المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سلسلةُ: ريِّ الظَّمْآن بِمَجالِس شُعَبِ الإيمَانِ (2) الإِيْمَانُ بالرسلِ عليهم السلام تأليف أبي حمزة - ري الظمآن بمجالس شعب الإيمان - جـ ٢

[غازي بن سالم أفلح]

فهرس الكتاب

سلسلةُ: ريِّ الظَّمْآن بِمَجالِس شُعَبِ الإيمَانِ (2)

الإِيْمَانُ بالرسلِ

عليهم السلام

تأليف

أبي حمزة غازي بن سالم أفلح

عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه وجميع المسلمين

تقديم

الدكتور عزيز بن فرحان العنزي الدكتور رشاد بن حمود الحزمي

الشيخ عبد العزيز بن يحيى البرعي الشيخ محمد بن عبد الله باموسى

الشيخ نعمان بن عبد الكريم الوتر

ص: 3

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى لمكتبة دروس الدار

1444 هـ - 2022 م

(مزيدة ومنقحة)

رقم الفسح الإعلامي في دولة الإمارات العربية المتحدة دبي

MC-01 - 01 - 7549142

Date-2022 - 04 - 19

الترقيم الدولي

ISBN: -978 - 9948 - 04 - 572 - 4

التصنيف العمري: E

تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن وزارة الثقافة والشباب

للتواصل مع المؤلف: [email protected]

الإمارات العربية المتحدة - الشارقة

البريد الإلكتروني: [email protected]

للتواصل: 00971503667077

تويتر: @ DroosAldar

ص: 4

‌الركن الثاني من أركان الإيمان

الإيمان بالرسل

ص: 5

‌المجلس العاشر

(1)

الشعبة الثانية من شعب الإيمان: الإيمان بالرسل

الشعبة الثانية هي الإيمان برسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.

‌الإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور:

والإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور:

أولها: الإيمان بأن رسالتهم حق من الله تعالى.

والثاني: الإيمان بمن عَلِمَنا اسمه منهم باسمه مثل: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبقية الأنبياء المذكورين في القرآن كنوح وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام.

‌أولوا العزم من الرسل:

وهؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل، وهم أفضل الرسل، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، وأفضل هؤلاء الخمسة. وهؤلاء الأنبياء الخمسة الذين هم أولو العزم من الرسل قد جاء ذكرهم في موضعين من كتاب الله تعالى:

قال -جل وعلا-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]

وقال -جل وعلا-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].

وأما من لم نعلم اسمه منهم فنؤمن به إجمالًا كما سيأتي معنا.

والأمر الثالث: تصديق ما صحَّ عنهم من أخبارهم.

والأمر الرابع: العمل بشريعة من أُرْسِلَ إلينا منهم، وهو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم المرسل إلى جميع الناس إلى الثقلين من الجن والإنس.

(1)

كان في يوم الاثنين الرابع من شهر رمضان 1441 هـ.

ص: 7

يقول الإمام البيهقي -رحمه الله تعالى-: الثاني من شعب الإيمان، وهو باب في الإيمان برسل الله -صلوات الله عليهم عامة- اعتقادًا وإقرارًا إلا أنَّ الإيمان بما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم هو الإيمان بأنهم كانوا مرسلين إلى الذين ذَكَرُوا لهم أنهم رسل الله إليهم، وكانوا في ذلك صادقين محقِّين، والإيمان بالمصطفى نبينا صلى الله عليه وسلم هو التصديق بأنه نبيه ورسوله إلى الذين بُعِثَ فيهم، وإلى مَنْ بعدَهم من الجن والإنس إلى قيام الساعة

(1)

.

‌من أدلة الإيمان بالرسل:

ثم ذكر البيهقي رحمه الله أدلة على ذلك

(2)

، منها: قول الله -جل وعلا-: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]. هذه الآية دليل على أن الإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، ويقول ربنا -جل وعلا-:{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)} [آل عمران].

‌كفر من كذب بالرسول:

فإذا عرفت أنَّ الإيمان بالأنبياء أصلٌ من أصول الدين، وأصل من أصول الإيمان، فإنَّ من لم يؤمن بالرسل فقد ضلَّ ضلالًا بعيداً، وخسر خُسرانًا مبينًا. يقول ربنا سبحانه:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء].

وتأملوا قول الله سبحانه وتعالى في قوم زعموا أنهم مؤمنون، ولكنهم كفروا بالرسل والكتب قال -جل وعلا-:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] فالذين يَقْدُرُون الله حق قدره، ويعلمون صفاته التي اتصف بها من العلم والحكمة والرحمة لا بُدَّ أن يوقنوا بأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ لأن هذا مقتضى صفاته؛ فهو -سبحانه- لم يخلق الخلق عبثًا، قال تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة]

(1)

شعب الإيمان (1/ 272).

(2)

انظر شعب الإيمان (1/ 272).

ص: 8

‌كفر من لم يؤمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب:

ومن كفر بالرسل وهو يزعم أنه يؤمن بالله، فهو عند الله كافر؛ إذ أمرنا الله-سبحانه-بالإيمان بجميع الأنبياء فمن كفر برسول واحد كفر بجميع الرسل. وهؤلاء الذين يزعمون أنهم أهل كتاب من يهود ونصارى وهم يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم هم كفار، وبعضُ الناس يجد حرجًا من وصفهم بالكفر، ويقول: كلَّا، إنهم أهل كتاب. وهذا من الجهل فإن التكذيب برسول واحد تكذيب لهم جميعا.

‌التكذيب برسول واحد تكذيب لجميع المرسلين:

نعم، هم أهل كتاب، لكنهم لما كفروا بنبينا صلى الله عليه وسلم صاروا مكذبين لجميع الأنبياء، وتأمل قول الله سبحانه وتعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} [الشعراء]

وقال -جل وعلا-: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)} [الشعراء]

وقال سبحانه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)} [الشعراء]،

وقال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)} [الشعراء]،

وقال سبحانه: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)} [الشعراء]،

وقال -جل وعلا-: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان]،

ولو تأملت فكل أمة كذبت رسولها إلا أن التكذيب برسول واحد يعد تكذيبًا بالرسل كلهم؛ ولهذا لا يُفرِّق المؤمنُ بين أحد منهم، قال الله -جل وعلا-:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء]. فنصَّت الآية على كفر من زعم الإيمان بالله وكَفَرَ بالرسل {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} . فهذا كفر، حيث فَرَضَ اللهُ على الناس أن يعبدوه لكن كيف يعبدونه؟ يعبدونه بما شرع على ألسنة الرسل، فإذا كفروا برسول منهم فقد رَدُّوا شريعة الله سبحانه وتعالى، فهذا من التفريق بين الرسل.

ص: 9

‌وجوب الإيمان بجميع الرسل:

والله-تعالى-يقول: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة]

قال ابن تيمية رحمه الله: فَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ: آمَنَّا بِهَذَا كُلِّهِ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَمَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا مُؤْمِنًا؛ بَلْ يَكُونُ كَافِرًا وَإِنْ زَعْم أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ ا. هـ

(1)

ومن سار على هذا النهج فقد اهتدى؛ ولهذا جاءت الآية بعد ذلك: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137]. وأنا أدعو كل مؤمن أن يقف عند هذه الآية متأملاً في هذا السياق {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} . أي من جميع الرسل، وجميع الكتب، وأسلموا لله وحده، ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله {فَقَدِ اهْتَدَوْا} للصراط المستقيم. فالهداية التامة هي أن تكون موافقًا في الإيمان لما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه؛ ولهذا قال:{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137] أي في عصيان وفِرَاق وحَربٍ لله ولرسوله ولكم {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} بأي نوع من العقوبات، {وَهُوَ السَّمِيعُ} لما يقولون من الباطل {الْعَلِيمُ} بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء.

‌مدح المؤمنين الذين لم يفرقوا بين الله ورسله:

وإن ربك -جل وعلا- امتدح رسول هذه الأمة والمؤمنين الذين تابعوه في الإيمان فقال -جل وعلا-: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ووعد الله -جل وعلا- الذين لم يفرقوا

(1)

التدمرية ط العبيكان (ص: 172)

ص: 10

بين الرسل بالمثوبة والأجر العظيم، فقال سبحانه:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} [النساء].

‌ذم من آمن ببعض الرسل وكفر ببعض:

وذمَّ الله -جل وعلا- أهل الكتاب لإيمانهم ببعض الرسل وكفرهم ببعض فقال -جل وعلا-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] فاليهود لا يؤمنون بعيسى ولا بمحمد عليه الصلاة والسلام والنصارى لا يؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام فكانوا بذلك -جميعا- كفارًا. وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»

(1)

قال العلامة الألباني رحمه الله: «يَسْمَعُ بِي» ؛ أي: على حقيقته صلى الله عليه وسلم بشراً رسولاً نبياً فمن سمع به على غير ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور ومحاسن الأخلاق؛ بسبب بعض جهلة المسلمين؛ أو دعاة الضلالة من المنصرين والملحدين؛ الذين يصورونه لشعوبهم على غير حقيقته صلى الله عليه وسلم المعروفة عنه؛ فأمثال هؤلاء الشعوب لم يسمعوا به، ولم تبلغهم الدعوة، فلا يشملهم الوعيد المذكور في الحديث ا. هـ

(2)

وقد أصبح بعض الناس بسبب جهلهم بالدين، يعتقدون أن اليهود ليسوا كفارًا، وأن النصارى ليسوا كفارًا، فيقولون: الناس، مسلمون ويهود ونصارى وكفار، على اعتبار أنَّ غير اليهود والنصارى هم الكفار، والله يقول:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة].

-فاللهم اهد ضال المسلمين-.

(1)

صحيح مسلم (153)، تفرد به عن أصحاب الكتب الستة كما في تحفة الأشراف (15474).

(2)

سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/ 251)

ص: 11

‌عدد الأنبياء والرسل:

جاء حديث صحيح أخرجه الطبراني والحاكم في مستدركه في بيان ذلك.

وهو حديث أبي أمامة صُدي بن عجلان رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَبِيًّا كَانَ آدَمُ؟ قَالَ:«نَعَمْ، مُعَلَّمٌ مُكَلَّمٌ» قَالَ: كَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ؟ قَالَ: «عَشْرُ قُرُونٍ» قَالَ: كَمْ بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: «عَشْرُ قُرُونٍ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ كَانَتِ الرُّسُلُ؟ قَالَ:«ثَلَاثَ مِائَةٍ وَخَمْسَ عَشْرَةَ جَمًّا غَفِيرًا»

(1)

.

ومما يستفاد من هذا الحديث أن الأنبياء والرسل الذين ذكرهم الله -جل وعلا- في القرآن، وسماهم لنا بالاسم، وعدَدُهم خمسة وعشرون نبيًّا ورسولًا، هم بعض الأنبياء والمرسلين وليسوا جميعًا، وقد جاء القرآن صريحًا في ذلك: فقال -جل وعلا-: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]

‌جملة المذكورين في القرآن من الأنبياء والمرسلين خمسة وعشرون:

سمَّى الله -جل وعلا- من الأنبياء والمرسلين في كتابه خمسة وعشرين. فذكر ثمانية عشر منهم في موضع واحد من سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)}

(1)

رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/ 139) وفي الأوسط (403) وابن حبان في صحيحه (6190) الشطر الأول منه. وابن أبي حاتم في التفسير مفرقا (6177، 6969، 15183) والحاكم (3039) وعنه البيهقي في الأسماء والصفات (440). والحديث رواه الحاكم قال: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقَارِئُ، ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، ثنا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ الْحَلَبِيُّ، ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ سَلَّامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ. وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم. قلت: أبو توبة ومن فوقه على شرط مسلم. لكن أبو توبة من طبقة شيوخ مسلم وروى عنه بواسطة الحسن الحلواني، فيقال رجاله رجال مسلم، ولا يقال على شرط مسلم كما هو محرر في كتب الاصطلاح والله أعلم وانظر: السلسلة الصحيحة (2668).

ص: 12

فهذه الآيات من سورة الأنعام ذكر الله فيها ثمانية عشر نبيًّا ورسولًا.

وقال بعضهم:

في تلك حُجّتُنا منهم ثمانيةٌ

من بعد عَشرٍ ويبقَى سبعة وهمُ:

إدريسُ هودٌ شُعيبٌ، صالحٌ وكذا

ذو الكِفّل، آدمُ، بالمختار قد خُتِمُوا

فأما أبونا آدم عليها السلام: فقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} [آل عمران: 33].

وتقدم قول النبي عليه الصلاة والسلام عن آدم: إنه «نَبِيُّ مُعَلَّمٌ مُكَلَّمٌ» .

وقال تعالى في إدريس وذي الكفل عليهما السلام: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)} [الأنبياء].

وقال تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)} [ص].

وفي هود عليها السلام قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65].

وفي صالح عليها السلام قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73].

وفي شعيب عليها السلام قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85].

وفي خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29].

فهؤلاء خمسة وعشرون نبيًّا عليهم السلام ذكرهم الله -جل وعلا- في كتابه.

‌الخلاف في نبوءة الكفل:

وقد ذكر بعض العلماء خلافًا في نبوءة ذي الكفل.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونًا مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي-عليه من ربه الصلاة والسلام-وهذا هو المشهور، وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيًّا، وإنما كان رجلًا صالًحا وحكمًا مُقسِطًا عادلًا، وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم

(1)

.

‌الأنبياء العرب:

وقال العلماء: أربعة من هؤلاء من العرب وهم: نبي الله هود، ونبي الله صالح،

(1)

البداية والنهاية (1/ 516).

ص: 13

ونبي الله شعيب، ونبينا صلى الله عليهم أجمعين

(1)

.

‌بعض الأنبياء الذين ذكروا في السنة:

وجاء أيضًا في السنة النبوية ذِكْرُ بعض الأنبياء، ومنهم:

‌نبي الله يوشع بن نون عليها السلام

-:

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ

»

(2)

إلى آخر الحديث. وهذا النبي هو يوشع عليها السلام لقوله في الحديث الآخر: «إِنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ عَلَى بَشَرٍ إِلَّا لِيُوشَعَ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِس»

(3)

‌الخلاف في نبوءة ذي القرنين وتبع:

واختلف العلماء في ذي القرنين وفي تُبَّع المذكور في قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37] هل كانا نبيَّين أم لا؟ وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا أَدْرِي تُبَّعٌ أَنَبِيًّا كَانَ أَمْ لَا؟ وَمَا أَدْرِي ذَا الْقَرْنَيْنِ أَنَبِيًّا كَانَ أَمْ لَا؟» وهو حديث ضعيف

(4)

(1)

وورد ذلك في حديث مرفوع، رواه ابن حبان (361) وإسناده ضعيف جدا. وانظر:«البداية والنهاية ط هجر» (1/ 283) للحافظ ابن كثير.

(2)

أخرجه البخاري (3124)، ومسلم (1747) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أحمد (8315) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (202) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1945)

(4)

رواه الحاكم في مستدركه (104) بهذا اللفظ من طريق عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قال أَنْبَأَ مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فذكره. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين،

ولم يخرجاه. واستظهر العلامة الألباني رحمه الله أنه بهذا اللفظ خطأ من الناسخ أو الطابع -كما في الصحيحة (5/ 253) - والحديث رواه الحاكم في موضع آخر من المستدرك (2174) - عن عبد الرزاق بسنده- ولفظه: «مَا أَدْرِي أَتُبَّعُ لَعِينًا كَانَ أَمْ لَا،

» الحديث ورواه من هذا الوجه الحنائي في «الفوائد "الحنائيات"» (1/ 255): وقال الحافظ عبد العزيز النخشبي في تخريجه للحنائيات: هذا حديث غَرِيبٌ ا. هـ. ورواه أبو داود في سننه (4674) عن عبد الرزاق به ولفظه: «مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ لَعِينٌ هُوَ أَمْ لَا، وَمَا أَدْرِي أَعُزَيْرٌ نَبِيٌّ هُوَ أَمْ لَا» ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 570) عن الحاكم باللفظ الثاني ثم قال: هَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ

وَرَوَاهُ هِشَامٌ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ، -به- مُرْسَلًا قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ، وَلَا يَثْبُتُ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ وقَالَ البيهقي: قَدْ كَتَبْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مَوْصُولا ا. هـ ثم ذكره البيهقي عن شيخه الحاكم وهو في المستدرك (3682) قال الحاكم حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي

فذكره وعبد الرحمن بن الحسن متهم بالكذب. فلا يفرح به. والحاصل أنه اختلف في سنده ومتنه، وقد رجح البخاري وكذا الدارقطني والحافظ النخشبي وابن عبد البر المرسل. انظر التاريخ الكبير للبخاري (1/ 152)، وتخريج الحنائيات (1/ 255) وقول الدارقطني نقله ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عند الحديث (1553) وابن عساكر في تاريخ دمشق (11/ 4). وقد سئل أبو زرعة الرازي [كما في الجرح والتعديل (9/ 71)] عن هشام وعبد الرزاق ومحمد بن ثور فقال: كان هشام أكبرهم وأحفظهم وأتقن. وذكر الذهبي في ترجمة هشام [كما في سير أعلام النبلاء (9/ 580)] أنه من أقران عبد الرزاق لكنه أجل وأتقن.

ص: 14

‌الخلاف في نبوءة الخضر عليها السلام

-:

واختلف العلماء في الخضر عليها السلام أنبيًّا كان أم لا. وسياق القصة يدل على أنه نبي من الأنبياء وليس وليًّا من الأولياء فحسب؛ بدليل أن الله قال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} [الكهف] وهذه الرحمة هي النبوة والعلم الذي أوحى الله -جل وعلا- به إليه وكذلك قول موسى عليها السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)} [الكهف] فلو كان غير نبي لم يكن معصومًا، ولم يكن لموسى وهو نبي عظيم ورسول كريم، واجبُ العصمة، كبيرُ رغبةٍ ولا عظيمُ طلبة في علمِ وليٍّ غيرِ واجبِ العصمةِ؛ فهذا يدل على أنه كان نبيًّا من الأنبياء.

وكذلك أقدم الخضر عليها السلام على قتل ذلك الغلام، وما كان ليفعل ذلك إلا بوحي إليه من المَلِك العلَّام سبحانه وتعالى. فكل هذا يدل على ماذا؟

يدل على أن الخضر عليها السلام كان نبيًّا من الأنبياء في زمن موسى عليها السلام.

إذًا: نؤمن بمن جاء ذكره في الكتاب والسنة تفصيلا كما ورد ونؤمن إجمالا بمن لا نعرف اسمه، وقد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أنهم جمع غفير وعدد كبير، فنؤمن بهم إجمالًا، ونؤمن بكل نبي بعثه الله سبحانه وتعالى. يقول الله -جل وعلا- في كتابه الكريم:{مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]

فما من أمة من الأمم إلا وبعث الله -جل وعلا- إليها رسولًا.

ص: 15

‌أول الرسل نوح عليها السلام وآخرهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

-:

وأولُهُمْ نوحٌ عليها السلام؛ وآخِرُهُم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو خاتمُ النَّبيينَ كما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]

وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)} [الأحزاب]

‌الفرق بين النبي والرسول:

وقد ذكر العلماء من مسائل هذا الباب التفريق أو الفرق بين النبي والرسول، وإن كانت هذه المسألة ليست من المسائل التي ينبني عليها عملٌ إلا أن العلماء ذكروا أن هناك فرقًا بين النبي والرسول، وهذا على الصحيح من الأقوال، فمن العلماء من لا يفرق، ولكن الصواب أن هناك فرقًا بين النبي والرسول.

واختلف العلماء في تعيين الفرق بينهما: فقيل:

1 -

إن النبي والرسول كلاهما يوحى إليه بالوحي إلا أن الرسول أمره الله بالتبليغ، والنبي لم يؤمر بالتبليغ، وقد ذهب إلى هذا القول كثيرٌ من العلماء.

فإن قيل: فإن كان لا يؤمر بالتبليغ أليس في ذلك كتمانٌ للعلم؟

فالجواب: أن المقصود أنه لم يؤمر بالتبليغ أي: لم يُوجَب عليه، لكنه لم يُنْهَ عن الدعوة.

2 -

ومن أهل العلم من يقول: كلاهما -النبي والرسول- أُوحِيَ إليه، وكلاهما مأمور بالبلاغ إلا أنَّ الرسول معه كتاب من عند الله.

3 -

ومنهم من يقول: الرسول ينزل عليه كتاب أو يأتيه ملك، والنبي من يُوحَى إليه أو يكون تبعًا لرسول آخر.

والأقوال في التفريق بينهما كثيرة، لكن من أقرب هذه الأقوال قولُ من قال:

4 -

إن النبي والرسول: يشتركان في أنَّ كليهما يُوحَى إليه كما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] فأخبر الله أنَّ الأنبياء يُوحَى إليهم فكذلك الأنبياء والرسل يوحى إليهم، ويشتركان أيضًا في أن النبي والرسول مأموران

ص: 16

بالبلاغ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52]. فأثبت الرسالة للرسول وأثبت الرسالة للنبي. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: وآية الحج هذه تُبَيِّن أن ما اشتهر على ألسنة أهل العلم من أن النبي هو من أُوحِيَ إليه وحي، ولم يُؤمَر بتبليغه، وأنَّ الرسول هو النبي الذي أُوحِيَ إليه، وأُمِرَ بتبليغ ما أُوحِيَ إليه غيرُ صحيح؛ لأنَّ قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} يدُلُّ على أنَّ كلًّا منهما مرسَلٌ، وأنهما مع ذلك بينهما تغاير، واستظهر بعضهم أنَّ النبي الذي هو رسول أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي ثبتت بها نبوته، وأن النبي المرسل الذي هو غير الرسول، هو من لم يُنزل عليه كتابٌ، وإنما أُوحِي إليه أن يدعوَ الناس إلى شريعة رسول قبله

(1)

. إذًا جعلوا التفريق بين النبي والرسول ليس من جهة التبليغ، وإنما من جهة الكتاب الذي أُنزِل إليه أو الشريعة التي أُوحِيَ إليه بها.

5 -

وقال بعضهم: الفرق بين النبي والرسول: أن النبي يُبعَثُ لتقرير شريعة من كان قبله من الأنبياء. وقالوا: يُبعَثُ إلى قوم مسلمين يدعوهم إلى الله، ويُبيِّن لهم دين الله وشرع الله، وأما من بعثه الله سبحانه وتعالى إلى قوم كافرين يأمرهم وينهاهم فإنه رسول حتى لو لم يُعَرف كتاب أنزل إليه، وهذا القول قرَّره شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه قال في جملة ما قال: فالأنبياء يُنبِّئُهم الله؛ فيخبرهم بأمره، ونهيه، وخبره، وهم يُنبِّئُون المؤمنين بهم ما أَنْبَأَهم اللهُ به من الخبر، والأمر، والنهي، فإن أُرسِلُوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله، وعبادته وحده لا شريك له، ولا بُدَّ أن يُكَذِّب الرسلَ قومٌ قال الله تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)} [الذاريات]

(2)

. فجعل الفرق أنَّ الأنبياء يبعثون ويرسلون إلى قوم مؤمنين، وأما من أُرسِلَ إلى كفار فدعاهم إلى التوحيد وإلى نبذ الشرك فهذا هو الرسول.

إذًا هذه جملةٌ من تفريق العلماء بين الرسول وبين النبي. والحاصل أنه لا ينبني على ذلك كثيرُ عملٍ، وإنما يجب على المسلم أن يؤمن بكل من سمَّاه الله نبيًّا أو رسولًا في كتابه الكريم.

(1)

أضواء البيان (5/ 290).

(2)

النبوات (2/ 717).

ص: 17

‌جميع الأنبياء والرسل دعوا إلى التوحيد:

وكلُّ أمَّةٍ بعثَ اللهُ إليها رسولاً مِنْ نوحٍ إلى محمدٍ يأمُرُهُمْ بعبادةِ اللهِ وحدَهُ، ويَنْهَاهُمْ عنْ عبادَةِ الطاغوتِ، كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]

وفي الآية مسائل منها:

1 -

بيان الحكمة في إرسال الرسل وهي ليأمروا أممهم بعبادة الله وحده واجتناب الطاغوت.

2 -

وأن الرسالة عمت كل أمة فإنه لما أخبر الله أنه بعث في كل أمة رسولا أفاد ذلك أن الرسالة عمت جميع الأمم وقامت الحجة على الخلق كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]

3 -

وفيها أن دين الأنبياء واحد. لأن الله أخبر أن كل رسول يقول لقومه {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فأفاد ذلك أن دينهم واحد أما الشرائع فمختلفة كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] وفي الصحيحين أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»

(1)

4 -

وفي الآية المسألة العظيمة: وهي أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، ففيه معنى قول الله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة]

فإنه لما أخبر الله أنه أرسل الرسل يدعون أممهم قائلين: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} دل ذلك على أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت فمن لم يكفر بالطاغوت فليس عابدا لله حقيقة ولذلك جعله شرطا للاستمساك بالعروة الوثقى. وسيأتي مزيد من الكلام عن دعوة الأنبياء في مجلس قادم -إن شاء الله-.

(1)

صحيح البخاري (3443) وصحيح مسلم (2365)

ص: 18

‌بعثة الأنبياء والرسل رحمة بالعباد:

وهذا -يا إخواني- من رحمة الله -جل وعلا- بالعباد أن بَعَثَ إليهم أنبياءَ ورسلًا يخبرونهم عن أمر الله وعن شريعة الله -جل وعلا- إليهم. -جل وعلا-. وقد ذكر ابن القيم وغير واحد من العلماء حاجة العباد إلى إرسال الرسل، وأنه لا يمكن أن يستقيم حال الناس إلا ببعثة الأنبياء والمرسلين.

يقول ابن القيم رحمه الله: من هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر؛ فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضا الله البتة إلا على أيديهم

(1)

.

ولهذا فإن الأمم الضالة التي كفرت بالله-سبحانه-تجد في نفوسهم-مع ما هم عليه-حاجةً إلى أن يتخذوا زعماء يهتدون بهديهم، ويسيرون على طريقتهم.

ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: والرسالة ضرورية للعباد، لا بُدَّ لهم منها، وحاجتُهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالةُ روحُ العالَم ونورُه وحياتُه، فأيُّ صلاحٍ للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟! والدنيا مظلمةٌ ملعونةٌ إلا ما طلعت عليه شمسُ الرسالة، كذلك العبد ما لم تُشرِق في قلبه شمسُ الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة؛ وهو من الأموات قال الله:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات

(2)

.

وتأملوا قول الله -جل وعلا-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا

(1)

زاد المعاد (1/ 68).

(2)

مجموع الفتاوى (19/ 94، 93).

ص: 19

الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].

فذكر الله -جل وعلا- في هذه الآية أن الوحي روح من الله سبحانه وتعالى فالله يضرب المثل للوحي الذي أنزله حياةً للقلوب ونورًا لها: ومن ذلك أن الله -جل وعلا- ضرب له مثلًا بالماء الذي ينزله من السماء حياةً للأرض ويقول -جل وعلا-: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد: 17]. فشبَّهَ اللهُ العلمَ بالماء المنزَّل من السماء؛ لأنَّ به حياة القلوب كما أنَّ بالماء حياةَ الأبدان؛ فهذا يدل-إخواني في الله-على أنَّ حاجةَ النَّاسِ إلى معرفة الأنبياء والمرسلين والإيمان بهم كما أمرهم الله -جل وعلا- فوق كل حاجة وفوق كل ضرورة.

‌ما على الرسول إلا البلاغ:

من رحمة الله -جل وعلا- بنا أن أمر هؤلاء الأنبياء والرسل بالبلاغ قال الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]

فنحن -يا إخواني- نؤمن بأن الأنبياء والرسل سفراءُ الله إلى عباده وحملةُ الوحي، ومهمتُهم هي إبلاغُ الأممِ الأمانةَ التي تحمَّلُوها من ربهم سبحانه وتعالى وقد بلَّغ نبينا صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأدى الأمانة، وجاءنا بهذا الكتاب العظيم، وبهذا البيان والوحي الإلهي من رب العالمين سبحانه وتعالى.

ومن رحمة الله -جل وعلا- بالأمم أن الله أمر الأنبياء بالدعوة إليه -جل وعلا- وبيانِ أمره، ودعوة الناس إلى توحيده؛ فالأنبياء والمرسلون يدعون إلى توحيد الله وإلى كل خيرٍ أَمَرَ الله به، ويَنهَون عن الشرك، وعن كلِّ شرٍّ نهى الله -جل وعلا- العباد عنه، والأنبياء والمرسلون مبشِّرُون ومُنْذِرون كما وصف الله -جل وعلا- نبيَّنا صلى الله عليه وسلم بأنه كان بشيرًا ونذيرًا. فمن أطاعهم دخل الجنة، ومن عصاهم دخل النار؛ قال الله -جل وعلا-:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه].

ص: 20

‌ليس للناس على الله حجة بعد الرسل:

وليعلم المؤمن أنه لا صلاح لنفسه ولا تزكية لها إلا بهذا الوحي الذي جاء به الأنبياء والمرسلون.

وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى في كتابه حكمةً عظيمةً من حكم إرسال الرسل، وهي إقامة الحجة على العباد، فقال الله -جل وعلا-:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فلا يقبل من أحد يوم القيامة أن يحتج على الله سبحانه وتعالى ويقول: ما جاءنا إليك من بشير ولا نذير كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)} [طه] وقال -جل وعلا-: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89]

وقال -جل وعلا-: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا} [الملك: 8 - 9]

الآيات.

إذًا إقامةُ الحجة على العباد من رحمة الله سبحانه وتعالى بهم، فلن يُعذِّب أحدًا إلا وقد بلغته الرسالة، وبلغه الوحي من ربِّ العالمين سبحانه وتعالى عن طريق هؤلاء الأنبياء الكرام.

‌أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة:

وأهل الفترة هم الذين لم تبلغهم الدعوة، فهم -ومن في حكمهم- يمتحنون يوم القيامة كما في حديث قَتَادَةَ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ رضي الله عنه، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ، مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ

ص: 21

بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا»

(1)

.

