الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلسلةُ: ريِّ الظَّمْآن بِمَجالِس شُعَبِ الإيمَانِ (6)
الإِيْمَانُ
باليوم الآخر
تأليف
أبي حمزة غازي بن سالم أفلح
عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه وجميع المسلمين
تقديم
الدكتور عزيز بن فرحان العنزي الدكتور رشاد بن حمود الحزمي
الشيخ عبد العزيز بن يحيى البرعي الشيخ محمد بن عبد الله باموسى
الشيخ نعمان بن عبد الكريم الوتر
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى لمكتبة دروس الدار
1444 هـ - 2022 م
(مزيدة ومنقحة)
رقم الفسح الإعلامي في دولة الإمارات العربية المتحدة دبي
MC-01 - 01 - 7549142
Date-2022 - 04 - 19
الترقيم الدولي
ISBN: -978 - 9948 - 04 - 572 - 4
التصنيف العمري: E
تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن وزارة الثقافة والشباب
للتواصل مع المؤلف: [email protected]
الإمارات العربية المتحدة - الشارقة
البريد الإلكتروني: [email protected]
للتواصل: 00971503667077
تويتر: @ DroosAldar
الركن السادس من أركان الإيمان
الإيمان باليوم الآخر
F e
المجلس الحادي والعشرون
(1)
الشعبة السادسة من شعب الإيمان: الإيمان باليوم الآخر
من شعب الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، وقد ذكره البيهقي رحمه الله في الشعبة السادسة من شعب الإيمان، وذكر معه أيضًا أمورًا ترتبط باليوم الآخر، وأدخلها من جملة شعب الإيمان
(2)
.
الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان الستة:
والإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان الستة.
وقد تقدَّم معنا ذِكْرُ حديث جبرائيل عليها السلام، وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
(3)
.
ما هو اليوم الآخر؟
قال العلماء: اليوم الآخِر هو يوم القيامة، سُمِّيَ بذلك لأنه لا يوم بعده،
وهو اليوم الذي تعاد فيه الأرواح إلى الأجساد، وتُبعَث فيه الخلائق للجزاء والحساب والمعاد؛ فهو آخر يومٍ لا يوم بعده سواه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا أو آخر الأزمنة المحدودة"
(4)
.
(1)
كان في يوم الاثنين الثامن عشر من شهر رمضان 1441 هـ.
(2)
شعب الإيمان (1/ 406).
(3)
تقدم تخريجه في المجلس الخامس عشر.
(4)
فتح الباري (1/ 118).
كفر من لا يؤمن باليوم الآخر:
يقول ربنا في كتابه الكريم مبيِّنًا كُفْرَ من لم يؤمن بهذا اليوم: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء]
فالإيمان به واجب على جهة الإجمال وعلى جهة التفصيل فيما ثبت عند المكلَّف مما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويقول الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177].
ما يتضمَّنُه الإيمان باليوم الآخر:
والإيمان باليوم الآخر الذي هو الإيمان بالقيامة يتضمن ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الإيمانُ بأشراط الساعة التي هي من مقدِّمات هذا اليوم العظيم.
والأمر الثاني: الإيمان بالبرزخ وما يجري فيه من عذاب ونعيم وكلِّ ما أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم مما يقع من سؤال الميت وفتنته في قبره ونحو ذلك مما هو من أمور الغيب منذ أن يموت الإنسان وحتى يدخل قبره وحتى يبعث يوم القيامة كلُّ هذا من الغيب الذي يدخل في الإيمان باليوم الآخر؛ فـ «الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ» كما في الحديث.
(1)
الأمر الثالث: الإيمانُ بالنفخ في الصور ثم البعث والجزاء والحساب وما يكون في يوم القيامة.
فالإيمان باليوم الآخر إذًا يتضمَّنُ الإيمانَ بهذه الأمور الثلاثة.
وكلُّ أمرٍ منها تندرج تحته جملةٌ من المسائل العظيمة التي سنجتهد في المرور عليها -إن شاء الله-، على جهة الاختصار بدءًا من مجلسنا هذا ثم المجالس القادمة بإذن الله.
من ثمرات الإيمان باليوم الآخر:
الإيمانُ باليوم الآخر له ثمراتٌ جليلة. فمن ذلك:
1 -
حَثُّ العبد على فعل الطاعات والمسابقة في الخيرات رغبةً في الثواب الكائن في ذلك اليوم العظيم، فيجتهد المؤمن في عمل الطاعة وفيما أمره الله عز وجل به، وهو يتذكَّر أنَّ هناك يومًا عظيمًا هو يوم الجزاء، وهو يومٌ يكون فيه عظيم الثواب عند الله -جل وعلا-.
(1)
رواه أحمد (4540)، والترمذي (2308)، وابن ماجه (4267) من حديث عثمان رضي الله عنه.
2 -
كما أن الإيمان بهذا اليوم يدفع العباد إلى ترك المعاصي والبُعْدِ عن العناد وترك المنكرات وسيِّء الأفعال خوفًا من العقاب الكائن في ذلك اليوم.
3 -
وفيه أيضًا تسلية للمؤمن عمَّا يفوته عن نعيم الدنيا ومتاعها بأن ثمة يومًا عظيمًا سيكون فيه الجزاء العظيم والنعيم الأبدي السرمدي.
4 -
وفيه أيضًا وقوفُ العبد على فضل الله وعدله في المجازاة على الأعمال الصالحة والسيئة، فإذا ظُلِمَ الإنسان في هذه الدنيا فإنه يتذكر أن يوم القيامة هو يوم الفصل، وأن هناك يومًا عظيمًا سيقف فيه الظالم والمظلوم بين يدي الله، فيقتص للمظلوم من الظالم.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانُ أمور أخرى في الكلام عن بعض ما يتعلق بأسماءِ هذا اليوم العظيم وصفاتِه المذكورةِ في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا يعلم متى الساعة إلا الله:
وقد جاء البيان الواضح في كتاب الله مع كثرة تساؤل الناس عن هذا اليوم أنه يومٌ لا يعلم متى يكون إلا اللهُ:
يقول ربُّنا -جل وعلا-: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)} [الذاريات]
ويقول -جل وعلا-: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)} [السجدة]،
ويقول -جل وعلا- في ستة مواضع من كتابه الكريم-: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48، الأنبياء: 38، النمل: 71، سبأ: 29، يس: 48، الملك: 25]،
ويقول سبحانه: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} [القيامة].
وهكذا جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعةُ يا رسول الله؟ قَالَ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحبُّ الله ورسوله. قَالَ:«أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»
(1)
.
(1)
البخاري (7167)، ومسلم (2639).
هذا الأعرابي جزم جزمًا تامًّا بأنه يحب الله ورسوله، فهل يستطيع الواحد منَّا أن يكون في صدقه وفي جزمه في هذا الأمر كهذا الصحابي؟!
-نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من أولئك-.
كذلك جاء في صحيح الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدِّث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث، فقال بعضُ القوم: سمع ما قال فَكَرِهَ ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قَالَ: «أَيْنَ-أُرَاهُ-السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟» قال: ها أنا يا رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قال: كيف إضاعتُها؟ قال: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»
(1)
.
فهذه الأحاديث كلُّها تُبيِّن كثرة التساؤلات التي وقعت من بعض الناس متى تكون الساعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الساعةَ غيبٌ لا يعلمه إلا الله.
وفي حديث جبريل لما سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "متى الساعة؟ " -يعني: متى تقوم الساعة؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»
(2)
فدلَّ هذا على أن الساعة غيبٌ لا يعلمه إلا الله.
الساعة حق:
وهي حقٌّ لا ريب فيه كما قال ربُّنا -جل وعلا-: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)} [آل عمران]،
وقال -جل وعلا- في قصة أصحاب الكهف: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21]
وقال -جل وعلا-: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)} [غافر]
وقال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 25]
(1)
البخاري (59).
(2)
تقدم في المجلس الخامس عشر.
وقال -جل وعلا-: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء]
وقال -جل وعلا- بعد أن ذكر كيف خَلَقَ ابنَ آدم وكيف تقلَّب من تراب إلى نطفة إلى عقلة إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة، قال سبحانه:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج]
وقال سبحانه: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)} [الجاثية].
الآيات التي أمر الله نبيَّه فيها بالقسم بربه على قيام الساعة:
وقال -جل وعلا-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3]،
وقال -جل وعلا-: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7]،
وقال سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)} [يونس].
فهذه ثلاث آيات يخبر الله -جل وعلا- فيها عن سؤال الكفار واستخبارهم عن المعاد والقيامة وعن خروج الناس من قبورهم، فيأمر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُقسِم بالله على أن الساعة حق:
{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}
{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}
{قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)} .
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ»
(1)
.
قوله: «وَالسَّاعَةُ حَقٌّ» أي: يوم القيامة.
وأصل الساعة -كما سيأتي-: القطعةُ من الزمان.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وإطلاقُ اسم الحق على ما ذُكِرَ من الأمور معناه: أنه لا بُدَّ من كونها وأنها مما يجب أن يُصدَّق بها، وتكرارُ لفظِ «حَقٌّ» للمبالغة في التأكيد"
(2)
.
علم الساعة من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله:
قال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34]
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّهُ»
(3)
. فالناس يتساءلون من قديم، ويسألون أنبياءهم عن الساعة ومتى قيامها، والقرآن يُبيِّنُ أن ذلك من علم الغيب.
الساعة قريبة:
وإذا عرفنا ذلك فقد جاء البيانُ في كتاب الله أن الساعة قريب
قال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)} [الأنبياء]
وقال -جل وعلا-: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر] أي: دَنَتِ الساعة التي تقوم فيها القيامة. كما قال -جل وعلا-: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل]
وكما في الآية السابقة {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء]
وقال -جل وعلا-: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} [المعارج]
(1)
البخاري (1120)، ومسلم (2717).
(2)
فتح الباري (3/ 4).
(3)
رواه البخاري (4697) واللفظ له، وهو في مسلم (9) جزء من حديث جبريل عليها السلام.
وقال سبحانه: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} [الأحزاب].
وقد جاء أيضًا في الصحيح من حديث سهل بن سعد وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ»
(1)
.
وَيُشِيرُ بِإِصْبَعَيْهِ فَيَمُدُّ بِهِمَا، وقَرَنَ بين إصبعيه: المسبِّحة والوسطى.
وهذا بيانٌ منه صلى الله عليه وسلم أنَّ الساعةَ قريبٌ.
وجاء أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاري أنه قال: «إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ»
(2)
. يعني أن بقاء الأمة في هذه الدنيا بقاءٌ قليل، وأن قلة ما يبقى الناس في هذه الدنيا كما بين صلاة ظهر إلى صلاة عصر. وهذا مقارنةً بالأمم السابقة؛ فإن الساعة كيوم، وقد ذهب أكثرُه، ولم يَبْقَ منه إلا القليل.
الساعة تقوم بغتة:
أخبرنا عن قيام الساعة بأنه يكون فجأة. يقول -جل وعلا-: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)} [الأنعام]
قال الحافظ ابن كثير وغيره من أهل التفسير: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :
أي: عظمت وكبرت على أهلها لهولها وما فيها من المحاسبة والمجازاة
(3)
.
(1)
حديث سهل رضي الله عنهما متفق عليه، رواه البخاري (6503)، ومسلم (2950) وحديث أنس رضي الله عنه متفق عليه، رواه البخاري (6504)، ومسلم (2951) وحديث أبي هريرة رضي الله عنه تفرد به البخاري (6505).
(2)
رواه البخاري (557).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (6/ 207).
وجاء في صحيح الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ يَحْلُبُ اللِّقْحَةَ فَمَا يَصِلُ الإِنَاءُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْبَ فَمَا يَتَبَايَعَانِهِ حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلُ يَلِطُ فِى حَوْضِهِ فَمَا يَصْدُرُ حَتَّى تَقُومَ»
(1)
. ومعنى قوله: يليط أو يلط في حوضه أي: يصلحه ويُطيِّنُه.
تقوم الساعة يوم الجمعة:
أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الساعة تقوم في يوم جمعة، يقول عليه الصلاة والسلام:«خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ؛ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ في يَوْمِ الْجُمُعَةِ» رواه مسلم
(2)
.
وفي الموطَّأ والسنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ. وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ. وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ. إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ»
(3)
.
فهذا بيانٌ من النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأحوال المتعلقة بهذا اليوم العظيم.
من مات قامت قيامته:
وجاء أيضًا البيان عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لكلٍّ ساعتَه وأنَّ من مات قامت قيامته، فإن من يموت تقوم ساعته، ويبدأ حسابه في قبره، -نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من عباده المتقين-ويسميها العلماء "القيامة الصغرى" كما سيأتي في الحديث عن البرزخ- وهي ما يقوم على كل إنسان في خاصته من خروج روحه وفراق أهله وانقطاع سعيه وحصوله على عمله. إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر.
(1)
صحيح مسلم (2954).
(2)
صحيح مسلم (854) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
(3)
الموطأ (364) سنن أبي داود (1046)، والنسائي (1430)، والترمذي (491) ولفظه:«خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنْهَا، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يُصَلِّي فَيَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» .
واستدلوا على أن من مات قامت قيامته الصغرى: بحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ الْأَعْرَابُ إِذَا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَنَظَرَ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ:«إِنْ يَعِشْ هَذَا، لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ، قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ»
(1)
.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وَالْمُرَادُ: انْخِرَامُ قَرْنِهِمْ، وَدُخُولُهُمْ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَقَدْ يَقُولُ هَذَا بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ، وَيُشِيرُونَ بِهِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَالْبَاطِلِ ا. هـ
(2)
وقال الشاعر:
خَرَجْتُ مِنَ الدُّنيا وقامَتْ قِيَامَتِي
…
غَداة أَقَلَّ الحَامِلُونَ جِنَازَتِي
وعجل أهلي حفر قبري وصيروا
…
خروجي وتعجيلي إليه كرامتي
كَأَنَّهُمُوا لم يَعْرِفوا قَطُّ صورتي
…
غَداةَ أَتَى يَوْمي عَليَّ وسَاعَتِي
(3)
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن الله تعالى ذكر في سورة الواقعة في أولها انقسام الناس في القيامة الكبرى إلى سابقين، وأصحاب يمين، ومكذبين؛ وذكر في آخرها انقسامهم عند الموت؛ فقال رحمه الله: وهو القيامة الصغرى؛ كما قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: «من مات فقد قامت قيامته»
(4)
وكذلك قال علقمة
(5)
، وسعيد بن جبير
(6)
عن ميت: «أمّا هذا
(1)
متفق عليه، رواه البخاري (6511) ومسلم (2952).
(2)
البداية والنهاية ط هجر (19/ 32)
(3)
العاقبة في ذكر الموت (254) لابن الخراط والتذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي (ص: 547).
(4)
رواه الدولابي في الكنى والأسماء (1627) والطبري في تفسيره ط هجر (23/ 468) عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَرْوَانَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رضي الله عنه، يَقُولُ:«يَقُولُونَ الْقِيَامَةَ الْقِيَامَةَ، وَإِنَّمَا قِيَامَةُ أَحَدِكُمْ مَوْتُهُ»
(5)
رواه الدولابي في الكنى والأسماء (1626) والطبري في تفسيره ط هجر (23/ 469) وفي تهذيب الآثار (797)، عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَرْوَانَ، قَالَ صَلَّى عَلْقَمَةُ عَلَى جِنَازَةٍ، فَقَالَ:«أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ» .
(6)
ذكره ابن عطية في تفسيره «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» (5/ 401)
فقد قامت قيامته»
(1)
؛ أي صار إلى الجنة أو النار. وإن كان بعد هذا تعاد الروح إلى البدن، وتقعد بقبره ا. هـ
(2)
وفي الحلية لأبي نعيم بسند حسن قال بِشْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَسَارٍ السُّلَمِيُّ: خَطَبَ عُمَرُ -يعني ابن عبد العزيز رحمه الله -، النَّاسَ فَقَالَ:«أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَبْعُدَنَّ عَلَيْكُمْ، وَلَا يَطُولَنَّ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَتْهُ مَنِيَّتُهُ فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ قِيَامَتُهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزِيدَ فِي حَسَنٍ، وَلَا يَعْتِبَ مِنْ سَيِّئٍ»
(3)
تقوم الساعة على شرار الخلق:
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الساعة حين تقوم، تقوم على شرار الخلق، كما في صحيح الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ النَّاسِ»
(4)
.
وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في حديث الدجال قال: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ في خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ»
(5)
يعني يكونون في سرعتهم إلى الشر وقضاء الشهوات كطيران الطير، وفي العدوان وظلم بعضهم بعضًا كأخلاق السباع العادية.
(1)
وقد روي مرفوعا من حديث أنس بن مالك رواه ابن لال في مكارم الأخلاق -كما في الغرائب الملتقطة من مسند الفردوس لابن حجر (480) بسنده عن عنبسة بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن زادان، عن أنس، مرفوعا:«إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته، فاعبدوا الله كأنكم ترونه واستغفروه كل ساعة» . وعنبسة وضاع، وشيخه متروك. وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (5462)(موضوع)
(2)
النبوات لابن تيمية (2/ 711)
(3)
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 325)
(4)
صحيح مسلم (2949). وعلقه البخاري في صحيحه (7067) بلفظ: «مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ» .
(5)
صحيح مسلم (2940).
وفي صحيح الإمام مسلم أيضا عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ، اللهُ»
(1)
وفي رواية لأحمد «
…
حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
(2)
وفي رواية لمسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللهُ، اللهُ»
(3)
وفي رواية لابن حبان «
…
عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
(4)
.
وهذا الحديث بمعنى الحديث السابق أن الساعة تقوم على شرار الخلق.
وفي صحيح البخاري عَنْ مِرْدَاسٍ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ، أَوِ التَّمْرِ، لَا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً»
(5)
قال الحافظ: قَالَ ابن بَطَّالٍ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَوْتَ الصَّالِحِينَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ خَشْيَةَ أَنْ يَصِيرَ مَنْ خَالَفَهُمْ مِمَّنْ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ انْقِرَاضُ أَهْلِ الْخَيْرِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا أَهْلُ الشَّرِّ ا. هـ
(6)
مناظرة عبد الله بن عمرو وعقبة بن عامر في هذا الحديث:
وقد جرت مناظرة بين عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وبين عقبة بن عامر رضي الله عنه في حديث:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ النَّاسِ» ، والتوفيق بينه وبين الحديث الوارد في الطائفة المنصورة. أخرجها الإمام مسلم في صحيحه
(7)
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيُّ،
(1)
المرجع السابق (148).
(2)
مسند أحمد (21/ 332) رقم (13833)
(3)
صحيح مسلم (148).
(4)
صحيح ابن حبان (6848)
(5)
صحيح البخاري (6434)
(6)
فتح الباري لابن حجر (11/ 252) وانظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 158)
(7)
وقد أشار إلى هذه المناظرة الحافظ في الفتح (13/ 77) وعزاها للحاكم، وفاته في هذا الموضع أنها في صحيح مسلم، لكنه ذكرها بعد ذلك في الفتح (13/ 294) وعزاها لمسلم.
قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ رضي الله عنه، وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، هُمْ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَدْعُونَ اللهَ بِشَيْءٍ إِلَّا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ» ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ مَسْلَمَةُ: يَا عُقْبَةُ، اسْمَعْ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللهِ، فَقَالَ عُقْبَةُ: هُوَ أَعْلَمُ، وَأَمَّا أَنَا فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه: أَجَلْ، «ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا كَرِيحِ الْمِسْكِ مَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ، فَلَا تَتْرُكُ نَفْسًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا قَبَضَتْهُ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ»
(1)
ذكر حديث الطائفة المنصورة وبيان عدم معارضته للحديث السابق:
قلت: وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه المذكور حديث متواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد رواه جماعة من الصحابة غير عقبة رضي الله عنه ومنهم:
(1)
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وحديثه رواه الشيخان في صحيحيهما عنه رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»
(2)
(2)
وروياه أيضا من حديث مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه أنه قال عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» ، وفي رواية:«مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(3)
ورواه مسلم أيضا من حديث: ثوبان وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.
(1)
صحيح مسلم (1924) ووهم الحاكم فاستدركه (8409) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2)
صحيح البخاري (3640، 7311، 7459) وصحيح مسلم (1921) واللفظ له.
(3)
صحيح البخاري (3116، 7460) وصحيح مسلم (1037)
(3)
فأما حديث ثوبان رضي الله عنه فلفظه: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»
(1)
(4)
وأما حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه فقوله: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا، يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»
(2)
(5)
وأما حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما فلفظه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(3)
(6)
وأما حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه فقوله: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ
(4)
ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»
(5)
وجاء الحديث في غير الصحيحين أيضا:
(7)
فرواه النسائي وأحمد عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، وَقَالُوا: لَا جِهَادَ قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ، وَقَالَ:«كَذَبُوا الْآنَ، الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، وَلَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَحَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَّثٍ، وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِي أَفْنَادًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ»
(6)
(8)
ورواه الترمذي وابن ماجه وأحمد عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ بن إياس عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أنه
(1)
صحيح مسلم (1920)
(2)
المرجع السابق (1922)
(3)
المرجع السابق (1923)
(4)
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4/ 446): قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: وَأَهْلُ الْغَرْبِ هُمْ أَهْلُ الشَّامِ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ فَمَا يَغْرُبُ عَنْهَا فَهُوَ غَرْبُهُ وَمَا يَشْرَقُ عَنْهَا فَهُوَ شَرْقُهُ
…
إلخ.
(5)
المرجع السابق (1925)
(6)
سنن النسائي (3561) ومسند أحمد (16965). وصححه الألباني في الصحيحة (1935).
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» .
(1)
.
(9)
ورواه ابن ماجه وأحمد بسند حسن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَوَّامَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا» هذا لفظ ابن ماجه؛ ولفظ أحمد: «لَا يَزَالُ لِهَذَا الْأَمْرِ -أَوْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ-عِصَابَةٌ عَلَى الْحَقِّ، وَلَا يَضُرُّهُمْ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ»
(2)
(10)
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ» رواه أبو داود وأحمد وله في رواية: «
…
حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَيَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ».
(3)
(11)
وعن أبي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيِّ رضي الله عنه وَكَانَ قَدْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ» رواه ابن ماجه وأحمد وصححه ابن حبان
(4)
.
(1)
سنن الترمذي ت شاكر (2192) وسنن ابن ماجه (6) ومسند أحمد (15596). وزاد الترمذي وأحمد في أوله: «إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ
…
». قال الترمذي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ -يعني البخاري-: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هُمْ أَصْحَابُ الحَدِيثِ ا. هـ وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ا. هـ وصححه الألباني في الصحيحة (403) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1).
(2)
سنن ابن ماجه (7) ومسند أحمد (8274). وحسنه الألباني في الصحيحة (1962).
(3)
سنن أبي داود (2484)، ومسند أحمد (19851، 19895، 19920). وصححه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2392، 8391) على شرط مسلم. ووافقه العلامة الألباني في الصحيحة (1959)، وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (4). قلت: الحديث من رواية حماد بن سلمة عن قتادة عن مطرف عن عمران رضي الله عنه. والحافظ في التهذيب يقول: قال الحاكم: لم يخرج مسلم لحماد بن سلمة فى الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وقد خرج له فى الشواهد عن طائفة ا. هـ وعلى هذا فلا يقال إنه على شرط مسلم وانظر: التعليق على حديث أبي هريرة رضي الله عنه في مبحث تتابع العلامات المتقدم
(4)
سنن ابن ماجه (8) ومسند أحمد (17787). وصحيح ابن حبان (326)، وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (2442).
قلت: وأحق الناس بوصف الطائفة المنصورة المذكورة في هذه الأحاديث هم أهل الحديث كما نص على هذا أئمة السلف
(1)
.
(1)
قال الإمام عبدُ الله بْنُ الْمُبَارَكِ: هُمْ عِنْدِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. [رواه أبو طاهر السِّلَفي في المشيخة البغدادية (ص: 23) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص: 26) عن أَبُي بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الطَّالْقَانِيُّ، أَوْ غَيْرُهُ، عن ابْنِ الْمُبَارَكِ به. وسنده صحيح لولا الشك عن الطالقاني]. وقال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. [رواه الحاكم في المعرفة - ومن طريقه العلائي في إثارة الفوائد (1/ 82) - وصحح إسناده الحافظ في الفتح. وأخرجه أيضا الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " (ص 25 و 27) من طريقين عن الإمام أحمد، وهو مشهور عن الإمام أحمد ذكره غير واحد من العلماء والشراح عنه]. وروي عن الحافظ الثقة -شيخ الإمام أحمد-؛ يزيد بن هارون الواسطي المخرج له في الكتب السنة: مثله. [رواه عنه -بسند ضعيف-، الرامهرمزي في المحدث الفاصل ت أبو زيد» (25)، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص: 26) وأبو القاسم قوام السنة في كتاب الحجة (1/ 263 عند الحديث رقم 99). وانظر فتح الباري (13/ 293)]، وقال إمام أهل عصره في الحديث والعلل علي ابن المديني -شيخ البخاري-: هم أصحاب الحديث ا. هـ[رواه الترمذي عن البخاري عنه. انظر: سنن الترمذي (4/ 485/ عقب حديث رقم 2192)]. وقال الإمام البخاري: في صحيحه (9/ 101)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ» يُقَاتِلُونَ: وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ]. وفي رواية عنه قال: هم أهل الحديث. [أسنده عنه قوام السنة في الحجة في بيان المحجة (1/ 263)] وفي رواية أخرى عنه: وعنه أيضا: أنهم المعنيون بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [كما في خلق أفعال العباد (ص 60)]؛ وقال الحافظ الثقة أحمد بن سنان الواسطي (ت: 259 هـ): هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَصْحَابُ الْآثَارِ ا. هـ[رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص: 27) وأبو القاسم في الحجة (1/ 263) بسند صحيح عنه]؛ وكل هذه التفاسير صحيحة فهي متفقة على أن المراد بهذه الطائفة: هم أهل العلم بالحديث والسنة. وهم كما قال ابن رجب: من حفظ الحديث وعلمه وعمل به، لا من اقتصر على طلبه" [فضائل الشام "مجموع رسائل ابن رجب (3/ 220)]. وقال الحافظ أبو عبد الله الحاكم: -لما نقل تفسير الإمام أحمد المتقدم-: (وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ: مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحَقِّ فَلَقَدْ أَحْسَنَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَنْصُورَةَ الَّتِي يُرْفَعُ الْخِذْلَانُ عَنْهُمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ هُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَمَنْ أَحَقُّ بِهَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ قَوْمٍ سَلَكُوا مَحَجَّةَ الصَّالِحِينَ، وَاتَّبَعُوا آثَارَ السَّلَفِ مِنَ الْمَاضِينَ وَدَمَغُوا أَهْلَ الْبِدَعِ وَالْمُخَالِفِينَ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِينَ مِنْ قَوْمٍ آثَرُوا قَطْعَ الْمَفَاوِزِ وَالْقِفَارِ عَلَى التَّنَعُّمِ فِي الدِّمَنِ وَالْأَوْطَارِ وَتَنَعَّمُوا بِالْبُؤْسِ فِي الْأَسْفَارِ، مَعَ مُسَاكَنَةِ الْعِلْمِ وَالْأَخْبَارِ، وَقَنَعُوا عِنْدَ جَمْعِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ بِوُجُودِ الْكِسَرِ وَالْأَطْمَارِ، قَدْ رَفَضُوا الْإِلْحَادَ الَّذِي تَتُوقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ الشَّهْوَانِيَّةُ، وَتَوَابِعُ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمَقَايِيسِ وَالْآرَاءِ وَالزَّيْغِ جَعَلُوا الْمَسَاجِدَ بُيُوتَهُمْ، وَأَسَاطِينَهَا تَكَّاهُمْ، وَبَوَارِيَها فُرُشَهُمْ
…
إلخ) [«معرفة علوم الحديث» (ص 2)].
وهذه الأحاديث لا تعارض ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ النَّاسِ» .
قال القاضي عياض رحمه الله: وقد قال الطبري رحمه الله: إنه لا تعارض بينهما؛ لأن المراد بهذا الخصوص ومعناه: لا تقوم الساعة على أحد يوحد الله إلا في موضع كذا، التي بها الطائفة المذكورة،
(1)
وقيل: بل هذا فى وقت دون وقت، وأن هذه الطائفة تبقى إلى حين قيام الساعة التي تقبض روح كل مؤمن، كما جاء في الحديث في الباب فى كتاب مسلم: «ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا
…
فَلَا تَتْرُكُ نَفْسًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ»، فقد فسر في الحديث نفسه القصة، وجمع الحديثين، وأن أولئك يموتون بين يديها، فلا تقوم حينئذ إلا على شرار الخلق، ومن لا يؤمن بالله ا. هـ
(2)
وهذا الأخير هو الذي ارتضاه الحافظ فقال: هَذَا أَوْلَى مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثين الْمَذْكُورين ا. هـ
(3)
ويتأكد هذا الجمع بما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح الإمام مسلم أيضا- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللاَّتُ وَالْعُزَّى» قالت: فقلتُ: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة] أن ذلك تامًّا قال: «إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ»
(4)
.
(1)
انظر: «تهذيب الآثار مسند عمر» للطبري (2/ 827 وما بعدها)
(2)
«إكمال المعلم بفوائد مسلم» (6/ 349) وانظر: «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» (3/ 764)، «فتح الباري لابن حجر» (13/ 77، 294)
(3)
فتح الباري (13/ 294)
(4)
صحيح مسلم (2907).
وفي الصحيحين
(1)
من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ، حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ» وَكَانَتْ صَنَمًا تَعْبُدُهَا دَوْسٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِتَبَالَةَ.
(2)
من أسماء يوم القيامة:
كَثُر في كتاب الله ذِكْرُ يوم القيامة بأسماء كثيرة. قال القرطبي رحمه الله: "كلُّ ما عَظُمَ شأنه تعدَّدت صفاته وكَثُرَت أسماؤه
…
فالقيامةُ لمَّا عَظُمَ أمرُها وكَثُرَت أهوالُها سمَّاها الله تعالى في كتابه بأسماء عديدة ووصفها بأوصاف كثيرة"
(3)
.
فمن ذلك أن هذا اليوم العظيم يوم القيامة هو:
1 -
يوم الانشقاق
2 -
ويوم الانفطار
3 -
ويوم التكوير
4 -
ويوم الانكدار
5 -
ويوم الانتثار
6 -
ويوم التسيير
7 -
ويوم التعطيل
8 -
ويوم التسجير
9 -
ويوم التفجير
10 -
ويوم الكشط
11 -
ويوم الطي
12 -
ويوم المد
(1)
صحيح البخاري (7116) وصحيح مسلم (2906).
(2)
ينظر: «أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين جمعا ودراسة» (ص 571) للدكتور سليمان الدبيخي.
(3)
التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، ط دار المنهاج (2/ 544).
وكل ذلك قد أخذه العلماء من الآيات الواردة في: سورة التكوير وفي سورة الانفطار وفي سورة الانشقاق. وقد جاء في سنن الإمام الترمذي رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ»
(1)
وقال الترمذي: "حديث حسن" وحسَّنه العلامة الألباني رحمه الله
(2)
فهذه السور الثلاث ذَكَرَ اللهُ عز وجل فيها أسماءً وأوصافًا كثيرة لهذا اليوم.
13 -
كذلك جاء في كتاب الله تسميةُ هذا اليوم بالساعة، فهو يوم الساعة الموعود أمرُها، ولِعِظَمِها أكثرَ الناسُ السؤالَ عنها كما في الآيات الكثيرة التي تقدَّم بعضُها ومنها: قوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]
يقول القرطبي رحمه الله: "الساعة: كلمةٌ يُعبَّر بها في العربية عن جزء من الزمان غيرِ محدودٍ، وفي العُرْف: على جزء من أربعة وعشرين جزءًا من يوم وليلة
…
قال: وسُمِّيَت به القيامة إما لقُرْبِها؛ فإنَّ كلَّ آتٍ قريبٌ، وإما أن تكون سُّمِّيَت بها تنبيهًا على ما فيها من الكائنات العظام
…
"
(3)
.
14 -
ويسمى هذا اليوم العظيم أيضًا بيوم القيامة: كما قال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة] واختُلِفَ في تسميتها بذلك على أربعة أقوال:
أحدها: لوجود هذه الأمور فيها.
والثاني: لقيام الخلق كلهم من قبورهم إليها قال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ
(1)
سنن الترمذي (3333).
(2)
سلسلة الأحاديث الصحيحة (1081).
(3)
التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، ط دار المنهاج (2/ 546).
سِرَاعًا} [المعارج: 43].
والثالث: قيام الناس لرب العالمين قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين]
والرابع: لقيام الروح والملائكة صفًّا قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]
15 -
كذلك هذا اليوم العظيم هو يوم النفخ في الصور، كما قال تعالى:{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: 73].
16 -
وهو يوم الزلزلة، قال تعالى:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)} [الحج]
17 -
ويوم الراجفة وهي النفخة الأولى كما قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)} [النازعات].
18 -
ومنها: تسميتُه بيوم الناقور كما قال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)} [المدثر]. يعني {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} فذلك يومئذ يوم شديد.
19 -
ومنها: القارعة، وسُمِّيت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها.
20 -
ومنها: يوم البعث، والبعثُ حقيقتُه: إثارة الشيء عن خفاء، فهو يوم البعث كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
21 -
ومنها: يوم النشور، وهو عبارة عن الإحياء، فهو يومٌ يُخرِج الله عز وجل فيه الناسَ من قبورهم. ولذلك سُمِّي أيضًا:
22 -
بيوم الخروج قال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا} [المعارج: 43]
23 -
وسُمِّي أيضًا بيوم الحشر، وهو اليوم الذي تُجمَع فيه الخلائق إلى الله سبحانه، وتُساق إلى الله -جل وعلا-.
24 -
وجاء في القرآن وَصْفُه بيوم العرض:
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ» فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} فَقَال: «إِنَّمَا ذَلِكِ العَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكْ»
(1)
. فسيُوقَفُ العبدُ بين يدي الله، وتُعرَض عليه أعمالُه عملًا عملًا، فيقال: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ نسأل الله -جل وعلا- أن يرحمنا. كما في الصحيحين عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ المَازِنِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي، مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما آخِذٌ بِيَدِهِ، إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود]»
(2)
25 -
ومنها: أنه يوم الجمع كما قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن: 9] وكما قال تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [النساء: 87].
26 -
ومنها: يوم التفرق، كما قال تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 16].
27 -
ومنها: يوم الفزع، وحقيقتُه فزع ضعف النفس عن حمل المعاني الطارئة؛ ففي هذا اليوم تفزع الخلائق، وتخاف، فهو يوم الفزع الأكبر.
28 -
ومنها: يوم التَّناد كما قال -جل وعلا-: {يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ
(1)
رواه البخاري (103)، ومسلم (2876).
(2)
رواه البخاري (2441)، ومسلم (2768).
اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} [غافر].
29 -
وهو يوم الدعاء أي: يوم النداء، يومٌ تحصل فيه نداءات عدة، فينادي الله أهل الجنة، وينادي أهلُ الجنة أهلَ النار، وينادي أهلُ النار أهلَ الجنة يستغيثون بهم، ويدعو الله عز وجل كلَّ أناسٍ بإمامهم يوم القيامة.
30 -
ومنها: أنه يوم الواقعة كما قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} [النمل].
31 -
وهو يوم الحساب والجزاء، فيعدِّدُ الله فيه على الخلائق أعمالهم من إحسان وإساءة.
32 -
وهو يوم السؤال كما قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر].
33 -
ومنها: أنه يوم الجدال قال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111].
34 -
ومنها: أنه يوم القصاص.
35 -
ويوم الحاقة.
36 -
ويوم الطامة، ومعناها: الغالبة.
37 -
ومنها: أنه يوم الصَّاخَّة أي: النفخة الأولى تكون فيه والثانية.
38 -
ومنها: يوم الوعيد.
39 -
ومنها: أنه يوم الدِّين أي: يوم الجزاء والحساب كما قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17].
40 -
ومنها: أنه يوم الندامة والحسرة قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39].
41 -
ومنها: وصفُه بأنه يوم الآزفة -سُمِّي بِذَلِكَ لِاقْتِرَابِهَ- قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} [غافر: 18]، أي يوم القيامة القريب، وقال تعالى:{أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)} [النجم].
42 -
ومنها: أنه يوم المآب.
43 -
ويوم المصير
44 -
ويوم القضاء والحكم والفصل
45 -
ويومٌ توزن فيه الأعمال.
46 -
ووصفه الله عز وجل بأنه عقيم: فقال سبحانه: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)} [الحج]
47 -
وأنه {يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)} [المدثر]
48 -
و {يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)} [هود]
49 -
وهو {يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] لأن الناس يتغابنون في المنازل عند الله، أهل الهدى تَغبن أهل الضلالة، فلا غَبْن أعظم منه، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير.
50 -
وجاء وصفه بأنه يوم عبوس قمطرير، والقمطرير هو الشديد، وقيل: الطويل. والعبوس: هو الذي يُعبَس فيه.
51 -
ومنها: أنه يومٌ تبلى فيه السرائر. {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} [الطارق]
52 -
ويومٌ {لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} [الانفطار]
53 -
ويومٌ {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)} [الطور: 13]، أي يسحبون إليها ويدفعون إليها دفعا، ويساقون إليها سوقا عنيفا، ويجرون على وجوههم كما قال -جل وعلا- عن الكفار {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48]
54 -
ومنها أنه يومٌ {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور].
55 -
ومنها أنه يومٌ {تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)} [إبراهيم] أي: لا يغمض فيه من هول ما ترى في ذلك اليوم.
56 -
ومنها: أنه يومٌ قال فيه ربنا تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات].
