الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلسلةُ: ريِّ الظَّمْآن بِمَجالِس شُعَبِ الإيمَانِ (4)
الإِيْمَانُ بالكتب
المنزلة
تأليف
أبي حمزة غازي بن سالم أفلح
عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه وجميع المسلمين
تقديم
الدكتور عزيز بن فرحان العنزي الدكتور رشاد بن حمود الحزمي
الشيخ عبد العزيز بن يحيى البرعي الشيخ محمد بن عبد الله باموسى
الشيخ نعمان بن عبد الكريم الوتر
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى لمكتبة دروس الدار
1444 هـ - 2022 م
(مزيدة ومنقحة)
رقم الفسح الإعلامي في دولة الإمارات العربية المتحدة دبي
MC-01 - 01 - 7549142
Date-2022 - 04 - 19
الترقيم الدولي
ISBN: -978 - 9948 - 04 - 572 - 4
التصنيف العمري: E
تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن وزارة الثقافة والشباب
للتواصل مع المؤلف: [email protected]
الإمارات العربية المتحدة - الشارقة
البريد الإلكتروني: [email protected]
للتواصل: 00971503667077
تويتر: @ DroosAldar
الركن الرابع من أركان الإيمان
الإيمان بالكتب
المجلس السابع عشر
(1)
الشعبة الرابعة من شعب الإيمان: الإيمان بالكتب المنزلة
الإيمان بالكتب السماوية ركن من أركان الإيمان:
الإيمان بالكتب السماوية ركن من أركان الإيمان، وأصل من أصول العقيدة، لا يصح إيمان أحد إلا إذا آمن بالكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله عليهم السلام رحمة للخلق، وهداية لهم؛ ليصلوا بها إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وجوب اليقين في الإيمان بالكتب وسائر أصول الإيمان:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الْيَقِين هُوَ الْإِيمَان الْجَازِم الثَّابِت الَّذِي لَا ريب فِيهِ وَلَا تردد وَلَا شكّ وَلَا شُبْهَة بِخَمْسَة أصُولٍ ذكرهَا سُبْحَانَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] وَفِي قَوْله {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء] وَفِي قَوْله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] وَالْإِيمَان بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر دَاخل فِي الْإِيمَان بالكتب وَالرسل، وَجمع بَينهمَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث عمر رضي الله عنه فِي قَوْله:«الْإِيمَان أَنْ تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر»
(2)
فَهَذِهِ الْأُصُول الْخمس من لم يُؤمن بهَا فَلَيْسَ بِمُؤْمِن وَالْيَقِين أَنْ يقوم الْإِيمَان بهَا حَتَّى تصير كَأَنَّهَا مُعَاينَة للقلب مُشَاهدَة لَهُ نسبتها إِلَى البصيرة كنسبة الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَى الْبَصَر وَلِهَذَا قَالَ من قَالَ من السّلف: «الْيَقِينُ
(1)
كان في يوم الأربعاء الثالث عشر من شهر رمضان 1441 هـ.
(2)
أخرجه مسلم (1)
الْإِيمَانُ كُله»
(1)
ا. هـ
(2)
ثناء الله على رسله عليهم السلام لتبليغهم كتبه المنزلة:
وقد أثنى الله -جل وعلا- على الرسل الذين يبلغون عن الله كتبَه ورسالاتِه فقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
ثناء الله على رسوله والمؤمنين لإيمانهم بالكتب والرسل:
كما أخبر أنَّ الرسول والمؤمنين آمنوا بما أُنزِل من عند الله من كُتُب، يقول ربُّنا -جل وعلا-:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فَبَايَنُوا بِهَذَا الْإِيمَانِ جَمِيعَ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ لِجِنْسِ الرُّسُلِ. وَالْمُصَدِّقِينَ لِبَعْضِهِمْ الْمُكَذِّبِينَ لِبَعْضِهِمْ ا. هـ
(3)
ذم المفرقين بين كتب الله:
وذم الله تعالى المفرقين بين كتبه فقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة]
(1)
علقه البخاري بصيغة الجزم عن ابن مسعود رضي الله عنه. ووصله وكيع في الزهد (203) وسعيد بن منصور في التفسير ط الألوكة (7/ 271) رقم (1928) وعبد الله بن أحمد في السنة (817) والحاكم في المستدرك (3666) وقال صحيح الإسناد. وروي مرفوعا ولا يصح كما في السلسلة الضعيفة (499). ورواه سعيد بن منصور (1927) أيضا وابن أبي الدنيا في الشكر (58) عن الشعبي.
(2)
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه - ط عطاءات العلم (1/ 21)
(3)
مجموع الفتاوى (14/ 135).
ذم أهل الكتاب الذين جعلوا القرآن عضين:
ووصفهم سبحانه بـ: {الْمُقْتَسِمِينَ (90)} [الحجر] أَيِ: الْمُتَحَالِفِينَ، عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبِهِمْ وَأَذَاهُمْ، وكَانُوا لَا يُكَذِّبُونَ بِشَيْءٍ إِلَّا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ، فَسُمُّوا مقتسمين. {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)} [الحجر] أي: جَزَّؤوا كُتُبَهُمُ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِمْ، فَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ
(1)
.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: «هُمْ أَهْلُ الكِتَابِ [اليَهُودُ وَالنَّصَارَى] جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ، وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ» رواه البخاري
(2)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَضوه أَعْضَاءً، قَالُوا: سِحْرٌ، وَقَالُوا: كِهَانَةٌ، وَقَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
(3)
مشابهة المشركين لأهل الكتاب في التكذيب بالقرآن:
وما ذكره مجاهد يصدق على أهل الكتاب كما يصدق على المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ وَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدُمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَيَرُدُّ قَوْلُكُمْ بَعْضَهُ بَعْضًا قَالُوا: فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُلْ بِهِ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا وَأَسْمَعُ قَالُوا: نَقُولُ إِنَّهُ كَاهِنٌ قَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ قَالُوا: فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ قَالُوا: فَنَقُولُ إِنَّهُ شَاعِرٌ، قَالَ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ لَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهَ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ فَمَا هُوَ بِالشَّاعِرِ قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرٍ لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ قَالُوا: فَمَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟
(1)
انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 549)
(2)
أخرجه البخاري (3945، 4706) والزيادة رواية له. واستدركه الحاكم (3354) وتعقبه الذهبي في التلخيص فقال: ذا أخرجه البخاري ا. هـ وكذا تعقبه الحافظ في إتحاف المهرة (7290)
(3)
تفسير ابن كثير - ت السلامة (4/ 549)
قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ
(1)
وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لَأَنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ.
(2)
وفي المستدرك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لَمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا. قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ. قَالَ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: " هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يَأْثُرُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَنَزَلَتْ الآيات
(3)
.
أي أَنْزَلَ اللهُ عز وجل فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الآيات: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
(1)
قال السهيلي في الروض الأنف ت تدمري (3/ 19): وَقَوْلُ الْوَلِيدِ إنّ أَصْلَهُ لَعَذْقٌ وَإِنّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ. اسْتِعَارَةٌ مِنْ النّخْلَةِ الّتِي ثَبَتَ أَصْلُهَا، وَقَوِيَ وَطَابَ فَرْعُهَا إذَا جَنَى، وَالنّخْلَةُ هِيَ الْعَذْقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ ا. هـ وقال ابن الركب الأندلسي في الإملاء المختصر في شرح غريب السير (ص 85): قوله: وإن فرعه لجناة، أي فيه ثمر يجنى ا. هـ
(2)
سيرة ابن اسحاق "السير والمغازي"(ص 150) ومن طريقه رواه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 199) وفي شعب الإيمان (134)، وعلقه أبو نعيم في دلائل النبوة (183)، ورواه أبو نعيم من طريق آخر عن ابن إسحاق به عن عكرمة -ليس فيه ابن عباس رضي الله عنهما. وعن عكرمة رواه عبد الرزاق في تفسيره (3383) والطبري في تفسيره جامع البيان ط هجر (23/ 429).
(3)
المستدرك على الصحيحين (3872) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 198) وفي شعب الإيمان (133) وأشار البيهقي إلى إعلاله بالإرسال فقال في شعب الإيمان (1/ 288): هكذا حدثناه موصولا، ورواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا، وذكر الآية التي قرأها {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]. ا. هـ وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول (ص: 225).
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} [المدثر]
دليل الإيمان بالكتب من القرآن:
هذه الكتب من عند الله والله -جل وعلا- أمر المؤمنين أن يؤمنوا بها فقال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة].
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: فَجَعَلَ الْقَوْلَ فَرْضًا حَتْمًا، كَمَا جَعَلَ مَعْرِفَتَهُ فَرْضًا، وَلَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَقُولُ: اعْرِفُونِي بِقُلُوبِكِمْ ثُمَّ أَوْجَبَ مَعَ الْإِقْرَارِ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كَإِيجَابِ الْإِيمَانِ ا. هـ
(1)
وقال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية. [البقرة: 177] وفي الآية المباركة: أن تحقق ماهية البر لا يكون إلا بأمور لا بد منها أولها: الْإِيمَانُ بِأُمُورٍ خَمْسَةٍ وهي: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، والْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، والْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ والإيمانُ بالكتب والإيمان بالرسل.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)} [العنكبوت]
قال الطبري رحمه الله: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الرُّسُلِ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْكِتَابَ {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} مِنْ قَبْلِكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ {يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} يَقُولُ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ ظَهَرانِيكَ الْيَوْمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه، وَمَنْ آمَنَ بِرَسُولِهِ مِنْ بَنِي
(1)
كتاب الإيمان (ص 60).
إِسْرَائِيلَ ا. هـ
(1)
وقال ابن كثير: وَقَوْلُهُ: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)} أَيِ: الَّذِينَ أَخَذُوهُ فتلَوْه حَقَّ تِلَاوَتِهِ مِنْ أَحْبَارِهِمُ الْعُلَمَاءِ الْأَذْكِيَاءِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَأَشْبَاهِهِمَا. وَقَوْلُهُ:{وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} ، يَعْنِي الْعَرَبَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ ا. هـ
(2)
إهلاك الله المكذبين بكتبه:
ومما يدل على منزلة الإيمان بالكتب في الدين أيضًا أن الله تعالى أهلك الأمم السابقة بسبب تكذيبهم بهذه الكتب كما أخبر الله -جل وعلا- عن نبيه صالح عليها السلام أنه قال لقومه: {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)} [الأعراف].