ورواه قَتَادَةُ أيضا، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مِثْلَ هَذَا غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ:«فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا»

(2)

وعن علي بن زَيْدٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ يُدْلِي عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحُجَّةٍ وَعُذْرٍ رَجُلٌ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ وَرَجُلٌ أَدْرَكَهُ الإِسْلامُ [مَاتَ] هَرَمًا وَرَجُلٌ أَصَمُّ أَبْكَمُ وَرَجُلٌ مَعْتُوهٌ فَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَلَكًا رَسُولا فَيَقُولُ اتَّبِعُوهُ فَيَأْتِيهِمُ الرَّسُولُ فَيُؤَجِّجُ لَهُمْ نَارًا ثُمَّ يَقُولُ اقْتَحِمُوهَا فَمَنِ اقْتَحَمَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا

(1)

مسند أحمد (26/ 228) رقم (16301) -ومن طريقه الضياء المقدسي في المختارة (4/ 255) -، قال حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، به. ومن طريق علي وهو ابن المديني رواه البيهقي في القضاء والقدر (644)، وفي الاعتقاد (ص: 169)، وتابعه إسحاق بن راهويه فرواه كما في مسنده (41) -ومن طريقه المروزي [كما في أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 257)]، وابن حبان في صحيحه (7357)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 287) رقم (841) وأبو نعيم في المعرفة (911) والضياء في المختارة (4/ 256) رقم (1456) - قال أخبرنا معاذ به. وأعله محققوا المسند بالانقطاع، فقتادة لم يسمع من الأحنف. واختلف فيه على معاذ: فرواه عبيد الله بن عمر القواريري - كما في تاريخ أصبهان (2/ 225) لأبي نعيم-، ومحمد بن المثنى، -كما في مسند البزار (9597) - قالا: حَدَّثَنا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادةَ، عَنِ الأَسْوَدِ به -ليس فيه الأحنف-. والحديث يشهد له ما بعده. والحديث صححه الألباني في الصحيحة (1434) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (584)

(2)

مسند أحمد (26/ 228) رقم (16302) -ومن طريقه الضياء المقدسي في المختارة (4/ 255) -قال حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، به. ومن طريق علي -وهو ابن المديني-، رواه البيهقي في القضاء والقدر (645) وفي الاعتقاد (ص: 169)، وتابعه إسحاق بن راهويه -كما في مسنده (42)[وعنه المروزي كما في أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 257)]-، وعبيد الله بن عمر القواريري - كما في تاريخ أصبهان (2/ 225) لأبي نعيم-، ومحمد بن المثنى، -كما في مسند البزار (9597) - (ثلاثتهم: إسحاق، والقواريري، وابن المثنى) قالوا: حَدَّثَنا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادةَ، به. وصحح البيهقي إسناده في كتابيه. وقال الألباني في «ظلال الجنة» (1/ 176): وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كلهم والحسن هو البصري وإنما يخشى من تدليسه إذا عنعن عن الصحابة وأما إذا عنعن عن أقرانه من التابعين كما هنا فما علمت أنهم يخشون هذه العنعنة ا. هـ

ص: 22

وَسَلامًا وَمَنْ لَا، حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ»

(1)

وفي تفسير عبد الرزاق الصنعاني عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ أَهْلَ الْفَتْرَةِ وَالْمَعْتُوهَ، وَالْأَصَمَّ، وَالْأَبْكَمَ، وَالشِّيُوخَ الَّذِينَ لَمْ يُدْرِكُوا الْإِسْلَامَ، ثُمَّ يُرْسِلُ رَسُولًا إِلَيْهِمْ أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ» ، قَالَ: " فَيَقُولُونَ: كَيْفَ وَلَمْ يَأْتِنَا رَسُولٌ؟، قَالَ:«وَايْمِ اللَّهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ فَيُطِيعُهُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُطِيعَهُ» قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء]

(2)

.

‌أطفال المسلمين وأطفال المشركين:

لا خلاف بين العلماء أن أطفال المؤمنين في الجنة.

(3)

(1)

رواه أسد بن موسى في «الزهد» (97) وإسحاق بن راهويه في مسنده (514) والمروزي [كما في أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 257)]-، وابن أبي عاصم في «السنة» (404) والثعلبي في تفسيره (1251)، من طرق عن حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عن علي به، قال الألباني في ظلال الجنة: - حديث صحيح ورجاله ثقات غير علي بن زيد وهو ابن جدعان ضعيف لكنه قد توبع

إلخ يعني الإسناد المتقدم. ورواه أسد أيضا (98) قال: ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادٍ -وهو ابن أبي سليمان-، عَنْ إِبْرَاهِيمَ- وهو النخعي-، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مِثْلَهُ. والنخعي لم يسمع من أحد من الصحابة.

(2)

«تفسير عبد الرزاق» (1541) ورواه المروزي كما في «أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم» (2/ 258) قال: حدثنا أبو بكر بن زَنجَويه، ثنا عبد الرحمن، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ثلاثةٌ يُمتحَنون يوم القيامة: المَعتُوه، والذي هَلَك في الفترة، والأصمُّ

» فذكر الحديث.

(3)

وقد نقل أبو بكر الخلال كما في أحكام أهل الملل والردة - من «الجامع» (12) عن الإمام أحمد أنه قال: ليس فيه خلاف أنهم في الجنة ا. هـ وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 60): فَأَمَّا وِلْدَانُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُخْتَلَفُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ الَّذِي نَقْطَعُ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عز وجل ا. هـ وأما ما رواه مسلم في الصحيح (4/ 2050) عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ طُوبَى لِهَذَا، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ، يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» فقد قَالَ النَّوَوِيّ رحمه الله في شرحه على مسلم (16/ 207): أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا؛ وَتَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ: بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ نَهَاهَا عَنِ الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ كَمَا أَنْكَرَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ "أَعْطِهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَوْ مُسْلِمًا

» الْحَدِيثَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ فَلَمَّا عَلِمَ قَالَ ذَلِكَ ا. هـ.

ص: 23

واختلف العلماء فيمن يموتون صغارا من أبناء المشركين على أقوال كثيرة، منها:

1 -

فمن أهل العلم من ذهب إلى التوقف فيهم ولا نحكم لهم بجنة ولا نار، ونَكِل علمهم إلى الله وهم تحت مشيئة الله تعالى.

(1)

لما في الصحيحين عن عَطَاءَ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَرَارِيِّ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ:«اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»

(2)

.

وفيهما عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ:«اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»

(3)

2 -

وقيل يكونون خَدَمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ: قال شيخ الإسلام رحمه الله: وَلَا أَصْلَ لِهَذَا الْقَوْلِ

ثم قال: وَالْوِلْدَانُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الْجَنَّةِ لَيْسُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ بَلْ أَبْنَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ كَمُلَ خَلْقُهُمْ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ

(1)

قال ابن تيمية: وهذا هو الصواب الذي دلت عليها الأحاديث الصحيحة، وهو منصوص أحمد وغيره من الأئمة. وذكره ابن عبد البر عن حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك وإسحاق بن راهويه. قال: وعلى ذلك أكثر أصحاب مالك،

لكن الوقف قد يفسر بثلاثة أمور: أحدها: أنه لا يعلم حكمهم، فلا يتكلم فيهم بشيء، وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة، وقد يقال: إن كلام أحمد يدل عليه. والثاني: أنه يجوز أن، يدخل جميعهم الجنة، ويجوز أن يدخل جميعهم النار. وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أهل الكلام وغيرهم، من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم. والثالث: التفصيل، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» فمن علم الله منه أنه إذا بلغ أطاع أدخله الجنة، ومن علم منه أن يعصي أدخله النار. ثم من هؤلاء من يقول: إنهم يجزيهم بمجرد علمه فيهم، كما يحكى عن أبي العلاء القشيري المالكي. والأكثرون يقولون: لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون، فيمتحنهم يوم القيامة، ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا، فمن أطاع حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار ا. هـ انظر:«درء تعارض العقل والنقل» (8/ 436)

(2)

صحيح البخاري (1384، 6598) وصحيح مسلم (2659)

(3)

صحيح البخاري (1383، 6597) وصحيح مسلم (2660)

ص: 24

آدَمَ

إلخ ا. هـ

(1)

قلت: وحجتهم في ذلك أحاديث وردت لكنها ضعيفة، وهي ثلاثة:

[1]

أحدهما: ما رواه الطيالسي قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، عَنْ يَزِيدَ، قَالَ:«قُلْنَا لِأَنَسٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، مَا تَقُولُ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سَيِّئَاتٌ، فَيُعَاقَبُوا بِهَا، فَيَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَسَنَاتٌ، فَيُجَازَوْا بِهَا فَيَكُونُوا مِنْ مُلُوكِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، هُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ»

(2)

[2]

الثاني: قال أبو نعيم في المعرفة: حَدَّثَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ:«هُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ» قال أبو نعيم: كَذَا قَالَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ا. هـ

(3)

[3]

الثالث: ما رواه البزار من طريق عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ سَمُرة بْنِ

(1)

«مجموع الفتاوى» (4/ 279)

(2)

رواه الطيالسي (2225) -ومن طريقه البيهقي في القضاء والقدر (628) -، والربيع هو ابن صبيح وهو ضعيف، قال الحافظ صدوق سيء الحفظ ا. هـ وشيخه يزيد هو الرقاشي وهو ضعيف أيضا. ومن طريق الربيع رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 308) بسند فيه ضعف عن الثوري عن الربيع وجعله موقوفا إلا الجملة الأخيرة فمرفوعة. ورواه الأعمش عن يزيد به مختصرا ولفظه «الْأَطْفَالُ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ» رواه ابن أبي الدنيا في النفقة على العيال (205) وأبو يعلى (4090) وتمام في فوائده (230) وابن عبد البر في «التمهيد - ابن عبد البر» (11/ 380 ت بشار). ورواه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان = أخبار أصبهان» (1/ 404) -ومن طريقه الديلمي [كما في زهر الفردوس]: بسنده عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَرِيرٍ [كذا وصوابه ابن جبير، وهو متروك]، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، به مرفوعا ولفظه:«سَأَلْتُ رَبِّي عز وجل أَنْ يَتَجَاوَزَ لِيَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ، وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةِ» . ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (2972) عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، ومقاتل متروك. ورواه ابن أبي الدنيا في النفقة على العيال (206) والبزار (7466) والطبراني في المعجم الأوسط (5355) عن مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ. وعلي بن زيد هو ابن جدعان ضعيف.

(3)

«معرفة الصحابة لأبي نعيم» (6981) وعلق الحافظ في الإصابة على قول أبي نعيم فقال: وهو كما قال ا. هـ فالحديث حديث أنس. وهذا إسناد ضعيف، فيه عنعنة ابن إسحاق، وإبراهيم بن المختار وسنان بن سعد مختلف فيهما وهما إلى الضعف أقرب.

ص: 25

جُنْدُبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ:«هُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ»

(1)

.

وروي هذا القول موقوفا على سلمان الفارسي رضي الله عنه بسند ضعيف

(2)

.

3 -

وقيل هم في الجنة مع أولاد المؤمنين: وبِهذا جزم البخاري وابن حزم، واختاره جماعة منهم النووي وأبو عبد الله القرطبي وطائفة من المفسرين وغيرهم

(3)

.

ومن أدلتهم حديث عَوْفٍ، قال حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا» قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: «إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي انْطَلِقْ،

فذكر الحديث وفيه: «فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ، فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ، لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ

» [وفي رواية: «فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ»] فذكر

(1)

رواه البزار في «مسنده» (4516) والروياني في «المسند» (837) وابن فيل في جزئه (100 و 103) والطبراني في «المعجم الكبير» (7/ 244/ 6993) و «الأوسط» (2045) وعباد بن منصور ضعفه عامة النقاد، ثم هو مدلس وقد عنعن. انظر: تحرير تقريب التهذيب (2/ 180) والحديث رواه جماعة من الثقات منهم جرير بن حازم، وعوف بن أبي جميلة عن أبي رجاء به بغير هذا السياق كما في الصحيحين وغيرهما وسيأتي.

(2)

رواه معمر بن راشد في «الجامع» (11/ 117): عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ سَلْمَانَ، قَالَ:«أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ خَدَمٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ» ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: «مَا يُعْجَبُونَ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ وَأَكْرِمْ بِهِمْ» والحسن لم يسمع من سلمان. وخولف فيه معمر، فقد رواه لوين في «جزئه» (33) والمروزي -كما في «أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم» (2/ 250) -، والبيهقي في «القضاء والقدر» (630) من طريق أَبي عَوَانَةَ -[وتابعه شُعبةُ وسعيدُ بن أبي عَرُوبةَ كما في «التمهيد - ابن عبد البر» (11/ 379 ت بشار)، والخليل بن مرة وهمام بن يحيى كما في تفسير يحيى بن سلام (2/ 657)]- كلهم عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مُرَايَةَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ:«هُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وقال يحيى بن سلام: قَالَ الْخَلِيلُ: قَالَ قَتَادَةُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ قَالَ: «وَمَا تُنْكِرُونَ؟ قَوْمٌ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ بِهِمْ، يَعْنِي: أَهْلَ الْجَنَّةِ» وقال البيهقي: الْخَبَرُ مَوْقُوفٌ، وَأَبُو مُرَايَةَ فِيهِ نَظَرٌ ا. هـ قلت: وأبو مراية اسمه عبد الله بن عمرو العجلي البصري تابعي روى عنه اثنان، وذكره البخاري وابن أبي حاتم في كتابيهما ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الآجري عن أبي داود [الجامع في الجرح والتعديل» (3/ 406)]:«أبو مُراية لم يَرَ سلمان قط» ا. هـ

(3)

انظر: «أحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين دراسة وترجيح» (ص 519)

ص: 26

الحديث وفيه: «وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ» [وفي رواية: «وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، وَالصِّبْيَانُ، حَوْلَهُ، فَأَوْلَادُ النَّاسِ»]، فَقَالَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْلَادُ المُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَأَوْلَادُ المُشْرِكِينَ»

(1)

.

قالوا: ففي هذا الحديث التصريح بأنهم في الجنة، قال ابن بطال: وهذا الحديث حجة قاطعة ثم قال: وهذا القول أصح ما فى هذا الباب من طريق الآثار وصحيح الاعتبار ا. هـ

قلت: وهذا الحديث يعارضه الأحاديث المتقدمة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»

وفي الجمع بينهما:

اختار بعض العلماء تقديم القول بأنهم في الجنة على غيره لأن الحديث نص في المسألة.

(2)

.

(1)

رواه البخاري (1386، 7047)، وقد اختلف العلماء في الجمع بينهما على أقوال: فقيل بتقديم هذا الحديث لأنه نص على غيره مما لم يقع الجزم فيه بحالهم. قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/ 208): وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ فِي النَّارِ وَحَقِيقَةُ لَفْظِهِ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْ بَلَغُوا وَلَمْ يَبْلُغُوا إِذِ التَّكْلِيفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْبُلُوغِ ا. هـ وقال غير واحد من أهل العلم: إنهم يمتحنون يوم القيامة، فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ أَنَّهُ يُطِيعُ جَعَلَ رُوحَهُ فِي الْبَرْزَخِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَأَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْفِطْرَةِ، وَمَنْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُجِيبُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ فِي النَّارِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الِامْتِحَانِ. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، قال ابن كثير: وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُتَعَاضِدَةُ الشَّاهِدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ،: عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي "كِتَابِ الِاعْتِقَادِ" وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ النُّقَّادِ ا. هـ قلت: قوله: وقد صرحت به الأحاديث

إلخ. الأحاديث التي ورد فيها عَدُّ المولود من أهل الفترة الذين يمتحنون لا تصح، (وهي ثلاثة: حديث أنس، رواه الْبَزَّارُ وأبُو يعلَى. وحديث أبي سعيد: رواه البزار؛ وحديث معاذ بن جبل: أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ) قال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 130): روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة وثوبان بأسانيد صحيحة

وليس في شيء منها ذكر المولود ا. هـ.

(2)

انظر: شرح النووي على مسلم (16/ 208)

ص: 27

واختار جماعة من العلماء في التوفيق بين هذه الأحاديث القولَ الآتي.

4 -

وقيل: إنهم يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ تُرْفَعَ لَهُمْ نَارٌ فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا وَمَنْ أَبَى عُذِّبَ، فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ أَنَّهُ يُطِيعُ جَعَلَ رُوحَهُ فِي الْبَرْزَخِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَأَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْفِطْرَةِ، وَمَنْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُجِيبُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ فِي النَّارِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الِامْتِحَانِ المتقدمة، وكذا أحاديث أخرى وردت فيهم خاصة وهي ثلاثة أحاديث -ضعيفة الإسناد-

(1)

:

[1]

حديث فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:«يَحْتَجُّ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ، وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ، وَالصَّبِيُّ الصَّغِيرُ، فَيَقُولُ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ: لَمْ تَجْعَلْ لِي عَقْلًا أَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَقُولُ الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ: لَمْ يَأْتِنِي رَسُولٌ وَلَا نَبِيُّ، وَلَوْ أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ أَوْ نَبِيُّ لَكُنْتُ أَطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ .... وَيَقُولُ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ: كُنْتُ صَغِيرًا لَا أَعْقِلُ» قَالَ: «فَتُرْفَعُ لَهُمْ نَارٌ وَيُقَالُ لَهُمْ: رِدُوهَا» قَالَ: «فَيَرِدُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَعِيدٌ، وَيَتَلَكَّأُ عَنْهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ شَقِيُّ، فَيَقُولُ: إِيَّايَ عَصَيْتُمْ، فَكَيْفَ بِرُسُلِي لَوْ أَتَتْكُمْ؟» رواه البزار والطبري وغيرهما

(2)

.

(1)

قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (18/ 130): روي هذا المعنى -أي أحاديث الامتحان- عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة وثوبان بأسانيد صحيحة

وليس في شيء منها ذكر المولود ا. هـ. وقال ابن بطال في شرحه للبخاري (3/ 374): الآثار الواردة بذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة ا. هـ

(2)

«كشف الأستار عن زوائد البزار» (2176) - و «تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر» (16/ 219) -واللفظ له-، ورواه أيضا المروزي -كما في «أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم» (2/ 259) -، وأبو القاسم البغوي في «مسند ابن الجعد» (2038)، وابن أبي حاتم في «التفسير -مختصرا-» (9/ 2984) رقم (16950)، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (1076) وابن عبد البر في «التمهيد - ابن عبد البر» (11/ 388 ت بشار) وقال: من النّاسِ من يُوقِفُ هذا الحديثَ على أبي سعِيدٍ ولا يرفعُهُ، منهُم: أبو نُعيم المُلَائيُّ ا. هـ وسنده ضعيف، فضيل صدوق فيه لين، وعطية ضعيف. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» (7/ 216):«رواه البزار، وفيه عطية وهو ضعيف» ا. هـ قلت: قال عبد الله بن الإمام أحمد كما في «العلل ومعرفة الرجال لأحمد» (1/ 548) سَمِعت أبي ذكر عَطِيَّة الْعَوْفِيّ فَقَالَ هُوَ ضَعِيف الحَدِيث، قال أبي: بَلغنِي أَنْ عَطِيَّة كَانَ يَأْتِي الْكَلْبِيّ فَيَأْخُذ عَنهُ التَّفْسِير وَكَانَ يكنيه بِأبي سعيد فَيَقُول قَالَ أَبُو سعيد

وقال: حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنَا أَبُو أَحْمد الزبيرِي قَالَ سَمِعت سُفْيَان الثَّوْريّ قَالَ سَمِعت الْكَلْبِيّ قَالَ كناني عَطِيَّة أَبَا سعيد ا. هـ فالحديث ضعيف جدا بهذا الإسناد والله أعلم.

ص: 28

[2]

حديث لَيْثِ بنِ أَبِيْ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يُؤْتَى بِأَرْبَعَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: بِالْمَوْلُودِ، وَبِالْمَعْتُوهِ، وَبِمَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ، وَالشَّيْخِ الْفَانِي، كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِهِ، فَيَقُولُ الرَّبُّ تبارك وتعالى لِعُنُقٍ مِنَ النَّارِ: ابْرُزْ، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي كُنْتُ أَبْعَثُ إِلَى عِبَادِي رُسُلًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنِّي رَسُولُ نَفْسِي إِلَيْكُمْ، ادْخُلُوا هَذِهِ، فَيَقُولُ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الشَّقَاءُ: يَا رَبِّ، أَيْنَ نَدْخُلُهَا، وَمِنْهَا كُنَّا نَفِرُّ؟ قَالَ: وَمَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّعَادَةُ يَمْضِي، فَيَتَقَحَّمُ فِيهَا مُسْرِعًا، قَالَ: فَيَقُولُ تبارك وتعالى: أَنْتُمْ لِرُسُلِي أَشَدُّ تَكْذِيبًا وَمَعْصِيَةً، فَيُدْخِلُ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ، وَهَؤُلَاءِ النَّارَ» رواه البزار

(1)

[3]

حديث عَمْرِو بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْمَمْسُوحِ عَقْلًا وَبَالْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ، وَبَالْهَالِكِ صَغِيرًا، فَيَقُولُ الْمَمْسُوحُ عَقْلًا: يَا رَبِّ، لَوْ آتَيْتَنِي عَقْلًا مَا كَانَ مَنْ آتَيْتَهُ عَقْلًا بِأَسْعَدَ بِعَقْلِهِ مِنِّي، وَيَقُولُ الْهَالِكُ صَغِيرًا: يَا رَبِّ لَوْ آتَيْتَنِي عَمْرًا مَا كَانَ مَنْ آتَيْتَهُ عُمْرًا بِأَسْعَدَ مِنْ عُمْرِهِ مِنِّي، وَيَقُولُ الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ: يَا رَبِّ لَوْ جَاءَنِي مِنْكَ رَسُولٌ مَا كَانَ بَشَرٌ أَتَاهُ مِنْكَ عَهْدٌ بِأَسْعَدَ بِعَهْدِكَ مِنِّي، فَيَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى: فَإِنِّي آمُرُكُمْ بِأَمْرٍ أَفَتُطِيعُونِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ وَعِزَّتِكَ يَا رَبُّ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَادْخُلُوا جَهَنَّمَ - وَلَوْ دَخَلُوهَا لَمَا تَضُرُّهُمْ شَيْئًا - فَيَخْرُجُ عَلَيْهِمْ فَرَائِضُ مِنَ النَّارِ يَظُنُّونَ أَنَّهَا قَدْ أَهْلَكَتْ مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ يَأْمُرُهُمُ الثَّانِيَةَ فَيَرْجِعُونَ كَذَلِكَ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل: خَلَقْتُكُمْ بِعِلْمِي، وَإِلَى

(1)

«مسند البزار» (14/ 104/ 7594)، ورواه أيضا أبو يعلى (4224) وابن عبد البر في «التمهيد» (11/ 389 ت بشار) والبيهقي في «الاعتقاد» (ص 169) وفي «القضاء والقدر» (646) وليث في سنده هو ابن أبي سليم قال الحافظ: صدوق اختَلَطَ جدًّا ولم يتميَّزْ حديثُه فتُرِك ا. هـ وعبد الوارث قال ابن معين: مجهول، وقال الترمذي عن البخاري: عبد الوارث منكر الحديث. كما في الميزان. وضعفه الدارقطني كما في السنن (2403)

ص: 29

عِلْمِي تَصِيرُونَ، فَتَأْخُذُهُمُ النَّارُ» رواه الطبراني وغيره

(1)

وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه شمس الدين ابن القيم، واختاره أيضا تلميذه الحافظ عماد الدين إسماعيل ابن كثير وغيرهم من المحققين.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا التفصيل هو الصواب، فإن الله قال في القرآن {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص]، فأقسم سبحانَه أنه لابدّ أن يملأ جهنم من إبليسَ وأتباعِه، وأتباعُه هم العصاةُ، ولا معصيةَ إلا بعد التكليف، فلو دخلَها الصبي والمجنون لدخَلَها مَنْ هو من غير أتباعِه، فلم تَمتلئْ منهم. وأيضًا فقد قال سبحانه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء]

، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن الله لا يُعذب إلا من جاءه نذير وأتاه رسولٌ، والطفلُ والمجنون ليسا كذلك كالبهائم

إلخ ا. هـ

(2)

وقال ابن القيم رحمه الله -عن القول بأنَّهم يُمتحَنون في الآخرة-: وهذا قول جميع أهل السنة والحديث، حكاه الأشعري عنهم في كتاب «الإبانة» الذي اتفق أصحابه على أنه تأليفه، وذكره ابن فُورَك، وذكره أبو القاسم بن عساكر في تصانيفه،

وحكاه محمد بن نصر المروزي في كتابه في «الرد على ابن قتيبة» ، واحتج له -ثم ذكر أحاديث الامتحان المتقدمة والأحاديث الواردة في المولود خاصة وذكر أنه يعضد بعضها بعضا-. وبين أنَّها "هي المُوافِقة للقرآن وقواعد الشرع، فهي تفصيلٌ لِما أخبَرَ به القرآنُ أنَّه لا يعذَّب أحدٌ إلَّا بعد قيام الحُجَّة عليه. وهؤلاء لم تقُمْ عليهم حُجَّةُ الله في الدُّنيا، فلا بُدَّ أن يقيم

(1)

رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول للحكيم النسخة المسندة (ص: 349) والمروزي [كما في «التمهيد لابن عبد البر» (11/ 389 ت بشار)، و «أحكام أهل الذمة لابن القيم - ط عطاءات العلم» (2/ 260)]- والطبراني في المعجم الكبير (20/ 83) رقم (158) وفي المعجم الأوسط (7955) وفي مسند الشاميين للطبراني (2205) وعنه وعن غيره أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 127 و 9/ 305). وذكر الطبراني وأبو نعيم: أنه تفرد به عمرو بن واقد ا. هـ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 217): رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه عمرو بن واقد، وهو متروك عند البخاري وغيره، ورمي بالكذب،

إلخ ا. هـ

(2)

«جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم» (3/ 235)

ص: 30

حجَّته عليهم. وأحَقُّ المواطن أن تُقامَ فيه الحُجَّة يومَ يقوم الأشهاد،

قال والقول بموجبها هو قول أهل السنة والحديث كما حكاه الأشعري عنهم في «المقالات» وحكى اتفاقهم عليه، وإن كان قد اختار هو فيها أنَّهم مردودون إلى المشيئة، وهذا لا يُنافي القولَ بامتحانهم، فإنَّ ذلك هو مُوجَب المشيئة

إلخ

(1)

وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل ابن كثير رحمه الله: وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُتَعَاضِدَةُ الشَّاهِدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ،: عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي "كِتَابِ الِاعْتِقَادِ" وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ النُّقَّادِ ا. هـ

قلت: قوله: وقد صرحت به الأحاديث

إلخ. الأحاديث التي ورد فيها عَدُّ المولود من أهل الفترة الذين يمتحنون ضعيفة الإسناد، وارتقاؤها للصحة بالمجموع مما ينازع فيه. لكن يستفاد مسألة الامتحان من الأحاديث الصحيحة الواردة في غيرهم. ومن عمومات الشريعة الدالة على أن الله لا يعذب أحدا بلا حجة كما تقدم.

وقال ابن القيم رحمه الله: وفي استدلال هذه الفرقة -يعني القائلين بالوقف-

بهذه النصوص نظرٌ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُجِب فيهم بالوقف، وإنَّما وكَّل عِلمَ ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله، والمعنى: الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا. فهو سبحانه يعلم القابل منهم للهدى العاملَ به لو عاش، والقابلَ منهم للكفر المؤثرَ له لو عاش. ولكن لا يدلُّ هذا على أنَّه سبحانه يَجزِيهم بمجرَّد علمِه فيهم بلا عمل يعملونه. وإنَّما يدلُّ هذا على أنَّه يعلم مَنْ يؤمن ومَن يكفر بتقدير الحياة. وأمَّا المُجازاة على العلم فلم يتضمَّنها جوابُه صلى الله عليه وسلم»

(2)

. ثم ذكر ابن القيم ما في سنن أبي داود بسند صحيح عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَرَارِيُّ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ:«هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِلَا عَمَلٍ؟ قَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

ص: 31

فَذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: «مِنْ آبَائِهِمْ» قُلْتُ: بِلَا عَمَلٍ؟ قَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»

(1)

.

وبين رحمه الله أن هذا الحديث يوضح أن قوله صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَرَارِيِّ المُشْرِكِينَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» خرج جوابًا لهم حين أخبرهم أنَّهم من آبائهم، فقالوا:"بلا عمل؟ ". فهو يدلُّ على أنَّ الذين يُلحَقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به، فهؤلاء مع آبائهم. ولا يقتضي أن كلَّ واحدٍ من الذرية مع أبيه في النار، وقول عائشة: بلا عمل؟ وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لما فهمته معناه أنهم يُلحَقون بهم بلا عمل في أحكام الدنيا، ولا ينفي هذا أن يُلحَقوا بهم في الآخرة بأسبابٍ أُخَر كامتحانهم في عَرَصات القيامة.

(2)

(1)

سنن أبي داود (4712) وصحح سنده العلامة الألباني في صحيح السنن، وقال شيخنا العلامة الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (413): هذا حديث صحيحٌ من حيث السند، وأما من حيث المتن فإن حُمِل على الحكم الدنيوي؛ فيما إذا بَيَّت الكفار المسلمون ولم يستطيعوا التمييز بين الكبير والصغير فالأبناء من آبائهم. وأما الحكم الأخروي فهم في الجنة، كما في حديث سمرة بن جندب. راجع "تهذيب السنن" لابن القيم ا. هـ

(2)

انظر: «أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم» (2/ 220) وفي «التمهيد - لابن عبد البر» (18/ 121 ط المغربية) قال: «وَيُحْتَمَلُ مِنَ التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ كَحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ سَوَاءً فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا» . قلت: وحديث الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنه رواه البخاري (3012) ومسلم (1745) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: لَوْ أَنَّ خَيْلًا أَغَارَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَأَصَابَتْ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: «هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ» والمعنى: أنَّهم إن أُصِيبوا في التَّبْيِيت والغَارة فلا قوَدَ ولا دِيَةَ على مَنْ أصابهم لكونهم أولادَ مَنْ لا قوَدَ ولا ديةَ لهم. وعلى ذلك مخرج الحديث سؤالًا وجوابًا. فهو في أحكام الدنيا.

ص: 32

‌المجلس الحادي عشر

(1)

‌مقامات وحي الله إلى الرسل:

ومما ذكره العلماء في مسألة الإيمان بالرسل ما يتعلق بمقامات وحي الله إلى رسله، وفي ذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشورى]. فالمقامات ثلاثة: أولها: الإلقاء في روع النبي الموحى إليه بحيث لا يمتري النبيُّ بأن هذا الذي أُلقِي في قلبه من الله -جل وعلا- كما جاء في المستدرك عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى الْجَنَّةِ، إِلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا عَمَلٌ يُقَرِّبُ إِلَى النَّارِ، إِلَّا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، لَا يَسْتَبْطِئَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ رِزْقَهُ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عليها السلام أَلْقَى فِي رُوعِيَ أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنِ اسْتَبْطَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ رِزْقَهُ، فَلَا يَطْلُبْهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ فَضْلُهُ بِمَعْصِيَةٍ»

(2)

قال الشافعي: الرَّوْع: الفزع. والرُّوْع: القلب

(3)

.

وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا

(1)

كان في يوم الثلاثاء الخامس من شهر رمضان 1441 هـ.

(2)

رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2136) - وعنه البيهقي في القضاء والقدر (235) وفي كتاب الاعتقاد (ص 173) وفي المدخل (168) - عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ [كذا]، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ به. وسعيد بن أبي هلال كان قد اختلط قاله الإمام أحمد. لكنه هنا من رواية القدماء عنه. وسعيد الثقفي وشيخه مجهولان. ويونس هو ابن كثير وليس ابن بكير، وجاء على الصواب في كتاب الاعتقاد للبيهقي وفي إتحاف المهرة لابن حجر (14008). وللحديث طريق أخرى فيها انقطاع وشواهد من حديث حذيفة وأبي أمامة وأنس ومالك بن ربيعة رضي الله عنهم وقد جمعتها في جزء فالحديث صحيح بشواهده. ولجملة «لَا يَسْتَبْطِئَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ رِزْقَهُ

فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» شواهد أيضا من حديث جابر وعمر وأبي حميد الساعدي رضي الله عنهم وهي مخرجة في الجزء المشار إليه.

(3)

رواه عنه البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 323).

ص: 33

وَحْيًا} [الشورى: 51] قال: الوحي في المنام

(1)

، وهذا ما يتعلق برؤيا الأنبياء وَ «رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ»

(2)

؛ ولذلك فإنَّ خليل الرحمن إبراهيم عليها السلام بادر إلى ذبح ولده عندما رأى في المنام أنه يذبحه، وعَدَّ هذه الرؤيا أمرًا إلهيًّا

(3)

. يقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} [الصافات: 102]

الآيات. وجاء في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ»

(4)

.

المقام الثاني: الذي دلت عليه آية الشورى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وهو تكليم الله لرسله من وراء حجاب كما كلَّم الله-تعالى-موسى عليها السلام؛ قال ربنا -جل وعلا-: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، وقال سبحانه:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)} [طه]. وكما قال -جل وعلا- في شأن آدم عليها السلام: {قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبينا آدم عليها السلام: أكان نبيًّا؟ قال: «نَعَمْ، مكَلَّم مُعلَّمٌ»

(5)

.

والمقام الثالث: الوحي إلى الرسول بواسطة المَلَكِ، وهذا هو الذي يُفهَم من قوله تعالى:{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} .

(1)

التفسير الوسيط للواحدي (4/ 60) والأسماء والصفات للبيهقي (1/ 491)

(2)

رواه البخاري (138) عن عبيد بن عمير مقطوعا. ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (11328) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (14/ 465) والطبراني في المعجم الكبير (12/ 6) رقم (12302) وابن أبي عاصم في السنة (463) والحاكم في المستدرك (3613، 8197) من طرق عن الثوري عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا وإسناده حسن. وقال الإمام الشافعي كما في الأم (5/ 137): قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ «رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ» لِقَوْلِ ابْنِ إبْرَاهِيمَ الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وَمَعْرِفَتُهُ أَنَّ رُؤْيَاهُ أَمْرٌ أُمِرَ بِهِ ا. هـ

(3)

انظر: الأم للشافعي (5/ 137)، الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 491)

(4)

البخاري (3) واللفظ له، ومسلم (160).

(5)

تقدم تخريجه في المجلس العاشر.

ص: 34

‌مقامات وحي الله إلى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم

-:

قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: وَكَمَّلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ مَرَاتِبَ الْوَحْيِ مَرَاتِبَ عَدِيدَةً:

إِحْدَاهَا: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَكَانَتْ مَبْدَأَ وَحْيِهِ صلى الله عليه وسلم، «وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ»

(1)

.

الثَّانِيَةُ: مَا كَانَ يُلْقِيهِ الْمَلَكُ فِي رَوْعِهِ وَقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ،

الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُخَاطِبَهُ حَتَّى يَعِيَ عَنْهُ مَا يَقُولُ لَهُ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ كَانَ يَرَاهُ الصَّحَابَةُ أَحْيَانًا

(2)

.

الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَكَانَ أَشَدَّهُ عَلَيْهِ، فَيَتَلَبَّسُ بِهِ الْمَلَكُ حَتَّى إِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ

(3)

، وَحَتَّى إِنَّ رَاحِلَتَهُ لِتَبْرُكُ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ إِذَا كَانَ رَاكِبَهَا

(4)

. وَلَقَدْ جَاءَ الْوَحْيُ مَرَّةً كَذَلِكَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ

(1)

تقدم قريبا

(2)

كما في حديث جبريل المشهور، وكما في البخاري (3634)، ومسلم (2451)،: أَنَّ جِبْرِيلَ عليها السلام أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ سَلَمَةَ:«مَنْ هَذَا؟» أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ: قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ جِبْرِيلَ، أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وفي مسند أحمد (5857) عن ابن عمر رضي الله عنهما: «وَكَانَ جِبْرِيلُ عليها السلام يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي صُورَةِ دِحْيَةَ» .

(3)

رواه البخاري (2) ومسلم (2333) عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، أَنَّ الحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ فِي اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.

(4)

روى الإمام أحمد في المسند (41/ 362/ 24868) عن عَبْد الرَّحْمَنِ - وهو ابن أبي الزناد-، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ:«إِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا» قال السندي: (بجِرانها)، بكسر الجيم: باطن العنق، والبعير إذا استراح، مدَّ عنقه على الأرض ا. هـ والحديث رواه الحاكم (3865) من طريق مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، به قالت: كَانَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَضَعَتْ جِرَانَهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَتَحَرَّكْ، وَتَلَتْ قَوْلَ اللَّهِ -جل وعلا-:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل] وقال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»

ص: 35

-رضي الله عنه فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَتْ تَرُضُّهَا

(1)

.

الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ يَرَى الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، فَيُوحِي إِلَيْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَهُ، وَهَذَا وَقَعَ لَهُ مَرَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي النَّجْمِ [7، 13].

السَّادِسَةُ: مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ وَهُوَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.

السَّابِعَةُ: كَلَامُ اللَّهِ لَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةِ مَلَكٍ، كَمَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ ثَابِتَةٌ لِمُوسَى قَطْعًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَثُبُوتُهَا لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم هُوَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ

إلخ

(2)

.

‌الملَك الموكل بالوحي:

وهذا الرسول الموكل بالنزول بالوحي على الأنبياء والمرسلين هو جبرائيل عليها السلام وقد يكون غيره في أحوال قليلة.

[1]

وقد كان جبريل عليها السلام ينزل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم بالوحي،

[2]

ورآه نبينا صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، وذلك مرتين. قال عَلْقَمَةً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم] قَالَ:«رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ»

(3)

.

وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} [النجم] قَالَ:«رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ عليها السلام فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»

(4)

.

وقال زِرُّ بنُ حُبَيْشٍ، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم]، قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:«أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ»

(5)

(1)

صحيح البخاري (4592) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(2)

زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 79).

(3)

صحيح البخاري (3233، 4858) وصحيح مسلم (174).

(4)

جامع الترمذي (3283) وسنن النسائي الكبرى (11467).

(5)

صحيح البخاري (4856، 4857) وصحيح مسلم (174).

ص: 36

وفي رواية: «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ السِّدْرَةِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جِنَاحٍ، يَتَنَاثَرُ مِنْهَا تَهَاوِيلُ الدُّرِّ»

(1)

وعَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَأَيْنَ قَوْلُهُ {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} [النجم] قَالَتْ: «ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ المَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ الأُفُقَ» متفق عليه

(2)

، وفي رواية للبخاري:«وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عليها السلام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ»

(3)

ولمسلم عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها،

فذكر الحديث وفيه أنه سألها: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} [التكوير]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم] فقالت: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ»

(4)

[3]

وربما أتاه الوحي مثل صلصلة الجرس، فيذهب عنه، وقد وعى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال. كما في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، أَنَّ الحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ فِي اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.

(5)

[4]

وكذلك كان يأتيه مرات على صورة رجل، فيكلمه ويخاطبه ويعي عنه قوله كما في الحديث المتقدم قال صلى الله عليه وسلم «وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» ،

[5]

وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جبريل عليها السلام على هيئة رجل أعرابي.

[6]

وكان كثيرًا ما يأتي على صورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه

(6)

.

(1)

سنن النسائي الكبرى (11478).

(2)

صحيح البخاري (3235)، صحيح مسلم (177).

(3)

صحيح البخاري (4855)،.

(4)

صحيح مسلم (177)

(5)

صحيح البخاري (2، 3215) وصحيح مسلم (2333)

(6)

وهو دَحْيَةُ بن خَلِيفة بن فَرْوة بن فَضَالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخَزرج بن عامر بن بكر بن عامر الأكبر ابن عوف الكلبيّ رضي الله عنه. جاء في صحيح البخاري (3634) ومسلم (2451) عن أبيْ عُثْمَانَ، قَالَ: أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ عليها السلام أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ سَلَمَةَ:«مَنْ هَذَا؟» أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ: قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ جِبْرِيلَ، أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ: فقيل لِأَبِي عُثْمَانَ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. وفي مسند أحمد (5857) بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: «وَكَانَ جِبْرِيلُ عليها السلام يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي صُورَةِ دِحْيَةَ» . وفي صحيح مسلم (167) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «

وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ عليها السلام، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دَحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ» وفي المسند (25097) عنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها، قَالَتْ: خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو آثَارَ النَّاسِ .... فذكرتِ الحديث وفيه: قَالَتْ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عليها السلام، وَإِنَّ عَلَى ثَنَايَاهُ لَنَقْعُ الْغُبَارِ، فَقَالَ: أَقَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ وَاللَّهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلَائِكَةُ بَعْدُ السِّلَاحَ، اخْرُجْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَاتِلْهُمْ. قَالَتْ: فَلَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَأْمَتَهُ، وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ أَنْ يَخْرُجُوا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَرَّ عَلَى بَنِي غَنْمٍ، وَهُمْ جِيرَانُ الْمَسْجِدِ حَوْلَهُ، فَقَالَ:«مَنْ مَرَّ بِكُمْ؟» فَقَالُوا: مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ تُشْبِهُ لِحْيَتُهُ وَسُنَّةُ وَجْهِهِ جِبْرِيلَ عليها السلام .... الحديث. وحسنه الألباني في الصحيحة (67). وفي المسند أيضا (24462، 25131) عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَعْرَفَةِ فَرَسٍ، وَهُوَ يُكَلِّمُ رَجُلًا، قُلْتُ: رَأَيْتُكَ وَاضِعًا يَدَيْكَ عَلَى مَعْرَفَةِ فَرَسِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَأَنْتَ تُكَلِّمُهُ، قَالَ:«وَرَأَيْتِيهِ؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:«ذَاكَ جِبْرِيلُ عليها السلام وَهُوَ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ» قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ صَاحِبٍ وَدَخِيلٍ، فَنِعْمَ الصَّاحِبُ، وَنِعْمَ الدَّخِيلُ -والدَّخِيلُ: الضَّيْفُ-. وروى الطبراني في المعجم الأوسط (7) وفي المعجم الكبير (1/ 260) رقم (758) من طريق عُفَيْرِ بن معدانَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:«يَأْتِينِي جِبْرِيلُ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ» قَالَ أَنَسٌ: ودِحْيَةُ كَانَ رَجُلًا جَسِيمًا جَمِيلًا أَبْيَضَ. وعفير هذا ضعيف جدا. وروى العجليّ في تاريخه عن عَوَانة بن الحَكَم، قال: أجمل الناس مَنْ كان جبرائيل ينزل على صورته.

ص: 37

[7]

وأخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل معاينته للملك «يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَيَرَى الضَّوْءَ سَبْعَ سِنِينَ وَلَا يَرَى شَيْئًا»

(1)

.

قال النووي رحمه الله: قال القاضي: أي صوت الهاتف به من الملائكة، ويرى الضوء أي نور الملائكة ونور آيات الله تعالى حتى رأى الملك بعينه، وشافهه بوحي الله تعالى

(2)

.

فهذه أمور تتعلق بالوحي الذي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وكذا على غيره من الأنبياء.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم تُصِيبه من ذلك شِدَّةٌ كما أخبرتنا أمُّنا عائشة رضي الله عنها أنها رأت الرسول

(1)

رواه مسلم (2353).

(2)

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (15/ 104).

ص: 38

-صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصَّد عرقًا

(1)

.

وهذا يعلى بن أمية رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينزل عليه الوحي فإذا رسول صلى الله عليه وسلم محمَّرُ الوجهِ وهو يَغِطُّ ثم سُرِّيَ عنه

(2)

.

هذه مقامات الوحي التي كانت تنزل على الأنبياء عليهم السلام وكيف يوحى إليهم، فنؤمن بذلك كما جاء في الكتاب والسنة.

‌الأنبياء بشر فضَّلهم الله واختارهم:

ومن مسائل الإيمان بالرسل أن نؤمن بأن الرسل الذين بعثهم الله -جل وعلا- كانوا من البشر كما ذكر الله -جل وعلا- في كتابه فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110، فصلت: 5] أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس بأنه بشر، وقال تعالى:{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]

‌معنى أنهم من البشر:

ومعنى ذلك أنهم يفعلون ما يفعله البشر من الأمور الجِبِلِّيَّة، فمقتضى كون الرسل بشرًا أنهم يتَّصفون بالصفات التي لا تنفكُّ عنها البشرية فهم:

‌يأكلون، ويشربون، وينامون، ويتزوجون، ويُولَد لهم:

كما قال ربنا -جل وعلا-: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)} [الأنبياء] وقال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]

‌المرض والموت:

ويمرضون ويموتون: كما قال سبحانه وتعالى في قصة إبراهيم خليله عليها السلام: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)} [الشعراء]. فهذه أعراض بشرية يصاب بها الناس، ومنهم الأنبياء عليهم السلام.

(1)

تقدم قريبا

(2)

صحيح البخاري (1536، 4329)، وصحيح مسلم (1180).

ص: 39

وقال ربنا -جل وعلا- لعبده ورسوله سيد الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر]. وقال -جل وعلا-: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144].

‌يخدم نفسه ويحلب شاته

وقد سُئِلتُ عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ فقالت: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ» رواه البخاري

(1)

وفي المسند: قَالَتْ: «نَعَمْ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُخِيطُ ثَوْبَهُ [وفي رواية: وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ]، وَيُعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ»

(2)

وفي رواية: قالت: «كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ»

(3)

.

‌الغضب:

وقال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْيَتِيمَةَ، فَقَالَ:«آنْتِ هِيَهْ؟ لَقَدْ كَبِرْتِ، لَا كَبِرَ سِنُّكِ» فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ؟ قَالَتِ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالْآنَ لَا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا، أَوْ قَالَتْ قَرْنِي فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا، حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ» فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي قَالَ: «وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟» قَالَتْ: زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا، وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا، قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ:«يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي، أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

(4)

.

(1)

صحيح البخاري (676)

(2)

أخرجه أحمد (24749، 24903، 25341، 26194).

(3)

أخرجه أحمد (26194) والبخاري في الأدب المفرد (541) والترمذي في الشمائل (342) وابن حبان (5675).

(4)

أخرجه مسلم (2603) وهو حديث متواتر: ففي الباب حديث آخر لأنس رضي الله عنه رواه أحمد (12431) وعن أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري (6361) ومسلم (2601) وعن عائشة رضي الله عنها رواه مسلم (2600) ولها حديث آخر رواه أحمد (24259) وعن جابر رضي الله عنه رواه مسلم (2602) وعن سلمان رضي الله عنه رواه أبو داود (4659) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رواه أحمد (11290)

ص: 40

‌أشد الناس بلاء:

ولذلك تعرض الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- للابتلاءات كما تعرض غيرهم من البشر، لكن الأنبياء أشدُّ الناس بلاء. فهذا يوسف عليها السلام نبي الله ورسوله سُجِنَ {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] وذكر الله أنه لبث في السجن، فقال:{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]. وقال ربنا -جل وعلا- في شأن أنبياء بني إسرائيل: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة]. ومن الأنبياء الذين قتلوا: نبيُّ الله يحيى عليها السلام قتل بسبب امرأة

(1)

وقيل إن أباه نبيَّ الله زكريا عليها السلام قتل بعده، وقيل بل مات موتا لم يقتل

(2)

. لكنه عليها السلام ابتلي في قتل ابنه يحيى عليهما السلام. وتآمروا على قتل نبي الله عيسى عليها السلام، فرفعه الله إليه. ويبتلى الأنبياء بالأمراض كما هو معروف ومعلوم من قصة نبي الله أيوب عليها السلام، فقد لبث في البلاء ثماني عشرة سنة فرَفَضَه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه

(3)

. وقال الله -جل وعلا- في قصته: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت (44) والطبري في تفسيره ط هجر (14/ 503) والحاكم في المستدرك (3146، 4151) عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الحاكم على شرط الشيخين وفيه نظر، فإن المنهال لم يخرج له مسلم شيئا. وانظر الخبر في تفسير الطبري (14/ 498 - 500)، وفي مصنف ابن أبي شيبة (31905): حدثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ما قتل يحيى بن زكريا إلا في امرأة بغي قالت لصاحبها: لا أرضى عنك حتى تأتيني برأسه، قال: فذبحه فأتاها برأسه في طست وفي مستدرك الحاكم (6348) عن عبدالله بن الزبير: من أنكر البلاء فإني لا أنكره، لقد ذُكِرَ لي: إنما قتل يحيى بن زكريا في زانية كانت جارية. وانظر كذلك البداية والنهاية (2/ 411 - 413).

(2)

انظر: قصص الأنبياء لابن كثير (2/ 358)

(3)

قصة أيوب عليها السلام ولبثه في البلاء ثمان عشرة سنة صحيحة، رواها جماعة عن نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيل بْنِ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواها البزار (6333) وأبو يعلى (3617) في مسنديهما، والطبري (20/ 109) وابن أبي حاتم [كما في «تفسير ابن كثير» (5/ 361، 7/ 75)] والثعلبي (18/ 208) في تفاسيرهم. والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (4593)، والطبراني في «الأحاديث الطوال» (ص 276) -[وعنه وعن غيره أبو نعيم في «حلية الأولياء» (3/ 374)، والضياء المقدسي في «الأمراض أو الطب النبوي» (ص 29)]- والديلمي [كما في «زهر الفردوس» (887) لابن حجر]، وابن عساكر في «تاريخه» (10/ 71). وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن الزهري، عن أنس إلا عقيل، ولا رواه عن عقيل إلا نافع بن يزيد ورواه عن نافع غير واحد ا. هـ قلت: عقيل ومن فوقه على شرط الشيخين، ونافع بن يزيد هو الكلاعي المصري، روى له مسلم واستشهد به البخاري وهو ثقة قال ابن يونس في تاريخه (1/ 492): وكان ثبتا فى الحديث، لا يختلف فيه ا. هـ ووثقه غير واحد كما في التهذيب. وخولف في سنده. رواه الطحاوي من طريق نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مرسلا. ورواية نافع أصح، فإن في حفظ نعيم بن حماد ضعفا كما في التقريب. والحديث صححه ابن حبان (2898) والحاكم (4115) وخرجه الضياء المقدسي في «المختارة» (2616). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين!، وفيه نظر، فنافع بن يزيد، لم يعتمده البخاري كما تقدم وروايته عن عقيل، ليست على شرط مسلم. وعبارة الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 208) أصح، قال:«رواه أبو يعلى والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح» وقال البوصيري في «إتحاف الخيرة» (7/ 142): إسناده صحيح ا. هـ وقال الحافظ في «الفتح» (6/ 421): إنه أصح ماورد في قصته. والحديث صححه الألباني في الصحيحة (17) وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ غَرِيبٌ جِدًّا ا. هـ وقال في «البداية والنهاية ت التركي» (1/ 511): «وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ جِدًّا، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا» ا. هـ وارتضاه شيخنا الوادعي فذكر الحديث في أحاديث معلة ظاهرها الصحة. والأقرب صحته مرفوعا فإن إسناده صحيح ورجاله ثقات. والحافظ ابن كثير رحمه الله لم يذكر حجةً فيما ذهب إليه والله أعلم.

ص: 41

أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء]. فهم يُصابون بالبلاء بل إنهم أشدُّ الناس بلاء. وقد جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ:«الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه الترمذي

(1)

.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ فَوَجَدْتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ فَوْقَ اللِّحَافِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَشَدَّهَا عَلَيْكَ قَالَ: «إِنَّا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا الْبَلَاءُ، وَيُضَعَّفُ لَنَا الْأَجْرُ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ

(1)

أخرجه الترمذي (2398) وقال حسن صحيح، وابن ماجه (4023) وصححه ابن حبان (2900) والحاكم (121) وحسنه الألباني في الصحيحة (143) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح (1153)

ص: 42

بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ، حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلَّا الْعَبَاءَةَ يَحُوبُهَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ، كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ» رواه ابن ماجه

(1)

واليوم الناس ينزعجون من الابتلاء، فيجزعون ولا يصبرون، وما علموا أنهم لو صبروا واحتسبوا، فإن ذلك خير ورفعةٌ لهم عند الله -جل وعلا-. كما في صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ»

(2)

وقد روى الترمذي بسند ضعيف عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ»

(3)

. وروي ابن أبي شيبة عَنْ رَجُلٍ مِنَ النَّخَعِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «يَوَدُّ أَهْلُ الْبَلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ»

(4)

‌السعي لطلب الرزق:

ومن مقتضى بشرية الأنبياء أنهم يعملون ويشتغلون كما يعمل غيرهم ومن ذلك اشتغالُ النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة قبل البعثة ورعيُه للغنم، بل وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ»

(5)

. وقد قصَّ الله -جل وعلا- علينا من خبر موسى عليها السلام في كتابه أنه قال له العبد الصالح: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ

(1)

أخرجه ابن ماجه (4024) وصححه ابن حبان (2900) والحاكم (119) وحسنه الألباني في الصحيحة (144) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1154)

(2)

صحيح البخاري (5645)

(3)

أخرجه الترمذي (2402) عن عبد الرحمن بن مغراء أبي زهير، عن الأعمش، عن أبي الزبير، عن جابر، ثم قال: وهذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه وقد روى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش، عن طلحة بن مصرف، عن مسروق، قوله شيئا من هذا ا. هـ قلت: عبد الرحمن بن مغراء ضعيف في روايته عن الأعمش خاصة كما في التهذيب. وقد رواه ابن أبي شيبة (2/ 443) رقم (10829) عن الثوري عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن مسروق قَالَ: «يَوَدُّ أَهْلُ الْبَلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ» والثوري أوثق من روى عن الأعمش. وانظر: العلل للدارقطني (3229) والسلسلة الصحيحة للألباني (2206)

(4)

مصنف ابن أبي شيبة (7/ 232) رقم (35601)

(5)

البخاري (2262) واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (2050) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

ص: 43

حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)} [القصص]. قال الحافظ ابن حجر: والذي قاله الأئمة إن الحكمة في رعاية الأنبياء للغنم: ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتعتاد قلوبهم بالخلوة، ويترقَّوا من سياستها إلى سياسة الأمم

(1)

.

وقصَّ الله -جل وعلا- علينا من خبر نبيه ورسوله داود عليها السلام قال الله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)} [الأنبياء: 80]. كان حدَّادًا وفي نفس الوقت كان ملكًا، وكان لا يأكل إلا مما تصنعه يداه

(2)

.

وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان زكريا عليها السلام نجَّارًا»

(3)

.

‌التحذير من الغلو في الأنبياء:

فإذا عرفنا ذلك وأنهم بشر كما أخبرنا الله -جل وعلا- تبيَّن أنه ليس لأحد من الأنبياء ولا من غيرهم شيءٌ من خصائص الربوبية ولا من خصائص الألوهية. ومقتضى كونهم بشرًا أنهم ليسوا بآلهة، وليس فيهم من صفات الألوهية ولا من صفات الربوبية شيء.

ولذلك فالمؤمن يعبد الله وحده لا شريك له. ويؤمن بأن الرسول أو النبي عبدٌ للهِ فلا يُعْبَد، ورسولٌ كريمٌ يطاعُ وَلا يُكَذَّب، والله -جل وعلا- خصهم بالوحي المنزل وفضلهم على العالمين. ومن الغلو الذي وقعت فيه الأمم أنهم عبدوا الأنبياء وغَلَوا فيهم وفي صالحيهم حتى عُبِدُوا من دون الله -جل وعلا-. وانظر إلى الآيات في خاتمة سورة المائدة إذ يقص الله -جل وعلا- علينا براءة نبيه عيسى عليها السلام مما نُسِبَ إليه قال ربنا سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ

(1)

فتح الباري (6/ 439).

(2)

البخاري (2027) عن المقدام رضي الله عنه، و (2073) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

مسلم (2379).

ص: 44

شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} [المائدة]. فهذه مقالة نبي الله عيسى عليها السلام في الموقف الجامع يوم الحشر الأكبر يبرأ إلى الله -جل وعلا- ممن عبده من دون الله؛ ولهذا يقول ربنا- سبحانه-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، وقال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وقال سبحانه:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم]. فليس للأنبياء ولا لغيرهم من صفات الربوبية ولا من صفات الألوهية شيء.

‌اصطفاء الله للأنبياء والرسل:

ويجب أن نؤمن بأنهم رسل الله، وبأن الله -جل وعلا- قد أكرمهم، ونُطِيعُهم. فطاعتُهم من طاعة الله -جل وعلا- قال ربنا سبحانه:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

ومع أنهم كانوا بشرًا إلا أن الله -جل وعلا- جبلهم على أكمل الأخلاق وأكمل الأوصاف، فلا شكَّ أن البشر يتفاوتون فيما بينهم تفاوتًا كبيرًا في الخَلْق وفي الخُلُق لكن أنبياء الله -جل وعلا- كانوا يمثِّلُون الكمال الإنساني في أرقى صوره؛ فإن الله -جل وعلا- يقول:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. فقد اختارهم الله من أطهر البشر قلوبًا، وأزكاهم أخلاقًا، وأجودهم قريحةً؛ ولهذا يقول ربنا سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} [الأحزاب] فالله -جل وعلا- خلقهم وجعلهم أكمل الناس في خَلْقهم وفي خُلُقهم، فكانوا أكمل الناس أجسامًا، وأحسنَ الناس صُورًا.

وقد وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأنبياء وبعض الرسل لما رآهم ليلة أسري به.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ مُوسَى وَإِذَا هُوَ رَجُلٌ ضَرْبٌ رَجِلٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاس-يعني الحمَّام-وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ عليها السلام بِهِ»

(1)

.

(1)

البخاري (3394)، (3437) واللفظ له، ومسلم (168)، (172).

ص: 45

والمقصود أنهم كانوا من أحسن الناس صورةً: فليس فيهم أعور، وليس فيهم أعمى، وليس فيهم من هو صاحب عاهة، بل كانوا في جمال صورهم من أحسن الناس عليهم السلام.

‌صفة رسولنا صلى الله عليه وسلم

-:

وكان نبيُّنا عليه الصلاة والسلام أشبه الناس بنبي الله إبراهيم عليها السلام كما تقدم، وَ «كَانَ رَبْعَةً مِنَ القَوْمِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالقَصِيرِ، أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ، أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ، لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ، وَلَا سَبْطٍ رَجِلٍ»

(1)

وكَانَ صلى الله عليه وسلم: «أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا»

(2)

وكان شديد سواد الشعر، «لَمْ يَرَ مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا قَلِيلًا»

(3)

«وَكَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ»

(4)

«وَكَانَ قد شمط مقدم رأسه ولحيته وكان إذا ادهن لم يتبين وإذا شعث رأسه تبين»

(5)

«وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ»

(6)

«وَلَمْ يَخْتَضِبْ صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ وَفِي الصُّدْغَيْنِ وَفِي الرَّأْسِ نَبْذٌ»

(7)

وكان صلى الله عليه وسلم: «أَشْكَلَ العَيْنَيْنِ

(8)

» ويفسره كما ذكر العلماء

(9)

الحديث الآخر أنه: كان «مُشْرَبَ الْعَيْنِ بِحُمْرَةٍ»

(10)

وكان صلى الله عليه وسلم: «أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ»

(11)

«أَهْدَبَ أَشْفَارِ العَيْنَيْنِ»

(12)

أَيْ: طَويلَ شَعَر الأجفانِ. وغير

(1)

صحيح البخاري (3547)، وصحيح مسلم (2347)، عن أنس رضي الله عنه.

(2)

صحيح البخاري (3549)، وصحيح مسلم (2337)، عن البراء رضي الله عنه.

(3)

صحيح البخاري (5894) وصحيح مسلم (2341) من حديث أنس رضي الله عنه واللفظ لمسلم.

(4)

رواه البخاري (3546) عن عبد الله بن بسر رضي الله عنهما. ومسلم (2341) من حديث أنس و (2342) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنهما.

(5)

رواه مسلم (2344) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.

(6)

صحيح البخاري (3547) وصحيح مسلم (2347) من حديث أنس رضي الله عنه.

(7)

رواه مسلم (2341) من حديث أنس رضي الله عنه.

(8)

رواه مسلم (2339) والترمذي (3647) واللفظ له من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.

(9)

نقل النووي عن الْقَاضِي عياض اتَّفَاق الْعُلَمَاءِ وَجَمِيعِ أَصْحَابِ الْغَرِيبِ أَنَّ الشُّكْلَةَ حُمْرَةٌ فِي بَيَاضِ الْعَيْنَيْنِ قال: وَهُوَ مَحْمُودٌ ا. هـ

(10)

رواه أحمد (684، 796) من حديث علي رضي الله عنه

(11)

رواه أحمد (3410) والترمذي في الشمائل (412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(12)

رواه أحمد (684، 796، 1300) والترمذي (3638) من حديث علي رضي الله عنه، وأحمد (8352) والطيالسي (2432) والبخاري في الأدب المفرد (255، 1155) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 46

ذلك من الأوصاف التي وصفه به أصحابه رضوان الله تعالى عليهم.

وأما كماله في الأخلاق فإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول في نبيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم].

وهكذا جاء ثناء الله -جل وعلا- على أنبيائه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)} [هود].

وقالت ابنة العبد الصالح تصف موسى عليها السلام: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص].

وقال الله في وصف إسماعيل عليها السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)} [مريم].

ومن وصف الله لإبراهيم وإدريس عليهما السلام: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41، 56]،

وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)} [مريم].

وغير ذلك من الأوصاف العظيمة الدالة على كمال الأخلاق التي كان عليها الأنبياء.

وكان أنبياءُ الله ورسله خيرَ الناسِ نسبًا، فهم ذووا أنساب كريمة.