57 -
ومنها: أنه يومٌ لا ينفع فيه الظالمين معذرتُهم وتحسُّرُهم كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52]
58 -
ومنها: أنه يوم لا يُكْتَمُ فيه عن الله حديثٌ قال تعالى: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} [النساء]
59 -
ومنها: أنه {يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم: 43، الشورى: 47]
60 -
ومنها: أنه يومٌ تبيَضُّ فيه وجوهٌ، وتسوَدُّ فيه وجوهٌ، كما قال تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران].
فتبيَضُّ فيه وجوهُ أهل الحق والهدى، وتسوَدُّ فيه وجوهُ أهل الباطل والرَّدى
(1)
.
قال الإمام الطبري رحمه الله: وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميعَ أهل الآخرة فريقين: أحدهما سودًا وجوهه، والآخر بيضًا وجوهه. فمعلوم -إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان- أن جميع الكفار داخلون في فريق من سُوِّد وجهه، وأن جميع المؤمنين داخلون
(1)
وروي في الباب أحاديث وآثار -لا تصح -، ومنها أثر ابن عباس رضي الله عنهما المشهور أنه قَالَ:«تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلالَةِ» رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3950)، وإسناده ضعيف جدا. فانظر: -غير مأمور-، تكميل النفع بما لم يثبت به وقف ولا رفع (ص: 54) للمحدث محمد عمرو بن عبد اللطيف رحمه الله.
في فريق من بُيِّض وجهه ا. هـ
(1)
61 -
ومنها: أنه يوم الغاشية كما قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} [الغاشية] أي التي تغشى الناس بأفزاعها وتغمهم، وتغشى الكفار بالنار، وتحيط بهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
62 -
ومنها: يوم الخلود كما قال تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)} [ق] فهذا اليوم العظيم اشتهر بهذه الأسماء والأوصاف الكثيرة
(2)
.
وهذه الأسماء والأوصاف التي وردت في كتاب الله لو تأمَّلها الإنسان وتدبَّرها ووقف عند كلٍّ منها لعَرَفَ عظمةَ هذا اليوم العظيم.
نسأل الله -جل وعلا- أن يرحمنا برحمته، ونسأله سبحانه أن يُحيينا على الإسلام،
وأن يتوفَّانا على الإيمان، وأن يُدخِلَنا الجنة بسلام، وأن يُعِيذنا من النار؛
إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه، والله تعالى أعلم.
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/ 666)
(2)
انظر سرد أسماء وصفات يوم القيامة في التذكرة للقرطبي، ط دار المنهاج (2/ 546 - 579).
JIH
الإيمان
بأشراط الساعة
F e
المجلس الثاني والعشرون
(1)
أشراط الساعة:
مما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر -كما تقدم- الإيمانُ بأشراط الساعة؛ فإنها من مقدِّمات يوم القيامة. والحديثُ عن أشراط الساعة، حديث ترغب إليه النفوس، وتشتاق إليه؛ لأنه من علوم الغيب التي أخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم، والنفوسُ عادةً تتشوَّف إلى معرفة الغيب وما سيقع في المستقبل، وهذا الباب لا يخوضه الإنسان إلا عن طريق الوحي الذي جاءنا عن ربنا وبيَّنَه لنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم.
تعريف أشراط الساعة:
الأشراط جمع شَرَط بالتحريك وهو العلامة، ويقال: أشراط الشيء أوائله، ومنه: شُرَط السلطان وهم: نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم
(2)
.
فالشَّرَطُ هنا المقصود به العلامة؛ فأشراط الساعة هي علامات القيامة التي تسبقها وتدُلُّ على قُرْبها.
أشراط الساعة صغرى وكبرى:
وهذه العلامات قسَّمها العلماء رحمهم الله إلى أقسام:
• فمنهم من قسَّمها إلى علامات صغرى وعلامات كبرى.
• ومنهم من قسَّمها إلى علامات قد وقعت وانتهت، وعلامات وقعت وهي باقية، وعلامات تقع حينًا بعد حين، وعلامات لم تقع بعد.
• ومنهم من قسَّمها إلى علامات أرضية، وعلامات سماوية.
وكلُّ هذه التقسيمات هي من باب التقريب.
وأشهرُ ما اشتهر عند الناس تقسيمها إلى علامات صغرى وعلامات كبرى.
(1)
كان في يوم الأربعاء العشرون من شهر رمضان 1441 هـ.
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، (2/ 420).
ذكر العلامات الكبرى:
وذكر العلماء أن علامات الساعة الكبرى هي -في الأشهر-: ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم من حديثُ حذيفة الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ» فَذَكَرَ الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ. وجاء الحديث أيضًا بلفظ:«إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَكُونُ حَتَّى تَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَالدُّخَانُ، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الأَرْضِ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قُعْرَةِ عَدَنٍ تَرْحَلُ النَّاسَ» . وَالْعَاشِرَةُ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.
(1)
.
وكذلك جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوِ الدُّخَانَ أَوِ الدَّجَّالَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ»
(2)
. فهذان الحديثان أخذ منهما العلماءُ ما يتعلق بعلامات الساعة الكبرى.
تتابع العلامات الكبرى عند ظهورها:
وهذه العلامات إذا ظهرت تظهر متتابعة، وتكون الساعة على إثرها. كما في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا، طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا، فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا»
(3)
. وفي المسند عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْآيَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ فِي سِلْكٍ، فَإِنْ يُقْطَعِ السِّلْكُ يَتْبَعْ بَعْضُهَا بَعْضًا» وسنده ضعيف
(4)
وله شاهد عند الحاكم في المستدرك عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ
(1)
أخرجه مسلم (2901).
(2)
المرجع السابق (2947).
(3)
المرجع السابق (2941).
(4)
أخرجه أحمد (7040) وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْأَمَارَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ بِسِلْكٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ السِّلْكُ تَبِعَ بَعْضُهُ بَعْضًا»
(1)
وشاهد آخر عند ابن حبان والطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعا «خُرُوجُ الْآيَاتِ بَعْضِهَا عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ، يَتَتَابَعْنَ كَمَا تَتَتَابَعُ الْخَرَزُ فِي النِّظَامِ»
(2)
. يعني: كالعقد من الجوهر إذا خرج منه خرزةٌ تبعها الباقي. لكنه حديث معل
(3)
.
فحَمَل العلماءُ ما دلت عليه هذه الأحاديث على علامات الساعة الكبرى التي يتبع بعضُها بعضًا. فهذه هي العلامات الكبرى.
ذكر العلامات الصغرى:
أمَّا العلاماتُ الصغرى فهي علامات كثيرة جاءت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك (8639) وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ا. هـ وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (4/ 361): وافقه الذهبي، وهو كما قالا ا. هـ قلت: الصواب أنه ليس على شرط مسلم، فقد رواه الحاكم من طريق مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ. وهو وإن كان رجاله رجال مسلم، إلا أن فيه علة وهي أنَّ حميداً مدلس وقد عنعن وقد احتمل بعض أهل العلم عنعنته كما قال العلائي لأنه يروي عن ثابت عن أنس ما لم يسمعه منه. والصحيح أنه يتوقف فيما رواه معنعنا فإن الواسطة بينه وبين أنس ليس هو ثابتاً البناني فحسب، بل قد تكون الواسطة قتادة، وهو مدلس أيضًا، وقد يكون غيره، كما في مقدمة "الفتح" (ص 399) قال الحافظ:(كان يدلس حديث أنس، وكان سمع أكثره من ثابت وغيره من أصحابه عنه) ا. هـ. ولذا فإن البخاري لم يخرج لحميد في صحيحه إلا بما صرح فيه بالسماع، كما في الفتح (10/ 490). فالإسناد ضعيف، لكن يشهد له حديث عبد الله بن عمرو السابق. ثم إن رواية حماد عن حميد ليست على شرط مسلم. وقد نقل الحافظ في التهذيب عن الحاكم نفسه أنه قال: لم يخرج مسلم لحماد بن سلمة في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وقد خرج له في الشواهد عن طائفة ا. هـ قلت: ويستثنى من ذلك حديث أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَعَرَّسَ بِلَيْلٍ، اضْطَجَعَ عَلَى يَمِينِهِ، وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ نَصَبَ ذِرَاعَهُ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ» فقد رواه مسلم (683) في الأصول من طريق حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ به.
(2)
أخرجه ابن حبان (6833) والطبراني في الأوسط (4271).
(3)
قال الدارقطني في العلل (10/ 37) رقم (1838) يَرْوِيهِ هِشَامُ بْنُ حسان، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَنْهُ، فَرَوَاهُ أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَوَهِمَ فِيهِ وَإِنَّمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ. ا. هـ قلت: رواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 507) رقم (37610) قال: حدثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ:«مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْآيَاتِ وَآخِرِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ تَتَابَعُ كَمَا تَتَابَعُ الْخَرَزُ فِي النِّظَامِ»
وقبل أن نشير إلى بعض هذه العلامات نريد أن نتكلم عن مسألتين مُهِمَّتَين:
أهمية الإيمان بأشراط الساعة:
المسألة الأولى: ما يتعلق بأهمية الإيمان بأشراط الساعة. يقول الله -جل وعلا-: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] والمعنى كما يقول المفسرون: "جاء هؤلاء الكافرين بالله الساعةُ وأدِلَّتُها ومقدِّماتُها"
(1)
.
فالإيمان بأشراط الساعة هو من الإيمان باليوم الآخر الذي هو أصلٌ من أصول الإيمان، وركنٌ من أركان الإيمان، فلا يكون المؤمنُ مؤمنًا باليوم الآخر حقًّا حتى يؤمن بما جاءنا في ديننا وبما صحَّ من هذه الأخبار؛ فإنَّ هذا يُثبِّتُ الإنسانَ ويزيدُه إيمانًا وحرصًا. والإيمان بأشراط الساعة يتعلق بالإيمان باليوم الآخر؛ لأنَّ هذه الأشراط هي مقدِّمات وعلامات لذلك اليوم.
والحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها:
تنبيهُ الناس عن رقدتهم، وحَثُّهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة؛ كي لا يباغتوا بالحَوْل بينهم وبين تدارك ما فرطوا فيه. فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم، وانفطموا عن الدنيا، واستعدوا للساعة الموعود بها،
وتلك الأشراطُ علامةٌ لانتهاء الدنيا وانقضائها
(2)
.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والحكمةُ في تقديم الأشراط إيقاظُ الغافلين وحثُّهم على التوبة والاستعداد"
(3)
. وبهذا يتبين لنا ما يتعلق بأهمية الإيمان بأشراط الساعة.
من ثمرات الإيمان بأشراط الساعة:
1 -
أنَّ فيه تحقيقًا للإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تصديق بالله وتصديق برسوله صلى الله عليه وسلم.
2 -
وفيه تحقيقٌ للإيمان باليوم الآخر،
3 -
وهو أيضًا من الإيمان بالغيب الذي وصف الله عز وجل عباده المؤمنين بأنهم يؤمنون
(1)
ينظر: تفسير الطبري (21/ 206).
(2)
ينظر: التذكرة للقرطبي (ص 1217).
(3)
فتح الباري (11/ 350).
به وبالآخرة هم يوقنون.
4 -
وفيه أيضًا علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فنحن إذا رأينا هذه العلامات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم وتحقَّقَ كثير منها فإنَّ ذلك يكون دليلًا لنا على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم.
5 -
وفيه أيضًا تثبيتٌ للمؤمنين وزيادةٌ ليقينهم وإيمانهم.
وتأمَّلُوا قول الحق: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} [الأحزاب].
فإنه لما رأى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مَقْدَمَ الأحزاب وقتالهم للمسلمين تذكروا ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الوعد بالنصر عقب الابتلاء، كما في قول الله:{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} وهذا هو الابتلاء.
ثم جاء الوعد بعده بالنصر {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]
فزادهم ذلك إيمانًا وثباتًا وطمأنينةً.
قال ابن كثير رحمه الله: أَيْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ الَّذِي يَعْقُبُهُ النَّصْرُ الْقَرِيبُ ا. هـ
(1)
يقول العلامة التويجري رحمه الله: "وظهورُ المعجزات بعد زمان النبوة، ولا سيَّما في هذه الأزمان البعيدة من زمنه صلى الله عليه وسلم، مما يزيد المؤمنين إيمانًا به، وتصديقًا بما أخبر به من الغيوب الماضية والغيوب الآتية مما لم يقع بعد"
(2)
.
6 -
كذلك من أعظم الثمرات للإيمان بهذه العلامات: المسارعةُ إلى التوبة والإنابة إلى الله.
وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك -كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم- فقال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوِ الدُّخَانَ أَوِ الدَّجَّالَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ»
(3)
.
فتأمَّلُوا قوله صلى الله عليه وسلم: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ»
(1)
تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 392)
(2)
إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة (1/ 7).
(3)
أخرجه مسلم (2947).
أي: اجتهدوا في الأعمال الصالحة قبل ظهور ست علامات، فذكرها، وقوله صلى الله عليه وسلم:«خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ» يعني: حادثة الموت التي تخص كلَّ إنسان يعني قبل أن يأتيك الموت. وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأَمْرَ الْعَامَّةِ» أراد بالعامة أي: قيام الساعة. فبادر قبل أن تموت، وبادر قبل أن تقوم الساعة، وبادروا قبل طلوع الشمس من مغربها.
وبادروا بالأعمال الصالحة والزموها وقت الفتن؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول أيضًا: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ
(1)
كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»
(2)
.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعها وحصولها، وذلك من أمارات الساعة وعلاماتها. فالعبادة في زمن الفتن من الأمور التي تقي الإنسان من الوقوع في الردى، وتقيه من الانخراط مع أصحاب الفتن. والله -جل وعلا- يقول:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] فأعظمُ ما يُستعان به في هذه الأزمان المتأخرة على الفتن طاعةُ الله -جل وعلا-.
ومن ثمرات الإيمان بأشراط الساعة: الاصطبارُ على العلم والتعلم؛ فإن تعلم أشراط الساعة أمرٌ مقصود شرعًا؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدِّثُ الناس بأشراط الساعة ويخبرهم بما سيقع، ويحثُّهم على معرفة ذلك، فكان يحدِّثُهم عن الدجال، ويخبِرُهم بأمره وبعلاماته، ويُعرِّفُهم بشأنه، ويقول لهم:«مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالاً يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا»
(3)
، هكذا كان يُرغِّب ويَحُثُّ صلى الله عليه وسلم الناسَ على ذلك.
ولهذا فإن من واجب العلماء أن يُعلِّموا الناس هذا العلم، ويعرفُوهم به، ويخبروهم بما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأن يحثُّوهم على الثبات على العلم؛ فإنَّ العلم والإيمان يعصمان الإنسان من الوقوع في الفتن.
وقد كان من أعظم المثبتات للصحابة في زمن الفتنة، حين خرج الخوارج ما أخبرهم به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من علاماتهم: فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى
(1)
الهرج: الفتن.
(2)
تقدم في المجلس الأول.
(3)
أخرجه مسلم (2937) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.
صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، ثم أخبرهم صلى الله عليه وسلم بعلامة فيهم فقال «وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ، وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ، عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ» ، فحدَّث بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه الناس فلمَّا قُتِلَ من قُتِلَ من الخوارج وانتصر عليهم الصحابة، قَالَ لهم عَلِيٌّ رضي الله عنه: الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: أَخِّرُوهُمْ، فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللهُ، وَبَلَّغَ رَسُولُهُ
(1)
.
وحدث أبو سعيد الخدري بمثل ما حدث به علي رضي الله عنهما وكان يقول: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَهُ.
(2)
فكان هذا تثبيتًا للمؤمنين على الحق زمن تلك الفتنة.
وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدِّثُهم به، ويسألونه، ويستفسرون.
وتأملوا في قول النبي عليه الصلاة والسلام لما أخبرهم عن أيام الدجال وأنها ستكون أربعين يومًا قال لهم: «يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» قالوا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي هو كسنة أَيَكْفِينا فيه صلاةُ يوم؟ فقال: «لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ»
(3)
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّم الناس ويحُثُّهم ويُبيِّنُ لهم.
7 -
وكذا القراءة في أشراط الساعة وتعلُّمها فيه بشارةٌ لكل مؤمن:
فحينما تقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»
(4)
تزداد ثباتا ويقينا وطمأنينة بأن الحق باق
(1)
رواه مسلم في صحيحه (1066).
(2)
رواه البخاري (3610) ومسلم (1064/ 148).
(3)
أخرجه مسلم (2937)، وأبو داود (4321)، والترمذي (2240)، وابن ماجه (4075) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.
(4)
تقدم تخريجه.
ومنصور إلى قيام الساعة.
وكذلك حين تقرأ ما وعد الله عز وجل به المؤمنين إذا لقوا عيسى بن مريم عليهما السلام، وما سيكون لهم من الخير بانتشار الإسلام وكسر الصليب وقتل الخنزير. فقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم عن زمان نزول عيسى عليها السلام؛ - فقال:«لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ: رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ -وهي الثياب المصبوغة بالصفرة-، كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ وَيُهْلِكُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، [ثُمَّ تَقَعُ الْأَمَنَةُ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْأُسُودُ مَعَ الْإِبِلِ، وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ، لَا تَضُرُّهُمْ] فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ»
(1)
، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» وفي رواية لمسلم: «
…
وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ»
(2)
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: «إِنِّي لَأَرْجُو إِنْ طَالَتْ بِي حَيَاةٌ أَنْ أُدْرِكَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنْ عَجِلَ بِي مَوْتٌ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ فَلْيُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ»
(3)
وتطمئن نفسك وتفرح حين تقرأ أنه لن يبقى في الأرض مكان إلا ويدخله الإسلام
(1)
أخرجه أبو داود (4324) وأحمد (15/ 153/ 9270) وابن حبان (6814) -والزيادة لهما- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2182).
(2)
أخرجه البخاري (2222، 2476، 3448) ومسلم (155)
(3)
أخرجه الإمام أحمد (13/ 350/ رقم 7971) وغيره موقوفا ومرفوعا، والموقوف هو الصواب. كما نبه على هذا الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (5564). وللمرفوع شاهد في المستدرك (8635) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَلْيُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ» وجود إسناده الشيخ العلامة الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2308) والصواب أنه حديث ضعيف وانظر: تحقيق المستدرك لشيخنا العلامة مقبل الوادعي رحمه الله.
بعِزِّ عزيزٍ أو بِذُلِّ ذليلٍ، كما في المسند عن تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ» وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، يَقُولُ:«قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ»
(1)
وفي المسند أيضا عن الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ، وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ، إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا»
(2)
فهذا كلَّه يزيد المؤمن إيمانًا وثباتا وطمأنينة.
الإيمان بأشراط الساعة من الإيمان بالغيب:
والإيمان بأشراط الساعة هو من الإيمان بالغيب وقد نبَّه العلماءُ في هذا الباب:
على جملة من القواعد والضوابط التي ينبغي على المسلمين أن يتنبهوا لها؛ لأن الخوض في أشراط الساعة بغير علم يؤدي بالناس إلى فتنة عظيمة.
ضوابط وقواعد في باب أشراط الساعة:
من هذه القواعد التي نبَّه عليها العلماء -وممن جمعها وتكلم عليها الشيخ الدكتور محمد بن غيث حفظه الله- في كتابه "أحاديثُ أشراط الساعة وفقهُها". فمنها:
1 -
أن هذا الباب بابٌ غيبيٌّ توقيفي:
(1)
رواه أحمد (16957)، والحاكم (8326)، وصححه على شرط الشيخين وتعقبه شيخنا الوادعي فقال: سليم بن عامر لم يخرج له البخاري في الصحيح وكذا صفوان بن عمرو ا. هـ وقال العلامة الألباني في تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (ص 158): إنما هو على شرط مسلم فقط ا. هـ وهو ينطبق على سند الإمام أحمد وانظر "السلسلة الصحيحة"(1/ 32).
(2)
رواه أحمد (23814)، وابن حبان (6699، 6701) والحاكم (8324)، وصححه على شرط الشيخين وتعقبه شيخنا الوادعي فقال: سليم بن عامر لم يرو له البخاري في الصحيح ومحمد بن شعيب بن شابور لم يخرجا له ا. هـ وقال العلامة الألباني في تحذير الساجد (ص 159): إنما هو على شرط مسلم فقط ا. هـ وهو ينطبق على سند الإمام أحمد. وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (336).
فيجب الاقتصار فيه على النصوص الشرعية في الاستدلال، فلا ينبغي أن يقال:"هذا من أشراط الساعة أو هذا من علاماتها" بغير دليل شرعي، بل يجب على المسلم الرجوعُ في ذلك إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدَّث به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصحَّ عنه حدَّثْنا به وعرفنا وعلى هذا فيجب التحقق من ثبوت النص الشرعي. وقد انتشر بين الناس أحاديثُ كثيرةٌ في أخبار الغيب وعلامات الساعة، فيجب على المسلم أن يجتنب الأحاديث الموضوعة والأحاديث المكذوبة والأحاديث الضعيفة، ولا يستدل إلا بما صحَّ وثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
كذلك يجب علينا أن نتحقق من معنى النصوص الشرعية:
فإذا تأكَّدْنا من أن هذا الحديث صحيحٌ وثابتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب أن نتأكد أيضًا من فقهه وكيف فسَّره العلماء. فمن أين نستقي فقه هذه الأحاديث؟ من كلام السلف، فنرجع إليهم وإلى كلامهم، ونستضيء به ونعرف ما المقصود بهذا الحديث؛ حتى لا يأتي إنسان مثلًا فيفسر لنا بعض آيات القرآن أو يفسر لنا بعض أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام بأشياء من عنده ومن مخيلته حتى إن بعض هؤلاء قد خرجوا بكلام الله وبكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن دلالته الشرعية.
3 -
أن يكون تنزيلُ النصِّ على الواقعة عاريًا من التكلف:
إذ مما كَثُرَ في هذا الزمان أنه كلما حدثت فتنةٌ بَرَزَ لنا أناسٌ وقالوا: هذه أخبر عنها الله -جل وعلا- في قوله تعالى كذا أو جاء الخبر عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بكذا، فتجده يتكلَّفُ جدًّا في حمل النصوص وليِّ النصوص لينزلها على أمور الواقع، ظنًّا منه أنه بذلك يكون داعيًا إلى الله أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الخطأ؛ ولهذا فإن الواجب في هذا الباب أن يُرجَع فيه إلى أهل العلم، ولا يحق لأحد أن يتكلم بلا علم ولا بينة وأن يفسر الحوادث بتكلُّفٍ كما في حادثة كورونا وغيرها مثلًا، فلا يحق لأحد أن يقول هذه أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ويُنزِّلَ عليها بعض الأحاديث بلا علم وبلا بيِّنة وبلا بصيرة.
4 -
مراعاةُ ألفاظ الشريعة ودلالاتها: وهذا يتعلق بالمعاني أيضًا، فمثلا ورد في
الأحاديث النبوية وصْفُ الدجال بأنه المسيح وورد أيضًا وصْفُ عيسى بن مريم بأنه المسيح، فيأتي بعض الناس فيقول: لا، لا بُدَّ أن نفرِّق، فنقول: المسيخ بالخاء للدجال، والمسيح لعيسى بن مريم عليهما السلام! فنقول لهذا وأمثاله: هل جاء النص بذلك؟ ولهذا ينبغي أن يُراعى في ذلك الألفاظ الشرعية ولا يتعدى عليها.
5 -
أنه ليس كلُّ ما قيل عنه أنه من أشراط الساعة فهو من الأمور المحرمة:
لأن بعض الناس يفهم أنه إذا قيل هذا من أشراط الساعة أن هذا حرام،
والجواب أنَّ الأمر ليس كذلك،؛ لأن هناك بعض الأمور يكون ظهورها من أشراط الساعة، ولا علاقة لها بالتحريم: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ»
(1)
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بعثته من أشراط الساعة. وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة وأماراتها التطاول في البنيان وأن يأتي -العالة رعاة الشاة-يتطاولون في البنيان
(2)
يعني أنهم يبنون بنيانًا فاخرًا وغير ذلك بعد أن كانوا فقراء، فكون ذلك علامة لا يقتضي أنه محرَّم، ولكنه أمر مباح سيتوسع الناس فيه، وسيظهر في آخر الزمان. فيعلم بهذا أن من أشراط الساعة ما هو محرَّم، ومنها ما هو مكروه. ومنها ما هو مباح وكل يرجع فيه إلى العلماء وتفسيراتهم.
6 -
كذلك ينبغي أن يُراعى في ذلك الزمانُ أو النسبةُ الزمنية عند كلام النبي صلى الله عليه وسلم فالله عز وجل قد أخبرنا بأن الساعة قريب، وبأن هناك من أشرط الساعة ما وقع، وبأن الساعة تكاد تكون قريبًا، لكن تفسير هذا القرب ليس إلينا، فهو قريب بالنسبة لشيء آخر. فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرنا أن الساعة قريب يعني بالنسبة إلى عمر الدنيا منذ أن كانت الدنيا وإلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فما سيكون بعد ذلك أقل بكثير مما تقدم. فمثلًا قول النبي عليه الصلاة والسلام:«بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» فيه دلالة على أن بعثته من علامات الساعة وأنها قريبة من قيام الساعة مع أنَّ بيننا وبين النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من أربعة
(1)
تقدم في المجلس الحادي والعشرين.
(2)
وهو حديث جبريل المشهور، وقد تقدم في المجلس الخامس.
عشر قرنًا أو خمسة عشر قرنًا! لكن هذه القرون المتطاولة هي قليلة جدًّا بالنسبة إلى ما تقدَّمها من الأمم السابقة؛ وبهذا تُفهَم النصوص الشرعية ولا يعتدى عليها وعلى تفسيرها. فهذه بعض الأمور والتنبيهات التي نبَّه عليها العلماء.
من أشراط الساعة الصغرى:
أما ما يتعلق بأشراط الساعة التي ذكرناها فمن أشراط الساعة العلامات الصغرى، فنورد رؤوس أقلام في هذا الباب من الأمور التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك:
بعثته صلى الله عليه وسلم
-:
بعثته صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة كما تقدم معنا في قوله صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» وضَمَّ السبابة والوسطى
(1)
.
موته صلى الله عليه وسلم
-:
كذلك من أشراط الساعة موتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في الحديث: «اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ،
…
، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ المَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا
…
» الحديث
(2)
فذكر أن موته صلى الله عليه وسلم يعتبر من أشراط الساعة،
وهو من أعظم المصائب التي وقعت على المسلمين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ، فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»
(3)
(1)
تقدم في المجلس الحادي والعشرين.
(2)
أخرجه البخاري (3176) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.
(3)
حديث صحيح بشواهده، رواه الدارمي (86) وابن سعد في الطبقات الكبرى ط دار صادر (2/ 275) بسند صحيح عن عطاء مرسلا، ورواه الدارمي (85) بسند صحيح عن مكحول مرسلا، ورواه عبد الرزاق في مصنفه (6700) بسند صحيح عن عبد الرحمن بن سابط مرسلا، ووصله ابن بي خيثمة في أخبار المكيين من تاريخه (260) والطبراني في المعجم الكبير (7/ 167) رقم (6718) عن عبد الرحمن بن سابط عن أبيه، وسنده ضعيف. وروي من حديث ابن عباس -عند البيهقي في شعب الإيمان (9677) -، ومن حديث بريدة -رواه ابن السني (582) ومن حديث عائشة رواه ابن ماجه (1599) وأسانيدها ضعيفة. فالحديث بمجموعها حسن. انظر: السلسلة الصحيحة (1106)
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: «لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ» ، ثم قَالَ:«مَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَيْدِي حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا»
(1)
.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا عَدَا وَارَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التُّرَابِ، فَأَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. رواه البزار وجود إسناده الحافظ.
(2)
وَمما قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه في رثاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلَّتْ
…
عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ قُبِضَ الرَّسُولُ
وَأَضْحَتْ أَرْضُنَا مِمَّا عَرَاهَا
…
تَكَادُ بِنَا جَوَانِبُهَا تَمِيلُ
(3)
فتح بيت المقدس:
كذلك من أشراط الساعة فتحُ بيت المقدس -كما تقدم في الحديث.
وقد وقع ذلك في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة خمسة عشر
(4)
. -نسأل الله -جل وعلا-: أن يكرم المسلمين بالعودة إلى دينهم واسترجاع مقدساتهم، وأن يخلِّص المسجد الأقصى من يد العابثين.
استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة:
كذلك مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم أنه من أشراط الساعة «اسْتِفَاضَةُ المَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا
…
» وهذا الفيض تحقق في زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ثُمَّ اسْتَفَاضَ الْمَالُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ حَتَّى كَانَ أَحَدُهُمْ يُعْطَى مِائَةَ دِينَارٍ فَيَسْخَطُهَا، وَكَثُرَ الْمَالُ حَتَّى كَانَتِ الْفَرَسُ تُشْتَرَى بِوَزْنِهَا ا. هـ
(5)
وروى يعقوب بن سفيان -ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة-:
(1)
أخرجه أحمد (13830)، والترمذي (3618)، وابن ماجه (1631).
(2)
كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 403) و «فتح الباري لابن حجر» (8/ 149)
(3)
انظر: كتاب «الزهرة» لأبي بكر الأصبهاني (ص 151) والاستيعاب لابن عبد البر (4/ 1676)
(4)
انظر: البداية والنهاية ط هجر (9/ 655).
(5)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (6/ 86) وانظر: فتح الباري (6/ 278)
عَنْ عُمَرَ بْنِ أُسيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ:«إِنَّمَا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَنَتَيْنِ وَنِصْفًا، ثَلَاثِينَ شَهْرًا، لَا وَاللهِ مَا مَاتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِينَا بِالْمَالِ الْعَظِيمِ، فَيَقُولُونَ: اجْعَلُوا هَذَا حَيْثُ تَرَوْنَ فِي الْفُقَرَاءِ، فَمَا يَبْرَحُ حَتَّى يَرْجِعَ بِمَالِهِ يَتَذَكَّرُ مَنْ يَضَعُهُ فِيهِمْ فَلَا يَجِدُهُ فَيَرْجِعُ بِمَالِهِ، قَدْ أَغْنَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّاسَ»
(1)
. قال البيهقي: وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ تَصْدِيقُ مَا رُوِّينَا فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: «وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَى الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءُ كَفِّهِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً يَلْتَمِسُ مَنْ يَقْبَلَهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ»
(2)
ا. هـ
(3)
ونقل الحافظ في الفتح كلام البيهقي ورجحه
(4)
.
وأما ما ورد في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ، فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لَا أَرَبَ لِي»
(5)
. فقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: «هذا مما لم يقع»
(6)
. ويحمل حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم وما ورد في معناه من الأحاديث
(7)
، بأن ذلك يكون في زمن كثرة المال وفيضه قرب قيام الساعة
(8)
. ومن ذلك ما يكون عند نزول عيسى بن مريم عليها السلام كما سيأتي.
(1)
المعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 599) - (وتحرف عنده أسيد إلى أسيل) -، ودلائل النبوة للبيهقي (6/ 493) ولم أقف على ترجمة عمر بن أسيد، والأثر جود إسناده الحافظ في الفتح (13/ 83).
(2)
أخرجه البخاري (1413، 3595)
(3)
دلائل النبوة للبيهقي (6/ 493).
(4)
فتح الباري (6/ 613)
(5)
أخرجه البخاري (1412)، ومسلم (157) واللفظ له. س
(6)
«التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة» (ص 1227)
(7)
انظر: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في صحيح البخاري (1314) ومسلم (1012)، وحديث حارثة بن وهب رضي الله عنه في البخاري (1311) وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم (1012)
(8)
انظر: فتح الباري (3/ 282)
وقال الحافظ في الفتح: قَوْلُهُ: «وحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ
…
»
التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ «فِيكُمُ» يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَنِ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ مِنَ الْفُتُوحِ وَاقْتِسَامِهِمْ أَمْوَالَ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ «فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ
…
» إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
…
وَيَكُونُ قَوْلُهُ: «
…
وَحَتَّى يَعْرِضَهُ، فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لَا أَرَبَ لِي به» إِشَارَةً إِلَى مَا سَيَقَعُ فِي زمن عِيسَى بن مَرْيَمَ فَيَكُونُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
الْأُولَى إِلَى كَثْرَةِ الْمَالِ فَقَطْ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ فِيهِ «يَكْثُرَ فِيكُمُ»
…
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ الْإِشَارَةُ إِلَى فَيْضِهِ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ أَنْ يَحْصُلَ اسْتِغْنَاءُ كُلِّ أَحَدٍ عَنْ أَخْذِ مَالِ غَيْرِهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَأَوَّلِ عَصْرِ مَنْ بَعْدَهُمْ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: «يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ
…
» وَذَلِكَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى فَيْضِهِ وَحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ لِكُلِّ أَحَدٍ حَتَّى يَهْتَمَّ صَاحِبُ الْمَالِ بِكَوْنِهِ لَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ وَيَزْدَادُ بِأَنَّهُ يَعْرِضُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ فَيَأْبَى أَخْذَهُ فَيَقُولُ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ وَهَذَا فِي زَمَنِ عِيسَى عليه السلام وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَخِيرُ [عند] خُرُوجِ النَّارِ وَاشْتِغَالَ النَّاسِ بِأَمْرِ الْحَشْرِ فَلَا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ حِينَئِذٍ إِلَى الْمَالِ بَلْ يَقْصِدُ أَنْ يَتَخَفَّفَ مَا اسْتَطَاعَ ا. هـ
(1)
وهذا الاحتمال الأخير قال عنه الحافظ قبل ذلك: وَهَذَا أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَات وَهُوَ الْمُنَاسب لِصَنِيعِ الْبُخَارِيِّ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ا. هـ
(2)
الفتن بين يدي الساعة:
كذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم حيث قال صلى الله عليه وسلم:
«بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا، أَوْ
(1)
فتح الباري لابن حجر (13/ 87 - 88)
(2)
المرجع السابق (13/ 82)
يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»
(1)
.
(2)
ففي هذا الحديث جملة من الأشراط ومنها الكبرى.
افتراق الأمة
ومن الفتن العظيمة التي أخبر عنها نبينا صلى الله عليه وسلم افتراق هذه الأمة وورد في ذلك أحاديث منها:
(1)
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان والحاكم
(3)
(1)
أخرجه مسلم (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (7121) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود (4596) واللفظ له، والترمذي (2640) وابن ماجه (3991)، وأحمد (8396) وابن حبان (6247، 6731)، والحاكم (10، 441) وصححه على شرط مسلم!، وليس كذلك فإن مسلما لم يحتج بمحمد بن عمرو. وحسنه الألباني في الصحيحة (203) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح (153)
(2)
حديث مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِينَا فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ: ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم
(1)
(3)
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ:«الْجَمَاعَةُ» رواه ابن ماجه
(2)
.
(4)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلاَّ وَاحِدَةً وَهِيَ: الْجَمَاعَةُ» رواه ابن ماجه وأحمد
(3)
.
(5)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بني إسرائيل حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بني إسرائيل تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» ، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» رواه الترمذي والحاكم
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود (4597) وأحمد (16937) والدارمي (2560) والحاكم (443). وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (204).
(2)
أخرجه ابن ماجه (3992). وجود إسناده العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (1492)
(3)
أخرجه ابن ماجه (3993) وأحمد (12479). وانظر تخريجه في السلسلة الصحيحة تحت الحديث (204).
(4)
أخرجه الترمذي (2644) والحاكم (444) بسند ضعيف ففي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف. والحديث حسن لغيره له شواهد، فالجملة الأولى لها شاهد من حديث ابن عباس وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1348) وحسن إسناده الألباني -وسيأتي (ص 54) -. وجملة الافتراق صحيحة لها شواهد كثيرة وتقدم شيء منها. وزيادة «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». لها شواهد باللفظ والمعنى. ومنها: حديث أنس رضي الله عنه، رواه الطبراني في معجميه: الصغير (724) والأوسط (4886، 7840) -ومن طريقه الجورقاني في الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير (283)، والضياء المقدسي في المختارة رقم (2733) -؛ وبحشل في تاريخ واسط (ص 196) -وعنه العقيلي في الضعفاء-، من طريق عبد الله بن سفيان الواسطي، قال: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا فِرْقَةً وَاحِدَةً» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ:«مَا كَانَ عَلَى مَا أَنَا عليه اليوم وأصحابي» . وفي إسناده: عبد الله بن سفيان قال العقيلي: لا يتابع على حديثه
…
لَيس لَه مِنْ حَديث يَحيَى بن سَعيد أَصل، وإِنما يُعرَف هَذا الحَديث مِنْ حَديث الإِفريقيِّ ا. هـ وهذه الزيادة هي بمعنى الرواية الأخرى «هِيَ الْجَمَاعَةُ» فالجماعة هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ولذا قال الجورقاني: هَذَا حَدِيثٌ عَزِيزٌ حَسَنٌ مَشْهُورٌ، وَرُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ أَثْبَاتٌ كَأَنَّهُمْ بُدُورٌ وَأَقْمَارٌ. ثم ذكر ما يشهد للزيادة بالمعنى فقال: وَقَدْ رُوِيَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«تَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» قال: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ:«وَهُوَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ»
…
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعَوْفِ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، وَعَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ، كُلُّهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا:«فِيهِ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» ا. هـ قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 129): مفسرا «الْجَمَاعَةُ» أي: الصحابة كما في بعض الروايات، وفي أخرى:«هِيَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . رواه الترمذي وغيره. وهو مخرج في المجلد الأول من "الصحيحة"ا. هـ
قال شيخ الإسلام رحمه الله: من قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة ا. هـ
(1)
وقد تقدم معنا ذكر أحاديث الفرقة الناجية والطائفة المنصورة
(2)
، وهي الفرقة الباقية على الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، فالواجب على المسلم أن يستمسك بالكتاب والسنة وأن يلزم غرز السلف من الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
قال العلامة الألباني رحمه الله: وإنّ مما يجب أنْ يعلم أن التمسك بما كانوا عليه -أي السلف- هو الضمان الوحيد للمسلم ألا يضل يميناً وشمالاً، وهو مما يغفل عنه كثير من الأحزاب الإسلامية اليوم، فضلاً عن الفرق الضالة ا. هـ
(3)
(1)
مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 346).
