الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلسلةُ: ريِّ الظَّمْآن بِمَجالِس شُعَبِ الإيمَانِ (1)
الإِيْمَانُ باللهِ
جل جلاله
تأليف
أبي حمزة غازي بن سالم أفلح
عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه وجميع المسلمين
تقديم
الدكتور عزيز بن فرحان العنزي الدكتور رشاد بن حمود الحزمي
الشيخ عبد العزيز بن يحيى البرعي الشيخ محمد بن عبد الله باموسى
الشيخ نعمان بن عبد الكريم الوتر
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى لمكتبة دروس الدار
1444 هـ - 2022 م
(مزيدة ومنقحة)
رقم الفسح الإعلامي في دولة الإمارات العربية المتحدة دبي
MC-01 - 01 - 7549142
Date-2022 - 04 - 19
الترقيم الدولي
ISBN: -978 - 9948 - 04 - 572 - 4
التصنيف العمري: E
تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن وزارة الثقافة والشباب
للتواصل مع المؤلف: [email protected]
الإمارات العربية المتحدة - الشارقة
البريد الإلكتروني: [email protected]
للتواصل: 00971503667077
تويتر: @ DroosAldar
التقديم للكتاب
تقديم فضيلة الشيخ الدكتور
عزيز بن فرحان العنزي حفظه الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد:
فلا يخفى ما لكتاب الجامع لشعب الإيمان؛ للحافظ البيهقي رحمه الله من المنزلة الكبيرة، والمكانة الرفيعة، عند العلماء، وطلاب العلم، بل وعند الوعاظ والخطباء، وذلك لما اشتمل عليه من الفوائد النفيسة، والفرائد الماتعة، والحكم والأقوال الباهرة.
فهو كتاب عظيم، حوى جملة كبيرة من الأحاديث النبوية، وآثار الصحابة والتابعين، والأقوال والحكم والأشعار في جميع الفنون الشرعية.
وقد قام الإمام البيهقي بإسناد ما أورده الحليمي من الأحاديث والآثار التي ذكرها في شرحه من دون إسناد، وزاد عليها ما شاء الله أن يزيد؛ فجاء موسوعة علمية قلَّ نظيره في بابه.
ولما كانت الأحاديث والآثار التي أوردها البيهقي، منها: الصحيح، والحسن، والضعيف، والموضوع، من خلال عرضها وإجراءها على وَفْقِ القواعد الحديثية، فإن الحاجة ملحة إلى غربلة الكتاب، وتنقيته مما شابه مما لم يصح، وقد انبرى لهذه المهمة، وتجشم لهذا المشروع فضيلة الشيخ غازي بن سالم أفلح، وهو من طلاب العلم الأماثل، وعلى منهاج سليم، -أحسبه والله حسيبه-، وممن لهم عناية بالأحاديث، رواية ودراية،
حيث قام من خلال هذا السفر الموسوم بـ " ريِّ الظمآن بمجالس شعب الإيمان" على اختيار ما صح لديه مما اشتمل عليه الجامع من الأحاديث والآثار، -المتعلقة بأركان الإيمان الستة-، وزاد فيه مباحث ومسائل هامة، جعلته يخرج بهذه الحلة القشيبة، والذي يمثل إضافة هامة للمكتبة الإسلامية، لا سيما وأن هذا المصنف يحتاج إليه المبتدي؛ كما أنه لا يستغني عنه المنتهي.
وأسأل الله تعالى أن يجعله مباركًا نافعًا،
وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد،،،
وكتبه
عزيز بن فرحان العنزي
4 رجب 1443 هـ
مدير مركز الدعوة والإرشاد بدبي سابقا
رئيس اللجنة الأكاديمية بمجلس الأمناء بالجامعة القاسمية
مقدمة الشيخ الدكتور
رشاد بن حمود الحزمي حفظه الله
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين؛
أما بعد:
فقد قرأت كتابَ "ريِّ الظمآن بمجالس شعب الإيمان"، تأليف: الشيخ أبي حمزة غازي بن سالم أفلح البدوي، فوجدته كتاباً مفيداً، ذكر فيه مؤلفه عقيدة أهل الإيمان في أصول الإيمان الستة، من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.
وهو كتاب وافق مضمونه عنوانه، فإن قارئه يرتوي بقراءته، بما يشعر به في نفسه من زيادة الإيمان.
وتتجلى أهمية الكتاب فيما يلي:
1 -
كتابته بأسلوب سهل، يستفيد منه الطالب المبتدي، والعالم المنتهي.
2 -
استيعابه للأدلة من القرآن الكريم في الغالب، مع العناية بالمأثور من تفسيرها من أقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة. مع عزو الأقوال لمن أخرجها من الأئمة في كتب الحديث والتفسير المسندة، والمصنفات وغيرها.
3 -
كثرة الأدلة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع عزوها لمن أخرجها من أئمة الحديث في كتبهم من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء وغيرها. وبيان مرتبتها إن كان الحديث في غير الصحيحين، واعتنائه بذكر أحكام العلماء المتقدمين والمتأخرين على الحديث، واختيار ما يراه صواباً وَفْق القواعد الحديثية. واهتمامه البالغ بألفاظ الحديث، وسياقه مساقاً واحداً، مع ذكر الزيادات، ومن زادها من أهل العلم.
4 -
ذكر أقوال العلماء في الكلام على الأحاديث، بتفسير غريبها، أو حل مشكلها، أو
دفع تعارضها أو غير ذلك.
5 -
اهتمامه بذكر أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم، وعزوها لمن أخرجها من أهل العلم في كتبهم، والحكم عليها صحة وحسناً وضعفاً.
6 -
كثرة المصادر التي نقل منها المؤلف في هذا الكتاب
7 -
كثرة العناوين التفصيلية للكتاب، التي تقرب الاستفادة منه.
وهذا الكتاب تهذيب وشرح لكتاب "الجامع لشعب الإيمان" للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي المتوفى سنة (458 هـ) -رحمه الله تعالى-؛ فأسال الله أن ييسر لمؤلفه إتمامه، فلو تم، لعله أن يكون في أكثر من عشرين مجلداً.
ولقد استفدت من قراءتي لهذا الكتاب، فجزى الله مؤلفه الشيخ غازي بن سالم خيراً، وجعل ذلك في ميزان حسناته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه/
أبو عبدالله رشاد بن حمود الحزمي
في يوم الثلاثاء
21 من شهر رجب الحرام من عام 1443 هـ.
مقدمة فضيلة الشيخ العلامة
عبد العزيز بن يحيى البرعي حفظه الله
القائم على دار الحديث السلفية في اليمن -محافظة إِبّ- مفرق حبيش
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد:
فقد قام الأخ غازي بن سالم أفلح، بتأليف كتاب "ري الظمآن بمجالس شعب الإيمان" سائرا على منوال كتاب شعب الإيمان للبيهقي، آخذا منه ومضيفا عليه مع حذف الأحاديث الضعيفة، وإبقاء عامة الأحاديث الصحيحة، وحشد فيه من الفوائد العلمية من كلام أهل العلم ما جعل الكتاب مرجعا في بابه، وقد ألقى ذلك في أكثر من مائة مجلس، منها سبعة وثلاثون مجلسا في أركان الإيمان الستة.
أسأل الله أن يثبت بذلك إيمانه ويعلي درجته،
والحمد لله رب العالمين.
كتبه
عبد العزيز بن يحيى البرعي
18 رجب 1443 هـ
مقدمة الشيخ المحدث
أبي عمار محمد بن عبد الله باموسى حفظه الله
القائم على دار الحديث ومركز السلام العلمي للعلوم الشرعية اليمن -الحديدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للَّه الذي جعل الإِيمان شُعبًا، والصلاةُ والسَّلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بمبعثه حُرِسَت السَّماء، ورُجمت الشياطين شُهبًا، وآله وصحبه الحائزينَ الشرف والفضل النُّجَبَا، والتَّابعين لهم بإحسان ومَنْ إليهم انتسبا
(1)
. أما بعد:
فإن الإيمان الذي يشمل الأعمال، وأنواعها، وأجناسها بضعٌ وسبعون شعبة، وهذه الشعب هي الأعمال الشرعية، التي تتشعب وتتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن. وتتفاوت هذه الشعب في مراتبها من الإيمان، فمنها ما يكون في أعلى مراتب الإيمان، ومنها ما يكون في أدناها، وما بين أعلى الإيمان وأدناه شعب متعددة.
قال ابن القيم رحمه الله: الإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة تسمى إيماناً ظاهرًا كان أو باطنًا، فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والحج من الإيمان، والصيام من الإيمان، والأعمال الباطنة من الإيمان، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً ا. هـ
(2)
.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضعٌ وسبعون أو بضعٌ وستون شُعْبة» ، المراد بذلك أنَّ خصال الإيمان لا تخرج عن هذا العدد
(3)
، وأنَّها متفاوتة، فتدخل فيها أعمال القلوب،
(1)
مقتبسة من مقدمة الزبيدي رحمه الله، على «شعب الإيمان» .
(2)
«الصلاة وأحكام تاركها» (ص: 55) بتصرف.
(3)
قد يشكل هنا أن تفاصيل أفعال الخير من واجبات ومستحبات تفوق العدد المذكور في الحديث، وقد أجاب أهل العلم عن هذا الإشكال بعدة أجوبة، ذكرها ابن رجب رحمه الله في «فتح الباري» (1/ 30 - 31).
وأعمال الجوارح، وأعمال اللسان، والحديث جمع هذه كلها.
فمثَّل لأعمال اللسان بقول: «لا إله إلا الله» . ولأعمال القلوب بـ: «الحياء» . ولأعمال الجوارح: بـ: «إماطة الأذى عن الطريق» .
والحديث كذلك جمع أركان الإيمان الثلاثة المجمع عليها: القول والعمل والاعتقاد
(1)
.
وكتاب "شعب الإيمان" للإمام البيهقي رحمه الله يعتبر من الموسوعات العلمية الكبرى التي صنفها الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي رحمه الله، وهو عبارة عن شرح لحديث:«الإيمان بضعٌ وسبعون شُعْبة» ، وقد حاول رحمه الله سرد هذه الشعب وذِكر الأدلة المتعلقة بها، وقد أبدع رحمه الله في ذلك غاية الإبداع.
والكتاب على جلالة قدره فيه أحاديث مختلفة المراتب، ففيه الصحيح، والحسن، والضعيف، وشديد الضعف، وفيه بعض الموضوعات وهي قليلة.
هذا وقد قام فضيلة الشيخ المحدِّث أبي حمزة غازي بن سالم أفلح، وفقه الله، بعقد مجالس للمدارسة في هذا الكتاب المبارك بلغت أكثر من مائة مجلس، فُرِّغ منها سبعة وثلاثون مجلسًا، وعمله وفقه الله، في كتاب البيهقي كعمل المزي رحمه الله في "الكمال"
(2)
:
* فقد اختار الشارح من كتاب البيهقي الصحيح وما قاربه،
* ثم زاد عليه زيادات صحيحة من خارج الكتاب، كما زاد البيهقي نفسه على كتاب الحليمي رحمه الله المسمى بـ:"المنهاج المصنَّف في شعب الإيمان".
* ثم قام وفقه الله، بشرح المهذب منه شرحًا ميسرًا سهلًا ممتنعًا قريبًا من جميع القرَّاء على اختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم وطبقاتهم العلمية،
(1)
انظر: «التمهيد» لابن عبد البر (9/ 238)، «الفتاوى» لابن تيمية (7/ 330)، «اجتماع الجيوش الإسلامية» لابن القيم (ص: 218)، رحمة الله على الجميع
(2)
انظر: مقدمة «تهذيب الكمال» (1/ 43 - 48) لبشار عواد؛ لمعرفة عمل المزي رحمه الله في كتاب «الكمال في أسماء الرجال» للحافظ الكبير أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الجماعيلي رحمه الله.
* وقد نثر في هذه المجالس العلمية المباركة:
• دررًا من العلوم والفنون وبدائع الفوائد،
• وفوائد القلائد،
• وغرائب الفرائد،
• ونوادر الشوارد،
• فهو كتاب جليل القَدْر، والكتاب يترجم لكاتبه.
أسأل الله العظيم أن يحيينا بشعب الإيمان وفي شعب الإيمان،
وأن يتوفانا على أعلى مراتب شعب الإيمان،
والله تعالى أعلم، وهو أعز وأكرم،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه:
العبد الفقير إلى مولاه الغني القدير
أبو عمار محمد بن عبد الله (باموسى)
القائم على دار الحديث ومركز السلام العلمي للعلوم الشرعية اليمن -الحديدة
عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه وجميع المسلمين.
29/ جمادى الآخرة/ 1443 هـ
مكة المكرمة، شعب عامر، جبل السودان
مقدمة الشيخ الفقيه
نعمان بن عبد الكريم الوتر حفظه الله
القائم على دار الحديث السلفية في مدينة دار السلام، اليمن، يختل، المخا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد طلب مني الاطلاع على كتاب "ريّ الظمآن بمجالس شعب الإيمان" والتقديم له، فألفيته كتابا قيما نافعا مفيدًا عقد فيه مؤلفه الشيخ المفضال المبارك غازي بن سالم أفلح حفظه الله مجالس عدة لشرح كتاب "شعب الإيمان" للحافظ البيهقي رحمه الله، تم تفريغ الكثير منها ويلاحظ القارئ الجهدَ المبرورَ للشيخ غازي في هذه المجالس حيث اختار ما صح، وزاد ما تدعوا الحاجة إليه، وتقريبه، وتهذيبه، وشرحه شرحا رائقا، ميسرا، مرصعا بالفوائد القيمة، فصارت مجالسَ مستطابة، فيها العديد من الفواكه الشهية، والأفنان النَّدية، جزاه الله خيرا، وكتب أجره، ونفع به، وجعل أعمالنا وأعماله خالصة لوجهه الكريم، نافعة لنا وله ولمن شاء من عباده في الدنيا ويوم الدين،
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
وكتبه
نعمان بن عبد الكريم الوتر
11 رجب 1443 هـ
مقدمة الطبعة الثانية
الْحَمد لله رب الْعَالمين حمدا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ، حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على خير خلقه وأفضل رسله، وأمينه على وحيه، نبينا محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى صحابته، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فهذه هي الطبعة الثانية من هذه السلسلة المباركة، جعلتها مقسمة إلى أجزاء سبعة، يتضمن كل جزء منها الحديث عن ركن من أركان الإيمان الستة، على هذا الترتيب الإيمان بالله، ورسله، وملائكته، وكتبه، والقدر خيره وشره، ثم الإيمان باليوم الآخر، ثم الإيمان بالجنة والنار، وقد كانت الطبعة الأولى في مجلدين كبيرين، فرأيت أن تكون هذه الطبعة مجزأة على هذه الأجزاء ليسهل الانتفاع بها، وقد راجعتها وصححت بعض الأخطاء في الطبعة الأولى، وزدت فيها زيادات -يسيرة- في مواضع عدة من مباحث الكتاب.
فأسأل المولى -جل وعلا- أن يتقبل مني هذا العمل وأن يرزقني الإخلاص والقبول إنه خير مسؤول وهو حسبي ونعم الوكيل
وكتبه
أبو حمزة غازي بن سالم أفلح
19 من ذي الحجة 1443 هـ
مقدمة الطبعة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فهذه مجالس في مدارسة كتاب «الجامع لشعب الإيمان» للحافظ الإمام أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي، المولود في سنة (384) والمتوفى في سنة (458 هـ) رحمه الله.
نبذة عن الإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي:
وهو أحد الأئمة الكبار المشهورين بالحديث، وهو من محدثي فقهاء الشافعية الجامعين بين الحديث والفقه.
بل قال الحافظ ابن عساكر (ت: 571 هـ) رحمه الله: سَمِعت الشَّيْخ أَبَا بكر مُحَمَّد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حبيب العامري بِبَغْدَادَ يَقُول سَمِعت من يَحْكِي عَنْ الإِمَام أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ رحمه الله، أَنه قَالَ: مَا من شَافِعِيّ إِلَّا وَللشَّافِعِيّ عَلَيْهِ منَّة إِلَّا أَحْمد الْبَيْهَقِيّ فَإِنْ لَهُ على الشَّافِعِي مِنَّة لتصانيفه فِي نصْرَة مذْهبه وأقاويله أَوْ كَمَا قَالَ ا. هـ
(1)
(1)
تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري (ص: 266) - وعنه شرف الدين علي بن المفضل المقدسي (ت: 611) في كتاب "الأربعون على الطبقات"(ص: 515)، وانظر أيضا: طبقات الفقهاء للشيرازي ط القلم (ص: 233)، الطبقات الكبرى للسبكي: 4/ 10 في ترجمة البيهقي.
وعلق الذهبي رحمه الله على قول أبي المعالي فقال: أصاب أبو المعالي، هكذا هو، ولو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهبا يجتهد فيه، لكان قادرا على ذلك، لسعة علومه، ومعرفته بالاختلاف، ولهذا تراه يلوح بنصر مسائل مما صح فيها الحديث ا. هـ
(1)
وقال أبو الحسن عبد الغافر الفارسي رحمه الله: كان على سيرة العُلماء، قانِعًا من الدُّنيا باليسير، مُتَجَمِّلًا في زُهْدِهِ وورعه. عاد إلى النّاحية في آخر عُمْرِه، وكانت وفاته بها. وقد فاتني السَّماع منه لغيبة الوالد، ولانتقال الشّيخ آخر عمره إلى النّاحية. وقد أجاز لي
(2)
.
ونقل ابن عبد الهادي عن عبد الغافر أنه قال في "ذيل تاريخ نَيسَابور": أبو بكر البَيْهَقي الحافظ الأُصولي، الدَّيِّن الوَرع، واحد زمانه في الحِفْظ، وفَرْد أقرانه في الإِتقان والضَّبْط، من كبار أصحاب الحاكم، ويزيد عليه بأنواع من العلوم، كتب الحديث، وحَفِظَه مِنْ صباه، وتفقَّه وبَرَعَ، وأخذ في الأصول، وارتحل إلى العراق والجبال والحجاز، ثم صنَّف، وتواليفه تقارب ألف جُزْء مما لم يسبقْه إليه أحد، جمع بين عِلْم الحديث والفِقْه وبيان علل الحديث، ووَجْه الجَمْع بين الأحاديث، طلب منه الأئمة الانتقال من النَّاحية إلى نَيسابور لسماع الكتب، فأتى في سنة إحدى وأربعين، وعقدوا له المجلس لسماع كتاب "المعرفة" وحضره الأئمة، وكان على سيرة العُلَماء، قانعًا باليسير، متجملًا في زُهْده وورعه.
قال ابن عبد الهادي رحمه الله: مات البَيْهَقِي بنَيسَابور في عاشر جُمَادى الأُولى من سنة ثمانٍ وخمسين وأربع مئة، ونُقِل في تابوت فدفن ببَيْهَق، وهي ناحية من أعمال نَيسَابور على يومين منها. وخُسْرَوْجِرْد: هي أم تلك النَّاحية.
(3)
من مؤلفات الإمام البيهقي:
تقدم قول تلميذه بالإجازة أبي الحسن عبد الغافر الفارسي:
…
وتواليفه تقارب ألف
(1)
سير أعلام النبلاء ـ تح الأرناؤوط (18/ 169)
(2)
تاريخ الإسلام ت بشار (10/ 96)
(3)
طبقات علماء الحديث (3/ 331) لابن عبد الهادي
جُزْء مما لم يسبقْه إليه أحد، جمع بين عِلْم الحديث والفِقْه وبيان علل الحديث، ووَجْه الجَمْع بين الأحاديث ا. هـ ومن مصنفاته النافعة، ومؤلفاته السائرة:
1 -
السنن الكبرى
2 -
والمدخل إلى السنن الكبرى
3 -
والسنن الصغير
4 -
ومعرفة السنن والآثار
5 -
والأسماء والصفات
6 -
ودلائل النبوة
7 -
والجامع لشعب الإيمان
8 -
ومعرفة السنن والآثار
9 -
والقراءة حلف الامام
10 -
والبعث والنشور
11 -
والاعتقاد
12 -
والقضاء والقدر
13 -
وإثبات عذاب القبر
14 -
والآداب
15 -
والأربعون الصغرى
16 -
والدعوات الكبير
17 -
مناقب الشافعي
18 -
فضائل الأوقات
19 -
حياة الأنبياء في قبورهم
20 -
الزهد الكبير
وغيرها كثير، وكتبه مسندة، وكثير منها مطبوع وهي عظيمة النفع.
كتاب شعب الإيمان:
وكتابه «الجامع لشعب الإيمان» :
1 -
كتاب مسند جمع فيه الحديث والأثر
2 -
بناه على كتاب «الْمِنْهَاجِ الْمُصَنَّفِ فِي شُعَبِ الْإِيَمانِ» للحافظ أبي عبد الله الْحُسَيْن بْنِ الْحَسَنِ الْحَلِيْمِيَّ رحمه الله
(1)
3 -
واقتدى به في تقسيم الأحاديث على الأبواب،
4 -
وحكى من كلامه عليها ما يتبين به المقصود من كل باب،
5 -
وزاد عليه بذكر الأسانيد - على رسم أهل الحديث -
6 -
مع الاقتصار على ما لا يغلب على القلب كونه كذبا.
7 -
ومقتصرا على إخراج ما يتبين به بعض المراد
8 -
وأحال للتفصيل والإسهاب على كتبه الأخرى المؤلفة في الاعتقاد خوفا من الملال في الإطناب. مثل: «كتاب الأسماء والصفات» و «كتاب الإيمان» و «القدر» و «الرؤية» و «دلائل النبوة» ، و «البعث والنشور» و «عذاب القبر» و «الدعوات» ، و «السنن»
هذه المجالس:
وقد رغبت منذ زمن في مدارسة «الجامع لشعب الإيمان» مع الطلاب رجاء الانتفاع بعلومه وفوائده وبدأت في تدارسه مع بعض طلبة العلم في 23 من شوال 1430 هـ، ولم يكتب لنا الاستمرار؛ ثم هيأ الله تعالى العودة إليه مرة أخرى وكان البدء في مجالسه في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر شعبان من عام 1441 هـ وقد تم عقد نحو من مائة مجلس، فاللهم أعنا على التمام.
(1)
هو: الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم القاضي أبو عبد الله الحَليمي الجرجاني البخاري الفقيه الشافعي العلامة رئيس المحدثين والمتكلمين بما وراء النهر أحد الأذكياء الموصوفين ومن أصحاب الوجوه في المذهب. ولد في سنة (338) وتوفي سنة (403 هـ). سمع منه: البيهقي، وأكثر النقل عنه في كتابه شعب الإيمان، وكان البيهقي يثني عليه ويقول: قال إمامنا وشيخنا شيخ الإسلام. وروى عنه أيضًا: أبو عبد الله الحاكم صاحب المستدرك. انظر: إتحاف المرتقي بتراجم شيوخ البيهقي (ص: 150)
هذا وقد قام مجموعة من إخواني طلبة العلم جزاهم الله خيرًا:
1 -
بتفريغ سبعة وثلاثين مجلسا من هذه المجالس وهي المتعلقة بأصول الإيمان الستة
2 -
ثم مراجعتها،
3 -
وتصحيحها،
4 -
راغبين في تهيئتها للطبع ليعم نفعها ويسهل اقتناص فوائدها،
وقد قمت:
1 -
بقراءة ما قاموا بتفريغه ومراجعته وتصحيحه.
2 -
وعملت على توثيق النصوص والأقوال وتخريج الأحاديث والآثار
3 -
وحذفت ما لا حاجة إليه
4 -
وأضفت ما لا بد منه
5 -
كما قمت بإبراز فوائدها في عناوين واضحة
ولا شك أن الإلقاء والتدريس غير التأليف، فهذا فن وهذا فن، ولكن سددوا وقاربوا.
6 -
وسميته:
ري الظمآن بمجالس شعب الإيمان
المنهج المتبع في ري الظمآن:
1 -
وهذا الكتاب: وإن سرت فيه على سَنَنِ كتاب البيهقي رحمه الله
2 -
إلا أني: عملت على تهذيب كتابه
3 -
وأثبت منه بعض ما صح لدي
4 -
وأعرضت عما رأيت أنه من الضعيف الذي لا يحسن إيراده هنا
5 -
وربما ذكرت شيئا من ذلك، لكن مع بيان ضعفه
6 -
وما سكت عنه فهو ثابت عندي
7 -
وأضفت مباحث كثيرة وفوائد عديدة نثرتها في ثنايا المجالس
8 -
وهذا القسم -من المجالس- خاص بالحديث عن شعب الإيمان المتعلقة بالأركان الستة للإيمان.
9 -
فجعلت "الإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه والقدر خيره وشره" في مجلد، ثم خصصت المجلد الثاني بالحديث عن شعبة "الإيمان باليوم الآخر".
وعملي -فيما أحسب- شبيه بعمل الحافظ المزي رحمه الله الذي قام على تهذيب كتاب «الكمال في أسماء الرجال» للحافظ المقدسي رحمه الله، وإصلاح ما وقع فيه من الوهم والاغفال، واستدراك ما حصل فيه من النقص والإخلال. لكني لم أستوعب كل ما عند البيهقي في كتابه المذكور، وتركت جملة من مسائله، وقصدت أن أقتصر على بعض ما يصح ويفيد، وأضفت ما يعين على فهم المسائل وتكميلها، وتوضيح الدلائل وتقريب فهمها وجعلت معها من الفوائد الفرائد ما هو متصل بالأصل وعليه مزيد. فإن وفقت لذلك فالحمد لله وله الفضل والمنة، وإن أخطأت -والخطأ لابن آدم لازم لازب- فمني والشيطان، وأستغفر ربنا الرحيم الرحمن.
وجزى الله خيرا من وجد خطأ فدل عليه وأصلحه
والله أسأل التوفيق والسداد،
{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود]
كتبه العبد الفقير إلى مولاه الغني
أبو حمزة غازي بن سالم أفلح البدْوِيِّ
في الثاني والعشرين من شهر الله المحرم من عام 1442 هـ
كلمة شكر
وختاما فإني أشكر الله تعالى أولا وآخرا على ما من به وتفضل.
ثم انطلاقا من قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم القائل «مَنْ لَا يَشْكُرِ النَّاسَ لَا يَشْكُرِ اللَّهَ»
(1)
؛
فإني أشكر كل المشايخ الكرام الذين تفضلوا بالنظر في مضامين الكتاب، والتقديم له تشجيعا لأخيهم، مع كثرة مشاغلهم، وضيق وقتهم. ومنهم: الشيخ الدكتور عزيز بن فرحان العنزي، والشيخ العلامة عبد العزيز البرعي، والشيخ محمد بن عبد الله باموسى، والشيخ نعمان الوتر، والشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الحمادي.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في شكر المعروف (4813)؛ والترمذي في جامعه، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك (2081)؛ وأحمد في المسند (2/ 258، 295، 302، 388، 461، 492)، والبخاري في الأدب المفرد، باب من لم يشكر للناس (218)، وابن حبان في صحيحه، كما في الإحسان لابن بلبان الفارسي، كتاب الزكاة، باب المسألة والأخذ وما يتعلق به من المكافأة والثناء والشكر، (3407)؛ والبيهقي في شعب الإيمان، الثاني والستون من شعب الإيمان، رد السلام (8696)، من طرقٍ عن الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه به. وسنده صحيح على شرط مسلم؛ وله شواهد، انظر السلسلة الصحيحة (416، 667)، وهو في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين لشيخنا مقبل رحمه الله.
فائدة: قال المنذري في الترغيب والترهيب: روي هذا الحديث:
• برفع (الله) وبرفع (الناس)
• وروي أيضا بنصبهما
• وبرفع (الله) ونصب (الناس)
• وعكسه أربع روايات ا. هـ
ونقل المناوي في فيض القدير نحوه عن ابن العربي، ثم قال: قال الزين العراقي: والمعروف المشهور في الرواية نصبهما. ا. هـ
ثم أخص بالذكر الأخ الشيخ الدكتور رشاد الحزمي -حفظه الله- الذي تفضل بقراءة الكتاب كاملا، وأفادني بملاحظاته القيمة التي ازدان بها البحث. والشكر موصول أيضا إلى المشايخ الذين نظروا في بعض المواضع من الكتاب وأفادوا بملاحظات نافعة، كان لها الأثر في تقويمه، وتصحيحه، مع ما صاحب ذلك من تشجيع كاتبه.
وأشكر القائمين على مركزنا المبارك مركز محمد سالم بن بخيت، لتحفيظ القرآن الكريم بدبي، والذي قام على تنظيم هذه المجالس، والتنسيق لها، ورعايتها. فجزاهم الله خيرا
والله تعالى أسأل أن يتقبل مني هذا العمل بقبول حسن
والحمد لله رب العالمين
للتواصل مع المؤلف:
واتس: 00971505861717
تمهيد
حديث شعب الإيمان وبيان حقيقة الإيمان
المجلس الأول
(1)
حديث شعب الإيمان
فضل العلم:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا،
أما بعد: فهذه المجالس، من المجالس العظيمة التي يحتاجها المسلم؛ فحاجة المسلم إلى مجالس العلم والعلماء حاجة عظيمة؛ فإنه كما أُثِر عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال:«الناس إلى العلم أحوجُ منهم إلى الطعام والشراب؛ لأنَّ الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجتُه إلى العلم بعدد أنفاسه»
(2)
.
وقد ابتُلِينا في هذه الأيام وفي هذه الأزمان بالإعراض عن العلم وعن مجالسه، مع تيسُّر الحصول عليه وقُرب العلماء عن طريق هذه الوسائل العظيمة التي منَّ الله -جل وعلا- بها علينا من الوسائل السمعية والمرئية وغيرها مما تيسر في هذه الأزمان ولم يكن موجودًا من قبل، ومع ذلك فالعلم عند الناس قليل، والإقبال عليه ضعيف إلا من رحم الله -جل وعلا-. فنصيحتي لنفسي ولإخواني بالإقبال على طلب العلم والانتفاع به وحضور مجالس العلماء والاستفادة؛ فإن طلب العلم من العبادات العظيمة التي يتقرب بها العبد إلى ربه -جل وعلا- لا سيَّما في زمن البلاء وزمن الفتن؛ فنبينا صلى الله عليه وسلم يقول:«الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»
(3)
.
(1)
المجلس الأول كان في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر شعبان 1441 هـ.
(2)
مدارج السالكين (2/ 440).
(3)
أخرجه مسلم (2948) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.
ومن أعظم العبادات طلب العلم:
طلبُك للعلم وحضورك لمجالس العلم والاستفادة سماعًا، أو رؤيةً، أو قراءةً أو استفسارًا؛ فكلُّ ذلك من العلم الذي يقربك ويدنيك إلى الله. يقول عليه الصلاة والسلام:«وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ»
(1)
.
فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا» ، فـ (طريقًا): نكرة في سياق الشرط تفيد العموم؛ فأيّ طريق تسلكه من الطرق المعلومة في طلب العلم، سواء الطرق الحسية وذلك بالمشي إلى حلق العلم، أو الطرق المعنوية بأن يمشي الإنسان في طريق العلم بقراءة الكتب النافعة التي ألفها من يوثق بعلمهم ودينهم، ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من المحققين من أهل العلم، فكل ذلك مما يشمله الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم:«يَلْتَمِسُ» يعني يطلب ولو شيئًا يسيرًا سواء حصّله أم لم يحصله، وقوله:«عِلْمًا» نكرة في سياق الإثبات فيدخل في ذلك كل ما هو من العلم ولوكان قليلا.
والبشارة في آخر الحديث «سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» فما دام أنه سلك بنفسه هذا الطريق العظيم فإن هذا مما يدنيه من جنة عرضها السماوات والأرض.
-"جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة"-، فأحبوا العلم من قلوبكم وأقبلوا على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبارَكْ لكم في أوقاتكم ويبارك لكم في أعماركم ويبارك لكم في صحتكم. -نسأل الله -جل وعلا- أن يُحبِّب إلينا العلم الشرعي-.
وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا» . تقول أمُ سَلَمَة رضي الله عنها: كان يدعو بذلك دُبُرَ كلِّ صلاةِ فجرٍ
(2)
.
وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله «مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ»
(3)
. وأمره ربه -جل وعلا- بالدعاء بأن يزداد علما فقال سبحانه وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114].
(1)
أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (26521)، وابن ماجه (925)، وصححه الألباني في «تمام المنة» (ص 233)
(3)
مسلم (2722) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا»
(1)
.
فيا عبد الله: أنقذ نفسك من الجهل بدين الله -جل وعلا-.
فإن الجهل قد يؤدي بصاحبه إلى التهلكة كما في حديث جَابِر رضي الله عنه قال: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ،
…
»
(2)
، دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم سئلوا فأفتوا بغير علم، وقد أدت هذه الفتوى إلى موت هذا الصحابي رضي الله عنه.
بل قد جاء في السنة ما يدل على أن الفتوى بغير علم قد تكون سببًا لمقتل صاحبها، ففي "الصحيحين"
(3)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً
…
»، الحديث.
كانت هذه الفتوى المبنية على غير علم سببًا لمقتل صاحبها.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يُوفِّقنا وإيَّاكم إلى كل خير.
حديث شعب الإيمان:
وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الْإِيَمانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ-أَوْ قَالَ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ-شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» . وهذا الحديث أخرجه الشيخان في صحيحيهما وأهل السنن وأحمد في المسند وابن حبان في صحيحه وافتتح به البيهقي كتابه هذا "شعب الإيمان"، وهو مبثوث في دواوين الإسلام. وهو حديث عظيم وقد
(1)
أخرجه أبو داود (5061)، بسند ضعيف عن عائشة رضي الله عنها وحسنه الحافظ في نتائج الأفكار (1/ 116). وضَعَّفَه الألباني في الكَلِمِ الطَّيبِ (45)، وفي "المشكاة"(1214)، وأخرجه الترمذي (3599)، وابن ماجة، (251) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ:"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا» وصَحَّحَهُ الألباني في "صَحِيحُ الترمذي" (3599) وانظر: «السلسلة الصحيحة» (7/ 431).
(2)
أخرجه أبو داود (336)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (364).
(3)
أخرجه البخاري (3470) ومسلم (2766).
اختلفت رواياته، كما سيأتي. وفي سماعه تحفيز لكل موفق أن يسعى لمعرفة هذه الشعب العظيمة للعلم والعمل بها.
فصل في ذكر روايات الحديث:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه في شعب الإيمان:
1 -
رواه البخاري بلفظ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»
2 -
ورواه مسلم بلفظ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»
3 -
4 -
ورواه ابن ماجه بلفظ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ سَبْعُونَ بَابًا، أَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»
5 -
ورواه أبو داود بلفظ «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ: أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْعَظْمِ عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»
6 -
ورواه النسائي بلفظ «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَوْضَعُهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»
7 -
ورواه الترمذي وأحمد بلفظ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، فَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
8 -
وفي رواية للترمذي ولأحمد: «الإِيمَانُ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ بَابًا» زاد أحمد «أَرْفَعُهَا وَأَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»
(1)
(1)
قلت: الحديث:
1.
بلفظ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» ، رواه البيهقي بإسناده عن أبي عمرو أحمد بن المبارك المستملي، وأبي سعيد محمد بن شاذان الأصم قالا: حدثنا أبو قدامة عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي هريرة به. ورواه ابن حبان في صحيحه (167) قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي حدثنا أبو قدامة به. ورواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1306) قال: أنا أحمد بن محمد بن غالب، قال: أنا عبيد الله بن محمد بن علي بن زياد النيسابوري، قال: نا عبد الله بن محمد شرويه، قال: نا عبيد الله بن سعيد به. ومن هذه الطريق رواه مسلم قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ -هو أبو قدامة- وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِىُّ به لكن لفظه «بضع وسبعون»
2.
فالظاهر أنه لفظ عبد بن حميد فقد اجتمع ثلاثة عن أبي قدامة بلفظ «بضع وستون»
3.
ورواه البخاري: في صحيحه (9) قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِىُّ به بلفظ «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً» .
4.
ورواه الخرائطي في مكارم الأخلاق ومعاليها (307) قال: حدثنا أبو عبيد الله حماد بن الحسن بن عنبسة الوراق ثنا أبو عامر به بلفظ «بضع وستون» .
5.
ورواه النسائي (5019) قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ به بلفظ «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً»
6.
ورواه ابن حبان (190) قال: أخبرنا حبان بن إسحاق بالبصرة قال: حدثنا الفضل بن يعقوب الرخامي قال: حدثنا أبو عامر العقدي به ولفظه «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابَاً»
7.
ورواه ابن منده في الإيمان (144) قال: أخبرنا أبو عبدالله محمد بن سعيد بن إسحاق وأحمد بن محمد بن إبراهيم الوراق قالا أنبأ أحمد بن عصام بن عبد الجديد الحنفي ثنا أبو عامر العقدي به بلفظ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شعبةً» ؛ والحاصل أنه جاء عن أبي عامر باللفظين: فرواه عبد بن حميد ومحمد بن عبد الله بن المبارك والرخامي وأحمد بن عصام عن أبي عامر بلفظ «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ» ؛ ورواه أبو قدامة وعبد الله بن محمد وحماد بن الحسن عن أبي عامر بلفظ «بِضْعٌ وَسِتُّونَ» . والرواية الأخرى لمسلم: رواها البيهقي بإسناده عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وعمرو بن زرارة الكلابي قالا: حدثنا جرير، عن سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به. بلفظ:«الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ، أَوْ سَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» .
قلت: وعن سهيل رواه جماعة منهم:
1.
