذهب الشيخ أبو إسحاق الشِّيرَازي والأكثر إلى قبوله أيضًا، وذهب القاضي أبو بكر وابن السَّمْعَاني وطائفة ممن قبل أصل القَلْب، إلى رَدّه؛ لأنَّهُ لا يمكن التصريح فيه بحكم العلّة، فإن الحاصل في الأصل نفي، وفي الفرع إثبات؛ ألا ترى المستدل يعتبر الوصفين في الأصل، [والمعترض]

(1)

لا يعتبرهما بمقتضى القلب؟

والأول هو المختار؛ فإن القياس على الأصل إنما هو من حيث عدم الاختلاف، وهو ثابت فيه، فلا يضر كونه في الأصل الصحة، وفي الفرع عدمها؛ إذ هذا الاختلاف غير مُنَافٍ لأصل الاستواء الذي جعل جامعًا.

الشرح: الاعتراض "الخامس والعشرون: القَوْل بالمُوْجب

(2)

.

(1)

في ت: والمعارض.

(2)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 5/ 297، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 973، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 97، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 106، 133، وغاية الوصول للشيخ للشيخ زكريا الأنصاري 131، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 219، والمنخول للغزالي 402، وحاشية البناني 2/ 311، والإبهاج لابن السبكي 3/ 131، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 14 وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 360، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 283، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 279، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 95، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 1070، وإرشاد الفحول للشوكاني 143.

ص: 471

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وحقيقته: تسليم الدليل مع بقاء النزاع"، وهو غير مختصّ بالقياس، وقد وقع في الكتاب العزيز في قوله تعالى {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8].

أي: صحيح ما يقولون: من أنّ الأعز يخرج الأذل، والنزاع باقٍ؛ فإن العزة للّه ولرسوله، فاللّه ورسوله يخرجانكم.

ومنه قول الشاعر: [الخفيف]

قلْتُ: ثَقَّلْتُ

(1)

إِذ أَتَيْتُ

(2)

مِرَارًا

قالَ: ثَقَّلْتَ كَاهِلِي بِالأَيَادِي

قُلْتُ: طَوَّلْت، قَالَ: بَلْ تَطَوَّلْـ

تَ، وَأَبْرَمْتُ، قَالَ: حَبْلَ وِدَادِي

(3)

والاستشهاد بقوله: "ثقلت" و"أبرمت" دون قوله: "طولت".

وقال الآخَر: [الوافر]

وَإِخْوَانٍ حَسِبْتُهُمُ دُرُوعًا

فَكَانُوهَا وَلَكِنْ لِلْأَعَادِي

وَخِلْتُهُمُ سِهَامًا صَائِبَاتٍ

فكَانُوهَا وَلَكِنْ فِي فُؤَادِي

وَقَالُوا: قَدْ صَفَتْ مِنَّا قُلُوبٌ

لَقَدْ صَدَقُوا وَلَكِنْ مِنْ وِدَادِي

(4)

(1)

في ت: نفلت.

(2)

في ت: ثبت.

(3)

البيتان لابن الحجاج أو لمحمد بن إبراهيم الأسدي، ينظر: معاهد التنصيص 2/ 58، والمرشدي على عقود الجمان 2/ 138، وشروح التلخيص 4/ 109.

فقوله ثقلت: وقع في كلام الغير، وهو بمعنى حملتك المؤنة، والمشقة الباطنية والظاهرية بإتياني مرات عديدة

والكاهل: ما بين الكتفين.

والأيادي: النعم.

والتطويل في البيت بمعنى: الإنعام.

(4)

ينظر: معاهد التنصيص 2/ 85، وشروح التلخيص 4/ 110.

المرشدي 2/ 139.

ص: 472

الأَوَّلُ: أَنْ يَسْتَنْتِجَهُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَحَلّ النِّزَاعِ، أَوْ مُلَازِمُهُ؛ مِثْلُ: قَتَلَ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَلَا يُنَافِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ؛ كَحَرْقِهِ، فَيُرَدُّ: بِأَنَّ عَدَمَ المُنَافَاةِ لَيْسَ مَحَلّ النِّزَاعِ، وَلَا يَقْتَضِيهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَسْتَنْتِجَهُ إِبْطَالُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَأْخَذُ الْخَصْمِ؛ مِثْلُ: التَّفَاوُتُ فِي الْوَسِيلَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ كالْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ، فَيُرَدُّ: إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِبْطَال مَانِعٍ انْتِفَاءُ الْمَوانِعِ، وَوُجُودُ الشَّرَائِطِ، وَالْمُقْتَضِي.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي مَذْهَبِهِ، وَأَكْثَرُ القَوْلِ بِالْمُوجِبِ كَذَلِكَ؛ لِخَفَاءِ المَأْخَذِ، بِخِلَافِ مَحَالِّ الْخِلَافِ.

وقول الآخَر: [الرمل]

غَالَطَتْنِي إِذْ كَسَتْ جِسْمِي الضَّنَا

كِسْوَةً أَغْرَتْ مِنَ اللَّحْمِ العِظَامْ

ثُمَّ قَالَتْ أَنْتَ عِنْدِي فِي الهَوَى

مِثْلُ عَيْني صَدَقَتْ لَكِنْ سِقامْ

(1)

"وهو" أقسام "ثلاثة":

الشرح: "الأول: أن يستنتجه" أي: يستنتج من الدَّليل "ما يتوهّم أنه محلّ النزاع، أو ملازمه"؛ أي: ملزوم محل النزاع ولم يكن كذلك، "مثل" أن يقول في المُثَقّل: "قتل بما يقتل غالبًا، فلا ينافي وجوب القِصَاص، [كحَرْقِهِ، فيرد]

(2)

القول بالموجب؛ "فإن عدم المُنَافاة" لوجوب القِصَاص "ليس محلّ النزاع"؛ لأن محلّ النزاع هو وجوب القتل، "ولا يقتضيه" أيضًا محل النزاع؛ إذ لا يلزم من عدم مُنَافاته للوجوب أن يجب.

الشرح: "الثاني: أنْ يستنتجه إبطال ما يتوهّم أنه مأخذ الخَصْم"، وهو يمنع كونه مأخذًا، فلا يلزم من إبطاله إبطال مذهبه، "مثل" أن يقول؛ في المُثَقَّل:"التفاوت في الوَسِيلَةِ لا يمنع وجوب القِصَاصِ، كالمتوسّل إليه، فيرد" القول بالموجب؛ "إذ لا يلزم من إبطال مانع" واحد "انتفاء" جميع "الموانع، ووجود" جميع "الشَّرَائط، والمقتضي"، والحكم إنما يثبت بارتفاع كل المَوَانع، ووجود كلّ الشرائط بعد قيام المُقْتضي.

(1)

البيتان للأرجاني كما ذكرهما المرشدي في شرحه على عقود الجمان ص 139.

(2)

سقط في أ.

ص: 473

الثَّالِثُ: أَنْ يَسْكُتَ عَن الصُّغْرَى، وَهِيَ غَيْرُ مَشْهُورَة؛ مِثْلُ: مَا ثَبَتَ قُرْبَةً، فَشَرْطُهُ النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ، وَيَسْكُتُ عَنْ:"وَالْوُضُوءُ قُرْبَةٌ"، فَيَرِدُ، وَلَوْ ذَكَرَهَا لَمْ يَرِدْ إَلَّا الْمَنْعُ.

وَقَوْلُهُمْ: "فِيهِ انْقِطَاعُ أَحَدِهِمَا" - بَعِيدٌ فِي الثَّالِثِ؛ لاِخْتِلَافِ الْمُرَادَيْنِ.

واختلف في أنّ المعترض إذا قال: ليس هذا مأخذي، هل يصدق؟

"والصَّحيح: أنه مصدق في مذهبه"؛ لأنَّهُ أعرف به.

وقيل: لا يصدق إِلَّا ببيان مأخذ آخر؛ إذ ربما كان ذلك مأخذه، ولكنه يعاند، "وأكثر القول بالموجب كذلك"؛ أي: كهذا القسم الذي يستنتج فيه إبطال ما يتوهّم أنه مأخذ الخَصْم، ولم يكن كذلك، وإنما كان أكثر "لِخَفَاء المأخذ"، وقلة العارفين به والمُطّلعين على أسراره، "بخلاف محال الخلاف"، فإنه مشهور، فكم من فقيهين يعرفان مذهب الشافعي وأبي حنيفة، ثم إذا سئلا عن مأخذهما لم يحيرا جوابًا، ووجدا حاملي فقه، وليس بفقيهين، وأكثر أبناء زماننا كذلك، فواهًا على الفقه، فإنه لم يبق من سَحَابه إلا اليسير من ظله، "وَاللَّهُ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ العُلَمَاءِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ أَهْلَهُ"

(1)

.

الشرح: "الثالث: أن يسكت" المستدلّ "عن الصغرى" صغرى القياس، ويذكر كُبْرَاه في حال كون الصغرى "غير مشهورة"، ويستعمل قياس الضمير، "مثل" أن يقول شافعي في وجوب نية الوضوء:"ما ثبت قربة فشرطه النية كالصلاة ويسكت عن" قوله: "والوضوء قربة" مثل القول بالموجب، أو يقول: هذا مسلم، ومن أين يلزم اشتراط النية في الوضوء؟ وإنما "يرد" هذا إذا سكت عن الصّغرى، "ولو ذكرها لم يرد إلا المنع" من الصغرى، بأن يقول: لا نسلم أنّ الوضوء قربة، ويكون - حينئذٍ - منعًا للصغرى، لا قولًا بالموجب، إنما شرطنا في الصُّغْرَى أن تكون غير مشهورة؛ لأنها لو كانت مشهورة، كانت بمنزلة المذكورة، فتمنع، أو كانت متفقًا عليها، فلا يتأتّى المنع أصلًا، وإن صرح بذكرها.

وأما الجدليون "وقولهم": إن القول بالموجب "فيه انقطاع أحدهما"؛ أي: أحد

(1)

أخرجه البخاري (1/ 234) كتاب العلم باب كيف يقبض العلم: حديث (100)، ومسلم (4/ 2058) كتاب العلم: باب رفع العلم وقبضه

حديث (13/ 2673). من حديث عبد الله بن عمرو.

ص: 474

وَجَوَابُ الأَوَّلِ: بِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ، أَوْ مُسْتَلْزَمٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، فَيُقَالُ بِالْمُوجِبِ؛ لأَنَّهُ يَجِبُ، فَيَقُولُ: المَعْنِيُّ بِـ"لَا يَجُوزُ": تَحْرِيمُه، ويَلْزَمُ نَفْيُ الْوُجُوبِ.

وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَأْخَذُ.

وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الْحَذْفَ سَائِغٌ.

المُنَاظرين؛ لأن المستدلّ إن أثبت ما ادَّعَاه انقطع المعترض وبالعكس، غير بعيدٍ في القسمين الأولين، بل صحيح - كما عرفت - لكنه "بعيد في الثالث؛ لاختلاف المرادين"؛ إذ مراد المستدل: أن الصغرى وإن كانت محذوفةً لفظًا، فهي مذكورة تقديرًا، والمجموع يفيد المطلوب، ومراد المعترض: أن المذكور هو الكبرى وحدها، وهو لا يفيد المطلوب.

وقال بعض الشَّارحين: إنما اختلف المراد؛ لأن المستدلّ أراد بكون الوضوء قربة أنه وسيلة إلى الصلاة، والمعترض أراد: ليس قُرْبَةً بذاته، فلم يتوارد النَّفْي والإثبات على محلّ واحد، ورجع النزاع لفظيًّا، فلم يلزم انقطاع واحد منهما.

الشرح: "وجواب" القسم "الأول: بأنه محلّ النزاع، أو مستلزم" لمحلّ النزاع، "كما لو قال" شافعي:"لا يجوز قَتْلُ المسلم بالذّمّي" قياسًا على الحَرْبي، "فيقال بالموجب؛ لأنَّهُ يجب" قتله به.

وقولهم: لا يجوز، نفي للإباحة التي معناها اسْتِوَاء الطرفين، ونفيها ليس نفيًا للوجوب، ولا مستلزمًا له، "فيقول" الشَّافعي:"المعنى بـ"لا يجوز": تحريمه، ويلزم" من ثبوت التحريم "نفي الوجوب"؛ لاسْتِحَالَةِ الجمع بين الوجوب والتحريم.

"وعن الثَّاني": بأن يبين في المستنتج "أنه المأخذ" بالنَّقل عن أئمة المذهب. "وعن الثالث: بأن الحذف" لإحدى المقدمتين "سائغ" عند العلم بالمَحْذُوف، والمحذوف مراد ومعلوم، فلا يضرّ حذفه، والدَّليل هو المجموع، لا المذكور وَحْده، وكتب الفقه مَشْحُونة بذلك، بل لا ترى قياسًا مصرحًا فيه بالمقدمتين والأصل إلا على النُّدْرة، وما ذلك من الفُقَهَاء الذين هم أَسَاطِينُ الأقيسة إلا اختصارًا، وتركًا لما هو مشهور أو معلوم، بحيث يصير ذكره تطويلًا، وتضييعًا للزمان بلا فائدة، وقد نجزت الاعتراضات.

ولقد أكثر أئمتنا فيها، واستكثروا من أمْثلتها، وشَعّبوا أقسامها حيث كان الزَّمَان مشحونًا بالعلماء، وكانت المُنَاظرات تبلغ بأهلها عَنَان السماء، ومن نظر كتب إمام الحرمين

ص: 475

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأبي إسحاق الشِّيرازي وأصحابهما، وأصحاب أصحابهما قضي العَجَب من ذلك، ورأى كيف كانت الأئمة، على أن أبا المُظَفّر بن السمعاني قال: لا يجوز للفقيه أن يعتمد على جميع هذه الأسْئِلَةِ، ولا يعتقد صحَّتها، فإنها ظواهر أقنع بها من يقنع بظاهر من الكلام، وقل وقوعه على حقائق المَعَاني في المسائل.

وأنا أقول: أئمتنا لا ينكرون ذلك، وإنما وضعوها، واستكثروا منها لينتحل الصّحيح من الفاسد، فيلوح لراكب بِحَار النظر تجنبها

(1)

وَتَنْفتِحُ الأبواب لذي الفِطْنَةِ فيَسْلخها، ويظهر من حقائق الأمور أَبْلَجُها، وينهض في جَحَافل الأقيسة على أحسن الطرق حججها.

والمصنف وإن ذكر خمسة وعشرين اعتراضًا، فأنواعها عند التحقيق سَبْعة، وذلك أن المستدل يلزمه تفهيم ما يقوله، وإذا اندفع في القياس، لا بد أن يتمكن منه، وإلا فلو منعه مانع عن القياس كان قياسه مردودًا؛ إذ لا قياس إلا حيث يثبت، ثم إذا تمكن لم يكن له [بُدّ]

(2)

من تثبيت مقدّماته؛ لتستتب له، وهي: حكم الأصل، وعلته، وثبوت العلّة في الفرع، ثم لا بُد من أن يكون ذلك على وَجْهٍ مستلزم لثبوت حكم الفرع، وإلا ضاع غرضه، وأن يكون ذلك الحكم هو مطلوبه الذي ادَّعَاه أولًا، وساق الدَّليل إليه جهده سبعة مقدمات يتوجه على كل مقام منها نوع من الاعتراض.

النوع الأول، وهو ما يتعلق بالإفهام: هو الاستفسار، وهو أجدرها بالتقديم؛ إذ الكلام فرع التصور.

الثاني: أن يتمكّن من الاحتجاج بالقياس في منعه من القياس في تلك المسألة، فإن منع تمكينه من القياس فيها مطلقًا، فهو فساد الاعتبار، وإن منعه من القياس المخصوص، فهو فساد الوضع.

الثالث: ما يورد على المقدّمة الأولى من القياس، وهو دَعْوَى حكم الأصل، ولا مجال للمعارضة فيه؛ لأنه غضب لنصب الاستدلال، فتعين المنع، وذلك إما ابتداء، أو بعد تقسيم، ويطلق على الأول: منع حكم الأصل، وعلى الثاني: التقسيم.

(1)

في ت: تنحيها.

(2)

سقط في ت.

ص: 476

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرابع: ما يرد على المقدمة الثانية، وهي قوله: والحكم في الأصل معلل بكذا، فالقدح إما في وجوده، وإما في عكسه.

والقدح في العلية إما أن يكون نفيًا للعلة صريحًا، أو نفي لازمها، والنفي الصريح إما منع مجرد أو معارضة، وبيان عدم التأثير، ونفي اللازم إما أن يختص بالمناسبة أو لا.

فالمختص بحسب شروط المناسب، وهي: الإفضاء إلى المصلحة، وعدم المُعَارض لها، والظُّهور والانضباط، فهذه أربعة، وغير المختصّ حيث شرط العلة: الاطِّرَاد والانعكاس، أما نفي الطرد، فَضَرْبَان؛ لأنه إما بعد إلغاء قيد، وهو الكسر، أولا، وهو النقض، وأما نفي العكس، فضرب واحد، فهذه عشرة: الأول: منع وجود العلة.

الثاني: منع كونها علة.

الثالث: بيان عدم تأثيرها.

الرابع: عدم الإفضاء.

الخامس: وجود المُعَارض.

السَّادس: عدم الظهور.

السَّابع: عدم الانضباط.

الثامن: النقض.

التاسع: الكسر.

العاشر: عدم العكس.

النوع الخامس: ما يرد باعتبار المقدمة الثالثة، وهي دعوى وجود العلة في الفرع مساوية لوجودها في الأصل، وذلك إما منع، فتقول: لا أسلم وجودها في الفرع، أو المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض الحُكْم، أو يدفع المُسَاواة باعتبار ضَمِيمَة شرط في الأصل، أو مانع في الفرع، وهو الفرق، أو باعتبار نفي العلة لاختلاف في الضابط، أو في جنس المصلحة، فهذه خمسة، وسبق خمسة عشر.

السادس: ما يرد على المقدمة الرَّابعة، وهي قوله: فيوجد الحُكْم في الفرع، وفي هذا المقام لا سبيل إلى المنع؛ إذ قد قام الدَّليل، بل يدعي المُخَالفة ويبينها، إما مقتصرًا عليها، وهو ما عبر عنه بقوله: مخالفة حكم الفرع، أو مدعيًا أن دليل المستدل يقتضي ذلك، وهو القلب.

ص: 477

وَالاِعْتِرَاضَاتُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَتَعَدَّدُ اتِّفَاقًا، وَمِنْ أَجْنَاسٍ؛ كَالْمَنْعِ، وَالْمُطَالَبَةِ، وَالنَّقْضِ، وَالْمُعَارَضَةِ مَنَعَ أَهْلُ "سَمَرْقَنْدَ" التَّعَدُدَ؛ لِلْخَبْطِ، وَالمُتَرَتِّبَةُ مَنَعَ الأَكْثَرُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْلِيمِ لِلْمُتَقَدِّمِ فَيَتَعيَّنُ الآخَرُ.

وَالْمُخْتارُ: جَوَازُهُ؛ لأِنَّ التَّسْلِيمَ تَقْدِيرِيٌّ فَلْتَتَرَتَّبْ، وَإلَّا كَانَ مَنْعًا بَعْدَ تَسْلِيم، فَيُقَدَّمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأصْلِ، ثُمَّ الْعِلَّةُ؛ لاِسْتِنْبَاطِهَا مِنْه، ثُمَّ الْفَرْعُ لبِنَائِهِ عَلَيْهِمَا، وَقُدِّمَ النَّقْضُ عَلَى مُعَارَضَةِ الأصْلِ؛ لأِنَّهُ يُورَدُ لإِبْطَالِ الْعِلَّةِ، وَالْمُعَارَضَةُ لإِبطالِ اسْتِقْلالِهَا.

السابع: ما يرد على قول المستدل بعد إثبات الحكم في الفرع، وذلك هو المطلوب، وهو المنع، فنقول: لا نسلم، بل النزاع باقٍ، وهو القول بالموجب.

وأما التركيب فليس سؤالًا برأسه، فإنه إما مركّب الأصل، وذلك راجع إلى منع حكم الأصل، أو منع العلية، أو مركب الوصف، وهو راجعٌ إلى منع الحكم، أو منع وجود العلّة في الفرع، وأما التعدية فمن المعارضة، كما تقدم.

وقد ختم المصنف الاعتراضات بفصل في ترتيب الأسئلة، فقال:

الشرح: إما أن تكون "من جنس واحد" كالنُّقُوض، والمُعَارضات في الأصل والفرع، أو من أجناس مختلفة، كالمَنْعِ والمطالبة، والنقض والمُعَارضة، فإن كانت من جنس واحد، فإنها "تعدد" على معنى: أنه يجوز إيرادها معًا "اتفاقًا"، ولا يلزم منه تناقض، ولا انتقال من سُؤَال إلى آخر "و "إن كانت "من أجناس، كالمَنْعِ والمطالبة، والمنع والمُعَارضة" كذا بخط المصنّف، المنع مرتين: أي: المنع مع المُعَارضة، فإن كانت غير مرتبة، فقد "منع أهل "سمرقند" المتعدد"

(1)

فيها؛ "للخَبْط" اللازم منها والانْتِشَار، وأوجبوا الاقتصار على سؤال واحدٍ حرصًا على الضبط.

قالوا: ولا يرد علينا إذا كانت من جنس، فإنا جوزنا تعددها وإن أدَّت

(2)

إلى النشر؛ لأن النَّشر في المختلفة أكثر منه في المُتَّفقة، والجمهور جَوّزوا الجمع بينهما، وهو الحق.

وإن كانت مرتبة طبعًا، مثل حكم الأصل ومنع العلية، فإن تعليل الحكم بعد ثبوته طبعًا، فقد أشار إليه بقوله:"والمرتبة منع الأكثر" من جمعها "لما فيه من التَّسْليم للمتقدم"؛

(1)

في ت: التعدد.

(2)

في ت: أردت.

ص: 478

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لأنك تقول: لا نسلم ثبوت الحكم في الأصل، ولئن سلّمناه، فلا نسلم أن العلّة فيه ما ذكرت، ففي الأخير تسليم للأول، "فيتعين الأخير".

"والمختار: جوازه؛ لأن التسليم" ليس بتحقيقي، وإنما هو "تقديري"، وإذا كان كذلك، "فلتترتب" الأسئلة، "وإلا لَكَان" إيرادها بلا ترتيب "منعًا

(1)

بعد تسليم"، فإنك لو قلت: لا نسلم أن الأصل معلل بكذا، فقد سلمت ضمنًا ثبوت الحكم، فكيف تمنعه بعد ذلك؟

ولقائل أن يقول: إن كان التسليم تقديريًّا، فلا يضر، كما ذكرتم، ولم لا يرقي المستدل فيقول: لا أسلم أن الأصل معلل بكذا، بل لا أسلم ثبوت الحكم فيه كما يقول: لا نسلم الحكم، وإن سلمته، فلا أسلم العلّة، فالأظهر عندنا تجويز ذلك، ولكنا نُفَرِّعُ على رأي صاحب الكتاب، فنقول: وإذا ثبت إيرادها مترتبة، "فيقدم ما يتعلق بالأصل، ثم العلّة؛ لاستنباطها منه، ثم الفرع؛ لبنائه عليهما، وقدّم النقض على معارضة الأصل؛ لأنه يورد لإبطال العلة، والمعارضة" إنما تورد "لإبطال استقلالها"، فالترتيب أن يقول: ليس بعلّة لعدم الاطِّرَاد، وإن سلم، فليس بمستقل.

وبالله التوفيق

(1)

في ت: معا.

ص: 479

‌الاِسْتِدْلالُ

وَالاِسْتِدْلالُ يُطْلَقُ عَلَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ وَيُطْلَقُ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ؛ فَقِيلَ: مَا لَيْسَ بِنَصٍّ، وَلا إِجْمَاعٍ، وَلا قِيَاسٍ، وَقِيلَ: وَلا قِيَاسَ عِلَّةٍ؛ فَيَدْخُلُ نَفْيُ الْفَارِقِ وَالتَّلازُمُ.

الشرح: "والاستدلال": اسْتِفْعَالٌ من الدليل

(1)

، وَاسْتَفْعَلَ في لغة العرب ترد للطَّلب وللتحرك، وللإيجاد، ولإلغاء الشَّيْء، بِمَعْنَى ما صيغ منه، أو لِعَدِّه كذلك، ولمطاوعة "افْعَلْ"، ولموافقته وموافقة تَفَعَّل وافْتَعَل، والمجرد، والإغناء عنه وعن فعل.

(1)

لما كان الاستدلال من جملة الطرق المفيدة للأحكام ذكره بعد الفراغ من الأدلة الأربعة.

والاستدلال في اللغة: طلب الدليل، وفي الاصطلاح يطلق على معنى عام، وهو ذكر الدليل نصًّا كان أو إجماعًا أو قياسًا أو غيره. ويطلق على معنى خاص هو المقصود هاهنا، فقيل في تعريفه: هو دليل لا يكون نصًّا ولا إجماعًا ولا قياسًا، وقيل: هو دليل لا يكون نصًّا ولا إجماعًا ولا قياس علة، فيدخل في الاستدلال بالمعنى الثاني نفي الفارق، وهو القياس في معنى الأصل، والتلازم، أي قياس الدلالة؛ لأن قياس الدلالة الاستدلال من وجود أحد المتلازمين على وجود الآخر، واختلفوا في نحو: وجد السبب فوجد المسبب، أو وجد المانع فينتفي الحكم، أو فقد الشرط لينتفي الحكم، فقل: ليس بدليل بل هو دعوى دليل؛ لأن قولنا: وجد السبب معناه وجد الدليل، وهو دعوى وجود الدليل، وقيل: دليل لأن الدليل ما يلزم منه الحكم قطعًا أو ظنًّا، وهذا كذلك، وعلى تقدير كونه دليلًا اختلفوا فقيل: إنه استدلال لدخوله في تعريف الاستدلال؛ لأنه ليس بنص ولا إجماع ولا قياس، وقيل: إن أثبت السبب أو المانع أو فقد الشرط يعني الثلاثة، أعني النص والإجماع والقياس فاستدلال، وإن أثبت بأحدها لا يكون استدلالًا؛ بناء على أنه لو أثبت بأحدها كان الحكم اللازم ثابتًا بالنص أو =

ص: 480

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مثال الأول: اسْتَغْفَرَ. أي: طلب المغفرة.

والثاني: استحْجَر الطِّين أي: صار حجرا.

ومثال الإيجاد: استعبد عبدًا، استأجر أجيرًا، أي. اتَّخذوا إلغاء الشَّيء بمعنى ما صيغ منه.

مثاله: اسْتَصْغَرْتُه، أي: وجدتُّه كذلك.

وعَبَّرَ "ابن عصفور" عن هذا بـ "الإصابة"، وأشلاه فاستشلى، وأحكمه فاستحكم، وموافقه "افْعَل" استحْصَدَ الزرع واحصد، ومطاوعة "افْعَلْ" نحو: كأنه فاستكان، وكذلك تقول فيما بعده صغيرًا وكبيرًا، وهو بخلاف ذلك، واستيقن المرء وأيقن، وموافقه "تَفَعَّلَ" اسْتَكْبَر واسْتَعاذ، أي تكبَّر وتعوَّذ [وموافقه]

(1)

"افْتَعَلَ" استعْصَم واعْتَصَم، واستعْذر واعْتَذر، وموافقه المُجَرَّد استغنى وغنى، والإغناء عن التجرد نحو: استأثر واستند، وَالإغنَاء عن فعل: استرجع إذا قال: "إِنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".

و"اسْتَعَان" إذا حلق عَانتَهُ. إذا عرفت هذا، فالاستدلال في الاصْطِلاحِ مُشْتَركٌ، فإنَّه يطلق على ذكر الدَّليل سواء أكان نصًّا أم إجْمَاعًا أم غيرهما، ويُطْلق على نوع خاصٍّ من أنواع الأدلَّة، وهو المقصود بيانه هنا، وله عُقِدَ الباب.

واعْلَمْ أن علماء الأُمَّةِ أجمعوا على أنَّه ثَمَّ دليل شرعي غير ما تقدَّم، واخْتَلَفُوا في تَشخِيصِهِ.

وقال قومٌ: هو الاسْتِصْحَابُ.

وقال قوم: هو الاستِحْسَان.

= الإجماع أو القياس، وهو باطل، فإن النص أو الإجماع أو القياس دليل إحدى مقدمتي الاستدلال لا نفسه. ينظر: الأصفهاني في بيان المختصر، وينظر: البرهان 1113، 1135، والإحكام للآمدي 3/ 104، وشرح العضد 2/ 280، وجمع الجوامع 2/ 342، وشرح الكوكب المنير (588)، والتحرير (520)، والتيسير 4/ 172، وفواتح الرحموت 2/ 361، وإرشاد الفحول 236.

(1)

سقط في ت.

ص: 481

وَأَمَّا نَحْوُ: وُجِدَ السَّبَبُ أَوِ الْمَانِع، أَوْ: فُقِدَ الشَّرْط، فَقِيلَ: دَعْوَى دَلِيلٍ، وَقِيلَ: دَلِيلٌ، وَعَلَى أنَّهُ دَلِيلٌ قِيلَ: اسْتِدْلالٌ وَقِيلَ: إِنْ أُثْبِتَ بِغَيْرِ الثَّلَاثَةِ.

وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ ثَلاثَةٌ: تَلازَمٌ بَيْنَ حُكْمَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ عِلَّةٍ، وَاسْتِصْحَابٌ، وَشَرْع مَنْ قَبْلَنَا.

وقال قوم: هو المصالح الْمُرْسَلَة، ونحو ذلك من عمل القول والتَّلازم ونحوهما، وقد علمت توارد "اسْتَفْعَلَ" في اللُّغَة. وعندي أن المَقْصُود منها في مصطلح الأُصُوليِّين الاتِّخَاذ، والمعنى أن هذا باب ما اتَّخَذُوهُ دليلًا، والسِّرُّ في جعل هذا الباب مُتَّخَذًا دون الكِتَاب والسُّنَّةِ والإجماع والقياس؛ لأنَّ تلك الأدِلَّة قام القَاطِعُ عليها، ولم يتنازع المعتبرون في شَيْءٍ منها، وكَأَنَّ قيامها لم ينشأ عن صنِيعِهِم واجتهادهم، بل أَمْرٌ ظاهِرٌ.

وأَمَّا ما عُقِدَ له هذا الباب، فهو شيء قاله كلُّ إِمَامٍ بِمُقْتَضَى تَأْدِيَةِ اجتهاده، فكأنَّهُ اتَّخَذَهُ دليلًا، كما تَقُول: الشَّافِعِيُّ يستدلُّ بالاستصْحَاب، ومَالِكُ بالمَصَالِح الْمُرْسَلَةِ، وأبُو حَنِيفَةَ بالاستحسان، أي: يَتَّخِذُ من كلامهم ذلك دليلًا، كما تقول: يُحْتَجُّ بِكَذا، وهذا معنىً مليحٌ في سبب تَسْمِيته بـ "الاستدلال"، واخْتُلِفَ في تعريفه، فَقِيلَ: ما ليس بنصٍّ ولا إجماع ولا قياس، وقيل: ما ليس بنصٍّ ولا إجماع ولا قياس عِلَّةٍ، فيدخل تحت الاستدلال حِينَئِذٍ نَفْيُ الْفَارِق، وهو الَّذِي سمَّاه:"القياس في معنى الأصل".

والتلازم أي: قياس التلازم، وهو إثبات أحَدِ موجِبي الْعِلَّةِ بالآخَرِ لتلازمهما، وهو الذي سمَّاهُ "قياس الأدِلَّةِ"، فإذن التعريف الأوَّلُ أخَصّ، وقال: هذا إنما عرفناه بسلب غيره من الأَدِلَّةِ عنه دون العِلَّتَيْنِ؛ لِتقَدُّمِ مَعْرِفَةِ تلك الأدِلَّةِ، فيكون ذلك تعريفًا لِلْأَخْفَى بِالْأعْرَفِ، بخلاف الْعَكْسِ، فإنَّه لم يتقدم للاستدلال ذكر، فيكون تَعْرِيفًا بالمجهول.

الشرح: "وأمَّا نَحْوُ" فأكثر من قول الفقهاء: "وجد السَّبَبُ"، فيُوجَدُ الحُكْمُ "أو المَانِعُ" فَيَنْتَفِي، "أو فُقِد الشَّرط" فينتفي أيضًا، "فقيل": ليس بدليلٍ، وإنما هو "دَعْوى دليل"، وهو بمثابة قولك: وُجِدَ دليل الحكم فوجد، وهذه دَعْوى لا تُسْمَعُ ما لم يعين الدَّليل المُدَّعَى أَنَّه موجود، فينبغي أن يُعَيّنَ الدَّليل المستلزم للحكم، وهو السَّبب الخاصّ، أو وجود المانع، أو انتفاء الشَّرط الخاصين، "وقيل": بل هو "دليل"؛ لأنَّ الدَّليل ما يلزم منه الحكم قطعًا أو ظنًّا، وهو كذلك، "وعلى" تقدير "أنَّه دليل قيل": إنه "استدلال"؛ لأنه ليس بنصٍّ ولا إجماع ولا قياس.

ص: 482

الأوَّلُ: تَلازُمٌ بَيْنَ ثُبُوتَيْنِ أَوْ نَفْيَيْنِ، أَوْ ثُبُوتٍ وَنَفْي، أَوْ نَفْي وَثُبُوتٍ، وَالْمُتَلازِمَانِ: إنْ كَانَا طَرْدًا وَعَكْسًا؛ كَالْجِسْمِ وَالتَّألِيفِ، جَرَى فِيهِمَا الأَوَّلانِ طَرْدًا وَعَكْسًا.

"وقيل: إن أثبت" السَّبب أو المانع أو الشَّرط "بغير الثَّلاثة" التي هي النصُّ والإجْمَاعُ والقياس، فهو استدلال، وإلَّا فلا، "والمُخْتَار" عند المُصَنِّف:"أنَّه ثلاثهٌ: تلازم بين حُكْمَيْنِ من غير تَعْيِينِ عِلَّةٍ"، وإلَّا لكان قياسًا أو "استصحاب، وشرع من قَبْلَنَا"، وزادَ فَرِيقٌ: الاستحسان، وفريق: المصالح المُرْسَلَةِ، ونقص قَوْمٌ: الاسْتِصْحَابَ، وقوم: شَرْع من قَبْلَنَا، عَلَى ما يأتي ذلك كلُّه إن شاء الله تعالى.

ولقائل أن يقول: قولكم: المختار: أنَّهُ ثلاثَةٌ

إلى آخِرِهِ - يقتضي أن الاستدلال موضوع عندكم بإزاء الثَّلاثة، وهذا لم يقل به أحد، بل المتَّفق عليه أنَّهُ موضوع في مصطلح الأصوليِّين، بإزاء دليل غير الثَّلاثة اختلفوا بعد اتِّفاقهم على أن ذلك الدَّليل موضوعه في تشخيصه، كما عرَّفناك حسب اختلافهم في الاحتجاج بما يحتجُّون، فمن قال كالمصنِّف: إنما هو التَّلازم، والاستصحاب، وشرع السَّابق، لا يقول: ذلك موضوع الاستدلال، بل ذلك مشخَّص موضوع الاستدلال، وموضوع الاستدلال إنَّما هو القدر المشترك، ففي الحقيقة هو لفظ موضوع للأعمِّ استعمل في الأخصِّ، ولا يقدر المصنِّف أن يذهب إلى أن الأُصوليِّين وضعوا القطع والاستدلال لما رآه هو حجَّةً دون ما رآه أبُو حَنِيفَة، ولا الحنفيُّ إلى أن الاستدلال ما رآه هو حُجَّةً دون ما رآه الشَّافِعِيّ، بل الأمر كما بَيَّنَّاهُ.

الشرح: الأوَّلُ: قياس التَّلازم، وهو إِمَّا "تلازم بين ثُبُوتَيْنِ أو نَفْيَيْنِ، أو ثبوتٍ ونفي، أو نفي وثُبُوتٍ"، كما يقول في المسلم يَجِدُ الميتة: إن كان مضطرّا لم يأكل، إن كان مضطرّا لَمْ يُحَرَّمْ، إن لم يكن مضطرًّا حرِّم، "والمتلازمان إن كانا" متلازمين "طردًا وعكسًا" أي: من الطَّرفين "فالجسم التَّأليف جرى فيهما الأوَّلان"، وهما التَّلازم بين ثبوتَين، وبين نفيين "طردًا وعكسًا"، بمعنى أن وجود كلٍّ منهما يستلزم وجود الآخر، ونفيه يستلزم نفي الآخر، كُلُّ ما كان جسمًا كان مؤلَّفًا، وكُلُّ ما كان مؤلَّفًا كان جسمًا، وكُلُّ ما لم يكن مؤلَّفًا لم يكن جسمًا، وَكُلُّ ما لم يكن جسمًا لم يكن مؤلَّفًا.

ص: 483

وَإنْ كَانَا طَرْدًا لا عَكْسًا؛ كالْجِسْمِ وَالْحُدُوثِ، جَرَى فِيهِمَا الأَوَّلُ طَرْدًا، وَالثَّانِي عَكْسًا.

وَالْمُتَنَافِيَانِ إِنْ كَانَا طَرْدًا وَعَكْسًا؛ كَالْحُدُوثِ وَوُجُوبِ الْبَقَاء، جَرَى فِيهِمَا الأخِيرَانِ طَرْدًا وَعَكْسًا: فَإِنْ تَنَافَيا إِثْبَاتًا؛ كَالتَّأْلِيفِ وَالْقِدَمِ، جَرَى فِيهِمَا الثَّالِثُ طَرْدًا وَعَكْسًا: فَإِنْ تَنَافَيَا نَفْيًا؛ كَالأَسَاسِ وَالْخَلَلِ، جَرَى فِيهِمَا الرَّابعُ طَرْدًا وَعَكْسًا.

الشرح: و "وإن كانا" مُتلازمين "طَرْدًا" كالجسم والحُدُوثِ"، فإنَّ الجسم مستلزم للحدوث من غير عكس "جرى فيهما الأوَّلُ": أعني التَّلازم الثبوتي "طردًا"؛ لأنَّ كلَّ جسم محدث لا عكسًا؛ إذ ليس كلُّ ما ليس بجسم ليس محدثًا. "والثَّاني": أعني التَّلازم السَّلبي طردًا؛ فإنَّ عدم الحدوث مستلزم لعدم الجسم لا طردًا؛ فإنَّ الحدوث ليس بمستلزم للجسم. "والمتنافيان إن كانا" متنافيين "طردًا وعكسًا" أي: وجودًا وعدمًا، وهي المنفصلة الحقيقيَّة فينافى وجود كلٍّ منهما وجود الآخر، وعدمُهُ عَدَمَه، "كالحدوث ووجوب البقاء"، إذ بينهما منافاةٌ وجودًا وعدمًا "جرى فيهما الآخران"، أعني التَّلازم بين ثبوتٍ ونفي، وعكسه "طردًا"؛ فإنَّ كل محدثٍ ليس بواجبٍ، والواجبُ ليس بمحدثٍ: "وعكسًا"؛ فإنَّ ما ليس بمحدثٍ واجب، وما ليس بواجبٍ محدث، "فإن تنافيا إثباتًا" فقط، أي: لم يجتمعا على الصِّدق مع جواز كذبهما "كالتَّأليف [والقدم]

(1)

"، إذ لا يجتمعان، فلا يوجد شيء هو مؤلَّفٌ وقديمٌ، وقد يرتفعان كالجزء الَّذي لا يتجزَّأُ "جرى فيهما" "الثَّالث، وهو استلزام الثُّبوت للنَّص "طردًا وعكسًا"، فإنَّ كلَّ مؤلَّف ليس بقديم، والقديم ليس بمؤلَّفٍ، فإن تنافيا نفيًا فقط أي: لم يجتمعا على الكذب مع جواز صدقهما كالأساس والخلل، فإنَّهما لا يرتفعان، فلا يوجد ما ليس له أساس ولا يختل، وقد يجتمعان في كل ذي أساس يختلُّ بوجه آخر جرى فيهما الرابع: وهو استلزام النفى للثُّبوت طردًا وعكسًا، فيصدق كلُّ ما لم يكن له أساس، فهو مختلٌ، وكل ما لم يكن مختلًّا، فله أساس، فهذه أقسام التَّلازم بحسب موادِّها، فلنذكر أمثلتها في:

(1)

في ت: العدم.

ص: 484

الأوَّلُ: فِي الأَحْكَامِ: مَنْ صَحَّ طَلاقُه، صحَّ ظِهَارُه، وَيَثْبُتُ بِالطَّرْدِ، وَيَقْوَى بِالْعَكْسِ، وَيُقَرَّرُ بِثُبُوتِ أَحَدِ الأَثَرَيْنِ؛ فَيَلْزَمُ الآخَرُ؛ لِلزُومِ الْمُؤَثِّرِ وَبثُبُوتِ الْمُؤَثِّرِ، وَلا يُعَيَّنُ الْمُؤَثَّر، فَيَكُونُ انْتِقَالًا إِلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ.

الثَّاني: لَوْ صحَّ الْوُضُوءُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، لَصَحَّ التَّيَمُّم، وَيَثْبُتُ بالطَّرْدِ كَمَا تَقَدَّيَم، وَيُقَرَّرُ بِانْتِفَاءِ أَحَدِ الأَثَرَينِ، فَيَنْتَفِي الآخَرُ؛ لِلُزُومِ انْتِفَاءِ الْمُؤَثَّرِ وَبِانْتِفَاءِ الْمُؤَثرِ.

الشرح: الأحكام "الأوَّلُ": وهو التَّلازم بين الثُّبوتين "في الأحكام".

مثاله: "من صَحَّ طلاقه صحَّ ظهاره، ويثبت" هذا التَّلازم "بالطَّرد"، وهو أنَّا وجدنا كل من صحَّ طلاقه صحَّ ظهاره، "ويقوى بالعكس"، وهو أنَّا وجدنا كل من لا يصحُّ طلاقه لا يصحُّ ظهاره، وحاصله التَّمسُّك بالدَّوران، وإنما قلنا: يقوى بالعكس، ولم نقل:"يثبت" بناءً على ما قدَّمناه من أن العدم ليس جزءًا، ولو كان جزءًا استوى العكس والطرد.

فإن قلت: قد تقَّدم أن المصنِّف لا يرى أن الدَّوران حجَّةٌ، فكيف يحتجُّ هنا بمجرَّد الطرد، وهو أضعف من الدَّوران؟.

قلت: الَّذي تقدَّم أنَّه لا يراه حجَّةً قياسية، والذي أثبته هنا أنه يحصل به الملازمة، فالحاصل أن الدَّوران عنده لا يفيد ظنَّ العلِّيَّة، وإنما يفيد الاقتران الذي به الملازمة، وينشأ عنها الحكم لا العلة، وقد "تقرَّر" بوجه غير الدَّوران، وذلك "ثبوت أحد الأمرين، فيلزم الآخر"، وإنَّما "لزم" لثبوت المؤثر حينئذ ضرورة وجود "الأثر"، فيلزم وجود مؤثِّره، ويلزم من ثبوت مؤثِّره ثبوت الأثر الآخر؛ لأنَّ نسبته إليه كنسبته إليه، أو يقال: ثبت أحد الأمرين، فكان "المؤثِّر" ثابتًا، فكان الآخر ثابتًا، وإليه أشار بقوله:"و "قد تقرر "ثبوت المؤثِّر" فيقال: ثبت أحد الأمرين وهو صحة الطَّلاق مثلًا، فيكون المؤثِّر ثابتًا، فيكون الآخر - وهو الظِّهار - ثابتًا، "ولا يعيَّن المؤثَّر" كقوله: صحَّة الطَّلاق بسبب كذا، وتلك العلَّة موجودة في الظِّهار، "فتكون" بتعيينها "انْتِقَالًا" من الاستدلال "إلى قياس العلَّة".

الشرح: "الثَّاني": وهو التَّلازم بين النَّفيين في الأحكام. مثاله قولنا: "لو صحَّ الوضوء بغير نيَّة لصحَّ التيمُّم" بغير نيَّة، كذا ذكره المصنِّف، وهو الصواب.

وقال "قطب الدِّين الشيرازيُّ": أوضح منه: لو لم يصحَّ التَّيمُّم بغير نيَّة لم يصحَّ

ص: 485

الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُبَاحًا لا يَكُونُ حَرَامًا.

الرَّابعُ: مَا لا يَكُونُ جَائِزًا يَكُونُ حَرَامًا، وَيُقَرَّرَانِ بِثُبُوتِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَ لَوَازِمِهِمَا.

وَيَرِدُ عَلَى الْجَمِيعِ: مَنْعُهُمَا وَمَنْعُ أَحَدِهِمَا، وَيَرِدُ مِنَ الأسْئِلَة مَا عَدَا أَسْئِلَةَ نَفْسِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ.

يَختَصُّ بِسُؤَالٍ؛ مِثْلُ قَوْلِهِم فِي قِصَاصِ الأيْدِي بِالْيَدِ: أَحَدُ .............

الوضوء بغير نيَّة، وهذا عجيب، فإنَّ أحدًا لا يقول بصحَّة التَّيَمُّم بغير نيَّة، وإنَّما الخلاف في الوضوء، فمثال المصنِّف هو الصَّحيح.

وقول المصنِّف: "ويثبت بالطَّرد" ويقوى بالعكس "كما تقدم" لا ينطبق على المثال الَّذي ذكره؛ فإنَّه لا طرد في الوضوء بغير نيَّة، والأولى التَّمسُّك بقولنا: من لم يصحَّ طلاقه لم يصحَّ ظهاره، فهذا ثبت بالطَّرد، وهو عدم صحَّة طلاق من لم يصحَّ ظهاره، ويقوى بالعكس، وهو صحَّة طلاق من يصحُّ ظهاره، وإن شئت قل: لو لم يصحَّ ظهاره لم يصحَّ طلاقه، لكنَّ اللازم منتفٍ فالملزوم مثله، "وتقرر" أيضًا "بانتفاء أحد الأمرين فينتفي الآخر؛ للزوم انتفاء المؤثر بانتفاء الأثر"، وتقرَّر أيضًا بانتفاء المؤثِّر.

الشرح: "الثَّالث": أن يكون الملزوم ثبوتًا، واللَّازم نفيًا، مثاله:"مَا كَانَ مُبَاحًا لا يكونُ حرامًا" من تلك الحيثيَّة.

الشرح: "الرَّابع": عكسه "ما لا يكون جائزًا"، أي: يعاقب من ارتكبه "يكون حرامًا ويقرَّران" أعني: الثَّالث، والرَّابع "بثبوت التَّنافي بينهما" أي: بين الحكمين "أو بين لوازمهما"؛ لأن تنافي اللَّوازم يدلُّ على تنافي الملزومات، "ويرد على الجميع" أي: جميع أقسام التَّلازم "منعهما" أي: منع الأمرين، وهما تحقُّق الملزوم من نفي أو إثبات، وتحقُّق الملازمة "ومنع أحدهما، ويرد" على الجميع أيضًا "من الأسئلة" الخمسة والعشرين الواردة على القياس "ما عدا أسئلة نفس الوصف الجامع"؛ لأنَّها مختصَّة بالقياس لعدم تعيُّن العلَّة هنا، وما لا تعيَّن له لا يورد عليه.

الشرح: "ويختص" التَّلازم "بسؤال" آخر غير ما ذكر في القياس.

ص: 486

مُوجِبي الأَصْلِ، وَهُوَ النَّفْس، فَيَجِبُ بدَلِيلِ الْمُوجَبِ الثَّانِي، وَهِيَ الدِّيَة، وَقُرِّرَ بِأَنَّ الدِّيَةَ أَحَدُ الْمُوجَبَيْنِ؛ فَيَسْتَلْزِمُ الآخَرَ؛ لأِنَّ الْعِلَّةَ إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً، فَوَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَدِّدَةً فَتَلازَمُ الْحُكْمَيْنِ دَلِيلُ تَلازُمِ الْعِلَّتَيْنِ.

فَيُعْتَرَضُ: بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرْعِ بِأُخْرَى لا تَقْتَضِي الآخَرَ، وَيُرَجِّحُهُ بِاتِّسَاعِ الْمَدَارِكِ، فَلا يَلْزَمُ الآخَرُ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ الأصْلَ عَدَمُ أُخْرَى؛ وَيُرَجِّحُهُ بأَوْلَويَةِ الاِتِّحَادِ؛ لِمَا فِيه مِنَ الْعَكْسِ.

يوضِّحه بمثال، وهو "مثل قولهم" "في" ثبوت "قصاص الأيدي باليد" الواحدة: إنَّ ذلك "أحد موجبي الأصل، وهو النَّفس، فيجب" في الفرع "بدليل الموجب الثَّاني" لعلَّة الأصل، "وهو الدِّية" على تقدير وجوبها في الفرع، "وقرِّر" الوجوب في الفرع "بأن الدِّية أحد الموجبين"، وهو موجود في الفرع، "فيستلزم الآخر"، وهو القصاص؛ "لأنَّ العلَّة" علَّة الموجبين في الأصل إمَّا واحدةٌ أو إمَّا متعدِّدة، "إن كانت واحدةً، فواضح" وجود وجوب القصاص على الجميع في الفرع يلزم من أحد موجبي العلَّة في الفرع، وهو الدِّية على الجميع وجود العلَّة في الفرع، ومن وجود العلَّة في الفرع وجود الموجب الآخر فيه، وهو وجوب القصاص على الجميع، "وإن كانت متعدِّدةً، فتلازم الحكمين"، أعني: وجوب الدِّيَة والقصاص على الجميع في الأصل "دليل تلازم العلَّتين"، وعلى هذا يلزم من وجود الدِّية على الجميع في الفرع وجود علَّته فيه، ومن وجود علَّته وجود علة الآخر لتلازم العلَّتين، ومن وجود علَّة الآخر أعني: وجوب القصاص على الجميع في الفرع، وهو المطلوب، وفي هذا المثال نظر تقدَّم في كتاب القياس وإذا تمَّ كذلك "فيعترض" المعترض "بجواز أن يكون" ثبوت أحد الموجبين، وهو الدِّيَة "في الفرع" لا بعلَّة الأصل بل "بأخرى"، وهي "لا تقتضي" الحكم "الآخر، ويرجِّحه"، أي: يرجِّح دعواه ثبوت الحكم في الفرع لعلَّة أخرى "باتِّساع المدرك"؛ فإنَّ وجوب الدِّيَة على الجميع في الفرع لعلَّة أخرى توجب التعدُّد في مدارك الحكم الأصل والفرع، وإذا كان علَّة أحد الحكمين لا يقتضي الحكم الآخر "فلا يلزم الآخر".

الشرح: "وجوابه أن الأصل عدم أخرى، ويرجِّحه" أي: يرجِّح عدم أخرى، وثبوت الاتِّحاد "بأولويَّة الاتِّحاد لما فيه من العكس"؛ فإنَّ العلَّة إذا كانت واحدةً كانت مطَّردةً

ص: 487

فَإنْ قَالَ: فَالأصْلُ عَدَمُ عِلَّةِ الأصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَقَال: وَالْمُتَعَدِّيَةُ أَوْلَى.

منعكسةً، والمنعكسة أولى للاتِّفاق على صحَّتها، فإن "قال" المعترض: إذا تمسَّكتم بأنَّ الأصل العدم، "فالأصل عدم" وجود "علَّة الأصل في الفرع"، فقد عارضناكم.

"قال" المستدلُّ: تعارضنا، فليعدل إلى التَّرجيح.

"والمتعدِّي أولى" من القاصرة على خلاف فيه يأتي - إن شاء الله تعالى - في باب التراجيح. انتهى.

ولقائل أن يقول: أوَّلًا: لا يصحُّ ثبوت وجودها في الفرع مجرَّد أن وجودها يقتضي التعدِّي، ولا وجودها فيه يقتضي التعدي، ولا وجودها فيه يقتضي القصور، والتَّعدِّي أولى؛ لأن حاصل ذلك استدلال على ثبوت الحكم في الفرع بأنَّ ثبوته بتأتِّي القياس، وهو ضعيف لم يقل به إلَّا من شذَّ من أهل الأصول، حيث قال: إذا كانت العلَّة موجودةً يأتي القياس المأمور بخلاف ما إذا لم تكن، فليحكم بكونها موجودةً لما أدى إليه من العمل بالمأمور به، وهو القياس. وقد رد المحقِّقون هذه الطَّريقة، وقالوا: إنَّهَا هباء منثور؛ فإن مجرَّد تأتِّي القياس لا يصيِّر الفرع مقيسًا، بل لا بدَّ من وجود العلَّة فيه عينًا، وإن سلَّمنا فنقول: لا يلزم من عدم تعدِّي الحكم إلى الفرع المتنازع فيه عدم تعدِّي العلَّة مطلقًا، [فلعلها]

(1)

تعدَّت إلى فرع آخر، وحينئذٍ لا يحسن قولكم: تعارض التعدِّي والقصور، ويرجَّح التعدِّي، نعم: الأصل عدم التَّعدِّي إلى فرع آخر، فإن لم يكن فرع آخر [تعدَّى]

(2)

إليه بوجه الترجيح بالتَّعدِّي، وإلَّا فلا يتوجَّه.