وقال تعالى عن نبيه شعيب عليها السلام الذي كان يسميه بعض السلف خطيب الأنبياء عليهم السلام
(3)
كفر المكذبين بالكتب المنزلة:
والمكذبون بالكتب المنزلة أو ببعضها كفار مستحقون للعذاب إذ لا يتم الإيمان إلا بالإيمان بجميع الكتب المنزلة، كما تقدم. يقول ربُّنا:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (18/ 423)
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 285)
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في العقوبات (185) عن الثوري قال: " كَانَ يُقَالُ: شُعَيْبٌ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ صلى الله عليه وسلم " ورواه ابن أبي حاتم (8725) عن الإمام مالك أنه قال: كَانَ شُعَيْبٌ عليه السلام خَطِيبَ الأَنْبِيَاءِ. وفي تفسير الطبري (10/ 323): بسنده عن ابْنِ إِسْحَاقَ قال: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَ لِي يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ إِذَا ذَكَرَ شُعَيْبًا، قَالَ:«ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ» لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمِهِ فِيمَا يُرَادُ بِهِمْ.
ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء].
(1)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وَالْمُؤْمِنُ بِبَعْضِ الرِّسَالَةِ دُونَ بَعْضٍ كَافِرٌ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} [النساء] وَقَالَ تَعَالَى - يُخَاطِبُ أَهْلَ الْكِتَابِ -: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة]. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء]. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} [النساء]. فَذَمَّ الَّذِينَ أُوتُوا قِسْطًا مِنْ الْكِتَابِ لَمَّا آمَنُوا بِمَا خَرَجَ عَنْ الرِّسَالَةِ وَفَضَّلُوا الْخَارِجِينَ عَنْ الرِّسَالَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَا
…
وَكَمَا ذَمَّ الْمُدَّعِينَ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا وَهُمْ يَتْرُكُونَ التَّحَاكُمَ إلَى
(1)
قال الطيبي في فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف)(5/ 192): لم يذكر فيه الإيمان بالملائكة واليوم الآخر -يعني في صدر الآية-. وأجيب أن الإيمان بالكتب المنزلة إيمانٌ بالملائكة الذين نزلوا بها- ولذلك كرر "نزَّلَ" - وإيمانٌ باليوم الآخر لاشتمال الكتب عليه ا. هـ وانظر: البحر المحيط في التفسير (4/ 99)
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَتَحَاكَمُونَ إلَى بَعْضِ الطَّوَاغِيتِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
…
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة]
…
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [الشورى: 15] فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْمِنَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَيُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيَمْنَعَ كُلَّ مُبْطِلٍ عَنْ بَاطِلِهِ؛ فَإِنَّ الْقِسْطَ وَالْعَدْلَ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِيمَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد] وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة] إلَخْ السُّورَةِ. وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «أُعْطِيهِمَا مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ»
(1)
«وَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِشَيْءِ مِنْهُمَا إلَّا أُعْطِيَهُ»
(2)
. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»
(3)
وَقَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (23251) من حديث حذيفة رضي الله عنه وأصله في صحيح مسلم (522)
(2)
أخرجه الإمام مسلم (806) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (4008) ومسلم (807) من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه.
الْعَلِيمُ (137)} [البقرة]
…
إلخ
(1)
دليل الإيمان بالكتب من السنة:
وجاء في حديث جبرائيل المشهور عليها السلام أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان، قال:«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
(2)
. فبيَّنَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الإيمان بالكتب أحدُ أركان الإيمان.
وجاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من أدعية النوم أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ، وَرَبَّ الأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ»
(3)
قوله: «وَالْفُرْقَانِ» أي القرآن.
وروى الإمام مالك عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ، مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَادَى أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ لَحِقَهُ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى يَدِهِ. وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ:«إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا» ، قَالَ أُبَيٌّ فَجَعَلْتُ أُبْطِئُ فِي الْمَشْيِ رَجَاءَ ذَلِكَ. ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ السُّورَةَ الَّتِي وَعَدْتَنِي، قَالَ:«كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ؟» قَالَ فَقَرَأْتُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هِيَ هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُ»
(4)
ورواه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُعَلِّمُكَ
(1)
مجموع الفتاوى (12/ 338) وما بعدها.
(2)
أخرجه مسلم (1) من حديث عمر رضي الله عنه. وهو في البخاري (50) ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(3)
مسلم (2713) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
موطأ مالك ت عبد الباقي (1/ 83/ رقم 37)، وقال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (14/ 433): هَذَا مُرْسَلٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. ولكن اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الْعَلَاءِ، فَرَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه
…
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ا. هـ قلت: وصله عن مالك زيد بن الحباب كما في تفسير الطبري (14/ 122/ ط هجر) والقعنبي كما في المستدرك للحاكم (2/ 258) فقالا: عن مالك عن أبي سعيد مولى عامر، عن أبيّ بن كعب ا. هـ والمرسل عن مالك أصح ويشهد له ما بعده.
سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الزَّبُورِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا؟» قُلْتُ: بَلَى .... الحديث.
(1)
وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أُبَيِّ رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم:«[يقول الله تعالى] مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ القُرْآنِ، وَهِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَهِيَ مَقْسُومَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»
(2)
وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَرَأَ عَلَيْهِ أُبَيٌّ أُمَّ الْقُرْآنِ، فَقَالَ
…
فذكره نحوه بمعناه مطولا
(3)
. فهذه الأدلة كلُّها تدل على ما أمر الله -جل وعلا- به من الإيمان بالكتب المنزلة.
قال الحافظ ابن بطة رحمه الله: "وكذلك وجوب الإيمان والتصديق بجميع ما جاءت به الرسل من عند الله وبجميع ما قال الله -جل وعلا- فهو حق لازم فلو أن رجلًا آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئًا واحدًا كان بِرَدِّ ذلك الشيء كافراً عند جميع العلماء"
(4)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق المسلمون على ما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وبجميع ما أنزله الله من الكتب"
(5)
.
وقال تلميذه الحافظ ابن كثير رحمه الله: "أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصَّلًا، وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملًا، ونصَّ على أعيانٍ من الرسل، وأجمل ذِكْرَ بقية الأنبياء، وألَّا يفرقوا بين أحد منهم، بل يؤمنوا بهم كلهم"
(6)
.
(1)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (35/ 21/ ط الرسالة) -ومن طريقه الضياء في "المختارة"(1233) -؛ وأخرجه عبد بن حميد (165)، والطبري في "التفسير" 14/ 58، وابن خزيمة (500)، وابن المنذر في الأوسط (1300) والحاكم (1/ 557 و 2/ 257 - 258) وقال صحيح على شرط مسلم، والبيهقي في "القراءة خلف الإمام"(103) وفي شعب الإيمان (2139)، والضياء في "المختارة"(1234) من طرق عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة به.
(2)
رواه الترمذي في جامعه (3215) والنسائي في سننه (914) وابن حبان في صحيحه (775) من طريق أخرى عن عبد الحميد بن جعفر به. والزيادة لابن حبان.
(3)
رواه الترمذي (2875 و 3125 م) وأحمد (2/ 357، 412) وغيرهم وانظر: المسند المصنف المعلل (1/ 145).
(4)
الإبانة لابن بطة (210).
(5)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 371).
(6)
تفسير ابن كثير (1/ 448).
عيب أهل الكتاب على المؤمنين إيمانهم بالكتب:
ومن جحود اليهود والنصارى أهل الكتاب وكفرهم وعنادهم أنهم عابوا على المؤمنين إيمانهم بالكتب المنزلة كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} [المائدة]. أي: هل تعيبون علينا وتنكرون منا إلا أننا آمنا بالله ووحدناه، وآمنا بجميع كتبه ورسله، وذلك أمر لا ينكر ولا يعاب.
(1)
قال أبو حيان: وهذه محاورة لطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليه إلا ما لا ينقم ولا يعد عيبا ا. هـ
(2)
ونظير هذا في الاستثناء العجيب قول الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج] أي ما أنكر الكفار على المؤمنين إلا أنهم آمنوا بالله، وهذا لا ينبغي أن ينكر.
ومثله قول النابغة:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
تكرار ذكر الإيمان بالكتب في سورة البقرة:
قال شيخ الإسلام رحمه الله: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ -يعني سورة البقرة- جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَافْتَتَحَهَا بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَوَسَّطَهَا بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَخَتَمَهَا بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ هُوَ عَمُودُ الْإِيمَانِ وَقَاعِدَتُهُ وَجِمَاعُهُ ا. هـ
(3)
يشير -رحمه الله تعالى- إلى قوله تعالى في أولها: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [البقرة] فَالْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ ثُمَّ قَالَ: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ
(1)
انظر: تفسير الطبري ط هجر (8/ 537)، وتفسير ابن جزي "التسهيل لعلوم التنزيل"(1/ 236)
(2)
البحر المحيط في التفسير (4/ 303)
(3)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (5/ 64) وانظر: مجموع الفتاوى (14/ 135)
يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ فَتَضَمَّنَتْ الْإِيمَانَ بِالْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ.
وقال تعالى في وسطها: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية. [البقرة: 177]
وقال تعالى في آخرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] وَالْإِيمَان بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر دَاخل فِي الْإِيمَان بالكتب وَالرسل كما تقدم عن ابن القيم رحمه الله
(1)
الإيمان بالكتب يتضمن جملة من الأمور:
ويتضمن الإيمان بالكتب:
1 -
الإيمان بأنها وحي أنزلت من عند الله حقَّاً.
قال البيهقي رحمه الله: وَالْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ يَتَشَعَّبُ شُعَبًا، فَأُولَاهَا: الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللهِ تبارك وتعالى، وَلَيْسَ مِنْ وَضْعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلَا مِنْ وَضْعِ جِبْرِيلَ عليها السلام
…
فَإِنَّ اللهَ عز وجل قَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]
…
ثم ذكر الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله: قول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقال:
…
الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ مَعَ سَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ، عَلَى أَنَّ مُوسَى عليها السلام كَانَ مَخْصُوصًا بِفَضْلِ كَلَامِ اللهِ عز وجل، وَلَوْ كَانَ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَاصِيَّةُ،
…
إلخ ا. هـ
(2)
2 -
والإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه: كالقرآن الذي نُزِّل على محمد صلى الله عليه وسلم والتوراة التي أُنزلت على موسى عليها السلام والإنجيل الذي نزل على عيسى عليها السلام والزبور الذي أوتيه داود عليها السلام وأما ما لم نعلمه من الكتب المنزلة فنؤمن به إجمالاً. قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَنُؤْمِنُ بِمَا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى مِنْهَا فِي كِتَابِهِ، مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سِوَى ذَلِكَ كُتُبًا أَنْزَلَهَا عَلَى
(1)
انظر: (ص 7).