جرير رواه بالشك كما تقدم في رواية البيهقي وهو في صحيح مسلم (162) قال حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ به ولفظه: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» .
2.
ورواه حماد بن سلمة عن سهيل بدون شك عند أبي داود (4678) -ومن طريقه البيهقي في الشعب-، قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ به بلفظ «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْعَظْمِ عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» . ورواه أحمد (9361) قَالَ حَدَّثَنَا عَفَّانُ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ به بلفظ «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْعَظْمِ عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ»
3.
وتابعه سفيان الثوري عن سهيل عند أحمد (9748) قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ به بلفظ «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا فَأَدْنَاهُ إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . ورواه الترمذي (2822) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ به بلفظ «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا فَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» . ورواه النسائي (5020) قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ وحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ به بلفظ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَوْضَعُهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ» . ورواه ابن حبان (191) قال أخبرنا الحسين بن بسطام بالأبلة قال: أخبرنا عمر بن علي قال: حدثنا حسين بن حفص قال: حدثنا سفيان الثوري به بلفظ «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» لكن رواه ابن ماجه (59) حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِىُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ به بلفظ «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ سَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» .
قال ابن حبان: وَأَمَّا الشَّكُّ فِي أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ فَهُوَ مِنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ فِي الْخَبَرِ كَذَلِكَ قَالَهُ مَعْمَرٌ عَنْ سُهَيْلٍ وَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَرْفُوعًا وَقَالَ: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً» وَلَمْ يَشُكَّ ا. هـ وقال البيهقي نحوه ثم قال: وسليمان بن بلال قال: «بِضْعٌ وَسِتُّونَ» . لم يشك فيه وروايته أصح عند أهل العلم بالحديث غير أن بعض الرواة عن سهيل رواه من غير شك -يعني رواية أبي داود المتقدمة- قال: «بِضْعٌ وسَبْعُونَ
…
» .... وهذا زائد فأخذ به صاحب كتاب "المنهاج" في تقسيم ذلك على سبعة وسبعين بابا بعد بيان صفة الإيمان وبالله التوفيق ا. هـ
منزلة الإيمان:
وهذا الحديث المبارك، فيه جملة من الكلمات نقف عندها لبيانها.
أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: «الْإِيَمانُ» . فالإيمان: لفظ شرعي، وقد جاء كثيرًا في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله -جل وعلا- نادى عباده وأوليائه في تسعة وثمانين موضعا من القرآن بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أولها في [سورة البقرة: 104]
(1)
وإذا تأملت كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد أن الله سبحانه وتعالى رتَّب على هذا اللفظ أمورًا عظيمة:
فجعل الله سبحانه وتعالى أهله هم أهل الفلاح، فقال -جل وعلا-:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} [المؤمنون: 1].
وأخبر -جل وعلا- أنَّ الإيمان تُنالُ به أرفع الدرجات في الدنيا وأعلى المنازل في الآخرة. قال
(1)
انظر: كتاب "نداء الرحمن لأهل الإيمان" للشيخ أبي بكر جابر الجزائري وكتاب "نداء رب العالمين لعباده المؤمنين" للشيخ محمد العرفج وكتاب "نداء المؤمنين في القرآن الكريم" للأستاذة رجاء أحمد.
تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19]
والصديقون: هم أعلى الخلق درجة بعد درجة الأنبياء في الدنيا وفي منازل الآخرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ:«بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ، وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ»
(1)
.
والإيمان كما عليه أهل السنة والجماعة يزيد وينقص.
والإيمان له حلاوة في القلب إذا وجدها العبد أوجبت له الحياة الطيبة.
ومن أحبَّ الله ورسوله لهج بذكر الله؛ فإنَّ من أحب شيئًا أكثر من ذكره.
ومن أحبَّ الله ورسوله اجتهد في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقَدَّم متابعته على كل شيء.
معنى الإيمان:
والعلماء رحمهم الله قالوا في بيان حقيقة الإيمان: إن الإيمان: قول، وعمل، واعتقاد، يزيد وينقص. فهو قول باللسان، واعتقاد بالجنان -يعني بالقلب- وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بطاعة الرحمن وينقص بالعصيان.
وكان بعض علمائنا يقولون: الإيمان خمس نونات:
الأولى: اعتقاد بالجنان.
والثانية: نطق باللسان.
والثالثة: عمل بالجوارح والأركان.
والرابعة: يزيد بطاعة الرحمن.
والخامسة: وينقص بالعصيان.
فإذا عرفْتَ هذه الكلمات في تفسير الإيمان عرفْتَ أنه اسمٌ جامعٌ لشرائع الإسلام وأصول الإيمان وحقائق الإحسان. فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: «الْإِيَمانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ» أو قال: «بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» .
قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبان رحمه الله: أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْخَبَرِ إِلَى الشيء الذي هو فرض
(1)
صحيح البخاري (3265) وصحيح مسلم (2831) عَنْ أَبِي سعيد رضي الله عنه.
على المخاطبين في جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَجَعَلَهُ أَعْلَى الْإِيمَانِ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ نَفْلٌ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ فَجَعَلَهُ أَدْنَى الْإِيمَانِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَرْضٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ وَكُلَّ شَيْءٍ فَرْضٌ عَلَى بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَكُلَّ شَيْءٍ هُوَ نَفْلٌ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ كُلُّهُ من الإيمان ا. هـ
(1)
فالأعمال الصالحة من الإيمان. الصلاة عمل صالح، وهي من الإيمان. والزكاة عمل صالح، وهي من شعب الإيمان. وكذا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبِرُّ الوالدين، وصلة الأرحام، وغير ذلك من الأعمال الطيبة المباركة التي حثَّ الإسلام عليها.
و «الإيمان» له أركان ثلاثة: القول، والعمل، والاعتقاد.
الاعتقاد من الإيمان:
وبيان ذلك أن الإنسان إذا لم يؤمن بقلبه لم يكن مؤمنًا.
ولذلك ذكر الله -جل وعلا- النفاق في القرآن، وبيَّنَ أن المنافقين نفاقًا أكبر هم أولئك الذين لا يؤمنون بالله ورسوله في باطنهم، ويُظهِرون إيمانًا ظاهرًا.
قال ربنا سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} [المنافقون: 1].
كانوا يُظهِرون الإسلام ويُبطِنون الكفر والطغيان، أسلَمَتْ ألسنتُهم، وكفرت بواطنُهم؛ فلم يقبل الله -جل وعلا- منهم إيمانًا. فدل هذا على أن اعتقاد القلب من الإيمان.
القول من الإيمان:
وكذلك نطق اللسان: فإن من صدَّق برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم امتنع عن النطق بالإسلام وبشهادة الإيمان فإنه لا يكون من المؤمنين. ولذلك قال البيهقي هنا: «بابٌ الدليل على أن التصديق بالقلب والإقرار باللسان أصل الإيمان وأن كليهما شرط في النقل عن الكفر عند عدم العجز ا. هـ
أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
-:
وتأمَّلُوا حال أبي طالب عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يعلم صدق ابن أخيه نبينا
(1)
صحيح البخاري (3265) وصحيح مسلم (2831) عَنْ أَبِي سعيد رضي الله عنه.
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول فيما ذكروا عنه:
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ
…
مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينًا
لَوْلَا المَلَامَةُ أَوْ حِذَارِي سُبَّةً
…
لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا لِذَاكَ مُبِينًا
(1)
فكان يعلم صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام بل كان يناصره ويدفع الأذى عنه؛ ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلامه فكان يقول له - حين حضرته الوفاة-: «يا عم، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» . فَقَالَ له أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» ، فَأَنْزَلَ اللهُ -جل وعلا-:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة: 113]، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]
(2)
ومما قاله أبوطالب أيضا: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]
(3)
، يعني لولا أن تعيرني قريش بذلك لقلتها من أجلك.
وهذا من سوء طويته. فإنه ينبغي أن يُذعِن الإنسان بشهادة أن لا إله إلا لله قولًا بلسانه واعتقادًا بجنانه يريد بذلك وجه الله سبحانه وتعالى لا إرضاءً لأحد من الناس.
ولما أبى أبو طالب أن ينطق بلا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من المشركين؛ ونزلت فيه الآية:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56]. ونُهِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له فنزل قول
(1)
"سيرة ابن إسحاق"(155)، وللبيتين روايات أخرى.
(2)
صحيح البخاري (3884، 4772) وصحيح مسلم (24) من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم (25) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية [التوبة: 113] كما تقدم.
العمل من الإيمان:
وهكذا أيها المسلم، كل من يقول لا إله إلا الله ويعتقد الإيمان، ولكنه لا يعمل الأعمال الصالحات، فيعرض عنها. فاعلم أن تركه الأعمال الصالحة جرمٌ عظيمٌ.
من ترك الصلاة كفر:
فمن الأعمال ما تركه كفر مخرج من الملة كما جاء في الصلاة؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: «العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةَ؛ فَمَنْ تَركَهَا فَقَدْ كَفَرَ»
(1)
وفي رواية: «
…
مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ»
(2)
وقال عليه الصلاة والسلام: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ»
(3)
. فإذا كان بعض الناس يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله ثم يعمد إلى الصلاة فلا يصليها البتة لا في بيته ولا منفردا ولا يحضر جمعة ولا جماعة ويستمر على ذلك دهره حتى يموت فهذا قد قال فيه عليه الصلاة والسلام: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» .
ومن الأعمال ما تركه من الفسوق، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
والمقصود من هذا أنَّ الإيمان أركان ثلاثة: قول، وعمل، واعتقاد.
فمن الأعمال: ما هو عمل يرجع إلى الاعتقاد.
ومن الأعمال: ما هو عمل يرجع إلى اللسان.
ومن الأعمال: ما هو عمل يرجع إلى الجوارح والأركان.
وقد أشار إليها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كما سيأتي معنا.
فلا بُدَّ على المسلم أن يتعرف على حقيقة الإيمان بالله -جل وعلا-، وأن يعلم أنَّ الإيمان له شُعَبٌ، وأنَّ الإيمان له حلاوةٌ، وأنَّ الإيمان له طعمٌ، كما في الحديث «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ
(1)
أخرجه الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، من حديث بريدة بن الحُصَيْبِ رضي الله عنه.
(2)
أخرجه ابن حبَّان (1463) وصححه الألباني في التعليقات الحسان.
(3)
أخرجه مسلم (82) من حديث جابر رضي الله عنه.
مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»
(1)
.
معنى كلمة بِضْع:
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» أو قال: «بِضْعٌ وَسِتُّونَ» . قال العلماء «بِضْعٌ» : كلمة تدُلُّ على عدد مبهم، وهذا العدد مقيَّدٌ بما بين الثلاثة والتسعة، وهنا قال عليه الصلاة والسلام:«الْإِيَمانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» أي: إنه يتفرع إلى هذه الشعب.
معنى كلمة شُعْبَة:
وكلمة «شعبة» قال العلماء: معناها: خَصلة، يعني: أنَّ الإيمان ذو خصال متعددة. وجاء في بعض الروايات: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا»
(2)
أي: بضع وسبعون نوعًا. وهذا يدعو المسلم إلى أن يتعرف على شعب الإيمان.
قوله صلى الله عليه وسلم سَبْعُونَ شُعْبَة:
وهذه السبعون قال العلماء: أراد بها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة إلى التكثير، وأن الأعمال الصالحة كثيرة، وأنها ربما تبلغ إلى نحو بضع وسبعين شعبة. فإن قال قائل: هل يلزمنا أن نبحث عن معدوداتها؟، وأن ننظر في هذه المعدودات حتى نتأملها؟
فالجواب: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا بالبحث عنها وتعدادها، وإنما أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنها ذاتُ عدد، وأنها كثيرة، وأنَّ المسلم عليه أن يعمل الأعمال الصالحات التي تقربه إلى الله -جل وعلا-. فالمقصود هو أنَّ الأعمال الصالحة تُسمَّى إيمانًا، فالصلاة إيمان، والزكاة إيمان، والحجُّ إيمان، وهكذا سيأتي معنا بيان شيء من الأعمال الصالحة التي هي من شعب الإيمان. ومع ذلك فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد دلَّنا على شيء من هذه الشعب فقال:«فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» .
منزلة التوحيد:
وأفضل تلك الشعب قدرًا، ودرجةً عند الله، قول لا إله إلا الله، وهي كلمة التوحيد، يعني: كلمة لا إله إلا الله ومعها كلمة أشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهما صنوان لا
(1)
أخرجه مسلم (34)، والترمذي (2623) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، ولفظ الترمذي:«ومحمَّدٍ نبيًّا» وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(2)
الترمذي (2614).
يفترقان. فكلمة التوحيد أفضل أنواع الإيمان، كما أنَّ الإيمان أفضل أنواع العمل، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ»
(1)
. فأفضل شعب الإيمان: قول لا إله إلا الله.
وهنا نأتي إلى مسألة ننبِّه عليها، وهي: أنه يجب على المسلم أن يعتني بإيمانه وتوحيده، وأن يعتني بمعرفة التوحيد ومعناه وما يضاده وما يكون سببًا في ضعفه ونقصه؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أنَّ أعلى شعب الإيمان قدرًا وأرفعَها درجةً هو توحيد الله -جل وعلا-. ولا يدخل الإنسان في هذا الدين، ويكون من المؤمنين ومن المسلمين إلَّا أن يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله.
وقد جاء القرآن مبيِّنًا وموضِّحًا أنَّ من مات على التوحيد فهو الناجي وهو الفائز، وأنَّ من مات على غيره فهو من الهالكين، قال ربنا -جل وعلا-:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6].
فحتى لو كانوا من أهل الكتاب الذين آمنوا بما آمنوا به وبكتابهم لكنهم سمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ولم يؤمنوا بدعوته، فإنهم من أصحاب النار، بل قال الله -جل وعلا-:{أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} . فنسأل الله السلامة والعافية.
وبعض الناس اليوم يجادل فيقول: هؤلاء أهل كتاب، ولا ينبغي أن يقال: إنهم من أهل النار!. والقرآنُ والسنة يردَّان عليه، بل وإجماع علماء الأمة، ولكنه الجهل بدين الله، -نعوذ بالله من الضَّلال-. وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»
(2)
قال العلامة الألباني رحمه الله: «يَسْمَعُ بِي» ؛ أي: على حقيقته صلى الله عليه وسلم بشراً رسولاً نبياً فمن سمع به على غير ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور ومحاسن الأخلاق؛ بسبب بعض جهلة المسلمين؛ أو دعاة الضلالة من المنصرين والملحدين؛ الذين يصورونه لشعوبهم
(1)
أخرجه البخاري (26)، ومسلم (83).
(2)
صحيح مسلم (153)، تفرد به عن أصحاب الكتب الستة كما في تحفة الأشراف (15474).
على غير حقيقته صلى الله عليه وسلم المعروفة عنه؛ فأمثال هؤلاء الشعوب لم يسمعوا به، ولم تبلغهم الدعوة، فلا يشملهم الوعيد المذكور في الحديث ا. هـ
(1)
قوله صلى الله عليه وسلم: «وأدناها» وفضلُ إماطةِ الأذى عن الطريق:
قال: «وَأَدْنَاهَا» أدنى شعب الإيمان يعني أقرب هذه الشعب. فالدنو بمعنى: القرب، «إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» ، فهذا من الإيمان؛ وهو من أعظم الأسباب السهلة اليسيرة التي تكون سببًا في دخول الجنة، كما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام:«لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الجَنَّةِ؛ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤذِي النَّاسَ»
(2)
.
منزلة الحياء من الدين:
قال صلى الله عليه وسلم: «وَالحَيَاءُ شَعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» .
والحياء كما قال العلماء: مأخوذ من الحياة. قال أهل اللغة: الاستحياء من الحياة واستحيى الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع الغيب.
وقال بعض أهل العلم: الحياء حالة تتولد من رؤية الآلاء ورؤية التقصير
(3)
.
وقال بعضهم: الحياء خُلُقٌ يبعث على اجتناب كلِّ ما هو قبيح، ويبعث على مراقبة الله -جل وعلا-.
(4)
وإذا تأملنا هذا الحديث رأينا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أركان الإيمان: القول، والعمل، والاعتقاد. فالحياء من شعب الإيمان القَلْبِيَّة. وقول:«لا إله إلا الله» من شُعَب الإيمان التي تُقال باللسان. وإماطةُ الأذى عن الطريق من شعب الإيمان التي تُعمَل بالجوارح.
ولذلك فالإيمانُ: قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح والأركان، يزيد بطاعة الرحمن وينقص بالعصيان.
(1)
سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/ 251)
(2)
أخرجه مسلم (1914) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (10/ 180 ط الرشد) عن الجنيد قوله.
(4)
ينظر: «صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح» (ص 198)، و «رياض الصالحين للنووي ت الفحل» (ص 220)
المجلس الثاني
(1)
بيان حقيقة الإيمان
تقدم ذكر حقيقة الإيمان بالله سبحانه وتعالى وأنه خمس كلمات. وأن العلماء رحمهم الله يقولون: الإيمان قول، وعمل، واعتقاد، يزيد وينقص. فهو قول باللسان، واعتقاد بالقلب والجنان، وعمل بالجوارح والأركان، ويزيد بطاعة الرحمن وينقص بالعصيان.
ونزيد الأمر إيضاحًا في هذا المجلس بإذن الله-تعالى-بالحديث عن هذه الأبواب الخمسة التي ذكرناها في تفسير الإيمان.
قول القلب وعمله:
أما الأمر الأول وهو أن الإيمان اعتقاد بالجنان أو اعتقاد بالقلب، فتأملوا قولَ الله سبحانه وتعالى:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} في قوله -جل وعلا-: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]
إذا تأملتَ هذه عرفتَ أن الآية تدل على أن إيمان القلب ركن لا بد منه في الإيمان، ولا بُدَّ من العناية بأعمال القلوب كالخوف، والخشية، والرجاء، والإيمان بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر؛ فاعتقاد هذه الأمور أمرٌ لا يتم إيمان المرء إلا به.
ثم تأمل -حفظك الله- قولَ الله سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]. تأمل قوله تعالى: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} لتعلم أنه لا يصح الإيمان إلا بإيمان القلب، وأن إيمان القلب إذا وُجِدَ سَرَى ذلك إلى الجوارح ولا بُدّ. لأنَّ إيمان القلب ليس مجردَ العلم والمعرفة والتصديق بالله -جل وعلا- والتصديق بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو إيمانٌ يقود صاحبه إلى الانقياد، والاستسلام، والخضوع، والإخلاص،
(1)
كان في يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر شعبان 1441 هـ.
وغير ذلك مما يدخل تحت عمل القلب.
ولهذا نحن في هذه الأيام نعرف كثيرًا من اليهود أو النصارى ممن يُصرِّح بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وبأن الحلَّ في الإسلام، وبأنَّ الخير مع المسلمين، ونجد من الناس من يُصرِّح أنَّ الإسلام دين حق، ومع ذلك هو باقٍ على كفره، مما يدل على أنَّ مجرَّدَ المعرفةِ واعتقادِ أنَّ هذا حقٌّ ليس بكافٍ في تحقيق الإسلام والدين.
وقد جاء في الصحيح أنَّ يهوديًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ له: جِئْتُ أَسْأَلُكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أيَنْفَعُكَ شيءٌ إنْ حَدَّثْتُكَ؟» (يعني: هل تؤمن؟) فَقَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، (يعني: لا ألتزم المتابعة، وإنما أسمع بأذني وأنظر فيما أسمع، وسيأتي أنه سيقر بصدق نبينا صلى الله عليه وسلم لكنه لا يلتزم الإيمان به ومتابعته، وهذا دليل على أن مُجرَّدَ التصديق من غير التزام الشريعة، ولا دخول فيها لا ينفع؛ إذ لم يحكم له بالإسلام) فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه، فَقَالَ:«سَلْ» (وهذا من سعة أخلاقه وحلمه صلى الله عليه وسلم، فسألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خمسة أسئلة، فأجابه عنها، فلما انتهى قال اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت وإنك لنبي ثم انصرف
(1)
. فأقرَّ بأنه نبيٌّ لكنه لم يؤمن بهذا، ولم يشهد أنه لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله وخاتمُ النبيين بعثه الله إلى الناس كافة.
فدلَّ هذا على أنَّ مجرد المعرفة والتصديق في القلب ليست كافية، بل المقصود بإيمان القلب: ذلك الإيمانُ الذي يقود إلى الانقياد، والاستسلام، والخضوع، والإخلاص.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «إنَّ الإيمان أصلُه الإيمانُ الذي في القلب، ولا بُدَّ فيه من شيئين: تصديق بالقلب، وإقراره ومعرفته ويقال لهذا: قول القلب. قال الجنيد بن محمد: «التوحيد: قول القلب، والتوكل: عمل القلب»
(2)
، فلا بُدَّ فيه من قول القلب، وعمله، ثم قول البدن وعمله، ولا بُدَّ فيه من عمل القلب، مثل حبِّ الله ورسوله، وخشية الله، وحبِّ ما يحبُّه الله ورسوله، وبُغضِ ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاصِ العمل لله وحده، وتوكُّلِ القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله
(1)
أخرجه مسلم (315) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(2)
رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (10/ 256) بلفظ: قال: "
…
وَإِنَّمَا الْيَقِينُ اسْمٌ لِلتَّوْحِيدِ إِذَا تَمَّ وَخَلُصَ، وَإِنَّ التَّوْحِيدَ إِذَا تَمَّ تَمَّتِ الْمَحَبَّةُ وَالتَّوَكُّلُ وَسُمِّيَ يَقِينًا، فَالتَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَالتَّوْحِيدُ قَوْلُ الْعَبْدِ (كذا)، فَإِذَا عَرَفَ الْقَلْبُ التَّوْحِيدَ وَفَعَلَ مَا عَرَفَ فَقَدْ تَمَّ"
…
إلخ
ورسوله، وجعلها من الإيمان. ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سَرَى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عمَّا يريده القلب؛ ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»
(1)
. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «القلب مَلِكٌ والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خَبُثَ الملك خبثت جنوده»
(2)
، وقولُ أبي هريرة تقريبٌ، وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم أحسنُ بياناً؛ فإنَّ الملك وإن كان صالحًا فالجند لهم اختيار، قد يعصُون به ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده، أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب؛ فإنَّ الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الجَسَدِ» . فإذا كان القلب صالحًا بما فيه من الإيمان علمًا وعملًا قلبيًّا، لزم ضرورةً صلاحُ الجسد بالقول الظاهر، والعملُ بالإيمان المطلق»
(3)
. فهذا أمر مهم.
ويقول الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله: «أصل الإيمان هو التصديق بالله، وما جاء من عنده، وإياه أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإِيمانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ»
(4)
وعنه يكون الخضوع لله؛ لأنه إذا صدَّق بالله خضع له، وإذا خضع أطاع»
(5)
وقال الإمام أحمد رحمه الله: «وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِقْرَارُ، فَمَا يَقُولُ فِي الْمَعْرِفَةِ؟ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا أَقَرَّ؟»
(6)
.
إلى غير ذلك من كلام العلماء الذي يدل على أن قولَ القلب وعملَه المقصودُ به الإيمان الجازم الذي يقود إلى العمل، إلى عمل الجوارح وإلى تصديق الجوارح.
(1)
هذا اللفظ رواه البزار في مسنده (3276) من طريق مجالد عن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، ومجالد ليس بالقوي والحديث في صحيح البخاري (52) ومسلم (1599) من طريق أخرى عن الشعبي بنحوه.
(2)
رواه بنحوه معمر في جامعه (11/ 221) رقم (20375) ومن طريقه البيهقي في الشعب (108). وسنده حسن وروي مرفوعا بسند ضعيف انظر: السلسلة الضعيفة (4074).
(3)
كتاب الإيمان (ص 149)
(4)
أخرجه البخاري (50) ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ومسلم (1) من حديث عمر رضي الله عنه وهو حديث جبريل المشهور.
(5)
تعظيم قدر الصلاة، (2/ 696).
(6)
السنة لأبي بكر بن الخلال (4/ 24) وانظر: مجموع الفتاوى، (7/ 393).
وتأملوا قول الله سبحانه وتعالى في الكافرين إذ قال -جل وعلا-: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]
وفي قوله تعالى في قوم آل فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]
فإنَّ ذلك يدل على أن معرفة القلب لا تنفع حتى يكون مع ذلك إيمان بالله، وتصديق بوعده، وإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وعمل بشريعته.
ولذلك فإنَّ الكفار والمنافقين غالبًا ما يُقرِّون بالربوبيَّة، ويُقرِّون بالرسالة، ولكنَّ الكِبْرَ، والبُغضَ، وحُبَّ الرياسة، وحُبَّ الشهوات يصُدُّهم عن الطاعة، وعن الإخلاص، وعن المتابعة، وعن الإيمان بالله -جل وعلا- وتوحيدِه. فهذا يوضح لك -أخي في الله- ما يتعلق بالأمر الأول، وهو اعتقاد القلب، وأنه لا بُدَّ منه.
قول اللسان:
أما الأمر الثاني وهو قول اللسان أو الإقرار باللسان فإن العلماء قد ذكروا أن قول اللسان جزء من مسمَّى الإيمان، وركن من أركانه. والمقصودُ بقول اللسان: الأعمالُ التي تُؤَدَّى باللسان، كالشهادتين، والذكر وتلاوة القرآن، والصدق، والنصيحة، والدعاء، وغير ذلك مما لا يُؤَدَّى إلا باللسان، وهي أعمال صالحة كثيرة، منها: ما هو واجب، ومنها: ما هو مستحب، ومنها: ما هو شرط لصحة الإيمان.
تأمل قول الله -جل وعلا- في كتابه الكريم: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة] ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة].
ففي هذه الآية يأمرنا الله -جل وعلا- أن نقول: {آمَنَّا} ثم يقول بعد ذلك: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} فأمرنا أن نقول: آمنَّا بهذا كله ونحن له مسلمون.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «أخبر أنهم إن تولوا عن الإيمان {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} المتضمن قولكم: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي: مشاقون لله
ورسوله»
(1)
.
فسمَّى الله -جل وعلا- قولهم مثل ذلك إيمانًا؛ لأنه قال: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} فالله أمر المؤمنين بالقول.
ثم تأمل قول الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84 - 85]
هذه الآية في قوم نطقوا بالإيمان بألسنتهم، لكنهم أتوا به في غير وقته، فلم ينفعهم انتقالهم من الكفر إلى الإيمان؛ لأنهم قالوا ذلك لما رأوا بأس الله وعذابه.
وقد جاء في الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
(2)
الحديث. فهذا بيان أنه لا بُدَّ في الإيمان من قول اللسان؛ فالحديث أصل في دخول الأعمال والأقوال في مسمَّى الإيمان.
وكما هو معروف من قصة أسامة بن زيد رضي الله عنهما حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبِّه- لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال أسامة: فصبَّحْنا القوم، فهزمناهم، ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رجلًا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟» قال: قلتُ: يا رسول الله، إنما كان مُتَعَوِّذًا، قال: فقال: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟» قال: فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم
(3)
.
وعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقْتُلْهُ» قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا، أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا
(1)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (3/ 77)
(2)
أخرجه البخاري (1399)، مسلم (20) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والبخاري (25) ومسلم (22) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. والبخاري (392) عن أنس رضي الله عنه. وهو بلفظ: «
…
حَتَّى يَشْهَدُوا
…
».
(3)
البخاري (4269، 6872)، مسلم (96) من حديث أسامة رضي الله عنه.
تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ»
(1)
أي «لَا تَقْتُلْهُ» فإنه معصومُ الدم، مُحَرَّمٌ قتله بعد قوله:(لا إله إلا الله)، كما كنت أنت قبل أن تقتله، وإنك بعد قتله غير معصوم الدم، كما كان هو قبل قوله:(لا إله إلا الله)، لولا عُذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك.
(2)
الشهادتان أصل قول اللسان:
ومما يجب معرفته ها هنا أنَّ الشهادتين أصلُ قولِ اللسانِ، ولا بُدَّ منهما لصحة الإيمان كما جاء في الحديث السابق. وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يؤمن بالشهادتين فهو كافر، فلا بُدَّ من النطق بالشهادتين مع القدرة، وإلا فإنه لا يكون من المسلمين. وهذا يدل على أنَّ قول اللسان من الإيمان.
قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله في شرح حديث شعب الإيمان: «هذه الشعب، منها ما يزول الإيمان بزوالها إجماعًا، كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها، كترك إماطة الأذى عن الطريق»
(3)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «من ترك الشهادتين خرج من الإسلام»
(4)
.
فلا بُدَّ من النطق بالشهادتين، وهذا مما يدخل في قول العلماء -رحمهم الله تعالى-: الإيمانُ اعتقاد بالقلب، وقول باللسان
…
إلخ
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ-أَوْ يَقِينًا مْنِ قَلْبِهِ-دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَلَمْ تَمَسَّهُ النَّارَ»
(5)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ،
(1)
البخاري (4019)، مسلم (95)
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنوويّ (2/ 106).
(3)
شرح الطحاوية، (2/ 476).
(4)
جامع العلوم والحكم، (1/ 101).
(5)
رواه أحمد في المسند (36/ 381/ 22060) من حديث جابر رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (200).
مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ»
(1)
وفي حديث آخر: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ صَادِقًا بِهَا دَخَلَ الجَنَّةَ»
(2)
.
(3)
.
وفي صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة رضي الله عنه: «فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ»
(4)
.
وهذا يدلنا على ماذا؟
يدل على أنه لا بُدَّ من أن يجتمع قول اللسان مع اعتقاد القلب؛ ولهذا من قال: «لا إله إلا الله» فلا بُدَّ أن يُحِّققَ فيها قولُ اللسان قولَ القلب واعتقادَ القلب؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الأحاديث: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ صَادِقًا» . «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا» و «غَيْرَ شَاكٍّ» أو «مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ» . وهذه من شروط لا إله إلا الله،
وسيأتي الحديث عنها في مجلس بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: فأما من دخل النار من أهل الكلمة، فلِقِلَّة صدقه في قولها، فإن هذه الكلمة إذا صدقت في قولها طهَّرت القلب من كل ما سوى الله، ومتى بقي في القلب أثر لما سوى الله، فمن قلة صدقه في قولها. من صَدَق في قوله: لا إله إلا الله، لم يحبّ سواه، ولم يرج إلا إياه، ولم يخش أحدًا إلا الله، ولم يتوكل إلا عَلَى الله، ولم يبق له بقية من آثار نفسه وهواه. ومع هذا فلا تظنوا أن المراد أن المحب مطالب بالعصمة، وإنَّما هو مطالب كلما زَلَّ أن يتلافى تلك الوصمة ا. هـ
(5)
(1)
أخرجه البخاري (99)
(2)
أخرجه أحمد (19689). من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (27). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
صحيح مسلم (31).
(5)
كلمة الإخلاص وتحقيق معناها (ص: 45).
عمل الجوارح:
ثم ننتقل إلى الأمر الثالث، وهو عمل بالجوارح والأركان. فمن أركان الإيمان أيضًا أنَّ العمل من الإيمان. فأعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، ومن أدلة ذلك -والأدلة كثيرة-: قولُ الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]
قال العلماء: معنى الإيمان في هذه الآية: الصلاة؛ فالمعنى: وما كان الله ليضيع صلاتكم. وسبب نزول هذه الآية كما في سنن أبي داود وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«لَمَّا تَوَجَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْكَعْبَةِ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَكَيْفَ الَّذِينَ مَاتُوا، وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
(1)
يعني: صلاتكم.
قال الإمام الحليمي رحمه الله: «أجمع المفسرون على أنه أراد صلاتكم إلى بيت المقدس؛ فثبت أن الصلاة إيمان، وإذا ثبت ذلك، فكلُّ طاعة إيمان؛ إذ لم أعلم فارقًا فرَّق في هذه التسمية بين الصلاة وسائر الطاعات»
(2)
.
والعلماء يؤكدون على هذا المعنى جدًّا. أتدرون لماذا؟
لأنه ظهر في القرن الأول بدعة الإرجاء، وهذه البدعة التي ظهرت في زمن التابعين وذهب أهلها مذاهب شتى، يجمعهم أنهم يقولون أنَّ العمل ليس من الإيمان، وأنه يكفي أن تقول:«لا إله إلا الله» فتكون مؤمنًا كامل الإيمان.
ومن مقالاتهم: أن الإيمان لا يتفاضل فلا يزيد ولا ينقص.
فحينها اعتنى علماء أهل السنة ببيان الحق في هذه المسألة ورعايته، وتعلمه، وتفهمه للردِّ على كلِّ من يرى أو يعتقد أنه لا حاجة إلى العمل.
إن الله -جل وعلا- يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]
(1)
سنن أبي داود (4680). جامع الترمذي (3202)
(2)
المنهاج في شعب الإيمان، (1/ 37).
قال الإمام البيهقي رحمه الله: فأخبر أن المؤمنين هم الذين جمعوا هذه الأعمال فدل ذلك على أنها من جوامع الإيمان. قال الحليمي -رحمه الله تعالى-: إذا ثبت أن المؤمنين الموصوفين في هذه الآية إنما استوجبوا اسم المؤمنين حقا لمكان الأعمال التي وصفهم الله تعالى بها، ولم تكن الأعمال المتعبد بها هذه وحدها صح أن المراد بذكرها: هي وما في معناها من الأعمال المفروضة أو المندوب إليها "فالصلاة" إشارة إلى الطاعات التي تقام بالأبدان خاصة و "الإنفاق مما رزق الله" إشارة إلى الطاعات التي تقام بالأموال و "وجل القلب" إشارة الاستقامة من كل وجه ويدخل فيها إقامة الطاعات والانزجار عن المعاصي. قال: والآية فيمن إذا ذكر الله وجِل قلبُه وليس ارتكاب المعاصي ومخالفة الأوامر من أمارات الوجل، والآية فيمن إذا تليت عليه آيات الله زادته إيمانا، وليس التخلف عن الفرائض والقعود عن الواجبات اللوازم من زيادة الإيمان بسبيل، فصح أن الذين نفينا أن يكونوا مؤمنين حقا وأوجبنا أن يكونوا ناقصي الإيمان غير داخلين في الآية. ا. هـ
(1)
ومثل ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]
وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن العمل من الإيمان، وأنه لا بُدَّ من العمل.
وتأملوا قصة وفد عبد القيس الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: آمُرُكُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَتُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ»
(2)
. ففسَّر لهم النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بهذه الأعمال الظاهرة والباطنة؛ فدلَّ ذلك على أن هذا من الإيمان.
وكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»
(3)
.
والمعنى أن من ارتكب الكبائر، وترك الواجبات فإنه ينتفي عنه اسم الإيمان الواجب، فيكون مسلمًا لكنه ناقص الإيمان؛ فدلَّ ذلك على أن العمل من الإيمان.
(1)
«شعب الإيمان» (1/ 100 ط الرشد)
(2)
أخرجه البخاري (7266)، ومسلم (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) عن أبي هريرة رضي الله عنه. والبخاري (6782) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد تقدم معنا حديثُ شُعَبِ الإيمانِ وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم عنها: «أَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»
(1)
فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا العمل من الإيمان، فدلَّ ذلك على: أنَّ الطاعات -وهي أعمال الجوارح- تدخل في مسمَّى الإيمان، وأنَّ الإخلال والتقصير بأداء الطاعات يضُرُّ بالإيمان.
زيادة الإيمان ونقصانه:
إذا عرفنا ذلك عرفنا أنَّ الإيمان يزيد وينقص. يزيد بطاعة الله -جل وعلا- وينقص بعصيانه. والناس والمؤمنون يشاهدون ذلك ويرونه من أنفسهم.
وقد أشار -جل وعلا- إلى هذا وبيَّنه في كتابه الكريم، فقال سبحانه وتعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] فالآية صريحة في أنَّ الإيمان يزيد.
وقال -جل وعلا-: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]
وقال -جل وعلا-: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]
إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على زيادة الإيمان.
وكلُّ شيء قَبِلَ الزيادة فهو قابل للنقصان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النهي عن المنكر: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»
(2)
فهناك مؤمن قوي، وهناك مؤمن ضعيف، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في الحديث: «أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»
(3)
.
فدَلَّ هذا على أن المؤمنين أيضًا يتفاوتون في الإيمان؛ وبعضهم يكون أكمل إيمانًا
(1)
تقدم تخريجه في المجلس الأول.
(2)
مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود (4682) والترمذي (1196) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في الصحيحة (284) وحسنه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (307).
من بعض، وعلى هذا جرى عملُ السلف واعتقادُ الصحابة ومن تَبِعَهم بإحسان.
وجاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول لبعض أصحابه: «اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً»
(1)
.
وفي المسند عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ رضي الله عنه إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، يَقُولُ: تَعَالَ نُؤْمِنْ بِرَبِّنَا سَاعَةً
…
» الحديث
(2)
.
قال العلماء: وهذا واضح الدلالة على أنَّ الإيمان يزيد، وأن المعنى: تعالوا نجلس نتذاكر؛ لنزداد إيمانًا.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «اللَّهُمَّ زِدْنَا إِيمَانًا وَيَقِينًا وَفِقْهًا»
(3)
.
وأُثِرَ عن كثير من السلف أنهم قالوا: الإيمان يزيد وينقص.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان منه عن الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُعرَف فيه مخالِفٌ من الصحابة»
(4)
.
ونختم مجلسنا هذا بكلمة عن الإيمان وردت عن الإمام البخاري رحمه الله تدل على رعاية العلماء وعنايتهم بأمر الإيمان وتعريفه.