فجميع الرسل من نوح عليها السلام إلى من بعده كانوا ذوي نسب رفيع. بل جميع الرسل بعد نوح كانوا من ذريته، وجميع الرسل بعد إبراهيم كانوا من ذريته قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26].

والذي عليه أهل العلم أن الأنبياء كانوا أحرارًا بعيدين عن الرِّق. يقول السفاريني رحمه الله: الرِّق وصْفُ نقصٍ لا يليق بمقام النبوة

(1)

.

وكذلك ذكر العلماء: أن الأنبياء أُعْطُوا العقول الراجحة، والذكاء الفذَّ، واللسان المبين، والبديهة الحاضرة. وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يحفظ ما يُلقَى إليه ولا ينسى منه كلمة كما قال ربنا سبحانه:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} [الأعلى].

وكان موسى عليها السلام يجيب فرعون على البديهة حتى انقطع، وانتقل إلى التهديد بالقوة: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)

(1)

لوامع الأنوار البهيَّة (2/ 265).

ص: 47

قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)} [الشعراء].

وهذا من الخطاب البديع الذي حاجَّ به موسى عليها السلام فرعونَ على تكبره وعُتُوِّه.

‌بيان شيخ الإسلام لصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الخَلْقِيّة والخُلُقِيّة:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وَقَدْ نَقَلَ النَّاسُ صِفَاتِهِ الظَّاهِرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى كَمَالِهِ، وَنَقَلُوا أَخْلَاقَهُ مِنْ حِلْمِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَكَرَمِهِ وَزُهْدِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَ ذَلِكَ:

[1]

فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُمْ خَلْقًا، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الذَّاهِبِ وَلَا بِالْقَصِيرِ»

(1)

.

[2]

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ [رَجُلًا مَرْبُوعًا] بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، عَظِيمَ الْجُمَّةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ»

(2)

.

[3]

وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَسُئِلَ الْبَرَاءُ رضي الله عنه: أَكَانَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ السَّيْفِ

(3)

، قَالَ:«لَا، بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ»

(4)

.

[4]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ»

(5)

.

[5]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ

(6)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَخْمَ

(1)

صحيح البخاري (2337، 3549)، ومسلم (2337/ 93)

(2)

صحيح البخاري (3551، 5848)، ومسلم (2337/ 92) واللفظ له والزيادة منه. وللبخاري نحوه.

(3)

(مثل السيف) أي في البريق واللمعان والصقالة. (مثل القمر) الذي هو فوق السيف في الإشراق إلى جانب الاستدارة في جمال.

(4)

صحيح البخاري (3552) وفي صحيح مسلم (2344) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَكَانَ إِذَا ادَّهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ، وَإِذَا شَعِثَ رَأْسُهُ تَبَيَّنَ، وَكَانَ كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ» ، فَقَالَ: رَجُلٌ وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ؟ قَالَ: «لَا، بَلْ كَانَ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ مُسْتَدِيرًا وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ عِنْدَ كَتِفِهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ يُشْبِهُ جَسَدَهُ»

(5)

صحيح البخاري (3556، 4418، 4677)، ومسلم (2769) وفي رواية للبخاري: «وَكَانَ إِذَا اسْتَبْشَرَ

»

(6)

لم يروه مسلم بهذا اللفظ، وإنما رواه باللفظ الآتي.

ص: 48

(الرَّأْسِ) وَالْقَدَمَيْنِ، [حَسَنَ الوَجْهِ]

(1)

لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَكَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ

(2)

(ضَخْمَ الْيَدَيْنِ)

(3)

»

(4)

[6]

«وَسُئِلَ رضي الله عنه عَنْ شَعْرِهِ، فَقَالَ: «كَانَ شَعْرًا رَجِلًا، لَيْسَ بِالْجَعْدِ وَلَا بِالسَّبْطِ، بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ»

(5)

.

[7]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ضَلِيعَ الْفَمِ، أَشْكَلَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْهُوسَ الْعَقِبَيْنِ»

(6)

. وَفَسَّرَهَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ: وَاسِعُ الْفَمِ، طَوِيلُ شَقِّ الْعَيْنِ، قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ.

(7)

(1)

زيادة من الصحيح (5907)

(2)

وردة في سياق الحديث من طريق أخرى عند البخاري (5906) وانظر تخريج الحديث.

(3)

قال الحافظ في فتح الباري (10/ 359): «كَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ» وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ «سَبِطَ الْكَفَّيْنِ» بِتَقْدِيمِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِوَصْفِهَا بِاللِّينِ قَالَ عِيَاضٌ وَفِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ «سَبِطٌ أَوْ بَسِطٌ» بِالشَّكِّ

ثم قال: والْمُرَادَ وَصْفُ الْخِلْقَةِ وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِبَسْطِ الْعَطَاءِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ كَذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ مُرَادًا هُنَا ا. هـ

(4)

رواه البخاري (5907) بلفظ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَخْمَ اليَدَيْنِ وَالقَدَمَيْنِ، حَسَنَ الوَجْهِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ وَلَا قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَكَانَ بَسِطَ الكَفَّيْنِ» وفي رواية أبي ذر الهروي التي شرح عليها الحافظ في الفتح (10/ 358): «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَخْمَ الرَّاْسِ وَالقَدَمَيْنِ،

» إلخ ومن طريق البخاري رواه البغوي في شرح السنة (3636) بهذا اللفظ «ضَخْمَ الرَّاْسِ» . وذكره بهذا اللفظ الحميدي في الجمع بين الصحيحين (2/ 536) وأبو السعادات ابن الأثير في جامع الأصول (11/ 229). وجاء هذا الوصف أيضا في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. رواه الطيالسي (166) وابن سعد (1/ 411) والترمذي (3637) وأحمد (2/ 100 ط الرسالة) رقم (684) والبخاري في الأدب المفرد (1315). وحديث أنس رضي الله عنه رواه البخاري أيضا (5906) بلفظ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضَخْمَ اليَدَيْنِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَكَانَ شَعَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجِلًا، لَا جَعْدَ وَلَا سَبِطَ» وانظر الحديث الآتي.

(5)

رواه البخاري (5905) ومسلم (2338)

(6)

أخرجه مسلم (2339) ولم يروه البخاري كما في تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف (2183)

(7)

ورد في صحيح مسلم عقب الحديث. وقال النووي في شرح مسلم (15/ 93): أما قَوْلُهُ فِي ضَلِيعِ الْفَمِ فَكَذَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي أَشْكَلِ الْعَيْنِ فَقَالَ الْقَاضِي هَذَا وَهْمٌ مِنْ سِمَاكٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَغَلَطٌ ظَاهِرٌ وَصَوَابُهُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَنَقَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الْغَرِيبِ أَنَّ الشُّكْلَةَ حُمْرَةٌ فِي بَيَاضِ الْعَيْنَيْنِ وَهُوَ مَحْمُودٌ وَالشُّهْلَةُ بِالْهَاءِ حُمْرَةٌ فِي سَوَادِ الْعَيْنِ وَأَمَّا الْمَنْهُوسُ فَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ هَكَذَا ضَبَطَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالَ صاحب التحرير وابن الْأَثِيرِ رُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَمَعْنَاهُ قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ كَمَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ا. هـ

ص: 49

[8]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَا بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ وَلَا بِالْآدَمِ، وَلَا بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا بِالسَّبْطِ»

(1)

.

[9]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَزْهَرَ اللَّوْنِ

(2)

، كَأَنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلُؤُ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ

(3)

، وَمَا مَسَسْتُ دِيبَاجَةً وَلَا حَرِيرًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا وَلَا عَنْبَرَةً أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

[10]

وَرَوَى الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ

(5)

، إِذَا تَكَلَّمَ رُئِيَ النُّورُ يَخْرُجُ مِنْ ثَنَايَاهُ»

(6)

.

[11]

وَرَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْجَدَ

(7)

وَلَا أَجْوَدَ وَلَا أَشْجَعَ وَلَا

(1)

أخرجه البخاري (3548، 5900) ومسلم (2347) من طريق مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، أنه سمعه يقول -فذكره وزاد-: «

بَعَثَهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ»

(2)

قَوْلُهُ «أَزْهَرَ اللَّوْنِ» أَيْ أَبْيَضُ مُشَرَّبٌ بِحُمْرَةٍ. انظر: فتح الباري (6/ 569)

(3)

قَوْلُهُ «إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ» قال النووي في شرح مسلم (15/ 86): هو بالهمز وقد يُتْرَكُ هَمْزُهُ

قَالَ شِمْرٌ أَيْ مَالَ يَمِينًا وَشِمَالًا كَمَا تَكَفَّأَ السَّفِينَةُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ هَذَا صِفَةُ الْمُخْتَالِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَمِيلَ إِلَى سَمْتِهِ وَقَصْدِ مَشْيِهِ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ في صبب قال القاضي لا بعدَ فِيمَا قَالَهُ شِمْرٌ إِذَا كَانَ خِلْقَةً وَجِبِلَّةً وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا مَقْصُودًا ا. هـ

(4)

أخرجه بهذا اللفظ الإمام مسلم (2330) من طريق حماد بن سلمة قال حدثنا ثابت عن أنس به فذكره وأخرجه البخاري (3561) من طريق حماد بن زيد عن ثابت به بلفظ «مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلَا دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» وفي البخاري (3547) من طريق سعيد بن أبي هلال عن ربيعة عن أنس رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَبْعَةً مِنَ القَوْمِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالقَصِيرِ، أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ، أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ،

» الحديث ورواه مسلم (2347) من طريق إسماعيل بن جعفر وسليمان بن بلال عن ربيعة به نحوه.

(5)

الأفلج: هو المتباعد ما بين الثنايا والرباعيات. قاله أبو عبيد في غريب الحديث (3/ 239).

(6)

أخرجه الدارمي (59) وعنه الترمذي في الشمائل (15) ورواه يعقوب الفسوي في المعرفة (3/ 288) -ومن طريقه البيهقي في الدلائل (1/ 215) - والطبراني في المعجم الأوسط (767) وفي المعجم الكبير (11/ 416) رقم (12181) وفي إسناده عبد العزيز بن عمران المعروف بابن أبي ثابت الزهري وهو متروك، وليس له في مسند الدارمي إلا هذا الحديث وهو في سلسلة الأحاديث الضعيفة (4220).

(7)

من النَّجْد وهو الشجاع.

ص: 50

أَضْوَأَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

[12]

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ

(2)

عِنْدَنَا، فَعَرِقَ، وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ فَجَعَلَتْ تَسْلِتِ الْعَرَقَ فِيهَا، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَمَّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟!» قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ أَطْيَبُ مِنَ الطِّيبِ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ

(3)

.

[13]

وَرَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَسَلُكُ طَرِيقًا فَيَتْبَعُهُ أَحَدٌ، إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ قَدْ سَلَكَهُ مِنْ طِيبِ عَرَقِهِ»

(4)

.

(1)

تفرد به الدارمي (60) رواه عن مسعر، عن عبد الملك بن عمير، قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما فذكره. ورجاله ثقات، لكن عبد الملك مدلس ولم يصرح بالسماع. والحديث رواه أيضا ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (170، 396) وأبو الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي (86) وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 244)

(2)

من القيلولة وهو النوم.

(3)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم (2331) من طريق ثابت، عن أنس. ورواه البخاري (6281) من طريق ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن جده أنس رضي الله عنه:«أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِطَعًا، فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ» قَالَ: «فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ، فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ» قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الوَفَاةُ، أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ، قَالَ: فَجُعِلَ فِي حَنُوطِهِ. ورواه مسلم (2331) من طريق إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عمه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا، وَلَيْسَتْ فِيهِ، قَالَ: فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهَا، فَأُتِيَتْ فَقِيلَ لَهَا: هَذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَامَ فِي بَيْتِكِ، عَلَى فِرَاشِكِ، قَالَ فَجَاءَتْ وَقَدْ عَرِقَ، وَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ عَلَى قِطْعَةِ أَدِيمٍ، عَلَى الْفِرَاشِ، فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ فَتَعْصِرُهُ فِي قَوَارِيرِهَا، فَفَزِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«مَا تَصْنَعِينَ؟ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَصَبْتِ»

(4)

تفرد به الدارمي (67) من طريق إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي أنبأنا المغيرة بن عطية، عن أبي الزبير، عن جابر به. وهذا إسناد ضعيف، أبو الزبير مدلس وقد عنعنه. والمغيرة بن عطية وتلميذه مجهولان، والحديث ضعف إسناده الألباني كما في السلسلة الصحيحة (5/ 169) تحت حديث رقم (2137)، لكنه أورد له شاهدا من حديث أنس رواه أبو يعلى الموصلي (3125) -واللفظ له، ومن طريقه: تلميذه أبو الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي (225) وتلميذ أبي الشيخ: أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة (362) -؛ والبزار - كما في كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي (3/ 161) -، والطبراني في المعجم الأوسط (2751) من حديث عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرَّ فِي الطَّرِيقِ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، قَالُوا: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الطَّرِيقِ الْيَوْمَ. وفي إسناده عمر بن سعيد وهو ابن الأبح، منكر الحديث عن سعيد بن أبي عروبة، قاله البخاري. وأخرج حديثه هذا ابن عدي في الكامل (6/ 98) وقال البزار: وَرَوَاهُ أَيْضًا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْرَفُ بِرَائِحَةِ الطِّيبِ ا. هـ وهذا معلق. ووصله الضياء في المختارة (7/ 129) بسند لا بأس به عن موسى بن هارون بن عبد الله بن مرون القزاز ثنا عبد الله بن محمد بن حجاج الصراف ثنا معاذ به. ورواه ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (8/ 184) عن شيخه صالح بن أحمد بن يونس، حدثنا عبد الله بن محمد بن الحجاج بن أبي عثمان الصواف، حدثنا معاذ بن هشام، به وصالح كذاب لا يفرح بروايته. ورواه ابن سعد في الطبقات (1/ 398) والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (904) من طريق أَبي بِشْرٍ، صَاحِبِ الْبَصْرِيِّ الْمُزَلِّق، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كُنَّا نَعْرِفُ خُرُوجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرِيحِ الطِّيبِ» وأبو بشر لا يعرف، والرقاشي ضعيف. وبالجملة فحديث جابر مع حديث أنس من طريق الدستوائي حسن لغيره والله أعلم.

ص: 51

[14]

وَفِي حَدِيثِ أَمِّ مَعْبَدٍ الْمَشْهُورِ، لَمَّا مَرَّ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِجْرَةِ هُو وَأَبُو بَكْرٍ، وَمَوْلَاهُ، وَدَلِيلُهُمْ، وَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَالَ: صِفِيهِ لِي يَا أَمَّ مَعْبَدٍ، فَقَالَتْ:«رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الْوَضَّاءَةِ، حُلْوَ الْمَنْطِقِ، فَصْلٌ لَا نَزْرٌ وَلَا هَذْرٌ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ»

(1)

(1)

حسن لغيره، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 48) رقم (3605) وفي الأحاديث الطوال (32) والآجري في الشريعة (1020) والحاكم في المستدرك (4276) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1433) -ومن طريقه إسماعيل الأصبهاني في دلائل النبوة (42) - وأبو نعيم في دلائل النبوة (238) وفي معرفة الصحابة (7002) والبيهقي في الدلائل (1/ 277) وابن عبد البر في الاستيعاب (4/ 1961) والبغوي في شرح السنة (3704) وفي الأنوار في شمائل النبي المختار (456) وابن عساكر في التاريخ (3/ 330 و 12/ 363) من طرق عن مكرم بن محرز بن مهدي قال حدثني أبي محرز بن مهدي، وأخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة (2265) من طريق يحيى بن سليمان بن نضلة (وهو صدوق فيه لين)، وأخرجه الطبري في المنتخب (11/ 577 - 580) وفي التاريخ (11/ 577)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 340) وأبو بكر الشافعي في الفوائد (1140) - ومن طريقه ابن عساكر في التاريخ (3/ 323) وابن الأثير في أسد الغابة (1/ 684) - واللالكائي (1436، 1437) -ومن طريقه إسماعيل الأصبهاني في دلائل النبوة (42) - والبيهقي في الدلائل (1/ 277 - 280)، وابن عبد البر في الاستيعاب (4/ 1958) وابن عساكر في (3/ 327) في التاريخ من طرق عن أبي هشام محمد بن سليمان بن الحكم بن أيوب بن سليمان بن ثابت بن يسار الكعبي الربعي، قال: حدثني عمى أيوب بن الحكم بن أيوب. ثلاثتهم (محرز ونضلة وأيوب بن الحكم) عن حزام بن هشام بن خالد، عن أبيه هشام بن حبيش، عن أبيه حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحزام قال ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: شيخ محله الصدق، وذكره ابن حبان في "الثقات". ووالده هشام ذكره ابن حبان في "الثقات"، وترجمه البخاري وابن أبي حاتم في كتابيهما ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. وانظر: السلسة الضعيفة (14/ 1063) والحديث أخرجه أيضا الحاكم في المستدرك (4274): عن الحسين بن حميد بن الربيع الخزاز، حدثنا سليمان بن الحكم بن أيوب بن سليمان بن ثابت بن بشار الخزاعي، ثنا أخي أيوب بن الحكم، وسالم بن محمد الخزاعي جميعا، عن حزام بن هشام، عن أبيه هشام بن حبيش بن خويلد صاحب رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، -لم يذكر حبيش بن خالد وجعله من رواية هشام بن حبيش وذكر الحديث. وفي إسناده الحسين بن حميد كذبه مطين واتهمه ابن عدي وهو متابع: فقد أخرجه البغوي في معجم الصحابة (505) واللالكائي في شرح السنة (1435) من طريق محمد بن هارون الروياني كلاهما (البغوي والروياني) قالا حدثنا سليمان به. وخالفهم مسلم بن قتيبة المروزي قال: حدثنيه سليمان بن الحكم بِقديد حَدثنِي أخي أَيُّوب بن الحكم عَنْ حزَام بن هِشَام عَنْ أبيه هِشَام بن حُبَيْش عَنْ أَبِيه حُبَيْش بن خَالِد صَاحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. فجعله من حديث حبيش والد هشام. مثل رواية الجماعة رواه عنه: ابنه ابن قتيبة في غريب الحديث (1/ 465). وتابعه أبو زيد: عبد الواحد بن يوسف بن أيوب بن الحكم حدثنا سليمان به. رواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 277). وانظر: مختصر تلخيص الذهبي (2/ 1092) رقم (463) تحقيق عبد الله الحميدان وسعد الحميّد. والسلسة الضعيفة (14/ 1063)

ص: 52

[15]

وَرَوَى أَبُو زُرْعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَتْ: قُلْتُ لِلرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ: صِفِي لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ:«يَا بُنَيَّ، لَوْ رَأَيْتَهُ رَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً»

(1)

.

[16]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا، وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ؛ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: لَنْ تُرَاعُوا، وَقَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا، وَكَانَ الْفَرَسُ قَبْلَ ذَلِكَ بَطِيئًا فَعَادَ لَا يُجَارَى»

(2)

.

[17]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ»

(3)

.

(1)

لم أقف عليه من هذا الوجه، ولعل في النص تحريفا، صوابه (أبو عبيدة بن محمد بن عمار

) فالحديث أخرجه الدارمي (61) ويعقوب بن سفيان في المعرفة (2/ 283) وابن أبي عاصم في الآحاد (3335) والطبراني في المعجم الأوسط (4458) وفي الكبير (24/ 274) رقم (696) وغيرهم من طريق عبد الله بن موسى التيمي ثنا أسامة بن زيد عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: قلت للربيع فذكره. وهذا إسناد ضعيف، فيه عبد الله بن موسى هو التيمي الطلحي صدوق كثير الخطأ.

(2)

صحيح البخاري (2908، 6033) وصحيح مسلم (2307)

(3)

صحيح البخاري (6)، وصحيح مسلم (2308)

ص: 53

[18]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا الَّذِي يُحَاذِي بِهِ (يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

[19]

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ:«لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ اتَّقَيْنَا الْمُشْرِكِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ بَأْسًا، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ» ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ

(2)

.

[20]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:«خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي (أُفًّا) قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟»

(3)

.

[21]

وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَالَ رضي الله عنه: «خَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟»

(4)

[22]

«وَكَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا»

(5)

.

[23]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَقَالَ: لَا»

(6)

.

[24]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ،

(1)

أخرجه مسلم (1776) بهذا اللفظ وهو في صحيح البخاري (2864، 2874، 2930) بمعناه.

(2)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 325)، والحديث رواه أحمد (1042، 1347) والنسائي في السنن الكبرى (8585) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (2633) وصححه.

(3)

صحيح البخاري (2768، 6038)، وصحيح مسلم (2309/ 50)

(4)

صحيح البخاري (2768، 6911)، وصحيح مسلم (2309/ 52)

(5)

هذه الجملة رواها البخاري (6203) ومسلم (659، 2150) عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا» ، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ: أَحْسِبُهُ - فَطِيمًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ:«يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا. ورواها مسلم (2310) ولفظه: قَالَ إسحاق قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا» ، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟» قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ، يَا رَسُولَ اللهِ.

(6)

صحيح البخاري (6034)، وصحيح مسلم (2311)

ص: 54

أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَاقَةَ»

(1)

.

[25]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ»

(2)

.

[26]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، وَذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا»

(3)

[27]

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا، كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَتْ جَبِينُهُ»

(4)

.

[28]

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ قَطُّ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ»

(5)

.

[29]

وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، لَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ»

(6)

[30]

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهَا رضي الله عنها، وَقَدْ سُئِلَتْ عَنْ خُلِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ:«كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»

(7)

.

[31]

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، وَسَأَلَهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: «لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا

(1)

أخرجه مسلم (2311) ولم يخرجه البخاري كما في تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف (1/ 414) رقم (1614)، والمسند المصنف المعلل (2/ 146) رقم (674)

(2)

صحيح البخاري (3562، 6102)، وصحيح مسلم (2320).

(3)

صحيح البخاري (3559، 3759، 6029)، وصحيح مسلم (2321).

(4)

صحيح البخاري (6031، 6046).

(5)

صحيح مسلم (2327) وهو في البخاري أيضا (3560، 6126) فالحديث متفق عليه.

(6)

صحيح مسلم (2328).

(7)

لفظه عند الإمام مسلم (746) في حديث طويل:

قَالَ: سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ، قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ:«أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ:«فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْقُرْآنَ» واللفظ المذكور في رواية في مسند أحمد (24601، 2502، 25813) والأدب المفرد للبخاري (308)

ص: 55

وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا سَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، أَوْ يَغْفِرُ» شَكَّ أَبُو دَاوُدَ

(1)

[32]

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ

(2)

.

[33]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنه: كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَهَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الْأَيَّامِ؟ قَالَتْ: «لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ»

(3)

.

[34]

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، وَقَدْ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنه عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ:«فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنُ»

(4)

.

[35]

وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ»

(5)

.

(1)

مسند أبي داود الطيالسي (1623)، -ومن طريقه رواه الترمذي (2016) - ورواه أحمد (25417، 25990، 26091) والترمذي في الشمائل (348)، وابن حبان في صحيحه (6443)، من طريق شعبة وزكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق به. وسنده صحيح.

(2)

المستدرك على الصحيحين (4224) من طريق أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن العيزار بن حريث، عن عائشة رضي الله عنها، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ وَلَا سَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ». وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ا. هـ وتعقبه شيخنا الوادعي في التعليق على المستدرك فقال: لا، أحمد بن عبد الجبار العطاردي ضعيف، ويونس بن بكير ليس من رجال البخاري ما روى له إلا تعليقا كما في تهذيب التهذيب ا. هـ وتعقبه بنحو هذا أيضاً -مع فوائد زوائد- العلامة الألباني في السلسة الصحيحة (2458). قلت: والحديث رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (1611) وابن سعد في الطبقات (1/ 363/ ط صادر) عن الفضل بن دكين أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن العيزار به. ورواه إسحاق بن راهويه في المسند (1610) قال: أخبرنا جرير، وعيسى بن يونس، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن العيزار بن حريث، به، وهذا إسناد صحيح.

(3)

صحيح البخاري (1987، 6466)، وصحيح مسلم (783)

(4)

صحيح مسلم (746)

(5)

المستدرك على الصحيحين (4221) رواه من طريق ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وقال: صحيح على شرط مسلم. وتعقبه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 112) وشيخنا الوادعي في التعليق على المستدرك بأن ابن عجلان، إنما أخرج له مسلم مقرونا بغيره ولم يعتد عليه ا. هـ والحديث في مسند أحمد (8952) والأدب المفرد للبخاري (273) وحسنه العلامة الألباني في الصحيحة (45) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (2136)

ص: 56

[36]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ» ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ:«أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»

(1)

.

[37]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ»

(2)

.

[38]

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه، أَنَّ أَخَاهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: جِيرَانِي عَلَى مَا أُخِذُوا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الْغَيِّ، ثُمَّ تَسْتَخْلِي بِهِ، فَقَالَ:«لَأَنْ كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَعَلَيَّ وَمَا هُوَ عَلَيْهِمْ، خَلُّوا لَهُ جِيرَانَهُ»

(3)

.

[39]

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، (وَأَبُو دَاوُدَ)، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:«مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ» رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْهُ

(4)

.

(1)

صحيح البخاري (1130، 4836، 6471)، وصحيح مسلم (2819). وفي الباب عن عائشة رواه البخاري (4837) ومسلم (2820) وعن أبي هريرة رواه الترمذي في الشمائل المحمدية (263، 264) وابن ماجه (1420) ورواه النسائي (1645) بلفظ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَتَّى تَزْلَعَ ـ يَعْنِي تَشَقَّقُ ـ قَدَمَاهُ» .

(2)

صحيح البخاري (3563، 5409)، وصحيح مسلم (2064)

(3)

مسند أحمد (20014) وأخلاق النبي لأبي الشيخ الأصبهاني (69) وهو في سنن أبي داود (3630) والترمذي (1417) والنسائي (4875، 4876) مختصرا: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» زاد الترمذي والنسائي «ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ» والحديث حسنه الألباني في إرواء الغليل (2397) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (93)

(4)

مسند أحمد (12345)، وسنن الترمذي (2754) ولم يخرجه أبو داود كما في تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف (625) والمسند المصنف المعلل (1126). والحديث صححه الألباني في الصحيحة (358) وفي هداية الرواة (4624) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (154)

ص: 57

[40]

وَرَوَى (عَنْهُ)

(1)

أَبُو نُعَيْمٍ

(2)

وَأَبُو الشَّيْخِ، وَغَيْرُهُمَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: الْمَلَكُ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا، قَالَ: فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَشَارَ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ: أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا بَلْ أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ

(3)

.

[41]

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟» فَنَظَرَ الْغُلَامُ إِلَى أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ أَبَوْهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ»

(4)

.

[42]

وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَلَّمَ رَجُلًا فَأَرْعَدَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» رَوَاهُ

(1)

كلمة (عنه) لا توجد في بعض النسخ المخطوطة كما أشار محققوا الكتاب. وهو الأقرب والله أعلم.

(2)

عزاه إليه أيضا السيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 407) ولم أقف عليه.

(3)

أخرجه النسائي في الكبرى (6710) -وعنه الطحاوي في المشكل (2092) -، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 124) والذهلي في الزهريات -ومن طريقه الضياء في المختارة (13/ 62/ 95) -ويعقوب بن سفيان في المعرفة (1/ 361 - 362) -ومن طريقه البيهقي في الدلائل (1/ 333) وفي السنن الكبرى (13327) - ويحيى بن صاعد في زوائده على الزهد لابن المبارك - ت الأعظمي (766) -ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (4/ 71) -، والطبراني في المعجم الكبير (10686)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي (618) -ومن طريقه البغوي في شرح السنة (3684) وفي الشمائل (15) - من طرق عن بقية بن الوليد ثني الزبيدي به حدثني الزهري عن محمد بن عبد الله بن عباس قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يحدث

فذكره وزاد: فقال: فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي ربه. وفي إسناده محمد بن عبد الله بن عباس، وقيل محمد بن علي بن عبد الله، والأول أصح، ترجمه البخاري وغير واحد ولم يذكروا فيه جرحاً ولا تعديلا، وقال الحافظ في التقريب: مقبول ا. هـ، أي حيث يتابع وإلا فلين الحديث. وله شاهد رواه الإمام أحمد في مسنده (7160) والبزار (9807) وأبو يعلى (6105) -وعنه ابن حبان (6365) - من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، قال: ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل عليها السلام: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق، قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد، أرسلني إليك ربك،: أفملكا نبيا يجعلك، أو عبدا رسولا؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: «بل عبدا رسولا» وإسناده صحيح وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (1002).

(4)

رواه البخاري (1356)، ولم يخرجه مسلم كما في تحفة الأشراف (295)، والمسند المصنف المعلل (231)

ص: 58

ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طُرُقٍ بَعْضُهَا مُتَّصِلٌ عَنِ (ابْنِ مَسْعُودٍ)

(1)

(وجَرِيْر)

(2)

، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَرُوِيَ مُتَّصِلًا، وَالصَّوَابُ إِرْسَالُهُ كَمَا تَقَدَّمَ

(3)

(1)

كذا وصوابه (عن أبي مسعود) كما سيأتي في التخريج.

(2)

زيادة من بعض النسخ كما ذكر المحقق. وانظر التخريج.