(2)
شعب الإيمان (1/ 326).
أَنْبِيَائِهِ، لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهَا وَعَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ا. هـ
(1)
3 -
تصديق ما صح من أخبارها: كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدل، أو يحرف من الكتب السابقة.
4 -
العمل بما لم ينسخ منها، والرضا، والتسليم به، سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها وجميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] أي حاكماً عليه، وعلى هذا فلا يجوز العمل بأي حكم من أحكام الكتب السابقة إلا ما صح وأقره القرآن.
يقول الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي -رحمه الله تعالى- في (شعب الإيمان): "الرابع من شعب الإيمان: الإيمانُ بالقرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائرِ الكتب المنزلة على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين
…
(ثم ذكر جملة من الآيات التي قرأناها، وقال بعد ذلك): والإيمان بالقرآن يتشعَّبُ شعبًا:
فأولاها: الإيمان بأنه كلام الله تبارك وتعالى وليس من وضع محمد صلى الله عليه وسلم ولا من وضع جبريل عليها السلام.
والثانية: الاعتراف بأنه معجز النظم، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لم يقدروا عليه.
والثالثة: اعتقاد أن جميع القرآن الذي توفي النبي صلى الله عليه وسلم عنه هو هذا الذي في مصاحف المسلمين لم يَفُتْ منه شيءٌ، ولم يضع بنسيان ناس ولا ضلال صحيفة ولا موت قارئ ولا كتمان كاتم، ولم يحرَّفْ منه شيءٌ، ولم يُزَدْ فيه حرف ولم يُنقَصْ منه حرف. (ثم ذكر الأدلة الدالة على هذه الأمور الثلاثة، وقال بعد ذلك):
وأما الإيمان بسائر الكتب مع الإيمان بالقرآن فهو نظير الإيمان بسائر الرسل مع الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، والذي يحق علينا معرفته في كلام الله أن نعرف: أن كلامه صفة من صفات ذاته يقوم به. وكلامه مقروء في الحقيقة بقراءتنا. محفوظ في قلوبنا. مكتوب في مصاحفنا. غير حالٍّ فيها. كما أن الله-تعالى-مذكورٌ في الحقيقة
(1)
شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (2/ 424).
بألسنتنا، معلومٌ في قلوبنا، معبودٌ في مساجدنا غيرُ حالٍّ فيها. وكلام الله إذا قُرِئ بالعربية سُمِّيَ قرآنًا، وإذا قُرِئَ بالسريانية سُمِّيَ إنجيلًا، وإذا قُرِئ بالعبرانية سُمِّيَ توراة"
(1)
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله:
وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ، فَالْإِقْرَارُ بِهِ، وَاتِّبَاعُ مَا فِيهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ. فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى رُسُلِ اللَّهِ أَتَتْهُمْ مِنَ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا حَقٌّ وَهُدًى وَنُورٌ وَبَيَانٌ وَشِفَاءٌ.
قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285]
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهَا، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ عِنْدِهِ. وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْكَلَامِ وَالْعُلُوِّ
…
إلخ
(2)
الاقتصار على القرآن:
قال البيهقي: "وإنما يجوز في هذه الشريعة قراءةُ ما سُمِّيَ قرآنًا دون ما سُمِّيَ توراة وإنجيلًا؛ لأن الله كذَّب أهلَ التوراة والإنجيل الذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، وأخبر عن خيانتهم وتحريفهم الكلامَ عن مواضعه ووضعهم الكتاب {ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79] {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)} [آل عمران]. فلا يأمن المسلم إذا قرأ شيئًا من كتبهم أن يكون ذلك من وضع اليهود والنصارى
…
إلخ"
(3)
.
(1)
شعب الإيمان (1/ 321 - 345).
(2)
شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (2/ 424 - 425).
(3)
شعب الإيمان (1/ 345).
التحريف في الكتب السابقة:
وهنا يبين لنا الإمام البيهقي رحمه الله ما قد ثبت بلا شك من تحريف أهل الكتاب للكتب المنزلة. قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة]
وفي الصحيحين عن مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ» ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ رضي الله عنه، كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، ثُمَّ قَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ رضي الله عنه: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ
(1)
.
النهي عن النظر في الكتب المحرفة والاكتفاء بالقرآن:
ولذا جاء النهي عن النظر في كتبهم -لغير حاجة شرعية-، كما روى مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ كِتَابًا حَسَنًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَغَضِبَ وَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» وفي رواية: أَنَّ عُمَرَ بْنَ
(1)
أخرجه مالك في الموطأ ت عبد الباقي (2/ 819) رقم (1)، ومن طريقه رواه البخاري (3635، 6841) ومسلم (1699).
الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنُسْخَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَسَكَتَ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، مَا تَرَى بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا» . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي، لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي، لَاتَّبَعَنِي»
(1)
وقيل للحسن البصري رحمه الله: ما «مُتَهَوِّكُونَ» ؟ فقال: متحيّرون. وعلق عليه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله فقال: يقول: أمتحيّرون أنتم فى الإسلام، لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من اليهود والنّصارى؟ قال أبو عبيد: فمعناه أنّه كره أخذ العلم من أهل الكتاب ا. هـ
(2)
وقال البغوي رحمه الله: قَوْلُهُ: «أَمُتَهَوِّكُونَ» أَيْ: مُتَحَيِّرُونَ أَنْتُمْ فِي الإِسْلامِ، لَا تَعْرِفُونَ دِينَكُمْ حَتَّى تَأْخُذُوهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَوْلُهُ:«بَيْضَاءَ نَقِيَّةً» أَرَادَ الْمِلَّةَ، لِذَلِكَ جَاءَ التَّأْنِيثُ، كَقَوْلِهِ:{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [الْبَيِّنَة: 5] أَيْ: تَفْسِيرُ الْمِلَّةِ الْقَيِّمَةِ الْحَنِيفِيَّةِ ا. هـ
(3)
وروى الإمام مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ كَعْبُ الأَحْبَارِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ مُصْحَفًا، قَدْ تَشَرَّمَتْ حَوَاشِيهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيَر الْمُؤْمِنِينَ، فِي هَذِهِ التَّوْرَاةُ فَأَقْرَؤُهَا؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه:«إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا التَّوْرَاةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ، فَاقْرَأْهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَإِلَاّ فَلَا» ، فَرَاجَعَهُ
(1)
أخرجه أحمد (15156) وابن أبي شيبة في المصنف (26421) -ومن طريقه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1497) - والدارمي (449) والرواية الأخرى له. والبيهقي في شعب الإيمان (175) وفي إسناده مجالد وهو ضعيف، لكن للحديث طرق أخرى ولذا حسنه العلامة الألباني في الإرواء (1589)
(2)
غريب الحديث (2/ 324)
(3)
شرح السنة (1/ 271)
كَعْبٌ، فَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ
(1)
. قال العلامة القنازعي رحمه الله: ففِي هذَا مِنَ الفِقْهِ: أَنَ عُمَرَ كَرِهَ أَنْ يُقْرأَ مِنَ الكُتُبِ الأُوَلُ شَيءٌ إلَّا مَا صَحَّ أَنهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تبارك وتعالى لَمْ يُحَرَّفْ ولَمْ يُبَدَّلْ، وفيهِ: أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارَ قَدْ عَلِمَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ قَدْ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ، إذ لَمْ يُخْبرْ عُمَرَ بأن في ذَلِكَ المُصْحَفِ التَّوْرَاةَ المَنْزُولَةَ غَيْرَ المُبَدَّلَةِ ا. هـ.
(2)
وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: ومن صَحَّ عندَهُ شيءٌ من التَّوراةِ بنَقلِ مِثلِ ابن سَلام رضي الله عنه وغيرِهِ من أحبارِ اليهُودِ الذين أسْلَمُوا، جازَ لهُ أن يَقْرأهُ ويعملَ بما فيه إن لم يَكُنْ مُخالِفًا لِما في شَرِيعتِنا، من كِتابِنا وسُنَّةِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم،
…
ثم ذكر قول عمر لكعب المتقدم.
(3)
حكم الرواية عن أهل الكتاب:
وفي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
(4)
قال الحافظ: وَقَالَ مَالِكٌ الْمُرَادُ جَوَاز التحدث عَنْهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ حَسَنٍ أَمَّا مَا عُلِمَ كَذِبُهُ فَلَا؛ وَقِيلَ الْمَعْنَى حَدِّثُوا عَنْهُمْ بِمِثْلِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
…
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُجِيزُ التَّحَدُّثَ بِالْكَذِبِ فَالْمَعْنَى حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا لَا تَعْلَمُونَ كَذِبَهُ وَأَمَّا مَا تُجَوِّزُونَهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِي التَّحَدُّثِ بِهِ عَنْهُمْ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ»
(5)
وَلَمْ يَرِدِ الْإِذْنُ وَلَا الْمَنْعُ مِنَ التَّحَدُّثِ بِمَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ. ا. هـ
(6)
وروى الإمام البخاري أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ
(1)
«موطأ مالك رواية أبي مصعب الزهري» (1/ 108) رقم (275) ورواه إبراهيم الحربي في غريب الحديث (3/ 950) من طريق معن عن مالك. وفيه انقطاع، زيد لم يدرك عمر رضي الله عنه.
(2)
تفسير الموطأ (1/ 238)
(3)
التمهيد - ابن عبد البر (9/ 277 ت بشار)
(4)
صحيح البخاري (3461)
(5)
سيأتي (ص 27) وانظر الحديث الآتي.
(6)
فتح الباري (6/ 498 - 499)
التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]» الآيَةَ وزاد في رواية: «
…
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» الآيَةَ
(1)
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره وذكر الآية تامة ولفظه: «
…
(2)
وفي الحديث: النَّهْيُ عَنْ تَصْدِيقِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِمْ.
(3)
وقال الحافظ: قَوْلُهُ «لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ» أَيْ إِذَا كَانَ مَا يُخْبِرُونَكُمْ بِهِ مُحْتَمَلًا لِئَلَّا يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صِدْقًا فَتُكَذِّبُوهُ أَوْ كَذِبًا فَتُصَدِّقُوهُ فَتَقَعُوا فِي الْحَرَجِ ا. هـ
(4)
وأرشد في الحديث إلى ما هو الصواب فيه، وهو أن يقول المسلمون إذا حدّثهم أهل الكتاب:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} . قال الحافظ: وَلَمْ يَرِدِ النَّهْيُ عَنْ تكذيبهم فِيمَا ورد شرعنا بِخِلَافِهِ وَلَا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ فِيمَا وَرَدَ شَرْعُنَا بوفاقه نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ التَّوَقُّفُ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْمُشْكِلَاتِ وَالْجَزْمِ فِيهَا بِمَا يَقَعُ فِي الظَّنِّ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ مِنْ ذَلِكَ. ا. هـ
(5)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ [مَحْضًا] لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوه [وَكَتَبُوا] بِأَيْدِيهِمُ الكِتَابَ،
(1)
أخرجه البخاري (4485، 7362، 7542) والزيادة المذكورة مع ما قبلها ليس بآية.