يقول رحمه الله: «لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (8)، وأخرجه موصولًا ابن أبي شيبة في المصنف (35843)، وأبو عبيد القاسم بن سلام في الإيمان (20) وابن بطة في الإبانة الكبرى (1135). والبيهقي في "الشعب "(44) وسنده صحيح.
(2)
مسند أحمد (13796) وفي سنده ضعف.
(3)
رواه عبد الله بن أحمد في السنة (797)، والطبراني في الكبير (9/ 105/ 8549) والبيهقي في الشعب (45)، وفي إسناده شريك النخعي، وهو صدوق يخطئ، والأثر صححه الحافظ ابن حجر في الفتح، (1/ 48).
(4)
الإيمان، ص 177، 176.
(5)
ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 47)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/ 256) وعزواه للَّالكائي في السنة، وصحَّحا إسناده، وهو في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، (5/ 889) رقم:(1597) بنحوه، وتاريخ دمشق لابن عساكر (52/ 58).
فانظر كيف طاف رحمه الله البلاد، فخرج من بخارى يطلب العلم ويتعلمه، وأدرك ولقي المئات من أهل العلم؛ فما لقي أحدًا منهم إلا وهو يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وهذا يدلنا على أنَّ البخاري رحمه الله كان يحرص على انتقاء شيوخه ثم هو يستفهم ويسأل مشايخه عن هذه المسألة العظيمة وغيرها من أمور الاعتقاد.
ثم تأملوا حالنا في هذه الأيام التي صار الإنسان فيها اتِّكاليًّا على قليل من العمل.
فوا عجبًا لحالنا وا عجبًا!
…
الواحد منا ضعيف الإيمان!
…
ضعيف في صلاته، وصيامه، وفي الأعمال الصالحة مع ما يرتكب من المعاصي، ومن الذنوب، ومن الآثام، مع ضعف في الخشوع، والخضوع والخوف والخشية.
ومع هذا تجده يأمن على نفسه، ويحسن الظن بها، ويرى أنه لم يفعل شيئًا يعيبها
(1)
، وإذا نزلت المصائب ونزلت البلايا لم يكن عن الله راضيًا، بل تجده كثيرَ الشكوى، يرى أنه لا يستحق كلَّ ذلك، وما هذا إلا بسبب الغفلة وضعف الإيمان، نسأل الله السلامة والعافية.
وبهذا يكون قد اتضح لنا معاني هذه الكلمات الخمس التي عرَّف بها العلماء رحمهم الله حقيقة الإيمان بأنه: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
والحمد لله رب العالمين.
(1)
يقول ابن القيم في «مدارج السالكين» (1/ 262 ط عطاءات العلم): حسنَ الظّنِّ بالنّفس يمنع من كمال التّفتيش ويُلبِّس عليه، فيرى المساوئَ محاسنَ، والعيوبَ كمالًا، فإنَّ المحبَّ يرى مساوئ محبوبه وعيوبه كذلك
…
ولا يسيءُ الظّنَّ بنفسه إلّا مَنْ عرفها. ومَن أحسن ظنَّه بها فهو من أجهل النّاس بنفسه ا. هـ
المجلس الثالث
(1)
الأمور التي يُستَمَد منها الإيمان:
وهي الأمور التي تكون سببًا في زيادة الإيمان ورفعته عند المسلم.
الناس اليوم يتعاهدون دنياهم، ويحرصون على ذلك حرصًا كبيرًا، فالتاجر يرغب أن تزيد تجارته، وصاحب الدنيا يزداد من دنياه، وهكذا لا تجد من يعتني بما يكون سببًا في زيادة إيمانه إلا الموفَّقُون الذين وفَّقهم الله -جل وعلا- فتفاقدوا قلوبهم، وخافوا على أنفسهم.
وفي هذا المجلس-بإذن الله-سنتذاكر أمورًا وَرَدَ في الكتاب والسنة بيانُها، وأنها تكون سببًا في زيادة الإيمان.
فمن الأمور العظيمة التي ينبغي أن يشتغل بها المسلم ليحافظ على دينه وإيمانه:
تدبر معاني الأسماء الحسنى والصفات العلا:
-وهي من أعظم الأسباب التي تكون عونًا في زيادة الإيمان-، التعرفُ والتفكرُ في أسماء الله -جل وعلا- الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، وأن يحرص المسلم على فهم معانيها والتعبد لله -جل وعلا- بها؛ تحقيقًا لما جاء في الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّة»
(2)
.
وإحصاؤها على ثلاث مراتب:
* أن تحفظها
* وأن تفهم معانيها
* وأن تتعبد الله -جل وعلا- بها.
(1)
كان في يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر شعبان 1441 هـ.
(2)
البخاري (2736)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد جاء عن أبي رزين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عَبْدِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ»
(1)
قال: قلت: يا رسول الله، أو يضحك الربُّ -جل وعلا-؟» قال: نَعَم «قال: لن نعدم من ربٍّ يضحك خيرًا»
(2)
.
فاستبشر لما عرف أن الله سبحانه وتعالى يُوصَف بأنه يضحك. والسلف يثبتون لله تعالى صفة الضحك حقيقةً على ما يليق بجلاله وعظمته، بلا تكييف، ولا تعطيل مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن مشابهة المخلوقين فإنه سبحانه وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى].
وهكذا ينبغي للمؤمن أن يتأمل أسماء الله الحسنى الواردة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقف عندها.
فلو قرأ أحدنا الفاتحة، ووقف عند أسماء الله الواردة في هذه السورة المباركة، كقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة] فإنه يجدها آية عظيمة، تشتمل على اسمين كريمين: اسمه الكريم "الله"، واسمه "الرب"، فيقف الإنسان متأمِّلًا عند هذين الاسمين الكريمين اللَّذين جمعَ الله -جل وعلا- فيهما بين الألوهية والربوبية؛ فالله هو الإله المعبود بحق، لا يستحق أن يُعبَد أحد سواه؛ وهو رب العالمين ورب الخلائق أجمعين، رَبَّاهم بنعمه، وأكرمهم -جل وعلا- بما يسدي إليهم من عظيم مننه.
ثم يقرأ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة] فيتأمل في هذين الاسمين الكريمين.
وهكذا يقرأ الإنسان كتاب الله، فتمر عليه الآيات، فيتفكر فيما اشتملت عليه
(1)
قوله: "وقرب غِيَرِه"، ضبط بكسر معجمة، ففتح ياء: بمعنى تغير الحال، كما في "النهاية"، ونحوه في "الصحاح" وضميره: قيل هو: لجنس العبد، والمراد تغير حاله من القوة إلى الضعف، ومن الحياة إلى الموت، وهذه الأحوال مما تجلب الرحمة لا محالة في الشاهد، فكيف لا يكون أسباباً عادية لجلبها من أرحم الراحمين. قال السندي: والضمير لله، والمعنى أنه تعالى يضحك من أن العبد يصير آيساً من الخير بأدنى شر وقع عليه مع قرب تغييره تعالى الحال من شر إلى خير، ومن مرض إلى عافية، ومن بلاء ومحنة إلى سرور وفرحة ا. هـ انظر:«حاشية السندي على سنن ابن ماجه» (1/ 77).
(2)
أحمد (16187)، ابن ماجه (181). وهو حديث حسن لغيره كما في السلسلة الصحيحة (2810). وصفة الضحك ثابتة لله عز وجل في السنة الصحيحة كما في صحيح البخاري (2826) ومسلم (1890) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلَانِ الجَنَّةَ: يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى القَاتِلِ، فَيُسْتَشْهَدُ»
من الأسماء الحسنى والصفات العلا.
ومما ذكر عن الأصمعي أنه قال: كنت أقرأ سورة المائدة وبجنبي أعرابي فقرأت هذه الآية - يعني قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة]-، قال: فقلت: (نكالًا من الله والله غفور رحيم) سهوًا، فقال الأعرابي: كلامُ مَنْ هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعِد. فأعدت: (
…
والله غفور رحيم). فقال: ليس هذا كلام الله. فتنبهت وقرأت: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} فقال: أصبت، هذا كلام الله. فقلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمِن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا، عزّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع
(1)
.
فعرف هذا الأعرابي بتأمله وفهمه للسياق من الآية أنها لا تختم بذلك. وهذا من التأمل في أسماء الله وصفاته.
ومما كتبه العلماء في هذا الباب، وهو كتاب سهل ويسير:"كتاب فقه الأسماء الحسنى" لشيخنا الدكتور عبد الرزاق العباد -حفظه الله تعالى-، وهو كتاب سهل وجميل، يحسن بالمسلم أن يُكثِر القراءة فيه والتأمل في تفسيره لأسماء الله وصفاته؛ فإن هذا من شأنه أن يزيد الإيمان عند المسلم.
يقول النبي: صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ»
(2)
فالإيمان يضعف إذا لم يتعاهده المؤمن، وجلاءُ ذلك بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والحرص على الأسباب التي تعين المسلم على زيادة إيمانه.
نحن أخذتنا الشواغل، شغلتنا الدنيا وما فيها، وَالْتَهَى الإنسان بالمال والبنين، وَالْتَهَى
(1)
انظر القصة في التفسير الوسيط للواحدي (2/ 185)، وتفسير السمعاني (2/ 37، 36)، والدُّر المصون في علوم الكتاب المكنون (3/ 87)، خزانة الأدب وغاية الأرب (1/ 176).
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك (5)، والطبراني في المعجم الكبير (13/ 36) رقم (84) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1585) وروي مرفوعا:«إنَّ هِذِه القُلُوبَ لَتَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الحَدِيدُ» . قيل: فما جلاؤها؟ قال: «تِلاوَةُ كِتَابِ الله عز وجل، وَكَثْرَةُ ذِكْرِهِ» رواه المروزي في قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر كما في مختصره للمقريزي (ص: 172) والبيهقي في الشعب (1859) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وضعفه الألباني في الضعيفة (6096).
بحاجاته. فهذا العصر عصر الشواغل، شُغِلَ الإنسان بهاتفه وبما فيه من المواقع التي يتصفحها، ويسهل على الإنسان أن يدخل هنا، ويخرج من هنا، وكلُّ هذا من شأنه أن يزيد الإنسان غفلة، -نسأل الله السلامة والعافية-،. فأين المشمرون؟! وأين أصحاب الهمة العالية الذين يحفظون أسماء الله الحسنى ويدعون الله -جل وعلا- بها؟!
دعاء أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم بتعلمه يذهب الله به الهم والحزن
وإن النبي عليه الصلاة والسلام قد علَّمنا دعاء مشتملًا على الأسماء الحسنى، يُذهِب الله به الهمَّ والحزن، علمنا أن نقول:«اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وابْنُ عَبْدِكَ، وابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي» . وقد أخذت هذه الكلمات بمجامع قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنهم لما سمعوها قالوا: يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قَالَ: «أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ»
(1)
. فمهم جدًّا العناية بفهم الأسماء الحسنى، وحفظها، وتعبد الله -جل وعلا- بها، فإذا دعا اللهَ وسأله الرزق، سأله باسمه الرزَّاق، فقال: اللهمَّ، يا رزَّاق، ارزقني. وإذا سأل المغفرة توسَّل إلى الله باسمه الغفور، فيقول: يا غفور، اغفر لي.
دعاء علمه نبينا صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه
-:
وهكذا علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه لما سأله عن دعاء يدعو به في صلاته، فقال له:«قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ؛ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»
(2)
.
فتأمل المقابلة في قوله: «فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي» مع ختام الدعاء «إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ» ؛ فـ «الغَفُورُ الرَّحِيمُ» اسمان دالان على صفتي المغفرة والرحمة وهما صفتان ذُكرتا ختمًا للكلام على جهة المقابلة لِمَا قبله، فـ «الغَفُورُ» مقابل لقوله: «فَاغْفِرْ
(1)
أحمد (3712، 4318)، وابن حبان (972) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (199).
(2)
البخاري (834)، ومسلم (2705) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ»، و «الرَّحِيمُ» مقابل لقوله:«وَارْحَمْنِي» .
فهذا أمر عظيم من الأمور التي تكون سببًا في زيادة إيمان المسلم، لو اعتنى به الإنسان لصلح حاله بإذن الله تعالى.
أسماء الله الحسنى مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة:
وأسماء الله الحسنى مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية والعبادة، وتوحيد الأسماء والصفات.
توحيد الربوبية:
فتوحيد الربوبية: إفراد الله في أفعاله. وقال بعض العلماء: هو إفراد الله في الخلق والملك والتدبير؛ فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله سبحانه وتعالى.
إقرار المشركين بتوحيد الربوبية:
وهذا النوع من أنواع التوحيد قد أقرَّ به الكفار في الجملة، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس]. أخبرنا الله -جل وعلا- أنهم يؤمنون بأن الله هو الحي، وبأن الله هو المحيي، وبأنه هو المميت، وبأنه الرزَّاق، وبأنه الخالق، وبأنه يدبِّر الأمر سبحانه وتعالى ثم احتجَّ عليهم -جل وعلا- بأنه يجب أن يُفرِدُوه سبحانه وتعالى بالعبادة.
ذكر الله -جل وعلا- في كتابه أنَّ المشركين الذي بُعِثَ إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يُقِرُّون بذلك، ولكن لم ينفعهم؛ لأنهم لم يُوحِّدوا الله، ولم يُفْرِدُوه بالعبادة؛ فالعبادة لا تصح إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة.
توحيد الألوهية:
وأما توحيد الألوهية وهو توحيد العبادة: فهو إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة؛ فلا يُدعى إلا الله، ولا يُعبَد إلا الله سبحانه وتعالى
تفسير كلمة التوحيد:
وذلك هو معنى شهادة "أن لا إله إلا الله" فإنَّ معناها: أنه لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى. فلا يصح إيمان امرئ حتى يُفرِد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ويعلم أن الله -جل وعلا- هو المعبود بحق، وأنَّ ما عُبِد من دون الله فإنما عُبِد بباطل.
دعوة الأنبياء إلى توحيد الألوهية:
وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا أنه ما من نبي بعثه الله إلا ودعا قومه إلى هذه العقيدة التي بعثه الله -جل وعلا- بها، يقول سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي: أفردوا الله بالعبادة، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وهو الكفر بكل ما يُعبَد من دون الله سبحانه وتعالى؛ فما عُبِدَ من دون الله إنما عُبِدَ بباطل. فهؤلاء الذين يعبدون الأشجار أو الأحجار، أو يعبدون الكواكب، أو يعبدون الشياطين، أو يعبدون المقبورين أو الأولياء من دون الله رب العالمين، كلُّ ما يعبدونه من الطواغيت، وكلُّها معبودات بباطل، والله سبحانه وتعالى هو الإله الحق الذي لا إله غيره، ولا ربَّ سواه.
وإذا عرفتَ ذلك عرفتَ سِرَّ الجمع بين الربوبية والألوهية في سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]
فقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فيه معنى الألوهية، وأنه الإله الحق،
وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه معنى الربوبية،
فالله سبحانه وتعالى يُنبِّه العباد أنه لا معبود بحق إلا الله -جل وعلا-.
أول نداء وأول أمر في القرآن:
وتأملوا في أوَّل نداء في القرآن وأوَّل أمر في كتاب الله -جل وعلا- وهو في الآية الحادية والعشرين من سورة البقرة، ففيها أولُ نداء في القرآن وأوَّلُ أمر في القرآن ما هو ذلك؟
قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة] فنادى الله -جل وعلا- الناسَ أجمعين، الإنسَ والجنَّ، ناداهم وأمرهم، فقال:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي: وحِّدوا الله -جل وعلا- قال بعض السلف: العبادة في القرآن هي التوحيد. فإذا رأيت الأمر بالعبادة فهو أمر بتوحيد الله
(1)
.
وتأملوا كيف جمع بين الأمر بالعبادة والوصف بالربوبية، فقال -جل وعلا-:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} لأن الناس الذين بُعِثَ إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يؤمنون بربوبية الله، وبأنه الخالق، فقال:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وأنتم تُقرِّون بذلك: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . ثم قال في الآية التي تليها: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} .
فهذه آياتٌ حين يتأمَّلُها الإنسان، ويتفكَّرُها تزيده إيمانًا وقُربًا من رب العالمين.
أثر توحيد الأسماء والصفات:
فينبغي للمؤمن أن يبذل جهده في معرفة أسماء الله وصفاته -جل وعلا- على ضوء الكتاب والسنة كما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، وكما جاء عن التابعين لهم بإحسان. فهذه المعرفة، معرفة عظيمة نافعة، وهي المعرفة التي لا يزال صاحبها في زيادة في إيمانه، وقوة في يقينه،
(1)
قال الطبري في تفسيره -جامع البيان ط هجر (1/ 385) -: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِيمَا رُوِيَ لَنَا عَنْهُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ نَظِيرَ مَا قُلْنَا فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَعْنَى:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وَحِّدُوا رَبَّكُمْ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ الْخُضُوعُ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّذَلُّلُ لَهُ بِالِاسْتِكَانَةِ. وَالَّذِي أَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وَحِّدُوهُ: أَيْ أَفْرِدُوا الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ لِرَبِّكُمْ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ ا. هـ
وطمأنينة في أحواله؛ فجرِّبُوا ذلك عباد الله، اقرؤوا القرآن، وتدبَّروه، وتأملوه.
وإن وقفنا عند أسماء الله الحسنى وعند صفاته -جل وعلا- ونظرنا إلى معانيها التي دلَّ عليها القرآن، ودلَّ عليها كلام العلماء الذين بيَّنوا ذلك، سنجد طمأنينة، ورحمة، وراحة في قلوبنا وفي حياتنا؛ لأن ذلك يزيد في إيمان المسلم، وفي يقينه، ويصرف عنه الباطل بإذن الله -جل وعلا-.
فأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يشرح صدورنا للقرآن العظيم، ويُنوِّر أبصارنا وبصائرنا، وأن يُزيِّن الإيمان في قلوبنا، وأن يجعل ممن يجد اللذة مع كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا:
وأَختِمُ معكم هذا المجلس بالتأمل في آية من كتاب الله -جل وعلا- فيها عظة واعتبار لما نحن فيه. يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} [الأحزاب].
هذه الآية فيها إخبار من الله سبحانه وتعالى أنَّ المؤمنين لمّا رأوا البلاءَ الذي نزل بهم يوم الأحزاب واجتماعَ الناس على حربهم تذكَّرُوا قولَ الله -جل وعلا- لهم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة]. فزادت الطمأنينة في قلوبهم، وزاد الإيمان عندهم مع اشتداد البلاء بهم، وهكذا هم أهل الإيمان.
(1)
وقال الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في قوله: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} [الأحزاب]: "ما زادهم البلاء إلا إيمانًا بالربِّ وتسليمًا بالقضاء"
(2)
.
وعن يزيد بن رومان رحمه الله قال: "أي صبرًا على البلاء وتسليمًا للقضاء وتصديقًا
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (19/ 59)
(2)
أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 585) ورواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/ 1023) رقم (1731) وفي سنده ضعف.
بتحقيق ما كان الله وعدهم ورسوله"
(1)
.
هؤلاء قوم عرفوا أن الله لا يقول إلا حقًا، ولا يأتي عن الله إلا صدقا، عرفوا ذلك يقينًا، فلما رأوا البلاء عرفوا أنَّ ذلك خيرٌ لهم، فزادهم إيمانًا وتسليمًا لأمر الله وقضائه.
وبعض الناس ما زادهم البلاء إلا تسخطاً على الله -جل وعلا- وعلى شرعه وقدره.
ونحن في وقتٍ انتشر فيه البلاء، وعمَّ فيه الوباء، فنحتاج أن نتفكر، ونتأمل؛ فإنَّ الله -جل وعلا- لا يُقدِّر عليك -أيها المؤمن- إلا خيرًا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَه»
(2)
.
(3)
وفي صحيح مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»
(4)
وفي رواية: «وَكُلُّ قَضَاءِ اللهِ لِلْمُسْلِمِ خَيْرٌ»
(5)
فحين يتأمل المسلم في هذا -وهو من جملة تأمله لأسماء الله وصفاته -جل وعلا- يعرف أن هذا السبيل هو الذي أمر به الله سبحانه وتعالى ولا يعارض ذلك أن يذهب ويأخذ بالأسباب، فإن هذا مما أمر الله به، لكنه يُسلِّم لأمر الله، ويرضى ويدعو، ويتقرب إلى الله -جل وعلا- فيصبح هذا الوقتُ العصيبُ فرصةً عظيمة للإقبال على الله -جل وعلا- ودعائه والتفكر والتأمل في آلائه سبحانه وتعالى.
(1)
تفسير الطبري (20/ 236).
(2)
أخرجه أحمد (12906) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أحمد (1487) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(4)
صحيح مسلم (2999)
(5)
مسند البزار (2088) والمعجم الكبير للطبراني (8/ 40) رقم (7316) والمعجم الأوسط (7390) وشعب الإيمان للبيهقي (9476).
المجلس الرابع
(1)
تتمة الأمور التي يُستمَد منها الإيمان:
تدبر كتاب الله -جل وعلا
-:
من الأمور العظيمة التي ينبغي أن يشتغل بها المسلم ليحافظ على دينه وإيمانه: التَّدبرُ لآياتِ الله -جل وعلا- المتلوة من الكتاب العزيز، وكذلك التأمل في الآيات الكونية على اختلاف أنواعها، والحرص على معرفة الحق الذي خُلِق له العبد.
فالمتدبر يستفيد من علوم القرآن ومعارف القرآن ما يكون سببًا في زيادة إيمانه، قال ربنا -جل وعلا-:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال].
وإذا نَظَرَ إلى انتظام القرآن وإحكامه عَلِمَ أنه يُصدِّقُ بعضُه بعضًا ويوافق بعضُه بعضًا، فهو كتابٌ عظيم {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت]. ليس فيه تناقض ولا اختلاف، ولو كان من عند غير الله لوُجِدَ فيه من التناقض والاختلاف أمورٌ كثيرة، كما قال الله سبحانه وتعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء].
فتأمُّلُ القرآن وتدبُّرُ القرآن من أعظم مُقوِّيات الإيمان.
والمؤمن بمجرد ما يتلو آيات الله، ويعرف ما فيها من الأخبار الصادقة والأحكام الحسنة يحصل له من أمور الإيمان خيرٌ كثير.
فكيف إذا أحسن التأمل لكتاب الله، وإذا أحسن فهم مقاصده وأسراره؟!
لذلك المؤمنون الأُوَل يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193]. فمعرفة القرآن وتدبر كتاب الله -جل وعلا- من أعظم الطرق والوسائل الجاذبة للإيمان.
(1)
كان في يوم الأحد السادس والعشرين من شهر شعبان 1441 هـ.
وهلُمُّوا معي-حفظكم الله ووفقنا الله وإيَّاكم للخير- إلى تأمُّلِ الآيات التي وردت في حثِّ المؤمنين على ذلك.
بركة القرآن:
القرآن مبارك وفيه بركة عظيمة كبيرة نحن عنها غافلون. فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)} [الأنعام]
وقال -جل وعلا-: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} [الأنعام]
وقال -جل وعلا-: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)} [الأنبياء]
وقال سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص].
هذه أربعة مواضع في كتاب الله -جل وعلا- يصف الله سبحانه وتعالى فيها كتابه الكريم بأنه كتاب مبارك. والبركة: الكثرة في كل ذي خير كما قاله الزجَّاج
(1)
.
وقال بعض أهل التفسير: المبارك كثير الفوائد وجم المنافع، والبركة الزيادة.
قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: "والقرآن مبارك؛ لأنه يدل على الخير العظيم، فالبركة كائنة به، فكأنَّ البركة جُعِلَت في ألفاظه؛ ولأنَّ الله تعالى قد أودع فيه بركة لقارئه المشتغل به بركة في الدنيا وفي الآخرة، ولأنه مشتمل على ما في العمل به كمالُ النفس وطهارتُها بالمعارف النظرية ثم العملية؛ فكانت البركة ملازمة لقراءته وفهمه"
(2)
.
وقال بعض أهل التفسير: المتمسِّكُ به يحصل له عزُّ الدنيا وسعادةُ الآخرة.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 155]: "فيه الدعوة إلى اتباع القرآن، ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة"
(3)
.
(1)
معاني القرآن وإعرابه (4/ 57).
(2)
التحرير والتنوير (7/ 370).
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 369).
آية سورة ص:
وتأملوا آية سورة ص، إذ يقول -جل وعلا-:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} . قال العلامة السعدي رحمه الله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود. {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} أي: أولو العقول الصحيحة، يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب، فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب ا. هـ
(1)
وقال نظام الدين النيسابوري في تفسيره رحمه الله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ليتأملوا فيها ويستنبطوا الأسرار والحقائق منها فمن حفظ حروفه وضيع حدوده كان مثله كمثل معلق اللؤلؤ والجواهر على الخنازير ا. هـ
(2)
وقال الشوكاني رحمه الله: "وفي الآية دليلٌ على أن الله سبحانه وتعالى إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر"
(3)
.
وقال بعض أهل التفسير: وتدبر الآيات: التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدى إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلوّ، لم يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها ا. هـ
(4)
كلام بديع ومهم للحسن البصري:
وقال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنِ الْحَسَنِ البصري رحمه الله أنه قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَدْ قَرَأَهُ عَبِيدٌ وَصِبْيَانٌ [لَمْ يَأْتُوهُ مِنْ قِبَلِ
(1)
تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 712)
(2)
تفسير النيسابوري = غرائب القرآن ورغائب الفرقان (5/ 592)
(3)
فتح القدير (4/ 494).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 90).
وَجْهِهِ]
(1)
[وَ]
(2)
لَا عِلْمَ لَهُمْ بِتَأْوِيلِهِ، وَلَمْ يَتَأَوَّلُوا
(3)
الْأَمْرَ مِنْ قِبَلِ أَوَّلِهِ، وَقَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وَمَا تَدَبَّرُوا آيَاتِهِ؟ اتِّبَاعَهُ -وَاللَّه- بِعِلْمِهِ
(4)
، (ففسر الآية بأن المقصود بالتدبر الاتباع والعمل) ثم قال بعد ذلك:[وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا الْقُرْآنِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَقْرَؤُهُ]
(5)
[وفي رواية: إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْقُرْآنِ مَنْ رُئِيَ فِي عَمَلِهِ،]
(6)
- ثم قال رحمه الله -: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: لَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَمَا أَسْقَطْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَقَدْ وَاللَّهِ أَسْقَطَهُ كُلَّهُ، مَا يُرَى لَهُ الْقُرْآنُ فِي خُلُقٍ، وَلَا عَمَلٍ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: إِنِّي لَأَقْرَأُ السُّورَةَ فِي نَفَسٍ (واحدٍ)
(7)
، [ثمَّ يَقُولُ أَحَدُهُمْ يَا فُلَانُ تَعَالَ أُقْارِئُكَ]
(8)
وَاللَّهِ مَا هَؤُلَاءِ بِالْقُرَّاءِ، وَلَا الْعُلَمَاءِ، وَلَا الْحُكَمَاءِ، وَلَا الْوَرَعَةِ، مَتَى كَانَتِ الْقُرَّاءُ مِثْلَ هَذَا؟ لَا كَثَّرَ اللَّهُ فِي النَّاسِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ.
(9)
(1)
زيادة من فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام ومن اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي.
(2)
زيادة من اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي.
(3)
في فضائل القرآن للفريابي: (وَلَمْ يَأْتُوا الْأَمْرَ مِنْ قِبَلِ أَوَّلِهِ)
(4)
في فضائل القرآن للفريابي: (وَمَا يَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ إِلَّا اتِّبَاعَهُ بِعِلْمِهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُهُ) وفي أخلاق حملة القرآن للآجري: (وَمَا تَدَبُّرُ آيَاتِهِ إِلَّا اتِّبَاعُهُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ) ولأبي عبيد: (وَمَا تَدَبُّرُ آيَاتِهِ إِلَّا اتِّبَاعُهُ بِعِلْمِهِ) ولسعيد بن منصور في التفسير (وُإِنَّمَا تَدَبُّرُ آيَاتِهِ اتِّبَاعُهُ بِعَمَلِهِ).
(5)
زيادة من فضائل القرآن لأبي عبيد ومن اقتضاء العلم العمل للخطيب.
(6)
زيادة من التفسير لسعيد بن منصور -ومن طريقه البيهقي في الشعب-.
(7)
زيادة من "أخلاق حملة القرآن" للآجري.
(8)
زيادة من "فضائل القرآن" لأبي عبيد و"اقتضاء العلم " للخطيب. و"التفسير" لسعيد بن منصور.
(9)
حسن صحيح. رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق (1/ 274/ رقم 793). -ومن طريقه: الفريابي في فضائل القرآن (177، 178)، والآجري في أخلاق حملة القرآن (34) -؛ وفي سنده: يحيى بن المختار روى عنه معمر ويوسف بن يعقوب الضبعي كما في التهذيب؛ وهما ثقتان، وقال ابن الجنيد:"قلت: ليحيى بن معين: يحيى بن المختار الذي روى عنه معمر؟ قال: شيخ بصري ليس به بأس". انظر: سؤالات ابن الجنيد (رقم 704). واختلف فيه على معمر؛ فرواه عبد الرزاق في مصنفه (3/ 363/ رقم 5984) عن معمر عَنْ أَيُّوبَ، عَمَّنْ، سَمِعَ، الْحَسَنَ يَقُولُ فذكره. وللأثر طريقان آخران: فقد رواه أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ به نحوه. -ومن طريق شجاع رواه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل (108) -. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات. ورواه سعيد بن منصور في التفسير من سننه (135) - ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان (2408) - قال: نا أَبُو شِهَابٍ، عَنِ الصَّلْتِ بْنِ بَهْرَامَ، عَنِ الْحَسَنِ به نحوه وإسناده حسن.
هذا الأثر جاء عن الحسن البصري رحمه الله وكأنه يعيش بيننا في هذه الأزمان وفي هذه الأعصار، يحكي لنا ما وقع الناس فيه تجاه كتاب الله -جل وعلا-؛ حيث انشغلوا بمثل هذه الظواهر عن حقيقة الحال من تأمل كتاب الله -جل وعلا-.
أهمية علم وفهم السلف عند تدبر كتاب الله -جل وعلا
-
إخواني في الله، إنَّ التأمل في القرآن والتدبر في القرآن لا يجوز أن يكون بنظرٍ مجرَّدٍ عن علوم وفهم السلف الصالح؛ فإنَّ أعظم ما يعينك على تدبر كتاب الله -جل وعلا- النظرُ في فهم الصحابة للقرآن، وفي فهم التابعين، وفي كلمات العلماء التي فيها نورٌ وهدايةٌ للناس أجمعين. وقد ظَهَرَ من الناس اليوم من يقول: أنا أتأمل القرآن!. لكن كيف يتأملُه؟
يتأمله بفهمه وتصوره القاصر دون الرجوع إلى كتب التفسير وإنما هي خواطر تأتيه.
نقول كلا! إنه لا يتم التأمل إلا بالعلم؛ فارجع إلى كتب العلماء وإلى تفاسير أهل السنة الموثوقة، فاقرأ فيها عن معاني القرآن وآياته؛ فربما قرأ القارئ آية، فظهر له منها معنى، وهذا المعنى من أبعد ما يكون عن كتاب الله -جل وعلا-.
الحكمة من طلب الهداية في سورة الفاتحة:
ومن أمثلة التدبر للآيات والنظر في فهم العلماء:
نحن نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة].
والعبد يسأل الله -جل وعلا- الهداية في كلِّ ركعة من ركعات صلاته يقرأ فيها الفاتحة، ويتساءل بعض الناس فيقول: لماذا نُكثِر من سؤال الله -جل وعلا- الهدايةَ؟
هل المقصود بذلك أننا نسأل الله الثبات ودوام الهداية على هذا الأمر.
لا شكَّ أن هذا الجواب حسنٌ إلَّا أنه جواب ناقص. ومن أجوبة ذلك ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله قال: وَأَمَّا سُؤَالُ الْمُؤْمِنِ مِنَ اللَّهِ الْهِدَايَةَ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ نَوْعَانِ: هِدَايَةٌ مُجْمَلَةٌ وَهِيَ الْهِدَايَةُ لِلْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَهِيَ حَاصِلَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَهِدَايَةٌ مُفَصَّلَةٌ، وَهِيَ هِدَايَةٌ إِلَى
مَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ أَجْزَاءِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَإِعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ مُؤْمِنٍ لَيْلًا وَنَهَارًا،
…
إلخ
(1)
ولِتَعْلَم تفصيل هذا الجواب انظر إلى كلام العلَّامة شمس الدين محمد ابن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-، فإنه وقف عند هذه المسألة وهي سؤالنا لربنا -جل وعلا- الهدايةَ في هذه الآية:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة] فقال رحمه الله:
واعلم أن العبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد سبعة أمور هو محتاج إليها حاجة لا غنى له عنها:
1 -
الأمر الأول: معرفته في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوبا للرب تعالى، مرضيًّا له فيؤثره، وكونِه مغضوبًا له مسخوطًا عليه، فيجتنبه فإن نَقَصَ من هذا العلم والمعرفة شيءٌ نَقَصَ من الهداية التامة بحسبه. - (وهذا هو الأمر الأول، وهو مرتبط بالعلم؛ فالهداية مرتبطة بالعلم بأن تعلم ما أوجب الله عليك وأحبه، فتأتيه، وما نهى الله عنه وأبغضه، فتذره؛ فبقدر علمك يكون اكتمال هدايتك، وبقدر ما ينقص عندك من العلم تنقص عندك الهداية) -.
2 -
الأمر الثاني: أن يكون مريدًا لجميع ما يحب الله منه أن يفعله، عازمًا عليه، ومريدًا لترك جميع ما نهى الله، عازمًا على تركه بعد خطوره بالبال مفصَّلًا، وعازمًا على تركه من حيث الجملة مجمَلًا، فإن نَقَصَ من إرادته لذلك شيءٌ نَقَصَ من الهدى التام بحسب ما نقص من الإرادة. - (إذًا هذا هو الأمر الثاني، وهو ارتباط الإرادة بالهداية. إرادة لماذا؟ إنها الإرادة والعزيمة على عمل كل ما يحبه الله ويرضاه، والعزيمة على ترك كل ما يبغضه الله -جل وعلا- ويأباه) -.
3 -
الأمر الثالث: أن يكون قائمًا به فعلًا وتركًا، فإن نَقَصَ من فعله شيءٌ نَقَصَ من هداه بحسبه. - (يعني أن يكون قائمًا على العمل، قائمًا على الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، قد أتاها وعمل بها) -.
قال: فهذه ثلاثة أمور هي أصول الهداية، (فإذا تمَّت عند إنسان فإنه إذا قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فإنه يدعو الله أن يُكمِّل له هذه الأمور الثلاثة).
(1)
«جامع العلوم والحكم» (2/ 40 ت الأرناؤوط)
قال: ويتبعها ثلاثة هي من تمامها وكمالها:
4 -
أحدها: أمور هُدِيَ إليها جملة، ولم يَهْتَدِ إلى تفاصيلها؛ فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها. - (ومعنى ذلك: أنَّ إنسانًا هُدِيَ إلى عمل صالح مثل بِرِّ الوالدين، لكنه يحتاج أن يعرف كيف يبر والديه؟ وكيف يصل أرحامه؟ وكيف يفعل ويفعل من المعروف؟ فيحتاج إلى هذه التفاصيل؛ فيسأل الله -جل وعلا- أن يُرشِده إلى ما يُعِينه على أداء هذه الأمور التي هُدِيَ إليها) -.
5 -
الثاني: أمور هُدِيَ إليها من وجه دون وجه؛ فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها؛ لتكمل له هدايتها.
6 -
الثالث: الأمور التي هُدِيَ إليها تفصيلًا من جميع وجوهها؛ فهو محتاج إلى الاستمرار إلى الهداية والدوام عليها؛ فهذه أصول تتعلق بما يعزم على فعله وتركه. - (فهذه أمور ستة تتعلق بقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} تحتاجها وأنت تقرأ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} كأنك تقول: يا ربي، أسألك أن تتم عليَّ العلم بما أمرتنا به، فآتيه، وبما نهيتنا عنه، فأجتنبه، وأسألك أن تعينني على عزيمة صادقة آتي بها ما تحبه، وأبتعد بها عمَّا تُبغضه، وأسألك يا ربِّ أن أكون قائمًا لك بالعمل الصالح، وفعل الخيرات وترك المنكرات وحبِّ المساكين، وأسألك يا رب أن تكمل لي الهداية، فما هديتني إليه من عمل صالح بيِّنْهُ لي، وأسألك يا رب أن تهديني إلى ما هديتني إليه هدايةً تامَّةً كاملة) وأمرٌ سابع يحتاج إليه؛ قال رحمه الله:
7 -
الأمر السابع يتعلق بالماضي وهو أمور وقعت منه على غير جهة الاستقامة فهو محتاج إلى تداركها بالتوبة منها وتبديلها بغيرها
…
فعلم أنه ليس أعظم ضرورة منه إلى سؤال الهداية أصلها وتفصيلها علما وعملا والتثبيت عليها والدوام إلى الممات وسر ذلك أن العبد مفتقر إلى الهداية في كل نَفَسٍ في جميع ما يأتيه ويذره أصلا وتفصيلا وتثبيتا ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم وأن يثبت قلوبنا على دينه ا. هـ
(1)
.
(1)
بدائع الفوائد (2/ 38، 37).