(2)
تقدم (ص: 18)
(3)
صحيح الترغيب والترهيب (1/ 129)
اتباع اليهود والنصارى والمشركين:
وأخبر صلى الله عليه وسلم باتباع هذه الأمة لسنن اليهود والنصارى -كما في حديث عبد الله بن عمرو المتقدم-، وفي معناه أحاديث أخرى منها:
(1)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ» متفق عليه
(1)
.
(2)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ:«وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ» رواه البخاري
(2)
وفي رواية لأحمد: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَبَاعًا فَبَاعًا، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ دَخَلْتُمُوهُ» ، قَالُوا: وَمَنْ هُمْ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلُ الْكِتَابِ؟ قَالَ:«فَمَهْ»
(3)
(3)
وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا» رواه مسلم
(4)
. ورواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم وزاد: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وُضِعَ
(1)
صحيح البخاري (3456، 7320)، وصحيح مسلم (2669).
(2)
صحيح البخاري (7319).
(3)
مسند أحمد (7319).
(4)
صحيح مسلم (2889).
السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»
(1)
(4)
وعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ [وفي رواية: وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ، وَكَانُوا أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ]
(2)
، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ. قَالَ: فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. [وفي رواية: وَقَدْ كَانَتْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَرَبِ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ يُقَالُ لَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ، يَأْتُونَهَا كُلَّ عَامٍ، فَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، ويُرِيحُونَ تَحْتَهَا، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا،
(3)
فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً، فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ]
(4)
، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لموسى: {اجْعَلْ
(1)
سنن أبي داود (4252) وهو بتمامه أيضا في سنن ابن ماجه (3952) ومسند أحمد (5/ 278، 284) وصحيح ابن حبان (6714، 7238) ومستدرك الحاكم (4/ 449)
(2)
رواها الطبراني في المعجم الكبير (3/ 243 رقم 3294). وفي رواية في المعجم الكبير أيضا (3293): (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ)
(3)
في رواية: (ويذبحون عندها) رواها الأزرقي في أخبار مكة (1/ 129) لكن سنده واه
(4)
رواها الطبراني في المعجم الكبير (3/ 243 رقم 3293).
لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ». [وفي رواية
(1)
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»
(2)
(5)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَاعًا بِبَاعٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَشِبْرًا بِشِبْرٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ مَعَهُمْ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ:«فَمَنْ إِذًا» رواه ابن ماجه وأحمد
(3)
(6)
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِثْلًا بِمِثْلٍ» رواه أحمد
(4)
(7)
وَعن شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيَحْمِلَنَّ شِرَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى سَنَنِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ» رواه أحمد
(5)
(8)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَنْتُمْ أَشْبَهُ النَّاسِ سَمْتًا وَهَدْيًا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ وَالنَّعْلِ بِالنَّعْلِ [حتَّى لَا يَكُونُ فِيهِمْ شَيْءٌ إِلَّا كَانَ فِيكُمْ مِثْلُهُ» ]» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» رواه ابن أبي شيبة والمروزي السنة
(6)
(1)
لفظ الترمذي في جامعه (2180).
(2)
صحيح، أخرجه الترمذي في جامعه (2180) والنسائي في الكبرى (11121) وأحمد (5/ 218) والطبراني في المعجم الكبير (3/ 243 رقم 3290 - 3294) والسياق له.
(3)
رواه ابن ماجه (3994) وأحمد (2/ 450) والحاكم (106) وصححه على شرط مسلم، وإنما هو حسن الإسناد فقط لأنه من طريق محمد بن عمرو بن علقمة وإنما أخرج له مسلم متابعة وهو حسن الحديث
(4)
رواه أحمد (5/ 340) وسند حسن في الشواهد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 261): فِي إِسْنَادِ أَحْمَدَ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَفِيهِ ضَعْفٌ ا. هـ
(5)
رواه أحمد (4/ 125) وسند حسن في الشواهد. وانظر السلسة الصحيحة (3312).
(6)
رواه ابن أبي شيبة (21/ 154/ ط القبلة) رقم (38533) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ هُزَيْلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ فذكره. ورواه المروزي في السنة (64، 108) حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثنا سُفْيَانُ به نحوه دون قوله «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» والزيادة له. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (7/ 915): وهذا إسناد صحيح موقوف، ولكنه في حكم المرفوع؛ فإنه من الغيبيات التي لا تقال بالاجتهاد والرأي، ويؤيده أن قوله:«إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» قد صح مرفوعاً عن جمع من الصحابة؛ كابن عمر وغيره، وسبق تخريجه برقم (1731 و 2851) ا. هـ وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير (9882)، والبزار في مسنده (2048) من طريق ليث ابن أبي سُلَيم وهو مختلط عن أبي قيس وهو عبد الرحمن بن ثروان به فرفعه ولفظه عند الطبراني:«أَنْتُمْ أَشْبَهُ الْأُمَمِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لَتَرْكَبُنَّ طَرِيقَتَهُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِمْ شَيْءٌ إِلَّا كَانَ فِيكُمْ مِثْلُهُ، حَتَّى إِنَّ الْقَوْمَ لَتَمُرُّ عَلَيْهِمُ الْمَرْأَةُ فَيَقُومُ إِلَيْهَا بَعْضُهُمْ فَيُجَامِعُهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَصْحَابِهِ يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَيَضْحَكُونَ إِلَيْهِ» ولفظ البزار: «أَنْتُمْ أَشْبَهُ الْأُمَمِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَمْتًا وَسِمَةً وَهَدْيًا» وانظر السلسلة الصحيحة (7/ 914).
(9)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَبَاعًا بِبَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ دَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ ضَاجَعَ أُمَّهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمْ» رواه البزار
(1)
والحديث عن أشراط الساعة الصغرى طويلٌ جدًّا، وليس القصد من هذا المجلس هو ذكر هذه العلامات، وإنما هو الإشارة إلى أن من الإيمان باليوم الآخر الإيمانَ بأشراط الساعة الصغرى والأشراط الكبرى وما يتعلق بهما، ويمكن للمسلم أن يراجع ما يتعلق بهذا الباب في كتب أهل العلم المطولة؛ فإنه أيضًا كما ذكرنا باب عظيم النفع، وفيه أيضًا تسلية للمؤمن وزيادة لإيمانه،
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وبهذا القدر نكتفي،
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
(1)
رواه البزار -كما في كشف الأستار عن زوائد البزار (3258) -، والمروزي في السنة (43)، والدولابي في الكنى والأسماء (1272)، والحاكم في المستدرك (8404) وصححه -وفيه سقط لأول الإسناد يستدرك من إتحاف المهرة (8464) -، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (1348) ثم قال: بل الحديث صحيح، فإن له شاهد من حديث عبد الله بن عمرو نحوه، أخرجه الترمذي والحاكم (1/ 129) بسند ضعيف
…
، وله شاهد آخر في "المجمع".
JIH
الإيمان
بحياة البرزخ
ونعيم القبر وعذابه
F e
المجلس الثالث والعشرون
(1)
حياة البرزخ:
ومما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر، -كما تقدم- أيضا، الإيمان بحياة البرزخ، ثم الإيمانَ بالبعث والجزاء والنشور وما يكون في يوم القيامة.
وحياة البرزخ حياة غيبية جاء ذكرها وبيانها في كتاب الله وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتم الإيمان باليوم الآخر إلا بأن يؤمن الإنسان بهذا الغيب الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو عالم البرزخ.
حياة البرزخ القيامة الصغرى:
ويُسمِّيه بعضُ العلماء بالقيامة الصغرى؛ فإن الموت يُسمَّى بالقيامة، ويُسمَّى بالساعة، وقد جاء في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: كان رجالٌ من الأعراب جفاةٌ يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه: متى الساعة؟ فكان ينظر إلى أصغرهم، فيقول عليه الصلاة والسلام:«إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ»
(2)
.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وَالْمُرَادُ: انْخِرَامُ قَرْنِهِمْ، وَدُخُولُهُمْ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَقَدْ يَقُولُ هَذَا بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ، وَيُشِيرُونَ بِهِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَالْبَاطِلِ ا. هـ
(3)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: الْمَوْت معادٌ وَبعثٌ أولُ، فَإِنْ الله جعل لِابْنِ آدم معادين وبعثين يجزى فيهمَا الَّذين أساءوا بِمَا عمِلُوا ويجزى الَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى،
(1)
كان في يوم الخميس الحادي والعشرين من شهر رمضان 1441 هـ.
(2)
تقدم (ص: 12)
(3)
البداية والنهاية ط هجر (19/ 32)
فالبعث الأول مُفَارقَة الرّوح للبدن ومصيرها إِلَى دَار الْجَزَاء الأول؛ والبعث الثاني: يَوْم يرد الله الْأَرْوَاح إِلَى أجسادها ويبعثها من قبورها إِلَى الْجنَّة أَوْ النَّار وَهُوَ الْحَشْر الثاني وَلِهَذَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح وتؤمن بِالْبَعْثِ الآخر فَإِنْ الْبَعْث الأول لَا يُنكره أحد وَإِنْ أنكر كثير من النَّاس الْجَزَاء فِيهِ وَالنَّعِيم وَالْعَذَاب وَقد ذكر الله هَاتين القيامتين وهما الصُّغْرَى والكبرى فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ وَسورَة الْوَاقِعَة وَسورَة الْقِيَامَة وَسورَة المطففين وَسورَة الْفجْر وَغَيرهَا من السُّور
…
إلخ
(1)
.
وتقدم ذكر هذه المسألة تحت مبحث: "من مات قامت قيامته
(2)
"
تعريف البرزخ:
والبرزخ في كلام العرب معناه الحاجز بين الشيئين.
قال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)} [الفرقان: 53]. فقوله: {بَرْزَخًا} أي: حاجزًا.
والبرزخُ في الشرع: الدارُ التي تعقب الموت إلى البعث منذ أن يموت الإنسان وإلى أن يبعثه الله فإنه يعيش في عالم البرزخ ما بين الموت والبعث.
الدور ثلاثة:
ولهذا يقول العلماء: الدور ثلاثة:
• دار الدنيا،
• ودار البرزخ،
• والدار الآخرة.
ودار البرزخ هي دار بين الموت والبعث، يموت الإنسان فينتقل إلى قبره، فيعيش حياة برزخية اللهُ أعلم بها.
قال الله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} [المؤمنون].
(1)
الروح (ص: 74).
(2)
انظر: المجلس (21: ص 12).
الموت بيد الله:
يقول الله -جل وعلا-: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]
الموتُ حتم لازم على كل حي:
قال ربُّنا -جل وعلا-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} [القصص]
وقال سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن]
وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران]
وربُّنا يخاطب نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فيقول:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر]
وقال لنبيِّه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} [الأنبياء]. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ»
(1)
.
والموت له أجلٌ محدَّدٌ:
قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145] وجاء في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن أم حبيبة رضي الله عنها دعت فقالت: اللهم متِّعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية (تقصد أن يطال في أعمارهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَا
(1)
أخرجه البخاري (7383)، ومسلم (2717) واللفظ له من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ وَلَا يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّهِ وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ في النَّارِ وَعَذَابٍ في الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ»
(1)
.
ولا يعلم أحدٌ متى يموت إلا اللهُ:
لا يعلم أحدٌ متى يموت إلا اللهُ فهو من مفاتح الغيب التي اختصَّ اللهُ عز وجل بها كما في قوله تعالى في خاتمة سورة لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان]. فهذه الخمسة: أمورٌ سمَّاها النبي صلى الله عليه وسلم بمفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله
(2)
.
ولا يعلم أحدٌ أين يموت إلا اللهُ:
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إِذَا قَضَى اللَّهُ لِعَبْدٍ أَنْ يَمُوتَ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً، أَوْ قَالَ: بِهَا حَاجَةً»
(3)
للموت سكرات:
والموت له مُقدِّمات وله سكرات يقول الله -جل وعلا-: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} [ق] والسكرة: الألم وما يصاب به الإنسان في ذلك الحين. وحين مرض نبينا صلى الله عليه وسلم مرضه الأخير كان يقول: «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ»
(4)
.
وتقول عائشة رضي الله عنها في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيتُ أحدًا أشدَّ عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم "
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم (2663).
(2)
والخبر في الصحيحين تقدم تخريجه في المجلس الحادي والعشرين.
(3)
رواه الترمذي (2147) من حديث أبي عزَّة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (4449) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5)
أخرجه البخاري (5646).
وقد دخلت عائشة رضي الله عنها على أبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرض موته، فلما ثقل عليه تمثلت بقول حاتم الطائي:
لَعَمْرُكَ ما يُغني الثراءُ عَنِ الفتى إذا حَشْرَجَتْ يومًا وضاقَ بها الصَّدْرُ
فسمعها الصديق رضي الله عنه فكشف عن وجهه، وقال: ليس كذلك يا بنية، ولكن قولي:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} [ق: 19]
(1)
.
قال رب ارجعون
ويعاين الإنسانُ في تلك اللحظات ما كان يخفى عليه من قبل، فيشاهد أمورًا كان يحيد عنها، وفي ذلك الوقت يتمنى المفرِّطُون العودةَ لتدارك ما فاتهم. ولكن أينفع ذلك؟! أيجابون إلى ذلك؟! يقول ربنا -مبينا حقيقة الحال-:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} [المؤمنون]
فيخبر الله -جل وعلا- أنَّ تلك الساعة يعاين فيها الناس الحقيقة، فيتمنَّوْنَ العودة، ليعملوا عملًا صالحًا؛ ولهذا يقول ربنا في آية أخرى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
(1)
رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ط دار صادر (3/ 195) واللفظ له، والبلاذري في أنساب الأشراف (10/ 85) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ عن عائشة. ورواه أحمد في الزهد (563) عن عبد الله اليمني، -كذا والظاهر أنه تصحيف- مَوْلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه تَمَثَّلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها بِهَذَا الْبَيْتِ (مِنْ قَوْلِ حَاتِمٍ)
…
فذكره ورواه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (36) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (30/ 426) - عَنِ الْبَهِيِّ قَالَ: " لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ، جَاءَتْ عَائِشَةُ
…
فذكر الحديث مرسلا. والأول أرجح. فقد رواه كذلك جماعة منهم: عبد الله بن نمير ويعلى بن عبيد ووكيع كما عند ابن سعد ومن طريق وكيع رواه البلاذري كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد عن البهي عنها به. وخالفهم يزيد بن هارون عند أحمد وأبو شهاب الحناط عن إسماعيل. وهو صدوق يهم كما في التقريب. وأعل بعدم سماع البهي من عائشة. كما هو قول الدارقطني ومن قبله ابن مهدي. وصحح البخاري سماعه منها وخرج مسلم له عنها في صحيحه. وللأثر طرق أخرى انظرها عند ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 196 - 197) والمحتضرين لابن أبي الدنيا (38)، والعلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية ابنه عبد الله (5059)، وتفسير الطبري ط هجر (21/ 427)
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} [النساء]{يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} أي: يتوبون قبل أن تغرغر الروح في الجسد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»
(1)
والله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)} فيريد أن يرجع ليكون من المتصدقين، يريد أن يرجع ليكون من عباد الله الصالحين مصليًا صائمًا بارًّا بوالديه قائمًا بفرائض الله سبحانه. ولكن الله يقول:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} [المنافقون].
حياة البرزخ روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار:
وفي البرزخ يكون العذاب أو النعيم، النعيمُ لأولياء الله من المؤمنين الصالحين، والعذابُ لمن كفر أو أشرك وكذلك لبعض عصاة المسلمين. فحياةُ البرزخ إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، -نسأل الله السلامة والعافية-.
وفي صحيح ابن حبان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الْمُؤْمِنَ فِي قَبْرِهِ لَفِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَيُرْحَبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَتَدْرُونَ فِيمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه] أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَةُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ يُسَلَّطَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ (تِسْعُونَ)
(2)
حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعُ رُءُوسٍ يِلْسَعُونَهُ، وَيَخْدِشُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(3)
(1)
أخرجه أحمد (6160)، والترمذي (3537)، وابن ماجه (4253) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(2)
الأصل: (سبعون)، والتصحيح من مجمع الزوائد (3/ 55) برواية أبي يعلى، وتفسير ابن كثير، برواية ابن أبي حاتم والمجمع أيضاً برواية أخرى للبزار. أفاده الألباني في صحيح الترغيب (3/ 393)
(3)
رواه أبو يعلى (6644) وابن حبان (3122) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3552)
حديث البراء بن عازب في أحوال الانتقال من الدنيا إلى الآخرة:
وسنقف الآن مع حديث البراء بن عازب الذي قصَّ علينا فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما يقع للإنسان عند موته في رحلة عظيمة تستقبل الإنسان.
-نسأل الله -جل وعلا- أن يثبتنا على دينه وأن يحيينا على الإسلام ويميتنا على الإيمان-
وسأذكره بسياق الإمام أحمد في مسنده
(1)
مع الزيادات التي نبه عليها العلامة الألباني في أحكام الجنائز -وربما ذكرت غيرها وأشرت إليها-:
يقول البراء بن عازب رضي الله عنهما: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم[مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ]
(2)
وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ
(3)
، [فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْأَرْضِ، وَجَعَلَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ وَيَخْفِضُهُ ثَلَاثًا]
(4)
[وَيَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ وَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ]
(5)
فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:«اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، [ثُمَّ قَالَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» ]
(6)
[ثلاثاً]
(7)
، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم:
(1)
مسند أحمد (18534)
(2)
سنن أبي داود (4753) ولابن ماجه (1548)«فَقَعَدَ حِيَالَ الْقِبْلَةِ» وللحاكم (113)«وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» .
(3)
انظر إلى حال الصحابة رضي الله عنهم جلسوا حول النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون إليه لا يتحدثون صامتين. ثم انظر إلى حالنا اليوم في المقابر كيف نجد كثيرًا من اللغط وكثيرًا من الكلام بل تجد بعض الناس يضحك ويفرح ويمرح، وربما استعمل بعضهم السجارة والدخان وغير ذلك من الأمور المحرمة، وكأنَّ شيئًا لا يعنيه والله المستعان وفي الحديث توقير العلم والعلماء ولذا الإمام الحاكم عنون لهذا الحديث فقال: فَصْلٌ: «
…
الْأَمْرِ بِتَوْقِيرِ الْعَالِمِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إِلَيْهِ وَالْقُعُودِ بَيْنَ يَدَيْهِ» وعنون له البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص: 378) بـ (بَابُ تَوْقِيرِ الْعَالِمِ وَالْعِلْمِ).
(4)
من مستدرك الحاكم (107) ومسند الروياني (392)
(5)
من مسند الروياني (392).
(6)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) والمستدرك (107) والسنة لعبد الله بن أحمد (1441، 1442، 1444)
(7)
من مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6737) ومسند أحمد (18614) والسنة لعبد الله بن أحمد وفي مسندي الطيالسي والروياني «قَالَهَا مِرَارًا»
«إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، عليها السلام، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ [وفي رواية: الْمُطْمَئِنَّةُ]
(1)
، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ». قَالَ:«فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا» ، [وفي رواية:«حَتَّى إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ، صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللهَ: أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ» ]
(2)
، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ
(3)
(1)
من زوائد الحسين المروزي على الزهد لابن المبارك (1219) وتهذيب الآثار مسند عمر (723) للطبري والشريعة للآجري (864) والأحاديث الطوال للطبراني (25) ومستدرك الحاكم (107) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (44)
(2)
من مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6737) ومسند أحمد (18614) والسنة لعبد الله بن أحمد (1441)
(3)
انظر- يا عبد الله- إلى ما يحصل للمؤمن عند موته وعند احتضاره كيف يأتيه ملك الموت ومع ملك الموت أعوانٌ له، وملك الموت هذا هو اسمه، ويُسمِّيه بعضُ الناس بعزرائيل، والصحيحُ أن اسمه ملك الموت، كما جاء تسميته في هذا الحديث وغيره، وملك الموت معه أعوان -كما تقدَّم- من الملائكة، فيأتون إلى العبد المؤمن، فتخرج روحه مطمئنة آمنة -فيُصلِّي عليه كلُّ ملك- يعني تدعو له الملائكة، ملائكة في السماء وملائكة في الأرض، يقول صلى الله عليه وسلم:«فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ» ، -والحنوط: هو ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصة، من مسك وذريرة وكافور وغير ذلك-، وانظر إلى هذا الحنوط وهذا الطيب، إنه من الجنة! إنه من عند الله! فانظر كيف يبدأ هذا النعيم مع العبد المؤمن من هذا الوقت ومن هذه الساعة التي تخرج فيها روحه، فيرتاح من تعب الدنيا ونصبها وما فيها من الآلام. ولهذا لما مرت جنازة بالنبي صلى الله عليه وسلم قال:«مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» قالوا: يا رسول الله، ما مستريح؟ وما مستراح منه؟ قال:«العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» -أخرجه البخاري (6512)، ومسلم (950) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه فالمؤمن يرتاح بموته؛ لأنه يفرح بلقاء الله -جل وعلا- يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» أخرجه البخاري (6507) ومسلم (2683) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وزاد البخاري- وهو لمسلم من حديثها منفصلا-: فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إنا لنكره الموت! فقال: «لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» رضي الله عنه. ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبرنا عن كيفية ذهاب الميت إلى المقبرة، فقال-وذلك من علم الغيب-:«إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا! أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟! -يعني: تقول: يا ويلي! أين يذهبون بي؟! -يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَ الإِنْسَانُ لَصَعِقَ» أخرجه البخاري (1316) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. هذا حال المؤمن يا إخواني وهذا من علم الغيب في البرزخ الذي يدخل في الإيمان باليوم الآخر وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان به.
[فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} [الأنعام: 61]]
(1)
، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» قَالَ: «فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ، يَعْنِي بِهَا، عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، [{وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)} [المطففين: 19 - 21] فَيُكْتَبُ كِتَابُهُ فِي عِلِّيِّينَ ثُمَّ يُقَالُ]
(2)
: أَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ [وفي رواية: إلى التُّرَابِ]
(3)
، فَإِنِّي [وَعَدْتُهُمْ أَنِّي]
(4)
مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى»، قال:
(1)
من مسند الروياني (392) وهي للطيالسي في مسنده (789) -ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - وللبيهقي في إثبات عذاب القبر (20) الآية من قوله: {تَوَفَّتْهُ
…
}.
(2)
من مسند أبي داود الطيالسي (789)) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - ومن مسند الروياني (392).
(3)
من تهذيب الآثار للطبري مسند عمر (722) وفي رواية له (723): «رُدُّوا عَبْدِي إِلَى مَضْجَعِهِ»
(4)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - ومن مسند الروياني (392). وتهذيب الآثار للطبري مسند عمر (722، 723) ومستدرك الحاكم (107) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (44)
فـ[يُرَدُّ إِلَى الْأَرْضِ وَ]
(1)
تُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، [قال: فَإِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ، إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ]
(2)
[مُدْبِرِينَ]
(3)
، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ [شَدِيدَا الِانْتِهَارِ]
(4)
فَـ[يَنْتَهِرَانِهِ، وَ]
(5)
يُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ
(6)
، [فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 27]، فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ،
(1)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - ومن إثبات عذاب القبر للبيهقي (20)
(2)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) - وفي الباب عن أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ، إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» قَالَ: «يَأْتِيهِ مَلَكَانِ
…
» الحديث رواه البخاري (1338) ومسلم (2870) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ، إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» رواه أحمد (8563، 9742)
(3)
من سنن أبي داود (4753) وتهذيب الآثار مسند عمر (718 و 722)
(4)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - ومسند الروياني (392)، وإثبات عذاب القبر للبيهقي (20). وفي الباب عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: " إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ قَبْرَهُ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ أَتَاهُ مَلَكٌ شَدِيدُ الِانْتِهَارِ، فَقَالَ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟
…
رواه عبد الرزاق في مصنفه (6744) موقوفا ورفعه ابن لهيعة عن أبي الزبير. رواه أحمد (14722) وتابعه يحيى القطان عن ابن جريج به فرفعه، رواه عنه الإمام أحمد - كما في تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 497) - وقال ابن كثير: إسناده صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه ا. هـ.
(5)
المرجع السابق.
(6)
وهذه الأسئلة يُسمِّيها العلماءُ بفتنة القبر، فالإنسانُ إذا وُضِعَ في قبره يأتيه الملكان، وقد جاء في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ المَلَكَيْن يقال لأحدهما المنكر ويقال للآخر النكير، كما في جامع الترمذي (1071)، وابن حبان (3117) وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم
(1)
، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ». قَالَ:«فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ» . قَالَ: " وَيَأْتِيهِ [وفي رواية: وَيُمَثَّلُ لَهُ]
(2)
رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، [أَبْشِرْ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ عز وجل لَكَ، أَبْشِرْ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَجَنَّاتٍ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ]
(3)
[أَبْشِرْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ]
(4)
هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، [وَالْأَمْرُ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ]
(5)
فَيَقُولُ لَهُ: [وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ]
(6)
مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، [وفي رواية: يُبَشِّرُ بِالخَيْرِ]
(7)
فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ [فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا كُنْتَ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا]
(8)
،
(1)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. وفي سنده يونس بن خباب فيه ضعف وقد تابعه جرير وأبو عوانة عن الأعمش عن المنهال كما في أهوال القبور لابن رجب (47) ورواية جرير عند الطبري في تهذيب الآثار (718) لكنه اختصر هذا الموضع والله أعلم ورواية أبي عوانة رواها الطيالسي (789) وليس عنده (وهي آخر فتنة تعرض) والله أعلم
(2)
من مسند الروياني (392). والأحاديث الطوال للطبراني (25) ومستدرك الحاكم (107) وفي رواية: «وَيُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ
…
» وهي لأبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - وللبيهقي في إثبات عذاب القبر (20).
(3)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - وللبيهقي في إثبات عذاب القبر (20).
(4)
من مسند الروياني (392).
(5)
من مسند الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) -.
(6)
من مسند الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين (1/ 62) - ومصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. وتهذيب الآثار للطبري (718، 722) وإثبات عذاب القبر (20) للبيهقي.
(7)
من مستدرك الحاكم (107) وتهذيب الآثار مسند عمر للطبري (2/ 497)
(8)
من مسند الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين (1/ 62) - ومصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. وفي إثبات عذاب القبر (20) للبيهقي.
[فَيَقُولُ: وَأَنْتَ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا]
(1)
[ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَبَابٌ مِنَ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلَكَ لَوْ عَصَيْتَ اللهَ، أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ هَذَا، فَإِذَا رَأَى مَا فِي الْجَنَّةِ قَالَ]
(2)
فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، وَمَالِي ". [فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ]
(3)
.
قال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ [وفي رواية: الفَاجِر]
(4)
إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ [غِلَاظٌ شِدَادٌ]
(5)
سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ [وفي رواية: أَكْفَانُ]
(6)
، [مِنَ النَّار]
(7)
[وفي رواية: مَعَهُمْ سَرَابِيلٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَثِيَابٌ مِنَ نَارٍ]
(8)
، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ». قَالَ: «فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ
(9)
[الْكَثِيرُ الشِّعْبِ]
(10)
مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، [فَتُقْطَعُ مَعَهَا الْعُرُوقُ وَالْعَصْبُ]
(11)
، [فَيَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ
(1)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. والسنة لعبد الله بن أحمد (1441)، وتهذيب الآثار للطبري (718)
(2)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. وفي سنده ضعف لكن لهذه الزيادة شواهد.
(3)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -.
(4)
من تهذيب الآثار مسند عمر للطبري (720) والمستدرك للحاكم (107)
(5)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -.
(6)
تهذيب الآثار مسند عمر للطبري (2/ 494)
(7)
ذكرها الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ولم أقف عليها عند من عزاها إليه وانظر الزيادة الآتية.
(8)
تهذيب الآثار مسند عمر للطبري (2/ 492 و 604)
(9)
السَفُّود: بِتَشْدِيدِ الْفَاء، هُوَ الَّذِي يُدْخَل فِي الشَّاة إِذَا أُرِيدَ أَنْ تُشْوَى. وانظر: فتح الباري، (11/ 459).
(10)
من مسند الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين (1/ 62) - ومصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. وإثبات عذاب القبر (20). وعند الطيالسي وعبد الرزاق ط الأعظمي (الكبير الشعب). وضبطت في المصادر: (الشِّعْبِ) وضبطت (الشُّعَبِ).
(11)
من زوائد الحسين المروزي على الزهد لابن المبارك (1219) - ومن طريقه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2140) وابن عساكر في تاريخه (60/ 364) - ومسند الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين (1/ 62) - ومصنف ابن أبي شيبة (12059) - ومن طريقه الآجري في الشريعة (864) - ومسند أحمد (18535)، وتهذيب الآثار مسند عمر (720) للطبري والأحاديث الطوال للطبراني (25) ومستدرك الحاكم (107) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (20)
فِي السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ، إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللهَ: أَنْ لَا تَعْرُجَ رُوحُهُ مِنْ قِبَلِهِمْ]
(1)
فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟، فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ "، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: «اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، [ثُمَّ يُقَالُ: أَعِيدُوا عَبْدِي إِلَى الْأَرْضِ]
(2)
[فَإِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى]
(3)
، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ [مِنَ السَّمَاءِ]
(4)
طَرْحًا» [حَتَّى تَقَعَ فِي جَسَدِهِ]
(5)
. ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)} [الحج: 31] فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، [قال: فَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أَصْحَابِهِ، إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ]
(6)
؛ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، [شَدِيدَا الِانْتِهَارِ، فَيَنْتَهِرَانِهِ، وَ]
(7)
يُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟، فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لَا
(1)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -.
(2)
من مستدرك الحاكم (107)
(3)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - ومن مسند الروياني (392). وتهذيب الآثار للطبري مسند عمر (723) ومستدرك الحاكم (107) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (44)
(4)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - ومن مسند الروياني (392). وإثبات عذاب القبر للبيهقي (44)
(5)
من مستدرك الحاكم (107)
(6)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -.
(7)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - ومن مسند الروياني (392). وإثبات عذاب القبر للبيهقي (44)
أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ:[فَمَا تَقُولُ فِي]
(1)
هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ [فَلَا يَهْتَدِيْ لاسْمِهِ، فَيُقَالُ: مُحَمَّدٌ!]
(2)
فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لَا أَدْرِي، [سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَاكَ! قَالَ: فَيُقَالُ:]
(3)
، [لَا دَرَيْتَ]
(4)
[وَلَا تَلَوتَ]
(5)
فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ [عَلَيَّ]
(6)
[عَبْدِي]
(7)
، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ [وفي رواية: وَيُمَثَّلُ لَهُ]
(8)
رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ:[وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِالشَّرِّ]
(9)
مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ [وفي رواية: يُبَشِّرُ بِالشَّرِّ]
(10)
، فَيَقُولُ: أَنَا
(1)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - وتنبيه الغافلين لأبي الليث لسمرقندي (32). وإثبات عذاب القبر للبيهقي (20)
(2)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - وإثبات عذاب القبر للبيهقي (20)
(3)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - وإثبات عذاب القبر للبيهقي (20)
(4)
من مسند أبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - ومصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. وإثبات عذاب القبر للبيهقي (20)
(5)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -.
(6)
من تاريخ دمشق لابن عساكر (60/ 366)
(7)
من زوائد الحسين المروزي على الزهد لابن المبارك (1219) - ومن طريقه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2140) وابن عساكر في تاريخه (60/ 364) -، وتنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين لأبي الليث لسمرقندي (32) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (44)
(8)
من مسند الروياني (392). والأحاديث الطوال للطبراني (25) ومستدرك الحاكم (107) وفي رواية: «وَيُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ
…
» وهي لأبي داود الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين في أخبار قزوين (1/ 62) - وللبيهقي في إثبات عذاب القبر (20).
(9)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. وللطبري في تهذيب الآثار (2/ 493): «فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا قَالَ: فَيَقُولُ: وَأَنْتَ فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا»
(10)
من مستدرك الحاكم (107) وتهذيب الآثار مسند عمر للطبري (2/ 497)
عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ:[وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا]
(1)
[كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ سَرِيعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ]
(2)
، [فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا]
(3)
، [قَالَ: فَيَقُولُ: وَأَنْتَ فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا]
(4)
، [ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ فِي يَدِهِ مِرْزَبَةٌ، لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ كَانَ تُرَابًا، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَصِيرَ تُرَابًا، ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ النَّارِ وَيُمَهَّدُ مِنْ فُرُشِ النَّارِ]
(5)
، فيقول:[يَا]
(6)
[رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ]
(7)
، [يَا]
(8)
رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ
(9)
».
(1)
من مسند الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين (1/ 62) -، والسنة لعبد الله بن أحمد (1441) وتهذيب الآثار مسند عمر للطبري (718) وفي إثبات عذاب القبر (20) للبيهقي
(2)
من مسند الطيالسي (789) - ومن طريقه القزويني في التدوين (1/ 62) - ومصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. والسنة لعبد الله بن أحمد (1441)، وتهذيب الآثار للطبري (718)
(3)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. والسنة لعبد الله بن أحمد (1441)، وتهذيب الآثار مسند عمر للطبري (718)
(4)
من تهذيب الآثار مسند عمر للطبري (718، 720، 723)
(5)
من مصنف عبد الرزاق (6737) -وعنه أحمد (18614) -. وسنن أبي داود (4753) والسنة لعبد الله بن أحمد (1441)، وتهذيب الآثار مسند عمر للطبري (718) وفي سنده يونس بن خباب ضعيف وهذه الزيادة لها شواهد.
(6)
من الأحاديث الطوال للطبراني (25)
(7)
من مصنف ابن أبي شيبة (12059) والزهد لهناد بن السري (339) ومسند الروياني (392) وتهذيب الآثار مسند عمر للطبري (718، 720) والشريعة للآجري (864) والأحاديث الطوال للطبراني (25) وتنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين لأبي الليث السمرقندي (32) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (44) وشعب الإيمان (390)
(8)
من الأحاديث الطوال للطبراني (25)
(9)
سياق الحديث من مسند الإمام أحمد (30/ 499/ 18534) قال: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه. وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح.
1 -
وأخرجه من طريق أبي معاوية: -بتمامه أو مختصراً-: ابن أبي شيبة (11641 و 12032 و 12059)، وهناد في الزهد (339)، والمروزي في زوائده على الزهد لابن المبارك (1219) - ومن طريقه، اللالكائي في أصول الاعتقاد (2140) -، والدارمي في الرد على الجهمية (ص 29)، وأبو داود (4753)، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة (1438) والطبري في التفسير (20764)، وفي تهذيب الآثار (721)، وابن خزيمة في التوحيد (ص 119)، وأبو عوانة- كما في إتحاف المهرة (2/ 459) - والآجري في الشريعة (864)، وابن منده في الإيمان (1064)، والحاكم في المستدرك (414)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (21 و 44)، وفي شعب الإيمان (395) وقال البيهقي في الشعب: هذا حديث صحيح الإسناد، وقال ابن منده: هذا إسناد متصل مشهور، رواه جماعة عن البراء، وكذلك رواه عدّة عن الأعمش، وعن المنهال ابن عمرو، والمنهالُ بنُ عمرو: هو الأسدي، مولاهم، الكوفي، أخرج عنه البخاري ما تفرَد به، وزاذان أخرج عنه مسلم، وهو ثابت على رسم الجماعة، ورُوي هذا الحديث عن جابر، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأنس بن مالك، وعائشة رضي الله عنهم ا. هـ
2 -
وأخرجه الطيالسي (753) - ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره، (7385) مختصرا، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (20) -، وعبد الرزاق في المصنف (6324) مختصرا، -ومن طريقه أحمد (18625)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 275) - وأبو داود (3212 و 4753) - ومن طريقه البيهقي في إثبات عذاب القبر (21) -، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة (1439، 1440، 1443) والروياني في مسنده (392) وابن أبي حاتم، في تفسيره (5/ 1477)، والطبري في التفسير (20763) و (20765) و (20780) و (20787)، وفي تهذيب الآثار (718، 719، 720)، وأبو عوانة- كما في إتحاف المهرة 2/ 459 - والطبراني في الأحاديث الطوال (25) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 56) وابن منده في الإيمان (1064) والحاكم في المستدرك (107 - 117)، من طرق عن الأعمش، به.
3 -
وأخرجه ابن ماجه (1548) مختصرا وعبد الرزاق (6737) - وعنه أحمد (18614) - وعبد الله بن أحمد في السنة (1441، 1442) والطبري في تهذيب الآثار مسند عمر (722) والحاكم في المستدرك (113) -وعنه البيهقي في إثبات عذاب القبر (24) - من طريق يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ عن المنهال به
4 -
وأخرجه ابن ماجه (1549) والنسائي في سننه (2001) وفي السنن الكبرى (2139) من طريق عمرو بن قيس، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو
5 -
وأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (3499) من طريق عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنِ الْمِنْهَالِ به
6 -
وأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (7417) من طريق كامل أبي العلاء، عَنِ الْمِنْهَالِ به
7 -
وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1444) من طريق محمد بن سلمة بن كهيل عَنِ الْمِنْهَالِ به
8 -
وأخرجه مختصراً النسائي (2001)، وابن ماجه (1549) من طريق عمرو بن قيس، عن المنهال، به.
9 -
وأخرجه الروياني في مسنده (391) عن مُحَمَّدِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ زَاذَانَ به
10 -
وأخرجه الطبري في تهذيب الآثار (723)، وابن الأعرابي في المعجم (788) والبيهقي في شعب الإيمان (396) من طريق عيسى بن المسيب، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، به.