(1)

سقط في ت.

(2)

في ت: تعدت.

ص: 488

‌مَبْحَثٌ فِي الاسْتِصْحَابِ

(1)

الاِسْتِصْحَابُ: الأكْثَرُ؛ كالْمُزَنِيِّ، وَالصَّيْرَفِيِّ، وَالْغَزَالِيِّ. عَلَى صِحَّتِهِ، وَأكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ: عَلَى بُطْلانِهِ كَانَ بَقَاءً أَصْلِيًّا، أَوْ حُكْمًا شَرْعِيًّا؛ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْخَارجِ: الإجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَهُ مُتَطَهِّرٌ، وَالأصْلُ الْبَقَاءُ حَتَّى يَثْبُتَ مُعَارِضٌ، وَالأصْلُ عَدَمُهُ.

الشرح: "الاسْتِصْحَابُ" اتفق "الأكثر كالمُزَنى، والصيرفي، والغزالي على صحته"، والاحتجاج به

(2)

.

"وأكثر الحنفية على بطلانه"، سواء "كان بقاء أصليًّا أو حكمًا شرعيًّا.

مثل قول الشَّافعية في الخارج" من غير السَّبيلين: "الإجماع على أنه قبله متطهر، والأصل البقاء حتى يثبت معارض، والأصل عدمه".

(1)

سقط في ت.

(2)

الاستصحاب: أصل من أصول الشريعة التي تجعل العلماء في فسحة وتخلصهم من مواقف الحيرة، وهو أصل متفق على العمل به في الجملة وإن اختلفوا في بعض ضروبه. قال القرطبي:"القول باستصحاب لازم لكل أحد لأنه أصل من أصول النبوة والشريعة، فإن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة لم يحصل العلم بشيء من تلك الأصول" واستمرار حال أدلة النبوة والشريعة من الاستصحاب الذي لا يختلف العقلاء في صحته، ولا يتطرق إليه الريب في حال. ينظر: البحر المحيط للزركشي 6/ 16، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 1135، وسلاسل الذهب للزركشي 425، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 111، والتمهيد للأسنوي 489، ونهاية السول له 4/ 358، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 177، وغاية الوصول للشيخ =

ص: 489

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واعلم: أن معنى استصحاب الحال أن الحكم الفُلاني قد كان ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء، وقد ذكر له صور.

منها: ما لا خلاف عندنا في كونه حجة، وإنما الخلاف فيه عند غيرنا من الفرق.

ومنها: الصحيح من مذهبنا عدم الاحتجاج به، وهو استصحاب حكم الإجماع كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

فتخصيص المصنف المزني، والصَّيرفي، والغزالي بالذكر من بين سائر أئمتنا إن كان لخصوصية فيهم، وهي أن المزني صاحب الشَّافعي والذي نشر مذهبه.

والصيرفي شارح كلامه في الأصول، والذي كان يقال: إنه أعلم الخَلْق بالأصول بعده.

والغَزَالي خاتمة الكُبْرى في مذهبه إذ لم يجيء بعده في أصحابه مثله.

فيقال له: فلم تركت ابن سريج وهو المذهب وقد صرحوا عنه به؟

وإن كان لأنهم قالوا به حيث يقول به غيرهم، فإنهم يقولون باستصحاب الحال الذي يسمى بـ "استصحاب حكم الإجماع" تارة، وبـ "استصحاب الحال" أخرى، فيرد عليه ابن سُرَيج أيضًا، فإنه قائل به، ويزداد إيراد، وهو أن الصحيح من مذهبنا خلافه، وأن الغَزَالي لا

= زكريا الأنصاري 138، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 315، والمنخول للغزالي 372، وحاشية البناني 2/ 347، والإبهاج لابن السبكي 3/ 168، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 185، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني 172، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 388، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 325، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 694، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 5/ 5، أعلام الموقعين لابن القيم 1/ 255، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 284، وتقريب الوصول لابن جُزي 146، المسودة ص (488)، وروضة الناظر ص (795)، والكافية في الجدل ص (382)، والترياق النافع 2/ 162، والمدخل إلى مذهب أحمد ص (133). وينظر: شرح اللمع 2/ 986، والوصول لابن برهان 2/ 317، وشرح تنقيح الفصول (447)، ومنتهى السول والأمل (203)، وكشف الأسرار 3/ 377.

ص: 490

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يقول به، وعند هذا نقول: أراد بـ "الأكثر" أناسًا من أصحابنا وغيرهم، وربما قيل: لا خلاف فيه كما ستراه.

ومنها ما يختلفون فيه، وهو استصحاب حال الإجماع، وله مثل المصنف، واختار تبعًا للآمدي أنه حجة، ولكن عليه اعتراض من جهة أن الغزالي لا يراه، فالنَّقل عنه ليس على جهة، وقد نقل عنه الآمدي أنه أنكره كما هو الصَّواب عنه.

وأما الصيرفي والمزنى فيريانه، ولا يظهر لتخصيصهما بالذكر وَجْهُ فقيه، ولا فيه أيضًا لَوْم، وإنما هو أمر اتفاقي، إذا عرفت هذا، فنقول: الأكثرون على أن الاستصحاب حجه، سواء أكان في النص أم الإثبات، ولا يخفى عليك أن له في النفي حالتين؛ لأنه إما أن يكون عقليًّا أو شرعيًّا، وليس له في الإثبات إلا حالة واحدة؛ لأن العَقْل عندنا لا يثبت حكمًا وجوديًا ألبتة.

وأما النفي فما كان منه شرعيًّا كقوله عليه السلام: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ"

(1)

.

فليس له أيضًا مَدْخَل كالوجودي، وما كان منه عقليًّا، وهو الذي عرف نفيه بالبَقَاءِ على العدم الأصلي به [إلا]

(2)

بتصريح الشَّارع كنفي وجوب الصَّلاة السَّادسة، وصوم شوال، فالعقل يدل عليه [بطريقة]

(3)

الاستصحاب إلى أن يرد السَّمع الناقل عنه.

لا يقال: دلالة الاسْتِصْحَاب ظنية، وعدم وجوب ما ذكرتم قَطْعِي، فكيف يكون مستفادًا منه؛ لأنا نمنع ذلك، ونقول: عدم السَّمعي قد يكون معلومًا كما في هَذَيْنِ المثاليين، فيدل على القطع.

وذهب جمهور الحَنَفية كما ذكر المصنّف إلى أنه ليس بحُجة.

(1)

أخرجه البخاري (3/ 378) كتاب الزكاة: باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة، رقم (1459)، ومسلم (2/ 673) كتاب الزكاة (1/ 979)، ومالك (1/ 244) كتاب الزكاة: باب ما تجب فيه الزكاة (1) من حديث أبي سعيد.

(2)

في أ، ت: لا.

(3)

في أ، ت: بطريق.

ص: 491

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل: إنما لم يحتجوا به في الأمْرِ الوجودي لا مطلقًا، ثم اختلفوا، فمنهم من جَوّز الترجيح به.

ومنهم من لم يجوزه، والذي صَرَّحت الحنفية به في كتبهم أنه لا يكون حُجّة في العَين، ولكن يصلح لإبداء العُذْر، والدفع، ولذلك قالوا: حياة العقود، بالاستصحاب يصلح حجة لبقاء ملكه لا في إثبات الملك له في مال مورثه، وهذا قول منهم بالتَّفصيل.

ونحن نقول: للاستصحاب صور:

إحداها: ما ذكرناه من اسْتِصْحَاب العدم الأصلي، وهذا إن ثبت فيه خلاف، فلغير أصحابنا، وأما أصحابنا فَمُطْبِقُون على أنه حُجة.

والثانية: استصحاب مقتضى العموم، أو النص إلى أن يرد المخصص والناسخ، ولم يختلف أصحابنا في أنه حجة أيضًا، ومنع ابن السَّمعاني من تسميته بـ "الاستصحاب".

قال: لأن ثبوت الحكم فيه من ناحية اللفظ لا من ناحية الاستصحاب.

والثالثة: استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته، ودوامه لوجود سببه، كالملك عند حصول المسبب، وشغل الذمة عند فرض، أو إتلاف، وهذا وإن لم يكن حكمًا أصليًّا فهو حكم شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعًا، ولولا أن الشرع دل على دوامه إلى أن يوجد السَّبب المزيل، أو المبرئ لما جاز استصحابه.

فإذا دلَّ الشرع على ثبوت شيء، ودوامه كان حجّة بشرط عدم حصول المغير كما في الصور المذكورة، ولا أعرف في هذا إيضاحًا لأصحابنا، ومن هذا القَبِيل الحكم بتكرار الأحكام عند تكرار أسبابها؛ لأنه لما قام الدليل على كون تلك الأسباب أسبابًا لتلك الأحكام وجب استصحابها ما لم يمنع منه مانع، وهو من جملة الدليل على أن الحكم يتكرر بتكْرَار السبب.

والرابعة: استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف، وهو أن يحصل الإجماع على حكم في حال، فيتغير الحال، ويقع الخلاف، فهل يستصحب حال الإجماع؟

وإن شئت قلت: إن ثبت حكم في حالة، فتتغيّر الحالة، فيستصحب المستدل ذلك الحكم بعينه في الحالة المتغيرة، ويقول: من ادعى تغيير الحكم، فعليه الدليل، كما قال

ص: 492

لَنَا: أَنَّ مَا تَحَقَّقَ وَلَمْ يُظَنَّ مُعَارِضٌ - مُسْتَلْزِمٌ ظَنَّ الْبَقاء.

وَأيْضًا: لَوْ لَمْ يَكُنِ الظَّنُّ حَاصِلًا، لَكَانَ الشَّكُّ فِي الزَّوْجِيَّةِ ابْتِدَاءً كَالشَّكِّ فِي بَقَائهَا فِي التَّحْرِيمِ أَوِ الْجَوَازِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَقَدِ اسْتُصْحِبَ الأصْلُ فِيهِمَا.

المصنف في الخارج من غير السبيلين، فهل هو حجة؟ هذا هو محل الخلاف بين أصحابنا، والأكثرون - ومنهم الغزالي - على أنه ليس بحجة، وذهب المُزَني وأبو ثور، والصيرفي، وأبو العباس بن سريج، وابن خَيْران إلى أنه حجة، وهو مذهب داود، واختاره المصنف كما عرفت تبعًا للآمدي.

الشرح: ثم أخذ يستدل لحجية الاستصحاب مطلقًا إذ هو رأيه. "لنا: إنما يتحقق" ثبوته، "ولم يظن" له "معارض"، فإنه "مستلزم ظن البقاء" كذلك المتحقق على ما كان عليه، ولولا حصول هذا الظَّن لما [أرسلت]

(1)

أخاك من بلد إلى بلد، ولا اشتغلت بما يستدعى زمانًا من حِرَاثَة ونحوها، ولكان ذلك سفهًا.

وإذا ثبت الظَّن فالعَمَل به واجب، "وأيضًا لو لم يكن الظن"[لبقى]

(2)

على ما كان عليه "حاصلًا لكان الشَّك في الزوحية ابتداء كالشَّك في بقائها في التحريم أو الجواز، وهو باطل" إجماعًا، فكذا المقدم، "وقد استصحب الأصل فيهما"، فحكم بالتحريم في الأولى، وبالإباحة في الثانية بالإجماع فيها، ولا فارق إلا الاستصحاب، فلو لم يكن حقًّا معتبرًا لزم استواء الحالتين حلًا وتحريمًا، وهو خلاف الإجماع.

ونظيره: إذا تيقن الحدث وشَكّ في الطهارة، وعكسه.

ولقائل أن يقول على الأول: إنما يظن البقاء إذا لم يطرأ مغيِّر.

وأما إذا طرأ فأفضى لأمر الشك، ولا حكم معه.

وعلى الثاني أن اليقين لم يطرأ ما يزيله، بخلاف طريان الخلاف على الإجماع، فهذان الدليلان ينتهضان للاستصحاب الذي نقول به، ويعتضدان بما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الشَّيْطَانَ يَأتي أَحَدَكُمْ فينفخ بَيْنَ أليَتَيْهِ فَيَقُولُ: أَحْدَثْتَ، أَحْدَثْتَ فَلا يَنْصَرِفَنَّ حَتَّى يَسْمَعَ

(1)

في ت: راسلت.

(2)

في أ: لبقاء.

ص: 493

قَالُوا: الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَالدَّلِيلُ [عَلَيْهِ] نَصٌّ، أَوْ إِجْمَاعٌ، أَوْ قِيَاسٌ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَ الْحُكْمَ الْبَقَاءُ، وَيَكْفِي فِيهِ ذَلِكَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالدَّلِيلُ الاسْتِصْحَابُ.

صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا"

(1)

فقد قضى باستدامة الحكم، وأما استصحاب الإجماع، فلا يدلّان له.

والأولى في مسألة الطهارة أن يقول: إنه في موضع [تيقن]

(2)

الطهارة، وشك الحدث إنما أخذ باليقين لأجل الخبر.

وأما في موضع [تيقن]

(3)

الحدث وشكّ الطهارة، فبالقياس عليه أي لأنه في معناه لا بالاستصحاب.

الشرح: والمَانعون من استصحاب حال الإجماع "قالوا" أولًا: "الحكم بالطَّهَارة ونحوها حكم شرعي"، فلا بد له من دليل، "والدليل نص، أو إجماع، أو قياس"، وليس الاستصحاب واحدًا منها، فلا يكون حجة.

أما انتفاء الكتاب والسُّنة، وهما المعنى بالنّص، فواضح، وكذلك القياس، وأما الإجماع فقد كان ثابتًا، لكنه زال، ونذكر صورة يتبين الحال بها، فنقول: المستدل باستصحاب الحال في مسألة المتيمم يرى في الصَّلاة على عدم البطلان؛ لأنا أجمعنا على صحة صلاته، فلا تبطل إلا بدليل.

أما أن يشرك بين الحالتين في الحكم لاشتراكهما فيما يدل عليه، وهذا ليس بالاستصحاب، بل استدلال بالعموم، أو لاشتراكهما في العلة، وهذا قياس، أولا لدلالة،

(1)

ذكره بهذا اللفظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"(1/ 128) رقم (171) وقال: هذا الحديث تبع في إيراده الغزالي، وهو تبع الإمام، وكذا ذكره الماوردي، وقال ابن الرفعة في المطلب: لم أظفر به.

وقد ذكره البيهقي في الخلافيات عن الربيع عن الشافعي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره بغير إسناد، وذكره المزني في "المختصر" عن الشافعي نحوه بغير إسناد أيضًا.

(2)

في أ، ت: تعين.

(3)

في أ، ت: يقين.

ص: 494

قَالُوا: لَوْ كَانَ الأصْلُ الْبَقَاءَ، لَكَانَتْ بَيِّنَةُ النَّفْي أَوْلَى، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالإجْمَاعِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُثْبِتَ يَبْعُدُ غَلَطُهُ؛ فَيَحْصُلُ الظَّنُّ.

ولا لعلة، فليس الجمع بينهما أولى من عدم الجمع، وهذا لأن عدم الدليل لا يكون حجّة، وأنت ترى كيف جعل هذا دليلًا للمانعين من الاستصحاب مطلقًا، والآمدي إنما ذكره من جهة المانعين من استصحاب الإجماع فقط، وهو الذي ذكره أصحابنا.

وقالوا: فإن قيل: إن حدوث الحادث لا يغير الأحكام، قيل: يمتنع أن يختلف الشيء بحدوث الحوادث، وإذا كان هذا جائزًا فلا يظن البقاء مع الحدوث، والمصنف قال:"وأجيب" أي عن قول المانعين: لا دليل على الاسْتِصْحَاب، فلا حكم "بأن الحكم" ضربان ابتدائي، ودوامي، والذي يجب نَصْبُ دليل عليه من جهة الشارع هو الابتدائي.

وأما الدَّوامي فإنا نمنع وجوب نَصْب دليل عليه، وحينئذٍ فنقول: الحكم هنا ليس ابتدائيًّا، بل هو "البقاء" بقاء الطَّهَارة، "ويكفي فيه ذلك" أي تقدم الشيء، وعدم المعارض، وهو الاستصحاب، "ولو سلّم فالدليل الاسْتِصْحَاب"، وقولكم: الدليل منحصر في الثلاثة ممنوع؛ فإن ذلك محل النزاع، ولقائل أن يقول: لا بد لكل حكم من دليل ابتدائيًّا كان أو دواميًّا، وقولك:"الاستصحاب" لا يخلصك؛ لأنك تريد أن تبينه أولًا، وهو الآن لم يثبت؛ لأنه محل النزاع كما ذكرت.

الشرح: "قالوا" ثانيًا: "لو كان الأصل" في الشيء "البقاء" على ما كان "لكانت بينة النفي أولى" بالتقديم من بينة الإثبات، "وهو باطل بالإجماع" القائم على أن البينة تقبل من المدعي، وهو المثبت دون النَّافي.

"وأجيب: بأن المثبت يبعد غلطة، فيحصل الظن" بقوله؛ لاطلاعه على سبب أوجب له المخالفة بخلاف الثَّاني، إذ لا يبعد غلطة في ظن الموجود معدومًا على عدم علمه به.

ونظير هذا قول المصنف في زيادة العدد: قلنا: سهو الإنسان بأنه سمع ولم يسمع بعيد، بخلاف سهوه عما سمع؛ فإنه كثير.

ولقائل أن يقول: إذا كان غلط من ينفي قريبًا، فلا يبعد غلطكم إذا استصحبتم النفي لا سيما في صورة استصحاب حال الإجماع.

فيقال مثلًا: الظن الحاصل في مسألة المتطهر قبل خروج الخارج إنما يستمر بعد

ص: 495

قَالُوا: لا ظَنَّ مَعَ جَوَازِ الأَقْيِسَةِ.

قُلْنَا: الْفَرْضُ بَعْدَ بَحْثِ الْعَالِم.

خروج الخارج من غير السَّبيلين مستندًا إلى نفي الحدث، والسهو المتطرق إلى مثله غير بعيد، فلا يكون ظنًّا معتبرًا؛ لتطرق السهو إليه.

الشرح: "قالوا" ثالثًا: "لا ظن مع جواز الأقيسة"؛ فإنه ما من صورة لا نص فيها إلا والقياس متأتّ فيها، وهو يرفع حكم الأصل اتفاقًا، فما دام القياس سائغًا لا يظن حكم إلا إذا استند إليه، وإلى النصوص، فإذا لم يستند لم يظن فلا يحكم به.

"قلنا: الفرض" أنا إنما نتمسك بالاستصحاب "بعد بحث العالم" عن الأقيسة والنصوص، وقولكم: ما من صورة إلا والقياس متأت فيها، ممنوع.

ولقائل أن يقول: قضية هذا الكلام أنه لا يجوز الاحتجاج بالاستصحاب مع إمكان القياس، ولا أعلم من فصل هذا التفصيل، نعم إذا عارض القياس استصحابًا، فالقياس مقدم، وأما إذا لم يعارضه، فلا يمتنع اجتماعهما عند من يجوز اجتماع دليلين على مَدْلول واحد.

"تنبيهات"

الأول: إذا تأملت صنيع المصنف مع تأملك كتاب "الإحكام" عرفت أن المصنف خلط مسألتين أفردهما الآمدي بالذكر.

إحداهما: استصحاب غير الإجماع الذي لا يعرف أحدًا من أصحابنا يخالف فيه.

والثانية: استصحاب الإجماع في مقام الخلاف الذي لا يقول به من أصحابنا إلا من سَمّيناه.

ونشأ للمصنف من الخلط شيئان:

أحدهما: النقل عن الغزالي على غير وَجْهه كما عرفت.

وثانيهما: أن القائل بالاسْتِصْحَاب استدلوا بأنه لا بد له من دليل، ولا نص، ولا إجماع، ولا قياس، فلا دليل، وهم إنما قالوا هذا في صورة استصحاب [بالإجماع]

(1)

، وهو قياس مثبت.

(1)

في أ، ت: الإجماع.

ص: 496

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

استدلّوا بأنه لا بد من دليل، ولا نص ولا إجماع، ولا لأنه طرأ شيء يصلح أن يكون مغيرًا.

وأما في غير استصحاب الإجماع فلا اتجاه له؛ لأن الدليل فيه بالحقيقة، وهو ذلك الأول الذي استصحب من نصّ أو إجماع.

ولو قال: هذا مانع الاستصحاب الذي يقول به، لكان جوابه أن الدليل هو أحد الثلاثة، لا أن يقال: إن النَّافي لا يحتاج إلى دليل.

وإن سلم فالدليل الاستصحاب، وهذا واضح لمن تدبره.

الثاني: زعم ابن السَّمْعَاني أن الصحيح من مذهبنا إنكار الاستصحاب جملة، ثم إذا قيل له: ماذا تقول في العام والنص قبل الخاص والناسخ؟!

قال: نعم، ولكن ليس ذاك استصحابًا؛ لأن الدليل قائم، وهو العام والنص.

وإن قيل: ما تقول في دليل العقل في براءة الذمة أليس يستصحب أيضًا؛ قال: وإنما وجب استصحاب براءة الذمم؛ لأن دليل العقل في براءة الذمة قائم في موضع الخلاف أيضًا.

كما في العام والنص، فوجب الحكم به.

وأما في استصحاب الإجماع، فالإجماع الذي كان دليلًا على الحكم قد زال في موضع الخلاف، فوجب طلب دليل آخر.

وهذه الطريقة التي سلكها ابن السَّمعاني عندنا حسنة، وقد سبق إليها إمام الحرمين، وهي تعرف بأن الخلاف فيما عدا اسْتِصْحَابَ الإجماع لفظي، وبه صرح إمام الحرمين.

والمختار عندنا منع تسميته بـ "الاستصحاب"؛ لأن في إطلاق هذا الاسم إيهام أن الحكم مستند إلى الاستصحاب، وليس هو مستندًا إلا إلى الدليل القائم الذي استصحبناه، وهو مصاحب لنا وقت الحكم، فالاستصحاب فعلنا، والقاضي هو الدليل المستصحب، وكذلك من يستصحب حال الإجماع بعد طَرَيَانِ الخلاف [الذي]

(1)

لا يرى الاستناد إلا إلى

(1)

سقط في أ، ت.

ص: 497

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الإجماع؛ فإن الاستصحاب نفسه ليس بدليل.

ثم قال ابن السَّمْعَاني: المعتمد أنا لا نثبت براءة الذمة باستصحاب الحال، ولا نحكم بشيء لأجل الاستصحاب، لكن نطلب من المدعي حجّة يقيمها، فإذا لم يقم بقي الأمر على ما كان من غير أن يحكم بثبوت شيء.

والخلاف واقع في ثبوت الحكم باستصحاب الحال، وهذا لا يقوله في موضع ما انتهى، وهذه طريقة أخرى تُغَاير الأولى مع قربها منها.

وحاصلها: أنه يفرق بين الدوام والابتداء، ويقول: ليس في الدوام إثبات، وإنما هناك استمرار ما كان؛ لعدم طريان ما يدفعه، وقد ذكرها المتأخرون، وأشار إليها المصنف بقوله: الحكم البقاء أي: والبقاء لها يحتاج إلى دليل كما عرفناك.

الثالث: هذه الطريقة الأخرى قلنا: إن المتأخرين ذكروها تنبى على أن النافي في حال البَقَاءِ هل يحتاج إلى مؤثر؟.

وفيه خلاف للمتكلمين، فإن قلنا: لا يحتاج وضحت، وإلا لم تنتهض؛ لأنك في الدوام تريد دليلًا، وأنت مثبت به، فكيف تقول: لم يحكم بشيء، والخلاف في أن الباقي هل يحتاج إلى مؤثر مبني على اختلاف آخر في أن علة الحاجة إلى المؤثر، هل هي الإمكان، أو الحدوث أو مجموعها، أو الإمكان بشرط الحدوث؟ والحق أن العلة الإمكان وأن الباقي يحتاج إلى مؤثر، كما هو مقرر في الكتب الكلامية، فعلى هذا لا تنتهض هذه الطريقة.

الرابع: قال علماؤنا: القول باستصحاب الإجماع في موضع الخلاف يؤدي إلى التكافؤ؛ لأنه ما من أحد يستصحب حال الإجماع في موضع الخلاف في شيء إلا وَلخَصْمِهِ أن يستصحب حال الإجماع في مقابلته.

وبيان ذلك أن من قال في مسألة المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته: لا تبطل؛ لأنا أجمعنا على صحة صلاته، فلا يبطل الإجماع إلا بدليل.

قيل له: أجمعنا على اشتغال ذمته بفرض الصلاة، ولا تسقط إلا بدليل.

وذكر الشيخ أبو إسحاق أن القاضي - يعني أبا الطيب الطبري - قال: قال داود: لا

ص: 498

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تقول بالقياس الصحيح، وهنا نقول بقياس فاسد.

لأنه يحمل حالة الخلاف على حالة الإجماع من غير علّة جامعة.

وذكر الخطيب في "التاريخ" أن أبا سعد [البردعي]

(1)

، وهو من أئمة الحنفية سأل داود عن بيع أمهات الأولاد، فقال: يجوز، فقال له: لم قلت ذلك؟ قال: لأنا أجمعنا على جواز بَيْعِهِنّ قبل العُلُوقِ، فلا يزول عن هذا الإجماع إلا بإجماع مثله.

فقال له: أجمعنا بعد العُلُوق قبل الوضع أنه لا يجوز، فيجب أن تتمسّك بالإجماع، ولا يزول عنه إلا بإجماع مثله.

قلت: إن كان الإجماع قائمًا كما ادَّعَاه على المَنْع قبل الوضع، فالمعارضة جيدة.

الخامس: الصحيح عند أصحابنا فيما إذا رأى المتيمم الماء في أثناء الصَّلاة أن الصلاة إن لم تكن معينة عن القَضَاء بطل تيممه.

وإن كانت معينة لا تبطل، فلم ينظر إلى الاستصحاب.

وخرج المزني قولًا أنهما يبطلان، وساعده ابن سريج.

وقيل: لا يبطلان.

السادس: إذا شرع المعسر في الصوم عن الكَفارة، ثم أيسر لم يلزمه الإعْتَاق.

وذهب المزني أنه يلزمه، وهذه مخالفة لأصله؛ فإنا أجمعنا على شروعه في الصوم أنه الذي يلزمه، فينبغي له استصحاب هذا الإجماع، ولا يزول عنه إلا بإجماع آخر، فإن قال: أجمعنا على أن فرضه أولًا العِتْق، وطريان الإعسار لم يتحقق أنه مانع إلا إذا دام.

أما إذا انقطع فمشكوك، فيجري على أصل الإعتاق، قلنا: قد قدمنا أن كل إجماع [استصحاب]

(2)

في حال الخلاف أمكن أن يعكس، وتتكافأ الأدلّة، فهلا اعترضت بهذا على نفسك؟! ونظير ما فعله المُزَني هنا قوله: إن الحر إذا نكح أمَةً بشروطه، ثم أيسر، ونكح حرةً انفسخ نكاح الأمة السابق.

(1)

في أ، ت: البرذعي.

(2)

في أ، ت: استصحب.

ص: 499

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من اشترى شيئًا رآه قبل العَقْد، ومضت مدة يحتمل أن يتغيّر فيها، ويحتمل ألا يتغير، وكان حيوانًا، فالأصح الصّحة استصحابًا مع احتمال التغير.

وإن كان مما لا يتغير كالأراضي، وكان لا يتغير في تلك المدة - لقلّتها - صَحَّ عند الجَمَاهير، وخالف الأَنْمَاطي، فاشترط الرؤية حالة الحَقْدِ مطلقًا، وأفرط في ذلك، فإما أن يكون لا يرى الاسْتِصْحَاب أصلًا، وقد قدمنا أنا لا نعرف ذلك عن أحد من أصحابنا.

وإما أن يدعي أنه لاحَ له دليل خاص على ذلك.

الثامن: ما ذكره الحنفية من أن الاستصحاب يصلح للدفع لا للرفع حسن، ونظيره إذا ظهر لبنت تسع سنين لبن، فارتضع منه صغير حرم، ولا نحكم ببلوغها.

قالوا: لأن احتمال البلوغ قائم، والرضاع كالنسب، [فيكفي]

(1)

فيه الاحتمال، والمذهب وجوب فطرة العبد الغَائِبِ المنقطع الخبر أنه لا يجوز إعتاقه عن الكَفّارة، وإذا قال: أوصيت لِحَمْل فُلانة، فولدت لفوق ستة أشهر، ودون أربع سنين من يوم الوصية، وكان الزوج قد فارقها أو غاب عنها حيث يعلم أنه لم يطأها بعد الوصية، فالولد لا حق به قطعًا.

ولا تثبت الوصية على وجه؛ لأن حدوث الولد يمكن في الباطن، والنسب يلحق بالإمكان، وأما الوصية فلما يتحقق وجوده عندها، والأصل عدمه، ولكن الصحيح ثبوتها.

ولو قال: لحمل فُلانة من فُلان، فولدت ولدًا اقتضى الحال إلحاقه به، فإن [نَفَاه]

(2)

، ولاعن اندفع النسب.

وفي الوصية وجهان.

أصحهما: لا يثبت، والثاني، وبه قال أبو إسحاق والأستاد أبو منصور: يثبت؛ لأن اللِّعَان إنما يؤثر في حق المتلاعنين.

(1)

في أ، ت: يكفي.

(2)

في أ، ت: فنفاه.

ص: 500

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وإذا دفع ثوبًا إلى خياط ليقطعه، أو يخيطه، فخاطه قبَاء، ثم اختلفا فقال الخياط: أمرتني بقباء، وقال: بل بِقَميصٍ، ففيه الطريقة المشهورة في المذهب.

والأصح أن القول قول المالك.

وقيل: قول الخياط.

فإن قلنا: قول الخياط، فإذا حلف لا أرش عليه قطعًا ولا أُجْرة له على الأصح.

وقيل: يجب له المسمى إتمامًا لتصديقه.

وإن قلنا قول المالك، فإذا حلف فلا أُجْرَة عليه ويلزم الخياط أرش النَّقص على المذهب.

وقيل: وجهان كما في وجوب الأُجرة تفريعًا على تصديقه الخَياط.

والفرق على المذهب أن القطع يوجب الضَّمان إلا أن يكون بإذن، وهو غير موجب أُجرة إلا بإذن.

وفي الرَّافعي عن "فتاوي البَغَوِيّ" أنه لو تزوجها بشرط البَكَارة، فوجدت ثيبًا، ثم اختلفا فقالت: كنت بكرًا فافتضني، وقال: بل كنت ثيبًا، فالقول قولها؛ لدفع الفَسْخ، وقوله؛ لدفع كمال المهر.

التاسع: قال أصحابنا: لو كان معه ماء ونحوه مما أصله الطهارة، وتردد في نجاسته، فلا يضر تردَده، وهو باقٍ على طهارته، وسواء أكان التردد مستويًا أو ترجح احتمال النجاسة، إلا على قول ضعيف أنه إذا غلب على ظنه النجاسة حكم بها، [وكذلك]

(1)

لو شكّ في طلاق أو عتق أو حدث أو حيض، ونحو ذلك، هذا كله ما لم يستند الظَّن إلى سبب معين، فإن استند كمسألة بول الحَيوان في ماء كثير إذا تغير.

ومسألة المقبرة المشكوك في منشئها، وبيان المتدينين باستعمال النجاسة، ومسائل تعارض الأصل.

والظاهر كلها أحكام معروفة، ففي بعضها يعمل بالظاهر جزمًا كمسألة بول الحَيَوان، وشهادة شاهدين.

(1)

في أ، ح: وكذا.

ص: 501

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإنها تفيد الظن، وقد تقدم على أصل براءة الذمة بلا خلاف، وفي بعضها قولان كمسألة المقبرة ونحوها

(1)

.

وقد قال ابن القاص: اليقين لا يرفع بالشك إلا في إحدى عشرة مسألة

(2)

:

إحداها: إذا شك ماسح الخف هل انقضت المدة؟

والثانية: إذا شك هل مسح في الحضر أو السفر؟ يحكم في المسألتين بانقضاء المدة.

الثالثة: إذا أحرم المسافر بنيّة القصر خلْف من لا يدري أمسافر هو، أو مقيم؟ لم يجز القصر.

الرابعة: بال حيوان في ماء كثير، ووجده متغيرًا، ولم يَدْرِ أتغير بالبول أم بغيره؟ فهو نجس.

الخامسة: المُسْتَحَاضة المتحيرة يلزمها الغُسْل عند كل صلاة تشك في انقطاع الدم قبلها.

السادسة: من أصابته نجاسة في بدنه أو ثوبه، وجهل موضعها يلزمه غسله كله.

السابعة: شك مسافر أوصل بلده؟ لا يجوز له الترخص.

الثامنة: شك هل نوى الإقامة؟ كذلك.

التاسعة: المستحاضة وسَلسِ البول إذا توضَّأ، ثم شك هل انقطع حدثه أولا؟ فصلى بطهارته لم يصح.

العاشرة: تيمم، ثم رأى شيئًا لا يدري أسَرَاب هو أو ماء؟ فيبطل تيممه وإن بَانَ سرابًا.

الحادية عشرة: رمى صيدًا، ثم غاب ووجده ميتًا، وشك هل أصابته رَمْيَةٌ أخرى من حَجَر غيره لم يحل أكله، وكذا لو أرسل عليه كلبًا.

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي 72.

(2)

ينظر: الأشباه والنظائر 73.

ص: 502

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال القَفّال: قد خالفه أصحابنا في هذه المسائل كلها، والأولى والثانية لم يترك اليقين فيها لشك، بل لأن الأصل غسل الرّجل وشرط المَسْح بقاء المدة، وشككنا فيه، فعملنا بأصل الغسل.

وأما الثالثة، فحكمها صحيح، لكن ليس ترك يقين بشك؛ لأن القصر رُخْصة بشرط، فإذا لم يتحقق رجع إلى الأصل، وهو الإتمام.

وكذا الرَّابعة؛ لأن الطَّاهر تغير بالبول، وكذا الخامسة؛ لأن الأصل وجوب الصَّلاة.

فإذا شكت في انقطاع الدَّم فصلت بلا غسل لم يستيقن البراءة من الصَّلاة.

وكذا السَّادسة؛ لأن الأصل أنه ممنوع من الصَّلاة إلا بطهارة عن هذه النَّجَاسة، فما لم يغسل الجميع هو الشَّاك في زوال منعه من الصلاة.

قال: وفي السابعة وجهان:

أحدهما: له القصر؛ لأنه شاك في زوال سبب الرُّخْصَة، والأصل عدمه.

والثاني: لا يجوز.

كما قال أبو العباس، ولكن ليس ذلك ترك يقين بشك.

قال: والثامنة لم يترك فيها اليقين بالشك، بل الأصل الإتمام، فلا يقصر حتى يتيقن سبب الرُّخْصة، وكذا التَّاسعة؛ لأن المُسْتَحَاضة لا يحل لها الصَّلاة مع الحدث إلا للضرورة، فإذا شكت في انقطاع الدم، فقد شكت في السَّبب المجوز للصلاة مع الحدث، فرجعت إلى أصل وجوب الصَّلاة بطَهَارة كاملة.

وكذا العاشرة؛ لأن التيمم إذا بطل برؤية السَّرَاب؛ لأنه توجه الطلب، وإذا توجه بطل التيمم.

وأما الحادية عشرة، ففي حلّ الصيد قولان:

فإن قلنا: لا يحل، فليس ترك يقين بالشك؛ لأن الأصل التحريم، وقد شككنا في الإباحة.

قال: فثبت أن المَسَائل كلها مستمرة على مذهب الشافعي أن اليقين لا يزال بالشَّك.

ص: 503

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال النووي

(1)

: وفيما قاله القَفّال نظر، والصواب مع أبي العَبَّاس - يعني ابن القاص - فيما عدا الثَّالثة، والسادسة، والحادية عشرة.

قال النووي: ومما لم يستثن: إذا توضأ، ثم شك هل مسح رأسه مثلًا؟ فيه وجهان:

أصحهما: صحة وضوئه، ولا يقال: الأصل عدم المسح.

ومثله: لو سلم من صلاته، ثم شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا؟ ففيه ثلاثة أقوال:

أصحها: لا شيء عليه.

قال النووي

(2)

: فإن تكلف متكلف، وقال: المسألتان داخلتان في القاعدة، فإن شك هل ترك أم لا، والأصل عدمه، فليس بشيء؛ لأن الترك عدم بَاقٍ على ما كان، وإنما المشكوك فيه الفعل، والأصل عدمه، ولم يعمل بالأصل.

وأما إذا سلم من صلاته، فرأى عليه نجَاسة، واحتمل حصولها في الصَّلاة وحدوثها بعدها، فلا يلزمه إعادة الصَّلاة، بل مضت على الصحة.

فيحتمل أن يقال: الأصل عدم النجاسة، فلا يحتاج إلى استثنائها.

ويحتمل أن يقال: تحققت النجاسة، وشك في انعقاد الصَّلاة، والأصل عدمه، وبقاؤها في الذمة، فيحتاج إلى استثنائها.

العاشر: علمت أن الاستصحاب هو ثبوت أمر في الثَّاني لثبوته في الأول؛ لعدم وجود ما يصلح أن يكون مغيرًا بعد البحث التام.

وأما ثبوته في الأول لثبوته في الثاني، فهو الاستصحاب المقلوب، كما إذا وقع النظر في هذا المِكْيَالِ هل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم؛ إذ الأصل موافقة الماضي للحال؟.

وكما قال الأصحاب فيمن اشترى شيئًا وادّعاه مدّع، وأخذه منه بحجّة مطلقة حيث

(1)

ينظر: شرح المهذب 1/ 263.

(2)

ينظر: شرح المهذب 1/ 264.

ص: 504

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أطبقوا على ثبوت الرُّجُوع له على البائع، بل لو باع المشتري، أو وهب، وانتزع المال من المُتّهب، أو المشتري منه، كان للمشتري الأول الرجوع أيضًا.

وهذا استصحاب للحال في الماضي؛ فإن البيّنة لا توجب الملك، ولكنها تظهره، فيجب أن يكون الملك سابقًا على إقامتها، ويقدر له لَحْظة لطيفة، ومن المحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعى، ولكنهم استصحبوا مقلوبًا، وهو عدم الانتقال منه فيما مضى استصحاب بالحال.

وسمعت الشيخ الإمام أبي رحمه الله يقول: لم يقل الأصحاب بالاستصحاب المَقْلُوب إلا في هذه المَسْألة.

قلت: وعلى وجه ضعيف إذا وجدنا رِكَازًا، ولم نَدْرِ أمِنْ دَفِينِ الإسلام أو الجاهلية؟ أنه رِكَازٌ من دفن الجاهلية.

وطريقك في المقلوب أن تقول: لو لم يكن الحكم الثابت الآن ثابتًا أمس لكان غير ثابت؛ إذ لا واسطة، وإذا كان غير ثابت قضى الاستصحاب بأنه الآن غير ثابت، لكنه ثابت، فدل أنه كان ثابتًا أيضًا، فافهم ذلك.

ص: 505

‌شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا

الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ البَعْثِ مُتَعَبِّدٌ بِشَرْعٍ قِيلَ: نُوحٍ.

وَقِيلَ: إبْرَاهِيمَ.

وَقِيلَ: مُوسَى.

وَقِيلَ: عِيسَى عليهم السلام.

وَقِيلَ: مَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ.

وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ، وَتَوَقَّفَ الْغَزَاليُّ.

الشرح: "المختار أنه صلى الله عليه وسلم قبل البعث متعبد بشرع

(1)

.

قيل: نوح.

وقيل: إبراهيم.

وقيل: عيسى.

وقيل": إنه "ما ثبت أنه شرع"، من غير تخصيص، ثم سئل هذا القائل قال: لا أدري ما الثابت من ذلك.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 6/ 39، والتمهيد للأسنوي 441، والمنخول للغزالي 231، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني 369، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 5/ 149، وإرشاد الفحول للشوكاني 239.

ص: 506

لنَا: الأحَادِيثُ مُتَضَافِرَةٌ: كَانَ يتَعَبَّدُ، كَانَ يَتَحَنَّثُ، كَانَ يُصَلِّي، كَانَ يَطُوفُ.

وَاسْتُدِلَّ: بِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ.

وَأُجِيبَ: بِالْمَنْعِ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ، لَقَضَتِ الْعَادَةُ بِالْمُخَالَطَةِ أَوْ لَزِمَتْهُ.

قُلْنَا: التَّوَاتُرُ لا يَحْتَاج، وَغَيْرُهُ لا يُفِيدُ.

وَقَدْ تَمْتَنِعُ الْمُخَالَطَةُ لِمَوَانِعَ؛ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا جَمْعًا بَيْنَ الأَدَلَةِ.

"ومنهم من منع" كونه متعبدًا بشرع أصلًا، ثم قال القاضي: وعليه جماهير المتكلمين، ثم اختلفوا، فمنعه المتعزلة عقلًا.

وقال أهل الحق: يجوز، ولكن لم يقع، وعليه القاضي وغيره.

"وتوقف" إمام الحرمين و "الغزالي" والآمدي، وابن الأنباري، وغيرهم، وهو المختار، والمسألة جارية مجرى التواريخ.

الشرح: "لنا: الأحاديث متضافرة" بأنه عليه السلام "كان يتعبّد"، كان يخلو بِغَارِ "حراء"

(1)

"يَتَحَنَثُ" فيه "كان يصلي، كان يطوف".

"واستدل بأن" شرع "من قبله لجميع المكلفين".

"وأجيب بالمنع"؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة.

"قالوا: لو كان" متعبدًا بمن قبله "لقضت العادة بالمُخَالطة" لأهل تلك الشريعة، "أو لزمته" مخالطتهم ليعرف الأحكام، ولو وقع ذلك لنقل، ولافتخرت به تلك الطائفة.

واعتمد القاضي على أنه لو كان لاقتضت العادة ذكره بعد البعث، ولتحدث بذلك أحد في زمانه وبعده.

(1)

أخرجه البخاري (1/ 3 - 4) كتاب بدء الوحي: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومسلم (1/ 139 - 140) كتاب الإيمان: باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث (252). وأحمد (6/ 223، 232) من حديث عائشة.

ص: 507

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"قلنا": لا نسلم قضاء العادة بذلك، فهو متعبد بما علم أنه شرع، وذلك يحصل بالتَّوَاتر دون الاحاد، و"التواتر لا يحتاج" إلى المُخَالطة، "وغيره لا يفيد"، فإذن قضاء العادة بالمُخَالطة ممنوع.

وكذا لزومها؛ فإنها "قد تمنع الموانع" وإن لم يعلمها، "فيحمل عليها جمعًا بين الأدلة".

وأما حديث الافْتِخَار، فلا يثبت في تعميمنا لما علم أنه شرع من غير تخصيص بطائفة، وكيف يعرف افتخار مَنْ لا يعرف؟.

وأما ما ذكره القاضي، فعارضه إمام الحرمين بأنه: لو لم يكن على دِينٍ أصلًا لنقل؛ فإنه أبدع وأبعد عن المعتاد.

وفيه نظر؛ فليس انصراف النفوس عن نَقْلِ كونه ليس على دِينٍ كانصرافها عن نقل دينه الذي كان عليه، ذكره ابن الأنباري.

ثم قال الإِمام: الوجه أن يقال: انخرقت العادة للرسول صلى الله عليه وسلم في أمور منها: انصراف همم الناس عن أمر دينه، والبحث عنه.

قلت: وما ادعاه المصنف من الأحاديث المتضافرة التي ساق منها: كان يتعبد، كان يتحنث، كان يصلي، كان يطوف، لا أَحْفَظ منها إلا حديث: كان يتحنَّثُ بغار "حراء" أي: يتعبد، يقال: فلان يتحنث أي يفعل فعلًا يخرج به من الإثم، كما نقول: يتأثم، ويتخرج: إذا فعل ما يخرج به من الإثم والحرج، ومنه حديث حكيم بن حزام:(أرَأَيْتَ أمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ).

أي: أتقرب بها إلى الله تعالى.

ص: 508

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ بَعْدَ الْبَعْثِ مُتَعَبَّدٌ بِمَا لَمْ يُنْسَخْ.

لَنَا: مَا تَقَدَّمَ، وَالأصلُ بَقَاؤُهُ.

وَأَيْضًا: الاِتِّفَاقُ عَلَى الاِسْتِدْلالِ بِقَوْلهِ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة: الآية 45].

وَأَيْضًا: ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا"؛ وَتَلا: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه: الآية 14]، وَهِيَ لِمُوسَى عليه السلام؛ وَسِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى الاِسْتِدْلالِ بِهِ.

«مسألة»

الشرح: "المختار" عند المصنف: "أنه صلى الله عليه وسلم بعد المبعث متعبد بما لم ينسخ" من شرع قبله بإيحاء الله - تعالى - بذلك على معنى أنه موافق لا متابع، فافهمه

(1)

.

قال إمام الحرمين: وللشافعي مَيْل إلى هذا، وبنى عليه أصلًا من أصوله في كتاب "الأطعمة"، وتابعه معظم أصحابه.

وذهب الأكثرون إلى أنه لم يكن متعبدًا بشرع غيره أصلًا، ثم افترقوا.

فقالت المعتزلة: ذلك مستحيل عقلًا.

وقال غيرهم: شرعًا، وهو اختيار القاضي والإمام الرازي والآمدي.

واعلم أن الكلام في هذه المسألة مع من لم ينف التعبّد قبل النبوة.

(1)

ينظر: إحكام الآمدي 4/ 121، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 139، والتحصيل من المحصول للأرموي 1/ 442، وحاشية البناني 2/ 352، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 191، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 393، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 336، والتحرير لابن الهمام 359، وتيسير التحرير لأمير بادشاه (3/ 129).

ص: 509

قَالُوا: لَمْ يُذْكَرْ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه وَصَوَّبَهُ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ تَرَكَهُ: إِمَّا لأَنَّ الْكِتَابَ يَشْمَلُه، أَوْ لِقِلَّتِهِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الأدِلَّةِ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ، لَوَجَبَ تَعَلُّمُهَا وَالْبَحْثُ عَنْهَا.

قُلْنَا: الْمُعْتبَرُ الْمُتَوَاتِر، فَلا يَحْتَاجُ.

قَالُوا: الإجْمَاعُ عَلَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ عليه السلام نَاسِخَةٌ.

قُلْنَا: لِمَا خَالَفَهَا، وَإلَّا وَجَبَ نَسْخُ وُجُوبِ الإِيمَانِ وَتَحْريمِ الْكُفْرِ.

وأما من نفاه فقد نَفَاهُ بعدها أيضًا [بطريقة]

(1)

أولى.

"لنا: ما تقدم" من ثبوت التعبُّد قبل النبوة، "والأصل بقاؤه".

وأيضًا: الاتفاق واقع على الاستدلال بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة: الآية 45] في وجوب القصاص في ديننا.

"وأيضًا: ثبت أنه" عليه السلام "قال: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاة أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا"، وتلا:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}

(2)

[سورة طه: الآية 14]، وهي لموسى، وسياقه يدل على الاستدلال به".

في "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه قال: "مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا؛ فَإن الله - تَعَالَى - يَقُولُ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرَى".

قلت: وهذا ظاهر في المدعى؛ إذْ أمرنا بذلك، وعلل بأمر الله - تعالى - موسى عليه السلام به.

الشرح: "قالوا: لم يذكر شرع من قبلنا "في" حديث معاذ، [وصَوَّبهُ]

(3)

" رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو كان من مدارك الأحكام لنبَّهَ عليه السلام معاذًا عليه.

(1)

في أ، ت: بطريق.

(2)

تقدم.

(3)

في أ، ت: وصومه.

ص: 510

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وأجيب: [بأنه]

(1)

تركه إما لأن الكتاب يشمله"؛ لدلالته على شرع من قبلنا، [أو لقلته]

(2)

جمعًا بين الأدلة" من الطرفين.

"قالوا: لو كان" شرع من قبلنا، وكتبهم السَّالفة شرعًا لنا "لوجب تعلمها والبحث عنها" كما يجب تعلم القرآن والسنة، بجامع أن كلًّا من مدارك الأحكام، "قلنا: المعتبر" منها هو "المتواتر" لا الآحاد، فإنها لا تفيد لعدم العلم بعدالة الأَوْساط، وإذا كان كذلك، "فلا يحتاج" إلى البحث.

"قالوا: الإجماع على أن شريعته صلى الله عليه وسلم ناسخة" لجميع الشرائع، "قلنا": ناسخة "لما خالفها" فقط، "وإلا وجب نسخ وجوب الإيمان، وتحريم الكُفْر"؛ لثبوتها في تلك الشرائع.

ولقائل أن يقول: وجوب الإيمان وتحريم الكُفْرِ شريعة كل نَبِيّ، فلا يكون منسوبًا إلى واحد بخصوصه.

ونحن إذا قلنا: هذه الشريعة ناسخة لتلك، معناه: ناسخة لتلك، وإيجاب الإيمان، وتحريم الكفران لا ينسب إلى واحد بخصوصه، بل الكل فيه شرع.

وسبق في أوَّل "النسخ" شيء يستضاء به هنا.

"فوائد"

الأولى: قال القاضي في "التقريب": ليس تحقيق الخلاف أن يقول المخالف: إنه قد أمر بمثل شرع من تقدم؛ لأن أحدًا لا ينكر هذا، فإن كان هذا هو قول المخالفين وأنه ورد عليه أمر مستأنف مبتدأ موافق لشرع من قبله، فقد وافقوا في المعنى، وإنما الخلاف أنه هل لزمه بعد المبعث العمل بشريعة من قبله على وجه الاتباع لنبي قبله، وفرض لزوم دعوته؟.

قال القاضي: فهذا هو الباطل الذي ينكره.

الثانية: قال أصحابنا: لا يشترط الإسلام في الإحصان، فيرجم الذّمي.

(1)

في ت بأن.

(2)

في أ، ت: لعلته.

ص: 511

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال أبو حنيفة بأنه عليه السلام رجمهما بحكم التَّوراة

(1)

، وهو ضعيف؛ فإن ذلك لإلزامهم حيث أنكروا وجدان الرجم في التوراة.

الثَّالثة: إذا وجدنا حيوانًا لا يمكن معرفة حلّه بشيء من مأخذ شريعتنا، وثبت تحريمه في شرع من قبلنا، فهل يستصحب تحريمه؟ فيه قولان:

الأظهر: لا، وهو قضية كلام عامة الأصحاب في رَمْزِهِمْ في أول كتاب "الجراح" إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا.

(1)

أخرجه البخاري كتاب المناقب: باب قوله تعالى: "يعرفونه كما يعرفون"(3635) وفي المحاربين: باب أحكام أهل الذمة (6841)، ومسلم (5/ 122)، ومالك (2/ 819) رقم (1)، وأبو داود (4446)، والدارمي (2/ 178)، والبيهقي (8/ 246) من رواية نافع عن ابن عمر.

ص: 512

[قَوْلُ الصَّحَابِيِّ]

(1)

مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى صَحَابِيٍّ اتِّفَاقًا. وَالمُخْتَارُ: وَلا عَلَى غَيْرِهِمْ.

وَللشَّافِعِيِّ، وَلأحْمَدَ - رَحِمَهُمَا اللهُ - قَوْلانِ فِي أَنَّهُ حُجَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ.

وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ.

وَقِيلَ: الْحُجَّةُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعمَرَ رضي الله عنهما.

لنَا: لا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ فَوَجَبَ تَرْكُهُ.

وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ، لَكَانَ قَوْلُ الأعْلَمِ الأفْضَلِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ؛ إذْ لا يُقَدَّر فِيهِمْ أكْثَرُ.

الشرح: "مذهب الصَّحَابي" المجتهد "ليس بحجة على صحابي" آخر "اتفاقًا"، سواء أكان مجتهدًا أم لم يكن.

أما إن كان، فواضح

(2)

.

(1)

سقط في أ، ت.