-فحينئذ المسلم وهو يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو يسأل ربَّه أن يهديه، وأن يتوب عليه مما أخطأ فيه وقصَّر-. فهذه أمور سبعة نبَّه عليها ابن القيم رحمه الله في هذا الباب؛ ليعلم المسلم وهو يقرأ قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أنه محتاج -واللهِ- إلى تكرار هذا الأمر تكرارًا عظيمًا، وألَّا يتخاذل عن تعلم كتاب الله -جل وعلا-.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعقله، وتدبَّرَهَ بقلبه، وجد فيه من الفهم، والحلاوة، والبركة، والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره ا. هـ
(1)
.
حال الصحابة مع تدبر القرآن:
ونحن والله نحتاج إلى الإقبال على كتاب الله -جل وعلا- إقبالًا سلفيًّا أثريًّا كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون؛ فإنهم كانوا يُقبِلون على كتاب الله، ويكتفون بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهما.
وإنَّ بعض الناس اليوم قد تدمع عيناه لسماع نشيد، ولا تدمع عيناه لسماع القرآن، وتطرب نفسه لسماع القصائد، ولا تطرب نفسه وتخشع لذكر الله -جل وعلا-.
والمتأمل في حال الصحابة رضي الله عنهم يرى في طريقة تلقيهم للعلم: تمام الحرص على العمل بالعلم والانتفاع التام به.
قال جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ
(2)
فَتَعَلَّمْنَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا».
(3)
.
فتأمل قوله «فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا» .
يتبين لك ما كانوا عليه من العناية بالعمل والعلم معا وأن ذلك قد آتى ثماره بالإيمان الذي وقر في قلوبهم وهذ هو المنهج الصحيح الذي ينبغي أن نسير عليه جميعا في طلبنا للعلم. وفيه من الفائدة البدء بتعلم العقائد قبل الفقه والقرآن.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 270).
(2)
حزاورة: جمع حَزَوَّر، وهو الغلام إذا اشتد وقوي وحزم.
(3)
صحيح، أخرجه ابن ماجه (61) بسند صحيح.
معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ».
(1)
وقال تلميذه أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلميِّ: حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.
(2)
وقال عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَأَحَدُنَا يُؤْتَى الإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا، وَحَرَامَهَا، وَآمِرَهَا، وَزَاجِرَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ مِنْهَا. كَمَا تَعَلَّمُونَ أَنْتُمُ الْيَوْمَ الْقُرْآنَ
(3)
، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُ الْيَوْمَ رِجَالاً يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الإِيمَانِ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِى مَا آمِرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ مِنْهُ فَيَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ
(4)
(1)
صحيح، أخرجه الطبري (1/ 80) من طريق الحسين بن واقد، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال العلامة أحمد شاكر: هذا إسناد صحيح. وهو موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، ولكنه مرفوع معنى، لأن ابن مسعود إنما تعلم القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يحكي ما كان في ذلك العهد النبوي المنير ا. هـ وللأثر طريق آخر يأتي ذكره في الحاشية التالية.
(2)
صحيح، أخرجه أحمد (5/ 410) وابن أبي شيبة 10/ 460 - 461 وابن سعد 6/ 172 والطبري 1/ 36 والطحاوي في "شرح المشكل"(1451، 1452) من طرق عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن به. وأورده الدارقطني في "العلل" 3/ 60 من طريق يحيى بن كثير أبي النضر- وهو ضعيف-، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن قال: حدثني الذين كانوا يقرئونا عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب رضي الله عنهم
…
وقال الدارقطني عقبه: فسمى هؤلاء الثلاثة ولم يسمهم سواه، والأول أشبه ا. هـ وأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(1450)، والحاكم (1/ 557) - وعنه البيهقي (3/ 119 - 120) من طريق عبد الله بن صالح، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نتعلَّمُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات
…
فذكره. وعبد الله بن صالح وشريك النخعي سيِّئا الحفظ. لكن قد أخرجه الطبري من طريق الحسين بن واقد، عن الأعمش، عن شقيق ابن سلمة، عن ابن مسعود به وسنده صحيح، كما تقدم.
(3)
قال أبو جعفر ابن النحاس في القطع والائتناف (ص: 12): هذا الحديث يدل على أنهم كانوا يتعلمون التمام كما يتعلمون القرآن، وقول ابن عمر: لقد عشنا برهه
…
يدل على أن ذلك إجماع من الصحابة ا. هـ
(4)
حسن، أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (1453) فقال: حَدَّثَنَا فَهْدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، ورواه أبو جعفر النحاس في القطع والائتناف (ص: 12) قال: وحدثني محمد بن جعفر الأنباري حدثنا هلال بن العلاء قال: حدثنا أبي وعبد الله بن جعفر؛ ورواه ابن منده في الإيمان (207) قال: أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْرُوفٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مِهْرَانَ بْنِ خَالِدٍ، ثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، ورواه الحاكم (101) فقال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ الْفَقِيهُ، ثنا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الرَّقِّيُّ، ثنا أَبِي؛ ورواه البيهقي في السنن الكبرى (5290) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (31/ 160) - قال: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْمَعْرُوفِ الْفَقِيهُ الْمِهْرَجَانِيُّ بِهَا، ثنا أَبُو سَهْلٍ بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، أنبأ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَطَّانُ، ثنا عُبَيْدُ بْنُ جَنَّادٍ الْحَلَبِيُّ، كلهم (علي بن معبد، والعلاء الرقي، وعبد الله بن جعفر وزكريا بن عدي وعبيد بن جناد) قالوا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، يَقُولُ فذكره. وقال ابن منده:«هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى رَسْمِ مُسْلِمٍ وَالْجَمَاعَةِ إِلَّا الْبُخَارِيَّ» . وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علّة، ولم يخرجاه» . والصواب أنه إسناد حسن وليس على شرطهما، فليس لزيد عن القاسم رواية في الصحيحين والقاسم من رجال مسلم وهو مختلف في حاله، وقال الحافظ صدوق يغرب. وإسناد الحاكم فيه هلال بن العلاء الرقي -وهو صدوق-، عن أبيه - وهو ضعيف-، وليسا من رجال الشيخين.
وقال أبو طالب المكي رحمه الله: وقد كان من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من لا يحفظ إلا الجزء والجزأين والسور المعدودة وسورتين وكان من يحفظ الحزب منه وهو السبع أو البقرة والأنعام عَلَماً فيهم، وقبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن عشرين ألف صحابي لم يقرؤوا القرآن غير نظر فلم يحفظ القرآن كلَّه منهم إلا ستة اختلف منهم في اثنين، وقال بعضهم: ولم يكن جمعه من الخلفاء الأربعة أحد، وختم ابن عباس رضي الله عنهما على أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه وقرأ عبدُ الرحمن بن عوف على ابنِ عباس رضي الله عنهما وقرأ عثمانُ بن عفان رضي الله عنه على زيد بن ثابت رضي الله عنه وقرأ أهل الصفة على أبي هريرة رضي الله عنه، وكلهم كان متبعاً لأوامره مجتنباً لزواجره عالماً به فقيهاً فيه ا. هـ
(1)
هكذا كان السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، تلقَّوا القرآن والسنة، وتلقَّوا ما في ذلك من العلم والعمل.
وذلكم-عبادَ اللهِ-هو التدبر الذي أمرنا الله -جل وعلا- به.
مزيد من الآيات في الحثِّ على تدبر القرآن:
ويقول ربنا سبحانه وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد].
ويقول في موضع آخر: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء].
(1)
قوت القلوب (1/ 108)
ويقول سبحانه وتعالى في سورة المؤمنون: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} .
إخواني في الله، هذه الآيات التي يحث الله -جل وعلا- فيها على التدبر: خاطب الله بها الكفار، وخاطب بها المنافقين، وعَلِمَ سبحانه وتعالى أنهم لو تدبروا القرآن لانقلب كفرهم إيمانًا ونفاقهم تقوى؛ ولهذا قال:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} [المؤمنون]. والمعنى -والله أعلم- أنهم لو تدبروا كتاب الله -جل وعلا- لانقلب ما هم عليه من باطل إلى نفس مقبلة على كتاب الله. فإذا كان الله -جل وعلا- يخبرنا أنَّ الكفَّار والمنافقين لو تدبروا القرآن وتفهموا معانيَه لصار حالهُم أحسن حال. فكيف -يا عباد الله- بمن آمن بالله واليوم الآخر؟!
كلام بديع لشيخ الإسلام في بيان أهمية التدبر والعمل بالقرآن:
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
…
السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ الَّذِينَ رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ تَلَقَّوْا عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَكَانُوا يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي:
…
-ثم ذكر الأثر السابق- وقال: وَقَدْ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَهُوَ مِنْ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ - فِي تَعَلُّمِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ
(1)
وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ الْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ الَّتِي جَبَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا بَنِي آدَمَ تُوجِبُ اعْتِنَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ - الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ - لَفْظًا وَمَعْنًى؛ بَلْ أَنْ يَكُونَ اعْتِنَاؤُهُمْ بِالْمَعْنَى أَوْكَدَ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ كِتَابًا فِي الطِّبِّ أَوْ الْحِسَابِ أَوْ النَّحْوِ أَوْ الْفِقْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا فِي فَهْمِهِ وَتَصَوُّرِ مَعَانِيهِ فَكَيْفَ بِمَنْ قَرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَ إلَيْهِمْ الَّذِي بِهِ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَبِهِ عَرَّفَهُمْ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْهُدَى وَالضَّلَالَ وَالرَّشَادَ وَالْغَيَّ. فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَغْبَتَهُمْ فِي فَهْمِهِ وَتَصَوُّرِ مَعَانِيهِ أَعْظَمُ الرَّغَبَاتِ؛ بَلْ إذَا سَمِعَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ الْعَالِمِ حَدِيثًا فَإِنَّهُ يَرْغَبُ فِي فَهْمِهِ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ؛
(1)
رواه الإمام مالك في الموطأ بلاغا، (2/ 148/ ط سليم الهلالي)
بَلْ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَغْبَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْرِيفِهِمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي تَعْرِيفِهِمْ حُرُوفَهُ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْحُرُوفِ بِدُونِ الْمَعَانِي لَا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ إذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يُرَادُ لِلْمَعْنَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَدْ حَضَّهُمْ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ وَاتِّبَاعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]
…
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد]
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} [المؤمنون]
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء]،
فَإِذَا كَانَ قَدْ حَضَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى تَدَبُّرِهِ: عُلِمَ: أَنَّ مَعَانِيَهُ مِمَّا يُمْكِنُ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فَهْمُهَا وَمَعْرِفَتُهَا فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُمْكِنًا لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعَانِيَهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بَيِّنَةً لَهُمْ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف]
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} [الزخرف] فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَرَبِيًّا لِأَنْ يَعْقِلُوا وَالْعَقْلُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِمَعَانِيهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَا يَفْهَمُهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} [الإسراء]
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25، الإسراء: 46]
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء]
فَلَوْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لَا يَفْقَهُونَهُ أَيْضًا لَكَانُوا مُشَارِكِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَظُّهُ مِنْ السَّمَاعِ إلَّا سَمَاعَ الصَّوْتِ دُونَ فَهْمِ
الْمَعْنَى وَاتِّبَاعِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة]
وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان]
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)} [محمد] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ سَمِعُوا صَوْتَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَفْهَمُوا وَقَالُوا: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ أَيْ السَّاعَةَ؛ وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْقَهْ قَوْلَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} . فَمَنْ جَعَلَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ غَيْرَ عَالِمِينَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فَسَّرُوا لِلتَّابِعِينَ الْقُرْآنَ؛ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا.
(1)
وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ
(2)
.
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يَقُولُ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ
(1)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 154) رقم (30287) وأحمد في فضائل الصحابة (1866) عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ:«عَرَضْتُ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ ثَلَاثَ عَرْضَاتٍ أَفْقَهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ» ورواه أحمد في فضائل الصحابة (1867) عن شَرِيكٍ: وسئل أَيُّ الرَّجُلَيْنِ كَانَ أَعْلَمَ بِالتَّفْسِيرِ مُجَاهِدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ مُجَاهِدٌ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:«عَرَضْتُ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . وفي فضائل الصحابة لأحمد أيضا (1868) من طريق مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ يَعْنِي أَبَا سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبَ، عَنْ خُصَيْفٍ قَالَ: قَالَ لِي مُجَاهِدٌ:، «قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَقِفُهُ عَلَى كُلِّ آيَةٍ» . ورواه الدارمي (1160) والطبري في التفسير "جامع البيان ط هجر (1/ 85، و 3/ 755) "، والطبراني في المعجم الكبير (11/ 77) رقم (11097) - ومن طريقه الضياء في المختارة (13/ 76) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 279) والحاكم في المستدرك (3105) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَقَدْ عَرَضْتُ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ أَسْأَلُهُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَفِيمَ كَانَتْ؟
…
إلخ وعند الحاكم تصريح ابن إسحاق بالسماع.
(2)
رواه الطبري (1/ 85)
لَأَتَيْته
(1)
.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نُقِلَ عَنْهُ مِنْ التَّفْسِيرِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ.
وَالنُّقُولُ بِذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثَابِتَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا
…
إلخ
(2)
فلو كان المؤمنون لا يفقهون القرآن، ولا يحسنون قراءته لوجب عليهم أن يجتهدوا في تعلمه ليصلوا إلى مرحلة فهمه. والقرآن سهل ميسور على من يسَّره الله -جل وعلا- عليه. فأقبِلُوا: على القرآن قراءةً وتأمُّلًا، فوالله إنَّ فيه لسعادتنا، وفيه الخير لنا في أنفسنا، وفي أبنائنا، وفي أُسَرِنا، وفي بيوتنا. به تُطرَد الشياطين، ويُتقرَّب به إلى رب العالمين، وتُرفَع به الدرجات، وتُقَال به العثرات، وتُمحى به السيئات، وتُكتَب به الحسنات. وهو أعظم تجارة يأتي بها العبد عند الله سبحانه وتعالى.
وقد صحَّ عند الدارمي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال:«إِنَّ الْبَيْتَ: لَيَتَّسِعُ عَلَى أَهْلِهِ وَتَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَهْجُرُهُ الشَّيَاطِينُ، وَيَكْثُرُ خَيْرُهُ أَنْ يُقْرَأَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَإِنَّ الْبَيْتَ: لَيَضِيقُ عَلَى أَهْلِهِ وَتَهْجُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ، وَيَقِلُّ خَيْرُهُ أَنْ لَا يُقْرَأَ فِيهِ الْقُرْآنُ»
(3)
(1)
رواه البخاري (5002) ومسلم (2463)
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 156) والقاعدة المراكشية (32 - 37/ تحقيق الشيخ دغش العجمي)
(3)
رواه الدارمي (3352) قال: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عِنَانٍ الْحَنَفِيُّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، كَانَ يَقُولُ: فذكره وسنده صحيح. ورواه عبد الله بن المبارك في الزهد والرقائق (1/ 273) رقم (790) و ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 127) رقم (30027) قال حَدَّثَنَا عَفَّانُ، وابن الضريس في فضائل القرآن (185) قال: أَخْبَرَنَا الْحُسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، كلهم (ابن المبارك وعفان واللفظ له، وسعيد بن سليمان) قالوا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «الْبَيْتُ إِذَا تُلِيَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ [اتَّسَعَ بِأَهْلِهِ]، وَكَثُرَ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لَمْ يُتْلَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ، ضَاقَ بِأَهْلِهِ، وَقَلَّ خَيْرُهُ، وَتَنَكَّبَتْ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَحَضَرَهُ الشَّيَاطِينُ» وثابت لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه.
المجلس الخامس
(1)
تفسير آية الحجرات
قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} [الحجرات].
هذه الآية المباركة هي الآية الرابعة عشرة من سورة الحجرات، وفيها إشارة إلى أنَّ ثمة فرقًا بين الإسلام وبين الإيمان. يقول الحافظ أبو الفداء ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "يقول تعالى منكرًا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادَّعَوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} .
الإيمان أخص من الإسلام:
ثم قال: وقد استفيد من هذه الآية الكريمة: أن الإيمان أخصُّ من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليها السلام حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقَّى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص منه.
ثم ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المخرج في الصحيحين أنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالًا، ولم يُعطِ رجلًا منهم شيئًا، فقال سعد: يا رسول الله، أعطيتَ فلانًا وفلانًا ولم تُعطِ فلانًا شيئًا وهو مؤمن! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَوْ مُسْلِمٌ؟» حتى أعاده سعد رضي الله عنه ثلاثًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«أَوْ مُسْلِمٌ؟» ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَدَعُ من هو أَحَبُّ إِليّ مِنْهُمْ فَلَا أُعْطِيهِ شَيْئًا؛ مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ»
(2)
. وعلَّق على هذا الحديث، فقال:
(1)
كان في يوم الاثنين السابع والعشرين من شهر شعبان 1441 هـ.
(2)
البخاري (27)، مسلم (150).
فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلم والمؤمن، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام
…
ثم قال: ودلَّ ذلك على أنَّ ذاك الرجل كان مسلمًا ليس منافقًا؛ لأنه تركه من العطاء، ووَكَلَه إلى ما هو فيه من الإسلام، فدلَّ هذا على أنَّ هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادَّعَوا لأنفسهم مقامًا أعلى مما وصلوا إليه، فأُدِّبُوا في ذلك. وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي، وقتادة، واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأنَّ البخاري
(1)
رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يُظهِرون الإيمان وليسوا كذلك
(2)
.
الدلائل على أن الأعراب الذين نزلت فيهم الآية كانوا مسلمين:
هذه الآية المباركة: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} هل نزلت في قوم كانوا مسلمين أو نزلت في المنافقين؟
الجواب: أنَّ هذه الآية -كما ذكر الحافظ ابن كثير- قد اختلف العلماء في نزولها: هل نزلت في قوم كانوا مسلمين دخلوا في الإسلام أم إنهم كانوا منافقين؟
فذكر ابن كثير ما يثبت بالدلائل أنَّ هؤلاء كانوا مسلمين ولم يكونوا منافقين.
وهذا ما رجحه شيخه: شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وتلميذه شمس الدين ابن القيم -رحمه الله تعالى-
(3)
.
يقول ابن القيم رحمه الله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} نفيًا للإيمان المطلق، لا لمطلق الإيمان. (أي: أنهم لم يؤمنوا إيمانًا كاملًا، وإنما عندهم مطلق الإيمان، فهم مسلمون). ثم ذكر الوجوه الدالة على أن الآية لنفي الإيمان المطلق لا لمطلق الإيمان فقال:
منها: أنه أمرهم أو أذِنَ لهم أن يقولوا: {أَسْلَمْنَا} والمنافق لا يقال له ذلك.
ومنها أنه قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} ولم يقل قال المنافقون
(4)
.
(1)
قال في كتاب الإيمان من صحيحه قبل الحديث (27)(1/ 79/ مع الفتح): بَابٌ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ ثم ذكر آية الحجرات.
(2)
تفسير ابن كثير (7/ 389).
(3)
انظر الإيمان (ص 191) لابن تيمية. والرسالة التبوكية لابن القيم ط عالم الفوائد (1/ 7).
(4)
ولذلك ذهب جمع من أهل التفسير إلى أن هذه الآية وردت في قوم من الأعراب، ولا تعمُّهم جميعًا؛ فإن الله -جل وعلا- ذكر الأعراب في سورة التوبة، وذكر أن منهم قومًا يؤمنون بالله ويؤمنون باليوم الآخر، وأنهم يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)} [التوبة] فليس الأعراب جميعًا على صفة واحدة؛ ولذلك نزلت هذه الآية في قوم من الأعراب وأحياء منهم سماهم العلماء. قال قتادة رحمه الله: " {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} لم تعُمَّ هذه الآية الأعراب، {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ}، ولكنها في طوائف من الأعراب" انظر: تفسير الطبري (2/ 316، 315). وقال مقاتل بن سليمان في تفسيره: "نزلت في أعراب جهينة، ومزينة، وأسلم، وغفار، وأشجع، كانت منازلهم بين مكة والمدينة، فكانوا إذا مرَّتْ بهم سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنَّا؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، وكان يومئذ من قال: "لا إله إلا الله" يأمن على نفسه وماله
…
" إلى آخر كلامه رحمه الله. انظر: تفسير مقاتل بن سليمان (4/ 98).
ومنها: أن هؤلاء الجفاة الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، ورفعوا أصواتهم فوق صوته غلظةً منهم وجفاءً لا نفاقًا وكفرًا.
ومنها: أنه قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ولم ينفِ دخول الإسلام في قلوبهم ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى الإيمان
(1)
.
ومنها: أنه قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} فأثبت لهم إسلامهم، ونهاهم أن يمنُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن إسلامًا صحيحًا لقال: لم تسلموا بل أنتم كاذبون
…
إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-
(2)
.
(1)
وهناك فرق عند العلماء بين كلمة "لم" وبين كلمة "لما" فإذا قال إنسان جاء زيد وعمرو لمَّا، يعني لمَّا يأتِ بعدُ وقد يأتي، فيحتمل أنه يأتي، ولكن إذا قال: لم يأتِ زيد فالمراد بذلك: لم يأتِ فيما مضى ولا يرجى أن يأتي فيما بعد؛ ولهذا لما قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} لم ينفِ أنه قد يدخل الإيمان في قلوبهم في المستقبل، ويصبحوا مؤمنين أقوياء في إيمانهم؛ ولذلك في تمام الآية يقول سبحانه:{لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لا يلتكم يعني لا ينقصكم، والمنافق لا طاعة له، فدلَّ هذا على أن هذه الآية وردت في أهل الإسلام.
(2)
انظر: بدائع الفوائد (4/ 17).
من فوائد الآية
إذًا ماذا يستفاد من هذه الآية المباركة؟
يستفاد من هذه الآية المباركة -كما ذكر الحافظ ابن كثير وغير واحد من أهل العلم-: أنَّ الإيمان أخصُّ من الإسلام، يعني أنَّ هناك فرقًا بين الإسلام وبين الإيمان، فأنت تقول:"أنا مسلم". وتقول: "أنا مؤمن إن شاء الله". ففرق بين كلمة الإسلام وكلمة الإيمان.
الفرق بين كلمة الإسلام وكلمة الإيمان:
ولهذا تكلم العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وذكروا الفرق بين الإسلام والإيمان. وحاصل ما ذكره العلماء في التفريق أنَّ لكلمة الإسلام وكلمة الإيمان قاعدةً تضبطهما، ما هي هذه القاعدة؟ وانتبه معي لهذه القاعدة: قال العلماء: هاتان الكلمتان "إذا اجتمعتا افترقتا، وإذا افترقتا اجتمعتا". ما معنى هذه القاعدة؟
إذا اجتمعتا في سياق واحد:
بأن جاء ذكر الإسلام وذكر الإيمان في دليل واحد، كآية أو حديث، مثل هذه الآية:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قالوا: إذا اجتمعت الكلمتان في نص واحد كآية أو حديث أو سياق فهناك فرق بينهما. ما هو الفرق؟
الفرق بينهما ما جاء توضيحه في حديث جبرائيل عليها السلام وهو الحديث المشهور أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: مَا الإِيمَانُ؟ قَال: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ» . قَالَ: مَا الإِسْلَامُ؟ قَالَ: «الإِسْلَامُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ»
(1)
. ففسَّر له الإسلام بالأعمال الظاهرة. وفسَّر له الإيمان بالأعمال الباطنة.
فإذا ذُكِر الإسلام والإيمان في نصٍّ واحد كآية أو حديث أو سياق، كان تفسير الإسلام بالأعمال الظاهرة وتفسير الإيمان بالأعمال الباطنة.
لهذا يدخل الإنسان في الإسلام بقوله: "أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأشهد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ" فإن قال ذلك فهو من المسلمين، له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين. ثم
(1)
رواه البخاري (50)، ومسلم (10) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم (8) بنحوه عن عمر رضي الله عنه.
بعد ذلك يطالب بالأعمال؛ فالأعمال من الإيمان، فكأنه قال: الإسلام هو القول، والإيمان قول وعمل، كما قرَّر ذلك العلماء.
ومن الأدلة التي ورد فيها ذلك: قصةُ نبي الله لوط عليها السلام لما ذكر الله قصته في سورة الذاريات قال سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات: 35 - 36].
قال ابن القيم رحمه الله: ففرَّق بين الإسلام والإيمان هنا لسر اقتضاه الكلام، فإن الإخراج هنا عبارة عن النجاة فهو إخراج نجاة من العذاب ولا ريب أن هذا مختص بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرا وباطناً. وقوله تعالى:{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لما كان الموجودون من المخرجين أوقع اسم الإسلام عليهم لأن امرأة لوط عليها السلام كانت من أهل هذا البيت وهي مسلمة في الظاهر، فكانت في البيت الموجودين لا في القوم الناجين، وقد أخبر سبحانه عن خيانة امرأة لوط عليها السلام، وخيانتها أنها كانت تدل قومها على أضيافه وقلبها معهم، وليست خيانة فاحشة فكانت من أهل البيت المسلمين ظاهراً وليست من المؤمنين الناجين ا. هـ
(1)
إذا لم يجتمعا في سياق واحد:
أما إذا لم يجتمعا في سياق واحد: وجاء ذكر الإسلام في دليل أو ذكر الإيمان في دليل منفردًا أحدهما عن الآخر فيدخل الإسلام في الإيمان، والإيمان في الإسلام، مثل قول الله-تعالى-:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] فالمراد بالإسلام هنا شرائع الدين الظاهرة والباطنة. وهكذا في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب] فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أراد بالإيمان من دخل في الإسلام وشرائعه الظاهرة والباطنة، أي: كل من قال: "لا إله إلا الله".
إذًا هذا هو التفريق عند العلماء بين الإسلام والإيمان فيما إذا ما اجتمعا أو افترقا، وهذا القول هو الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير بقوله الذي تقدم معنا:"الإيمان أخصُّ من الإسلام".
(1)
الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه ط عالم الفوائد (1/ 82).
ويُقرِّبُ العلماء هذا المعنى، فيقولون: الإسلام دائرة كبيرة، مَنْ دخلها فهو مسلم، وداخل هذه الدائرة دائرةٌ أصغر، يعني أنَّ هناك دائرةً داخلَ دائرة الإسلام، فمَن دخلها فهو مؤمن؛ ولهذا قالوا: كلُّ مؤمنٍ مسلمٌ، وليس العكس. فكلُّ مؤمن مسلم؛ لأنَّ الإيمان أخصُّ من الإسلام، فإذا قال: لا إله إلا الله فهو مسلم، ثم إذا اجتهد في الأعمال الصالحة بلغ مرتبة الإيمان. ثم داخلُ مرتبة الإيمان دائرةٌ أصغر، وهي دائرة الإحسان. فمن دخلها فهو محسن، مؤمن، مسلم. ولهذا قال ابن كثير كما تقدم: ويدل عليه حديث جبريل عليها السلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان فترقى من الأعم (وهو الإسلام) إلى الأخص (وهو الإيمان) ثم للأخص منه (وهو الإحسان؛ فمرتبة الإحسان أعلى مرتبة، وهذا من الأدلة على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن أهله متفاضلون فيه)
مسألة الاستثناء في الإسلام والإيمان:
وهنا مسألة يذكرها العلماء في هذا الباب وهي: هل يقول: "أنا مسلم إن شاء الله؟ ""أنا مؤمن إن شاء الله؟ "، أو: مؤمن أرجو، أو: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
والمأثور عن عامة أهل السنة هو أنه يجوز الاستثناء في الإيمان.
ومنهم من أوجبه ومنهم من منعه باعتبار معين.
ولا خلاف بين هذه الأقوال، فالاستثناء يصح باعتبار ويمتنع باعتبار آخر كما سيأتي.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله - حاكيا إجماع السلف-: ونحن نحكي إجماعهم كما حكاه حرب صاحب الإمام أحمد عنهم بلفظه قال
…
وكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة والإيمان يزيد وينقص ويستثنى منه في الإيمان غير ألا يكون الاستثناء شكا إنما هي سنة ماضية عند العلماء فإذا سئل الرجل أمؤمن أنت فانه يقول "أنا مؤمن إن شاء الله"، أو "مؤمن أرجو" ويقول:"آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله"
…
ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ
…
إلخ
(1)
(1)
حادي الأرواح (493)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: النَّاسُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
• قَوْلٌ أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِثْنَاءُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ كَانَ مُبْتَدِعًا.
• وَقَوْلٌ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَحْظُورٌ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ.
• وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَوْسَطُهَا وَأَعْدَلُهَا أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ بِاعْتِبَارِ وَتَرْكُهُ بِاعْتِبَارِ:
فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ: أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنِّي قَائِمٌ بِكُلِّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيَّ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ أَعْمَالِي لَيْسَ مَقْصُودُهُ الشَّكَّ فِيمَا فِي قَلْبِهِ فَهَذَا: اسْتِثْنَاؤُهُ حَسَنٌ وَقَصْدُهُ أَنْ لَا يُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَأَنْ لَا يَقْطَعَ بِأَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا كَمَا أُمِرَ فَقُبِلَ مِنْهُ وَالذُّنُوبُ كَثِيرَةٌ وَالنِّفَاقُ مَخُوفٌ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ .... قال: وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَمْ يَقْصِدُوا فِي الْإِنْشَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ فِي إخْبَارِهِ عَمَّا قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ فَاسْتَثْنَوْا: إمَّا أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي دُخُولَ الْجَنَّةِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْخَاتِمَةَ كَأَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ: أَنْتَ مُؤْمِنٌ. قِيلَ لَهُ: أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَا كَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. أَوْ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِكَمَالِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ .... قال: وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ فَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا شُرِعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ وَأَسْلَمَ آمَنَ وَأَسْلَمَ جَزْمًا بِلَا تَعْلِيقٍ
…
ثم قال: وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد ا. هـ
(1)
.
بعض ما ورد عن السلف في ذلك:
ذكر البيهقي رحمه الله: أنَّ رجلًا قال عند ابن مسعود رضي الله عنه: أنا مؤمن. فقال له ابن مسعود رضي الله عنه (منكرًا): قل إني في الجنة. ثم قال: " وَلَكِنَّا نَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ"
(2)
(يعني: إن كنت تجزم لنفسك بالإيمان فكأنك جزمت لنفسك بالجنة وأنت لا تعلم بماذا يختم لك)
وثبت عن إبراهيم النخعي وطاووس بن كيسان ومحمد بن سيرين أنهم قالوا: إِذَا قِيلَ لَكَ: «أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟» فَقُلْ: «آمَنْتُ بِاللَّهِ وملائكته وكتبه ورسله»
(3)
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى (13/ 40 - 43).
(2)
شعب الإيمان (70) ورواه أبو عبيد في الإيمان (11) وابن أبي شيبة في الإيمان (22) وسنده صحيح.
(3)
الإيمان لأبي عبيد (ص: 15، 21) وتهذيب الآثار (مسند ابن عباس) للطبري تهذيب الآثار مسند ابن عباس (2/ 675)، والشريعة للآجري (2/ 669). وأثر إبراهيم في الحلية أيضا (4/ 224) وأثر طاووس في المصنف لعبد الرزاق أيضا (11/ 128/ 20108) والسنة لأبي بكر بن الخلال (1348)
وعن الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أنه قال: «لَوْ قَالَ لِي رَجُلٌ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ مَا كَلَّمْتُهُ أَبَدًا»
(1)
وجاء عنه تفسير ذلك أنه قال: قَوْلُكَ أَنَا مُؤْمِنٌ تَكَلُّفٌ لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَقُولَهُ وَلَا بَأْسَ إِنْ قُلْتَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِقْرَارِ وَأَكْرَهُهُ عَلَى وَجْهِ التَّزْكِيَةِ "
(2)
وقال رجلٌ لِعَلْقَمَةَ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «أَرْجُو إِنْ شَاءَ اللَّهُ»
(3)
وعن الإمام أحمد رحمه الله، وسُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَالَ لَهُ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ قَالَ: «سُؤَالُهُ إِيَّاكَ بِدْعَةٌ، يَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ»
(4)
. وروى الإمام أحمد ذلك عن سفيان بن عيينة.
(5)
وقال لَهُ رَجُلٌ: قِيلَ لِي: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. هَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ هَلْ النَّاسُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ؟! فَغَضِبَ الإمامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: هَذَا كَلَامُ الإِرْجَاءِ،
…
ثُمَّ قَالَ الإمام أَحْمَدُ: أَلَيْسَ الإِيمَانُ قَوْلاً وَعَمَلاً؟ قَالَ الرَّجُلُ: بَلَى، قَالَ: فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَجِئْنَا بِالْعَمَلِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ تَعِيبُ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْتَثْنِي؟
(6)
.
وقال أيضا: الإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، فَجِئْنَا بِالْقَوْلِ وَلَمْ نَجِئْ بِالْعَمَلِ، فَنَحْنُ مُسْتَثْنُونَ بِالْعَمَلِ.
(7)
وقال أيضا: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَمَلَ هَذَا عَلَى التَّقَبُّلِ، يَقُولُ: نَحْنُ نَعْمَلُ وَلَا نَدْرِي يُتَقَبَّلُ مِنَّا أَمْ لَا.
(8)
(1)
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 101)
(2)
السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 377)
(3)
الإيمان للقاسم بن سلام (15)
(4)
السنة لأبي بكر بن الخلال (3/ 597) رقم (1056)
(5)
السنة لأبي بكر بن الخلال (3/ 602) رقم (1070) والشريعة للآجري (2/ 660) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/ 1054) رقم (1796)
(6)
السنة لأبي بكر بن الخلال (3/ 597) رقم (1056)
(7)
المرجع السابق.
(8)
المرجع السابق (1056)
وقيل لِلثَّوْرِيِّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ قَالَ:«إِنْ شَاءَ اللهُ» ، فقال لَهُ الرجل: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، لَا تَفْعَلْ، فَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)} [الشعراء].
(1)
وقال الثوري أيضا: " مِنْ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ، إِنْ شَاءَ اللهُ، فَهُوَ عِنْدَنَا مُرْجِيءٌ - يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ - "
(2)
. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا كَرَاهَتُهُمْ عِنْدَنَا أَنْ يَبُتُّوا الشَّهَادَةَ بِالْإِيمَانِ مَخَافَةَ
…
التَّزْكِيَةِ وَالِاسْتِكْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَمَّا عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ أَهْلَ الْمِلَّةِ جَمِيعًا مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ وَذَبَائِحَهُمْ وَشَهَادَاتِهِمْ وُمُنَاكَحَتَهُمْ وَجَمِيعَ سُنَّتِهِمْ إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْإِيمَانِ وَلِهَذَا كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ وَتَرْكَهُ جَمِيعًا وَاسِعَيْنِ ا. هـ
(3)
وذكر البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان: عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله أنه قيل له: "الرجل يقول لا أدري أمؤمن أنا أم لا؟ فقال سبحان الله، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] فهو الغيب، فمن آمن بالغيب فهو مؤمن بالله"
(4)
.
يقصد فيما مضى، ويقصد أنه يكون جازمًا في مثل هذه الأمور فلا يشك في ذلك
وفي الطبقات لابن سعد عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، أَنَّه قَالَ لِرَجُلٍ فِيهِ عُجْمَةٌ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ أَوْ مُسْلِمٌ أَنْتَ؟. قَالَ: نَعَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: لَا تَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فقيل لِمِسْعِرٍ: يَا أَبَا سَلَمَةَ أَقُولُ إِنِّي مُؤْمِنٌ حَقًّا؟ قَالَ: نَعَمْ تَكُونُ مُؤْمِنًا بَاطِلًا أَيَحْسُنُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ هَذِهِ سَمَاءٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ا. هـ
(5)
وفي مصنف ابن أبي شيبة عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: إذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ، فَلا يَشُكَّنَّ. وفيه أيضا عن عبد الله بن يزيد، قال: إذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟
(1)
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 29)
(2)
المرجع السابق (7/ 32)
(3)
الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 21)
(4)
شعب الإيمان (74) وهو في تفسير ابن أبي حاتم، (1/ 36) رقم (70) مختصرا.
(5)
الطبقات الكبرى ط دار صادر (6/ 173) والشريعة للآجري (2/ 665) رقم (285).
فَلا يَشُكُّ فِي إيمَانِهِ.
(1)
فإن كان المقصد: "أنا مؤمن فيما لا يُختلَف فيه"، وقصد بذلك أصل الإيمان، فهنا لا يستثني. وحاصل كلام العلماء رحمهم الله في هذه المسألة أنهم قالوا: أما الإسلام فيجزم به، ويقول: أنا مسلم. وأما الإيمان فإنه ينظر في مقصده.
قال العلامة ابن باز رحمه الله: " أما في العبادات فلا مانع أن يقول: إن شاء الله، صليت إن شاء الله، صمت إن شاء الله؛ لأنه لا يدري هل كملها وقبلت منه أم لا؟ وكان المؤمنون يستثنون في إيمانهم وفي صومهم ونحو ذلك؛ نظرًا لأنه لا يدري هل كمل أم لم يكمل؟ فيقول: إن شاء الله، يعني: إن شاء الله أني صمت صومًا طيبًا سليمًا، ويقول: أنا مؤمن إن شاء الله يعني: إيمانًا صحيحًا وإيمانًا أموت عليه. أما الشيء الذي لا يختلف قال: بعتَ هذا، فيقول: بعتُ إن شاء الله، ما يحتاج (إن شاء الله)، بعت هذا إن شاء الله، أو تغديت أو تعشيت إن شاء الله، ما يحتاج (إن شاء الله) في هذا؛ لأن هذه أمور ما تحتاج إلى المشيئة في الخبر، وإنما هي أمور عادية قد فعلها وانتهى منها، بخلاف أمور العبادات التي لا يدري هل وفَّاها حقها أم بخسها حقها؟ فإذا قال: إن شاء الله فهو للتبرك باسمه-سبحانه-وللتحرز من دعواه شيئاً قد يكون ما أكمله ولا أداه حقه"
(2)
.