(3)

لم أقف على كلام ابن الجوزي. والحديث مرسل كما قال. رواه يزيد بن هارون وعبد الله بن نمير -كما في الطبقات الكبرى لابن سعد ط دار صادر (1/ 23) -، وأبو معاوية -كما في الزهد لهناد (2/ 413) - ووكيع -كما في عيون الأخبار لابن قتيبة (1/ 376)، وأبو خالد الأحمر -كما في جزء الحميري (44) -، ويحيى بن سعيد القطان -كما في العلل للدارقطني (6/ 195) - وزهير بن معاوية -ذكره ابن عدي في الكامل (7/ 545) والخطيب في التاريخ (7/ 261) - وابن عيينة -ذكره ابن عدي في الكامل (7/ 545) - وهشيم -ذكره الخطيب أيضا- كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، مرسلا. وخالفهم جعفر بن عون فقال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود به. رواه ابن ماجه (3312) والحاكم (4366) وأبو الشيخ في أخلاق النبي (138) وابن عساكر في تاريخ دمشق (4/ 82) -وقال: غريب-، عن إسماعيل بن أسد - وهو إسماعيل بن أبي الحارث-، عن جعفر به. وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ا. هـ وفيه نظر -كما سيأتي-، وقال ابن ماجه والدارقطني: إسماعيل وحده وصله ا. هـ وتعقب الخطيبُ ذلك فأسنده في تاريخ بغداد ت بشار (7/ 261) عن محمد بن بكار -وهو صدوق-، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل ابن علية القاضي -وهو ثقة-، قال: حدثنا جعفر بن عون، به موصولا. وتابعهما أيضا محمد بن الوليد بن أبان رواه ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (7/ 545) لكنه قال: وهذا الحديث سرقه ابن أبان -يعني محمد بن الوليد- من إسماعيل بن أبي خالد وسرقه منه أيضا عبيد بن الهيثم الحلبي ا. هـ ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (1260) عن محمد بن كعب الحمصي قال: نا شقران قال: نا عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم،. عن جرير بن عبد الله البجلي. وقال: لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير إلا عيسى، تفرد به: شقران ا. هـ وشقران هو: هاشم بن عمرو الحمصي شيخ لمحمد بن عوف كما في «نزهة الألباب في الألقاب» لابن حجر (1/ 402) -دلني عليه أخونا الشيخ الدكتور رشاد الحزمي جزاه الله خيرا-، وقد جاء مصرحا باسمه عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (4/ 82) لكنه سماه هشيما-، وقد ذكره ابن حبان في الثقات (9/ 242) وقال: هَاشم بن عَمْرو شيخ يروي عَنْ عِيسَى بن يُونُس روى عَنهُ عمرَان بن بكار الكلَاعِي ا. هـ وعلقه الدارقطني في العلل (6/ 195)، وحكم على روايته بالوهم. وأما تلميذه محمد بن كعب، فلم أقف على ترجمته، واستظهر بعض الباحثين أنه تصحيف صوابه محمد بن عوف الحمصي وهو ثقة مشهور من شيوخ أبي داود. وقد توبع عيسى بن يونس، فقد رواه الحاكم في المستدرك (3733) من طريق محمد بن عبد الرحمن القرشي، ثنا سعيد بن منصور المكي، ثنا عباد بن العوام، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير به. وزاد ثم تلا جرير بن عبد الله البجلي:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: 45] وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ا. هـ -وفيه نظر كما لا يخفى-. وقال الدارقطني في العلل:

والصواب عن إسماعيل، عن قيس، مرسلا، عن النبي صلى الله عليه وسلم ا. هـ وانظر: أحاديث معلة ظاهرها الصحة (330). والسلسلة الصحيحة للألباني (1876).

ص: 59

[43]

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ:«يَا أُمَّ فُلَانٍ، خُذِي فِي أَيِّ الطُّرُقِ شِئْتِ، قَوْمِي فِيهِ حَتَّى أَقُومَ مَعَكِ» ، فَخَلَا مَعَهَا يُنَاجِيهَا حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

[44]

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَدُورُ بِهِ فِي حَوَائِجِهَا حَتَّى تَفْرَغَ، ثُمَّ يَرْجِعُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ

(2)

[45]

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِي لَهُ حَاجَتَهُ» . وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْعَبْدِ وَلَا مَعَ الْأَرْمَلَةِ، حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ حَاجَتِهِمْ» وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ

(3)

.

[46]

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكَبُ الْحِمَارَ،

(1)

صحيح مسلم (2326) ولفظه: «يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ» فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا. ورواه أبو داود (4818) وأحمد (12197، 13241، 14046) وابن حبان (4527) واللفظ له.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه (6072) معلقا مجزوما به قال: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ:«إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ» . ووصله الإمام أحمد (11941) في مسنده قال: حدثنا هشيم، به ووصله أبو داود (4818) حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، وكثير بن عبيد، قالا: حدثنا مروان -وهو ابن معاوية-، قال ابن عيسى: قال: حدثنا حميد، - وقال كثير، عن حميد به. ووصله ابن ماجه (4177) من طريق شعبة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس به. وعلي بن زيد: ضعيف الحديث.

(3)

أخرجه النسائي (1414) والدارمي (75) وابن حبان (6423، 6424) والحاكم (4225) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ا. هـ قلت: هو صحيح وليس على شرطهما فقد رواه الحاكم من طريق أحمد بن نصر الخزاعي وهو ثقة عن علي بن الحسين بن واقد ولم يخرجا لهما. ورواه الترمذي في العلل الكبير (670) وقال: سألت محمدا -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن وهو حديث الحسين بن واقد تفرد به ا. هـ والحديث صححه الألباني وحسنه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1105)

ص: 60

وَيَلْبَسُ الصُّوفَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ عَلَى حِمَارٍ خِطَامُهُ لِيفٌ»

(1)

.

[47]

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«مَا رَأَيْتُ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

[48]

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْهُ رضي الله عنه، قَالَ «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ»

(3)

.

[49]

وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَعْتَقِلُ الشَّاةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ»

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود الطيالسي (2262) قال: حدثنا شعبة، قال: حدثني مسلم أبو عبد الله الأعور، سمع أنسا، يقول: فذكره. ورواه الترمذي (1017) وابن ماجه (2296، 4178) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (3734، 7128) وصححه وتعقبه الذهبي في الموضع الثاني فقال: مسلم ترك ا. هـ. وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم، عن أنس، ومسلم الأعور يضعف، وهو مسلم بن كيسان الملائي تكلم فيه، وقد روى عنه شعبة، وسفيان ا. هـ قلت: مسلم متروك فالإسناد ضعيف جدا، لكن جاء معناه في أحاديث أخرى كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2112، 2125)

(2)

صحيح مسلم (2316)

(3)

صحيح البخاري (6247) ورواه مسلم أيضا (2168)

(4)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 67) رقم (12494) والبيهقي في شعب الإيمان (7844) من طريق عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ به وزاد في آخره: «

عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ» وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (14222) وقال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 158): وهذا إسناد ضعيف، ابن هرمز هذا ضعيف كما في التقريب ا. هـ وللحديث طريق أخرى يرويها مسلم الأعور عن سعيد بن جبير به دون الزيادة المذكورة. رواه ابن أبي الدنيا في التواضع والخمول (111) وأبو الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي (128، 615) -ومن طريقه البغوي في شرح السنة (2841) مختصرا وفي الشمائل بتمامه (384) - والبيهقي في شعب الإيمان (7843) ومسلم الأعور ضعيف جدا. وله شاهد من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيَلْبَسُ الصُّوفَ، وَيَعْتَقِلُ الشَّاةَ، وَيَأْتِي مُرَاعَاةَ الضَّيْفِ» . روله الحاكم في المستدرك على الصحيحين (204، 205) -وعنه البيهقي في السنن الكبرى (4188) وفي شعب الإيمان (5744) - ورواه البزار في المسند (3128) مختصرا بلفظ «أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الصُّوفَ، وَيَعْتَقِلُ الْعَنْزَ» وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ا. هـ وقال تلميذه البيهقي: كذا أخبرناه -يعني الحاكم- وهو بهذا الإسناد غير محفوظ ا. هـ وذكر البزار أن بعضهم رواه عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ا. هـ وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ط هجر (8/ 484): وهذا غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه، وإسناده جيد ا. هـ ونقل الألباني تصحيح الحاكم في السلسلة الصحيحة (5/ 159) ووافقه. وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (2154)

ص: 61

[50]

وَعَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، لَا ضَرْبَ وَلَا طَرْدَ وَلَا إِلَيْكَ» رَوَاهُمَا أَبُو الشَّيْخِ

(1)

.

[51]

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَطُّ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَبْتَسِمُ، وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهَكَ الْكَرَاهِيَةُ، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، وَمَا يُؤْمِنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ أَتَى الْعَذَابُ قَوْمًا، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ

(2)

[52]

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ - أَيْضًا - عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذًا شَدِيدًا، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.

(3)

.

[53]

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ»

(4)

[54]

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ: «كَانَ طَوِيلَ الصَّمْتِ، قَلِيلَ الضَّحِكِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ رُبَّمَا تَنَاشَدُوا عِنْدَهُ الشِّعْرَ، وَالشَّيْءَ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ»

(5)

.

[55]

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه، وَسَأَلَهَا الْأَسْوَدُ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي (118) وهو عند الترمذي (903)، والنسائي (3061)، وابن ماجه (3035)، وأحمد (15410، 15412) والدارمي (1942) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1125) وقال شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1/ 80): هو حديث صحيحٌ. وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلمًا أن يخرجاها، كما في (رقم 56) من الإلزامات ا. هـ

(2)

صحيح البخاري (4828، 4829) وصحيح مسلم (899/ 16)

(3)

صحيح البخاري (3149، 5809، 6088) وصحيح مسلم (1057)

(4)

صحيح مسلم (670، 2322)

(5)

رواه أبو داود الطيالسي (808) وأحمد (20810)

ص: 62

يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ»

(1)

.

[56]

وَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ رضي الله عنها هَلْ كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ فَقَالَتْ: «كَانَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ»

(2)

.

[57]

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ تِبَاعًا، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ»

(3)

.

[58]

وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «كُنَّا آلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِنَا الْهِلَالُ وَالْهِلَالُ، مَا نُوقِدُ بِنَارٍ لِطَعَامٍ، إِلَّا أَنَّهُ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ حَوْلَنَا أَهْلُ دُورٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَيَبْعَثُ أَهْلُ كُلِّ دَارٍ بِغَزِيرَةِ شَاتِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ

(4)

.

[59]

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: «مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَغِيفًا مُرَقَّقًا، حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا

(5)

بِعَيْنِهِ قَطُّ»

(6)

.

[60]

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ رضي الله عنه: «مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِوَانٍ

(7)

، وَلَا فِي

(1)

صحيح البخاري (676)

(2)

أخرجه أحمد (24749، 24903، 25341، 26194).

(3)

صحيح مسلم (2970) وهو في صحيح البخاري أيضا (5416، 6454)

(4)

صحيح البخاري (2567، 6459) وصحيح مسلم (2972) واللفظ المذكور للبيهقي في سننه (13312)

(5)

(سميطا) هي التي أزيل شعر جلدها بالماء الحار ثم شويت قال الحافظ في فتح الباري (9/ 531): الْمَسْمُوطُ الَّذِي أُزِيلَ شَعْرُهُ بِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ وَشُوِيَ بِجِلْدِهِ أَوْ يُطْبَخُ وَإِنَّمَا يُصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّغِيرِ السِّنِّ الطَّرِيِّ وَهُوَ مِنْ فِعْلِ الْمُتْرَفِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُبَادَرَةُ إِلَى ذَبْحِ مَا لَوْ بَقِيَ لَازْدَادَ ثَمَنُهُ وَثَانِيهُمَا أَنَّ الْمَسْلُوخَ يُنْتَفَعُ بِجِلْدِهِ فِي اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ وَالسَّمْطُ يُفْسِدُهُ ا. هـ

(6)

صحيح البخاري (5421، 5382، 6457)

(7)

قال في الفتح (1/ 115): قَوْله (خوان) بِكَسْر أَوله وضمه هُوَ الْمَائِدَة الْمعدة للْأَكْل ا. هـ

ص: 63

سُكُرُّجَةٍ

(1)

، وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ

(2)

». فَقِيلَ لَهُ: عَلَى مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: «عَلَى السُّفَرِ»

(3)

.

[61]

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: أَنَّهُ خَطَبَ وَذَكَرَ مَا فُتِحَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:«لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَلَوَّى يَوْمَهُ مِنَ الْجُوعِ مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ»

(4)

[62]

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخُبْزِ شَعِيرٍ، وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ

(5)

، وَلَقَدْ رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فَأَخَذَ لِأَهْلِهِ شَعِيرًا، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ:«مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَاعُ بُرٍّ وَلَا صَاعُ حَبٍّ، وَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ أَبْيَاتٍ»

(6)

.

[63]

وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَدَمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ»

(7)

.

[64]

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَمَّا ذَكَرَ اعْتِزَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ - قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خِزَانَتِهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَأَدْنَى إِلَيْهِ إِزَارَهُ وَجَلَسَ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ، وَقَلَّبْتُ عَيْنِي فِي بَيْتِهِ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ قَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ وَقَبْضَةٍ مِنْ قَرَظٍ نَحْوَ الصَّاعَيْنِ، وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقَةٌ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا لِيَ لَا أَبْكِي وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ،

(1)

قال في الفتح (9/ 532): قَوْلُهُ عَلَى سُكُرُّجَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ الثَّقِيلَةِ بَعْدَهَا جِيمٌ مَفْتُوحَةٌ

قَالَ بن مَكِّيٍّ وَهِيَ صِحَافٌ صِغَارٌ يُؤْكَلُ فِيهَا وَمِنْهَا الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ

قَالَ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَجَمَ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُهُ فِي الْكَوَامِيخِ وَالْجَوَارِشِ لِلتَّشَهِّي وَالْهَضْمِ

قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ تَرْكُهُ الْأَكْلَ فِي السُّكُرُّجَةِ إِمَّا لِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ تُصْنَعُ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ أَوِ اسْتِصْغَارًا لَهَا لِأَنَّ عَادَتَهُمُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ لِأَنَّهَا كَمَا تَقَدَّمَ كَانَتْ تُعَدُّ لِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبًا يَشْبَعُونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ بِالْهَضْمِ ا. هـ

(2)

المرقق: اللين الواسع.

(3)

صحيح البخاري (5386، 5415)

(4)

صحيح مسلم (2978) عن سماك بن حرب، قال: سمعت النعمان، يخطب قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: وذكره.

(5)

قَوْله إهالة سنخة بِكَسْر الْهمزَة الإهالة مَا يؤتدم بِهِ من الأدهان والسنخ الْمُتَغَيّر الرّيح.

(6)

صحيح البخاري (2069)

(7)

صحيح البخاري (6456) وهو في صحيح مسلم أيضا (2082)

ص: 64

وَهَذِهِ الْأَعَاجِمُ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ! فَقَالَ: «أَوَ فِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا» ، وَفِي رِوَايَةٍ:«أَوَ مَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا، وَلَنَا الْآخِرَةُ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ:«فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عز وجل» . قَالَ: فَقَلَتْ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.

(1)

[65]

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا»

(2)

[66]

وَرَوَى الطَّيَالِسِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: اضْطَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ الْحَصِيرُ بِجِلْدِهِ، فَجَعَلْتُ أَمْسَحُهُ عَنْهُ وَأَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا آذَنْتَنَا فَنَبْسُطَ لَكَ شَيْئًا يَقِيكَ مِنْهُ تَنَامُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ:«مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»

(3)

.

[67]

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنْ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ نَحْوَهُ.

(4)

[68]

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ:«حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ»

(5)

. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ - أَيْضًا - عَنْ أَنَسٍ فِيِ (كِتَابِ الْحَجِّ) فَقَالَ: «حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ»

(6)

.

(1)

صحيح مسلم (1489) والحديث رواه البخاري (2468) أيضا. واللفظ المذكور للبيهقي في «دلائل النبوة (1/ 335).

(2)

صحيح مسلم (1055) والحديث رواه البخاري (6460) أيضا.

(3)

مسند أبي داود الطيالسي (275) والحديث رواه الترمذي (2377) وابن ماجه (4109) وأحمد (3709) والحاكم (7859) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (438) بشاهده الآتي.

(4)

رواه الحاكم في المستدرك (7858) وابن حبان (6352) وأحمد (2744) وصححه الألباني لشاهده المتقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه. فانظر: الصحيحة (439).

(5)

الترمذي في الشمائل (341) ورواه ابن ماجه (2890) من طريق الربيع بن صبيح قال: حدثنا يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج على رحل رث وقطيفة، كنا نرى ثمنها أربعة دراهم، فلما استوت به راحلته قال:«لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ لَا سُمْعَةَ فِيهَا وَلَا رِيَاءَ» وإسناده ضعيف، وحسنه الألباني لشواهده كما في السلسلة الصحيحة (2617).

(6)

صحيح البخاري (1517).

ص: 65

[69]

وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَبِسَ خَشِنًا، وَأَكَلَ خَشِنًا، وَلَبِسَ الصُّوفَ، وَاحْتَذَى الْمَخْصُوفَ» . قِيلَ: لِلْحَسَنِ: مَا الْخَشِنُ؟ قَالَ: غَلِيظُ الشَّعِيرِ، مَا كَانَ يُسِيغُهُ إِلَّا بِجُرْعَةِ مَاءٍ.

(1)

ا. هـ

(2)

‌وصف الله لأنبيائه بمقام العبودية:

وكان أنبياء الله ورسله من أحسن الناس عبادةً وتحقيقًا للعبودية لله -جل وعلا- ولهذا وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا المقام العظيم وهو مقام العبودية في مواضع كثيرة من كتابه:

فقال سبحانه يصفه به في مقام الوحي: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم]. وبعض الناس يعتقد أن الوصف بالعبودية لله من أوصاف النقص. وليس كذلك بل إنه من أعظم أوصاف العبد؛ ولهذا نجد أنَّ الله سبحانه:

وصف نبيه في مقام الوحي بالعبودية، فقال:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} .

ووصفه بها في مقام إنزال الكتب: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان].

ووصفه بها في مقام الدعوة، فقال سبحانه:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)} [الجن].

وفي مقام الإسراء، فقال -جل وعلا-:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء].

فهذه العبودية التامة التي كان عليها أنبياء الله عليهم السلام.

وتصف لنا أمُّ المؤمنين عائشة، وكذا المغيرةُ بن شعبة رضي الله عنهما جانبًا من عبادته صلى الله عليه وسلم وقد رأوه يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقيل له في ذلك: يا رسول الله تفعل ذلك وقد غفر

(1)

المستدرك على الصحيحين (7925) ورواه ابن ماجه (3348، 3556). وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي فقال: لم يصح. وقال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 100): رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم كِلَاهُمَا من رِوَايَة يُوسُف بن أبي كثير وَهُوَ مَجْهُول عَنْ نوح بن ذكْوَان وَهُوَ واه ا. هـ وقال أيضا في (3/ 78): يُوسُف لَا يعرف ونوح بن ذكْوَان قَالَ أَبُو حَاتِم لَيْسَ بِشَيْء ا. هـ والحديث في ضعيف الترغيب والترهيب للألباني (1262، 1914)

(2)

انظر: «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية» (5/ 449 - 482).

ص: 66

الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال عليه الصلاة والسلام: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»

(1)

. فكان نبينا صلى الله عليه وسلم وكذا سائر الأنبياء من أعبد الناس وأكثرهم تعبُّدًا لله -جل وعلا-.

وأرشد صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إلى صيام نبي الله داود عليها السلام.

فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أُخبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومنَّ النهار، ولأقومنَّ الليل ما عشت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنْتَ الَّذِي تَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ» قلت: قد قلته. قال: «إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله. قال: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْن» قال: قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ» قلت: إني أطيق أفضل منه يا رسول الله، قال:«لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ»

(2)

.

‌الرسالة والنبوة مختصة بالرجال:

والأنبياء كانوا من الرجال وكانوا ذكورًا، وهذا الذي ذَهَبَ إليه كثير من أهل العلم؛ لأنَّ الله -جل وعلا- يقول:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7].

وذَكَرَ بعض العلماء ما يتعلق بنبوة مريم عليها السلام ونبوة غيرها من النساء والصحيح الذي عليه الجمهور -ونقل عليه الإجماع- أنه ليس في النساء نبيَّةٌ يُوحَى إليها

(3)

.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: بَلْ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ، كَمَا تَقُولُهُ: عَامَّةُ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ ذَكَرَ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِثْلُ: الْقَاضِيَيْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ

(1)

البخاري (1130)، (4836)، (6471) ومسلم (2819) عن المغيرة رضي الله عنه والبخاري (4837) ومسلم (2820) عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

البخاري (1976)، (3418)، ومسلم (1159).

(3)

انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 423)، الموسوعة العقدية - الدرر السنية (4/ 22، بترقيم الشاملة)

ص: 67

وَأَبِي يَعْلَى بْنِ أَبِي الْفَرَّاءِ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ وَغَيْرِهِمْ ا. هـ

(1)

فحواء وسارة وهاجر وأم موسى وآسيا ومريم عليهم السلام كانوا صدِّيقات؛ ومن أوضح الأدلة على ذلك أن الله وصف مريم بأنها صديقة في مقام الثناء عليها، فقال:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] فلو كان لها وصف النبوة وهو أعلى من الصِّدِّيقِيَّة لجاء الثناء عليها بذلك.

‌الوحي من خصائص الأنبياء والرسل:

ومن مسائل الإيمان بالأنبياء والرسل أن نؤمن بما اختص الله -جل وعلا- أنبياءه ورسله، ومن ذلك: الوحيُ، فلا يُوحى إلى أحد بعد الأنبياء والمرسلين. قال الله -جل وعلا-:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] فهو بشر صلى الله عليه وسلم لكن الله -جل وعلا- خصَّه كما خصَّ الأنبياء بأنه يُوحَى إليه صلى الله عليه وسلم.

‌الأنبياء والرسل تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم:

ومن خصائص الأنبياء أنهم «تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ، وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ» كما في حديث الإسراء والمعراج وفيه: «وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَائِمَةٌ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ»

(2)

وعَنْ عَطَاءٍ، مرفوعا:«إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ تَنَامُ أَعْيُنُنَا، وَلَا تَنَامُ قُلُوبُنَا»

(3)

‌الأنبياء والرسل يخيرون عند الموت:

ومن خصائصهم أن الله -جل وعلا- يُخيِّرهم عند الموت، كما في الصحيح عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» ، وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ

(1)

انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 349)

(2)

صحيح البخاري (3570) عن أنس رضي الله عنه.

(3)

الطبقات الكبرى ط دار صادر (1/ 171) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1705)

ص: 68

اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ

(1)

.

‌الأنبياء والرسل يقبرون حيث يموتون:

ولا يقبر نبي إلا حيثما يموت كما جاء بذلك الحديث الذي رواه الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مَا نَسِيتُهُ، قَالَ:«مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي المَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ» ، ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ

(2)

.

ولابن ماجه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُحْفَرُ لَهُ، فَقَالَ قَائِلُونَ: يُدْفَنُ فِي مَسْجِدِهِ، وَقَالَ قَائِلُونَ: يُدْفَنُ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ» قَالَ: فَرَفَعُوا فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ عَلَيْهِ، فَحَفَرُوا لَهُ، ثُمَّ دُفِنَ صلى الله عليه وسلم، وَسَطَ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ

(3)

. فدفن صلى الله عليه وسلم في موضع وفاته في حُجْرة أمِّنَا عائشة رضي الله عنها.

‌الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء:

ومن إكرام الله لأنبيائه أن الأرض لا تأكل أجسادهم كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ -جل وعلا- قَدْ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام»

(4)

.

‌الأنبياء أحياء في قبورهم:

وقال صلى الله عليه وسلم: «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ»

(5)

.

(1)

البخاري (4586)، ومسلم (2444)

(2)

سنن الترمذي (1018) وحسنه الألباني في أحكام الجنائز (ص: 137)

(3)

ابن ماجه (1628) وسنده ضعيف.

(4)

أخرجه أبو داود (1049، 1533) والنسائي (1373)، وابن ماجه (1138، 1705) عن أوس بن أوس رضي الله عنه. ورواه ابن ماجه (1636) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وانظر: صحيح الترغيب والترهيب (2/ 296 - 297)

(5)

مسند البزار (256) ومسند أبي يعلى (3425) عن أنس رضي الله عنه. وهو في السلسلة الصحيحة (621)

ص: 69

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتيتُ-وفي روايةٍ: مَرَرْتُ-عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرهِ»

(1)

.

‌الأنبياء في أعلى الدرجات عند الله:

والأنبياء في أعلى الدرجات عند الله سبحانه؛ ولهذا قال ربنا سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] فبدأ بهم؛ لأنهم في أرفع الدرجات ثم قال: {وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء]

(1)

مسلم (2375) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 70

‌المجلس الثاني عشر

(1)

العصمة للأنبياء:

الأنبياء والمرسلون عليهم السلام اختارهم الله -جل وعلا- على غيرهم من البشر، واصطفاهم وهو يصطفي من يشاء من خلقه -جل وعلا-. وخصَّهم الله بخصائص منها: أنهم معصومون. والأمة مجمعة على عصمة الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ من كبائر الذنوب وقبائح الأمور كالزنا والسرقة والمخادعة وعبادة الأصنام والسحر. وقد دلَّ الكتاب والسنة على أنَّ أنبياء الله ورسله بُرَآء مما افتراه عليهم اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكتاب الذين حصلت عندهم التحريفات.

‌تعريف العصمة:

قال العلماء: هي لطفٌ من الله تعالى يحمل النبي على فعل الخير، ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقًا للابتلاء.

‌من جوانب العصمة:

وذكر العلماء بعض الجوانب التي وقعت فيها العصمة من الله لأنبيائه فمنها:

‌العصمة في باب التبليغ ودعوى الرسالة:

وهذه العصمة هي التي عليها المناط؛ فبها يحصل المقصود من البعثة، فتبليغ شرع الله إلى الخلق هي مهمة الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهم الواسطة بين الله وبين خلقه الذين أُرسِلوا إليهم، فبطريقهم يهتدي البشر، فهم الذين يرشدونهم إلى دين الله؛ إذ هم المبلِّغون عن الله أمرَه ونهيَه وشرعَه؛ ولذلك أوجب الله العصمة لأنبيائه ورسله في هذا الجانب، فهم معصومون في باب البلاغ كما دلَّت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، يقول الله -جل وعلا- في حق نبينا صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم] فكلُّ ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحَّ، وثبت عنه فإنما هو وحيٌ من الله -جل وعلا-.

(1)

كان في يوم الأربعاء السادس من شهر رمضان 1441 هـ.

ص: 71

وكذلك يقول ربنا في كتابه الكريم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة].

‌العصمة في التبليغ من براهين صدق المرسلين:

فدلَّت الآيات على أن الله لا يؤيد من يكذب عليه، بل لا بُدَّ أن يُظهِر كذبه، وأن ينتقم منه؛ ولذلك فعند التأمل والتدبر في هذه المسألة نجدها: من أعظم معجزات ودلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فلا يُعقَل أن يخرج رجل يدعي النبوةَ قَبْلَ ألف وأربعمائة سنة ويخبر عن الله بأمور، ويؤمن به أناس ثم ينتشر دينه، ويتوسع، ويحارِب ويقتل من يقاتله، ويغنم ويسبي، ونحو ذلك، وينتشر عبر مئات السنين إلى هذا اليوم، ويكون مُبْطلًا كما يقول بعض الناس. فلو تأمل الناس في ذلك لعرفوا أن هذا دليل على صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أثبت الله -جل وعلا- عصمته لأنبيائه كما قال ربنا -جل وعلا-:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} [الإسراء] فهذه الآيات دالَّةٌ على عصمة ربنا -جل وعلا- لنبيه صلى الله عليه وسلم في تبليغ الوحي.

ولهذا كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يطلب العلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرِّغًا له، فقال رضي الله عنه: كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد أن أحفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كلَّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب والرضا. قال: فأمسكت عن الكتابة. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا حَقٌّ» أخرجه الإمام أحمد وأبو داود

(1)

.

(1)

صحيح رواه أحمد (6510) واللفظ له، وأبو داود (3646).

ص: 72

وفي حديثٍ لأبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: له بعض أصحابه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قال:«إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» أخرجه الإمام أحمد والترمذي

(1)

.

وقد أجمع العلماء وأجمعت الأمة على أن الأنبياء والمرسلين معصومون في تبليغهم عن ربِّ العالمين -جل وعلا-.

(2)

‌الأنبياء معصومون من الكفر والوقوع في الشرك:

كذلك الأنبياء معصومون من الكفر والوقوع في الشرك بالله -جل وعلا- وهم معصومون من ذلك قبل بعثتهم وإرسالهم، وبعد بعثتهم وإرسالهم. وقد جاءت نصوص كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك، وأجمع العلماء على عصمتهم من الشرك والكفر قبل النبوة وبعدها.

يقول الجرجاني رحمه الله: وأما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها ولا خلاف لأحد منهم في ذلك

(3)

.

ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة يتعبد الله -جل وعلا-: فما سَجَدَ لصنم قطُّ، ولا حلف بآلهتهم قطُّ، ولا دعا من دون الله -جل وعلا- أحدًا قطُّ، بل كان حنيفيًّا مؤمنًا صلوات الله وسلامه عليه.

(1)

رواه أحمد (8481)، والترمذي (1990).

(2)

قال شيخ الإسلام في «منهاج السنة النبوية» (3/ 372) ردا على الرافضي: مَا ذَكَرْتَهُ عَنِ الْجُمْهُورِ مِنْ نَفْيِ الْعِصْمَةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَجْوِيزِ الْكَذِبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فَهَذَا كَذِبٌ عَلَى الْجُمْهُورِ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّ مَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ اللَّهِ عز وجل مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَجِبُ طَاعَتُهُ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَجَبَ تَصْدِيقُهُمْ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ وَنَهَوْهُمْ عَنْهُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُمْ فِيهِ عِنْدَ جَمِيعِ فِرَقِ الْأُمَّةِ، إِلَّا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ لَا فِيمَا يَأْمُرُ هُوَ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ. وَهَؤُلَاءِ ضُلَّالٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ا. هـ وانظر: «الموسوعة العقدية - الدرر السنية» (4/ 32 بترقيم الشاملة) و «المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين (ص: 777).

(3)

شرح المواقف، دار الجيل (3/ 436).

ص: 73

‌توجيه بعض الآيات المشكلة في باب العصمة:

‌آية سورة الشورى:

وفي هذا الباب قد يذكر بعض الناس قول الله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] ما معنى هذه الآية؟ لمَّا قال الله لنبيه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} فهل يعني ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل بعثته على غير هدى؟ والجواب: أن معنى هذه الآية كما يقول الشوكاني رحمه الله: أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يعرف تفاصيل الشرائع، ولا يهتدي إلى معالمها، وخصَّ الإيمان؛ لأنه رأسها وأساسها

(1)

. فلما قال الله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} يعني ما كنت تدري تفاصيل الشريعة حتى بعثك الله -جل وعلا- بها.

‌آية سورة يوسف:

وكذلك قوله تعالى في سورة يوسف: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} ليس المقصود الغفلة التي هي الكفر والشرك ونحو ذلك، وإنما المقصود بذلك أنه ما كان يعرف قصة يوسف عليه الصلاة والسلام حتى أنبأه الله -جل وعلا- بها.

‌آية سورة الضحى:

وكذلك قول الله -جل وعلا- في سورة الضحى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} ما معنى كلمة ضالًّا هنا؟ ليس المقصود بها الضلال الذي هو ضد الهدى، وإنما فسَّرها العلماء هنا بأنه كان لا يعرف الوحي، ولا يعرف الشريعة بمعنى: وجدك الله -جل وعلا- في قوم على ضلالة، فهداهم الله -جل وعلا- بك كما ذكر ذلك بعض أهل التفسير. وقال بعضهم: أي: لم تكن تدري ما القرآن والشرائع، فهداك الله إلى القرآن وشرائع الإسلام؛ فهي مثل الآية المتقدمة {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} . ولهذا ذكر العلماء أن الأحاديث التي ورد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك المشركين في باطلهم أحاديث لا تصح

(2)

. والمتقرر -كما تقدم-: أن الأنبياء والمرسلين عليهم السلام كانوا معصومين من الكفر والشرك قبل النبوة وبعدها.

