الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلسلةُ: ريِّ الظَّمْآن بِمَجالِس شُعَبِ الإيمَانِ (5)
الإِيْمَانُ بالقَضَاءِ والقَدَرِ
تأليف
أبي حمزة غازي بن سالم أفلح
عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه وجميع المسلمين
تقديم
الدكتور عزيز بن فرحان العنزي الدكتور رشاد بن حمود الحزمي
الشيخ عبد العزيز بن يحيى البرعي الشيخ محمد بن عبد الله باموسى
الشيخ نعمان بن عبد الكريم الوتر
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى لمكتبة دروس الدار
1444 هـ - 2022 م
(مزيدة ومنقحة)
رقم الفسح الإعلامي في دولة الإمارات العربية المتحدة دبي
MC-01 - 01 - 7549142
Date-2022 - 04 - 19
الترقيم الدولي
ISBN: -978 - 9948 - 04 - 572 - 4
التصنيف العمري: E
تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن وزارة الثقافة والشباب
للتواصل مع المؤلف: [email protected]
الإمارات العربية المتحدة - الشارقة
البريد الإلكتروني: [email protected]
للتواصل: 00971503667077
تويتر: @ DroosAldar
الركن الخامس من أركان الإيمان
الإيمان بالقضاء والقدر
خيره وشره
المجلس الثامن عشر
(1)
الشعبة الخامسة من شعب الإيمان: الإيمان بالقضاء والقدر
كل شيء بقضاء وقدر:
قال البيهقي رحمه الله: "الخامس من شعب الإيمان وهو: بابٌ في القدر خيره وشره من الله -جل وعلا-، قال الله تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]
…
وفي هذه الآية دلالة على أن قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] معناه: ما أصابك من شيء يسرك من صحة بدنٍ أو ظفر بعدو وسعة رزق ونحو ذلك فالله مُبتَدِيك بالإحسان به إليك، وما أصابك من شيء يسوؤك ويغمك فبكسب يدك لكن الله مع ذلك سائقُه إليك والقاضي به عليك، وهو كما قال في آية أخرى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30] وقد يكون فيما يسوؤه جراحات تصيبه أو قتل أو أخذ مال أو هزيمة وقد أَمَرَ في الآية الأخرى بأن يقول فيها وفيما يصيبه من خلافها: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] فدَلَّ أن ذلك كله بتقدير الله -جل وعلا- غير أنه في آية أخرى أخبر أنه إنما يصيبه جزاء له بما جناه على نفسه بكسبه، وليس ذلك بخلاف بما أمر به في الآية الأولى"
(2)
.
إذًا لخَّص البيهقي رحمه الله اعتقاد المؤمن الواجب عليه في هذا الباب الخطير.
وفي هذه الآية يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ لِيَحْصُلَ الْجَوَابُ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أَيْ: مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَمَنِّهِ وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ
(1)
كان في يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر رمضان 1441 هـ.
(2)
شعب الإيمان (1/ 350).
فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ: فَمِنْ قِبَلِكَ، وَمِنْ عَمَلِكَ أَنْتَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى] قَالَ السُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ جُريج، وَابْنُ زَيْدٍ:{فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ: بِذَنْبِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} عُقُوبَةً يَا ابْنَ آدَمَ بِذَنْبِكَ
…
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ: بِذَنْبِكَ، وَأَنَا الَّذِي قَدَّرْتُهَا عَلَيْكَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ
(1)
. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سَهْلٌ -يَعْنِي ابْنَ بَكَّار -حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ وَاصِلِ بْنِ أَخِي مُطَرِّف، عَنْ مُطَرِّف بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا تُرِيدُونَ مِنَ الْقَدَرِ، أَمَا تَكْفِيكُمُ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78] أَيْ: مِنْ نَفْسِكَ، وَاللَّهِ مَا وُكِلُوا إِلَى الْقَدَرِ وَقَدْ أُمِروا وَإِلَيْهِ يَصِيرُونَ
(2)
. وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ قَوِيٌّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ أَيْضًا ا. هـ
(3)
.
تعريف الإيمان بالقدر:
هو الإيمان بأنه لا يقع شيء في الوجود إلا بعلم الله وكتابته السابقة ومشيئته النافذة وخلقه له خيرًا أو شرًّا حلوًا أو مُرًّا. فما من شيء في هذا الكون يقع إلا بتقدير الله. فإيمانك بالقضاء والقدر يعني أن تؤمن بأن كلَّ شيء من عند الله.
تعريف القدر بالقدرة:
وقد جاء تفسير القدر عند بعض السلف كزيد بن أسلم والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم أن القدر هو "قدرة الله -جل وعلا- على العباد
…
" أي: إن الله قادر على كل شيء.
فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ رحمه الله أنه قَالَ: الْقَدَرُ قَدْرَةُ اللَّهُ -جل وعلا-، فَمَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ جَحَدَ قُدْرَةَ اللَّهِ -جل وعلا-
(4)
. وروي عن زيد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(5)
(1)
انظر: «تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر» (7/ 243).
(2)
انظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 1009).
(3)
تفسير ابن كثير ت سلامة (2/ 363)
(4)
القدر للفريابي (207) -وعنه الآجري في الشريعة (482) -. وابن بطة في الإبانة الكبرى (1805)
(5)
الإبانة الكبرى لابن بطة (1562)
وقَالَ: زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أيضا: «مَا أَعْلَمُ قَوْمًا أَبْعَدَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَوْمٍ يُخْرِجُونَهُ مِنْ مَشِيئَتِهِ، وَيُنْكِرُونَهُ مِنْ قُدْرَتِهِ»
(1)
وفي السنة لأبي بكر بن الخلال أَنَّ الإمام أحمد رحمه الله سُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ، فَقَالَ:" الْقَدَرُ قُدْرَةُ اللَّهِ عز وجل عَلَى الْعِبَادِ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنْ زَنَى فَبِقَدَرٍ، وَإِنْ سَرَقَ فَبِقَدَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، اللَّهُ قَدَّرَهُ عَلَيْهِ "
(2)
وعلق شيخ الإسلام رحمه الله على كلام الإمام أحمد رحمه الله فقال: يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْقَدَرَ فَقَدْ أَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
(3)
. واستحسن ابن عقيل رحمه الله هذا الكلام من الإمام أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر. وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين ا. هـ
(4)
قال ابن القيم رحمه الله: وهو كما قال أبو الوفاء: فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابها وتقديرها وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم ا. هـ
(5)
وقال: والقدر منشؤُه عن علم الرب وقدرته
(6)
وقال أيضا: والمخاصمون في القدر نوعان: أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره كالذين قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]
والثاني: من ينكر قضاءه وقدره السابق والطائفتان خصماء الله. قال عوف: مَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ، فَقَدْ كَذَّبَ بِالْإِسْلَامِ، إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قدر أقدارا وخَلْقَ الْخَلْقِ بِقَدَرٍ وَقَسَمَ الآجال بِقَدَرٍ وقسم
(1)
القدر للفريابي (208) -وعنه الآجري في الشريعة (483) واللفظ له-. وابن بطة في الإبانة الكبرى (1804)
(2)
كتاب السنة (904) وانظر: مسائل أحمد بن حنبل رواية ابن هانئ (1868)
(3)
منهاج السنة النبوية (3/ 254)
(4)
نقله عنه ابن القيم في طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 92) وشفاء العليل (ص: 28)
(5)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 28)
(6)
طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 92)
الأرزاق بِقَدَرٍ وَقَسَمَ الْبَلَاءَ بِقَدَرٍ وَقَسَمَ الْعَافِيَةَ بِقَدَرٍ وَأَمَرَ وَنَهَى
(1)
ا. هـ
(2)
وقال رحمه الله في قصيدته الكافية الشافية:
فحقيقة القدر الذي حار الورى
…
في شأنه هو قدرة الرحمن
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد
…
لما حكاه عن الرضا الرباني
قال: الإمام شفا القلوب بلفظة
…
ذات اختصار وهي ذات بيان
(3)
وقال رحمه الله:
القدر بحر محيط لا ساحل له، ولا خروج عنه لأحد من العالمين،
والشرع فيه سفينة النجاة، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها فهو من المُغْرَقين،
وهو قُدْرَةُ الله الذي هو على كل شيء قدير، وكل مخلوق فمنه ابتدأ وإليه يصير.
والإيمان به قُطْب رحا التوحيد ونظامه، ومبدأ الإيمان وتمامه،
فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان،
والحكمة آخِيَّته التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها،
فالقدر مظهر المُلْك، والحكمة مظهر الحَمْد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة وكمال التقدير. فلا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين، {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف]. ا. هـ
(4)
(1)
هذا الأثر معروف من رواية عوف عن الحسن البصري رواه الفريابي في القدر (225) وعنه الآجري في الشريعة (462) وابن بطة في الإبانة (1703) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1255). ورواه غير عوف عن الحسن أيضا كما في المصادر المذكورة وكذا القضاء والقدر للبيهقي (278)
(2)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (1/ 97)
(3)
الكافية الشافية (184).
(4)
شفاء العليل (1/ 7)
الفرق بين القضاء والقدر:
1 -
من أهل العلم من لم ير فرقا بينهما
قال العلامة ابن باز رحمه الله:
…
ومعناهما واحد وهو الشيء الذي قضاه الله سابقا وقدره سابقا، يقال لهذا قضاء، ولهذا قدر يعني ما سبق في علم الله أنه قدره من موت وحياة وعز وذل وأمن وخوف، كله وغيره يسمى قضاء ويسمى قدرا ا. هـ
(1)
واختاره تلميذه شيخنا العلامة عبد المحسن العباد حفظه الله
(2)
.
2 -
ومن العلماء من قال: هاتان الكلمتان مترادفتان إن تفرقتا، ومتباينتان إن اجتمعتا. فإذا قيل: القضاء بدون أن يقترن به القدر كان شاملاً للقضاء والقدر، وإذا قيل: القدر دون أن يقترن به القضاء كان شاملاً للقضاء والقدر أيضاً. وإذا قيل: القضاء والقدر جميعاً فالكتابة قدر والمشيئة قضاء، يعني القدر: ما قدر الله تعالى في الأزل وكتبه في اللوح المحفوظ، والقضاء: ما يقضي به الله عز وجل من أفعاله أو أفعال الخلق. وهو اختيار العلامة ابن عثيمين
(3)
3 -
وقال العلامة عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:
القدر أصل من أصول الإيمان، كما في سؤال جبريل عليها السلام، وما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، قال:«الإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
(4)
، وفي الحديث الصحيح:«إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ .... فجرى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(5)
أي: جرى بما يكون مما يعلم الله تعالى، فإنه تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن، لو كان كيف يكون {لَا يَعْزُبُ
(1)
فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (4/ 191)
(2)
شرح الأربعين النووية - العباد» (7/ 23 بترقيم الشاملة)
(3)
انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (2/ 79)
(4)
تقدم تخريجه في المجلس الخامس عشر.
(5)
أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في مسنده (22705) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ورواه أبو داود (4700) بلفظ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ورواه الترمذي (2155، 3319) بلفظ: «
…
اكْتُبِ القَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ»
عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)} [سبأ].
وأما القضاء فيطلق في القرآن ويراد به:
أ - إيجاد المقدر، كقوله:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12]، وقوله:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سبأ: 14]؛
ب - ويطلق ويراد به: الإخبار بما سيقع مما قدر، كقوله:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أخبرهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين.
ت - ويطلق ويراد به الأمر والوصية، كما قال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] أي: أمر ووصى.
ث - ويطلق ويراد به: الحكم، كقوله:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: 69، 75]؛
ج - ويطلق ويراد به القدر، ونحو ذلك ا. هـ
(1)
وقال أبو محمد ابن حزم رحمه الله: معنى الْقَضَاء فِي لُغَة الْعَرَب: الحكم وَلذَلِك يَقُولُونَ القَاضِي بِمَعْنى الْحَاكِم وَقضى الله عز وجل بِكَذَا أَي حكم بِهِ
…
وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أَمر قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء]
وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أخبر قَالَ الله تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)} [الحجر] بِمَعْنى أخبرناه
…
وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أَرَادَ وَهُوَ قريب من معنى حكم قَالَ الله تَعَالَى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47، مريم: 35] وَمعنى ذَلِك حكم بِكَوْنِهِ فكونه.
وَمعنى الْقدر فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة التَّرْتِيب وَالْحَد الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الشَّيْء تَقول قدرت الْبناء تَقْديرا إِذا رتبته وحددته قَالَ تَعَالَى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] بِمَعْنى رتب أقواتها وحددها وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر]
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (3/ 214)
يُرِيد تَعَالَى برتبة وحد. فَمَعْنَى قضى وَقدر حكم ورتب، وَمعنى الْقَضَاء وَالْقدر حكم الله تَعَالَى فِي شَيْء بِحَمْدِهِ أَوْ ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كَذَا وَإِلَى وَقت كَذَا فَقَط ا. هـ
(1)
4 -
وقيل: القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق. قال الكرماني رحمه الله: لا فرق بينهما لغة وأما في الاصطلاح فالقضاء هو الأمر الكلي الإجمالي الذي في الأزل والقدر هو جزئيات ذلك الكلي وتفاصيل ذلك المجمل الواقعة في الإنزال وفي القرآن إشارة اليه حيث قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21] ا. هـ
(2)
5 -
وقال العلامة أبو سليمان الخطابي رحمه الله: والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر كما الهدم والقبض والنشر أسماء لما صدر عن فعل الهادم والقابض والناشر، يقال قدرت الشيء وقدرت خفيفة وثقيلة بمعنى واحد، والقضاء في هذا معناه الخلق
(3)
كقوله عز وجل {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] أي خلقهن
…
قال: وجماع القول في هذا الباب أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه ا. هـ
(4)
6 -
وقال الراغب الأصبهاني رحمه الله: والقَضَاءُ من الله تعالى أخصّ من القدر، لأنه الفصل بين التّقدير، فالقدر هو التّقدير، والقضاء هو الفصل والقطع، وقد ذكر بعض العلماء أنّ القدر بمنزلة المعدّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل ا. هـ
(5)
وقال الشيخ الوزير صالح آل الشيخ حفظه الله في شرح الطحاوية
(6)
-ما حاصله-: القَدْرْ في اللغة بمعنى ترتيب الشيء ليكون على وَجْهٍ ما، فالقَدَرْ في معناه اللغوي يدخل فيه الفعل، ويدخل
(1)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 31)
(2)
يعني القدر بمعنى التقدير، والقضاء بمعنى الخلق. انظر:«النهاية في غريب الحديث والأثر» (4/ 78).
(3)
معالم السنن (4/ 323)
(4)
معالم السنن (4/ 323)
(5)
المفردات في غريب القرآن (ص 675) وينظر: حاشية الطيبي على الكشاف (15/ 144) وشرحه للمشكاة (2/ 540)
(6)
انظر: «شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل» (ص 238)
فيه الإرادة والمشيئة، ويدخل فيه العلم، ويدخل فيه أيضا الحكمة بحسب من قَدَّرْ.
وأما في الشريعة فالقَدَرْ يجمع أربعة أشياء: العلم، والكتابة، وعموم مشيئة الله عز وجل، وعموم خلقه عز وجل للأشياء.
وأما القضاء فإنه في اللغة بمعنى إنهاء الشيء
(1)
،
…
كما قال سبحانه {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]. ويأتي القضاء بمعنى القَدَرْ كما قال عز وجل {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12]، يعني قَدَّرَ ذلك وخلقه وفعله، وكما في قوله أيضا {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14]، على أنَّهُ بمعنى القَدَرْ؛ لأنَّ الإنهاء يدخل في القَدَرْ.
ولهذا المعنى قال جمع من أهل العلم إنَّ القضاء والقَدَرْ بمعنى واحد؛ لأنهم لحظوا أنَّ معنى القضاء داخل في معنى القَدَرْ، وممن ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم منهم ابن الجوزي وكثير من العلماء السابقين.
وأما فيما دَلَّتْ عليه نصوص الكتاب والسنة فإنَّ القَدَرَ أعم من القضاء، والقضاء هو القَدَرْ إذا وقع، وقبل وقوع المقدر لا يسمى قضاء.
ومراتب القَدَرْ الأربعة منها مرتبتان سابقتان وهي مرتبة العلم والكتابة، ومنها مرتبتان وهي عموم المشيئة وعموم الخلق لله عز وجل وهما مقارنتان لوقوع المقدر.
فإذا نُظِرَ لوقوع المُقَدَّرْ من جهة عموم الخلق وعموم المشيئة فإنَّهُ حينئذٍ يكون قضاءً لله عز وجل لهذا الشيء. فقضى الله عز وجل الأمر على كذا وكذا بمعنى خلقه وشاءه.
ولهذا نقول القضاء، والقَدَرْ بينهما فرق:
• فإن: القَدَرْ أعم، والقضاء أخص.
• والقَدَرْ سابق، والقضاء لاحق.
(1)
قَالَ الأزهري: القَضَاء فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إِلى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ. وكلُّ مَا أُحْكِم عَمَلُهُ أَوْ أُتِمَّ أَوْ خُتِمَ أَوْ أُدِّيَ أَداء أَوْ أُوجِبَ أَوْ أُعْلِمَ أَوْ أُنْفِذَ أَوْ أُمْضِيَ فَقَدْ قُضِيَ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا فِي الْحَدِيثِ، وَمِنْهُ القَضاء الْمَقْرُونُ بالقَدَر، وَالْمُرَادُ بالقَدَر التَّقْدِيرُ، وبالقَضاء الخَلق
…
وقَضَى الشيءَ قَضاءً: صنَعه وقَدَّره؛
…
وَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْعَمَلِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الصُّنْعِ وَالتَّقْدِيرِ. ينظر:«لسان العرب» (15/ 186)
• والقَدَرْ فيه عدة صفات لله عز وجل: العلم والكتابة والمشيئة والخلق،
• وأما القضاء قضاء الله عز وجل للشيء في نفسه يدل على خلقه للشيء ومشيئته له.
الإيمان بالقضاء والقدر يريح النفوس:
والإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، وهو باب عظيم إذا فهمه المسلم فهمًا صحيحًا كما جاء في كتاب الله وكما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يرتاح، وتطمئن نفسه، ويعيش مُطْمَئِنَّ البال ومرتاحَ النفسِ في هذه الدنيا. ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»
(1)
.
مجادلة المشركين في القدر:
يقول الله في كتابه الكريم: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر]. وهي آية واضحة وعظيمة وصريحة، وقد جاء في سبب نزولها أن المشركين كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر؛ فنزلت الآية {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
(2)
.
فالمجادلة في القدر وفي باب الإيمان بالقضاء والقدر هو طريقٌ سلكه الكفار وجاء القرآن بالنهي عنه. روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 48 - 49]
(3)
.
من أدلة الإيمان بالقضاء والقدر:
يقول الله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)} [الأحزاب] أَيْ: وَكَانَ أَمْرُهُ الَّذِي يقدِّره كَائِنًا لَا مَحَالَةَ، وَوَاقِعًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَلَا مَعْدَلَ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
تفسير الطبري (22/ 161).
(3)
أخرجه مسلم (2656)
(4)
تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 427)
وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} [يس] يعني: في كتاب.
وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] وقال -جل وعلا-: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)} [الإسراء].
ويقول نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كما في حديث جبريل عليها السلام: «الإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
(1)
.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ-قَالَ-وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»
(2)
. فإذا قرأت هذا الحديث اطمأنَّت نفسُك، فكلُّ شيء بقضاء وقدر، والله عز وجل قد كتب مقادير الخلائق، ولا يمكن أن يقع في هذا الكون شيءٌ لا يريده الله.
كل شيء بقدر:
وجاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ شَيءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ أَوِ الْكَيْسُ وَالْعَجْزُ»
(3)
. و «الْعَجْزُ» هو عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وتأخيره عن وقته ويحتمل: العجز عن الطاعات ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة. «وَالْكَيْسُ» ضد العجز وهو النشاط والحذق بالأمور ومعناه أن العاجز قد قدر عجزه والكيس قد قدر كيسه
(4)
لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر:
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: حَتَّى يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، وَحَتَّى يُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَحَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ»
(5)
. ولهذا لما أُخْبِرَ عبدُ الله بن عمر رضي الله عنهما عن قوم يَشُكُّون في القدر وجاؤوا فيه
(1)
تقدم تخريجه في المجلس الخامس عشر.
(2)
أخرجه مسلم (2653).
(3)
صحيح مسلم (2655).
(4)
انظر: شرح النووي على مسلم (16/ 205)
(5)
أخرجه الترمذي (2145) من طريق الطيالسي عن شعبة، وابن ماجه (81) من طريق شريك، وأحمد (758) من طريق محمد بن جعفر عن شعبة كلاهما شريك وشعبة عن منصور عن ربعي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. واختلف فيه على منصور: فرواه الترمذي أيضا عن النضر بن شميل، عن شعبة، نحوه، إلا أنه قال: ربعي، عن رجل، عن علي، وقال الترمذي: حديث أبي داود، عن شعبة عندي أصح من حديث النضر وهكذا روى غير واحد، عن منصور، عن ربعي، عن علي ا. هـ وتعقبه الحافظ في النكت الظراف (7/ 372/ مع تحفة الأشراف) فقال: قد أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي نعيم عن الثوري عن منصور مثل ما قال النضر عن شعبة وكذلك أخرجه عبد بن حميد عن أبي نعيم ا. هـ قلت: ورواه أحمد (1112) حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، مثل رواية النضر. وقال الدارقطني في العلل (3/ 196): حدث به شريك وورقاء وجرير وعمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن ربعي، عن علي. وخالفهم سفيان الثوري، وزائدة، وأبو الأحوص، وسليمان التيمي، فرووه عن منصور، عن ربعي، عن رجل من بني راشد، عن علي. وهو الصواب ا. هـ وقال الحافظ الضياء المقدسي في المختارة (2/ 68): ويحتمل أن يكون ربعي سمعه من علي وسمعه من رجل عنه فكان يرويه مرة عن علي ومرة عن رجل عنه والله أعلم ا. هـ وبمثله قال العلامة الألباني في ظلال الجنة (1/ 60) رقم (130).