(2)
تفسير ابن أبي حاتم (9/ 3070) وهو في السنن الكبرى للنسائي (10/ 211) رقم (11323) وشعب الإيمان للبيهقي (4842)
(3)
انظر: فتح الباري لابن حجر (5/ 292)
(4)
فتح الباري (8/ 170)
(5)
المرجع السابق
فَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ العِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ، وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ»
(1)
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ رضي الله عنه: «لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَتُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَيُضِلُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى دِيْنِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ»
(2)
وفي رواية: «
…
إِلَّا فِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ وَكِتَابِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ». وَالتَّالِيَةُ: الْبَقِيَّةُ.
(3)
وزاد في رواية: قَالَ: «إِنْ كُنْتُمْ سَائِلِيهِمْ لَا مَحَالَةَ فَانْظُرُوا مَا وَاطَأ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ، وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَدَعُوهُ»
(4)
قال ابن بَطَّالٍ رحمه الله: قال المهلب: قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ» إنما هو في الشرائع لا تسألوهم عن شرعهم فيما لا نعرفه من شرعنا لنعمل به؛ لأن شرعنا مكتف وما لا نص فيه عندنا ففي النظر والاستدلال ما يقوم الشرع منه. وأما سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم من الأخبار عن الأمم السالفة فلم ننه عنه. فإن قيل: فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بسؤال أهل الكتاب فقال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]. قيل: ليس هذا بمفسد لما تقدم من النهى عن سؤالهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكًا ولا مرتابًا، وقال أهل التأويل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من الشكاك كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، وتقديره: إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على نبينا. كقولهم: إن كنت ابني فبرني. وهو يعلم أنه ابنه، فإن قيل: فإذا كان المراد بالخطاب غير النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجوز سؤال الذين يقرءون الكتاب مع جحدهم النبوة؟ ففيه قولان: أحدهما: سل من آمن من أهل الكتاب كابن سلام، وكعب الأحبار. عن ابن
(1)
أخرجه البخاري (2685، 7363، 7522، 7523) واستدركه الحاكم فرواه في المستدرك على الصحيحين للحاكم (3041) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه!. وتعقبه الحافظ في إتحاف المهرة (7/ 384) وقال: قد أخرجه البخاري ا. هـ وانظر: السلسلة الصحيحة (6/ 804)
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 313) رقم (26424) وسنده صحيح.
(3)
أخرجه عبد الرزاق الصنعاني (6/ 111) رقم (10162) وحسن إسناده الحافظ في الفتح (13/ 334) وانظر: موافقة الخبر الخبر (1/ 119)
(4)
المرجع السابق
عباس والضحاك، ومجاهد وابن زيد. الثاني: سلهم عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم المبشر به فى كتبهم، ثم انظر ما يوافق تلك الصفة ا. هـ
(1)
الأحاديث الإسرائيلية ثلاثة أقسام:
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: الْأَحَادِيثَ الْإِسْرَائِيلِيَّةَ تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ، لَا لِلِاعْتِضَادِ، فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ، فَذَاكَ صَحِيحٌ.
وَالثَّانِي: مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ.
وَالثَّالِثُ: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ، وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إِلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ؛ وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذَا كَثِيرًا، وَيَأْتِي عَنِ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ، وَعِدَّتِهِمْ، وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ؟ وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كلَّم اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ. وَلَكِنَّ نَقْلُ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ ا. هـ.
(2)
وفي قول الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} [العنكبوت]
يقول الحافظ ابن كثير: وَقَوْلُهُ: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} يَعْنِي: إِذَا أَخْبَرُوا بِمَا لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ، فَهَذَا لَا نُقدم عَلَى تَكْذِيبِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ حَقًّا، وَلَا عَلَى تَصْدِيقِهِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يكون باطلا وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانًا مُجْمَلًا
(1)
«شرح صحيح البخاري لابن بطال» (10/ 391) وانظر: فتح الباري (13/ 334)
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 9)
مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُنْزَلًا لَا مُبَدَّلًا وَلَا مُؤَوَّلًا
…
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم «لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ،
…
» ثم قال: وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَر، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ أَنَّ أَبَا نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُ أَعْلَمُ» . قَالَ الْيَهُودِيُّ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ»
(1)
قال الحافظ ابن كثير: وَأَبُو نَمْلَةَ هَذَا هُوَ: عُمَارة. وَقِيلَ: عَمَّارٌ. وَقِيلَ: عَمْرُو بْنُ مُعَاذِ بْنِ زُرَارة الْأَنْصَارِيُّ، رضي الله عنه. قال: ثُمَّ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُحدّثون بِهِ غالبُه كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَهُ تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ وَتَأْوِيلٌ، وَمَا أَقَلَّ الصِّدْقَ فِيهِ، ثُمَّ مَا أَقَلَّ فَائِدَةَ كَثِيرٍ مِنْهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا
…
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ
(2)
: وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حُمَيد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ -وذكرَ كعبَ الْأَحْبَارِ -فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ.
(3)
قال الحافظ ابن كثير
(1)
أخرجه أحمد (17225، 17226) وأبو داود (3644) وصححه ابن حبان (6257) وصححه العلامة الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2800).
(2)
صحيح البخاري (7361)
(3)
قال الحافظ في الفتح: (13/ 334): أَيْ يَقَعُ بَعْضُ مَا يُخْبِرُنَا عَنْهُ بِخِلَاف مَا يخبرنا بِهِ قَالَ ابن التِّين: وَهَذَا نَحْو قَول ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي حَقِّ كَعْبٍ الْمَذْكُورِ: «بَدَّلَ مَنْ قَبْلَهُ فَوَقَعَ فِي الْكَذِبِ» قَالَ وَالْمُرَادُ بِالْمُحَدِّثِينَ أَنْدَادُ كَعْبٍ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَسْلَمَ فَكَانَ يُحَدِّثُ عَنْهُمْ وَكَذَا مَنْ نَظَرَ فِي كُتُبِهِمْ فَحَدَّثَ عَمَّا فِيهَا قَالَ وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا مِثْلَ كَعْبٍ إِلَّا أَنَّ كَعْبًا كَانَ أَشَدَّ مِنْهُمْ بَصِيرَةً وَأَعْرَفَ بِمَا يَتَوَقَّاهُ وَقَالَ ابن حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ: أَرَادَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه أَنَّهُ يُخْطِئُ أَحْيَانَا فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا وَقَالَ غَيْرُهُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ "لَنَبْلُو عَلَيْهِ" لِلْكِتَابِ لَا لِكَعْبٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي كِتَابِهِمُ الْكَذِبَ لِكَوْنِهِمْ بَدَّلُوهُ وَحَرَّفُوهُ وَقَالَ عِيَاضٌ: يَصِحُّ عَوْدُهُ عَلَى الْكِتَابِ وَيَصِحُّ عَوْدُهُ عَلَى كَعْبٍ وَعَلَى حَدِيثِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْكَذِبَ وَيَتَعَمَّدْهُ إِذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي مُسَمَّى الْكَذِبِ التَّعَمُّدُ بَلْ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ تجريح لكعب بِالْكَذِبِ. وَقَالَ ابن الْجَوْزِيِّ: الْمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ كَعْبٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَكُونُ كَذِبًا لَا أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ كَعْبٌ مِنْ أَخْيَارِ الْأَحْبَارِ
…
إلخ.
قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُ الْكَذِبُ لُغَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ صُحُفٍ هُوَ يُحْسِنُ بِهَا الظَّنَّ، وَفِيهَا أَشْيَاءُ مَوْضُوعَةٌ وَمَكْذُوبَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ حُفَّاظٌ مُتْقِنُونَ كَهَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ وَقُرْبَ الْعَهْدِ وُضِعَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ مَنَحَهُ اللَّهُ عِلْمًا بِذَلِكَ، كُلٌّ بِحَسْبِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ ا. هـ
(1)
تتمة في أن الإيمان بالكتب السماوية يتضمن عدة أمور:
وحاصل ما تقدم -في تحقيق معنى الإيمان بالكتب المنزلة- من المنقول عن العلماء -رحمهم الله تعالى-، أنهم قالوا: الإيمان بالكتب المنزلة يتضمن عدة أمور:
الأمر الأول: الكتب السماوية المنزلة كلام الله:
1 -
فيجب التصديقُ الجازمُ بأن جميعها وحي منزل من عند الله تبارك وتعالى على أنبيائه ورسله، وأنها حق وصدق بغير شك ولا ارتياب. وأن الله تعالى تكَلَّم بها حقيقة؛ فهي كلام الله غير مخلوق لا كلام غيره، فليست كلام النبي، ولا جبريل ولا أحد من البشر بل هذه الكتب جميعها من عند الله. هذا هو الأمر الأول.
الأمر الثاني: الكتب السماوية تدعو إلى توحيد الله:
2 -
الأمر الثاني: أن نعتقد أن جميع الكتب دعت إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ودعت إلى نبذ الشرك به. قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]
الأمر الثالث: وجوب الإيمان بما صحَّ من أخبارها:
3 -
الأمر الثالث: أن نؤمن بكل ما فيها من الشرائع، ونصدق بكل ما صحَّ من أخبارها كأخبار القرآن، وما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة كما جاء في سورة النجم، فقد ذكر الله بعض الأمور العظيمة التي كانت في كتب سابقة، وحثَّنَا عليها، فقال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
(1)
تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 285)
أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم] إلى آخر الآيات التي يبين فيها أن هذه الكلمات العظيمة موجودة أيضًا في الكتب السابقة. وفي سورة الأعلى التي نقرؤها مرارًا وتكرارًا ذكر الله -جل وعلا- بعض الأمور العظيمة والمواعظ والحكم ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} .
الأمر الرابع: الكتب السماوية يصدق بعضها بعضًا:
4 -
الأمر الرابع: أن نؤمن بأن جميع هذه الكتب يصدِّقُ بعضها بعضًا، لا يكذِّبُه، فلا تناقض بينها، ولا تعارض؛ لأنها كلها من عند الله تبارك وتعالى. ولو قال قائل: يوجد في التوراة ويوجد في الإنجيل الآن بعض الأشياء التي تخالف ما عندكم في القرآن. فنقول: هذه محرَّفة قد بيَّنَ الله أنَّ أهل الكتاب حرَّفُوا وبدَّلوا.