(2)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 6/ 53، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 1358، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 130، والتمهيد للأسنوي 499، ونهاية السول له 4/ 403، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 192، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 140، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 318، وحاشية البناني 2/ 354، والإبهاج لابن السبكي 3/ 192، =

ص: 513

واسْتُدِلَّ: لَوْ كَانَ حُجَّةً، لَتَنَاقَضَتِ الْحُجَجُ.

وأما إن كان لم يكن؛ فلأن وظيفته التقليد، وليس قول المجتهد حجة [على]

(1)

نفسه، "والمختار: ولا على غيرهم"، وهو الجديد من قول الشَّافعي، وعليه الأكثر.

"وللشَّافعي، وأحمد

(1)

قولان في أنه حجة متقدمة على القياس".

"وقال قوم: إن خالف القياس" كان حُجّة، وإلا فلا.

"وقيل: الحجة قول أبي بكر، وعمر

(1)

"أي: قول كل واحد منهما، ولا يشترط اتفاقهما. "لنا: لا دليل عليه، فوجب تركه"؛ لأن إثبات الحكم الشرعي بغير دليل لا يجوز.

"وأيضًا لو كان" قول الواحد منهم رضي الله عنهم "حجة على غيره؛

(1)

لكان قول الأعلم الأفضل حجّة على غيره إذ" الصحابة "لا يقدر فيهم أكثر"

(1)

من أنه أيهم أفضل ممن عداهم.

ولقائل أن يقول: على الأول: لم قلتم: لا دليل عليه؟ وعلى الثاني لم قلتم: لا يقدر فيهم أكثر من ذلك، أو ليس للصحبة والمشاهدة لطلعة المصطفى من البر ما الله به عليم؟.

الشرح: "واستدل: لو كان حجة لتناقضت الحُجَج"؛ لكثرة الاختلاف بينهم.

"وأجيب: بأن" التَّنَاقض مدفوع، فإنه إذا كان حجّة، ووجد الخلاف بينهم كان الحكم في الدليلين يتعارضان، فإن "الترجيح، أو الوقف، أو التخيير" الذي ذهب إلى كل واحد منها

حالة التعارض ذاهب "بدفعه".

= والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 194، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني 179، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 396، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 434، وأعلام الموقعين لابن القيم 4/ 92، وإرشاد الفحول للشوكاني 243.

(1)

في أ، ت: في.

ص: 514

وَأُجِيبَ: بِأنَّ التَّرْجِيحَ أوِ الْوَقْفَ أَوِ التَّخْيِيرَ يَدْفَعُهُ كَغَيْرِهِ.

وَاسْتُدِلَّ لَوْ كَانَ حُجَّةً، لَوَجَبَ التَّقْلِيدُ مَعَ إِمْكَانِ الاِجْتِهَادِ.

وَأُجِيبَ: إِذَا كَانَ حُجَّةً فَلا تَقلِيدَ.

قَالُوا: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ"، "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي".

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُقَلِّدُونَ؛ لأِنَّ خِطَابَهُ لِلصَّحَابَةِ.

أي بدفع التناقض "كغيره" من الأدلة المتعارضة، وفيه نظر.

فإن التعارض بين الدليلين إنما يقع في ظن المجتهد، لا في نفس الأمر.

[وهذا]

(1)

إذا كان قول الصحابي حجة، ونحن نشاهدهم مختلفين يلزم وقوع التعارض في نفس الأمر، ولا قائل به.

الشرح: "واستدل: لو كان حجة لوجب التقليد مع إمكان الاجتهاد".

"وأجيب: إذا كان حجة فلا تقليد"، بل هو حينئذٍ مأخذ من مآخذ الشريعة لو عارضها مأخذ آخر رجح المجتهد منها ما يقضي به اجتهاده.

"قالوا" ما مَرّ من قوله صلى الله عليه وسلم "أَصْحَابِي كَالنُّجُوم" بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ"

(2)

دليل على أن أقوالهم حجة.

وقال صلى الله عليه وسلم: "اقْتَدُوا بِاللَّذَينِ مِنْ بَعْدِي" أبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ"

(3)

أخرجه ابن حبان في صحيحه، ورواه الترمذي، وقال: حسن، ورواه أيضًا أحمد بن حنبل، وابن ماجه، وهو دليل على أن قول الشيخين رضي الله عنه حجة.

"وأجيب: بأن المراد المقلدون؛ لأن خطابه" صلى الله عليه وسلم "للصحابة"، وليس قول بعضهم حجة.

[ولقائل أن يقول: لا يجوز للعامي منهم تقليد الشيخين]

(4)

، ولا قائل بذلك؛

(1)

في أ، ت: وهنا.

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

(4)

سقط في ت.

ص: 515

قَالُوا: وَلَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلِيًّا رضي الله عنهما؛ بِشَرْطِ الاِقْتِدَاءِ بِالشَّيْخَيْنِ؛ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَوَلَّى عُثْمَانَ؛ فَقَبِلَ، وَلَمْ يُنْكرْ؛ فَدَلَّ [عَلَى] أنَّهُ إَجْمَاعٌ.

قُلْنَا: الْمُرَادُ مُتَابَعَتُهُمْ فِي السِّيرَةِ وَالسِّيَاسَةِ، وَإلَّا وَجَبَ عَلَى الصَّحَابِيِّ التَّقْلِيدُ.

إذ يجوز لعامتهم تقليد مجتهدهم، سواء الشيخان وغيرهما.

وإنما الجواب أن معنى الاقتداء التأسِّي في السيرة الحَمِيدَةِ.

الشرح: والمخصصون للشيخين "قالوا" أيضًا: "ولى عبد الرحمن "عليًّا

(1)

بشرط الاقتداء، فلم يقبل: وولى عثمان فقبل، ولم ينكر" على عبد الرحمن صَنِيعَه، "فدل على أنه إجماع" على أن قولهما حجة.

قال أبو وائل: قلت لعبد الرحمن: كيف بايعتم عثمان، وتركتم عليًّا

(1)

؟.

قال: [ما ذَنْبِي]

(2)

قد بدأت بِعَليّ، فقلت: أبايعك على كتاب الله، وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أبي بكر وعمر، فقال: فيما استطعت، ثم عرضت ذلك على عثمان فقال: نعم. رواه عبد الله بن أحمد عن سفيان بن وكيع، وهو متكلم فيه، عن قبيصة عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل.

الشرح: "قلنا" المراد "مبايعتهم في السِّيرة والسياسة" والمشي على سننهم، لا في المسائل الاجتهادية، "وإلا وجب على الصَّحابي التقليد" لصحابي آخر.

(1)

أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند"(1/ 75) ثنا سفيان بن وكيع ثنا قبيصة ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم عليًّا؟

وذكره ابن كثير في تحفة الطالب ص (452 - 453) وقال:

سفيان غير حجة. كذا قاله ابن أبي حاتم وابن حبان وابن عدي.

وقال البخاري: يتكلمون فيه لأشياء لقنوه إياها.

وقال أبو زرعة: متهم بالكذب.

(2)

في ت: ماديني، وهو تحريف.

ص: 516

قَالُوا: إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ؛ فَلا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ نَقْلِيَّةٍ.

وَأُجِيبَ: بِأنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ الصَّحَابِيَّ، وَيَجْرِي فِي التَّابِعِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ.

والذاهبون إلى أنه حُجة إذا خالف القياس "قالوا: إذا خالف القياس، فلا بد من حجة نقلية" حملته على ذلك.

أما أنه لا بد له من حجة فلئلا يرتكب الحرام، والظن به خلافه.

وأما كونها نقلية؛ فلأنها لو لم تكن قياسية، والغرض خلافه، وإذا كان كذلك فتقبل، وتكون الحجة - بالحقيقة - تلك.

وأما الموافقة للقياس، فقد تكون عن القياس، فلا حجة.

"وأجيب: بأن ذلك يلزم الصَّحَابي"، ولو صح، فيجب عليه تقليد صحابي آخر، "ويجري في التابعين مع غيرهم"؛ إذ لا بد لمخالفته من دليل نقلي، وكلاهما خلاف الإجماع.

"تَنْبِيهٌ"

عرفت أن الصحيح عندنا أن قول الصَّحابي لا يحتج به.

فإن قلت: كيف نظر الشافعي مواضع اختلاف الصحابة في الفرائض، واختار مذهب زيد حتى يردد قوله حيث ترددت الرواية عن زيد؟.

قلت: قال علماؤنا: لم يقلد الشافعي زيدًا، ولكن رَجَحَ عنده مذهبه من وجهين.

قال الرافعيُّ: وقد يعترض فيقال: للكلام مجال في أن الوجهين هل يُوجبان الرُّجحان، لكن بتقدير التسليم، فالأخذ بما رجح عنده إن لم يكن بناء على الدليل في كل مسألة لم يخرج عن كونه تقليدًا؛ كالمقلد يأخذ بقول من رجح عنده من المجتهدين، وإن كان بناء على الدليل فهو اجتهاد وافق اجتهادًا، فلا معنى للقول بأنه اختار مذهب زيد، ويجاب عنه بأن الشافعي لم يخل مسألة عن احتجاج واستشهاد، ولكنه استأنس بمارجح عنده من مذهب زيد، وربما ترك به القياس الجلي، وعضد الخفي كقول الواحد من الصحابة إذا انتشر ولم يعرف له مخالف، فباعتبار الاستئناس قيل: إنه أخذ بمذهب زيد، وباعتبار الاحتجاج قيل: إنه لم يقلد.

قلت: ومال ابن الرفعة إلى أن الشافعي قلَّد زيدًا. قال أبي رحمه الله: وليس بجيد،

ص: 517

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولكني أقول: هنا ثلاث مراتب:

أحدها: تقليده كما يقلد العامي عالمًا، وهذا ليس بواقع، معاذ الله!!

والثانية: ألا يخلى مسألة عند اجتهاد، ويوافق اجتهاده، اجتهاد زيد في كل مسألة مع ما ترجح عنده من حال زيد في الفرائض، وذلك مما يقوي به اجتهاده، وهذا هو الذي يظنه بالشافعي.

والثالثة: أن يقصر الدليل في بعض المسائل بحيث لو انفرد لم ينهض، فيعضده قول زيد، فينهض لما علم من شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لزيد، وهذا قد يسمى الأخذ بقول الصحابي إذا عضده دليل خفي "تقليدًا" كما قال الشافعي في البراءة من العيوب لعمر، ففي مذهب أبي زيد أولى؛ لشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له، فَبَانَ أنه حقيقة الاجتهاد وإن سمى تقليدًا؛ لرجحانه بقوله.

"فائدة"

ادعى الشيخ الإمام الوالد رحمه الله أن الشافعي يستثنى في الجديد من قوله: إن مذهب الصحابي ليس بحجة - الأمر التعبدي الذي لا مجال للقياس فيه.

قال: لأن الشافعي قال في "اختلاف الحديث": روى عن علي رضي الله عنه أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات، ولو ثبت ذلك عن علي قلت به.

قال: لأنه لا مجال للقياس فيه، فالظاهر أنه فعله توقيفًا.

وذكر الأصوليون هذا من تفاريع القديم.

قال الشيخ الإمام: وفيه نظر؛ لأن "اختلاف الحديث" من الجديد قال: وينبغي أن يكون هذا حجة قديمًا وجديدًا؛ لأنه لا يفيد ظنًّا لا معارض له.

أحدهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ"

(1)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في السنن 1/ 44 في كتاب الفرائض: الحث على تعليم الفرائض: حديث (4)، وأخرجه أحمد في المسند 3/ 381، وأخرجه الترمذي في السنن 5/ 665 كتاب المناقب (50) باب مناقب معاذ بن جبل

(33) الحديث (3791) وقال: (حديث حسن صحيح) واللفظ لهم، وأخرجه ابن ماجة في السنن 1/ 55، المقدمة: باب فضائل خباب، الحديث =

ص: 518

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثاني: قال القَفّال: ما تكلم أحد من الصحابة في الفرائض إِلَّا وقد وجد له قول في بعض المَسَائل هجره النَّاس بالاتفاق إِلَّا زيدًا؛ فإنه لم يقل بقول مهجور بالاتفاق، وذلك يقتضي التَّرْجيح، كالعمومين إذا وردا وقد خص أحدهما بالاتفاق دون الثاني كان الثَّاني أولى.

= (154) وأخرجه ابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص (548) كتاب المناقب (36) باب فضل جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (10) الحديث (2218) وزاد ابن ماجة وابن حبان في روايتهما:"وأقضاهم علي" وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 422 كتاب معرفة الصحابة: باب أفرض الناس زيد، وقال:(على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي.

ص: 519

[مَبْحَثٌ فِي الاسْتِحْسَانِ]

(1)

‌الاِسْتِحْسَانُ:

قَالَ بِهِ الْحَنَفِيةُ وَالْحَنَابِلَة، وَأَنْكرَهُ غَيْرُهُمْ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: مَنِ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ، وَلا يَتَحَقَّقُ اسْتِحْسَانٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَقِيلَ: دَلِيلٌ يَنْقدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَعْسُرُ عِبَارَتُهُ عَنْهُ.

قُلْنَا: إنْ شَكَّ فِيهِ فَمَرْدُودٌ، وَإنْ تَحَقَّقَ، فَمَعْمُولٌ بِهِ اتِّفَاقًا.

الشرح: "الاستسحان"

(2)

قال به الحنفية، والحنابلة، وأنكره غيرهم حتى قال

(1)

سقط في أ، ت.

(2)

جرى لفظ الاستحسان في عبارات بعض الأئمة على وجه يتوهم منه أن الاستحسان أصل من الأصول التي يرجع إليها في استنباط الأحكام، وتعرض له علماء الأصول عند بحث الأدلة، ونسبوا الأخذ به إلى بعض الأئمة، ونقلوا إنكاره عن آخرين.

واستند الحنفية إلى الاستحسان في تقرير كثير من الأحكام، ويعارضون به القياس، فيقولون في بعض الأحكام: هذا ما يقتضيه الاستحسان، وذاك ما يقتضيه القياس.

وعبر الإمام الشافعي بالاستحسان في أحكام بعض الحوادث، فقال: أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين، وقال: أستحسن أن يؤجل الشفيع ثلاثًا.

وأنكر قوم أن يكون الاستحسان دليلًا شرعيًّا، وشنعوا على القائلين به؛ ظنًّا منهم أن استحسان هؤلاء الأئمة من قبيل الرجوع إلى الرأي دون رعاية دليل شرعي ثابت، والرجوع إلى الرأي المحض في تقرير الأحكام الشرعية لا يقول به عامي مسلم فضلًا عن إمام بلغ رتبة الاجتهاد أو الترجيح. ومن هنا تصدي علماء الأصول من المالكية والحنفية لتفسير الاستحسان الوارد في عبارات أئمتهم، وبينوا أنه عائد إلى أدلة متفق عليها، أو أدلة معروفة في مذهب المعبر به، وحملوا قول الإمام الشافعي:"من استحسن فقد شرع" على معنى الاستحسان الذي لا يقوم على رعاية دليل شرعي، وكذلك الأثر الذي يسوقه بعض المحتجين لصحة القول =

ص: 520

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشَّافعي: من استحسن فقد شرع".

"ولا يتحقق استحسان مختلف فيه"؛ لأن الخلاف لم [يقطع]

(1)

في إطلاق لفظه الاستحسان.

فذلك لا ينكره أحد، ولا في أن المراد لا يحل؛ لأنه يفتى بمجرد تشهيه للشيء، واستحسانه له.

= بالاستحسان، وهو "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" إنما يحمل على أن المراد بـ "المسلمين" ذوو الكفاية لاستنباط الأحكام، فيكون دليل الاحتجاج بالإجماع.

أما المالكية فيقول محققوهم كأبي الوليد الباجي: الاستحسان هو الأخذ بأقوى الدليلين؛ وكذلك قال ابن خويزمنداد: معنى الاستحسان عندنا القول بأقوى الدليلين. ويضاهي هذا قول الحفيد بن رشد: الاستحسان عند مالك هو الجمع بين الأدلة المتعارضة. ومعنى هذا أن الاستحسان في مذهب مالك ليس بدليل مستقل، وإنما هو ترجيح أحد الدليلين على الآخر، كأن يتعارض في حادثة جزئية قياسان أو يعارض أصلًا من الأصول عرف أو مصلحة مرسلة أو سد ذريعة، فينظر المجتهد ويرجح أحد القياسين على الآخر، أو يرجح قاعدة العرف أو المصالح المرسلة أو سد ذريعة على ذلك الأصل المعارض.

ينظر: البحر المحيط للزركشي 6/ 87، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 136، ونهاية السول للأسنوي 4/ 398، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 187، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري 139، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 318، والمنخول للغزالي 374، وحاشية البناني 2/ 353، والإبهاج لابن السبكي 3/ 188، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 193، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 394، والمعتمد لأبي الحسين 2/ 295، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 687، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6/ 192، وكشف الأسرار للنسفي 2/ 290، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 288، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 83، ونسمات الأسحار لابن عابدين 224، وتقريب الوصول لابن جُزي 146، وإرشاد الفحول للشوكاني 240، ومنتهى السول والأمل (207)، والوصول لابن برهان 2/ 320، والحدود 65، وشرح تنقيح الفصول 451.

(1)

في أ، ت: يقع.

ص: 521

وَقِيلَ: هُوَ الْعُدُولُ عَنْ قِيَاسِ إِلى قِيَاسٍ أَقْوَى وَلا نِزَاعَ فِيهِ.

وَقِيلَ: تَخْصِيصُ قِيَاسٍ بِأقْوَى مِنْه، وَلا نِزَاعَ فِيهِ.

وَقِيلَ: [هُوَ] الْعدُولُ إِلَى خِلافِ النَّظِيرِ؛ لِدَلِيل أَقْوَى، وَلا نِزَاعَ فِيهِ.

وَقِيلَ: الْعُدُولُ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ إِلَى الْعَادَةِ؛ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ؛ كَدُخُولِ الْحَمَّامِ، وَشُرْبِ الْمَاءِ مِنَ السِّقَاءِ.

قُلْنَا: مُسْتَنَدُهُ جَرَيَانُهُ فِي زَمَانِهِ أَوْ زَمَانِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِنكارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وإلَّا فَهُوَ مَرْدُودٌ، فَإنْ تَحَقَّقَ اسْتِحْسَانٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ -: قُلْنَا: لا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَوَجَبَ تَرْكُهُ.

ومن قال ذلك فقد اقتحم عظمًا، وشرع حكمًا من قِبَلِ نفسه، والقوم لا يقولون ذلك، بل اختلفوا "فقيل: دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه.

قلنا: "إن شك فيه" أي في كونه دليلًا، "فمردود" اتفاقًا؛ إذ لا تثبت الأحكام بمجرّد الاحتمال والشك.

"وإن تحقق" كونه دليلًا، سواء أكان قطعيًّا أم ظنيًّا، "فمعمول به اتفاقًا".

ولقائل أن يقول على الشق الأول: لا معنى لقولكم: إن شك في كونه دليلًا، وعلى الثَّاني: لا نسلم أنه لا يمكن التعبير عنه من الأدلة يعمل به.

الشرح: "وقيل: إنه العدول عن قياس أقوى، ولا نزاع فيه".

أي: في أن أقوى القياسين معمول به عند التَّعَارض.

"وقيل: تخصيص قياس بأقوى منه، ولا نزاع فيه" أيضًا، والكلام فيه راجع إلى الكلام في تخصيص العلة.

"وقيل: العدول إلى خلاف النظير لدليل أقوى، ولا نزاع فيه".

"وقيل: العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، كدخول الحمام" من غير تقدير الماء، ولا عوض، ولا مُدة اللبث، "وشرب الماء من السقاء"، وجواز الاستصباغ؛ فإنه. قد ظهر تعامل الأمة به قديمًا وحديثًا من غير نكير، والقياس منعه؛ لأنه بيع مَعْدوم.

"قلنا": هذا العدول إلى العادة هل "مستنده جريانه في زمانه" عليه السلام "أو

ص: 522

قالَوا: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ

} [سورة الزمر: الآية 55]، قُلْنَا: ...........

زمانهم مع علمهم من غير إنكار أو غير ذلك"، فإن كان مستنده جريانه في زمانه عليه السلام فهو ثابت بالسُّنة، أو زمانهم من غير إنكار فبالإجماع وإن كان غير ذلك، فإن كان نصًّا أو قياسًا، فقد ثبت به، "وإلا فهو مردود"، وقد اختلف أصحابنا في فرض الخَبَرِ على وجهين:

أحدهما، وهو رأي صاحب "الشامل" "والتتمة" و "المستظهري": الجواز؛ لإجماع أهل الأعصار على فعله.

والثاني، وهو الأصح عند صاحب "التهذيب": المنع، وما ذكر من الإجماع فليس هو إجماع أهل الحل والعقد، بل إجماع العامة، ولا اعتبار بهم، و [قد]

(1)

اختلفوا فيمن دفع ثوبًا إلى قَصَّار ليقصره، أو خَيَّاط ليخيطه، أو جلس بين يدي حَلاق ليحلق رأسه.

والأصح المنصوص: لا أجرة مطلقًا، وقيل: يجب أجرة المِثْل للعادة.

وقيل غير ذلك كما هو مَسْطور في الفقهيات، فاعتبر جميع المسائل به.

واعلم أن كلّ ما أجمعوا على صحته، فقد علموا له مأخذًا، وما أجمعوا على بُطْلانه لم يعلموا له مأخذًا، وما اختلفوا فاختلافهم اختلاف في أنه هل له مأخذ أولا، كما ذكرناه؟ فنقول: من يعتبره أنه إجماع، ومن ينكره أنه ليس إجماع أهل الحل والعقد، فلا يعتبر، "فإن تحقق استحسان مختلف فيه، قلنا" في رده: "لا دليل عليه، فوجب تركه".

الشرح: "قالوا" قال تعالى: " {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ" مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الزمر: الآية 55] والأمر للوجوب، فدل على ترك بعض، واتباع بعض بمجرد كونه أحسن، وهو معنى الاستسحان (قلنا أي: الأظهر والأولى) وليس المراد ما نستحسنه بعقولنا بمجرد تشهيها له اتفاقًا (و) ما احتجوا به من قوله صلى الله عليه وسلم (مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ)

(2)

يقول فيه أولًا: هذا رواه الإمام أحمد بن حنبل وعثمان بن سعيد الدَّارمي عن ابن

(1)

سقط في أ، ت.

(2)

هذا لا يصح مرفوعًا، بل هو مأثور من قوله سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أخرجه أحمد في المسند بلفظ: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب =

ص: 523

أَي: الأظْهَرَ وَالأوْلَى، وَ"مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ" يَعْنِي: الإجْمَاعَ، وَإلَّا لَزِمَ الْعَوَامُّ.

مسعود من قوله وليس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم أخطأ فرفعه.

وإنما روى مرفوعًا من حديث أنس بإسناد ساقط لا يحتج به.

وبيانًا أنه صلى الله عليه وسلم "يعني" به "الإجماع"؛ لأنه الذي يراه المسلمون، فإن "المسلمين" صيغة عموم، فيتناوله جميع أهل الحل والعقد لا ما رآه كل واحد، "وإلا لزم" حسن ما رآه "العوام" حسنًا، وإذا كان المراد بالإجماع، فنحن قائلون بأنه حجة.

"فائدة"

عرفت أن الخلاف لفظي راجع إلى نفس التسمية، وأن المنكر عندنا إنما هو جعل الاستحسان أصلًا من أصول الشريعة مغايرًا لسائر الأدلة.

وأما استعمال لفظ الاستحسان فلسنا ننكره.

فقد قال الشَّافعي رضي الله عنه: مراسيل ابن المسيّب حسنة.

وقال: أستحسن في المُتْعة أن تكون

(1)

ثلاثين درهمًا، وأستحسن أن تثبت الشُّفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام، وأستحسن أن يترك [للمكاتب]

(2)

شيء من نجوم الكتابة، وحسن أن يضع أصبعيه في صماخي أذنيه إذا أذن.

= العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه يقاتلون عن دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء".

وأخرجه الحاكم 3/ 78 - 79 في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة من طريق الإمام أحمد.

وأخرجه أبو داود والطيالسي 1/ 33 في مسنده في كتاب العلم: باب ما جاء في فضل العلم والعلماء والتفقه في الدين.

وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 375، وأخرجه البيهقي في الاعتقاد ص 322.

(1)

في ت: يكون.

(2)

في ت: للكاتب.

ص: 524

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال الغزالي: استحسن الشافعي التَّحليف على المصحف.

وقال الرافعي في التَّغْليظ على المعطّل في اللّعان: أستحسن أن يحلف، ويقال: قل بالله الذي خلقك ورزقك، وقال القاضي الروياني فيما إذا امتنع المدعي من اليمين المردودة وقال: أمهلوني لأسأل الفقهاء: واستحسن قضاة بلدنا إمهاله يومًا.

وقال أبو الفرج السَّرَخْسِيّ في تقدِير نفقة الخادم على الزوج المتوسط: استحسن الأصحاب أن يكون عليه مُدّ وسدس؛ لتفاوت المَرَاتب في حق الخادمة، كان الموسر عليه مُدّ وثلث، والمعسر مُد، فليتوسط في المتوسّط كما تفاوت المراتب في حق المخدومة.

وقال الأصحاب: ليس لولي المجنونة والصَّبية المراهقة إذا آلى عنها الزَّوج وضربت المدة، وانقضت أن يطالب بالفيئة؛ لأن ذلك لا يدخل في الولاية، وحسن أن يقول الحاكم للزوج على سبيل النصيحة: اتق الله في أليها أو طلقها.

فإن قلت: قال الشَّافعي في السارق إذا أخرج يده اليسرى بدل اليمنى: القياس أن يقطع يمناه، والاستحسان ألا يقطع.

وقال الأودني

(1)

في "اختلاف الأصحاب" في مسألة الجارية المغنية، وهي التي اشتريت بألفين ولولا الغناء لساوت ألفا: كل هذا استحسان، والقياس الصحة، وهذا نظر في الاستحسان من الشافعي في مسألة السَّارق، وممن عدا الأودني من الأصحاب في مسألة المغنية، قلت: قول الشَّافعي: "الاستحسان ألا يقطع" ليس فيه أنه قال بالاستحسان [على]

(2)

أنه قضى على من يحتج بالاستحسان بألا يقطع، فهو إلزام لقائله لا قول به، وقول

(1)

محمد بن عبد اللّه بن محمد بن بصير بن ورقاء، الإمام أبو بكر الأودني. كان شيخ الشافعية بما وراء النهر. قال الحاكم: كان من أزهد الفقهاء وأورعهم وأعبدهم وأبكاهم على تقصيره، وأشدهم تواضعًا وإنابة. وقال الجويني: كان من دأبه أن يضن بالفقه على من لا يستحقه، وإن ظهر بسببه أثر الانقطاع في المناظرة.

توفي بـ "بخاري" من ربيع الأول سنة 385 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 3/ 346، وشذرات الذهب 3/ 118، وطبقات الفقهاء للعبادي ص (92)، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 191، وابن قاضي شهبة 1/ 165.

(2)

في ب، ح: بل.

ص: 525

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأودني: "كلّ هذا استحسان" ردّ على من قال بخلاف الصحة في الحقيقة، ولذلك كان هو الأصح في المذهب.

وقال الإمام: إن القياس السديد - والأودنى يقول قول المحمودي

(1)

- في المسألة بالبطلان.

وتفريق الشيخ أبي زيد أن يعضد الغناء فيبطل، أولا فلا يصح إلَّا على القول بالاستحسان الذي هو عندنا مردود.

فإن قلت: فيلزمك على هذا أن يكون المحمودي، وأبو زيد قالا بالاستحسان.

قلت: وإنما قالا بما ظناه غير استحسان، وهو عند الأودني استحسان، ولو كان عندهما استحسانًا لم يقولا به، وبالله التوفيق، والله أعلم.

(1)

محمد بن محمود، أبو بكر المحمودي، المروزي، أخذ هو وابن خزيمة وأبو إسحاق المروزي عن عبدان. ذكره العبادي في الطبقات قبل ابن المنذر والإصطخري. لا يُعلم وقت وفاته.

ينظر: طبقات الفقهاء للعبادي ص (65)، وطبقات الشافعية 2/ 191، وطبقات الشافعية للإسنوي ص (409)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 119.

ص: 526

‌الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ

تَقَدَّمَتْ.

لَنَا: لَا دَلِيلَ؛ فَوَجَبَ الرَّدُّ.

قَالُوا: لَوْ لَمْ تُعْتَبَرْ، لأَدَّى إلَى خُلُوِّ وَقَائِعَ.

قُلْنَا: بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو، الْعُمُومَاتُ وَالْأَقْيِسَةُ تَأْخُذُهَا.

الشرح: وهي ما لم يشهد له من الشرع بالاعتبار أصل معين وإن كانت مما تتلقاه العقول بالقبول

(1)

.

"تقدمت" في القياس.

لنا: لا دليل" عليها، "فوجب الرد.

قالوا: لو لم تعتبر لأدّى إلى خلو وقائع" عن الحكم؛ إذ النصوص وأصول الأقيسة لا تفي بجميع الحوادث، وهو باطل. "قلنا:" لا نسلم بطلان الخلو "بعد تسليم أنها لا تخلو" لا نسلّم اللزوم، وهو حصول الخلو إذا لم نقل بالمصالح المرسلة؛ إذ "العمومات والأقيسة [تأخذها]

(2)

"جميعًا أي تتناول جميع الحوادث، وإن نسلم فعدم المدرك بعد ورود الشرع مدرك شرعي في التخيير

(3)

.

(1)

ينظر: البحر المحيط للزركشي 6/ 76، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 139، ونهاية السول للأسنوي 4/ 385، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 184، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 331، والمنخول للغزالي 353، والإبهاج لابن السبكي 3/ 188، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 289، وإرشاد الفحول للشوكاني 241، والمختصر لابن اللحام (162)، وتقريب الوصول (148).

(2)

في ب، ت: بأحدها.

(3)

لا نزاع في بناء الأحكام على المصالح التي قام الدليل الشرعي على رعايتها، ومثال هذا حفظ =

ص: 527

‌الاجْتِهَادُ

فِي الاصْطِلَاحِ: اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَالْفَقِيه، تَقَدَّمَ، وَقَدْ عُلِمَ الْمُجْتَهِدُ وَالْمُجْتَهَدُ فِيهِ.

الشرح: "الاجتهاد" وهو في اللُّغة: استفراغ الوسع في تحصيل شيء، وأنت تعلم

= العقل الذي دل على رعايته تحريم الخمر وإقامة الحد على شاربها، فإذا عرض للمجتهد مطعوم لا يسمى خمرًا ولكنه يفعل بالعقل ما تفعله الخمر لم يتردد في تحريمه أخذًا بالدليل القائم على اعتداد الشارع بمصلحة حفظ العقل وبنائه بعض الأحكام على رعايتها، وهذا هو أصل القياس في الشريعة؛ فإنه مبني على التفقه في بعض الأحكام المنصوصة ومعرفة قصد الشارع فيها إلى مصلحة بعينها، حتى إذا وجدت هذه المصلحة في واقعة أخرى أخذت حكم الواقعة المصرح بها.

ولا نزاع في عدم الاعتداد بالمصالح التي قام الدليل الشرعي على إلغائها، والشارع الحكيم لا يلغي مصلحة إلا إذا عارضتها مصلحة أرجح منها؛ أو استتبعت مفسدة لا يستخف بأمرها، ومثال هذا الاستسلام للعدو: قد يبدو أن فيه مصلحة حفظ النفوس في القتل، ولكن الشارع رأى أن هذه المصلحة مغمورة بالمفاسد من كل جانب، فلم يعتد بها، وأذن في دفاع العدو نظرًا إلى مصلحة أرجح منها، وهي احتفاظ الأمة بالعزة والكرامة والتمكن من المسابقة في مضمار الحياة.

ومن هذا الباب تعدد الزوجات: يتبعه من الضرر أن تتألم المرأة من أن تشاركها في صلة الزوجية امرأة أخرى، ففي ترك التعدد مصلحة هي: قطع وسيلة استياء الزوجة، ولكن الشارع ألغى هذه المصلحة مكتفيًا بما اشترطه من العدل بين الزوجات، وأباح التعدد نظرًا إلى ما قد =

ص: 528

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بعد معرفتك أنه استفراغ الوسع أنه لا يكون إلّا فيما فيه مشقّة وكلفة.

"وفي الاصطلاح: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظنّ يحكم شرعي"، ومعنى استفراغ الوسع بذل تمام الطَّاقة بحيث تحس النفس بالعجز عن المزيد، وهو جنس، والفقيه احتراز عن المقلد.

وإنما قلنا: لتحصيل ظن؛ لأنه لا اجتهاد في القطعيات، وقولنا: بحكم شرعي، يخرج غيره من الحسيات والعقليات؛ فإنه بمعزل عن مقصودنا.

"والفقيه" ذو الفقه، وقد "تقدم" في أول الكتاب تفسير الفقه، فعرفت به الفقيه، "وقد علم" من هذا التعريف ركنا الاجتهاد، وهما "المجتهد، والمجتهد فيه"، فالمجتهد من اتصف بالاجتهاد.

والمجتهد فيه حكم ظني شرعي عليه دليل.

قال بعض علمائنا: والاجتهاد في حقّ العلماء على ثلاثة أضرب:

= يترتب عليه من المصالح، كتكثير النسل، ومساعدة الرجل على تجنب الحرام الذي قد يقع فيه صاحب الزوجة الواحدة إذا عرض مانع من التمتع بها مثل المرض والنفاس.

ويبقى النظر في المصالح التي لم يقم دليل معين على رعايتها أو على إلغائها، وهذه هي التي تسمي المصالح المرسلة، وقد اعتد بهذه المصالح كثير من الفقهاء، وبنوا بعض الفتاوى على رعايتها، والجاري على بعض الألسنة والأقلام أنها أصل من أصول المذهب المالكي، والواقع أن لها يدًا في سائر المذاهب المعول عليها، وللمالكية القسط الأوفر في استثمارها، قال ابن دقيق العيد: الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحًا على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في استعماله. وقال البغدادي في "جنة الناظر": لا تظهر مخالفة الشافعي لمالك في المصالح؛ فإن مالكًا يقول: إن المجتهد إذا استقرأ موارد الشرع ومصادره، أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح في جزئياته وكلياته، وأن لا مصلحة إلا وهي معتبرة في جنسها، لكنه استثنى من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة، وما حكاه أصحاب الشافعي عن الشافعي لا يعدو هذه المقالة.

ولهذه القاعدة أمثلة مسوقة في كتب الأصول من فتاوى السلف وأقضيتهم.

ص: 529

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فرض عَيْن، وفرض كِفَاية، ونَدْب.

فالأوَّل على حالتين:

إحداهما: اجتهاده في حق نفسه عند نزول الحادثة به.

والثانية: اجتهاده فيما تعيّن عليه الحكم فيه، فإن ضاق فرض الحادثة كان على الفور، وإلا على التراخي.

والثاني على حالتين:

إحداهما: إذا نزلت بالمستفتي حادثة، فاستفتى أحد العلماء توجه الفرض على جميعهم، وأخصهم بفرض من خصّ بالسؤال عنها، فإن أجاب هو أو غيره سقط الفرض، وإلا أثموا جميعًا.

قلت: حكى أصحابنا وجهين فيما إذا كان في الواقعة شهود يحصل الفرض ببعضهم، والأصح وجوب الإجابة إذا طلب الأداء من البعض، وفي الفرق غموض.

والثانية: إن تردد الحكم بين قاضيين مشركين في النظر، فيكون فرض الاجتهاد مشتركًا بينهما، فأيهما تفرد بالحكم فيه سقط فرضه عنهما.

والثالث على حالتين:

إحداهما: فيما يجتهد فيه العالم من غير النَّوازل ليسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله.

والثانية: أن يستفتيه قبل نزولها.

ص: 530

مَسْأَلَةٌ:

اخْتُلِفَ فِي تَجَزُّؤِ الاجْتِهَادِ:

"الْمُثْبِتُ": لَوْ لَمْ يَتَجَزَّأْ، لَعُلِمَ الْجَمِيع، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي.

وَأُجِيبَ: بِتَعَارُضِ الأَدِلَّةِ، وَبِالْعَجْزِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَالِ.

قَالُوا: إِذَا اطَّلَعَ عَلَى أَمَارَاتِ مَسْأَلَةٍ، فَهُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ مُتَعَلِّقًا.

النَّافِي: كُلُّ مَا يُقَدَّرُ جَهْلُهُ يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِالْحُكْمِ الْمَفْرُوضِ.

وَأُجِيبَ: الْفَرْضُ حُصُولُ الْجَمِيعِ فِي ظَنِّهِ عَنْ مُجْتهدٍ، أَوْ بَعْدَ تَحْرِيرِ الْأَئِمَّةِ لِلأَمَارَاتِ.

«مسألة»

الشرح: "اختلف في تجزُّؤ الاجتهاد"

(1)

، أي: أنه هل يجوز أن ينال رجل منصب الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فيحصل له ما هو مناط الاجتهاد فيها؟.

(1)

ينظر: المحصول 2/ 3/ 37، والمستصفى 3/ 353، والرسالة (479)، وشرح الكوكب 606، وشرح تنقيح الفصول 437، وجمع الجوامع 2/ 386، والروضة (191)، وكشف الأسرار 4/ 17، والتحرير (524)، والتيسير 4/ 182، وفواتح الرحموت 2/ 364.

والصحاح 2/ 460 - 461، ولسان العرب 1/ 709. وينظر: التمهيد لأبي الخطاب 4/ 307، والمسودة 1495، والرسالة 479، والبرهان لإمام الحرمين 2/ 1316، البحر المحيط للزركشي 6/ 195، وسلاسل الذهب للزركشي ص 437، والتمهيد للأسنوي ص 519، ونهاية السول له 4/ 524، وزوائد الأصول له ص 428، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 260، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 225، والتحصيل من المحصول للأرموي 2/ 281، والمنخول للغزالي ص 451، والمستصفى له 2/ 350، وحاشية البناني 2/ 379،=

ص: 531

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والأكثر أثبتوا ذلك، واحتج "المثبت" للتجزؤ أولًا بأنه "لو لم يتجزأ لعلم الجميع"، واللازم منتفٍ؛ إذ لم يحط أحد من المجتهدين علمًا بجميع أحكام الله تعالى، "وقد سئل مالك"، وهو من أكابرهم "عن أربعين مسألة، فقال في ستّ وثلاثين منها: لا أدري، وأجيب" بأن العلم بجميع المآخذ لا يوجب العلم بجميع الأحكام، بل قد يجهل البعض "بتعارض الأدلة" فيه، "وبالعجز عن المبالغة" في النظر "في الحال" إما لمانع يشوش الفكر، أو لاستدعائه زمانًا طويلًا، "قالوا" ثانيًا:"إذا اطلعت على أمارات مسألة، فهو وغيره سواء" فيها، وكونه لا يعلم أمارات غيرها لَا مَدْخَلَ له فيها، فيكون حكمه فيها حكم غيره.

"وأجيب: بأنه قد يكون ما لم يعلمه متعلقًا" بما علمه وهذا احتمال يقوى عند من لم يحط بجميع المآخذ، ولا ينتهض عند من أحاط بها، فليسا سواء، قال "النافي" للتجزؤ:"كل ما يقدر جهله يجوز تعلّقه بالحكم المفروض".

ولا يحصل له ظن عدم المانع من مقتضى ما يعلمه من الدليل.

"وأجيب: الفرض حصول الجميع" جميع ما هو أمارة في تلك المسألة "في ظنه" إما بتلقيه له "عن مجتهد، أو بعد تحرير الأئمة للأمارات"، وضم كل إلى جنسه، فما ذكرتم من الاحتمال لا يقدح إذن في ظنّ الحكم، فيجب عليه العمل به، ولقائل أن يقول: قولك: "الفرض حصول الجميع في ظنّه" يرد قولك قبله: قد يكون ما لم يعلمه متعلقًا بما علمه.

= والإبهاج لابن السبكي 3/ 246، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 242، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 420، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 607، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/ 525، وتيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 178، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/ 291، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 1048، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 289، وشرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 117، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 225، والوجيز للكراماستي ص 84، والموافقات للشاطبي 4/ 89، وتقريب الوصول لابن جُزَيّ ص 191، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 250، وشرح مختصر المنار للكوراني ص 105، ونشر البنود 2/ 39، والكوكب المنير للفتوحي ص 606.

ص: 532

مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ عليه السلام كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالاجْتِهَادِ.

لَنَا: مِثْلُ قَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [سورة التوبة: الآية 43]،:"وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ"، وَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ بِالْوَحْيِ.

وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ: بِقَوْلِهِ: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [سورة النساء: الآية 105]؛ وَقَرَّرَهُ الْفَارِسِيُّ.

"فائدة"

عبارة الرَّافعي في "الشرح": يجوز أن يكون للعالم منصب الاجتهاد في باب دون باب. "فالناظر في مسألة المشتركة يكفيه معرفة أصول الفرائض، ولا يضره ألا يعرف الأخبار الواردة في تحريم المُسْكر مثلًا. انتهى.

فقد يقال: هل الخلاف في تجزؤ الاجتهاد مخصوص بما إذا عرف بابًا دون باب.

أما مسألة دون مسألة فلا يتجزّأ قطعًا؛ لشدّة ارتباط مسائل الباب بعضها ببعض، وتباعد ارتباط مسائل بابين مختلفين، والخلاف مطلقًا.

والأظهر: أن الخلاف صار في الصورتين إلا أن تجويز التجزؤ في البابين أقوى منه في مسائل الباب الواحد مع جوازهما جميعًا عند عدم ارتباط ما عرفه بما جهله.

«مسألة»

الشرح: "المختار: أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدًا بالاجتهاد.

لنا:" الوقوع، ودليله

(1)

"مثل قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [سورة التوبة:

(1)

ينظر: المحصول 2/ 3/ 9، وشرح تنقيح الفصول (436)، والإحكام للآمدي 4/ 143، ومنتهى السول والأمل 209، وروضة الناظر 2/ 409، وشرح العضد 2/ 291.

ص: 533

وَاسْتَدَلَّ: بِأَنَّهُ أَكْثَرُ ثَوَابًا؛ لِلْمَشَقَّةِ فِيهِ؛ فَكَانَ أَوْلَى.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ سُقُوطَهُ لِدَرَجَةٍ أَعْلَى.

قَالُوا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم: الآية 3، 4].

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الظَّاهِرَ رَدُّ قَوْلِهِمُ: افْتَرَاه، وَلَوْ سُلِّمَ، فَإِذَا تُعُبِّدَ بِالاجْتِهَادِ بالْوَحْيِ، لَمْ يَنْطِقْ إِلَّا عَنْ وَحْيٍ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ لَجَازَ مُخَالَفَتُهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ الاجْتِهَادِ.

وَأُجِيبَ: بِالْمَنْعِ كَالْإِجْمَاعِ عَنِ اجْتِهَادٍ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ، لَمَا تَأَخَّرَ فِي جَوَابٍ.

الآية 43]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الهَدْيَ"

(1)

.

واللفظ في "صحيح مسلم" من حديث جابر: "لَوْ أَنِّي اسْتَقْبلْتُ مِنْ أَمْري مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الهَدْيَ"، "ولا يستقيم ذلك فيما كان بالوحي.

واستدل" القاضي "أبو يوسف بقوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [سورة النساء: الآية 105]، وقرره الفارسي" هكذا الرؤية هنا ليست بَصْرية مثل:"رأيت"؛ لاستحالتها في الأحكام، ولا العلمية مثل: رأيت زيدًا قائمًا؛ لوجوب ذكر المعقول الثالث له لذكر الثاني؛ إذ المعنى: بما أراكه الله؛ ليتم الصلة، فتعين أن يكون المراد الرأي أي ما جعله رأيًا لك.

واعترض بأنه بمعنى الإعلام، و"ما" مصدرية، فلا ضمير، وحذف المفعولان معًا، والتقدير حينئذ: بإرائك الله، بإضافة المصدر إلى المفعول، ولقائل أن يقول: الرأي هو الاجتهاد، والقياس أضيف إلى المفعول، وكانت "ما" مصدرية أولًا، فالتقدير ناهض على التقديرين.

(1)

أخرجه مسلم (2/ 886 - 892) كتاب الحج: باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، رقم (147) من حديث جابر.

ص: 534

قُلْنَا: لِجَوَازِ الْوَحْيِ أَوْ لاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ.

قَالُوا: الْقَادِرُ عَلَى الْيَقِينِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الظَّنُّ.

قُلْنَا: لا يُعْلَمُ إِلَّا بَعْدَ الْوَحْيِ، فَكَانَ كَالْحُكْمِ بِالْشَّهَادَةِ.

الشرح: "واستدل بأنه أكثر ثوابًا للمشقّة فيه، فكان أولى، وأجيب: بأن سقوطه لدرجة أعلى" من الاجتهاد.

"قالوا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم: الآية 3، 4] يدل على أن جميع ما يأتيه ويذره بالوحي.

"وأجيب: بأن الظاهر" منه "ردّ قولهم: "افْتَرَاهُ".

والحاصل أن الضمير عائد على القرآن لا على كُلّ ما كان يأتيه ويذره حتى ينتفي الاجتهاد.

"ولو سلم، فإذا تعبد بالاجتهاد بالوحي لم ينطق إلا عن وحي.

قالوا: لو كان" متعبدًا بالاجتهاد "لجاز" للمجتهدين "مخالفته" فيه؛ "لأنها" أي: المخالفة بوصف الجواز "من" "أحكام الاجتهاد"؛ إذ يجوز للمجتهد مخالفة المجتهد.

"وأجيب: بالمنع" من الملازمة، فقد لا يجوز مخالفة الحكم الاجتهادي "كالإجماع عن اجتهاد قالوا: لو كان" مجتهدًا "لما تأخر في جواب" عن سؤال، بل كان يجتهد، ويجيب لوجوبه عليه، واللازم باطل؛ لأنه أخر جواب مسائل كثيرة.

الشرح: "قلنا:" ربما كان التأخير "لجواز الوحي، أو لاستفراغ الوُسْعِ" في الاجتهاد، وإنما أخر في مسائل لامتناع الاجتهاد فيها.

"قالوا:" الاجتهاد لا يفيد إلا الظن، والوحي قاطع، "والقادر على اليقين يحرم عليه الظَّن"، كالغائب عن القِبْلَةِ لا يعتمد على خبر من أخبره عن علم، ولا على الاجتهاد إلا إذا تعذّر التعيين، ولذلك الأصح عندنا أن من استقبل حجر الكعبة وحده لا تصحّ صلاته؛ لأن كونه من البيت غير مقطوع به، فلا يعدل عن التعيين إليه، ونظائره تكثر، "قلنا:" لا نسلّم وجود القدرة على اليقين؛ فإنه "لا يعلم" الحال "إلا بعد الوحي"، وليس بمقدور، نعم بعد الإيماء هو قادر، وحينئذ لا يجوز الاجتهاد وفاقًا، أما قبل الإيماء فلا قدرة، "فكان كالحكم بالشَّهادة" مع أنها لا تفيد إلَّا الظن.

ص: 535

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولا يقال: يمكنه معرفة الحكم يقينًا بالوحي، فيحرم الظَّن؛ لأن الوحي معدوم إذ ذاك.

ولو انتظر الوحي لانتظر كلّ مجتهد الإجماع، وانطوى بساط الاجتهاد، وقد وضح انتفاء القدرَة على اليقين.

ولو سلمنا وجودها فلم قلتم: القادر على اليقين يجبر على الاجتهاد، والأصح فمن شك في نَجَاسة أحد الإناءين ومعه ماء طاهر بيقين أو الثوبين أنه يجوز له الاجتهاد، وأمثلته كثيرة.

ص: 536

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ: وُقُوعُ الاجْتِهَادِ مِمَّنْ عَاصَرَهُ ظَنًّا.

[وَثَانِيهَا: لَمْ يَقَعْ].

وَثَالِثُهَا: الْوَقْفُ.

وَرَابِعُهَا: الْوَقْفُ فِيمَنْ حَضَرَهُ.

لَنَا: قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه: لَاهَا اللهِ، إِذَنْ لَا يَعْمَدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ"، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ".

«مسألة»

الشرح: "مسألة: المختار" من أقوال كثيرة: "وقوع الاجتهاد ممن عاصَرَه" صلى الله عليه وسلم من مجتهدي الصّحابة في حضوره وغيبته "ظنًّا"، ولم يقل أحد: إنه وقع قطعًا

(1)

.

وثانيها: لم يقع.

"وثالثها: الوقف.

ورابعها: الوقف فيمن حضره"، والقول بأنه وقع من الغائب [عنه]

(2)

.

وخامسها: القول بامتناعه رأسًا.

وسادسها: الجواز للغائبين من الولاة والقضاة فقط.

"لنا: قول أبي بكر رضي الله عنه " بالاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وتصويبه، وهو مروي في "الصحيحين" عن أبي قَتَادَه الأنصاري، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام "حنين" فذكر قصته في قتله القتيل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَتَلَ

(1)

ينظر: الإحكام للآمدي 4/ 152، وشرح العضد 2/ 292، ونهاية السول 4/ 538.

(2)

سقط في ب.

ص: 537

وَحَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَحَكَمَ بِقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ، فَقَالَ عليه السلام:"لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ". قَالُوا: الْقُدْرَةُ عَلَى الْعِلْمِ تَمْنَعُهُ الاجْتِهَادَ.

قُلْنَا: تَثْبُتُ الْخِيَرَةُ بِالدَّلِيلِ.

قَالُوا: كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ.

قُلْنَا: صَحِيحٌ، فَأَيْنَ مَنْعُهُمْ؟.

قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ" قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، [ثم قال مثل ذلك، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست]

(1)

، ثم قال ذلك، الثالثة، فقمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا قتادة، فقصصت عليه القصّة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله، سلب ذلك القتيل عندي فَارْضِهِ من حقه، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:"لاها الله إذًا لَا يعمد إلى أسد من أُسْد الله يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سَلَبه، فقال صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ"

(2)

الحديث، والظاهر أن أبا بكر رضي الله عنه إنما قاله عن اجتهاد.

الشرح: "وحكم سعد بن معاذ في بني قُرَيْظَةَ فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم، فقال صلى الله عليه وسلم ": "قضيت بحكم الله"، وربما قال:"حكم الملك"

(3)

كذا رواه البخاري ومسلم، وروى [ابن إسحاق]

(4)

في "السيرة" مرسلًا أنه صلى الله عليه وسلم - قال: "لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعةِ أَرْقِعَةٍ"

(5)

، والأرقعة جمع رقيع، وكلّ سماء يقال لها: رقيع، وقيل: الرقيع اسم سماء الدنيا، فأعطى كل سماء اسمها، وروى البيهقي:"بحكم اللهِ الَّذي يحكم من فوق سبع سموات".

(1)

سقط في ب.

(2)

تقدم.

(3)

أخرجه البخاري 7/ 411، في كتاب المغازي: باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم (4121)، ومسلم 3/ 1388، 1389، في الجهاد والسير: باب جواز قتال من نقض العهد (64/ 1768).

(4)

في ت: أبو إسحاق.

(5)

أخرجه البخاري (7/ 411) كتاب المغازي: باب مرجع النبي من الأحزاب

(4121)، ومسلم (1388 - 1389) كتاب الجهاد والسير: باب جواز قتال من نقض العهد (64/ 1768) من حديث أبي سعيد.

ص: 538

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"قالوا:" كانوا قادرين على العلم بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم.

"والقدرة على العلم تمنع الاجتهاد.

قلنا:" إنما يلزم ما ذكرتم لو لم "تثبت الخيرة" بين الاجتهاد والسؤال "بالدليل"، وقد ثبت بِمَا مَرَّ، فلا يلزم.

قال في "المنتهى": ولو سلم، فالحاضر يظن أنه لو كان وَحْي لبلغه، والغائب لا يقدر. "قالوا" قد ثبت أن علماء الصّحابة "كانوا يرجعون إليه" صلى الله عليه وسلم في الوقائع، وهو آية منع الاجتهاد.

"قلنا": الرجوع إليه "صحيح"، ولكن لا دلالة فيه على منعهم من الاجتهاد؛ لجواز أن يكون الرجوع فيما لم يظهر فيه وجه الاجتهاد أو لجواز الأمرين، "فأين منعهم" من الاجتهاد؟

ص: 539

‌مَسْأَلَةٌ:

الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ،

وَأَنَّ النَّافِيَ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ مُخْطِيءٌ آثِمٌ كَافِرٌ، اجْتَهَدَ، أَوْ لَمْ يَجْتَهِدْ.