بأقاويل لا تُعْرَف عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وقيل له: إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ
(1)
، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ، -أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه-؛ فَقَالَ عبدُ الله بن عمر رضي الله عنهما:«فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ»
(2)
وجاء في سنن الإمام أبي داود وابن ماجه عن عبد الله بن فيروز الديلمي قال: "أتيت أبيَّ بن كعبٍ (وتأمل هذا الحديث، تأمل هذه القصة لهذا التابعي) يقول: أتيت أبي بن كعب رضي الله عنه (وهو سيِّدُ القرَّاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر، فحدِّثْني بشيء لعلَّ الله جلَّ ثناؤه أن يُذهِبه من قلبي، فقال: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ» (أعطاه بيانًا شافيًا) يقول ابن الديلمي: ثم لقيت عبد
(1)
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: (1/ 155): هُوَ بِتَقْدِيمِ الْقَافِ عَلَى الْفَاءِ وَمَعْنَاهُ يَطْلُبُونَهُ وَيَتَتَبَّعُونَهُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَجْمَعُونَهُ
…
إلخ.
(2)
صحيح مسلم (8).
الله بن مسعود رضي الله عنه (فقيه الصحابة وكبير من كبرائهم الحافظ القارئ) فقال مثل ذلك (يعني بمثل ما أجاب أبيُّ بن كعب) قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما (وهو صاحب السِّر) فسألته فقال مثل ذلك قال: ثم أتيت زيد بن ثابت رضي الله عنه فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك"
(1)
. إذًا هذه كلمات واضحة تبين أن باب القدر بابٌ عظيمٌ يجب فيه التسليم لله وأمره ولم يزل ابن الديلمي يسأل عالما بعد عالم حتى وقف على الهدى وتبين له الحق.
وصية عبادة بن الصامت رضي الله عنه لابنه:
وجاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه في سنن أبي داود من حديث أبي حفصة الشامي واسمه حبيش بن شريح عنه- أنه أوصى ابنه فقال: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، - ثم قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي»
(2)
وفي سنن الترمذي عنْ عَبْدِ الوَاحِدِ بْنِ سُلَيْمٍ، قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَلَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ أَهْلَ البَصْرَةِ يَقُولُونَ فِي القَدَرِ، قَالَ: يَا بُنَيَّ، أَتَقْرَأُ القُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاقْرَأِ الزُّخْرُفَ، قَالَ: فَقَرَأْتُ: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} [الزخرف] فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا أُمُّ الكِتَابِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ كِتَابٌ كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَقَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الأَرْضَ، فِيهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَفِيهِ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} [المسد]، قَالَ عَطَاءٌ: فَلَقِيتُ الوَلِيدَ بْنَ
(1)
أخرجه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77) وابن حبان (727) وصححه العلامة الألباني في صحيح موارد الظمآن (1526) وفي «هداية الرواة» (111)، وصححه شيخنا العلامة الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (128)
(2)
أخرجه أبو داود (4700) والطبراني في مسند الشاميين (59) والبيهقي في الاعتقاد (ص: 136) وفي السنن الكبرى (20875) وفي القضاء والقدر (11) وفي إسناده أبو حفصة حبيش بن شريح وهو مجهول. وهو متابع كما سيأتي. وفي روايته «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ
…
» مرفوع! وسيأتي موقوفا في رواية المسند.
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ: مَا كَانَتْ وَصِيَّةُ أَبِيكَ عِنْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: دَعَانِي أَبِي فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، اتَّقِ اللَّهَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، فَإِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ، فَقَالَ: اكْتُبْ، فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ القَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ»
(1)
وفي المسند عَنْ أَيُّوبَ بْنِ زِيَادٍ، قال: حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُبَادَةَ، وَهُوَ مَرِيضٌ أَتَخَايَلُ فِيهِ الْمَوْتَ فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ أَوْصِنِي وَاجْتَهِدْ لِي. فَقَالَ: أَجْلِسُونِي. فَلَمَّا أَجْلَسُوهُ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَطْعَمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَنْ تَبْلُغْ حَقَّ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ وَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ مَا خَيْرُ الْقَدَرِ مِنْ شَرِّهِ؟ قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ. يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» يَا بُنَيَّ إِنْ مِتَّ وَلَسْتَ عَلَى ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارَ.
(2)
. فأوصى عبادة بن الصامت رضي الله عنه ابنه بهذه الوصية النافعة، وهي وصية عظيمة، في الإيمان بكل ما هو مقدر ومكتوب. فقد أحصى الله -جل وعلا- كلَّ شيء.
(1)
أخرجه أبو داود الطيالسي (578) -ومن طريقه الترمذي (2155، 3199) وابن أبي عاصم في السنة (105) -، وابن الجعد في المسند (3444) والشاشي في المسند (1192)، من طرق عن عبد الواحد بن سليم وهو ضعيف جدا، قال البخاري فيه نظر وقال الإمام أحمد: حديثه حديث منكر، أحاديثه موضوعة ا. هـ وقد توبع تابعه عبد الله بن السائب عن عطاء، أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (104) وفي الأوائل (2) والفريابي في القدر (425) عن محمد بن مُصفى الحمصي ثنا بَقية بن الوليد ثني معاوية بن سعيد ثني عبد الله بن السائب به. ومعاوية بن سعيد هو التُّجِيبي مقبول كما في التقريب. ولم ينفرد عطاء به بل تابعه غير واحد كما سيأتي ولذا صححه العلامة الألباني لشواهده كما في ظلال الجنة (105)
(2)
أخرجه الإمام أحمد (22705) وابن أبي شيبة (35922) -ومن طريقه: وابن أبي عاصم في السنة (107) والفريابي في القدر (72) والآجري في الشريعة (180، 346، 372) -، والبزار (2687)، والطبري في تاريخه (1/ 32) والطبراني في مسند الشاميين (1949) والضياء في الأحاديث المختارة (8/ 352) رقم (431). وأيوب بن زياد من رجال التعجيل، روى عنه جمع وذكره ابن حبان في الثقات. والحديث حسن سنده العلامة الألباني في ظلال الجنة (1/ 48) فقال: وإسناده حسن رجاله ثقات معروفون غير أيوب هذا فقد وثقه ابن حبان لكن روى عنه جماعة ا. هـ
مراتب الإيمان بالقدر:
إذا عرفنا هذا فالعلماء رحمهم الله يقولون: الإيمان بالقدر له أربع مراتب، لا يصح الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها، وبمعرفتها يتبين لك حقيقةُ الإيمان بالقضاء والقدر.
المرتبة الأولى: العلم:
المرتبة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عَلِمَ ما الخلق عاملون، وعَلِمَ جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، وعِلْمُه محيطٌ بهم، وبكل شأن من شؤونهم. ومعنى ذلك: الإيمانُ بأن الله يعلم كلَّ شيء، يعلم ما كان في الماضي، ويعلم ما هو كائن الآن، ويعلم ما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فالله بكل شيء عليم يعلم الماضي والمستقبل والحاضر. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يعلم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون. وبيانُه أن الكفار لما ادَّعَوا أنهم لو رجعوا إلى الدنيا لآمنوا بالله كذَّبهم الله، قال تعالى:{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا} وهم لن يُرَدُّوا قال الله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] فالله يعلم الشيء الذي لن يحصل كيف سيحصل. ويقول ربُّنا سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة]. فإيمانك بالقدر معناه: الإيمان بعلم الله المطلق يقول ربنا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام] ويقول: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} [يونس]
فكلُّ شيء مكتوب، وكلُّ ما وقع فقد علمه الله قبل أن يقع، وهو سبحانه قد قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها وشاءها سبحانه.
المرتبة الثانية: الكتابة:
المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله عز وجل قد كتب مقادير الخلائق، وأنه سبحانه كتب كلَّ شيء في اللوح المحفوظ، فكل شيء مكتوب، وهذه كلمة تجري على ألسنة الناس، وهي حقٌّ، فكل شيء يقع، وكل ما يحصل فهو مكتوب عند الله سبحانه بل جاء في الحديث كما تقدم معنا «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»
(1)
ولهذا يقول: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً، أَوْ سَعِيدَةً»
(2)
فيعلم-سبحانه-أهلَ الجنة من أهل النار، وقد كتب أسماء أهل الجنة وأسماء أهل النار ويعلم ما سيكون وكتب كلَّ شيء وقدَّره.
حديث القبضتين:
وفي المسند عَنْ أَبِي نَضْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، دَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالُوا لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خُذْ مِنْ شَارِبِكَ، ثُمَّ أَقِرَّهُ حَتَّى تَلْقَانِي» ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ بِيَمِينِهِ قَبْضَةً، وَأُخْرَى بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وَقَالَ: هَذِهِ لِهَذِهِ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ، وَلَا أُبَالِي» فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَنَا
(3)
.
وروى البزار عَنْ ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ فِي الْقَبْضَتَيْنِ:«هَؤُلاءِ لِهَذِهِ وَهَؤُلاءِ لِهَذِهِ» قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَهُمْ لا يَخْتَلِفُونَ فِي الْقَدَرِ. وفي رواية للبيهقي في القدر:
(1)
أخرجه مسلم (2653) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
(2)
أخرجه البخاري (1362، 4948)، ومسلم (2647) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3)
أخرجه الإمام أحمد (17593) وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (50) وشيخنا العلامة الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (415)
«هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي»
(1)
وفي المسند عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ، فَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُمْنَى، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ، كَأَنَّهُمُ الذَّرُّ، وَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمُ الْحُمَمُ، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَمِينِهِ: إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا أُبَالِي وَقَالَ: لِلَّذِي فِي كَفِّهِ الْيُسْرَى: إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي»
(2)
وَفي المسند عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ صَالحٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ أَخَذَ الْخَلْقَ مِنْ ظَهْرِهِ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي» ، قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ فَعَلَى مَاذَا نَعْمَلُ؟ قَالَ: «عَلَى مَوَاقِعِ الْقَدَرِ»
(3)
ومعنى الحديث أنّ كلّ مَنْ قُدِّرَ عليه شيءٌ في سابق عِلمِ اللهِ سبحانه، لابدّ أن يَقَعَ عليه. قاله العلامة الطوفي
(4)
(1)
أخرجه البزار (5833) وأبو يعلى في المعجم (100) والطبراني في المعجم الصغير (362) وأبو نعيم في الحلية (7/ 110) والبيهقي في القضاء والقدر (71، 72)، وصححه العلامة الألباني في الصحيحة (46)
(2)
أخرجه الإمام أحمد (27488) وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (49) وحسنه شيخنا العلامة الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (422)
(3)
أخرجه الإمام أحمد (17660)، ومعاوية بن صالح صدوق له أوهام كما في التقريب، وقد خولف، فقد رواه الطبراني في المعجم الكبير (22/ 169) رقم (435) وابن راهويه-كما في المطالب العالية (2962) -، عن بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، حَدَّثَنِي رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْبَتَدِئُ الْأَعْمَالَ أَوْ قَدْ قُضِيَ الْقَضَاءُ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ أَخَذَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ، ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، ثُمَّ أَفَاضَ فِي كِفَّةٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، أَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَمُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ فَمُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» وتابعه عبد الله بن سالم الأشعري عن الزبيدي رواه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 341) وفي إسناده إسحاق ابن زبريق وفيه ضعف. وخطأ البخاري في التاريخ الكبير (5/ 341) رواية معاوية فقال: وقال معاوية مرة: عبد الرحمن بن قتادة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خطأ ا. هـ وحكم ابن السكن كما في الإصابة لابن حجر وابن عبد البر في الاستيعاب على اضطراب هذا الحديث. وشرحه العلامة أحمد شاكر في تخريج تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/ 244) رقم (15377) وقال: معناه صحيح وارد في أحاديث كثيرة. وانظر مزيد تخريج للحديث فيما سيأتي في أحاديث في ذكر الميثاق.
(4)
المرتبة الثالثة: المشيئة:
المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، ومعنى هذا: أنه لا يمكن أن يقع في الكون شيء إلا وقد شاءه الله سبحانه.
وقد سُئِل الإمام الشافعي رحمه الله عن القَدَرِ، فأنشأَ يقولُ:
فمَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أشأْ
…
وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ
خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ
…
فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ
…
وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ
…
وَمِنْهُمْ قَبِيحٌ وَمِنْهُمْ حَسَنْ
(1)
فما شاءه الله -جل وعلا- هو الذي سيكون، ولن يكون في الكون شيء لا يريده الله والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا.
يقول ربنا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]. فكل شيء يقع في هذا الكون بمشيئة الله. يقول ربنا -جل وعلا-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} [الإنسان]
للعبد مشيئة تابعة لمشيئة الله:
ولو قال قائل: هل للإنسان مشيئة؟ نقول: نعم، الإنسان له مشيئة لكن مشيئته تابعة لمشيئة الله بدلالة هذه الآية، فالله أثبت مشيئة للإنسان، وقال سبحانه:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان] فمشيئته تابعة لمشيئة الله. ولا يجوز أن يعتقد إنسان أنه مغلوب على أمره وأنه مجبور لا مشيئة له. قال العلامة الألباني رحمه الله: كثير من الناس يتوهمون أن هذه الأحاديث -يعني أحاديث القبضتين المتقدمة- ونحوها أحاديث كثيرة تفيد أن الإنسان مجبور على أعماله الاختيارية، ما دام أنه حكم عليه منذ القديم وقبل أن يخلق بالجنة أو النار، وقد يتوهم آخرون أن الأمر فوضى أو حظ فمن وقع في القبضة اليمنى كان من أهل
(1)
أسنده عن الشافعي غير واحد منهم: اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (1304)، والبيهقي في السنن الكبرى (21/ 84 ت التركي) رقم (20936).
السعادة، ومن كان من القبضة الأخرى كان من أهل الشقاوة، فيجب أن يعلم هؤلاء جميعا أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لا في ذاته ولا في صفاته، فإذا قبض قبضة فهي بعلمه وعدله وحكمته، فهو تعالى قبض باليمنى على من علم أنه سيطيعه حين يؤمر بطاعته، وقبض بالأخرى على من سبق في علمه تعالى أنه سيعصيه حين يؤمر بطاعته، ويستحيل على عدل الله تعالى أن يقبض باليمنى على من هو مستحق أن يكون من أهل القبضة الأخرى، والعكس بالعكس، كيف والله عز وجل يقول:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم]. ثم إن كلاً من القبضتين ليس فيها إجبار لأصحابهما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار، بل هو حكم من الله تبارك وتعالى عليهم بما سيصدر منهم من إيمان يستلزم الجنة، أو كفر يقتضي النار والعياذ بالله تعالى منها، وكل من الإيمان أو الكفر أمران اختياريان، لا يكره الله تبارك وتعالى أحدا من خلقه على واحد منهما {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وهذا مشاهد معلوم بالضرورة، ولولا ذلك لكان الثواب والعقاب عبثا، والله منزه عن ذلك. ومن المؤسف حقا أن نسمع من كثير من الناس حتى من بعض المشايخ التصريح بأن الإنسان مجبور لا إرادة له! وبذلك يلزمون أنفسهم القول بأن الله يجوز له أن يظلم الناس! مع تصريحه تعالى بأنه لا يظلمهم مثقال ذرة، وإعلانه بأنه قادر على الظلم ولكنه نزه نفسه عنه كما في الحديث القدسي المشهور: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي
…
»
(1)
إلخ ا. هـ
(2)
المرتبة الرابعة: الخلق:
الأمر الرابع: وهو أن الله خالق كل شيء، فكلُّ شيء مخلوق، والله هو الخالق، خالق كل شيء. كما قال:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام].
وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} [الفرقان].
(1)
أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(2)
سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 115 - 117).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ»
(1)
.
وقال إبراهيم عليها السلام لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات]. فكل شيء كتبه الله وقدَّره وشاءه وخلقه، لا يخرج شيء عن ذلك.
فهذه المراتب الأربع إذا فهمها الإنسان فَهِمَ معنى الإيمان بالقضاء والقدر.
ولا يصح إيمان أحد بالقدر ما لم يؤمن بها، ومن أنكر واحدة منها فهو خارج عن مذهب أهل السنة والجماعة.
ترك الخوض والجدال في القدر:
ومما نبَّهَ العلماء عليه أنه لا يجوز للإنسان الخوضُ والجدال والنقاش العقيم في هذا الباب. لماذا؟ لأن باب الإيمان بالقضاء والقدر بابٌ غيبي؛ فلا ينبغي للمسلم أن يخوض فيه بلا علم؛ ولهذا اشتهر عن كثير من السلف أنهم قالوا: "القَدَرُ سِرُّ اللهِ المَكْتُوم" وروي حديثا ولا يصح
(2)
قال الإمام الطحاوي رحمه الله في العقيدة: وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ وَسُلَّمُ
(1)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (ص: 46) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص: 74) رقم [37] عن حذيفة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه ابن عدي في الكامل (9/ 13)، من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً، والخطيب البغدادي في تاريخه (3/ 671/ ط بشار) عن أنس رضي الله عنه وهو موضوع؛ ورواه ابن حبان في المجروحين (ترجمة الهيثم بن جماز) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 182) واللالكائي (1122) عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً، وفيه الهيثم بن جماز - وتحرف في سند اللالكائي إلى ابن جميل-، وابن جماز متروك الحديث، وانظر: ضعيف الجامع برقم (4131) ورواه البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 416) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه موقوفا. بسند ضعيف. وله طريق أخرى عن علي رضي الله عنه عند الآجري في الشريعة (422، 547) وسنده ضعيف جدا. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 260) رقم (10606) عن ابن عباس رضي الله عنه وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 200): رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ أَبُو يَحْيَى الْقَتَّاتُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ وَضَعَّفَهُ فِي غَيْرِهَا، وَمُصْعَبُ بْنُ سَوَّارٍ لَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ ا. هـ قلت مصعب بن سوار صوابه: سوار بن مصعب كما في الإبانة الكبرى لابن بطة (4/ 314) رقم (1994) وتاريخ دمشق لابن عساكر (40/ 329) وهو واهٍ كما في الميزان. وقد ذكر الدارقطني في سننه (1/ 313) أن عبد الله بن رجاء -الراوي عنه- يقلب اسمه ويسميه مصعب بن سوار.
الْحِرْمَانِ وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ كَمَا قال الله تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء]. فَمَنْ سَأَلَ لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الكتاب كان من الكافرين ا. هـ
(1)
وقال الإمام البربهاري رحمه الله: والكلام والجدل والخصومة في القدر خاصة منهي عنه عند جميع الفرق؛ لأنَّ القدر سر الله ونهى الرب تبارك وتعالى الأنبياء عن الكلام في القدر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخصومة في القدر، وكرهه العلماء وأهل الورع ونهوا عن الجدال في القدر، فعليك بالتسليم والإقرار والإيمان، واعتقاد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة الأشياء وتسكت عما سوى ذلك ا. هـ
(2)
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: أَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ أَوْجَدَ وَأَفْنَى، وَأَفْقَرَ وَأَغْنَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَأَضَلَّ وَهَدَى
…
وَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ أَفْعَالَ الْعِبَادِ .... وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَيَشَاؤُهُ، وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ، فَيَشَاؤُهُ كَوْنًا، وَلَا يَرْضَاهُ دِينًا ا. هـ
(3)
وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله:
…
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحُكَمَاءُ قَدِيمًا: «الْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ فَلَا تَنْظُرُوا فِيهِ فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَلَّا يُعْصَى مَا عَصَاهُ أَحَدٌ» ؛ فَالْعِبَادُ أَدَقُّ شَأْنًا وَأَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْصُوا اللَّهَ إِلَّا بِمَا يُرِيدُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ «لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يُعْصَى مَا خَلَقَ إِبْلِيسَ»
(4)
. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ «لَوْ كَانَ الْخَيْرُ فِي يَدِ أَحَدٍ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْعَلَهُ
(1)
متن الطحاوية بتعليق الألباني (ص: 49).
(2)
شرح السنة (ص: 80)
(3)
شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (1/ 320).
(4)
لم أقف عليه عن الحسن. وهو مأثور عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، رواه الفريابي في القدر (310) وغيره بسند صحيح عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: «لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ لَا يُعْصَى، مَا خَلَقَ إِبْلِيسَ، وَهُوَ رَأْسُ الْخَطِيئَةِ» . وروي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عند البزار وغيره- وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند أبي نعيم في الحلية-، وجابر رضي الله عنه عند الآجري في الشريعة (416) -، وصححه بمجموع الطرق العلامة الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1642). وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يصح مرفوعا منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن كثير وغيرهما. وهو الصواب. انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (2/ 362) و «أحاديث معلة ظاهرها الصحة» (ص 93) للعلامة الوادعي رحمه الله.
فِي قَلْبِهِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عز وجل هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُ فِيهِ»
(1)
(2)
.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ حَيْثُ قَالَ:
لَيْسَ لِلَّهِ الْعَظِيمِ نِدٌّ
…
وَهَذِهِ الْأَقْدَارُ لَا تُرَدُّ
لَهُنَّ وَقْتٌ وَلَهُنَّ حَدٌّ
…
مؤخر بعض وبعض نقد
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا وَهَذَا بُدٌّ
…
وَلَيْسَ مَحْتُومًا لِحَيٍّ خُلْدُ
(3)
شرح الإمام ابن بطة لمسائل القدر:
وقال الإمام ابن بطة العكبري رحمه الله: وَأَمَّا الْقَدَرُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فُرِضَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِجَمِيعِهِ.
وَالْآخَرُ: فَحَرَامٌ عَلَيْنَا التَّفَكُّرُ فِيهِ وَالْمَسْأَلَةُ عَنْهُ، وَالْمُنَاظَرَةُ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ لِأَهْلِهِ، وَالْخُصُومَةُ بِهِ. فَأَمَّا الْوَاجِبُ عَلَيْنَا عِلْمُهُ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَالْإِقْرَارُ بِجَمِيعِهِ:
• أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللَّهِ،
• وَأَنَّ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ،
• وَأَنَّ مَا أَصَابَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئُنَا وَمَا أَخْطَأْنَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبُنَا،
• وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا، عَلِمَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، وَوَفَّقَهُمْ لِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ رَضِيَهَا أَمَرَهُمْ بِهَا، فَوَفَّقَهُمْ لَهَا، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهَا، وَشَكَرَهُمْ بِهَا، وَأَثَابَهُمُ
(1)
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (35133) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1714، 1715) والبيهقي في القضاء والقدر (528) عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:«لَوْ كَانَ الْخَيْرُ فِي كَفِّ أَحَدِنَا مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُفْرِغَهُ فِي قَلْبِهِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُفْرِغُهُ فِي قَلْبِهِ» وفي المجالسة وجواهر العلم (2398) للدينوري: عن ابْنِ الْمُبَارَكِ قال: قَالَ مُطَرِّفٌ: «لَوْ كَانَ الْخَيْرُ فِي كَفِّي مَا نُلْتُهُ إِلا بِمَشِيئَةِ اللهِ» .