الأمر الخامس: النسخ في الكتب المنزلة:
5 -
الأمر الخامس: أن نؤمن أن نسخ الكتب بعضها بعضًا حقٌّ كما نَسَخَ الإنجيلُ بعضَ شرائع التوراة، وكما نَسَخَ القرآنُ كثيرًا من شرائع التوراة والإنجيل. فيقع نسخٌ في هذه الكتب بأمر من الله-سبحانه-كما قال تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]. وقال الله تعالى عن عيسى عليه السلام أنه قال لقومه {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]. وقال الله تعالى عن نبيه محمد الخاتم صلى الله عليه وسلم {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]
وهذه الكتب جميعها قد نسخها الله -جل وعلا- بهذا القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
الأمر السادس: ذِكْرُ ما سُمِّيَ لنا من هذه الكتب المباركة:
6 -
الأمر السادس: أن نؤمن بما سمَّى الله-تعالى-لنا من هذه الكتب السابقة إجمالًا في الإجمال، وتفصيلًا في التفصيل. وقد جاء في القرآن ذِكْرُ بعض هذه الكتب، وجاء إجمالُ شيءٍ آخر منها، فما جاء مجملًا نؤمن به مجملًا، وما جاء مفصَّلًا نؤمن به على جهة التفصيل.
فسُمِّيَ في القرآن من هذه الكتب: صحف إبراهيم وموسى، والتوراة، والزبور، والإنجيل ثم خُتِمَت هذه الكتب السماوية بأفضلها وأشرفها وهو القرآن الكريم.
وقد نزلت جميعا في شهر رمضان كما في المسند عن وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عليها السلام فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ»
(1)
فأما صحف إبراهيم فهي الكتب التي أنزلها الله على نبيه وخليله إبراهيم عليها السلام بوحي منه -سبحانه- وقد نزلت عليه جملةً واحدةً في أول ليلة من شهر رمضان.
وأما التوراة فهي اسم كتاب الله الذي أنزله الله على نبيه وكليمه موسى عليها السلام وألقاه إليه مكتوبًا في الألواح؛ ليكون لبني إسرائيل هدًى ونورًا، وقد نزلت عليه جملةً واحدةً لسِتٍّ مَضَيْنَ من رمضان. واختلف العلماء أهي صحف موسى أم غيرها؟ على قولين لأهل العلم. ومنهم من توقف فلم يجزم بشيء، قال العلامة ابن عثيمين: يحتمل أنها التوراة ويحتمل غيرها ولم يتبين لي فيها شيء ا. هـ
(2)
والله أعلم.
وأما الزبور فهو اسم كتاب الله الذي أنزله على نبيه داود عليها السلام بوحي منه سبحانه، وقد نزل عليه جملةً واحدةً لثمان عشرة خلت من رمضان.
(1)
أخرجه أحمد (28/ 191) رقم (16984)، وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (1575)
(2)
الكنز الثمين في سؤالات ابن سنيد لابن عثيمين (ص: 5)
وأما الإنجيل فهو كتاب الله الذي أنزله على نبيه وعبده عيسى بن مريم عليهما السلام ليكون لبني إسرائيل هدًى ونورًا وموعظةً للمتقين، وقد نزل عليه جملةً واحدةً لثلاث عشرة خلت من رمضان.
وأما القرآن فهو كلام الله المنزلُ على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل، المنقولُ بالتواتر، والمتعبَّدُ بتلاوته، وقد أنزله الله جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان ثم نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم بعد ذلك منجمًا ومفرَّقًا حسب الوقائع والأحداث.
وبيَّن في كتابه الحكمةَ من ذلك حين تساءل المشركون، فقال ربنا -جل وعلا-:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان]
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قَالُوا: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أَيْ: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَمَا نَزَلَتِ الْكُتُبُ قَبْلَهُ، كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ. فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أُنْزِلَ مُنَجَّمًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ، وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ لِتَثْبِيتِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ ا. هـ
(1)
وقال -جل وعلا-: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]. أَيْ: لِتُبَلِّغَهُ النَّاسَ وَتَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ {عَلَى مُكْثٍ} أَيْ: مَهَل {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} أَيْ: شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.
(2)
. فنؤمن بأنَّ هذه الكتب إنما هي من عند الله وحيٌ، أنزلها الله-سبحانه- فما عرفنا اسمه تفصيلًا نؤمن به تفصيلًا، وما عرفناه إجمالًا نؤمن به إجمالًا، وكلُّ نبي بعثه الله وأنزل عليه كتابًا فنحن نؤمن به كما أمرنا الله -جل وعلا-.
كيفية نزول القرآن:
ونزول القرآن كان نزول سماع؛ سمعه جبريل عليها السلام من رب العالمين -جل وعلا- وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم من جبريل عليها السلام غضا طريا.
(3)
وهذا النزول المذكور غير الكتابة التي دلت عليها الأدلة التي فيها:
(1)
تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 109)
(2)
المرجع السابق (5/ 127)
(3)
ينظر: فتاوى العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله (1/ 214).
1 -
أن القرآن الكريم: كتب في اللوح المحفوظ قبل نزوله: كما في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} [البروج] وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة] وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)} [عبس] وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} [الزخرف].
2 -
ثم أنزله الله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
3 -
ثم نزل مفرقاً من بيت العزة على المصطفى صلى الله عليه وسلم حسب الوقائع والحوادث وغير ذلك.
وهذا التفصيل ورد موقوفا عن ابن عباس رضي الله عنهما من طرق عدة -كما سيأتي- وله حكم الرفع
(1)
. ولا تنافي بين أدلة نزول القرآن مسموعا وأدلة كتابته قبل نزوله كما بين ذلك شيخ الإسلام رحمه الله فقال: كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافى أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله. والله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان
(1)
قال الشيخ الألباني رحمه الله -كما في جامع تراث العلامة الألباني في الفقه (11/ 268) -: مثل هذا القول لا يُمْكن أن يُقَال بالرأي والاجتهاد؛ ذلك لأنه يتحدث عن بعض الأمور الغيبية، ما يدري ابن عباس رضي الله عنهما وهو لا يُوحَى إليه أن القرآن نزل كتلة واحدة، جملة واحدة إلى السماء الدنيا دون السماء الثانية أو غيرها، ثم ما يدريه أنه نزل إلى مكان يُسَمَّى ببيت العزة، ومن السماء الدنيا، هذه أمور غيبية لا طاقة للبشر أن يتحدثوا بها إلا رَجْماً بالغيب كما يفعل المُنَجِّمون والكُهَّان والعرافون، وحاشا لابن عباس وهو ترجمان القرآن أن يتخرص وأن يتكلم رجماً بالغيب. لذلك يقول العلماء: إن هذا الأثر موقوف في حكم المرفوع؛ لأنه لا يمكن أن يقال بمجرد الرأي ا. هـ وقال أيضا: العلماء يعتبرونه في حكم حديث مرفوع للرسول عليها السلام، لماذا؟ لأنه أولاً: يتحدث في أمر غيبي. وثانياً: لأنه لا يمكن أن يكون من الإسرائيليات، فإنه يتحدث عما يتعلق بالقرآن ونزوله، وأنه نزل إلى مكان اسمه بيت العزة، وهذا البيت هو في السماء الدنيا وليس في الثانية أو ما فوقها، فقالوا: هذا في حكم المرفوع ا. هـ وقال الشيخ صالح آل الشيخ كما في "جلسة مع علي العبدان (ص: 5) " تخصيص بيت العزة في ذلك هذا لا مجال للاجتهاد فيه، كيف من القرآن نعرف أنه في بيت عزة، وأن هذا نزل في بيت العزة، فهذا يحمل على أنه لا اجتهاد فيه ا. هـ
كيف كان يكون وهو سبحانه قد قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها كما ثبت ذلك في صريح الكتاب والسنة وآثار السلف. ثم إنه يأمر الملائكة بكتابتها بعد ما يعملونها فيقابل بين الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنه فلا يكون بينهما تفاوت هكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف وهو حق. فإذا كان ما يخلقه بائنا عنه قد كتبه قبل أن يخلقه فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذى يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به. ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه منها:
…
أن قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الزمر] وقوله {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} [غافر] وقوله {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} [فصلت] وأمثال ذلك يدل على أنه منزل من الله لا من غيره وكذلك قوله {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] فإنه يدل على: إثبات أن ما أنزل إليه من ربه، وأنه مبلغ مأمور بتبليغ ذلك ا. هـ
(1)
ذكر ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك:
وقد سُئلتُ عن هذا الأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله عنهما ونقل لي السائل عن بعض العلماء -ومنهم العلامة ابن عثيمين رحمه الله -، القول بتضعيفه رواية ودراية
(2)
. فاجتهدت في جمع طرقه والنظر في كلام العلماء حوله وتبين لي أن الصواب صحته رواية ودراية كما تقدم في كلام شيخ الإسلام وإليك بيان ذلك، فأقول:
قد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق عكرمة ومقسم وسعيد بن جبير.
فأما رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: فرواه دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «نُزِّلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَكَانَ إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُحْدِثَ مِنْهُ شَيْئًا أَحْدَثَهُ. هذا لفظ النسائي وفي رواية: " أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً [واحدة، مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ] إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا [فِي رَمَضَانَ] فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً، [كَانَ جِبْرِيلُ عليها السلام يَنْزِلُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
مجموع الفتاوى (12/ 127).
(2)
انظر: تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (2/ 333) وشرح العقيدة السفارينية (1/ 213)
[حَتَّى جَمَعَهُ][فَكَانَ فِيهِ مَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ] قَالَ: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان]، وَقَرَأَ {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء]»
(1)
وأما رواية مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما: فرواه السُّدِّيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَأَلَهُ عَطِيَّةُ بْنُ الْأَسْوَدِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِيَ الشَّكُّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] وَقَدْ أُنْزِلَ فِي شَوَّالٍ وَذِي الْقِعْدَةِ وَذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَشَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّهُ أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ جُمْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ: رُسُلًا فِي الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ.