وَقَالَ الْجَاحِظُ: لَا إِثْمَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، بِخِلَافِ الْمُعَانِدِ، وَزَادَ الْعَنْبَرِيُّ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ.

«مسألة»

الشرح: "الإجماع على أن المُصِيبَ في العقليات

(1)

واحد، وأن النافي ملة الإسلام مُخْطئ آثم كافر، اجْتهد أو لم يجتهد

(2)

.

وقال الجاحظ: لا إثم على المجتهد، بخلاف المُعَاند، وزاد" قاضى "البصرة عبيد الله بن الحسن "العنبري

(3)

: كل مجتهد في العقليات مصيب"، ولا يظن بالرجل إن أراد الوقوع

(1)

والعقليات ما لا يتوقف ثبوتها على سمع، وهي ما تدرك بالعقول، سواء ما لا يدرك إلّا به كوجود الصانع، وكونه متكلمًا، ومما يدرك بالعقل والسمع معًا كمسألتي خلق الأفعال والرؤية. ينظر: المسودة (496)، وتيسير التحرير 4/ 195.

(2)

ينظر البرهان 2/ 1316، والمعتمد 2/ 988، وشرح الكوكب (608)، والمحصول 2/ 3/ 41 - 42، والتبصرة 496، والمستصفى 2/ 357، والإحكام للآمدي 4/ 154، والوصول لابن برهان 2/ 337، وشرح العضد 2/ 293، والمسودة (495)، والتمهيد للإسنوي (531)، والنهاية له 4/ 557، وجمع الجوامع 2/ 388، والإبهاج 3/ 274، وروضة الناظر (193)، وشرح تنقيح الفصول (438)، وكشف الأسرار 4/ 17، والتحرير 528، والتيسير 4/ 195، وفواتح الرحموت 2/ 376، وإرشاد الفحول (260).

(3)

عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري، من تميم، ولد سنة 105 هـ. قاضٍ من الفقهاء العلماء بالحديث من أهل "البصرة". قال ابن حبان: من ساداتها فقهًا وعلمًا. ولي قضاءها سنة 157 هـ، وعزل سنة 166، وتوفي بها سنة 168 هـ. ينظر: تهذيب التهذيب 7/ 7، ورغبة الأمل 4/ 165، والأعلام 4/ 192.

ص: 540

لَنَا: إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ آثِمِينَ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ.

وَاسْتُدِلَّ: بِالظَّوَاهِرِ.

وَأُجِيبَ: بِاحْتِمَالِ التَّخْصِيصِ.

معتقده في نفس الأمر حتى يلزم [عليه]

(1)

من اعتقاد قدم العالم وحدوثه اجتماع القدم والحدوث؛ فإن ذلك جنون، ولا نفي لإثم فقط، فإن ذلك مذهب الجاحظ بلا زيادة، بل أراد أن ما يؤديه إليه اجتهاده، فهو حكم الله - تعالى - في حقّه، سواء أوافق ما في نفس الأمر أم لا، ثم قيل: إنه عمم قوله في العقليات حتى يشمل جميع أصول الديانات، وأن اليهود والنصارى والمجوس على صواب، وهذا ما ذكر القاضي في "التقريب" أنه المشهور عنه

وقيل: إنما أراد أصول الديانات التي يختلف فيها أهل القِبْلَةِ، ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار محتملة للتأويل، كالرؤية، وخلق الأفعال.

فأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل المِلَلِ، كاليهود والنَّصَارى والمجوس، فإنا في هذا الموضع نقطع أن الحق فيما يقوله أهل الإسلام.

قال ابن السَّمعاني: وينبغي أن يكون التأويل لمذهب العنبري على هذا الوجه؛ لأنا لا نظن أحدًا من هذه الأمة لا يقطع بتضليل اليَهُودِ، والنصارى، والمجوس.

قلت: ولذلك حكى أن العنبري كان يقول في مثبتي القدر: هؤلاء عظموا الله، تعالى، وفي نافيه: هؤلاء نَزّهوا الله، ولم ينقل عنه مثل ذلك في حقّ اليهود والنصارى، وأمثالهم.

وعلى هذا ينبغي حمل مذهب الجَاحِظ أيضًا، ولكن صرح القاضي عنه في "التقريب" بخلافه.

الشرح: "لنا: إجماع المسلمين على أنهم من أهل النّار، ولو كانوا" على صَوَاب، أو "غير آثمين لما ساغ ذلك".

(1)

سقط في أ، ت.

ص: 541

قَالُوا: تَكْلِيفُهُمْ بِنَقِيضِ اجْتِهَادِهِمْ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَسَمْعًا لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُطَاقُ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ كَلَّفَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَأَتَّى الْمُعْتَادِ، فَلَيْسَ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ فِي شَيْءٍ.

والمخالف إن كان خلافه فيمن [خالف]

(1)

ملّة الإسلام جملة، فهو خارج عن الإسلام لا يعتدّ بقوله، والإجماع حينئذ قائم من هذه الأمة بأسرها.

وإن كان خلافه مخصوصًا بما اختلف فيه المسلمون من الأصول، وهو محجوج بالإجماع قبله.

"واستدل: بالظواهر" الدالة على تضليل المبتدعة، وإثم الكافرين، وخطئهم، ففي الكُفَّار آيات وأحاديث لا تنحصر، وفي المبتدعة مثل قول ابن عمر حين قيل له: إن قومًا يقولون: لا قدر، فقال:"أبلغوهم أن ابن عمر منهم بَرِيء وَأنهم مني بَرَاء"، ونحوه من التعنيف، والتوبيخ، "وأجيب: باحتمال التخصيص"، في الظواهر بغير المجتهدين أي: يكون الذم مخصوصًا للمعاندين، وهذا وإن كان خلاف الظَّاهر إلا أنه يمنع كون الدَّليل قطعيًّا، والحق أنه لا يمنع قطعية الدليل بالنسبة إلى الكفار، بل القواطع دالّة على كفرهم، وتَصْلِيتهم، وأنهم في النار من غير احتمال التخصيص، وفي منعه قطعيته بالنسبة إلى المبتدعة نظر.

الشرح: "قالوا" في تكليفهم" بنقيض اجتهادهم ممتنع عقلًا وسمعًا؛ لأنه مما لا يُطاق.

"وأجيب بأنه كَلّفهم بالإسلام، وهو "نقيض اعتقادهم، ولكن لا نسلم أنه ليس بمقدور، فإن امتناعه إنما هو بالغير، وهو امتناع بشرط أي ما داموا معتقدين لذلك يمتنع أن يعتقدوا ما خلافه، وذلك لا يوجب كون الفعل ممتنعًا غير مقدور؛ فإن الممتنع الذي لا يقدر ما لا يتأتي عادة كالطَّيران، وحمل الجبل، أو ما استحال عقلًا.

وأما ما كلفوا به، فهو الإسلام، "وهو من المتأتّى المعتاد، وليس من المستحيل في شيء"، وقد ضبط المصنف المتأتى بخطّه، وهو الصواب، وفي بعض النسخ "المنافي" بالنون والفاء، وهو غلط.

(1)

في ب: خلاف.

ص: 542

‌مَسْأَلَةٌ:

الْقَطْعُ: لَا إِثْمَ عَلَى مُجْتَهِدٍ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ اجْتِهَادِيٍّ،

وَذَهَبَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَالْأَصَمُّ إلَى تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ.

لَنَا: الْعِلْمُ بِالتَّوَاتُرِ بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ الْمُتَكَرِّرِ الشَّائِعِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَا تَأْثِيمٍ لِمُعَيَّنٍ، وَلَا مُبْهَمٍ؛ وَالْقَطْعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِثْمٌ، لَقَضَتِ الْعَادَةُ بِذِكْرِهِ.

وَاعْتُرِضَ: كَالْقِيَاسِ.

«مسألة»

الشرح: "القطع لا إثم على مجتهد في حكم شرعي اجتهادي، وذهب بشر المريسي

(1)

والأصم

(2)

إلى تأثيم المخطئ"، ونقض قضائه

(3)

.

(1)

بشر بن غياث بن أبي كريمة عبد الرحمن المريسي، العدوي بالولاء، أبو عبد الرحمن: فقيه معتزلي عارف بالفلسفة يرمي بالزندقة، وهو رأس الطائفة المريسية القائلة بالإرجاء، وإليه نسبتها. أخذ الفقه عن القاضي أبي يوسف - له تصانيف - توفي سنة 218. انظر: النجوم الزاهرة 2/ 228، ووفيات الأعيان 1/ 91، والأعلام 2/ 55.

(2)

عبد الرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصم. فقيه معتزلي مفسر. قال ابن المرتضى: كان من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم؛ خلا أنه كان يخطّئ عليًّا عليه السلام في كثير من أفعاله، ويصوّب معاوية في بعض أفعاله. قال القاضي عبد الجبار: كان جليل القدر يكاتبه السلطان.

من تصانيفه: "تفسير" وُصف بأنه عجيب، وله في الأصول:"مقالات". مات سنة 225 هـ تقريبًا. ينظر: طبقات المعتزلة 56، ولسان الميزان 3/ 427، والأعلام 3/ 323.

(3)

"اتفق أهل الحق من المسلمين على أن الإثم محطوط عن المجتهدين في الأحكام الشرعية، وذهب بشر المريسيّ وابن علية وأبو بكر الأصم ونفاة القياس كالظاهرية، والإمامية، إلى أنه ما من مسألة إلا والحق فيها متعين، وعليه دليل قاطع، فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ولا فاسق" ينظر: الإحكام 4/ 158، وشرح العضد 2/ 294.

ص: 543

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"لنا: العلم بالتواتر باختلاف الصّحابة المتكرر الشائع من غير نكير، ولا تأثيم لمعين، ولا مبهم.

والقطع أنه لو كان إثم لقضت العادة بذكره، واعترض" هذا الدليل "كالقياس"، فقيل لا نسلم عدم الإنكار.

ألا ترى أن قول ابن عباس: "من شَاءَ باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددًا لم يجعل في مال واحد نصفًا ونصفًا وثلثًا".

وقول عائشة: "أبلغوا زيد بن أرقم أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبط".

إلى غير ذلك، وجوابه ما مَرَّ في القياس، ويختص هذا بأن ما فعله ابن عباس وعائشة إنما كان تعنيفًا على التقصير، وتحريكًا على الاجتهاد فقط.

ص: 544

‌مَسْأَلَةٌ:

الَّتِي لَا قَاطِعَ فِيهَا قَالَ الْقَاضِي وَالْجُبَّائِيُّ:

كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ، وَحُكْمُ اللهِ فِيهَا تَابعٌ لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ.

وَقِيلَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَدَفِينٍ يُصَابُ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ دَلِيلَهُ ظَنِّيٌّ، فَمَنْ ظَفِرَ بِهِ فَهُوَ الْمُصِيبُ.

الْمَرِيسِيُّ وَالْأَصَمُّ: دَلِيلُهُ قَطْعِيٌّ، وَالْمُخْطِئُ آثِمٌ.

«مسألة»

الشرح: المسألة "التي لا قاطع فيها"

(1)

.

"قال القاضي والجُبّائي: كل مجتهد [فيها]

(2)

مصيب، وحكم الله فيها تابع لظن المجتهد".

ثم قيل: الواقعة وإن لم يكن فيها حكم معين، ولكن فيها ما لو حكم الله - تعالى - لم يحكم إلا به، وهو القول بالأشبه.

وعليه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن سريج في إحدى الروايتين عنه.

وقيل: ليس فيها ذلك "وقيل: المصيب واحد، ثم منهم من قال: لا دليل عليه كدفين نصاب.

وقال الأستاذ: إن دليله ظني، فمن طعن به فهو المصيب".

الشرح: وقال "المريسي والأصم: دليله قطعي، والمخطئ آثم".

وقيل: قطعي، ولا إثم؛ لخفاء الدليل وغموضه.

(1)

ينظر: الإحكام 2/ 159، وشرح العضد 2/ 295.

(2)

سقط في ب.

ص: 545

وَنُقِلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ التَّخْطِئَةُ وَالتَّصْوِيبُ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا قَاطِعٌ فَقَصَّرَ، فَمُخْطِئٌ آثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ، فَالْمُخْتَارُ مُخْطِئٌ غَيْرُ آثِمٍ.

لَنَا: لَا دَلِيلَ عَلَى التَّصْويبِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.

"ونقل عن الأئمة الأربعة التَّخْطئة والتصويب"، والصحيح عنهم التخطئة؛ إذ هي القول بأن المصيب واحد.

وزعم القاضي في "التقريب" أن كلام الشافعي في "الرسالة".

وفي كتاب "الاستحسان".

وفي رسالة "المصريين" يحتمل، وأن الأظهر من كلامه، والأشبه بمذهب أمثاله من العلماء القول بأن كل مجتهد مصيب.

قلت: وهذا غير مسلم للقاضي، بل الثابت عند الشافعي الذي حرره أصحابه ما قدمناه.

قال ابن السَّمعاني: ومن قال عنه غيره، فقد أخطأ عليه.

قلت: ثم من أصحابنا من ينكر أن يكون للشَّافعي مقالة تخالف هذا، وهو رأي أبي إسحاق، والقاضي أبي الطَّيب، ومنهم من يقول: له قول بالتصويب، ولكنه مرجوح.

واختلف المصوّبة في أنه هل في كل واقعة ما لو حكم الله - تعالى - لم يحكم إلا به أولا؟

والأول هو القول بالأشبه، وعليه أبو يوسف، ومحمد، وابن سريج في إحدى الروايتين عنه، وأبو زيد الدّبوسي، ونقله عن علمائهم جميعًا، والقاضي أبو حامد، والدَّاركي

(1)

، وأكثر العراقيين من أصحابنا.

(1)

عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، الإمام أبو القاسم الداركي، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وتفقه عليه الشيخ أبو حامد بعد موت شيخه أبي الحسن بن المرزبان، وقال: ما رأيت أفقه منه. قال أبو إسحاق: أخذ عنه عامة شيوخ بغداد وغيرهم من أهل =

ص: 546

وَصُوِّبَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ؛ لِلْإِجْمَاعِ.

وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ [كُلٌّ] مُصِيبًا، لَاجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ؛ لِأَنَّ اسْتِمْرَارَ قَطْعِهِ مَشْرُوطٌ بِبَقَاءِ ظَنِّهِ؛ لِلإِجْمَاعِ عَلَى أنَّهُ لَوْ ظَنَّ غَيْرُه، وَجَبَ الرُّجُوعُ؛ فَيَكُونُ ظَانًّا عَالِمًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ.

لَا يُقَالُ: الظَّنُّ يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِبَقَائِهِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِيلُ ظَنُّ النَّقِيضِ مَعَ ذِكْرِهِ.

والثاني: رأى الغزالي والقائلون بالأشبه يعبرون عنه بأن المجتهد مصيب في اجتهاده في الحكم، وربما قالوا: مخطئ انتهاء لا ابتداء، وهذا كله إذا لم يكن في المسألة قاطع كما علمت، "فإن كان فيها قاطع فقصَّر، فمخطئ".

وإذا لم يصبه "أثم " لتقصيره، وإن صادف الصواب، "وإن لم يقصر" يعني: ولم يصب، "فالمختار مخطئ غير آثم.

لنا" على أن المصيب واحد: "لا دليل على التصويب، والأصل عدمه، فوجب نصه.

الشرح: قوله: "وصوب غير معين للإجماع" هو جواب عن سؤال مقدر تقريره: ما ذكرتم يجري في التصويب، فيجب نفيه عن كل واحد؛ ولم يقل به أحد.

وجوابه: أن الدليل يقتضي ذلك لولا الإجماع على تصويب واحد، فإن عدم تصويب كلّ واحد ينافيه.

"وأيضًا" الدليل على أنه ليس كل واحد مصيبًا أنه "لو كان كلّ مصيب لاجتمع النقيضان"، وهما القطع بالشيء، وعدم القطع به؛ لأنه إذا ظنّ حكمًا قطع بأنه الحكم في حقّه.

= الآفاق. وقال الخطيب: كان ثقة؛ انتقى عليه الدارقطني، توفي سنة 375 هـ في شوال.

ينظر: شذرات الذهب 3/ 85، والمنتظم 7/ 129، ومعجم البلدان 2/ 423، والأنساب 5/ 277، ووفيات الأعيان 2/ 361، وتاريخ بغداد 10/ 363، وطبقات الشيرازي ص (97)، وطبقات ابن قاضي شهبة 1/ 141، والبداية والنهاية 11/ 304.

ص: 547

فَإِنْ قِيلَ: مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، فَيَجِبُ الْفِعْلُ أَوْ يُحَرَّمُ قَطْعًا.

قُلْنَا: الظَّنُّ مُتَعَلِّقٌ بِأَنَّهُ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ وَالْعِلْمُ بِتَحْرِيمِ الْمُخَالَفَةِ، فَاخْتَلَفَ الْمُتَعَلِّقَانِ، فَإِذَا تَبَدَّلَ الظَّنُّ زَالَ شَرْطُ تَحْرِيمِ الْمُخَالَفَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَالظَّنُّ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنِهِ دَلِيلًا، وَالْعِلْمُ بِثُبُوتِ مَدْلُولِهِ، فَإِذَا تَبَدَّلَ الظَّنُّ زَالَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ.

فكان قطعيًّا وهو ظني؛ لأن استمرار قطعه بما أدّاه إليه اجتهاده مشروط ببقاء ظنه؛ للإجماع على أنه لو ظنّ غيره وجب الرجوع إلى ذلك الغير، فيكون عالمًا به ما دام ظَانًّا له، فيكون عالمًا ظانًّا لشيء واحد في زمان واحد، فلزم القَطْع، وعدم القطع، وهما نقيضان، لا يقال: لا نسلّم اجتماعهما؛ إذ الظّن ينتفي بالعلم، فلا يردان على شيء واحد.

وحاصله: أنا لا نسلّم أن شرط القطع بقاء الظن.

وقوله: لو ظن غيره وجب عليه الرجوع.

قلنا: نعم، ولكن لم يوجد ظن غيره، فإن الموجود إنما هو زوال حكم الظَّن عند زوال الظَّن، وحصول العلم بمتعلقه، والحكم هنا لا يتغير، بل يتأكّد؛ فإن القطع به أولى بذلك الحكم من ظنه، والحاصل أن الظَّن يستمرّ إلى أن يحصل القطع، فيزول، ولا يزول الحكم، بل يتأكد، وإنما لا يقال ذلك؛ لأنا نقول أولًا: إنَّا نقطع ببقائه أي ببقاء الظن، فإنكاره بهت. وثانيًا. ما أشار إليه بقوله: ولأنه لو كان الظَّن ينتفي بالعلم كان يستحيل ظن النقيض أي: نقيض الشيء مع ذكره أي: مع تذكّر الشيء المعلوم، وملاحظته؛ لأن ظن أحد النقيضين مع العلم بالآخر، واستحضاره يستلزم كون الشَّيْء الواحد معلومًا موهومًا، نعم قد يزول عند الذهول عن الموجب، وكونه موجبًا، وذلك بخلاف ما عند الظن، فإنه قد ينتفي الظن مع تذكره؛ لأنه ليس موجبًا كالغَيْم الرطب للمطر.

وإذا كان الظن ينتفي بالعلم، فبالحَرِيّ أن ينتفي به الوَهْم، لكنه لا يستحيل ظنّ النقيض مع ذكره.

الشرح: "فإن قيل": ما ذكرتم "مشترك الإلزام"؛ "لأن" لزوم النقيضين وارد على المذهبين، فيكون مردودًا؛ إذ يعلم به مَنْشأ الفساد ليس خصوصية أحد المذهبين، وما كان جوابًا لكم، فهو جوابنا، وإن لم يعلم بعينه، أو يقول: لو صح هذا لبطل المذهبان، وهو

ص: 548

قُلْنَا: كَوْنُهُ دَلِيلًا حُكْمٌ أَيْضًا، فَإِذَا ظَنَّهُ عَلِمَه، وَإِلَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَبَّدُ بِهِ غَيْرَه، فَلَا يَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا.

خلاف الإجماع، [ودفع]

(1)

للنقيضين، وهما القول بأن كل مجتهد مصيب، وأنه: ليس "كلّ مجتهد مصيبًا".

وإنما قلنا: إنه مشترك الإلزام؛ لأن "الإجماع" منعقدٌ "على وجوب اتِّبَاع الظَّن، فيجب الفعل، أو يحرم قطعًا".

أي: فإذا ظنّ الوجوب وجب الفعل قطعًا، وإذا ظن الحرمة حرم قطعًا، ثم شرط القطع بقاء الظَّن بما ذكرتم، فيلزم الظَّن والقطع معًا، ويجتمع النقيضان.

والجواب: أنه إنما يلزم ذلك لو كان متعلّق القطع والظن معًا شيئًا واحدًا، وليس كذلك؛ لأن "الظن متعلّق بأنه الحكم المطلوب"، والقطع متعلّق بتحريم مخالفته؛ لأنه مظنون، فاختلف المتعلّقان، وإليه أشار بقوله: قلنا: الظن متعلّق بأن الحكم المطلوب، "والعلم بتحريم المخالفة، فاختلف المتعلقان".

فإن قيل: فيلزمكم امتناع ظنّ النقيض مع تذكره طريق العلم.

قلنا: لا؛ لأن العلم متعلّق بأن المظنون ما دام مظنونًا يجب العمل به، فإذا زال الظَّن، فقد زال شرط العمل به، فقد انتفى العِلْمُ بوجوب العمل في زمان زَوَال الظَّن، وذلك كان حاصلًا قبل زوال الظَّن، والعلم بوجوب العمل به عند بقائه باقٍ مستمر، وإلى السؤال وجوابه أشار بقوله: "فإذا تبدل الظن زال شرط تحريم المخالفة.

فإن قيل": فهذا الجواب بعينه يجري في دليلكم؛ إذ يقال: لا نسلم اتِّحَاد متعلّق الظن والعلم، "فالظن متعلّق بكونه" أي بكون الدليل "دليلًا، والعلم" متعلّق "بثبوت مدلوله" ما دام دليلًا.

"فإذا تبدّل الظن زال شرط ثبوت الحكم"، وهو ظن الدلالة.

الشرح: "قلنا": هذا لا يدفع اجتماع النقيضين؛ إذ "كونه دليلًا حكم أيضًا، فإذا ظنَّه" دليلًا "علم" دليل أيضًا، "وإلا" فلو لم يعلمه أيضًا "جاز أن يكون المتعبد به غيره" أي الذي

(1)

في ب: رفع.

ص: 549

وَأَيْضًا: أَطْلَقَ الصَّحَابَةُ الْخَطَأ فِي الاجْتِهَادِ كَثِيرًا، وَشَاعَ وَتَكَرَّرَ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ خَطَّئُوا ابْنَ عَبَّاسٍ فِي تَرْكِ الْعَوْلِ، وَخَطَّأَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ بَاهَلَنِي بَاهَلْتُهُ إِنَّ الله لَمْ يَجْعَلْ فِي مَالِ وَاحِدٍ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا.

وَاسْتُدِلَّ: إِنْ كَانَا بِدَلِيلَيْنِ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِحًا، تَعَيَّنَ، وَإِلَّا تَسَاقَطَا.

يجب عليه العمل به غير ذلك الدليل، "فلا" يحصل له الجزم بوجوب العمل بظنّه، و"يكون" مخطئًا في اعتقاد أنه دليل "كلّ مجتهد مصيب"؛ إذ هذا مجتهد، وقد أخطأ في هذا الحكم، وهو اعتقاد أنه دليل، فحينئذٍ يجتمع في كونه دليلًا العلم والظن، ويتم الإلزام.

"وأيضًا" مما يدلّ على أنه ليس كلّ مجتهد مصيبًا، وعليه اعتماد أكثر أئمتنا: إجماع الصحابة؛ إذ "أطلق الصحابة الخطأ في الاجتهاد كثيرًا، وشاع، وتكرر، ولم ينكر"، فكان إجماعًا، منه: ما روى "عن علي وزيد وغيرهما أنهم خطئوا ابن عباس في ترك العول، وخطّأهم [هو] قال" ابن عباس: "مَنْ بَاهَلَنِي بَاهَلْتُهُ إِنَّ الله لَمْ يَجْعَلْ فِي مَالٍ نِصْفًا [وَنِصْفًا]

(1)

وَثُلُثًا".

والأثر مشهور، وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس نحوه، وأيضًا - وهو من المعتمد - أن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ"

(2)

.

أخبر عليه السلام أن فيهم من يصيب ومن يخطئ، وأنَّ الحكم يختلف، ولو كانوا جميعًا مصيبين لم يكن للتقسيم معنى.

الشرح: "واستدلّ" على المطلوب بأن المجتهدين "إن كانا" قد حَكمَا بلا دليل، فهو باطل قطعًا، وإن كانا حَكمَا "بدليلين، فإن كان أحدهما راجحًا تعيّن" العمل به، ويكون العمل بالآخر خطأ، "وإلا تساقطا"، وكان الحكم الوَقْف، أو التخيير، فكانا في التعين مُخْطئين.

(1)

سقط في ت.

(2)

متفق عليه من حديث عمرو بن العاص:

أخرجه البخاري 13/ 330 في كتاب الاعتصام بالسنة: باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو =

ص: 550

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْأَمَارَاتِ تَتَرَجَّحُ بِالنِّسَبِ، فَكُلٌّ رَاجِحٌ.

وَاسْتُدِلَّ: بِالْإِجْمَاعِ عَلَى شَرْعِ الْمُنَاظَرَةِ، فَلَوْلَا تَبَيُّنُ الصَّوَابِ، لَمْ تَكُنْ فَائِدَةٌ.

وَأُجِيبَ: بتَبَيُّنِ التَّرْجِيح، أَوِ التَّسَاوِي، أَوِ التَّمْرِينِ" ا. هـ.

"وَاسْتُدِلَّ: بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ طَالِبٌ.

وَطَالِبٌ وَلَا مَطْلُوبَ مُحَالٌ؛ فَمَنْ أَخْطَأَ، فَهُوَ مُخْطِيءٌ قَطْعًا.

وَأُجِيبَ: مَطْلُوبُهُ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، فَيَحْصُلُ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا.

"وأجيب: بأن الأمارات ترجّح بالنسب" والإضافات، فقد يكون الراجح في نفس الأمر غير الراجح عند المجتهد.

وإذا كانا كذلك "فكل راجح" بالنسبة إلى الشخصين.

"واستدلّ: بالإجماع على شرط المُنَاظرة، فلولا تبين الصواب لم تكن فائدة" وتصويب الجميع بعدم الفائدة.

"وأجيب" بأن فائدة المُنَاظرة لا تنحصر فيما ذكر، فقد يحصل بها "بتبين الترجيح" بين الدليلين؛ ليعتمد الرَّاجح، "أو التساوي"، فيحكم بمقتضاه من وقف، أو غيره، "أو التمرين" على المُنَاظرة؛ ليحصل كمال الاستعداد لإدراك الأحكام.

الشرح: "واستدلّ: بأن المجتهد طالب" لمعرفة حكم الله - تعالى - في المسألة، "وطالب ولا مطلوب محال"، فتعين أن يكون له مطلوب، "فمن" أصابه فهو المُصيب، ومن "أخطأه فهو المخطئ قطعًا.

= أخطأ حديث (7352)، وأخرجه مسلم 3/ 1342 في كتاب الأقضية: باب بيان أجر الحاكم

(15/ 1716)، وأبو داود 3/ 299 في كتاب الأقضية: باب في القاضي يخطئ، حديث (3574)، والنسائي 8/ 224 في كتاب آداب القضاة: باب: الإصابة في الحكم، حديث (5381)، وأخرجه ابن ماجة 2/ 776 في كتاب الأحكام: باب: الحاكم يجتهد فيصيب الحق (2314)، وأخرجه أحمد في المسند 2/ 187، والدارقطني في السنن 1/ 210، 211 في الأقضية والأحكام

حديث (22، 23، 24)، والبيهقي في دلائل النبوة 7/ 185.

ص: 551

وَاسْتُدِلَّ: بِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِلُّ الشَّيْءِ وَتَحْرِيمُهُ لَوْ قَالَ مُجْتَهِدٌ شَافِعِيٌّ لِمُجْتَهدَةٍ حَنَفيَّةٍ: أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ قَالَ: رَاجَعْتُكِ.

وَكَذَا: لَوْ تَزَوَّجَ مُجْتَهِدٌ امْرَأَةً بِغَيْرِ وَلِيٍّ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ مُجْتَهِدٌ بِوَلِيٍّ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ؛ إِذْ لَا خِلَافَ فِي لُزُومِهِ اتِّبَاعَ ظَنِّهِ.

وَجَوَابُهُ: أَنْ يُرْفَعَ إِلَى الْحَاكِمِ، فَيُتَّبَعُ حُكْمُهُ.

الْمُصَوِّبَةُ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا، لَوَجَبَ النَّقِيضَانِ إِنْ كَانَ الطَّلَبُ بَاقِيًا، أَوْ وَجَبَ الْخَطَأُ إِنْ سَقَطَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ.

وأجيب: مطلوبه ما يغلب على ظنه، فيحصل وإن كان مختلفًا".

والحاصل: أنا لا نسلم أن متعلّق ظنه كونه حكم الله تعالى، بل كونه ما يؤديه إليه اجتهاده، ثم هو يقول: ما تأدي إليه الاجتهاد، فهو حكم الله تعالى، "واستدلّ: بأنه يلزم" من القول بالتَّصويب "حل الشيء وتحريمه" معًا؛ لأنه "لو قال مجتهد شافعي لمجتهدة .. حنفية: أنت بائن، ثم قال:[راجعتك]

(1)

، فهي بالنَّظر إلى معتقد الزوج حل؛ لأن الكنايات عنده ليست بَوَائن، فيجوز الرّجعة، وبالنظر إلى معتقدها حرام.

الشرح: "وكذا: لو تزوج مجتهد امرأة بغير وَلِيّ"؛ لكونه يرى صحّته، "ثم تزوجها بعده مجتهد بولي"؛ لكونه يرى بطلان الأول، فيلزم من صحّة المذهبين حلولهما.

"وأجيب: بأنه مشترك الإلزام"، وأنه كما يرد على المصوبة يرد على المخطئة؛ لأنه وإن جعل المصيب واحدًا، فيأمره باتباع ظنه؛ "إذ لا خلاف في لزومه اتباع ظنه".

فالشافعي مأمور بجواز المُرَاجعة اتباعًا لظنه، والحنفية بالعكس، فيعود الإشكال.

"وجوابه: أن يرفع إلى الحاكم، فيتبع حكمه"؛ فإن أقضيته [ترفع]

(2)

الخلاف، فإن لم يرفع إلى الحاكم، فكل مأمور بمقتضى اجتهاده.

الشرح: واحتجت "المصوبة"

(3)

لكل مجتهد على مذهبهم بوجهين "قالوا: لو كان

(1)

في ت: أرجعتك.

(2)

في ت: برفع.

(3)

في ب: الصوفية، وهو خطأ.

ص: 552

وَأُجِيبَ: بِثُبُوتِ الثَّانِي؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا نَصٌّ، أَوْ إِجْمَاعٌ وَلَمْ يُطَّلَعْ عَلَيْهِ بَعْدَ الاجْتِهَادِ، وَجَبَ مُخَالَفَتُه، وَهُوَ خَطَأٌ؛ فَهَذَا أَجْدَرُ.

قَالُوا: قَالَ: "بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ"، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُخْطِئًا، لَمْ يَكُنْ هُدًى.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ هُدِيَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ مُجْتَهِدٍ أَوْ مُقَلِّدٍ.

المصيب واحدًا"، والمخطئ يجب عليه العمل بموجب ظنّه، فإما أن نوجبه عليه مع القول ببقاء الحكم الذي في نفس الأمر في حقه، أو مع زواله، والأول يستلزم ثبوت الحكم الأول.

والثاني في حقّه، وهما نقيضان، والثاني يستلزم أن يكون العمل بالحكم الخطأ واجبًا، وبالصواب حرامًا، فاللازم إما اجتماع النقيضين، أو وجوب العمل بالخطأ، وكلاهما محال.

وإليه أشار بقوله: "لوجب النقيضان إن كان الطلب" كذا بخطّه، وفي بعض النسخ "المطلوب باقيًا أو وجب الخطأ إن سقط الحكم المطلوب، وأجيب: بثبوت" القسم "الثاني" من اللازم. واختياره ومنع لزوم الخَطَأ فيه؛ لأنه على تقدير سقوط الحكم الثابت في نفس الأمر لا يبقى ما ظنه المكلف خطأ، بل يجب متابعته "بدليل أنه لو كان فيها نصّ، أو إجماع، ولم يطلع عليه بعد الاجتهاد وجب مخالفته"؛ لوجوب اتباع الظَّن، "وهو "أي: اتباع ظنّه حينئذٍ "خطأ" لمخالفته النَّص، والإجماع، "فهذا أجدر" بوجوب الاتباع؛ إذ ليس فيه مخالفة قاطع.

الوجه الثاني: "قالوا": تقدم في الإجماع أنه صلى الله عليه وسلم "قال": "أَصْحَابي كَالنُّجُومِ "بَأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ".

جعل الاقتداء بكل واحد منهم هدى مع اختلافهم.

"ولو كان أحدهما مخطئًا لم يكن هدى، وأجيب: بأنه هدى؛ لأنه فعل ما يجب عليه".

سواء كان "مجتهدًا أو مقلدًا"، فإنه يجب العمل بالاجتهاد، والمجتهد ومقلده وكونه خطأ من وجه لا يمنع كونه هدى من هذا الوجه.

ص: 553

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"فرع"

إذا اجتهد أربعة أنفس في القِبْلَةِ، واختلفوا - صلى كلٌّ على حسب تأدية اجتهاده، ثم من تيقّن الخطأ يلزمه الإعادة في أصح القولين.

وأما قبل التَّبيين فلا؛ إذ لا يدري الصواب في أي جهة.

"فرع آخر" في نَفَاذِ حكم الحاكم باطنًا في المسائل الاجتهادية أوجه:

أحدها: المنع، وهو قول الأستاذ أبي إسحاق.

والثاني: النفاذ.

قال الرافعي: وهو الأصح عند جماعة منهم صاحب "التهذيب"، وأبو عاصم العبادي.

والثالث: التفرقة بين اعتقاد الخَصَمَين ما حكم به فينفذ، وإلا فلا.

قال الرافعي: وأشير إلى بناء الخلاف على كل مجتهد مصيب، والمصيب واحد، إن قلنا [بالأول]

(1)

نفذ ظاهرًا وباطنًا.

وإن قلنا بالثاني ينفذ باطنًا.

قلت: وقضيّة البناء أن يكون الأرجح عدم النفوذ باطنًا؛ لأن الأرجح المصيب واحد، والرافعي والنووي لم يصرحا بترجيح شيء لا في كتاب "الشفعة" ولا في كتاب "القضاء".

وقال الرافعي في آخر كتاب "دعوى [الدَّم والقَسَامَة":

(2)

ميل الأئمة إلى ثبوت الحلّ باطنًا، وكذلك في أثناء "الدعاوى" قال بعد مضى نحو كراسين: ميل الأكثرين إلى الحل.

(1)

في ب: الأم.

(2)

تنوعت أراء العلماء في مشروعية القسامة والحكم بها على قولين:

الأول: وجوب العمل بها، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف، منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي والمغيرة بن شعبة، وابن الزبير، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو بن =

ص: 554

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= العاص، وجملة من الصحابة، والحسن وشريح، والشعبي، وسفيان الثوري، وسعيد بن المسيب، والزهري وعروة بن الزبير، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وداود الظاهري وابن حزم.

القول الثاني:

لا يرى الثاني مشروعية القسامة وعدم العمل بها، وهو قول سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وأبي قلابة، وإبراهيم بن علية، والناصر وقتادة ومسلم بن خالد الزنجي. وحجة الجمهور حديث سَهْلٍ بْنِ أَبي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنِ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعَودٍ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا لِحَاجَتِهِمَا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ، فَانْطَلَقَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمنِ أَخُو المَقْتُولِ وَحَوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرُوا لَهُ قَتْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ، أَوْ قَاتِلِكُمْ" فَقَالُوا: يَا رسُولَ اللهِ لَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَحْضُرْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمِ كُفَّارٍ؟! فَزَعَمَ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَلَهُ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ: قَالَ سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْني فَرِيضَةٌ مِنْ تِلْكَ الفَرَائِضِ فِي مِرْبَدٍ لَنَا.

هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن محمد بن مُثنى، عن عبد الوهَّاب الثقفي، وأخرجه من طُرُقٍ أُخَر عن يحيى بن سعيد.

وأخرجه البيهقي وعبد الرزاق عن أبي سعيد بن أبي عمرو عن أبي العباس الأصم عن الربيع بن سليمان عن الشافعي عن سفيان عن منصور عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب في قتيل وجد بين خيوان، ووادعة أن يقاس ما بين القريتين، فإلى أيها كان أقرب أخرج إليهم منهم خمسين رجلًا حتى يوافوه مكة، فأدخلهم الحجر، فاحلفهم ثم قضى عليهم بالدية، فقالوا: ما وقت أموالنا أيماننا، ولا أيماننا أموالنا - قال: عمر رضي الله عنه: كذلك الأمر، وفي رواية فقال: حقنت أيمانكم دماءكم، ولا يسل دم رجل مسلم.

وقال الحافظ ابن حجر: له شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عن أحمد أن قتيلًا وجد بين حيين، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقاس إلى أيهما أقرب، فألقى ديته على الأقرب. ولكن سنده ضعيف، وما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب أنه قال: لما حج عمر حجته الأخيرة التي لم يحج غيرها، فورد رجل من المسلمين قتيلًا في بني وادعة، فبعث إليهم عمر في ذلك بعد ما قضي النسك، فقال لهم، هل علمتم لهذا القتيل قاتلًا منكم؟ قال القوم: لا، فاستخرج منهم خمسين شيخًا فأدخلهم الحطيم، فاستحلفهم بالله رب هذا البيت الحرام ورب هذا البلد الحرام، ورب هذا الشهر الحرام، أنكم لم تقتلوه ولا علمتم له قاتلًا، فحلفوا بذلك، فلما حلفوا. قال: أدوا دية مغلظة في أسنان الإبل، أو من الدنانير =

ص: 555

‌مَسْأَلَةٌ:

تَقَابُلُ الدَّلِيلَيْنِ الْعَقْلِيَّيْنِ مُحَالٌ

؛ لاسْتِلْزَامِهِمَا النَّقِيضَيْنِ، وَأَمَّا تَقَابُلُ الْأَمَارَاتَ الظَّنِّيَّةِ وَتَعَادُلُهُمَا، فَالْجُمْهُورُ: جَائِزٌ؛ خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَالْكَرْخِيِّ.

لَنَا: لَوِ امْتَنَعَ لَكَانَ لِدَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ".

«مسألة»

الشرح: "تقابل الدليلين العقليين مُحَال؛ لاستلزامهما"

(1)

إجماع "النقيضين" من حيث إن الدليل العَقْلي ملزوم للعلم، فلو تقابلا لزم العلم بالشيء مع العلم بعدمه.

وأما تقابل الأمارات الظنية، وتعادلهما، فالجمهور" كما نقل المصنّف على أنه "جائز؛ خلافًا لأحمد والكرخي"، ونقله ابن السَّمْعَاني عن الفقهاء، ونَصَره.

والحق ما أشار إليه الغزالي وغيره من أن القائلين بأنّ المصيب واحد لا يجوزون التعادل في نفس الأمر، وإنما الخلاف بين المصوّبة.

واختار الإمام الرازي أنه جائز غير واقع، واتفق الكل على جواز التَّعادل في ظن المجتهد. "لنا: لو امتنع" تعادلهما "لكان لدليل، والأصل عدمه".

= والدراهم دية وثلثا، فقال رجل منهم يقال له سنان: يا أمير المؤمنين إنما تجزيني من مالي؟ قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله عليه وسلم فأخذوا ديته دنانير دية وثلث دية. وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن أن عمر قال: القسامة توجب العقل، ولا تسقط الدم.

وقد دلت تلك الآثار على ثبوت القسامة والعمل بها، وأكد عمر بأن ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أغفلنا دليل الرأي الثاني لضعفه، وضعف ما استندوا إليه.

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 171، وشرح العضد 2/ 298، والتبصرة (510)، والمستصفى 2/ 378.

ص: 556

قَالُوا: لَوْ تَعَادَلَا: فَإِمَّا أَنْ يُعْمَلَ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا مُعَيَّنًا أَوْ مُخَيَّرًا أَوْلَا، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، وَالثَّانِي: تَحَكُّمٌ، وَالْثَّالِثُ: حَرَامٌ لِزَيْدٍ حَلَالٌ لِعَمْروٍ مِنْ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ، وَالرَّابعُ: كَذِبٌ؛ لأَنَّهُ يَقُولُ: لَا حَرَامَ وَلَا حَلَالَ، وَهُوَ أَحَدُهُما.

وَأُجِيبَ: يُعْمَلُ بِهِمَا فِي أَنَّهُمَا وُقِفا فَيَقِفُ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا مُخَيَّرًا، أَوْ لَا يُعْمَلُ بِهِمَا، وَلَا تَنَاقُضَ إِلَّا مِنِ اعْتِقَادِ نَفْيِ الْأَمْرَيْنِ لَا فِي تَرْكِ الْعَمَلِ.

الشرح: "قالوا: لو تعادلا فإما أن يعمل بهما، أو بأحدهما معينًا أو مخيرًا أولا، والأول باطل"؛ للزوم اجتماع التحليل والتحريم، وهو تناقض.

"والثاني: [تحكم]

(1)

"، وهما متساويان.

"والثالث" كذلك؛ لأنه يلزم منه أن الشيء الواحد "حرام لزيد، وحلال لعمرو، من مجتهد واحد.

والرابع: كذب"؛ "لأنه يقول: لا حلال ولا حرام، وهو أحدهما" في نفس الأمر.

"وأجيب" أولًا بأنا نقول: "يعمل بهما في أنهما" لتعارضهما "وقف، فيقف".

وإنما يلزم اجتماع النقيضين لو اقتضى كل عند الاجتماع العمل [بمقتضاه]

(2)

عند الانفراد، وليس كذلك.

بل مقتضاهما عند الاجتماع غير مقتضاهما عند [الانفراد]

(3)

، فعند الاجتماع مقتضاهما الوقف، وعند [الانفراد]

(4)

العمل، ولا تناقض في الحالتين، "أو "يختار العمل "بأحدهما مخيرًا، أو "بمنع استعماله الحل لزيد، والحرمة لعمرو من مجتهد واحد، أو يختار الرابع هو أنه "لا يعمل بهما"، كما لم يكن دليل، ويتساقطان، "ولا تناقض" في عدم العمل بهما، ولا كذب في التَّنَاقض لا يكون "إلا من اعتقاد نفي الأمرين لا في ترك العمل" بهما، فله بعد الدليلين أن يعتقد وقوع أحدهما، ولكن لا يعلم عينه، كما كان قبل قيام

(1)

في ب: بحكم.

(2)

في ب: بمقتضى.

(3)

في أ: الإفراد.

(4)

في أ، ب، ت: الإفراد.

ص: 557

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الدَّليلين، فما أوجبه الدليل من ترك العمل ليس بمُحَال، والمحال لم يلزم من الدليل، ولقائل أن يقول: هذا يجوز اجتماع الأمارتين في ذهن المجتهد، ولا نزاع فيه وإنما النزاع فيهما في نفس الأمر، ولا يتجه القول به مع اعتقاد أن المصيب واحد أبدًا.

ص: 558

‌مَسْأَلَةٌ:

لَا يَسْتَقِيمُ لِمُجْتَهِدٍ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ،

بِخِلَافِ وَقْتَيْنِ أَوْ شَخْصَيْنِ عَلَى قَوْلِ التَّخْيِيرِ، فَإِنْ تَرَتَّبَا، فَالظَّاهِرُ رُجُوعٌ، وَكَذَلِكَ المُتَنَاظِرَانِ، وَلَمْ يَظْهَرْ فَرْقٌ.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْألَةً: فِيهَا ...........

«مسألة»

الشرح: "لا يستقيم لمجتهد قَوْلَان متناقضان في وقت واحد"

(1)

، ولا لعاقل؛ لأن دليلهما إن تعادلا فقوله: حكم التعارض من وقف أو غيره.

وإن ترجح أحدهما عنده، فقوله الراجح، "بخلاف" ما إذا صدر منه قولان في "وقتين.

أو" بالنسبة إلى "شخصين على قول التخيير"؛ إذا تعادل الأمارتان لا على قول الوقف.

"فإن تَرَتَّبَا" أي: القولان المتناقضان بالزمان، "فالظاهر" أن الثاني "رجوع" عن الأول أوجبه [تغير]

(2)

اجتهاده، "فكذلك المتناظران، ولم يظهر فرق" بينهما.

أما إن ظهر فرق فيحمل عليه، ولا يخرج قوله من المسألة إلى الأخرى.

الشرح: "وقول الشافعي في سبع عشرة مسألة: فيها قولان" أو في بضع عشرة كما قال القاضي أبو حامد المَرْوروذي، أو في دون عشرة كما قال آخرون، ليس قولًا منه بالنفي، والإثبات في وقت واحد.

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 173 - 174، وشرح العضد 2/ 299، وشرح اللمع 2/ 1079، ومنتهى السول (215)، وإرشاد الفحول 263، وفواتح الرحموت 2/ 394.

(2)

في ب: بغير.

ص: 559

قَوْلَان، إِمَّا لِلْعُلَمَاءِ، وَإِمَّا فِيهَا مَا يَقْتَضِي لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَيْنِ؛ لِتَعَادُلِ الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَه، وَإِمَّا لِي قَوْلَانِ عَلَى التَّخْيِيرِ عِنْدَ التَّعَادُلِ، وَإِمَّا تَقَدَّمَ لِي فِيهَا قَوْلَانِ.

كيف وذلك لا يتصور، بل المراد منه "إما للعلماء" فيها قولان.

وإما فيهما ما يقتضي للعلماء قولين؛ لتعادل الدليلين عنده، وإمَّالي قولان على التخيير عند التعادل.

وإما تقدم لي فيها قولان"، فللمقلّد أن يتبع أيهما شاء؛ لأنهما جميعًا قول مجتهد في محل اجتهاده، واعلم أن مسألة القولين عَرِيقة عندنا، وقد بَيَّنا أنه لا يجوز أن يعتقد العاقل شيئين متناقضين في وقت واحد.

وأما قولا الشافعي فقد عرفت محاملها، وقد بسط الأصحاب القول في ذلك، وصنف ابن القاص، وسليم الرازي، والمَاوَرْدِي، والروياني، والغزالي فيه ما تقرّ عين ناظره، وأحسنَ القول فيه أيضًا ابن السَّمْعَاني في "القواطع"، فلينظره من أراده.

ص: 560

‌مَسْأَلَةٌ:

لَا يَنْقُضُ الْحُكْمَ فِي الاجْتِهَادِيَّاتِ مِنْه، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ بِاتِّفَاقٍ

؛ لِلتَّسَلْسُلِ، فَتَفُوت مَصْلَحَةُ نَصْبِ الْحَاكِمِ، وَيُنْقَضُ إِذَا خَالَفَ قَاطِعًا.

«مسألة»

الشرح: "لا ينقض" المجتهد "الحكم في الاجتهاديّات منه، ولا من غيره" إذا تغير الاجتهاد "باتفاق"

(1)

؛ "للتسلسل" اللازم غير ذلك؛ إذ لو جاز النَّقض لجاز نقض النقض، وهكذا، "فتفوت مصلحة نَصْب الحاكم".

وهو قطع المنازعة؛ لعدم الوثوق حينئذٍ بالحكم، "وينقض إذا خالف قاطعًا" من نص كتاب، أو سُنّة متواترة، أو إجماع.

وقال علماؤنا: أو مظنونًا ظنًّا محكمًا بخبر الواحد، أو بالقياس الجَلِيّ، وروى أن عمر رضي الله عنه كان يفاضل بين الأصَابع في الدية؛ لتفاوت منافعها، ونقض حكمه لما روى له الخبر في التسوية، وأن عليًّا رضي الله عنه نقض قضاء شريح بأن شهادة المولى لا تقبل بالقياس الجَلِيّ، وهو أن ابن العم تقبل شهادته، وهو أقرب من المولى.

فإذن الاجتهاديات التي لا نقض فيها هي ما بعد، وما ذكرناه، ويتردد بين الطرفين صور يقع فيها [الخلاف]

(2)

كما في القضاء بصحة نكاح المفقود، وقضاء الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا وزكاة الجَنِينِ، ومسألة المُثَقّل، وقتل المسلم بالكافر، وكثير من الصور في الفقهيات، وحاول الغزالي ضبط ما ينقض فيه، وما لا ينقض، فقال: إذا لم ينقدح في نفسه إمكان الصواب انقداحًا له وقعٌ. ما فله النقض، وذلك في النصوص لصحّة

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 176، وجمع الجوامع 2/ 391، وشرح العضد 2/ 300، ونهاية السول 4/ 574، والمحصول 2/ 2/ 90 - 91، وفواتح الرحموت 2/ 396.

(2)

في أ، ب: خلاف.

ص: 561

فَلَوْ حَكَمَ عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ، كَانَ بَاطِلًا وَإِنْ قَلَّدَ غَيْرَهُ اتِّفَاقًا، فَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ وَلِيٍّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُه، فَالْمُخْتَارُ التَّحْرِيمُ.

وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ حُكْمٌ، وَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِ مُقَلدِهِ، فَلَوْ حَكَمَ مُقَلِّدٌ بِخِلَافِ [اجْتِهَادِ] إِمَامِهِ، جَرَى عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِهِ غَيْرَهُ.

موردها، وصراحة لفظها وبعدها عن قبول التأويل، وفي الأقيسة لوضوحها وموافقتها للأصول، وإذا لم يكن كذلك، وتقارب النظران فلا نقضى، ويختلف الحال في ذلك بالمجتهدين وآحاد الأدلة.

الشرح: "فلو حكم على خلاف اجتهاده كان باطلًا، وإن قلده غيره اتفاقًا"؛ إذ يجب عليه العمل بظنه، ولا يجوز له التقليد مع اجتهاده إجماعًا، "فلو تزوج امرأة بغير ولي" عند اقتضاء اجتهاده ذلك، "ثم تغير اجتهاده، فالمختار التحريم"؛ لأنه مستند إلى ما يعتقده حرامًا.

"وقيل: إن لم يتصل به حكم"، فيحرم، وإن اتصل لم يحرم؛ لئلا ينقض الحكم بالاجتهاد، "وكذلك" نقول في "المقلّد بتغير اجتهاد مقلده"، فيتغير الحكم بالنسبة إليه، ولذلك يجب على المجتهد إعلامه.

وتردد الغزالي في المقلّد مع جزمه بتغير الحكم بالنسبة إلى المجتهد، ثم صحح أنهما سواء كما هو المختار، "فلو حكم مقلد بخلاف قول إمامه جرى" القول في جوازه، وعدم نقضه "على" الخلاف في "جواز تقليده غيره"، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 562

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُجْتَهِدُ قَبْلَ أَنْ يَجْتَهِدَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّقْلِيدِ.

وَقِيلَ: فِيمَا لَا يَخُصُّهُ.

وَقِيلَ: فِيمَا لَا يَفُوتُ وَقْتُهُ.

وَقِيلَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنْهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا.

[وَقِيلَ]: أَرْجَحَ، فَإِنِ اسْتَوَوْا تَخَيَّرَ.

وَقِيل: أَوْ تَابِعِيًّا.

وَقِيلَ: غَيْرُ مَمْنُوعٍ، وَبَعْدَ الْاجْتِهَادِ اتِّفَاقٌ.

«مسألة»

الشرح: "المجتهد قبل أن يجتهد ممنوع من التقليد.

وقيل": ممنوع "فيما لا يخصه" أي: فيما يفتى به غيره لا فيما يخصّه.

"وقيل: فيما لا يفوت وقته"

(1)

لو اشتغل بالاجتهاد فيه دون ما يفوت، وهو رأى أبي العباس بن سُرَيج.

"وقيل": لا يجوز له التقليد "إلا أن يكون" [المقلّد "أعلم منه".

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 177، وشرح العضد 2/ 300، والمحصول 3/ 3/ 115، والتيسير 4/ 227، وفواتح الرحموت 4/ 227.

ص: 563

لَنَا: حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُه، بِخِلَافِ النَّفْيِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ انْتِفَاءُ دَلِيلِ الثُّبُوتِ، وَأَيْضًا مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْأَصْلِ؛ فَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ كَغَيْرِهِ.