(2)
رواه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1712) وهو بنحوه في «الزهد والرقائق - ابن المبارك - ت الأعظمي» (298)، و «المعرفة والتاريخ للفسوي - ت العمري - ط العراق» (2/ 81)، و «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» (2/ 201)
(3)
الاستذكار (8/ 263).
الْجَنَّةَ عَلَيْهَا تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً،
• وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا، أَحْصَاهُمْ عَدَدًا، وَعَلِمَ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ، وَقَدَّرَ عَلَيْهِمْ مَا كَرِهَهُ لَهُمْ، خَذَلَهُمْ بِهَا وَعَذَّبَهُمْ لِأَجْلِهَا غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَا هُمْ مَعْذُورُونَ فِيمَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ،
فَكُلُّ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِنْ عِلْمِ الْقَدَرِ الَّذِي لَزِمَ الْخَلْقَ عِلْمُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
…
• وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ عِلْمِ الْقَدَرِ: الَّذِي لَا يَحِلُّ النَّظَرُ فِيهِ وَلَا الْفِكْرُ بِهِ، وَحَرَامٌ عَلَى الْخَلْقِ الْقَوْلُ فِيهِ كَيْفَ وَلِمَ وَمَا السَّبَبُ مِمَّا هُوَ سِرُّ اللَّهِ الْمَخْزُونُ وَعِلْمُهُ الْمَكْتُومُ الَّذِي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَحَجَبَ الْعُقُولَ عَنْ تَخَيُّلِ كُنْهِ عِلْمِهِ، وَالنَّاظِرُ فِيهِ كَالنَّاظِرِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ، كُلَّمَا ازْدَادَ فِيهِ نَظَرًا ازْدَادَ فِيهِ تَحَيُّرًا، وَمِنَ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهَا بُعْدًا: فَهُوَ التَّفَكُّرُ فِي الرَّبِّ عز وجل
كَيْفَ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَقِيسُ فِعْلَ اللَّهِ عز وجل بِفِعْلِ عِبَادِهِ، فَمَا رَآهُ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادِ جَوْرًا يَظُنُّ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ مِثْلِهِ جَوْرٌ، فَيَنْفِي ذَلِكَ الْفِعْلَ عَنِ اللَّهِ، فَيَصِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ
إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ لِلَّهِ عز وجل بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَيَرَى أَنَّهُ جَوْرٌ مِنْ فِعْلِهِ،
وَإِمَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ مِمَّنْ يُنَزِّهُ اللَّهَ عَنِ الْجَوْرِ، فَيَنْفِي عَنْهُ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ، فَيَجْعَلُ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً كَثِيرَةً يَحُولُونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ مَشِيئَتِهِ،
فَبِالْفِكْرِ فِي هَذَا وَشِبْهِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ وَالْبَحْثِ وَالتَّنْقِيرِ عَنْهُ هَلَكَتِ الْقَدَرِيَّةُ حَتَّى صَارُوا زَنَادِقَةً وَمُلْحِدَةً وَمَجُوسًا، حَيْثُ قَاسُوا فِعْلَ الرَّبِّ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَشَبَّهُوا اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَلَمْ يَعُوا عَنْهُ مَا خَاطَبَهُمْ بِهِ، حَيْثُ يَقُولُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء].
فَمِمَّا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِيهِ وَلَا يَسْأَلَ عَنْهُ، وَلَا يَقُولَ فِيهِ لِمَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ، لِمَ خَلَقَ اللَّهُ إِبْلِيسَ وَهُوَ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ أَنَّهُ سَيَعْصِيهِ، وَأَنْ سَيَكُونُ عَدُوًّا لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ؟ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ إِذَا عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا يَكُونُ عَدُوًّا لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ، وَمُضَادًا لَهُ فِي مَحَابِّهِ، وَعَاصِيًا لَهُ فِي أَمْرِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ: إِنَّ هَذَا خَطَأٌ وَضَعْفُ رَأْيٍ وَفَسَادُ نِظَامِ الْحِكْمَةِ، فَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُصِبْ فِي فِعْلِهِ حَيْثُ خَلَقَ إِبْلِيسَ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْلَمْ
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ إِبْلِيسَ أَنَّهُ يَخْلُقُ إِبْلِيسَ عَدُوًّا لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ إِبْلِيسَ أَصْلًا فَقَدْ كَفَرَ. وَهَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ الْمُلْحِدَةِ، فَالَّذِي يَلْزَمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِبْلِيسَ وَقَدْ عَلِمَ مِنْهُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ ذَلِكَ عَدْلٌ صَوَابٌ، وَفِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} .
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْعِبَادِ عِلْمُهُ وَحَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيهِ وَيُعَارِضُوهُ بِآرَائِهِمْ وَيَقِيسُوهُ بِعُقُولِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ لِمَ جَعَلَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ سُلْطَانًا عَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَدُوُّهُ وَعَدُّوهُمْ مُخَالِفٌ لَهُ فِي دِينِهِ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ الْخُلْدَ وَالْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُ ذَلِكَ، لَوْ شَاءَ أَنْ يُهْلِكَهُ مِنْ سَاعَتِهِ لَفَعَلَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْعِبَادِ لَكَانَ خَطَأً، وَكَانَ يَجِبُ فِي أَحْكَامِ الْعَدْلِ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ عَبْدٌ وَهُوَ عَدُوٌّ لَهُ وَلِأَحِبَّائِهِ وَمُخَالِفٌ لِدِينِهِ وَمُضَادٌّ لَهُ فِي مَحَبَّتِهِ أَنْ يُهْلِكَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُضِلُّ عَبِيدَهُ وَيُفْسِدُهُمْ، فَفِي حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْعَدْلِ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَنْ لَا يُسَلِّطَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَجْعَلَ لَهُ سُلْطَانًا وَلَا مَقْدِرَةً، وَلَوْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ عِنْدَ الْبَاقِينَ مِنْ عِبَادِهِ ظُلْمًا وَجَوْرًا حَيْثُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُفْسِدُهُمْ عَلَيْهِ وَيُضَادُّهُ فِيهِمْ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ، وَقَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ وَهَلَكَتِهِ، فَمنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ فَظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْدِلْ حِينَ جَعَلَ لِإِبْلِيسَ الْخُلْدَ وَالْبَقَاءَ وَسَلَّطَهُ عَلَى بَنِي آدَمَ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُهْلِكَ إِبْلِيسَ مِنْ سَاعَتِهِ حِينَ أَغْوَى عِبَادَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَهَذَا مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَرُدُّ عِلْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَلَا يُقَالُ فِيهِ لِمَ وَلَا كَيْفَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء].
وَمِنْ ذَلِكَ نَوْعٌ آخَرُ: أَنَّ اللَّهَ عز وجل جَعَلَ لِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ أَنْ يَأْتُوا بَنِي آدَمَ فِي جَمِيعِ أَطْرَافِ الْأَرْضِ، يَأْتُونَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ لِقَوْلِهِ عز وجل {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، وَجَعَلَهُمْ يَجْرُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَلَمْ يَجْعَلِ لِلرُّسُلِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنَ السُّلْطَانِ مِثْلَ مَا جَعَلَ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي أَحْكَامِ الْعِبَادِ لَكَانَ مِنَ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ عَلَامَةٌ كَعَلَامَةِ السُّلْطَانِ، أَوْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ أَجْرَاسٌ يَعْرِفُونَهُمْ بِهَا، وَيَسْمَعُونَ حِسَّهُمْ فَيَأْخُذُونَ حِذْرَهُمْ مِنْهُمْ، حَتَّى إِذَا جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ عَلِمَ الْعِبَادُ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَضِلُّونَ النَّاسَ، فَيَأْخُذُونَ حِذْرَهُمْ، أَوْ يَجْعَلَ لِلرُّسُلِ
أَنْ يُزَيِّنُوا وَيُوَصِّلُوا إِلَى صُدُورِ النَّاسِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ ذُرِّيَّتَهُ وَيُزَيِّنُوا لَهُمُ الْمَعْصِيَةَ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ عَبِيدِهِ الْبَاقِينَ ظُلْمًا وَجَوْرًا لِأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِنْ إِبْلِيسَ، وَالرُّسُلُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُزَيِّنُوا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ طَاعَةَ اللَّهِ وَمَعْرِفَتَهُ كَمَا يُزَيِّنُ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ مَعْصِيَتَهُ بِالْوَسْوَسَةِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ سُلْطَانًا أَنْ يَأْتُوا عَلَى جَمِيعِ بَنِي آدَمَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ وَيُوَسْوِسُ فِي صُدُورِهِمُ الْمَعَاصِيَ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْدِلْ حَيْثُ جَعَلَ لِإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ هَذَا السُّلْطَانَ عَلَى بَنِي آدَمَ فَقَدْ كَفَرَ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَرُدُّ عِلْمُهُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ فِيهِ إِلَيْهِ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء].
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ لِمَ سَلَّطَ اللَّهُ الْكُفَّارَ عَلَى الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا، وَسَلَّطَ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى قَتَلُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ وَقَتَلُوا الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا سَلَّطَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ لِيُكْرِمَ أَوْلِيَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ بِهَوَانِ أَعْدَائِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُهْلِكَ الْكُفَّارَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِ بَعْضِ مُلُوكِ الْعِبَادِ كَانَ جَوْرًا عِنْدَ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ حَيْثُ سَلَّطَ أَعْدَاءهُ عَلَى أَنْصَارِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى هَلَكَتِهِمْ مِنْ وَقْتِهِمْ، فَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا جَوْرٌ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ حَيْثُ سَلَّطَ الْكُفَّارَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُسَلِّطْهُمْ وَإِنَّمَا الْكُفَّارُ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَهُ بِقُوَّتِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَنْصُرَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ حَتَّى غَلَبُوهُ وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ أَحَبَّ نَصْرَهُ وَتَمْكِينَهُ فَمَنْ ظَنَّ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء]، لَا يُشْبِهُ عَدْلُهُ عَدْلَ الْمَخْلُوقِينَ، كَمَا أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْخَلْقِ لَا يُشْبِهُهُ.
وَخَصْلَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ لِمَ مَكَّنَ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ فِي الْبِلَادِ، وَأَعَانَهُمْ بِقُوَّةِ الْأَبْدَانِ وَرَشَاقَةِ الْأَجْسَامِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالسِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ أَنْ يُعِدُّوا لَهُمُ السِّلَاحَ وَالْقُوَّةَ، وَأَنْ يُحَارِبُوهُمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ قَالَ هُوَ لِنَفْسِهِ: إِنِّي مَعَكُمْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ مِنْ وَقْتِهِ بِأَيِّ أَنْوَاعِ الْهَلَاكِ شَاءَ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ، وَبِغَيْرِ أَنْصَارٍ وَلَا سِلَاحٍ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَحْكَامِهِمْ لَكَانَ جَوْرًا وَفَسَادًا أَنْ يُقَوِّيَ أَعْدَاءَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ،
وَيَمُدَّهُمْ بِالْعُدَّةِ، وَيُؤَيِّدَهُمْ بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالْقُوَّةِ، ثُمَّ يَنْدُبُ أَوْلِيَاءَهُ لِمُحَارَبَتِهِمْ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْعُدَّةَ وَالْقُوَّةَ وَالسِّلَاحَ الَّذِي فِي أَعْدَاءِ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِهِمْ وَعَطِيَّةِ اللَّهِ لَهُمْ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِهِمْ وَعَطِيَّتِهِ لَهُمْ وَهُوَ جَوْرٌ مِنْ فِعْلِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ وَقَوَّاهُمْ وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَسْلِبَهُمْ إِيَّاهُ وَيُهْلِكَهُمْ مِنْ سَاعَتِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَعْدَاءَهُ وَقَوَّاهُمْ وَسَلَّطَهُمْ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُهْلِكَهُمْ لَفَعَلَ، وَاللَّهُ أَعْدَلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء].
وَمِمَّا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِيهِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُضْمِرَ فِي نَفْسِهِ فَيَقُولُ: لِمَ خَلَقَ اللَّهُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَالْهَوَامَّ وَالسِّبَاعَ الَّتِي تَضُرُّ بَنِي آدَمَ وَلَا تَنْفَعُهُمْ وَسَلَّطَهَا عَلَى بَنِي آدَمَ وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَخْلُقَهَا مَا خَلَقَهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ مُلُوكِ الْعِبَادِ لَقَالَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ: هَذَا غِشٌّ لَنَا وَمَضَرَّةٌ عَلَيْنَا بِغَيْرِ حَقٍّ حَيْثُ جَعَلَ مَعَنَا مَا يَضُرُّ بِنَا وَلَا نَنْتَفِعُ نَحْنُ وَلَا هُوَ بِهِ، فَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ فَظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْدِلْ حَيْثُ خَلَقَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَالسِّبَاعَ وَكُلَّمَا يُؤْذِي بَنِي آدَمَ وَلَا يَنْفَعُهُمْ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَالِقًا غَيْرُ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَهَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ وَالْمَجُوسِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْإِيمَانُ بِهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا تَضُرُّ بِعِبَادِهِ وَتُؤْذِيهِمْ وَهُوَ عَدْلٌ مِنْ فِعْلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا خَلَقَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)}
وَخَصْلَةٌ أُخْرَى لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَكَّرَ وَيُضْمِرَ فِي نَفْسِهِ، لِمَ تَرَكَ اللَّهُ الْعِبَادَ حَتَّى يَجْحَدُوهُ وَيُشْرِكُوا بِهِ وَيَعْصُوهُ، ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَهُوَ قَادِرٌ أَنْ يَمْنَعَ قُلُوبَهُمْ أَنْ تَدْخُلَهَا شَهْوَةُ شَيْءٍ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، أَوْ مَحَبَّةُ شَيْءٍ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُبَغِّضَ إِلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ مَعْصِيَتَهُ وَمُخَالَفَتِهِ، وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَ مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَتِهِ مَعَ هِمَّتِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى أَفْضَلِ عَمَلِ عَبْدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ؟ فَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ فَظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْدِلْ حَيْثُ لَمْ يَمْنَعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْقُلُوبَ أَنْ يَدْخُلَهَا حُبُّ شَيْءٍ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَلَمْ يَهْدِ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ فَقَدْ كَفَرَ،
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَرَادَ هِدَايَةَ الْخَلْقِ وَطَاعَتَهُمْ لَهُ وَأَرَادَ أَنْ لَا يَعْصِيَهُ أَحَدٌ وَلَا يَكْفُرَ أَحَدٌ فَلَمْ يَقْدِرْ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدَرَ عَلَى هِدَايَةِ الْخَلْقِ وَعِصْمَتِهِمْ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَهُوَ جَوْرٌ مِنْ فِعْلِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ، وَتَرْكُ الْخَوْضِ فِيهِ وَالْمَسْأَلَةِ عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ الْكُفَّارَ وَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ، وَخَلَقَ الْعُصَاةَ وَأَمَرَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَجَعَلَ حُبَّ الْمَعَاصِي فِي قُلُوبِهِمْ، فَعَصَوْهُ بِنِعْمَتِهِ، وَخَالَفُوهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ قُوَّتِهِ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَهُوَ يُعَذِّبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَلُومُونَ غَيْرُ مَعْذُورِينَ، وَاللَّهُ عز وجل عَدْلٌ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ بِهِمْ، وَغَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تبارك وتعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء].
فَهَذَا مِنْ عِلْمِ الْقَدَرِ الَّذِي لَا يَحِلُّ الْبَحْثُ عَنْهُ وَلَا الْكَلَامُ فِيهِ، وَلَا التَّفَكُّرُ فِيهِ، وَبِكُلِّ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ ذَكَرْتُهُ وَمَا أَنَا ذَاكِرُهُ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ عَلَيْهِ، لَا يَرُدُّ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُهُ إِلَّا قَدَرِيٌّ خَبِيثٌ مَشُومٌ قَدْ زَاغَ قَلْبُهُ وَأَلْحَدَ فِي دِينِ اللَّهِ وَكَفَرَ بِاللَّهِ،
…
إلخ»
(1)
النهي عن الخوض في القدر:
وقد جاء في مسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، من حديث العابد الزاهد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لَقَدْ جَلَسْتُ أَنَا وَأَخِي مَجْلِسًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، أَقْبَلْتُ أَنَا وَأَخِي وَإِذَا مَشْيَخَةٌ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ عِنْدَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَجَلَسْنَا حَجْرَةً، إِذْ ذَكَرُوا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَتَمَارَوْا فِيهَا، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ-وفي رواية: وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ-فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا، قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ-وفي رواية: وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ-فخرج يَرْمِيهِمْ بِالتُّرَابِ، وَيَقُولُ: «مَهْلًا يَا قَوْمِ، [بِهَذَا أُمِرْتُمْ، أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ؟!] [مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ
(1)
الإبانة الكبرى (3/ 246)
اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟!] بِهَذَا أُهْلِكَتِ الْأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ، بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَضَرْبِهِمُ الْكُتُبَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ، فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ، فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ» قَالَ:"فَمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَشْهَدْهُ، بِمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَنِّي لَمْ أَشْهَدْهُ"
(1)
.
فما أحوجنا في هذا الزمان إلى هذا الأدب مع القرآن والسُنَّة، كلُّ من لم يفهم آية طعن في الإسلام، وكلُّ من أشكل عليه حديث بدأ يتكلم، وهؤلاء مشيخة من الصحابة رضي الله عنهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يحثو في وجوههم التراب، ويعاتبهم:«بِهَذَا أُمِرْتُمْ، أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ؟!» ، ويقول:«مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟!» ، تأديبا للأمة صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَؤوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَقُومُوا»
(2)
.
وجاء أيضًا في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً، أَوْ سَعِيدَةً» قال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ (أنتكل على كتابنا وندع العمل ما دام أنه قد كُتِبَ أهل الجنة من أهل النار أنتكل على ذلك وندع العمل؟) فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» ثُمَّ قَرَأَ قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل]
(3)
. فالإيمان بالقضاء والقدر لا يتعارض أبدًا مع العمل؛ لأن القدر سرُّ الله المكتوم، فالله عز وجل لم يبين لنا ما في الغيب ونحن لا نعلم ما في الغيب. أمرك أن تطيعه
(1)
أخرجه أحمد (6702، 6668)، وابن ماجه (85)، وهو في صحيح مسلم (2666/ 2) مختصرًا.
(2)
أخرجه البخاري (5060)، ومسلم (2667) واللفظ له.
(3)
أخرجه البخاري (1362)، ومسلم (2647) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فَلْتُطِعْه. وأمرك أن تنتهي عن المنكرات فَانْتَهِ عن المنكرات.
ولهذا ذكر العلماء رحمهم الله أن الذين يعصون الله ويحتجون بالقدر على معصية الله أنهم لا يعذرون عند الله. وهذا السبيل الذي سلكوه هو سبيل المشركين وسبيل الكافرين، وسيأتي-إن شاء الله تعالى معنا في مجلس آخر- الحديثُ عن حكم الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعاصي، وأن ذلك لا يجوز؛ لأن الله قد أمرك ونهاك، وأمرك بالعمل كما سنبين -إن شاء الله- وأنه لا تعارض بين الإيمان بالقضاء والقدر وبين العمل الذي أمرنا الله عز وجل أنه نأتيه ونعمله.
وقد تقدم معنا قول الإمام ابن القيم رحمه الله: القدر بحر محيط لا ساحل له، ولا خروج عنه لأحد من العالمين، والشرع فيه سفينة النجاة، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها فهو من المُغْرَقين،
…
والإيمان به قُطْب رحا التوحيد ونظامه، ومبدأ الإيمان وتمامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، .. إلخ. ا. هـ
(1)
(1)
تقدم في أول المجلس.
المجلس التاسع عشر
(1)
مسائل مهمة تتعلق بباب الإيمان بالقضاء والقدر
ذكرنا في الدرس الماضي أنَّ الإيمان بالقضاء والقدر يستلزم من المؤمن أن يؤمن بمراتب القدر الأربع وهي:
المرتبة الأولى: الإيمان بأن الله عالم بكل شيء جملةً وتفصيلًا.
والمرتبة الثانية: الإيمان بأن الله كَتَبَ ما سبق به علمُه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة.
والمرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، فنؤمن بأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا حركة ولا سكون ولا هداية ولا إضلال إلا بمشيئة الله.
والمرتبة الرابعة: الإيمان بمرتبة الخلق، فنؤمن بأنَّ جميع الكائنات مخلوقةٌ لله بذواتها وصفاتها وحركاتها، فكل ما سوى الله مخلوقٌ، مُوجَدٌ من العدم، كائنٌ بعد أن لم يكن.
فيجب على الإنسان أن يؤمن بشرع الله وأمره ونهيه، يصدق الخبر ويطيع الأمر. وبالإيمان بهذه الأمور يكون المؤمن قد آمن بالله عز وجل حقًّا في باب الإيمان بالقضاء والقدر، فيؤمن بأنه لا يقع شيء إلا وقد علمه الله وكتبه وشاءه وخلقه، ويؤمن بأنَّ اللهَ أَمَرَ بطاعته ونهى عن معصيته، فيفعل الطاعة ويترك المعصية.
إذا عرفنا ذلك فإن المسائل التي سنتكلم عنها في بداية هذا المجلس هي ما ذكره العلماء رحمهم الله مما يتعلق من أنواع التقدير المرتبط بمرتبة العلم.
(1)
كان في يوم الأحد السابع عشر من شهر رمضان 1441 هـ.