وجعل العلامة ابن عثيمين رحمه الله المسألة على أقسام:
فقال: -وهذا هو القسم الأول:
1 -
إن كان الاستثناء صادرًا عن شكٍّ في وجود أصل الإيمان فهذا محرم، بل كفر؛ لأنَّ الإيمان جزم، والشك ينافيه (يعني يقال: له هل آمنت؟ فيقول: إن شاء الله. فإن كان قصدُه بقوله: "آمنت إن شاء الله" الشكَّ فإنَّ ذلك لا يجوز).
2 -
والقسم الثاني: قال رحمه الله: وإن كان صادرًا عن خوف تزكية النفس والشهادة لها
(1)
مصنف ابن أبي شيبة ط. السلفية (11/ 29) وإسناد أثر عبد الله بن يزيد صحيح، وهو الخطمي، صحابي صغير، وانظر تحقيق ذلك في «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (6/ 148)
(2)
فتاوى نور على الدرب، حكم قول إن شاء الله في الجواب عن أعمال العبادات، الموقع الرسمي للشيخ رحمه الله.
بتحقيق الإيمان قولًا، وعملًا، واعتقادًا، فهذا (يعني الاستثناء) واجبٌ خوفًا من هذا المحذور (يعني يقول: أنا مؤمن لكن لا أجزم بأني كامل الإيمان، وبأني متحقق في هذه التزكية فإن الله يقول: فلا تزكوا أنفسكم {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} [النجم])
3 -
والقسم الثالث: قال رحمه الله: وإن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة أو بيان التعليل وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله فهذا جائز
(1)
.
إذًا يختلف هنا قول: "إن شاء الله" إن قصد به التزكية أم لا. فجزم الإنسان لنفسه بالإيمان مطلقًا لا ينبغي. وإنما الجزم هنا يكون بقوله: "أنا مسلم"، وعلى هذا تتنزل عبارات السلف على هذه المقاصد وليس بينها اختلاف والحمد لله.
وقد ضرب العلماء أمثلة على ذلك، فقالوا: لو قال الإنسان: "أنا صائم غدًا إن شاء الله" نقول: ماذا قصدت بالاستثناء هنا أو ماذا قصدت بالمشيئة؟
هل قصدت بالمشيئة الشك والتردد في العزم والقصد؟
فإن قصد الشك والتردد فإن هذه النية نية فاسدة أي: إذا قصد بقوله: "أنا صائم إن شاء الله" أنه قد يصوم وقد لا يصوم فهذا شك. لكن إذا قال: "لا، أنا لم أقصد الشك، وإنما قصدت العزم على ذلك، وأن يُهيِّئ الله لي هذا الأمر"، فهنا نقول: ليس هذا ترددًا في النية، وإنما قصد أنَّ صومه معلَّق بمشيئة الله وتوفيقه وتيسيره؛ ولهذا يختلف التعليق من مسألة إلى أخرى.
ومن هذا الباب:
حديث زيارة القبور: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا فقال: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ»
(2)
. فهذا التعليق هو في أمر متيقن والمقصود به أننا إلى الله سائرون حقيقة.
(1)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 85).
(2)
مسلم (249) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وكذا في قوله صلى الله عليه وسلم للمريض: «لا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ»
(1)
.
لم يقصد بها التردد، وإنما قصد بها التفاؤل.
وهي جملة خبرية لا دعائية
(2)
لأن الدعاء ينبغي للإنسان أن يجزم به؛ ومن قال: اللهم طهره لا يستثني؛ لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ»
(3)
(4)
(1)
البخاري (3616) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
قال الشيخ صالح آل الشيخ في «شرح الطحاوية» (ص 347): قوله صلى الله عليه وسلم «طَهُورٌ إِنْ شَاءَ الله» هذا من باب الخبر لا من باب الدعاء، فهو قال للأعرابي هذه الحمى طهور لك؛ طهور لك في دينك وطهور لك أيضا في بدنك فتصبح بعدها سالما، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. لأنَّ قوله «طَهُورٌ» مرفوع، والرافع له مبتدأ محذوف أو الابتداء المحذوف بقوله «هي طَهُورٌ إِنْ شَاءَ الله» وليس المراد الدعاء لأنه لو كان دعاءً لصارت منصوبة اللهم اجعلها طهوراً. لو قال: طهوراً إن شاء الله؛ يعني: اجعلها اللهم طهوراً، فيكون دعاء. فالظاهر من السياق من اللغة ومن القصة أنَّ المراد الخبر.
(3)
البخاري (6339) ومسلم (2679) واللفظ له.
(4)
انظر: الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (3/ 137) وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين (4/ 484)
الركن الأول من أركان الإيمان الإيمان بالله
المجلس السادس
(1)
الشعبة الأولى من شعب الإيمان: الإيمان بالله
تعداد العلماء لشعب الإيمان:
مرَّ معنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْإِيَمانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ» وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم: «بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» . ورواه مسلم أيضًا بلفظ: «الْإِيَمانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أو بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»
(2)
.
وهذا الحديث ساق الكثيرَ من العلماء إلى أن يجتهدوا في تعداد هذه الشعب.
وقد تقدم معنا أنَّ العلماء ذكروا أنه لا يشترط تعدادها والوقوف عليها على جهة التفصيل، وأنَّ من اجتهد من العلماء، فعدَّها، وذكرها فإنما ذلك مبني عن اجتهاد منه، والواجب على المسلم هو أن يؤمن بالله سبحانه وتعالى وأن يجتهد في الأعمال الصالحات، وأن يعلم أنَّ الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وسنسير على ترتيب الإمام البيهقي في كتابه، وقد ذَكَرَ في أول شعب الإيمان: شعبة الإيمان بالله -جل وعلا-.
الشعبة الأولى الإيمان بالله:
وهذه الشعبة هي أعلى شعب الإيمان، وهي داخلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:
«فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» وجاء في رواية: «أَعْلَاها شَهَادةُ أن لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ»
(3)
.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل: أيُّ الأعمال أفضل؟
فقال: «إيمانٌ باللهِ ورسولِهِ»
(4)
.
(1)
كان في يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر شعبان 1441 هـ.
(2)
تقدم تخريج هذا الحديث برواياته المختلفة في المجلس الأول.
(3)
ابن حبان (191).
(4)
البخاري (1519) واللفظ له، ومسلم (83).
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل، فقال أيُّ العمل أفضل؟ قال:«إِيمَانٌ بِاللهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِه» متفق عليه
(1)
. والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ولما جاء وفد عبد القيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الإِيمَانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ
…
»
(2)
الحديث.
فهذه الأدلة تدل على أن أرفعَ شعب الإيمان: الإيمانُ بالله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الحافظ البيهقي -رحمه الله تعالى-، عن شيخه الحليمي رحمه الله: أن الإيمان بالله يتضمن عدة أمور
(3)
، ونحن نلخصها إن شاء الله من شروحات العلامة ابن عثيمين رحمه الله فإنه لخَّص هذا الباب تلخيصًا حسنًا.
الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور
الأمر الأول: الإيمان بوجود الله.
والأمر الثاني: الإيمان بربوبية الله.
والأمر الثالث: الإيمان بألوهية الله.
والأمر الرابع: الإيمان بأسماء الله وصفاته.
فقولك: "آمنت بالله" يقتضي هذه الأمور الأربعة، وقد دلَّ عليها كتاب الله سبحانه وتعالى.
الأمر الأول: الإيمان بوجود الله
وقد ذكرنا لكم فيما مضى أوَّلَ أمر في القرآن، وأوَّلَ نداء في القرآن وهو في قول الله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة] ثم قال سبحانه وتعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة].
وهذه الآيات إذا تأملناها فإنها في تحقيق هذا الأصل العظيم، وهو الإيمان بالله.
بدأ بماذا؟ بدأ بتحقيق الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى فإن هذه الآيات فيها إقامة البراهين
(1)
البخاري (2518)، ومسلم (84).
(2)
البخاري (523)، ومسلم (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
انظر في ذلك شعب الإيمان، شرح الحديث (88).
بخلقهم، وخلق السماوات والأرض والمطر والنبات.
وقد تكرر في القرآن ذكرُ المخلوقات والتنبيه على الاعتبار في الأرض، وفي السماوات، والحيوان، والنبات، والرياح، والأمطار، والشمس، والقمر، والليل، والنهار. كل ذلك للإفادة والإشارة إلى العقل بأن يعلم أنه إذا تفكر قاده ذلك إلى أنَّ الله موجود؛ لأن الصنعة دليل على الصانع لا محالة. فالله سبحانه وتعالى يدعونا إلى التفكر، وإلى التأمل، وإلى التدبر في هذا الكون الفسيح: مَنْ خَلَقَه؟ ومَن أوجده؟ ومَن مَلَكه؟ ومَن سيَّره ودبَّره؟
فلا يبقى لملحدٍ حجة، لا يبقى لأهل الإلحاد حجة في ذلك.
وهنا جاءت الآيات {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} لم يقل: يا أيها الذين ءامنوا. وإنما هو نداء عام: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} يقول أهل التفسير في هذا النداء: لما قال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} دخل في ذلك أصناف الناس كلهم: فهو نداء لمن لا يؤمن بالله أن يؤمن بالله، ونداء للجاحد أن يعترف بوجود الله سبحانه وتعالى، وهو نداء للمشرك أن يُوحِّد الله، وهو نداء للمؤمن أن يطيع الله؛ ولهذا جاءت الآية:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} بنداء عام.
ولما كان النداء عامًّا جاءت فيه الأدلة والبراهين على توحيد الله رب العالمين سبحانه وتعالى.
الأدلة على الأمر الأول: الإيمان بوجود الله
فمن هذه الأدلة: أنَّ الله هو الخالق، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي بسط هذه الأرض، وجعلها قرارًا، وأن الله هو الذي رفع السماء بلا عمد، وجعلها بناء، وأن الله صوَّركم وأحسن صوركم، وأن الله هو الرزاق سبحانه وتعالى. ولهذا قال في الآية بعدها:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة]
فلاحظوا أن هذه الآيات وسياق هذه الآيات جاء أوَّلًا للتنبيه على أمر يؤمن به كلُّ الناس، وهو أنَّ الله هو الخالق، وأنَّ الله هو الرازق، وأنَّ الله هو المحيٍ، وأنَّ الله هو المميت، وقد تقدم معنا في مجلس سابق ذِكْرُ كثيرٍ من الأدلة الدالة على أن الذين بُعِثَ إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يُقِرُّون بوجود الله وبأنه الخالق والرازق، فلم يكونوا ينكرون شيئًا من ذلك، وإنما كانوا يُقِرُّون به؛ فجاء القرآن ليبين لهم أن إقراركم بهذه الأمور يُوجِب عليكم
أن تؤمنوا بالله وحده لا شريك له
(1)
.
وتأملوا في قول الله سبحانه وتعالى في بيان ما كان عليه أهل الشرك، قال الله مخاطبًا لهم:
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 31] فيا من تنكر وجود الله، من الذي يرزقك؟ {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 31 - 32]
إنَّ الله -جل وعلا- يأمرنا ويعلمنا كيف يُناقَش ويُجادَل الملحدُ الذي لا يؤمن بوجود الله بأن يقال له: انظر إلى هذا الكون الفسيح، وإلى انتظامه: شمسٌ وقمر، وليل ونهار، سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، تسير على نظام واحد، هل يعقل أن تكون بلا إله؟!.
ولذلك قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- عند هذه الآية: "وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع، فقال: وهي دالة على ذلك بطريق الأولى؛ فإنَّ من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية، واختلاف أشكالها، وألوانها، وطباعها، ومنافعها، ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، عَلِمَ قدرة خالقها وحكمته، وعلمه، وإتقانه، وعظيم سلطانه"
(2)
.
يجادل كثير من هؤلاء الملاحدة ويكثرون الجدال، ويا للأسف فإن الإلحاد غزا بلاد المسلمين، فبعض أولادنا وأهلينا بسبب بُعدِهم عن الله وبُعدِهم عن طاعته، وعن الصلاة والاستقامة، والانشغال الكثير بالفضاء الإلكتروني، والاختلاط بأناس ذوي أفكار شتى من أنحاء العالم وَصَلَ بهم الأمر إلى الإلحاد، فوُجِد في بعض بيوتنا الملحد، نعم وُجِد في بيوت بعض المسلمين ملحدٌ ينكر وجود الله سبحانه وتعالى.
(1)
انظر: المجلس الثالث (إقرار المشركين بتوحيد الربوبية) وانظر ما سيأتي قريبا.
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 197).
من دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام لقومه:
وتأملوا كلمة إبراهيم عليها السلام لقومه: قال الله -جل وعلا- في سورة العنكبوت: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} ثم قال عليها السلام: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت: 16 - 17]
أيْ هؤلاء الذين تعبدونهم، هذه الأصنام والأوثان هل ترزقكم؟
الجواب: لا. من الذي يرزقكم؟ إنه الله؛ لهذا قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)} [العنكبوت]، فتأملوا كيف استدل بمسألة رزق الله -جل وعلا- على أنه خالقٌ مستحِقٌّ للعبادة. ولهذا فإن هذه الآية في سورة البقرة:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]-وكلمة {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي: وحِّدوُا الله -جل وعلا-. ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «كل عبادة في القرآن فهي توحيد»
(1)
. فإذا قرأت: {اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة: 72، و 117]، {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات] فالمقصود بذلك التوحيد؛ لأن: العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة. فلا بد من توحيد الله سبحانه وتعالى، فمعنى قوله:{اعْبُدُوا اللَّهَ} أي: وحدوا الله {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة].
وحاصل المعنى: أن إيمانكم بالله -جل وعلا- وبربوبيته مستلزمٌ لأن تؤمنوا بالله، وتوحِّدوه، فلا إله غيره ولا ربَّ سواه.
من أدلة الإمام أبي حنيفة العقلية على وجود الله:
وقد ذكر ههنا العلامة الرازي رحمه الله: أنَّ الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان سيفًا على الدهرية، وكانوا ينتهزون الفرصة ليقتلوه. فبينما هو يومًا في مسجده قاعد، إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة وهمُّوا بقتله فقال لهم: أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا له
(1)
ذكره عن ابن عباس رضي الله عنه: القرطبي في تفسيره = الجامع لأحكام القرآن» (18/ 193) وقبله أبو منصور الماتريدي في تفسيره = تأويلات أهل السنة (1/ 363) وأبو الليث السمرقندي في تفسيره بحر العلوم (1/ 301) وهو مسند -بمعناه- في تفسير الطبري جامع البيان ط هجر (1/ 385).
هات، فقال: ما تقولون في رجل يقول لكم: إني رأيت سفينة تجري مستوية ليس لها ملَّاح يجريها ولا متعهِّد يدفعها، هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا: لا، هذا شيء لا يقبله العقل؟ فقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: يا سبحان الله! إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مُجْرٍ فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟! فبكوا جميعًا، وقالوا: صدقت وأغمدوا سيوفهم وتابوا.
من أدلة الإمام مالك العقلية على وجود الله:
وذكر الرازي رحمه الله أيضا: أنَّ الخليفة الرشيد سأل الإمام مالكًا عن وجود الصانع، فاستدلَّ له الإمام مالك باختلاف الأصوات وتردد النغمات وتفاوت اللغات. يشير إلى قول الله سبحانه وتعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)} [الروم] وقُرِئ {للعَالَمِينَ}
(1)
. فتأمَّل هذه اللغات المختلفة! تأمل كلَّ واحدة منها! تجد اللغة الواحدة تتضمن لهجات لا تُعَد ولا تحصى، ناهيك عن الأصوات والنغمات، والله -جل وعلا- يعلم كلَّ ذلك، ويدعوه الناسُ بلغات شتى، فيجيب دعوة كل هؤلاء الناس بلغاتهم لا تختلف عليه الألسنة بل هو - سبحانه - يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]. يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل. ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
من أدلة الإمام الشافعي العقلية على وجود الله:
وذُكِرَ للإمام الشافعي رحمه الله مسألة وجود الصانع -جل وعلا- فقال: هذا ورق التوت: طعمه واحد، تأكله الدود، فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرًا وروثًا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، وهو شيء واحد!. وكأنه يشير إلى قول الله سبحانه وتعالى في فاتحة سورة الرعد: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ
(1)
قرأ العشرة سوى حفص {للعَالَمِينَ} بفتح اللام انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري (4/ 2543/ ط د. أيمن رشدي)
وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد: 4] فهي زروع مختلفة، قال فيها الله سبحانه وتعالى:{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} [الرعد: 4] ثمار مختلفة، بزراعة واحدة وطريقة واحدة، وماء واحد، وتختلف الزروع في طعومها وألوانها وروائحها:{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4]
(1)
.
قال الحافظ ابن كثير: فَهَذَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ وَذَا فِي غَايَةِ الْحُمُوضَةِ، وَذَا فِي غَايَةِ الْمَرَارَةِ وَذَا عَفِص، وَهَذَا عَذْبٌ وَهَذَا جَمَعَ هَذَا وَهَذَا، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ إِلَى طَعْمٍ آخَرَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا أَصْفَرُ وَهَذَا أَحْمَرُ، وَهَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَزْرَقُ. وَكَذَلِكَ الزُّهُورَاتُ مَعَ أَنَّ كُلَّهَا يُسْتَمَدُّ مِنْ طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الْمَاءُ، مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ وَلَا يَنْضَبِطُ، فَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيًا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي بِقُدْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَخَلَقَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4] ا. هـ
(2)
من أدلة الإمام أحمد العقلية على وجود الله:
وسُئِل الإمام أحمد رحمه الله عن ذلك، فقال: هاهنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهرُهُ كالفضة بيضاء، وباطنه كالذهب إبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جدار، فخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت مليح. يعني بذلك البيضة
(1)
ومن الاستنباطات الجميلة في تفسير الآية ما رواه الطبري في تفسيره (13/ 426/ ط هجر) عَنِ الْحَسَنِ -وهو البصري-، قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِقُلُوبِ بَنِي آدَمَ، كَانَتِ الْأَرْضُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ طِينَةً وَاحِدَةً، فَسَطَحَهَا وَبَطَحَهَا، فَصَارَتِ الْأَرْضُ قِطَعًا مُتَجَاوِرَاتٍ، فَيَنْزِلُ عَلَيْهَا الْمَاءُ مِنَ السَّمَاءِ، فَتُخْرِجُ هَذِهِ زَهْرَتَهَا، وَثَمَرَهَا، وَشَجَرَهَا، وَتُخْرِجُ نَبَاتَهَا، وَتُحْيِي مَوَاتَهَا، وَتُخْرِجُ هَذِهِ سَبَخَهَا، وَمِلْحَهَا، وَخَبَثَهَا، وَكِلْتَاهُمَا تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مَالِحًا قِيلَ: إِنَّمَا اسْتَسْبَخَتْ هَذِهِ مِنْ قِبَلِ الْمَاءِ، كَذَلِكَ النَّاسُ خُلِقُوا مِنْ آدَمَ، فَيَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ تَذْكِرَةً، فَتَرِقُّ قُلُوبٌ فَتَخْشَعُ وَتَخْضَعُ، وَتَقْسُو قُلُوبٌ فَتَلْهُو وَتَسْهُو وَتَجْفُو ". قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا جَالَسَ الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ مِنْ عِنْدِهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، قَالَ اللَّهُ:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء].
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 432).
إذا خرج منها الفرخ. فهذه عند التفكر والتأمل ليست عبثًا، بل إنَّ لها موجدًا، وهو الله سبحانه وتعالى. وسئل أبو نُوَاس الشاعر المعروف فأنشد:
تأمَّلْ في نباتِ الأرضِ وانظر
…
إلى آثار ما صَنَعَ المليكُ
عيونٌ من لُجَينٍ شاخصاتٌ
…
بأحداقٍ هي الذهبُ السبيكُ
على قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شاهداتٌ
…
بأنَّ اللهَ ليس له شريكُ
(1)
هذا النبات وهذا الكون كله يشهد بوجود الله سبحانه وتعالى.
وذكر ابن المعتز عن أبي العتاهية أنه كتب:
أيا عجبَا كيف يُعصَى الإلـ
…
ـهُ أم كيف يجحدُهُ الجاحدُ!؟
ولله في كلِّ تحريكةٍ
…
وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ
…
تدُلُّ على أنه واحدُ
فرأى هذه الأبيات أبو نواس فكتب:
سبحانَ منْ خَلَقَ الخَلْـ
…
ـــقَ مِنْ ضعيفٍ مَهينِ
فساقه مِنْ قرارٍ
…
إلى قرارٍ مَكينِ
يحول شيئًا فشيئًا
…
في الحجب دون العُيون
(2)
التأمل في خلق الإنسان:
وتأمل في خلقكِ {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "خُلِقوا في أصلاب الرجال، وصُوِّرُوا في أرحام النساء"
(3)
.
فخلقك يحتاج إلى تأمل وإلى تفكر كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات].
وقرأ عبد الرحمن بْنُ زَيْدٍ رحمه الله: هذه الآية مع قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
(1)
انظر قصة الإمام مالك وما بعدها في مفاتيح الغيب (2/ 333 - 334)، وتفسير ابن كثير (1/ 198، 197).
(2)
انظر الأبيات في طبقات الشعراء لابن المعتز، ص 208، 207، وأورد نحوها البيهقي في الشعب (105).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8232) والحاكم (3242) -وعنه البيهقي في شعب الإيمان (106) - وصححه على شرطهما والصواب أنه صحيح فقط.
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)} [الروم] ثم قال:
(1)
وقال الطبري رحمه الله: مَعْنَى ذَلِكَ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أَيْضًا أَيُّهَا النَّاسُ آيَاتٌ وَعِبَرٌ تَدُلُّكُمْ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ صَانِعِكُمْ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ لَكُمْ سِوَاهُ، إِذْ كَانَ لَا شَيْءَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَ خَلْقِهِ إِيَّاكُمْ {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] يَقُولُ: أَفَلَا تَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ فَتَتَفَكَّرُوا فِيهِ، فَتَعْلَمُوا حَقِيقَةَ وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِكُمْ.
(2)
وقرأ عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما هذه الآية فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} «سبيل الخلاء والبول»
(3)
فلينظر الإنسان إلى طعامه:
وعن ابن الزبير رضي الله عنه أيضا- أنه قرأ قول الله -جل وعلا-: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} [عبس] فقال: إلى مدخله ومخرجه.
(4)
وروي عَنْ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أنه قال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} أَي: إِلَى مَا يخرج مِنْهُ كَيفَ انْقَلب من الطّيب إِلَى الْخَبيث
(5)
.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَا بَالُ أَحَدِنَا إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ نَظَرَ إِلَيْهَا إِذَا قَامَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: إِنَّ المَلَكَ يَقُولُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا بَخِلْتَ بِهِ إِلَى مَا صَارَ.
(6)
(1)
تفسير الطبري "جامع البيان" ط هجر (21/ 520).
(2)
تفسير الطبري "جامع البيان" ط هجر (21/ 521).
(3)
شعب الإيمان (110، 7859) وهو في تفسير عبد الرزاق (2987) وتفسير الطبري "جامع البيان" ط هجر (21/ 519) ورواه ابن أبي الدنيا في التواضع والخمول (212) وفي الجوع (169) وسنده صحيح.
(4)
رواه ابن المنذر كما في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/ 420)
(5)
تفسير السمعاني (6/ 160) وفي التواضع والخمول لابن أبي الدنيا (213) من طريق الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«إِلَى خُرْئِهِ» .
(6)
رواه ابن خزيمة في صحيحه (2/ 189 رقم 1375/ ط. التأصيل) - ومن طريقه الضياء المقدسي في المختارة (13/ 146) - وفي سنده ضعف.
وعَنِ الْحَسَنِ رحمه الله قال: مَلَكٌ يُثْنِي رَقَبَةَ ابْنِ آدَمَ إِذَا جَلَسَ عَلَى الْخَلاءِ لَيَنْظُرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ
(1)
. قال الماوردي رحمه الله: ويحتمل إغراؤه بالنظر إلى وجهين: أحدهما: ليعلم أنه محل الأقذار فلا يطغى. الثاني: ليستدل على استحالة الأجسام فلا ينسى ا. هـ
(2)
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ رحمه الله قَالَ: كَانَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ كَثِيرًا مَا يَقُولُ: انْطَلِقُوا حَتَّى أُرِيَكُمُ الدُّنْيَا. قَالَ: فَيَجِيءُ بِهِمْ إِلَى السُّوقِ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَزْبَلَةٌ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى دَجَاجِهِمْ، وَبَطِّهِمْ، وَثِمَارِهِمْ.
(3)
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ جُعِلَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا، وَإِنْ قَزَّحَهُ، وَمَلَّحَهُ فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ»
(4)
قال المنذري رحمه الله: قوله: (قَزَّحه) بتشديد الزاي أي: وضع فيه (القِزْح)، وهو التابل. و (مَلَحه) بتخفيف اللام، معروف ا. هـ
(5)
وقال القرطبي رحمه الله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} : أَيْ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ طَعَامَهُ. وَهَذَا النَّظَرُ نَظَرُ الْقَلْبِ بِالْفِكْرِ، أَيْ لِيَتَدَبَّرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ طَعَامَهُ الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهِ، وَكَيْفَ هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَ الْمَعَاشِ، لِيَسْتَعِدَّ بِهَا لِلْمَعَادِ. ا. هـ
(6)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فِيهِ امْتِنَانٌ، وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ بِإِحْيَاءِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَامِ بَعْدَمَا كَانَتْ عَظَاما بَالِيَةً وَتُرَابًا مُتَمَزِّقًا ا. هـ
(7)
فيا سبحان الله! يدعو ربنا -جل وعلا- الناسَ في كتابه إلى النظر وإلى التأمل والتفكر؛ وذلك يقود كلَّ من تأمل وكل من شكَّ وألحد إلى وجود الله سبحانه.
(1)
رواه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/ 420)
(2)
انظر: تفسير الماوردي = النكت والعيون (6/ 207)
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في الزهد رقم (152) وفي قصر الأمل (299) وفي ذم الدنيا (62) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (10/ 324)
(4)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (21239) وصححه ابن حبان (702). وهو في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (2657) لشيخنا العلامة الوادعي وقال: هذا حديث حسن ا. هـ وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (382).
(5)
انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2/ 506) رقم (2150).
(6)
تفسير القرطبي (22/ 82).
(7)
تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 323)
التأمل في الكون الفسيح:
قال ابن كثير رحمه الله: "وقال آخرون: من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها، واتساعها، وما فيها من الكواكب الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة، ولها في أنفسها سير يخُصُّها، ونظر إلى البحار الملتفَّة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتَقَرَّ، ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 27 - 28] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة، والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء، عَلِمَ وجود الصانع، وقدرتَه العظيمة، وحكمتَه، ورحمتَه، بخلقه ولطفَه بهم، وإحسانَه إليهم، وبِرَّه بهم، لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب"
(1)
.
التفكر والتأمل في الآيات الكونية والشرعية:
والقرآن يدعونا إلى التفكر والتأمل في آيات الله الكونية والشرعية.
الآيات الكونية المشاهدة من خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر. كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] وقال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية]
والآيات الشرعية وهي تأمل وتدبر الكتاب العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت] كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد]، وهذا التفكر يزيد الإيمان ويقوي اليقين في القلب.
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 198).
تفكر رسولنا صلى الله عليه وسلم وتأمله:
وقد روى أبو حاتم ابن حبان في صحيحه عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَزُورَنَا، فقَالَ: أَقُولُ يَا أُمَّهْ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا، قَالَ: فَقَالَتْ: دَعُونَا مِنْ رَطَانَتِكُمْ هَذِهِ، قَالَ ابْنُ عُمَيْرٍ: أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي، قَالَ:«يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي» قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟، قَالَ:«أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران] الْآيَةَ كُلَّهَا»
(1)
وفي الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عَلَيَّ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ:«نَعَمْ» فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء]، قَالَ:«حَسْبُكَ الآنَ» فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
(2)
وفي السنن عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ
(1)
أخرجه ابن حبان (620). ورواه عبد بن حميد في تفسيره وابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار -كما في تفسير ابن كثير (2/ 189) -، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (4618) والخرائطي مختصرا في اعتلال القلوب (610) وأبو الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي (544، 568) وأبو الليث السمرقندي في تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين (918) وفي تفسيره بحر العلوم (1/ 274) وابن مردويه في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير (2/ 189) - ومن طريقه وطريق غيره أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (666، 1951) -، وأبو العباس المستغفري في فضائل القرآن (491). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1468) وفي السلسلة الصحيحة (68) وحسنه شيخنا الوادعي في «الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين» (3974)
(2)
أخرجه البخاري (5050) ومسلم (800)
كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ الْبُكَاءِ»
(1)
فهذا نموذج من تدبر النبي صلى الله عليه وسلم وخشوعه فإن البكاء علامة التدبر.
من سير السلف في التأمل والتفكر:
وفي الزهد لوكيع عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَمَّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ أَفْضَلَ عِبَادَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه؟ قَالَتْ: «التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ»
(2)
وفي الزهد لابن المبارك عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قِيلِ لَهَا: مَا كَانَ أَكْثَرُ عَمَلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ: «التَّفَكُّرُ» ، قَالَتْ: نَظَرَ يَوْمًا إِلَى ثَوْرَيْنِ يَخُدَّانِ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقِلَّيْنِ بِعَمَلِهِمَا إِذْ عَنَتَ أَحَدُهُمَا، فَقَامَ الْآخَرُ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:«فِي هُنَا تَفَكُّرٌ، اسْتَقَلَّا بِعَمَلِهِمَا وَاجْتَمَعَا، فَلَمَّا عَنَتَ أَحَدُهُمَا قَامَ الْآخَرُ، كَذَلِكَ الْمُتَعَاوِنَانِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل»
(3)
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ» .
(4)
(1)
أخرجه أبو داود (904) والنسائي (1214) والترمذي في الشمائل (323) وصححه ابن خزيمة (900) وابن حبان (665، 753) والحاكم (971) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ا. هـ وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (839) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (964) وقالا: حديث صحيح رجاله رجال مسلم. وهذه العبارة أصح من قول الحاكم على شرط مسلم فإنه رواه عن الحسن بن مكرم عن يزيد بن هارون بسنده عن مطرف. ويزيد ومن فوقه على شرط مسلم، لكن ابن مكرم وهو في طبقة شيوخ مسلم وهو ثقة وليس من رجال الكتب الستة.
(2)
الزهد لوكيع (224) -ومن طريقه أحمد في الزهد (720) وابن عساكر في تاريخه (47/ 149) - قال: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، وَالْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَوْنِ به. ورواه ابن سعد في الطبقات (5625) وأبو داود في الزهد (205) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 253) من طريق مالك بن مغول به. ورواه ابن المبارك في الزهد والرقائق (286) - ومن طريقه النسائي في السنن الكبرى (11850) وابن عساكر في تاريخه (47/ 149) - عن محمد بن عجلان عن عون به. ورواه ابن المبارك (872) وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (46) وابن عساكر في تاريخه (47/ 149) من طريق المسعودي عن عون به. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (34586) وهناد في الزهد (2/ 468) وابن سعد في الطبقات (5625) وأبو داود في الزهد (198، 199) وأبو الشيخ في العظمة (45) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 208) والبيهقي في شعب الإيمان (118) من طريق سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء.
(3)
الزهد والرقائق (872) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (47/ 149) - ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر -كما في فتح الباري لابن رجب (3/ 313) -
(4)
أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق (949) وأحمد في الزهد (746) وهناد في الزهد (2/ 468) وأبو داود في الزهد (199) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 208) والبيهقي في شعب الإيمان (117)
وعن الحسن البصري مثله.
(1)
وقال الْفُضَيْلُ، قَالَ الْحَسَنُ:«التَّفَكُّرُ مِرْآةٌ تُرِيكَ حَسَنَاتِكَ وَسَيِّئَاتِكَ»
(2)
وقال أبو الشيخ الأصبهاني رحمه الله: فَإِذَا تَفَكَّرَ الْعَبْدُ فِيِ ذَلِكَ اسْتَنَارَتْ لَهُ آيَاتُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَسَطَعَتْ لَهُ أَنْوَارُ الْيَقِينِ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْهُ غَمَرَاتُ الشَّكِّ، وَظُلْمَةُ الرَّيْبِ، وَذَلِكَ إِذَا نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ وَجَدَهَا مُكَوَّنَةً مَكْنُونَةً مَجْمُوعَةً مُؤَلَّفَةً مَجْزَأَةً مُنَضَّدَةً مُصَوَّرَةً مُتَرَكِّبَةً بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُدَبَّرٌ إِلَّا بِمُدَبِّرٍ، وَلَا مُكَوَّنٌ إِلَّا بِمُكَوِّنٍ ا. هـ
(3)
ذم من لا يعتبر ويتفكر بمخلوقات الله:
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَا يَعْتَبِرُ بِمَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْرِهِ وَآيَاتِهِ، فَقَالَ:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف] وَمَدَحَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَائِلِينَ {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} أَيْ: مَا خَلَقْتَ هَذَا الْخَلْقَ عَبَثًا، بَلْ بالحق لتجزي الذين أساؤوا بِمَا عَمِلُوا، وَتَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. ثُمَّ نَزَّهُوهُ عَنِ الْعَبَثِ وَخَلْقِ الْبَاطِلِ فَقَالُوا:{سُبْحَانَكَ} أَيْ: عَنْ أَنْ تَخْلُقَ شَيْئًا بَاطِلًا {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران] أَيْ: يَا مَنْ خَلَق الْخَلْقَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ يَا مَنْ هُوَ مُنزه عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعَيْبِ وَالْعَبَثِ، قِنَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقيضْنَا لِأَعْمَالٍ تَرْضَى بِهَا عَنَّا، وَوَفِّقْنَا لِعَمَلٍ صَالِحٍ تَهْدِينَا بِهِ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَتُجِيرُنَا بِهِ مِنْ عَذَابِكَ الْأَلِيمِ ا. هـ
(4)
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (35223) وأحمد في الزهد (746) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 271)
(2)
أخرجه أبو الشيخ في العظمة (13)
(3)
كتاب العظمة (1/ 271) وانظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 519 ط عطاءات العلم)
(4)
تفسير ابن كثير - ت السلامة (2/ 18).
تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله:
وقال نُعَيْمُ بْنِ حَمَّادٍ رحمه الله: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَيَتْرُكَ التَّفَكُّرَ فِي الرَّبِّ تبارك وتعالى وَيَتْبَعَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ» . {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ ا. هـ
(1)
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: والفكرة في الله تبارك وتعالى بدعة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الله» . فإن الفكرة في الرب تقدح الشك في القلب ا. هـ
(2)
وقوله: (والفكرة في الله): أي في ذات الله عز وجل، فإنها لا تجوز لأنَّ العبد إذا فكَّر، فإنّما يفكر بما يتصوره عقله، وبما يخطر على ذهنه، من مرئياتٍ، ومسموعاتٍ، ومعلومات، والله سبحانه تعالى فوق ذلك كلِّه فلا ينبغي لأحدٍ أن يفكر في ذاته تعالى، لأنَّه كلَّما تصور شيئاً، فالله عز وجل بخلافه، ويكفينا أن نفكر في خلق الله. والحديث المذكور له طرق كلها ضعيفة
(3)
. ومن أمثلها ما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة عَنْ
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (3/ 582).