وَاسْتُدِلَّ: لَوْ جَازَ قَبْلَه، لَجَازَ بَعْدَهُ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ بَعْدَهُ حَصلَ الظَّنُّ الْأَقْوَى.

وهو رأي محمد بن الحسن.

"وقال الشَّافعي" في القديم: لا يجوز التقليد "إلا أن يكون"]

(1)

المقلّد "صحابيًّا أرجح" من غيره من الصحابة، فيجوز، "فإن استووا" أي: الصحابة الذين اختلف عليه فُتياهم في الدرجة "تخير" في تقليد من شاء منهم.

"وقيل: لا يجوز التقليد إلا أن يكون المقلد صحابيًّا كما ذكرناه، أو تابعيًّا.

وقيل: "إن العالم" غير ممنوع" من تقليد عالم آخر مطلقًا، وعليه سفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق.

وقيل: يجوز للقاضي دون غيره.

وقيل: يجوز تقليد أبي بكر وعمر دون غيرهما، وهذا كله كما علمت حكمه قبل الاجتهاد.

"وبعده اتفاق" أي: الاتفاق على أنه لا يجوز التقليد للعالم بعد الاجتهاد.

الشرح: "لنا": أن جواز التقليد "حكم شرعي، فلا بد له من دليل"؛ لأن القول في الدِّين بلا دليل باطل، والدليل لم نجده، والأصل عدمه، لا يقال: وكذلك مع التقليد لا بد له من دليل "والأصل عدمه"؛ لأنا نقول: الفرق بين جانب الثبوت والنفي واضح [به]

(2)

، وهو أن الثبوت لا يكفي فيه انتفاء دليل النفي، "بخلاف النفي؛ فإنه يكفي فيه" دليل "انتفاء الثبوت، وأيضًا" المجتهد "متمكن من الأصل"، وهو الاجتهاد، "فلا يجوز" له "البدل"،

(1)

سقط في أ، ت.

(2)

سقط في أ، ت.

ص: 564

الْمُجَوِّزُ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [سورة النحل: الآية 43].

قُلْنَا: لِلْمُقَلِّدِينَ؛ بِدَلِيلِ: "إِنْ كُنْتُمْ"، وَلأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ.

(الصَّحَابَةَ)"أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ"، وَقَدْ سَبَقَ.

قَالُوا: الْمُعْتَبَرُ الظَّنُّ، وَهُوَ حَاصِلٌ.

أُجِيبَ: بأَنَّ ظَنَّ اجْتِهَادِهِ أَقْوَى.

وهو التقليد "كغيره" من يتمكن من البدل والمبدل، فإنه يتحتّم عليه المبدل، كما في الوضوء والتيمم.

وللمانع أن يمنع كون التقليد بدلًا، ويقول: بل المجتهد مخير بين التقليد والاجتهاد كما في غسل الرجل ومسح الخُفّ.

"واستدلّ: لو جاز" للمجتهد التقليد "قبله" أي: قبل الاجتهاد "لجاز بعده"؛ لأنه لا مانع إلا كونه مجتهدًا، فإذا لم يكن مانعًا قبل لم يكن مانعًا من بعده، "وأجيب: بأنه بعده حصل الظَّن الأقوى".

والحاصل أنه ليس المانع منحصرًا في كونه مجتهدًا، بل المانع أنه إذا اجتهد حصل له ظَنّ الحكم باجتهاده، وهو أقوى من الظَّن الذي يحصل له باجتهاد غيره، فيكون العمل به عملًا بالراجح، ولا يوجد ذلك فيما قبل الاجتهاد.

الشرح: واحتج "المجوز" للتقليد مطلقًا بقوله تعالى: " {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ" إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل: الآية 43].

وهو قبل الاجتهاد لا يعلم، والآخر من أهل الذكر، فوجب عليه سؤاله للعلم به، وهو المطلوب.

"قلنا": الخطاب "للمقلدين؛ بدليل "إنْ كُنْتُمْ" لَا تَعْلَمُونَ"؛ فإنه صيغة عموم تفهم من سياق أن من له علم لا يجب عليه السؤال، وأن السؤال إنما هو لمن لا يقدر على العلم بنفسه، والمجتهد ليس كذلك؛ "ولأن المجتهد من أهل الذكر"، فلا يكون سائلًا؛ وإذًا كان سائلًا مسئولًا، واحتج من ذهب إلى أنه لا يقلد إلا "الصحابة" بما تقدم من قوله عليه السلام:""أَصْحَابِي كَالنُّجومِ، وقد سبق" الكلام فيه في مسألة مذهب الصَّحابي.

ص: 565

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"قالوا: المعتبر الظَّن، وهو حاصل"، ثم افترقوا فمن عمم جواز التقليد، قال: وهو حاصل بفتوى الغير، ومن خصّ الصحابة قال: وهو حاصل بفتوى الصَّحابي، ولا يحصل بفتوى غير الصَّحابي لمن يكون مجتهدًا؛ لاستوائهما في الدَّرجة، فإنهما مجتهدان، ولا صحبة لأحدهما حتى يتميز بها.

و"أجيب بأن" المعتبر عند التمكّن من طريقين أقواهما، ولا يشك أن" [ظن]

(1)

اجتهاده أقوى" من ظن تقليده، فيجب الأخذ به.

(1)

سقط في ب.

ص: 566

‌مَسْأَلَةٌ:

[الْمُخْتَارُ]: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُجْتَهِدِ: احْكُمْ بِمَا شِئْتَ؛ فَهُوَ صَوَابٌ،

وَتَرَدَّدَ الشَّافِعِيّ، ثُمَّ الْمُخْتَارُ: لَمْ يَقَعْ.

لَنَا: لَوِ امْتَنَعَ لَكَانَ لِغَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.

قَالُوا: يُؤَدِّي إِلَى انْتِفَاءِ الْمَصَالِحِ؛ لِجَهْلِ الْعَبْدِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْجَوَازِ، وَلَوْ سُلِّمَ لَزِمَتِ الْمَصَالِح، وَإِنْ جَهِلَهَا.

(الْوُقُوعُ) قَالُوا: "إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ".

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ.

«مسألة»

الشرح: "يجوز أن يقال للمجتهد: احكم بما شئت، فهو صواب"

(1)

، ويكون إذ ذاك حكم من جملة المدارك الشرعية، فإذا قال: هذا حلال عرفنا أن الله حكم، في الأول بحلّه، "وتردّد الشّافعي" في جوازه.

وقيل: إنما تردد في وقوعه.

وقيل: يجوز التفويض للنَّبي دون العَالِمِ، واختاره ابن السَّمعاني، وذكر أن كلام الشافعي في "الرسالة" يدلّ عليه.

"ثم المختار: لم يقع.

لنا: لو امتنع لكان لغيره" لا لذاته؛ إذ لا يلزم من فرض وقوعه وقوع محال، "والأصل" في ذلك الغير "عدمه"، والمانعون من جوازه "قالوا: يؤدّي إلى انتفاء المصالح؛ لجهل العَبْدِ" الذي فوض إليه الحكم بوجهها، فلا يؤمن اختياره ما المصلحة في خلافه،

(1)

ينظر: الإحكام 2/ 181، وشرح العضد 2/ 301.

ص: 567

قَالُوا: قَالَ: "لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا"، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَقَالَ:"إِلَّا الْإِذْخِرَ".

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْإِذْخِرَ لَيْسَ مِنَ الْخَلَا، فَدَلِيلُهُ الْاسْتِصْحَاب، أَوْ مِنْه، وَلَمْ يُرِدْه،

والشارع قصد المصالح، "وأجيب: بأن الكلام في الجواز" لا الوقوع، وما ذكرتم لا يمنع الجواز.

"ولو سلم" فلا يسلم انتفاء المصالح، بل نقول: إذا فوض إلى العبد، فقد "لزمت المصالح"، فلا يقع منه إلا المصلحة.

"وإن جهلها"؛ لأن الله - تعالى - لا يفوض إليه إلا وقد علم أنه لا يختار إلا الأصلح، وإذا علم ذلك كان هو الواقع، وأما الذين مذهبهم "الوقوع"، فإنهم "قالوا" قوله تعالى:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ "إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} " يقتضي وقوع التفويض؛ فإنه لا يمكن تحريمه على نفسه إلا بتفويض الأمر إليه، وإلا كان المحرم هو الله تعالى "وأجيب: بأنه يجوز أن يكون" تحريم إسرائيل لما حرمه "بدليل ظنّي" نهض عنده، ويسند حينئذٍ التحريم إليه.

كما تقول: أباح الشافعي الشِّطْرنج، ولحم الخَيْل، وحرمهما أبو حنيفة، ويوضح هذا أن الحاكم هو الله - تعالى - على كُلّ حال، والتفويض لو وقع لم يقتض استناد الحكم إلى العبد وإنما يكون فعل العبد علامة على أنَّ الحكم لله كما عرفناك في صدر المسألة.

الشرح: ثانيًا: "لَا يُخْتَلَى، خلاها وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، فقال: العباس: إلا الإِذخر، فقال "إلَّا الإِذخر" واللفظ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح "مكة": إنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ إِلى أن قال: فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ - تَعَالَى - إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُه، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُه، وَلَا يُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، فقال العبّاس: يا رسول الله إلا الإِذْخر؛ فإِنه لقبورهم وبيوتهم، فقال: "إلا الإِذْخر" رواه البخاري ومسلم

(1)

، وهذا اللفظ لفظه قالوا: وهذا يدلّ على تفويض الحكم إِلى رأيه عليه السلام.

(1)

أخرجه البخاري (4/ 56) كتاب جزاء الصيد: باب لا يحل القتال بمكة (1834)، ومسلم (2/ 986) كتاب الحج: باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها .... (445 - 1353) من حديث ابن عباس.

ص: 568

وَصَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ بِتَقْدِيرِ تَكْرِيرِهِ؛ لِفَهْمِ ذَلِكَ، أَوْ مِنْه، وَأُرِيدَ وَنُسِخَ؛ بِتَقْدِيرِ تَكْرِيرِهِ بِوَحْيٍ سَرِيعٍ.

قَالُوا: قَالَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ"، "أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا، أَوْ لِلأَبَدِ؟ قال: "لِلأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ: نَعمْ لَوَجَبَ.

وإذا أطلق ابتداء، ثم استثنى بالتماس العَبَّاس مع ظهور أنه لم ينزل الوحي في تلك اللَّحْظَة.

"وأجيب"[ثانيًا]

(1)

"بأن الإِذخر ليس من الخَلا" ليتناوله الحكم، "فدليله" الدّال على إِباحته "استصحاب" لحال الحل، ويكون الاستثناء منقطعًا، "أو "أنه "منه ولم يرده" النبي صلى الله عليه وسلم بالعموم تخصيصًا له، "وصح استثناؤه بتقدير تكرره"؛ [لقوله: لَا يُخْتَلَى خَلَاها"، كأنه قال: "لا يُخْتَلَى خَلَاهَا إِلا الإِذْخر" "لفهم" العباس "ذلك أو "نقول: إنه "منه وأريد، ونسخ بتقدير تكرر"

(2)

الاستثناء "بوحي سريع"، فالأجوبة ثلاثة.

وتقديرها هكذا: لا نسلم أن الاستثناء، متصل، بل هو منقطع، وليس الإذخر من الخَلَا.

سلمنا الاتصال، لا نسلم أنه مراد.

فإن قلت: ولم استثنى؟

قلنا: ليس استثناء منه بل بتقدير تكرار اللفظ كما عرفت.

سلمنا أنه مراد، ولكن لم قلتم: إنه ينسخ بوحي سريع، وما المانع من ذلك؟.

الشرح: "قالوا" ثالثًا: روي الجماعة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ" عَلَى أُمّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلّ صَلاةٍ".

وهو صريح في أن الأمر وعدمه إليه، ولذلك لما قيل: "أحَجُّنا هذا لعامنا أو للأبد؟

(1)

في أ، ت: إمّا.

(2)

سقط في ت.

ص: 569

وَلَمَّا قَتَلَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، ثُمَّ أَنْشَدَتْهُ ابْنَتُهُ:[الكامل]

مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا

مَنَّ الْفَتَى، وَهوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ

فَقَالَ عليه السلام: "لَوْ سَمِعْتُه، مَا قَتَلْتُهُ".

وَأُجِيبَ: بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خُيِّرَ فِيهِ مُعَيَّنًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ.

فقال: لِلْأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ""

(1)

.

واللفظ من حديث أبي هريرة: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا" فَقَالَ رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَما اسْتَطَعْتُمْ".

رواه أحمد بن حنبل، ومسلم بن الحجاج في الصحيح، وأبو عبد الرحمن النسائي.

وهو صريح في أن قوله المجرد من غير وحي يوجب، فدلّ أنه كان مفوضًا إليه؛ لأنه لا ينطق عن الهَوَى.

الشرح: "ولما قتل النَّضر بن الحارث، ثم أنشدته ابنته": [الكامل]

"مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا

مَنَّ الفَتَى وَهُوَ المَغِيظُ المُحْنَقُ"

"فقال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ سَمِعْتُهُ مَا قَتَلْتُهُ".

وذلك فيما أخبرنا به عبد القادر بن الملك المغيث عبد العزيز بن الملك المعظم عيسى بن أبي بكر بن أيوب قرأه عليه وأنا حاضر أسمع في أواخر الثالثة أو أوائل الرّابعة بـ"القاهرة" وأحمد بن علي بن الحسن بن داود الحنبلي بقراءتي عليه مرة، وقرأت عليه وأنا أسمع أخرى بـ"دمشق" قال: أنبأنا محمد بن إسماعيل خطيب "مرو"، قال الأول: سماعًا، وقال الثاني: حضورًا في الخامسة أنبأنا صنيعة الملك أبو محمد هبة الله بن يحيى بن حَيْدَرة، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن رفاعة بن عذير السّعدي، أنْبأنا أبو الحسن علي بن الحسين الخُلعي، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد بن النّحاس [البَزّار]

(2)

،

(1)

أخرجه مسلم (2/ 886 - 892) رقم (147) من حديث جابر بن عبد الله، وهو الحديث الطويل في صفة حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(2)

في ت: البزاز.

ص: 570

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أنبأنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن الوَرْدِ، أنبأنا أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحيم البَرْقي، أنبأنا أبو محمد عبد الملك بن هشام النحوي البَصْري، حَدْثنا زياد بن عبد الله البَكَّائي عن محمد بن إسحاق المطلبي رحمه الله.

قال بعد أن ذكر غزوة "بدر" الكبرى، وعدّد القتلى بها: وكان من شياطين قريش قتله علي بن أبي طالب [من]

(1)

نفر من بني عبد الدَّار بن قصي بن النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدَّار، قتله علي بن أبي طالب صَبْرًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ"الصفرا" فيما يذكرون.

قال ابن هشام: بـ"الأثيل" ثم ذكر ابن هشام بعد ذلك أبياتًا ذكرتها قتيلة بنت الحارث

(2)

أخت النضر تَبْكيه، وهي:[الكامل]

يَا رَاكِبًا إِنَّ الأَثِيلَ مَظِنَّةٌ

مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ

أَبْلِغْ بِهَا مَيْتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً

مَا إِنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ تَخْفِقُ

مِنِّي إِلَيْكَ وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً

جَادَتْ بِوَاكِفِهَا، وَأُخْرَى تُخْنَقُ

هَلْ يَسْمَعَنِّي النَّضْرُ إِنْ نَادَيْتُهُ

أَمْ كَيْفَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ لَا يَنْطِقُ؟!

أَمُحَمَّدٌ وَلأَنْتَ صِنْوُ كَرِيمَةٍ

فِي قَوْمِهَا وَالفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ

مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا

مَنَّ الفَتَى وَهُوَ المَغِيظُ المُحنَقُ

أَوْ كُنْتَ قَابِلَ فِدْيَةٍ فَلْيُنْفَقَنْ

بِأَعَزِّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْفِقُ

وَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ أَسَرْتَ قَرَابَةً

وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقٌ يَعْتِقُ

ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ

لِلهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تَشَقَّقُ

صَبْرًا يُقَادُ إِلَى المَنِيَّةِ مُقْعِيًا

رَسْفَ المُقَيَّدِ وَهْوَ عَانٍ مُوثَقُ

(3)

(1)

في ب، ت: خمسة.

(2)

قتيلة بنت النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي؛ القرشية. قال الواقدي: هي التي قالت الأبيات القافية في رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتل أباها النضر بن الحارث يوم بدر، فلما بلغ رسول الله ذلك بكى حتى اخضلت لحيته وقال:"لو بلغني شعرها قبل أن أقتله ما قتلته". قال ابن حجر في "الإصابة": لم أر التصريح بإسلامها؛ لكن إن كانت عاشت إلى الفتح فهي من جملة الصحابيات. ينظر: الإصابة 8/ 169 (884).

(3)

قال ابن عبد البر في الاستيعاب 4/ 1905: قال الزبير: وسمعت بعض أهل العلم يغمز أبياتها =

ص: 571

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال ابنُ هشام: فيقال والله أعلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشّعر قال: "لَوْ بَلَغَنِي هَذَا قَبْلَ قَتْلِهِ لَمَنَنْتُ عَلَيْهِ".

وبهذا استمسكت المفوضة، فقالت: لو لم يكن القتل مفوضًا إِليه لم يفْترق الحال بين أن يبلغه شِعْرها أو لا، على أن الزبير بن بَكّار ذكر في "النّسب" أنه سمع بعض أهل العلم يذكر أن هذه الأبْيات مصنوعة، "وأجيب: بجواز أن يكون" النبيّ صلى الله عليه وسلم قد "خيّر فيه" أي فيما أسنده إلى نفسه من هذه الصور الثلاثة "معينًا" كأن قيل: أنت مخيّر في إيجاب السّؤال وعدمه، وتكرير الحَجّ وعدمه، وقتل النضر وتركه، "ويجوز أن يكون بوحي" لا من تلقاء نفسه.

= هذه، ويذكر أنها مصنوعة، وينظر: شرح الحماسة للمرزوقي 2/ 963، والحماسة لأبي تمام 1/ 477، وزهرة الآداب 1/ 65، والسيرة لابن هشام 2/ 285، وأسد الغابة 7/ 241، والإصابة لابن حجر 8/ 80، ومعجم البلدان 1/ 118 الروض المعطار (11) والأثيل: تصغير الأَثْل: موضع قرب المدينة.

ص: 572

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُقَرُّ عَلَى خَطَأٍ فِي اجْتِهَادِهِ.

وَقِيلَ: بِنَفْيِ الْخَطَأِ.

لَنَا: لَوِ امْتَنَعَ لَكَانَ لِمَانِعٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُه، وَأَيْضًا:"لِمَ أَذِنْتَ"، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} [سورة الأنفال: الآية 67] حَتَّى قَالَ: لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ، مَا نَجَا مِنْهُ غَيْرُ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ.

«مسألة»

الشرح: قال أبو عمرو: و"المختار: أنه صلى الله عليه وسلم لا يقرّ على خطأ في اجتهاده.

وقيل بنفي الخطأ.

لنا: لو امتنع لكان لمانع، والأصل عدمه

(1)

.

"وأيضًا"{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ "لِمَ أَذِنْتَ"} [سورة التوبة: الآية 43]، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} ، [سورة الأنفال: الآية 67] "حتى قال" صلى الله عليه وسلم: ""لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ غَيْرُ عُمَرَ؛ لأَنَّهُ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ"".

وهذا اللفظ غير معروف وإنما المعروف ما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما أسروا الأسارى - يعني يوم "بدر" - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسَارى، فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العَمّ والعشيرة، أرى أن نأخذ منهم فدية، فيكون لنا قوة على الكُفَّار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا تَرَى يَا بْنَ الخَطَّابِ؟؟ " قال: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن

(1)

ينظر: المحصول 2/ 3/ 22، واللمع (76)، والتبصرة (524)، والمستصفى 2/ 355، والإحكام للآمدي 4/ 187، والمنتهى 162، والمسودة (509)، ونهاية السول 4/ 530 - 537، والإبهاج 3/ 269، وجمع الجوامع 2/ 387، وشرح الكوكب المنير (607)، وتيسير التحرير 4/ 190، وفواتح الرحموت 2/ 372، وشرح العضد 2/ 303.

ص: 573

وَأَيْضًا: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ، فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ"، وَقَالَ:"إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ".

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ.

وَرُدَّ: بِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ المُحْتَملِ.

تمَكّننا، فنضرب أعناقهم، فتمكّن عليًّا من عقيل، فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان نسيبًا لعمر، فأضرب عنقه؛ فإِن هؤلاء أئمة الكفر، فَهَوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قلت، فلما كان من الغد جئت، فإِذا رسول الله، وأبو بكر قاعدين يَبْكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت؛ وإن لم أجد بكاء لبكائكما تباكيت فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَبْكِي لِلَّذِي عُرِضَ عَلَى أَصْحَابِكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الفِدَا، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أدْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الشَّجرة - شَجَرَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْهُ" وأنزل الله - تعالى - {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}

(1)

[سورة الأنفال: الآية 67 - 69] فأحل الله الغنيمة لهم،

(1)

أخرجه مسلم 3/ 1383 - 1385 في كتاب: الجهاد والسير باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم حديث (58/ 1763)، قال مسلم: حدثني عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه "اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط ردائه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل:"إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين"[الأنفال: 9] فأمده الله بالملائكة.

قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فأحضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة" وقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين. =

ص: 574

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشرح: "وأيضًا" روى أحمد، وأبو داود من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّكُمْ تختصمون إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بشيءٍ مِنْ مَالِ أخِيهِ، فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ"

(1)

. وأصل الحديث متفق عليه.

"وقال: "إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ"، وهذا اللفظ لا يُعْرَف، "وأجيب" عن [هذا]

(2)

الاستدلال به على تقدر صحّته: "بأن الكلام في الأحكام لا في فَصْل الخصومات، ورد بأنه" أي قضاء الخصومات "يستلزم الحكم الشرعي المحتمل"، أي: الحكم الشّرعي؛ فإِن المال حلال لزيد، حَرَام على عمرو مع احتمال الصواب والخطأ.

واعلم أنّ الحق عندنا أنه صلى الله عليه وسلم يمتنع عليه الخَطأ.

ودليله ما سيذكره، واستدلال المصنف بقوله:"عَفَا اللهُ عَنْكَ" مدفوع؛ فقد قال غير واحد: إنه صلى الله عليه وسلم كان مخيرًا في الإِذْن وعدمه، فما ارتكب إِلا صوابًا.

فإِن الله - تعالى -[يقول]

(3)

: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [سورة النور: الآية 62]، فلما أذن

= قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأساري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأساري؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار؛ فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ترى يا بن الخطاب؟ " قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان (نسيبًا لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصنانديدها، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذه الفداء، لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة"(شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم) وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}

إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [سورة الأنفال: الآيات 67، 69] فأحل الله الغنيمة لهم.

(1)

تقدم.

(2)

سقط في أ، ت.

(3)

سقط في ب.

ص: 575

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لهم أعلمه الله - تعالى - بما لم يطلع عليه من سرّهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا، أو أنه لا حرج عليه فيما فعل، ولا خطأ، وليس "عَفَا" هنا بمعنى: عفو، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"عَفَا اللَّهُ لَكُمْ مِنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ وَالرَّقِيقِ"

(1)

.

ولم يجب عليهم ذلك قط.

قال القشيري: ومن قال: العفو لا يكون إِلا عن ذنب، فهو غير عارف بكلام العرب، وإنما معنى "عَفَا اللَّهُ عَنْكَ " لم يلزمك ذنبًا كما في:"عفا عن صدقة الخيل".

وأما قوله في أسارى " بدر": "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى" الآيتين، فليس فيه إِلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه بيان ما خصّ به، وفضل من بين سائر الأنبياء.

فكأنه قال: ما كان هذا لنبي غيرك.

وقوله: "تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا" المعنى به: من أراد ذلك منهم، وليس المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حديث القضاء، فالقاضي مصيب عند الحكم بشهادة الشَّاهدين مطلقًا، واعلم أن هذا المحل لا يحتمل البسط في المسألة، ومسألة العصمة هي الكافلة به؛ فإن المأخذ في عِصْمته عن الصَّغائر والكبائر كالمأخذ في عصمته عن الخطأ في الاجتهاد، والقادر على عصمته من الذنوب ويطهره عن دَنَسِهَا في حالتي العمد والسهو قادر على رفع جانبه عن الخَطأَ، والله المستعان، والذين وافقونا على امتناع الخطأ:

(1)

أخرجه أبو داود 2/ 101 كتاب الزكاة: باب في زكاة السائمة (1574)، وأخرجه الترمذي 3/ 16 كتاب الزكاة: باب ما جاء في زكاة الذهب والورق (620)، وأخرجه النسائي 5/ 37 - كتاب الزكاة: باب زكاة الورق (2477)، وأخرجه ابن ماجة 1/ 570 كتاب الزكاة: باب زكاة الورق والذهب (1790)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 186، والطبراني في الصغير 1/ 232، 2/ 130، والخطيب البغدادي في التاريخ 7/ 141، 302، 14/ 291، والهيثمي في المجمع 3/ 69، وانظر: تلخيص الحبير 2/ 149.

ص: 576

قَالُوا: لَوْ جَازَ، لَجَازَ أَمْرُنَا بِالْخَطَأِ -.

وَأُجِيبَ: بِثُبُوتِهِ لِلْعَوَامِّ.

قالُوا: الإِجْمَاعُ مَعْصُومٌ؛ فَالرَّسُولُ أَوْلَى.

قُلْنَا: اخْتِصَاصُهُ بِالرُّتْبَةِ وَاتِّبَاعِ الإجْمَاعِ لَه، يَدْفَعُ الأوْلَوِيَّةَ، فَيتَّبعُ الدَّلِيلَ.

"قَالُوا: الشَّك فِي حُكْمِهِ مُخِلٌّ بِمَقْصُودِ الْبَعْثَةِ.

وَأُجِيبَ: بِأَن الاِحْتِمَالَ فِي الاِجْتِهَادِ لا يُخِلُّ، بِخِلافِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْي.

الشرح: "قالوا: لو جاز لجاز أمرنا بالخطأ"؛ لأنا مأمورون باتباعه، فلو كان فيما أفتى به ما هو خطأ لدخل تحت عموم ما أمرنا به "وأجيب بثبوته" أي: بثبوت الأمر بالخطأ "للعوام"، ومنع بطلان اللَّازم، ولا يخفى أنه ضعيف؛ فإن أحدًا لم يأمر بالخطأ، وإنما العامي مأمور بالتقليد، والخطأ واقع في طريقه، ولو انكشف الخطأ لما جاز للعامّي تقليد المُفْتى في خطائه، فإنما يقلده لظنّه أنه مصيب.

"قالوا" ثانيًا: "الإجماع معصوم" عن الخطأ؛ لكون أهله أمة الرسول صلى الله عليه وسلم، "فالرسول أولى.

قلنا: اختصاصه بالرّتبة"، أي: رتبة الرسالة التي هي أعلى مراتب المخلوقين، "واتباع" أهل "الإجماع له يدفع الأولوبة" رتبة العِصْمة، فربما ثبت للمفضول ما لا يثبت للفاضل، ولا يعود ذلك على الفاضلُ بِضَيْرٍ، فقد جاء في الحديث أنّ أناسًا لهم في الآخرة مراتب تربطهم [فيها]

(1)

الأنبياء والشهداء، فإذا جاز أن تكون العصمة عن الخطأ ثابتة وألّا تكون، فإنه لا يلزم من عصمة جميع الأمة عصمة نبيها، "فيتتبع الدليل" الدَّال على جواز الخطأ.

ولقائل أن يقول: لم يأتوا بما ينتهض دليلًا حتى يتبع، ثم نحن ننكر أن المفضول قد يختص برتبة، ولكن ليس ذلك موجودًا فيما نحن فيه؛ فإن عصمة الأمة ثابتة إكرامًا لنبيها، فما ظنك بنبيها صلى الله عليه وسلم، وهذا واضح لمن تدبَّره.

الشرح: "قالوا" ثالثًا: تجويز الخطأ يوجب الشَّك في حكمه، هل هو صواب أو خطأ؟

(1)

سقط في أ، ت.

ص: 577

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"والشك في حكمه مخلّ بمقصود البعثة"، وهو الوثوق بما يأتيه ويذره.

"وأجيب بأن الاحتمال" للخطأ "في الاجتهاد"، و"لا يخل" إلا "بخلاف" الاحتمال فيه، و"الرسالة والوحي"، فلذلك افترقا، وحاصله منع أن ذلك مخلّ بالمقصود.

ص: 578

‌مَسْأَلَةٌ:

الْمُخْتَارُ: أَن النَّافِيَ مُطَالَبٌ بِدَلِيلٍ.

وَقِيلَ: فِي الْعَقْلِيِّ، لا الشَّرْعِيِّ.

لَنَا: لَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكَانَ ضَرُورِيًا نَظَرِيًا، وَهُوَ مُحَالٌ.

وَأَيْضًا الإجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ فِي دَعْوَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقِدَمِ، وَهُوَ نَفْيُ الشَّرِيكِ، وَنَفْيُ الْحُدُوثِ.

«مسألة»

الشرح: "المختار: أن النَّافي مُطَالب بدليل.

وقيل: في العقلي لا الشَّرعي".

وقال أصحاب الظاهر: لا دليل عليه مطلقًا.

"لنا: لو لم يكن "مطالبًا بالدليل "لكان" ما يدعيه "ضروريًا نظريًا، وهو محال"

(1)

.

وبيان الملازمة: أن عدم المطالبة إنما يكون في البديهيات، فلو لم يطالب لكان ضروريًا، والفرض أنه نظري، فيكون ضروريًا نظريًا، وقد قرر أصحابنا هذا الدليل بوجه أبسط من هذا وأوضح، فقالوا: النفي لكون الشيء حلالًا أو حرامًا حكم من أحكام الدين كالإثبات، والأحكام لا تثبت إِلا بدليلها، ومن ادعى حكمًا فعليه الدليل إِثباتًا كان أو نفيًا قَال تعالى:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة: الآية 111].

ثم يقول: لا يخلو النافي إما أن يدّعي العلم بنفي ما نفاه أولا، ولكن يخبر عن جهله، وسلبه الثاني لا دليل عليه، ولكنه ليس مما نحن فيه؛ لأنه ليس بحاكم بشيء حتى يقال: إنه نافي أو مثبت، والأول يقال له: هل علمت نفي ما نفيت باضطرار، أو استدلال ولا يمكنه دعوى الضرورة؛ إذ لو كانت لشاركناه فيها.

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 190، وشرح العضد 4/ 304.

ص: 579

النَّافِي: لَوْ لَزِمَ للَزِمَ مُنْكِرَ مُدِّعِي النبوَّةِ، وَصَلاةٍ سَادِسَةٍ، وَمُنْكِرَ الدَّعْوَى.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الدَّلِيلَ يَكُونُ اسْتِصْحَابًا مَعَ عَدَمِ الرَّافِعِ، وَقَدْ يَكُونُ انْتِفَاءَ لازِمٍ، وَيُسْتَدَلُّ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ بِالْمَانِعِ، وَانْتِفَاء الشَّرْطِ عَلى النَّفْي، بِخِلافِ مَنْ لا يُخَصِّصُ الْعِلَّةَ.

وإن قال: باستدلال سئل عنه أشرعي أم عقلي هو؟ فلا بد من دليل يقيمه، "وأيضًا: الإجماع" واقع "على" أن الثاني مُطَالب بالدليل في "ذلك" مطالبته "في دعوى الوحدانية والقدم، وهو نفي الشريك، ونفي الحدوث"، فبطل السَّلب الكلي، وهو دعواكم أنه لا دليل على النافي مطلقًا، وببطلانه يثبت الإِيجاب الكلي؛ إذ لا قائل بالفصل.

الشرح: واحتج "النافي" للمطالبة بالدليل بأنه "لو لزم" كل من يدعي نفيًا أن يقيم الدليل "للزم منكر مدّعى النبوة، وصلاة سادسة، ومنكر الدعوى"، واللوازم باطلة "أجيب بأن" هذه الصور غير منفكة عن الدليل، وذلك لأن "الدليل يكون استصحابًا" للأصل "مع عدم الرَّافع"، وذلك محقّق في مسألة الدعوى "وقد يكون" الدليل على الانتفاء "انتفاء لازم" من لوازمه؛ لاستلزامه انتفاء المَلْزُوم، وهو متحقق في الصَّلاة السادسة؛ إذ الإشهار من لوازمها عادة، وقد انتفى، وكذلك في دعوى الرِّسَالة؛ إِذ لازمها وجود المعجز عادة، وقد انتفى، والحاصل منع بطلان اللّوازم؛ فإن الثلاثة مطالبون بالدليل، لكنه مقرر معلوم، فلذلك ترك التَّصريح به، "ويستدل بالقياس الشرعي بالمانع، وانتفاء الشَّرْط على النفي، بخلاف من لا يخصص العلة" أي: إذا قلنا: النافي مطالب بالدليل، فالنافي للحكم الشرعي هل يجوز له الاستدلال بالقياس؟ اختلف فيه، والحق أنه إنما يستدل به إذا كان الجامع وجود مانع، أو عدم شرط، لا باعثًا؛ فإن عدم الحكم لا يتعين أن يكون الباعث، بل يكفي فيه عدم الباعث على الحكم، وذلك إِنما يصحّ عند من يجوز تخلّف الحكم عن علّته، ولا يجعله قادحًا في العلّية إِذا كان المانع، أو عدم شرط كما مَرَّ، فهو فرع تخصيص العلة، فجوزه المصنف لجوازه عنذه، ونحن نمنع تخصيص العلّة، فلا نجوزه.

ص: 580

‌التَّقْلِيدُ

التَّقْلِيد، وَالْمُفْتِي، وَالْمُسْتَفْتِي، وَمَا اسْتُفْتِيَ فِيهِ فَالتَّقْلِيدُ: الْعَمَلُ بِقَوْلِ غَيْرِكَ منْ غَيْرِ حُجَّةٍ، وَلَيْسَ الرُّجُوعُ إِلَى الرَّسُولِ وَإلَى الإجْمَاعِ، وَالْعَامِّيِّ إِلَى الْمُفْتِي، وَالْقَاضِي إِلَى الْعُدُولِ - بِتقْلِيدٍ؛ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ، وَلا مُشاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ.

وَالْمُفْتِي: الْفَقِيهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

الشرح: "التقليد

(1)

والمفتي، والمستفتى، وما يستفتى به".

"فالتقليد: العمل بقول غيرك من غير حجّة"، كأخذ العامي والمجتهد بقول مثله "وليس الرجوع إلى المرسل، وإلى الإجماع، والعامي إِلى المفتى، والقاضي إِلى العدول بتقليد لقيام الحجّة" على أن كلًّا منها دليل شرعي في حق الآخذ به، وقد تسمى هذه الصورة تقليدًا عند قوم لا سيّما رجوع العامي إِلى قول المفتي، وهو المختار، وعليه جرى المصنّف بعد، حيث يقول: غير المجتهد يلزمه التقليد، "ولا مُشَاحّة في التسمية، "والمفتي: الفقيه، وقد تقدم".

(1)

ينظر: المستصفى 2/ 387، واللمع (70)، وجمع الجوامع 2/ 392، وشرح الكوكب (616)، والبرهان 2/ 1357، والمستصفى 2/ 387، والمنخول 472، والإحكام للآمدي 4/ 192، المنتهى (163)، شرح العضد 2/ 305، إرشاد الفحول (265)، ونشر البنود 2/ 335، وتيسير التحرير 4/ 242، والمسودة (462)، وفواتح الرحموت 2/ 400، وميزان الأصول 2/ 949.

ص: 581

وَالْمُسْتَفْتِي خِلافُهُ.

فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّجَزُّؤ، فَوَاضِحٌ، وَالْمُسْتَفْتَى فِيهِ الْمَسَائِلُ الاِجْتِهَادِيَةُ لا الْعَقْلِيَّة، عَلَى الصَّحِيحِ.

الشرح: تعريف الفقه، ويعرف منه تعريف الفقيه "والمستفتى خلافه.

فإن قلنا بالتجزؤ، فواضح" ثبوت الفرق بين المفتى والمستفتى؛ لأنّ كل عامي في مسألة مستفت للعالم فيها، والعالم فيها مفت، وإن لم نقل بالتجزؤ، فالمفتى المجتهد، والمستفتى غيره، "والمستفتى فيه المسائل الاجتهادية لا العقلية على الصحيح"؛ لأنه يشترط فيها القَطْع كما سيأتي عقبه إن شاء الله تعالى.

ص: 582

‌مَسْأَلَةٌ:

لا تَقْلِيدَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ

؛ كَوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى.

وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ بِجَوَازِهِ.

وَقِيلَ: النَّظَرُ فِيهِ حَرَامٌ.

لَنَا: الإجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ، وَالتَّقْلِيدُ لا يُحَصلُ؛ لِجَوَازِ الْكَذِبِ، وَلأَنَّهُ كَانَ يَحْصُلُ بِحُدُوثِ العَالَمِ وَقِدَمِهِ.

وَلأنَّهُ لَوْ حَصَلَ لَكَانَ نَظَرِيًّا، وَلا دَلِيلَ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ وَاجِبًا، لَكَانَتِ الصَّحَابَةُ أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ، لَنُقِلَ كَالْفُرُوع.

«مسألة»

الشرح: "لا تقليد في العقليَّات كوجود الباري - تعالى -" وما يجوز له

(1)

، وما يمتنع، ويجب من الصفات.

"وقال العنبري بجوازه.

وقيل: النظر فيه حرام.

لنا: الإجماع على وجوب المعرفة، والتقليد لا يحصّل" المعرفة، فلا يكفي.

وإنما قلنا: إن التقليد لا يحصلها لوجوه ثلاثة؛ "لجواز الكذب" على المخبر المقلد؛ لأنه غير معصوم، فلا يحصل العلم بقوله، "ولأنه" لو "كان" التقليد "يحصل" العلم "بحدوث العالم" إذا قلّد فيه، "وبعدمه" إذا قلد فيه معتقده، ونحو ذلك من المسائل المختلف فيها، فإذا قلد واحد في الحدوث، وآخر في القدم كان المقلّدان عالمين بها، فيلزم حقيقتهما، وهو محال.

الشرح: "ولأنه لو حصل" التقليد العام "لكان" العلم بكونه محصلًا به "نظرًا؛ إذ ليس

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 193 ينظر: اللمع ص (70)، والتبصرة (401)، والمحصول 2/ 3/ 125،=

ص: 583

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ كَذَلِكَ، وَإلَّا لَزِمَ نِسْبَتُهُمْ إِلَى الْجَهْلِ بِاللَّهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْقَلْ؛ لِوُضُوحِهِ وَلعَدَمِ الْمُحْوِجِ إلَى الإِكْثَارِ.

قَالُوا: لَوْ كَانَ، لأَلْزَمَ الصَّحَابَةُ الْعَوَامَّ بِذَلِكَ.

قُلْنَا: نَعَمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَحْرِيرَ الأَدِلَّةِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبَهِ وَالدَّلِيلُ يَحْصُلُ بِأَيْسَرِ نَظَرٍ.

بضروري بالضرورة، ولو كان ضروريًا لكان عليه دليل، "ولا دليل" عليه، والأصل عدمه، فعلى من ادعاه إظهاره، والذاهبون إلى عدم وجوب النظر "قالوا" أولًا:"لو كان" النظر "واجبًا لكانت الصحابة أولى" به، "ولو كان" أي: ثبت منهم النظر في العقليات "لنقل كالفروع" أي: كما نقل نظرهم في الفروع الاجتهاديات.

"وأجيب بأنه كذلك"، أي: كان النظر واجبًا عليهم واقعًا منهم، "وإلا لزم نسبتهم إِلى الجَهْل، وهو باطل، وإنما لم ينقل لوضوحه، وعدم المحجوج إلى الإكثار" من صفاء الأذهان، ومشاهدة الآيات ومعاينة نزول الوحي وأنوار المصطفى صلى الله عليه وسلم، بخلاف زماننا؛ فإنه لما كان بالضد من ذلك احتيج إلى إكثار النظر والبحث.

"قالوا" ثانيًا: "لو كان" النظر واجبًا "لألزم الصحابةُ العوامَّ بذلك"، كما كانوا يلزمونهم بسائر الواجبات، واللازم باطل؛ فإنا نعلم أكثر عوام العرب لم يكونوا عالمين بالأدلّة الكلامية.

"قلنا: نعم" أي نلتزم أن الصحابة رضي الله عنهم الزموا العوام بذلك، "وليس المراد" بالنظر الواجب على العوام "تحرير الأدلة والجواب عن الشبه"، كما يفعل الغزالي، والإمام الرازي، وأمثالهما.

"والدليل يحصل بأيسر نظر"، والقصد أن العامي لا يكون مقلدًا في معرفته بالرب - تعالى - فإنه يكون غير عارف به؛ لأن التقليد أخذ قول الجر بغير حجّة، وإذا انتفى التقليد بأي طريق كأن يحصل العلم حصل الإيمان، وعوام المسلمين كلهم كذلك، فإنهم عارفون

= وجمع الجوامع 2/ 402، ونهاية السول 4/ 595، وإرشاد الفحول (266)، والمسودة (457)، وروضة الناظر 205، والتحرير (547)، والتيسير 4/ 243، وفواتح الرحموت 2/ 401.

ص: 584

قَالُوا: وُجُوبُ النَّظَرِ دَوْرٌ عَقْلِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

قَالُوا: مَظِنَّةُ الْوُقُوع فِي الشُّبَهِ وَالضَّلالَةِ؛ بِخَلافِ التَّقْلِيدِ.

قُلْنَا: فَيَحْرُمُ عَلَى المُقَلَّدِ، أَوْ يَتَسَلْسَلُ.

غير شاكين في الله تعالى وإن كان ما في ذهنهم من الدليل غير الطريق الذي في ذهن غيرهم، وذلك كافٍ.

الشرح: "قالوا: وجوب النظر دور عقلي"؛ لتوقف معرفة الإيجاب على معرفة الموجب، فلو توقفت معرفة الموجب على معرفة الإيجاب لزم الدور، وقد تقدم جوابه في مسألة الحسن والقبح، والذاهبون إلي وجوب التقليد "قالوا: ومظنة الوقوع في الشّبه والضلالة بخلاف التقليد. "قلنا": إذا كان النظر "حرامًا، فيحربم على المقلَّد" اسم مفعول بفتح اللام، وكذا ضبطه المصنّف بخطه، أو يتسلسل؛ لأن الذي قلد إن كان قد نظر فيكون مرتكبًا للحرام، وإن استند إلى تقليد آخر تسلسل.

فائدة

عزى إلى شيخنا أبي الحسن أن إيمان المقلّد لا يصح، وأنكر الأستاذ أبو القاسم القُشَيري صحته عنه، وقد ذكر في قصيدة لنا نظمناها فيها المسائل التي اختلف فيها أبو حنيفة والأشعري - رحمهما الله تعالى - ونحن نقول على تقدير ثبوته عنه: التقليد: يطلق تارة بمعنى قَبُول قول الغير بغير حجّة، ويسمى اتباع العامي لإمامه تقليدًا على هذا، وهو العرف.

وتارة بمعنى الاعتقاد، والجازم لا الموجب، والتقليد بالمعنى الأول قد يكون ظنًّا، وقد يكون وهمًا، كما في تقليد إِمام في فرع من الفروع مع تجويز أن يكون الحق في خلافه، ولا شك أن هذا لا يكفي في الإيمان عند الأشعري، وسائر الموحدين، ولعلّه مقصود الأشعري بقوله المقلد لا يصح أن يثبت عنه.

وأما التقليد بالمعنى الثاني، فكان أبي رحمه الله يقول: لم يقل أحد من علماء الإِسلام: إنه لا يكفي في الإيمان، إلا أبو هاشم من المعتزلة، وأنا أقول: إن هذا لا يتصور؛ فإن الإِنسان إذا مضى عليه زمن لا بد أن يحصل عنده دليل، وإن لم يكن على طريقة أهل الجدل، فإن فرض مصمم جازم، ولا دليل عنده، فهو الذي يكفره أبو هاشم، ولعلّه المنسوب إلى الأشعري، والصحيح أنه ليس بكافر، وأن الأشعري لم يقل بذلك.

ص: 585

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نعم اختلف أهل السُّنة في أنه هل هو عاصٍ، والأصح عند أبي حنيفة رحمه الله أنه مطيع.

وعند آخرين أنه عاص، وهو الخلاف في وجوب النظر، فاعرفه.

وإن قلنا: إنه عاص، وأن النظر واجب، فالواجب نظر ما، ولا يشترط نظر على طريقة المتكلمين كما عرفناك، وهذا لا خلاف فيه نعلمه ثابتًا عن أحد من سلف الأمّة.

قال ابن السَّمْعَاني: إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلّمون بعيد جدًّا عن الصَّوَاب، ومتى أوجبنا ذلك، فمتى يوجد من العوام من يصرف ذلك؟ وتصدر عقيدته عنه، بل أكثر العوام بحيث لو عرضت عليهم تلك الدلائل لم يفهموها، وإنما غاية العامي أن يتلقى ما يريد أن يعتقده ويلقى به ربه من العلماء، ويتبعهم في ذلك ويقلدهم، ثم يسلم عليها بقلب سليم طاهر عن الأهواء والأَدْغَال، ثم يعلّق عليها بالنَّوَاجذ، فلا يحول ولا يزول، ولو قطّع إربًا، فهنيئًا لهم السلامة والبعد عن الشُّبهات الداخلة على أهل الكلام والوَرطَات التي تورّطوا فيها حتى أَدَّت بهم إِلى المهاوي والمَهَالك، وولجت عليهم الشُّبُهَات العظيمة في الآخرة، فصاروا متحيّرين عمهين، ولهذا لا يوجد فيهم متورع متعفّف إلا القليل؛ لأنهم أعرضوا عن ورع الألْسنة، وإن سألوها في صفات الله - تعالى - بجرأة عظيمة، وعدم مهابة وحرمة، ففاتهم ورع سائر الجوارح، وذهب عنهم بذلك ورع اللَّسَان، والإنسان كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، فإذا خَرِبَ منه جانب تَدَاعى منه سائره للخراب؛ ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه إلا ولخصومهم عليه الشبه القوية، بل يدعون لأنفسهم مثل ذلك سواء، وغاية الواحد منهم في اللجج والعلو على صاحبه بزيادة الحذف في طريقة الجَدَل، فبينهم أوضاع يتناظرون عليها، ويطالبون الخَصْم بطردها، فإذا لم يفوا بطردها سمّوها انقطاعًا، وعجزوا، على أَنَّا لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به بَرْد الخاطر، ويزداد ثقة فيما يعتقده [وطمأنينة]

(1)

، وإنما ننكر إيجاب التوصل إِلى العقائد في الأُصول بالطريق الذي اعتقدوه وساموا به جميع الخلق، وزعموا أن من لم يفعل ذلك لم يعرف الله تعالى.

(1)

في أ، ت: طمأنينته.

ص: 586

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثم أدى ذلك بهم إلى تكفير العوام أجمع، وهذا هو الحطة الشنعاء، والدَّاء العُضَال، وإذا كان السواد الأعظم هم العوام، وبهم قوام الدِّين، وعليهم مَدَار رجال الإِسلام، ولعل لا يوجد في البلدة الواحدة التي تجمع المائة ألف، والمائتي ألف ممن يقوم بالشرائط التي يعتبرونها إِلا الفذّ الشَّارد والشَّاذ والنَّادر، ولعله لا يبلغ عقد العشرة، فمتى يجد المسلم من قلبه أن يحكم بكفر هؤلاء الناس أجمع، ويعتقد أنهم لا عقيدة لهم في أصول الدين أصلًا، وأنهم أمثال البَهَائم والدواب المسخّرة؟! انتهى كلام ابن السَّمْعَاني، وذكر بعده حكايات تؤيد ما ذكره، وقد اكتفينا بما أوردناه منه عما لم نورده، وأتينا بما أوردناه مع طوله؛ لأنه حسن حق.

فائدة أخرى: ذكر أبو زيد الدبوسي من الحنفية فصلًا في "الإِلْهَام" عقب ذكره إبطال التقليد، وأصحابنا لم يتكلّموا في ذلك، وإنما ذكره ابن السَّمْعَاني عن أبي زيد، ثم تكلم عليه، فقال أبو زيد: الإلهام

(1)

ما حرك القلب بعلم يدعوك إِلى العلم من غير استدلال بآية،

(1)

أما تفسيره لغة - فإيقاع شيء في قلب العاقل يفضي إلى العمل بل ويحمله عليه ويميل قلبه إليه حقًّا كان أو باطلًا.

قال الله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} .

وذلك قد يكون بواسطة الشيطان وهوى النفس، فيسمى (وسْوسةً).

وأما في العرف: فمستعمل فيما يقع في القلب بطريق الحق - دون الباطل، ويدعوه إلى مباشرة الخيرات، دون الشهوات والأماني.

وهذا حد صحيح؛ فإن الإلهام في عرف الناس: ما يكون من الله تعالى بطريق الحق.

وقيل: ما يخلق الله تعالى في قلب العاقل من العلم الضروري الداعي إلى العمل المرغوب فيه.

وأما حده وحقيقته عند أهل الأصول.

فقال بعضهم: هو اتباع الرجل ما اشتهاه بقلبه أو أشار إليه من أمر في غير نظر واستدلال.

وإنه تعريف غير صحيح؛ لأن الإلهام تنوع: قد يكون حقًّا، وذلك من الله تعالى، فيكون وحيًا خفيًّا في حق الأنبياء، وفي حق غير الأنبياء إرشادًا وهداية.

وقد يكون باطلًا، وذلك بواسطة وسوسة الشيطان وهوى النفس.

وخالق ذلك: هو الله تعالى وإن كان شرًّا وفاسدًا.

ووسوسة الشيطان وهوى النفس: سبب ذلك على جريان العادة، ويكون ذلك في الحقيقة =

ص: 587

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولا نظر في حجة، والذي عليه جمهور العلماء أنه خيار لا يجوز العمل به إِلا عند فقد الحُجَجِ كلها في باب ما أبيح عمله بغير علم.

وقال بعض الجبرية: إنه حجة بمنزلة الوحي المسموع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واحتج بقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [سورة الشمس: الآية 7، 8] بالإيقاع في القلب، وبقوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [سورة الأنعام: الآية 125].

وشرح الصدر بنور العلم، والحرج بظلمة الجهل، أخبر تعالى أنه [هو]

(1)

الجاعل لذلك بلا واسطة ولا صنع من العبد، وبقوله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [سورة الروم: الآية 30]. أخبر أن الناس خلقوا على الدين الحنيفي بلا صنع منهم.

وقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآية [سورة النحل: الآية 68] يعني: ألهمها حتى عرفت مصالحها، فلا ينكر ذلك للآدمي.

وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [سورة القصص: الآية 7] أي: ألهمناها.

وقال عليه السلام: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ"

(2)

.

= إغواء وإضلالًا لا إلهامًا.

وإذا كان الأمر كذلك، فلا يجوز تحديده بهذا.

وقال القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله:

الإلهام: ما حرك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به من غير استدلال بآية أو نظر في ججة.

قال عامة العلماء بأن الإلهام الحق يجب العمل به في حق المُلْهم ينظر: ميزان الأصول 2/ 951 - 952.

وينظر تحقيقنا لزبدة الأسرار شرح مختصر المنار.

(1)

في أ: هل.

(2)

أخرجه البخاري 8/ 372 كتاب التفسير: باب سورة الروم (4775) وفي 11/ 502 كتاب القدر: باب الله أعلم بما كانوا عاملين (6599)، وفي 3/ 290 كتاب الجنائز: باب ما قيل في أولاد المشركين (1385) وأخرجه مسلم 4/ 2047 كتاب القدر: باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (22/ 2658).

ص: 588

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال عليه السلام: "اتَّقُوا فرَاسَةَ المُؤمِنِ"

(1)

، والفراسة شيء يقع في القلب بلا نظر في حجّة.

وقال عليه السلام لِوَابِصَةَ وقد سأله عن البر والإِثم: "ضَعْ يَدَكَ عَلَى صَدْرِكَ، فَمَا حَاكَ فِي قَلْبِكَ فَدَعْهُ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ".

فقد جعل عليه السلام شهادة قلبه بلا حجّة أولى من الفتوى.