مرتبة العلم يتعلق بها أنواع من التقادير:
والتي ورد ذكرها في الكتاب والسنة يقول العلامة الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله
(1)
: "يدخل في ذلك خمسة من التقادير كلها ترجع إلى العلم" ثم ذكر التقدير الأول: وهو كتابة ذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة يدل على ذلك قول الله-سبحانه-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]. وفي الحديث: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ-قَالَ-وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»
(2)
إذًا هذا يدخل في علم الله فنحن نؤمن بأن الله عز وجل كَتَبَ مقادير الخلائق قبل أن يخلقها.
النوع الثاني من أنواع التقادير: التقدير العمري، وهو حينما أخذ الله الميثاق من الناس، يقول ربُّنا سبحانه:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] وجاء في هذه الآية حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كَفَّيه، وقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهلُ الجنة ميسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهلُ النار ميسَّرون لعمل أهل النار، والحديثُ جاء من طرق وجاء في تفسير هذه الآية المباركة وسيأتي ذكره -إن شاء الله-
(3)
.
كذلك النوع الثالث من أنواع التقادير: التقدير العمري، فما من إنسان إلا ويكتب الله عز وجل ما يكون منه عند خلقه كما جاء بذلك الحديث، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا-يعني نطفة-ثُمَّ يَكُونُ في ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ في ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ
…
»
(4)
إذًا هذه كتابة أخرى، وهذا يدل على علم الله السابق.
(1)
أعلام السنة المنشورة (ص: 81).
(2)
أخرجه مسلم (2653) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
(3)
سيأتي ذكره في المبحث التالي.
(4)
صحيح البخاري (3208)، وصحيح مسلم (2643) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
كذلك هناك تقدير حَوْليٌّ في كل عام، وذلك في ليلة القدر، يقول الله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)} [الدخان] ويقول عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان]. قال أهل التفسير: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت أو حياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان. قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومقاتل وغير واحد
(1)
.
وأخيرًا النوع الخامس من أنواع التقادير: التقدير اليومي، قال تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن] قال أهل التفسير: إن الله عز وجل في كل يوم يكتب أمرًا ويمحو أمرًا، ويُحيِي ويميت، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويفعل ما يشاء فهذه أنواع التقادير، وليس بينها اختلاف، فقد جاء بيانها في الكتاب والسنة، وهي داخلة في علم الله.
أحاديث في أخذ الميثاق:
يقول ربُّنا سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172]
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَنْ لَا تُشْرِكَ - أَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَا أُدْخِلَكَ النَّارَ - فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ» متفق عليه
(2)
.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذا تنبيه على ما جاء فى قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} ، فهذا الميثاق الذى أخذ عليهم فى صلب آدم عليه السلام، فمن وَفَّى به بعد وجوده فى الدنيا فهو مؤمن، ومن لم يفِ به فهو الكافر. ومراد الحديث - والله أعلم ونبيه -: قد أردت منك هذا وأنت فى
(1)
ينظر: مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر (1/ 250)، وتفسير ابن أبي حاتم (18527)، والتفسير البسيط للواحدي (20/ 95)، الدر المنثور (7/ 399).
(2)
أخرجه البخاري (3334، 6557) ومسلم (2805).
صلب آدم عليه السلام أَلا تشرك بي حين أخذت عليك ذلك الميثاق، فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشريك ا. هـ
(1)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ؛ بِنُعْمَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا قَالَ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف]» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مَوْقُوفًا.
(2)
وفي الموطأ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ» ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ، اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُدْخِلُهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ،
(1)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 337)
(2)
حديث صحيح. رواه النسائي في السنن الكبرى (11127)، وأحمد في المسند (1/ 172) والحاكم (1/ 27 و 2/ 544) وغيرهم من طرق عن الْحُسَيْن بْن مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وتابعه وهب بن جرير عن أبيه كما في المستدرك (1/ 27). ورواه حماد بن زيد وعبد الوارث بن سعيد وابن علية وربيعة بن كلثوم عن كلثوم به موقوفا. ورواه جماعة أيضا عن سعيد بن جبير موقوفا. فالراجح في الحديث الوقف، ولكن له حكم المرفوع. وانظر الكلام على الحديث رواية ودراية في: تفسير ابن كثير عند تفسير الآية. وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: (1623). وتحقيق الشيخ عبد الله الحاشدي لكتاب الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 518 - 519).
اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ بِهِ النَّارَ»
(1)
وروى الإمام الترمذي وغيره من طرق عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ»
(2)
ورواه ابن وهب في القدر عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بنحوه وزاد في آخره: «
…
وَخَطِئَ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ
…
، فَرَأَى فِيهِمُ الْقَوِيَّ
(1)
موطأ مالك ت عبد الباقي (2/ 898) رقم (2) ومن طريقه رواه أبو داود (4703) والترمذي (3075) والنسائي في الكبرى (11126) وأحمد (311) وقال الترمذي: هذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلا ا. هـ وصححه الشيخ الألباني لغيره سوى قوله في الحديث «ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ» انظر: صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (2/ 203) والسلسلة الضعيفة (3071) وتخريج الطحاوية (240/ 220)
(2)
جامع الترمذي ت شاكر (3076) وأخرجه الفريابي في القدر (19) والحاكم في المستدرك (3257، 4132) وابن منده في الرد على الجهمية (23) عن أبي نعيم وأبو يعلى الموصلي (6654) في مسنده عن القاسم -وهو العرني- وابن سعد في الطبقات الكبرى ط دار صادر (1/ 27) وأبو محمد الفاكهي في الفوائد (134) والبزار في مسنده (8892) عن خلاد بن يحيى كلهم عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي هـ ا. هـ وقال الحاكم في الموضع الأول: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ا. هـ وفيه نظر: ففي سنده هشام بن سعد وقد نقل الحافظ في التهذيب عن الحاكم نفسه أنه قال: أخرج له مسلم فى الشواهد ا. هـ ثم هو ضعيف إلا في روايته عن زيد بن أسلم فإنه من أثبت الناس فيه كما قال أبو داود وهذا منها. وقال الحاكم في الموضع الآخر: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ا. هـ وهو الصواب. والحديث رواه ابن وهب عن زيد وخالف في سنده كما سيأتي. ورواه ابن أبي حاتم، في التفسير (5/ 1614) وأبو الشيخ في العظمة (1015) وابن منده في الرد على الجهمية (24) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء به مختصرا.
وَالضَّعِيفَ، وَالْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَالصَّحِيحَ وَالْمُبْتَلَى، قَالَ: يَا رَبِّ، أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُشْكَرَ»
(1)
وروى يعقوب الفسوي وابن أبي عاصم وغيرهما من طرق عن بَقِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ النَّصْرِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَبْتَدِئُ الْأَعْمَالَ، أَمْ قَدْ قُضِيَ الْقَضَاءُ؟ فَقَالَ:«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» .
(2)
(1)
كتاب القدر (8) -ومن طريقه أبو يعلى (6377) والفريابي في القدر (20) -. قال أبو زُرعة الرازي -كما في العلل لابن أبي حاتِم (1757) -: حديثُ أبي نُعيم أصحُّ، وَهِمَ ابنُ وَهْبٍ في حديثه ا. هـ وللحديث طرق أخرى ذكرتها في الإيمان بالملائكة، في مبحث لقاء ملك الموت مع آدم عليها السلام.
(2)
أخرجه يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 356) -ومن طريقه البيهقي في القضاء والقدر (284) - وابن أبي عاصم في السنة (168) والفريابي في القدر (22) -وعنه الآجري في الشريعة (330) -، والطبراني في مسند الشاميين (1855) والطبري في تفسيره (10/ 562) والبيهقي في القضاء والقدر (284) من طرق عن بقية به. ورواه الفريابي في القدر (24) وأبو نعيم في المعرفة (6534) والبيهقي في القضاء والقدر (282) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، به. وقال العلامة الألباني في ظلال الجنة (1/ 74): إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات وقد صرح فيه بقية بالتحديث. والحديث أخرجه الآجري ص 172 عن الفريابي: حدثنا عمرو بن عثمان بن كثير بن دينار الحمصي حدثنا بقية به والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 326 من طريق أخرى عن بقية به. وتابعه عبد الله بن سالم الحمصي لكن السند إليه ضعيف. واختلف فيه على بقية: فرواه البزار [كما في كشف الأستار (2140)] والطبري في تفسيره (10/ 562)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (3/ 305) رقم (1326) والبيهقي في القضاء والقدر (283) من طريق أبي عتبةَ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَجِ الْحِمْصِيُّ -وهو ضعيف- قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ به لكنه قال: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ هِشَامِ. ورواه إسحاق بن راهويه [كما في المطالب العالية (2962)]-ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (711) - عن بقية كذلك، لكنه قال عبد الرحمن بن أبي قتادة. وتابعهم عبد الله بن سالم الأشعري عن الزبيدي رواه الطبراني في مسند الشاميين (1854) بسند ضعيف عن عبد الله بن سالم به. والأقرب -عن بقية- هو الوجه الأول. واختلف فيه على معاوية بن صالح: فرواه ابن سعد في الطبقات (1/ 14) رقم (48) وفي (9/ 420) رقم (10529) عن حَمَّادِ بْنِ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ ومعن بن عيسى، وأحمد في المسند (17660) عن ليث بن سعد، والفريابي في القدر (25) عن معن بن عيسى، وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 159) وابن حبان في صحيحه (338) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (84) عن ابن وهب، كلهم عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَتَادَةَ السُّلَمِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ أَخَذَ الْخَلْقَ مِنْ ظَهْرِهِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى مَاذَا نَعْمَلُ؟ قَالَ: عَلَى مَوَاقِعِ الْقَدَرِ. وصححه الألباني في الصحيحة (48). ورواه عبد الله بن صالح عن معاوية واختلف عليه: فرواه الفريابي في القدر (24، 25) عن إسحاق بن سيار عن عبد الله بن صالح على وجهين: فمرة قال عن عبد الرحمن بن قتادة لم يتجاوزه، مثل رواية من تقدم عن معاوية. وحكم البخاري في التاريخ الكبير (5/ 341) على هذا الوجه بالخطأ فقال: وقال معاوية مرة عبد الرحمن بن قتادة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو خطأ ا. هـ ومرة زاد بعده عن هشام بن حكيم. وكذا رواه الطبري (10/ 563) عن محمد بن عوف. وأبو علي الصواف في جزئه (35) -وعنه ابن بطة في الإبانة (3/ 329) رقم (1355) والبيهقي في القضاء والقدر (282) - عن محمد بن إسماعيل الترمذي والطبراني في المعجم الكبير (22/ 168) رقم (434) عن بكر بن سهل وابن منده في الرد على الجهمية (ص: 41) عن أحمد بن الفرات كلهم عنه بذكر هشام. وقال البيهقي عن هذا الوجه: وهو أصح ا. هـ وهو موافق للوجه الأول عن بقية والخلاصة أن الحديث صحيح من طريق بقية على الوجه الأول والله أعلم. وقد حكم بعض أهل العلم على الحديث بالإضراب كما قدمت في ص (25 و 26) والظاهر من هذا التخريج هو رجحان هذا الوجه والله أعلم.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قَالَ: أُخِذُوا مِنْ ظَهْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِالْمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ، فَقَالَ لَهُمْ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:{شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} [الأعراف: 172]» رواه الطبري وصحح وقفه
(1)
.
وفي القدر لابن وهب عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قال: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عليه الصلاة والسلام نَفَضَهُ نَفْضَ الْمِزْوَدِ، فَأَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ ذُرِّيَّتَهُ أَمْثَالَ النَّغَفِ، فَقَبَضَهُمْ قَبْضَتَيْنِ ثُمَّ أَلْقَاهُمَا، ثُمَّ قَبَضَهُمَا، فَقَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ»
(2)
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره = جامع البيان ط هجر (10/ 552) وقال (10/ 564): وَلَا أَعْلَمُهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الثِّقَاتَ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَى حِفْظِهِمْ وَإِتْقَانِهِمْ حَدَّثُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، فَوَقَفُوهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَرْفَعُوهُ ا. هـ ورواه موقوفا الطبري في تفسيره، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1613). واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (993).
(2)
القدر لابن وهب - ت العثيم (15) وهو صحيح
الإيمان بالقضاء والقدر لا يتنافى مع العمل:
إذا عرفنا ذلك فننتقل بعد هذا إلى مسألة مهمة من مسائل الإيمان بالقضاء والقدر، وهي هل الإيمان بالقضاء والقدر يتنافى مع العمل بالأسباب والاجتهاد في العمل أم إنه دافع للعمل؟ لأن بعض الناس قد يقول: إذا كنا نؤمن بالقضاء والقدر فلِمَ العمل إذًا؟ فنقول: فِعْلُ الأسباب لا ينافي الإيمان بالقضاء والقدر، بل إنما مباشرةُ الأسباب والعمل بها من تمام الإيمان بقضاء الله وقدره؛ ولذلك يجب على العبد مع الإيمان بالقدر أن يجتهد في العمل والأخذ بأسباب النجاة والالتجاء إلى الله بأن يُيَسِّر له أسباب السعادة وأن يُعينه عليها.
ذكر بعض الأدلة على ذلك:
ولو تأملنا نصوص كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا ذلك بيِّنًا واضحًا فالقرآن يأمر باستعمال الأسباب ولا يهملها.
انظروا في قول الله سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] فالله يأمر بالانتشار في الأرض والعمل بالأسباب.
ويقول في حثِّ الناس على العمل والسعي في طلب الأرزاق واتخاذ الأسباب: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك]، حثَّنا على ماذا؟ على السعي.
وانظر إلى قول الله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. فالله -جل وعلا- يأمرنا بالعمل بالأسباب.
ويقول ربنا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] حثَّ -سبحانه- المسافر إذا أراد أن يسافر أن يتزود بالزاد الحسي من الطعام والشراب ويعمل بالأسباب ولا يتكفف الناس. وفي الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]» .
(1)
(1)
أخرجه البخاري (1523)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، لَقِيَ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ. قَالَ: «بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَّكِلُونَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يُلْقِي حَبَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ»
(1)
. فهذه كلها تدل على أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يتنافى مع العمل بالأسباب. ويقول الله لنا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. أمرنا أن ندعوه وأن نستعين به {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].
فأمر باتخاذ الأسباب التي تعيننا على طلب المعاش.
اعملوا فكل ميسر لما خلق له:
وكذلك أَمَرَنا باتخاذ الأسباب الشرعية التي تؤدي إلى رضوانه وجنَّته، فأَمَرَنا بالصلاة والزكاة والصيام والحج، وكلُّ ذلك يدُلُّ على أنه لا بُدَّ من العمل؛ ولهذا لما بيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة -رضوان الله عليهم- ما يتعلق بالقدر وقال لهم:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً، أَوْ سَعِيدَةً» قال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ [لِمَا خُلِقَ لَهُ]، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» ثُمَّ قَرَأَ قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل] متفق عليه
(2)
.
وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ، فِيمَا الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ:«لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ» قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ»
(3)
وفي البخاري عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ رضي الله عنها، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَا يَعْمَلُ
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "التوكل على الله"(10) وإسناده صحيح إلى معاوية وهو لم يلق عمر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (1362، 4949)، ومسلم (2647) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (2648).
العَامِلُونَ؟ قَالَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
(1)
.
وعنه رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ:«نَعَمْ» قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟ قَالَ: «كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ: لِمَا يُسِّرَ لَهُ»
(2)
.
وقال أبو الْأَسْوَدِ الدِّيلِيّ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ رضي الله عنهما، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرِ مَا سَبَقَ؟ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى عَلَيْهِمْ، قَالَ فَقَالَ: أَفَلَا يَكُونُ ظُلْمًا؟ قَالَ: فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: كُلُّ شَيْءٍ خَلْقُ اللهِ وَمِلْكُ يَدِهِ، فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَقَالَ لِي: يَرْحَمُكَ اللهُ إِنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ إِلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَكَ، إِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ:«لَا، بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس]»
(3)
اعملوا وسددوا وقاربوا:
وفي سنن الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ:«أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الكِتَابَانِ؟» فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ اليُمْنَى:«هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا» ، ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ:«هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا» ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ
(1)
أخرجه البخاري (7551).
(2)
أخرجه البخاري (6596) ومسلم (2649)
(3)
أخرجه مسلم (2650)
العَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا، ثُمَّ قَالَ:«فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ»
(1)
العمل بالأسباب لا يتنافى مع القدر:
يقول العلامة الشيخ ابن سعدي رحمه الله: "يظُنُّ كثيرٌ من الناس أنَّ إثبات الأسباب ينافي الإيمان بالقضاء والقدر، وهذا غلط فاحش جدًّا، وهو عائد على القدر بالإبطال، وهو إبطالٌ أيضًا للحكمة"
(2)
. يعني الذين يقولون بأنه لا عمل، ولو أراد الله هدايتي لهداني، وأنا لن أعمل شيئًا فالله إذا قدَّر عليَّ شيئًا فسيكون. فهذا القول ونحوه: يُبطِل الحكمة من خَلْقِ الخلق ومِن أمر الله عز وجل بالعمل والسعي والجد والاجتهاد، وفيه طَعْنٌ في القضاء والقدر، والعجيبُ أن هؤلاء تجدهم يقولون هذا الكلام الفاحش في باب الطاعة والعمل بالخير والإحسان لكنهم في باب الدنيا لا يفعلون ذلك، ولو فعلوه وقاله بعضهم لعدُّوه من المجانين.
يقول العلامة ابن سعدي أيضًا في تمام كلامه: وكأنَّ هذا الظانَّ يقول ويعتقد أن الإيمان بالقدر هو اعتقاد وقوع الأشياء بدون أسبابها الشرعية والقدرية -يعني: وهذا ظنٌّ باطل-؛ فالإيمان بالقضاء والقدر ينتظم مع العمل بالأسباب، فمن الإيمان بالقضاء والقدر الإيمانُ بأن الأشياء لا تحصل إلا بأسباب قدَّرها الله عز وجل وشَرَعَها؛ ولذلك فإيجاد الحبوب والثمار والزروع من دون حرث وسقي لا يكون، وكذلك إيجاد الأولاد والنسل من دون نكاح لا يكون، ودخولُ الجنة من دون الإيمان وعمل صالح ودخولُ النار من دون كفر ومعصية هذا كله ظنٌّ باطلٌ وظنٌّ فاسدٌ
(3)
.
إذًا لا بُدَّ أن يعلم الإنسان أنه لا ينال الشيء إلا بسبب، وهذا السبب هو من قَدَرِ
(1)
أخرجه الترمذي (2141) وقال: وهذا حديث حسن صحيح غريب ا. هـ وصححه العلامة الألباني في الصحيحة (848)، وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1/ 356)
(2)
الرياض الناظرة (ص: 135).
(3)
المرجع السابق (ص: 135).
الله. فطالب الآخرة إذا علم أنها لا تُنال إلا بالإيمان والعمل الصالح وتَرْكِ ضِدِّها جَدَّ واجتهد في تحقيق الإيمان وكثرة تفاصيله النافعة، واجتهد في كل عمل صالح يُوصِله إلى الآخرة. وهكذا صاحبُ الدنيا صاحبُ الحرث إذا علم أنه لا ينال إلا بحرث وسقي وملاحظة تامة جَدَّ واجتهد في كل وسيلة تُنمِّي حراثته، وتُكمِّلُها، وتدفع عنها الآفات. وهكذا صاحبُ الصناعة إذا علم أن المصنوعات على اختلاف أنواعها ومنافعها لا تحصل إلا بتعلم الصناعة وإتقانها ثم العمل بها جَدَّ في ذلك، ومن أراد حصول الأولاد أو تنمية مواشيه عَمِلَ وسَعَى في ذلك، وهكذا جميع الأمور. وهذا كلُّه يؤكِّدُ ويدُلُّ على أنه لا تعارض بين الإيمان بالقضاء والقدر وبين ما أمرنا الله عز وجل به من العمل والأخذ بالأسباب.
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: إذا تَرَكَ العبدُ ما أُمِرَ به متَّكِلًا على الكتاب كان ذلك من المكتوب المقدور الذي يصير به شقيًّا، وكان قولُه ذلك بمنزلة من يقول: أنا لا آكل ولا أشرب فإن كان الله قضى بالشبع والري حصل وإلَّا لم يحصل أو يقول: لا أجامع امرأتي فإن كان الله قضى لي أن يولد الولد فإنه يكون، وهكذا مَنْ غَلِطَ فترك الدعاء أو ترك الاستعانة والتوكل ظانًّا أن ذلك من المقامات الخاصة ناظرًا إلى القدر. قال: فكل هؤلاء جاهلون ضالُّون. ويشهد لهذا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»
(1)
. -إذًا أَمَرَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام بالحرص على ما ينفع، وأَمَرَ بالاستعانة بالله ونهى عن العجز الذي هو الاتكالُ على القدر ثم أمره إذا أصابه شيء ألَّا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر لله -سبحانه- فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك كما قال بعض العقلاء: الأمور أمران: أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا
(1)
مسلم (2664).
يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه. انتهى ملخَّصًا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله
(1)
.
وقال رحمه الله:
• فَالِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ
• وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ
• وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ؛
بَلْ الْعَبْدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُ وَدُعَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَرَغْبَتُهُ إلَى اللَّهِ وَاَللَّهُ يُقَدِّرُ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ - مِنْ دُعَاءِ الْخَلْقِ وَغَيْرِهِمْ - مَا شَاءَ ا. هـ
(2)
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا الكلام يحتاج إلى شرحٍ وتقييدٍ. فالالتفاتُ إلى الأسباب ضربان: أحدهما شركٌ، والآخر عبوديّةٌ وتوحيدٌ. فالشِّرك: أن يعتمدَ عليها ويطمئنَّ إليها، ويعتقدَ أنّها محصِّلةٌ للمقصود بذاتها؛ فهو معرِضٌ عن المسبِّب لها، ويجعل نظرَه والتفاتَه مقصورًا عليها. وأمّا إن التفت إليها التفاتَ امتثالٍ وقيامٍ بها وأداءٍ لحقِّ العبوديّة فيها وإنزالِها منازلَها، فهذا الالتفاتُ عبوديّةٌ وتوحيدٌ، إذا لم يشغله عن الالتفات إلى المسبِّب.