11 -
وأخرجه أبو الجهم في جزئه (ص: 55) - ومن طريقه ابن عساكر في التاريخ- من طريق سَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ عن المنهال به
هذا سياق الحديث مع ما تيسر من الزيادات التي نبهنا عليها ومما لم يذكر:
ما رواه ابن ماجه وأحمد من طريق مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ
(1)
، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ، فَقَالَ:«عَلَامَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ؟» قِيلَ: عَلَى قَبْرٍ يَحْفِرُونَهُ. قَالَ: فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ، فَجَثَا عَلَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَقْبَلْتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا قَالَ:«أَيْ إِخْوَانِي لِمِثْلِ الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا؟»
(2)
من شواهد حديث البراء:
حديث أنس رضي الله عنه
-:
(3)
وفي رواية لأبي داود قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَإِنِ اللَّهُ هَدَاهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ، غَيْرِهَا، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى بَيْتٍ كَانَ لَهُ فِي النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَيْتُكَ كَانَ لَكَ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ، فَأَبْدَلَكَ بِهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ،
(1)
محمد بن مالك هو أبو المغيرة الجوزجاني مولى البراء، قال أبو حاتم: لا بأس به، قال الألباني: واضطرب فيه ابن حبان، فذكره في كتابيه الثقات والضعفاء! وقال فيه:" كان يخطئ كثيرا، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد ". وقال في الأول منهما: " لم يسمع من البراء شيئا ". قلت: وقد تعقبه الحافظ بما أخرجه أحمد عقب هذا الحديث بالإسناد ذاته عن محمد بن مالك قال: " رأيت على البراء خاتما من ذهب،
…
إلخ.
(2)
رواه ابن ماجه (4195) وأحمد (18601) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1751).
(3)
متفق عليه، رواه البخاري (1338، 1374) ومسلم (2870) ومنه الزيادة (إذا انصرفوا).
فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِّرَ أَهْلِي، فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، فَيُقَالُ لَهُ: فَمَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيَضْرِبُهُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا الْخَلْقُ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ»
(1)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه
-:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قُبِرَ المَيِّتُ - أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ - أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ [لَهُ]: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ [مُحَمَّدٍ]؟ فَيَقُولُ: مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ [ذِرَاعًا]، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ، نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ، فَقُلْتُ مِثْلَهُ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلأَرْضِ: التَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ»
(2)
حديث ثانٍ لأبي هريرة رضي الله عنه
-:
روى ابن ماجه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ، غَيْرَ فَزِعٍ، وَلَا مَشْعُوفٍ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الْإِسْلَامِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ؟ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ، فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ، فَيَنْظُرُ
(1)
سنن أبي داود (4751) وهو في مسند أحمد (13447) وسنده حسن.
(2)
رواه الترمذي (1071) وقال حديث حسن غريب ا. هـ وصححه ابن حبان (3117) ومنه الزيادات.
إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا، وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، وَيُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيُجْلَسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فِي قَبْرِهِ، فَزِعًا مَشْعُوفًا، فَيُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا، فَقُلْتُهُ، فَيُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا، يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى»
(1)
حديث ثالث لأبي هريرة رضي الله عنه
-:
وفي صحيح ابن حبان عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ إِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ [مُدْبِرِينَ]، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَتَقُولُ فَعَلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ فَيَجْلِسُ، وَقَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وَقَدْ أُدْنِيَتْ لِلْغُرُوبِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، أَخْبَرَنِي عَمَّا نَسْأَلُكُ عَنْهُ، أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا
(1)
رواه ابن ماجه (4268)
مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا لَوْ عَصَيْتَهُ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، وَيُعَادُ الْجَسَدُ لِمَا بَدَأَ مِنْهُ، فَتَجْعَلُ نَسْمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطِّيِّبِ وَهِيَ طَيْرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» قَالَ: [وَقَالَ أَبُو الْحَكَمِ
(1)
، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَيُقَالُ لَهُ:«أَرْقِدْهُ رَقْدَةَ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَعَزُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، أَوْ أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ» ] «وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ شِمَالِهِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ خَائِفًا مَرْعُوبًا، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشَهَّدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: أَيُّ رَجُلٍ؟ فَيُقَالُ: الَّذِي كَانَ فِيكُمْ، فَلَا يَهْتَدِي لِاسْمِهِ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ قَالُوا قَوْلًا، فَقُلْتُ كَمَا قَالَ النَّاسُ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ، وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُكَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهِ لَوْ أَطَعْتَهُ فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، ثُمَّ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، فَتِلْكَ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه]»
(2)
حديث عائشة رضي الله عنها
-:
وفي المسند عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: جَاءَتْ يَهُودِيَّةٌ، فَاسْتَطْعَمَتْ عَلَى بَابِي، فَقَالَتْ: أَطْعِمُونِي، أَعَاذَكُمُ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَمِنْ فِتْنَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ. قَالَتْ: فَلَمْ أَزَلْ أَحْبِسُهَا حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
(1)
هو أبو الحكم، مولى بنى ليث. روى له النسائي، وابن ماجة وهو مجهول تفرد عنه محمد بن عمرو. وهو هنا متابع.
(2)
رواه ابن حبان (3113) والحاكم (1403)، ومنه الزيادات.
اللَّهِ، مَا تَقُولُ هَذِهِ الْيَهُودِيَّةُ؟ قَالَ:«وَمَا تَقُولُ؟» قُلْتُ: تَقُولُ: أَعَاذَكُمُ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَمِنْ فِتْنَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَمِنْ فِتْنَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ،
(1)
(2)
.
(1)
هذا القدر من الحديث في الاستعاذة من عذاب القبر جاء في صحيح البخاري (1049، 1055، 1372، 6366) ومسلم (584، 903) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ القَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَذَابِ القَبْرِ، فَقَالَ:«نَعَمْ، عَذَابُ القَبْرِ حَقٌّ» قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
(2)
رواه أحمد (25089) وهو في صحيح الترغيب (3557)
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
-:
وفي المسند عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِنَازَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الْإِنْسَانُ دُفِنَ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ، قَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: صَدَقْتَ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ فَهَذَا مَنْزِلُكَ، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: اسْكُنْ وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولَ: لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا، فَيَقُولُ: لَا دَرَيْتَ، وَلَا تَلَيْتَ، وَلَا اهْتَدَيْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ» فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلَّا هِيِلَ -أي فقد عقله- عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]
(1)
فصل في ذكر ضمة القبر:
وفي الأحاديث ذكر (الفتنة في القبور) وهي: الامتحان والاختبار للميت، حين يسأله الملكان إذا وُضِعَ في قبره، يأتيه الملكان، يقال لأحدهما المنكر ويقال للآخر النكير، فيسألانه. ويكون قبل السؤال ما أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد يوضع في قبره إلا ويضمُّه ضَمَّةً فلا ينجو منها أحدٌ، وفي ذلك أحاديث:
(1)
رواه الإمام أحمد بسند حسن (11000) وهو في صحيح الترغيب (3556).
فصل في ذكر ما ورد من الأحاديث في ضمة القبر:
(1)
في سنن النسائي بسند صحيح عن نافع عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ»
(1)
(2)
وفي صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم عن ابْن فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْرَهُ - يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ - فَاحْتَبَسَ، فَلَمَّا خَرَجَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ:«ضُمَّ سَعْدٌ فِي الْقَبْرِ ضَمَّةً، فَدَعَوْتُ اللَّهَ فَكَشَفَ عَنْهُ»
(2)
(1)
رواه النسائي (2055) قال: أَخْبَرَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، به
• ورواه البزار كما في المسند (البحر الزخار)(12/ 152) رقم (5746) قال: حَدَّثنا عَبد الأعلى بن حماد، حَدَّثنا داود بن عَبد الرحمن، حَدَّثنا عُبَيد اللَّهِ بْنِ عُمَر، عَنْ نافعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَر: قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ هَبَطَ يَوْمَ مَاتَ سَعْد بْنُ مُعَاذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِلَى الأَرْضِ، لَمْ يَهْبَطُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَقَدْ ضَمَّه القبرُ ضَمَّةً. ثُمَّ بَكَى نَافِعٌ.
• قال البزار: وَهَذَا الْحَدِيثُ لا نعلَمُ رَوَاهُ عَنْ عُبَيد اللَّهِ، (عَنْ نافعٍ) عَنْ ابْنِ عُمَر إلاَّ دَاوُدُ الْعَطَّارُ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ، عَنْ نافعٍ، مُرسَلاً ا. هـ
• قلت: قوله لم يروه إلا داود مراده بهذا اللفظ. فقد روى البزار رواية العنقزي المتقدمة عند النسائي قبل هذا برقم (5737) وقال: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نعلمُهُ يُرْوَى بِهَذَا اللَّفْظِ إلاَّ، عَنْ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ ا. هـ
• والوجه المرسل الذي أشار إليه رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ط دار صادر (3/ 430) قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: " بَلَغَنِي أَنَّهُ شَهِدَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَمْ يَنْزِلُوا إِلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ ضُمَّ صَاحِبُكُمْ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ» .
(2)
صحيح ابن حبان (15/ 506). مستدرك الحاكم (3/ 228) رقم (4924) وإسناده ضعيف، قال ابن الجنيد كما في سؤالاته: قال يحيى بن معين: إن جريرا، وابن فضيل، وهؤلاء، سمعوا من عطاء بن السائب بأخرة. انظر: المسند المصنف المعلل (16/ 407)
(3)
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلْقَبْرِ لَضَغْطَةٌ لَوْ نَجَا مِنْهَا أَحَدٌ لَنَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ»
(1)
(4)
وفي مسند أحمد بسند حسن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنهما، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ حِينَ تُوُفِّيَ، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَسُوِّيَ عَلَيْهِ، سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَبَّحْنَا طَوِيلًا، ثُمَّ كَبَّرَ فَكَبَّرْنَا، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ سَبَّحْتَ؟ ثُمَّ كَبَّرْتَ؟ قَالَ:«لَقَدْ تَضَايَقَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ قَبْرُهُ حَتَّى فَرَّجَهُ اللَّهُ عَنْهُ»
(2)
(5)
وقال الطبراني: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مِقْلَاصٍ، ثنا أَبِي، ثنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ، عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(1)
رواه أحمد في المسند ط الرسالة (40/ 327) 24283 قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: عَنْ إِنْسَانٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فذكره. قال محققوا المسند: (40/ 327): ومحمد بن جعفر من أوثق الناس بشعبة، إلا أنه أبهم الراوي عن عائشة، وقد جاء مصرحاً به فيما رواه كلّ من: آدم بن أبي إياس- فيما أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار"(897)(مسند عمر بن الخطاب)، والبيهقي في "إثبات عذاب القبر"(106) - وعلي بن الجعد - كما في "الجعديات"(1566) - وعبد الرحمن بن زياد ويحيى بن أبي بكير - فيما أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(274) و (275) - وأبو عائشة - فيما أخرجه البيهقي في "إثبات عذاب القبر"(107) - وعبد الملك بن الصباح- فيما أخرجه ابن حبان (3112) - وعلي بن عاصم- فيما أخرجه الحارث بن أبي أسامة- سبعتهم عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع عن امرأة ابن عمر صفية، عن عائشة، به، وهو الصواب فيما قال الدارقطني في "العلل" قالوا: وأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(276)، والبيهقي في "إثبات عذاب القبر"(108) من طريق سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع، عن ابن عمر ا. هـ قلت: الراوي له عن سفيان الثوري عندهما هو أبو حذيفة واسمه موسى بن مسعود وفي روايته عن الثوري ضعف. قال الإمام أحمد كأن سفيان الذى يحدث عنه أبو حذيفة ليس هو سفيان الثوري الذى يحدث عنه الناس. والحديث من طريقه رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 173) ثم قال: كَذَا رَوَاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَعْدٍ، وَرَوَاهُ غُنْدَرٌ وَغَيْرُهُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ (إنسان)، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها مِثْلَهُ ا. هـ وقال الحافظ ابن رجب في أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور (ص: 57): وروى الثوري عن سعد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالمحفوظ ا. هـ
(2)
مسند أحمد (23/ 158)
-رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ دُفِنَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى قَبْرِهِ قَالَ:«لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ لَنَجَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ رُخِّيَ عَنْهُ»
(1)
(6)
وقال أيضا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فذكره. قال: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ إِلَّا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ
(2)
"
(7)
وقال أيضا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، ثنا حَسَّانُ بْنُ غَالِبٍ، ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ أَبِي النَّضْرِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ، ثُمَّ اسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ:«لَوْ نَجَا مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ أَحَدٌ لَنَجَا سَعْدٌ لَقَدْ ضَغَطَهُ، ثُمَّ رُخِّيَ عَنْهُ»
(3)
(8)
وَأخرجه الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ حَدثنَا سُفْيَان - يعني ابن وكيع- حدثنا ابْن وهب عَنْ عَمْرو بن الْحَارِث عَنْ زِيَاد عَنْ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ، قَالَ رَسُول اللهُ صلى الله عليه وسلم «لَو أفلت أحد من فتْنَة الْقَبْر أَوْ ضمه لنجا سعد وَلَقَدْ ضم ضمة ثمَّ رخى عَنهُ»
(4)
.
قلت: هكذا هو في كل الأسانيد المتقدمة (عن ابن عباس) - بالموحدة والسين المهملة رضي الله عنهما. والصواب (عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ؛ - بالمثناة التحتانية والشين المعجمة-):
(9)
كما رواه يعقوب بن سفيان الفسوي فقال: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أَبِي النَّضْرِ عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ عَيَّاشٍ عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ؛ رضي الله عنه: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَعَدَ عَلَى قَبْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، ثُمَّ اسْتَرْجَعَ فَقَالَ:«لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ أَوْ أَلَمِهِ أَوْ ضَمِّهِ لَنَجَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً، ثُمَّ رُوِّحَ عَنْهُ» .
(5)
(1)
المعجم الكبير (10/ 334) رقم (10827)
(2)
المعجم الأوسط (6/ 349) رقم (6593)
(3)
المعجم الكبير (12/ 232) رقم (12975)
(4)
نوادر الأصول (727)
(5)
المعرفة والتاريخ (1/ 247) - ومن طريقه ابن عساكر في التاريخ (19/ 236) -. ومن طريق يعقوب رواه البيهقي في إثبات عذاب القبر (112) لكن وقع في المطبوع: (عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
(10)
وفي المسند -بسند ضعيف- عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ قَعَدَ عَلَى شَفَتِهِ، فَجَعَلَ يُرَدِّدُ بَصَرَهُ فِيهِ ثُمَّ قَالَ:«يُضْغَطُ الْمُؤْمِنُ فِيهِ ضَغْطَةً تَزُولُ مِنْهَا حَمَائِلُهُ، وَيُمْلَأُ عَلَى الْكَافِرِ نَارًا» ، ثُمَّ قَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ عِبَادِ اللَّهِ؟ الْفَظُّ الْمُسْتَكْبِرُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ؟ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ ذُو الطِّمْرَيْنِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّ اللَّهُ قَسَمَهُ»
(1)
(11)
وروى الطحاوي بسند ضعيف جدا عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ لِأُمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله عنها وَهِيَ تَبْكِي عَلَيْهِ: انْظُرِي مَا تَقُولِينَ يَا أُمَّ سَعْدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«دَعْهَا يَا عُمَرُ، كُلُّ نَائِحَةٍ مُكَذَّبَةٌ إِلَّا أُمَّ سَعْدٍ، مَا قَالَتْ مِنْ خَيْرٍ، فَلَنْ تَكْذِبَ» ثُمَّ احْتُمِلَ فَوُضِعَ فِي قَبْرِهِ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كُنْتَ لَتَقْطَعُنَا، يَعْنُونَ فِي السُّرْعَةِ، قَالَ:«خَشِيتُ أَنْ تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ إِلَى غُسْلِهِ كَمَا سَبَقَتْنَا إِلَى غُسْلِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَا لَوْنَكَ قَدْ تَغَيَّرَ حِينَ قَعَدْتَ عَلَى الْقَبْرِ، قَالَ:«ضُمَّ سَعْدٌ فِي الْقَبْرِ ضَمَّةً، وَلَوْ أُعْفِيَ مِنْهَا أَحَدٌ، أُعْفِيَ مِنْهَا سَعْدٌ»
(2)
(1)
مسند أحمد (38/ 444) بسند ضعيف.
(2)
شرح مشكل الآثار (10/ 369)،
• ورواه الدارقطني كما في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2/ 361) للسيوطي فقال: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد الله بْن ميسر حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سِنَان الْقطَّان حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا صَالِح بْن مُحَمَّد بْن صَالِح عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُول الله «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِوَفَاةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَنَزَلَ الأَرْضَ لِشُهُودِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَا نَزَلُوهَا قَبْلَهَا وَاسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَلَقَدْ ضُمَّ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ضَمَّةً يَعْنِي فِي قَبْرِهِ وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهَا مُعَافًى عُوفِيَ مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» . قال تَفَرّد بِهِ مُحَمَّد بْن صَالِح. قَالَ ابْن حبَان: يرْوى الْمَنَاكِير عَنِ الْمَشَاهِير لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. ا. هـ
• ورواه السنن الكبرى للنسائي (7/ 338) مختصرا (8166) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، وَأَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ سَعْدًا، حَكَمَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: أَنْ يُقَتَّلَ مِنْهُمْ كُلُّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، وَأَنْ تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَأَنْ تُقَسَّمَ أَمْوَالُهُمْ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«لَقَدْ حَكَمَ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ»
• وفي المسند المصنف المعلل (9/ 132): قال البزار: هذا الحديث قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأعلى من روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم سعد، ولا نعلم له عن سعد طريقا إلا هذا الطريق، إلا حديثا رواه عياض بن عبد الرحمن بن سعد، عن أبيه، عن جده، ولم يتابع عليه. «مسنده» (1091). ـ
• وقال أبو حاتم الرازي: ذاك خطأ، ومحمد بن صالح شيخ، لا يعجبني حديثه. «علل الحديث» (971). ـ
• وقال الدارقطني: حدث به سعد بن إبراهيم، واختلف عنه؛ فرواه محمد بن صالح التمار، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن سعد. وخالفه عياض بن عبد الرحمن، فرواه عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جده عبد الرحمن بن عوف. وكلاهما وهم. وخالفهما شعبة، فرواه عن سعد، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبي سعيد الخدري، وهو الصواب. «العلل» (605).
• وقال البخاري في التاريخ الكبير (4/ 291) 2863 - صالح بْن مُحَمَّد بْن صالح بْن دينار التمار الْمَدَنِيّ عَنْ أَبِيه عَنْ سَعْد بْن إِبْرَاهِيم عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَعْد بْن معاذ، وخالفه شُعْبَة عَنْ سَعْد عَنْ أَبِي أمامة ابن سهل عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا أَصَحُّ ا. هـ
• قلت: وحديث شعبة في الصحيحين.
(12)
وقال ابن سعد: أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَ قَبْرِ سَعْدٍ: «لَقَدْ ضُغِطَ ضَغْطَةً، أَوْ هُمِزَ هُمَزَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا بِعَمَلٍ لَنَجَا مِنْهَا سَعْدٌ»
(1)
(13)
وقال أيضا: أَخْبَرَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: لَمَّا دَفَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَعْدًا قَالَ: «لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ لَنَجَا سَعْدٌ، وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً اخْتَلَفَتْ مِنْهَا أَضْلَاعُهُ مِنْ أَثَرِ الْبَوْلِ»
(2)
وهذا مرسل ضعيف الإسناد.
(14)
ومثله في الضعف ما رواه البيهقي في إثبات عذاب القبر عَنْ ابن إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَأَلَ بَعْضَ أَهْلِ سَعْدٍ: مَا بَلَغَكُمْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا؟ فَقَالُوا: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «كَانَ يُقَصِّرُ فِي بَعْضِ الطُّهُورِ مِنَ الْبَوْلِ»
(3)
(15)
وقال أبو بكر بن أبي داود: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا سَعْدٌ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ بِجِنَازَتِهَا، وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَرَأَيْنَاهُ كَئِيبًا حَزِينًا، ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَهَا، فَخَرَجَ
(1)
الطبقات الكبرى ط دار صادر (3/ 431).
(2)
الطبقات الكبرى ط دار صادر (3/ 430).
(3)
إثبات عذاب القبر (114)
مُلْتَمِعَ اللَّوْنِ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:«إِنَّهَا كَانَتِ امْرَأَةٌ مِسْقَامًا، فَذَكَرْتُ شِدَّةَ الْمَوْتِ، وَضَغْطَةَ الْقَبْرِ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ، فَخَفَّفَ عَنْهَا»
(1)
(1)
كتاب البعث لابن أبي داود (8) ومن طريقه: أبو القاسم الأصبهاني في «الحجة في بيان المحجة» (323)، وابن عساكر في المعجم (142) وقال: حسن غريب.
• قال السيوطي كما في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2/ 361) وَأخرجه أَبُو عَوَانَة فِي صَحِيحه قَالَ كتب إليَّ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم (بْن) شَاذان -كذا والصواب حذف كلمة ابن- حَدَّثَنَا سَعِيد (كذا وصوابه سعد) بْن الصَّلْت
…
بِهِ. وعزاه الحافظ في إتحاف المهرة (2/ 60) إلى أبي عوانة فِي الْجَنَائِزِ: كَتَبَ إِلَيَّ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، بِهِ. عَنْ أَنَسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
• قلت: إسحاق هذا هو الملقب شاذان، وهو سبط سعد بن الصلت القاضي. قال الذهبي: ذكره ابْنُ حِبّان فِي " الثِّقَاتِ " وَقَالَ: مَاتَ لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وستين. ولي جده قضاء شيراز، وهو من طبقة وكيع. وقال ابن أبي حاتم: كتب إلي وإلى أبي، وهو صدوق. انظر: تاريخ الإسلام ت بشار (6/ 294). وقال الحافظ في لسان الميزان ت أبي غدة (2/ 33): له مناكير وغرائب مع أن ابن حبان ذكره في الثقات فقال: يروي عن عُبَيد الله بن موسى وجده، يعني لأمه - سعد بن الصلت وعنه عبد الكبير الخطابي، وَغيره. مات يوم الأحد لسبع بقين من جمادي الآخرة سنة سبع وستين ومئتين. قلت: وقد جمع ابن منده غرائبه ووقعت لنا من طريقه ا. هـ وقد ذكره ابن أبي حاتم فنسبه وقال: إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن زيد النهشلي وقال: هو صدوق.
• وسعد هو ابن الصلت ذكره ابن حبان في ثقاته وقال: يروي عن الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد. روى عنه ابن ابنته إسحاق بن إبراهيم شاذان. رُبَّما أغرب ا. هـ وذكره ابن أبي حاتم (4/ 34) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (4/ 1107): سَأَلَ عَنْهُ سُفْيان الثَّوْريّ فقال: ما فعل سعْد؟ قَالُوا: وُلّي قضاء شيراز. قَالَ: دُرّة وقع في الحُشّ. قال الذهبي: قلت: ما رَأَيْت لأحدٍ فيه جرحا، فمحله الصدق ا. هـ وعبارته في سير أعلام النبلاء (9/ 318): قُلْتُ: هُوَ صَالِحُ الحَدِيْثِ، وَمَا عَلِمتُ لأَحَدٍ فِيْهِ جَرْحاً ا. هـ
• ومن فوقه معروفون، لكن أبو سفيان وهو طلحة بن نافع ذكر أبو حاتم أن سماعه من أنس محتمل كما في جامع التحصيل. وقال ابن حبان في الثقات (4/ 393): روى عَنهُ الْأَعْمَش وَعتبَة بن أبي حَكِيم وَالنَّاس وَكَانَ الْأَعْمَش يُدَلس عَنهُ ا. هـ وقال في مشاهير علماء الأمصار (ص: 175): وكان يهم في الشيء بعد الشيء ا. هـ فيتوقف في الجزم بسماعه من أنس
• والحديث رواه الحاكم (6845) من طريق شاذان به ووقع في سنده (سعيد) بن الصلت والصواب سعد.
• ورواه أبو عوانة -كما في اللآلاء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2/ 361) - والطبراني في المعجمين الكبير (22/ 433) و الأوسط (5810) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ كلاهما قالا (أبو عوانة والحضرمي واللفظ له) ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ سَلَامٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ظَهَرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُزْنٌ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَا مِنْكَ مَا لَمْ نَرَ قَالَ: «ذَكَرْتُ زَيْنَبَ، وَضَعْفَهَا، وَضَغْطَةَ الْقَبْرِ، لَقَدْ هُوِّنَ عَلَيْهَا، وَعَلَى ذَلِكَ لَقَدْ ضَغَطَهَا ضَغْطَةً بَلَغَتِ الْخَافِقَيْنِ»
• وقال الطبراني: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ إِلَّا زَكَرِيَّا بْنُ سَلَامٍ، تَفَرَّدَ بِهِ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ.
• قلت: إسحاق ثقة، وشيخه زكريا ذكره البخاري في التاريخ الكبير (3/ 423 و 424) ومسلم في الكنى (2/ 903) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/ 598) ولم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا. وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (3/ 865): صَدُوقٌ ا. هـ وقال الذهبي: .. فِي نَفْسِي مَنْ لَقِيَ إِسْحَاقَ بْنَ سُلَيْمَانَ لَهُ ا. هـ قلت: أثبت سماعه منه البخاري في التاريخ ومسلم في الكنى.
• وسعيد بن مسروق هو والد الثوري ثقة، وفي سماعه من أنس نظر فقد قال القزويني في التدوين في أخبار قزوين (3/ 47): من أتباع التابعين ويقال إنه رأى أنس بْن مالك وابن أبي أوفى ولم يسمع منهما ا. هـ
• وقال الحافظ ابن رجب في أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور (ص: 58): وزكريا قيل إنه مجهول وسعيد بن مسروق لم يدرك أنسا فهو منقطع ا. هـ
• ورواه المُخَلِّص في المخلصيات (1/ 206) رقم (249) -ومن طريقه الضياء في المختارة (2162) - وابن شاهين كما في اللآلاء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2/ 360) للسيوطي قالا: حدثنا يحيى بنُ محمدٍ: حدثنا محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسنِ بنِ شقيقٍ المروزيُّ قالَ: سمعتُ أبي قالَ: أخبرنا أبوحمزةَ، عن سليمانَ الأعمشِ، عن سليمانَ، عن أنسٍ قالَ: تُوفيتْ زينبُ ابنتُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكانَت امرأةً مِسْقامةً، فتبِعَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم[فساءَنا حالُه]، فلمَّا دخلَ القبرَ التمعَ وجهُهُ صفرةً، ثم أسفَرَ وجهُهُ، فقُلنا: يا رسولَ اللهِ، رأَينا مِنْكَ أمراً ساءَنا، فلمَّا دخلتَ القبرَ التمَعَ وجهُكَ صفرةً ثم أسفَرَ وجهُكَ، فمِمَّ ذاكَ؟ قالَ:«ذكرتُ ضعفةَ بنتي وشدَّةَ عذابِ القبرِ، فأُتيتُ فأُخبرتُ أنَّه قد خُفِّفَ عنها، ولقد ضُغطَتْ ضغطةً سمعَ صوتَها ما بينَ الخافِقينِ» . قلت: وشيخ الأعمش سليمان هو ابن المغيرة ولم يسمع من أنس.
• وقال الدارقطني في العلل (12/ 251): يرويه الأعمش، واختلف عنه؛
• فرواه سعد بن الصلت، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس.
• وخالفه حبيب بن خالد الأسدي، رواه عن الأعمش، عن عبد الله بن المغيرة، عن أنس.
• وَرَوَاهُ أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سليمان، عن أنس.
• وقال مسلم بن الحجاج في هذا الحديث: عن ابن شقيق، عن أبيه، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن سليمان بن المغيرة، عن أنس. والحديث مضطرب عن الأعمش ا. هـ
(16)
وروى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ السَّامِيُّ- بالمهملة- قال ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى صَبِيٍّ أَوْ صَبِيَّةٍ فَقَالَ:«لَوْ كَانَ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ لَنَجَا هَذَا الصَّبِيُّ»
(1)
(17)
قال الذهبي رحمه الله: هَذِهِ الضَّمَّةُ لَيْسَتْ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ يَجِدُهُ المُؤْمِنُ، كَمَا يَجِدُ أَلَمَ فَقْدِ وَلَدِهِ وَحَمِيْمِهِ فِي الدُّنْيَا، وَكَمَا يَجِدُ مِنْ أَلَمِ مَرَضِهِ، وَأَلَمِ خُرُوْجِ نَفْسِهِ، وَأَلَمِ سُؤَالِهِ فِي قَبْرِهِ وَامْتِحَانِهِ، وَأَلَمِ تَأَثُّرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَأَلَمِ قِيَامِهِ مِنْ
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (3/ 146) وأبو يعلى كما في -المطالب العالية- وعنه ابن عدي في الكامل (ترجمة ثمامة)، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (1824) كلهم من طريق إبراهيم به وقال الطبراني: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ ثُمَامَةَ إِلَّا حَمَّادٌ ا. هـ وتابعه جماعة منهم:
• وكيع: أخرجه عبد الله بن أحمد (رقم: 1434) حدثني أبي، حدثنا وكيع به.
• وتابعه أيضا: المؤمل بن إسماعيل والعلاء بن عبد الجبار - كما في العلل لابن أبي حاتم والمختارة للمقدسي (5/ 201) -.
• وتابعه أيضا حرمي بن عمارة وسعيد بن عاصم اللخمي، ذكره عنهما الدَّارَقطني في العلل - كما في المختارة (5/ 201) للضياء المقدسي.
• وخالفهم التبوذكي أبو سلمة فرواه عن حماد عن ثمامة مرسلا. رواه عنه أبو حاتم كما في العلل لابنه (1031)
• وتابعه أبو عمر الحوضي ووكيع - يعني في رواية عنه- فيما ذكره الدارقطني وصحح إرساله أبو حاتم والدارقطني.
• وقال الحافظ ابن رجب في أهوال القبور: وقد اختُلفَ فيه على حمادِ،
• فرواه جماعةٌ عن ثمامةَ مرسلاً. والمرسلُ هو الصحيحُ، عند أبي حاتمٍ الرازي، والدارقطنيِّ ا. هـ
• واختلف فيه على وكيع أيضا فقد رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 121) رقم (3858) فقال: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، ثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثنا وَكِيعٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنهما، أَنَّ صَبِيًّا دُفِنَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَوْ أَفْلَتَ أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ لَأَفْلَتَ هَذَا الصَّبِيُّ»
• قال الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (5/ 196): ولعل رواية ثمامة هذه عن أنس أرجح من روايته عن البراء، فقد قال ابن عدي:" ثمامة بن عبد الله أرجو أنه لا بأس به، وأحاديثه قريبة من غيره وهو صالح فيما يرويه عن أنس عندي ". قلت: وقد احتج به الشيخان وغيرهما، ووثقه أحمد والنسائي وسواهما. وحماد بن سلمة ثقة من رجال مسلم. والله أعلم ا. هـ
قَبْرِهِ، وَأَلَمِ المَوْقِفِ وَهَوْلِهِ، وَأَلَمِ الوُرُوْدِ عَلَى النَّارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الأَرَاجِيْفُ كُلُّهَا قَدْ تَنَالُ العَبْدَ، وَمَا هِيَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَلَا مِنْ عَذَابِ جَهَنَّم قَطُّ، وَلَكِنَّ العَبْدَ التَّقِيَّ يَرْفُقُ اللهُ بِهِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ أَوْ كُلِّهِ، وَلَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ دُوْنَ لِقَاءِ رَبِّهِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39] وَقَالَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18]، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى العَفْوَ وَاللُّطْفَ الخَفِيَّ، وَمَعَ هَذِهِ الهَزَّاتِ، فَسَعْدٌ مِمَّنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَرْفَعِ الشُّهَدَاءِ رضي الله عنه. كَأَنَّكَ يَا هَذَا تَظُنُّ أَنَّ الفَائِزَ لَا يَنَالُهُ هَوْلٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَلَا رَوْعٌ، وَلَا أَلَمٌ، وَلَا خَوْفٌ، سَلْ رَبَّكَ العَافِيَةَ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ سَعْدٍ ا. هـ
(1)
(18)
قلت: وقال ابن الأعرابي: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ، نا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، نا عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ، نا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ مُنْذُ يَوْمِ حَدَّثْتَنِي بِصَوْتِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَضَغْطَةِ الْقَبْرِ، لَيْسَ يَنْفَعُنِي شَيْءٌ، قَالَ:«يَا عَائِشَةُ، إِنَّ صَوْتَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، فِي أَسْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ كَالْإِثْمِدِ فِي الْعَيْنِ، وَإِنَّ ضَغْطَةً فِي الْقَبْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَأُمِّهِ الشَّفِيقَةِ يَشْكُو إِلَيْهَا ابْنُهَا الصُّدَاعَ، فَتَقُومُ إِلَيْهِ فَتَغْمِزُ رَأْسَهُ غَمْزًا رَفِيقًا، وَلَكِنْ يَا عَائِشَةُ، وَيْلٌ لِلشَّاكِّينَ فِي اللَّهِ كَيْفَ يُضْغَطُونَ فِي قُبُورِهِمْ، كَضَغْطَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الصَّخْرِ»
وإسناده ضعيف جدا
(2)
(1)
سير أعلام النبلاء (1/ 290).
(2)
معجم ابن الأعرابي (3/ 895) رقم (1870) ورواه البيهقي أيضا في إثبات عذاب القبر (116) قال: وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو سَعِيدٍ قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، نَا مُحَمَّدٌ، ثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، به ولفظه:«يَا عَائِشَةُ إِنَّ أَصْوَاتَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي أَسْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ كَالْإِثْمِدِ فِي الْعَيْنِ وَإِنَّ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَالْأُمِّ الشَّفِيقَةِ يَشْكُو إِلَيْهَا ابْنُهَا الصُّدَاعَ؛ فَتَغْمِزُ رَأْسَهُ غَمْزًا رَفِيقًا، وَلَكِنْ يَا عَائِشَةُ وَيْلٌ لِلشَّاكِّينَ فِي اللَّهِ، كَيْفَ يُضْغَطُونَ فِي قُبُورِهِمْ كَضَغْطَةِ الْبَيْضَةِ عَلَى الصَّخْرَةِ» . وإسناده ضعيف جدا، الحسن بن أبي جعفر ضعيف جدا وشيخه هو ابن جدعان ضعيف وتلميذه عمرو بن سفيان ذكره ابن حبان في الثقات (8/ 481) فقال: عَمْرو بن سُفْيَان الْقطيعِي -ويقال أيضا (القطعي) - يروي عَنْ الْحسن بن أبي جَعْفَر روى عَنهُ عقبَة بن مكرم الْعَمى والعراقيون ا. هـ قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (12/ 769): عمرو بن سفيان القطعي؛ لم أجده إلا في " ثقات ابن حبان "
…
فهو مجهول الحال. والله أعلم.
فتنة القبر وسؤال المَلَكَيْنِ:
والفتنة هي هذه الأسئلة التي يُسْأَلُهَا الإنسان في قبره ويُسمِّيها العلماءُ بفتنة القبر، فالإنسانُ إذا وُضِعَ في قبره يأتيه ملكان، يقال لأحدهما المنكر ويقال للآخر النكير، فيسألانه. كما تقدم في الأحاديث: يقال له: مَنْ ربُّكَ؟ فيقولُ العبد المؤمن: رَبِّيَ اللهُ، -فهو عاش على ذلك وعلى ذلك مات-، يقول: ربي الله أي: إلهي ومعبودي وخالقي هو الله، فيقولانِ له: ما دِينُكَ؟ فيقولُ: دِينِيَ الإسلامُ، فيقولانِ له: ما هذا الرجلُ الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقولُ: هو رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيقولانِ له: وما [علمُكَ]؟ فيقولُ: قرأتُ كتابَ اللهِ، فآمَنْتُ به، وصَدَّقْتُ، فيَنْتَهِرُهُ، فيقولُ: مَنْ رَبُّكَ؟ ما دِينُكَ؟ مَنْ نبيُّكَ؟ قال عليه الصلاة والسلام: وهي آخِرُ فتنةٍ تُعْرَضُ على المؤمنِ، كما في حديث البراء المتقدم.
هذه الأسئلة الثلاثة التي من عاش في الدنيا لأجلها وفَّقه الله وثبَّته بالقول الثابت، ومن أعرض عنها لم يستطع أن يجيب.
والمتأمل لحديث البراء عند قراءته يعيش هذه الرحلة العظيمة التي تمشي مع النفس مع الإنسان من حين يموت وإلى أن يوضع في قبره، فيكون قبره عليه إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، فيجب على المسلم أن يؤمن بذلك، وأن يصدق بذلك، وأن يعمل من العمل الصالح ما يكون سببًا في نجاته من عذاب الله فإن لنعيم القبر أسبابًا وأعمالًا ينبغي على المؤمن أن يسلكها، وأن يعمل بها، وإن لعذاب القبر أسبابًا يجب على المؤمن أن يجتنبها وأن يحذر منها. وإن من عقيدة المؤمن التي يجب أن يعتقدها أن يعتقد أن القبر فيه نعيم وفيه عذاب كما جاءت بذلك الأخبار والأدلة من كتاب الله وسنة النبي المختار عليه الصلاة والسلام.
وسيأتي ذكر شيء من ذلك في المجلس القادم -إن شاء الله-.