(1)

فتح القدير (4/ 624).

(2)

انظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/ 30)

ص: 74

‌الأنبياء معصومون من الكذب:

كذلك عصمهم الله -جل وعلا- من الكذب في غير الوحي والتبليغ فيما يبلغون عن الله، وعصمهم في حديث الدنيا كما ذكرنا، فهم معصومون من الكبائر، تقول أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي تصف النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي وخاف على نفسه:«فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ»

(1)

. فهذه صفاته وهذه خصاله قبل بعثته صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا لما وقف في أول بعثته عليه الصلاة والسلام إذ قيل له: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر] صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ:«يَا صَبَاحَاهْ» فقالوا: من هذا الذي يَهْتِفُ؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«يَا بَني فُلَانٍ يَا بَني فُلَانٍ يَا بَني فُلَانٍ يَا بَني عَبْدِ مَنَافٍ يَا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» فاجتمعوا إليه، فَقَالَ:«أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» . قَالُوا: ما جرَّبنا عليك كذبًا. قَالَ: «فَإِنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذَابٍ شَدِيدٍ»

(2)

وفي رواية قالوا: ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا

(3)

. فهذه شهادة منهم لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم أنطقهم الله بها بما يعلمون من حاله وخصاله. بل كان يوصف بالأمين والصادق قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، «فَإِنَّ قُرَيْشًا اخْتَلَفُوا فِي الْحَجَرِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَضَعُوهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالسُّيُوفِ، فَقَالوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ أَوَّلَ رَجُلٍ يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأَمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ رَضِينَا بِكَ، فَدَعَا بِثَوْبٍ فَبَسَطَهُ وَوَضَعَ الْحَجَرَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لِهَذَا الْبَطْنِ، وَلِهَذَا الْبَطْنِ - لِجَمِيعِ الْبُطُونِ مِنْ قُرَيْشٍ-: لِيَأْخُذْ كُلُّ بَطْنٍ مِنْكُمْ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، فَفَعَلُوا، ثُمَّ رَفَعُوهُ، وَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ بِيَدِهِ»

(4)

وفي حديث أبي سفيان رضي الله عنه مع هِرَقْل بعد أن

(1)

صحيح البخاري (4953)، ومسلم (160) عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

صحيح البخاري (4971)، ومسلم (208) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

عند البخاري (4770).

(4)

حسن صحيح، رواه أحمد في المسند (15504)، وابن أبي خيثمة في التاريخ مختصرا ومطولا (167، 497، 503، 1203)، والحاكم (1683) وصححه والسياق له وأبو نعيم في الدلائل (113) واختلف في اسم صحابيه فقيل عن السائب المخزومي رضي الله عنه. وقيل عبد الله بن السائب وقيل غير ذلك. وحسنه الألباني في صحيح السيرة (45) وله شاهد عند الطيالسي (115) وابن أبي شيبة (29084) والحاكم (1684) وصححه والبيهقي (9208) وغيرهم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإسناده حسن في الشواهد.

ص: 75

سمع كلامه وسأله قال: لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله

(1)

.

‌الأنبياء معصومون من الكبائر:

وكذلك الأنبياء معصومون من سائر الكبائر، ولا تقع منهم الأمور العظيمة الكبيرة، فلا يقع منهم الزنا، ولا شرب الخمر ولا غير ذلك؛ فقد عصمهم الله -جل وعلا- من هذه الأمور.

‌هل يقع فعل الصغائر من الأنبياء وهل يقع منهم الخطأ؟

لا بُدَّ أن نعلم أن أكثر العلماء رحمهم الله قد ذكروا أنه يقع الخطأ من الأنبياء مما هو دون الكبائر، فيقع الخطأ الذي لا يتعمَّدُونه منهم، لكن الله -جل وعلا- لا يُقِرُّهم على هذا الخطأ بل يوجههم للحق، وقد يحصل للأنبياء العتاب على ذلك. ثم إنَّ هذا الخطأ الذي يقع منهم، إنما هو على سبيل الاجتهاد، لا يتعمَّدُونه؛ ولهذا لا يقال عنه: إنه معصية. فهذه العبارة لا تطلق عليهم، وإنما يقصد من ذلك أن الله -جل وعلا- يعاتبهم ويغفر لهم، والتوبة حاصلة على خطئهم، ويقبل الله -جل وعلا- توبتهم كما حصل في قصة آبينا آدم عليها السلام؛ إذ قَبِلَ الله -جل وعلا- توبته واجتباه وهداه، ويكون في ذلك رفعةٌ لدرجاته عند الله.

‌بطلان القصص التي فيها ما يخالف عصمة الأنبياء:

فإذا عرفنا أن الأنبياء والمرسلين معصومون؛ فإن ما يوجد من القصص المنثورة عن بعض الأنبياء:

• كما يُذكر عن نبي الله هارون عليها السلام أنه عَبَدَ العجل مع بني إسرائيل

• أو أن إبراهيم خليل الرحمن عليها السلام قدَّم زوجه سارة إلى الجبَّار لينال الخير بسببها

• أو أنَّ لوطًا عليها السلام شرب الخمر وسكر.

• أو أن يعقوب عليها السلام سرق المواشي من حَمِيِّه وخرج بأهله خلسة،

• وكذلك ما يذكر في قصة داود عليها السلام من أنه زنا بزوجة رجل من قُوَّاد جيشه

• أو أنه دبَّر حيلةً لقتل الرجل.

فكلُّ هذه الأقوال لا تصح ولا تثبت. وبعضها مبثوث في كتب بني إسرائيل المحرَّفة،

(1)

البخاري (7) واللفظ له، ومسلم (1773) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 76

وتلقَّاها بعضُ الناس عنهم، وربما وُجِدَت في بعض التفاسير، فيجب على المسلم أن ينتبه لذلك، وأن يعلم يقينًا أنَّ الله -جل وعلا- قد عصم أنبياءه من ذلك.

‌هل يقع الخطأ من الأنبياء في أمور الدنيا؟

أما في الأمور الدنيوية فشأنهم كشأن البشر، وهذا لا يُنقصهم، وقد ثبت عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يعني: يلقحونه؛ فقال: «مَا تَصْنَعُونَ؟» قالوا: كنا نصنعه، يعني: نفعل هذا من أجل تنبيت الرطب، فقال:«لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا» فتركوه، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قال: فذكروا ذلك له. فقال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»

(1)

يعني: أصيب وأخطأ.

وجاء في حديث عَائِشَةَ، وَأَنَسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ:«لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ» قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ:«مَا لِنَخْلِكُمْ؟» قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ:«أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»

(2)

.

فمثل هذا -كما يقول القاضي عياض رحمه الله -: مثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها بعلم ديانةٍ، ولا اعتقادها، ولا تعليمها يجوز عليه فيه ما ذكرناه؛ إذ ليس في هذا كله نقيصةٌ ولا محطةٌ، وإنما هي أمور اعتياديَّة يعرفها من جرَّبها، وجعل همَّه شُغْلَ نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وسلم مشحونُ القلبِ بمعرفة الربوبية، ملآنُ الجوانحِ بعلوم الشريعة، مقيَّدُ البالِ بمصالح الأمة الدينية والدنيوية

(3)

إلخ.

‌تلخيص ما سبق:

حاصل هذا الباب: أن نعلم أن الله -جل وعلا- خصَّ الأنبياء والمرسلين بأنهم معصومون، فقد عصمهم الله -جل وعلا- من الوقوع في الكفر، ومن الوقوع في الشرك، ومن الخيانة، كما عصمهم في تبليغهم للدين والشريعة، فبلَّغوا دين الله. فنشهد: بأنَّ الأنبياء بلَّغُوا الرسالة، وأدَّوُا الأمانة بكل ما ائتمنهم الله -جل وعلا- عليه، وأنهم لم يقصِّروا في شيء من ذلك،

(1)

مسلم (2362).

(2)

مسلم (2363).

(3)

الشفا تعريف حقوق المصطفى-وحاشية الشمني (2/ 185).

ص: 77

ولكن الهداية بيد الله فاهتدى بهم من شاء اللهُ هدايته، وضلَّ من شاء اللهُ -جل وعلا- إضلاله بعدله وحكمته. وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء يأتون يوم القيامة، فيأتي بعضهم يوم القيامة، وليس معه إلا رجل واحد أي: لم يؤمن به إلا رجل واحد، ويأتي النبي وليس معه أحد

(1)

ولا يكون ذلك بسبب تقصير من النبي، بل النبي بلَّغ وأدى ما أمره الله -جل وعلا- به، ولكن هو فضل الله -جل وعلا- يؤتيه من يشاء، والهدايةُ بيد الله.

‌عصمة غير الأنبياء:

إذا عرفنا أنَّ من خصائص الأنبياء العصمة تبيَّنَ لنا أنَّ غير الأنبياء لا يقال بعصمتهم؛ فأهلُ السنة والجماعة لا ينسبون العصمة لغير الأنبياء والمرسلين حتى أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة رضي الله عنهم وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ليسوا بمعصومِين، وقد قال أبو بكر رضي الله عنه:«وُلِّيتُ أَمَرَكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَنَا أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ أَنَا أَسَأْتُ فَسَدِّدُونِي، فَإِنَّ لِي شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي فإذَا رَأَيْتُمُونِي غَضِبْتُ فَاجْتَنِبُونِي، لَا أُؤْثَرُ فِي أَجْسَادِكُمْ وَلَا أَبْشَارِكُمْ»

(2)

.

وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، فيقع الخطأ من غير الأنبياء المرسلين، «وكلٌّ» -كما قال الإمام مالك رحمه الله -:«وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر» -ويشير إلى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم

(3)

؛ وهذا القول مأثور أيضا: عن مجاهد التابعي الجليل رحمه الله قال: «لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا وَهُوَ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

(1)

البخاري (5752)، ومسلم (220) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

الزهد لأبي داود (31) وسنده جيد. ورواه معمر في الجامع (8597) وأبو عبيد في الأموال (8، 9) والطبراني في الأوسط (8597) والبيهقي (13009) من طرق.

(3)

ذكره عن الإمام مالك جماعة من العلماء منهم الحافظ أبو شامة (ت: 665 هـ) في خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (136) وشيخ الإسلام (ت: 728 هـ) في الإخنائية (441) والذهبي في كثير من كتبه منها سير أعلام النبلاء (15/ 95) وزغل العلم (33) والحافظ ابن كثير في التفسير (1/ 54) وغيرهم.

(4)

رواه البخاري في رفع اليدين (31) وأبو نعيم في الحلية (3/ 300) وابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (6/ 145) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1763 و 1764 و 1765) والبيهقي في المدخل (30) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 441)

ص: 78

وعن الحكم بن عتيبة والشعبي

(1)

نحوه.

وفي معجم الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، رَفَعَهُ قَالَ:«لَيْسَ أَحَدٌ إِلا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُودَعُ، غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»

(2)

ومن الفتن التي حصلت في الأمة ادعاءُ العصمة لغير الأنبياء: وقد وقع لهذا في التاريخ الإسلامي صورٌ كثيرة، فمن ذلك:

• ما ادَّعته بعض الفرق الضالة من عصمة أئمتهم كما ادُّعِيَ عصمة المعز الفاطمي العبيدي، فأتباع المعز الذي يسميه بعض الناس المعز لدين الله الفاطمي ادَّعَوا أنه معصوم، قالوا: هو معصوم هو وأولاده عن الذنوب والخطأ. وهذه الدولة التي قامت في القرن الرابع هي الدولة العبيدية، وتنسب نفسها إلى الفاطمية زورًا وبهتانًا، وقد ارتكبت العظائم، والقبائح، والكفر الواضح البيِّن، وهذا من البلاء الذي وقع في الأمة

(3)

.

• كذلك ما يوجد عند بعض الفرق من ادعاء عصمة الأئمة، وأنهم مثل الأنبياء، بل ويبالغ بعضهم، فيقول: إنهم أفضل أو أعلى درجة من الأنبياء والمرسلين!! -نعوذ بالله من الضلال-؛ فلا يوجد أحد معصوم غير الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم.

‌فتنة التعصب المذهبي:

• وكذلك من البلاء الذي حصل ادعاءُ بعض الناس عصمةَ الأئمة الفقهاء: كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فتجدهم يدَّعُون أن ما قالوه وما ثبت عنهم فهم

(1)

المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي معلقا (31).

(2)

المعجم الكبير (11/ 339) رقم (11941) - ومن طريقه رواه أبو الحسين بن النعالي البوشنجي في حديثه (27) - وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 179): رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون ا. هـ وعلقه البخاري في القراءة خلف الإمام وعنه البيهقي في القراءة خلف الإمام أيضا (ص: 213) عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا ونسبه إلى ابن عباس رضي الله عنهم: أبو طالب المكي في قوت القلوب (1/ 274) وعزاه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة (ص: 166) إلى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد من طريق عكرمة عن ابن عباس موقوفا.

(3)

انظر: منهاج السنة النبوية (4/ 519) وتاريخ الإسلام ت بشار (8/ 247، و 399 و 602 و 9/ 198)

ص: 79

مصيبون فيه؛ ولذلك فإنهم يعملون بقول إمامهم حتى وإن خالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا حصلت فتن كثيرة وانجرف كثير من الناس في مخالفة السنة والبُعْد عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بسبب أنهم يعملون على ادَّعاء العصمة لأئمتهم ولعلمائهم؛ فلا يرون منهم إلا حقًّا، ولا يرون إلا أن قولهم هو الصواب حتى إن بعضهم تُعرَضُ عليه الآية ويُعرَضُ عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيترك كل هذا، ويدَّعي أن ما جاء عن الإمام حقٌّ وصواب. بل قال بعضهم:

فإن كان الحديث موافقا لهم - يعني لمذهب من ينتسب إليهم- فبها؛ وإلا فذكرت مُسْتَدَلَّهُم والجواب عن الحديث وتوجيهه ا. هـ

(1)

يعني يجعل كلام من يتبع مذهبهم هو الأصل ثم يجيب عن الحديث وكان الواجب أن يجعل الحديث هو الميزان لأن الله -جل وعلا- أمرنا عند الاختلاف والتنازع بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].

‌دراسة المذاهب:

ولا مانع من أن يتفقه المؤمن على مذهب أبي حنيفة أو مالك أو مذهب الشافعي أو أحمد أو غيرهم من الأئمة، فهذه طريقة مسلوكة عند العلماء، ومن فوائدها: أنها تعين الطالب على حصر مسائل الفقه في كل باب، ومعرفة ترتيب الأبواب ترتيبا تفهم به المسائل الفقهية عموما. فهو بهذا طريقةٌ للتفقه لا غاية، ووسيلة لفهم النصوص وليس دينا بديلا عنها. وإنما عاب العلماء التعصب لغير الدليل، والتمسك بالمذهب بعد وضوح مخالفته للكتاب والسنة. كما عابوا من أراد فهم النصوص بعيدا عن فقه الأئمة أو رام العمل بالأدلة بمعزل عن فهمهم وحذروا من الطعن فيهم واعتقاد تعمد مخالفتهم للحق والهدى. قال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته:«وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ؛ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ، لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ»

(2)

وعلى هذا الطريق الوسط يسير طالب العلم في دراسة السنة دراسة مؤسسة على قواعد أهل العلم المتينة متفرعة من

(1)

مقدمة بذل المجهود شرح سنن أبي داود (159)

(2)

متن الطحاوية بتعليق الألباني (ص: 82)

ص: 80

فروع شجرة علمهم الباسقة فمن علمهم يستفيد ومن معين فقههم يتفقه وعلى دربهم يسير.

‌وجوب اتباع السنة:

ومن تبيَّن له الحق في غير مذهبه لم يجز له أن يدعه لقول أحد من الناس. وبهذا أوصانا الأئمة العلماء ومن ذلك:

قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله: «إذا قُلْتُ قَولاً يُخالفُ كتابَ اللهِ تَعالَى وخبر الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم فاتْركوا قَولِي»

(1)

وقال الإمام مالك رحمه الله: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أُخْطِئُ وَأُصِيبُ فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي فَكُلَّمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ وَكُلَّمَا لَمْ يُوَافِقِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاتْرُكُوهُ»

(2)

وقال الإمام الشافعي رحمه الله: «مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَعْزُبُ عَنْهُ، فَمَهْمَا قُلْت مِنْ قَوْلٍ أَوْ أَصَّلْت مِنْ أَصْلٍ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خِلَافَ مَا قُلْت فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قَوْلِي»

(3)

وكان رحمه الله يقول: «إذا صح الحديث فهو مذهبي»

(4)

وقال أيضًا: «إذا صحَّ الحديث عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فهو أولَى أن يؤخذَ به مِنْ غَيرِه»

(5)

وقد كره الإمام أحمد رحمه الله أن تكتب فتاويه، وكان يقول:«لا تكتبوا عني شيئًا، ولا تقلِّدُوني، ولا تقلدوا فلانًا وفلانًا، وخذوا من حيث أخذوا»

(6)

.

(1)

إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار للفلاني (ص: 62)

(2)

جامع بيان العلم وفضله (1435)

(3)

المدخل إلى علم السنن ت عوامة (1/ 6) رقم (2) ومناقب الشافعي (1/ 475) كلاهما للبيهقي ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (51/ 389)

(4)

انظر: الخلافيات للبيهقي ت النحال (6/ 179) رقم (4253) بنحوه. نهاية المطلب في دراية المذهب (1/ 165)، والتهذيب في فقه الإمام الشافعي للبغوي (1/ 67). والمجموع شرح المهذب (1/ 92) للنووي، وانظر: رسالة: معنى قول المطلبي: إذا صَحَّ الحديث فهو مذهبي: للإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي ت 756 هـ

(5)

حلية الأولياء (9/ 107).

(6)

مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لأبي شامة المقدسي (ص: 61).

ص: 81

وقال أيضاً: «لا تقلدني ولا تقلدْ مالكاً ولا الشافعيَّ ولا الأوزاعيَّ ولا الثوريَّ وخذْ من حيثُ أخذوا»

(1)

وقال رحمه الله: «رَأْيُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَرَأْيُ مَالِكٍ، وَرَأْيُ سُفْيَانَ كُلُّهُ رَأَيٌ، وَهُوَ عِنْدِي سَوَاءٌ وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي الْآثَارِ»

(2)

وقال رحمه الله: «مَنْ رَدَّ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ»

(3)

فهذه الكلمات تدل على تقواهم لله وإخلاصهم وصدقهم مع الله تعالى وعظيم نصحهم للأمة وإنصافهم للدين والسنة.

وتأمل وصف الحافظ الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله للسلف في القرون المفضلة إذ قال: وَكَانَ دِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَجَلَّ فِي صُدُورِهِمْ، وَأَعْظَمَ فِي نُفُوسِهِمْ، مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهِ رَأْيًا أَوْ مَعْقُولًا أَوْ تَقْلِيدًا أَوْ قِيَاسًا، فَطَارَ لَهُمْ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ فِي الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، ثُمَّ سَارَ عَلَى آثَارِهِمْ الرَّعِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَدَرَجَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ الْمُوَفَّقُونَ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ، زَاهِدِينَ فِي التَّعَصُّبِ لِلرِّجَالِ، وَاقِفِينَ مَعَ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، يَسِيرُونَ مَعَ الْحَقِّ أَيْنَ سَارَتْ رَكَائِبُهُ، وَيَسْتَقِلُّونَ مَعَ الصَّوَابِ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ، إذَا بَدَا لَهُمْ الدَّلِيلُ بِأُخْذَتِهِ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا، وَإِذَا دَعَاهُمْ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إلَى أَمْرٍ انْتَدَبُوا إلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا قَالَ بُرْهَانًا، وَنُصُوصُهُ أَجَلُّ فِي صُدُورِهِمْ وَأَعْظَمُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، أَوْ يُعَارِضُوهَا بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ ا. هـ

ثم تحدث عن حال المتعصبة فقال: ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ؛ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا، وَكُلٌّ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ،

(1)

مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لأبي شامة (ص: 61) إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (3/ 469)

(2)

جامع بيان العلم وفضله (2107)

(3)

الإبانة الكبرى لابن بطة (97)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (733)، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 289).

ص: 82

جَعَلُوا التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ دِيَانَتَهُمْ الَّتِي بِهَا يَدِينُونَ، ورُؤُوس أَمْوَالِهِمْ الَّتِي بِهَا يَتَّجِرُونَ، وَآخَرُونَ مِنْهُمْ قَنَعُوا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ وَقَالُوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف]، وَالْفَرِيقَانِ بِمَعْزِلٍ عَمَّا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ مِنْ الصَّوَابِ، وَلِسَانُ الْحَقِّ يَتْلُو عَلَيْهِمْ:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123]. قَالَ الشَّافِعِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ: «أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ»

(1)

. وقَالَ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: «أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ»

(2)

، وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ رحمه الله، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ عَنْ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا بِدُونِ الدَّلِيلِ فَإِنَّمَا هُوَ تَقْلِيدٌ، فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ إخْرَاجَ الْمُتَعَصِّبِ بِالْهَوَى وَالْمُقَلِّدِ الْأَعْمَى عَنْ زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ،

وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ وَرَثَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَجْهَدُ وَيَكْدَحُ فِي رَدِّ مَا جَاءَ بِهِ إلَى قَوْلِ مُقَلِّدِهِ وَمَتْبُوعِهِ، وَيُضَيِّعُ سَاعَاتِ عُمْرِهِ فِي التَّعَصُّبِ وَالْهَوَى وَلَا يَشْعُرُ بِتَضْيِيعِهِ

إلخ

(3)

وقال ابن الجزري رحمه الله في منظومته "الهداية في علم الرواية":

والحذَرَ الحذَرَ من تَعَصُّبِ

وأنْ تَرُدَّ سنةً بمَذْهَبِ

وعلى هذا كان الأئمة من السلف الذين كانت لهم كلمات نيرة في دعوة الناس إلى اتباع السنة وعدم التعصب لأحد من الأمة، وهذا هو النهج الذي يجب أن يسير عليه المسلمون.

(1)

قال محقق كتاب «الروح - لابن القيم» (2/ 735 ط عطاءات العلم): بهذا اللفظ ذكره المصنف في إعلام الموقعين (2/ 282) ومدارج السالكين (2/ 335) والرسالة التبوكية (40). وكذا نقله الفلاني في إيقاظ الهمم (58) ولعل مصدره كتب ابن القيم. وقال الشافعي في الأم (7/ 259): «ولا يجوز لعالمٍ أن يدع قول النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحدٍ سواه» . ونحوه في (1/ 151). وانظر رسالته (330) ا. هـ

(2)

انظر: جامع بيان العلم وفضله» (2/ 993).

(3)

إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (2/ 10 - 12)

ص: 83

‌المجلس الثالث عشر

(1)

المعجزات والآيات البينات للرسل والأنبياء:

اختصَّ الله -تعالى- الأنبياء والمرسلين بالآيات البينات والأمور المعجزات؛ فإن الله بعث أنبياءه ورسله إلى الناس يدعونهم إلى التقوى وإلى التوحيد وإفراد الله -جل وعلا- بالعبادة، وقالوا للناس كما أخبر الله عن نوح وغيره من الأنبياء أنه قال لقومه:{أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)} [الشعراء]. وبهذا خاطب رسلُ الله: هودٌ وصالحٌ وشعيبٌ ولوطٌ وغيرُهم من الأنبياء عليهم السلام أقوامَهم بإخبارهم أنهم رسلٌ من عند الله. وقد جعل الله -جل وعلا- للأنبياء والرسل آياتٍ بيَّنات تدُلُّ على صدقهم كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] يعني: بالدلائل والبينات التي تدل على صدقهم.

ويُسمِّي العلماء هذه الآيات بالمعجزات، ويُسمِّيها بعضُ أهل العلم بالآيات، وتَسْمِيَتُها بالآيات هو الذي جرى عليه كثيرٌ من السلف؛ فإنهم لم يكونوا يُفرِّقون في التعريف بين الآيات والمعجزات.

‌تعريف المعجزة:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: اسم المعجزة يعُمُّ كلَّ خارق للعادة في اللغة وعرفِ الأئمة المتقدمين: كالإمام أحمد بن حنبل وغيرهم -ويسمونها الآيات- لكن كثيرًا من المتأخرين يُفرِّق في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي والكرامة للولي، وجماعهما الأمر الخارق للعادة

(2)

.

فهذا النص لشيخ الإسلام رحمه الله يذكر فيه أن السلف -رحمهم الله تعالى- لم يكونوا يُفرِّقون بين الآية والمعجزة والكرامة وغير ذلك، وإنما كانوا يُسمُّون الجميع بالآية،

(1)

كان في يوم الخميس السابع من شهر رمضان 1441 هـ.

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 312، 311).

ص: 84

فيقولون هذه آيات على صدق النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنهم أدرجوا الكرامات ضمن الآيات البينات. فنجد أنَّ الإمام عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله يترجم في كتابه المصنف بقوله: (باب ما يُعجَّل لأهل اليقين من الآيات) ثم يسوق فيه عددًا من الكرامات

(1)

. وكذلك شيخ المحدثين وجبل الحفظ في الحديث الإمام البخاري في صحيحه يقول: (باب علامات النبوة في الإسلام)

(2)

ثم يذكر أحاديث تضمَّنت دلائلَ النبوة كحديث نبع الماء بين أصابعه صلى الله عليه وسلم

(3)

ويسوق مع ذلك أشياء وقعت لبعض الصحابة ولبعض الأولياء -رضوان الله تعالى عليهم- مما يدل على:

• عدم تفريق السلف بين الآية النبوية والكرامة من حيث التسمية.

• كما يدل على أمر آخر، وهو أنهم يُسمُّون المعجزات بالآيات، وهذه التسمية هي التي جاء بها القرآن الكريم كما تقدَّم معنا في قول الله:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} يعني: بالآيات والدلائل البيِّنة.

‌الفرق بين المعجزة والآية والكرامة:

إذا عرفنا هذا فما هو الفرق عند العلماء -خاصة المتأخرين- بين: ما يسمى بالمعجزة أو الآية وبين ما يكون من الكرامات وبين ما يكون من الخوارق أو الأحوال الشيطانية التي تقع لبعض هؤلاء المفسدين كالسحرة وغيرهم؟

لا شكَّ ولا ريب أنَّ هناك فرقًا بين ما يعطيه الله -جل وعلا- لأنبيائه ورسله وبين ما يقع للأولياء من الكرامات وبين ما يكون للسَّحرة والمشعوذين وغيرهم.

إذًا هناك ثلاثة أمور:

• الأول: آيات الأنبياء وهي معجزات،

• والثاني: كرامات الأولياء،

• والثالث: ما هو من الأحوال الشيطانية والسحر والشعوذة.

(1)

مصنف عبد الرزاق الصنعاني (11/ 280).

(2)

صحيح البخاري (4/ 222).

(3)

عند البخاري (3572) من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ وَهْوَ بِالزَّوْرَاءِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ. قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَلَاثَمِئَةٍ، أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِمِئَةٍ.

ص: 85

فالعلماء المتقدمون رحمهم الله كما ذكرنا يجمعون بين المعجزة أو بين آيات الأنبياء وبين كرامات الأولياء في سياق واحد وفي كلام واحد، لكنهم يميزون بين الكرامة والمعجزة، ويُفرِّقون بينهما بجملة من الفروق، نذكر منها ما تيسَّر من كلام العلماء.

يقول العلماء رحمهم الله في الفرق بين الكرامة والمعجزة:

• إن الكرامة تابعة للمعجزة.

وذلك أنَّ المعجزة للأنبياء، فالمعجزة أو الآية التي تقع للأنبياء والمرسلين تدل على صدقهم وعلى إيمانهم، وهي مستقلة بذاتها، أما كرامة الولي فإنها تابعة لآيات الأنبياء.

وبَحَث بعضُ العلماء الجوانبَ التي يُفرَّق بها بين الآيات والمعجزات وبين الكرامات في جملة من النقاط نوجزها فيما يأتي:

• النقطة الأولى: أنَّ آيات الأنبياء المرتبطة بالنبوة لا يمكن أن تقع لغير نبي، وذلك: كنزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه آية عظيمة، بل هو أعظم آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا يمكن أن يُؤتَى مثلَها وليٌّ من باب الكرامة. وهذا فرق بين الكرامة وبين المعجزة أو الآية. ومن الأمور التي لا يمكن أن تقع للأولياء: الإخبارُ عن أمور الغيب مفصَّلةً على وجه الصدق كما يقع للأنبياء، فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم من آياته أنه يخبر عن أمور غيبية مفصَّلة، فتقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام، كما أخبر بخروج نار من الحجاز تضيء لها أعناق الإبل بِبُصرى

(1)

ونحو ذلك فهذه لا يقدر عليها أحد لا بكرامة ولا بسحر ولا نحوه، وكما ذكرنا فإنَّ كرامة الولي تابعة، وآيات النبي متبوعة، فآية النبي دليلٌ مستقلٌّ على نبوته، أما كرامة الولي في أيِّ أمة من الأمم فإنها تابعةٌ لنبي تلك الأمة.

• ومن الفوارق أيضًا: أنَّ كرامة الأولياء والصالحين ليست خارقة لعادة الصالحين بل هي معتادة في الصالحين من أهل الملل، فقد تقع لهذا وقد تكون وقعت لغيره من صالحي الأمم السابقة، أما آيات الأنبياء التي يختصون بها فإنها خارقة لعادة الصالحين. ولهذا قال السفاريني رحمه الله في تعريف الكرامة وتمييزها عن المعجزة: هي أمر خارق للعادة (وتشترك في هذا الأمر مع المعجزة) ثم قال: غير مقرون بدعوى النبوة ولا

ص: 86

هو مقدمة، يظهر على عبدٍ ظاهرِ الصلاح، ملتزمٍ بمتابعة نبيٍّ كُلِّف بشريعته (وهذا القيد يَخرُج به ما يقع للسحرة والمشعوذين وغيرهم؛ فمِن علامات الكرامة صلاحُ صاحبِها بأن يكون على خير وعلى صلاة وعلى هدى) ثم قال: مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح، عَلِمَ بها ذلك العبدُ الصالح أو لم يعلم

(1)

.