وأمّا محوُها أن تكون أسبابًا، فقدحٌ في العقل والحسِّ والفِطَر.
فإن أعرض عنها بالكلِّيّة كان ذلك قدحًا في الشَّرع، وإبطالًا له.
وحقيقةُ التّوكُّل: القيامُ بالأسباب، والاعتمادُ بالقلب على المسبِّب، واعتقادُ أنّها بيده فإن شاء منعَها اقتضاءَها، وإن شاء جعَلهَا مقتضيةً لضدِّ أحكامها، وإن شاء أقام لها موانعَ وصوارفَ تُعارِض اقتضاءَها وتدفَعه. فالموحِّدُ المتوكِّلُ لا يلتفت إلى الأسباب، بمعنى أنّه لا يطمئنُّ إليها، ولا يرجوها، ولا يخافها، ولا يركَن إليها. ويلتفت إليها بمعنى أنّه لا يُسقطها، ولا يهملها ويلغيها، بل يكون قائمًا بها، ملتفتًا إليها، ناظرًا إلى مسبِّبها ومُجريها»
(3)
(1)
انظر: في مجموع الفتاوى (8/ 284، 283).
(2)
المرجع السابق (1/ 131).
(3)
«مدارج السالكين» (4/ 523 ط عطاءات العلم)
إذًا المؤمن مأمور بالإيمان بالقضاء والقدر. ومأمورٌ أيضًا بالعمل الذي هو من القدر. فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم الذي قال لنا: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» ، هو الذي قال لنا:«اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له»
(1)
. فلماذا تأخذ بعضًا وتترك بعضًا؟! {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].
الاحتجاج بالقدر:
مسألة الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات؛ -وهذا للأسف-موجودٌ عند كثير من الناس، فتجده يُفرِّط فيما أمره الله عز وجل به فيترك الصلاة ويترك البر والإحسان أو يفرط في ترك المعاصي فيأتيها ويواقعها فإن نُصِحَ وقيل له:"اتَّق الله" احتجَّ بقدر الله!
(2)
فهل يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على فعل المعاصي وعلى ترك الواجبات؟ الجواب: الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجةً على ترك ما تَرَكَ من الواجبات أو فعل ما فَعَلَ من المعاصي.
المحتج بالقدر إذا احتُجَّ عليه بالقدر لا يقبل ذلك:
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين
(1)
تقدم تخريجها.
(2)
صح عن عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قال: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: اتَّقِ اللَّهَ، فَيَقُولَ: عَلَيْكَ نَفْسَكَ» رواه محمد بن فضيل في الدعاء (106) قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، قال عبد الله، به. وتابعه داود بن نصير عن الأعمش، رواه النسائي في السنن الكبرى (10621). ورواه أبو معاوية عن الأعمش واختلف عليه: فرواه هناد بن السري في الزهد (2/ 463) ومحمد بن العلاء -كما في سنن النسائي الكبرى (10620) - قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش به موقوفا. ورواه محمد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: حدثنا أبو معاوية به مرفوعا. رواه من طريقه: النسائي في السنن الكبرى (10619)، وابن مندة في «التوحيد (701 ت الفقيهي) -ومن طريقه قوام السنة الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1/ 436) رقم (766) -، والبيهقي في شعب الإيمان (621 و 7896) وفي الدعوات الكبير (156). والموقوف أرجح وله حكم الرفع. وله طريق آخر موقوف رواه الدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» (2619) وأبو جعفر النحاس في معاني القرآن (1/ 151) والطبراني في المعجم الكبير (9/ 113) رقم (8587) والبيهقي في شعب الإيمان (7896) من طريق سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:" إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الذَّنْبِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: اتَّقِ اللهَ، فَيَقُولَ: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، أَنْتَ تَأْمُرُنِي؟ ". والحديث المرفوع صححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (2598).
وسائر أهل الملل وسائر العقلاء؛ فإنَّ هذا لو كان مقبولًا لأمكن كلَّ أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر، ونفسُ المحتج بالقدر إذا اعتُدِيَ عليه واحتَجَّ المعتدي بالقدر لم يُقبَلْ منه، بل يتناقض"
(1)
. يعني هو يحتج بالقدر لكن إذا احتُجَّ عليه بالقدر لا يقبل ذلك، فلو اعتُدِي عليه بأن ضَرَبه إنسان، فقال: له لِمَ ضربتني؟ فقال: قضاء الله وقدره. فإنه لا يقبل ذلك، وهذا يدل على أن الاحتجاج بالقدر باطلٌ.
إبليس أول من احتج بالقدر فلم يقبل الله منه:
وتأملوا في حجة إبليس لما أَمَرَه الله بالسجود لآدم فأبى، وقال:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)} [الأعراف] فاحتج إبليس بالقدر، وقال: يا رب أنت أغويتني، وأنت قدَّرت عليَّ ألَّا أسجد لآدم. فهل قَبِلَ الله حُجَّتَه؟ كلا بل طرده الله من رحمته:{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} [ص] ولم يقبل الله عز وجل له عُذرًا، ولو كان الاحتجاج بالقدر سائغًا لقَبِلَ منه ذلك.
المشركون احتجوا بالقدر ولم يقبل الله منهم:
وتأملوا رحمكم الله: قولَ الله -سبحانه-: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام]. أخبرنا الله في هذه الآية أن المشركين احتجُّوا بالقدر على تقصيرهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني وهم واقعون في شركهم {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} يعني كل ما وقعنا فيه من المعاصي هو بقدر الله. وهذه كلمة حقٍّ أُرِيد بها باطل، لكن انظروا هل قَبِلَ اللهُ عز وجل منهم حجتهم؟ هؤلاء احتجُّوا بالقدر على شركهم، فلو كان احتجاجُهم مقبولًا لقُبِلَ منهم، ولكن الله يقول:{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وسمَّاهم -سبحانه- مشركين مكذبين، فقال:
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 178).
{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} فلو كانوا محقِّين لما أصابهم بأسُ الله وعذابُه. ثم قال-سبحانه-: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} وهذه حجةٌ عظيمةٌ على المحتج بالقدر، فيقال له: أنت تقول لو كان الله كَتَبَ لي الصلاة لصلَّيتُ. ونحن نقول: هل عرفت أنَّ الله عز وجل قد كتبك عنده في اللوح المحفوظ أنك لست من أهل الهداية أو أنك لست من أهل الصلاة؟ فإذا كنت لا تعلم -وهذا هو الواقع- فاللهُ عز وجل قدَّر مقادير الخلائق، وحَجَبَها عن الناس؛ فلا يعلم أحدٌ شيئًا؛ ولذلك كان الواجب على المسلم أن يذعن لأمر الله سبحانه:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} هل اطلعتم الغيب؟ {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} [مريم]. يقول سبحانه: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام]. يعني هذا كَذِبٌ منهم. إذًا هذه آيةٌ محكمةٌ عظيمةٌ في الردِّ على من يحتج بالقدر.
لو صح الاحتجاج بالقدر لما كان لإرسال الرسل فائدة:
وكذلك يقول ربُّنا في كتابه الكريم: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. لماذا بعث اللهُ الأنبياء والمرسلين؟
بعثهم اللهُ لإقامة الحجة على العباد. فلو كان احتجاجُ الناسِ بالقدر حقًّا وصوابًا لما كان لإرسال الرسل فائدةٌ تُذْكَر، ولكن الله سبحانه قال:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فلو كان الاحتجاجُ بالقدر على المعاصي سائغًا لما كان هناك داعٍ لإرسال الرسل!
الاحتجاج بالقدر يسوي بين المؤمن والكافر:
كذلك لو كان حجةً لتساوى فرعونُ عدوُّ الله مع موسى كليم الله عليها السلام.
ولو كان الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعايب سائغًا لكان في ذلك تصحيحٌ لما عليه الكُفَّار من كُفْرِهِم. ولما كان هناك فرقٌ بين مؤمن وكافر.
المحتجون بالقدر لا يحتجون به في أمر الدنيا:
ولو تأملنا أيضًا في هذا الباب لرأينا أن المحتجِّين بالقدر لا يحتجون به على أمر دنياهم فإنهم يذهبون إلى عملهم، ويسعون ويكدحون ويطلبون الرزق، ويسلكون الأسباب، ولا يقولون: لو كان الله قدَّر لنا رزقًا لآتانا. ثم يمكثون في بيوتهم، ولو فعلوا ذلك لعُدُّوا من المجانين ولما قُبِلَ ذلك منهم.
إذًا الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والذنوب والآثام حُجَّةٌ احتجَّ بها المشركون ورَدَّ اللهُ عز وجل عليهم هذه الحجة. وقد نَقَلَ شيخُ الإسلام -كما تقدم- إجماعَ المسلمين وسائرِ أهل الملل على أن هذه ليست بحجة لأحد قال - كما تقدم-: "وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين وسائر أهل الملل". فعلى المسلم أن يتقي ربَّه -جل وعلا- وأن يعلم أن إيمانه بالقضاء والقدر يدعوه إلى الاجتهاد والعمل الصالح.
كلمات خطأ في باب القدر:
نختم مجلسنا هذا بذكر بعض الأمور التي يقع فيها بعض الناس، وهي مما يتنافى مع هذا الباب العظيم.
أولا: الاحتجاج بالقدر:
فمن ذلك ما ذكرناه آنفًا من الاحتجاج بالقدر على المعاصي والذنوب.
ثانيا: قول بعضهم هل كانت وفاة فلان قضاء وقدرًا:
يقول بعض الناس إذا سمع بوفاة أحد: هل تُوُفِّي بسبب؟ أو توفي قضاءً وقدرًا؟
تأملوا هذا السؤال؛ فإنه خطأ؛ إذ ما من شيء إلا وهو بقضاء وقدر. فمن مات بسبب واضح بيِّن فإنما مات بقضاء الله وقدره. ومن مات بغير سبب ظاهر فكذلك مات بقضاء الله وقدره. فهذه من الكلمات المنتشرة، وهي من الأخطاء.
ثالثا: الاعتراض على القدر بالقول:
كذلك من الخطأ الذي يقع فيه بعض الناس الاعتراضُ على أقدار الله -جل وعلا- فإذا نزلت به مصيبة أو نزل به بلاء ينادي ربَّه، فيقول: يا ربي ماذا فعلتُ حتى أستحق منك هذه العقوبة؟! وهذا اعتراض على أمر الله -سبحانه- وعلى قضائه، ولا يجوز؛ فإنَّ الله-سبحانه-له ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجل مسمى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء]. ونقل البيهقي رحمه الله عن سفيان وهو ابن عيينة رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال: "بالرضا والتسليم"
(1)
.
وعن علقمة بن قيس -صاحب ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ"
(2)
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يَهْدِ قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ، فَيَعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ
(3)
.
رابعا: الاعتراض على القدر بالفعل:
وهكذا أيضًا ما يصاحب بعضَ ذلك من شَقِّ الجيوب ولَطْمِ الخدود والنياحةِ ورفع الصوت، وكذلك حلق الشعر والدعاء بالويل إذا نزلت مصيبة، فكلُّ ذلك مما يتنافى مع إيمان المسلم بقضاء الله وقدره.
ما يفعله عند المصيبة:
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ»
(4)
. ويقول الله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة]. هذه هي كلمة المؤمن، فهو رجَّاعٌ إلى الله سبحانه. وأما أن تقول: لو أني فعلت لكان كذا وكذا فإنَّ هذا لا ينفع، وإنما تسلم لأمر الله سبحانه. والواجب على المسلم الصبر، فيلزم الصبر الذي يحجز الإنسان عن الوقوع في المعاصي من اللطم والاعتراض على قدر الله -جل وعلا- ويقوده إلى الإيمان بقضاء الله وقدره.
خامسا: قول بعضهم: اللهم لا أسألك ردَّ القضاء ولكن أسألك اللطف فيه:
كذلك من الأخطاء المنتشرة قول بعض الناس هذا الدعاء: (اللهم إني لا أسألك ردَّ القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه). قال العلماء: هذا الدعاء خطأ، والصواب: أننا نسأل
(1)
البيهقي في شعب الإيمان (222).
(2)
البيهقي في شعب الإيمان (9503) وانظر: تفسير عبد الرزاق (3227) وتفسير الطبري (23/ 12).
(3)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (23/ 12)
(4)
تقدم في هذا المجلس.
الله -جل وعلا- ردَّ القضاء كما في الدعاء المشهور من أدعية الوتر: «وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ»
(1)
.
وكما في الدعاء الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ، وَمِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ، وَمِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَمِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ»
(2)
. فلا مانع أن يسأل الإنسانُ اللهَ -جل وعلا- أن يرفع عنه البلاء، وأن يَرُدَّ عنه القضاء الذي قُضِيَ.
قال الإمام النووي رحمه الله: فَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ «مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ» فَيَدْخُلُ فِيهَا سُوءُ الْقَضَاءِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْبَدَنِ وَالْمَالِ وَالْأَهْلِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْخَاتِمَةِ وَأَمَّا «دَرَكُ الشَّقَاءِ» فَيَكُونُ أَيْضًا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا وَمَعْنَاهُ أَعُوذُ بِكَ أَنْ يُدْرِكَنِي شَقَاءٌ؛ وَ «شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ» هِيَ: فَرَحُ الْعَدُوِّ بِبَلِيَّةٍ تَنْزِلُ بِعَدُوِّهِ
…
وَأَمَّا «جَهْدُ الْبَلَاءِ» فروى عن ابن عُمَرَ أنه فَسَّرَهُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ
(3)
. وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ الْحَالُ الشَّاقَّةُ»
(4)
سادسا: الحسد:
كذلك من الأخطاء في هذا الباب ما يقع فيه بعضُ الناس من الحسد، فحقيقة الحسد أنه اعتراض على قدر الله -جل وعلا- فالحاسدُ لم يُسَلِّمْ لقضاء الله وقدره، وهذا نجده كثيرًا في الناس، فيجد بعضُ الناس أناسًا رزقهم اللهُ أموالًا وبسط لهم الله من الدنيا، فتجده لا يسلِّم بل يعترض فيقول: ولماذا رُزِقوا ولم أُرزَق ولِمَ أُعطُوا ولَمْ أُعْطَ؟ أو يقول: أنا أحقُّ بذلك منهم. وهكذا في الوظائف إذا ترقَّى بعضُ الناس في وظيفته يحسده آخرون فيقولون: والله لا يستحق ذلك. والأرزاق هذه يوزعها ربُّ العالمين ويعطيها من يشاء بحكمته -سبحانه-، فلا بُدَّ أن نؤمن بأن ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن علم وحكمة لله. فمن تمام الإيمان بالقدر: تَرْكُ الحسد والتسليمُ لله في جميع الأمور. فالمؤمنُ لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله لإيمانه بأن الله هو الذي رزقهم وقدَّر لهم ذلك، فأعطى من شاء ومنع من شاء؛ ابتلاءً وامتحانًا، كما يدرك المؤمن أنه حين يحسد غيره
(1)
أخرجه أحمد (1718)، والنسائي (1745)، وأبو داود (1425)، والترمذي (464)، وابن ماجه (1178) من حديث الحسن رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (6347)، ومسلم (2707) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
روي موقوفا ومرفوعا ولا يصح. انظر: السلسلة الضعيفة (2592) و"تكميل النفع بما لم يثبت به وقف ولا رفع" للشيخ محمد عمرو بن عبد اللطيف (ص: 69).
(4)
شرح النووي على مسلم (17/ 31).
فهو إنما يعترض على قدر الله -جل وعلا-.
قال الماوردي رحمه الله: وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْحَسَدُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ، يَعْنِي حَسَدَ إبْلِيسَ لِآدَمَ عليها السلام وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، يَعْنِي حَسَدَ ابْنِ آدَمَ لِأَخِيهِ حَتَّى قَتَلَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ رَضِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَسْخَطْهُ أَحَدٌ، وَمَنْ قَنَعَ بِعَطَائِهِ لَمْ يَدْخُلْهُ حَسَدٌ ا. هـ
ثم ذكر رحمه الله من دواعي الحسد: أَنْ يَكُونَ فِي الْحَاسِدِ شُحٌّ بِالْفَضَائِلِ، وَبُخْلٌ بِالنِّعَمِ وَلَيْسَتْ إلَيْهِ فَيَمْنَعُ مِنْهَا، وَلَا بِيَدِهِ فَيَدْفَعُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا مَوَاهِبُ قَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ مَنْ شَاءَ فَيَسْخَطُ عَلَى اللَّهِ عز وجل فِي قَضَائِهِ، وَيَحْسُدُ عَلَى مَا مَنَحَ مِنْ عَطَائِهِ، وَإِنْ كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عز وجل عِنْدَهُ أَكْثَرَ، وَمِنَحُهُ عَلَيْهِ أَظْهَرَ. قال: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَسَدِ أَعَمَّهَا وَأَخْبَثُهَا إذْ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ رَاحَةٌ، وَلَا لِرِضَاهُ غَايَةٌ، فَإِنْ اقْتَرَنَ بِشَرٍّ وَقُدْرَةٍ كَانَ بُورًا وَانْتِقَامًا، وَإِنْ صَادَفَ عَجْزًا وَمَهَانَةً كَانَ كَمَدًا وَسَقَامًا.
(1)
سابعا: الذهاب للسَّحرة والكُهَّان واستطلاع الغيب:
كذلك من الأشياء القادحة في باب الإيمان بالقضاء والقدر: سعيُ بعض الناس وذهابه إلى السحرة والكُهَّان والعرَّافين والدجَّالين واستطلاع المستقبل -زعموا! - ويصدقونهم في ذلك، فينظرون ماذا سيقول لهم وماذا سيحصل لهم!!
استعمال الأبراج في استطلاع الغيب ومعرفة المستقبل:
ومن هذا الباب: استعمال الأبراج والإيمان بها وأنه سيحصل كذا وسيحصل كذا ويكثر هذا في المجلات والصحف التي يخصصون فيها مكانا للأبراج ويجعلون أمام كل برج ما سيحصل فيه، فإذا كان المرء مولودا في ذلك البرج يقول: سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا، وهذا استدلال منهم بالنجوم والأبراج على التأثير في الأرض والتكهن عما سيحصل، وهو نوع من الكهانة، والتنجيم. ويجب على كل مسلم ألا يقرأه، ولا يطلع عليه؛ لأن الاطلاع على تلك البروج وما فيها- ولو لمجرد المعرفة- يدخل في النهي من جهة أنه أتى الكاهن غير منكر عليه. وهذا يدل على غلبة الجهل وقلة العلم وضعفِ الإيمان وبُعْدِ كثير -وإن كانوا مثقفين- عن علم العقيدة الصحيحة.
(1)
أدب الدنيا والدين (ص: 269).
ثامنا: التألِّي على الله:
كذلك مما يتعارض مع هذا الباب: التألي على الله عز وجل كأن يقول بعض الناس: واللهِ لا يغفر الله لفلان أو واللهِ لا يفعل عز وجل كذا وكذا؛ فهذا مما ينافي الإيمان بالقدر؛ لأن العواقب وعلم الغيب عند الله لا يعلمها أحدٌ إلا الله، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟! فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ»
(1)
.
ربما ترى بعض الناس عاصيًا مقصِّرًا في جنب الله -سبحانه- فيَحمِلُ هذا الأمرُ أو الغيظُ بعضَ الناس على أن يقول: هذا رجل لا يمكن أن يتوب الله عليه، ولا يمكن أن يغفر الله عز وجل له. وهذا لا يجوز؛ لأنه لا يعلم عواقب الأمور إلا الله.
تاسعا: سب الدهر:
ومن الأخطاء والأقوال المحرمة سب الدهر، وفيه سوء أدب مع الله، واعتراض على قدر الله وقضائه. وقد جاء في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «قَالَ اللَّهُ عز وجل: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»
(2)
وفي رواية: «
…
وَلَا تَقُولُوا: خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ»
(3)
(4)
والدهر هو الزمان؛ اليوم، والليلة، والشهر، والسنة، وهي أزمنة مخلوقة، لا تفعل شيئا وإنما سخرها الله -جل وعلا-، وهي لا تفعل شيئا، وإنما الذي يفعل هو الله -جل وعلا-، فمن سب الأيام والليالي فقد آذى الله لأنه هو سبحانه المتصرف فيها.
قال العلامة ابن باز رحمه الله: وقد كان العرب في الجاهلية ينسبون إلى الدهر ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى
(1)
أخرجه مسلم (2621) من حديث جندب رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (4826، 7491) واللفظ له، ومسلم (2246).
(3)
أخرجه البخاري (6182) واللفظ له، ومسلم (2246/ 4).
(4)
أخرجه مسلم (2246/ 3).
الدهر ما نالهم من الشدائد، سبوا فاعلها فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل، إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصفونها، فنهوا عن سب الدهر. وهذا هو معنى قوله:«وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» يعني أن ما يجري فيهما من خير وشر بإرادة الله وتدبيره وبعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين، وحسن الظن به سبحانه وبحمده، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة .... وقال أيضا: كل ما يجري في هذه الحياة هو بتقدير الله وعلمه، والله سبحانه هو الذي يصرف الليل والنهار، وهو الذي يقدر السعادة والشقاء، حسب ما تقتضيه حكمته وقد تخفى تلك الحكمة على الناس؛ لأن علمهم محدود، وعقولهم قاصرة عن إدراك تلك الحكمة الإلهية، وكل ما في الوجود مخلوق لله، خلقه بمشيئته وقدرته، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويغني ويفقر، ويضل ويهدي، ويسعد ويشقي، ويولي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، وقد أحسن كل شيء خلقه، وكل أفعال الخالق وأوامره ونواهيه، لها حكمة بالغة وغايات محمودة، يشكر عليها سبحانه، وإن لم يعرفها البشر لقصور إدراكهم ا. هـ
(1)
فالمقصود بسب الدهر أن ينسب الفعل إليه، وأنه فعل به ما يسوؤه، فهذا هو الذي يكون أذية لله -جل وعلا-. وهو أنواع منها: ما بينه العلامة ابن عثيمين رحمه الله فقال:
(الأول): أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل، كأن يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر، فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقا؛ لأنه نسب الحوادث إلى غير الله، وكل من اعتقد أن مع الله خالقا؛ فهو كافر، كما أن من اعتقد أن مع الله إلها يستحق أن يعبد؛ فإنه كافر.