والحمد لله رب العالمين
JIH
F e
المجلس الرابع والعشرون
(1)
عذاب القبر ونعيمه:
ومن المسائل المتصلة بمسائل الدرس الماضي ما يتعلق بالإيمان بنعيم القبر وعذابه، وأن القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار؛ فإن الإنسان إذا دخل قبره تحصل له هناك أمورٌ كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم. وهي مما يدخل في مسائل الإيمان بالغيب الذي أمرنا الله أن نؤمن به. ولمَّا وجد في زماننا هذا من ينكر أن يكون في القبر عذابٌ أو نعيمٌ، لزم أن نقف عند هذه المسألة قليلًا لنعرض أدلتَها.
الأدلة من القرآن:
قال ابن القيم رحمه الله: نعيم البرزخ وعذابه مَذْكُور فِي الْقُرْآن فِي غير مَوضِع؛
1 -
فَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)} [الأنعام: 93]
وَهَذَا خطاب لَهُمْ عِنْد الْمَوْت وَقد أخْبرت الْمَلَائِكَة وهم الصادقون أَنهم حِينَئِذٍ يجزون عَذَاب الْهون وَلَو تَأَخّر عَنْهُم ذَلِك إِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا لما صَحَّ أَنْ يُقَال لَهُمْ الْيَوْم تُجْزونَ.
2 -
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 45 - 46]
فَذكر عَذَاب الدَّاريْنِ ذكرا صَرِيحًا لَا يحْتَمل غَيره.
3 -
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي
(1)
كان في يوم الأحد الرابع والعشرين من شهر رمضان 1441 هـ.
عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)} [الطور: 45 - 47]
وَهَذَا يحْتَمل أَنْ يُرَاد بِهِ عَذَابهمْ بِالْقَتْلِ وَغَيره فِي الدُّنْيَا وَأَنْ يُرَاد بِهِ عَذَابهمْ فِي البرزخ -وَهُوَ أظهر- لِأَن كثيرا مِنْهُم مَاتَ وَلم يعذب فِي الدُّنْيَا وَقد يُقَال -وَهُوَ أظهر-: أَنْ من مَاتَ مِنْهُم عذب فِي البرزخ وَمن بقى مِنْهُم عذب فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَغَيره فَهُوَ وَعِيد بعذابهم فِي الدُّنْيَا وَفِي البرزخ
(1)
.
4 -
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)} [السجدة: 21]
وَقد احْتج بِهَذِهِ الْآيَة جمَاعَة مِنْهُم عبد الله بن عَبَّاس رضي الله عنهما على عَذَاب الْقَبْر.
(2)
وَفِي الِاحْتِجَاج بهَا شَيْء لِأَن هَذَا عَذَاب فِي الدُّنْيَا يستدعى بِهِ رجوعهم عَنْ الْكفْر وَلم يكن هَذَا مَا يخفي على حبر الْأمة وترجمان الْقُرْآن لَكِن من فقهه فِي الْقُرْآن ودقة فهمه فِيهِ فهم مِنْهَا عَذَاب الْقَبْر فإنه سُبْحَانَهُ أخبر أَنْ لَهُ فيهم عذابين أدنى وأكبر فَأخْبر أَنه يذيقهم بعض الْأَدْنَى ليرجعوا فَدلَّ على أَنه بقى لَهُمْ من الْأَدْنَى بَقِيَّة يُعَذبُونَ بهَا بعد عَذَاب الدُّنْيَا وَلِهَذَا قَالَ من الْعَذَاب الْأَدْنَى وَلم يقل ولنذيقنهم الْعَذَاب الْأَدْنَى فَتَأَمّله.
(1)
وجاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما من طرق- فِي قَوْلِهِ {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} يَقُولُ: «عَذَابُ الْقَبْرِ قَبْلَ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . انظر تفسير الطبري (21/ 602) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (70) وتفسير عبد الرزاق (3016). ورواه الطبري أيضا (21/ 603) عن الْبَرَاءِ. وفي سنده شريك ضعيف. ورواه هناد -كما في الدر المنثور (7/ 636) - ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (4/ 200) - وعبد الله في السنة (1459) عن زَاذَانَ.
(2)
عزاه إلى ابن عباس أيضا الحافظ ابن رجب في أهوال القبور (46) والمشهور عنه قولان أولهما من طريق ابن أبي طلحة عنه أنه قال: هو: مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَأَسْقَامُهَا وَبَلَاؤُهَا مِمَّا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ حَتَّى يَتُوبُوا. رواه الطبري (18/ 627). والثاني: عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عنه قَالَ: الْحُدُودُ " رواه الطبري أيضا (18/ 629). وتفسيرها بعذاب القبر أسنده الطبري (18/ 631) عن مجاهد. ونقله ابن كثير (6/ 369) عن البراء بن عازب ومجاهد وأبي عبيدة -يعني ابن عبد الله بن مسعود-. وقول أبي عبيدة والبراء أسنده هناد بن السري في الزهد (345) - ومن طريقه الآجري في الشريعة (854)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 206) - قال حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، أَوْ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ
…
فذكره. وإسناده ضعيف. فتبين بهذا أن الاستدلال بها هنا فيه ضعف. ومما يضعفه ختام الآية: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فتأمل.
وَهَذَا نَظِير قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَيفتح لَهُ طَاقَة إِلَى النَّار فيأتيه من حرهَا وسمومها وَلم يقل فيأتيه حرهَا وسمومها فَإِنْ الذى وصل إِلَيْهِ بعض ذَلِك وبقى لَهُ أَكْثَره والذى ذاقه أَعدَاء الله فِي الدُّنْيَا بعض الْعَذَاب وبقى لَهُمْ مَا هُوَ أعظم مِنْهُ
5 -
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} [الواقعة]. فَذكر هَاهُنَا أَحْكَام الْأَرْوَاح عِنْد الْمَوْت وَذكر فِي أول السُّورَة أَحْكَامهَا يَوْم الْمعَاد الْأَكْبَر وَقدم ذَلِك على هَذَا تَقْدِيم الْغَايَة للعناية إِذْ هي أهم وَأولى بِالذكر وجعلهم عِنْد الْمَوْت ثَلَاثَة أَقسَام كَمَا جعلهم فِي الْآخِرَة ثَلَاثَة أَقسَام.
6 -
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر].
وَقد اخْتلف السّلف مَتى يُقَال لَهَا ذَلِك
(1)
؛ فَقَالَت طَائِفَة يُقَال لَهَا عِنْد الْمَوْت
(2)
وَظَاهر اللَّفْظ مَعَ هَؤُلَاءِ فإنه خطاب للنَّفس الَّتِي قد تجردت عَنْ الْبدن وَخرجت مِنْهُ وَقد فسر ذَلِك النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقوله فِي حَدِيث الْبَراء رضي الله عنه وَغَيره فَيُقَال لَهَا اخرجي راضية مرضيا عَنْك
…
وَقَوله تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} مُطَابق لقَوْله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ الرفيق الْأَعْلَى»
(3)
وَأَنت إِذا تَأَمَّلت أَحَادِيث عَذَاب الْقَبْر ونعيمه وَجدتهَا تَفْصِيلًا وتفسيرا لما
(1)
انظر تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (24/ 396).
(2)
رواه الطبري عن أبي صالح مولى أم هانئ ثم قال (24/ 397): وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ، أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ رَدِّ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَادِ يَوْمَ الْبَعْثِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} ا. هـ
(3)
رواه البخاري (4463) ومسلم (2444) عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى»
دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق ا. هـ
(1)
7 -
قلت: ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه] ففي صحيح ابن حبان عن أبي سلمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي قَوْلِهِ -جل وعلا-:{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} قَالَ: «عَذَابُ الْقَبْرِ»
(2)
وفي مستدرك الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مثله.
(3)
8 -
ومنها قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] كما في الصحيحين عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ.
(4)
9 -
ومنها قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر] فقد روى الترمذي عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا زِلْنَا نَشُكُّ فِي عَذَابِ القَبْرِ حَتَّى نَزَلَتْ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ
(5)
.
وقال الطبري رحمه الله: وَقَوْلُهُ: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر] يَعْنِي: حَتَّى صِرْتُمْ إِلَى
(1)
كتاب الروح (ص 140/ ت سيد رجب)
(2)
صحيح ابن حبان (3119) قال أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، به، وتابعه أبو زرعة عن أبي الوليد عند البزار -كما في تفسير ابن كثير (5/ 324) -ورواه الحاكم (1405) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْفَقِيهُ، ثنا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ، ثنا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، به فوقفه. وقد تقدم الحديث مطولا (ص 376)
(3)
المستدرك (3439) من طريق إِسْحَاق، أَنْبَأَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْمَدَنِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ " وخولف فيه حماد بن سلمة فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي حازم به فوقفه. رواه ابن أبي شيبة (34837) ومسدد كما في المطالب العالية (3659) وتابعه موقوفا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ عن أبي حازم كما في تفسير الطبري (16/ 198). ورواه ابْنُ عُيَيْنَةَ فقال: عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ موقوفا رواه عبد الرزاق في المصنف (6741) والطبري (16/ 196) وقال ابن كثير في التفسير (5/ 323): قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ يُكَنَّى أَبَا سَلَمَةَ ا. هـ ورجح أبو زرعة رواية من قال عن النعمان كما في العلل لابن أبي حاتم (1694).
(4)
البخاري (1369، 4699) ومسلم (2871) واللفظ له.
(5)
سنن الترمذي (3355)
الْمَقَابِرِ فَدُفِنْتُمْ فِيهَا؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ، أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَلْهَاهُمُ التَّكَاثُرُ، أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ مَا يَلْقَوْنَ إِذَا هُمْ زَارُوا الْقُبُورَ وَعِيدًا مِنْهُ لَهُمْ وَتَهَدُّدًا. ا. هـ
(1)
الأدلة من السنة:
قال ابن القيم رحمه الله: الأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر ا. هـ
(2)
وقال ابن كثير رحمه الله: وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا. اهـ
(3)
وقال ابن أبي العز رحمه الله: وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثُبُوتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِه لِمَنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ثُبُوتِ ذَلِكَ وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي كَيْفِيَّتِه، إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ وُقُوفٌ عَلَى كَيْفِيَّتِه، لِكَوْنِه لَا عَهْدَ لَهُ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَالشَّرْعُ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُه الْعُقُولُ، وَلَكِنَّه قَدْ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ. فَإِنَّ عَوْدَ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ لَيْسَ عَلَى الْوَجْه الْمَعْهُودِ فِي الدُّنْيَا، بَلْ تُعَادُ الرُّوحُ إِلَيْهِ إِعَادَة غَيْرَ الْإِعَادَة الْمَأْلُوفَة فِي الدُّنْيَا ا. هـ
(4)
ومن أدلة السنة في إثبات عذاب القبر ونعيمه ما يلي:
1 -
حديث البراء بن عازب وشواهده المتقدمة.
2 -
وكذلك الحديثُ المشهورُ حديثُ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ:«إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» متفق عليه
(5)
.
وفي رواية لمسلم وابن ماجه: «وَكَانَ الْآخَرُ لَا يَسْتَنْزِهُ عَنِ الْبَوْلِ - أَوْ مِنَ الْبَوْلِ -»
(6)
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (24/ 600)
(2)
مفتاح دار السعادة ط عالم الفوائد (1/ 118).
(3)
تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 147).
(4)
شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (2/ 578)
(5)
رواه البخاري (218)، ومسلم (292)، والترمذي (70)
(6)
رواه مسلم (292)، وأبو داود (20) النسائي (31) وابن ماجه (347)
وللنسائي «فَكَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ»
(1)
وهذه الروايات يفسر بعضها بعضا فمَعْنَى الِاسْتِتَارِ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَوْلِهِ سُتْرَةً يَعْنِي لَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ
(2)
.
وهذا الحديث فيه فائدتان عظيمتان:
الأولى: ما دلَّ عليه الحديث من العذاب الذي يقع لبعض الناس في قبورهم، وأنَّ القبر فيه عذاب كما فيه نعيم، فيجب على الإنسان أن يؤمن بهذا.
والفائدة الثانية: أن هذا العذاب يقع أيضًا على بعض المسلمين وأهل التوحيد وأهل الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» ثم ذكر عن الأول أنه «كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ» وذكر عن الثاني أنه «كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» يعني أنهما من أهل الإسلام ليسا كافرين، ولو كان لهما ذنبٌ أعظمُ من هذين يُعذَّبان عليه لذكره النبي صلى الله عليه وسلم. والعلماء مجمعون على هذا.
3 -
ومن الأدلة أنه صلى الله عليه وسلم علمنا أن نستعيذ بالله -جل وعلا- من عذاب القبر في أوقات شتى فمنها:
1.
دُبُر كل صلاة قبل السلام، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:«إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»
(3)
.
2.
وكذلك بعد السلام: كما في الصحيح عَنْ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ الأَوْدِيَّ، قَالَ: كَانَ سَعْدٌ رضي الله عنه يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ المُعَلِّمُ الغِلْمَانَ الكِتَابَةَ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ
(1)
سنن النسائي (2068، 2069)
(2)
فتح الباري لابن حجر (1/ 318)
(3)
رواه مسلم (588).
أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ»
(1)
3.
ومنها أن نتعوذ بالله من عذاب القبر في الصباح والمساء، كما في الصحيح عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَمْسَى قَالَ:«أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ» وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا: «أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ»
(2)
4.
والدعاء به للميت في الصلاة عليه لحديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قال: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ:«اللهُمَّ، اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ -» وفي رواية: «وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ» قَالَ: «حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ»
(3)
5.
وعند الكسوف أو الخسوف لحديثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها،: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَومَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، لَمَّا انْصَرَفَ من صلاته، «قَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ» متفق عليه
(4)
4 -
ومن الأدلة أيضا حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ - قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ - يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ
(1)
رواه البخاري (2822).
(2)
رواه مسلم (2723)
(3)
المرجع السابق (963).
(4)
رواه البخاري (1050) ومسلم (903) وبوب عليه البخاري: "بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ فِي الكُسُوفِ".
فِي شِدْقِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ. قُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ، فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ. فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِى فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ. فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِى أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بي في الشَّجَرَةِ، وأدخلاني دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أخرجاني مِنْهَا فَصَعِدَا بي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ. قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ. قَالَا نَعَمْ، أَمَّا الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِى رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ. وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُو الرِّبَا. وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عليها السلام وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ، وَالَّذِى يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ. وَالدَّارُ الأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِى مِثْلُ السَّحَابِ. قَالَا ذَاكَ مَنْزِلُكَ. قُلْتُ دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي. قَالَا إِنَّهُ بَقِىَ لَكَ عُمْرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ»
(1)
(1)
رواه البخاري (1386).
5 -
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»
(1)
6 -
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ فَقَالَ:«مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ:«فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟» قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ، فَقَالَ:«إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ» ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ:«تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ:«تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ:«تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، قَالَ:«تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ.
(2)
7 -
وفي الموطأ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ «اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر»
(3)
.
وغير ذلك من الأدلة التي تدُلُّ على إثبات عذاب القبر،
نسأل الله -جل وعلا- أن يعيذنا من عذاب القبر.
(1)
رواه مسلم (2868).
(2)
المرجع السابق (2867).
(3)
موطأ مالك ت عبد الباقي (1/ 228) رقم (18).
هول القبر وفظاعته:
وفي جامع الترمذي أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» . قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ»
(1)
.
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى امْرَأَة سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ ثُمَّ قَالَ «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ»
(2)
.
ذِكْرُ بعضِ ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر:
ومن المسائل التي تتعلق بالإيمان باليوم الآخر:
1 -
مسألةُ النفخ في الصور، وهي من أوائل ما يدخل معنا في مسائل الإيمان باليوم الآخر؛ لأنَّ ذلك مقدمة ليوم البعث والجزاء والنشور.
2 -
كذلك يجب أن نؤمن بالبعث والجزاء والنشور.
3 -
وكذلك نؤمنُ بما يقع من أحوال عظيمة في تبدُّلِ الأرض وتحوُّل الأرض يوم القيامة. فإن هذا مما أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وجاء أيضًا بيانُه في كتاب الله في سورة التكوير والانفطار وغيرهما من السور.
4 -
وكذلك نؤمن بما يقع في الموقف وأهواله يوم القيامة
5 -
وكذلك نؤمن بما أخبرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الكُرَب العظيمة التي تقع في ذلك اليوم
(1)
رواه الترمذي (2308)، وابن ماجه (4267) وأحمد (4540)، وقال الترمذي: وقال: هذا حديث حسن غريب ا. هـ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3550) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1245)
(2)
صحيح مسلم (956).
من إلجام الناس بالعرق ومن ذهول كلِّ مُرضِعة عمَّا أرضعت، ومن كون الولدان يشيبون، وبلوغ القلوب الحناجر، وتقلُّب القلوب والأبصار وغير ذلك.
6 -
كذلك نؤمن بما أخبرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أحوال الناس التي ستكون في عرصات القيامة: من تقطع الأنساب بينهم، ومن أن كلَّ نفس تكون مسؤولةً عن نفسها، وأن الأَخِلَّاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وغير ذلك.
7 -
كما نؤمن بما أخبرنا ممن سيأمن ومن سيخاف في ذلك اليوم.
8 -
كذلك نؤمن بالحشر وما وَرَدَ فيه من الأدلة.
9 -
ونؤمن بما سيكون يوم القيامة من الشفاعة العامَّة لفصل القضاء، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الشافعين.
10 -
كذلك نؤمن بما يكون يوم القيامة من نشر الصحف وتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله من وراء ظهره.
11 -
كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنَّ ثمة أناسًا يَأْمَنُون يوم القيامة، ويُظِلُّهم اللهُ في ظله يوم لا ظِلَّ إلا ظله.
12 -
كذلك نؤمن بما يكون يوم القيامة من الحساب، وأنَّ الله سريعُ الحساب، وأنه يحاسب الخلائق ويسألهم عن أعمالهم.
13 -
ونؤمن كذلك أن من الناس من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
14 -
كذلك نؤمن بما سيكون يوم القيامة من الحوض ولقاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يقف على حوضه ويَرِدُ الناس ليشربوا من حوضه صلى الله عليه وسلم.
15 -
كذلك نؤمن بما يقع يوم القيامة من الميزان، وأن الأعمال توزن، وأنه لا يُظلَم
أحدٌ عند الله.
16 -
كذلك نؤمن بالصراط الذي يكون يوم القيامة.
17 -
وكذلك نؤمن بالجنة والنار،
وغير ذلك من الأحداث التي جاء ذكرها فيما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر.
وسنبدأ في هذا المجلس إن شاء الله تعالى بالحديث عن مسألة من هذه المسائل، وهي: مسألة النفخ في الصور.
JIH
الإيمان
بالنفخ في الصور
F e
النفخ في الصور
يجب على المؤمن أن يؤمن بالنفخ في الصور؛ لأنه قد جاء ذكره في الكتاب وفي السنة ويكون عند بداية يوم القيامة.
وفي الحديث -كما سيأتي- أن الله أوكل بالنفخ في القرن مَلَكًا قد التَقَمَه؛ لينفخ فيه نفختي الصعق والبعث، وعلى إثرها تقوم الساعة.
وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: "كذلك يدخل في ذلك الإيمانُ بالصور والنفخ فيه الذي جعله اللهُ سببَ الفزع والصعق والقيام من القبور، وهو القرن الذي وكَّل اللهُ تعالى به إسرافيل كما تقدَّم في ذكر الملائكة، وقد ذكر الله عز وجل النفخَ فيه في مواضع من كتابه"
(1)
.
النفخ في الصور يكون مرتين:
وقد أفادت النصوص الشرعية أن النفخ في الصُّور يقع مرتين:
فالنفخة الأولى: للإفناء وبها يهلك كلُّ شيء إلا ما شاء الله، وتُسمَّى الراجفة، وتُسمَّى الصيحة. والنفخة الثانية: للإنشاء، وبها يُبعَثُ كلُّ شيء، وتُسمَّى الرادفة.
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر]،
وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)} [النازعات].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الراجفة: النفخة الأولى، والرادفة: النفخة الآخِرة"
(2)
(1)
معارج القبول (2/ 799).
(2)
تفسير الطبري (24/ 65).
وقال الحسن البصري: "هما النفختان، أما الأولى فتميت الأحياء، وأما الثانية فتحيي الموتى"
(1)
.
وقال قتادة: "هما الصيحتان: أما الأولى فتُمِيت كلَّ شيء بإذن الله، وأما الأخرى فتُحيي كلَّ شيء بإذن الله"
(2)
.
وهكذا يجد المتأمِّلُ للآيات الأخرى التي ورد فيها النفخ في الصور أنها تذكر نفختين أولى وأخرى،
قال الله تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} [الأنعام]
وقال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)} [الكهف]
وقال -جل وعلا-: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)} [النمل]
وقال -جل وعلا-: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)} [المدثر]،
يعني إذا نفخ في الصور. قاله ابن عباس والحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وغيرهم
(3)
وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر: 68]
اختلف فيه العلماء:
فذَهَبَ بعضُهم إلى أن النفخ في الصور دلَّت الآيات على أنه ثلاث وليست اثنتين،
فقالوا قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} هذه واحدة،
وقوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} هذه الثانية،
(1)
المرجع السابق (24/ 65).
(2)
المرجع السابق (24/ 66).
(3)
انظر: تفسير عبد الرزاق (3382) والأهوال لابن أبي الدنيا (54)، وتفسير الطبري (23/ 419)
وقوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} هذه الثالثة.
وقال بعض أهل العلم هي أربع.
والصحيح من أقوال العلماء أنها نفختان
(1)
.
وهو اختيار الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله وتلميذه العلامة ابن عثيمين رحمه الله.
(2)
ولا مانع من أن تكون النفخة الأولى فيها فَزَعٌ يَؤُولُ بالناس بعد ذلك إلى الموت. كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سُئِلَ عن الصور كما في سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ»
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «
…
ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا، قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ، قَالَ: فَيَصْعَقُ، وَيَصْعَقُ النَّاسُ ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ أَوِ الظِّلُّ فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
…
»
(4)
.
(1)
ينظر: «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة» (ص 490) و «فتح الباري لابن حجر» (11/ 369)
(2)
ينظر: فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (4/ 327) وتفسير العثيمين: النمل (ص 486).
(3)
سنن الترمذي (2430، 3244) وسنن أبي داود (4742)، ومسند أحمد (6507) وهو في السلسلة الصحيحة (1080)
(4)
أخرجه مسلم (2940) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
الملك الموكل بالنفخ في الصور قد التقمه:
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ صاحب الصور الذي وكله الله بالنفخ فيه قد التقمه.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدِ التَقَمَ صَاحِبُ القَرْنِ القَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَأَصْغَى سَمْعَهُ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْمَرَ؟!» فقال المسلمون: يا رسول الله، فما نقول؟ فقال:«قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، تَوَكَّلْنَا عَلَى اللَّهِ رَبِّنَا»
(1)
وهذا يدُلُّ على قرب قيام الساعة.
صاحب النفخ في الصور:
قال القرطبي رحمه الله: وَالْأُمَمُ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَنْفُخُ فِي الصُّورِ إِسْرَافِيلُ عليها السلام
(2)
.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "اشْتُهِرَ أَنَّ صَاحِبَ الصُّورِ إِسْرَافِيلُ عليها السلام وَنَقَلَ فِيهِ الْحَلِيمِيُّ الْإِجْمَاعَ"
(3)
.
وقت النفخ في الصور:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مُبيِّنًا الوقتَ الذي يُنفَخ فيه في الصور: «إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ
…
»
(4)
إلى آخر الحديث،
مدة ما بين النفختين:
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بيانُ الفترة التي تكون بين النفختين، وأنها أربعون، لكن لا ندري أهي أربعون يومًا أم شهرًا أم سنة، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ» ، قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يومًا؟ قال: أبيت، قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قال: أربعون شهرًا قال: أبيت -يعني لا أستطيع أن أجزم بشيء لا
(1)
أخرجه الترمذي (2431، 3243) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهو في السلسلة الصحيحة (1079)
(2)
تفسير القرطبي (7/ 20).
(3)
فتح الباري (11/ 368).
(4)
أخرجه أبو داود (1047)، والنسائي (1374)، وابن ماجه (1085) من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه.
أعلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الإِنْسَانِ، إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ، فِيهِ يُرَكَّبُ الخَلْقُ»
(1)
النفخة الأولى:
أما النفخة الأولى وهي بداية الساعة فيقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: لَيَنْفُخَنَّ فِي الصُّورِ، وَالنَّاسُ فِي طُرُقِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الثَّوْبَ لَيَكُونَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يَتَسَاوَمَانِ، فَمَا يُرْسِلُهُ أَحَدُهُمَا مِنْ يَدِهِ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يَنْفُخَ فِي الصُّورِ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ:{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)} [يس]
(2)
.
وهذا فيه بيان أن النفخة الأولى تكون فجأة، وعليها تقوم الساعة كما جاءت بذلك الأخبار.
-وقد أخبر الله في كتابه أن الساعة تكون بغتة-.
يقول العلامة الألوسي رحمه الله: "وهي النفخة الأولى في الصور التي يموت بها أهل الأرض، وعبَّر بالإنظار نظرًا إلى ظاهر قولهم:{مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48] أو لأنَّ الصيحة لما كانت لا بُدَّ من وقوعها جُعِلُوا كأنهم منتظروها {تَأْخُذُهُمْ} تقهرهم، وتستولي عليهم، فيهلكون {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي: يتخاصمون ويتنازعون في معاملاتهم ومتاجرهم، لا يخطر ببالهم شيء من مخايلها كقوله تعالى: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
(1)
أخرجه البخاري (4814) واللفظ له، ومسلم (2955).
(2)
رواه الطبري في التفسير (19/ 451) بسند صحيح عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ الْقَوَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، به. والقواس ذكره الذهبي في الميزان (4/ 576) وقال: ذكره سليمان التيمي ولينه. وقال ابن المديني: لا أعلم أحدا روى عنه غير عوف ا. هـ زاد الحافظ في لسان الميزان (9/ 168): وقال إسحاق بن منصور عن ابن مَعِين: ثقة. وذَكَره ابن حِبَّان في "الثقات ا. هـ فالراجح فيه أنه ثقة كما قال ابن معين.
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)} [يوسف] فلا يغتروا بعدم ظهور علائمها حسبما يريدون ولا يزعمون أنها لا تأتي"
(1)
.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله أن هذه النفخة يسبقها نفخة الفزع فقال:
أَوَّلُ شَيْءٍ يَطْرُقُ أَهْلَ الدُّنْيَا بَعْدَ وُقُوعِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَفْخَةُ الْفَزَعِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ إِسْرَافِيلَ فَيَنْفُخُ فِي الصُّورِ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيُطَوِّلُهَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا السَّمَاوَاتِ إِلَّا فَزِعَ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا يَسْمَعُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا - أَيْ رَفَعَ صَفْحَةَ عُنُقِهِ وَأَمَالَ الْأُخْرَى -، يَسْتَمِعُ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ الَّذِي قَدْ هَالَ النَّاسَ وَأَزْعَجَهُمْ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَشُغْلِهِمْ بِهَا، وَوُقُوعُ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ
…
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِسْرَافِيلَ أَنْ يَنْفُخَ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيَصْعَقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ فَيَنْفُخُ فِيهِ أُخْرَى فَيَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
…
إلخ
(2)
وذكر رحمه الله حديث الصور المشهور وفيه أن «أنَّ إسرافيل يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ؛ الْأُولَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» وهو حديث ضعيف
(3)
.
النفخة الأولى يتبعها تغيير عام في الكون:
والنفخة الأولى يتبعها تغيير عام في الكون كلِّه عُلْوِيِّه وسُفْلِيِّه،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ»
(4)
.
يعني ليقرأ هذه السور الثلاث ليرى ما سيكون في ذلك اليوم من عظيم الأمور،
(1)
روح المعاني، ط دار الكتب العلمية، (12/ 30).
(2)
البداية والنهاية ت التركي (19/ 303).
(3)
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (10). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر: فتح الباري (11/ 368) وضعيف الترغيب والترهيب (2/ 491) رقم (2224)
(4)
تقدم تخريجه في المجلس الحادي والعشرين.
قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)} [التكوير].
تتغير معالم الكون: الشمس، والقمر، والسماء، والنجوم، والجبال، كلُّ ذلك يتغير.
وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} يعني: تشقَّقت،
وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} [الإنشقاق]
كلُّ ذلك يقع بعد النفخة الأولى في الصُّور.
النفخة الأولى يتبعها قبض السماوات والأرض:
كذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الخبرُ بأن الله حينئذٍ يقبض الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟
قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر].
قال صلى الله عليه وسلم: «يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟!»
(1)
.
وهذا والله أعلم يكون بعد النفخة الأولى وهلاك الخلق؛ لأنَّ المقصود إظهارُه هو: انفرادُه تعالى بالملك عند انقطاع دعوى المدعين وانتساب المنتسبين؛ فقد ذهب كلُّ مَلِكٍ ومُلْكُه، وكلُّ جبار ومتكبر ومُلْكُه، وانقطعت نِسْبتُهم ودعاويهم، وهو مقتضى قوله -جل وعلا-:«أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟!» ذكر هذا القرطبيُّ رحمه الله
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (7382) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
تفسير القرطبي (15/ 301).
النفخة الأولى يتبعها فناء من في السماوات والأرض:
وبعد النفخة الأولى يكون فناء من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله.
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر]
وفي قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} بيان أن هناك من استُثنِي مما يقع له من هذه النفخة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِمَنْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا مَوْتٌ وَمُتَنَاوِلٌ لِغَيْرِهِمْ وَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِكُلِّ مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ فِي كِتَابِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَأَجِدُ مُوسَى آخِذًا بِسَاقِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي هَلْ أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ»
(1)
…
فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْزِمْ بِكُلِّ مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَجْزِمَ بِذَلِكَ وَصَارَ هَذَا مِثْلُ الْعِلْمِ بِقُرْبِ السَّاعَةِ وَأَعْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْخَبَرِ
…
ا. هـ
(2)
النفخة الثانية نفخة الإحياء والحشر:
أما النفخة الثانية فيكون على إثرها قيامُ الناس من القبور. كما قال الله تعالى:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} [يس: 51].
وقال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68]
فيترتب على النفخة الثانية قيامُ الناس من قبورهم.
ويقول ربنا أيضا: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} [النازعات]
(1)
رواه البخاري (2411، 3414) ومسلم (2373) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
مجموع الفتاوى (16/ 36).
بالساهرة أي: على وجه الأرض.
قال ابن كثير رحمه الله: "أي: فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد، فإذا الناس قيام ينظرون، وهو أن يأمر تعالى إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث، فإذا الأولون والآخِرُون قيامٌ بين يدي الرب عز وجل ينظرون"
(1)
.
النفخة الثانية يتتابع بعدها أهوالُ يوم القيامة:
وبعد النفخة الثانية يكون قيام الناس من قبورهم وتتابعُ أهوالُ القيامة.
كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو من تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} .
قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ
…
فذكر الحديث وفيه قَالَ: " فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا، قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ، قَالَ: فَيَصْعَقُ، وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ أَوِ الظِّلُّ فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى، {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ فَذَاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا، وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ»
(2)
إلى آخر ما ورد في الحديث.
فدلَّ هذا الحديث على أن من آثار النفخة الثانية تتابعَ أهوال القيامة،
نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من أهل الجنة الآمِنِين في عرصات القيامة.
(1)
تفسير ابن كثير (8/ 314).
(2)
أخرجه مسلم (2940) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
إخواني: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ»
(1)
ويقول: «جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ»
(2)
فالمؤمن ينبغي له أن يستعد لهذه الأحداث العظيمة التي تتتابع والتي تكون بغتة، فمن كان في غفلة في هذه الدنيا فعليه أن يراجع نفسه
والله المستعان.
JIH
(1)
أخرجه الترمذي (2450) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الترمذي (2457) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
الإيمان
بالبعث والنشور
F e
المجلس الخامس والعشرون
(1)
الشعبة السابعة من شعب الإيمان: الإيمان بالبعث والنشور
الشعبة السابعة من شعب الإيمان شعبة متعلقة بركن الإيمان باليوم الآخر، وهي الإيمان بالبعث والنشور بعد الموت. فهي جزء من الإيمان باليوم الآخر الذي هو ركن من أركان الإيمان الستة؛ فلا يصح إيمانٌ إلا بها.
حكم منكر البعث والنشور:
ومنكرُهُ كافرٌ، والأدلة في ذلك كثيرة جدًّا كما سيأتي معنا، ومنها:
يقول الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: "أجمع المسلمون على أن من أنكر البعث فلا إيمان له ولا شهادة"
(2)
.
تعريف الإيمان البعث والنشور:
يقول البيهقي رحمه الله: "والإيمان بالبعث هو: أن يؤمن بأن الله تعالى يعيد الرُّفات من أبدان الأموات، ويجمع ما تفرق منها في البحار وبطون السباع وغيرها حتى تصير بهيئتها الأولى، ثم يجمعها حية، فيقوم الناس كلهم بأمر الله تعالى أحياءً صغيرُهم وكبيرُهم حتى السقط الذي قد تم خلقه ونفخ فيه الروح، فأما الذي لم يتم خلقه أو لم ينفخ فيه الروح أصلًا فهو وسائر الأموات بمنزلة واحدة والله تعالى أعلم"
(3)
.
ويقول ابن كثير رحمه الله: "البعث وهو: المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة"
(4)
(1)
كان في يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر رمضان 1441 هـ.
(2)
التمهيد (9/ 116).
(3)
شعب الإيمان (1/ 410).
(4)
تفسير ابن كثير (5/ 395).
من أدلة الإيمان بالبعث والنشور
الإيمان بالمعاد بيَّنه القرآن وبيَّنته سنةُ النبي العدنان عليه الصلاة والسلام وجاءت الدلالة عليه دلالة قاطعة بينة. ولذا فإن أصحاب الإلحاد الذين ينكرون وجود الله ومن ثَمَّ ينكرون البعث والجزاء والنشور، ويرون أنه ليس ثمة يوم آخر هؤلاء كالذي يغطي الشمس بيده، ويريد أن يزيح نور الشمس بيده؛ لأن القرآن الكريم جاءت فيه الأدلة متنوعة للدلالة على هذا الأمر العظيم وهو بعث الناس بعد الموت من قبورهم.
الإخبار بوقوع الساعة وقربها:
فمن ذلك أن الله أخبر بوقوع يوم القيامة، وهذا الإخبار جاء متنوِّعًا.
فمن ذلك أن الله يقول: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15].
وقال تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر].
وقال سبحانه: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام: 134] وغير ذلك من الأدلة.
إذًا هذا النوع الأول وهو إخبار الله سبحانه إخبارًا مؤكَّدًا بأن الساعة آتية، وأنه لا بُدَّ أن يُبعَث الناسُ من قبورهم.
القسم من الله تعالى بقيام الساعة ومن أصدق من الله حديثًا:
وفي مواضع يقسم الله تعالى على ذلك، كما قال -جل وعلا-:
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [النساء: 87].
فقولُه سبحانه: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} اللام هنا يُسمِّيها العلماء بلام القسم أي: والله ليجمعنكم الله فهي لام القسم
(1)
.
ويقول: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} فهذه أربعة أقسام جوابها: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} [الذاريات].
(1)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/ 232) ومشكل إعراب القرآن لمكي (1/ 246)
المواضع التي أمر الله نبيه بالقسم فيها على البعث والمعاد:
وتقدم ذكر الثلاث الآيات التي أمر الله فيها نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُقسِمَ على صدق البعث ومجيء البعث يوم القيامة، وهي قوله -جل وعلا-: -وهو الموضع الأول-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3].
ويقول سبحانه في سورة يونس -وهو الموضع الثاني-: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} يعني البعث والجزاء والنشور، فيقول الله:{قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
ويقول في سورة التغابن -وهو الموضع الثالث-: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7]. فهذه ثلاثة مواضع في القرآن يأمر الله -جل وعلا- فيها نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُقسِمَ على أن البعث حق.
المدح للمؤمنين المصدقين بالبعث والنشور:
ويأتي في القرآن مَدْحُ المؤمنين الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، مثل قول الله:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة].
الذم لمن كذَّب بالمعاد:
كما ورد في كتاب الله سبحانه الذمُّ لمن كذَّب بالمعاد والبعث والنشور، يقول سبحانه:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} [يونس].
إخبار الله تعالى بأن القيامة حق:
كذلك يقول الله في كتابه الكريم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر: 5]
فهذا خبرٌ من ربنا ووَعْدٌ صادق وخبر لازم أنَّ يوم القيامة آتٍ لا محالة، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} [النساء].
الاستدلال بالنشأة الأولى على البعث والمعاد:
كذلك إذا تأملنا في كتاب الله نجد أنَّ الله يستدِلُّ بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى. فتأمل قوله سبحانه: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)} [مريم] يعني أنَّ المكذبين يقولون: كيف سنبعث بعد أن متنا؟! فقال الله: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)} [مريم] يعني: إحياؤُك بعد وفاتك أهونُ من خلقك الأول على الله، كما قال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} [الأحقاف]، وفي أول سورة الحج يقول سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5].
يسوق لك الله سبحانه حياتك، وكيف بدأت، ويُذكِّرُك أنه عز وجل خَلَقَك من عدم، فليست إعادتك بعد موتك بأعظم على الله.
ضرب الأمثال على المعاد:
فالقرآن يُبيِّنُ لك ما كان عليه الإنسان: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)} [الإنسان] وقوله: {هَلْ أَتَى} يعني: قد جاء عليه وقتٌ كنت فيه عدما، ولم تكن فيه شيئًا مذكورًا، {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان].
وانظر أيضًا إلى قول الله: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)} فيقول الله مجيبًا لهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)} [الإسراء].
ويقول -جل وعلا-: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57].
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظمُ من خلق أمثال بني آدم، والقدرةَ عليه أبلغُ، وأنَّ هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك"
(1)
.