(2)
وأما رواية سعيد بن جبير فجاءت عنه من طرق:
1 -
فرواه جريرُ بن عبد الحميدِ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، في قَوْلهِ:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} قَالَ: «نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ
(1)
صحيح رواه النسائي في السنن الكبرى (7936، و 11308) وابن أبي شيبة في المصنف (30187) وابن الضريس في فضائل القرآن (116 و 117) وحفص بن عمر في جزء قراءات النبي (75) وابن منده في الإيمان (703، 704) والطبراني في المعجمين الأوسط (1479) والكبير (11/ 312/ 11839)؛ والحاكم في المستدرك (2877، 2879، 3390) -وعنه وعن غيره البيهقي في الأسماء والصفات (497، 498) وفي دلائل النبوة (7/ 131) - وقوام السنة في الحجة في بيان المحجة (60، 61) من طرق عن داود به. والزيادة الأولى لابن مندة وللبيهقي وقوام السنة (واحدة) والثانية لابن أبي شيبة وابن الضريس والطبراني والثالثة والرابعة لابن الضريس والخامسة لابن مندة وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ "
(2)
إسناده حسن، رواه ابن أبي حاتم، (1650) والبيهقي في الأسماء والصفات (501) من طريق السُّدِّيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ. قال ابن أبي حاتم: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوُهُ، وَذُكِرَ فِيهِ إِلَى بَيْتٍ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ بَيْتُ الْعِزَّةِ. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 391/ 12095): حدثنا محمد بن عثمان، ثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون، ثنا مصعب بن سلام، عن سعد بن طريف، عن الحكم، عن مقسم، به.
الْقَدْرِ، [إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ بِمَوْقِعِ النُّجُومِ] وَكَانَ اللهُ -جل وعلا- يُنَزِّلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْضَهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ، قَالُوا:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)} [الفرقان]»
(1)
2 -
ورواه جَعْفَرُ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَمَا يَزْعُمُ نَبِيًّا فَلِمَ يُعَذِّبُهُ رَبُّهُ؟ أَلَا يُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً؟ يُنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ وَالسُّورَةَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ جَوَّابُ مَا قَالُوا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ»
(2)
3 -
ورواه حُصَينٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«نَزَلَ الْقُرْآنُ جَمِيعًا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا] إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ فُصِّلَ (وفي رواية فرق) فَنَزَلَ فِي السِّنِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} [الواقعة] [قَالَ: «نَزَلَ مُتَفَرِّقًا» ]»
(3)
(1)
إسناده صحيح، رواه النسائي في السنن الكبرى (11625) وابن الضريس في فضائل القرآن (118) والحاكم في المستدرك (2878 و 3958) -وعنه البيهقي في الأسماء والصفات (495) والسنن الكبرى (8521) ودلائل النبوة (7/ 131) - وعن غير الحاكم في شعب الإيمان (3386) وفضائل الأوقات (81) -وعلقه ابن منده في الإيمان (2/ 705) - من طرق عن جرير به. والزيادة الأولى لابن الضريس والحاكم والبيهقي. وقال الحاكم «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» .
(2)
رواه ابن أبي حاتم، في تفسيره (15126) بسند حسن عَنْ جعفر به.
(3)
رواه النسائي في السنن الكبرى (11501) عن أبي عوانة، والحاكم في المستدرك (3781) -وعنه البيهقي في شعب الإيمان (2045) - عن عمرو بن عون، وابن منده في كتاب الإيمان (705) عن سليمان بن كثير، ثلاثتهم عن حصين به. والزيادة من مستدرك الحاكم والبيهقي. وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ". واختلف فيه على حصين، فرواه الطبري في تفسيره (3/ 191) والحاكم في المستدرك على الصحيحين للحاكم (3959) من طريق هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، به وقال:«هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» وتعقبه شيخنا الوادعي فقال: حكيم بن جبير ليس من رجال الشيخين وقد قال الإمام أحمد إنه مضطرب الحديث ا. هـ وروي عن حكيم من طرق أخرى ستأتي.
4 -
ورواه حَسَّانُ
(1)
، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:«فُصِلَ (وفي رواية رفع) الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ [في ليلة أربع وعشرين من رمضان]؛ [إِلَى جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ] فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا [جُمْلَةً]، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عليها السلام يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم[بِجَوَابِ كَلامِ العِبَادِ، وَأَعْمَالِهِمْ] يُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا» قَالَ سُفْيَانُ: «خَمْسَ آيَاتٍ، وَنَحْوهَا»
(2)
5 -
ورواه سالم بن عجلان الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«نزل القرآن جملة، ثم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما»
(3)
(1)
جاء في سند النسائي مهملا وسمي في إسناد الحاكم في المستدرك (حسان بن حريث) - ومن طريقه البيهقي- وهو كذلك في إتحاف المهرة لابن حجر. وسمي في أسانيد ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني (حسان ابن أبي الأشرس) وهو الأقرب. وممن نبه على هذا الاختلاف محقق كتاب الأسماء والصفات، ومؤلف تخريج فتح الباري أنيس الساري.
(2)
رواه النسائي في السنن الكبرى (7937)، وابن مردويه في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير ومن طريقه الضياء في المختارة (10/ 154/ 152) - والطبراني في المعجم الكبير (12/ 32/ 12381) - ومن طريقه الضياء في المختارة (10/ 153/ 151) -، والحاكم في المستدرك (2881، 4216) وعنه البيهقي في الأسماء والصفات (496) - والضياء في المختارة أيضا (10/ 155/ 145) عن الثوري؛ وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (30190) عن عمار بن رزيق والطبري في تفسيره (2812، 2813) وابن أبي حاتم في التفسير (15129) عن أبي يحيى الحماني والطبراني في المعجم الكبير (12382) عن عمرو بن عبد الغفار، والدولابي في الكنى والأسماء (643) عن جرير كلهم (الثوري، وعمار، والحماني، وعمرو بن عبد الغفار وجرير) عن الأعمش عن حسان به. والزيادات من لفظ ابن أبي شيبة والطبراني عدا الأولى فهي للطبري وسوى الأخيرة فللطبراني من الموضع الثاني وقوله قال سفيان، هذا من رواية النسائي والحاكم. وقال الحاكم هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ " وزيادة الطبري من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش وخالف جماعة من أصحاب الأعمش منهم الثوري فلم يذكروها فيتوقف فيها. واختلف فيه على الأعمش، فرواه محاضر كما في فضائل القرآن لابن الضريس (121) عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن (119) عن يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَسَّانَ يَعْنِي أَبَا الْأَشْرَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ:«نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَجُعِلَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ» لم يذكر ابن عباس. وتابعه جرير كما في الكنى والأسماء للدولابي (643) فرواه عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَسَّانَ أَبِي الْأَشْرَسِ، عَنْ سَعِيدِ، قوله.
(3)
رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 438/ 12243) حدثنا علي بن سعيد الرازي، ثنا علي بن المثنى الطهوي، ثنا زيد بن الحباب، ثنا شريك، عن سالم به.
6 -
ورواه مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا، فجعل في بيت العزة، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة جواب كلام الناس»
(1)
.
7 -
ورواه حَبِيبُ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حَتَّى رُفِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ»
(2)
8 -
ورواه أبو سَلَمَةَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ -وهو ضعيف-، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ -جل وعلا-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} وَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ، وَعَنْ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أَكُلُّهُ أَمْ بَعْضُهُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: " أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَجُعِلَ عِنْدَ مَوَاقِعِ النُّجُومِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة] الْمَلَائِكَةُ، وَيَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيلُ عليها السلام، كُلَّمَا أُتِيَ بِمَثَلٍ يَلْتَمِسُ عَيْبَهُ، نَزَلَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ نَاطِقًا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ لَوْلَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان]؛ وَقَرَأَ: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء]»
(3)
9 -
وتابعه شَرِيكٌ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فِي
(1)
رواه أبو القاسم التيمي الملقب قوم السنة في الترغيب والترهيب (1819) قال: أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن، ثنا أحمد بن موسى، ثنا عبد الرحمن بن العباس بن عبد الرحمن، ثنا محمد بن يونس بن موسى، ثنا علي بن الحسن المقري، ثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش، عن مسلم به.
(2)
رواه ابن الضريس في فضائل القرآن (121) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَاضِرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ به. واختلف فيه على الأعمش كما تقدم في رواية حسان.
(3)
رواه ابن أبي حاتم، في تفسيره (15127، 15140 مختصرا) معلقا من طريق أبي سلمة به.
قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} [الواقعة] قَالَ: «الْقُرْآنُ» وفي قَوْلِهِ -جل وعلا- {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} [الواقعة] قَالَ: «بِنُجُومِ الْقُرْآنِ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِرَقًا قِطَعًا نُجُومًا»
(1)
10 -
وخالفهم سلمة بن كهيل فرواه عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قوله
(2)
.
ذكر بعض كلام أهل العلم في الحديث:
قال الطبري رحمه الله: وَأَمَّا قَوْلُهُ {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فَإِنَّهُ ذكرَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ إِنْزَالَهُ إِلَيْهِ.
(3)
وقال الآجري رحمه الله: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
(4)
وقال السهيلي رحمه الله: فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} . إلَى آخِرِ الْآيَةِ مُسْتَشْهِدًا بِذَلِكَ عَلَى أَنّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَهَذَا يَحْمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بَدْءَ النّزُولِ وَأَوّلَهُ لِأَنّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ. وَالثّانِي: مَا قَالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رضي الله عنهما: أَنّهُ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً
…
وَهَذَا التّأْوِيلُ أَشْبَهُ بِالظّاهِرِ وَأَصَحّ فِي النّقْلِ وَاَللهُ أَعْلَمُ
(5)
.
وقال القرطبي رحمه الله: وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ-
(1)
رواه البغوي في مسند ابن الجعد (2262، 2363، 2365) مفرقا مختصرا حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، أنا شريك به وفي (2364) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ الْخَرَّازُ، نَا شَرِيكٌ، بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 44) رقم (12426) قال: حدثنا عبيد بن غنام، ثنا علي بن حكيم الأودي، ثنا شريك، به.
(2)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 254) فقال: نا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قَالَ - وَذَكَرَهُ السُّدِّيُّ وَالْأَعْمَشُ - قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ فذكره مختصرا.
(3)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 188)
(4)
الأربعون حديثا (الحديث 9)
(5)
الروض الأنف ت السلامي (2/ 271)
عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ - جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ كَانَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُ بِهِ نَجْمًا نَجْمًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْأَسْبَابَ، وَذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً .... وَقَالَ مُقَاتِلٌ
…
أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلَّ عَامٍ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نُزِّلَ إِلَى السَّفَرَةِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي عِشْرِينَ شَهْرًا، ونزل به جبريل في عشرين سنة. قُلْتُ: وَقَوْلُ مُقَاتِلٍ هَذَا خِلَافَ مَا نُقِلَ مِنَ الْإِجْمَاعِ
…
ا. هـ
(1)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّمَا نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْهُ،
…
ثم نَزَلَ بعدُ مُفَرَّقًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ
…
هَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وقَالَ فَخْرُ الدِّينِ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى إِنْزَالِهِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ اللَّوْحِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَتَوَقَّفَ، هَلْ هَذَا أَوْلَى أَوِ الْأَوَّلُ؟ وَهَذَا الذِي جَعَلَهُ احْتِمَالًا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا.