(الثاني): أن يسب الدهر لا لاعتقاده أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده؛ فهذا محرم، ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السفه في العقل والضلال في الدين؛ لأن حقيقة سبه تعود إلى الله - سبحانه -؛ لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر، ويُكَوِّن فيه ما أراد من خير أو شر، فليس الدهر
(1)
مجموع فتاوى ابن باز (1/ 146)
فاعلا، وليس هذا السب يُكَفِّر؛ لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة ا. هـ
(1)
ولا يدخل في النهي الوصف للزمان: مثل وصف السنين بالشدة، أو وصف اليوم بالسواد، والأشهر بالنحس ونحو ذلك، لأن هذا يكون مقيّدا باعتبار ما يقع فيها لأصحابها، وهذا جاء في القرآن في قول الله -جل وعلا- {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] فوصف الله -جل وعلا- الأيام بأنها نحسات، والمقصود أنها نحسات عليهم، لأنه جرى عليهم فيها ما فيه نحس عليهم، ونحو ذلك قوله -جل وعلا- في سورة القمر {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)} [القمر]، ومثله أن يقول يوم أسود أو سنة سوداء، ويكون المقصود بهذا وصف ما حصل فيها وأنه كان من صفته كذا وكذا على هذا المتكلم. وبين العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أنه إذا قصد الخبر المحض دون اللوم؛ فهذا جائز، قال: مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده، وما أشبه ذلك؛ لأن الأعمال بالنيات، ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام:{هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)} [هود] ا. هـ
(2)
هذا ونسأل الله -سبحانه- أن يوفقنا لما يحبه ويرضى، ونسأله -جل وعلا- أن يجعل هذه المجالس من مجالس العلم النافعة التي تكون لنا حُجَّةً عند الله سبحانه. وأرجو من الله أن تكون هذه المجالس داخلةً في قوله:{لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)} [الأنعام] فالله لما ذكر أن الأمم تصاب بالبلاء قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)} [الأنعام]. فنرجو أن تكون مجالسنا هذه من التضرع إلى الله -جل وعلا- والتوسل إليه في أن يرفع الله عنَّا هذا البلاء، وأن يصرف عنا هذا الوباء، وأن يحفظنا وإياكم وجميع المسلمين.
(1)
القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 240)
(2)
المرجع السابق (2/ 240). وانظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد لصالح آل الشيخ (ص: 469)
المجلس العشرون
(1)
ذكر بعض الأدعية النبوية المتعلقة بباب القدر:
حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما في الدعاء في الصلاة:
عن السائب والد عطاء قال: صلى بنا عمارُ بن ياسر رضي الله عنهما صلاة، فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خفَّفت أو أوجزت الصلاة! فقال: أما على ذلك؟ فقد دعوتُ فيها بدعوات سمعتُهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام تبعه رجلٌ من القوم، فسأله عن الدعاء ثم جاء، فأخبر به القوم، وهذا الدعاء هو قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» رواه النسائي وغيره
(2)
.
إنَّ باب الإيمان بالقضاء والقدر بابٌ عظيم، وقد تقدم معنا ذكرُ تفسير العلماء لهذا الباب، وكيفية الإيمان الصحيح الذي جرى عليه السلف في هذا الباب العظيم.
والذي ينبغي أن يعلمه الإنسان أنَّ ما يصاب به بعضُ الناس من الوساوس والهواجس في باب الإيمان بالقضاء والقدر لا ذهاب لها إلا بالإيمان مع العلم الشرعي
ومن ذلك هذه الأدعية المباركة التي علَّمنا إيَّاها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم. فإن المحافظة عليها:
تزيد المؤمن إيمانًا ويقينًا وفهمًا، وتجعله من أصحاب التسليم لأمر الله -جل وعلا- يعمل بما أمره الله، فيأتمر بأمره، وينتهي عمَّا نهى عنه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
وهذا الدعاء المبارك دعاءٌ عظيمُ النفع، كبيرُ الفائدة، مشتملٌ على معانٍ كبيرة
(1)
كان في يوم الاثنين الثامن عشر من شهر رمضان 1441 هـ.
(2)
رواه أحمد (18325)، والنسائي (1305).
ودلالاتٍ نافعة تتعلق بالعقيدة والعبادة والأخلاق.
التوسل إلى الله بعلمه الغيب
فتأمَّلْ قوله في أول الدعاء: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي» . فالعبد هنا يتوسل إلى الله -جل وعلا- بعلمه فيقول: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ» فهو يفوِّض أمره إلى الله -جل وعلا- لأن الله هو الذي يعلم الغيب: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] فيتوسل إلى الله -سبحانه- بعلمه الذي أحاط بكل شيء، وأنه -سبحانه- يعلم خفايا الأمور وبواطنها كما يعلم ظاهرها وعلنها، فيتوسل إلى الله بهذا العلم المحيط وبهذه الصفة من صفاته -جل وعلا-.
(1)
قال ابن القيم: «وقد دلَّ الحديث على أنّ التوسل إليه سبحانه بأسمائه وصفاته أحبُّ إليه وأنفع للعبد من التوسل إليه بمخلوقاته
…
قال: وهذا تحقيق لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]»
(2)
التوسل إلى الله بقدرته
ثم يتوسل العبد إلى الله -جل وعلا- بقدرته النافذة في جميع الخلق، فلا معقِّب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه، فيقول:«أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي» .
الحكمة من التعليق في الدعاء بالعلم والقدرة
وجاء التعليق في هذا الدعاء بعلم الله وقدرته، لأن الموت والحياة، ونحوهما مثل الغنى والفقر، والولد والأهل، وسائر حوائج الدُّنْيَا من الأمور التي تُجْهَل عواقبها، فهذه لا ينبغي أن يسأل الله منها إلا ما يعلم فيه الخيرة للعبد، فإن العبد جاهل بعواقب الأمور، وهو مع هذا عاجز عن تحصيل مصالحه ودفع مضاره، فيتعين عليه أن يسأل حوائجه من
(1)
قال ابن القيم رحمه الله في «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم» (2/ 349) وقد دلَّ القرآن والسنة على إثبات مصادر هذه الأسماء له سبحانه وصفًا
…
ثم ذكر هذا الحديث مع أدلة أخرى وقال: ولولا هذه المصادر لانتفت حقائق الأسماء والصفات والأفعال؛ فإن أفعاله عن صفاته، وأسماءه عن أفعاله وصفاته، فإذا لم يقم به فعل ولا صفة؛ فلا معنى للاسم المجرّد، وهو بمنزلة صوت لا يفيد شيئًا، وهذا غاية الإلحاد ا. هـ
(2)
«شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم» (2/ 367)
هو عالم قادر، ولذا قال هنا:«أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي» . وأما ما يعلم أنه خير محض كسؤاله خشيته من اللَّه تعالى وطاعته وتقواه، وسؤاله الجنة، والاستعاذة به من النار، فهذا يطلب من اللَّه تعالى بغير تردد، ولا تعليق بالعلم بالمصلحة؛ لأنّه خير محض.
(1)
حكم تمني الموت:
وفي الحديث أنه لا يدعو بأن يميته الله أبدًا، أو أن يحييه أبدًا، فمما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الإنسان على نفسه بالموت؛ فإن تمنيَ الموت منهى عنه. كما في الصحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي»
(2)
. وفي الصحيح أيضا عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ»
(3)
الدعاء بأن لا يكلك الله إلى نفسك:
ولما كان العبد لا يعلم ما في غدٍ، وإنما يعلم ما في غدٍ هو الله فإن المؤمن لا يدعو على نفسه بالهلاك وإنما يدعو ربه -جل وعلا- بأن يصلح له شأنه كلَّه، وأن يختار له ما فيه الخير. وقد صح في دعاء الصباح والمساء حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ: «مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ
(1)
ينظر: «شرح حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه لابن رجب» (ص 153)
(2)
صحيح البخاري (5671)، وصحيح مسلم (2680).
(3)
صحيح البخاري (5673).
عَيْنٍ»
(1)
. وفي السنن عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
(2)
الخشية في الغيب والشهادة
ثم يدعو فيقول: «وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ» يعني أن يرزقه الله الخشية في السر والعلانية، وفي الظاهر والباطن، وفي حال كونه مع الناس أو غائبًا عنهم، وهذا من الأدعية المباركة العظيمة التي لو وُفِّق إليها الإنسان لصار من السعداء؛ فإن الله يقول في وصف المتقين:{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)} [الأنبياء] فهذا ثناءٌ من الله -جل وعلا- على عباده المقربين المتقين.
ويقول: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)} [ق] وهذا وَصْفٌ من لأهل الجنة. وأنهم الذين يخشونه،. ويتقونه.
وعَنْ مُطَرِّفٍ بن عبد الله -وهو من كبار التابعين- أنه قَالَ: " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَوَتْ سَرِيرَتُهُ، وَعَلَانِيَتُهُ قَالَ اللَّهُ: هَذَا عَبْدِي حَقًّا"
(3)
وروي مرفوعا بسند ضعيف
(4)
.
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا خَلَا فَلْيُصَلِّ مِثْلَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهَا اسْتِهَانَةٌ يَسْتَهِينُ بِهَا رَبَّهُ أَلَا يَسْتَحِي أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَعْظَمَ فِي عَيْنِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى»
(5)
.
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى (10330) وابن السني في عمل اليوم والليلة (49) والحاكم في المستدرك (2000) والبيهقي في الأسماء والصفات (213) وفي الشعب (745). وسنده حسن. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وفيه نظر بينه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (227)
(2)
أخرجه أبو داود (5090) والنسائي في الكبرى (10412) وأحمد (20430) والبخاري في الأدب المفرد (701) وصححه ابن حبان (970) وجعفر بن ميمون مختلف فيه والأكثر على تضعيفه، وحسن له الشيخ الألباني حديثه هذا في صحيح الترغيب والترهيب (1823) وفي كتاب النصيحة بالتحذير من تخريب «ابن عبد المنان» لكتب الأئمة الرجيحة وتضعيفه لمئات الأحاديث الصحيحة (ص: 254).
(3)
أخرجه وكيع في الزهد (526) -ومن طريقه: هناد في الزهد (530) وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على الزهد لأبيه (1327) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 204) -.
(4)
أخرجه ابن ماجه (4200) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، مرفوعا " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَلَّى فِي الْعَلَانِيَةِ، فَأَحْسَنَ، وَصَلَّى فِي السِّرِّ، فَأَحْسَنَ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: هَذَا عَبْدِي حَقًّا " وفي سنده بقية بن الوليد وهو مدلس وقد عنعن.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (8404) قال: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ-وهو سلام بن سليم-؛ وأخرجه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (864) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ؛ ورواه ابن أبي حاتم، في التفسير (5938) قال حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَذْرَمِيُّ، ثنا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، عَنْ شَرِيكٍ؛ ثلاثتهم (أبو الأحوص وإسرائيل واللفظ له، وشريك) عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ-وهو عوف بن مالك بن نضلة-، عَنْ ابن مسعود قال: فذكره. زاد شريك: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)} [النساء: 108]. ورجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الأحوص -وهو عوف بن مالك بن نضلة- فمن رجال مسلم. وأبو إسحاق هو السبيعي ثقة مشهور لكنه كان يدلس. ولإسرائيل فيه إسناد آخر فقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (864) أيضا بالإسناد السابق فقال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: فذكره. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (8405) قال: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ. ورواه إبراهيم الهجري عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ أَسَاءَهَا حِينَ يَخْلُو، فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ» . رواه عبد الرزاق في مصنفه (3738) والبيهقي في شعب الإيمان (2851) عَنِ الثَّوْرِيِّ، وأخرجه ابن أبي حاتم، في التفسير (5939) عَنْ شَرِيكٍ، وأخرجه البيهقي في السنن الصغير (849) والسنن الكبرى (3584) وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1991) عَنْ زَائِدَةَ، وأبو يعلى في مسنده (5117) عن مُحَمَّد بْن دِينَارٍ، وإسحاق بن راهويه كما في المطالب العالية (3213) - وعنه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (865) عن أبي معاوية؛ والشهاب في مسنده (505، 506، 507) عن علي بن مسهر وابن فضيل وعلي بن عاصم الواسطي؛ كلهم (الثوري وشريك وزائدة ومحمد بن دينار وأبو معاوية وابن مسهر وابن فضيل وعلي الواسطي) عن إبراهيم الهجري به مرفوعا. وخالفهم المحاربي فوقفه؛ قال الطبري في تهذيب الآثار مسند عمر (1126) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الْهَجَرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ:«إِذَا أَحْسَنَ الْعَبْدُ الصَّلَاةَ حِينَ يَرَاهُ النَّاسُ، وَأَسَاءَهَا حِينَ يَخْلُو، فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ يَسْتَهِينُ بِهَا الْعَبْدُ رَبَّهُ» كذا وقع فيه (عن أبي مسعود) ولعل الصواب: ابن مسعود. قال أبو الحسن القطان في بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام (2260)
…
سكت عَنهُ، وَلكنه أبرز جَمِيع إِسْنَاده، وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يتَوَهَّم صِحَّته، وَإِنْ كَانَ لم يقدم فيهم شَيْئا، فَإِنْ أَبَا إِسْحَاق الهجري: إِبْرَاهِيم بن مُسلم. ضَعِيف، قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ حديثه بِشَيْء، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي، لين الحَدِيث وَأَبُو مُحَمَّد يُضعفهُ. وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 33) رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي كِتَابه وَأَبُو يعلى كِلَاهُمَا من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن مُسلم الهجري عَنْ أبي الْأَحْوَص عَنهُ وَرَوَاهُ من هَذِه الطّرق ابْن جرير الطَّبَرِيّ مَرْفُوعا أَيْضا وموقوفا على ابْن مَسْعُود وَهُوَ أشبه وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 221): رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَفِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُسْلِمٍ الْهَجَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ا. هـ
قال الحافظ ابن رجب: والموجب لخشيته اللَّه في السر والعلانية أمور:
منها: قوة الإيمان بوعده ووعيده عَلَى المعاصي. ومنها النظر في شدة بطشه وانتقامه، وقوته وقهره، وذلك يوجب للعبد ترك التعرض لمخالفته،
…
ومنها قوة المراقبة له، والعلم بأنه شاهد ورقيب عَلَى قلوب عباده وأعمالهم وأنه مع عباده حيث كانوا ا. هـ
(1)
كلمة الحق في الرضا والغضب
ثم يدعو العبد فيقول: «وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ» فهو يسأل الله -جل وعلا- أن يكون دائمًا على قول الحق في حال رضاه وفي حال غضبه وسخطه، وهذا من تمام إيمان العبد وصبره وهو دليل على قوة إيمانه؛ حيث لا يقول إلا الحق، في حال رضاه، فلا يجامل أحدًا، ولا يطلب من أحد شيئًا، ولا يبغي من أحد شيئًا؛ لأنه قد استقر في قلبه أن أَزِمَّة الأمور بيد الله فلن يقدِّم عنده ولن يؤخر رضا أحدٍ سوى رضا ربِّ العالمين -جل وعلا-. وكذلك كلمة الحق في حال الغضب، فإذا غضب فإنه يضبط أخلاقه ويضبط أقواله ويضبط أفعاله، فلا يقول إلا حقًّا، ولا يأتي إلا حقًّا، ولا يقع فيما حرَّم الله -جل وعلا- فانظر إلى أصحاب الجزع الذين إذا نزلت بهم المصيبة أو نزل بهم البلاء وَلْوَلُوا، وقالوا: لِمَ يا ربِّ وقع كذا وكذا؟! ونحوه من الاعتراض على أمر الله.
ومن عجيب ما ذكر في التراجم عن السلف أن عبد الله بن عون المزني: -وهو إمام ثقة من رجال الجماعة، وكان معروفا بالعلم والعمل وحفظ اللسان-
(2)
، ذكروا في ترجمته رحمه الله أنه" كَانَ لَا يغْضَبُ، فَإِذَا أَغْضَبَهُ الرَّجُلُ قَالَ: بَارَكَ اللهُ فِيكَ"
(3)
. وقيل: كان أصحابه كأنهم يحبون أن يتبينوا فيه الغضب، وكانت له ناقة، وكان بها معجبًا، وقد حج عليها غير حجة، فبينما هو في طريق مَكَّة وقد ذهب لحاجة، إذ قام غلام له يعالج من الناقة شَيئًا، فضربها بشيء كان معه، ففقأ عينها، قال أصحابه: إن غضب يومًا من الدهر، غضب يومه هذا؛ فلما جاء قالوا: ما ترى الغلام فقأ عين الناقة، فنظر إليها، فما زاد على أن نظر إلى الغلام فقال له: بارك الله فيك، ثم أخذ قطنة فيها دهن، فجعله على عين
(1)
ينظر: «شرح حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه لابن رجب» (ص 165)
(2)
ينظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 37)، وتقريب التهذيب (ص 317)
(3)
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 39)
الناقة، فلما قدموا مَكَّة ذهب فطاف، ثم رجع إلى المنزل وقد عي وعطش، فاستسقى الغلام، فقام سريعًا، فدعاه، فَقالَ: يا فلان: ما لي أراك مذ أصبت عين الناقة تخف في خدمتي خفة لم تكن تخفها، لعلك تتقيني، لا تتقيني بعد اليوم، وأنت حر لوجه الله، فأعتقه.
(1)
القصد في الغنى وفي الفقر
ثم يسأل العبد ربَّه: «الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى» أي: أن يكون مقتصدًا، والقصد: هو التوسط والاعتدال فإذا كان فقيرًا فإنه يسأل الله -جل وعلا- أن يكون في حال فقره مقتصدًا، لا يبخل خوفًا من نفاد الرزق، ولا يسرف فيحمل نفسه ما لا طاقة لها به.
يقول ربنا -جل وعلا-: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)} [الإسراء] وكذلك القصد في حال الغنى يقول ربنا -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان]
والقوام: هو القصد والتوسط في كل الأمور.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: والاقتصاد في كل الأمور حسن حتى في العبادة، ولهذا نهى عن التشديد في العبادة عَلَى النفس، وأمر بالاقتصاد فيها، وقال صلى الله عليه وسلم:«عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»
(2)
؛ وفي "مسند البزار عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
«الأسامي والكنى لأبي أحمد الحاكم» (1/ 347) وانظر أيضا: «حلية الأولياء» (3/ 39) و «تاريخ دمشق لابن عساكر» (31/ 360)
(2)
أخرجه ابن ماجه (4241) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ، فَأَتَى نَاحِيَةَ مَكَّةَ، فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَجَدَ الرَّجُلَ يُصَلِّي عَلَى حَالِهِ، فَقَامَ فَجَمَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ» ثَلَاثًا «فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» وأخرجه أبو يعلى (1796)، وعنه ابن حبان (357) وفي سنده ضعف، وحسنه لشواهده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1760) ومنها حديث بريدة بالجملة الأولى التي ذكرها ابن رجب، رواه الإمام أحمد (22963) عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْتُ ذَاتَ يَوْمٍ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا أَنَا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي جَمِيعًا، فَإِذَا نَحْنُ بَيْنَ أَيْدِينَا بِرَجُلٍ يُصَلِّي يُكْثِرُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَتُرَاهُ يُرَائِي؟» فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَتَرَكَ يَدِي مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يُصَوِّبُهُمَا وَيَرْفَعُهُمَا وَيَقُولُ:«عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا. عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا. عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ» وصححه شيخنا العلامة الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (905).
(1)
ا. هـ
(2)
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الخصال الثلاث -فيما رواه البيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ، فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالسُّخْطِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتِ: فَهَوًى مُتَّبِعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ أَشَدُّهُنَّ»
(3)
سؤال الله نعيما لا ينفد
ثم يسأل اللهَ «نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ» وهو نعيم الآخرة، وهو نعيم الجنة، قال الله تعالى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] والعبد إذا تعلق قلبه بالآخرة فهذا من تمام إيمانه بالله واليوم الآخر. وفي المسند عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي، فَافْتَتَحَ النِّسَاءَ فَسَحَلَهَا -أي قرأها كلها قراءة متتابعة-، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يسأَلُ، [وفي رواية: فَجَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي] فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ» ، فَقَالَ: فِيمَا سَأَلَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ» . قَالَ: فَأَتَى عُمَرُ رضي الله عنه عَبْدَ اللَّهِ لِيُبَشِّرَهُ، فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قَدْ سَبَقَهُ، فَقَالَ: إِنْ فَعَلْتَ، لَقَدْ كُنْتَ سَبَّاقًا بِالْخَيْرِ.
(4)
سؤال الله قرة عين لا تنقطع
وقال: «وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ» وقرة العين من جملة النعيم الذي يسأله العبد
(1)
مسند البزار = البحر الزخار (2946) وإسناده ضعيف جدا كما في السلسلة الضعيفة (2164)
(2)
«شرح حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه» (ص 169)
(3)
شعب الإيمان (6865) وحسنه الألباني لشواهده في الصحيحة (1802).
(4)
مسند أحمد (4255، 4340) وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (2301)، وشيخنا العلامة الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (208)
ربه -جل وعلا- في قوله: «نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ» ويعني النعيم الحقيقي الذي تنعم به النفس في الدنيا والآخرة. و"النعيم وقرة العين" منه ما هو منقطع، ومنه ما لا ينقطع، فمن قرت عينه بالدنيا، فقرة عينه منقطعة لأن سرورها لا يدوم؛ ولذاتها مشوبة بالفجائع والتنغيص، وسرعة الانقضاء والمفارقة بالموت، وقد روي عن أمير المؤمنين عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أنه قَالَ:«مَا تَرَكَ الْمَوْتُ لِذِي لُبٍّ قُرَّةَ عَيْنٍ»
(1)
وروى ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن طلحة بن محمد التيمي قال سمعت سعيد بن السائب الطائفي يقول: -ونحن في جنازة-: «والله ما ترك الموت للنفس سرورا في أهل ولا ولد والله لقد نقص الموت على المؤمنين الموسع لهم من هذه الدنيا حتى ضيق ذلك عليهم فرفضوه مسرورين برفضه» قال ثم سبقته دمعته فقام.
(2)
وقال مطرف: «أَفْسَدَ الْمَوْتُ عَلَى أَهْلِ النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ فَاطْلُبُوا نَعِيمًا لَا مَوْتَ فِيهِ»
(3)
. فلا تقر عين المؤمن في الدُّنْيَا إلا بالله عز وجل، وذكره ومحبته والأنس به، ومن قرت عينه باللَّه، فقد حصلت له قرة العين التي لا تنقطع في الدُّنْيَا ولا في البرزخ ولا في الآخرة، وقرت به عيون المؤمنين.