(2)
شرح السنة (ص 68) وانظر: «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (2/ 23 ت الفقي)
(3)
رواه هناد بن السري في الزهد (2/ 469) قال: حدثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون فقال: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ» وهذا مرسل أو معضل، فعمرو من صغار التابعين. وأخرجه حرب الكرماني في مسائله -ت فايز حابس- (3/ 1154) من طريق محمد بن عبيد به. وأخرجه أبو القاسم الأصبهاني قوام السنة في الترغيب والترهيب (672) من طريق أبي أسامة عن الأعمش به. ووصله أبو الشيخ في العظمة (5) قال: حدثنا محمد بن أبي يعلى - (وهو محمد بن إسحاق بن إبراهيم شاذان، من رجال الطبراني وهو مجهول يروي هنا عن أبيه) -، أنا إسحاق بن إبراهيم (الملقب شاذان ويروي هنا عن جده)، أنا سعد بن الصلت -وهو في ثقات ابن حبان وقال ربما أغرب-، أنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن رجل، حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله، فقال:«تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره» . وهذا إسناد ضعيف. ورواه أبو القاسم إسماعيل التيمي في الترغيب والترهيب (670) عن عبد الحميد بن يحيى الحماني -وهو ضعيف-، ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما به. ورواه أبو الشيخ (4/ 1489) عن مقاتل، عن عكرمة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد حَلَق حَلَق، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فِيمَ أَنْتُمْ؟» ، قُلْنَا نَتَفَكَّرُ فِي الشَّمْسِ كَيْفَ طَلَعَتْ؟ وَكَيْفَ غَرَبَتْ؟ قَالَ:«أَحْسَنْتُمْ، كُونُوا هَكَذَا، تَفَكَّرُوا فِي الْمَخْلُوقِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ مَا شَاءَ لَمَّا شَاءَ» ،
…
وذكر حديث طويلا. وإسناده مسلسل بالمجاهيل. وروى عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مرفوعاً: «تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ» أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (12111) والطبراني في المعجم الأوسط (6319) وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (8/ 385) والبيهقي في شعب الإيمان (119) وغيرهم. وقال البيهقي: في إسناده نظر ا. هـ وهو كما قال. فالحديث من رواية الوازع بن نافع عن سالم بن عبد الله عن أبيه. والوازع ضعيف جدا. انظر: لسان الميزان ت أبي غدة (8323). وروى أبو عبد الرحمن السلمي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ، وَلا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ» وسنده ضعيف جدا. رواه أبو الفضل الرازي في أحاديث في ذم الكلام وأهله (ص 76) عن السلمي. وسنده رجاله ثقات، لكن السلمي مختلف فيه -وهو: من شيوخ الحاكم والبيهقي واسمه: محمد بن الحسين السلمي النيسابوري -وقد اتهم بالوضع. وله طريق أخرى رواها ابن عساكر وابن المحب عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: «تفكروا في آلاء اللَّه ولا تتفكروا في اللَّه، فإنكم لن تدركوه إلا بالتصديق» وسنده ضعيف جدا. أخرجه ابن عساكر في المجلس (139) من " الأمالي "(50/ 1) -كما في السلسلة الصحيحة-، وابن المحب الصامت في صفات رب العالمين (1/ 695 بترقيم الشاملة) بسند مسلسل بالمجاهيل عن بشر بن الوليد عن عبد العزيز بن سلمة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وهذا سند غريب منكر. ورواه الثعلبي والبغوي في تفسيريهما عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ:"وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى"، قَالَ:«لَا فِكْرَةَ فِي الرَّبِّ» وسنده ضعيف جدا. أخرجه أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره "الكشف والبيان عن تفسير القرآن" ط دار التفسير (25/ 162) ومن طريقه محي الدين البغوي في تفسيره ط طيبة (7/ 417) عن أبي جعفر الرازي، عن أبيه عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب به. وإسناده ضعيف، أبو جعفر صدوق سيء الحفظ؛ ووالده لم أجد له ترجمة والظاهر أن في الإسناد خطأً وصوابه (عن ابن أبي جعفر عن أبيه، كما نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره). ومن دون أبي جعفر جماعة لا يعرفون. وروي عن أبي أمامة ذكره في أطراف الغرائب والأفراد (5/ 16) رقم (4531) عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَفَكَّرُوا فِي خلق الله عز وجل وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الله» . وقال: تفرد به عَليّ بن زيد الصدائي عَنْ أبي سعيد الشَّامي عَنْ مكحول عن أبي أمامة رضي الله عنه. وعلي بن زيد ضعيف والشامي مجهول. وروي عن أبي ذر رضي الله عنه. رواه أبو الشيخ في العظمة (4) من طريق سيف ابن أخت سفيان، وهو كذاب بسنده عن أبي ذر مرفوعا «تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ فَتَهْلِكُوا» .
عَطَاء بن السائبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:«فكروا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ، فَإِنَّ بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى كُرْسِيِّهِ أَلْفَ نُورٍ، وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ» وهذا موقوف وسنده ضعيف
(1)
.
(1)
كتاب العرش وما روي فيه (16) ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (2، 3، 22) وابن بطة في الإبانة الكبرى (7/ 150) رقم (108)، والبيهقي في الأسماء والصفات (618، 887) من طرق عن عطاء به. وعطاء مختلط، والرواة عنه هنا ممن روى عنه بعد الاختلاط. وقال ابن حجر في فتح الباري (13/ 383): موقوف وسنده جيد ا. هـ
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اللَّهِ فَقَالَ:«فِيمَ تُفَكِّرُونَ؟» قَالُوا: نَتَفَكَّرُ فِي خَلْقِ اللَّهِ، قَالَ:«لَا تُفَكِّرُوا فِي اللَّهِ، وَلَكِنْ تَفَكَّرُوا فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ» وسنده ضعيف
(1)
علاج الوسواس في ذات الله:
وهذه الأحاديث فيها علاج للوسوسة فإن من كيد الشيطان: وَسْوَسَتَهُ للمسلم في عقيدته ويقول له من خلق الله؟. وهي وإن كانت ضعيفة إلا أن معناها صحيح.
ويغني عنها ما ثبت في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ» متفق عليه
(2)
ولابن السني: «فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ وَمِنْ فِتْنَتِهِ»
(3)
وفي رواية لمسلم: «
…
فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ»
(4)
(5)
ولأبي داود: «فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا: اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ
(1)
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (4659) وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (21) وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 66) من طريق عبد الجليل بن عطية القيسي عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن سلام. وإسناده حسن في الشواهد. فعبد الجليل وشهر صدوقان سيئا الحفظ، وسائر الرجال ثقات. قاله الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 396). وشهر لم يلق عبد الله بن سلام كما في جامع التحصيل.
(2)
رواه البخاري (3276) ومسلم (134).
(3)
رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة (625) عن شيخه النسائي وساق سنده عن أبي هريرة به. وعزاها المنذري في الترغيب للنسائي وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 269): لم أجدها عنده ا. هـ فتبين أنها لابن السني يرويها عن النسائي فلعله لهذا عزاها المنذري للنسائي والله أعلم.
(4)
صحيح مسلم (134).
(5)
صحيح مسلم (134). ومسند أحمد ط الرسالة (14/ 109/ رقم: 8376) واللفظ له.
لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ثُمَّ لِيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ»
(1)
وللبيهقي في الأسماء والصفات: «فَإِنْ سُئِلْتُمْ فَقُولُوا: اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ كَائِنٌ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ»
(2)
وفي سنن أبي داود قال أَبُو زُمَيْلٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي؟ قَالَ: «مَا هُوَ؟» قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ، قَالَ: فَقَالَ لِي: «أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟» قَالَ: وَضَحِكَ، قَالَ:«مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ» ، قَالَ: حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] الْآيَةَ، قَالَ: فَقَالَ لِي: «إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد]»
(3)
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ:«وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟»
قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:«ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»
(4)
وفيه عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوَسْوَسَةِ، قَالَ:«تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ»
(5)
قال النووي رحمه الله: مَعْنَاهُ اسْتِعْظَامُكُمُ الْكَلَامَ بِهِ هُوَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ فَإِنَّ اسْتِعْظَامَ هَذَا وَشِدَّةَ الْخَوْفِ مِنْهُ وَمِنَ النُّطْقِ بِهِ فَضْلًا عَنِ اعْتِقَادِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ اسْتِكْمَالًا مُحَقَّقًا وَانْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَةُ وَالشُّكُوكُ وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ وَإِنْ لَمْ
(1)
سنن أبي داود (4722) والسنن الكبرى للنسائي (9/ 245)(10422). وإسناده حسن. وانظر: السلسلة الصحيحة (1/ 235/ 118)
(2)
الأسماء والصفات (14). وإسناده فيه مبهم.
(3)
سنن أبي داود (5110) وحسن إسناده الألباني
(4)
صحيح مسلم (132).
(5)
صحيح مسلم (133).
يَكُنْ فِيهَا ذِكْرُ الِاسْتِعْظَامِ فَهُوَ مُرَادٌ وَهِيَ مُخْتَصَرَةٌ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا قَدَّمَ مُسْلِمٌ رحمه الله الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُوَسْوِسُ لِمَنْ أَيِسَ مِنْ إِغْوَائِهِ فَيُنَكِّدُ عَلَيْهِ بِالْوَسْوَسَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ إِغْوَائِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَأْتِيهِ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَلَا يَقْتَصِرُ فِي حَقِّهِ عَلَى الْوَسْوَسَةِ بَلْ يَتَلَاعَبُ بِهِ كَيْفَ أَرَادَ فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ سَبَبُ الْوَسْوَسَةِ مَحْضُ الْإِيمَانِ أَوِ الْوَسْوَسَةُ عَلَامَةُ مَحْضِ الْإِيمَانِ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ القاضي عياض ا. هـ
(1)
وفي سنن أبي داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ، يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ، لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ:«اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ»
وفي رواية له: «رَدَّ أَمْرَهُ» مَكَانَ «رَدَّ كَيْدَهُ»
(2)
قال السندي رحمه الله: أي: كيد الشيطان إلى الوسوسة التي لا يؤاخذ بها المرء ولم يمكنه من غير الوسوسة وإلا لسعى فيه كما يسعى في الوسوسة بل جعل ذلك في يد الإنسان، فلذلك امتنع من التكلم ا. هـ
(3)
(1)
شرح مسلم (2/ 154).
(2)
رواه أبو داود (5112) والنسائي في "الكبرى"(10435) و (10436) وهو في مسند أحمد (2097)، وصحيح ابن حبان (147).
(3)
حاشية المسند (2/ 358)
المجلس السابع
(1)
من أدلة الإيمان بوجود الله:
تقدم معنا أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى يتضمن أربعة أمور:
الأمر الأول: الإيمان بوجود الله. والأمر الثاني: الإيمان بربوبية الله. والأمر الثالث: الإيمان بألوهية الله. والأمر الرابع: الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا.
وتكلمنا عن الإيمان بوجود الله، -وهو باب عظيم ومهم-، وانظر ما عليه كثير من الناس اليوم في كثير من بقاع الأرض من الإلحاد. فإنَّ كثيرًا من الناس اليوم مع التقنيات الحديثة ومع الفتن المدلهمة قد اتجهوا إلى الإلحاد، وهو إنكار وجود الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكرنا سابقًا طرفًا من أدلة وجود الله سبحانه وتعالى.
والإيمان بوجود الله -سبحانه- له أدلة كثيرة، فقد دلَّ عليه: العقل، والحس، والفطرة، والشرع.
قد تجد إنسانًا ملحدًا لا يؤمن بوجود الله، ولا يؤمن بالقرآن ولا يؤمن بالسنة، فلا يمكن أن يُحتَجَّ عليه بالنصوص؛ لأنه بداهة لا يؤمن بهذا الدين. فيقال: إن الأدلة على وجود الله سبحانه وتعالى كثيرة منها: دلالة العقل، والحس، والفطرة، والشرع.
دلالة العقل على وجود الله:
أما الدليل العقلي على وجود الله-سبحانه- فهو ما نبَّهْنا عليه في الدرس الماضي: وهو: أن هذا الكون الذي أمامنا، ونشاهده على هذا النظام البديع الذي لا يمكن أن يضطرب، ولا يتصادم، ولا يُسقِطَ بعضُه بعضًا، بل هو في غاية ما يكون من النظام كما قال ربنا سبحانه:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس]. فهو نظام بديع إذا تأملت رأيت عجبًا. فهل يعقل كما ذكرنا عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- أن يكون هذا الكون البديع والفسيح بهذا النظام
(1)
كان في يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شهر شعبان 1441 هـ.
البديع لا خالق ولا موجد له؟! والآيات في هذا كثيرة، منها:
وذكر البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان: أنه قيل لأم الدرداء: ما كان أفضلُ أعمالِ أبي الدرداء رضي الله عنه؟ قالت: «التَّفَكُّرُ»
(1)
.
وهذا التفكر يدعونا إليه القرآن، ويحتاج إليه جميع الناس.
فالمسلم في حاجة إلى أن يتفكر ويتأمل ليحصن نفسه وليكون داعية إلى الله سبحانه وتعالى فقد تواجه هؤلاء الملاحدة إما مواجهة حقيقية وإما أن تواجههم على صفحات الإنترنت؛ فليكن لديك حصيلة دينية تستطيع أن تدعو بها إلى الله -جل وعلا- و «لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»
(2)
.
وقد ذكرنا هذا الدليل في الدرس الماضي عن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-.
ولهذا لما سُئِل أعرابي عن ذلك قال: "يا سبحان الله! إن البعرة لَتَدُلُّ على البعير، وإن أثر الأقدام لَتَدُلُّ على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟
(1)
تقدم في المجلس السابق.
(2)
أخرجه البخاري (2942) واللفظ له، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟! "
(1)
.
هذا هو إعمال التفكر والتأمل في هذا الكون وفي هذه الآيات العظيمة.
وربنا -جل وعلا- يدعونا إلى أن ننظر في أنفسنا: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)} . ويقول بعد ذلك: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} مَنْ الذي يستطيع أن يحيِيَ هذه الأشياء؟! {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)} [الواقعة].
كل هذه الآيات خطاب: يعني أخبروني عن هذه الأشياء كيف هي؟
وفي سورة عبس يقول ربنا سبحانه وتعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} [عبس] أي: تفكَّرْ وتأمَّلْ في طعامك.
قال الطبري رحمه الله: أي: فَلْيَنْظُرْ هَذَا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ الْمُنْكِرُ تَوْحِيدَ اللَّهِ إِلَى طَعَامِهِ كَيْفَ دَبَّرَهُ؟
(2)
{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)} [عبس] الآيات ..
إذًا هذه كلُّها أدلة لو تفكر الإنسان فيها بعقله وتأمل لعرف أنَّ الله سبحانه وتعالى موجود.
وانظر إلى خطابات القرآن:
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)} [الأنعام]
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)} [النمل]
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 197) وانظر: مفيد العلوم ومبيد الهموم للخوارزمي (ص 25)
(2)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (24/ 115)
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} [الروم]
وقال تعالى: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} في سبعة مواضع من كتاب الله [يونس: 3، هود: 24 و 30، النحل: 17، المؤمنون: 85، الصافات: 155، الجاثية 23]
وقال تعالى: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)} في موضعين [الأنعام: 80، السجدة: 4]،
وقال تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة]،
وقال تعالى: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} [يس]،
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام]،
وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)} [غافر]
وقال تعالى في موضعين من كتابه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82، محمد: 24]،
وقال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية]
وقال ربنا سبحانه: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس]
وقال تعالى في مواضع: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)} [النحل: 79، النمل: 86، العنكبوت: 24، الروم: 37، الزمر: 52]
وقال سبحانه في موضعين من كتابه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس:، 67، الروم: 23]
وقال تعالى في موضع ثالث: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)} [النحل: 65]
وقال تعالى في مواضع من كتابه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} [الرعد:
3، الروم: 21، الزمر: 42، الجاثية: 13]
وقال في موضعين من سورة النحل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} [النحل: 11، و 69]
وقال تعالى في مواضع: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4، النحل: 12، الروم: 24]
وقال سبحانه في سورة النحل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} [العنكبوت]
وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال]
وقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة]
فهذه نحو أربعة وأربعين موضعا من القرآن -وغيرها كثير- وكلها داعية إلى التفكر والتأمل والذم لمن ترك ذلك.
دلالة الحس:
وهناك أيضًا دليل حسي على وجود الله -سبحانه- وهو ما نشاهده من إجابة الدعاء؛ فالإنسان يدعو الله ويقول: "يا الله" فيجيب الله دعاءه، ويكشف عنه ما هو فيه، ويحصل له المطلوب، فدل هذا على أن هناك ربّاً سمع دعاءه وأجابه.
وفي كتاب الله أنه سبحانه استجاب لأنبيائه:
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 76]،
ولاحظوا أن الآيات تأتي معقَّبة بالفاء قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي: جاءت الإجابة سريعة. إذًا هذا دليل حسي على وجود الله سبحانه وتعالى.
دلالة الفطرة:
وهناك أيضًا دليل الفطرة؛ فالإنسان بطبيعته إذا أصابه الضر قال: يا الله.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "حُدِّثنا أن بعض الكفار الموجودين الملحدين إذا أصابه الشيء المهلك بغتة يقول على فلتات لسانه: "يا الله" من غير أن يشعر؛ لأنَّ فطرة الإنسان تدله على وجود الرب -جل وعلا- "
(1)
.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. وهذا أَخْذُ ربنا سبحانه وتعالى للميثاق على الكفار وعلى جميع نسمات بني آدم أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الخالق وأنه -سبحانه- هو الإله المعبود بحق.
دلالة الشرع:
ثم هناك الأدلة الشرعية، وهي كثيرة جدًّا في كتاب الله سبحانه وتعالى.
إذًا هناك أدلة كثيرة يمكن للمسلم من خلالها أن يزداد إيمانًا، ويزداد يقينًا بمعرفة ربه سبحانه وتعالى.
وأعود فأقول: تأملوا كتاب الله، وتدبروا القرآن، قِفُوا عند الآيات، واقرؤوا تفسير السلف فيها، وليكن عندكم تفسيرٌ معتمدٌ من تفاسير السلف؛ لأنها تُعِين على فهم القرآن وتأمُّلِ الآيات البيِّنات كتفسير الإمام الطبري والحافظ ابن كثير والبغوي ومثل تفسير السعدي من المعاصرين.
الإيمان بربوبية الله:
الأمر الثاني مما يتضمنه الإيمان بالله سبحانه وتعالى: الإيمان بربوبية الله، ويعبر عنه العلماء بتوحيد الربوبية. فما معنى ذلك؟
معنى "الرب":
يقول العلماء رحمهم الله: الرب هو الخالق والمالك والمدبر.
(1)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 149).
هذه كلمات يفسر بها العلماء كلمة الرب. يقول الإمام الجوهري رحمه الله وهو من أئمة اللغة: "ربُّ كل شيء: مالكه، والربُّ: اسم من أسماء الله -جل وعلا-، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة"
(1)
.
وفي الشرع، في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتي الآيات للدلالة على أن الله-سبحانه-هو المالك الخالق المدبر كما قال ربنا سبحانه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة]، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)} [المؤمنون].
يقول الإمام الطبري رحمه الله: "ربنا جلَّ ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، والمصلِحُ أمْرَ خلقِه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر"
(2)
.
ومن السنة نجد مثلًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»
(3)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الرب هو الذي يربي عبده، فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها"
(4)
.
ويقول أيضًا: "الرب سبحانه هو المالك، المدبر، المعطي، المانع، الضار، النافع، الخافض، الرافع، المعز، المذل"
(5)
.
ويضيف بعض العلماء إلى ذلك المحيي المميت، فهو سبحانه وتعالى الذي بيده هذه الأمور.
ويقول شمس الدين ابن القيم رحمه الله: "والرب هو السيد، والمالك، والمنعم، والمربي، والمصلح. والله تعالى هو الربُّ بهذه الاعتبارات كلها"
(6)
.
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "الرب: هو المالك المتصرف"
(7)
.
(1)
الصحاح، مادة (ربب).
(2)
تفسير الطبري (1/ 142).
(3)
مسلم (34)، والترمذي (2623) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
(4)
قاعدة جامعة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له عبادةً واستعانةً ص 32.
(5)
مجموع الفتاوى (1/ 92).
(6)
بدائع الفوائد (4/ 132).
(7)
تفسير ابن كثير (1/ 131).
ويقول علامة القصيم في زمانه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "والرب: هو المربي جميعَ عبادِه بالتدبير وأصناف النِّعَم، وأخصُّ من هذا تربيتُه لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم"
(1)
.
أقسام الربوبية:
ولهذا يقول العلماء: الربوبية تنقسم إلى قسمين:
ربوبية عامة: وهي ربوبية الله -جل وعلا- لجميع خلقه، فهو ربُّ الخلائق أجمعين، ربُّ العالمين بما خلقهم ويرزقهم-سبحانه-ويدبر أمورهم.
وهناك ربوبية خاصة وهي لأوليائه، يصطفي فيها من يشاء سبحانه وتعالى فيخصهم بالحفظ والرعاية والتأييد، ويكلؤهم بحفظه سبحانه وتعالى.
والإله هو المعبود بحق، ولا يكون إلهًا حتى يكون متَّصِفًا بهذه الصفات التي بيَّنها العلماء رحمهم الله.
من معاني توحيد الربوبية:
ويُعبِّر العلماء رحمهم الله أيضًا عن توحيد الربوبية بأنه إفراد الله في أفعاله، وأفعالُه منها هذه الأشياء التي ذكرناها كالإحياء والإماتة والملك والتدبير والنفع والضر، وعلم الغيب، فهذه كلُّها من أفعال الله سبحانه. ومعنى إفراد الله في أفعاله: أن تؤمن بأن الله هو الخالق، وأن الله هو الرازق، وهو المحيي وهو المميت، وهو المعطي المانع، وهو النافع الضار، وهو الذي بيده الأمر سبحانه وتعالى؛ تؤمن بذلك كله.
إقرار المشركين بالربوبية لله:
وقد نبَّهْنا في الدرس الماضي أن العلماء رحمهم الله يقولون: إنَّ الخلائق جمعيًا أثبتَتْ هذا لله سبحانه وتعالى والأدلة من القرآن كثيرة على ذلك مثل الآيات في سورة المؤمنون، إذ يقول ربنا سبحانه وتعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
(1)
تيسير الكريم الرحمن (345).
تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} [المؤمنون].
توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية:
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه براهينَ ألوهيتِه واستحقاقِه العبادة، فمن هذه البراهين ما دلَّ عليه توحيدُ الربوبية، ولنتأمل في ذلك فاتحة سورة الفرقان: حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى:
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} ، ثم وَصَفَ اللهُ-تعالى-نفسه، فقال:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . إذًا هذا الأمر الأول وهو ملك السماوات والأرض، هل من مالك غير الله؟، هل يملك أحدٌ شيئًا غير الله تعالى، ملكًا تامًّا من هذه المعبودات؟ ولهذا قال:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} ، فهذا من ربوبيته سبحانه {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} ، لا أحد يملك مع الله شيئًا {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} ، إذًا، ذكر لنفسه سبحانه وتعالى من الصفات العلا أنه المالك الخالق المدبر لا يملك أحد مع الله شيئا. ثم قال سبحانه وتعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} يعني اتخذوا من دون الله آلهة، ما صفاتُها؟ قال الله:{لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} [الفرقان: 3]. وهذا معروف أنهم لا يملكون. لماذا؟ لأنَّ المالك هو الله سبحانه وتعالى أي: المالك على الحقيقية لهذه الأشياء، المالك للخلق والملك والتدبير هو الله سبحانه وتعالى. ولهذا يقول ربنا -جل وعلا- في سورة الزمر:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني أخبروني عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)} فالنفع والضر بيد الله سبحانه وتعالى عقيدةً صحيحةً ثابتةً لا بُدَّ للمسلم أن يؤمن بها.
ويقول ربنا -جل وعلا-: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)} [الأنعام].
ويقول ربنا سبحانه وتعالى في خاتمة سورة يونس: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} .
الآية التي قطعت عروق الشرك:
وهناك آية يقول عنها العلماء كابن القيم وغيره من أهل العلم: "إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب"
(1)
يعني أنها تَرُدُّ على كل شبه المشركين الذين تجد عندهم اعترافًا ضمنيًّا بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المالك، المدبر، ثم يشركون معه غيره، فما هي هذه الآية التي تقطع عروق الشرك؟
هي قول الله-سبحانه-في سورة سبأ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} .
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} كل ما يُدعَى {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، انظر ماذا يقول ربنا -سبحانه- فيهم:{لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} وهذا هو الأمر الأول أنهم لا يملكون شيئًا! إذًا لا يستحقون العبادة، لماذا؟ لأنَّ المالك هو الله.
الأمر الثاني: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} إذا أقر بعض الناس بأن المالك هو الله سبحانه وتعالى، وقد ينازع بعضهم فيقول: هؤلاء لهم شيء مثل ما يقول بعض المؤمنين بالأقطاب والأولياء {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} ولا جزء بسيط.
والأمر الثالث: قال الله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} يعني ليس لله وزير ولا معاون، ولا يحتاج إلى أحد سبحانه وتعالى فهو الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
(1)
انظر: كلام شيخ الإسلام في التسعينية (2/ 526) المسائل والأجوبة (ص: 117) واقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 226) والإخنائية أو الرد على الإخنائي ت العنزي (ص: 99) وسيأتي كلام ابن القيم وانظر: القول السديد للسعدي (67)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (9/ 314).
والأمر الرابع: قال الله سبحانه بعد هذه الآية: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]
إذًا هذه قطعت كلَّ الوسائل التي يتشبث بها أهل الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ فهم لا يملكون شيئا استقلالا، ولا يملكون قسطا من الملك، ولا يعاونون الله لغناه عن جميع خلقه، ثم إنهم بعد ذلك لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه لمن ارتضى. وحيث إن المَلِكَ من ملوك الدنيا -ولله المثل الأعلى- تجد من يشاركه، وتجد من يعاونه، وتجد من يكون ظهيرًا ووزيرًا له، وربما من يحبه، فيمكن أن يشفع عنده بلا إذنه؛ لكن الله سبحانه وتعالى بيَّنَ في هذه الآية أن هذه المعبودات لا تملك شيئًا؛ لأنَّ الرب على الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى.
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله: فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَخَذَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَجَامِعَ الطُّرُقِ الَّتِي دَخَلُوا مِنْهَا إِلَى الشِّرْكِ وَسُدَّ بِهَا عَلَيْهِمْ أَبْلَغَ سَدٍّ وَأَحْكَمَهُ، فَإِنَّ الْعَابِدَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْبُودِ لِمَا يَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لَا يَرْجُو مَنْفَعَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ قَلْبُهُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ مَالِكًا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَنْفَعُ بِهَا عَابِدَهُ، أَوْ شَرِيكًا لِمَالِكِهَا، أَوْ ظَهِيرًا أَوْ وَزِيرًا أَوْ مُعَاوِنًا لَهُ أَوْ وَجِيهًا ذَا حُرْمَةٍ وَقَدْرٍ يَشْفَعُ عِنْدَهُ، فَإِذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ انْتَفَتْ أَسْبَابُ الشِّرْكِ وَانْقَطَعَتْ مَوَادُّهُ، فَنَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ آلِهَتِهِمْ أَنْ تَمْلِكَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَدْ يَقُولُ الْمُشْرِكُ: هِيَ شَرِيكَةُ الْمَالِكِ الْحَقِّ، فَنَفَى شِرْكَهَا لَهُ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُ: قَدْ يَكُونُ ظَهِيرًا أَوْ وَزِيرًا أَوْ مُعَاوِنًا فَقَالَ: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّفَاعَةُ فَنَفَاهَا عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لِلشَّافِعِ لَمْ يَتَقَدَّمْ بِالشَّفَاعَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، فَإِنَّ الْمَشْفُوعَ عِنْدَهُ يَحْتَاجُ إِلَى الشَّافِعِ وَمُعَاوَنَتِهِ لَهُ، فَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهَا، وَأَمَّا مَنْ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِذَاتِهِ، فَهُوَ الْغِنِيُّ بِذَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَكَيْفَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟ ا. هـ
(1)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: نَفَى بِذَلِكَ جَمِيعَ وُجُوهِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ مَا يُشْرَكُ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مُلْكٌ أَوْ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، أَوْ يَكُونَ مُعِينًا، فَإِذَا انْتَفَتِ الثَّلَاثَةُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّفَاعَةُ الَّتِي هِيَ دُعَاءٌ لَكَ وَمَسْأَلَةٌ وَتِلْكَ لَا تَنْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا
(1)
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 83)
أَنَّهُ لَا رَازِقَ يَرْزُقُ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا اللَّهُ دَلَّ بِهَذَا وَهَذَا عَلَى التَّوْحِيدِ
…
إلخ ا. هـ
(1)
إذًا، توحيد الربوبية: هو إفراد الله في أفعاله من الملك، والخلق، والتدبير، والرزق، والإحياء، والإماتة. وقد نبَّه النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، فقال لابن عباس رضي الله عنهما:«يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»
(2)
.
لا يعلم الغيب إلا الله:
ومن أفعال الله العلمُ بالغيب، فلا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى ومن أوضح الأدلة في ذلك: قول الله-سبحانه-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} [النمل: 65]. آية واضحة؛ فإنه لا يعلم الغيب إلا الله،
وقد أمَرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188] فإذا كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يقول: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} يعني أنا لا أعلم من الغيب إلا ما أعلمني اللهُ إيَّاه من الوحي كما قال سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27] يعني فيوحي الله -جل وعلا- إليه بما شاء سبحانه وتعالى. فلا يعلم الغيب إلا الله، وهذا من الإيمان بربوبيته سبحانه، فالذين يعتقدون أنَّ الجن أو أنَّ الأولياء أو أنَّ بعض الناس أو أنَّ السحرة والمشعوذين والكُهَّان يعلمون شيئًا من الغيب فهؤلاء ما حقَّقُوا توحيدَ الربِّ سبحانه وتعالى.
وقوع الشرك في الربوبية:
وقولُ العلماء: "لم يُنكِر توحيدَ الربوبيةِ أحدٌ" يقصدون به: أن الخلائق قد أقرَّت
(1)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (3/ 154)
(2)
أحمد (2669)، والترمذي (2516) واللفظ له، من حديث ابن عباس رضي الله عنها.
بوجود الله، وبأنَّه هو الخالق والربُّ بنص القرآن، وليس معناه أنه لم يقع لهم شرك في الربوبية. فمن الناس من يعتقد في القبور والأضرحة والأولياء نفعًا أو دفعَ ضُرٍّ، فهذا من شركهم في الربوبية، وإلا فالشيطان لما خاطب ربه سبحانه وتعالى قال:{قَالَ رَبِّ} ناداه باسم الربوبية؛ فهو يقر بأن الله سبحانه وتعالى ربٌّ له. يقول ربنا -جل وعلا- عن إبليس: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)} [الحجر]. وقال أيضًا: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} [الحجر]. والمقصود أنه خاطب ربه سبحانه وتعالى باسم الربوبية.
وكذا فرعون الذي أنكر وجود الله سبحانه وتعالى لمَّا وقع له ما وقع وجاءه الغرق: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)} [يونس] وقد كان من قبلُ يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات].
فالمنكرون للربِّ سبحانه وتعالى ولوجوده -جل وعلا- إنما أنكروا ذلك إنكارَ جحودٍ وعنادٍ كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]
إذًا يوجد من أشرك في توحيد الربوبية بادعاء أن أحدًا يعلم الغيب أو أن أحدًا يملك نفعًا أو دفعَ ضُرٍّ أو غير ذلك، لكنَّ الخلائق قد أجمعت على إثبات وجود الله سبحانه وتعالى.
المجلس الثامن
(1)
الإيمان بألوهية الله:
لا يتم إيمان امرئ مسلم حتى يوحد الله في ألوهيته. والإيمان بألوهية الله: هو أن يؤمن الإنسان بأن الله هو الإله الحق لا يشاركه سبحانه أحد في ذلك لا مَلَكٌ مقرب ولا نبي مرسل، وهذا هو معنى قول:"لا إله إلا الله"؛
فشهادة التوحيد تلك الشهادة العظيمة التي لا يدخل أحد في الإسلام إلا بها تتضمن معنى توحيد الألوهية، فيؤمن الإنسان بأن الله هو الإله الحق، وأنَّ ما عُبِدَ من دونه إنما يُعبَد بباطل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} [الحج]
إذا قلت: "أشهد أن لا إله إلا الله" فأنت تُقِرُّ بأنه لا معبود بحق إلا الله وما تقدَّمَ من توحيد الربوبية والإيمان بوجود الله. وكلُّ ذلك إذا استقر عند امرئ فإنه يستلزم منه أن يُوحِّد الله في العبادة، ويفرده -جل وعلا-.
يقول ابن القيم رحمه الله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له":
• كلمةٌ قامت بها الأرض والسماوات،
• وخُلِقت لأجلها جميع المخلوقات،
• وبها أرسل الله-تعالى-رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه،
• ولأجلها نُصِبت الموازين، ووُضِعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار،
• وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار،
• فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب،
• وهي الحق الذي خُلِقت له الخليقة،
• وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب،
(1)
كان في يوم الخميس الثلاثين من شهر شعبان 1441 هـ.
• وعليها نُصِبت القبلة، وعليها أُسِّست الملة، ولأجلها جُرِّدت سيوف الجهاد،
• وهي حقُّ الله على جميع العباد،
• فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام،
• وعنها يُسأَل الأولون والآخِرون،
فلا تزول قَدَمَا العبدِ بين يدي الله حتى يُسأَل عن مسألتين:
• ماذا كنتم تعبدون؟
• وماذا أجبتم المرسلين؟
فجواب الأولى بتحقيق "لا إله إلا الله " معرفةً وإقرارًا وعملًا.
وجواب الثانية بتحقيق "أن محمدًا رسول الله " معرفةً وإقرارًا وانقيادًا وطاعةً"
(1)
.
الحكمة من خلق الثقلين:
توحيد الألوهية: هو إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة، وهو الذي خلقك الله -جل وعلا- لأجله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات] أي إلا ليوحدوا الله -جل وعلا- ولا يكون الإنسان موحدًا لله، ومؤمنًا بالله حتى يفرد الله -جل وعلا- بالعبادة؛
ولهذا قال العلماء: بُعِثَ جميع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم إلى الدعوة إلى هذا الأمر أي: إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة، يقول ربنا سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] الآية. فتأمل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} ما من أمة من الأمم إلا وبعث الله إليها رسولًا دعوتُه قائمةٌ على توحيد العبادة.
توحيد الألوهية يسمى توحيد العبادة:
والعلماء يسمُّون توحيد الألوهية توحيد العبادة، ويُعرِّفونه فيقولون: توحيد الألوهية أو توحيد العبادة هو إفراد الله في أفعال العباد، فلا تُصرَف أي عبادة من العبادات إلا لله -جل وعلا-. فالصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبِرُّكَ لوالديك، وصلتك لأرحامك، وتبسُّمك في وجه أخيك، كلُّ أنواع العبادة
(1)
زاد المعاد (1/ 36).
الواجبة والمستحبة، كلُّ ما تعبد به الله سبحانه وتعالى فإنه يجب أن تُخلِصَه لله، وأن تُفرِد الله -جل وعلا- به.
تعريف العبادة:
والعبادة عرفها شيخ الإسلام رحمه الله فقال: هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ؛ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَالْجِهَادُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَكَذَلِكَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ. وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالصَّبْرُ لِحُكْمِهِ وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ؛ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءُ لِرَحْمَتِهِ وَالْخَوْفُ لِعَذَابِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ وَالْمَرْضِيَّةُ لَهُ الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا
…
إلخ»
(1)
. وهي-كما يقول العلماء-قائمةٌ على التعظيم والتذلل لله سبحانه وتعالى.
(2)
توحيد الألوهية هو دعوة الأنبياء:
فالأنبياء جميعًا بعثهم الله-سبحانه-لتحقيق هذا الأمر {أَنِ اعْبُدُوا} وقد ذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما
(3)
وغيره من المفسرين أنَّ كلمة "اعبدوا" أو كلمة "العبادة" في القرآن يقصد بها الأمر بالتوحيد. فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] أي: وحِّدوا ربكم. وهنا قال: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي: وحِّدوا الله، والمقصودُ بالتوحيد هو توحيد الله في العبادة أي: في ألوهيته سبحانه؛ لأن توحيد الربوبية -كما تقدم معنا- تُقِرُّ به الخليقة ولا ينكره إلا معاند، ولكنَّ الذي بعث الله به الأنبياء هو دعوةُ الناس إلى عبادة رب العباد سبحانه. فالأنبياء لم يأتوا إلى الناس ليقولوا: إن الله هو الخالق، إن الله هو الرزاق، إن الله هو المحيي؛ فهذه أمور يُقِرُّون بها، ويؤمنون بها -كما تقدم معنا-؛ وإنما بعثهم سبحانه لتحقيق الأصل العظيم وهو إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة. وقد تقدم معنا قولُ اللهِ -سبحانه-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 149)
(2)
المرجع السابق (10/ 152)
(3)
تقدم تخريجه في المجلس السابع.
يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)} [يونس] فإذًا هم يقِرُّون.
إذًا ما الذي كذَّبُوا الأنبياءَ فيه؟ هو أنهم دعوا إلى إفراد الله -جل وعلا- في العبادة. كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]
واختلفت عبارات العلماء في بيان معنى الطاغوت -وهي متفقة المعنى-:
تفسير الطاغوت:
فعَنْ حَسَّانَ بْنِ فَائِدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: " الطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ"
(1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: وَسُئِلَ عَنِ الطَّوَاغِيتِ الَّتِي كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ:«كَانَ فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ، وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ، وَهِيَ كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهَا الشَّيْطَانُ»
(2)
وقال ابن وهب: قال لي مالك: الطاغوت ما يعبد من دون الله.
(3)
(1)
علقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم، ووصله سعيد بن منصور (2534) والطبري (9766/ ط شاكر) بسند صحيح عن أبي إسحاق، عن حسان به. وجاء تصريح أبي إسحاق بالسماع في بعض طرقه، وممن رواه عنه شعبة أيضا، وهو لا يروي عن أبي إسحاق إلا ما لم يدلسه. وحسان بن فائد روى عنه أبو إسحق السبيعي وحده وقال أبو حاتم:"شيخ"، وقال البخاري يعد في الكوفيين. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال الحافظ في الإصابة له إدراك. وقال في الفتح: إسناده قوي وقد وقع التصريح بسماع أبي إسحاق له من حسان، وسماع حسان من عمر في رواية رسته ا. هـ يعني عبد الرحمن بن عمر الملقب رسته في "كتاب الإيمان".