وقال عليه السلام: "قَدْ كَانَ فِي الأُمَمِ مُحَدّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الأُمةِ، أَحَدٌ فَهُوَ عُمَرُ"

(2)

.

وعن أبي بكر رضي الله عنه: ألقى في روعى أن ذا بطن بنت خارجة جَارِية، والإلقاء الإلهام، وأطال في ذلك.

ثم قال: فثبت أن الإِلهّام حقّ، وأنه وحي باطن إلا أن العبد إِذا عصى ربه، وعمل بهواه حرم هذه الكرامة، واستولى عليه وحي الشيطان، فهذه حجج أهل الإلهام.

أما حجّة أهل السّنة فقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: الآية 111].

(1)

أخرجه الترمذي (4/ 132) رقم (5133)، والطبري في "تفسيره"(14/ 31)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 354)، والعقيلي في "الضعفاء"(4/ 129)، وأبو نعيم (10/ 281)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(7/ 242)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 146) من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا.

وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 268) وقال: رواه الطبراني، وإسناده حسن.

كما أورده السيوطي في "اللآليء"(2/ 330) وقال: فإنه بمفرده على شرط الحسن، وعبد الله بن صالح لا بأس به.

وأخرجه الطبري في "تفسيره"(14/ 46 - 47) وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 81) من حديث ثوبان.

ولفظ ابن جرير: احذروا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله.

(2)

أخرجه أحمد (6/ 55)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(2/ 257)، وابن أبي عاصم في "السنة"(2/ 83 هـ).

ص: 589

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فألزمهم الكذب بعجزهم عن إِظهار الحجّة، والإِلهام حجّة باطنة لا يمكن إظهارها.

وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [سورة المؤمنون: الآية 117].

وبحثهم عن دعوى إله لا برهان لهم به، فدلّ أن شهادة قلوبهم لا تنتهض حجّة، وإنما الحجة ما يمكن إظهاره من الدلائل الشرعية، ويدل عليه قوله:"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ".

فهو دليل على أن العلم بالله - تعالى - لا يكون إِلا بآيات، والآيات لا تدلنا إلا بعد الاستدلال بها عن نظر عقلي، ويدل عليه قوله تعالى:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [سورة الغاشية: الآية 17]، وقوله تعلى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [سورة الذاريات: الآية 21].

وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: الآية 2].

أمر الرب - تعالى - بالنظر والاستدلال، ولم يأمر بالرجوع إلى القلب.

ولذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "بِمَا تَحْكُمُ؟ "

الحديث، لم يذكر فيه إلهام القلب.

قال علماؤنا: ونقول لأهل الإلهام: ما قولكم في الالهام أهو حجّة عند موافقة الشرع، أو مطلقًا؟ فإن عمّموا قولهم وزعموه حجّة، وإن خالف الشرع فقد رفعوا قواعد الإسلام، وأتوا بما لا يدين به من يوحد الله تعالى قالوا: إنما يكون حجّة عند المُوَافقة، فالموافقة لا تعرف إلا بعد النَّظر في أصول الشَّرْع، وأيضًا فالإِلهام قد يكون من الله - تعالى - وقد يكون من الشَّيْطَان، وقد يكون من النَّفْس، فإن كان من الله عز وجل يكون حقًّا.

وإن كان من النفس أو من الشيطان يكون باطلًا، فإذا احتمل ألَّا يكون حقًّا لم يكن حكا، ويدل عليه أن كل إنسان في دعوى الإِلهام مثل صاحبه، فإن قال واحد: ألهمت أن ما أقوله حق، قال عكسه من أراد معاكسته وليس ثم إلا دعوى مقابلة دعوى. وأما الجواب عن كلماتهم، فنقول: قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [سورة الشمس: الآية 8] تأويله والله أعلم: عرفها طريق العلم، وهو الآيات والحُجج، وطريق الفجور، ولذلك شرح الصّدور بنور التوفيق هو النظر في الحُجَج، وكذلك الأخبار المذكورة في القرآن للقلب، وهو بنور الأدلة وبما آراه من الآيات.

ص: 590

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما الفطر، فتأويلها أن الآدمي يخلق وعليه أمانة الله التي قبلها آدم عليه السلام، فيكون على فِطْرة الدين ما لم يخن فيما عليه من الأمانة.

وأما وحي النحل، فإنما أنكرنا مثل ذلك في علم خوطبنا بِكَسْبِهِ، وابتلينا به، وأما وحي أمّ موسى عليه السلام فأمر نقول به، وبيانه: أن أم موسى خافت عليه القتل من فرعون لما ظهر من سُنته، ومن خاف على نفسه الهلاك حل له إلقاء نفسه في البحر، إن رجا فيه النجاة بوجه، وراكب السفينة إذا ابتلى بالحريق حالة ركوب لوح في البحر وكل من ابتلى بشرين لزمه ارتكاب [أهونهما]

(1)

، فقد فعلتْ الذي فعلت بالنظر إلى الذي ألقى في قلبها.

وأما كرامة الفرَاسَة، فلا ننكرها أصلًا، ولكنا لا نجعل شهادة القلب حجّة؛ لجهلنا أنها من الله تعالى، أو من الشيطان، أو النفس.

وأما الصحابة، فلم يقولوا إِلا عن نظر استدلال. هذا مختصر كلام أبي زيد الدبوسي.

قال أبو المظفر بن السَّمعاني: واعلم أن إنكار أصل الإلهام لا يجوز، ويجوز أن يفعل الله - تعالى - بعبد بلطفه كرامة له، ويقول في التمييز بين الحق والباطل، والحق من ذلك أنه كلّما استقام على شرع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في الكتاب والسُّنة ما يرده، فهو مقبول، وما لا فمردود، ويكون ذلك من تسويلات النَّفْس، ووساوس الشَّيْطَان، ويجب ردّه، على أنا لا ننكر زيادة نور من الله - تعالى - كرامة للعبد، وزيادة نظر له، فأما أن يرجع إلى قلبه في جميع الأمور فقول لا نعرفه. انتهى.

قلت: ومع كوننا لا ننكر ما ذكره، فلسنا نزعم أنه حجّة شرعية، وإنما هو نور في القلب يختص الله به من يشاء من عباده، وإذا وافق الشرع كان حُجَّة ذلك الشرع إِلا ما قام في الذهن، ونقول: ربّ صالح عالم مطعمه حَلال ومشربه حلال، ومكسبه حلال اختصه الله بأن يلهمه الصواب، ولا يحل له في ظاهر الشَّرع الاحتجاج بذلك؛ لأنه ليس بمعصوم، فلا ثقة له بخواطره.

(1)

في ت: أصونها.

ص: 591

‌مَسْأَلَةٌ:

غَيْرُ المُجْتَهِدِ يَلْزَمُهُ التَّقْلِيد، وَإنْ كَانَ عَالِمًا.

وَقِيلَ: بشَرْطِ أَنْ يَتَبيَّنَ لَهُ صِحَّةُ اجْتِهَادِهِ بِدَلِيلِهِ.

لَنَا: "فَأَسْالُوا أَهْلَ الذكرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" وَهُوَ عَامٌّ فِيمَنْ لا يَعْلَمُ.

وَأَيْضًا: لَمْ يَزَلِ الْمُسْتَفْتُونَ يَتَّبِعُونَ مِنْ غَيْرِ إِبْدَاءِ الْمُسْتَنَدِ لَهُمْ مِنْ غَيْر نَكِيرٍ.

قَالُوا: يُؤَدِّي إِلَى وُجُوبِ اتِّباعِ الْخَطَأِ.

«مسألة»

الشرح: "غير المجتهد يلزمه التقليد، وإن كان عالمه"

(1)

بطرف صالح من علوم الاجتهاد.

"وقيل": إنما يلزم هذا العالم "بشرط أن يتبيّن له" من حال المجتهد الذي يريد تقليده "صحّة اجتهاده بدليله".

"لنا" قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة الأنبياء: الآية 7].

وهو عام فيمن لا يعلم"، فنقول: هذا غير عالم بهذه المسألة، فعليه السؤال عنها، ويحققه أن علة السؤال الجهل وهو حاصل في هذه المسألة فيجب، "وأيضًا لم يزل المستفتون

(2)

يتبعون" المجتهدين "من غير إبداء المستند لهم، ولا كشف وجه اجتهادهم، وشاع ذلك وذاع "من غير نكير"، فكان إجماعًا.

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 197، وشرح العضد 2/ 306، وفواتح الرحموت 2/ 404، وإرشاد الفحول 272، وجمع الجوامع 2/ 398.

(2)

في ت: المفتون.

ص: 592

قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْدَي لَهُ مُسْتَنَدَه، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي نَفْسُهُ.

"قالوا" القول بذلك "يؤدي إلى وجوب اتباع الخطأ"؛ لجوازه على المجتهد.

الشرح: "قلنا: وكذلك" الحال "لو أبدى له مستنده"؛ إذ لا يلزم من إبداء المستند الأمن من الخطأ، "وكذلك المفتى نفسه"، يرد هذا عليه بعينه؛ لأنه يتبع ظنه مع احتمال الخطأ.

ص: 593

مَسْأَلَةٌ:

‌مَسْأَلَة: الاِتِّفَاق، عَلَى اسْتِفْتَاءِ مَنْ عُرِفَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ، أَوْ رَآهُ مُنْتَصِبًا،

وَالنَّاسُ مُسْتَفْتُونَ مُعَظِّمُونَ لَه، وَعَلَى امْتِنَاعِهِ فِي ضِدِّهِ.

وَالمُخْتَارُ: امْتِنَاعُهُ فِي الْمَجْهُولِ.

لنَا: أَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ.

وَأَيْضًا: الأَكْثَرُ الْجُهَّال، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْغَالِبِ، كَالشَّاهِدِ وَالرَّاوِي.

«مسألة»

الشرح: "الاتفاق على" جواز "استفتاء من عرف بالعلم والعدالة، أو رآه منتصبًا" للفتوى، "والناس يستفتون له معظمون، وعلى امتناعه في ضده"، أي: والاتفاق على امتناع الاستفتاء فيمن كان بالضّد من ذلك

(1)

.

"والمختار: بامتناعه في المجهول" حاله في العلم والجهل.

"لنا: أن الأصل عدم العلم، وأيضا: الأكثر الجهال كالظاهر أنه من الغالب"، فإذن الأصل والظاهر مُتَضَافران على انتفاء العلم، فيعتمدان "كالشاهد والراوي.

(1)

ينظر: المعتمد 2/ 939، والمحصول 2/ 3/ 112، وجمع الجوامع 2/ 397، والإحكام للآمدي 4/ 200، وشرح العضد 2/ 307، والمستصفى 2/ 390، والتمهيد للإسنوي (530)، وشرح تنقيح الفصول (442)، وشرح الكوكب (619)، وإرشاد الفحول (271)، والمسودة (471)، والروضة (206)، والتحرير (549)، والتيسير 4/ 248، وفواتح الرحموت 2/ 403.

ص: 594

قَالُوا: لَوِ امْتَنعَ لِذَلِكَ، لامْتَنَعَ فِيمَنْ عُلِمَ عِلْمُهُ دُونَ عَدَالَتِهِ.

قُلْنَا: مُمْتَنِعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْفَرْقُ أَنَّ الغَالِبَ فِي المُجْتَهِدِينَ الْعَدَالَةُ، بِخِلافِ الاِجْتِهَادِ.

الشرح: "لو امتنع لذلك" أي: الجهل بعلمه "لامتنع فيمن علم علمه دون عدالته".

بدليلكم بعينه؛ لجريانه فيه، واللازم منتفٍ.

"قلنا": نلتزم أنه "ممتنع" أيضًا، "ولو سلم فالفرق أن الغالب في المجتهدين العدالة، بخلاف" منصب "الاجتهاد"؛ فإنه ليس غالبًا على الناس، بل أَعز من الكبريت الأحمر.

ص: 595

‌مَسْأَلَةٌ:

إِذَا تَكَرَّرَتِ الْوَاقِعَةُ، لَمْ يَلْزَمْ تَكْرِيرُ النَّظَرِ،

وَقِيلَ: يَلْزَمُ.

لنَا: اجْتَهَدَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ أَمْرٍ آخَرَ.

قَالُوا: يُجْتَمَلُ أَنْ يَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ.

قُلْنَا: فَيَجِبُ تَكْرِيرُهُ أَبدًا.

«مسألة»

الشرح: "إذا تكررت الواقعة لم يلزم تكرير النظر"، وتجديد الاجتهاد.

"وقيل: يلزم.

لنا: اجتهد، والأصل عدم أمر آخر.

قالوا: يحتمل أن يتغير اجتهاده"، فلا ثقة ببقاء الظن، فالمجتهد يرى هل تعيّن أو لا.

"قلنا: فيجب تكريره أبدًا"؛ لأن احتمال تغير الاجتهاد قائم، فلم التقييد بتكرار الواقعة؟

واعلم أن الأصح في مذهبنا لزوم التجديد، والمسألة مفروضة فيما إِذا لم يكن ذكر الدليل الأول، ولم يتجدد ما يوجب رجوعه، فإن كان ذاكرًا لم يلزمه قطعًا، وإن تجدّد ما قد يوجب الرجوع لزمه قطعًا، ولذا اختلف أصحابنا في العامّي يستفتى المجتهد، ويعرف استناده في فُتْيَاه إلى الرأي، أو يشك فيقع له الواقعة.

ثانيًا: على وجهين:

وأصحهما: يلزمه السؤال.

ثانيًا: لاحتمال تغير اجتهاد المجتهد، ونظير المسألة إذا عدل الشاهد، ثم شهد في واقعة أخرى.

ص: 596

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال أصحابنا: إن لم يطل الزمان حكم بشهادته، ولا يطلب تعديله.

ثانيًا: وإن طال فوجهان:

أصحهما: نطلب تعديله؛ لأن طول الزمان يغير الأحوال.

ص: 597

‌مَسْأَلَةٌ:

يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، خِلافًا لِلْحَنَابِلَةِ.

لَنَا: لَوِ امْتَنَعَ لَكَانَ لِغَيْرِهِ، وَالأَصْلُ عَدَمُهُ.

وَقَالَ عليه السلام: "إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُه، وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا".

قَالُوا: قَالَ: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى - يَأتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، أَوْ حَتَّى يَظْهَرَ الدَّجَّالُ".

قُلْنَا: فَأَيْنَ نَفْيُ الْجَوَازِ، وَلَوْ سُلِّمَ، فَدَلِيلُنَا أَطهَر، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَتَعارَضَانِ، وَيُسَلَّمُ الأَوَّلُ.

«مسألة»

الشرح: "يجوز خلوّ الزمان عن مجتهد؛ خلافًا للحنابلة"

(1)

.

"لنا: لو امتنع لكان لغيره، والأصل عدمه".

"وقال صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُه، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العُلَمَاءَ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُسَاءَ جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا".

وهذا حديث متفق على صحته

(2)

.

(1)

ينظر: البرهان 1/ 691، وجمع الجوامع 2/ 398، والإحكام للآمدي 2/ 202، وشرح العضد 2/ 307، وشرح الكوكب (624)، والمسودة (472)، وإرشاد الفحول 253، والمدخل 386، وتيسير التحرير 4/ 240، وفواتح الرحموت 2/ 399.

(2)

أخرجه البخاري 1/ 234، كتاب العلم: باب كيف يقبض العلم (80 - 81)، وفي 13/ 295=

ص: 598

قَالُوا: فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَسْتَلْزِمُ انْتِفَاؤُهُ اتِّفَاقَ المُسْلِمِينَ عَلَى البَاطِلِ.

قُلْنَا: إذَا فُرِض مَوْتُ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُمْكِنْ.

"قالوا: قال" صلى الله عليه وسلم: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ، وَحَتَّى يَظْهَرَ الدَّجَّلُ"

(1)

.

وهو حديث متفق على صحته، لكن ليس في لفظ "الصحيحين":"وحَتّى يظهر الدجال" هذا ظاهر في عدم الخلو إلى يوم القيامة، أو أشراطها.

"قلنا": سلمنا أن هذا يدل على عدم وقوع الخلو، "فأين نفي الجواز" الذي ادعيتموه، "ولو سلم فدليلنا أظهر"؛ لأن فيه التصريح بقبض العلم، وليس فيما ذكرتموه إِلا ظهور الحق، ولا يلزم من بقاء أهل العلم.

وفي حديث حذيفة بن اليَمَانِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَدْرُسُ الإِسْلامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْىُ الثَّوْبِ"

(2)

الحديث رواه ابن ماجه، والحاكم في صحيحه، وقال: على شرط مسلم.

= كتاب الاعتصام: باب ما ذكر من ذم الرأي (7307)، ومسلم 4/ 2058 - 2059 كتاب العلم: باب رفع العلم وقبضه (13/ 2673)، وأخرجه الترمذي 5/ 30، 31، في كتاب العلم: باب ما جاء في ذهاب العلم (2652)، والدارمي 1/ 77، حديث (9) المقدمة: باب في ذهاب العلم، والحميدي في مسنده 1/ 264، 25 حديث (581)، وأحمد في المسند 2/ 62، 190، وابن المبارك في الزهد ص (281) باب ما جاء في قبض العلم، حديث (816)، والطبراني في الصغير 1/ 165، وابن أبي شيبة في المصنف 15/ 177، والبيهقي في دلائل النبوة 6/ 543 باب ما جاء في إخباره بذهاب العلم وظهور الجهل، وانظر: تلخيص الحبير 4/ 185، وجامع بيان العلم وفضله 1/ 149.

(1)

أخرجه مسلم كتاب الإمارة ب 53 رقم (:17)، وأبو داود كتاب الفتن ب (1)، والترمذي (2229)، وابن ماجة رقم (6) من حديث معاوية بن قرة عن أبيه.

(2)

أخرجه ابن ماجة (2/ 1344) كتاب الفتن: باب ذهاب القرآن والعلم، حديث (4049)، والحاكم (4/ 473، 545) من حديث عمران بن حصين، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(3/ 254): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ورواه مسدد في "مسنده" عن أبي عوانة عن أبي مالك بإسناده ومتنه.

ص: 599

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"ولو سلم" تساوى الدليلين، "فيتعارضان" أعني: الحديث الذي أوردناه مع الذي أوردتموه.

"ونسلم" الدليل "الأوّل" الذي ذكرناه نحن، وهو أن الأصل عدم المانع.

الشرح: ""قالوا" الاجتهاد "فرض كفاية، فيستلزم انتفاؤه [اتفاق]

(1)

المسلمين على الباطل.

قلنا": إنما يكون فرض كفاية إذا لم يفرض موت العلماء.

أما "إذا فرض موت العلماء لم يكن"؛ لأن موتهم ينفي القدرة، والتمكن من الاجتهاد، وإذا لم يكن مقدور لم يقع التكليف به.

(1)

في ت: اتصاف.

ص: 600

‌مَسْأَلَةٌ:

إِفْتَاءُ مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، بِمَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ

إِنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى المَآخِذِ، أَهْلًا لِلنَّظَرِ - جَائِزٌ.

وَقِيلَ: عِنْدَ عَدَمِ المُجْتَهِدِ.

وَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا.

وَقِيلَ: لا يَجُوزُ.

لَنَا: وُقُوعُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكَرْ، وَأُنْكِرَ مِنْ غَيْرِهِ.

"الْمُجَوِّزُ": نَاقِلٌ كالأَحَادِيث.

«مسألة»

الشرح: "إفتاء من ليس بمجتهد بمذهب مجتهد إِن كان مطلعًا على المآخذ"

(1)

التي لإمامه "أهلًا للنظر جائز.

وقيل: يجوز مطلقًا" أي: سواء كان مطلعًا على المآخذ أم لا.

"وقيل: لا يجوز، لنا: وقوع ذلك" مع ترادف الأعصار؛ فإن طوائف المذاهب يفتون بمذهبهم مع عدم بلوغهم رتبة الاجتهاد المطلق، "ولم ينكر" الإفتاء على مَنْ هذه صفته، "وأنكر من غيره" فكان إِجماعًا على جواز فُتْيَا المتبحّر، وعدم جواز فُتْيَا من لم يطلع على المآخذ.

واحتج "المجوز" مطلقًا، بأنه "ناقل"، فلا يشترط فيه الاطلاع على المآخذ، "كالأحاديث"؛ فإنه لا يشترط في رواتها الفقه، وربّ حَامِل فِقْهِ ليس بفقيه.

(1)

ينظر: الإحكام 4/ 203، والمعتمد 2/ 932، والمحصول 2/ 3/ 97، ونهاية السول 4/ 577، وشرح العضد 2/ 308، وجمع الجوامع 2/ 398، وشرح الكوكب 623، وإرشاد الفحول (269)، وتيسير التحرير 4/ 249، وفواتح الرحموت 2/ 404.

ص: 601

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْخِلافَ فِي غَيْرِ النَّقْلِ.

"الْمانِعُ": لَوْ جَازَ لَجَازَ لِلْعَامِّيِّ.

وَأُجِيبَ: بِالدَّلِيلِ، وَبِالْفَرْقِ.

الشرح: "وأجيب: بأن الخلاف في غير النقل"، وهو جواز الاقتداء بقول إمامه.

واحتج "المانع" بأنه "لو جاز" الإفتاء بغير المجتهد، "لجاز للعامي" بجامع عدم بلوغ رتبة الاجتهاد.

"وأجيب": بأن جوازه للمطلع على المأخذ "بالدليل" النَّاهض عليه، والعامي لا دليل على جواز فتياه، فأنّى يستويان؟.

"وبالفرق" بين العامي والمطلع على المآخذ.

"فائدة"

لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد المطلق مراتب:

أحدها: أن يصل إلى رتبة الاجتهاد المفيد، فيستقل بتقرير مذهب إِمام معين، ويتخذ نصوصه أصولًا يستنبط منها، نحو ما يفعله المستقلّ بنصوص الشارع، وهذه صفة أصحاب الوجوه، والذي أظنه قيام الإجماع على جواز فُتْيا هؤلاء، وأنت ترى علماء المذاهب ممن وصل إلى هذه الرتبة هل منعهم أحد الفتوى، أو منعوا هم أنفسهم عنها؟.

الثانية: من لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، ولكنه فَقِيهُ النفس حافظ [للمذهب]

(1)

قائم بتقريره، غير أنه لم يرتض في التخريج والاستنباط كارْتِيَاضِ أولئك، وقد كانوا يفتون، ويخرجون كأولئك.

الثالثة: من لم يبلغ هذا المِقْدَار، ولكنه حافظ لِوَاضِحَاتِ المسائل، ومشكلاتها، غير أن عنده ضعفًا في تقرير أدلّتها، فعلى هذا الإِمساك عن الفُتيَا، فانغمض فهمه مما لا نقل عنده فيه، وليس هذا هو الذي حكينا فيه الخلاف؛ لأنه لا اطلاع له على المآخذ، وكل هؤلاء غير عوام.

أما العامي إذا عرف حكم حادثة بدليلها لم يكن له الفُتْيَا بها.

(1)

في ب: للمذاهب.

ص: 602

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل: إن كان نقليًّا جاز، وإلا فلا.

وقيل: إن كانت دليلها من الكتاب والسُّنة جاز، وإلا فلا.

وأما العامي الذي عرف من المجتهد حكم مسألة، ولم يدر دليلها، ولا وجه يعلقها، كمن حفظها مختصرًا من مختصرات الفقه، فليس له أن يفتي، ورجوع العامي إليه إذا لم يَلْقَ سواه أَوْلَى من الارتباك في الحيرة، وكل هذا فيمن لم ينقل عن غيره.

أما الناقل فلا يمنع، فإذا ذكر العامي أن فلانًا المفتى أفتاني بكذا لم يمنع من نقل هذا القدر، وإليه أشار في الكتاب بقوله: وأجيب: بأن الخلاف في غير النقل.

ص: 603

‌مَسْأَلَةٌ:

لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ الْمَفْضُولَ،

وَعَنْ أَحْمَدَ، وَابْنِ سُرَيْجٍ: الأَرْجَحُ مُتَعَيِّنٌ.

لَنَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُمْ كَانوا يُفْتُونَ مَعَ الاِشْتِهَارِ وَالتَّكَرُّرِ، وَلَمْ يُنكرْ.

وَأَيْضًا: قَالَ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ".

وَاسْتُدِلَّ: بِأَنَّ العَامِّيَّ لا يُمْكِنُهُ التَّرْجِيحُ؛ لِقُصُورِهِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِالتَّسَامُعِ، وَبِرُجُوعِ الْعُلَمَاءِ إِلَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالُوا: أَقْوَالُهُمْ كَالْأَدِلَّةِ، فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ.

قُلْنَا: لا يُقَاوِمُ ما ذَكَرْنَا، وَلَوْ سُلِّمَ فَلِعُسْرِ تَرْجِيح الْعَوَامِّ.

«مسألة»

الشرح: "للمقلّد أن يقلد المفضول من المجتهدين وإن قدر على تقليد الفاضل.

(وعند أحمد وابن سريج الأرجح متعّين)

(1)

واختاره القاضي المّروزي والقاضي الحسين وابن السمعانى.

لنا: القطع في المفضولين "بأنهم كانوا يفتون" والفاضلون موجودون "مع الاشتهار والتَّكْرَار، ولم ينكر"، فكان إجماعًا.

"وأيضًا قال" صلى الله عليه وسلم ""أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ" بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ". خرج العوام؛ لأنهم المقتدون، بقي معولًا به في المجتهدين من غير فضل.

الشرح: واستدل "بأن العامي لا يمكنه الترجيح؛ لقصوره"، ولو كلف بذلك لكان تكليفًا بضرب من الاجتهاد.

(1)

ينظر: البرهان (2/ 1343)، واللمع (72)، والتبصرة (415)، والمستصفى (390 - 391)،=

ص: 604

قَالُوا: الظَّنُّ بِقَوْلِ الأَعْلَمِ أَقْوَى.

قُلْنَا: تَقْرِيرُ مَا قَدَّمْتُمُوهُ.

وأجيب بأنه يظهر بالتسامع، وبرجوع العلماء إليه وغير ذلك"، ككثرة المستفتين، وتقديم العلماء له، وذلك ممكن، فلا يمتنع تكليف به، كما يجب عليه قطعًا البحث الذي يعرف به صلاحية مَنْ يستفتيه للإفتاء إِذا لم يكن قد تقدّمت معرفته بذلك.

"قالوا": المفتون "أقوالهم كالأدلة، فيجب الترجيح" عند تعارضها، والأفضلية من المرجّحات.

"قلنا": هذا قياس، وهو "لا يقاوم ما ذكرناه" من الإجماع، "ولو سلم" أنه مقاوِم "فَلِعُسْرِ ترجيح العوام" بين المفتين لم يجب عليهم الترجيح، ولسهولته على المجتهدين بين الأدلّة وجب، فقد وضح الفرق.

"قالوا: الظن بقول الأعلم أقوى"، ويجب معرفة أقوى الظنين للأخذ به عند التَّعَارض "قلنا": هذا "تقرير ما قدمتموه" من الدليل في المعنى، وإن تخالفا في العبارة، لأن إفادته للظن، وكونه كالدليل للمجتهد أمر واحد، والجواب الجواب بعينه.

= والمنخول (479)، والإحكام للآمدي 4/ 204، وجمع الجوامع 2/ 395، والمحصول 2/ 3/ 112، وإرشاد الفحول (271)، والمسودة (471)، وشرح الكوكب (623)، والروضة (207)، وشرح العضد 2/ 309، والتيسير 4/ 252.

ص: 605

‌مَسْأَلَةٌ:

وَلا يَرْجِعُ عَنْهُ بَعْدَ تَقْلِيدِهِ اتِّفاقًا،

وَفي حُكْمٍ آخَرَ: الْمُخْتَارُ: جَوَازُهُ.

لنَا: الْقَطْعُ بِوُقُوعِهِ، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَلَوِ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا؛ كمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، فَثَالِثُهَا كَالأَوَّلِ.

«مسألة»

الشرح: "ولا يرجع عنه بعد تقليده"، في مسألة "اتفاقًا، وفي حُكْمٍ آخر المختار: جوازه"

(1)

"لنا: القطع بوقوعه" إذا كانوا يستفتون في كل حادثة غير ملتزمين سؤال من سألوه أولًا، "ولم ينكر" ذلك من أحد، فكان إِجماعًا، هذا إذا لم يعين العامي مذهبًا، "فلو التزم مذهبًا معينًا كمالك والشافعي وغيرهما"، فهل يلزمه الاستمرار عليه، وعدم الحيد عنه؟ فيه أقوال: أحدها: يلزمه.

والثاني: لا.

وأما الأعدل "فثالثهما"، وهو أنه إن قلده في واقعة لم يكن له الرجوع، وإلا فله الرجوع، ويكون في ذلك "كالأول" أي: كالعامي الذي لم يلتزم مذهبًا.

وقال الإمام ابن السمعاني: وإذا سمع المستفتى جواب المفتى لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه.

ويجوز أن يقال: يلزمه إذا أخذ في العمل به، وقيل: يلزمه إذا وقع في نفسه صحّته وحقيته، قال: وهذا أوْلَى الأوجه.

(1)

ينظر الإحكام للآمدي 4/ 205، والتمهيد للإسنوي (527)، والتحرير (551)، وفواتح الرحموت (2/ 405)، وجمع الجوامع 2/ 399، وإرشاد الفحول 272، وشرح العضد 2/ 309، وجمع الجوامع 2/ 400، وشرح الكوكب 627، والمسودة (472، 512).

ص: 606

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال ابن الصّلاح: ولم أجد هذا لغيره، وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض الأصوليين أنه إذا أفتاه بما هو مختلف فيه خيّره بين أن يقبل منه، أو من غيره.

قال ابن الصَّلاح: والذي تقتضيه القواعد أنه إذا لم يجد سواه تعيّن عليه الأخذ بفُتْيَاه، ولا يتوقف ذلك على التزامه، ولا سكون نفسه إلى صحته.

وإن وجد، فإن استبان أن الذي أفْتَاه هو الأَعْلَم والأوْثق لزمه بناء على تقليد الأفضل، وإن لم يستبن لم يلزمه.

واعلم أن أئمتنا أكثروا القول في باب الفُتْيا، وخصّ الباب منهم بالتصنيف القاضي أبو القاسم الصّيمري، ومن المتأخرين الشيخ أبو عمرو بن الصّلاح، وأجاد كل الإجادة، وأحسن القول فيه أيضًا ابن السمعاني في "القَوَاطع".

ومن أئمتنا من أودع الباب مسألة تقليد الشافعي، كإمام الحرمين، وابن السّمعاني، والغزالي وغيرهم، وميل المحققين منا إلى أن تقليده واجب على طوائف العامة، وأنه لا عُذْر لهم عند الله - تعالى - في العدول عنه، وبه صرح إمام الحرمين في تصنيف لطيف أفرده في ذلك، وسَمَّاه بـ "مغيث الخلق واختيار الحق" ونحن نرى الإمساك عن الكلام في هذه المسألة، فليست من فن الأصول، والكلام فيها يؤول إلى تَشْعيب من أصحاب الآراء، وتشنيع من اختلاف السّفهاء، ثم لا نعود بطائل من الفائدة، والله - تعالى - يهدينا إلى سبيل الرشاد.

ص: 607

‌التَّرْجِيحُ

التَّرْجِيح، وَهُوَ اقْتِرَانُ الْأمَارَة بِمَا تَقْوَى بِهِ عَلَى مُعَارِضِهَا، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا؛ لِلْقَطْعِ عَنْهُمْ بِذلِكَ.

وَأُورِدَ: شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ مَعَ اثْنَيْنِ، وَأُجِيبَ: بِالْتِزَامِهِ، وَبِالفرْقِ، وَلا تَعَارُضَ فِي قَطْعِيَّيْنِ، وَلا فِي قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ؛ لاِنْتِفَاءِ الظَّنِّ وَالتَّرْجِيحِ فِي ظَنِّيَّيْنِ مَنْقُولَيْنِ، أَوْ مَعْقُولَيْنِ، أَوْ مَنْقُولٍ وَمَعْقُولٍ.

«مسألة»

الشرح: "وهو اقتران الأمارة بما يقوى به على معارضها"

(1)

.

وإنما قلنا: الأمارة ليختصّ بالظنين، فإنه لا تعارض بين قطعيين، ولا قاطع وظني.

وإنما قلنا: على معارضها؛ لأنه إذا لم يكن هناك معارض، فلا ترجيح.

أما عند حصول المرجّح "فيجب تقديمها" على المعارض اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم "للقطع عنهم بذلك، وأورد: شهادة أربعة مع اثنين" إذا تعارضا، فإن الظن بالأربعة أقوى، ومع ذلك لا ترجيح في الشَّهَادات بالعدد.

(1)

ينظر: البرهان لإمام الحرمين 2/ 1142، والبحر المحيط للزركشي 6/ 129، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 4/ 206، وسلاسل الذهب للزركشي ص 431، والتمهيد للأسنوي ص 505، ونهاية السول له 4/ 444، وزوائد الأصول له ص 404، ومنهاج العقول للبدخشي 3/ 201، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 235، والتحصيل من المحصول للأرموي =

ص: 608

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وأجيب بالتزامه"، وهو مذهب مالك، أو "بالفرق" بين الشهادة والدليل، بأنه ليس كل ما ترجح به الأدلة ترجح به الشهادة، وستقف إن شاء الله - تعالى - من ذلك على كثير.

قال علماؤنا: ووجه الفرق أن الشهادة مقدّرة في الشرع بعدد معلوم، فكفينا الاجتهاد فيها، بخلاف الرواية؛ فإن أمرها مبني على الاجتهاد.

"ولا تعارض في قطعيين" وإلا ثبت مقتضاهما، وهما نقيضان، ولا في قَطْعي وظني، لانتفاء الظن" عند القطع بالنقيض، "والترجيح" حينئذ منحصر "في الظَّنين"؛ لتأتي التعارض بينهما، وعدم تأتيه في غيرهما، والظنان إما أن يكونا "منقولين" كَنَصّين، "أو معقولين" كقياسين، "أو منقول ومعقول" كنصّ، وقياس.

= 2/ 257، والمنخول للغزالي ص 426، وحاشية البناني 2/ 357، والإبهاج لابن السبكي 8/ 203، والآيات البينات لابن قاسم العبادي 4/ 197، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 376، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 400، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 733، والتحرير لابن الهمام ص 362، وتيسير التحرير لأمبر بادشاه 3/ 136، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 3، وميزان الأصول للسمرقندي 2/ 961، 2/ 1019، وحاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 2/ 309، وشرح التلويح على التوضيع لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 2/ 102، وحاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص 235، وشرح المنار لابن ملك ص 85، والوجيز للكراماستي ص 76، والموافقات للشاطبي 4/ 294، وتقريب الوصول لابن جُزيّ ص 163، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 273، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص 653، والحدود للباجي (79).

ص: 609

مَسْأَلَةٌ:

الأَوَّلُ: فِي السَّنَدِ، وَالْمَتْنِ، وَالْمَدْلُولِ، وَفِي خَارج.

الْأَوَّلُ: بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ لِقُوَّةِ الظَّنِّ؛ خِلافًا لِلْكَرْخِيِّ، وَبِزِيادَةِ الثِّقَةِ، وَبِالْفِطْنَةِ، وَالْوَرَعِ، وَالْعِلْمِ، وَالضَّبْطِ، وَالنَّحْوِ، وَبِأَنَّهُ أَشْهَرُ بِأَحَدِهَا، وَبِاعْتِمادِه عَلَى حِفْظِهِ لا نُسْخَتِهِ، وَعلَى ذِكْرٍ لا خَطٍّ، وَبِمُوَافَقَتِهِ عَمَلَه، وَبأَنَّهُ عُرِفَ أَنَّهُ لا يُرْسِلُ إِلَّا عَنْ عَدْلٍ فِي الْمُرْسِلِينَ.

وَبِأَنْ يَكُونَ الْمُبَاشِرَ، كَرِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ: نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلالٌ، وَكَانَ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَرَامٌ.

وَبِأَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْقِصَّةِ؛ كَرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ: تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ حَلالانِ.

«مسألة»

الشرح: "الأول": في ترجيح المنقولين، وهو أربعة أصناف:

"في السند"، وهو طريقة ثبوته، "والمتن" وهو باعتبار مرتبته ودلالته، "والمدلول" من حُرْمة أو إباحة، "وفي" أمر قد ينضم إليه من "خارج" الصنف الأول في التَّرْجيح بحسب السند، ويقع في الراوي والرواية، والمروي والمروي عنه، ففيه أربعة فصول:

الأول: في الراوي، ويكون في نفسه، وفي تركيبه الأول ما يتعلق بنفسه، وذكر المصنف منه خمسة عشر أمرًا.

الشرح: "الأول": كثرة الرواة بقوة الظن، خلافًا للكرخي"، حيث اعتبرها بالشهادة، وهو ضعيف، فإن الشهادة مستندة إلى توقيفات يعتد به، ولذلك لا يقبل بغير لفظ الشَّهَادة حتى [إذا] أتى العدد الكثير بلفظ الإخبار لم يقبل، ولو شهد ألف امرأة وعبد على ناقة

ص: 610

وَبِأَنْ يَكُونَ مُشَافِهًا؛ كَرِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أن بَرِيرَةَ عَتَقَتْ، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا، عَلَى مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ حُرًّا؛ لأِنَّهَا عَمَّةُ الْقَاسِمِ.

وَأَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ عِنْدَ سَمَاعِهِ؛ كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ: أَفْرَدَ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ تَحْتَ نَاقَتِهِ حِينَ لَبَّى.

وَبِكَوْنِهِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لِقُرْبِهِ غَالِبًا، أَوْ مُتقَدِّمَ الإسْلام، أَوْ مَشْهُورَ النَّسَبِ، أَوْ غَيْرَ مُلْتَبِسِ بِمُضَعِّفٍ، وَبِتَحَمُّلِهَا بَالِغًا، وَبِكَثْرَةِ المُزَكِّينَ أَوْ أعْدَلِيَّتِهِم، أَوْ أَوْثَقِيَّتِهِم، وَبِالصَّرِيحِ عَلَى الْحُكْمِ، وَالْحُكْمِ عَلَى الْعَمَلِ، وَبِالْمُتَوَاتِرِ عَلَى الْمُسْنَدِ، وَالْمُسْنَدِ عَلَى الْمُرْسَلِ، وَمُرْسَلِ التَّابِعِيِّ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِالأَعْلَى إِسْنَادًا، وَالمُسْنَدِ عَلَى كِتَابٍ مَعْرُوفٍ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْكِتَابِ عَلَى المشْهُورِ، وَبِمثْلِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَلَى غَيْرِهِ.

[بعل]

(1)

ردوا.

ومثاله قال الشافعي في "الرسالة": الأخذ بحديث عبادة في الربا أولى من حديث أسامة؛ لأن مع عبادة عمر وعثمان وأبا سعيد وأبا هريرة، والخمسة أولى من واحد.

الثاني: أن يكون أحد [الراويين]

(2)

راجحًا على الآخر في وصف يغلب ظن الصدق، والثقة والفِطْنة، والوَرَع، والعلم، والضبط، والنحو.

وإليه أشار بقوله: "وبزيادة الثقة، والفطنة، والورع، والعلم، والضبط، والنحو"، ولذلك رجح أصحابنا رواية مالك وسفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرَّجُل:"زَوَّجتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ"

(3)

على ما رواه عبد العزيز بن أبي حازم، وزائدة عن أبي حازم عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"مَلَكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ"؛ لأن مالكًا

(1)

في أ، ت: بقل.

(2)

في ت: الروايتين.

(3)

أخرجه مالك في الموطأ 2/ 526، كتاب النكاح: باب ما جاء في الصداق (8)، والبخاري 9/ 97، كتاب النكاح: باب السلطان ولي (5135)، وأطرافه في (2310 - 5029 - 5030 - 5087 - 5121 - 5126 - 5132 - 5141 - 5149 - 5150 - 5871 - 7417)، ومسلم 2/ 1040، كتاب النكاح: باب الصداق (76 - 1425).

ص: 611

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وسفيان أعلم منهما، وأوثق وأضبط.

قوله: "وبأنه أشهر بأحدها" هذا هو الثالث، وهو أن تكون إحدى الروايتين أشهر بشيء من هذه الصفات الخمس، وإن لم يعلم رُجْحانه فيها؛ فإن كونه أشهر يكون في الغالب لرجحانه قوله، "وباعتماده على حفظه لا نسخته، وعلى ذكر لا خط".

هذا هو الرابع، وهو أن يكون أحدهما يعتمد في الرواية على حفظه للحديث، لا على نسخته وعلى تذكره للسماع، لا على خطّ نفسه؛ لما لعله يعتور الخط من ضَعْفٍ وتَغيُّر.

قال الإمام الرازي: وفيه احتمال، قوله:"وبموافقته عمله"، هذا هو الخاص، وهو أن يكون أحدهما علم أنه عمل برواية نفسه، والآخر لم يعمل، ولذلك رجّحنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلا فرَسِهِ صَدَقَةٌ"

(1)

على حديث غورك السعدي عن جعفر بن محمد عن عائشة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمةٍ دِينَارٌ"

(2)

.

فإن أبا يوسف رواه عن غورك السعدي، وترك العمل به.

قوله: "وبأنه" هذا هو السادس، وهو أن يكون أحدهما قد "عرف أنه لا يرسل إلا عن عَدْل"، وهذا لا يكون إلا "في" تعارض الخبرين "المرسلين".

السّابع: ما أشار إليه بقوله: "وبأن يكون" أحدهما "المباشر" للواقعة، "كرواية أبي رَافِعٍ" في "جامع الترمذي":"نكح" صلى الله عليه وسلم "مَيْمُونَةَ وهو حلال

(3)

، وكان" أبو رافع "السفير

(1)

تقدم.

(2)

أخرجه الدارقطني (2/ 126)، والبيهقي (4/ 119)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(7/ 398)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 496)، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (3/ 69) من طريق غورك بن حصرم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله مرفوعًا.

وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، وغورك، ليس بشيء، وقال الدارقطني: هو ضعيف جدًّا.

وقال الهيثمي: فيه الليث بن حماد وغورك وكلاهما ضعيف.

(3)

الإحرام الكائن من أحد الثلاثة: الزوج، والزوجة، والولي، مانع من صحة العقد، فلو حصل =

ص: 612

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= العقد وأحد الثلاثة محرم فسخ قبل البناء وبعده، ولو ولدت الأولاد، ولا يتأبد التحريم، وكما أنه لا يصح العقد حال الإحرام الكائن من أحد الثلاثة، كذلك لا يوكلون ولا يجيزون، ويستمر المنع في الحج لتمام الإفاضة إن قدم سعيه، والا فلتمام سعيه. كما أن العمرة يستمر المنع فيها لتمام سعيها، ويندب تأخير العقد عن حلقها أو تقصيرها، فإن عقد بعد تمام الإفاضة وقبل صلاة الركعتين فسخ إن قرب العقد من الطواف، وإلا فلا يفسخ. ولا فرق بين الحج الصحيح والفاسد، والعبرة بوقت العقد في الثلاثة أو أحدهم، فإن وكل حال كونه حلا فلم يعقد الوكيل إلا وأحد الثلاثة محرم فسد، وإن وكل أحدهم وهو محرم فلم يعقد الوكيل إلا والجميع حل صح؛ لما علمنا أن العبرة بوقت العقد، ويستثنى من عدم صحة التوكيل صحة توكيل السلطان إذا كان محرمًا ووكيله ولو قاضيًا حلال، فيصح عقد الوكيل حال إحرام السلطان؛ لضرورة عموم مصالح الناس، وكذا إذا حصل ابتداء للقاضي وهو محرم ونائبه حلال؛ فيصح عقد النائب؛ لضرورة المصالح أيضًا. ويحرم نكاح المحرم للأحاديث الدالة على التحريم خلافًا لأبي حنيفة فإنه يجيز نكاح المحرم ويقول بصحة العقد. يدل لنا ما في صحيح مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك وهو أمير الحج، فقال أبان: سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب". وفي رواية أن أبان بن عثمان قال: ألا أراه أعرابيًّا إن المحرم لا ينكح ولا ينكح، أخبرنا بذلك عثمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى، فقال له أبان: ألا أراك عراقيًّا جافيًا، إني سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم" ويدل لأبي حنيفة ما روى في مسلم عن ابن عباس أنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم. ووافق الكوفيون في ذلك، لكن المنع أرجح، لأن أدلته قولية، ودليل المجيز فعل، والقول أقوى من الفعل، فيقدم عند التعارض؛ لأنه يتعدى للغير بخلاف الفعل؛ فإنه مقصور على صاحبه غالبًا. أضف إلى ذلك أن الرسول قد خص في النكاح بأشياء كثيرة كجواز النكاح بلا مهر الخ، فلا يكون فعله دليلًا على الجواز لغيره. وأيضًا قد ورد أنه تزوجها وهو حلال. من ذلك ما روى عن يزيد بن الأصم قال:"حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس" فصار الفعل مختلفًا في ثبوته، والقول متفقًا عليه، والمتفق عليه مقدم على المختلف فيه. على أنه يمكن الجمع بين الروايتين بأن يقال: معنى "وهو محرم" أنه حال بالحرم، ومن حل به يقال له: محرم، وهي لغة شائعة. والقول بأنه تزوجها وهو حلال رواية أكثر الصحابة، وأما رواية وهو محرم فلم تثبت إلا عن ابن عباس، وهو لا يعارض كل الصحابة، وقيل: إنه عليه السلام بالمدينة وكل أبا رافع مولاه =

ص: 613

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بينهما

(1)

على رواية ابن عباس" المرجّحة في الكتب الستة: "نكح ميمونة وهو حَرَام"

(2)

.

الثامن: ما أشار إليه بقوله: "وبأن يكون صاحب القصة، كرواية ميمونة" المخرجة في "سنن أبي داود""تزوّجني صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بـ "سرف".

ولفظ مسلم: عن ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال

(3)

.

[التاسع]

(4)

: المشار إليه بقوله: "وبأن يكون" أحدهما "مُشَافَهًا" اسم مفعول، أي: سمع شفاها، والآخر من وراء حجاب، "كرواية القاسم عن عائشة أن بريرة عتقت وكان زوجها عبدًا"

(5)

، رواه مسلم وأبو داود والترمذي "على من روى أنه كان حرًّا"، وهو الأسود

= فعقد له عليها وهو بـ "مكة"، وأيضًا فقد روت ميمونة وأبو رافع أنه تزوجها وهو حلال، وكما أنه لا يجوز للمحرم أن يتولى عقد النكاح ولا يوكل ولا يجيز: كذلك ليس له أن يخطب بخلاف شراء الأمة ولو للوطء؛ فإنه يجوز. والفرق أن العقد في النكاح لا يكون إلا على من يحل له وطؤها. وأما على الشراء فله أن يشتري من لا يحل له وطؤها. ويمنع الإحرام حضور العقد أيضًا.

(1)

أخرجه مالك في الموطأ 1/ 348، كتاب الحج: باب نكاح المحرم (69)، وأخرجه أبو داود 2/ 69 كتاب المناسك: باب المحرم يتزوج (1843)، ومسلم 2/ 1032 نحوه، كتاب النكاح: باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته (48 - 1411)، وابن ماجة 1/ 632 كتاب النكاح: باب المحرم يتزوج (1964).

(2)

أخرجه البخاري (9/ 70) كتاب النكاح: باب نكاح المحرم (5114)، ومسلم (2/ 1031) كتاب النكاح: باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته (46 - 1410) من حديث ابن عباس.

(3)

أخرجه مسلم (2/ 1032) كتاب النكاح: باب تحريم نكاح المحرم

(48 - 1411)، وأبو داود (1843)، وابن ماجة (1964) من حديث ميمونة.

(4)

في أ، ب، ت: الثانية، وهو خطأ.

(5)

أخرجه مسلم (2/ 1143 - 1144) كتاب العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق، وأبو داود (2/ 672) كتاب الطلاق: باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد (2234)، والترمذي (3/ 451 - 452) أبواب الرضاع: باب في المرأة تعتق ولها زوج (1154) من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وقال الترمذي: حديث عائشة حسن صحيح.

وأخرجه النسائي في "الكبرى" كتاب الطلاق كما في تحفة الأشراف (12/ 269) من طريق القاسم عن عائشة.

ص: 614

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عن عائشة، كما رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ "لأنها" أي: عائشة رضي الله عنها "عَمّة القاسم"، فسمع منها شفاهًا؛ لأنه محرمها، بخلاف الأسود.

العاشر: المشار إليه بقوله: "وأن يكون أقرب عند سماعه" إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل مسموع منه، "كرواية ابن عمر" الثابتة "أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحج، "وكان" ابن عمر "تحت ناقته" صلى الله عليه وسلم "حين لَبّى" فترجح على رواية أنس أنه قَرَن

(1)

.

الحادي عشر: المشار إليه بقوله: "ويكون من أكابر الصحابة لقُرْبه غالبًا" من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ونظيره كونه أكثر صحبة، فيقدم كما قدمنا خبر عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جُنُبًا من جِمَاع لا من احتلام، ويصوم"

(2)

، على ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أصبَحَ جُنُبًا، فَلا صَوْمَ لَهُ"

(3)

؛ لأن صحبة عائشة كانت أكثر، واختصاصها به أوفر.

الثاني عشر: المشار إليه بقوله: "أو متقدم الإسلام".

قال الآمدي: فإن رواية متقدم الإسلام أغلب على الظَّن؛ لزيادة أصاله في الإِسلام، وتحرزه فيه.

قلت: ومذهبنا هو الذي ذكره جمهور أصحابنا أن متأخر الإسلام أرجح قالوا: وذلك كتقديمنا خبر أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين وتكلّم

"

(4)

على حديث ابن مسعود

(1)

أخرجه مسلم (2/ 915) كتاب الحج: باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه (214/ 1251).

(2)

أخرجه البخاري 4/ 180، 181، كتاب الصوم: باب اغتسال الصائم (1930)، وطرفه (1925، 1931، 1932)، ومسلم 2/ 779، كتاب الصيام: باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (80 - 1109).

(3)

أخرجه البخاري 4/ 169، 170، كتاب الصوم: باب الصائم يصبح جنبًا (1925، 1926)، وطرفاه 1930، 1931 و (1926)، وطرف في 1932، ومسلم 2/ 779، 780 كتاب الصيام: باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (75 - 1109). واللفظ لمسلم.

(4)

أخرجه البخاري (1/ 123) كتاب الصلاة: باب تشبيك الأصابع في المسجد، ومسلم (1/ 403 - 404) كتاب المساجد: باب السهو في الصلاة (97 - 100)، وأبو داود (1/ 612 - 614) كتاب الصلاة: باب السهو في السجدتين (1008)، والترمذي (2/ 247) =

ص: 615

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في الكلام في الصَّلاة

(1)

.

وتقديمنا رواية ابن عباس في التشُّهد

(2)

على رواية ابن مسعود، قالوا: كذلك إذا كان أحدهما متقدّم الصحبة، والآخر متأخرها، فرواية المتأخر أولى.

قالوا: وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: لا يقدم بالتأخر، لأن المتقدم أيضًا عاش حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساوى المتأخر في الصحبة وزاد عليه.

قالوا: ورد عليهم أصحابنا هذا بأن: سماع المتأخر متحقق التأخر، وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث قلت: ذكروه، وأجيبوا به، يتبيّن لك أن صورة المسألة أن يعلم أن سماع المتأخر وقع بعد إسلامه، وإلا فلا تقدم، وألّا يكون المتقدم مات قبل إسلام المتأخر، فإن مات قدم المتأخر قطعًا، وهو بحث ذكره الإمام الرازي.

الثالث عشر: المشار إليه بقوله: "أو مشهور النسب".

قال الآمدي: لأن احتراز مشهور النسب عما يوجب نَقْض منزلته المشهورة يكون أكثر.

قلت: وعندي أنه [لا ترجيح]

(3)

بشهرة النسب، وعبارة الإِمام في "المحصول": رواية معروف النسب راجحة على رواية مجهوله.

= كتاب الصلاة: باب ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين في الظهر والعصر (399) وابن ماجة (1/ 383) رقم (1214)، وأحمد (2/ 234).

وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 93 - 94) كتاب الصلاة: باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيًا، حديث (58، 59).

(1)

أخرجه بهذا اللفظ أبو عوانة (2/ 139)، وابن عيد البر في "التمهيد"(1/ 354)، والطبراني في "الكبير"(10/ 135، 136، 137).