سؤال الله الرضا بعد القضاء
ثم يقول: «وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ» وهذا من أدعية الإيمان بالقضاء والقدر وسأل الرضا بعد القضاء؛ لأنه حينئذ تبين حقيقة الرضا. وقد ذكر الحافظ البيهقي رحمه الله في هذه الجملة من الدعاء جملة من الآثار المتعلقة بالرضا وما هو الرضا وما تفسيره، ونورد ما تيسَّر من ذلك. فمنها: ما رواه عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «ذِرْوَةُ الْإِيمَانِ الصَّبْرُ لِلْحُكْمِ، وَالرِّضَى بِالْقَدَرِ، وَالْإِخْلَاصُ فِي التَّوَكُّلِ، وَالِاسْتِسْلَامُ لِلرَّبِّ عز وجل»
(4)
. ونقل أيضًا
(5)
(1)
أخرجه البلاذري في «أنساب الأشراف» (10/ 333) عن محمد بن سيرين أن عمر فذكره. وفيه انقطاع.
(2)
القبور لابن أبي الدنيا (10)
(3)
«الزهد لأحمد بن حنبل» (ص 193)
(4)
أخرجه ابن المبارك (2/ 31)، - ومن طريقه ابن أبي الدنيا في الرضا عن الله بقضائه (58) -، ونعيم بن حماد في الزيادات على الزهد أيضا، وأبو نعيم في الحلية (1/ 216) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1238)، والبيهقي في شعب الإيمان (198) وهو من رواية يزيد بن مرثد عن أبي الدرداء وقال أبو حاتم والمزي: مرسل. أي منقطع بين يزيد وأبي الدرداء.
(5)
شعب الإيمان (1/ 370) رقم (193)
عن أبي عثمان - وهو سعيد بن إسماعيل الحِيْرِي شيخ نيسابور (ت: 298 هـ) - قال رحمه الله: "الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا". وبهذا التفريق يُفهَمُ النكتة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ» أي: لأن ما كان قَبْلَ القضاء فهو عزم من الإنسان على أنه إذا أصابه شيء فسيرضى، لكنه إذا كان بعد القضاء فهو الرضا الحقيقي لأنه تسليم واستسلام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: سأل «الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» لأنَّه حينئذٍ يتبيَّن حقيقة الرِّضا. وأمّا الرِّضا قبله فإنَّما هو عزمٌ على أنَّه يرضى به إذا أصابه، وإنَّما يتحقَّق الرِّضا بعده ا. هـ
(1)
وروى أيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «أَدِّ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ تَكُنْ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ، وَاجْتَنِبْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكَ تَكُنْ مِنْ أَوْرَعِ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ»
(2)
. ثم ذكر البيهقي رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «الرِّضَا أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلَا تَحْمَدَ أَحَدًا عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَلَا تَلُمْ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، وَاللهُ بِقِسْطِهِ وَعِلْمِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ»
(3)
. ومعنى ذلك أن الإنسان لا ينسب الأشياء إلى غير مسبِّبها، وهو الله فإن العبد إنما يعلم أنَّ كلَّ شيء من الله. يقول رضي الله عنه:" الرِّضَا أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ " لأنَّ في هذا تعاسةً للإنسان وشقاء له بأن يرضي الناس بسخط الله -جل وعلا-. قال: " وَلَا تَحْمَدَ أَحَدًا عَلَى رِزْقِ اللهِ " والمعنى: أن الله إذا أنعم عليك بنعمة فاحْمَدِ الله ولا تنسبها لغيره، فإن ذلك كما يقول العلماء باب من أبواب الشرك الخفي
(4)
. كما في قوله تعالى:
(1)
نقله ابن القيم عنه في «مدارج السالكين» (2/ 553 ط عطاءات العلم) وانظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 37) و «الاستقامة» (2/ 86 - 87)
(2)
صحيح، رواه هناد في الزهد (2/ 501) وأبو داود في الزهد (131) والبيهقي في الشعب (197، 8119)
(3)
حسن، رواه ابن الأعرابي في المعجم (1491) من طريق عطاء الخراساني، والطبراني في المعجم الكبير (10/ 215) رقم (10514) من طريق خيثمة بن عبد الرحمن، وابن أبي الدنيا في الرضا عن الله بقضائه (94) - وعنه البيهقي في الشعب (205) من طريق أبي هارون المدني وهو موسى الحناط، وفي اليقين (22) من طريق زبيد، كلهم عن ابن مسعود. وكلها مرسلة عنه. ومجموعها يدل على أن له أصلا.
(4)
انظر: تيسير العزيز الحميد (باب 35).
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)} [النحل] قال ابن كثير رحمه الله: أَيْ: يَعْرِفُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُسْدِي إِلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ هَذَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَيُسْنِدُونَ النَّصْرَ وَالرِّزْقَ إِلَى غَيْرِهِ ا. هـ
(1)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: أي: ينكرون إضافتها إلى الله لكونهم يضيفونها إلى السبب متناسين المسبِّب الذي هو الله - سبحانه -،
…
، ينكرونها بإضافتها إلى غير الله، متناسين الذي خلق السبب فوُجِد به المسبَّب ا. هـ
(2)
ولا مانع أن يشكر المتسبب في ذلك؛ ما دام أن المرء يؤمن أن الأمر بيد الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ»
(3)
.
قال " وَلَا تَلُمْ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ " فإذا لم يكتب الله عز وجل لك شيئًا فلا تنسب ذلك إلى غير الله -سبحانه- فإن الله هو الذي كتب عليك القدر خيره وشره. فالمؤمن إذا وَطَّن نفسه على الرضا بما قدر الله عليه وكتب، مع عمله بالمأذون به من الأسباب ارتاح وسعد.
وفي هذا الباب عن ابن مسعود رضي الله عنه أيضا أنه قال: «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَلَأَنْ أَعَضُّ عَلَى جَمْرَةٍ حَتَّى تُطْفَأَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِأَمْرٍ قضاه اللهُ لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ»
(4)
وهذا هو تمام الرضا المطلوب من المسلم ومن المؤمن، وهو الصبر عند البلاء وعند المصيبة، فهذا هو الصبر. والصبر: هو أن تحجز جوارحك عن الوقوع فيما نهى الله عز وجل عنه؛ فإن ارتقى الإنسان فوق ذلك إلى أن يرضى عما كتب الله عز وجل له فإن هذه منزلة عظيمة لا ينالها إلا القليل من الناس. قال ابن القيم رحمه الله: إِذَا لَمْ يَرْضَ بِالْقَدَرِ وَقَعَ فِي لَوْمِ الْمَقَادِيرِ. إِمَّا بِقَالَبِهِ، وَإِمَّا بِقَلْبِهِ وَحَالِهِ. وَلَوْمُ الْمَقَادِيرِ لَوْمٌ لِمُقَدِّرِهَا، وَكَذَلِكَ يَقَعُ فِي لَوْمِ الْخَلْقِ. وَاللَّهُ وَالنَّاسُ
(1)
تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 592).
(2)
القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 201)
(3)
صحيح، رواه أحمد (7939)، وأبو داود (4811)، والترمذي (1954) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
صحيح، رواه مطولا أو ومختصرا، ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 108) رقم (34567) وأبو داود في الزهد (128) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 137) والبيهقي في شعب الإيمان (210)، وفي القضاء والقدر (204) وغيرهم.
يَلُومُونَهُ، فَلَا يَزَالُ لَائِمًا مَلُومًا. وَهَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ ا. هـ
(1)
ونقل البيهقي رحمه الله عن سفيان -وهو ابن عيينة رحمه الله - في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال: "بالرضا والتسليم"
(2)
. وعن علقمة أنه قال: "هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ"
(3)
.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله كثيرًا ما يدعو فيقول: "اللهُمَّ رَضِّنِي بِقَضَائِكَ، وَبَارِكْ لِي فِي قَدْرَكَ حَتَّى لَا أُحِبَّ تَعْجِيلَ شَيْءٍ أَخَّرْتَهُ، وَلَا تَأْخِيرَ شَيْءٍ عَجَّلْتَهُ"
(4)
.
وهذا مثل دعاء الاستخارة الآتي ففي آخره «وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ»
ونقل البيهقي عن ذي النون قوله: " ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ التَّسْلِيمِ: مُقَابَلَةُ الْقَضَاءِ بِالرِّضَا، وَالصَّبْرُ عَلَى الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرُ عَلَى الرَّخَاءِ"
(5)
.
ونقل عن الفضيل بن عياض رحمه الله قوله: " الرَّاضِي لَا شَيْءَ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ"
(6)
.
ولفظه عند ابن أبي الدنيا «الرَّاضِي لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ»
(7)
وهو الصواب.
قال ابن القيم رحمه الله: الرِّضَا يُفَرِّغُ قَلْبَ الْعَبْدِ. وَيُقَلِّلُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ. فَيَتَفَرَّغُ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ بِقَلْبٍ خَفِيفٍ مِنْ أَثْقَالِ الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا وَغُمُومِهَا ا. هـ
(8)
.
والمسلم إذا نزل به البلاء فالمطلوب منه أن يصبر.
والصبر -كما ذكرنا- هو حجز الجوارح عمَّا حرَّم الله فلا يقول إلا ما يُرضِي الله ولا يتصرف إلا بما يُرضِي الله أما رضا القلب وتسليمه وفرحه بما كتب الله عز وجل له فهذا ليس من المنزلة الواجبة على الإنسان.
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 216)
(2)
البيهقي في شعب الإيمان (222).
(3)
المرجع السابق (9503) وانظر: تفسير عبد الرزاق (3227) وتفسير الطبري (23/ 12).
(4)
المرجع السابق (224) وانظر: الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا (46)
(5)
المرجع السابق (228).
(6)
المرجع السابق (227).
(7)
«الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا» (16)
(8)
مدارج السالكين (2/ 215)
سؤال الله تعالى برد العيش بعد الموت:
ونرجع إلى حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما، يقول في الدعاء:«وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ» ، وهذا يدل على أن العيش وطيبه وبرده إنما يكون بعد الموت، أما هذه الدنيا فيكفي أن من منغصاتها أنها مختومة بالموت وأن الإنسان موعود فيها بالموت. فلا عيش يطيب إلا بعد الموت، وهو عيش من أمن من عذاب الله عز وجل، ووصل إِلَى ثوابه، فكذلك سأل برد العيش بعده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول -لما حفر الخندق، وجهد هو وأصحابه في حفره-:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجرة
(1)
سؤال الله تعالى لذة النظر إلى وجه الله تعالى:
ثم يقول: «وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» وهذا من الأدعية العظيمة المؤنسة للعبد؛ وهو من أدلة أهل السنة في إثبات النظر إلى الله يوم القيامة مثل قول اللَّه تبارك وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة] وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين] أي عن رؤيته يوم القيامة. وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِمَعْنَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ رَوَاهَا أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ عَنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَجِلَّائِهِمْ؛ ومنها حديث الباب، وكذا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]
(2)
.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «هذان الأمران هما سعادة الدُّنْيَا والآخرة، وأعظم
(1)
أخرجه البخاري (6414) ومسلم (1804) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما. وفي الباب عن أنس رضي الله عنه وغيره.
(2)
صحيح مسلم (181)
لذاتها وأعلى ما يحصل للمؤمن فيهما، فإن أعلى ما في الآخرة النظر إِلَى وجه الله عز وجل، وهو أعظم من الجنة وكل ما فيها ا. هـ
(1)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذه اللذة هي النعيم التام في حظهم من الخالق
…
وأهل الجنة مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره.
(2)
.
سؤال الله تعالى الشوق إلى لقائه:
وقوله: «وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ» قال ابن القيم رحمه الله: الشَّوْقُ يَحْمِلُ الْمُشْتَاقَ عَلَى الْجِدِّ فِي السَّيْرِ إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَيُقَرِّبُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ، وَيَطْوِي لَهُ الْبَعِيدَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ وَالْمَشَاقَّ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، وَلَكِنْ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ هُمَا السَّبَبُ الَّذِي تُنَالُ بِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ لِتِلْكَ الْأَقْوَالِ، عَلِيمٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَيَشْكُرُهَا وَيَعْرِفُ قَدْرَهَا وَيُحِبُّ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ ا. هـ
(3)
والشوق من مراتب المحبة التي تقود إلى تمام العبودية لله وقد بينها ابن القيم رحمه الله: -بما حاصله-: أن خاصية التعبّد: هي الحبّ مع الخضوع والذلّ للمحبوب، فمن أحبّ شيئًا وخضع له فقد تعبد قلبه له. والتعبّد آخر مراتب الحبّ، ويقال له التتيّم. فإنّ أول مراتبه: العلاقة، وسميت "علاقة " لتعلّق القلب بالمحبوب. ثم بعدها الصبابة، وسمّيت بذلك لانصباب القلب إلى المحبوب ثم الغرام، وهو لزوم الحبّ للقلب لزومًا لا ينفكّ عنه. ثم العشق، وهو إفراط المحبة. ثم الشوق، وهو سفر القلب إلى المحبوب أحثّ السفر. ثم التتيُّم، وهو آخر مراتب الحبّ، وهو تعبّد المحبِّ لمحبوبه. يقال: تيّمه الحبّ إذا عبّده. ومنه تَيْم الله، أي عَبْد الله. وحقيقة التعبد: الذلّ والخضوع للمحبوب. ومنه قولهم: "طريق معبّد" أي مذلّل قد ذلّلته الأقدام. فالعبد هو الذي ذلّله الحبّ والخضوع لمحبوبه. ولهذا كانت أشرف أحوال العبد ومقاماته هي العبودية، فلا منزل له أشرف منها.
(1)
«شرح حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه» (ص 179)
(2)
ينظر: «قاعدة جامعة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له عبادة واستعانة» (ص 37)
(3)
قال ابن القيم رحمه الله: وأطيب العيش وألذّه على الإطلاق عيش المحبّين المشتاقين المستأنسين، فحياتهم هي الحياة الطيبة في الحقيقة، ولا حياة للعبد أطيب ولا أنعم ولا أهنأ منها. وهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] وليس المراد منها الحياة المشتركة بين المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، من طيب المأكل والملبس والمشرب والمنكح؛ بل ربما زاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافًا مضاعفةً. وقد ضمن الله سبحانه لكلّ من عمل صالحًا أن يحييه حياة طيبة، فهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده. وأيّ حياة أطيب من حياة مَنْ اجتمعت همومه كلّها، وصارت همًّا واحدًا في مرضاة الله، ولَمَّ شعثَ قلبه بالإقبال على الله، واجتمعت إراداته وأفكاره التي كانت منقسمةً -بكل وادٍ منها شعبة- على الله. فصار (ذكرُ محبوبه الأعلى، وحبّه، والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه)، هو المستولي عليه. وعليه تدور همومه وإراداته وقصوده، بل خطرات قلبه. فإن سكت سكت بالله، وإن نطق نطق بالله. وإن سمع فبه يسمع، وإن أبصر فبه يبصر. وبه يبطش، وبه يمشي، وبه يتحرك، وبه يسكن. وبه يحيا، وبه يموت، وبه يبعث ا. هـ
(1)
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما الشوق إِلَى لقاء اللَّه في الدُّنْيَا فهو أعظم لذّة تحصل للعارفين في الدُّنْيَا، فمن أنس باللَّه في الدُّنْيَا واشتاق إِلَى لقائه، فقد فاز بأعظم لذّة يمكن لبشر الوصول إليها في هذه الدار
…
وأهل الشوق إِلَى الله عَلَى طبقتين: أحدهما: من يفضي بهم الشوق إِلَى القلق والأرق، ويقل صبرهم عن طلب اللقاء
…
والثانية: من أعطاه الله بعد بلوغه إِلَى درجة الشوق إِلَيْهِ الأنس به والطمأنينة إِلَيْهِ، فسكنت قلوبهم بما كشف لها من آثار قربه ومشاهدته، ووجدوا لذّة الأنس به في الذكر والطاعة، وصار عيشهم مع اللَّه في نعيم سرمدي، وطاب لهم السير إِلَيْهِ في الدُّنْيَا بالطاعات. وهذه كانت حال نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ا. هـ
(2)
اقتران اللذة بالنظر، والشوق باللقاء:
واقتران اللذة بالنظر، والشوق باللقاء، يعني: أنك تسأل الله تعالى لذة النظر إلى وجهه
مع النظر إليه، والشوق إلى لقائه مع لقائه، فيكون ذلك الشوق وتلك اللذة مقترنة مع رؤية الله ولقائه لا أنها هي نفس النعيم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: فاللذة مقرونة بالنظر إليه، ولا أحب إليهم من النظر إليه لما يقترن بذلك من اللذة، لا أن نفس النظر هو اللذة ا. هـ
(1)
وقال رحمه الله: أخبر الصادق المصدوق أنّه لم يُعطَ أهلُ الجنّة أحبّ إليهم من النظر إليه. وسُنّ أن يُدعى بلذة النظر إلى وجهه الكريم. وأهل الجنّة قد تنعّموا من أنواع النّعيم بالمخلوقات بما هو غاية النّعيم، فلمّا كان نظرهم إليه أحبّ إليهم من كلّ أنواع النّعيم، عُلم أنّ لذّة النّظر إليه أعظم عند أهل الجنّة من جميع أنواع اللَّذَّات ا. هـ
(2)
قوله في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة:
وقال الحافظ ابن رجب: وَإِنَّمَا قَالَ «من غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» لِأَن الشوق إِلَى لِقَاء الله يسْتَلْزم محبَّة الْمَوْت، وَالْمَوْت يَقع تمنيه كثيرا من أهل الدُّنْيَا بِوُقُوع الضراء الْمضرَّة فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ فِي الشَّرْع، وَيَقَع من أهل الدّين تمنيه لخشية الْوُقُوع فِي الْفِتَن المضلة، فَسَأَلَ تمني الْمَوْت خَالِيا من هذَيْن الْحَالين وَأَنْ يكون ناشئا عَنْ مَحْض محبَّة الله والشوق إِلَى لِقَائِه ا. هـ
(3)
وقال: فالشوق إلى لقاء الله تعالى إنما يكون بمحبة الموت وذلك لا يقع غالبا إلا عند خوف ضراء مضرة في الدنيا أو فتنة مضلة في الدين فأما إذا خلا عن ذلك كان شوقا إلى لقاء الله عز وجل وهو المسؤول في هذا الحديث وفي المسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتمنين الموت إلا من وثق بعمله»
(4)
فالمطيع لله مستأنس بربه فهو يحب لقاء الله والله يحب لقاءه والعاصي مستوحش بينه وبين مولاه وحشة الذنوب فهو يكره
(1)
الإيمان الأوسط - ط ابن الجوزي (ص 421)
(2)
«النبوات» (1/ 341)
(3)
«شرح حديث لبيك اللهم لبيك» (ص 95)
(4)
مسند أحمد (14/ 260) رقم (8607) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعا: «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُو بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَثِقَ بِعَمَلِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا» وفي إسناده ابن لهيعة وهو سيء الحفظ وقد تفرد بقوله " «إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَثِقَ بِعَمَلِهِ» .
لقاء ربه ولا بد له منه
…
إلخ
(1)
سؤال الله تعالى أن يزيننا بزينة الإيمان:
ثم يقول: «اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ» . وزينة الإيمان تشمل زينة القلب بتحقق الإيمان له. وزينة اللسان بأقوال الإيمان. وزينة الجوارح بأعمال الإيمان، وذلك أن الإيمان قول وعمل ونية. وقد سمى الله تعالى التقوى لباسا، وأخبر أنها خير من لباس الأبدان فقال تعالى:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]. فهذه هي الزينة النافعة الدائمة الباقية وهي زينة الإيمان والتقوى، إذا شملت القلب والجوارح.
سؤال الله تعالى أن يجعلنا هداة مهتدين:
قال: «وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» ، يعني نهدي غيرنا ونهتدي في أنفسنا. وهذه أفضل الدرجات: أن يكون العبد هاديًا مهديًّا.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} [الأنبياء].
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»
(2)
، وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا،
…
» الحديث
(3)
.
ويدخل في ذلك: من دعا إِلَى التوحيد من الشرك، وإلى السنة من البدعة، وإلى العِلْم من الجهل، وإلى الطاعة من المعصية، وإلى اليقظة من الغفلة، فمن استجيب له إِلَى شيء من هذه الدعوات فله مثل أجر من تبعه. ومن دعاء عباد الله الصالحين ما ذكره الله تعالى عنهم في قوله:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
(1)
«لطائف المعارف لابن رجب» (ص 296)
(2)
أخرجه البخاري (2942) واللفظ له، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (2674).
قال ابن كثير رحمه الله: وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِنَا فِي الْخَيْرِ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَدُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ، فَأَحَبُّوا أَنْ تَكُونَ عِبَادَتَهُمْ مُتَّصِلَةً بِعِبَادَةِ أَوْلَادِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ هُدَاهُمْ مُتَعَدِّيًا إِلَى غَيْرِهِمْ بِالنَّفْعِ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ ثَوَابًا، وَأَحْسَنُ مَآبًا؛ وَلِهَذَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
(1)
، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، أَوْ عَلَمٍ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ" ا. هـ
(2)
.
فهذه اثنتا عشرة كلمة مباركة يدعو بها المسلم في صلاته.
بوب عليها الإمامان النسائي في سننه والطبراني في الدعاء -وغيرهما-، بما يدل على قولها قبل السلام من صلاته بعد التشهد
(3)
.
وبوب عليه الإمام أبو حاتم ابن حبان فقال: «ذِكْرُ جَوَازِ دُعَاءِ الْمَرْءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ»
(4)
قال ابن القيم رحمه الله: فجمع في هذا الدعاء العظيم بين أطيب شيء في الدنيا، وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شيء في الآخرة، وهو النظر إلى وجهه سبحانه. ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفا على عدم ما يضر في الدنيا. ويفتن في الدين قال:«فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» . ولما كان كمال العبد في أن يكون عالما بالحق متبعا له معلماً لغيره، مرشدا له قال:«وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» .
(5)
(1)
صحيح مسلم (1631).