(2)
علقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم ووصله الطبري (4/ 558/ ط هجر) قال حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: فذكره. وشيخ الطبري القاسم هو القاسم بن الحسن، قال الشيخ أكرم زيادة في "معجم شيوخ الطبري": من الحادية عشرة، لم أعرفه، ولم أجد له ترجمة، ولم يعرفه الشيخ شاكر قبلي ا. هـ وشيخه الحسين هو ابن داود الملقب سنيد، وهو ضعيف. والأثر رواه ابن أبي حاتم (5452) قال: حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا إِسْحَاقُ بْنُ الضَّيْفِ، ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الطَّوَاغِيتِ، قَالَ: هُمْ كُهَّانٌ تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ شَيَاطِينُ. وهذا إسناد حسن، إسحاق بن الضيف قال أبو حاتم صدوق، وباقي رجاله ثقات.
(3)
الجامع لابن وهب (3/ 363/ ط دار البر).
قال القاضي أبو محمد بن عطية رحمه الله: وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمرود ونحوه، وأما من لا يرضى ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتا في حق العبدة، وذلك مجاز. إذ هي بسبب الطاغوت الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو الشيطان ا. هـ
(1)
ولذا قال العلماء: كلُّ ما عُبِد من دون الله وهو راضٍ فهو طاغوت
(2)
.
وقال الطبري رحمه الله: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي الطَّاغُوتِ أَنَّهُ كُلُّ ذِي طُغْيَانٍ عَلَى اللَّهِ فَعُبِدَ مِنْ دُونِهِ، إِمَّا بِقَهْرٍ مِنْهُ لِمَنْ عَبَدَهُ، وَإِمَّا بِطَاعَةٍ مِمَّنْ عَبَدَهُ لَهُ، وَإِنَسَانًا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْبُودُ، أَوْ شَيْطَانًا، أَوْ وَثنا، أَوْ صَنَمًا، أَوْ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ. ا. هـ
(3)
وقال شمس الدين ابن القيم رحمه الله: والطاغوت: كُل ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبود أو متبوع أو مُطَاعٍ؛ فطاغوتُ كل قوم مَنْ يتحاكمون إليه غير اللَّه ورسوله، أو يعبدونه من دون اللَّه، أو يتبعونه على غير بصيرة من اللَّه، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة للَّه؛ فهذه طواغيت العالم
…
إلخ
(4)
فإذا تأملت ما ذكره ابن القيم رحمه الله في تعريف الطاغوت عرفت أن الطواغيتَ كثيرونَ؛ وذلك أن كل من تجاوز حده في الشرع صار بخروجه منه وتجاوزه طاغوتاً
لكن قال العلماء: رؤوسُهُمْ خمَسةٌ: أولهم: إبليسُ لعنَهُ اللهُ، والثاني: مَنْ عُبِدَ وهو راضٍ، والثالث: مَنْ دعا الناسَ إلى عبادَةِ نفسِهِ، يعني ممن يقر الغلو والتعظيم بغير حق كفرعون ومشايخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد واتخاذهم أرباباً والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم. والرابع: مَنِ ادَّعى شيئًا مِنْ عِلمِ الغيْبِ، كالمنجمين والعرافين والسحرة والمشعوذين. والخامس: مَنْ حكمَ بغيِر مَا أنزلَ اللهُ، فهؤلاء الطواغيت، أمرنا الله باجتنابهم فقال:{وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .
إذا هذه هي دعوة جميع الأنبياء، فكلهم دعوا إلى هذه الكلمة {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا
(1)
تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 344)
(2)
المرجع السابق وانظر: «تيسير العزيز الحميد» (ص 31) و «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (1/ 163)
(3)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/ 558)
(4)
إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (2/ 92)
فَاعْبُدُونِ} ولهذا لو قيل لك: ما معنى لا إله إلا الله؟ فالجواب الصحيح أنَّ معناها: لا معبود بحق إلا الله.
الخطأ في تفسير كلمة التوحيد:
ومن الناس من يقول: "لا إله إلا الله" ويفسرها بأنه: لا خالق إلا الله، أو لا مدبر إلا الله، أو لا موجود إلا الله، وهذا كله غير صحيح. فإن دعوة الأنبياء قائمة على: إثبات العبادة لله ونفي استحقاق العبادة عما سوى الله كما في الآية السابقة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] فالله تعالى ابتعث الرسل بهاتين الكلمتين: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . ففي قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} إثبات، وفي قوله:{وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} نفي، وهذا هو معنى التوحيد المشتمل على إثبات ونفي، والنفي فيه اجتناب الطاغوت ونفي الشرك، والإثبات فيه: إثبات العبادة لله وحده دون ما سواه.
فضل كلمة التوحيد:
وإنما معنى هذه الكلمة العظيمة التي دعا إليها جميع الأنبياء: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا جاء في القرآن الإشادة بهذا التوحيد.
كلمة التوحيد هي العروة الوثقى:
فكلمة التوحيد: هي العروة الوثقى التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} [لقمان]. قال سعيد بن جبير قوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ} هي لا إله إلا الله"
(1)
.
(1)
رواه الطبري (5876) قال: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد؛ ورواه الطبراني في الدعاء: (1566) حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي، حَدَّثَنَا وكيع؛ كلاهما (أبو أحمد، ووكيع) قالا: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء، عن جعفر يعني ابن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير به. وإسناده صحيح. ورواه الطبري (5877) قال: حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء النهدي، عن سعيد بن جبير. فأسقط من سنده جعفر بن أبي المغيرة. ورواه في (28377) - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي السوداء، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وابن وكيع ضعيف. ورواه الطبراني في الدعاء (1567) قال: حَدَّثَنَا ابن أبي مريم، حَدَّثَنَا الفريابي، حَدَّثَنَا قيس بن الربيع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير. وسنده ضعيف.
هي الكلمة العليا
وهي الكلمة العليا التي ذكر الله-تعالى-في كتابه إذ قال: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "هي لا إله إلا الله"
(1)
.
هي الكلمة الحق:
وهي الكلمة الحق التي ذكر الله -جل وعلا- إذ يقول: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14]. يقول "شهادة أن لا إله إلا الله"
(2)
. وقال البغوي والقرطبي وغير واحد من المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} [الزخرف]: قالوا: لا تشفع الملائكة إلا لمن شهد أن لا إله إلا الله وهم يعلمون
(3)
.
هي الكلمة الطيبة:
وهي الكلمة الطيبة المضروبة مثلًا في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)} [إبراهيم] قال ابن أبي
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم (10052) وابن جرير (16812) في تفسيريهما، والطبراني في الدعاء (1540) والبيهقي في الأسماء والصفات (206). قال الحافظ في كتابه (العجاب في بيان الأسباب): وعلي صدوق، ولم يلق ابن عباس رضي الله عنهما لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه، فلذلك كان البخاري وأبو حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النسخة ا. هـ وقال في الفتح: وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في صحيحه هذا كثيرا على ما بيناه في أماكنه وهي عند الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح ا. هـ وقال السيوطي في الإتقان (وقال قوم لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس التفسير؛ وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير؛ قال ابن حجر: بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير في ذلك ا. هـ
(2)
أخرجه ابن جرير الطبري (20371) والطبراني في الدعاء (1582) والبيهقي في الأسماء والصفات (206) في أثناء حديث طويل. وله طرق أخرى عندهم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
انظر تفسير البغوي (7/ 224)، وتفسير القرطبي (16/ 122)،
طلحة عن ابن عباس: " {كَلِمَةً طَيِّبَةً} شهادة أن لا إله إلا الله {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} وهو المؤمن {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} يقول: لا إله إلا الله، ثابت في قلب المؤمن {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} يقول: يُرْفَعُ بِهَا عَمَلُ الْمُؤْمِنِ إِلَى السَّمَاءِ "
(1)
.
هي القول الثابت:
وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]. قال العلماء: القول الثابت هو قول: "لا إله إلا الله". وفي الصحيحين عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:" {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} " قَالَ: " نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَذَلِكَ قَوْلُهُ -جل وعلا-:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}
(2)
هي العهد:
وهذه الكلمة هي العهد الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)} [مريم]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: " العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، والبراءة من الحول والقوة إلا بالله وألا يرجو إلا الله -جل وعلا- "
(3)
هي أعظم الحسنات:
وهذه الكلمة هي أعظم الحسنات المنجية لأهلها من فزع يوم القيامة. قَالَ أَبو ذَرٍّ رضي الله عنه: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي. قَالَ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا» . قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنَ الْحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ:«هِيَ أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ»
(4)
.
(1)
أخرجه ابن جرير الطبري (20765) والطبراني في الدعاء (1598) والبيهقي في الأسماء والصفات (206) في أثناء حديث طويل.
(2)
البخاري (1369، 4699) ومسلم (2871) واللفظ له.
(3)
أخرجه الطبري في التفسير (24130) والطبراني في الدعاء (1570) والبيهقي في الأسماء والصفات (206) في أثناء حديث طويل؛ من طرق عن عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة به. وعزاه في الدر المنثور إلى: ابن المنذر، وَابن أبي حاتم أيضا.
(4)
أخرجه أحمد (21487) عن شمر بن عطية، عن أشياخه، عن أبي ذر فذكره. قال الألباني في الصحيحة (1373) وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات غير أشياخ شمر، فلم يسموا، لكنهم جمع ينجبر الضعف بعددهم، كما قال السخاوي في غير هذا الحديث ا. هـ ويشهد للجملة الثانية منه: حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ لِلَّهِ» رواه الترمذي وقال «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ» ورواه ابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وحسنه الألباني.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قول الله -جل وعلا-: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)} [النمل] قال: "من جاء بـ (لا إله إلا الله) "
(1)
.
وكذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه
(2)
وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهم
(3)
.
وقال ابن جرير: " {مَنْ جَاءَ} الله بتوحيده والإيمان به، وقول لا إله إلا الله موقنًا به قلبُه {فَلَهُ} من هذه الحسنة عند الله {خَيْرٌ} يوم القيامة، وذلك الخير أن يثيبه الله {مِنْهَا} الجنة، ويؤمِّنَه {مِنْ فَزَعٍ} الصيحة الكبرى، وهي النفخ في الصور"
(4)
.
هي النعمة العظيمة:
قال العلماء أيضًا: وهي النعمة العظيمة التي امتنَّ الله بها على عباده في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]. وقرئ: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}
(5)
. قال مجاهد في تفسيرها: "لا
(1)
أخرجه ابن جرير الطبري (14331، 14332، 14333) وابن أبي حاتم (8165، 16644، 17189). والطبراني في الدعاء (1502، 1503) وأبو نعيم في الحلية (ترجمة عبد الرحمن بن مهدي) والحاكم في المستدرك (3528)، وعنه البيهقي في الأسماء والصفات (203) وقال الحاكم:"صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". ورواه الخرائطي في مكارم الأخلاق (469) بسند حسن عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود وهو منقطع.
(2)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1507) قال: حَدَّثَنَا فضيل بن محمد الملطي، حَدَّثَنَا أبو نعيم، حَدَّثَنَا يحيى بن أيوب البجلي، حَدَّثَنَا أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة به. ورجاله ثقات سوى شيخ الطبراني: ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. لكن تابعه إسحاق بن راهويه فرواه في مسنده (192) عن أبي نعيم به. ورواه الحسين المحاملي في أماليه (458) قال: ثنا علي بن سهل بن المغيرة حدثنا أبو نعيم به.
(3)
أخرجه الطبري (14349). والطبراني في الدعاء (1505) والبيهقي في الأسماء والصفات (206)
(4)
تفسير الطبري (19/ 507).
(5)
{نِعَمَه} قرأها نافع وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر بفتح العين وهاء مضمومة غير منونة، جمع {نِعْمة} كسِدْرة، والباقون بسكون العين وتاء منونة، اسم جنس يراد الجمع، انظر: إتحاف فضلاء البشر (ص 448).
إله إلا الله"
(1)
.
هي كلمة التقوى:
وقال العلماء في قول الله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26]: كلمة التقوى هي "لا إله إلا الله" قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس
(2)
ومجاهد
(3)
وغير واحد من المفسرين
(4)
.
هي الكلمة الباقية:
وهي الكلمة الباقية التي ذكر الله -تعالى- عن إبراهيم عليها السلام في قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} [الزخرف]
قال قتادة: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} "شهادة أن لا إله إلا الله، والتوحيد لم يزل في ذريته من يقولها من بعده: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} ". قال: يتوبون أو يذكرون"
(5)
.
هي الحسنى:
وهي الحسنى التي ذكرها الله في قوله: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} [الليل] قاله أبو عبد الرحمن السلمي
(6)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك أيضا
(7)
.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
(1)
أخرجه ابن جرير الطبري (28371، 28372، 28372) والطبراني في الدعاء (1585) والبيهقي في الأسماء والصفات (207) من طرق عن مجاهد
(2)
أخرجه ابن جرير الطبري (20371) والطبراني في الدعاء (1611) والبيهقي في الأسماء والصفات (199).
(3)
أخرجه ابن جرير الطبري (20371)
(4)
المرجع السابق (22/ 254).
(5)
أخرجه ابن جرير الطبري (31076). والبيهقي في الأسماء والصفات (209) من طرق عنه
(6)
أخرجه الطبري في التفسير (37792) بسند صحيح عنه وعزاه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/ 535) إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم أيضا.
(7)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (24/ 464) وسنده ضعيف.
وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]: " يقول للذين شهدوا (أنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) الجنة"
(1)
.
وجاء تفسير الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم سبحانه وتعالى
(2)
.
هي كلمة الإخلاص المنجية من عذاب الله:
وهي كلمة الإخلاص المنجية من عذاب الله. فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقًّا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حُرِّمَ عَلَى النَّارِ» [فَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُخْبِرْنَاهَا]، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا أحدِّثُك ما هي، هي كلمة الإخلاص التي ألزمها الله تبارك وتعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي كلمة التقوى التي أَلَاصَ عليها
(3)
نبي الله صلى الله عليه وسلم عمَّه أبا طالب عند الموت: شهادة أن لا إله إلا الله"
(4)
هي دعوة الأنبياء:
وبعث الله الأنبياء بهذه الكلمة العظيمة التي تدل على التوحيد وإفراد العبادة لله وحده، فلا معبود بحق إلا الله؛ وهو المستحق لجميع أنواع العبادة، وغيره إن عُبِد فإنما عُبِد بباطل، فما سوى الله من سائر المعبودات ليس بإله حق بل إنه باطل.
ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام للكفار: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، تُفْلِحُوا»
(5)
فهموا مراده من هذا الكلام. أما اليوم فبعض الناس يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ثم تجده يطوف حول القبور والأضرحة يدعوهم من دون الله. أما الكفار الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم عرفوا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: {أَجَعَلَ
(1)
الأسماء والصفات للبيهقي (206)، وأخرجه ابن مردويه أيضًا كما في الدر المنثور (4/ 358).
(2)
انظر: صحيح مسلم (181)، وانظر تفسير عبد الرزاق (1152)، ومصنف ابن أبي شيبة (34965)، والدارمي في الرد على الجهمية (191) والسنة لعبد الله بن أحمد (1145)، وقال البخاري في تفسير هذه الآية من صحيحه:"وقال غيره [يقصد غير مجاهد]: النظر إلى وجهه "(2/ 176).
(3)
ألاصَ عليها أي: أراده عليها، وراوده فيها.
(4)
إسناده صحيح. رواه أحمد (1/ 63/ 447) وابن حبان (204) والحاكم (1/ 351) والزيادة له.
(5)
حديث صحيح. رواه البخاري في خلق أفعال العباد (193) وابن خزيمة (159) وابن حبان (6562) والحاكم (2/ 611 - 612) وصححه من حديث طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله عنه. ورواه الإمام أحمد في المسند (4/ 341) وابنه عَبْد الله بن أحمد في زوائده على المسند (3/ 492) من حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه. ورواه أحمد (4/ 63 و 5/ 376) عن شيخ من بني مالك ابن كنانة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: فذكره.
الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5] ففهموا من هذه الكلمة أنها: تُبطِلُ عبادةَ الطواغيت كلِّها وتَخصُّ العبادة لله وحده. ومثل هذا قول قوم هود عليها السلام لما دعاهم إلى قول لا إله إلا الله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70]. وهذا هو معنى "لا إله إلا الله" فإذا قال العبد: "لا إله إلا الله" فقد أعلن وجوب إفراد الله بالعبادة وبطلان عبادة ما سواه من الأصنام والقبور والأولياء وغيرها.
أركان كلمة التوحيد:
يقول العلماء هذه الكلمة لها ركنان عظيمان: ركن فيه نفي، وركن فيه إثبات.
فـ"لا إله" نفيُ استحقاقِ العبادة عن كل ما سوى الله، و "إلا الله" إثباتُ استحقاق العبادة لله -جل وعلا- وحده فلا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه سبحانه وتعالى.
ولا ينتفع الإنسان بقول: "لا إله إلا الله" إلا إذا حقَّقَ أركانها وشروطها، ومات على ذلك دون أن يرتكب ناقضًا من نواقضها. وبذلك يزول الوهمُ الذي تعلق به بعض الناس، وهو أن مجرد التلفظ بهذه الكلمة يكفي أخذًا بظاهر هذه النصوص. فيجب على الإنسان أن يقولها بلسانه، وكذلك يجب أن يعتقدها بقلبه، وأن يحقق ما دلت عليه هذه الكلمة العظيمة المباركة، وهي أن صاحبها لا بد أن يحقق التوحيد لله سبحانه وتعالى، وسيأتي-إن شاء الله تعالى-في مجلس قادم ذكرُ ما يتعلق بشروط لا إله إلا الله.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "لو أنَّ أحدًا آمن بوجود الله، وآمن بربوبية الله، ولكنه يعبد مع الله غيرَه فلا يكون مؤمنًا بالله حتى يُفرِده-سبحانه-بالألوهية"
(1)
.
هذا يدل على أنه لا بُدَّ من تحقيق ركن الإيمان بالله، فهذه الشعبة العليا من شعب الإيمان لا تتحقق إلا بهذه الأمور العظيمة: إثبات وجود الله، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته سبحانه وتعالى.
العبادة لا تصرف إلا لله:
إذا عرف الإنسان هذا الباب وعرفَ أن دعوة الأنبياء جاءت لتحقيق هذا الأصل العظيم وفَقِهَ معنى التوحيد حقًّا عرف أنه لا يجوز أن يُصرَف أي نوع من أنواع العبادة إلا لله. وانظر إلى قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
(1)
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 153).
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام]. فالله يأمر نبيه أن يخبر هؤلاء المشركين بأنه مخالف لهم في دينهم فإن صلاته وذبحه بل حياتُه كلُّها والممات، لله ربِّ العالمين {لَا شَرِيكَ لَهُ} في شيء من ذلك لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا خالصا لوجهه الكريم. قال تعالى:{وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . يعني من هذه الأمة؛
قال الطبري رحمه الله: يَقُولُ: وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ وَأَذْعَنَ وَخَضَعَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِرَبِّهِ، بِأَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ ا. هـ
(1)
إنها آية عظيمة تدل على أن الإنسان يجب أن يعبد الله وحده لا شريك له.
وتأمل أيضًا قولَ الله سبحانه وتعالى في أنبيائه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر].
لاحظ هنا أنه قدَّمَ ما حقُّه التأخير {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} فما قال: فاعبد الله، بل قال:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} وتقديم المفعول به على عامله يدل على الاختصاص أي: لا تعبد إلا الله، وذلك مثل قوله سبحانه:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة].
فوا عجبَا لمن يصلي كلَّ يوم خمس مرات ويقرأ في كل ركعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومعناها هو معنى لا إله إلا الله أي: لا نعبد إلا إياك يا رب ولا نستعين إلا بك، ثم يخالف فيقع في الشرك الأكبر!
نعوذ بالله من ذلك، ونسأله سبحانه وتعالى أن يُفقِّهنا في الدين، وأن يشرح صدورنا لهذا الدين العظيم، وأن يجعلنا مؤمنين موحدين، نحيا على الإسلام، ونموت على الإيمان، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان.
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (10/ 46)
المجلس التاسع
(1)
الإيمان بأسماء الله وصفاته:
تقدم معنا أن الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجود الله، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته. وقد وقف بنا الحديث عند الأمر الرابع، وهو: الإيمان بأسماء الله وصفاته، بأسمائه الحسنى وصفاته العلا.
معنى الإيمان بأسماء الله وصفاته:
ومعنى الإيمان بالأسماء والصفات: أن نؤمن بكل اسمٍ سمَّى الله -جل وعلا- نفسه به في كتابه أو سمَّاه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سُنَّته، وأن نؤمن بصفات الله التي جاء ذكرها في الكتاب والسنة. نؤمن بها، ونثبتها من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه؛ فعقيدة أهل السنة والجماعة أن كل ما سمَّى أو وصف اللهُ به نفسه في كتابه أو سمَّاه أو وصفه به أعلمُ الخلقِ به رسولُه محمد صلى الله عليه وسلم فإن أهل السنة والجماعة يُثبِتونه ويُثبِتون ما تضمَّنه من المعاني، لا يُحرِّفون شيئًا من ذلك على خلاف ما عليه أهلُ الباطل الذين يُحرِّفون معانيَ الكتابِ والسنةِ، ويُسمُّون تحريفهم تأويلًا.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة إثباتًا ونفيًا. فهم يسمون الله ويصفونه بما سمى أو وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يزيدون على ذلك ولا ينقصون منه. ومن غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وهم أيضا: ينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد أن الله موصوف بكمال ضد ذلك الأمر المنفي.
معاني الأسماء والصفات ودلالتها:
وأهل السنة يؤمنون بأن أسماء الله الحسنى وصفاته العلا دالة على معاني في غاية الكمال، وأسماؤه -جل وعلا- أعلام وأوصاف، وليست جامدة. وكل اسم يدل على معنى من
(1)
كان في يوم الأحد الثالث من شهر رمضان 1441 هـ.
صفاته ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر، فأسماء الله مشتقة من صفاته وليست جامدة كما يزعم المعتزلة ومن وافقهم الذين ادَّعوا أنها أعلام جامدة لا معاني لها، فقالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وعزيز بلا عزة، فسلبوا بذلك عن أسماء الله معانيها. فالرب تعالى يشتق له من أوصافه وأفعاله أسماء ولا يشتق له من مخلوقاته، وكل اسم من أسمائه فهو مشتق من صفة من صفاته أو فعل قائم به.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ ثُمَّ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مِنْ صِفَاتِهِ. لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ؛ فَالْعَزِيزُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ عِزَّتِهِ وَالْخَالِقُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ خَلْقِهِ وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ رَحْمَتِهِ وَنَفْسُهُ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ فَصَارَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَالصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَعَلَى أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَعَلَى الصِّفَةِ الْأُخْرَى بِطَرِيقِ اللُّزُومِ. ا. هـ
(1)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: فالاسم له أنواع ثلاثة في الدلالة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام:
1.
فدلالة المطابقة: دلالة اللفظ على جميع مدلوله، وعلى هذا، فكل اسم دال على المسمى به، وهو الله، وعلى الصفة المشتق منها هذا الاسم.
2.
ودلالة التضمن: دلالة اللفظ على بعض مدلوله، وعلى هذا، فدلالة الاسم على الذات وحدها أو على الصفة وحدها من دلالة التضمن.
3.
ودلالة الالتزام: دلالته على شيء يفهم لا من لفظ الاسم لكن من لازمه ولهذا سميناه: دلالة الالتزام.
مثل كلمة الخالق: اسم يدل على ذات الله ويدل على صفة الخلق.
فباعتبار دلالته على الأمرين يسمى دلالة مطابقة، لأن اللفظ دل على جميع مدلوله، ولا شك أنك إذا قلت: الخالق، فإنك تفهم خالقاً وخلقاً. وباعتبار دلالته على الخالق وحده أو على الخلق وحده يسمى دلالة تضمن، لأنه دل على بعض معناه، وباعتبار دلالته على العلم والقدرة يسمى دلالة التزام، إذ لا يمكن خلق إلا بعلم وقدرة، فدلالته على القدرة والعلم دلالة التزام. وحينئذ، يتبين أن الإنسان إذا أنكر واحداً من هذه الدلالة،
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 185).
فهو ملحد في الأسماء ا. هـ
(1)
معنى التحريف:
والتحريف في باب الأسماء والصفات: هو تغيير ألفاظ نصوص الأسماء والصفات أو معانيها عن مراد الله بها. فهو إما تحريف للفظ أو تحريف للمعنى.
مثال تحريف اللفظ:
تحريف إعراب قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء] فإنه يُروى أن عمرو بن عبيد المعتزلي
(2)
قال لأبي عمرو بن العلاء
(3)
أُحبُّ أن تقرأ هذا الحرف {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} ليكون موسى عليها السلام هو الذي كلم الله ولا يكون في الكلام دلالة على أن الله كلم أحدًا -يعني يحوله من الرفع إلى النصب فيقرأ (وكلم اللهَ)، أي موسى كلم الله، ولم يكلمه الله، -، فقال له وكيف تصنع بقوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف 143]، -يعني هذا لا يمكن تحريفه
(4)
.
مثال تحريف المعنى:
قول المعطلة في معنى استوى: استولى: في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه]. قال ابن القيم رحمه الله: وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمُ الْمَجَازَ فِي الِاسْتِوَاءِ وَقَوْلُهُمْ فِي تَأْوِيلِ اسْتَوَى: اسْتَوْلَى فَلَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي اللُّغَةِ وَمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ فِي اللُّغَةِ الْمُغَالَبَةُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُغَالِبُهُ وَلَا يَعْلُوهُ أَحَدٌ، وَهُوَ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ
…
وَالِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ مَفْهُومٌ، وَهُوَ: الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالتَّمَكُّنُ فِيهِ،
…
إلخ
(5)
.
(1)
شرح العقيدة الواسطية (1/ 122)
(2)
قال الإمام أحمد: ليس بأهل أن يحدث عنه، مات سنة ثمان وأربعين ومائة. وقال: كان عمرو بن عبيد رأس المعتزلة، وأولهم في الاعتزال ا. هـ انظر: بحر الدم (ص: 118)
(3)
شيخ القراء والعربية وكان متبعا للأثر، قال أبو منصور الأزهري في " التهذيب ": كان من أعلم الناس بوجوه القراءات وألفاظ العرب ونوادر كلامهم وفصيح أشعارهم.
(4)
انظر: القصة في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 303) لشيخ الإسلام، والصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (3/ 1037) لتلميذه ابن القيم. وشرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي. ت الأرناؤوط (1/ 177)
(5)
اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 144).
معنى التعطيل:
والمراد بالتعطيل: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات، سواء كان كلياً أو جزئياً، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود، هذا كله يسمى تعطيلاً.
والتعطيل لغة بمعنى التخلية والترك. فأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله، أو أي صفة من صفات الله ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً.
معنى التكييف:
والتكييف: حكاية كيفية الصفة؛ كقول القائل: كيفية يد الله، أو نزوله إلى السماء الدنيا كذا وكذا. وصفات الله تعالى لها كيفية لكنَّ علمَ ذلك محجوبٌ عنا فلا نعلم كيفية صفاته كما أننا لا نعرف كنه ذاته سبحانه.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وَالْأَئِمَّةُ يَنْفُونَ عِلْمَ الْعِبَادِ بِكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ. ا. هـ
(1)
وقال ابن القيم رحمه الله: الْعَقْل قَدْ يَئِسَ مِنْ تَعَرُّفِ كُنْهِ الصِّفَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ بِـ (لَا كَيْفٍ) أَيْ بِلَا كَيْفٍ يَعْقِلُهُ الْبَشَرُ، فَإِنَّ مَنْ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَةُ ذَاتِهِ وَمَاهِيَّتُهُ، كَيْفَ تُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ؟ ا. هـ
(2)
معنى التمثيل والتشبيه:
والتمثيل: إثبات مثيل للشيء. والتشبيه: إثبات مشابه له. فالتمثيل يقتضي المماثلة، وهي المساواة من كل وجه، والتشبيه يقتضي المشابهة، وهي المساواة في أكثر الصفات، وقد يطلق أحدهما على الآخر.
الفرق بين التشبيه والتمثيل والتكييف:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والفرق بينهما وبين التكييف من وجهين:
أحدهما: أن التكييف أن يحكي كيفية الشيء سواء كانت مطلقة أم مقيدة بشبيه، وأما التّمثيل والتّشبيه فيدلان على كيفية مقيّدة بالمماثل والمشابه. ومن هذا الوجه يكون التكييف أعم؛ لأن كل ممثِّل مكيّف، ولا عكس.
(1)
مجموع الفتاوى (3/ 58).
(2)
«مدارج السالكين» (4/ 314 ط عطاءات العلم)
ثانيهما: أن التكييف يختص بالصفات، أما التمثيل فيكون في القَدْر والصفة والذات، ومن هذا الوجه يكون التمثيلُ أعم؛ لتعلقه بالذات والصفات والقدر ا. هـ
(1)
السلامة في ألا يتجاوز القرآن والسنة:
فإيمانك -أخي المسلم- بأسماء الله وصفاته قائم على التوقيف والاتباع لما ورد في الكتاب والسنة.
قال الإمام الْأَوْزَاعِيَّ رحمه الله: «نَدُورُ مَعَ السُّنَّةِ حَيْثُ دَارَتْ»
(2)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: الْقَوْلُ الشَّامِلُ فِي جَمِيعِ هَذَا الْبَابِ: أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ السَّابِقُونَ؛ الْأَوَّلُونَ لَا يَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد رضي الله عنه: «لَا يُوصَفُ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ»
(3)
. وَمَذْهَبُ السَّلَفِ: أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ ا. هـ
(4)
فالواجب نحو نصوص الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته إبقاءُ دلالتها على ظاهرها من غير تغيير ولا تبديل؛ لأن الله سبحانه أنزل القرآن بلسان عربي مبين والنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بلسان عربي مبين، فيجب على المؤمن وهو يقرأ أسماء الله وصفاته أن يُثبِتَها
(1)
فتح رب البرية بتلخيص الحموية (ص: 19). وانظر: معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات (ص: 63) لشيخنا محمد بن خليفة التميمي.
(2)
رواه ابن عدي في الكامل (1/ 174) ومن طريقه اللالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 71) وابن عساكر في تاريخ دمشق (35/ 200) - وسقط شيخ ابن عدي من سند اللالكائي- فليستدرك.
(3)
روى كلمة الإمام أحمد هذه الخلال -كما في ذم التأويل لابن قدامة (33)، والتسعينية لابن تيمية (1/ 316) -، وابن بطة في الإبانة الكبرى (7/ 326) (252) ولفظه -كما في ذم التأويل-: قَالَ أَبُو عبد الله:
…
وَلَا يُوصف الله تَعَالَى بِأَكْثَرَ مِمَّا وصف بِهِ نَفسه أَوْ وَصفه بِهِ رَسُوله بِلَا حد وَلَا غَايَة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]، وَلَا يبلغ الواصفون صفته وَصِفَاته مِنْهُ وَلَا نتعدى الْقُرْآن والْحَدِيث فَنَقُول كَمَا قَالَ وَنصفه كَمَا وصف نَفسه وَلَا نتعدى ذَلِك نؤمن بِالْقُرْآنِ كُله محكمه ومتشابهه وَلَا نزيل عَنهُ صفة من صِفَاته لشناعة شُنِّعَتْ ا. هـ
(4)
مجموع الفتاوى (5/ 26)
كما أثبتها الله لنفسه.
فإذا قرأ {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} [الحج] علم أن الله سبحانه سميع ذو سمع، وبصير ذو بصر، فيثبت ذلك لله إثباتًا يليق بجلاله وعظمته من غير تشبيه فلا تقول: سمعه كسمع الناس وبصره كبصر الناس، ومن غير تكييف أي من غير أن تعتقد كيفية لصفة من صفات الله؛ لأن هذا مما حُجِب عنَّا.
وهكذا: اسم الله {الرَّحْمَنُ} . فنؤمن بأنه اسم من أسماء الله -تعالى- دالٌّ على صفة عظيمة، وهي: صفة الرحمة الواسعة، ولا نشبِّه الله بخلقه بل نقول: إن الله -جل وعلا- رحيم رحمةً تليق بجلاله وعظمته.
فنؤمن بما ورد في الكتاب والسنة على طريقة السلف الصالح دون الخوض في كيفية الصفات؛ فإنها مما حجب عنا علمه. كما تقدم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله في مقدمة الرسالة: ولا يبلغ الواصفون كُنه عظمته. الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه ا. هـ
(1)
وقال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: لا يبلغ كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون ا. هـ
(2)
ونقل ابن بطال إجماع الأمة على أن الله تعالى لا يبلغ كنهه الواصفون ولا ينتهى إلى صفاته المقرظون ا. هـ
(3)
أي المادحون. والتّقريظ: المدح وشدة تزيينه.
وقال الرّبيع بن سُلَيْمَان سَأَلت الشَّافِعِي رضي الله عنه عَنْ صِفَات من صِفَات الله تَعَالَى فَقَالَ: حرَام على الْعُقُول أَنْ تمثل الله تَعَالَى وعَلى الأوهام أَنْ تحده وعَلى الظنون أَنْ تقطع وعَلى النُّفُوس أَنْ تفكر وعَلى الضمائر أَنْ تعمق وعَلى الخواطر أَنْ تحيط وعَلى الْعُقُول أَنْ تعقل إِلَّا مَا وصف بِهِ نَفسه فِي كِتَابه أَوْ على لِسَان نبيه صلى الله عليه وسلم ا. هـ
(4)
(1)
الرسالة للشافعي (1/ 8)
(2)
الرسالة (ص 5)
(3)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 141)
(4)
ذم التأويل لان قدامة (ص 23)
وقال الإمام أبو محمد البغوي رحمه الله: والواجب
…
الإيمان بما جاء في الحديث، والتسليم، وترك التصرف فيه بالعقل،
…
وعلى العبد أن يعتقد أن الله عظيم له عظمة، كبير له كبرياء، عزيز له عزة، حي له حياة، باق له بقاء، عالم وله علم، ومتكلم وله كلام، قوي له قوة، وقادر وله قدرة، وسميع وله سمع، بصير له بصر
…
ولا يزال موصوفا بما وصف به نفسه، ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم ا. هـ
(1)
وَعَنْ سُفْيَانَ بنِ عُيينةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه] كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَمِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ ا. هـ
(2)
وقال يَحْيَى بْنَ يَحْيَى: كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رحمه الله فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه] فَكَيْفَ اسْتَوَى؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ مَالِكٌ بِرَأْسِهِ حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَمَا أَرَاكَ إِلَّا مُبْتَدِعًا. فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُخْرَجَ ا. هـ
(3)
(1)
شرح السنة (1/ 177 - 180) باختصار.
(2)
أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 441/ رقم 665) -ومن طريقه ابن قدامة في إثبات صفة العلو (74) - وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/ 40): للخلال وقال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة. ورواه الذهبي في العلوّ من طريق النجَّاد قال: حدّثنا معاذ بن المثنى حدّثني محمد بن بشر حدّثنا سفيان -وهو الثوري-، قال: (كنت عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن
…
) فذكره، قال الألباني:(وهو صحيح). وقال شيخنا عبد الرزاق العباد في رسالته في تخريج الأثر:
…
ورواه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عبد الله بن صالح بن مسلم قال: سئل ربيعة الرأي
…
فقال: (الكيف مجهول، والاستواء غير معقول،
…
). هكذا لفظه: (الكيف مجهول، والاستواء غير معقول)، وهو مخالف للفظ السابق في الطريقين المتقدِّمين، وفي إسناده عبد الله بن صالح بن مسلم وهو أبو صالح المصري كاتب الليث، قال الحافظ في التقريب:(صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة) ا. هـ ثم هو أيضاً لم يدرك ربيعة، فقد كان مولده سنة سبع وثلاثين ومائة كما في ترجمته في تهذيب الكمال، وكانت وفاة ربيعة على الصحيح -كما في التقريب-: سنة ست وثلاثين ومائة.
(3)
أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني -كما في الفتوى الحموية (167/ ت الشيخ دغش) - ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (867) وفي الاعتقاد (ص: 116) وسنده صحيح.
وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ
…
-فذكر نحوه- وفي آخره: قال مالك: كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ، وَكَيْفٌ عَنْهُ مَرْفُوعٌ، وَأَنْتَ رَجُلُ سُوءٍ صَاحِبُ بِدْعَةٍ، أَخْرِجُوهُ. قَالَ: فَأُخْرِجَ الرَّجُلُ ا. هـ
(1)
وقال شيخ الإسلام: فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَأَنَّ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ مَجْهُولٌ، وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ، وَالْأَئِمَّةُ يَنْفُونَ عِلْمَ الْعِبَادِ بِكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ. ا. هـ
(2)
الحذر من التحريف:
واحذروا من أولئك الذين يحرفون المعاني ويُؤَوِّلون صفاتِ الله -جل وعلا- فيصرفونها عن معانيها التي دلت عليه. وتجد هذا عند بعض الشراح للمتون العلمية في الفقه والحديث والنحو والبلاغة وغير ذلك، يذكرون مثلًا في شرح البسملة: اسم الله تعالى: {الرَّحْمَنُ} أو {الرَّحِيمِ} فيقولون: يدل على إرادة الإنعام، ويزعمون أن الله منزه عن صفة الرحمة، لأنهم يرون ذلك تشبيها لله، فكما قيل:"أرادوا التنزيه فوقعوا في التعطيل". يزعمون أنَّ نصوص الأسماء والصفات تدل بظاهرها على تشبيه الله بخلقه فأرادوا أن يفروا من هذا التشبيه الذي وقعوا فيه لسوء فهمهم فوقعوا في التعطيل.