(2)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه أنزل جملة واحدة
…
ويشهد لذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}
…
وفي المسند
(3)
عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عليها السلام فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ» .
(4)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُفَرَّقًا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ ا. هـ
(5)
(1)
التفسير (2/ 297).
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 502)
(3)
أخرجه أحمد (28/ 191)، وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (1575) وقال البيهقي في الأسماء والصفات (1/ 569): وَإِنَّمَا أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ نُزُولَ الْمَلَكِ بِالْقُرْآنِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ا. هـ
(4)
لطائف المعارف لابن رجب (ص: 169)
(5)
فتح الباري (9/ 4)
الأمر السابع: القرآن ناسخ لجميع الكتب ومهيمن عليها:
الأمر السابع: أن القرآن الكريم هو خاتم الكتب المنزلة من عند الله وأعظمُها وأشرفُها وأهداها، وهو المهيمن عليها، والناسخُ لها ولشرائعها، والجامعُ لأصولها ومحاسنها، والباقي الخالد إلى قيام الساعة.
فالإيمان بالكتب السابقة هو الإقرار بها بالقلب واللسان، أما الإيمان بالقرآن فيتضمن الإقرار مع الاتباع، والله قد ذكر التوراة والإنجيل في سورة المائدة ثم قال بعد ذلك:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، فذكر أن القرآن مهيمنٌ أي: هو الناسخ لجميع الكتب السابقة. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: قَوْلُهُ: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قَالَ: " الْمُهَيْمِنُ: الْأَمِينُ، قَالَ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ»
(1)
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا خَالَفَهُ مِنْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ»
(2)
(3)
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} يا محمد وهو هذا القرآن الذي أنزله الله عليه {هُوَ الْحَقُّ} يقول: هو الحق
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره ط هجر (8/ 488)، وعلقه البخاري في الصحيح في تفسير سورة المائدة.
(2)
«تفسير ابن كثير - ت السلامة» (3/ 128).
(3)
«فتح الباري» (9/ 4)
عليك وعلى أمتك أن تعمل به، وتتبع ما فيه دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يقول: هو يصدق ما مضى بين يديه فصار أمامه من الكتب التي أنزلتها إلى من قبلك من الرسل
…
وقال: في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}
…
{الْكِتَابَ} هو الكتب التي أنزلها الله من قبل الفرقان .... قال: فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتلون غير كتابهم، ولا يعملون إلا بما فيه من الأحكام والشرائع؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الذي ذهبت إليه وإنما معناه: ثم أورثنا الإيمان بالكتاب الذين اصطفينا؛ فمنهم مؤمنون بكل كتاب أنزله الله من السماء قبل كتابهم وعاملون به؛ لأن كل كتاب أنزل من السماء قبل الفرقان، فإنه يأمر بالعمل بالفرقان عند نزوله، وباتباع من جاء به، وذلك عَمَل من أقر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وعَمِل بما دعاه إليه بما فى القرآن، وبما في غيره من الكتب التي أنزلت قبله
…
إذ كان معنى الميراث إنما هو انتقال معنى من قوم إلى آخرين، ولم تكن أمة على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته إلخ
(1)
الأمر الثامن: التحريف الواقع في الكتب السابقة:
الأمر الثامن: أن نؤمن أن كتب أهل الكتاب السابقة للقرآن، وهي التوراة والإنجيل والزبور قد نالها التحريف والتبديل والتغيير والكتمان، كما تقدم. فنحن نؤمن بأصولها أنها من عند الله لكن ما تضمنته من تحريف وتبديل فإن هذا لا يلزمنا، وإنما نؤمن بما عندنا في كتاب الله -جل وعلا-.
حفظ الله -جل وعلا- للقرآن وللسنة المبيِّنة للقرآن:
وأما القرآن فإن الله قد تكفل بحفظه، فما بين الدفتين مما هو مكتوب في المصحف هو القرآن الكريم بغير ارتياب ولا شك، كما ذكر الإمام البيهقي، وقد قرأنا عبارته، وهي عبارة دقيقة يقول: "أن نعتقد أن جميع القرآن الذي تُوُفِّيَ النبي صلى الله عليه وسلم عنه هو هذا الذي في مصاحف المسلمين لم يَفُتْ منه شيء، ولم يَضِعْ بنسيان ناسٍ ولا ضلال صحيفة ولا موت قارئ ولا كتمان كاتم، ولم يُحرَّفْ منه شيء، ولم يزد فيه حرف ولم
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (19/ 374)
ينقص منه حرف".
يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر] فالله-سبحانه-قد حفظ هذا الكتاب. بل وحفظ السنة المطهرة التي هي بيان من رسولنا صلى الله عليه وسلم لهذا الكتاب.
ويقول ربنا -جل وعلا-: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت]
يقول البيهقي رحمه الله: "من أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيء في القرآن أو نقصانه منه أو تحريفه فقد كذَّبَ اللهَ في خبره، وأجاز الخلف فيه، وذلك كُفْرٌ، وأيضًا فإن ذلك لو كان ممكنًا لم يكن أحد من المسلمين على ثقة من دينه ويقين بما هو متمسك به؛ لأنه كان لا يأمن أن يكون فيما كتم من القرآن أو ضاع بنسخٍ شيءٌ مما هو ثابت من الأحكام أو تبديله بغيره، وبسط الحليمي الكلام فيه، فصَحَّ أن من تمام الإيمان بالقرآن الاعتراف بأن جميعه هو هذا المتوراث خلفًا عن سلف لا زيادة فيه ولا نقصان منه"
(1)
.
إذًا هذه أمور يجب أن نعتقدها في إيماننا بالكتب. فإذا قال: آمنت بكتب الله، فالمقصود: اعتقاد هذه الأمور التي نصَّ عليها العلماء رحمهم الله فيجب علينا أن نؤمن بهذه الكتب التي أمرنا الله -جل وعلا- بها. والقرآن الذي هو كلام الله هو الكتاب الذي جعل الله فيه هداية البشرية بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
الكتب السماوية مجتمعة على الدعوة إلى توحيد الله:
وهذه الكتب العظيمة دعت إلى أصل واحد، وهو توحيد الله -جل وعلا-.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]
(1)
شعب الإيمان (1/ 331).
من آثار الإيمان بالكتب المنزلة:
قال العلماء من آثار الإيمان بالكتب المنزلة:
• العلم برحمة الله تبارك وتعالى، فإذا تأملت فيما أمرك الله -جل وعلا- به من الإيمان بالكتب فإنك تستيقن أن الله رحيم بالناس، ومن رحمته أن أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب المبينة والموضحة، فهذه رحمة من الله ولطف بعباده حيث أنزل للناس كتبًا تهديهم إلى صراطه المستقيم، وتُبيِّن لهم سبيله القويم، وترشدهم إلى ما يحبه ويرضاه وما يبغضه ولا يرضاه، فالعقل لا يمكن أن يستقل بمعرفة ذلك كله.
• ثم من آثار ذلك أيضًا: ظهورُ حكمة الله-تعالى-في شرعه: حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسب حالها. فديانة الأنبياء أصلها واحد، وهو التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له لكن شرائعها تختلف بما يناسب كل حال.
فإن موسى عليها السلام لما جاء بالتوراة جاء فيها بشريعة لقومه تناسب حالهم وتناسب ما هم عليه. ثم بعث الله -جل وعلا- عيسى عليها السلام فكان مما قال لقومه: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] فجاء في الإنجيل بأمر فيه تيسيرٌ لقومه الذين بعثه الله -جل وعلا- إليهم. ثم جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي شريعة فيها اليسر والرحمة بالناس أجمعين. يقول الله -جل وعلا- في ذكر بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. فجاءت هذه الشريعة وفيها التيسير.
القرآن صالح لكل زمان ومكان:
ففي كل كتاب وفي كل شريعة من الأحكام ما يتناسب مع ذلك الزمان وذلك الحال. ثم جاء القرآن الخاتم مناسبًا لجميع بني الإنسان في مختلف العصور والأزمان، فهذه الشريعة المطهرة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم صالحةٌ لكل زمان ومكان، ومن يَقُلْ غير ذلك فإنه لا يعرف الإسلام الحق ولا يعرف روح هذه الشريعة المباركة.
• كذلك من ثمرات الإيمان بهذه الكتب: إثباتُ صفة الكلام لله تعالى: وأنه -جل وعلا-
يتكلم حقيقة متى شاء وكيف شاء وبما شاء. وأنه يُسمِع من شاء من خلقه كلامَه، كما سمعه جبرائيل عليها السلام بلا واسطة وكما سمعه موسى عليها السلام. قال الله -جل وعلا-:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء].
• وكذلك الإيمان بعلو الله -جل وعلا- على خلقه كما دلَّت على ذلك آيات القرآن والسنة المطهرة، فنزول القرآن من عند الله يدل على علوه على خلقه.
• كذلك من ثمرات الإيمان بهذه الكتب: شكرُ نعمةِ الله العظيمةِ من إنزال هذه الكتب، وانظر إلى أُنْسِك وسَلْوة قلبك وفؤادك -يا عبد الله- وأنت تقرأ كلام الله -جل وعلا- وأنت تقرأ القرآن ستجد فيه الراحة، وستجد فيه الهدى وستجد فيه النور.
يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: «تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ»
(1)
،
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ أَصْدَقَ الحدِيثِ كِتَابُ اللهِ»
(2)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (30098) -ومن طريقه وطريق غيره البيهقي في الأسماء والصفات (513 و 514) - وأحمد في الزهد (192، 1123) وابنه عبد الله في السنة (111 و 112 و 113)، والدارمي في الرد على الجهمية (310)، والآجري في الشريعة (157)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (5/ 244) رقم (19، 20) واللالكائي في الاعتقاد (558) والحاكم في المستدرك (3652)،، والبيهقي في شعب الإيمان (1863) وفي الاعتقاد (ص 103)
(2)
رواه مسلم (867) والنسائي (1578)، وأحمد (14334)، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما واللفظ للأخيرين ولفظ مسلم:«فإنَّ خَيْرَ الحدِيثِ كِتَابُ اللهِ» .
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا»
(1)
.