ويقول ابن أبي العز رحمه الله -شارح الطحاوية-: "أخبر أنَّ الذي أبدع السماوات والأرض، على جلالتهما، وعِظَمِ شأنهما، وكِبَرِ أجسامهما، وسعتِهما، وعجيبِ خلقهما، أقدرُ على أن يحييَ عظامًا قد صارت رميمًا، فيردَّها إلى حالتها الأولى"
(2)
.
إذًا هذه كلُّها أدلة من القرآن متنوعة في بيان أن الله سبحانه قادرٌ على أن يبعث العباد بعد الموت وأنَّ إنكار من أنكر من الكافرين والمكذِّبين إنما هو تَعَامٍ عن الحق وإنكارٌ للفطرة وتكذيبٌ لله ولرسله عليهم السلام.
التكذيبُ بالبعث تكذيبٌ بألوهية الله وربوبيته:
كذلك يأتي في كتاب الله بيانُ أن من تمام ألوهية الله وربوبيته قدرتَه على تحويل الخلق من حال إلى حال؛ فالتكذيبُ بالبعث والجزاء والنشور هو: تكذيبٌ بألوهية الله وربوبيته. يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)} [الأنعام].
فالإله الحق والرب سبحانه هو القادر على ذلك.
(1)
الفتاوى الكبرى (1/ 127).
(2)
شرح الطحاوية لابن أبي العز (2/ 595).
ويقول -جل وعلا-: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} [يس: 78] أي: وضرب لنا هذا المكذِّب بالبعث {مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} . جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عَظْمٌ يَفُتُّه بين يديه، ويقول يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟! فنزلت الآيات:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس].
(1)
(1)
قال ابن كثير في التفسير (6/ 594): قَالَ مُجَاهِدٌ، وعِكْرِمَة، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، والسُّدِّي. وَقَتَادَةُ: جَاءَ أُبي بْنُ خَلَفٍ لَعَنَهُ اللَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهِ عَظْمٌ رَمِيمٌ وَهُوَ يُفَتِّتُه وَيُذْرِيهِ فِي الْهَوَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ هَذَا؟ فَقَالَ:«نَعَمْ، يُمِيتُكَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ يَبْعَثُكَ، ثُمَّ يَحْشُرُكَ إِلَى النَّارِ» . وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ "يس":
…
، إِلَى آخِرِهِنَّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين بْنِ الْجُنَيْدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الزَّيَّاتُ، عَنْ هُشَيْم، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عباس رضي الله عنهما، أن العاصي بْنَ وَائِلٍ أَخَذَ عَظْمًا مِنَ الْبَطْحَاءِ ففتَّه بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُحْيِي اللَّهُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، يُمِيتُكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُمَّ يدخلك جهنم» . قال: وَنَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخَرِ "يس". وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرِ "ابْنَ عَبَّاسٍ" ا هـ. قلت: حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور حديث صحيح، رواه أيضا الإسماعيلي في المعجم (359) وابن مردويه في تفسيره -كما في الدر المنثور (7/ 74) - ومن طريقه رواه الضياء المقدسي في المختارة (10/ 87) - من طريق أبي كريب محمد بن العلاء حدثنا عثمان به -وعثمان صدوق- وقد توبع؛. فقد رواه الحاكم في المستدرك (3606) -وعنه البيهقي في البعث (15) - من طريق عمرو بن عون -وهو ثقة ثبت- قال حدثنا هشيم أنبأنا أبو بشر به. وقال الحاكم: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ا. هـ قلت: رجاله رجال الشيخين، وليس على شرطهما، فإن الحاكم رواه من طريق عمرو بن عون -وهو من شيوخ البخاري-؛ ومسلم إنما يروي عنه بواسطة، وتلميذه عند الحاكم هو الفضل الشعراني وليس هو من رجال الكتب الستة. -وهو ثقة-، ثم إن في سنده اختلافا وهو لا يضر -إن شاء الله-؛ فقد اختلف فيه على هشيم، فرواه عثمان الزيات وعمرو -كما تقدم وتابعهما محمد بن حسان -كما في تلخيص المتشابه في الرسم للخطيب (1/ 386) - موصولا -بذكر ابن عباس رضي الله عنهما. ورواه يعقوب بن إبراهيم الدورقي -كما في تفسير الطبري (19/ 487)، وهو ثقة حافظ-؛ وفضيل بن عبد الوهاب -كما في الأهوال لابن أبي الدنيا (88) وهو ثقة- عن هشيم به مرسلاً -ليس فيه ذكر ابن عباس-؛ وخالفهم جميعا: محمد بن بكار -كما عند الحارث بن أبي أسامة في مسنده (بغية الباحث/ 719) وهو ثقة- فرواه عن هشيم عن حصين عن أبي مالك -وهو غزوان الغفاري- مرسلا وسمى الرجل "أبي بن خلف". فالظاهر صحة الحديث موصولا بذكر ابن عباس وهو زيادة ثقة مقبولة لم يوجد ما يوجب التوقف فيها.
وهذه الآيات فيها جملة من الدلائل على تحقق البعث والجزاء والنشور، فالله سبحانه احتجَّ بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى؛ إذ كلُّ عاقلٍ يعلم ضرورةً أن من قَدَرَ على هذه قَدَرَ هذه. وأكَّد سبحانه الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر، فقال -جل وعلا-:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} [يس]. فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلِئ بالرطوبة والبرودة!! فهذا ضربٌ للأمثال وتبيينٌ من الله، ثم يأتي التأكيد من الله على ذلك في هذه الآيات: يقول: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} . ثم يؤكِّد اللهُ -جل وعلا- أنَّ فعله ليس بمنزلة غيره: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} . [يس]
أمثلة حسية رآها الناس لإحياء الموتى:
ومن دلائل القرآن على تحقق البعث والجزاء والنشور أنَّ الله أرى الناسَ بعضَ هذه الأمور في هذه الدنيا؛ ليتبين لهم أن الله عز وجل على كل شيء قدير. ومن هذه الأمثلة:
المثال الأول:
يقول البيهقي رحمه الله: "وقد نبَّهَنا اللهُ عز وجل على إحياء الموتى بما أخبر من إراءة إبراهيم عليها السلام إحياء الأموات، وقد نَقَلَتْهُ عامَّةُ أهل الملل"
(1)
.
فهذا أمرٌ بيَّنَه اللهُ في القرآن، وتناقلته عامة أهل الملل كما يقول البيهقي رحمه الله، وذلك في قول الله في قصة إبراهيم عليها السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
(1)
شعب الإيمان (1/ 410).
حَكِيمٌ (260)} [البقرة]. أَخَذَ أربعة من الطير، وقطَّعها ثم أحياها الله ورآها إبراهيمُ عليها السلام فهذا مثلٌ حيٌّ شاهده الناس، وعرفته الأمم، وتناقلته الملل أن إبراهيم عليها السلام طلب من ربه ذلك، وأن الله عز وجل أراه إحياء هذه الطيور بعد أن قُطِّعَتْ أجزاءً.
المثال الثاني:
قال البيهقي: "وبما أخبر به عن: {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} ". وذلك في قول الله في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243] أناس فرُّوا من ديارهم وهم ألوف خشيةَ الموت، فأماتهم الله ثم أَمَرَ بإحيائهم، فأحياهم وهذا مما يعرفه بنو إسرائيل.
المثال الثالث:
ثم قال البيهقي: "وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا"
(1)
.
يعني بذلك قولَ الله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]. رآها خاويةً على عروشها، فتعجب كيف يكون إحياء الله لها بعد موتها؟! قال الله:{فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)} [البقرة].
ويقول بعض أهل التفسير: إن هذا هو عزير عليها السلام،
(2)
وأن الله سبحانه أماته مائة عام ثم أحياه، فرجع إلى أهله وأبنائه وهو على عمره السابق، فرأوه حيًّا بعد أن كان ميتًا.
(1)
شعب الإيمان (1/ 410).
(2)
نقله الطبري في التفسير (4/ 578) عن جماعة منهم: ناجية بن كعب وسليمان بن بريدة وقتادة والربيع بن أنس وعكرمة والسدي والضحاك ونقل عن غيرهم أنه إِرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَّا وروى عن ابْن إِسْحَاقَ أَنَّ إِرْمِيَا هُوَ الْخَضِرُ. وقال الطبري: وَلَا بَيَانَ عِنْدَنَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ مِنْ قِبَلِهِ الْبَيَانُ عَلَى اسْمِ قَائِلِ ذَلِكَ،
…
وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَةِ اسْمِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ تَعْرِيفَ الْخَلْقِ اسْمَ قَائِلِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهَا تَعْرِيفُ الْمُنْكِرِينَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِحْيَائِهِ خَلْقَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، وَإِعَادَتِهِمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ
…
إلخ. وكلام الإمام الطبري يكتب بماء الذهب.
المثال الرابع:
قال البيهقي: "وبما أخبر به عن عصا موسى عليها السلام وقَلْبِه إيَّاها حيةً ثم إعادتها خشبةً ثم جعلها عند محاجة السحرة حيَّةً ثم إعادتِها خشبةً، وقد اشتركت عامةُ أهلِ الملل في نقله"
(1)
. إذًا هذا أيضًا من الأمور التي تدل على تحقق البعث والجزاء والنشور.
المثال الخامس:
قال البيهقي: "وبما أخبر به من شأن أصحاب الكهف الذين ضرب على آذانهم زيادةً على ثلاثمائة سنة ثم أحياهم؛ ليدل قومهم عندما أعثرهم عليهم على أنَّ ما أنذروا به من البعث بعد الموت حقٌّ لا ريب فيه"
(2)
.
المثال السادس:
ومن ذلك ما جعله الله تعالى من آيات عيسى ابن مريم عليهما السلام من إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى، حيث كان يصنع من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وكان يُحيِي الموتى بإذن الله كما أخبر الله عنه في كتابه الكريم.
المثال السابع:
وفي سورة البقرة ذكر لنا ربنا أيضًا قصة قتيل بني إسرائيل وقصة ذبح البقرة، وأن الله قال:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} [البقرة]. وذلك أنه لما قَتَلَ بنو إسرائيل قتيلًا، واتَّهم كُلُّ قبيلٍ القبيلَ الآخر بقتله أَمَرَهُمْ نبيُّهم موسى عليها السلام أن يذبحوا بقرة ثم قال:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} يعني: خذوا بعضًا من هذه البقرة واضربوا به الميت فإنَّ الله سبحانه سيُحْيِيه، فكان كما أخبرهم نبيُّهم موسى عليها السلام فقام، وشاهده الناس.
(1)
شعب الإيمان (1/ 410).
(2)
المرجع السابق.
المثال الثامن:
وفي سورة البقرة مثالٌ آخرُ، وهو في قصة قوم موسى عليها السلام حين قالوا له:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم، وفي ذلك يقول الله تعالى مخاطبًا بني إسرائيل:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} [البقرة: 55 - 56].
ذكر ما اشتملت عليه سورةُ البقرة من المواضع:
وقد اشتملت سورةُ البقرة وحدها على خمسة أمثلة حِسِّيَّة تدل على تحقق البعث والنشور ووجوب الإيمان به:
الموضع الأول: هو المتقدم في قصة قوم موسى عليها السلام حين قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]
الموضع الثاني: في قصة القتيل الذي اختصم فيه بنو إسرائيل، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة، فيضربوه ببعضها؛ ليخبرهم بمن قتله.
الموضع الثالث: في قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت وهم ألوف فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم، وفي ذلك يقول الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} [البقرة].
الموضع الرابع: في قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها المتقدمة.
الموضع الخامس: في قصة إبراهيم عليها السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} الآية.
هذه خمس قصص في سورة البقرة، وهي أمثلة حسية واقعية تدل على تحقق البعث بعد الموت وإحياء الموتى. وأنه حقٌّ لا مِرْية فيه.
ضرب المثل على أن البعث حق بإحياء الله الأرض بالنبات:
وجاء من الأدلة في كتاب الله أيضًا ضربُه المثل بإحيائه الأرض بالنبات. فإن الله يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت].
إخبار الله آدم عليها السلام بالبعث عند إهباطه الأرض:
ولما أهبط الله عز وجل آدم إلى الأرض عرَّفه بالبعث والمعاد، فقال له:{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [البقرة] وقال: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} [البقرة].
اعتراف إبليس بالبعث:
وفي قصة إبليس وطرده من رحمة الله -جل وعلا-: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)} [الحجر].
إخبار الأنبياء أقوامهم بالبعث:
وإذا تأملنا في قصص الأنبياء سنجد أنه ما من نبي بعثه الله إلا وقد أنذر قومه، وأخبرهم بالبعث والجزاء والنشور ويوم الدين ويوم القيامة. يقول الله في شأن أهل النار:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]. فالكفار كلُّهم يُسأَلُون يوم القيامة، فيقولون: نعم قد جاءنا رسل وأخبرونا عن هذا اليوم العظيم.
إخبار نوح عليها السلام قومه بالبعث:
ونوح عليها السلام أخبر قومه ففي قصة نوح أخبر الله تعالى أنه قال لقومه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} [نوح].
إخبار هود عليها السلام بالبعث:
وفي قصة هود عليها السلام يقول ربنا -جل وعلا-: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ
مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)} [المؤمنون]. وهذا يدل على أنه أخبرهم بيوم البعث والجزاء والنشور، فكَذَّبوا ذلك؛ فأخذتهم الصاعقة، وعذَّبهم الله -جل وعلا-.
إخبار إبراهيم عليها السلام بالبعث:
وفي قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليها السلام أنه دعا لمكة وأهلها، قال:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} [البقرة]
إخبار شعيب عليها السلام قومه بالبعث:
وفي قصة شعيب عليها السلام يخبرنا الله -جل وعلا- أنه قال: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)} [العنكبوت].
إخبار موسى عليها السلام بالبعث:
وكذلك في قصة موسى عليها السلام في مناجاته لله -جل وعلا-: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)} [طه].
وهكذا في قصص بقية الأنبياء فما من نبي بعثه الله -جل وعلا- إلا وبَيَّنَ لقومه أن الساعة حق، وأن البعث والنشور بعد الموت حق، وأنَّ من كذَّب ذلك كان من أهل النار.
تكذيب العاصي بن وائل بالبعث ونزول القرآن في ذلك:
وجاء في صحيح البخاري عن الخباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: كُنْتُ قَيْنًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى العَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ:"لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ، ثُمَّ تُبْعَثَ"، قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ،
فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} [مريم]
(1)
.
إخبار نبينا صلى الله عليه وسلم عن حال أهل القبور وأنهم يبعثون:
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ المؤمن في قبره منعَّمٌ حتى يبعثه الله يوم القيامة، وأنَّ الكافر معذَّبٌ حتى يبعثه الله يوم القيامة يقول النبي عليه الصلاة والسلام:«إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»
(2)
.
مزيد من أدلة السنة على البعث والنشور:
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الله: «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي، كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ
…
»
(3)
الحديث.
وجاء معناه في صحيح البخاري أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
أولُ من يبعث نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم
-:
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو أوَّلَ من يبعث وأول من ينشق عنه القبر صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ»
(5)
.
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الآخِرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى مُتَعَلِّقٌ بِالعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَذَلِكَ كَانَ أَمْ بَعْدَ النَّفْخَةِ»
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (2091).
(2)
المرجع السابق (1379) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(3)
المرجع السابق (4974).
(4)
المرجع السابق (4482).
(5)
أخرجه مسلم (2278).
(6)
أخرجه البخاري (4813).
وقال صلى الله عليه وسلم: «يَصْعَقُ النَّاسُ حِينَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ قَامَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالعَرْشِ، فَمَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ»
(1)
.
يُبعَث الناسُ على نياتهم:
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس إذا بُعِثُوا يُبعَثون على نياتهم، ويُبعَثُون على أعمالهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ» قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ:«يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
(2)
يعني: فإن ربك لا يظلم أحدًا. وعنها رضي الله عنها أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ بِالْبَيْتِ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ» ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ-يعني قد يكون فيهم من ليس منهم-قَالَ: «نَعَمْ، فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ وَالْمَجْبُورُ وَابْنُ السَّبِيلِ، يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
(3)
.
يُبعَث كلُّ عبد على ما مات عليه من عمل:
وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ»
(4)
. يعني على ما مات عليه من عمل.
فاجتهد يا عبد الله في إصلاح عملك؛ لتموت على عمل صالح.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ عَلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ بُعِثَ عَلَيْهَا»
(5)
يعني من رباط أو حج أو عمرة أو غير ذلك.
(1)
أخرجه البخاري (6518) واللفظ له، ومسلم (2373) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (2118).
(3)
أخرجه مسلم (2884).
(4)
أخرجه مسلم (2878).
(5)
أخرجه أحمد (23941) من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه. وصححه شيخنا العلامة الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (568) وانظر: السلسلة الصحيحة (1/ 572).
وفي قصة الرجل الذي وقصته الدابة في الحج قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا»
(1)
.
وفي سنن أبي داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه:
أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا»
(2)
-هكذا أجراه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه على ظاهره-،
والصحيح أن المراد به العمل كما قال البيهقي وغيره
(3)
.
والحديث رواه ابن حبان في صحيحه وقال: أَرَادَ بِهِ فِي أَعْمَالِهِ كَقَوْلِهِ -جل وعلا-: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر] يُرِيدُ بِهِ: وَأَعْمَالَكَ فَأَصْلِحْهَا لَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، إِذِ الْأَخْبَارُ الْجَمَّةُ تُصَرِّحُ عَنِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ا. هـ
(4)
وقَالَ الْخَطَّابِيُّ:
…
وَالْعَرَبُ تَقُولُ فُلَانٌ طَاهِرُ الثِّيَابِ إِذَا وَصَفُوهُ بِطَهَارَةِ النَّفْسِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ وَدَنَسِ الثِّيَابِ إِذَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ا. هـ
(5)
وقال المنذري: وقد قال كل من وقفت على كلامه من أهل اللغة إن المراد بقوله «يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ» التي قبض فيها أي في أعماله قال الهروي
…
وليس قول من ذهب إلى الأكفان بشيء لأن الميت إنما يكفن بعد الموت انتهى قال المنذري: وفعل أبي سعيد
(1)
أخرجه البخاري (1265) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، ومسلم (1206) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه أبو داود (3114) وصححه الحاكم (1260) وقال على شرط الشيخين ووافقه الألباني في الصحيحة (1671) وفيه نظر فالحديث من رواية يحيى بن أيوب عن ابن الهاد، وليست هذه السياقة في سنده من شرطهما. ويحيى فيه ضعف، قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 205): وفي إسناده يحيى بن أيوب وهو الغافقي المصري احتج به البخاري ومسلم وغيرهما وله مناكير وقال أبو حاتم لا يحتج به وقال أحمد سيئ الحفظ وقال النسائي ليس بالقوي ا. هـ
(3)
«شعب الإيمان» (1/ 549 ط الرشد) وانظر: «البعث والنشور للبيهقي ت الشوامي» (ص 224) و «جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم» (4/ 224)
(4)
صحيح ابن حبان (7316)
(5)
«معالم السنن» (1/ 301)
راوي الحديث يدل على إجرائه على ظاهره وأن الميت يبعث في ثيابه التي قبض فيها وفي الصحاح وغيرها أن الناس يبعثون عراة ا. هـ
(1)
ما تتميز به هذه الأمة عند البعث:
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تتميز حين يبعث الناس، ففي مسند الإمام أحمد عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، وَيَكْسُونِي رَبِّي تبارك وتعالى حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ»
(2)
(1)
الترغيب والترهيب (4/ 205) وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/ 383): وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحْشَرُ عَارِيًا وَبَعْضَهُمْ كَاسِيًا أَوْ يُحْشَرُونَ كُلُّهُمْ عُرَاةً ثُمَّ يُكْسَى الْأَنْبِيَاءُ فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام أَوْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ بِالثِّيَابِ الَّتِي مَاتُوا فِيهَا ثُمَّ تَتَنَاثَرُ عَنْهُمْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَشْرِ فَيُحْشَرُونَ عُرَاةً ثُمَّ يَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمَ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى الشُّهَدَاءِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَمَرَ أَنْ يُزَمَّلُوا فِي ثِيَابِهِمْ وَيُدْفَنُوا فِيهَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعَهُ فِي الشَّهِيدِ فَحَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ وَمِمَّنْ حَمَلَهُ على عُمُومه معَاذ بن جبل فَأخْرج ابن أَبِي الدُّنْيَا [في كتاب الأهوال (224)، وفي كتاب النفقة على العيال (515) ورواه ابن أبي شيبة (11132) -ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2985) -] بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ دَفَنَّا أُمَّ مُعَاذَ بْنِ جَبَلٍ [في مصادر التخريج أنها امرأته لا أمه، وعند ابن المنذر "أوصى بامرأة"] فَأَمَرَ بِهَا فَكُفِّنَتْ فِي ثِيَابٍ جُدُدٍ وَقَالَ: «أَحْسِنُوا أَكْفَانَ مَوْتَاكُمْ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ فِيهَا» قَالَ وَحَمَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ وَإِطْلَاقِ الثِّيَابِ عَلَى الْعَمَلِ وَقَعَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وَقَوله تَعَالَى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر] عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ قَالَ مَعْنَاهُ وَعَمَلَكَ فَأَخْلِصْهُ. وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ
…
وَحَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ
…
وَرَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ الْحَمْلَ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ
…
قَالَ فَيُحْمَلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى الشُّهَدَاءِ لِأَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ بِثِيَابِهِمْ فَيُبْعَثُونَ فِيهَا تَمْيِيزًا لَهُمْ عَنْ غَيرهم وَقد نَقله ابن عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِنَّ الْمَلَابِسَ فِي الدُّنْيَا أَمْوَالٌ وَلَا مَالَ فِي الْآخِرَةِ مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَلِأَنَّ الَّذِي يَقِي النَّفْسَ مِمَّا تَكْرَهُ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابٌ بِحُسْنِ عَمَلِهَا أَوْ رَحْمَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنَ اللَّهِ وَأَمَّا مَلَابِسُ الدُّنْيَا فَلَا تُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ ا. هـ
(2)
مسند أحمد (15783) وصحيح ابن حبان (6479) والحاكم (3383) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الألباني في السلسلة الصحيحة (2370) قلت: وتعقب شيخنا الوادعي الحاكم فقال في كتاب الشفاعة (ص: 51): قد اختلف في سماع عبد الرحمن من جده كعب، ولا يضر هنا لأنه في الشواهد ا. هـ وقال الحافظ في التهذيب: وقع في صحيح البخاري في الجهاد تصريحه بالسماع من جده. وقال الذهلي في العلل: ما أظنه سمع من جده شيئا. وقال الدارقطني: روايته عن جده مرسل. وقال أبو العباس الطرقي: إنما روى عن جده أحرفا في الحديث، ولم يمكنه الحديث بطوله فاستثبته من أبيه. اهـ.
قوله «عَلَى تَلٍّ» أي: على موضع مرتفع. فهذا من تمييز الله لهذه الأمة التي شرَّفها الله -جل وعلا- وكرَّمها على سائر الخلق.
وقال القرطبي: وذهب أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بالغوا في أكفان موتاكم فإن أمتي تحشر بأكفانها وسائر الأمم عراة» ورواه أبو سفيان مسنداً. وهذا الحديث لم أقف عليه. والله أعلم بصحته، وإن صح فيكون معناه فإن أمتي الشهداء تحشر بأكفانها حتى لا تتناقض الأخبار والله أعلم ا. هـ
(1)
من أذكار اليوم والليلة المشتملة على ذكر البعث والنشور:
وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»
(2)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ:«اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ» وَإِذَا أَمْسَى قَالَ: «اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ»
(3)
وفي رواية: «وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»
(4)
.
الأهوال العظيمة عند البعث:
كان من دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وتوسد يمينه: «رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ»
(5)
.
(1)
«التذكرة بأحوال الموتى» (ص 537) وقال الحافظ في الفتح (11/ 384): وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَوْرَدَهُ بِزِيَادَةٍ لَمْ أَجِدْ لَهَا أَصْلًا وَهِيَ فَإِنَّ أُمَّتِي تُحْشَرُ فِي أَكْفَانِهَا وَسَائِرُ الْأُمَمِ عُرَاةٌ ا. هـ
(2)
أخرجه البخاري (6312) عن حذيفة رضي الله عنه وفي (6325) عن أبي ذر رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم (2711) من حديث البراء رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود (5068).
(4)
رواها الترمذي (3391).
(5)
رواه الترمذي (3398) من حديث حذيفة رضي الله عنه و (3399) من حديث البراء رضي الله عنه وأبو داود (5045) من حديث أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها. وابن ماجه (3877) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه والبزار (3110) من حديث أنس رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ - أَوْ تَجْمَعُ - عِبَادَكَ»
(1)
.
فهذا يبين لنا أنه حين يبعث الله عز وجل العباد تكون هناك أهوالٌ عظيمةٌ جدًّا،
وسيأتي معنا إن شاء الله تعالى ذِكْرُ بعض هذه الأهوال في مجلس قادم
والله أعلم.
JIH
(1)
رواه مسلم (705) وفي إسناده ومتنه علة نبه عليها العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (6/ 589) وفي صحيح الترغيب والترهيب (1/ 334).
الإيمان بالحشر
F e
المجلس السادس والعشرون
(1)
الشعبة الثامنة من شعب الإيمان: الإيمان بالحشر
الشعبة الثامنة عَنْوَنَ لها الإمام البيهقي رحمه الله بقوله: "الثامن من شعب الإيمان وهو بابٌ في حشر الناس بعدما يبعثون من قبورهم إلى الموقف الذي بين لهم من الأرض، فيقومون ما شاء الله تعالى، فإذا جاء الوقت الذي يريد الله محاسبتهم فيه أَمَرَ بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون بذكر أعمال الناس فأوتوها، فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه، فأولئك هم السعداء، ومنهم من يؤتى كتابه بشماله أو وراء ظهره، وهؤلاء هم الأشقياء، قال الله تعالى في المطففين: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 4 - 6] " وقال: "وأخبر أن الناس يكونون يوم القيامة واقفين على أقدامهم، وأبان أنه لا حال لهم يومئذ سوى القيام"
(2)
.
الإيمان بالحشر بعد البعث من الإيمان باليوم الآخر:
ذكر البيهقي رحمه الله هذه الشعبة مستقلة، وأفردها بالعدد، وهي شعبة: الحشر، وذكر بعدها الشعبة التاسعة، وهي ما يتعلق بذكر الجنة والنار وما بين هاتين الشعبتين سَرَدَ أمورًا كثيرة مما يتعلق بأمور الآخرة وبأمور الموقف وما يكون بعد حشر الناس إلى رب العالمين -جل وعلا- في أرض المحشر من تطاير الصحف والميزان والسوط والحوض والشفاعة، وسنأتي -إن شاء الله تعالى- على ذكر كلٍّ من هذه الأمور بإذن الله تعالى، وكلُّها داخلةٌ في الإيمان باليوم الآخر الذي هو ركن من أركان الإيمان.
تعريف الحشر:
أصل الحشر الجمع لكنه مع سَوق
(3)
. ويعرفه العلماء بأنه: " حَشْرُ الْأَمْوَاتِ مِنْ قُبُورِهِمْ وَغَيْرُهَا بَعْدَ الْبَعْثِ جَمِيعًا إِلَى الْمَوْقِفِ"
(4)
.
(1)
كان في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر رمضان 1441 هـ.
(2)
شعب الإيمان (1/ 415).
(3)
ينظر: «مجمل اللغة لابن فارس» (ص 236)
(4)
ينظر: «فتح الباري لابن حجر» (11/ 379)
وقال القاسمي رحمه الله: "الحشر: اسمٌ يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف"
(1)
.
فالحشر متعلق بالبعث، فبعد أن يقوم الناس من قبورهم، ويبعثهم الله -جل وعلا- يأمر الله عز وجل بهم فيُحشَرُون من قبورهم إلى أرض الموقف للحساب والجزاء ولما سيأتي إن شاء الله تعالى من الأمور التي تظهر في ذلك اليوم العظيم.
الآيات الواردة في الحشر:
وقد ورد في باب الحشر آياتٌ كثيرةٌ وأحاديثُ عدةٌ
يقول -جل وعلا-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)} [المائدة].
ويقول -جل وعلا-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام].
ويقول -جل وعلا-: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)} [الأنعام: 51].
ويقول -جل وعلا-: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45].
ويقول سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)} [الحجر: 25].
ويقول الله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} [الكهف].
فذكر الله في هذه الآية المباركة أن هنالك أمورًا تتغير يوم القيامة، وهذا من أهوال يوم القيامة أن الجبال تزول، وأن الأرض تكون ظاهرة لا معلمة فيها لأحد كما
(1)
محاسن التأويل (2/ 82).
سيأتي. ثم يقول -جل وعلا-: {وَحَشَرْنَاهُمْ} يعني جميعا {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} فلا يتخلف أحدٌ عن أرض المحشر.
وقال -جل وعلا-: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)} [الكهف: 99] فيأتي الحشر بعد النفخُ في الصور.
ويقول سبحانه: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] أي: فإذا هم مجتمعون لدينا قد أُحضِرُوا فأُشهِدوا موقفَ العرض والحساب، ولم يتخلَّف عنه منهم أحدٌ.
ويقول ربُّنا: {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الملك: 24]
أهمية التذكير بالحشر:
قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} [البقرة: 203].
قال الطبري: "فمجازيكم هو بأعمالكم، المحسنُ منكم بإحسانه والمسيءُ بإساءته، ومُوَفٍّ كلَّ نفس منكم ما عملت وأنتم لا تظلمون"
(1)
.
وقال ابن عاشور رحمه الله: الْأَمْرُ فِي اعْلَمُوا لِلتَّذْكِيرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ ا. هـ
(2)
وقال أيضاً: لَمَّا أُرِيدَ تَحْقِيقُ الْخَبَرِ افْتُتِحَ بِالْأَمْرِ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَشُكُّوا فِي ذَلِكَ، فَأَفَادَ مُفَادَ إِنَّ ا. هـ
(3)
وقال: افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِكَلِمَةِ اعْلَمْ إِيذَانٌ بِالِاهْتِمَامِ بِمَا سَيَقُولُهُ، فَإِنَّ قَوْلَكَ فِي الْخِطَابِ: اعْلَمْ إِنْبَاءٌ بِأَهَمِّيَّةِ مَا سَيُلْقَى لِلْمُخَاطَبِ ا. هـ
(4)
وقال: مِنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ أَنْ يُفْتَتَحَ بَعْضُ الْجُمَلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى خَبَرٍ أَوْ طلب فهم بِاعْلَم أَوْ تَعَلَّمْ لَفْتًا لِذِهْنِ الْمُخَاطَبِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ غَالِبًا بِغَفْلَةِ الْمُخَاطَبِ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ فَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمُخْبِرَ أَوِ الطَّالِبَ مَا يُرِيدُ إِلَّا عِلْمَ الْمُخَاطَبِ فَالتَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مَقْصُودٌ لِلِاهْتِمَامِ،
…
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ
(1)
تفسير الطبري (3/ 571).
(2)
التحرير والتنوير (2/ 264)
(3)
المرجع السابق (2/ 230)
(4)
المرجع السابق (2/ 211)
الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه وَقَدْ رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدًا لَهُ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ: أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ»
(1)
ا. هـ
(2)
الداعي إلى أرض المحشر:
كذلك أخبرنا الله أن الناس يسمعون داعيًا يدعوهم إلى أرض المحشر كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)} [طه]. قال القاسمي رحمه الله: " {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} أي: يجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه {لَا عِوَجَ لَهُ} أي: لا يعوج له مَدْعُوٌّ، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه، متبعين لصوته، سائرين بسير"
(3)
.
وقال القرطبي رحمه الله: "يريد بالداعي إسرافيل عليها السلام إذا نفخ في الصور". {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)} قال: "الهمس الصوت الخفي قاله مجاهد"
(4)
ويقول ربنا -جل وعلا-: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 52]. قال القرطبي: "الدعاء: النداء إلى المحشر بكلامٍ تَسْمَعُه الخلائق"
(5)
.
وقال -جل وعلا-: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)} [ق].
يخرجون إلى أرض المحشر سراعا:
ويقول ربنا -جل وعلا-: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} [يس]. وينسلون أي: يسرعون في المشي من القبور إلى المحشر، والنَّسْل نوع من أنواع المشي وهو الإسراع
(6)
.
(1)
رواه مسلم (1659)
(2)
التحرير والتنوير (9/ 314)
(3)
محاسن التأويل (7/ 148).
(4)
تفسير القرطبي (11/ 247).
(5)
المرجع السابق (10/ 275).
(6)
نَسَلَ في العَدْو يَنْسِلُ وينسُل نَسْلًا ونَسَلًا ونَسَلَانًا، أي: أسرع. انظر: الصحاح للجوهري وتاج العروس للزبيدي مادة (نسل).
فأخبرنا ربنا -جل وعلا- أنهم يحشرون إلى أرض المحشر بهذه الصفة: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)} [يس: 52].
ويقول ربنا -جل وعلا-: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)} [ق]{سِرَاعًا} سراعًا: جَمْعُ سريع أي: يخرجون من قبورهم إلى أرض المحشر سراعًا.
وقال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)} [المعارج: 43]{يُوفِضُونَ} أي: يسرعون، والنُّصُب: جمع نَصْبٍ، وهو الصنم.
خشعا أبصارهم سراعا:
وقال تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر] أي: مسرعين مادِّين أعناقهم. فانظروا كيف يُقبِل الناس إلى المحشر لا اختيار لهم في ذلك، يسمعون الداعي، فيقبلون إلى أرض المحشر كأنهم جراد منتشر!!
الملائكة تسوقهم إلى المحشر:
ويقول ربنا سبحانه: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} [ق] أي: مَلَكٌ يسوقها إلى المحشر، ومَلَكٌ يشهد عليها بأعمالها. فهذه إذًا صفةٌ من الصفات التي يأتي الناس بها إلى أرض المحشر، يأتون ومعهم ملائكة، مَلَكٌ يسوق الواحد منهم، ومَلَكٌ يشهد عليه بأعماله
لا يتخلف أحد عن أرض المحشر:
وقال: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} [الكهف]. فدلت الآية أنه لا يستطيع أحدٌ أن يتخلف عن أرض المحشر يوم القيامة.
فالله عز وجل سيحشر الأولين والآخرين على كثرتهم، سيحشرهم جميعًا في مكان واحد للجزاء والحساب، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وكلٌّ ينال جزاءه.
يأتون أفواجا:
ويقول ربنا سبحانه: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)} [النبأ].
فدلت هذه الآية أن الناس يأتون يوم القيامة إلى أرض المحشر أفواجًا أي:
أُمَمًا، كلُّ أمة مع إمامهم قال القرطبي:"وقيل: زُمَرًا وجماعات"
(1)
.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)} [النمل: 83]{فَوْجًا} أي: زمرة وجماعة، {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي: يُدفَعون ويُساقُون إلى موضع الحساب {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)} [النمل].
فهذه جملةٌ من الآيات الكثيرة المتعلِّقة بهذه المسألة، وقد وَرَدَ الإيمانُ بالحشر كثيرًا في القرآن، وجاء بيانُه في آيات وأدلة عدة.
وجوب الإيمان بالحشر:
إذًا كلمة الحشر تعني كلَّ ما يحصل من أحداث منذ أن يُبعَث الناس من قبورهم إلى انتهاء أرض الموقف وانفصال الناس إلى الجنة والنار، وكلُّ ذلك مما يجب الإيمان به، ويدخل تحت اسم الحشر. والإيمان بالحشر هو من الإيمان باليوم الآخر، فيجب الإيمان بما يكون يوم القيامة من الحشر والحساب وغيرهما. وهذا كما ذكرنا داخلٌ في الشعبة السادسة، وهي الإيمان باليوم الآخر، وهو أحد أركان الإيمان الستة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل لما سأله: ما الإيمان؟ قال: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
(2)
.
أثر الإيمان بالحشر:
وللإيمانِ بالحشر أثرٌ عظيمٌ على المؤمن؛ فإنه يُورِث عند العبد الخوف مما يكون في ذلك اليوم، فيخشى من الحساب، ويخشى من العذاب، ويدفعه ذلك لفعل الطاعات وترك المنكرات والبُعْد عن عصيان ربِّ الأرض والسماوات.
من أدلة السنة على الحشر:
ومن أدلة السنة: ما جاء في الصحيحين من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
تفسير القرطبي (19/ 175).
(2)
تقدم تخريجه في المجلس الخامس.
(1)
.
وعلَّق الحافظ ابن حجر على قوله صلى الله عليه وسلم: «وأنا الحاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ علَى قَدَمَيَّ» ، فقال:"أَيْ عَلَى أَثَرِي أَيْ: إِنَّهُ يُحْشَر قَبْل النَّاس"
(2)
.
وجاء في رواية: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي»
(3)
ويُفهَم من تفسير العلماء لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أوَّلُ من يُحشَر. وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(4)
يعني: ثم يتتابع الناس بعد ذلك.
وجاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر ويقول: «إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّهِ - وفي رواية: إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللهِ- حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} [الأنبياء: 104]، ثم قال عليه الصلاة والسلام:«فأوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ يُؤْخَذُ برِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فأقُولُ: أَصْحَابِي! فيُقَالُ: إنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ علَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ، فأقُولُ كما قالَ العَبْدُ الصَّالِحُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 117 - 118]»
(5)
وَعَنْ عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ»
(6)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «حُفَاةً» أي غير منتعلين،
(1)
أخرجه البخاري (4896)، ومسلم (2354).
(2)
فتح الباري (6/ 557).
(3)
أخرجه مسلم (2354).
(4)
أخرجه البخاري (2412) وأحمد (10987) -واللفظ له- من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري (3447)، ومسلم (2860)
(6)
أخرجه البخاري (6527) ومسلم (2859) واللفظ له.