الأسماء الحسنى أعلام وصفات:
والحق أن كلُّ اسم من أسماء الله يدل على صفة: فاسمُه السميع يدل على صفة السمع، والبصيرُ يدل على صفة البصير، والرحمن الرحيم يَدُلَّان على صفة الرحمة، والعليُّ يدل على علوه. وقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه] يدل على أن الله -جل وعلا- استوى على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف ولا تعطيل ولا تحريف. وهكذا في قوله سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر] فالآية صريحة في مجيء
(1)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (866) من طريق أبي الربيع بن أخي رشدين بن سعد، قال: سمعت عبد الله بن وهب وذكره. وأبو الربيع هو سليمان بن داود بن حماد بن سعد المَهْري، وجدّه حماد بن سعد أخو رِشْدين بن سعد. وهو ثقة. كما في التهذيب. وصحح إسناده الذهبي. كما في العلو (ص: 138). وجود إسناده ابن حجر: في الفتح (13/ 417).
(2)
مجموع الفتاوى (3/ 58).
الله سبحانه وتعالى. فقول بعض الناس: "إن المعنى: وجاء أمر الله أو وجاءت ملائكة الله" فهذا تحريف للنصوص. وهكذا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»
(1)
يقول بعضهم: "ينزل أي: تنزل رحمته أو ينزل أمره أو ملائكته" وهذا تحريف للمعنى الصحيح، بل إن في هذا الحديث إثباتَ نزولِ الله إثباتًا يليق بجلاله وعظمته.
قاعدة أهل السنة في هذا الباب:
والقاعدة في باب الأسماء والصفات كما تقدم تجري على ما أمر الله -جل وعلا- في قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]. فعلى هذا يسير أهل السنة والجماعة من لدن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وغيرهم من أئمة الإسلام في القرون الثلاثة المفضلة.
والمقصود أنَّ من الإيمان بالله الإيمانَ بأسمائه وصفاته إيمانًا صحيحًا يجري على وَفْقِ ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان دون الدخول في شقشقات علماء الكلام وغيرهم من الذين حرَّفوا الكلم عن مواضعه.
قصة لعبد الرحمن بن مهدي في رفع الشبهة في باب الأسماء والصفات:
وقد روى اللالكائي وأبو نعيم عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ الْأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، يَقُولُ: لِفَتًى مِنْ وَلَدِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْهَاشِمِيِّ: «مَكَانَكَ» . فَقَعَدَ حَتَّى تَفَرَّقَ النَّاسُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ، تَعْرِفُ مَا فِي هَذِهِ الْكُورَةِ مِنَ الْأَهْوَاءِ، وَالِاخْتِلَافِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي مِنْكَ عَلَى بَالٍ رَخِيٍّ إِلَّا أَمْرَكَ، وَمَا بَلَغَنِي؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَزَالُ هَيِّنًا مَا لَمْ يصَلْ إِلَيْكُمْ، يَعْنِي السُّلْطَانَ، فَإِذَا صَارَ إِلَيْكُمْ جَلَّ وَعَظُمَ» ، قَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، وَمَا ذَاكَ قَالَ:«بَلَغَنِي أَنَّكَ تَتَكَلَّمُ فِي الرَّبِّ وَتَصِفُهُ وَتُشَبِّهُه» ، قَالَ: الْغُلَامُ: نَعَمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ، نَظَرْنَا فَلَمْ نَرَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ شَيْئًا أَحْسَنَ وَلَا أَوْلَى مِنَ الْإِنْسَانِ، فَأَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِي الصِّفَةِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: رُوَيْدَكَ يَا بُنَيَّ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوَّلَ شَيْءٍ فِي الْمَخْلُوقِ، فَإِنْ عَجَزْنَا عَنِ الْمَخْلُوقِ فَنَحْنُ عَنِ الْخَالِقِ أَعْجَزُ، أَخْبِرْنِي عَنْ حَدِيثٍ حَدَّثَنِيهِ شُعْبَةُ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: (سَمِعْتُ
(1)
البخاري (7494) واللفظ له، ومسلم (758) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
زِرًّا)
(1)
قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم] قَالَ: «رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتِّمِائَةِ جَنَاحٍ»
(2)
، فَبَقِيَ الْغُلَامُ يَنْظُرُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا بُنَيَّ، فَإِنِّي أُهَوِّنُ عَلَيْكَ الْمَسْأَلَةَ، وَأَضَعُ عَنْكَ خَمْسَمِائَةٍ وَسَبْعًا وَتِسْعِينَ جَنَاحًا. صِفْ لِي خَلْقًا بِثَلَاثَةِ أَجْنِحَةٍ، رُكِّبَ الْجَنَاحُ الثَّالِثُ مِنْهُ مَوْضِعًا غَيْرَ الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ رَكَّبَهُمَا اللَّهُ عز وجل حَتَّى أَعْلَمَ. فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدِ، قَدْ عَجَزْنَا عَنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ وَنَحْنُ عَنْ صِفَةِ الْخَالِقِ أَعْجَزُ؛ فَأشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ رَجَعْتُ، عَنْ ذَاكَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ا. هـ
(3)
قصة الشافعي مع تلميذه المزني:
وقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَمَّا وَافَى الشَّافِعِيُّ مِصْرَ قُلْتُ فِي نَفْسِي إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُخْرِجُ مَا فِي ضَمِيرِي وَتَعَلَّقَ بِهِ خَاطِرِي مِنْ أَمْرِ التَّوْحِيدِ فَهُوَ -يعني الشافعي-. قال: فَصِرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي مَسْجِدِ مِصْرَ فَلَمَّا جَثَوْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ لَهُ إِنَّه قد هجسَ فِي ضميري مسألة فِي التَّوْحِيدِ فَعَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ عِلْمَكَ فَمَا الَّذِي عِنْدَكَ؟؛ فَغَضِبَ؛ ثُمَّ قَالَ لِي: أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ جَالِسٌ؟ قُلْتُ نَعَمْ، أَنَا جَالِسٌ بِفُسَطَاطِ مِصْرَ فِي مَسْجِدِهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِيِّ. قَالَ: هَيْهَاتَ، إِنَّكَ بِتارَانَ وَجَنْبَلان -وهما مَوضِعانِ عندَ البحْر-، يَضْرِبُكَ تَيَّارُهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي غَرِقَ فِيهِ فِرْعَوْنُ. ثم قال له: أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالسُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ قال: فَقُلْتُ لَا. فَقَالَ هَلْ تَكَلَّمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ فَقُلْتُ لَا، فَقَالَ لِي تَدْرِي كَمْ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ فَقُلْتُ لَا، قَالَ فَكَوْكَبٌ مِنْ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ الَّذِي تَرَاهُ تَعْرِفُ جِنْسَيَّتَهُ طُلُوعَهُ وَأُفُولَهُ مِمَّا خَلَقَ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ: فَشَيْءٌ تَرَاهُ
(1)
في الحلية لأبي نعيم (سمعت سعيد بن جبير) والمثبت من السنة للالكائي. ولم أقف على رواية للحديث من طريق سعيد بن جبير عن ابن مسعود رضي الله عنه، بل إن سعيد بن جبير لم يلق ابن مسعود، فقد قتل فى شعبان سنة خمس وتسعين، وهو ابن تسع وأربعين سنة؛ وابن مسعود توفي سنة 32 هـ. وانظر:(سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 321)
(2)
رواه من طريق ابن مهدي ابن خزيمة في التوحيد (2/ 502). والحديث في الصحيحين البخاري (3232، 4856، 4857) ومسلم (174) وغيرهما من طرق -عن شعبة وغيره- عن الشيباني عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،
(3)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (932)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 8)
بِعَيْنِكَ خَلْقٌ ضَعِيفٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَسْتَ تَعْرِفُهُ تَتَكَلَّمُ فِي عِلْمِ خَالِقِهِ!. ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ مسألة فِي الْوُضُوءِ فَأَخْطَأْتُ فِيهَا فَفَرَّعَهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ فَلَمْ أُصِبْ فِي شَيْءٍ مِنْهِ ثُمَّ قَالَ لِي شَيْءٌ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِرَارًا خَمْسَةً تَدَعُ تَعَلُّمَهُ ا. هـ
(1)
قال البيهقي: "تاران" في بحر القلزم يقال: فيها غرق فرعون وقومه، فشبه الشافعي المزني فيما أورد عليه بعضُ أهل الإلحاد ولم يكن عنده جواب، بمن ركب البحر في الموضع الذي أغرق الله فيه فرعونَ وقومه وأشرف على الهلاك. ثم علّمه جواب ما أُورد عليه حتى زالت عنه تلك الشبهة، وفي تلك دلالة على حسن معرفته بذلك، وأنه يجب الكشف عن تمويهات أهل الإلحاد عند الحاجة إليه، وأراد بالكلام: ما وقع فيه أهل الإلحاد من الإلحاد، وأهل البدع من البدع. والله أعلم ا. هـ
(2)
منزلة الإيمان بأسماء الله وصفاته:
وهذا الباب باب عظيم. ويدل على ذلك ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى من إشارة وأمر ربِّ العالمين سبحانه وتعالى بالعناية بهذا الباب العظيم، وهو باب الأسماء والصفات.
فانظر وأنت تقرأ القرآن إلى:
قول الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} [البقرة].
وقول الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)} [البقرة]
وقال -جل وعلا-: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة].
وقال سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} [البقرة].
(1)
سير أعلام النبلاء (10/ 32، 31) والقصة رواها ابن عساكر في (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري)(ص: 342) وتاريخ دمشق (51/ 381). وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (14/ 319): مدارُها عَلَى أَبِي عليّ بْن حَمَكان، وهو ضعيف ا. هـ ورواها -مختصرة- الإمام البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 458) - بإسناد آخر- عن المزني قال: دار بيني وبين رجل مناظرة فسألني عن كلام كاد أن يشكِّكَني في ديني؛ فجئت إلى الشافعي، فقلت له: كان من الأمر كيت وكيت. قال: فقال لي: أين أنت؟ فقلت: أنا في المسجد، فقال لي: أنت في مثل "تاران" تلطمك أمواجه. هذه مسألة الملحدين والجواب فيها كيت وكيت، ولَأَن يبتلى العبد بكل ما خلق الله من مضارّه خير له من أن يبتلى بالكلام.
(2)
مناقب الشافعي (1/ 458)
وقال -جل وعلا-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)} [البقرة].
وقال سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة].
وقال -جل وعلا-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)} [البقرة].
وقال -جل وعلا-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة].
وهذه الآيات كلها في سورة البقرة، وفي غيرها من السُّور آياتٌ أخرى:
كقول الله -جل وعلا-: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة]
وقوله -جل وعلا-: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} [المائدة].
وقوله -جل وعلا-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال]
وقال -جل وعلا-: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} [الأنفال]
وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36، 123]
وقال سبحانه: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)} [هود]
وقال -جل وعلا-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد].
وقال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} [الحديد]
وقال -جل وعلا-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق].
فهذه الآيات كلُّها فيها توجيه وأمر وإرشاد من الله -سبحانه- لعباده أن يتعرفوا على أسمائه وصفاته.
والقرآن العظيم مليء بالآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته وهي من أعظم الآيات.
الآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته، أعظمُ قدرا من آيات المعاد:
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الآياتُ المتضمِّنة لذكر أسماء الله وصفاته، أعظمُ قدرًا من آيات المعاد، فأعظمُ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي المتضمِّنة لذلك: كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأُبيِّ بن كعب رضي الله عنه: «أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ أَعْظَمُ؟» قال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] فضرب بيده في صدره، وقال:«لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المنْذِرِ»
(1)
. وأفضل سورةٍ: سورةُ أم القرآن: كما ثبت ذلك في حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهُ لم يُنزَّلْ فِي التَّوْرَاة وَلا الإِنجِيلِ ولا في الزَّبُور ولا في القُرْآن مِثْلُها، وَهِيَ السَّبْعُ المثَانِي والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُه»
(2)
وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظمُ مما فيها من ذكر المعاد. وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه: «أنَّ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن»
(3)
. وثبت في الصحيح: أنه بشر الذي كان يقرؤها ويقول: إني لأحبها لأنها صفة الرحمن: بأن الله يحبه
(4)
. فبيَّنَ أن الله يحب من يحب ذِكْرَ صفاته سبحانه وتعالى وهذا باب واسع"
(5)
.
(1)
مسلم (810).
(2)
الحديث بهذا اللفظ مأخوذ من حديثي أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه عند البخاري (4474) وهو بلفظ «الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» ، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي (2875) بلفظ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ» وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3)
صحيح البخاري (5013، 5015، 6643، 7374) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ورواه البخاري معلقا (5014، 7374، 10469) ووصله النسائي في السنن الكبرى (7975) وأبو يعلى (1548) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (1218) من حديث أبي سعيد عن أخيه قتادة بن النعمان رضي الله عنهما ورواه مسلم (811) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، ومن (812) حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن جماعة آخرين من الصحابة رضي الله عنهم: منهم: أبو مسعود البدري الأنصاري، عند ابن ماجه (3789) والنسائي في "الكبرى"(10529) وأحمد (4/ 122) وفي سنده اختلاف؛ وعن ابن عباس عند الترمذي (2894) وعن أنس بن مالك عند الترمذي (2895) وابن ماجه (3788) وعن أبي أيوب عند الترمذي (2896) والنسائي (996) وعن أبي بن كعب عند النسائي في "الكبرى"(10521)، ومسند أحمد (5/ 141) وعن أم كلثوم بنت عقبة، عند النسائي في "الكبرى"(10464) والمسند (6/ 403، 404) وعن ابن مسعود عند النسائي في "الكبرى"(10509) وابن حبان (2576).
(4)
البخاري (7375)، ومسلم (813) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(5)
درء تعارض العقل والنقل (5/ 310 - 312).
أسماء الله وصفاته في سورة الفاتحة:
وهذه السورة المباركة التي تُتلى في كل ركعة من ركعات الصلاة اشتملت من أسماء لله وصفاته على: أسمائه {اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} [الفاتحة].
فاسم الجلالة
(1)
: {الله} هو اسم للرب الإله الحق؛ وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ وهو الاسم الجامع لمعانيها.
قال ابن كثير رحمه الله: وَهُوَ اسْمٌ لَمْ يُسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ تبارك وتعالى ا. هـ
(2)
.
وهو اسم عربي، وأصله الإله كما قال سيبويه وغيره، فهو مشتق من (أَلَهَ يَأْلَهُ أُلوهَةً وإِلاهَةً وأُلوهِيةً) بِمَعْنَى: عبدَ عِبَادةً. فَهُوَ إلهٌ؛ بِمَعْنَى مأْلوهٍ؛ أَيْ: مَعْبُودٍ
(3)
.
وقد روي عن عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال: «اللهُ ذُو الإلهيةِ والعُبوديةُ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ»
(4)
. والألوهية التعبد بحب وتعظيم. فاسم الجلالة: {الله} دال على صفةٍ له -تعالى-، وهي الإلهية؛ فهو المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له، بما فيه من المعنى الموضوع له وهو عَلَمِيتَّه على ذي الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين
…
واسمه {الرَّحْمَنِ} ؛ هو وصف له تعالى بأنه اتصف بغاية الرحمة ومنتهاها. ومَنْ هذا وصفه وهذا رحمته فقصْدُ غيره وعبادةُ سواه ورجاؤه من أضل الضلال وأبطل الباطل وأسفه السفه،
…
واسمه {الرَّحِيمِ} ؛ معناه: الذي أوصل ويوصل إلى عباده غاية الرحمة ومنتهاها، وكل ما في الموجودات من أنواع النعم والهداية والخيرات فمن رحمته وفضله وإحسانه. فمن هذا فعله بعبيده، وهذه رحمته لهم هو الذي يستحق ويجب أن يعبد ويقصد ويرجى ويناب إليه، والعدول إلى غيره ضلال بعيد، وجهل عظيم، وشرك وخيم.
(1)
ربما قال بعضنا (لفظ الجلالة) واستعمال (اسم الجلالة) أفضل فتأمل؟.
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 123).
(3)
انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 123) وبدائع الفوائد ط عالم الفوائد (1/ 39)
(4)
تفسير ابن جرير (1/ 54/ 141، 148) وسنده ضعيف.
سورة الإخلاص:
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . معناه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: القرآن باعتبار معانيه ثلاث أثلاث: ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي؛ لأن القرآن كلام الله. والكلام: إما إنشاء، وإما إخبار، والإخبار: إما عن الخالق، وإما عن المخلوق. والإنشاء: أمر ونهي وإباحة. فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها ثلث التوحيد، الذي هو خبر عن الخالق، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن» وعَدل الشيء -بالفتح- يكون: ما سواه، من غير جنسه،
…
وذلك يقتضي: أن له من الثواب ما يساوي الثلث في القدر، ولا يكون مثله في الصفة، كمن معه ألف دينار وآخر معه ما يعدلها من الفضة والنحاس وغيرهما. ولهذا يحتاج إلى سائر القرآن، ولا تغني عنه هذه السورة مطلقا، كما يحتاج من معه نوع من المال إلى سائر الأنواع، إذ كان العبد محتاجا إلى الأمر والنهي والقصص. وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها التوحيد القولي العملي، الذي تدل عليه الأسماء والصفات، ولهذا قال تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} [الإخلاص: 1 - 2] ا. هـ
(1)
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنَانِ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْكَمَالِ لَمْ يُوجَدَا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ وَهُمَا «الْأَحَدُ الصَّمَدُ» لِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى أَحَدِيَّةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَحَدَ يُشْعِرُ بِوُجُودِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَالصَّمَدُ يُشْعِرُ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ لِأَنَّهُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ سُؤْدُدُهُ فَكَانَ مَرْجِعُ الطَّلَبِ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ إِلَّا لِمَنْ حَازَ جَمِيعَ خِصَالِ الْكَمَالِ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمام الْمعرفَة بِصِفَات الذَّات وصفات الْفِعْل ثناءا ا. هـ
(2)
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 394).
(2)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي (2/ 442/ ط ابن كثير).
وقال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله: فَسُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} : مُتَضَمِّنَةٌ لِتَوْحِيدِ الِاعْتِقَادِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَمَا يَجِبُ إِثْبَاتُهُ لِلرَّبِّ تَعَالَى مِنَ:
• الْأَحَدِيَّةِ الْمُنَافِيَةِ لِمُطْلَقِ الْمُشَارَكَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ،
• وَالصَّمَدِيَّةِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا يَلْحَقُهَا نَقْصٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ،
• وَنَفْيِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الصَّمَدِيَّةِ، وَغِنَاهُ وَأَحَدِيَّتِهِ،
• وَنَفْيِ الْكُفْءِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالتَّنْظِيرِ،
فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ:
• إِثْبَاتَ كُلِّ كَمَالٍ لَهُ، وَنَفْيَ كُلِّ نَقْصٍ عَنْهُ،
• وَنَفْيَ إِثْبَاتِ شَبِيهٍ أَوْ مَثِيلٍ لَهُ فِي كَمَالِهِ، وَنَفْيَ مُطْلَقِ الشَّرِيكِ عَنْهُ،
وَهَذِهِ الْأُصُولُ هِيَ مَجَامِعُ التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الِاعْتِقَادِيِّ الَّذِي يُبَايِنُ صَاحِبُهُ جَمِيعَ فِرَقِ الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ:
فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَدَارُهُ عَلَى الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ،
وَالْإِنْشَاءُ ثَلَاثَةٌ: أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَإِبَاحَةٌ.
وَالْخَبَرُ نَوْعَانِ: خَبَرٌ عَنِ الْخَالِقِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَخَبَرٌ عَنْ خَلْقِهِ.
فَأَخْلَصَتْ سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الْخَبَرَ عَنْهُ، وَعَنْ أَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، فَعَدَلَتْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَخَلَّصَتْ قَارِئَهَا الْمُؤْمِنَ بِهَا مِنَ الشِّرْكِ الْعِلْمِيِّ، كَمَا خَلَّصَتْ سُورَةُ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} مِنَ الشِّرْكِ الْعَمَلِيِّ الْإِرَادِيِّ الْقَصْدِيِّ.
وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَهُوَ إِمَامُهُ وَقَائِدُهُ وَسَائِقُهُ، وَالْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَمُنْزِلُهُ مَنَازِلَهُ، كَانَتْ سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ تَكَادُ تَبْلُغُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ ا. هـ
(1)
(1)
زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 306)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْمِثْلِيَّةَ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَقَالَ مَعْنَى كَوْنِهَا ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَنَّ ثَوَابَ قِرَاءَتِهَا يَحْصُلُ لِلْقَارِئِ مِثْلَ ثَوَابِ مَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ
…
وَقِيلَ الْمُرَادُ: مَنْ عَمِلَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ من الْإِخْلَاص والتوحيد كَانَ كمن قرأ ثلث الْقُرْآنِ
…
وَقَالَ ابن عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ هَذَا الْحَدِيثَ أَخْلَصُ مِمَّنْ أَجَابَ فِيهِ بِالرَّأْيِ .... وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّهَا تُضَاهِي كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمَلِ الْمُثْبِتَةِ وَالنَّافِيَةِ مَعَ زِيَادَةِ تَعْلِيلٍ؛ وَمَعْنَى النَّفْيِ فِيهَا: أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ الْمَعْبُودُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يَمْنَعُهُ كَالْوَالِدِ وَلَا مَنْ يُسَاوِيهِ فِي ذَلِكَ كَالْكُفْءِ وَلَا مَنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ كَالْوَلَدِ ا. هـ
(1)
من التأمل في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى:
فهذا كله يدلنا على أهمية العناية بتعلم أسماء الله وصفاته والتدبر والتفكر فيها؛ فهذا يعود على المسلم بالإيمان الصحيح. ويعود عليه بقوة الإيمان، فيزداد إيمانًا.
الغني الحميد:
فحينما يتأمل في أسماء الله -جل وعلا- وفي صفاته، ويعلم مثلا: أن الله سبحانه وتعالى {غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، فإنه يزداد ثقةً بربه -جل وعلا-. فلله الغنى التام والحمدُ التام. والغنى صفة كمال لله والحمد كذلك واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر فله ثناء سبحانه من غناه وثناء من حمده وثناء من اجتماعهما
(2)
، ومن غناه تعالى، أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، وهو الحميد في ذاته، وأسمائه، لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه الغني في حمده.
(3)
الحميد المجيد:
وتأمل مثلًا في اسمه سبحانه وتعالى {الْحَمِيدُ} و {الْمَجِيدُ} :
قال ابن القيم رحمه الله: فاسمه الحميد المجيد يمنع ترك الإنسان سدًى مهملًا معطَّلًا، لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب. وكذلك اسمه الحكيم يأبى ذلك، وكذلك اسمه
(1)
فتح الباري (9/ 61)
(2)
ينظر: بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (1/ 283)
(3)
ينظر: تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص 687)
الملك
…
وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما، ومن آثارهما: مغفرة الزلّات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيِّئات، والمسامحة على الجنايات، مع كمال القدرة على استيفاء الحقِّ والعلمِ منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها، فحِلمُه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزّته وحكمته، كما قال المسيح ــ صلى الله على نبينا وعليه وسلم ــ:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]، أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك، ليستْ كمن يغفر عجزًا ويسامح جهلًا بقدر الحقِّ، بل أنت عليمٌ بحقِّك، قادرٌ على استيفائه، حكيمٌ في الأخذ به. فمن تأمّل سريان آثار الأسماء والصِّفات في العالَم وفي الأمر، تبيَّن له أنَّ مصدر قضاءِ هذه الجنايات من العبيد وتقديرها هو من كمال الأسماء والصِّفات والأفعال، وغاياتُها أيضًا مقتضى حمده ومجده، كما هو مقتضى ربوبيَّته وإلهيَّته ا. هـ
(1)
الحكيم:
وكذلك تأمَّلْ في اسمه {الْحَكِيمُ} فإنك تعرف بذلك أنَّ الله -جل وعلا- له حكمة عظيمة في خلقه، وفي أمره، وفي شرعه، لم يخلق شيئًا هملًا، ولم يترك شيئًا سدًى سبحانه وتعالى.
السميع البصير العليم المحيط:
وإذا علم العبد أنَّ ربَّه سبحانه وتعالى {سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
وأنه سبحانه {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]
وأنه سبحانه: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3]
وأنه سبحانه {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]
وأنه سبحانه {يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6]
وأنه سبحانه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]
{وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]
(1)
مدارج السالكين (2/ 34 ط عطاءات العلم)
{وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28]
فمَن عَلِمَ باطلاع الله عليه ورؤيته له وإحاطته به فإنَّ ذلك يُثمِر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات القلب عن كل ما لا يُرضِي الله.
وتأمل قول الله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} [العلق].
فمن وضع هذه الآية نُصْبَ عينيه؛ حجز نفسه عن الغفلة ولزم المراقبة لله. لأنَّ العلم بأسماء الله وصفاته، يمنع المؤمنَ الصادقَ الموفقَ من الوقوع فيما حرَّم الله.
وتأمل قوله سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات].
ففي ذكر الاسمين الكريمين؛ بعد الأمر بتقواه، حث على الامتثال للأمر، وترهيب عن عدم الامتثال.
وتأملوا قوله سبحانه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)} [فصلت]
فإن في قوله تعالى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} تهديدًا ووعيدًا لأعدائه ويؤكده ختم الآية {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)} فالله مطَّلِع على أعمالكم من خير أو شر.
الغني الكريم البر الرحيم:
وهكذا إذا علم العبد بأن الله: {غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]،
وأنه {الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] الذي شمل الكائنات بأسرها ببِرِّه ومَنِّهِ وعطائه؛
فهو مغني النعم؛ وهو واسع الإحسان، وأنه تبارك وتعالى مع غناه عن عباده فهو محسن إليهم، رحيم بهم، يريد بهم الخير، ويكشف عنهم الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا دفع مضرة بل رحمة منه وإحسانًا، فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة ولا ليعتز بهم من ذلة ولا ليرزقوه ولا لينفعوه ولا يدفعوا عنه كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات].
الحق المبين:
وهكذا حين تعلم {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} [النور]
فتسأل نفسك: ما معنى اسم الله -جل وعلا- الحق؟ وما معنى المبين؟
فالحق هو الذي لا شكَّ فيه ولا ريب، لا في ذاته، ولا في أسمائه وصفاته، ولا في ألوهيته؛ فأوصافه العظيمة حق، وأفعاله هي الحق، وعبادته هي الحق، ولقاؤه حق، ووعده ووعيده، وحكمه الديني والجزائي حق، ورسله حق. وهو لا يظلم أحدا مثقال ذرة. فكل هذا، يعينك على فهم أسماء الله الحسنى ويعينك على التدبر والتفكر والتأمل.
فإذا علم العبد ذلك أحبَّ ربه -سبحانه- وأقبل على ربه -جل وعلا- بكُلِّيَّته متعبِّدًا ذاكرًا لربه بلسانه، ومطيعًا لربه بجوارحه.
إذا علم العبد ذلك أثمر عنده قوةَ رجاءٍ بالله، وأثمر عنده الطمعَ فيما عند الله وإنزالَ جميع حوائجه به وإظهارَ افتقاره إليه كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].
كذلك إذا تأمل العبد في عدل الله وانتقامه، وغضبه، سبحانه وسخطه، وعقوبته، أثمر عنده الخشية، والخوف، والحذر، والبُعد عن مساخط الربِّ -جل وعلا-.
ولهذا يقول ربنا سبحانه وتعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر].
إن التأمل في ذلك يدعوك -أيها المؤمن- إلى أن تعيش بين الخوف والرجاء.
ويقول سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)} [البقرة].
وقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} [المائدة].
وقال -جل وعلا-: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة].
وهكذا كلَّما تأمل الإنسان في أسماء الله وصفاته زاده ذلك إيمانًا، وزاده ذلك رفعة وقربًا من الله -جل وعلا-.
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: راود رجل امرأة في فلاة ليلًا، فأَبَتْ، فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب. قالت: فأين مكوكبها؟!
(1)
.
أي: أين الله؟! ألا يرانا؟!
فمنعها هذا العلم من اقتراف الذنب والوقوع في الخطيئة.
وكذلك جاء في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار: قال صلى الله عليه وسلم «فَبَيْنَمَا هُمْ فِيهِ إِذْ وَقَعَ حَجَرٌ مِنَ الْجَبَلِ مِمَّا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ -جل وعلا-»
(2)
، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذا العمل إلا أن تسألوا الله -جل وعلا- بصالح أعمالكم. فاستحضارهم:
• أن الله مطلع عليهم،
• وأن الله -جل وعلا- لن يخذلهم
• وأن الله لطيف بعباده،
• وأنه سبحانه رؤوف رحيم
هو الذي جعلهم يستحضرون أعمالهم الصالحة؛ ليتوسلوا بها إلى ربهم -جل وعلا-.
وفي نبأ هؤلاء الثلاثة: أن أحدهم ذكر أنه راود ابنة عم له على الزنا بها على أن يعطيها مائة دينار أو مائة وعشرين، وأنها ألمَّت بها سنة من السنين ثم إنها وافقت، فلما جلس منها مجلسَ الرجل من امرأته، قالت: له: «اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ»
(3)
. فتذكرَ عظمة الله -جل وعلا- وتذكرَ اطلاع الله -جل وعلا- عليه، فمنعه ذلك من الوقوع فيما حرَّم الله -جل وعلا-.
(1)
كلمة الإخلاص وتحقيق معناها (49).
(2)
هذه الرواية رواها الطبراني في المعجم الكبير من جـ 21 (21/ 129/ ط سعد الحميد) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو في كتاب الدعاء أيضا للطبراني (189) وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح. وصححه شيخنا الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (1152).
(3)
انظر القصة في صحيح البخاري (2215)، ومسلم (2743) عن ابن عمر رضي الله عنهما. وفي مسند أحمد (12454) عن أنس رضي الله عنه وفي مسند البزار (9498، 9556) وصحيح ابن حبان (971) عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي الدعاء للطبراني (195) ومستخرج أبي عوانة (5587) عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، وفي مسند البزار (1867)، وكتاب الدعاء للطبراني (187) عن علي رضي الله عنه، وفي كتاب الدعاء (201) والمعجم الأوسط (6671) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وفي كتاب الدعاء (196) عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما.
أسماء الله كلها حسنى وصفاته كلها صفات عليا وكلها كمال:
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن: "أَسْمَاءَ الله سُبْحَانَهُ كُلَّهَا حُسْنَى؛ وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا جَمِيْلَةٌ، وخَيْرٌ
(1)
، وَحِكْمَة، ومَصْلَحَة، وَإِحْسَانٌ، وَصِدْقٌ، وَعدْلٌ، وَرَحْمَة؛
وَصِفَاتُهُ: كُلُّهَا كَمَالٌ؛ وكلُّها صفاتُ مدْحٍ، ليْسَ فيهَا نَقْصٌ بوجْهٍ مِنْ الوجُوه "
(2)
وقولنا: "حسنى: أي: بالغة في الحسن غايته؛ لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
قال ابن القيم رحمه الله: وهى مشتقة من صفاته، وأفعاله دالة عليها فهو المحبوب المحمود لذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه ا هـ
(3)
.
فإذا تأملت في اسم الله -جل وعلا- {الحي} عرفت أنه دالٌّ على صفة الحياة لله -جل وعلا- وأنها صفة كاملة لم تُسبَق بعدم، ولا يلحقها نقص بخلاف الصفة للإنسان؛ فالإنسان يُوصَف بأنه "حي" لكنَّ حياتَه حياةٌ تليق بضعفه وعجزه وفقره؛ فإنها حياة سبقها عَدَمٌ كما قال -جل وعلا-:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)} [الإنسان] وحياة يعقبها موت؛ فالله -جل وعلا- يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر] ويقول سبحانه وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران]. وأما ربنا -جل وعلا- فهو الحيُّ {الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]سبحانه وتعالى
(4)
.
(1)
قال ابن القيم رحمه الله: أفعاله كلها خيرات محض لا شر فيها لأنه لو فعل الشر لاشتق له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلها حسنى وهذا باطل فالشر ليس إليه فكما يدخل في صفاته ولا يلحق ذاته لا يدخل في أفعاله فالشر ليس إليه لا يضاف إليه فعلا ولا وصفا وإنما يدخل في مفعولاته. وفرق بين الفعل والمفعول فالشر قائم بمفعوله المباين له لا بفعله الذي هو فعله فتأمل هذا فإنه خفي على كثير من المتكلمين وزلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وهدى الله أهل الحق لما اختلفوا فيه بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ا. هـ من بدائع الفوائد ط عالم الفوائد (1/ 288)
(2)
انظر: أحكام أهل الذمة (1/ 417) وكتاب الروح (ص: 262) والفوائد (ص: 182) وروضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 419) وزاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 211) وطريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 93)
(3)
انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 318).
(4)
انظر: القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص: 7) للعلامة ابن عثيمين رحمه الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
…
الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه؛ فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك
…
وثبوت معنى الكمال قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى، فما في القرآن من إثبات الحمد له، وتفصيل محامده، وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه، ونحو ذلك، كله دال على هذا المعنى
…
ولم يعلم أحد من الأمة نازع في هذا المعنى، بل هذا المعنى مستقر في فطر الناس، بل هم مفطورون عليه، فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق، فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر، وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء ا. هـ
(1)
أسماء الله غير محصورة بعدد:
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن أسماء الله -جل وعلا- غيرُ محصورة بعدد كما ورد في الحديث المشهور: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: فَهَذا يَدُلُّكَ على أن لله أسماء لم يُنَزِّلْهَا في كِتَابِهِ، حَجَبَهَا عَنْ خَلْقِهِ، وَلم يُظْهِرْهَا لَهُمْ ا. هـ
(3)
. وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: «اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي
(1)
الرسالة الأكملية فيما يجب لله من صفات الكمال (ص: 9)
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد (1/ 391، 452) وغيره من طريق الفضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن جده. والحديث صححه ابن حبان (972) والحاكم في المستدرك (1/ 690) وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ إِنْ سَلِمَ مِنْ إِرْسَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي سَمَاعِهِ عَنْ أَبِيهِ " ا. هـ وخرجه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (199) وتكلم عليه وأجاب عما علل به بما لا مزيد عليه.
(3)
شأن الدعاء (1/ 25)
ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
(1)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فأخبر أنه لا يحصي ثناء عليه ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها فكان يحصي الثناء عليه لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه
(2)
.
فنؤمن بما ورد في الكتاب والسنة، وبما استأثر الله -جل وعلا- بعلمه عنا مما لا يمكن حصره ولا الإحاطة به.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إلَّا واحِدًا، مَنْ أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ»
(3)
. فقوله: «مَنْ أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ» صفة لا خبر مستقل، أي له أسماء متعددة موصوفة بأن «مَنْ أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ» وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها؛ كما تقول لفلان مائة عبد أعدهم للتجارة ومائة فرس أعدها للجهاد فهذا لا ينفي أن يكون له سواهم معدون لغير الجهاد؛ وهذا قول الجمهور؛
(4)
وخالفهم: ابن حزم فزعم أن أسماءه تنحصر في هذا العدد.
(5)
أسماء الله وصفاته توقيفية:
ثم اعلموا أن أسماء الله لا تثبت بالعقل، وكذلك صفاته، وإنما تثبت بالوحي، فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء والصفات، فوجب الوقوف في ذلك على النص، فإذا أثبت المسلم لله اسمًا أو صفةً فيجب أن يكون على ذلك دليلٌ من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6)
(1)
صحيح مسلم (486) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
درء تعارض العقل والنقل (3/ 332)
(3)
البخاري (2736)، ومسلم (2677) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
انظر: الجواب الصحيح (3/ 223) وبدائع الفوائد (1/ 167) وشفاء العليل (ص: 277).
(5)
انظر: المحلى (1/ 50)، والفصل (2/ 126)
(6)
انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 270) لابن القيم؛ والقواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص: 13) لابن عثيمين.
بعض الكتب النافعة في هذا الباب:
وأدلكم على بعض الكتب النافعة في هذا الباب ومنها:
"كتاب القواعد المثلى" للشيخ العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-،
وهو كتاب نافع جدًّا وسهل في فهم هذا الباب.
وكذلك كتابُ شيخنا وابن شيخنا: الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر "فقه الأسماء الحسنى"
فهو من الكتب العظيمة النافعة التي أحُثُّ إخواني وأحُثُّ السامعين على مراجعتها والعيش معها؛ فإنه تكلم فيه عن أسماء الله -جل وعلا- وصفاته، فذكر الأسماء اسمًا اسمًا، وتكلم عمَّا فيها من المعاني، بأسلوب سهل واضح.
وهذا يعيننا على التفكر والتأمل والتدبر.
والخلاصة: أنَّ الشعبة الأولى من شعب الإيمان هي شعبة الإيمان بالله -سبحانه- وهي أعظم الشعب، والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
الإيمان بوجود الله. وبربوبيته. وبألوهيته. وبأسمائه وصفاته.
وهذا الباب باب عظيم واسع، لكن نقتصر منه على ما تيسر ذكره في هذه المجالس. والله أعلم
انتهى الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني:
الإيمان بالرسل الكرام عليهم السلام-