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 133)
(3)
سنن النسائي (3/ 54/ 1305)، الدعاء للطبراني (ص 198). وانظر:«الكلم الطيب» لابن تيمية (ص 49) و «الوابل الصيب لابن القيم - ط عطاءات العلم» (1/ 280) و «أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني» (3/ 1080).
(4)
«صحيح ابن حبان» (5/ 304)
(5)
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 28)
JIH
دعاء الحسن بن علي رضي الله عنهما في الوتر
ومن الأدعية المباركة: الدعاءُ الذي ندعو الله عز وجل به في صلاة الوتر، وهو الدعاء الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي رضي الله عنهما أن يدعو به فِي قُنُوتِ الْوَتْرِ، علمه أن يقول:«اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» . خرجه الإمام أبو داود والنسائي وغيرهما.
(1)
.
وهذه كلمات عظيمات، تشتمل على ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: التوسل إلى الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، فالداعي بها يدعو ربه متوسلاً بأسمائه الحسنى، فإنَّه الهادي، وإنَّه المعطي، وإنَّه يقضي ولا يقضى عليه، وإنَّه المتعالي سبحانه، وإنَّه المبارك في الأشياء، فيدعو العبد ربه -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
والفائدة الثانية: أنَّ العبد يعترف لله خضوعاً وتذللاً بأنَّ الأمور كلها بيده سبحانه، فهو الذي يهدي من يشاء، وهو الذي يعطي من يشاء، ويمنع عمن يشاء، فالعبد يسأل ربه أن يهديه، ويسأل ربه أن يعطيه، ويسأل ربه أن يبارك له، فهو اعتراف من العبد وهو يدعو ربه بأنَّ الله -جل وعلا- صاحب العظمة والكبرياء، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، فالعبد يتذلل لربه سبحانه، سائلاً إياه -جل وعلا- أن يهديه، وأن يرزقه، وأن يبارك له.
(1)
أخرجه أبو داود (1425) واللفظ له، والنسائي (1745)، والترمذي (464)، وابن ماجه (1178)، وأحمد (1718).
والفائدة الثالثة: أنَّ العبد يسأل ربه بهذه الدعوات أن يسلك به سبيل المهتدين، وسبيل من عافاه، وأولئك هم عباد الله الصالحون؛ ولذلك يقول: اهدني يا رب فيمن هديت، قال بعض أهل العلم:«فِيمَنْ» يعني: مع من هديته من عباد الله الصالحين، وأولئك هم الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، وحسن أولئك رفيقاً. فيدعو العبد ربه أن يسلك به هذا السبيل، وهي الدعوات المباركات التي اشتملت عليها فاتحة الكتاب.
وفي قول العبد: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» ، سؤال لله -جل وعلا- الهداية التامة الكاملة، الهداية المشتملة على العلم النافع، والعمل الصالح، فالعبد إذا قال:«اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» ، فهو يسأل ربه -جل وعلا- أن يعلمه شرعة الإسلام، وأن يفقهه في هذا الدين؛ لأنَّ الهداية أساسها معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام، والعبد إذا قال:«اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» ، فهو يسأل ربه -جل وعلا- أن يوفقه للعمل الصالح، فلا هداية تامة إلا بعمل صالح، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج لمن استطاع إليه سبيلاً، بأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، بإقامة شرع الله، بطاعة الله، والائتمار بأمره، والانتهاء عن نهيه. والعبد إذا قال:«اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» ، فهو يسأل الله أن يرزقه التوبة والإنابة والاستغفار، فإنَّ العبد في طريقه إلى الله -جل وعلا- تختلجه الشياطين، وتأخذه الشياطين، فيقع في المعصية، و «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ» لكن كما قال عليه الصلاة والسلام:«وَخَيْرُ الخَطَّائِيْنَ التَّوَابُونَ»
(1)
. فالعبد إذا قال: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي» ؛ تضمن الدعاء لله أن وفقني إلى التوبة إذا وقعت في معصية لأرجع إلى سبيل من هديت، وإلى سبيل من رزقته الهداية، العبد إذا قال:«اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» ينطوي قلبه على معرفة أنَّ الهداية بيد الله فهو الهادي، هو الذي يوفق من يشاء، فيزداد حمداً لله أن وفقه إلى هذا السبيل، وإلى هذا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
(1)
أخرجه الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، وأحمد (13049) من حديث أنس رضي الله عنه وحسنه الألباني
الصراط المجانب للمغضوب عليهم وللضالين من اليهود والنصارى وسائر المشركين والكافرين. والعبد إذا دعا بهذه الدعوة المباركة: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» ؛ تعلَّق قلبه بالله، وتذكَّر آية الفاتحة، وهو يدعو في كل صلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}
ثم يدعو العبد فيقول: «وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ» ، وهي سؤال لله -جل وعلا- أن يرزقك العافية التامة في الدنيا وفي الآخرة، فيعافيك الله في بدنك، ويعافيك الله في سمعك وبصرك، يعافيك الله في مالك، وفي ولدك، يعافيك الله في الدنيا من جميع الشرور، وفي القبر من عذاب القبر ومن فتنته، وفي الآخرة من عذاب جهنم، فيستذكر العبد وهو يرفع أكف الضراعة لله قائلاً:«عَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ» ، سائلاً ربه -جل وعلا- هذه العافية التامة.
وقد علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس بن عبد المطلب أن يدعو بهذه الدعوات، -والعم صنو الوالد
(1)
-، فنصح له النبي عليه الصلاة والسلام، وقال:«يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، سَلِ اللَّهَ، العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»
(2)
. وقال له أيضا: «أَكْثِرِ الدُّعَاءَ بِالْعَافِيَةِ»
(3)
وفي سنن الترمذي أن أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، قَامَ عَلَى المِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الأَوَّلِ عَلَى المِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: «اسْأَلُوا اللَّهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ اليَقِينِ خَيْرًا مِنَ العَافِيَةِ»
(4)
.
وفي أدعية الصباح والمساء حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي، وَحِينَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا
(1)
روى الإمام مسلم (983) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا» ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟»
(2)
أخرجه الترمذي (3514)، من حديث العباس رضي الله عنه، وحسنه لشواهده الألباني في الصحيحة (4/ 29).
(3)
أخرجه الحاكم (1939)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسنه لشواهده الألباني في الصحيحة (1523)
(4)
أخرجه الترمذي (3874)، وابن ماجه (3849) وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3387)
وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»
(1)
. فالعبد إذا دعا بهذه الدعوة العظيمة المباركة فهو يدعو لنفسه بخيري الدنيا والآخرة.
ثم يقول: «وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ» ، أي تولَّ -ياربِّ- أمري، وانصرني، واهدني، ويسر لي أمري، وإنه إذا تولاك الله -جل وعلا- أصبحت من الفائزين في الدنيا والآخرة، فإنَّه لا يذل من والاه الله، ولا يعز من عاداه الله -جل وعلا-. إذا تولاك الله أصبحت قوياً، مهاباً، عظيم الجانب، لم يستطع أن ينال منك أحد إلا أن يكون ابتلاءً من الله -جل وعلا-. فما أعظم هذه الدعوة المباركة، يتولى الله أمرك، ويتولى الله حاجاتك، وينصرك، ويكلؤك بالحفظ والتأييد في الدنيا وفي الآخرة.
وقوله: «وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ» ، تسأل الله عز وجل أن يبارك لك، والبركة هي الخير الكثير الثابت، البركة: تكثير الشيء وثباته ولزومه، فتسأله -تعالى- أن يبارك لك في كل ما أعطاك من علم أو من مال أو ولد أو مسكن؛ وترضى بما آتاك الله، والبركة إذا حلَّت في القليل كَثَّرته وفي اليسير نمَّتْه وجعلته دائمًا ثابتا. فإذا أعطاك الله المال، وأعطاك الصحة، وأعطاك الولد، وأعطاك النعم التي لا تعد ولا تحصى، فأنت تسأل ربك أن يثبّتها لك، وأن يبارك لك فيها، وأن يحفظها عليك، وأن يجعلها نعمة تامة دائمة، يرزقك الله شكرها. فكم من أناس أُعطوا مالاً، أو ولداً، أو صحة، أو أي نعمة أخرى، لكن نُزعت البركة من أعطياتهم، فلم يجدوا لها لذة، فيعيش غنيهم حياة الفقراء البؤساء؛ إذ سُلبت منه البركة، والبركة من الله -جل وعلا-، هو الذي يبارك الأشياء، وهو الذي يحفظها على الإنسان، فأنت تدعو بهذه الدعوة أن يحفظ الله -جل وعلا- عليك النعم التي أعطاك إياها.
وقوله: «وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ» سؤال لله أن يقيك شرَّ الذي قضاه؛ فإن الله قد يقضي
(1)
أخرجه أبو داود (5074)، وابن ماجه (3871) واللفظ له وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (659) وصححه شيخنا العلامة الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1548)
بالشر لحكمة بالغة، والشرُّ واقعٌ في بعض مخلوقاته لا في خلقه ولا في فعله؛ ولهذا فإن الشر ليس إلى الله -جل وعلا-؛ فإن فعله وخلقه خيرٌ كله. والعبد يسأل الله -جل وعلا- أن يصرف عنه شر هذا المقضيِّ الذي قضاه له، وفي هذا تسليم لرب العالمين -جل وعلا-. فهذا الدعاء يتضمن سؤالَ الله الوقايةَ من الشرور والسلامةَ من الآثام والحفظَ من البلايا والفتن. ثم يقول:«إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ» فيتوسل إلى الله -جل وعلا- بأنه-سبحانه-يقضي على كل شيء؛ لأن له الحكم التام والمشيئة التامة والقدرة النافذة. يقول الله -جل وعلا-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] فيجب أن تؤمن أنه لن يكون في الكون شيء إلا بمشيئة الله. فقولك: «وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ» ، تعترف لله -جل وعلا- بأن الأمر أمره، وبأن القضاء قضاؤه، وبأنَّه سبحانه كتب الأشياء، وقدَّرها، وشاءها، وخلقها، فلا مفرَّ من قضاء الله وقدره، فيدعو العبد ربه سبحانه أن يقيه جميع الشرور، ولو استجيب لك في هذه لسعدت في الدنيا وفي الآخرة، فالشرور التي تحيط بالإنسان كثيرة، فيلجأ المؤمن والعبد الضعيف إلى الله الغني الحميد أن يقيه جميع الشرور، فالأمر بيد الله، هو الذي يرفع الضر والبأساء، هو الذي يصرف عنك البلاء، وهو الذي يغني بعد فقر، وهو الذي يعافي بعد مرض، وهو الذي يعطي سبحانه من يشاء، فعلق قلبك بربك.
ثم يقول العبد في دعائه: «إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» ، وهي كلمات عظيمة يثني بها العبد على ربه -جل وعلا-، ومن آداب الدعاء: أن يثني العبد على ربه في دعائه، فقمن حينئذ أن يستجاب له دعواته لله. فإذا تأملت هذه الكلمات رأيت أنها جمعت فأوعت.
JIH
حديث دعاء الاستخارة
كذلك من الأدعية المباركة: التي علَّمنا إيَّاها النبي صلى الله عليه وسلم وله تعلق بهذا الباب العظيم دعاءُ الاستخارة، فيصلي الإنسان إذا أراد أمرًا أو هَمَّ بأمر فيصلي ركعتين من غير الفريضة ثم يرفع يديه فيقول:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ، وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ، وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي-أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ-فَاقْدُرْهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي-أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ-فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ. وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» . وهذا الحديث خرجه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
(1)
.
وهو دعاء عظيم، فيه تثبيتٌ للعبد المؤمن، وبه يأنس القلب بالله. دعاءٌ كلُّه توحيد وافتقار وعبودية لله سبحانه. وفيه تمام التوكل على الله. وفيه تمام الرضا عن الله. فإن العبد يسأل من بيده الخيرُ كلُّه، فيقول:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ» أستخيرك يعني: أطلب منك يا الله أن تختار لي الخير من الأمور والأرشد والأحسن؛ لأن الله هو العليم، ولأنه هو القدير، ولأنه هو الذي يعلم ما لا نعلم، ويقدر على ما لا نقدر، وهو علَّام الغيوب فالعبد يتوسل إلى الله -جل وعلا- بهذا الدعاء المبارك وما ندم من استخار ربه بعلمه المحيط بكل شيء واسْتَقْدَرَهُ بقدرته الكاملة على كل شيء وسأله -سبحانه- من فضله العظيم. فإنه -كما قال الحكماء
(1)
البخاري (6382).
والأدباء-: «مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ»
(1)
.
ويروى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح
(2)
.
وكان شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبَّت في أمره ا. هـ
(3)
ودعاء الاستخارة من الأدعية العظيمة المباركة، ونحتاج إلى تدبره وتأمله، يقول شمس الدين ابن القيم رحمه الله: فَعَوَّضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ، عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ
(4)
وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ
(5)
…
وَعَوَّضَهُمْ بِهَذَا الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ:
• تَوْحِيدٌ
• وَافْتِقَارٌ،
• وَعُبُودِيَّةٌ،
• وَتَوَكُّلٌ،
• وَسُؤَالٌ لِمَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ
• الَّذِي لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَصْرِفُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ
(1)
ينظر: «اللطائف والظرائف» للثعالبي (ص 119) و «أدب الدنيا والدين» للماوردي (ص: 300)
(2)
رواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (6/ 365) رقم (6627) وفي المعجم الصغير (980) من حديث أنس. وقال العلامة الألباني: موضوع، كما في السلسلة الضعيفة (611).
(3)
«الكلم الطيب» (ص 56)، وينظر:««الوابل الصيب - ط عطاءات العلم» (1/ 294)
(4)
قال الإمام الشافعي رحمه الله: إِنَّ عِلْمَ الْعَرَبِ كَانَ فِي زَجْرِ الطَّيْرِ وَالْبَوَارِحِ، وَالْخَطِّ وَالاعْتِيَافِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا غَدَا مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ أَمْرًا، نَظَرَ أَوَّلَ طَائِرٍ يَرَاهُ، فَإِنْ سَنَحَ عَنْ يَسَارِهِ، فَاجْتَازَ عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ: هَذَا طَيْرُ الأَيَامِنِ، فَمَضَى فِي حَاجَتِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ مُسْتَنْجِحُهَا، وَإِنْ سَنَحَ عَنْ يَمِينَهَ، فَمَرَّ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: هَذَا طَيْرُ الأَشَائِمِ، فَرَجَعَ ا. هـ ينظر:: «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 112) لابن أبي حاتم.
(5)
الْأَزْلامِ: هي القداح. والاستقسام بها: أن يضرب بها ثم يعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي. وكانوا إذا أرادوا أن يقتسموا شيئا بينهم وأحبوا أن يعرفوا قسم كلّ امرئ تعرّفوا ذلك منها. فأخذ الاستقسام من القسم وهو النّصيب. كأنه طلب النّصيب. ينظر: غريب القرآن لابن قتيبة ت سعيد اللحام (ص 123)
• الَّذِي إِذَا فَتَحَ لِعَبْدِهِ رَحْمَةً لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ حَبْسَهَا عَنْهُ، وَإِذَا أَمْسَكَهَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ إِرْسَالَهَا إِلَيْهِ مِنَ التَّطَيُّرِ وَالتَّنْجِيمِ وَاخْتِيَارِ الطَّالِعِ وَنَحْوِهِ.
فَهَذَا الدُّعَاءُ، هُوَ الطَّالِعُ الْمَيْمُونُ السَّعِيدُ، طَالِعُ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالتَّوْفِيقِ، الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى، لَا طَالِعُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالشَّقَاءِ وَالْخِذْلَانِ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
فَتَضَمَّنَ هَذَا الدُّعَاءُ:
• الْإِقْرَارَ بِوُجُودِهِ سُبْحَانَهُ،
• وَالْإِقْرَارَ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ،
• وَالْإِقْرَارَ بِرُبُوبِيَّتِهِ،
• وَتَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ،
• وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ،
• وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ،
• وَالْخُرُوجَ مِنْ عُهْدَةِ نَفْسِهِ، وَالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِهِ،
• وَاعْتِرَافَ الْعَبْدِ بِعَجْزِهِ عَنْ عِلْمِهِ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَإِرَادَتِهِ لَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِيَدِ وَلِيِّهِ وَفَاطِرِهِ وَإِلَهِهِ الْحَقِّ ا. هـ
(1)
.
وقال الوزير ابن هبيرة رحمه الله: علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم المستخير أحسن لفظ ينطق به في الاستخارة. وقوله: «أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ» فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب الخيرة من الله، ثم علق ذلك بعلم الله، وأشار فيما أرى بهذا، إلى قوله:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة] فلما كانت عواقب الأمور لا يعلمها العبد، قال:«أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ» أي ما تعلم أنت أنَّ عاقبته لي الخيرة مقدما علم الله سبحانه واختياره على حد مبلغ علم آدمي واختياره
(1)
زاد المعاد (2/ 405).
لنفسه. وقوله: «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» فإنه يعني أنه بعد أن سأله أن يختار له سبحانه بمقتضى علمه في عواقب الأمور، أي فقد سألتك أن تقديري على ما يقتضيه علمك في ذلك الأمر ولا تقدرني على ما ليست عاقبته جميلة، أي لا تبسط قدرتي إلا على ما هو الخيرة في علمك. ثم عقب ذلك بأن قال:«وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ» أي لمَّا عرفت أنَّ الخيرة بعلمك والقدرة مني بقدرتك حينئذ سألتك من فضلك العظيم، ولما لم يعين عند سؤاله من الفضل جنسا من الفضل، كان هذا الفضل متناولا كل جنس من الفضل، ولما كان ذلك راجعا إلى إنعام الله وصفه بأنه عظيم. ثم قال:«فَإِنَّكَ تَقْدِرُ، وَلَا أَقْدِرُ» أي أنت تقدر، وحالي أنا أني لا أقدر،
…
وقوله: «ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ» أي إذا قدرت لي الخير، فاحمِ قلبي من أن يستزيد بعد أو يرى أنك لم تختر لي الأفضل، ولم يقل صبرني عليه، ولكن قال:«رَضِّنِي بِهِ» أي اجعلني من الراضين فإن مقامه فوق مقام الصبر، فينبغي له إذا صرف عنه الأمر ألا يتأثر بالصرف،
…
إلخ
(1)
.
فيا عبد الله، إذا وجدت شكًّا أو وسوسة في باب القضاء والقدر فَعُدْ إلى هذه الأدعية المباركة العظيمة التي علَّمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
«الإفصاح عن معاني الصحاح» (8/ 332).
JIH
حديث ابن مسعود رضي الله عنه في دعاء الهم والحزن
ونختم بالوقوف مع بعض الكلمات الواردة في دعاء مبارك من الأدعية النبوية أيضًا،
وهو ما خرجه الإمام أحمد وابن حبان وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا» . -وهذا دعاءٌ عظيم وكلمات عظيمة علَّمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سمعها الصحابة فرحوا بها وقالوا: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا»
(1)
.
وقد تضمنت هذه الكلمات أربعة أصول عظيمة:
أما الأول: فهو تحقيق العبادة لله وتمام الانكسار بين يديه والخضوع له واعتراف العبد بأنه مخلوق لله، مملوك له هو وآباؤه وأُمَّاتُه، ابتداءً من أبويه القريبين وانتهاءً بآدم وحواء، وانظر ماذا يقول العبد:«اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ» .
وهذا هو الأصل الثاني أن العبد يؤمن بقضاء الله وقدره وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه -سبحانه- لا معقب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]. ويقول في هذا الدعاء:
(1)
أحمد (3712)، ابن حبان (972) وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (199).
«نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ» والناصية: هي مقدمة رأس الإنسان، فهو بيد الله، يتصرف فيه كيف يشاء، ويحكم فيه بما يريد، لا معقِّب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه.
فيا أيها العبد، موتك وسعادتك وشقاوتك وعافيتك وبلاؤك كلُّ ذلك إلى الله. فكرِّرْ هذا الدعاء وادعُ الله عز وجل به والتجئ إلى الله وأظْهِرْ ضعفك وفقرك إلى الغني الحميد فبهذا تطمئن نفسك. وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء العظيم «مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ» ففيه تمام الرضا عن الله فالعبد يدعو الله ويتوسَّل إليه بأنه يعلم أن حكمه فيه ماضٍ، وهو يؤمن بحكم الله الشرعي وبحكم الله القدري الكوني، فكلاهما ماضيان في العبد شاء أم أبى ويقول:«عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ» فكلُّ أقضية الله-سبحانه-من صحة وسقم وغنى وفقر ولذة وألم وحياة وموت كلُّ ذلك عدل من الله-سبحانه- لأن العبد المسلم يؤمن بأن الله ليس بظلام للعبيد، كما قال سبحانه:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت] وكما قال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس].
والأصل الثالث: أن يؤمن العبد بأسماء الله الحسنى وصفاته العظيمة الواردة في الكتاب والسنة، فيتوسل إلى الله عز وجل بها.
والأصل الرابع: العناية بالقرآن الكريم الذي هو كلام الله الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]
فالعبد يطلب من ربه بعد أن يتوسل إليه أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه. وهذا الدعاء يقتضي من العبد أن يُقبِل على القرآن وأن يُقبِل على تعلم السنة، أما أن يدعو بهذا الدعاء ثم يهجر كتاب الله فإن هذا من المخادعة، وهذا الذي يسأل الله -جل وعلا- ثم لا يعمل بالأسباب التي تعينه على الوصول إلى ذلك فإنه مخدوع. فاتلُ كتاب الله، وتأمل كتاب الله، وأكثِرْ من تلاوته، وقل: " اللهم اجعل
القرآن ربيع قلبي ونور صدري" فمن دعا بهذا الدعاء كما ينبغي فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا» .
فيا عبد الله:
هذه الأدعية المباركة وغيرها كثير من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم تستدعي من العبد المؤمن:
• أن يحرص على الدعاء المأثور،
• وأن يجتنب الأدعية التي يتداولها الناس مما لم يثبت ولم يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالبركة في هذه الكلمات النبوية المباركة الجوامع للكلم التي علَّمنا إياها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله -جل وعلا- أن يحفظنا بحفظه، وأن يصرف عنا البلاء، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يعيننا على ما تبقَّى من هذا الشهر المبارك،
اللهم أَعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
JIH
انتهى الجزء الخامس
ويليه الجزء السادس
الإيمان باليوم الآخر