(2)

أخرجه مسلم 3/ 302 - 303 كتاب الصلاة: باب التشهد في الصلاة (60/ 403)، وأبو داود 1/ 256 كتاب الصلاة: باب التشهد (974)، والترمذي 2/ 83 أبواب الصلاة: باب ما يلي ما جاء في التشهد (290)، والنسائي 2/ 242 كتاب الافتتاح: باب كيف التشهد الأول، وابن ماجة 1/ 291 كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في التشهد (900).

(3)

في ت: لا ترجح.

ص: 616

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرابع عشر: المشار إليه بقوله: أو غير ملتبس بمضعف.

قال الآمدي: فإن الذي لا يلتبس اسمه ببعض الضعفاء أغلب على الظن ممن يلتبس.

قلت: ولا يحصل الالتباس إِلا عند تقارب زمانهما واجتماعهما في شيخ واحد، ولذلك شرط الإِمام في "المحصول" أن يصعب التمييز.

الخامس عشر: المشار إليه بقوله: "ويتحملها بالغًا"؛ فإن من تحمل في زمن البلوغ أضبط ممن يحمل في زمن الصِّبَا؛ ولأن موضعه أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لِيَلِيَنِي مِنكمْ أُولُو الأَحْلامِ وَالنُّهَى"

(1)

فيكون أسمع لقوله وأعرف، ولهذا رجّحنا رواية ابن عمر رضي الله عنه في إفراد الحج على رواية أنس أنه قرن لأن ابن عمر كان كبيرًا، وقال لما بلغه قول أنس في القِرَان، وكان أنس يتولّج على النساء وهن منكشفات:"وأنا آخذ بزمام نَاقَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيل على لُعَابها"، فهذه الأوجه مرجّحات السند بحسب الراوي نفسه، وأهمل المصنف أمورًا سهلة.

وأما الترجيح بحسب التزكية، فإليه أشار بقوله:"وبكثرة المزكين، أو أعدليتهم، أو أوثقيتهم، وبالصريح" من ألفاظ التزكية "على" التزكية باعتبار "الحكم" بشهادته بلا تصريح، "والحكم" بشهادته راجح "على العمل"؛ لأن الاحتياط فيه أكثر.

في الترجيح بالرِّواية، وإليه الإشارة بقوله:"وبالمتواتر على المسند" من الآحاد.

ولك أن تقول: المتواتر قطعي، وكلامنا في التَّرْجيح بين الظَّنيات، "والمسند على المرسل" على القول بالاحتجاج بالمرسل، "ومرسل التابعي على غيره"؛ لأن الأغلب على التابعي الرواية عن الصحابة، والصحابة عدول، فيغلب ظن الصدق في مرسله.

"وبالأعلى إسنادًا"؛ لأنه كما قلّت الرواة كان أبعد من الخطأ، فرواية خالد الحَذَّاء عن أبي

(1)

أخرجه مسلم 1/ 323، كتاب الصلاة: باب تسوية الصفوف (123/ 432)، وأبو داود 1/ 180، كتاب الصلاة: باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف (675)، والترمذي 1/ 440، أبواب الصلاة: باب ما جاء ليليني منكم أولو الأحلام والنهى (328).

ص: 617

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلابة عن أنس: "أن بلالًا أُمِرَ أن يشفع الآذان ويوتر الإقامة"

(1)

أرجح من رواية عامر الأحول عن مكحول عن ابن محيريز عن أبي مَحْذُورة في تثنية الإقامة.

"والمسند" رجح "على" المعزى "كتاب معروف" بين المحدثين؛ لأنه أبعد عن التبديل والتصحيف، "وعلى" الخبر "المشهور" بدون كتاب؛ لأن المسند يرويه العدل عن العدل، والمشهور قد لا يكون كذلك، فرب مشهور غير صحيح.

"والكتاب" راجح "على المشهور"؛ لأن تطرق احتمال الوهم إلى المشهور أكثر من تطرُّقه إلى الكتاب، "وبمثل البخاري ومسلم على غيره".

فإن قلت: إن أردتم بـ "غيره" ما لم يلتزم صاحبه فيه الصحة كالسنن الأربعة، فواضح أن ما هو محكوم بصحته فوق ما ليس كذلك.

وإن أردتم ما هو ملتزم فيه أنه على شرط الشيخين، أو أحدهما كـ "المستدرك" للحاكم، أو أنه ملتزم فيه الصحة كصحيحي ابن ماجه، وابْن خزيمة، فلا نسلم التقديم.

قلت: المراد ما هو صحيح أيضًا ملتزم فيه الصحة، فالصحيحان مقدمان عليه، ولو كان على شرطهما؛ لأن لشهرتهما وقَبُول الأمة بالقبول ما ليس لغيرهما، وإن ساواهما في درجة الصحة، ولذلك قال الأستاذ أبو إسحاق وغيره من أئمتنا: إن كلّ ما فيهما مقطوع به.

(1)

أخرجه البخاري 2/ 77، كتاب الأذان: باب بدء الأذان، الحديث (603)، ومسلم 1/ 286، كتاب الصلاة: باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة، الحديث 3/ 378.

ص: 618

الفصل الثاني

وَالمُسْنَدُ بِاتِّفَاقٍ عَلَى مُخْتَلَفٍ فِيهِ.

وَبِقِرَاءَةِ الشَّيْخِ، وَبِكَوْنِهِ غَيْرَ مُخْتَلفٍ فِيهِ.

الشرح: "والمسند باتفاق" مرجح "على مختلف فيه" أي: في أنه مرفوع، أو موقوف، فحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ مَا عُتِقَ، وَرُقَّ مَا رُقَّ"

(1)

.

يقدّم على ما روى قتادة عن النضر عن أنس عن بشير بن نهيك عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أعْتَقَ شِقْصًا في مَمْلُوكٍ، فَعَلَيْهِ خلاصُه مِنْ مَالِهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ المَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمّ اسْتسعى العَبْد غَيْر مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"

(2)

.

لأنه رواه شعبة وهمام، وهما أحفظ من سعيد، ولم يذكر السعاية، وذكرهما ابن يحيى أن السعاية من قول قتادة.

الشرح: "وبقراءة الشيخ" على ما كان بالقراءة على الشيخ؛ لأنه أبعد عن غَفْلة

(1)

أخرجه البخاري 5/ 137، كتاب الشركة: باب الشركة في الرقيق (2504)، ومسلم 2/ 1140، كتاب العتق: باب ذكر سعاية العبد (3/ 1503).

(2)

أخرجه مالك في الموطأ 2/ 772 كتاب العتق والولاء: باب من أعتق شركًا له في مملوك (1)، والبخاري 5/ 151، كتاب العتق: باب إذا أعتق عبدًا من اثنين (2522)، ومسلم 2/ 1139، كتاب العتق (1/ 1501).

ص: 619

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشيخ، "وبكونه غير مُخْتَلِف" بكسر اللام إلى الحديث الذي لم يختلف لفظ رواته راجح على ما اضطرب لفظ راويه واختلف، فحديث مالك وسفيان عن الزهري من سالم عن أبيه "في"رفع اليَدَيْنِ راجح على حديث سفيان عن يزيد أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا افتتح الصَّلاة رفع يديه، ثم لا يعود.

قال سفيان: كان يزيد يروي هذا الحديث، ولا يذكر "ثم لا يعود"، ثم دخلت "الكوفة" فرأيته يرويه، ويزيدها فيه، وكأنه لقّنها.

وقال الدارقطني: لقّن في آخر عمره، ويحتمل أن يقرأ:"غير مُخْتَلَف" بفتح اللام إِلى غير مختلف على رواية لحديث أنس وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذا زَادَتِ الإِبِلُ عَلَى مائةِ وَعِشْرِينَ اسْتُؤْنِفَتِ الفَرِيضةُ"

(1)

.

وروى الشافعي بإسناده عن عاصم بن ضمرة عن علي مثل رواية أنس وابن عمر، وهذا قد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: إذا اختلفت الرواية عن أحد الراويين دون الآخر تساقطتا.

ومنهم من رجّح رواية من لم يختلف عليه؛ لأنه أقرب إلى الضبط، وحكى سليم الرازي في "التقريب" وجهًا عكسه.

(1)

تقدم.

ص: 620

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

وَبِالسَّمَاعِ عَلَى مُحْتَمَلٍ

وَبِسُكُوتِهِ مَعَ الْحُضُورِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَبِوُرُودِ صِيغَةٍ فِيهِ عَلَى مَا فُهِمَ.

الفصل الثالث: في الترجيح بحسب المروي، وإليه أشار بقوله:"وبالسَّماع" المتيقّن "على محتمل" لأن يكون غير سماع، وكذلك كان "سمعت" أرجح من "قال" لاحتمالها.

وعبارة أبي الحسين الحلاني عن هذا أنه: أن "سمعت" مقدمة على "كتب إلينا".

وقيل بقول ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَيُمَا إِهَابٍ دُبغَ فَقَدْ طَهُرَ"

(1)

مع قول عبد الله بن عكيم: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإهابٍ وَلا عَصَب"

(2)

.

الشرح: "وبسكوته مع الحضور على الغيبة"، وعبارة "المنتهى": وأن يكون ساكتًا عنه مع حضوره على ما سكت عنه مع غيبته. انتهى.

(1)

تقدم.

(2)

أخرجه أحمد (4/ 311)، وأبو داود (4147)، وابن ماجة (3613)، والنسائي (2/ 192)، والطيالسي (1293)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 271)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 113) والبيهقي (1/ 14) من طريق شعبة عن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض جهينة وأنا غلام شاب: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب.

ص: 621

وَبِمَا لا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى عَلَى الآخَرِ فِي الآحَادِ.

وَبِمَا لَمْ يَثْبُتْ إِنكَارٌ لِرُوَاتِهِ عَلَى الآخَرِ.

وحاصله: أن ما سكت عنه مع الحضور أولى مما سكت عنه مع الغيبة، "وبورود صيغة" صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم "فيه" أي: في ذلك الخبر بلفظها بغيبة "على" الآتي بمعنى "ما فهم" من الصيغة، وحاصله تقديم الرواية باللفظ على الرواية بالمعنى حتى يقدم الحديث المشتمل على صيغة واحدة مروية بلفظها على ما كله مروي بالمعنى.

الشرح: "وبما لا تعمّ به البلوى على الآخر في الآحاد" أي: وهذا يختصّ بالآحاد.

وبهذا رجحت الحنفية حديث بُسْرة

(1)

على طَلْق

(2)

في مسّ الذكر.

ولقائل أن يقول: لا حاجة إِلى قيد "الآحاد" مع العلم بأن المتواترين، والمتواتر والآحاد لا تعارض فيهما.

الشرح: "بما لا يثبت إنكار لرواية على الأخرى"، أي: ما أنكر الأصل رواية الفرع فيه مرجوح بالنسبة إلى ما لم ينكر، وهذا فيما إِذا أنكر الأصل وصمّم على إنكاره، مثل

(1)

بسرة - بالضم - بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى الأسدية. مهاجرية، لها أحد عشر حديثًا، وعنها عبد الله بن عمرو بن العاص، وعروة. ينظر ترجمتها في: تهذيب التهذيب: 12/ 404 ت 2742، وتقريب التهذيب: 2/ 591، والثقات: 3/ 37، وأسد الغابة: 7/ 40، وأعلام النساء: 1/ 110، والاستيعاب: 4/ 1796، والإصابة 7/ 536، وتجريد أسماء الصحابة: 2/ 251، والكاشف: 3/ 466، والإكمال: 7/ 426، وتراجم الأحبار: 1/ 157، والخلاصة: 3/ 376، وتهذيب الكمال: 1679، وتصحيفات المحدثين: 583، وتبصير المنتبه: 4/ 1493.

(2)

قيس بن طلق بن علي بن المنذر، الحنفي اليمامي. روى عن: أبيه. وعنه: ابنه هوذة وعبد الله بن النعمان السحيمي وعبد الله بن بدر وغيرهم. قال العجلي: يمامي ثقة، وأبوه صحابي. وذكره ابن حبان في الثقات. وذكره أبو موسى في الذيل وقال: أورده جعفر وغيره من الصحابة. قال ابن أبي حاتم عن أبيه: قيس ليس ممن تقوم به حجة، ووهاه، وقال ابن معين: لقد أكثر الناس من "قيس" وإنه لا يحتج بحديثه. ينظر: تهذيب التهذيب 8/ 398 (708).

ص: 622

الْمَتْنُ: النَّهْيُ عَلَي الأَمْرِ، وَالأَمْرُ عَلَى الإبَاحَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالنَّهْيُ بِمِثْلِهِ عَلَى الإبَاحَةِ.

إنكار أبي معبد ما حدث به عنه عمرو بن دينار من حديث ابن عباس أنه كان يعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما إذا لم يصمم، وحمل أمر شكّه في نفسه على النسيان، فلا تظهر مرجوحية، وقد كانوا يحدثون بعد ذلك عمن روى عنهم، فيقول واحدهم: حدثني فلان عني كما فعل بـ "سهيل" في حديث القضاء باليمين مع الشاهد.

وسبقه أنس فقال: حدثني ابني عنى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجعل فصّ الخاتم من غيره.

الشرح: الصنف الثاني: الترجيح بحسب المَتْن، وإليه أشار بقوله:"المتن"، فيرجح "النهي على الأمر"؛ لأن النهي لدفع المفسدة، والأمر لِجَلْبِ المصلحة، والاهتمام بدفع المفسدة أشد، "والأمر على الإباحة على الصحيح" للاحتياط. وقيل: يرجح ما مدلوله الإباحة؛ لأن مدلوله متحد، ومحامل الأمر كثيرة، والإباحة على النهي.

كذا بخط المصنف، وظاهره أن ما مدلوله نهي راجح على ما مدلوله إباحة.

وقد اختلف أصحابنا فيما إِذا تعارض خَبَران أحدهما يقتضي الحَظْر، والآخر الإِباحة على وجهين حكاهما ابن السَّمْعَاني وغيره:

أحدهما: أنهما سواء؛ لأنهما حكمان شرعيان. والثاني: تقديم ما يقتضي الحَظْر، وسيرجّحه المصنّف حيث يقول في المدلول الحظر على الإباحة ثم على الخلاف، والقول بتقديم الإباحة لا أعرفه عن أحد، ثم تقديم النهي معلوم من قوله هنا:"النهي على" الأمر، والأمر على "الإباحة"؛ فإنه صريح في أن النهي متقدم على الإِباحة، فقوله بعده: والإباحة على النّهي يناقضه، فلا يجعل بكلام الشارحين هنا، فما فيه غير تعسّفات لا حاصل لها.

وقد قلنا غير مرة: إن الصواب أن يرد من كلام المصنفين ما يجب ردّه، ويقبل ما يجب قبوله.

فأما التكليف والتخيُّل والحمل على أبعد المحامل بِلَطَافَةِ الوهم، ومنعه التخيل، وركوب الصَّعْب في ذلك دون المدلول، فهو عندنا شيء تستنكره العقول، ولا يرضاه لنفسه ذو نفس أبيّة، ولا يحفل به إِلا من مَلَكَتْهُ العصبية، وأخذته العزة بالحميّة، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إِلا صاحب القبر صلى الله عليه وسلم.

ص: 623

والأَقَلُّ احْتِمَالًا عَلَى الأَكثَرِ، وَالْحَقِيقَةُ عَلَي الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ عَلَى الْمَجَازِ بِشهْرَةٍ مُصَححَةٍ أَوْ قُوَّتِهِ، أَوْ قُرْب جِهَتِهِ، أَوْ رُجْحَانِ دَلِيلِهِ، شُهْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ، وَالْمَجازُ عَلَى الْمُشْتَرَكِ عَلَي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَالأَشْهَرُ مُطْلَقًا، وَاللُّغَوِيُّ الْمُسْتَعْمَلُ شَرْعًا عَلَى الشَّرْعِيِّ؛ بِخِلافِ الْمُنْفَرِدِ الشَّرْعِيِّ.

وابن الحاجب ليس بمعصومٍ، وما أحسن قول سلطان العلماء شيخ الإِسلام عز الدين بن عبد السَّلام في "القواعد" وقد استشكل مذهب الشَّافعي في كون الرشد صلاح الدين والمال، وقد تكلّف له تكلفًا مشكلًا: الفقيه من رأى الواضح واضحًا فقد كلّف نفسه شططًا، فإن كان عاقلًا كان أول ماقتٍ لنفسه، والتعصّب للحق على الرجال أولى من التعصُّب للرجال على الحق. انتهى.

الشرح: "والأقل احتمالًا" يرجّح "على الأكثر"؛ لبعده عن الاضطراب، "والحقيقة على المجاز"؛ لعدم افتقارها إلى القرينة، "والمجاز" يرجّح على "المجاز" إما "بشهرة مصححه" أي: مصحح ذلك المجاز، وذلك بأن يكون ما به الاشتراك أعني: العلاقة بينه وبين محلّ الحقيقة أشهر مما به الاشتراك بين المجاز الآخر وحقيقته، "أو قوته" أي: بكون علاقة أحد المجازين أقوى من الآخر، "أو قرب جهته" إلى الحقيقة بأن كانت أقرب إليها من الآخر، "أو برجحان دليله" على دليل المجاز الآخر "أو شهرة استعماله" بأن كان أحدهما أشهر استعمالًا من الآخر، "والمجاز" راجح "على المشترك على الصَّحيح كما تقدم" في أوائل الكتاب.

"والأشهر" راجح "مطلقًا" أي: في اللغة" أو الشرع أو العرف على غير الأشهر، "واللغوي"، وهو اللفظ "المستعمل" في اللغة لمعنى: إذا استعمل "في الشرع" لموضوعه اللغوي أيضًا راجح "على الشرعي"، وهو المستعمل في الشرع لمعناه الشرعي الذي لم تضعه العرب له؛ لأن الأصل موافقة الشرع للغة، "بخلاف" اللَّفظ "المنفرد الشرعي"؛ فإنه أظهر، والحاصل أن اللُّغوي المستعمل شرعًا في موضوعه الأصلي أرجح مما نقله الشَّارع عن معناه اللُّغوي؛ لعدم التغيير والبعد، بخلاف المنفرد الشرعي، وهو ما له معنى شرعي وللآخر معنى لغوي؛ فإن حمله على الشرعي أظهر كما تقدم في موضوعه.

ص: 624

وَبِتَأكِيدِ الدَّلالَةِ.

وَيُرَجَّحُ في الاِقْتِضَاءِ بِضَرُورَةِ الصِّدْقِ عَلَى ضَرُورَةِ وُقُوعِهِ شَرْعًا، وَفِي الإيمَاءِ بِانْتِفَاءِ الْعَبَثِ، أَوِ الْحَشْوِ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالاِقْتِضَاءُ عَلَى الإشَارَةِ، وَعَلَى الإيمَاءِ، وَعَلَى الْمَفْهُومِ، وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ عَلَي تَأْوِيلِ الْخَاصِّ لِكَثْرَتِهِ، وَالْخَاصُّ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ، وَالْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ عَلَى مَا خُصَّ، وَالتَّقْييدُ كَالتَّخْصِيصِ.

الشرح: "وبتأكيد الدَّلالة" نحو: "فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ"، وكما تقدم دلالة المطابقة على الالتزام، وترجيح الدلالة "في" دلالة "الاقتضاء بصيرورة الصدق على صيرورة وقوعه شرعًا" أي إذا تعارض خبران دَالان بالاقتضاء: أحدهما لضرورة الصدق، والآخر لضرورة وقوعه شرعيًّا قدم الأول؛ لأن الصدق أهم من وقوعه شرعيًّا.

"وفي" دلالة "الإيماء".

وإذا تعارض يرجّح أحدهما "بانتفاء [العَبَث]

(1)

، أو الحشو على غيره" من ترتيب حُكْمٍ على وصف لكون انتفاء [العبث]

(2)

، والحشو أظهر من دلالة الفاء والترتيب، "وبمفهوم الموافقة على المُخَالفة على الصحيح"؛ لأنه أقوى.

واحتج من قدم المخالفة بأنها تفيد تأسيسًا، والموافقة للتأكيد، والتأسيس أولى، "والاقتضاء على الإشارة"؛ لترجيحها بقصد المتكلّم، "وعلى الإيماء"؛ لتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به فيه، بخلاف الإيماء، "وعلى المفهوم"؛ لوقوع الاتفاق على دلالة الاقتضاء دون المفهوم في مفهوم المخالفة؛ ولجواز ألَّا يكون السكوت أولى، أو مساويًا في الموافقة، "وتخصيص العام على تأويل الخاص لكثرته" وقلَّة تأويل الخاصّ، "والخاص ولو من وجه"[محل]

(3)

العام؛ لأنه غير مبطل للعام، بخلاف العمل بالعام، فإنه يبطل الخاص على ما تقدم في مسألة "بناء العام على الخاص" المذكورة في ضمن مسألة "تخصيص الكتاب بالكتاب"، "والعام الذي لم يخصص على ما خص"؛ لأنه بالتخصص

(1)

في ت: العيب.

(2)

في ت: العيب.

(3)

في ت: على.

ص: 625

وَالْعَامُّ الْشَّرْطِيُّ عَلَى النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَالْمَجْمُوعُ بِاللَّامِ و"مَنْ" وَ"مَا" عَلَى الْجِنْسِ بِاللَّامِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى مَا بَعْدَهُ فِي الظّنِّيِّ.

يضعف اللفظ، ويصير مجازًا عند قوم، ومثاله خبر أنس وابن عمر مع خبر علي فيما إذا زادت الإبل على مائة وعشرين، فإن من قال باستئناف الفريضة ترك ذلك في المائة والخمسين، فأوجب فيها ثلاث حِقاقٍ، ذكره سليم الرَّازي، كتطرق [الضعف]

(1)

إلى ما خصّ؛ للخلاف في حجّيته، وأنه هل هو حقيقة، "والتقييد" المطلق "كالتخصيص" للعامّ، فيقدم المقيد ولو من وَجْه على المطلق، والمطلق الذي لم يخرج منه صورة على ما أخرج منه.

الشرح: "والعام الشّرطي على النكرة المنفية وغيرها" من الجمع المُحَلّى والمضاف ونحوهما؛ لأن الدلالة في الشرط وأقوى لإفادة التعليل، ثم المبنية على الفتح من النكرات المنفية، ثم المرفوعة، "والمجموع باللام، و"من" و"ما" على الجنس" المعرّف "باللّام، والإجماع على النص" كتابًا كان أو سُنّة متواترة؛ لأن النسخ مأمون فيه.

قوله: "والإجماع على ما بعده" أي: إذا ظن تعارض إجماعين قدّم المتقدم منهما على ما بعده، كالصّحابة على التابعين، والتابعين على تابعيهم، وهكذا؛ لأنهم أعلى رتبة وأقرب إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: "في الظن" أي: ذلك متصور في الإجماع الظني دون القطعي، فإنه يظن فيه التَّعَارض، وإلا لزم تعارض الإجماعين في نفس الأمر، وهو محال. هذا تقرير كلامه فاعتمده، وبه صرح في "المنتهى" إذ قال: وإجماع الصحابة على مَنْ بعدهم، ثم على الترتيب، وذلك إنما يكون في الظني؛ لأنهم أعلى رتبة. انتهى.

ولا يخفى ما فيه من التعسّف؛ فإن تعارض الإجماعين في نفس الأمر مستحيل، سواء أكانا ظنيين أم قطعيين، وما قاله بعض الشُّراح: إنه إذا نقل بخبر الواحد فقد لا يطلع عليه أهل العصر الثاني، فيجمعون على خلافه - ليس بصحيح؛ فإنه وإن لم يطلعوا عليه، فالله قد عصمه عن أن يجمعوا على خلافه؛ لأنه بالإجماع عليه حق، فلو أجمعوا على خلافه لأجمعوا على باطل، سواء أعلموا بأنه تقدمهم إجماع أم لا، فظن تعارض الإجماعين ممكن، سواء أكانا في القطعيين أم الظنيين.

(1)

في ب: الضعيف.

ص: 626

الصِّنْفُ الثَّالِثُ

الْمَدْلُولُ: الْحَظْرُ عَلَى الإِبَاحَةِ.

وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ وَعَلَى النَّدْبِ؛ لِأَنَ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ أَهَمُّ، وَعَلَى الْكَرَاهَةِ، وَالْوُجُوبُ عَلَى النَّدْبِ؛ وَالْمُثْبِتُ عَلَى النَّافِي؛ كَحَدِيثِ بِلالٍ رضي الله عنه: دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى، وَقَالَ أُسَامَةُ: دَخَلَ وَلَمْ يُصَلِّ، وَقِيلَ: سَوَاءٌ، وَالدَّارِئُ عَلَى الْمُوجِبِ، وَالْموجِبُ لِلطَّلاقِ وَالْعِتْقِ؛ لِمُوَافَقَتِهِ النَّفْيَ، وَقَدْ يُعْكَسُ؛ لِمُوَافَقَتِهِ التَّأْسِيسَ، وَالتَّكْلِيفِيُّ عَلَى الْوَضْعِيِّ بِالثَّوَابِ، وَقَدْ يُعْكَس، وَالْأَخَفُّ عَلَى الْأَثْقَلِ وَقَدْ يُعْكَسُ.

الشرح: في الترجيح بحسب مدلول اللفظ، وإليه أشار بقوله:"المدلول: الحَظْر على الإباحة"؛ للاحتياط.

قال أصحابنا: ولأن سبب التحريم والتحليل إذ اجتمعا في عين واحدة غلب التحريم.

كالجارية بين الشريكين، والمتولّد بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل.

"وقيل: بالعكس"؛ لأنهما حكمان شرعيان، وقد قدمنا أنهما وجهان لأصحابنا، والخلاف فيما إذا لم يكن للشيء أصل من حظر، ولا إباحة، واقتضى أحد الخبرين الحظر، والآخر الإباحة مثل: خبر عَدِيّ بن حاتم فيما أكلت منه الجارحة أنه يحرم مع خبر أبي ثعلبة الخشني في إباحة أكله.

وأصح قولي الشَّافعي أنه لا يحل اعتمادًا على هذا الأصل.

أما إذا كان لذلك الشيء أصل إباحة، وأصل حظر، وأحد الخبرين يوافق ذلك الأصل، والآخر مخالفه كان الناقل عن ذلك الأصل أولى، كتقديم الخبر في تحريم النبيذ على الخبر في تحليله، "وعلى الندب؛ لأن دفع المفاسد أهم، وعلى الكراهة"؛ للاحتياط.

ص: 627

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"والوجوب" راجح "على الندب"؛ لأنه أحوط، "والمثبت على النافي"، "كحديث بلال" المتفق على صحته:"دخل البيت وصلى".

"وقال أسامة: دخل ولم يصل فيه" حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين أخرجه مسلم، ولقائل أن يقول: إنما يثبت التعارض بين هذين الخبرين لو ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة إلا مرة واحدة، ولكنه دخلها غير مرة، فلعله صلى الله عليه وسلم صلّى مرة، ورواه بلال، وترك أخرى، ورواه أسامة.

وسمعت بعض أهل الحديث يمثل بقصة ماعز، ففي البخاري عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر أنه: لما رجم ماعز قال النبي صلى الله عليه وسلم - خيرًا وَصَلّى عليه

(1)

.

قال البُخَاري: لم يقل يونس وابن جريج عن الزهري: "وصلى عليه".

قلت: وخالف محمودًا فيه [جماعة]

(2)

أصحاب عبد الرزاق.

فأخرجه أبو داود عن محمد بن المتوكل العسقلاني والحسن بن علي، وأخرجه الترمذي عن الحسن بن علي، والنسائي عن محمد بن رافع ونوح بن حبيب، وأخرجه البيهقي من طريق أحمد بن منصور الرمادي، كلهم عن عبد الرزاق.

وقالوا فيه: ولم يصل عليه

(3)

على نقيض ما قاله محمود بن غيلان. قلت: ولكن التمثيل بهذا لا يصح؛ لأنَّ الحكم للنفي، وقد حكم البيهقي بخطأ محمود بن غيلان، وَثَمَّ أحاديث تقوى أنَّهُ ما استغفر له، ولا أشبه، فاعتضد حديث النفي، فلتطلب مثال غير هذا، [وقيل]

(4)

: المثبت والنافي "سواء؛ لأن المثبت إن كان معه زيادةُ علمٍ فالنافي معتضدٌ

(1)

أخرجه البخاري كتاب المحاربين: باب الرجم بالمصلى (6820)، ومسلم (5/ 117)، وأبو داود (4430)، والترمذي (1/ 268)، والدارمي (2/ 276)، وأحمد (3/ 323) من حديث جابر، وزاد أحمد: ولم يصل عليه.

(2)

في ب: جماعته.

(3)

أخرجه البخاري (9/ 278) كتاب المحاربين: باب الرجم بالمصلى (6820) من حديث جابر.

(4)

في ب: سواء.

ص: 628

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالأصلِ، فتعارضا، "والدارئُ" للحدّ راجح "على الموجب"؛ لأن الحدود تُدْرَأُ بالشبهات.

وفي وجه لأصحابنا أنهما سواء؛ لأن الشبهة لا تؤثر في ثبوته شرعًا؛ ألا ترى أنه ثبت بخبر الواحد، والقياس مع الشبهة فيهما؛ ولأن الحد إنما يسقط بالشبهة إذا كانت في نفس الفعل، فيبيحه قوم، ويحظره آخرون، كالوطء في النكاح بلا ولي ولا شهود، وليس هنا اختلاف في نفس الفعل، وإنما تعارض الخبران فيه، فكانا سواء.

ونظيره من عرف تحريم الخمر وجهل أنه موجب للحد، ولا يجعل جهله بإيجاب الحد شبهة، "والموجب للطلاق والعتق" راجح على المزيل لهما؛ "لموافقته النفي" الأصلي، "وقد ينعكس"

(1)

فيقدَّمُ النافي للطلاق والعتق، وهو رأى قوم، "والتكليفى على الوضعي"، ورجحانه "بالثواب" الحاصل من التكليف، "وقد ينعكس" فيرجح الوضعي؛ لأنه لا يتوقف على فهم، ويمكن "والأخف على الأثقل" لليسر، "وقد ينعكس"؛ لأن الأشق أكثر إجزاء.

(1)

في المتن: يعكس.

ص: 629

الصِّنْفُ الرَّابِعُ

الْخَارجُ: يُرَجَّحُ الْمُوَافِقُ لِدَلِيل آخَرَ، أَوْ لِأَهْلِ "الْمَدِينَةِ"، أَوْ لِلْخُلَفَاءِ، أَوْ لِلأَعْلَمِ.

الشرح: مما يرجح الأمر به "الخارج" عن الدَّليل المنقول وعوارضه، فنقول:"يرجح الموافق لدليل آخر" من كتاب، كتقديمنا خبر عائشة في التَّغْلِيسِ على حديث رافع في الإسفار؛ لموافقة قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [سورة البقرة: الآية 238]، ومن المحافظة على الصلاة في أول الوقت.

أو سُنّة، كتقديمنا:"لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَليٍّ " على حديث: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَليِّهِا"

(1)

لموافقته لحديث: "أَيُما امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْر إِذْنِ وَليِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ" أو قياس، كتقديمنا حديث جابر "أن الضحك ينقض الصلاة

(2)

، ولا ينقض الوضوء" على حديث "مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلاةِ فَلْيُعِدِ الصَّلاةَ وَالوُضوء"

(3)

؛ لموافقته القياس، فإن ما لا ينقض الوضوء خارج عن الصلاة لا ينقضها داخلها كالكلام.

(1)

أخرجه أبو داود 233، كتاب النكاح: باب في الثيب (2099).

(2)

أخرجه الدارقطني (1/ 173) من حديث جابر مرفوعًا.

وأخرجه أيضًا (1/ 172) من طريق يزيد بن سنان نا سليمان الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا بلفظ: من ضحك منكم في صلاته فليتوضأ ثم ليعد الصلاة.

وقال الدارقطني: قال لنا أبو بكر النيسابوري: هذا حديث منكر، فلا يصح.

وذكره الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"(1/ 175) وقال: قال ابن الجوزي:

قال أحمد: ليس في الضحك حديث صحيح، وكذا قال الذهلي: لم يثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الضحك في الصلاة خبر.

(3)

أخرجه الدارقطني (1/ 165)، وابن عدي في "الكامل"(5/ 1762) عن عمران بن حصين.

ص: 630

وَبِرُجْحَانِ أَحَدِ دَلِيلَي التَّأْوِيلَيْنِ.

وقوله" [أو]

(1)

لأهل المدينة" أي يرجح الموافق لأهل "المدينة" وإن لم نقل: إن إجماعهم حجة، كما قدمنا حديث أبي مَحْذُورَة في الترجيح في الآذان، ورواية من روى إفراد الإقامة؛ لأن أهل "المدينة" أعرف بالتنزيل، وبين ظهرانيهم مشاهدة الأمور، "أو للخلفاء" الأربعة، وإن لم يحتج بإجماعهم أيضًا؛ لأن عملهم يدل على أنه آخر الأمرين؛ ولأنه بمحضر من الصّحابة، فيكون أقوى في النفس.

فيقدم حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم "كبر في العِيدَيْنِ في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا"

(2)

على خبر أبي موسى: "كبر في العِيدَيْنِ أربعًا في الأولى، وأربعًا في الثانية"

(3)

؛ لأن الأول عمل به أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

"أو للأعلم"، أي: يرجح الخبر لمواففته لعمل الأعلم؛ لكونه أعرف بمواقع التنزيل، كتقديمنا رواية على في الاستفتاح على غيره [لموافقتها]

(4)

عمله، وهو أعلم من المخالف له في روايتها.

الشرح: "وبرجحان أحد دليلي التأويلين"، أي: إذا تعارض مؤلان ودليل تأويل أحدهما أرجح قدم على الآخر، كتأويل أصحابنا قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ

(1)

في ت: ولا.

(2)

أخرجه الترمذي 2/ 416 في كتاب الصلاة: باب التكبير في العيدين (536)، وأخرجه ابن ماجة 1/ 407 في إقامة الصلاة: باب ما جاء في كم يكبر الإمام، وأخرجه الدارقطني في السنن 2/ 48 في كتاب العيدين (23)، والبيهقي في السنن 3/ 286 من صلاة العيدين، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه 2/ 346، ونوقش الترمذي في تحسينه؛ لأجل كثير هذا، فقد قال الشافعي في حقه: هو ركن من أركان الكذب، ومال في تحسين حديثه الشيخ شاكر رحمه الله، وقد مضى الكلام عليه.

(3)

أخرجه أبو داود (1/ 369) كتاب الصلاة: باب التكبير في العيدين (1153) من طريق مكحول قال: أخبرني أبو عائشة - جليس لأبي هريرة - أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعًا تكبيره على الجنائز.

وذكره الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"(2/ 85).

(4)

في ت: لموافقتهما.

ص: 631

وَبِالتَّعَرُّضِ لِلْعِلَّةِ.

مِنْهَا} [سورة النور: الآية 31] على الوجه والكفين، فيكون القدم من العورة محتجين بأنه روي عن ابن عباس أنه قال: تفسيره الوجه والكف، إن عارضت الحنفية بأنه روي عن ابن مسعود في تأويله: السَّاق والقُرْط، والخُلْخَال، والدّملج، والقِلادَة.

قالوا: أو الخلخال في آخر الساق، ويلزم من إبدائه ظهور القدم.

فأجاب أصحابنا بأن دليلنا أرجح لثلاثة أوجه:

أحدها: أن ابن عباس أقعد بتأويل القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمْ فَقِّههُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأوِيلَ".

والثاني: أن الدَّملج محله الذراع، والقِلادَة محلّها العُنقُ، وهما من العورة اتفاقًا، فصار قول ابن مسعود متروك الظاهر، فرجح الأول.

والثالث: حديث أم سلمه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ جَرَّ ثَوْبًا مِنْ مَخِيلَةٍ لا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيهِ"

(1)

.

قالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يُرْخِينَ شِبْرًا". قالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال صلى الله عليه وسلم:"فَيُرْخينهُ ذِرَاعًا لا يَزِدْنَ عَلَيْهِ"

(2)

رواه أبو داود، فقولها: "إذن

(1)

أخرجه البخاري 10/ 266، في اللباس: باب من جر إزاره من غير خيلاء (5784) وفيه من الفقه: أنه لا حرج على من اتجَّر إزاره بغير قصده مطلقًا، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يكره جر الإزار على كل حال، فقال ابن بطال: هو من تشديداته، وإلا فقد روى هو حديث الباب، فلم يخف عليه الحكم، قال الحافظ: بل كراهة ابن عمر محمولة على من قصد ذلك، سواء كان عن مخيلة أم لا، وهو المطابق لرؤيته، ولا يظن بابن عمر رضي الله عنه أنه يؤاخذ من لم يقصد شيئًا، وإنما يريد بالكراهة من انجر إزاره بغير اختياره ثم تمادى على ذلك ولم يتداركه، وهذا متفق عليه وإن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم أو للتنزيه، وفي الحديث أيضًا: اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام باختلافها، وهو أصل مطرد غالبًا: الفتح 10/ 267.

(2)

أخرجه أبو داود (4117)، والترمذي (1731)، والنسائي (8/ 209)، وابن ماجة (3580)، وأحمد (6/ 293).

وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 632

وَالْعَامُّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ فِي السَّبَبِ، وَالْعَامُّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ.

تنكشف أقدامهن" مع إقراره صلى الله عليه وسلم دليل أن انكشاف القدم محظور.

الشرح: "وبالتعرض للعلّة"؛ لأن ذكر علته تدل على الاهتمام به، والنقب عليه بحديث:"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"

(1)

مقدم على حديث النهي عن قتل النّساء

(2)

؛ لأنه نيط الحكم فيه بوصف الردة، وهو مناسب لا تختلف مناسبته بالنسبة إلى الرجال والنساء، ولفظ النساء لا وصف فيه، فأمكن حمله على الجزئيات.

الشرح: "والعام" يرد "على سبب خاص" راجح على العام المطلق إذا تعارضا "في" صورة "السَّبب"؛ لقوة دلالته فيها، ولذلك يجوز تخصيصها.

وأما فيما عدا صورة السبب، فالعام الذي لم يرد على سبب أرجح؛ للاختلاف في تعميم الوارد على سبب صرح به أصحابنا.

قالوا: وهو كما أجرينا: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" على عمومه، وقصرنا نهيه عن قتل النساء بالحربيات، ولعلّك تجد في بعض التَّصَانيف أن "العام" الوارِد "على" سبب راجح على ما لم يرد في بعضها عكسه، وهو محمول على ما ذكرناه.

فمن قال: إن الوارد على سبب راجح أراد في صورة السبب.

ومن قال: إن عكسه راجح أراد فيما عداها، ولا يتجه خلاف في الموضعين.

(1)

تقدم.

(2)

أخرجه البخاري (6/ 148) كتاب الجهاد: باب، قتل الصبيان في الحرب (3015)، ومسلم (3/ 1364) كتاب الجهاد والسير: باب تحريم قتل النساء (25/ 1744)، وأبو داود (2668) والترمذي (1/ 297) وابن ماجة (2841)، ومالك (1/ 447) رقم (9)، وابن حبان (1657)، والدارمي (2/ 222 - 223)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 126)، وابن الجارود (1043)، والبيهقي (9/ 77)، وأحمد (2/ 22، 23، 76، 91) من طرق عن نافع عن ابن عمر.

ص: 633

وَالْخِطَابُ شِفَاهًا مَعَ الْعَامِّ كَذَلِكَ، وَالْعَامُّ لَمْ يُعْمَلْ فِي صُورَةٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَالْعَامُّ بِأَنَّهُ أَمَسُّ بِالْمَقْصُودِ؛ مثْلُ:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [سورة النساء: الآية 23] عَلَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، وَبِتَفْسِيرِ الرَّاوِي بِفِعْلِهِ أَوْ قَوْلِهِ.

الشرح: "والخطاب" العام الوارد "شفاهًا" مثل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة آل عمران: الآية 102]، "مع العام" غير الوارد شفاهًا "كذلك" أي: كالعامين ورد أحدهما على سبب، فيتقدم عام المُشَافهة فيمن شُوفهوا به، وفي غيرهم الآخر، وهو واضح، "والعام" الذي "لم يعمل" به "في صورة" ما "على غيره"، ليعمل به، فيكون قد عمل بها؛ إذ لو اعتبر ما يحمل به لزم إلغاء الآخر حمله، والجمع ولو بوجه أولى.

"وقيل: بالعكس" أي: بتقديم ما عمل به؛ لأن العمل شاهد له بالاعتبار.

"والعام" المقصود به بيان الحكم المختلف فيه راجح على العام الذي لم يقصد به، وذلك "بأنه أمس بالمقصود"، وأقرب إليه، ولا ريب في رُجْحَان ما كان كذلك "مثل:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [سورة النساء: الآية 23]"؛ فإنه راجح في تحريم الجمع بينهما في الوطء "على {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ؛ إذ هو أمس بمسألة الجمع.

ومثل خبر ابن عباس في مواقيت الصلاة؛ فإنه راجح على خبر ابن عمر: "إنما مثلكم ومثل الأمم من قبلكم"؛ لأن القصد بهذا ضرب المثل لا الحكم، "وبتفسير [الراوي]

(1)

"، أي: إذا تعارض تفسيران لخبر، وكان أحد التفسيرين قد فسره به الراوي، فهو الأرجح؛ لأنه أعرف بما رواه، فيكون ظن الحكم به أوثق، سواء أوقع التفسير "بفعله أو قوله"، كما قلنا في التفريق في المُتبَايعين

(2)

أن ابن عمر فسّره بالتفرق بالبدن، وكان إذا ابتاع قام ومشى، وهو الراوي، فالمصير إليه أوْلَى.

وفي كلام أكثر المتأخرين، وجميع الشارحين لـ"المختصر": إذا تعارض خبران أحدهما مقترن بتفسير الراوي فهو أرجح، وهنا [لا شيء]

(3)

، وإنما المراد تعارض تفسيرين

(1)

في ت: الرازي.

(2)

البخاري 4/ 326 في البيوع: باب كم يجوز الخيار (2107)، وفي 4/ 328 في باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (2111)، ومسلم 3/ 1163، في كتاب البيوع: باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين (43/ 1531).

(3)

في ب، ت: وهذا لاثنين.

ص: 634

وَبِذِكْرِ السَّبَبِ، وَبِقَرَائِنِ تَأَخُّرِهِ، كَتَأْخِيرِ الْإِسْلامِ أَوْ تَارِيخٍ مُضَيَّقٍ، أَوْ تَشْدِيدِهِ لِتَأَخُّرِ التَّشْدِيدَاتِ.

لخبر واحد كما قررناه، لا تعارض خبرين أحدهما مفسر بكلام الراوي.

الشرح: "وبذكر السبب"، أي: ويرجح ما ذكر سبب على ما لم يذكر؛ لأن ذكر الراوي للسبب يدلّ على زيادة اهتمامه بما رواه، "وبقرائن تأخره" عن الآخر، فما دلَّت القرينة على تأخره راجح، والقرائن "كتأخير الإسلام"، كذا بخطّ المصنف أي: أن إسلام أحد الراويين بعد الآخر قرينة أن سماعه متأخر عنه؛ لأن الظاهر أن سماعه إنما هو في حال الإسلام، والعمل بالأحدث فالأحدث، فتكون روايته راجحة، وهذا هو مذهبنا كما قدمناه إلا أن المصنف قدم خلافه؛ إذ صرح فيما مضى بأن تقدم الإسلام أحد مرجّحات الراوي.

وإن قيل: السابق أن تقدم الإسلام مرجح للراوي لا لروايته، والمذكور هنا أن تأخره مرجّح لروايته لا له نفسه، فلا منافاة.

قلنا: هذا لا حاصل له؛ لأن كلامنا ثَمّ إنما هو في ترجيح الراوي يترجح به روايته، "أو تاريخ مضيق"؛ فإنه يرجّح على غيره من مطلق، أو مؤرّخ بتاريخ موسّع، فإنهما يحتملان التأخر.

واعلم أن المراد بـ "التَّاريخ المضيق" ما يبعد بعده التغيير والنسخ، كالمسند إلى أواخر العمر، كتقديمنا ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام:"إِذَا صَلَّى الإمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ"

(1)

.

وليس مرادنا بـ "التّأخير المضيق" ما يعين فيه ساعة السماع، أو يومه، فإنه لا يظهر ترجيح بذلك، بل الظاهر أنهما فيه سواء.

والأصح في مذهبنا فيما إذا تعارضت بينتان إحداهما مؤرخة، والأخرى مطلقة أنهما سواء.

وقيل: تقدم المؤرخة.

(1)

أخرجه مالك في الموطأ (1/ 135)، في صلاة الجماعة: باب صلاة الإمام وهو جالس، وأخرجه البخاري 2/ 204، كاب الأذان: باب إنما جعل الإمام (689)، ومسلم 1/ 308، كتاب الصلاة: باب ائتمام المأموم والإمام (77/ 411).

ص: 635

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإن قلت: والأصح في المذهب أنهما إن أرختا بتاريخ مختلف قدم أسبقهما تاريخًا.

قلت: لاعتضاده بالاستصحاب، وهذا في الشهادات، ولا كذلك في الروايات؛ فإن المتأخر أحدث وأبعد عن النسخ، والفرق بين الشَّهادة والرواية معروف، ولو أرخ أحد الراويين بتاريخ متقدم، وأطلق الآخر قدم المطلق؛ لأنه أشبه بالمتأخر، "أو تشديده"، فإذا كان في أحد الخبرين تشديد دون الآخر، أو كان أحدهما أشد قدم "لتأخير التشديدات"؛ فإن الدين كانت قوته تزداد شيئًا فشيئًا، وكان عليه الصلاة والسلام لرأفته بالخلق وتدريجه إياهم لا ينذر بالتغليظ، بل يلوح، ثم يعرض، ثم يصرح، والقرآن أكثره هكذا، وانظر آيات تحريم الخمر، واختار صاحب "الحاصل" تاج الدين الأرموي أن المتضمن للتخفيف أرجح، وتبعه البيضاوي في "المنهاج"، وهو شيء ذكره الإمام الرازي بحثًا، والأرجح خلافه. والله أعلم.

ص: 636

‌الْقِسْمُ الثَّانِي

الْمَعْقُولانِ: قِيَاسَانِ أَوِ اسْتِدْلالانِ،

فَالْأَوَّلُ: أَصْلُه، وَفَرْعُه، وَمَدْلُولُه، وَخَارجٌ، الْأَوَّلُ: بِالْقَطْعِ.

وَبِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، وَبِكَوْنِهِ لَمْ يُنْسَخْ بِاتِّفَاقِ، وَبِأَنَّهُ عَلَى سَنَنِ الْقِيَاسِ، وَبِدَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى تَعْلِيلِهِ.

الشرح:‌

‌ في تعارض الدليلين المعقولين

فنقول: إذا تعارض "المعقولان"، فهما إما "قياسان، أو استدلالان، فالأول" صنف القياس،. والترجيح فيه يقع بأربعة أشياء، وهي "أصله وفرعه، ومدلوله، وخارج الأول" الترجيح بحسب الأصل، ويقع من وجوه "القطع"، فيقدم ما حكم أصله قطعي على ما هو ظني، كقولنا في لعان الأخرس: إن ما صحّ من الفاسق صحّ من الأخرس، كاليمين؛ فإنه أرجح من قياسهم على شهادته تعليلًا بأنه يفتقر إلى لفظ الشهادة؛ لأن اليمين يصح من الأخرس بالإجماع؛ والإجماع قطعي.

وأما جواز شهادته ففيه خلاف بين الفقهاء.

الشرح: "وبقوة دليله"؛ لأنه أغلب على الظن، "وبكونه لم ينسخ باتفاق"، فإن ما قيل بأنه منسوخ، وإن كان القول بأنه منسوخ ضعيفًا، ليس كما اتفق أنه لم ينسخ، "وبأنه على سنن القياس".

فإن قلت: لو لم يكن كل منها على سَنَنِ القياس لم يتعارضا؛ لأن من شرط حكم الأصل ألَّا يكون معدولًا به عن سَنَنِ القياس. وإذا لم يكن تعارص فلا ترجح.

قلت: قد يكون أحدهما على سنن القياس باتفاق، والآخر مختلف؛ في كونه على سننه، فيرجح المتفق على المختلف إذ أحدهما على سننه قطعًا، والآخر ظنًّا، فيرجّح الأول، وهل يقال: المراد بكونه على سنن القياس أن يكون أصل أحدهما من جنس الفرع

ص: 637

وَبِالْقَطْعِ بِالْعِلَّةِ، أَوْ بِالظَّنِّ الأَغْلَبِ، وَبِأَنَّ مَسْلَكَهَا قَطْعِيٌّ، أَوْ أَغْلَبُ ظَنًّا.

المُتَنَازع فيه دون أصل، والآخر فيرجح ما هو من جنسه؛ لأنه على سننه، وبذلك صرح القاضي أبو الطيب، والماوردي، وأبو إسحاق الشيرازي، والسمعاني وغيرهم من أئمتنا مثل قياسنا ما دون أرش الموضحة في تحمّل العَاقِلة أياه، فهو أولى من قياسهم ذلك على غرامات الأموال في إسقاط التحمل؛ لأن الموضحة من جنس ما [اختلفنا]

(1)

فيه، فكان على سننه؛ إذ الجنس بالجنس أشبه.

كما تقول: قياس الطهارة على الطهارة أولى من قياسها على سَتْرِ العورة. "وبدليل خاص" يقوم "على تعليله" وجواز القياس عليه؛ فإنه أبعد من التعبد والقصور.

الثاني: الترجيح بحسب العلة.

الشرح: وإليه أشار بقوله: "وبالقطع بالعلّة" أي: بوجود العلة فيه، "أو بالظن الأغلب، وبأن مسلكها قطعي" دون مسلك الأخرى، "أو غلب ظنًّا" إما بكونها منصوصًا عليها مثل علّتنا في بيع الرُّطب بالتمر أنه جنس ربوي بيع بعضه ببعض على صفة يتفاضلان في حال الكمال والادّخار، فأشبه الحِنْطَة بالدفيق مع تعليلهم بوجود التَّماثل في الحال؛ لأن علّتنا منصوص عليها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على معنى هذا التعليل في حديث:"أيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ "

(2)

فكانت أولى من المستنبطة، أو لكثرة أصولها، كقياسنا الإقرار بالزنا على سائر الأقارير في أنه لا يعتبر فيه العدد مع قياسهم أي على الشهادة بالزنا، أو لغير ذلك.

(1)

في ت: اختلفتا.

(2)

أخرجه مالك في الموطأ 2/ 624، كتاب البيوع (31) باب ما يكره من بيع الثمر (12)، الحديث (22)، والشافعي في ترتيب المسند 2/ 159 كتاب البيوع: باب في الربا، الحديث (551)، وفي الرسالة ص (331)، وأبو داود في السنن 3/ 654 - 657 كتاب البيوع (17) باب في التمر بالتمر (18)، الحديث (3359)، والترمذي في السنن 3/ 528 كتاب البيوع (12) باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة (14) الحديث (1225) وقال:(حسن صحيح)، والنسائي في المجتبي من السنن 2/ 761، كتاب التجارات (12) باب بيع الرطب بالتمر (53) الحديث (2264)، والحاكم في المستدرك 2/ 38 - 39، كتاب البيوع، باب =

ص: 638

وَالسَّبْرُ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ؛ لِتَضَمُّنِهِ انْتِفَاءَ الْمُعَارِضِ، وَيُرَجَّحُ بِطُرُقِ نَفْى الْفَارِقِ فِي الْقِيَاسَينِ، وَالْوَصْفُ الْحَقِيقِيُّ عَلَى غَيْرِهِ.

وَالثُّبُوتِيُّ عَلَى الْعَدَمِيِّ.

الشرح: "والسبر على المناسبة؛ لتضمنه انتفاء المعارض"؛ لتعرُّضه لعدم علّية غير المذكور، بخلاف المناسبة، فقولهم: للمحتال الرجوع على المحيل، إذا أفلس المحال عليه؛ لأنه عجز عن الرجوع مع بقاء عينه، وشبه البائع مرجوح بالنسبة إلى قولنا: وصف الحِوَالَةِ لا بد أن يقتضي شيئًا، وهو إما تحوُّل الحقّ أو لا.

والثاني باطل، وإلا لزم أن تدوم له المطالبة كما في الضَّمان، فثبت الأول، فإذا تحول لم يعد، "ويرجح" إذا كان طريق ثبوت العلّية في القياس نفي الفارق "بطرفي نفي الفارق في القياسين" بتقدم القاطع على الظَّني، والأغلب ظنًّا على الآخر.