وفي هذا إشارة إلى أنَّ الكرامة لا يشترط فيها أن يطلبها الولي، ولا يشترط أن يعلم بها، فربما عَلِمَ بها وربما لم يَعْلَم كما حصل لأصحاب الكهف؛ فإنهم ناموا كما قال تعالى:{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)} [الكهف] ناموا ثلاثمائة وتسع سنين ولم يكونوا يعلمون ما وقع لهم.

ويقول العلامة حافظ الحكمي رحمه الله في تعريف الكرامة وتمييزها عن المعجزة: ظهور الأمر الخارق على أيديهم الذي لا صُنْعَ لهم فيه، ولم يكن بطريق التحدي، بل يُجريه اللهُ على أيديهم، وإن لم يعلموا به كقصة أصحاب الكهف

(2)

.

وقد نبَّهْنا من قبلُ أنَّ العلماء قديمًا كانوا يجمعون في التعريف بين المعجزة والكرامة في سياق واحد، لكنَّ هذا التفريق فيه تمييز، وقد جرى عليه كثيرٌ من المتأخرين.

• ومما ذكره العلماء في التفريق بينهما أنَّ الآثار المترتِّبة على الآيات والمعجزات كبيرةٌ جدًّا، فمن أهمها إقامةُ الحجة على نبوة من أيَّده الله بها، فمن كذَّب بعد رؤية الآية فإنَّ الله يهلكه كما قال تعالى:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} أي: نبعث الآيات، ونأتي بها على ما سأل قومك منك، فإنه سَهْلٌ علينا، يسيرٌ لدينا، {إِلَّا} أنه قد {كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} بعد أن سألونا، وجَرَت سنَّتُنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يُؤخَّرُون إن كذَّبوا بها بعد نزولها

(3)

.

هذا ما يترتَّب على نزول الآية على النبي. وأما الكرامة فلا تصل إلى شيء من هذا بلا شكٍّ كما هو معلوم.

(1)

لوامع الأنوار البهية (2/ 392).

(2)

أعلام السنة المنشورة (ص: 137).

(3)

تفسير ابن كثير (5/ 91).

ص: 87

* ثم إن الكرامات ينالها عبادُ الله الصالحون بأفعالهم كعبادتهم، ودعائهم، وتضرعهم إلى الله سبحانه. أما آيات الأنبياء فلا تحصل بشيء من ذلك؛ فإنَّ النبوة اصطفاءٌ واختيارٌ مِنْ الله وليست كسبًا، وإنما يصطفي بها اللهُ -جل وعلا- مَنْ شاء مِنْ عباده، فكلُّ الأنبياء قد اختارهم الله وفضَّلهم على العالمين، وسنتحدث عن ذلك-إن شاء الله-في تفضيل الأنبياء.

‌الأحوال الشيطانية:

أما ما يتعلق بالفرق بين الكرامات والآيات والمعجزات من جهة وبين ما هو من الأحوال الشيطانية؛ إذ إنَّ هناك أمورًا شيطانية يستغِلُّها بعض السحرة والكُهَّان، فيُظهِرونها للناس، ويدَّعُون بذلك أنهم من أولياء الله الصالحين، فينبغي أوَّلًا أن نعرف:

‌من هو الوليُّ؟

والجواب: أنَّ الولي قد جاء تعريفه في كتاب الله يقول ربُّنا -جل وعلا-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس] فالآية واضحة الدلالة. يقول ابن كثير: يخبر-تعالى-أنَّ أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتَّقون. فكلُّ من كان تقيًّا كان لله وليًّا

(1)

. فالولاية -إذًا- لها ركنان: الإيمان والتقوى. قال الشوكاني رحمه الله: والمراد بأولياء الله خُلَّص المؤمنين كأنهم قَرُبوا من الله -سبحانه- بطاعته واجتناب معصيته، وقد فسَّر سبحانه هؤلاء الأولياءَ بقوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس]

(2)

.

قال العلماء: وأولياء الله: منهم السابقون المقرَّبون، ومنهم أصحاب يمينٍ مقتصدون، ذَكَرَهم الله في مواضع من كتابه، منها قوله تعالى:{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة]. فالمؤمن الذي آمن واتقى بفعل ما أمر الله واجتناب ما نهى الله -جل وعلا- عنه، فهذا هو المقتصد. ثم من زاد على ذلك بفعل النوافل والتقرُّب إلى الله -جل وعلا- حتى بلغ أعلى من ذلك، فهو من المقربين السابقين {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 278).

(2)

فتح القدير (2/ 519).

ص: 88

فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} [الواقعة] فهؤلاء هم أولياء الله المؤمنون المتقون، والولاية-كما تقدم-هي اجتماع الإيمان والتقوى. فإذا عرفت ذلك تبيَّن لك أن ما يقع على أيدي السحرة والكُهَّان إنما هو دجل وكذب لا يمكن أن يختلط على مؤمنٍ آمن بالله وعرف شريعة الله.

‌الفرق بين الآيات والأحوال الشيطانية:

ومع هذا فالعلماء يقولون كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه النبوات في ذكر الفرق بين معجزات الأنبياء والخوارق التي تحدث على أيدي السحرة والكُهَّان قال: من ذلك أن النَّبيَّ صادقٌ فيما يخبر به عن الكتب، لا يكذب قطُّ، ومن خالفهم من السحرة والكُهَّان لا بُدَّ أن يكذب كما قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} [الشعراء]. (إذًا هذه علامة تدل على الفرق بين الولي وبين الكذَّاب الساحر؛ فأولياءُ الله لا يكذبون، والأنبياء لا يكذبون، وأما السحرة والكُهَّان فيبنون أمورهم على الكذب). ثم ذكر: الأمر الثاني وهو: أن الأنبياء لا يأمرون إلا بالعدل وطلب الآخرة وعبادة الله وحده، وأعمالُهم البرُّ والتقوى، وأما هؤلاء فإنهم يأمرون بالشرك والظلم، ويُعظِّمون الدنيا، وفي أعمالهم الإثم والعدوان

(1)

.

ولهذا تجد هؤلاء يأمرون بالذبح لغير الله، ويأمرون بترك الطاعات، ويأمرون بترك الصلاة وبإهانة المصحف وغير ذلك.

الأمر الثالث: الكهانة والسحر ينالهما الإنسان بتعلمه وسعيه واكتسابه، وهذا مجرَّب عند الناس، بخلاف النبوة؛ فلا ينالها أحدٌ باكتسابه. كما قال ربنا -جل وعلا-:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] إلى غير ذلك من الأمور التي يُفرَّق بها بين المعجزة والكرامة من جهة وبين هذه الأشياء التي تجري على يد الكُهَّان ونحوهم.

(1)

النبوات (1/ 558).

ص: 89

‌أعظم كرامة للمؤمن:

وأعظم كرامة للمؤمن هي استقامته على طاعة الله -جل وعلا- ولهذا يقول العلماء: لا يُشترَط في المؤمن الولي من أولياء أن تحصل له كرامة أو أن تقع له كرامة، وإنما الواجب على المؤمن أن يسعى للاستقامة على طاعة الله لا أن يسعى بحثًا عن الكرامة.

‌لا يشترط حصول الكرامة للولي:

وقد يقول بعض الناس في أنفسهم: لماذا لا تحصل لي أنا كرامة من الكرامات؟! فنقول: هذا ليس بلازم. فالأمر اللازم والواجب هو الاستقامة على دين الله -جل وعلا-. وفي هذا يقول بعض أهل العلم كما ينقل شيخ الإسلام وغيره أن العلماء من أئمة الدين متَّفِقون على أنَّ الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يثبت له ولاية بل ولا إسلام حتى يُنظَر وقوفُه عند الأمر والنهي الذي بَعَثَ اللهُ به رسولَه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقد اشتهر عن الشافعي رحمه الله أنه لما قيل له: إنَّ الليث بن سعد - وهو إمام أهل مصر في زمانه- يقول: لَوْ رَأَيْتَهُ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، -يَعْنِي: صَاحِبَ الْكَلامِ- لا تَثِقْ بِهِ أَوْ لا تَغْتَرَّ بِهِ، وَلا تُكَلِّمْهُ فقال الشافعي: فَإِنَّهُ وَاللَّهِ قَدْ قَصَّرَ إِنْ رَأَيْتَهُ يَمْشِي فِي الْهَوَاءِ، فَلا تَرْكَنْ إِلَيْهِ

(2)

. وهذا يدل على عِظَمِ هذا الأمر، وأنَّ الواجب هو الاستقامة على دين الله -جل وعلا-.

يقول العلامة ابن كثير: لا بُدَّ من اختبار صاحب الحال بالكتاب والسنة، فمن وافق حاله الكتاب والسنة، فهو رجل صالح سواء كاشف أم لا، ومن لم يوافق فليس برجل صالح سواء كاشف أم لا

(3)

.

والعامة اليوم يغترون بكثير من هؤلاء، -نسأل الله السلامة والعافية-.

إذًا الواجب على المؤمن والذي ينبغي أن يسعى إليه هو استقامته على طاعة الله -جل وعلا- وحرصُه على أن يكون موافقًا لسنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

(1)

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص: 79، 78).

(2)

رواه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه (ص: 141) - ومن طريقه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 164)، والهروي في أحاديث في ذم الكلام وأهله (ص: 94) - وابن بطة في الإبانة الكبرى (662) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 116) والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 453).

(3)

البداية والنهاية (17/ 390).

ص: 90

‌ذكر بعض معجزات الأنبياء:

إذا عرفنا ذلك فإنَّ الله-سبحانه-قد أيَّد أنبياءه ورسله بمعجزات كثيرة، وقد جاء في القرآن بيانُ شيءٍ من ذلك.

قال أبو القاسم إسماعيل التيمي الأصبهاني، الملقب بقوام السنة (ت: 535 هـ):

قَالَ الْعلمَاء: لم يبْعَث الله -جل وعلا- نَبيا إِلَّا وَمَعَهُ معْجزَة تدل عَلَى صدق قَوْله من جنس مَا قومُه عَلَيْهِ: فعيسى صلى الله عليه وسلم بُعث فِي زمَان الْحُكَمَاء والأطباء، وَكَانَت معجزته إِبْرَاء الأكمه، والأبرص وإحياء، الْمَوْتَى. فَلَمَّا عجزوا عَنْ هَذِهِ الْحِكْمَة مَعَ كَونهم حكماء، استدلوا عَلَى أَنه رَسُول الله، وَكَذَلِكَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم بُعث فِي زمَان السَّحَرَة والكهنة، وَكَانَت الْعَصَا معجزته، ابتلعت حبالهم وعصيهم، وَلم تطل، وَلم تقصر، وَلم يكبر بَطنهَا. فَلَمَّا عجزوا عَنْ ذَلِكَ مَعَ معرفتهم بِالسحرِ استدلوا عَلَى أَنه رَسُول الله. وَنَبِيًّا صلى الله عليه وسلم بعث فِي زمَان الفصحاء والبلغاء، الَّذين يقدرُونَ عَلَى النّظم والنثر، وَأنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن، وَقَالَ لَهُمْ: ائْتُوا بِمثلِهِ، فَلَمَّا عجزوا عَنْ الْإِتْيَان بِمثلِهِ مَعَ اقتدارهم عَلَى الْكَلَام، واستجلوا عَلَى أَنه كَلَام الله، وَأَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مُرْسل من عِنْد الله. وَالْقُرْآن معجزته السَّابِقَة الأوَّلَة والنبوة ثبتَتْ بالمعجزة الأوَّلَة، والمعجزة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة، كَانَتْ تَأْكِيدًا للأوَّلة ا. هـ

(1)

‌ما أيَّدَ الله به نوحًا عليها السلام

-:

فمن هذا تأييد الله -جل وعلا- نبيَّه نوحًا عليها السلام بتلكم المعجزة العظيمة، فأنجاه وأصحاب السفينة، وأغرق من كفر به من العالمين.

‌ما أيَّد الله به هودًا عليها السلام

-:

وقال الله تعالى عن هود عليها السلام لما قال له قومه: {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 53 - 54]. فأجابهم عليها السلام بقلب المؤمن المتوكل على الله متحدِّيًا لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

(1)

الحجة في بيان المحجة (2/ 210)

ص: 91

(56)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)} [هود]. قال الحافظ ابن كثير: وَهَذَا تحدٍّ مِنْهُ لَهُم، وتبرُّؤٌ من آلِهَتهم وتنقُّصٌ مِنْهُ لَهَا، وَبَيَان أَنَّهَا لَا تَنْفَع شَيْئًا وَلَا تضُرُّ، وَأَنَّهَا جماد حكمها حكمه وفعلها فعله، فَإِنْ كَانَتْ كَمَا تَزْعُمُونَ من أَنَّهَا تنصر وَتَنْفَع وتضر فها أَنا برِيء مِنْهَا

(1)

.

وقال أيضاً: وقد تضمَّن هذا المقامُ حجةً بالغةً، ودلالةً قاطعةً على صدق ما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، بل هي جماد لا تسمع ولا تبصر، ولا توالي ولا تعادي، وإنما يستحق إخلاص العبادةِ اللهُ وحده لا شريك له، الذي بيده الملك، وله التصرف، وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه، فلا إله إلا هو، ولا ربَّ سواه

(2)

.

وقال صديق خان رحمه الله: وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصُكُّ مسامعهم، ويوضِّح عجزَهم وعدمَ قدرتهم على شيء، وهذا من معجزاته الباهرة ا. هـ

(3)

.

وقال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: وقولهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} بهتان لأنه أتاهم بمعجزات لقوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] وإن كان القرآن لم يذكر آية معينة لهود عليها السلام ولعل آيته أنه وَعَدَهم عند بعثته بوفرة الأرزاق والأولاد واطَّراد الخصب وَفْرةً مطردة لا تنالهم في خلالها نكبة ولا مصيبة، بحيث كانت خارقةً لعادة النعمة في الأمم، كما يشير إليه قوله تعالى:{وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من الْأَنْبِيَاء نبيء إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ»

(4)

الْحَدِيثَ. وإنما أرادوا أن البينات التي جاءهم بها هود عليها السلام لم تكن طبقًا لمقترحاتهم، وجعلوا ذلك علةً لتصميمهم على عبادة آلهتهم،

(1)

البداية والنهاية= ط دار إحياء التراث (1/ 141).

(2)

تفسير ابن كثير (4/ 330).

(3)

فتح المنان في مقاصد القرآن (6/ 201).

(4)

البخاري (4981)، ومسلم (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه:«مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَر» .

ص: 92

فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53]

(1)

.

‌ما أيَّد الله به صالحًا عليها السلام

-:

وذكر الله -جل وعلا- في كتابه الكريم آية نبي الله صالح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)} [النمل] أيَّده الله -جل وعلا- بالناقة التي هي آية عظيمة قال الله سبحانه: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)} [الشعراء] وقال سبحانه: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف: 73]. فهي آية واضحة بيِّنة لا خفاء فيها؛ ولذا سمَّاها -جل وعلا- مبصرة {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] وذكر المفسرون أنَّ ثمود اجتمعوا يومًا في ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح عليها السلام، فدعاهم إلى الله، وذكَّرهم، وحذَّرهم، ووعظهم، وأمرهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة-وأشاروا إلى صخرة هناك-من صفتها كيت وكيت-وذكروا أوصافًا سمَّوها ونعتوها وتعنتوا فيها-قالوا: وأن تكون عُشَرَاء (يعني حاملًا) طويلةً من صفتها كذا وكذا، فأجابهم الله إلى هذه الناقة، فلمَّا كفروا جاءهم العذاب، -نسأل الله العفو والعافية-.

‌ما أيَّد الله به إبراهيم عليها السلام

-:

كذلك أيَّد الله-سبحانه-نبيه وخليله إبراهيم عليها السلام بالمعجزة الكبيرة بأن جعل عليه النار بردًا وسلامًا، كما قال سبحانه:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء] هذه آية عظيمة؛ فبعد أن أُوقِدت له النيران، وأُلقِي فيها جعلها الله -جل وعلا- عليه بردًا وسلامًا. وكذلك من الآيات التي أجراها الله على يده إحياءُ الموتى كما قصَّ في كتابه:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} [البقرة] أمره الله بذبح

(1)

التحرير والتنوير (12/ 98).

ص: 93

هذه الطيور ثم تقطيعها وتفريقها على عدة جبال ثم دعاها فلَبَّت النداء، واجتمعت الأجزاء المتفرِّقة، والتحمت كما كانت من قبل، ودبَّتْ فيها الحياة، وطارت محلِّقةً في الفضاء، قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}:«قَطِّعْهُنَّ (وفي رواية: قَطِّعْ أَجْنِحَتَهُنَّ) ثُمَّ اجْعَلْهُنَّ فِي أَرْبَاعِ الدُّنْيَا، رُبْعًا هَا هُنَا، وَرُبْعًا هَاهُنَا، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا»

(1)

-فسبحان الله ما أعظمَ شأنه وأجلَّ قدرته-!!

‌ما أيَّد الله به موسى عليها السلام

-:

كذلك أيَّد الله-سبحانه-نبيه موسى عليها السلام بآيات كثيرة. منها الآيات التسع التي ذكرها الله في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] قال الحافظ ابن كثير: وَهِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالسِّنِينَ، وَالْبَحْرُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هِيَ الْيَدُ، وَالْعَصَا، وَالْخَمْسُ فِي الْأَعْرَافِ، والطَّمْسَة وَالْحَجَرُ. وَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ: هِيَ يَدُهُ، وَعَصَاهُ، وَالسِّنِينَ، وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ. وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ حَسَنٌ قَوِيٌّ. وَجَعَلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ "السِّنِينَ وَنَقْصَ الثَّمَرَاتِ" وَاحِدَةً، وَعِنْدَهُ أَنَّ التَّاسِعَةَ هِيَ: تَلَقُّفُ الْعَصَا مَا يَأْفِكُونَ ا. هـ

(2)

فأعظمُها وأكبرُها العصا التي كانت تتحول إلى حيَّة عظيمة، قال تعالى:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} [طه]. وهذه العصا الآية العظيمة ابتلعت عشرات من الحبال والعِصِيِّ التي جاء بها السحرة، ولما رآها السحرة عرفوا أنها ليست من جنس السحر والخيالات التي يعملونها، وعاينوا الحقَّ، فبادروا إلى الإيمان، وشرح الله صدورهم، {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)} [طه].

ومن الآيات التي أرسل اللهُ بها موسى ما ذكره الله في قوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى

(1)

أخرجه الطبري (4/ 639) وسعيد بن منصور (443) وابن أبي حاتم (2707، 2708) في تفاسيرهم.

(2)

تفسير ابن كثير - ت السلامة (5/ 124).

ص: 94

جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)} [طه] كان يُدخِل يده في جيبه، (والجيب هو درع القميص الذي فيه الأزرار) فكان يُدخِل يده ثم ينزعها، فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضًا من غير برص ولا بهق.

وذكر الله كذلك من الآيات ما أصابهم به من السنين: إذ أصابهم بالجدب، والقحط، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم قال سبحانه:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)} [الأعراف].

وكذلك أرسل الله موسى عليها السلام بآيات أُخَرَ،

فمنها: أنه ضَرَبَ البحر بعصاه، فانفلق فكان كلُّ فرقٍ كالطود العظيم.

ومنها: ضَرْبُه للحجر، فكان الحجر ينفلق عن اثنتي عشرة عينًا.

وأنزل الله -جل وعلا- المنَّ والسَّلوى على بني إسرائيل في صحراء سيناء

وغير ذلك من الآيات والمعجزات.

‌ما أيَّد الله به عيسى عليها السلام

-:

وأيَّدَ اللهُ كذلك نبيَّه عيسى عليها السلام بمعجزات عظيمة،

فقد كان يصنع من الطين ما يُشبِهُ الطَّير ثم ينفث فيه، فتُصبِح طُيُورًا بإذن الله وقدرته،

ويمسح الأكمه، فيبرأ بإذن الله،

ويمسح الأبرص فيذهب عنه البرص،

ويمُرُّ على الموتى فيناديهم فيُحْيِيهم اللهُ-تعالى-بأمره سبحانه،

وقد حكى القرآن لنا ذلك في آيات سورة المائدة، ومن قبلها في آيات سورة آل عمران.

ص: 95

‌ما أيَّد الله به خاتمَ الأنبياء نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم

-:

وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد جمع اللهُ له آياتٍ كثيرة عظيمة.

يقول البيهقي رحمه الله -تبعا للحليمي-: وذكر بعض أهل العلم أنَّ أعلام نبوته تبلغ ألفًا

(1)

.

وهكذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغت أكثر من ألف آية

(2)

.

وذكر شمس الدين ابن القيم -رحمه الله تعالى- أنَّ: الآيات والبراهين التي دلَّت على صحة نبوته وصدقه أضعافُ أضعافِ آياتِ مَنْ قبلَه من الرسل، فليس لنبي من الأنبياء آيةٌ تُوجِب الإيمانَ به إلا ولمحمد صلى الله عليه وسلم مثلُها، أو ما هو في الدلالة مثلها، وإن لم يكن من جنسها

(3)

.

فأكثر الرسل آياتٍ وبيناتٍ هو خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام.

قال بعض العلماء: لئن كان سليمان، عليها السلام أعطي الريح غدوها شهر ورواحها شهر لقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم البُراق الذي هو أسرع من الريح،

ولئن كان موسى عليها السلام، أعطي حجراً تتفجر منه اثنتا عشرة عيناً لقد وضع أصابعه، صلى الله عليه وسلم، في الإناء والماء ينبع من بين أصابعه حتى ارتوى أصحابه رضي الله عنهم، وما لهم من الخيل،

ولئن كان عيسى عليها السلام، أحيا النفس بإذن الله لقد رفع صلى الله عليه وسلم، ذراعاً إلى فيه فأخبرته أنها مسمومة

(4)

.

‌القرآن أعظم المعجزات:

فمن أعظم الآيات التي أُوتِيَها نبينا صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الجليل، القرآن المعجز الذي هو آية عظيمة مستمِّرة، تحدَّى الله -جل وعلا- بها الثقلين.

(1)

شعب الإيمان (1/ 279) والمنهاج في شعب الإيمان (2/ 88).

(2)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 399).

(3)

هداية الحيارى (2/ 578).

(4)

المحاسن والمساوئ لإبراهيم البيهقي (ص 8)

ص: 96

‌من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم

-:

كما أيَّده بآيات كثيرة، جمعها العلماء في كتب مستقلة، سُمِّيت بدلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. وقد جَمَع البيهقيُّ رحمه الله كتابًا في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. ومما أُلِّف في هذا: دلائل النبوة للفريابي، ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، ودلائل النبوة لأبي القاسم إسماعيل الأصبهاني قوام السنة. وكَتَبَ شيخنا العلامة الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله صحيح دلائل النبوة. وهو مطبوع. فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم:

‌إجابة الشجرة إيَّاه لما دعاها.

ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِحْدَاهُمَا، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ:«انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ، الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ:«انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا، لَأَمَ بَيْنَهُمَا - يَعْنِي جَمَعَهُمَا - فَقَالَ:«الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» فَالْتَأَمَتَا.

(1)

وفي سنن ابن ماجه عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عليها السلام ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ، قَدْ ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: «فَعَلَ بِي هَؤُلَاءِ، وَفَعَلُوا» ، قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: «نَعَمْ، أَرِنِي» فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي، قَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ، فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَمْشِي، حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: قُلْ لَهَا فَلْتَرْجِعْ، فَقَالَ لَهَا، فَرَجَعَتْ حَتَّى عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«حَسْبِي»

(2)

‌تَكَلُّمُ الذراعِ المسمومةِ.

وقد ورد ذلك في أحاديث -مفرداتها فيها ضعف، لكنها بمجموعها تثبت-: ففي سنن أبي داود عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ أَنَّ يَهُودِيَّةً، مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ

(1)

صحيح مسلم (3012)

(2)

سنن ابن ماجه (4028) بسند صحيح وصححه الألباني في هداية الرواة (5867)

ص: 97

سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذِّرَاعَ، فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ» وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا، فَقَالَ لَهَا «أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ» قَالَتِ الْيَهُودِيَّةُ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟ قَالَ «أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ فِي يَدِي» لِلذِّرَاعِ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ «فَمَا أَرَدْتِ إِلَى ذَلِكَ؟» قَالَتْ: قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَنْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ، فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُعَاقِبْهَا، وَتُوُفِّيَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ، حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشَّفْرَةِ، وَهُوَ مَوْلًى لِبَنِي بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ.

(1)

وفيه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» فَأَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً سَمَّتْهَا فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ فَقَالَ: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ» الحديث

(2)

وروى البزار عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةً سَمِيطًا، فَلَمَّا بَسَطَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمْسِكُوا، فَإِنَّ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهَا يُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ» فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَتِهَا: «أَسَمَمْتِ طَعَامَكِ هَذَا؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:«مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ؟» قَالَتْ: أَحْبَبْتُ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ أُرِيحَ النَّاسَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهُ تبارك وتعالى سَيُطْلِعُكَ عَلَيْهِ، فَبَسَطَ يَدَهُ وَقَالَ:«كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ» قَالَ: فَأَكَلْنَا وَذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ، فَلَمْ يَضُرَّ أَحَدًا مِنَّا.

(3)

(1)

سنن أبي داود (4510) وفي إسناده انقطاع. وله شواهد منها ما بعده. وصححه الألباني لذلك كما في هداية الرواة (5874) والسلسلة الضعيفة (تحت الحديث 6441)

(2)

سنن أبي داود (4512) وهو مرسل ووصله الحاكم (4967) بذكر أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه على شرط مسلم -وفيه نظر، فإن ابن عمرو لم يعتمده مسلم. وله شواهد منها ما بعده. وصححه الألباني لذلك كما في هداية الرواة (5874) والسلسلة الضعيفة (تحت الحديث 6441)

(3)

أخرجه البزار -كما في كشف الأستار (2424) والبداية والنهاية لابن كثير (6/ 233/ ط هجر) - والحاكم في المستدرك على الصحيحين (7090) وأبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة (147) وإسماعيل الأصبهاني قوام السنة في دلائل النبوة (297) وصححه الحاكم، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 296): رواه البزار، ورجاله ثقات ا. هـ وقال الحافظ ابن كثير: قلت: وفيه نكارة وغرابة شديدة. والله أعلم ا. هـ يعني الزيادة في آخره: فَبَسَطَ يَدَهُ وَقَالَ

الحديث. فإنه مخالف لما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أكل منها ثم لما علم أنها مسمومة ترك. رواه البخاري (2617) ومسلم (2190) عن أنس رضي الله عنه. وهذه الزيادة ضعفها أيضا الشيخ الألباني في الضعيفة (13/ 991).

ص: 98

وروى البزار أيضا عن مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه في قصة الشاة المسمومة وفيه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهَا يُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ»

(1)

.

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم:

‌تكثير الطعام القليل حتى أصاب منه ناسٌ كثيرٌ:

وفيه أحاديث منها: حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ رضي الله عنه يعني والدَه- وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاسْتَعَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ، فَطَلَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا، العَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَيَّ» ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلَاهُ، أَوْ فِي وَسَطِهِ، ثُمَّ قَالَ:«كِلْ لِلْقَوْمِ» ، فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمُ الَّذِي لَهُمْ وَبَقِيَ تَمْرِي كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ. رواه البخاري

(2)

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟» ، فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ، مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ، بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً» ، أَوْ قَالَ:«أَمْ هِبَةً؟» ، قَالَ: لَا بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَوَادِ البَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَايْمُ اللَّهِ، مَا فِي الثَّلَاثِينَ وَالمِائَةِ إِلَّا قَدْ حَزَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، فَفَضَلَتِ القَصْعَتَانِ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى البَعِيرِ. متفق عليه.

(3)

.

وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو

(1)

أخرجه البزار -كما في كشف الأستار (2423) - وإسناده ضعيف، كما في السلسلة الضعيفة (13/ 991): والعلة التدليس فالحسن - وهو: البصري -، ومبارك بن فضالة، مدلسان، وقد عنعنا. والقدر المذكور يشهد له ما قبله.

(2)

صحيح البخاري (2127)

(3)

صحيح البخاري (2618) وصحيح مسلم (2056)

ص: 99

طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا، أَعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ، وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ» فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:«بِطَعَامٍ» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ:«قُومُوا» فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ؟ فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا عِنْدَكِ» فَأَتَتْ بِذَلِكَ الخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فَأَكَلَ القَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا. متفق عليه.

(1)

.

‌تكثير الماء القليل حتى أصاب منه ناسٌ كثيرٌ:

عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،

فذكر الحديث وفيه: ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنَ العَطَشِ، فَنَزَلَ فَدَعَا فُلَانًا وَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ:«اذْهَبَا، فَابْتَغِيَا المَاءَ» فَانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، فَقَالَا لَهَا: أَيْنَ المَاءُ؟ قَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ وَنَفَرُنَا خُلُوفٌ، قَالَا لَهَا: انْطَلِقِي، إِذًا قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَا: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ، قَالَا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ، فَانْطَلِقِي، فَجَاآ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَدَّثَاهُ الحَدِيثَ، قَالَ: فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا، وَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ، فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ المَزَادَتَيْنِ وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا وَأَطْلَقَ العَزَالِيَ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْقُوا وَاسْتَقُوا، فَسَقَى مَنْ شَاءَ وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ

، وَهِيَ قَائِمَةٌ تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا، وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلْأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ

(1)

صحيح البخاري (3578) وصحيح مسلم (2040)

ص: 100

فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اجْمَعُوا لَهَا» فَجَمَعُوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، فَجَعَلُوهَا فِي ثَوْبٍ وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، قَالَ لَهَا:«تَعْلَمِينَ، مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا» ، فَأَتَتْ أَهْلَهَا وَقَدِ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، قَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلَانَةُ، قَالَتْ: العَجَبُ لَقِيَنِي رَجُلَانِ، فَذَهَبَا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ وَهَذِهِ، وَقَالَتْ: بِإِصْبَعَيْهَا الوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ، فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ - تَعْنِي السَّمَاءَ وَالأَرْضَ - أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَكَانَ المُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنَ المُشْرِكِينَ، وَلَا يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِي هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَوْمًا لِقَوْمِهَا مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلَاءِ القَوْمَ يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا، فَهَلْ لَكُمْ فِي الإِسْلَامِ؟ فَأَطَاعُوهَا، فَدَخَلُوا فِي الإِسْلَامِ. متفق عليه.

(1)

وفي صحيح البخاري عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ

فذكر الحديث وفيه: قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ المَاءِ، يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم العَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ،

الحديث

(2)

.

‌خروجُ الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم

-:

وفيه أحاديث منها: حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ، فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، قَالَ:«فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ» متفق عليه

(3)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ، فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقَالَ:«مَا لَكُمْ؟» قَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، «فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ، فَجَعَلَ المَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، كَأَمْثَالِ

(1)

صحيح البخاري (344) وصحيح مسلم (682)

(2)

صحيح البخاري (2731)

(3)

صحيح البخاري (3573) وصحيح مسلم (2279)

ص: 101

العُيُونِ»، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. رواه البخاري

(1)

.