«عُرَاةً» أي: غير لابسين،
«غُرْلًا» أي: غير مختونين. فدلَّ هذا الحديث على الصفة التي يُحشَر عليها الناس،
فإنهم يُحشَرون «حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ، يقفون بين يدي الله.
رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لسماع حديث القصاص بين الخلائق:
وفي المسند عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، يَقُولُ: بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي، فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ رضي الله عنه، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ: جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي، وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثًا بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِصَاصِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ، أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ قَالَ: الْعِبَادُ - عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا» قَالَ: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: «لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ» قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عز وجل عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ»
(1)
الله أكبر! والله إنه لموقف عظيم، يستدعي من الإنسان في هذه الدنيا أن يُقبِل على الله، وأن يهتم بفرائض الله، وأن يؤدي ما أمره الله عز وجل به لا سيَّما في هذه الأيام المباركة الفاضلة، ونحن مقبلون على ليلة سبع وعشرين من رمضان، الليلة التي هي أرجى الليالي،
(1)
مسند أحمد (16042) وأخرجه ابن أبي شيبة في مسنده (851) والبخاري في الأدب المفرد (970) والحاكم في المستدرك (8715) وله طريق أخرى عند الطبراني في مسند الشاميين (153، 156) من طريق عثمان بن سعيد الصيداوي، ثنا سليمان (كذا وصوابه: سليم) بن صالح، ثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن الحجاج بن دينار، عن محمد المنكدر، عن جابر به. ورواته مترجمون في التهذيب سوى عثمان وهو مترجم في تاريخ دمشق لابن عساكر (38/ 367)؛ وشيخه مترجم فيه أيضا (72/ 286) وهما مجهولان يصلح حديثهما للاعتبار.
فيا أيها العبد المؤمن تذكر هذا الموقف العظيم الذي يُحشَر فيه الناسُ، ومن هول هذا الموقف لا يهتم امرؤ إلا بنفسه.
يُحشَر المؤمنون مكرمين:
وبَيَّن اللهُ -جل وعلا- في كتابه أن أهل التقوى يحشرون مكرَّمين، فقال سبحانه:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم] قال الطبري رحمه الله: "يوم نجمع الذين اتقوا في الدنيا فخافوا عقابه، فاجتنبوا لذلك معاصيه، وأدَّوا فرائضه إلى ربهم {وَفْدًا} يعني بالوفد: الركبان"
(1)
. وقال ابن كثير رحمه الله: "يحشرهم يوم القيامة وفدًا إليه، والوفد: هم القادمون ركبانا"
(2)
فهذا من تكريم الله عز وجل للمتقين. إن الواحد منا إذا كُرِّم في الدنيا أمام وزير أو رئيس أو أمام جماعة من الناس يفرح فرحًا عظيمًا، فكيف بهؤلاء الذين يُكرَّمون أمام الخلائق كلهم، منذ أن خلق الله آدم إلى أن تزول هذه الدنيا؟! يُجمَع كلُّ الخلائق ويكرم أهل التقوى، وغيرهم يحشرون في ذلة ومهانة، كما قال:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم].
صفة حشر المتكبرين:
وقد جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ»
(3)
يعني في صور الرجال من جهة وجوههم وهيئتهم لكنهم أمثال الذر في الصغر والحقارة والذل، يغشاهم الذل من كل مكان. نسأل الله السلامة والعافية
صفة حشر المجرمين والكافرين:
ويقول الله -جل وعلا-: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)} [طه]
(1)
تفسير الطبري (15/ 628).
(2)
تفسير ابن كثير (5/ 263).
(3)
سنن الترمذي ت شاكر (2492) ومسند أحمد (11/ 260) رقم (6677) والبخاري في الأدب المفرد (577). وقال الترمذي هذا حديث حسن. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2911) وقال المنذري: (بُوْلَسُ) بضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح اللام بعدها سين مهملة. و (الخَبَالُ) بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة ا. هـ
قيل: معناه زرق العيون من شدة العطش الذي يكون بهم عند الحشر
وقيل: أريد بذلك أنهم يحشرون عميا.
(1)
ويقول مُبيِّنًا حال من أعرض عن ذكره: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه: 124] أي: أعمى البصر؛ ولهذا يقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 125 - 126]
(2)
.
ويقول ربنا -جل وعلا- في آية أخرى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]
فيأتون على هذه الهيئة من الذل والحقارة؛
كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا نبي الله، يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال:
(3)
وفي الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفًا مُشَاةً، وَصِنْفًا رُكْبَانًا، وَصِنْفًا عَلَى وُجُوهِهِمْ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ:«إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَمَا إِنَّهُمْ يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ»
(4)
وقوله: " «يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ» الحَدَب: -بفتحتين-: الغليظ المرتفع من الأرض، أي: يجعلون وجوههم مكان الأيدي والأرجل في التوقي عن مؤذيات الطرق، وقد غُلت أيديهم وأرجلهم، وذلك لمّا لم يجعلوها ساجدة لخالقها.
-نسأل الله السلامة والعافية-.
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (16/ 161).
(2)
مفتاح دار السعادة لابن القيم ط عالم الفوائد (1/ 123)
(3)
أخرجه البخاري (6523)، ومسلم (2806).
(4)
أخرجه الترمذي (3142) وأحمد (8647)، وسنده ضعيف، لكن يشهد له ما قبله.
طرائق حشر الناس يوم القيامة:
وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْبَهْزِيِّ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنِّي حَلَفْتُ هَكَذَا وَنَشَرَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ حَتَّى تُخْبِرَنِي مَا الَّذِي بَعَثَكَ اللهُ بِهِ؟ قال: «بَعَثَنِي اللهُ بِالْإِسْلَامِ» إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم له: «هَاهُنَا تُحْشَرُونَ. هَاهُنَا تُحْشَرُونَ. هَاهُنَا تُحْشَرُونَ.، ثَلَاثًا، رُكْبَانًا وَمُشَاةً، وَعَلَى وُجُوهِكُمْ» وفي رواية: «
…
وَتُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِكُمْ» ثم قال «تُوفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ
…
»
(1)
الحديث.
فبَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على طرائق، فمنهم من يحشر مكرمًا، ومنهم من يحشر على هيئة الذل والمهانة، نسأل الله -جل وعلا- السلامة.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا نبي الله، يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال:«أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟!»
(2)
ويقول في بيان حال المشركين: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)} [يونس].
يقول الطبري رحمه الله: " يقول تعالى ذكره: ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعًا {ثُمَّ نَقُولُ} حينئذ {لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} بالله الآلهة والأنداد {مَكَانَكُمْ} أي: امكثوا مكانكم وقفوا في موضعكم {أَنْتُمْ} أيها المشركون {وَشُرَكَاؤُكُمْ} الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والأوثان {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} يقول: ففرَّقْنا بين المشركين بالله وما أشركوه به"
(3)
وهنا يبدأ كلُّ واحد يتبرأ من الآخر، ويُكذِّب الآخر.
(1)
أخرجه الترمذي (3143) وأحمد (20011).
(2)
تقدم (ص: 130).
(3)
تفسير الطبري (12/ 170)
آخر من يحشر:
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَتْرُكُونَ المَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لَا يَغْشَاهَا إِلَّا العَوَافِ-يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ-وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، يُرِيدَانِ المَدِينَةَ، يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحوشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ، خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا»
(1)
.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"قوله: «فيجدانها وحوشًا» أو يجدانها ذات وحوش أو يجدان أهلها قد صاروا وحوشًا، وهذا على أن الرواية بفتح الواو أي: يجدانها خالية وفي رواية مسلم: «فيجدانها وَحْشًا» أي: خالية ليس بها أحد، والوَحْش من الأرض: الخلاء"
(2)
.
صفة أرض المحشر:
جاء في الصحيحين بيانُ صفة الأرض التي يحشر الناس عليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ، لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ»
(3)
.
قوله: «عَفْرَاءَ» : قال الخطابي: العفر: بياض ليس بالناصع"
(4)
وقال عياض: "العفر: بياض يضرب إلى حمرة قليلًا"
(5)
،
وقوله: «كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ» أي: "الدقيق النَّقِي من القشر والنخالة. قاله الخطابي
(6)
.
وقوله: «لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ» أي: ليس بها علامة سكنى، أو بناء، ولا أثر.
وفي الحديث: إشارة إلى أن أرض الدنيا اضمحلّت، وأُعدمت، وأن أرض الموقف تجددت وأنها أكبر من هذه الأرض الموجودة جدّاً. قيل: والحكمة في صفة الأرض المذكورة
(1)
أخرجه البخاري (1874)، ومسلم (1389).
(2)
فتح الباري (4/ 91) وانظر طبعة الأرناؤوط (6/ 226)
(3)
أخرجه البخاري (6521)، ومسلم (2790) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(4)
«أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري)» (3/ 2268).
(5)
«مشارق الأنوار على صحاح الآثار» (2/ 97)
(6)
«أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري)» (3/ 2268)
أن ذلك اليوم يوم عدل، وظهور حقّ، فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهراً عن عمل المعصية والظلم، ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده، فناسب أن يكون المحل خالصاً له وحده، قاله أبو بكر ابن أبي جمرة
(1)
رحمه الله
(2)
.
مكان الناس عند الحشر:
وسألت عائشة رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فقالت: فأين يكون الناس يومئذ؟ يا رسول الله. فقال: «عَلَى الصِّرَاطِ»
(3)
.
حشر الدواب
ودلت الأدلة أن الدواب تُحشَر مع الخلائق أيضًا يقول ربنا -جل وعلا-: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير] يعني جمعت بعد أن ماتت.
وقال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام].
فتحشر الأمم كلها من الدواب والطير، فيُنْصَف بعضُهم من بعض حتى إنه يؤخذ للجماء من القرناء.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»
(4)
الشاة الجلحاء والجماء: التي ليس لها قرن. فإذا ظلمت في الدنيا من ذات القرن يؤتى بها يوم القيامة فيقاد لها.
(1)
هو محمد بن أحمد بن عبد الملك بن أبي جمرة الأموي، فقيه مالكي من أعيان الأندلس، توفي سنة (599 هـ). انظر: شذرات الذهب (4/ 342)، وسير أعلام النبلاء - ط الرسالة- (21/ 398)
(2)
انظر: فتح الباري (11/ 375) وشرح النووي (17/ 134)
(3)
أخرجه مسلم (2791)
(4)
أخرجه مسلم (2582). ورواه أحمد في المسند (7996) بلفظ: «
…
حَتَّى تُقَادَ الشَّاةُ الْجَمَّاءُ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وهذا تصريحٌ بحشر البهائم يوم القيامة وإعادتِها كما يُعاد أهلُ التكليف، وكما يعاد الأطفالُ والمجانين ومن لم تبلغه الدعوة.
يجمع الله الخلائق في صعيد واحد:
وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} [الشورى] ففي يوم القيامة «يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ»
(1)
فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق سبحانه.
قال الله سبحانه: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)} [الجاثية]
وقال -جل وعلا-: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)} [المرسلات].
فيكون مرجع الخلائق إلى الله سبحانه كما قال -جل وعلا-: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة]
وكما قال تعالى: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف].
وقال سبحانه: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)} [يونس].
وقال -جل وعلا-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة].
فالناس كلهم سيجمعون بين يدي الله -جل وعلا- ويُجازَى كلٌّ بحسب عمله، المحسنُ بإحسانه والمسيءُ بإساءته، -نسأل الله العفو والعافية-.
JIH
(1)
صحيح البخاري (4712) وصحيح مسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الإيمان
بأهوال يوم القيامة
F e
المجلس السابع والعشرون
(1)
بعض الأهوال المتعلقة بأحوال الناس يوم القيامة:
ذكرنا أنَّ الحشرَ مبتدؤُه من طلوع الناس من قبورهم إلى نهايةِ الموقف وانقسامِ الناس إلى فريقين: فريقٍ في الجنة، وفريقٍ في السعير، وذلك اليومُ العظيمُ الذي يبدأ من خروج الناس من قبورهم، تتخلَّلُه أحداثٌ عظيمة جاء ذِكْرُها في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا المجلس سنقف على شيء من هذه الأهوال العظيمة.
الأرض تنطق يوم القيامة عند البعث والحشر:
جاء في سنن الإمام ابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَ أَجَلُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ أَوْثَبَتْهُ إِلَيْهَا الْحَاجَةُ، فَإِذَا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرِهِ، قَبَضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَتَقُولُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي»
(2)
تنطق الأرض حين إخراج الناس من القبور والبعث والنشور، فتقول:«رَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي» فيخرج الناس من قبورهم.
يقول ربنا سبحانه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه] فيخرجون للبعث والحساب.
وهذا من آيات الله العظيمة كما قال -جل وعلا-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} [الروم].
قال القرطبي رحمه الله: " {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي:
(1)
كان في يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر رمضان 1441 هـ.
(2)
أخرجه ابن ماجه (4263). وهو في السلسلة الصحيحة (1222). ورجح جماعة وقفه كما في العلل لابن أبي حاتم، والعلل للدارقطني وانظر: أحاديث معلة ظاهرها الصحة (310) وللموقوف حكم الرفع فمثله لا يقال من قبيل الرأي. وفي جامع الترمذي (2147) بسند صحيح عَنْ أَبِي عَزَّةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَضَى اللَّهُ لِعَبْدٍ أَنْ يَمُوتَ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً، أَوْ قَالَ: بِهَا حَاجَةً»
الذي فَعَلَ هذه الأشياء قادرٌ على أن يبعثكم من قبوركم، والمرادُ: سرعةُ وجودِ ذلك من غير توقف ولا تلبُّث، كما يجيب الداعيَ المطاعَ مدعُوُّه"
(1)
.
وقال الحافظ ابن كثير: " {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي: إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يخالَفُ ولا يمانَعُ"
(2)
كما قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)} [الإسراء]
وكما قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} [النازعات]
وكما قال ربُّنا -جل وعلا-: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} [يس].
إذا بُعثِرت القبور يقومون متفرِّقين:
يقوم الناسُ من قبورهم ينظرون كالحيارى متفرِّقين، يقول سبحانه:{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)} [القارعة] يعني: منتشرين متفرِّقين بين ذهاب ومجيء من حيرتهم مما هم فيه.
إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقلون مدة الحياة الدنيا:
يتساءلون فيما بينهم كما قال الله -جل وعلا-: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون].
هذه الدنيا التي طال زمانها وتعدَّدت سنونها يقولون عنها يوم القيامة: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} يا سبحان الله! فالمدة قصيرة جدًّا {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} . ويقول ربنا: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات]
قال ابن كثير رحمه الله: "أي: إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مدة الحياة الدنيا، حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضحى من يوم"
(3)
، و"العشية: ما بين
(1)
تفسير القرطبي (14/ 19).
(2)
تفسير ابن كثير (5/ 86).
(3)
تفسير ابن كثير (8/ 318)
الزوال إلى الغروب، والضحى: ما بين طلوع الشمس إلى الزوال، وهذا تحديد بنصف نهار"
(1)
فهم يستقِلُّون هذه المدة.
ويقول في آخر سورة الروم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} سبحان الله: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)} [الروم]
يقولون: ما لبثنا غير ساعة وزمن قصير جدًّا.
وهذا يدل على عظيم هول يوم القيامة، وأنَّ الناس يدهشون ويصبحون حيارى كالفراش المبثوث، كأنهم جراد منتشر، يقول قائلهم: إن لبثنا إلا يومًا أو بعض يوم، ويقول آخر: إنما هي عشية أو ضحاها، ويقول آخرون: ما لبثنا غير ساعة.
والدنيا لو تأملها الإنسان وتفكر فيها فإنها قصيرة لا تساوي شيئا عند ما أعد الله لعباده من النعيم في الآخرة؛ فإنها "ظِلٌّ زَائِلٌ وَحَالٌ حَائِلٌ، وَرُكْنٌ مَائِلٌ وَرَفِيقٌ خَاذِلٌ، وَمَسْئُولٌ بَاخِلٌ، وَغُولٌ غَائِلٌ، وَسُمٌّ قاتل، وكُلُّ وُعُودِهَا غُرُورٌ بَاطِلٌ"
(2)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟»
(3)
السُّوَر التي صوَّرت يوم القيامة:
وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى السور التي صورت موقف القيامة، فقال:«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ» رواه الترمذي من حديث ابن عمر
(4)
.
وهذه السور الثلاث فيها ما يتعلق بتغير كل ما هو حولنا من شمس وقمر وسماء وأرض ونجوم.
(1)
أضواء البيان (8/ 428).
(2)
من التبصرة لابن الجوزي (1/ 278)
(3)
أخرجه مسلم (2858) من حديث مستور بن شدَّاد رضي الله عنه.
(4)
تقدم تخريجه في المجلس الرابع والعشرين.
تغير السماء:
ذكر تغيُّرَ السماء وانفطارَها ومَوَرَانَها، فقال -جل وعلا-:{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)} [المزمل] منفطر أي: متشقِّق، فالسماء مثقلة بذلك اليوم، متصدِّعة، متشقِّقة.
وقال سبحانه: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)} [الطور] أي: تضطرب اضطرابًا عظيمًا. وقال -جل وعلا-: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)} [الرحمن].
قال القاسمي رحمه الله: " أي: انفطرت، فاختلَّ نظامُها العلوي، {فَكَانَتْ وَرْدَةً} أي: كَلَوْنِ الورد الأحمر {كَالدِّهَانِ} أي: كالدهن الذي هو الزيت"
(1)
وقال -جل وعلا-: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)} [المعارج]
وقال -جل وعلا-: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)} [الحاقة] أي: منشقَّة متصدِّعة. فهذه السماء التي حثَّنا الله عز وجل على النظر إليها؛ إذ هي من آيات الله العظيمة يقول -جل وعلا-: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} [الملك]
فهذه السماء التي ليس فيها تشقُّقٌ ولا تصدُّعٌ، والتي زيَّنَها الله {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] تتصدَّعُ وتتشقَّقُ وتصبحُ {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، كما قال:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)} [الإنشقاق]
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إذا السماء تصدَّعت وتقطَّعت فكانت أبوابًا، قولُه: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} يقول: وسمعت السماوات في تصدعها وتشققها لربها وأطاعت له في أمره إيَّاها، والعربُ تقول: أَذِنَ لك في هذا الأمر إذنًا بمعنى: استمع لك"
(2)
ويقول -جل وعلا- في آية أخرى: {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)} [المرسلات] أي: تشقَّقت وتفطَّرت، فهذا من وصف الله للسماء وحالها يوم القيامة،
(1)
تفسير القاسمي (9/ 110)
(2)
تفسير الطبري (24/ 230، 229).
ويقول -جل وعلا-: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)} [النبأ]
ويقول -جل وعلا-: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)} [الفرقان]
قال القرطبي: " {بِالْغَمَامِ} أي: عن الغمام"
(1)
.
وقال سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} [إبراهيم] فتُبدَّلُ السماوات، وتتشقَّقُ ويُصِيبُها من الأهوال ما جاء في هذه الآيات العظيمة.
وسُيِّرت الجبال:
أما عن الجبال فإن الله يقول: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)} [الحاقة] تُدَكُّ وتزلزل زلزلة واحدة، وترفع عن أماكنها.
ويقول ربنا -جل وعلا-: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] تَمُرُّ مرَّ السحاب أي: تُزال عن أماكنها، وهذا يكون يوم القيامة.
وقال -جل وعلا-: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)} [الطور].
ويقول -جل وعلا-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)} [طه]. وذكر الشنقيطي رحمه الله في تفسيره
(2)
: أن الجبال:
• تُنزَع من أماكنها وتُحمَل فتُدَكُّ دكًّا
• ثم تسير في الهواء بين السماء والأرض
• ثم تُفتَّتُ حتى تصير كالدقيق الملتوت بسمن
• ثم تصير كالرمل المتهايل
• ثم تكون كالعهن المنفوش
• ثم تصير كالهباء المنبث
• ثم تصير سرابًا والسراب لا شيء،
(1)
تفسير القرطبي (13/ 23).
(2)
ينظر: أضواء البيان (4/ 97).
وبيَّن أنه ينسفها نسفًا، وذَكَرَ الآياتِ التي تدُلُّ على ذلك من وصف ربنا -جل وعلا- للجبال.
فمما ورد من تفتُّتِ الجبال قوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)} [الواقعة:] بُسَّت أي: فُتِّتَتْ فصارت كالدقيق المبلول.
وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)} [المزمل] والكثيب المهيل: هو ما أشبه الدقيق والسَّويق.
وقال -جل وعلا-: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)} [المعارج] والعهن: هو الصوف المصبوغ.
يا سبحان الله! هذه الجبال القوية الثابتة، وذاك الصخر الصلب يصبح كالقطن المنفوش!
ويقول -جل وعلا-: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)} [الواقعة]
وفي سورة طه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)} أي: بساطًا واحدًا، والقاع: هو المستوي من الأرض.
وقال تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)} [النبأ]
أي: كالسراب يعني أنها تصبح لا شيء.
تغير الأرض:
وأما عن الأرض فإن الله ذكر ما يحصل فيها من تغير في مواضع شتًّى، فيقول -جل وعلا-:{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)} [الواقعة]
قال ابن كثير: " أي: حُرِّكت تحريكًا فاهتزَّت واضطربت بطولها وعرضها؛ ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغير واحد في قوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} أي: زُلْزِلَت زلزالًا شديدًا"
(1)
.
وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)} [المزمل]
(1)
تفسير ابن كثير (7/ 514).
وقال سبحانه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة] إلى آخر السورة.
فقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} أي: تحركت من أسفلها {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} تُلقِي ما فيها من الموتى، وتقول كما مر معنا في الحديث:«رَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي» .
يدُكُّ الله عز وجل الأرض والجبال: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)} [الفجر] تضطرب اضطرابًا عظيمًا ثم يُسوِّيها الله -جل وعلا- وتستوي مع الجبال تنسف الجبال وتستوي الأرض حتى تصبح كبساط واحد كما تقدم معنا في الآيات
ويقول -جل وعلا-: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} [الكهف].
قوله: {بَارِزَةً} قال البغوي رحمه الله: "أي: ظاهرةً ليس عليها شجر ولا جبل ولا نبات كما قال: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} [طه] قال عطاء: هو بروز ما في باطنها من الموتى وغيرهم فترى باطن الأرض ظاهرًا"
(1)
.
وقال تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} [الإنشقاق]. قال الطبري رحمه الله: " {مُدَّتْ}: بُسِطت فزِيدَ في سعتها"
(2)
.
{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي: ألقت ما في بطونها من الموتى إلى ظهرها، وتخلت منهم إلى الله، فتبسط، وتفرش، وتوسع، وتمد بأمر من الله وتُخرِج ما في بطنها.
وجاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا، أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ، فَيَقُولُ: فِي
(1)
معالم التنزيل (5/ 176، 175).
(2)
تفسير الطبري (24/ 232).
هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ، فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا»
(1)
وهذا الحديث ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قول الله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} أي: أَلْقَتْ ما فيها من الأموات {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} يستنكر الإنسان ما يحصل من التغيرات الكونية التي يراها، فيستنكر أمر الأرض بعدما كانت قارَّةً، ساكنةً، ثابتةً، وهو مستقِرٌّ عليها، -فاللهم رحماك يا رب، رحماك يا رب-.
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا يقع من تبدُّلِ الأرض.
قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ»
(2)
. -وقد تقدم معنا في الدرس الماضي-،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ» يعني ليس فيها علامة سُكْنى ولا بناء ولا أثر ولا شجر ولا حجر ولا غير ذلك.
تغير البحار:
وأما ما جاء في شأن البحار يوم القيامة فإن الله يقول: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الإنفطار: 3] أي: فُتِحَ بعضُها إلى بعض، فتزول الحواجز التي بينها بسبب اضطراب الأرض وارتجافها وزلزلتها، فتصبح البحار كلها بحرًا واحدًا ثم تشتعل.
كما قال -جل وعلا-: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)} [التكوير]
وقال تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)} [الطور] وقد ذكر غير واحد من أهل التفسير أنها توقد، فتصير على عظمها نارًا تتوقد، -نسأل الله السلامة والعافية-.
تغير الشمس والقمر والنجوم:
وأما ما جاء في الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة فإن الله تعالى يقول: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)} [التكوير]
ويقول -جل وعلا-: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} [القيامة]
(1)
أخرجه مسلم (1013).
(2)
تقدم في المجلس السادس والعشرين.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «الشَّمْسُ وَالقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ»
(1)
.
والمقصود بالتكوير: أنها تُزال عن أماكنها، وتُلقى عن فلكها، ويُمحى ضوؤُها.
وقوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} قال الحافظ ابن جرير رحمه الله: "وجمع بين الشمس والقمر في ذهاب الضوء؛ فلا ضوء لواحد منهما"
(2)
.
ثم تَقْرُب الشمس من رؤوس الخلائق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ» إلى آخر الحديث، خرجه مسلم من حديث المقداد بن أسود رضي الله عنه
(3)
.
ويقول -جل وعلا-: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} [القيامة]
ويقول -جل وعلا-: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)} [المرسلات] أي: طمسها بذهاب ضيائها، فليس لها نور، وليس لها ضوء، وكذلك القمر لا نور له ثم تتساقط النجوم والكواكب.
كما أخبر الله -جل وعلا-: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)} [التكوير].
وكما قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)} [الإنفطار].
كُرَب يوم القيامة:
هذه كلها أهوال عظيمة تقع يوم القيامة؛ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين] وهي كُرَبٌ عظيمة؛ ولهذا سمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما يقع في ذلك اليوم بالكرب، قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(4)
.
ففي يوم القيامة كُرَبٌ عظيمة: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ
…
فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى
(1)
أخرجه البخاري (3200).
(2)
تفسير الطبري (23/ 481).
(3)
سيأتي تخريجه في المبحث الآتي.
(4)
أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا»
(1)
.
يوم القيامة تَذْهَلُ كُلُّ مرضعة عمَّا أرضعت:
وتأملوا قول الله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} . المرضعة التي فُطِرت على حب ولدها، والإحسان إليه، يقول الله فيها:{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} . وذلك من شدة الفزع والهول! {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} أي: تحسبهم أيها الرائي لهم سكارى من الخمر وليسوا سكارى {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج] إنه الهول الذي أذهب عقولهم، وأفزع قلوبهم، وملأها ذعرًا، وبلغت القلوب الحناجر، وشخصت الأبصار.
يوم القيامة يشيب الولدان:
وفي ذلك اليوم لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئًا، بل يقول ربنا -جل وعلا-:{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)} [المزمل].
هؤلاء الوِلْدان الذين ما عملوا في الدنيا شيئًا يأتون يوم القيامة شيبًا!!
تشيب رؤوسهم وهم صغار!! فما أعظمه من هول!
الوليد الذي لم يرتكب جُرْمًا يشيب شعر رأسه؛ لشدة ما يرى من أهوال في ذلك اليوم {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)} [المزمل].
تشخص أبصار الظلمة في ذلك اليوم:
وتشخص أبصار الظلمة في ذلك اليوم -أي: لا تطرف من شدة ما ترى من الأهوال وما أزعجها من القلاقل- قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} [إبراهيم]. ومُهْطِعِينَ أَيْ: مُسْرِعِينَ، ومُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ: أي
(1)
أخرجه مسلم (2864) من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه.
رَافِعِي رُءُوسِهِمْ. وأَبْصَارُهُمْ طَائِرَةٌ شَاخِصَةٌ، لِكَثْرَةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ وَالْمَخَافَةِ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ أَيْ: خَاوِيَةٌ خَالِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ لِكَثْرَةِ الْوَجِلِ وَالْخَوْفِ.
قلوب واجفة وأبصار خاشعة:
ويقع الرعب والفزع، فيصيب العباد أجمع، وتبلغ القلوب الحناجر
كما قال الله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} ترتفع وبقية الأفئدة هواء، ووصلت القلوب من الروع والكرب إلى الحناجر شاخصة أبصارهم {لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)} [غافر]
وقال تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)} [النازعات]
واجفة أي: منزعجة من شدة ما ترى وتسمع، والأبصار ذليلة حقيرة، قد مَلَكَ قلوبهم الخوفُ، وأذهل أفئدتَهم الفزعُ، إنه ذلكم اليوم الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار.
كما قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور] يعني لشدة الهول في ذلك اليوم، في ذلك اليوم الأبصار تكون كما ذكرنا خاشعة ذليلة {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} وفي آية أخرى:{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)} [القمر]
وقال تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: 43]
وقال: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء: 97].
أسمع بهم وأبصر:
وفي ذلك اليوم يقول ربنا: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)} [مريم].
فيخبر سبحانه عن الكفار يوم القيامة أنهم يكونون أسمع شيء وأبصره.
كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12]
لكن في وقت لا ينفع فيه ولا يجدي فيه السمع والبصر، ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لكان نافعًا لهم ومنقذًا لهم من عذاب الله ولهذا قال:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}
أي: ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا يعني يوم القيامة، يشاهدون النار ويعاينون الحق، فيؤمنون، ولكن لا ينفع ذلك الإيمان، ولا ينفع الندم، ولاتَ ساعةَ مَنْدَم، نسأل الله السلامة والعافية.
تتقطع الأنساب:
وفي ذلك يوم تتقطع فيه الأنساب بين الناس: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} [المؤمنون]
لا ينفع الإنسان يومئذ الأنساب، ولا يرثي والدٌ لولده ولا يلوي عليه.
لا يسأل حميم حميمًا:
بل قال الله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج]
أي: لا يسأل القريبُ قريبَه وهو يبصره، ولو كان عليه من الأوزار ما أثقل ظهره وهو أعزُّ الناس عليه في الدنيا، لا يلتفت إليه، ولا يحمل عنه وزن جناح بعوضة من عمله.
يفر المرء من أقرب الناس إليه:
يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه قال تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)} [المعارج]
فليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس، يبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس]
سبحان الله! فلنتفكَّرْ في عظيم هول هذا اليوم الذي يفر فيه كلُّ واحد من الآخر!
وفي تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله:
عَنْ عِكْرِمَةَ رحمه الله قَالَ: يَلْقَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فَيَقُولُ لَهَا: يَا هَذِهِ، أَيُّ بَعْلٍ كنتُ لَكِ؟ فَتَقُولُ: نِعْمَ الْبَعْلُ كنتَ! وَتُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَتْ، فَيَقُولُ لَهَا: فَإِنِّي أطلبُ إِلَيْكِ اليومَ حَسَنَةً وَاحِدَةً تَهَبِينَهَا لِي لَعَلِّي أَنْجُو مِمَّا تَرَيْنَ. فَتَقُولُ لَهُ: مَا أَيْسَرَ مَا طلبتَ، وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَخَافُ. قَالَ: وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْقَى ابْنَهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ وَالِدٍ كنتُ لَكَ؟ فَيُثْنِي بِخَيْرٍ. فيقولُ لَهُ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي احْتَجْتُ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَاتِكَ لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرَى. فَيَقُولُ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ، مَا أَيْسَرَ مَا طَلَبْتَ، وَلَكِنِّي أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَتَخَوَّفُ، فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا. ثم قرأ الآيات. وقال: وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ-فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ-: أَنَّهُ إِذَا طُلِبَ إِلَى كُلٍّ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَلَائِقِ، يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي، لَا أَسْأَلُهُ اليومَ إِلَّا نَفْسِي
(1)
. قال: حتى إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَقُولُ: لَا أَسْأَلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، لَا أَسْأَلُهُ مَرْيَمَ الَّتِي وَلَدَتْنِي
(2)
ا. هـ
(3)
(1)
متفق عليه، رواه البخاري (3340) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: حلية الأولياء (5/ 372).
(3)
انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 325).
كل نفس بما كسبت رهينة:
وقال الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38] أي: مرتهنة فينشغل الإنسان بنفسه
ويقول الله: {الْأَخِلَّاءُ} أي الأحباء المتوادُّون في الدنيا: {يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزخرف: 67]
قال الله عقب ذلك مباشرة: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} [الزخرف: 68] وهذا خطاب لأهل الإيمان.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لقومه: «يا بَنِي عبدِ مَنافٍ، اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يا بَنِي عبدِ المُطَّلِبِ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يا أُمَّ الزُّبَيْرِ بنِ العَوّامِ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ، يا فاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ، اشْتَرِيا أنْفُسَكُما مِنَ اللَّهِ لا أمْلِكُ لَكُما مِنَ اللَّهِ شيئًا، سَلانِي مِنْ مالِي ما شِئْتُما»
(1)
.
إنه ذلك اليوم الذي يفزع فيه العصاة والمجرمون والكفار، ويأمن من أمَّنَه اللهُ بتوحيده وإيمانه.
هذه جملةٌ مما يقع من الأهوال في يوم القيامة،
وللحديث بقيةٌ إن شاء الله في المجلس القادم، والله تعالى أعلم،
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
(1)
أخرجه البخاري (3527) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
JIH
F e
المجلس الثامن والعشرون
(1)
تتمة في ذكر بعض الأهوال المتعلقة بأحوال الناس يوم القيامة:
في ذلكم اليوم العظيم الذي يقف فيه الناس لرب العالمين، ينتظرون الحساب والجزاء من الملك العدل الحق. وينقسمون أقساما كما يلي:
انقسام الناس يوم القيامة:
جاءت الأدلة مبينة أن الناس في عرصات القيامة يختلفون اختلافًا كبيرًا:
فمنهم: أهل الإيمان الأبْرَار ومنهم: الكفَّار والفُجَّار.
وأهل الإيمان أقسام ثلاثة كما قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر] ..
حال الكفار يوم القيامة عند خروجهم من قبورهم:
وقد بيَّنَتِ الأدلةُ شيئًا من أحوال كلٍّ، فنذكر:
أوَّلًا بعضَ ما يتعلق بحال الكفار في يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية.
فتأمَّلُوا قولَ الله عز وجل مُبيِّنًا حالَ الكفار عند خروجهم من القبور، قال تعالى:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)} [المعارج]
والأجداث هي القبور، وهذ الآياتُ تصوِّر لنا سرعةَ خروجهم من القبور في ذلك اليوم، منطلقين إلى المنادي، كما كانوا يُسرِعون إلى الأصنام التي كانوا يعبدونها في الدنيا،
(1)
كان في يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر رمضان 1441 هـ.
ولكنهم لا ينطلقون فَرِحين بَطِرين متكبِّرين كما كان حالهم من قبل بل هم أَذِلَّاءُ، أبصارُهم خاشعة، يعلوهم الصَّغار، كما ذكر الله -جل وعلا-.
ويقول ربنا في سورة القمر: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} [القمر]
فهم يعترفون بصعوبة الموقف الذي شاهدوه وعاينوه.
ويقول الله أيضًا في سورة يس: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس]. فهذه وَلْوَلَةٌ، ينادون بالويل والثبور متسائلين حين يُنفَخ في الصور عمَّن أقامهم من رقدتهم ومن أحياهم من موتهم وقد كانوا ينكرون ذلك! نسأل الله السلامة والعافية.
قال بعض السلف: " إِنَّ الْقِيَامَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَمَعَارِيضُ صِفَةٍ، ذَهَبَتْ فَظَاعَتُهَا بِأَوْهَامِ الْعُقُولِ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ الْقَوْمُ فِي رَقْدَةٍ مِثْلِ ظَاهِرِ قَوْلِهِمْ لَمَا دَعَوْا بِالْوَيْلِ عِنْدَ أَوَّلِ وَهْلَةٍ مِنْ بَعْثِهِمْ، وَلَمْ يُوقَفُوا بَعْدُ مَوْقِفَ عَرْضٍ، لَا مِثْلَهُ إِلَّا وَقَدْ عَايَنُوا خَطَرًا عَظِيمًا، وَحَقَّتْ عَلَيْهِمُ الْقِيَامَةُ بِالْجَلَائِلِ مِنْ أَمْرِهَا، وَلَئِنْ كَانُوا فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِي الْبَرْزَخِ يَأْلَمُونَ وَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَمَا دَعَوْا بِالْوَيْلِ عِنْدَ انْقِطَاعِ ذَلِكَ عَنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ نُقِلُوا إِلَى ظُلْمَةٍ هِيَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ لَمَا اسْتَصْغَرَ الْقَوْمُ مَا كَانُوا فِيهِ فَسَمَّوْهُ رُقَادًا، وَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ حِينَ يَقُولُ:{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)} [النازعات]
(1)
.
ويقول ربنا أيضًا في تصوير حالهم يوم القيامة: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} [إبراهيم]
فهذه الآية تُبيِّنُ لنا ما هم فيه من الفزع والخوف حتى إنَّ قلوبهم هواء، وأفئدتهم
(1)
الأهوال لابن أبي الدنيا (86)
هواء؛ لأن القلوب قد بلغت الحناجر من الخوف والفزع والهول.
وقوله تعالى: {عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} يدخل فيه الكُفَّارُ دخولًا أوليًّا؛ إذ الشرك بالله هو أظلم الظلم، -نسأل الله السلامة والعافية-.
وقوله: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} أي: أذلاء، وتأمل وصف القرآن لهم! {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} ، ويقول الله:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)} [غافر] والآزفة: اسم من أسماء يوم القيامة واليوم الآخر، والمقصود بها: القريب العاجل، فهي يومُ القيامة. وأولئك الظالمون يأتون على هذا الوصف الذي ذكره الله -جل وعلا-. قلوبهم وأفئدتهم؛ ملئت من الخوف والفزع.
ويقول الله: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)} [إبراهيم]
قال الطبري رحمه الله: "تعاين الذين كفروا بالله، فاجترموا في الدنيا الشركَ يومئذ، يعني:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]
{مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)} [إبراهيم] يقول: مُقرَّنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد، وهي: الوثاق من غُلٍّ وسلسلة، واحدُها: صَفَدٌ"
(1)
فهم موثقون في الأغلال والسلاسل، والسرابيلُ: هي القُمُص التي يلبسونها، والقطران: المادَّة التي تُطلى بها الإبل إذا أصابها الجرب، وقيل: هو النحاس.