"والوصف الحقيقي على غيره" مما العلة فيه وصف اعتباري، أو حكمة مجردة على القول بجواز التعليل بها، أو وصف حكمي، كقولنا في المَنِيّ: مبتدأ خلق بشر، فأشبه الطّين مع قولهم: مانع سببه الغُسْل، فأشبه الحَيْض.

الشرح: "والثبوتي على العدمي" كقولنا في السَّفَرْجل: مطعوم، وكان ربويًّا كالبر مع قولهم: ليس بمكيل ولا موزون، وهذا إذا كان الحكم وجوديًا، والعلة وجودية فإنه يرجح على ما إذا كانا عدميين كما مثّلناه، وكذا على ما إذا كان أحدهما عدميًّا كقولنا: الخُلْع طلاق؛ لأنه فرقة ينحصر ملكها في الزوج مع قولهم: فسخ؛ لأنه لا رَجْعَة فيه.

أما إذا كان الحكم عدميًّا، والعلة ثبوتية أو بالعكس، فقد قال الإمام الرازي وأتباعه: إنه مرجوح بالنسبة إلى ما إذا كانا عدميين، واعتلوا بالمُشَابهة بين التعليل بالعدمي، وللعدمي.

= النهي عن بيع الرطب بالتمر، والبيهقي في السنن 5/ 294 - 295 كتاب البيوع: باب ما جاء في النهي عن بيع الرطب بالتمر، وابن الجارود في المننقى في باب ما جاء من الربا حديث (657)، والدارقطني 3/ 49 في كتاب الببوع، حديث (204 - 206)، وانظر: تلخيص الحبير 3/ 9 - 10، ونصب الراية 4/ 40.

ص: 639

وَالْبَاعِثَةُ عَلَى الْأَمَارَةِ، وَالْمُنْضَبِطَة، وَالظَّاهِرَة، وَالْمُتَّحِدَة، عَلَى خِلافِهَا.

وعندنا فيه وقفة ذكرناها في "شرح المنهاج"، ومثال العدميين مع الوصف العدمي والحكم الوجودي قولنا: المرأة لا تلي القَضَاء، فلا تلي النكاح كالمجنون مع قولهم: لا يمنع من التصرف في المال، فيلي النكاح كالعاقل، والعدميين مع الحكم العدمي، والوصف الوجودي.

قولنا: عتق الراهن تصرُّف صادف الملك، فلا يلغى مع قولهم: لم ينصرف فيه، وهو مطلق التصرف، فلا يعتبر.

الشرح: "والباعثة على الأمارة"، أي: والقياس الذي علّته بمعنى الباعثة على الذي علته بمعنى الأمارة؛ لأن قبول الطباع إليه أسرع، ولقائل أن يقول: العلة أبدًا إما بمعنى الباعث، أو الأمارة، أو المؤثر على ما سبق الخلاف فيه.

أما القول بأنها تارة بمعنى الباعث، وتارة بمعنى الأمارة، فلم يقل به أحد، وكان مراده أن ذات التأثير والتخييل أرجح من التي لا يظهر لها بمعنى فقهي، وذلك واضح. "والمنضبطة والظاهرة والمتحدة على خلافها" أي على المضطربة [والخفية]

(1)

، والمتعددة، أما المضطربة؛ فلأنها لا وثوق بها.

وأما الخفية؛ فلأنه لا يؤمن الغلط فيها.

وأما ذات الأوصاف؛ فَلِبُعْدِ الضبط عنها، فتعليل عدم توريث [القَاتِلِ]

(2)

بالقياس أرجح من خلافه؛ لانضباطه والتعليل فتأمل.

وقولنا في إزالة النجاسة: مائع لا يرفع الحدث، فلا يزيل النجس أوْلى من قولهم: مائع ظاهر مزيل للعين؛ لأنه أقلّ أوصافًا.

ومنهم من قال: لا يرجّح بقلة الأوصاف.

(1)

في أ، ت: الحقيقة.

(2)

في أ: القائل: وهو تحريف.

ص: 640

وَالأَكْثَرُ تَعَدِّيًا، وَالْمُطَّرِدَةُ، عَلَى الْمَنْقُوضَةِ، وَالْمُنْعَكِسَة، عَلَى خِلافِهَا، وَالْمُطَّرِدَةُ فَقَطْ عَلَى الْمُنْعَكِسَةِ فَقَطْ، وَبِكَوْنِهِ جَامِعًا لِلْحِكْمَةِ مَانِعًا لَهَا عَلَى خِلافِهِ، وَالْمُنَاسَبَةُ عَلَى الشَّبَهِيَّةِ.

الشرح: "والأكثر تعديًا" راجح على الأقلّ على المختار؛ لأن فائدته أكثر، كعلَّة الطعم، فإنها أكثر فروعًا من علة الاقتيات.

ويعلم من هذا أن المتعدية أولى من القاصرة، وفيه خلاف.

"والمضطردة" راجحة "على المنقوضة" كقولنا في نفقة الأقارب وعتقهم: كل قرابة لا يستحق بها النَّفقة مع اختلاف الدين لا يستحق بها مع اتفاقه كقرابة ابن العَمّ، فإنه أرجح من قولهم: ذو رحم محرم بالنسب تشابه الوالدين؛ لأن هذا لا يتناول الذَّكَر مع الذَّكَر؛ إذ لا يقال: إنه محرم، وإنما يستعمل ذلك في الذَّكَر مع الأنثى.

والاطراد والانعكاس إن وجد، وهو الغاية، والمطّردة المنعكسة أرجح من التي لا تنعكس كقياسنا في تزويج غَيْرِ الأب والجد للصغيرة أن من لا يملك التصرف في مال الصغيرة بنفسه لم يملك التصرف في بعضها كالأجنبي مع قولهم: إنه من أهل ميراثها، فكان كالأب؛ فإنه منعكس بالحاكم؛ إذ هو تزوج، وليس هو من أهل ميراثها. "والمنعكسة على خلافها"، كما ذكرناه، فإن من لا يملك التصرّف [ينعكس؛ إذ كل من يملك التصرف]

(1)

في مالها بنفسه يتصرف في بعضه، ولا كذلك تعليلهم بالإرث.

"والمطردة فقط على المنعكسة فقط".

وقولنا في القطع بسرقة الثمار: كل ما جاز بيعه وبلغت قيمته نصابًا وجب بسرقته القطع مطَّرد، ولا ينعكس بدليل الموقوف، وأم انولد؛ فإنه يقطع سارقهما، ولا يجوز بيعهما، وهو أرجح من أن يقول الحنفي: كل ما لا ينتفع به حالًا ومالًا لا يقطع بسرقته، فإنه وإن انعكس، إذ الذي [يفقد]

(2)

النفع به في الجالتين لا يقطع به؛ لأنه لا قيمة له، لكنه غير مطرد بدليل الجَحْشِ الصغير.

(1)

سقط في ت.

(2)

في ب: يعقد.

ص: 641

وَالضَّرُورِيَّةُ الْخَمْسَةُ عَلَى غَيْرِهَا، وَالْحَاجِيَّةُ عَلَى التَّحْسِينِيَّةِ، وَالتَّكْمِيلِيَّةُ مِنَ الْخَمْسَةِ عَلَى الْحَاجِيَّةِ، وَالدِّينِيَّةُ عَلَى الأَرْبَعَةِ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ.

"وكونه جامعًا للحكمة مانعًا لها"، وتوجد الحكمة كلما وجد، وتنتفي كلما انتفى "على خلافه، والمناسبة على الشبهة"؛ لأن الظن الحاصل بها أقوى فقولهم في اثنين: قطع أحدهما من المرفق، والآخر من الكوع القِصَاص على الثاني فقط كما لو قطع أحدهما اليد وحزّ الآخر الرقبة مرجوح بالنسبة إلى قولنا: بل هما قاتلان؛ لأنهما اشتركا في سبب وجوب القصاص، فيلزمهما كما لو اختلف المحلّ بأن قطع أحدهما من جانب، والآخر من جانب؛ لأن حاصل قياسهم شبهي، وهو تشبيه قطع الرقبة بعد الكوع بحزّ الرقبة بعد القطع، ولا مناسبة بينهما بخلاف قياسنا، فإنه مناسب.

الشرح: "والضرورية الخمسة على غيرها، والحاجيَّة، على التحسينيَّة، والتَّكميليَّة من الخمسة على الحاجيَّة والدينية على الأربعة" أي: إذا تعارضت أقسام من المناسبة قدّمت بحسب قوة المصلحة تقدمت الأمور الخمسة الضرورية على غيرها من حاجي أو تحسيني، وقدمت المصلحة الحاجية على التَّحسينية، وقدمت التكميلية من الخمس الضرورية على أصل الحاجية، وإذا تعارضت بعض الخمسة في أنفسها قدمت الدينية على الأربع الأُخر؛ لأنها المقصود.

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات: الآية 56].

"وقيل: بالعكس" أي: تقدم الأربعة الأخر؛ لأنها حقّ آدمي، وهو مبني على الشُّح والمضايقة، بخلاف حقّ الرب؛ فإنه مبني على المسامحة والمساهلة، ولذلك قدم قتل القصاص على قتل الردة عند تزاحمهما، والصَّحيح الأول لحديث:"فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بِالقَضَاءِ"

(1)

.

وأما تقديم قتل القصاص، فقد بَيّنا في "شرح المنهاج" سِرّه، وهو أن الشارع لا مقصد له في إزهاق الأرواح، إنما مقصده دعوة الخلق إليه، وهداهم وإرشادهم، فإن حصل فهو الغاية، وإلا تعين حسم الفساد بإراقة دم مَنْ لا فائدة في بقائه، فإراقة دم المرتد والحربي

(1)

أخرجه مسلم كتاب الصيام ب 27 رقم (154، 155)، وأحمد (1/ 224، 227، 258، 362)، وابن ماجة (1758)، والبيهقي (4/ 255) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، ولفظه: فدين الله أحق بالقضاء.

ص: 642

ثُمَّ مَصْلَحَةُ النَّفْسِ، ثُمَّ النَّسَبِ، ثُمَّ الْعَقْلِ، ثُمَّ الْمَالِ، وَبِقُوَّةِ مُوجِبِ النَّقْضِ مِنْ مَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ عَلَى الضِّعْفِ، وَالاحْتِمَالِ".

"وَبانْتِفَاءَ الْمُزَاحِمِ لَهَا فِي الْأَصْلِ، وَبِرُجْحَانِهَا عَلَى مُزَاحِمِهَا، والمُقْتَضِيَةُ لِلنَّفْي عَلَى الثُّبُوتِ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَبِقُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ، وَالعَامَّةِ فِي الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الْخَاصَّةِ.

إنما هو لعدم الفائدة في بقائه لا لقصد في الإزهاق، فإذا زاحمه قتل القصاص، وكان ولي الدّم لا قصد له إلا التَّشَفِّي باستيفاء ثأر موليه سلمناه إليه؛ فإنه يحصل فيه القصدان جميعًا: تطهير الأرض من المفسدين بإراقة دم هذا الكافر، وتشفّي ولي الدم، ولا كذلك لو قتله الإمام عن الردة، فإنه يبطل مقصد ولي الدم بالأصالة، والجمع بين الحقين أولى.

والحاصل: أن تسليمه إلى ولي الدم ليس تقديمًا لحق الآدمي، بل جمعًا بين الحقّين، فليس مما نحن فيه، فظهر أن الدينية مقدّمة على الأربعة.

الشرح: "ثم مصلحة النفس، ثم النسب، ثم العقل، ثم المال".

فإن قلت: كيف قلتم فيمن زنا وسرق وشرب الخمر: إنه يبدأ بحد القذف، ثم الشرب، ثم الزنا، ثم يقطع في السرقة.

قلت: الحدود تسقط بالشبهة، فلذلك أخرت موضع الخلاف في تقديم حقّ الله - تعالى - أو الآدمي إنما هو فيما لا يسقط كالأموال في الزكاة، والحج ونحوهما.

قوله: "وبقوة موجب النقض" فيه، أي: إذا انتقضت العلّتان، وكان موجب التخلف في أحدهما في صورة النقض أقوى منه في الآخر قدم الأول، وقوته بأن يوجد فيه ما يمكن إحالة النقض عليه "من مانع، أو فوات شرط" دون الصورة الأخرى، إما بأن كان موجب النقض فيها ضعيفًا أو محتملًا للوجود والعدم فيها، فإن قوة موجب النقض راجحة "على الضعف والاحتمال".

الشرح: "وبانتفاء المزاحم بها في الأصل" بألّا يكون معارضة، وتكون الأخرى معارضة "وبرجحانها على مزاحمها" إن كانت [ذات]

(1)

مزاحم، "والمقتضية للنفي على

(1)

في ب: ذا.

ص: 643

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الثبوت" لثبوت [حكمها راجحة أو مساوية، بخلاف المثبتة؛ إذ لا يثبت](1) حكمها إلا راجحة، ولتأييدها بالنفي الأصلي.

"وقيل: بالعكس" وهو المختار؛ لأنها ناقلة تفيد حكمًا شرعيًّا، "وبقوة المناسبة"، كقولنا في المرتدة: بدلت الدين الحقّ بالباطل، فوجب عليها القَتْل كالرجل، فإنه أنسب من قولهم: أنثى فلا تقتل بالكفر قياسًا على الكافرة الأصليَّة؛ لأن جعل الارتداد علَّة العقوبة لائح المناسبة، بخلاف جعل الأنوثة مانعة.

"والعامة من المكلفين على الخاصة" ببعضهم؛ لقوة المناسبة بقولنا: علة ضرب الجزية سكن الدار أرجح من قولهم: حقن الدم؛ لشمول علّتنا للأعمى والزَّمِنِ وغيرهما ممن لا يقتل.

ص: 644

‌التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الفَرْعِ

الفَرْعُ: يُرَجَّحُ بِالْمُشَارَكَةِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَعَيْنِ الْعِلَّةِ، عَلَى الثَّلاثَةِ، وَعَيْنِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْجِنْسَيْنِ، وَعَيْن العِلَّةِ خَاصَّةً عَلَى عَكسِهِ، وَبِالْقَطْعِ بِهَا فِيهِ، وَيَكُونُ الْفَرْعُ بِالنَّصِّ جُمْلَةً لا تَفْصِيلًا.

الشرح: وإليه أشار بقوله: "الفرع يرجّح بالمشَاركة" لأصله "في عين

(1)

الحكم، وعين العلة" معًا "على" القياس الذي يشارك فرعه أصله في الأقسام "الثلاثة" الأخرى، وهي المشاركة في عَيْنِ الحكم وجنس العلة، أو في جنس الحكم، وعين العلة، أو في جنسها. "و" يرجح ما شارك فرعه أصله في "عين أحدهما" إما عين الحكم وجنس العلة، أو عكسه "على" ما شارك فرعه أصله في "الجنسين، وعين العلة خاصة على عكس"، وهو ما شارك فرعه أصله في عين الحكم وجنس العلَّة.

"وبالقطع بها فيه" أي: ويرجّح القياس المقطوع بوجود علّته في الفرع على غيره، كقولنا في نجاسة بول ما يؤكل لحمه: ما يستحيل من الجوف، فأشبه بول الإنسان؛ فإنه أرجح من قول المالكي في تعليل طَهَارته: مائع وردت الرخصّة في إباحة شربه، فإنها صفة مختلف فيها، ولا نقطع بوجودها في الفَرْعِ.

"ويكون الفرع" ثابتًا في أحدهما "بالنَّص جملة" دون الآخر "لا تفصيلًا"، وإلا لثبت الحكم فيه بالنَّص لا بالقياس، الرابع: الترجيح بحسب الخارج، ولم يتعرض له المصنّف؛ لأنه يعرف مما ذكره.

الثاني: الاستدلالان: ولم يتعرض أيضًا لهما كذلك.

(1)

في ب: غير.

ص: 645

‌الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي تَرْجِيحِ المَنْقُولِ وَالمَعْقُولِ

الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ: يُرَجَّحُ الخَاصُّ بِمَنْطُوقِهِ، وَالخَاصُّ لا بمَنطُوقِهِ دَرَجَاتٌ، وَالتَّرْجِيحُ فِيهِ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ لِلنَّاظِرِ، وَالْعَامُّ مَعَ الْقِيَاسِ تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْحُدُودُ السَّمْعِيَّة، فَتُرَجَّحُ بِالألْفَاظِ الصَّرِيحَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَيَكُونُ الْمُعَرِّفُ أَعْرَفَ، وَبِالذَّاتِيِّ عَلَى العَرَضِيِّ، وَبِعُمُومِهِ عَلَى الآَخَرِ؛ لِفَائِدَتِهِ.

وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ؛ لِلاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، وَبِمُوَافَقَتِهِ النَّقْلَ الشَّرْعِيَّ أَو اللُّغَوِيَّ، أَوْ قُرْبَه، وَبِرُجْحَانِ طَرِيق اكْتِسَابِهِ، وَبِعَمَلِ "المَدِينَةِ"، أَوِ الْخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ، أَوِ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْ وَاحِدًا، وَبِتَقْرِيرِ حُكْمِ الحَظْرِ أَو حُكْمِ النَّفْي، وَبِدَرْءِ الْحَدِّ، وَيَتَرَكَّبُ مِنَ التَّرْجِيحَاتِ فِي المُرَكَّبَاتِ، وَالحُدُودِ أُمُورٌ لا تَنْحَصِرُ؛ وَفِيمَا ذُكِرَ إِرْشَادٌ لِذَلِكَ.

الشرح: "المنقول والمعقول" والتعارض بينهما على وجهين؛ لأن المنقول إما عام أو خاص، والخاص إما دالّ بمنطوقه أو بمفهومه.

فنقول: "يرجّح الخاص بمنطوقه" على القياس؛ لتطرّق الخلل إليه، فتعليلنا نقض الوضوء بالمس لحديث:"من مس ذكره" أرجح من قولهم: عضو من أعضاء الإنسان، فلم ينقض كاليد والرجل. "الخاص" الدّال على الحكم "لا بمنطوقه درجات" في القوة والضعف، "والترجيح فيه حسب ما يقع للناظر" من قوة الظن، "والعام مع القياس بعدم" حكمه في أنه هل يجوز التخصيص بالقياس؟ وإلا فهذه وجوه التَّرجيح في الأدلَّة.

"وأما الحدود" فمنها عقلية، كتعريفات الماهيَّات، ومنها سمعية، كتعريفات الأحكام، والذي يتعلق به غرضنا "السمعية، فترجح بالألفاظ الصريحة على غيرها، ويكون المعرف" في أحدهما "أعرف" منه في الآخر، "وبالذاتي على العرضي، وبعمومه" ويرجح أحدهما بكونه أعم "على الآخر لفائدته" المتكثرة بتناوله بحدود الآخر، وزيادة.

ص: 646

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"وقيل: بالعكس"، وهو أن الأخص أرجح "للاتفاق عليه" لتناول الحَدّين له، بخلاف النافي، فإنه مختلف فيه، والمتفق أولى، "وموافقة العقل" السمعي أي "الشرعي، أو اللغوي"؛ فإن الأصل عدم النقل "أو قربه" إلى المعنى المنقول شرعًا أو لغة عنه؛ لأن النقل إن كان للمناسبة، فيكون الأقرب أنسب، فيكون أولى، "وبرجحان طريقة اكتسابه"؛ لأنه أغلب على الظن.

"وبعمل "المدينة" والخلفاء الأربعة" أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم "والعلماء ولو واحدًا، وبتقرير حكم الحظر؛ فإنه أحوط من المقرر لحكم الإباحة، أو حكم النفي لموافقته الأصل، ويدرأ الحد، ويتركب من الترجيحات الواقعة في المركبات، والحدود أمور لا تنحصر، وفيما ذكر إرشاد لذلك، أرشدنا الله لمراضيه.

قال علماؤنا: وهذه الترجيحات منها ما تنهض به الحُجّة في نفسه، ومنها ما لا يستقلّ بنفسه دليلًا، كعمل المدينة والخلفاء، واطراد العلة، وغير ذلك؛ لأنه ليس كل ما صلح للترجيح صلح لأنا يكون في نفسه دليلًا؛ فإن الرجح يتطلب فيه أدنى ظن، وما استقل بنفسه دليلًا أرجح مما لا يستقل، والله الموفق.

فرغت من هذا الشرح في أواخر نهار الأربعاء الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وكانت البراءة

(1)

فيه من مستهلّ سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وهو شرح إذا رآه المنصف عرف أنا أتينا فيه بالعجب العجاب، ودعونا قَصِيّ الإجادة فأجاب، ورُضْنَا عَصِيّ المراد، فزال شماسه وانْجَاب، ودرى أهو الجدير أن يبيد بالقِرى وَهَجَرَ هَجْرَ واصل الكرام، أم الحقيق بأن يضرب له آباط المطي أهل الآراء؛ فإنا وَفَيْنَا بحقّ مختصر حلّت فيه العقد، وقام مصنفه - يرحمه الله - بوظيفة الإيجاز التي قصر دونها كلّ بليغ، وقعّد ورمى المعاني من أمد بعيد، ولم يسلم من حاسد على هذه النعمة، ونعمة الله مقرون بها الحَسَد، صدح على غصون البلاغة ذوات الأفنان، ومنح الطَّالبين جنّة قطوفها دانية لكل قَاصٍ ودانٍ، وشرح صدور الأولياء غير ملتفت إلى الأعداء، وإنما كلام العدا ضرب من الهذيان، فقمنا حق القيام، ورُضْنَا مصاعب النظر بالجدّ والاهتمام، وترقّينا فجر الحقائق حتى تبلّج صُبْحُه والناس نيام، وأعملنا الأفكار، واستخرجنا من الخبَايا الأبْكَار،

(1)

في ت: البداءة.

ص: 647

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واستنزلنا المعاني الطَّائرة من الأوْكَار، وإنا وإن ارتاض لنا بعد هذا الكَدّ من المصاعب شُمُوسها، ودَنَا منا بعد هذا البُعْد في الدَّيَاجر أقمارها، وفي الهَياجر شُمُوسها، واقترب منا عقيب هذا الجد من المطالب نَائيها فأعَدْناها.

وقد ظنَّ دروسها - لن يقدم من يقبح هذه الصورة الجميلة، ويشينها، ويعترض هذه العقلية بما هو عند ذوي التَّحقيق يزينها، ويبتدر هذه الدرة بكلمات ينفق بها سوقها، ويباع سَمِينهَا:[الكامل]

وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نشْرَ فَضيلَةٍ

طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ

لوْلا اشتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَتْ

مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ

وكيف تعدم الذَّامَّ الحسناء، وتفقد حاسدًا يقصد أن يستكفئ من إحسانها الصحيفة والإناء، وأنى يُنَحَّى الكمال ولا يذم الإنحاء، ولا علينا سيطول الزمن قليلًا، ويعود الشغب ثناء جزيلًا، ويقوم الشأن بحمدنا طويلًا، وتكثر الأعوان والأنظار، [وتسكن الدّهماء، ويخمد النقع المثار ويؤسس بناء الإنصاف على]

(1)

التقوى بموت الحاسد والمحسود، فيهدم مسجد الضوار:[الكامل]

وَادْأَبْ عَلَى جَمْعِ الْفَضَائِلِ جَاهِدًا

وَأَدِمْ لَهَا تَعَبَ القَرِيحَةِ وَالحَسَدْ

وَاقْصِدْ بِهَا وَجْهَ الإْلهِ وَنَفْعَ مَنْ

بَلَغَتْهُ مِمَّنْ جَدَّ فِيهَا وَاجْتَهَدْ

وَاتْرُكْ كَلامَ الحَاسِدِينَ وَبَغْيَهُمْ

هَمَلًا فَبَعْدَ المَوْتِ يَنْقَطِعٌ الجَسَدْ

فقد جمعنا - بحمد الله - في هذا الشرح كل جميل جليل، ووضعنا بتمامه عنا الحمل الثقيل، ورفعنا الأيدي بالدعاء لمن أحسن إلينا، ولم يدعنا نعترضه بسبيل ما على المحسنين من سبيل، وهو مولانا ملك الأمر المعز الأشرف العالي المولوي الأميري الكافلي العالمي الزاهدي العلائي أمير على المارداني الحنفي نائب السلطنة الشريفة بـ "الشام" المحروس، الجامع بين العلم والدين، والمانع نفسه إلا عن سلوك سبيل المتقين، والدافع عن الحق حيث لا ناصر ولا معين، الذي أحسن فاطمأنت القلوب، وجاد فجادت القريحة بالمطلوب، وأتى بالجميل على أحسن أسلوب، جزاه الله عنا أفضل الجزاء، وحرسه بعناية تبلغ عَنان

(1)

سقط في ب.

ص: 648

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السماء، وتقبل فيه من مواليه صالح الدعاء، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما يهون علينا مَصَائب الدنيا، ومتّعنا اللّهم بأسماعنا وأبصارنا أبدًا ما أحييتنا، واجعل ذلك الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على مَنْ عادانا، ولا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلّط علينا بذنوبنا مَنْ لا يرحمنا يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين

(1)

.

بعونه تعالى

تمّ الجزء الرابع من كتاب رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب

وهو الجزء الأخير

(1)

ثبت في أ:

ووافق الفراغ من نقل هذا الكتاب المبارك يوم الخميس صباحًا الموافق 21 القعدة من سنة 1304 على يد كاتبه الفقير إلى الله تعالى المحتاج للدعاء ممن نظر في هذا الكتاب: مصطفى الحكيم بن الحاج أحمد الحكيم، اللهم إني أتضرع إليك، وأمُدُّ كَفَّ الافتقار إليك أن نغفر لوالدينا ولمشايخنا ولكل من انتفع بهذا الكتاب من المسلمين أجمعين بجاه سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 649

‌ثبت المراجع

- أ -

آداب اللغة، لجورجي زيدان - طبعة القاهرة 1957.

الآيات البينات، تأليف ابن قاسم العبادي - طبعة بولاق.

الإبهاج لابن السبكي - طبعة دار الكتب العلمية.

الإتقان، للجلال السيوطي - دار التراث بالقاهرة.

أحكام الفصول في أحكام الأصول، للباجي - طبعة دار الغرب الإسلامي.

الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي - طبعة مؤسسة الحلبي.

الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم - تصوير دار الحديث.

الإحياء، للغزالي - دار المعرفة بيروت.

أخبار النحويين، للسيرافي - دار المعارف.

إرشاد الأريب، لياقوت الحموي - مكتبة الحلبي.

إرشاد الفحول للشوكاني - طبعة عيسى الحلبي.

أزمنة التاريخ الإسلامي، للدكتور عبد السلام الترماتيني - طبعة الكويت.

الاستغناء، القرافي - مطبعة الإرشاد بغداد.

الإستيعاب، لابن عبد البر - دار الكتب العلمية بيروت.

أسد الغابة، لابن الأثير - دار الكتب العلمية بيروت.

أسرار العربية، لابن الأنباري بيروت.

أسماء الصحابة الرواة، لابن حزم - دار الكتب العلمية.

أسهل المدارك شرح إرشاد السالك، لأبي بكر بن حسن الكشناوي - عيسى الحلبي.

الأشباه والنظائر، تاج الدين السبكي - دار الكتب العلمية.

الأشباه والنظائر، زين الدين بن نجيم الحنفي - طبعة عيسى الحلبي.

الأشباه والنظائر في النحو، جلال الدين السيوطي - مؤسسة الرسالة.

الإشراف، لابن المنذر - دار الجنان.

الإصابة، ابن حجر - دار الكتب العلمية.

ص: 735

إصلاح المنطق، لابن السكيت - دار المعارف.

أصول السرخسي - طبعة دار الكتب العلمية.

أصول الشاشي - دار الكتاب العربي.

أصول الفقه، أبو زهرة - دار الفكر العربي.

الاعتناء، محمد بن أبي بكر بن سليمان البكري - دار الكتب العلمية بيروت.

الأعلام، الزركلي - دار العلم للملايين.

أعلام الموقعين، ابن القيم - بيروت.

أعلام النساء، لعمر رضا كحالة - مؤسسة الرسالة بيروت.

أعيان الشيعة، لمحسن الأمين - طبعة دمشق.

إغاثة الأمة بكشف الغمة، المقريزي - طبعة القاهرة.

الأغاني، للأصفهاني - دار الكتب المصرية.

الإقناع، الخطيب الشربيني - دار الكتب العلمية بيروت.

الإقناع بحاشية البجيرمي - طبعة الحلبي.

الإكمال، لابن ماكولا - دار الكتب العلمية بيروت.

الأم، للشافعي - دار الكتب العلمية ودار المعرفة.

إمتاع الأسماع، للمقريزي - مطبعة الخانجي.

إنباء الغمر بأبناء العمر، لابن حجر - دار الكتب العلمية.

أنباه الرواة، أبو الحسن علي بن يوسف القفطي - دار الفكر العربي.

الأنساب، السمعاني - دار الكتب العلمية.

الإنصاف، للقاضي أبي بكر الباقلاني - طبعة الخانجي.

الإنصاف، للمرداوي - إحياء التراث العربي بيروت.

أنيس الفقهاء، قاسم القونوي - دار الوفاء.

أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، لابن هشام - مطبعة عيسى الحلبي.

- ب -

البحر المحيط للزركشي - دار الصفوة للطباعة والنشر - تصوير القاهرة.

بدائع الصنائع، الكاساني - دار الكتاب العربي.

بداية المجتهد، لابن رشد - دار مكتبة صبيح القاهرة.

البداية والنهاية، لابن كثير - مؤسسة التاريخ العربي.

البدر الطالع، للشوكاني - مكتبة ابن تيمية.

ص: 736

البرهان، لإمام الحرمين - دار الأنصار.

بغية الملتمس، الحافظ صلاح الدين أبي سعيد - عالم الكتب.

بغية الوعاة، السيوطي - دار الفكر.

البناني على جمع الجوامع - طبعة عيسى الحلبي.

بيان المختصر، لابن الثناء محمود بن أبي القاسم الأصبهاني - السعودية.

البيجرمي على المنهج، للشيخ سليمان البيجرمي - طبعة مصطفى البابي الحلبي.

بينات الحل الإسلامي، يوسف القرضاوي.

- ت -

تاج العروس، الزبيدي - مطبعة حكومة الكويت.

تاريخ الإسلام، الذهبي - دار الكتاب العربي.

تاريخ أصفهان، أبو نعيم - دار الكتب العلمية.

تاريخ بغداد، أحمد بن علي الخطيب - دار الكتاب العربي.

تاريخ التشريع الإسلامي، محمد الخضري - دار الكتب العلمية بيروت.

تاريخ جرجان، للسهمي - طبعة عالم الكتب.

تاريخ الخلفاء، السيوطي - دار الكتب العلمية بيروت.

التاريخ الصغير، للبخاري - دار المعرفة.

تاريخ بغداد، للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي - دار الكتاب العربي بيروت.

التاريخ الكبير، للبخاري - دار الكتب العلمية.

التبصرة، للشيرازي - دار الفكر دمشق.

تبيين الحقائق، للزيلعي - دار المعرفة بيروت.

تبيين كذب المفتري، ابن عساكر - دار الكتاب العربي.

تجديد أصول الفقه الإسلامي، حسن الترابي.

تجريد أسماء الصحابة، للذهبي - دار المعرفة.

التحرير لابن الهمام - مصطفى الحلبي.

تحربر التنبيه، للنووي - دار الفكر.

تحرير القواعد المنطقية، مصطفى البابي الحلبي.

التحصيل من المحصول، للأرموي - مؤسسة الرسالة.

تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، للمباركفوري - دار الكتب العلمية.

تحفة الأشراف، المزي - الدار القيمة.

ص: 737

تخريج الفروع على الأصول، للزنجاني - مؤسسة الرسالة.

تدريب الراوي، السيوطي - دار التراث.

تذكرة الحفاظ، الذهبي - دار الكتب العلمية.

ترتيب القاموس، للفيروزابادي والترتيب للزواوي - عيسى الحلبي.

التعريف لمصطلحات صبح الأعشى، محمد قنديل البقلي.

التعريفات، للجرجاني - المطبعة الحميدية بمصر.

تقريب التهذيب، ابن حجر - دار المعرفة.

تقريب الوصول، لابن جزي - طبعة تونس.

التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج - دار الكتب العلمية.

تلخيص الحبير، ابن حجر - الكليات الأزهرية.

التلويح على التوضيح، لصدر الشريعة - دار الكتب العلمية.

التمهيد للأسنوي - مؤسسة الرسالة.

تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مصطفى عبد الرازق.

تنقيح الفصول للقرافي - مكتبة الكليات الأزهرية.

تهذيب الأسماء واللغات، للنووي - دار الكتب العلمية بيروت.

تهذيب تاريخ دمشق، بدران.

تهذيب التهذيب، لابن حجر - مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند.

تهذيب الكمال، المزي - مؤسسة الرسالة.

تهذيب اللغة، للأزهري - الدار المصرية.

توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، للصنعاني - مطبعة السعادة.

التوضيح على التنقيح، لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود - دار الكتب العلمية.

تيسير التحرير، لأمير بادشاه - مصطفى الحلبي.

ابن تيمية، أبو زهرة - دار الفكر القاهرة.

ابن تيمية، محمد يوسف موسى - دار الكتب الحديثة.

- ث -

الثقات، ابن حبان - مؤسسة الكتب الثقافية.

- ج -

الجامع، معمر - المكتب الإسلامي.

ص: 738

جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر - التوعية.

جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، للحميدي - دار الكتب المصرية.

الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم - دار الكتب العلمية.

الجمع بين رجال الصحيحين، القيسراني - دار الكتب العلمية.

جمع الجوامع بشرح المحلى - طبعة مصطفى البابي الحلبي.

جمهرة النسب، للكلبي - عالم الكتب.

الجنى الداني، الحسن بن قاسم المرادي - دار الكتب العلمية.

الجواهر المضية، أبو محمد عبد القادر بن محمد - طبعة هجر.

الجوهر الثمين، لابن دقماق.

- ح -

حاشية الأزميري - دار الكتب العربية.

حاشية الباجوري - مصطفى البابي الحلبي.

حاشية البناني على المحلى - طبعة الحلبي.

حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى - المطبعة الأميرية ببولاق.

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير - دار إحياء الكتب العربية.

حاشية العطار على جمع الجوامع - تصوير دار الكتب العلمية.

حاشية الملوى على السلم - مصطفى البابي الحلبي.

حاشية نسمات الأسحار، ابن عابدين - مصطفى البابي الحلبي.

حجية السنة، عبد الغني عبد الخالق - المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

الحدود في الأصول، للإمام أبي الوليد الباجي - مؤسسة الزغبي.

الحديث والمحدثون، لأبي زهو - مطبعة مصر.

حسن المحاضرة، للسيوطي - دار إحياء دار الكتب العربية - الحلبي.

حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصبهاني - دار الكتب العلمية.

الحماسة، لأبي تمام - عالم الكتب بيروت.

الحماسة البصرية، الطائي - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.

الحيوان، للجاحظ - دار الجيل.

- خ -

الخبيصي على التهذيب - مطبعة صبيح - القاهرة.

ص: 739

الخرشي على مختصر سيدي خليل - دار الفكر.

خزانة الأدب، عبد القادر بن عمر البغدادي - مكتبة الخانجي.

الخزانة التيمورية - دار الكتب المصرية.

الخصائص، لابن جني - الهيئة المصرية العامة للكاب.

الخطط التوفيقية، علي باشا مبارك - دار الكتب المصرية.

خطط الشام، محمد كردعلي.

خطط المقريزي - مكتبة الثقافة الدينية.

خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد أمين بن فضل الله - بيروت.

خلاصة تهذيب الكمال، الخزرجي - مكتبة القاهرة.

- د -

دائرة المعارف الإسلامية - طبعة الشعب القاهرة.

الدارس في تاريخ المدارس، النعيمي - دار الكتب العلمية.

سنن الدارمي، للدارمي - دار إحياء السنة النبوية.

دراسات في تاريخ المماليك البحرية، علي إبراهيم حسن.

الدراية، لابن حجر - دار المعرفة.

الدر المنثور، السيوطي - دار الكتب العلمية.

الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر العسقلاني - مطبعة المدني.

درر الحكام، منلا خسرو - مطبعة السعادة.

الديباج المذهب، ابن فرحون - دار التراث.

ديوان الإسلام، ابن الغزي - دار الكتب العلمية.

ديوان جميل بثينة - دار صادر بيروت.

ديوان ذي الرمة - عالم الكتب.

ديوان عنترة - دار الكتب العلمية.

ديوان الفرزدق - دار الكتب العلمية.

ديوان أبي نواس - دار صادر.

الذريعة، لابن العماد - دار الكتب العلمية.

- ذ -

ذيل الروضتين، لأبي شامة - القاهرة.

ص: 740

ذيل مرآة الزمان، لموسى بن محمد اليونيني - حيدار آباد.

- ر -

رحلة ابن بطوطة - طبعة مصر.

الرسالة، الشافعي - دار التراث.

رسالة التوحيد، صالح موسى شرف - مذكرة جامعية.

رصف المباني في شرح حروف المعاني، للمالقي - مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.

رغبة الآمل، للمرصفي - القاهرة.

رفع الإصر عن قضاة مصر، ابن حجر - دار الكتب المصرية.

الروض الأُنف، للسهيلي - مكتبة الكليات الأزهرية.

روضات الجنات، للخوانساري.

الروضة، للإمام النووي - طبعة دار الكتب العلمية.

روضة الناظر، ابن قدامة - جامعة الإمام.

- ز -

زوائد الأصول، الإسنوي - مؤسسة الدار الثقافية.

- س -

سر صناعة الإعراب، لابن جني - دمشق.

سلاسل الذهب، الزركشي - مكتبة ابن تيمية.

السلوك، المقريزي - القاهرة.

السنن الكبرى، للإمام البيهقي - تصوير دار المعرفة.

سنن الترمذي، للإمام الترمذي - طبعة مصطفى الحلبي.

سنن الدارقطني، للإمام الدارقطني - تصوير دار المعرفة.

سنن الدارمي - بيروت.

سنن أبي داود - دار الفكر.

سنن ابن ماجه - طبعة عيسى الحلبي.

سير أعلام النبلاء، للحافظ الذهبي - مؤسسة الرسالة.

سيرة ابن هشام - دار التراث القاهرة.

ص: 741

- ش -

شجرة النور الزكية، لمحمد مخلوف - القاهرة.

شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي - دار الكتب العلمية.

شرح أبيات سيبويه، المرزبان السيرافي - مكتبة الكليات الأزهرية.

شرح اختيارات المفضل، التبريزي - دار الكتب العلمية.

شرح أشعار الهذليين - دار الكتب المصرية.

شرح الأشموني - عيسى الحلبي.

شرح التلويح على التوضيح، سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني - دار الكتب العلمية.

شرح تنقيح الفصول، للقرافي - مكتبة الكليات الأزهرية.

شرح الحماسة، المرزوقي.

شرح الخرشي على مختصر خليل - دار الفكر.

شرح السنة، البغوي - دار الكتب العلمية.

شرح شذور الذهب، لابن هشام الأنصاري - مطبعة السعادة بمصر.

شرح شواهد المغني، عبد القادر البغدادي - المأمون للتراث دمشق.

شرح صحيح مسلم للنووي - دار إحياء التراث العربي.

الشرح الصغير، الدردير - طبعة دار المعارف.

شرح العضد على المختصر، للإيجي - دار الكتب العلمية.

شرح ابن عقيل - دار التراث بالقاهرة.

شرح عمدة الحافظ، للسمين الحلبي - عالم الكتب.

شرح فتح القدير، لابن الهمام - دار المعرفة بيروت.

شرح قطر الندى، لابن هشام الأنصاري - مطبعة السعادة.

الشرح الكبير، الدسوقي - الحلبي.

شرح الكوكب المنير، للفتوحي - مطبعة أنصار السنة المحمدية.

شرح اللمع، للشيرازي - دار الغرب.

شرح مختصر المنار، الكوراني - دار السلام بالقاهرة.

شرح المفصل، ابن يعيش - عالم الكتب.

شرح مقدمة ابن الحاجب - مخطوط دار الكتب المصرية.

شرح المنار، ابن ملك - مطبعة دار سعادات.

شرح المهذب، للإمام النووي - مكتبة الإرشاد.

الشريف على مختصر المنتهى، لابن الحاجب - مصطفى الحلبي.

ص: 742

الشعر والشعراء، لابن قتيبة - دار الثقافة.

- ص -

الصبان على شرح السلم - مصطفى الحلبي.

صبح الأعشى، القلقشندي - دار الكتب المصرية.

الصحاح، الجوهري - دار العلم للملايين.

صحيح البخاري - دار الكتب السلفية.

صحيح مسلم، لمسلم بن الحجاج - عيسى الحلبي.

الصغير، الطبراني - دار الكتب العلمية.

صفة الصفوة، لابن الجوزي - دار الكتب العلمية.

- ض -

ضعفاء ابن الجوزي - مكتبة ابن تيمية.

الضعفاء الصغير، للبخاري - دار المعرفة.

الضوء اللامع، السخاوي - دار مكتبة الحياة بيروت.

- ط -

الطالع السعيد، لجعفر بن ثعلب الأدفوي - دار الكتب المصرية.

الطبري، تاريخ الأمم والملوك - دار المعارف القاهرة.

طبقات الأصوليين، عبد الله مصطفى المراغي - القاهرة.

طبقات الحنابلة، لأبي يعلى - السنة المحمدية.

طبقات خليفة - دار طيبة الرياض.

طبقات ابن سعد - دار الكتب العلمية.

طبقات الشافعية، الإسنوي - دار الكتب العلمية.

طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة - عالم الكتب.

طبقات الشافعية، لابن هداية الله - منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت.

طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي - عيسى البابي الحلبي.

طبقات الفقهاء، للشيرازي - دار التراث العربي.

طبقات الفقهاء، للعبادي - ليدن.

طبقات القراء، لابن الجزري - مكتبة المتنبي.

ص: 743

الطرق الحكمية، ابن القيم - تصوير دار الكتب العلمية.

- ع -

العبر، للذهبي - دار الكتب العلمية.

العدة لأبي يعلى - مؤسسة الرسالة.

العصر المملوكي، سعيد عبد الفتاح عاشور - دار النهضة العربية بالقاهرة.

العلل، الرازي - دار المعرفة.

عيون الأخبار، لابن قتيبة - دار الكتب المصرية.

- غ -

غاية المرام، للآمدي - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القاهرة.

غاية النهاية، لابن الجزري - المتنبي.

غاية الوصول، الشيخ زكريا الأنصاري - عيسى البابي الحلبي.

غيث المستغيث، للشيخ السماحي - مطبعة القاهرة.

- ف -

فتاوى معاصرة، يوسف القرضاوي - دار الوفاء.

فتح الباقي، للشيخ زكريا الأنصاري - دار الكتب العلمية.

فتح الرحمن على لقطة العجلان، زكريا الأنصاري - الحلبي.

فتح العزيز شرح الوجيز مطبوع على المجموع - طبعة منير الدمشقي.

فتح الغفار بشرح المنار، لابن نجيم - الحلبي.

الفتح المبين في طبقات الأصوليين - المراغي (عبد الله مصطفى) القاهرة.

فتح المغيث، السخاوي - المكتبة السلفية.

فتح المغيث، العراقي - السلفية.

فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب، زكريا الأنصاري - مصطفى الحلبي.

الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، يوسف القرضاوي.

فقه اللغة، الصاحبي - دار الكتب المصرية.

الفهرست، ابن النديم بيروت.

الفوائد البهية في تراجم الحنفية، اللكنوى - دار المعرفة.

فوات الوفيات والذيل عليها، محمد بن شاكر الكتبي - دار صادر.

ص: 744

فواتح الرحموت، الأنصاري - بولاق.

الفواكه الدواني، أحمد بن غنيم النفزاوي الأزهري - دار المعرفة.

فيض القدير، المناوي - تصوير دار المعرفة.

- ق -

قواطع الأدلة، إمام الحرمين - بيروت.

قواعد الأصول ومعاقد الفصول، صفي الدين الحنبلي - مكتبة الرشد.

القواعد والفوائد الأصولية، ابن اللحام - دار الكتب العلمية.

القواعد المسماة بالمنثور، الزركشي - الكويت.

- ك -

الكاشف على المحصول، للأصبهاني - مخطوط وقد حققناه ولله الحمد والمنة.

الكافي في فقه أهل المدينة، لابن عبد البر - دار الكتب العلمية.

الكافية في الجدل، لإمام الحرمين - عيسى الحلبي.

الكامل لابن الأثير - دار الكتب العلمية.

الكبير للطبراني - مكتبة ابن تيمية.

الكشاف، الزمخشري - تصوير دار الحديث.

كشاف القناع عن متن الإقناع، البهوتي - عالم الكتب.

كثف الأسرار، للنسفي - دار الكتب العلمية.

كشف الظنون، حاجي خليفة - دار الكتب العلمية.

الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي - دار الكتب الحديثة.

الكنز، المتقي الهندي - مؤسسة الرسالة.

الكوكب المنير، الفتوحي - مطبعة أنصار السنة والعبيكان.

- ل -

اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير - دار صادر.

لحظ الألحاظ، ابن فهد - دار الكتب العلمية.

لسان العرب، لابن منظور - دار المعارف.

لسان الميزان، لابن حجر - تصوير دار المعرفة.

ص: 745

اللمع، أبو إسحاق الشيرازي - عيسى الحلبي.

- م -

المبدع من شرح المقنع، لابن مفلح - المكتب الإسلامي.

المبسوط، للسرخسي - دار المعرفة.

مجالس ثعلب - دار المعارف.

المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، سعيد عاشور القاهرة.

المجروحين، لابن حبان - دار الوعي الإسلامي.

مجمع الأزهر - مصطفى البابي الحلبي.

مجمع الزوائد، الهيثمي - مكتبة القدسي.

المجموع شرح المهذب، النووي - المطبعة المنيرية.

محاسن الاصطلاح، للبلقيني - دار الكتب المصرية.

المحتسب، لابن جني - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القاهرة.

المحصول في علم الأصول، الرازي - دار الكتب العلمية والرياض.

المحلى على جمع الجوامع - مصطفى الحلبي.

المحلى على المنهاج - عيسى الحلبي.

مختصر البعلي، ابن اللحام - دار الفكر.

مختصر المنتهى، ابن الحاجب - مطبعة كردستان العلمية القاهرة.

المدخل إلى مذهب أحمد، عبد القادر بن بدران - مؤسسة الرسالة.

مرآة الأصول، منلا حسرو.

مرآة الجنان وعبرة اليقظان، عبد الله بن أسعد اليافعي - مؤسسة الأعلمي.

مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، صفي الدين البغدادي - عيسى البابي الحلبي.

المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم، عبد الله حجازي.

المزهر في علوم اللغة وأنواعها، جلال الدين السيوطي - عيسى البابي الحلبي.

المستدرك على الصحيحين، الحاكم - دار الفكر.

المستصفى، الإمام الغزالي - دار المعرفة.

مسلم الثبوت، محب الدين البهاري - المطبعة الحسينية بمصر.

مسند أحمد - طبعة المكتب الإسلامي.

المسودة في أصول الفقه، آل تيمية - دار الكتاب العربي.

مشكل الآثار، الطحاوي - مطبعة الأنوار القاهرة.

ص: 746

المصباح المنير، الفيومي - طبعة دار المعارف.

المصنف لابن أبي شيبة - طبعة حيدر آباد الهند.

المطلع على أبواب المقنع، محمد بن أبي الفتح الحنبلي - طبعة المكتب الإسلامي.

المعارف، ابن قتيبة - دار الكتب العلمية.

معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، تأليف عبد الرحيم بن أحمد العباس - طبعة عالم الكتب.

المعتمد لأبي الحسين - دار الكتب العلمية.

معجم الأدباء، ياقوت الحموي - طبعة عيسى البابي الحلبي.

معجم البلدان - طبعة دار الكتب العلمية.

معجم طبقات الحفاظ، عبد العزيز السيروان - عالم الكتب.

معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين - طبعة دار الفكر.

معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة - دار إحياء التراث العربي.

المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية.

المعرفة والتاريخ، للفسوي - السعودية.

معرفة علوم الحديث، للحاكم - مكتبة المتنبي.

معيد النعم ومبيد النقم، لابن السبكي - الخانجي.

المغرب في ترتيب المعرب، أبي الفتح المطرزي - مكتبة أسامة بن زيد - حلب.

المغني لابن قدامة - عالم الكتب ومطبعة هجر.

المغني، للقاضي عبد الجبار - دار الكتب.

المغني، لابن الخباز - السعودية.

مغني اللبيب، أبي محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف الأنصاري (ابن هشام الأنصاري) - عيسى الحلبي.

مغني المحتاج، الخطيب الشربيني - دار الكتب العلمية.

مفتاح السعادة، طاش كبرى زاده - حيدر آباد.

مفتاح الوصول، للتلمساني مكتبة الكليات الأزهرية.

المقاصد النحوية، لأبي حيان - مؤسسة الرسالة.

المقتضب، المبرد - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

المقدمة، ابن خلدون - الشعب.

المقدمة، ابن الصلاح - دار الكتب.

ابن ملك على المنار - استانبول.

الملل والنحل، الشهرستاني - دار المعرفة.

ص: 747

مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني - عيسى البابي الحلبي.

المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ابن الجوزي - دار الكتب العلمية.

المنتقى، لابن تيمية - مطبعة أنصار السنة المحمدية.

متهى الإرادات، ابن النجار - عالم الكتب.

المنتهى، لابن الحاجب - الحلبي.

منتهى السول والأمل، الآمدي - صبيح.

المنخول، للغزالي - دار الفكر دمشق.

المنهاج، البيضاوي - مكتبة صبيح.

المنهاج مع النهاية، للإمام النووي - مصطفى الحلبي.

منهاج العقول، البدخشي - تصوير دار الكتب العلمية.

المنهل الصافي، ابن تغري بردي - دار الكتب المصرية.

ميزان الأصول، للسمرقندي مكة المكرمة.

ميزان الاعتدال، للحافظ الذهبي - عيسى الحلبي.

المهذب، للشيرازي - عيسى الحلبي.

موارد الظمآن، ابن حبان - دار الثقافة العربية.

الموافقات، الشاطبي - دار الفكر القاهرة.

المواقف، للإيجي - مصر.

مواهب الجليل، أبو عبد الله الحطاب - دار الفكر بيروت.

موضوعات ابن الجوزي - مكتبة ابن تيمية.

الموطأ، للإمام مالك - عيسى الحلبي.

- ن -

نبراس العقول، لعيسى منون - تصوير مكتبة الجامعة الإسلامية.

نتائج الفكر، للسهيلي - دار الكتب العلمية.

النجوم الزاهرة، لابن تغري بردي - دار الكتب المصرية.

نزهة الأساطين، ابن شاهين الملطي مؤسسة الثقافة.

نزهة الألباء في طبقات الأدباء، أبي البركات الأنباري - مطبعة المدني.

نزهة الخاطر، عبد القادر بن مصطفى بدران - دار الكتب العلمية.

نسمات الأسحار، ابن عابدين - مصطفى الحلبي.

نشر البنود، للشنقيطي - دار الكتب العلمية.

ص: 748

النشر الطيب، إدريس الوزاني - دار الكتب الحديثة.

نصب الراية، للحافظ الزيلعي - تصوير دار المعرفة بيروت.

نظم العقيان، للسيوطي.

نفائس الأصول، شرح المحصول للقرافي - المكتبة التجارية بمكة.

نفح الطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني - دار صادر.

النفحات على شرح الورقات الحلبي.

نقعة الصديان، الصاغاني - دار الكتب العلمية.

نكت الهميان، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي - المطبعة الجمالية بمصر.

نهاية السول، الإسنوي - عالم الكتب.

النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير - دار إحياء التراث بيروت.

النور السافر، العيدروس - بغداد.

نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا التنبكتي ليبيا.

نيل الأوطار، للشوكاني - عيسى الحلبي.

- هـ -

هدية العارفين، إسماعيل بن محمد أمين البغدادي - استانبول.

همع الهوامع، للسيوطي - مكتبة الكليات الأزهرية.

- و -

الوافي بالوفيات، الصفدي - المعهد الألماني.

الوجيز للكراماسني - المكتب الثقافي.

الوصول إلى الأصول، ابن بَرْهان - مكتبة المعارف - الرياض.

وفيات الأعيان، ابن خلكان - دار الثقافة - بيروت.

- ي -

يتيمة الدهر، الثعالبي - دمشق.

ص: 749