‌حنينُ الجذع:

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ المِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ فَحَنَّ الجِذْعُ «فَأَتَاهُ فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ» رواه البخاري

(2)

.

وفيه أيضاً عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا [تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا]؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتُمْ» ، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى المِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ [الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا] صِيَاحَ الصَّبِيِّ [حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ]، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ [حَتَّى اسْتَقَرَّتْ]. قَالَ:«كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا»

(3)

وروى الترمذي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ إِلَى لِزْقِ جِذْعٍ وَاتَّخَذُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَخَطَبَ عَلَيْهِ فَحَنَّ الجِذْعُ حَنِينَ النَّاقَةِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَّهُ فَسَكَتَ»

(4)

وفي رواية عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَيُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى جِذْعٍ مَنْصُوبٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَخْطُبُ النَّاسَ، فَجَاءَهُ رُومِيٌّ، فَقَالَ: أَصْنَعُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّكَ قَائِمٌ، فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَرًا لَهُ دَرَجَتَانِ، وَيَقْعُدُ عَلَى الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا قَعَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ الْمِنْبَرِ، خَارَ الْجِذْعُ كَخُوَارِ الثَّوْرِ حَتَّى ارْتَجَّ الْمَسْجِدُ لِخُوَارِهِ حُزْنًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَالْتَزَمَهُ وَهُوَ

(1)

صحيح البخاري (3576) ورواه مسلم مختصرا (1856)

(2)

صحيح البخاري (3583).

(3)

صحيح البخاري (2095، 3584) وقال الحافظ في الفتح (4/ 319): وقوله: «قَالَ بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ» صَرَّحَ وَكِيعٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ بِأَنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وابن أبي شيبَة عَنهُ ا. هـ

(4)

سنن الترمذي ت شاكر (3627) وحسنه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1101) وانظر: السلسلة الصحيحة (2174)

ص: 102

يَخُورُ، فَلَمَّا الْتَزَمَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سَكَتَ ثُمَّ قَالَ:«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ لَمْ يَزَلْ هَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» تَحَزُّنًا عَلَى رَسُولِ اللهِ، فَأَمَرَ بِهِ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدُفِنَ.

(1)

ولابن ماجه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ ذَهَبَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ فَأَتَاهُ فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ فَقَالَ:«لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

(2)

وروى ابن المبارك عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى خَشَبَةٍ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ، قَالَ:«ابْنُوا لِي مِنْبَرًا» ، فَبَنَوْا لَهُ مِنْبَرًا [لَهُ عَتَبَتَانِ]، إِنَّمَا كَانَ عُسْرٌ فَتَحَوَّلَ مِنَ الْخَشَبَةِ إِلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ:[فَلَمَّا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ] فَحَنَّتْ وَاللَّهِ الْخَشَبَةُ [إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَنِينَ الْوَالِدِ [وفي رواية: الوَالِهِ]. قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: وَأَنَا وَاللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ أَسْمَعُ ذَلِكَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ تَحِنُّ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمِنْبَرِ، فَمَشَى إِلَيْهَا فَاحْتَضَنَهَا فَسَكَتَتْ [وفي رواية: فَسَكَنَتْ] فِيهَا الْحَسْرَةُ. [قالَ: فَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَكَى] وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ [يَا عِبَادَ اللَّهِ]، الْخَشَبُ يَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم[شَوْقًا إِلَيْهِ لِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ عز وجل أَفَلَيْسَ الَّذِينَ يَرْجُونَ لِقَاءَهُ أَحَقَّ أَنْ يَشْتَاقُوا إِلَيْهِ؟

(3)

.

‌ظهورُ صِدْقِه صلى الله عليه وسلم في مغيَّبات كثيرة أخبر عنها:

قال البيهقي رحمه الله: وَأَمَّا إِخْبَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَوَائِنِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ وَظُهُورِ صِدْقِهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَهِيَ كَثِيرَةٌ وَهِيَ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ مَنْقُولَةٌ:

(1)

أخرجه الدارمي (42) وابن خزيمة (1776) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (4179) وحسنه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1101)

(2)

سنن ابن ماجه (1415) ورواه الإمام أحمد (2400) وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (548)

(3)

مسند عبد الله بن المبارك (48) ورواه الإمام أحمد (13363) مختصرا، وابن خزيمة (1776)، وعلي بن الجعد (3219)، وأبو يعلى (2756) -وعنه ابن حبان (6507) - ومنهما الزيادات، وابن الأعرابي في المعجم (2257) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (1408، 3631) بسند صحيح عن يزيد بن إبراهيم التستري قال: سمعت الحسن يقول: أخبرني أنس

فذكره.

ص: 103

1 -

فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم

حِينَ أَخْبَرَ عَنْ مَسْرَاهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ إِلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَكُذِّبَ فِيهِ؛ أَخْبَرَ عَنْ عِيرِهِمُ الَّتِي رَآهَا فِي طَرِيقِهِ: عَنْ قُدُومِهَا، وَعنْ نَبَأِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَ كَمَا قَالَ.

2 -

وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِمَا وَقَعَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنهم بِمُؤْتَةَ، وَنَعَاهُمْ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ خَبَرُهُمْ.

3 -

وَنَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ.

4 -

وَأَخْبَرَ عَنْ كِتَابِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ،

5 -

وَوَعَدَ أُمَّتَهُ الْفُتُوحَ الَّتِي وُجِدَتْ بَعْدَهُ

6 -

وَحَذَّرَهُمُ الْفِتَنَ الَّتِي بَدَتْ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَظَهَرَتْ عِنْدَ قَتْلِهِ وَبَعْدَهُ،

7 -

وَأَخْبَرَهُمْ بِمُدَّةِ بَقَاءِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ،

8 -

وَأَشَارَ إِلَى الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَعْدَهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، ثُمَّ بَنِي الْعَبَّاسِ فَكَانُوا كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم.

9 -

وَسَمَّى جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ شُهَدَاءَ، فَأَدْرَكُوا الشَّهَادَةَ بَعْدَهُ،

10 -

وَأَخْبَرَ عَنِ الْبَلَاءِ الَّذِي أَصَابَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ،

11 -

وَعَنْ قَتْلِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ

12 -

وَقَتْلِ ابْنِ ابْنَتِهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ،

13 -

وَإِصْلَاحِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ابنِ ابْنَتِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،

فَوُجِدَ تَصْدِيقُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ،

14 -

وَنَعَى نَفْسَهُ إِلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ، فَكَانَ كَمَا قَالَ،

15 -

وَبَشَّرَ أُمَّتَهُ بِكِفَايَةِ اللَّهِ شَرَّ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَيْنِ، فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ،

16 -

وَذَكَرَ أُوَيْسًا الْقَرْنِيَّ وَوَصَفَهُ بِمَا وُجِدَ تَصْدِيقُهُ بَعْدَهُ .... ا. هـ

(1)

.

(1)

كتاب الاعتقاد (ص: 297)

ص: 104

ومما ذكروه أيضا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم:

1 -

إخبارُ المتقدمين وغيرهم بنبوته.

2 -

وكذلك ما جاء عن الكُهَّان والجن وأهل الكتاب في شأنه صلى الله عليه وسلم.

3 -

وإسلامُ الجنِّ على يديه صلى الله عليه وسلم.

4 -

وانقياد الحيوانات له صلى الله عليه وسلم.

5 -

وسلام الأحجار عليه صلى الله عليه وسلم.

6 -

ومن دلائل نبوته مَنْ شَفَاهُ اللهُ -جل وعلا- ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم له.

7 -

ومنها أيضًا حادثة الإسراء والمعراج.

في أمور كثيرة تراجع في مظانها من الكتب المذكورة

‌وجوب الإيمان بالمعجزات والتصديق بالكرامات:

فهذه التي ذكرناها هي جملة من الآيات والبينات التي أُيِّدَ بها؛ الأنبياء عليهم السلام.

فنحن نؤمن بما أيَّد الله -جل وعلا- به أنبياءه من الآيات والمعجزات كما أننا نؤمن بكرامات الأولياء. ومثل ما ذكرنا فإن المسلم يجب أن يُفرِّق بين ذلك وبين ما هو من وساوس الشياطين والسحرة والكُهَّان والمشعوذين.

ص: 105

‌المجلس الرابع عشر

(1)

دعوة الأنبياء والمرسلين:

أكرمنا الله -جل وعلا- ببعثة الأنبياء والمرسلين، واختارهم، واصطفاهم، وبعثهم رحمةً للعالمين. فما من خير إلا وبيَّنُوه لنا، ودلُّونا عليه، وما من شر إلا وحذَّرُونا منه، وبيَّنُوه لنا، صلوات الله وسلامه عليهم.

وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سفر ناداهم، فقال:«الصَّلَاةَ جَامِعَةً» يقول: فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا»

(2)

إلى آخر الحديث.

فكل الأنبياء بعثهم الله -جل وعلا- برسالة سامية، وهي الدلالةُ على كلِّ خيرٍ، والتحذيرُ من كلِّ شرٍّ. وأعظم الخير وأوجبه أن الله بعثهم بالدعوة إلى التوحيد الذي هو أعظم الحسنات، والدعوةِ إلى كل ما يحبه الله ويرضاه، والنهْيِ عن الشرك الذي هو أعظم السيئات، والنهْيِ عن كل ما يبغضه الله -جل وعلا- ويأباه.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وَاللَّهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمَنِ اتَّبَعَ الرُّسُلَ، حَصَلَ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْبِدَعِ مَنْ قَصَّرَ فِي اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ عِلْمًا وَعَمَلًا ا. هـ

(3)

(1)

كان في يوم الأحد العاشر من شهر رمضان 1441 هـ.

(2)

صحيح مسلم (1844)

(3)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (5/ 445).

ص: 106

قل هذه سبيلي:

ويقول الله في كتابه الكريم لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف] هذه الآية العظيمة تُبَيِّنُ لنا منهج الأنبياء في دعوتهم.

يقول شيخ المفسرين الحافظ عماد الدين ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين: الإنس والجن، آمرًا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي: طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرةٍ من ذلك ويقينٍ وبرهانٍ هو وكلُّ من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي

(1)

.

وفي ختام هذه الآية يقول: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} أي: وأنزِّهُ الله وأُجِلُّه وأُعَظِّمُه عن أن يكون له شريك وند تبارك وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا. ثم تختم الآية بقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذه خاتمة مهمة، فقد بيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم طريقه ومنهجه وهو الدعوة إلى التوحيد، وخُتِمَت الآية بالبراءة من المشركين. فالنبي صلى الله عليه وسلم بيَّنَ دعوته، وقال:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} كما تبرَّأ منهم خليلُ الرحمن عليها السلام يقول ربنا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يعبدون الله، لكنهم لا يعبدون الله وحده، وإنما يعبدون من دونه آلهةً وأوثانًا. فهم لا ينكرون وجود الله ولا كونَه خالقًا رازقًا، ولكنهم يُشرِكون مع الله غيرَه! فمن المهم أن نعرف حقيقة دعوة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.

‌ما هي دعوة الأنبياء؟

تلك الدعوة العظيمة التي بعثهم الله بها، ووضَّحها في كتابه العظيم القرآن أوضحَ الدلالة، وبيَّنَ معانيها ومعالمها التي غفل عنها الناس اليوم؛ فوقعوا في الشرك الذي نهى الله -جل وعلا- عنه، وبعث الأنبياء للتحذير منه.

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 422).

ص: 107

‌اتفاق دعوة الأنبياء والمرسلين على الدعوة إلى التوحيد:

قال الله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل]

فكل الأنبياء دعوا إلى هذه الكلمة {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . دعوا إلى توحيد الله، وإفراده بالعبادة، والبراءة من الشرك وأهله.

وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء] فما من نبي بعثه الله إلا ودعوتُه الدعوةُ إلى التوحيد وإفراد الله -جل وعلا- بالعبادة، قال:{فَاعْبُدُونِ} أي: فوحِّدوني.

وذكر الله -جل وعلا- قصص عدد من الأنبياء في سورة الأنبياء ثم قال بعد ذلك: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} [الأنبياء].

وكذلك ذكر قصص الأنبياء في سورة المؤمنون، فذكر نوحًا وهودًا وصالحًا وموسى وهارون ثم قال بعد ذلك:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} [المؤمنون].

فقوله في الآيتين: آية الأنبياء، وآية المؤمنون:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال الحافظ ابن كثير: قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يقول: دينكم دين واحد

(1)

.

فالأنبياء جميعًا بُعِثُوا بأصلٍ واحدٍ عظيم، ما هو هذا الأصل؟

هو توحيد الله وإفراده بالعبادة {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا

(1)

تفسير ابن كثير (5/ 371).

ص: 108

وَالآخِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»

(1)

.

وقوله: «إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ» العَلَّات هم الإخوة من الأب أمهاتهم شتى؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلًا للأنبياء بأنهم جاؤوا بمشكاة واحدة، وهي توحيد الله.

ويقول ربنا عن أولي العزم من الرسل كما في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى]

فتلك هي دعوة الأنبياء جميعًا وعلى رأسهم أولو العزم منهم. ولما سُئِل النبي عليه الصلاة والسلام عن الرسل قال: «ثَلَاث مِائَةٍ وَخَمْسَ عَشْرَةَ جَمًّا غَفِيراً»

(2)

. فكل هؤلاء الرسل من أولهم إلى خاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ساروا على منهج واحد، وانطلقوا من منطلق واحد، وهو التوحيد الذي هو أعظم القضايا وأعظم المبادئ التي جاؤوا بها من رب العالمين، وهذه الآيات فيها ذكر دعوة الأنبياء على جهة الإجمال.

‌دعوة نوح عليها السلام إلى التوحيد:

وجاء التفصيل أيضًا في كتاب الله -جل وعلا- في ذكر دعوة الأنبياء. فتأملوا معي في سورة الأعراف، فقد ذكر الله -جل وعلا- أوَّل الرسل نبيَّه نوحًا عليها السلام، فقال:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} [الأعراف] كانت كلمة نوح عليها السلام {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فأمرهم بتوحيد الله، وأن يعبدوه وحده لا شريك له. وكذلك في سورة نوح قال الله -جل وعلا-: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ

(1)

صحيح البخاري (3443) واللفظ له، ومسلم (2365) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه في المجلس العاشر.

ص: 109

(3)

} [نوح] وقد مرَّ معنا قولُ ابن عباس رضي الله عنهما أن العبادة في القرآن معناها التوحيد

(1)

فقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي: وحِّدُوا الله.

‌دعوة هود عليها السلام إلى التوحيد:

وذكر الله -جل وعلا- هودًا عليها السلام، فقال سبحانه:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)} [الأعراف] وكذلك في سورة هود عليها السلام يقول ربنا -جل وعلا- في قصته: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)} [هود] فدعوتهم واحدة، وهي الدعوة إلى توحيد الله، وإلى مثل ما دعا إليه نوح من قبله.

‌جواب قوم هود لنبيهم عليها السلام ومعنى كلمة التوحيد:

وتأملوا -إخواني في الله- هذه الدعوة العظيمة المباركة التي وضَّحها الأنبياء لأقوامهم، وانظروا إلى جواب قوم هود عليها السلام لنبيهم لما دعاهم إلى إفراد الله بالعبادة {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] تأملوا في قولهم {لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} لنعلم أن هودًا عليها السلام قد وضَّح لهم وبيَّنَ لهم أنَّ أساس الأمور هو إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة. ونأسف كثيرًا حينما نجد من الناس اليوم من يقول: (لا إله إلا الله) وهي كلمةُ التوحيد، الكلمةُ العظيمة، كلمةُ التقوى، لكنه لا يفهمها!! وهؤلاء قوم هود عليها السلام فهموا من دعوته إلى التوحيد أنه يريد إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة، فقالوا:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} .

‌دعوة صالح عليها السلام إلى التوحيد:

وهكذا ذكر الله -جل وعلا- نبيه صالحًا عليها السلام، وأخبر أنه قال لقومه:{قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] وذكر قصته في سورة هود عليها السلام، فأخبر عنه أنه قال:{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)} [هود].

(1)

تقدم في المجلس السادس.

ص: 110

‌دعوة شعيب عليها السلام إلى التوحيد:

وذكر الله أيضًا بعد ذلك قصةَ لوط عليها السلام وقصةَ شعيب عليها السلام، قال شعيب لقومه:{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85].

‌دعوة لوط عليها السلام إلى التوحيد:

وهكذا دعا لوطٌ قومَه إلى توحيد الله، وحذَّرهم من البَلِيَّة التي كانوا واقعين فيها مع الشرك وهي فعل الفاحشة العظيمة! نسأل الله السلامة والعافية، وهكذا ما من نبي بعثه الله -جل وعلا- إلى قومه إلا ودعا قومه إلى إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة.

‌الأمر لنبينا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد:

ففي فاتحة سورة هود عليها السلام يقول سبحانه: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)} [هود] إنها دعوةٌ واحدةٌ.

‌دعوة يوسف عليها السلام إلى التوحيد:

وتأملوا أيضًا قصةَ نبي الله ورسوله يوسف عليها السلام حين أُدخِل السجن، وهو مظلوم عليها السلام، إِلَامَ دعا هناك؟ دعاهم إلى توحيد الله -جل وعلا- قال الله -جل وعلا- في ذكر دعوته لما قال للرجلين:{لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . فسبحان الله! وهو في السجن ومع الظلم الذي وقع عليه، فإنه مأمور من ربه -جل وعلا- أن يدعو إلى توحيد الله. إنه النبيُّ الكريمُ ابنُ الكريمِ ابنِ الكريم؛ نبيُّ الله يوسفُ ابنُ نبيِّ الله يعقوبَ ابن نبي الله إسحاقَ ابنِ خليل الله إبراهيم عليهم السلام يدعو إلى توحيد الله. فما دعا وهو في سجنه مظلومًا إلى التهييج ولا إلى السياسات، ولا انطلق من مبدأ الثأر، وإنما دعا إلى التوحيد، ونبذ الشرك مؤكِّدًا دعوته {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ومفسِّرًا ذلك

ص: 111

بقوله: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ويقول عن التوحيد: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 40].

‌الحث على تأمل الآيات في قصص الأنبياء:

تأملوا -يا إخواني- في هذه القصص، قصص الأنبياء كيف أن الله -جل وعلا- أخبر أن نبيَّه نوحًا عليها السلام مَكَثَ في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو يدعو إلى توحيد الله -جل وعلا-!! يذكر الله-سبحانه-لنا ذلك في كتابه، ويثني على نبيِّه نوحٍ عليها السلام بدعوته إلى توحيد الله سبحانه، ألا يدُلُّ ذلك على أن هذا هو المنهج الحق والمنهج الصواب؟

‌دعوة إبراهيم عليها السلام إلى التوحيد:

ثم تأملوا أيضًا قصةَ خليل الرحمن إبراهيم عليها السلام، وقد ذكرها الله في مواضع عدة، وكلُّها في بيان الدعوة إلى توحيد الله. إنه أبو الأنبياء، وإمام الموحِّدين الحنفاء، خليلُ الله الذي أمر الله سيد المرسلين وخاتم النبيين وأمته باتباعه، والتأسِّي بدعوته، والاهتداء بهديه ومنهجه {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)} [الأنعام] إلى آخر الآيات التي حاجَّ فيها إبراهيمُ قومَه الذين كانوا يعبدون الأصنام ويشركون بالله -جل وعلا- بعبادة الكواكب، وعبادة الشمس والقمر، فدعاهم إلى الله -جل وعلا-. وانظر إلى محاورته مع أبيه في سورة مريم:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم] إلى آخر الآيات العظيمة التي فيها دعوةُ مُشْفِقٍ رحيم على أبيه، دعوةٌ إلى توحيد الله سبحانه، قائمةٌ على العلم والمنطق والعقل، وعلى الخُلُق القويم، يريد أن يهديه الصراط المستقيم، ويُبعِدَ عنه ما به من التعصب، مُبَيِّنًا له بالعلم والحجة والبرهان.

‌دعوة إبراهيم عليها السلام النمرود إلى التوحيد:

وكذلك ذكر الله -جل وعلا- دعوة إبراهيم عليها السلام لذلك الطاغية إلى توحيد الله سبحانه، وهو نمرود بن كنعان

(1)

، قال الله في قصته:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] أي: هو

(1)

انظر: تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/ 568).

ص: 112

الله المنفرد بالخلق والتدبير والإحياء والإماتة، فقال ذلك الطاغية:{قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]

ودعا قومه إلى توحيد الله سبحانه، قال -جل وعلا-:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)} [الأنبياء] إلى آخر القصة العظيمة التي ذكرها الله في سورة الأنبياء، وفيها أنه كَسَّرَ أصنامهم، ودعاهم بالحكمة إلى الله -جل وعلا-.

‌صلاح الناس في الدعوة إلى التوحيد:

إنَّ الأنبياء جميعًا عَرَفُوا أنَّ صلاح الناس إنما يبدأ من هاهنا من توحيد الله -جل وعلا- يبدأ من توحيد الله لا كما يظنه كثير من الناس اليوم أنه لا يمكن أن يدخل الشرك والفساد إلى الأمة، وأن الأمة في مأمن من ذلك، كلَّا -والله- إنه ظنُّ مَنْ لا يعرف منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله.

‌نبي الله إبراهيم وخليله عليها السلام يخاف الشرك على نفسه وذريته:

بل إن نبي الله إبراهيم خافه على نفسه وذريته فقال في دعائه ما أخبر الله عنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم].

وكان إبراهيم التيميّ -التابعي الجليل- رحمه الله، يقصُّ ويقول في قَصَصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم عليها السلام، حين يقول: ربّ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} »

(1)

وقال يحيى بن يمانٍ: سمِعتُ سُفيانَ يقولُ: قد كنتُ أشْتَهِي أن أمرَضَ وأمُوتَ، فأمّا اليومَ فلَيْتني مِتُّ فُجاءةً؛ لأنني أخافُ أن أتحوَّلَ عمّا أنا عليه، من يأمَنُ البلاءَ بعدَ خليلِ

(1)

أخرجه الطبري (13/ 687)

ص: 113

الرَّحمنِ عليها السلام وهُو يقولُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} .

(1)

‌دعاء يوسف عليها السلام أن يتوفاه الله على الإسلام:

وفي دعاء يوسف عليها السلام يقول: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}

‌دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم الثبات وخوفه من الفتنة:

وكان من دعاء رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «وَإِذَا أَرَدْتَ بِالنَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ»

(2)

وكان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»

(3)

وكان يَحْلِفُ بقوله: «لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ»

(4)

فيُقسم بالله مُقلِب القلوب، لأنها كثيرة التقلُب، والله -جل وعلا- هو الذي يقلبها، كما جاء في الحديث:«إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»

(5)

.

قال ابن عبد البر: فَمَا يَأْمَنُ الْفِتْنَةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ ا. هـ

وقال أيضا: قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لَا يَأْمَنُ الْفِتْنَةَ وَالِاسْتِدْرَاجَ إِلَّا مَفْتُونٌ.

وقال: وَلَا نِعْمَةَ أَفْضَلُ مِنْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ فِيهِ تَزْكُو الْأَعْمَالُ وَمَنِ ابْتَغَى دِينًا غَيْرَهُ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَلَوْ أَنْفَقَ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَمَاتَنَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَجَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أَهْلِهِ آمِينَ ا. هـ

(6)

(1)

ذكره ابن عبد البر في التمهيد ت بشار (11/ 409) وأخرج ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/ 102، وأبو نعيم في حلية الأولياء 7/ 67 الجملة الأولى منه إلى قوله (فجاءة).

(2)

حديث صحيح. رواه الترمذي (3233) من حديث ابن عباس و (3235) من حديث معاذ رضي الله عنهم. وسيأتي في مبحث الإيمان بالملائكة (ص: 58)

(3)

أخرجه الترمذي (2140) وابن ماجة (3834) عَنْ أنس رضي الله عنه. والترمذي (3522) عن أم سلمة. وابن ماجه (199) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه وفي الباب عن غيرهم، وانظر: الصحيحة (2091) والجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (424)

(4)

أخرجه البخاري (6617) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(5)

أخرجه مسلم (2654) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(6)

«الاستذكار» (2/ 534، و 4/ 224)

ص: 114

‌دعوة موسى عليها السلام إلى التوحيد:

ثم انظروا إلى نبي الله موسى عليها السلام، وكيف أن الله -جل وعلا- بعثه، وقد تربَّى في قصور أعظم طاغية يدعو الناس إلى تألِيْهِ نفسه وعبادة نفسه! بعثه الله إليه ليدعوه ويدعو الناس في زمانه إلى توحيد الله -جل وعلا-. فيناظر موسى عليها السلام هذا الرجل الطاغية في الله -جل وعلا- ويُبيِّن له الحق بالحجة والبرهان؛ ليسمع جميع الناس ذلك، يقول ربنا -جل وعلا- في سورة الشعراء:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)} [الشعراء] إلى آخر الآيات. ويخبر ربنا في سورة طه أيضًا أن فرعون قال له: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)} [طه].

‌دعوة عيسى عليها السلام إلى التوحيد:

وكذلك كانت دعوة نبي الله عيسى عليها السلام، فدعا قومه إلى توحيد الله -جل وعلا- ولم يدعُهُمْ إلى عبادة نفسه، ولا إلى أن يشركوا بالله -جل وعلا- كما قال ربنا في كتابه الكريم:

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة] وأخبر الله -جل وعلا- عنه أيضًا أنه قال لقومه: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} [آل عمران] ويأتي يوم القيامة، فيتبرأ عند الله -جل وعلا- ممن عبده من دون الله، يقول سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ

ص: 115

اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة].

‌دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد:

وعلى هذا سار خاتم الأنبياء والمرسلين، فكان يأتي قومه، فيدعوهم، ويقول عليه الصلاة والسلام:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا»

(1)

ويحذرهم من الشرك بالله.

‌تحقيق أنَّ المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية:

ويقول بعض الناس: كان الأنبياء يدعون إلى توحيد الربوبية! أي: إلى أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت. ونقول لهم: لم يكونوا إلا دعاةً إلى توحيد الألوهية؛ فإن الخلاف الذي وقع بين الأنبياء وبين أقوامهم إنما هو في توحيد الألوهية، الذي هو توحيد العبادة وإفراد الله بالعبادة، أما أنَّ الله هو الخالق الرازق المحيي المميت فإنهم كانوا يعرفون ذلك، ويُقرِّون به، وإنما كانوا ينكرون إفراد الله بالعبادة.

وتأملوا فيما ذكرنا سابقًا في جواب قوم هود لهودٍ عليها السلام، إذ قالوا:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70]

ويقول ربنا في سورة ص: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص].

فتأملوا مقالتهم؛ فإنهم عجبوا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الله وحده لا شريك له.

(1)

حديث صحيح. رواه البخاري في خلق أفعال العباد (193) وابن خزيمة (159) وابن حبان (6562) والحاكم (2/ 611 - 612) وصححه من حديث طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله عنه. ورواه الإمام أحمد في المسند (4/ 341) وابنه عَبْد الله بن أحمد في زوائده على المسند (3/ 492) من حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه. ورواه أحمد (4/ 63 و 5/ 376) عن شيخ من بني مالك ابن كنانة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: فذكره.

ص: 116

ويقول ربنا لنبيه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر]

ويقول -جل وعلا-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام].

وجاء البيان في القرآن الكريم متعدِّدًا في مواضع كثيرة، يقولُ ربُّنا -جل وعلا-:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة].

ويقول لنبيه: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف].

وقد كان المشركون يدركون من دعوته عليه الصلاة والسلام أنه إنما دعاهم إلى توحيد الله -جل وعلا- وعلى ذلك خالفوه وعارضوه وجاؤوا بالإفك العظيم، فآمن من آمن وأراد الله له الهداية، وضلَّ من ضلَّ وقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

‌جهل كثير من الناس اليوم بحقيقة دعوة الأنبياء:

والناس في هذه الأعصار يجهلون الدعوة العظيمة التي بعث الله بها الأنبياء والمرسلين. ومِن أَدَلِّ الأدلة على ذلك انتشارُ القبورية في كثير من بلاد المسلمين، فتجد كثيرًا من الأضرحة تُدعَى من دون الله، وتُعبَد من دون الله، ويُذبَح لها، ويُنذَر لها، ويطاف حولها، ويُدعَى المقبورون من دون الله. وإذا قيل لبعضهم في ذلك وأُنكِرَ عليه، قال: إني أقول: لا إله إلا الله. وظنَّ أن هذه الكلمة تنفعه، وقد جاء بما يناقضها.

‌علاقة الإرجاء والغلط في فهم الإيمان بانتشار القبورية:

ولهذا الأمر علاقة بتعريف الإيمان الذي ذكرناه من قبل وأنه قولٌ، وعملٌ، واعتقادٌ،

ص: 117

يزيد وينقص؛ فإن المجتمعات التي ينتشر فيها الإرجاء، وينتشر فيها اعتقاد أن الإيمان قول فقط أو أنه المعرفة وأنَّ من عرف أنه لا إله إلا الله أو قال: إنه لا إله إلا الله ولم تعمل بذلك جوارحه فإن ذلك يكفيه؛ ولذلك تجدهم يقولون: لا يضُرُّ هذا مع إيماننا بالله وهذا هو الفساد العظيم في فهم أعظم أمر بعث الله به الأنبياء والمرسلين، وهو الدعوة إلى توحيد الله -جل وعلا-. فتأملوا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعرفوا منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله -جل وعلا- وكيف كانوا يدعون إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة.

‌بَعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى أهل اليمن بالدعوة إلى التوحيد:

وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يرسل الدعاة إلى الله ليدعوا إلى التوحيد. كما فعل لما بعث معاذًا إلى أهل اليمن

(1)

، وقال له:«إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»

(2)

وفي رواية: «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى»

(3)

وفي رواية: «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ -جل وعلا-»

(4)

فدلَّت هذه الروايات الثلاث على أن الدعوة إلى التوحيد هي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وهي الدعوة إلى العبادة، وأنَّ العبادة لا تصح إلا بالتوحيد كما أن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة .... والحمد لله رب العالمين،،،

JIH

انتهى الجزء الثاني

ويليه الجزء الثالث

الإيمان بالملائكة الكرام عليهم السلام

(1)

رواه البخاري (1395) ومسلم (31) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

وفي رواية للبخاري (1395) قَالَ: «ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»

(3)

رواه البخاري (7372)

(4)

رواه البخاري (1458) ومسلم (31)

ص: 118