فأقبلوا على القرآن إذا أردتم الخير في حياتكم وفي أولادكم وفي أنفسكم، والبركةَ في أوقاتكم والسعةَ في أرزاقكم، فعليكم بكتاب الله، عليكم بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار. وقد صحَّ عند الدارمي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال:«إِنَّ الْبَيْتَ: لَيَتَّسِعُ عَلَى أَهْلِهِ وَتَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَهْجُرُهُ الشَّيَاطِينُ، وَيَكْثُرُ خَيْرُهُ أَنْ يُقْرَأَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَإِنَّ الْبَيْتَ: لَيَضِيقُ عَلَى أَهْلِهِ وَتَهْجُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ، وَيَقِلُّ خَيْرُهُ أَنْ لَا يُقْرَأَ فِيهِ الْقُرْآنُ»
(2)
وليكن لك -يا عبد الله- وِرْدٌ مع كتاب الله -جل وعلا-، لا سيَّما في هذا الشهر، فأكثر فيه من قراءة القرآن.
فصل في ذكر بعض ما روي عن السلف في الاشتغال بكتاب الله:
وعناية السلف بتلاوة القرآن وختمه في رمضان وفي غيره باب واسع جدا فمن ذلك:
ما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي ثَلَاثٍ، وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الجمعة
(3)
.
وكان تلميذه الْأَسْوَد بن يزيد رحمه الله يَخْتِمُ الْقُرَآنَ فِي لَيْلَتَيْنِ.
(4)
- يعني في شهر رمضان
(5)
. وكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي غير رمضان في سِتٍّ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ يَخْتِمُهُ فِي خَمْسٍ
(6)
[وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ يختمه في كل سبع]
(7)
وكان إِبْرَاهِيم النخعي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ قَرَأَهُ فِي لَيْلَتَيْنِ.
(8)
.
(1)
رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على الزهد لأبيه (680، 681) وفي زوائده على فضائل الصحابة لأبيه (775) وفي فضائل عثمان بن عفان (65) وفي السنة (122) -ومن طريقه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 300) - عن إسماعيل أبي معمر القطيعي -وهو ثقة- عن سفيان بن عيينة قال: قال عثمان رضي الله عنه: فذكره. وهذا معضل. ورواه حرب الكرماني في مسائله (3/ 1138) عن علي بن المديني والحسين المروزي في زوائده على الزهد لابن المبارك (1133) كلاهما عن سفيان به. وخالفهم أبو عمر بن أيوب الصريفيني -وهو مجهول- فقال: ثنا سفيان بن عيينة ثنا إسرائيل أبو موسى قال: سمعت الحسن يقول: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: فذكره. رواه البيهقي في الأسماء والصفات (524)، وفي الاعتقاد (104) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق (39/ 239) - ورواية الحسن عن عثمان مرسلة كما في جامع التحصيل.
(2)
تقدم في الجزء 1 ص 66
(3)
تفسير سعيد بن منصور -تحقيق الحميد- (150)
(4)
مصنف عبد الرزاق (2148) وشعب الإيمان (2000)
(5)
«فضائل القرآن - أبو عبيد» (ص 180)
(6)
«فضائل القرآن - أبو عبيد» (ص 178)
(7)
تفسير سعيد بن منصور -تحقيق الحميد- (152)
(8)
مصنف عبد الرزاق (5955)
وعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ الْأَزْدِيُّ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
(1)
.
وَكَانَ أَبُو مِجْلَزٍ يَقُومُ بِالْحَيِّ فِي رَمَضَانَ، يَخْتِمُ فِي كُلِّ سَبْع.
(2)
وعَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عمه أَبِي الْمُهَلَّبِ قَالَ: كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ ثَمَانٍ، وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ
(3)
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ «كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ»
(4)
وقال ابن سعد: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: كَانَ مَعْرُوفٌ إِمَامَ مَسْجِدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ وَكَانَ بِهِ فَتْقٌ وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فِي ثَلَاثٍ، أَمَّ قَوْمَهُ سِتِّينَ سَنَةً لَمْ يَسْهُ فِي صَلَاةٍ قَطُّ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُهِمُّهُ»
(5)
وعَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، أنه:«كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، ثُمَّ يُصْبِحُ الْيَوْمَ الَّذِي يَخْتِمُ فِيهِ صَائِمًا»
(6)
وعَنِ ابْنِ طاووس، عَنْ أَبِيهِ،: أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا حَتَّى يَخْتِمَ الْقُرْآنَ، وَكَانَ يَطُوفُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ سُبُوعًا
(7)
.
وقِيلَ لِلإمام مَالِكٍ رحمه الله: الرَّجُلُ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ؟ قَالَ: مَا أَجْوَدَ ذَلِكَ إِنَّ الْقُرْآنَ إِمَامٌ لِكُلِّ خَيْرٍ. وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ كَانَ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ -يعني الجمحي- فِي رَمَضَانَ قَالَ: فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يَسْتَفْتِحُ القرآن في كل ليلة.
(8)
وقال الرَّبِيع تلميذ الشافعي: كَانَ الشَّافِعِيُّ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ سِتِّينَ خَتْمَةً.
(9)
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (7197، 8595)
(2)
المرجع السابق (7677)
(3)
«فضائل القرآن - أبو عبيد» (ص 178)«الطبقات الكبرى ط دار صادر» (3/ 500)
(4)
«الطبقات الكبرى ط دار صادر» (6/ 259) و «الزهد لأحمد بن حنبل» (2162) و «مسند الدارمي» (3528)
(5)
«الطبقات الكبرى ط دار صادر» (6/ 356)
(6)
«مصنف ابن أبي شيبة» (2/ 243 ت الحوت) رقم (8586)
(7)
«أخبار مكة - الفاكهي» (1/ 279 ط 2)(568)
(8)
المعرفة والتاريخ (1/ 665) وشعب الإيمان (1997) و «ما رواه الأكابر عن مالك لمحمد بن مخلد» (54)
(9)
آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 74) وحلية الأولياء (9/ 134)
وفي ترجمة الإمام أبي حنيفة من تاريخ بغداد عن مسعر بن كدام قال: دخلت ذات ليلة المسجد فرأيت رجلا يصلي فاستحليت قراءته فقرأ سُبْعاً، فقلت يركع، ثم قرأ الثلث، ثم قرأ النصف، فلم يزل يقرأ القُرْآن حَتَّى ختمه كله في ركعة، فنظرت فَإِذَا هُوَ أَبُو حنيفة. وَقَالَ خارجة بن مُصْعَب: ختم القُرْآن في ركعة أربعة من الأئمة، عُثْمَان بن عَفَّان، وتميم الداري، وَسَعِيد بن جُبَيْر، وَأَبُو حنيفة. وَقَالَ يَحْيَى بن نصر: كَانَ أَبُو حنيفة رحمه الله ربما ختم القُرْآن في شهر رمضان ستين ختمة.
(1)
ولَمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ رحمه الله الْوَفَاةَ بَكَتْ أُخْتُهُ، فَقَالَ:«لَا تَبْكِي -وَأَشَارَ إِلَى زَاوَيَةٍ فِي الْبَيْتِ- فَقَدْ خَتَمَ أَخُوكِ فِي تِلْكَ الزَّاوْيَةِ ثَمَانَيَةَ عَشَرَ أَلْفِ خَتْمَةٍ»
(2)
وفي رواية: لمّا حضرته الوفاة بكت ابنته، فقال: يا بنيّة لا تبكي أتخافين أن يعذبني الله عز وجل وقد ختمت في هذه الزاوية أربعة وعشرين ألف ختمة؟
(3)
ومكث رحمه الله أربعين سنة يختم في كل يوم وليلة ختمة.
(4)
وقَالَ لِابْنِهِ -وأراه غرفة- يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ أَنْ تَعْصِيَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْغُرْفَةِ فَإِنِّي خَتَمْتُ فِيهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ خَتْمَةٍ.
(5)
ولَمَّا نَزَلَ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ إِدْرِيسَ الْمَوْتُ بَكَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: لَا تَبْكِيَن، فَقَدْ خَتَمْتُ
(1)
تاريخ بغداد ط العلمية (13/ 355)
(2)
رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 304)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ت بشار» (16/ 542) -ومن طريقه ابن الجوزي في الثبات عند الممات (ص 155) -، والشجري في ترتيب الأمالي الخميسية (1/ 121) رقم (469)
(3)
جامع البيان في القراءات السبع للداني (311)
(4)
رواه الخطيب في تاريخ بغداد ت بشار» (16/ 542) وقال الذهبي -في معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار (ص 83) وفي سير أعلام النبلاء - ط الرسالة (8/ 503) -: وروى من غير وجه عن أبي بكر، أنه مكث أربعين سنة أو نحوها يختم القرآن في كل يوم وليلة ا. هـ
(5)
شرح النووي على مسلم (1/ 79) ومختصر منهاج القاصدين (ص 224)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (33/ 134)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 242)
الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَرْبَعَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ.
(1)
وقال الحافظ أبو الفضل صالح بن محمد الرازي: ختمت القرآن أربعة آلاف ختمة.
(2)
وكان الإمام البخاري رحمه الله يختم القرآنَ كلَّ ثلاثِ ليالٍ، ويقول: عند كل ختمةِ دعوةٌ مستجابة
(3)
فما أروعه من جيل؛
وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على حرصهم في اغتنام دقائق وساعات هذا الوقت.
وقد يستغرب الإنسان: أيعقل أن يقرأ الإنسان القرآن في يوم واحد مرتين؟!
والجواب: نعم، ويعرف ذلك من جرَّبه، ومن كان قلبُه وأُنْسُه مع كتاب الله -جل وعلا-.
أما نحن في هذا الزمان فإننا نُقَرِّبُ المصحف لنقرأ ونُقَرِّبُ معه هذه الجوالات وهذه الملهيات والمُشغِلَات، فربما قرأ الإنسان دقيقة، وانشغل بهذه الملهيات ساعات وساعات
-نسأل الله العفو والعافية-.
فتدارك نفسك يا عبد الله.
واجتهدوا -رحمكم الله- في اغتنام ما بقي وسلوا الله القَبولَ لما مضى.
انتهى الجزء الرابع
ويليه الجزء الخامس
الإيمان بالقدر خيره وشره
(1)
رواه ابن الأعرابي في المعجم (2333) - ومن طريقه الخطيب في تاريخه ت بشار (11/ 69)، وابن الجوزي في الثبات عند الممات (ص 154).
(2)
رواه الخطيب في تاريخ بغداد ت بشار (10/ 435)
(3)
«شعب الإيمان» (3/ 524 ط الرشد) رقم (2058) و «تاريخ بغداد ط العلمية» (2/ 12)