دنو الشمس من رؤوس الخلائق:
وفي ذلك اليوم العظيم تدنو الشمس من رؤوس العباد حتى لا يكون بينها وبينهم إلا مقدار ميل واحد، ولولا أنهم مخلوقون خلقًا غير قابل للفناء لانصهروا وذابوا وتبخَّروا، ولكنهم بعد الموت لا يموتون، ويذهب عرقهم في الأرض حتى يرويها ثم يرتفع
(1)
تفسير الطبري (13/ 740).
فوق الأرض ويأخذهم على قدر أعمالهم كما تقدم معنا في حديث المقداد بن الأسود، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«وَمِنْهُم مَنْ يُلجِمُه العَرَقُ إلجامًا»
(1)
.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قال صلى الله عليه وسلم: «يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ»
(2)
.
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ في الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ»
(3)
.
هذا بيان وتصوير للموقف يوم القيامة، وكيف أن هؤلاء يعانون معاناةً عظيمةً من الوقوف يوم القيامة،
يقول ابن القيم رحمه الله: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يُستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا، ثم قال: وَمِنْهَا: طُولُ وُقُوفِهِ فِي الْمَوْقِفِ وَمَشَقَّتُهُ عَلَيْهِ وَتَهْوِينُهُ " عَلَيْهِ " إِنْ طَالَ وُقُوفُهُ فِي الصَّلَاةِ لَيْلًا وَنَهَارًا لِلَّهِ، وَتَحَمَّلَ لِأَجْلِهِ الْمَشَاقَّ فِي مَرْضَاتِهِ وَطَاعَتِهِ خَفَّ عَلَيْهِ " الْوُقُوفُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
(4)
المؤمن في مأمن من هول يوم القيامة:
والمؤمن في مأمن بإذن الله. كما في المسند عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي لَقَائِمٌ أَنْتَظِرُ أُمَّتِي تَعْبُرُ الصِّرَاطِ، إِذْ جَاءَنِي عِيسَى فَقَالَ: هَذِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَدْ جَاءَتْكَ يَا مُحَمَّدُ يَسْأَلُونَ-أَوْ قَالَ: يَجْتَمِعُونَ إِلَيْكَ-وَيَدْعُونَ اللهَ، أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ جَمْعِ الْأُمَمِ، إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ اللهُ، لِغَمِّ مَا هُمْ فِيهِ؛ فَالْخَلْقُ مُلْجَمُونَ فِي الْعَرَقِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَهُوَ عَلَيْهِ كَالزُّكْمَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَتَغَشَّاهُ الْمَوْتُ
…
» الحديث
(5)
.
(1)
تقدم في المجلس السابع والعشرين.
(2)
أخرجه البخاري (4938)، ومسلم (2337).
(3)
أخرجه البخاري (6532) واللفظ له، ومسلم (2863).
(4)
اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 84)
(5)
أخرجه أحمد (12824) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3639). وحسنه شيخنا الوادعي في كتاب الشفاعة (68). والحديث من رواية حرب بن ميمون عن النضر بن أنس عن أبيه. وقد قال الدارقطني -كما في تعليقاته على المجروحين لابن حبان (ص: 79) -: حَرْب
…
يحدث عَنْ النَّضر بْن أنس بنسخة لَا يُتَابع عَلَيْهَا ا. هـ وحرب هذا روى له مسلم حديثا واحدا في المتابعات. وانظر ترجمته وتوثيقه -تفصيلا وتحقيقا بما لا تكاد تجده في مكان غيره- في الصحيحة للعلامة الألباني (6/ 268).
تتابع الحسرات يوم القيامة:
ومن أعظم ما يكون على الكفار يوم القيامة تتابعُ الحسرات عليهم، فكُلَّما شاهدوا شيئًا وعاينوه مما كانوا ينكرونه ازدادت حسرتهم؛ ولهذا سُمِّيَ يومُ القيامة بيوم الحسرة،
يقول الله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} [مريم]. فحين يرى الكفارُ العذابَ والهُونَ الذي يصيبهم ويصيب أمثالهم من الكفرة المشركين تأخذهم الحسرة والندامة؛ فيوقن الكافر أن ذنبه غير مغفور.
يقول الله سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)} [الروم] أي: ييأسون من رحمة الله، نسأل الله العفو والعافية.
وقال الله سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27]؛ الظالم: هو المشرك، فيزداد ندمه وتزداد حسرته على عدم اتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم، وينادي على نفسه:{يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان]
ويقول ربنا: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]
يتمنَّون أن يُهلِكهم الله ويجعلهم ترابًا كما قال ربنا سبحانه: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]
وفي ذلك اليوم يُحبِطُ اللهُ عز وجل أعمالهم كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان]
وتأمل قول الله في تشبيه أعمال الكفار: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، وهذا مثل لأعمالهم الفاسدة التي لا يرجى من ورائها الخير.
وثمَّةَ أعمالٌ عملوها كانوا يظنون أنها تُغنِي عنهم من الله شيئًا كأعمال البِرِّ، فقال الله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور]
ويقول سبحانه: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117] والصِّرُّ: هو البرد الشديد، فالرياح الباردة تحطم الزرع، فكذلك الكفر والشرك يحرق الأعمال الصالحة.
لا تقبل أعمال البر من الكافر يوم القيامة:
ولا يقبل الله عز وجل للكافر عملًا، قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان]، فمن تصدَّق أو عمل من الطاعات والإحسان والخير والبر وهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فإن الله عز وجل لا يقبل منه عملًا.
و «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ» كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم
(1)
وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان].
(1)
أخرجه البخاري (3062، 4203) ومسلم (111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخرجه البخاري (6528، 6642) ومسلم (221) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه مسلم (114) وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أخرجه مسلم (1142) وعَنْ علي بن أبي طالب رضي الله عنه. أخرجه الترمذي (871، 3092) والنسائي (2958) وغيرهما. وعن ابن عباس رضي الله عنه أخرجه الترمذي (3091) وقال حسن غريب وصححه الحاكم (4375) وعن بشر بن سحيم رضي الله عنه أخرجه ابن ماجه (1720) وصححه ابن خزيمة (2960). وعن سلمان الفارسي رواه أحمد (23712) وصححه ابن حبان (7124).
وعن مصعب بن سعد، قال: سألتُ أبي: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)} [الكهف] هم الحرورية؟ قال: "لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب"
(1)
فهؤلاء يظنون أنهم هم أهل الجنة وأنهم هم أهل الهدى: كما قال الله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فقال الله: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة]
…
الآية
الخصومة بينهم يوم القيامة:
ومن حسراتهم يوم القيامة أنهم إذا دخلوا النار حصلت بينهم الخصومة. فالخصومة لهم كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزخرف]
• فهؤلاء يُعادي بعضهم بعضًا.
• ويخاصم أهل النار بعضهم بعضًا،
• ويحاجُّ بعضُ الأتباع السادةَ المتبوعين،
• ويحاجُّ الضعفاءُ المستكبرين،
• ويحاجُّ الإنسان قرينه،
• بل يخاصم الكافر أعضاءَه!!
وقد وضح ذلك القرآن توضيحًا بيِّنًا، فمن ذلك:
(1)
أخرجه البخاري (4728).
قولُ الله: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)} [الشعراء]. {تَاللَّهِ} يُقسِمُون على ذلك {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} . يعني: كانوا يشركون مع الله؛ ولهذا قال العلماء: الشرك هو التسوية أي: تسوية غير الله بالله. والكفار هنا يقولون: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فكيف بمن كفر بالله وجحد وجود الله وادَّعى أن لا إله؟! -نسأل الله السلامة-. والآيات في تلاوم أهل النار كثيرةٌ جدًّا.
حال عصاة المؤمنين:
إذا مات المؤمن على التوحيد فعقيدة أهل السنة والجماعة أن الموحِّدَ مآلُه إلى الجنة، فمن مات على التوحيد قسمان:
أحدهما: من يدخل الجنة دخولًا أوليًّا.
والثاني: من يُعذَّب على ذنوبه بقدر ما يشاء الله ثم يخرج من النار -إن كان قد دخلها-، ويدخل إلى الجنة كما جاءت النصوص بذلك.
وجاءت أحاديث تُبيِّنُ حال بعض العصاة من المؤمنين في عرصات القيامة.
حال الذي لا يؤدي الزكاة يوم القيامة:
فمن هؤلاء العصاة أولئك الذين لا يؤدون الزكاة التي هي حق المال؛ فقد جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ-يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ-ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (2403).
الشجاع الأقرع: الحية الذكر المتمعِّط شعرُ رأسِه لكثرة سُمِّه. وقوله: «لَهُ زَبِيبَتَانِ» أي: نقطتان سوداوان فوق عيني الحية، فيؤتى بالمال نفسه الذي مَنَعَه، فيُحوَّل مالُه إلى هذا الأمر ثم يُعذَّب به.
وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه يؤتى بالمال نفسه فيُعذَّب به، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ»
(1)
. فقوله في هذا الحديث: «فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» يدل على أن هذا العذاب ليس لكافر كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
(2)
وغيره؛ لأنه لو كان كافرًا لما قال: «يُرَى سَبِيلُهُ» إنما يقال هو من أهل النار، فدلَّ ذلك على أن هذا العذاب لعصاة المؤمنين والذين لم يخرجوا زكاة مالهم.
حال المتكبرين يوم القيامة:
وجاء في بيان حال المتكبر يوم القيامة الحديث في سنن الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ»
(3)
. «يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ» يعني: يأتي مثل الذرة، مثل صغار النمل، لا يعبأ به الناس بل يطؤونه بأقدامهم وأرجلهم وهم لا يشعرون.
حال من كتم علما يوم القيامة:
وتأمل ما جاء في قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)} [البقرة].
قال ابن كثير: "وقوله: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ} وذلك لأنه غضبانُ عليهم؛ لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقُّوا الغضب، فلا ينظر إليهم، ولا
(1)
أخرجه مسلم (987).
(2)
مجموع رسائل وفتاوى ابن عثيمين (12/ 113).
(3)
تقدم (ص: 127)
يزكيهم، أي: يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابًا أليمًا"
(1)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(2)
فهذه فضيحة عظيمة لهم يوم القيامة. -نسأل الله السلامة-
المسبل تكبرا والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب يوم القيامة:
(3)
.
فهؤلاء أصنافٌ من العصاة، يُعذَّبون بهذا العذاب يوم القيامة،
-نسأل الله السلامة والعافية-.
شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر:
وقد ورد مثل هذه العقوبة في أحاديث أخرى، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم:«ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ»
(4)
. فهؤلاء أصنافٌ ثلاثة ليس عندهم ما يدعو إلى المعصية، لكنهم فعلوها! فشيخ كبير يفترض أن يكون قد استطاع أن يسيطر على شهوته ومع ذلك زنى! وملك ليس ثمة ما يدعوه إلى الكذب ومع ذلك فهو كذَّاب! وعائل أي: فقير ليس هناك ما يدعوه إلى الكبر ومع ذلك فهو متكبر!
والكبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»
(5)
.
العاقُّ لوالديه والمرأة المترجلة والديوث:
وفي سنن النسائي ومسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 484).
(2)
أخرجه أحمد (7571)، وأبو داود (3658)، والترمذي (2861)، وابن ماجه (264) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (306) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(4)
أخرجه مسلم (107) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه مسلم (91) من حديث ابن مسعود الله رضي عنه.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ-الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ-وَالدَّيُّوثُ»
(1)
والديوث: هو الذي يرضى الخبث في أهل بيته، فهؤلاء أصناف بيَّنت السنة أن لهم هذه العقوبة، وهم من عصاة المؤمنين. فأقْبِلْ أيها المؤمن على التوبة إلى الله -جل وعلا- قبل الممات حتى لا تأتي في ذلك اليوم، فتقف موقف الذُّلُّ والمهانة، نسأل الله السلامة.
المكثرون هم المقِلُّون إلا من أدَّى حق المال:
كذلك من هؤلاء أولئك الذين يمُنُّ الله عز وجل عليهم بالمال والنعمة، فيركنون إلى الدنيا، ويُكثِرُون من التمتع بنعيمها على حساب دينهم، وفي أمثالهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا»
(2)
.
من أخذ أرضًا بغير حق:
في مسند الإمام أحمد عن يعلى بن مرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِغَيْرِ حَقِّهَا، كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا إِلَى الْمَحْشَرِ»
(3)
فتصوَّرْ أنَّ من الناس من يحشر يوم القيامة ويُكلَّف بنقل ما أخذه في الدنيا ظلمًا وعدوانًا يُكلَّف بنقل ترابها. وبه فسر بعض العلماء ما في الصحيحين: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»
(4)
.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخَذَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ»
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد (6180) واللفظ له، والنسائي (2562)، والحاكم (244).
(2)
أخرجه البخاري (6443)، ومسلم (94) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أحمد (17569) وهو في السلسلة الصحيحة (240)
(4)
أخرجه البخاري (2452)، ومسلم (1610) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري (2454) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
لكل غادر لواء:
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أيضًا بأن الإنسان الذي يأتي يوم القيامة قد غدر يكون له لواء يشاهده كلُّ أحد في ذلك اليوم، فيكون له علامة مميزة.
قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ» متفق عليه
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» متفق عليه
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه مسلم
(3)
فتأمل حينما يؤتى بالغادر يوم القيامة في العرصات، وأمام الخلائق، ليس هذا فحسب بل ويوضع له لواء يشاهد عن بُعْدٍ: هذه غدرة فلان بن فلان.
والغادر: هو الذي يواعِدُ على أمر ولا يفي به. واللواء المقصود به: الراية العظيمة، فتُرفَع للغادر رايةٌ يسجَّل عليها، ويُفضَح يوم القيامة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ»
(4)
. يعني: الحاكم إذا غدر؛ لأنَّ ضرره يتعدَّى إلى خلق كثير.
الغالُّ يوم القيامة:
ومن أصحاب العقوبات يوم القيامة صاحبُ الغُلول، وهو الذي يأخذ من الغنيمة
على وجه الخفية، وهو ذنب يخفي تحته شيئًا من الطمع والأثرة. قال الله سبحانه في عقوبته:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161].
ومن ذلك: التلاعب بالأموال العامة من الموظفين والحُكَّام والعُمَّال والولاة والمسؤولين عنها. فهؤلاء بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عقوبتهم، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه البخاري (6177)، ومسلم (1735) واللفظ له من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (3186)، ومسلم (1737) واللفظ له من حديث عبد الله بن مسعود وأنس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه مسلم (1738) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
المرجع السابق، وهو من روايات حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
قام خطيبًا، فَذَكَرَ الغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْني. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ
…
»
(1)
فهذا الذي سرق بعيرًا يجيء به حاملًا إيَّاه يوم القيامة، وهكذا الحال فيمن أخذ بقرة أو أخذ شاة يأتي يوم القيامة يصيح، ويقول: يا رسول الله أَغِثْنِي، فيقول له:«لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ» وآخر يأتي بذَهَبٍ، وآخر يأتي بفضة، وهكذا من غلَّ شيئًا أو سرق شيئًا جاء يحمله يوم القيامة.
فاحذر أيها العامل والموظف، احذر من التلاعب والتصرُّف في الأموال العامة بغير حق وبغير إذن؛ فإنَّ لها من الله طالبًا يوم القيامة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لحِبِّه عَائِشَةَ رضي الله عنها: «يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا» رواه ابن ماجه وأحمد وصححه ابن حبان
(2)
وفي المسند عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ»
(3)
ذو الوجهين:
ومن أولئك المعذَّبين: ذو الوجهَيْنِ،
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا، كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ»
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (1831).
(2)
سنن ابن ماجه (4243) ومسند أحمد (24415) واللفظ له وصحيح ابن حبان (5568) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (513، 2731)
(3)
مسند أحمد (22808) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (389، 3102)
(4)
أخرجه أبو داود (4873)، وابن حبان (5756) كلاهما من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما.
ويقول عليه الصلاة والسلام في ذم ذي الوجهين: «تَجِدُونَ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِى يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ»
(1)
.
الحاكم المحتجب عن الرعية:
وانظر أيضا في حال من احتجب عن رعيته، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:«مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ عز وجل شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ، وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ»
(2)
فاحذر أيها المسؤول من تجاهل المسؤوليات التي أنيطت بك، فيحتجب الله عز وجل عنك يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية.
من كذب في حلمه ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون:
وممن يعاقب أيضًا: من كذب في حلمه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
-كما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ-يعني يُؤتى بالشعيرة الصغيرة ويقال له: اعقد بينها وبين أخرى-قال: وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنْ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(3)
والآنُكُ: النحاس الحار، -نسأل الله السلامة والعافية-.
المُراؤون يوم القيامة:
وفي المرائين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»
(4)
قوله: «من سمَّع» أي: بعمله بأن أراد السُّمعة به،
(1)
أخرجه البخاري (3494)، ومسلم (2526) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أبو داود (2948)، والترمذي (1332)، عن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (7042).
(4)
أخرجه البخاري (7252) من حديث جندب رضي الله عنه.
وفي المسند عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ، سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ» .
(1)
وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ» .
(2)
ويقول صلى الله عليه وسلم أيضًا: «مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ رَاءَى اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَمَّعَ»
(3)
قوله: من راءى يرائي الله به، أي: من أراد بعمله الرياء يفضح يوم القيامة. فالجزاء من جنس العمل.
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: قارئ للقرآن، ومجاهد، ومتصدق، أرادوا بعملهم الثناء من الناس؛ فيُسحَبُون على وجوههم يوم القيامة
(4)
.
أصحاب الغلو في الصالحين شرار الخلق يوم القيامة:
وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن عبدة القبور، والأولياء وذلك لما قيل له: إن كنيسة بأرض الحبشة فيها تصاوير، قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»
(5)
.
المصوِّرُون للصور المحرَّمة:
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الصور الذين يصنعون هذه الصور المحرَّمة: «إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»
(6)
.
يعني: أنهم في عذاب مستمر.
(1)
مسند أحمد (11/ 56) ط الرسالة رقم (6509) وصححه الألباني في الصحيحة (2566)
(2)
أخرجه البخاري (6499)، ومسلم (2987)
(3)
أخرجه أحمد (22322) من حديث أبي هند الدَّاري رضي الله عنه.
(4)
أخرجه مسلم (1905) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6)
أخرجه البخاري (5951)، ومسلم (8108) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ»
(1)
.
من ضَرَبَ بسوط ظلمًا اقتُصَّ منه:
وقد جاء أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأدب المفرد للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ ضَرَبَ ضَرْبًا اقْتُصَّ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وفي رواية: «مَنْ ضَرَبَ ضَرْبًا ظلْماً
…
»
(2)
وفي رواية: «مَنْ ضَرَبَ سَوْطًا ظُلْمًا اقْتُصَّ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(3)
يؤتى به يوم القيامة، فيُضرب كما ضرب في الدنيا، فكم ستجد من أناس في عرصات القيامة تُرفَع عليهم الأسواطُ، ويُضرَبون كما ضَرَبوا في الدنيا ظلمًا.
وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَا يَضْرِبُ أَحَدٌ عَبْدًا لَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لَهُ إِلَّا أُقِيدَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(4)
. فالمملوك والخادم والضعيف والمستضعف الذين يُستَضْعَفون في هذه الدنيا ولا ناصر لهم، يأتون يوم القيامة ويأخذون حقوقهم
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (5963) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (185، 186) وحسنه الألباني.
(3)
أخرجه البزار (9446، 9535) والطبراني في الأوسط (1445) وحسنه الهيثمي في المجمع (10/ 353) والمنذري والألباني وانظر: صحيح الترغيب والترهيب (2291) والصحيحة (2352)
(4)
أخرجه عبد الرزاق (17954)، وابن أبي شيبة (25461) عن وكيع والبخاري في الأدب المفرد (181) واللفظ له عن محمد بن يوسف، وقبيصة، كلهم (عبد الرزاق ووكيع ومحمد وقبيصة) عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن عمار به. وحبيب مدلس وقد عنعن. وخالفهم الأشجعي فرواه عن الثوري به فرفعه. رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 378) وقال: غريب من حديث الثوري وحبيب، لم يروه عنه مجودا إلا الأشجعي ا. هـ وحسنه الألباني لشواهده انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2280) والصحيحة (2352)
(5)
وقد يشكل على هذا ما ورد في الصحيح أن المجازاة يوم القيامة إنما هي بالحسنات والسيئات -كما سيأتي، والظاهر أنه لا تعارض فقد دلت هذه الأحاديث -كما يقول العلامة ابن عثيمين- على أن الآخرة فيها تكليف، قال: لكنه ليس كالتكليف في الدنيا، أرأيتم قوله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم]. وهذا تكليف، فالآخرة فيها شيء من التكليف لكن ليس كالتكليف في الدنيا ا. هـ انظر:«فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام» (5/ 382)
فإن الله -جل وعلا- هو الذي يقضي بين العباد، ويحكم بينهم يوم القيامة، فاللهم سلِّم سلِّم.
قاتل نفسه ومن لعن مؤمنًا أو قذفه:
ويؤتى بقاتل نفسه، فيُعذَّب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»
(1)
.
من قذف مملوكه بغير حق أقيم عليه الحد يوم القيامة:
ويقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ»
(2)
فهذا أيضًا ممن يُعذَّبون يوم القيامة.
وجاء أيضًا في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَى يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ»
(3)
«مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ» ولو كان القاذف ذا مكانة في الدنيا، وقذف خادمه بالزنى واتهمه بالباطل فإنه يأتي يوم القيامة، فيقام عليه حدُّ الزنا في عرصات القيامة.
فهذه أصنافٌ من أولئك العصاة، نسأل الله السلامة والعافية.
أيها العاصي تُبْ ولا تأمن مكر الله:
أخي المسلم، لا تأمن مكر الله، ولا تقل: لا يُعذِّب اللهُ بالذنب الواحد، فإنما خرج آدم عليها السلام من الجنة بأكلة حين ذاق الشجرة، وطُرِدَ إبليس من الجنة بسجدة أباها، وقال صلى الله عليه وسلم:«دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»
(4)
فذنبٌ واحدٌ يُوجِبُ العقوبة في الآخرة إن لم يَتُبِ اللهُ عز وجل على صاحبه.
(1)
أخرجه البخاري (6858) واللفظ له، ومسلم (1660) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (6047) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (6858) ومسلم (1660) واللفظ له.
(4)
أخرجه البخاري (3318)، ومسلم (2619).
حال المؤمنين يوم القيامة:
أما المؤمنون الأتقياء فقد جاءت الأخبار ببيان سعادتهم وببيان حسن وِفادتهم على الله بسبب أعمالهم الصالحة التي عملوها. يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)} [الأنبياء]
فهم في أمن منذ أن يُبعَثُوا من قبورهم، يُؤَمِّنُهم الله، قال:{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} [الزخرف] ويقول -جل وعلا-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس].
وروي عنْ أَبِيْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ -جل وعلا-، قَالَ:«وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» والصحيح فيه أنه من مراسيل الحسن البصري
(1)
.
(1)
ضعيف؛ أخرجه يحيى بن صاعد في زوائده على الزهد لابن المبارك برقم (158) والبزار (8029) وابن حبان (640) والبيهقي في شعب الإيمان (759) وفي الآداب (826) وابن عساكر في المعجم (1428) من طريق عبد الوهاب بن عطاء حدثنا مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وعبد الوهاب صدوق، وصححه العلامة الألباني في الصحيحة (742) لكن الحديث أعل بتفرد عبد الوهاب به. ولذا قال الدارقطني في العلل (1396): لا يَصِح هَذا عَنْ مُحمد بن عَمرو، عَنْ أَبي سَلَمة، وإِنما يُعرَف هَذا من حَديث عَوف، عَنْ الحَسن مُرسَلٌ ا. هـ قلت: والمرسل رواه عبد الله بن المبارك في الزهد (157) قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فذكره مرسلا. ورواه البزار (8028) قال: حَدَّثنا مُحَمد بن يحيى بن ميمون، قَال: حَدَّثنا عَبد الوهاب بن عطاء (عن) عوف به. ورواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (510، 547، 1334) من طريق بشر بن المفضل عن عوف به. ورواه ابن عساكر في تاريخه (54/ 267) من حديث أنس وفي إسناده أبو جعفر أبَّان النجيرمي وهو كذاب. ورواه الطبراني في مسند الشاميين (462، 3495) وعنه وعن غيره أبو نعيم في الحلية (5/ 189 و 6/ 98) من حديث شداد بن أوس وفي سنده عمر بن صبح وهو وضاع.
أصنافٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظلِّه:
وهناك أصنافٌ يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه. ومنهم سبعة ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم: «الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»
(1)
.
وينادي الله سبحانه يوم القيامة: «أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالي؟! الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ في ظِلّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي»
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ»
(3)
ويقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(4)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يُستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا، ثم قال: وَمِنْهَا: اسْتِظْلَالُهُ بِظِلِّ الْعَرْشِ أَوْ ضِحَاؤُهُ لِلْحَرِّ وَالشَّمْسِ إِنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْخَالِصَةِ وَالْإِيمَانِ مَا يُظِلُّهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ حَرِّ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ اسْتَظَلَّ هُنَاكَ فِي ظِلِّ أَعْمَالِهِ تَحْتَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ. وَإِنْ كَانَ ضَاحِيًا هُنَا لِلْمَنَاهِي وَالْمُخَالَفَاتِ وَالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ ضَحَى هُنَاكَ لِلْحَرِّ الشَّدِيدِ ا. هـ
(5)
(1)
أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (2566) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
المرجع السابق (3006) من حديث أبي اليسر رضي الله عنه.
(4)
أخرجه أحمد (22559) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(5)
اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 84)
أصنافٌ آمنون يوم القيامة:
(1)
.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْكُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(2)
.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عز وجل، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»
(3)
فهؤلاء أصنافٌ آمِنون يوم يخاف الناس.
فضل الشهيد:
(4)
فما أعظم هذا الفوز الذي يفوزه هؤلاء يوم القيامة!
فضل من كظم غيظه وهو قادر على إنفاذه:
ويقول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللهُ تبارك وتعالى عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ»
(5)
(1)
أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه مسلم (1827) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه أحمد (17182)، والترمذي (1663)، وابن ماجه (2799) عن الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه.
(5)
أخرجه أحمد (15637)، وأبو داود (4777)، والترمذي (2021)، وابن ماجه (4186) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه.
الله أكبر! عملٌ عظيمٌ وشأنه يسيرٌ على من يسَّره الله عز وجل عليه، ويكون فيه هذا الجزاء العظيم عند الله، والله يحب المحسنين.
فضل المؤذنين:
ويقول عليه الصلاة والسلام: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
.
قيل: إن ذلك يكون لجمالهم ولحسنهم فلما طالت أصواتهم بكلمات الأذان الذي يُعلَن فيه التوحيد ويُدعَى فيه للصلاة طالت أعناقُهم يوم القيامة.
فضل من شاب شيبة في الإسلام:
ويقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ»
(2)
هذا الشيب الذي يظهر في المؤمن والمؤمنة يكون نورًا لصاحبه يوم القيامة!
ويقول صلى الله عليه وسلم: «لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وفي رواية: «إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» رواه أبو داود
(3)
(4)
(1)
أخرجه مسلم (387) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه الترمذي (1634) والنسائي (3144) والزيادة منه، من حديث كعب بن مرة رضي الله عنه. وأخرجه ابن حبان (2983) بسند قوي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون زيادة النسائي، ورواه الترمذي (1635) والنسائي (3142) وأحمد في المسند (17020) عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، بلفظ:«مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ» وهو في المسند (23952) من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه ورواه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 150) برقم (315) من حديث معاذ رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود (4202) من طريقين عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما. ورواه الترمذي (2821) والنسائي (5068) بلفظ: «نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ» وزاد الترمذي «إِنَّهُ نُورُ المُسْلِمِ»
(4)
مسند أحمد (6672)
وفي صحيح ابن حبان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كُتِبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، وَرُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ»
(1)
.
فضل الوضوء:
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ»
(2)
وبذلك يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا تطوافٌ يسيرٌ في بيان شيء من أحوال الناس يوم القيامة، وما يكون من حال المؤمن وحال العاصي وما يكون من حال الكافر.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الإيمان.
JIH
(1)
أخرجه ابن حبان (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (136) واللفظ له، ومسلم (246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الإيمان بالشفاعة
F e
المجلس التاسع والعشرون
(1)
الشفاعة:
تقدم معنا أن الإيمانَ باليوم الآخر يتضمَّنُ أمورا منها: الإيمانُ بالموت وسكراته وما يقع فيه من أهوال، ويتضمَّنُ الإيمانَ بحياة البرزخ، ويتضمَّنُ الإيمانَ بالبعث والجزاء والنشور وما يكون منذ أن يموت الإنسان إلى أن يَقْسِم اللهُ عز وجل العبادَ إلى فريقين: فريقٍ في الجنة، وفريقٍ في السعير، جعلنا الله وإيَّاكم من أهل الجنة. ومن الأمور العظيمة التي تكون في يوم القيامة الشفاعة.
تعريف الشفاعة:
يقول العلماء في تعريف الشفاعة: هي "التوسُّط للغير بجلبِ منفعةٍ أو دفعِ مَضَرَّةٍ"
(2)
وقيل أيضًا في تعريفها: "هي التوسُّطُ بالقول في وصول شخصٍ إلى منفعةٍ من المنافع الدنيويَّةِ أو الأُخرَويَّة أو خلاصِه من مضَرّة"
(3)
.
وحقيقةُ الشفاعةِ أنَّ الله يتفضَّلُ على أهل الإخلاص، فيغفرُ لهم بواسطة دعاء من أذن الله عز وجل له أن يشفع؛ ليكرمه.
الشفاعة ملك لله:
وقد دلَّت الأدلة على أنَّ الشفاعة: مِلْكٌ له، ليس لأحد من خلقه حقٌّ فيها إلا بإذنه عز وجل يقول الله:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] فهي مِلْكٌ لله، ليس لأحد فيها شيء. وسيأتي مزيد شرح لهذا.
(1)
كان في يوم الأحد الخامس عشر من شهر شوال من عام 1441 هـ.
(2)
شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين (1/ 485).
(3)
تفسير أبي السعود (2/ 210).
الشفاعة لمن أَذِنَ الله له ورضي عنه:
وقال الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]
فأخبر سبحانه أنها لا تكون إلا بإذنه.
وقال -جل وعلا-: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3].
وقال سبحانه: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} [النجم].
فأخبرنا أيضًا أن الشفاعة لا تكون إلا لمن أَذِنَ الله عز وجل له، ورضي عنه. وبيَّن أنها لا تكون إلا من بَعْدِ إِذْنِه، وَلا يَأْذَنُ فيها إلا لأوليائه المرتضَيْنَ الأخيار، قال عز وجل:{لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} [النبأ].
وقال -جل وعلا-: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)} [مريم]
وقال سبحانه: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
وقال -جل وعلا-: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)} [طه].
وهو سبحانه لا يرتضي إلا أهل التوحيد والإخلاص، وأما غيرُهم فإنَّ الله عز وجل يقول في حقهم:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)} [غافر] أَيْ: لَيْسَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ مِنْ قَرِيبٍ مِنْهُمْ يَنْفَعُهُمْ، وَلَا شَفِيعٍ يُشَفَّعُ فِيهِمْ.
ويخبر أنَّ أهل النار يقولون يوم القيامة: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)} [الشعراء]
ويقول ربُّنا -جل وعلا-: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر].
الشفاعة قسمان:
ويتبيَّنُ من هذه الأدلة أنَّ الشفاعة في كتاب الله تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: شفاعة مثبتة.
والقسم الثاني: شفاعة منفية.
فالشفاعة المثبتة: هي الشفاعة التي ذكر الله عز وجل لنا أنها لا تكون إلا بإذنه، وأنها لا تكون إلا لمن رَضِيَه الله.
والشفاعة المنفية: هي الشفاعة في حقِّ الكافرين والمشركين، ومن مات على غير التوحيد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فنفى عمَّا سواه كلَّ ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قِسْطٌ من الملك أو يكون عونًا لله، ولم يبق إلا الشفاعة؛ فبيَّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الربُّ كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] "
(1)
.
فالشفاعةُ في كتاب الله قسمان:
شفاعة مثبتة، وهذه الشفاعة لله يتفضَّل بها على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود.
وأما الشفاعة المنفية فهي ما كان فيها شركٌ، فالمشرك لا يقبل الله عز وجل فيه الشفاعةَ،
وهذا الباب العظيم من الأبواب التي ضلَّ فيها المشركون والكافرون وعبدةُ الأوثان والمفتونون المغالُون في الأولياء والعلماء والأنبياء والصالحين،
يقول الله -جل وعلا- في كتابه الكريم مبيِّنًا خطأ ما كان عليه المشركون: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]
فهم يزعمون أنَّ آلهتهم التي تُعبَد من دون الله ستكون شفيعةً لهم عند الله -جل وعلا- في الموقف يوم القيامة، وقد ظَنُّوا بالله ظنَّ السوء، قال تعالى عنهم:{وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ثم قال ربنا: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس].
الشفاعة العظمى يوم القيامة:
من أعظم الشفاعات يوم القيامة الشفاعةُ العظمى التي تكون لنبينا صلى الله عليه وسلم وذلك أن الناس حين يجمعهم الله يوم القيامة في صعيد واحد -كما جاء في الأحاديث- يصيبهم الهمُّ والغمُّ والكرب، فيفزعون إلى من يشفع لهم عند الله -جل وعلا- ليُخلِّصَهم من كرب الموقف، وقد تقدَّم معنا في المجلس السابق ذِكْرُ أن الناس حينما يقفون في الموقف العظيم
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 77).
يتصبَّبُ منهم العرق وتدنو منهم الشمس مقدارَ ميل، وأنَّ من الناس من يغوص في عرقه ويُلجِمُه العرق إلجامًا، وأن منهم من يكون العرق إلى حَقْويه أو إلى ركبتيه، وهاهنا يطلب الناس من يُخلِّصهم في هذا اليوم والموقف العظيمين.
وقد ورد في ذلك أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك:
ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بلَحْمٍ، فَرُفِعَ إلَيْهِ الذِّرَاعُ، وكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَشَ منها نَهْشَةً، ثُمَّ قالَ: «أنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَومَ القِيَامَةِ، وهلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذلكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ ما لا يُطِيقُونَ ولَا يَحْتَمِلُونَ، فيَقولُ النَّاسُ: ألَا تَرَوْنَ ما قدْ بَلَغَكُمْ، ألَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إلى رَبِّكُمْ؟ فيَقولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: علَيْكُم بآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عليها السلام فيَقولونَ له: أنْتَ أبو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بيَدِهِ، ونَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وأَمَرَ المَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ، ألَا تَرَى إلى ما قدْ بَلَغَنَا؟ فيَقولُ آدَمُ: إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنَّه قدْ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي
(1)
، اذْهَبُوا إلى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا عليها السلام فيَقولونَ: يا نُوحُ، إنَّكَ أنْتَ أوَّلُ الرُّسُلِ إلى أهْلِ الأرْضِ، وقدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟! فيَقولُ: إنَّ رَبِّي عز وجل قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ،
(1)
آدم عليها السلام ذو جاه عظيم ومنزلة كريمة عند الله -جل وعلا- ولكنه في هذا الموقف استحيا من ربه، والله سبحانه قد خص بهذا المقام نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم.
ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنَّه قدْ كَانَتْ لي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا علَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى إبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إبْرَاهِيمَ عليها السلام فيَقولونَ: يا إبْرَاهِيمُ، أنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وخَلِيلُهُ مِنْ أهْلِ الأرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟! فيَقولُ لهمْ: إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنِّي قدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ - فَذَكَرَهُنَّ الراوي
(1)
-، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى عليها السلام فيَقولونَ: يا مُوسَى، أنْتَ رَسولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ برِسَالَتِهِ وبِكَلَامِهِ علَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟! فيَقولُ: إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنِّي قدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام، فَيَأْتُونَ عِيسَى عليها السلام، فيَقولونَ: يا عِيسَى أنْتَ رَسولُ اللَّهِ، وكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ منه، وكَلَّمْتَ النَّاسَ في المَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟! فيَقولُ عِيسَى: إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، ولَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي اذْهَبُوا إلى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا، فيَقولونَ: يا مُحَمَّدُ، أنْتَ رَسولُ اللَّهِ وخَاتِمُ الأنْبِيَاءِ، وقدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟! قال: فأنْطَلِقُ فَآتي تَحْتَ العَرْشِ، فأقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عز وجل، ثُمَّ يَفْتَحُ
(1)
جاء في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ [قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليها السلام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عز وجل، قَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات]. وَقَوْلُهُ:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]. وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي، فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ: لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، فَلَا تُكَذِّبِينِي،
…
» الحديث رواه البخاري موقوفا (3358) ومرفوعا (5084) ومسلم مرفوعا (2371). وهذه الكلمات الثلاث إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها؛ استصغارًا لنفسه عن الشفاعة، مع وقوعها؛ لأن من كان أعرف بالله، وأقرب إليه منزلةً كان أعظم خوفًا. قاله البيضاوي. وقوله:«ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ» قال في الفتح: خَصّ الثنتين بذات الله؛ لأن قصة سارة، وإن كانت أيضاً في ذات الله، لكن تضمنت حظّاً لنفسه، ونفعاً له، بخلاف الثنتين الأخيرتين، فإنهما في ذات الله محضاً، وقد وقع في رواية [روها البزار -كما في «البداية والنهاية» (1/ 349 ت التركي) - وأبو يعلى (6039) وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (2/ 100) وعنه أبو نعيم في طبقات المحدثين بأصبهان (2/ 100) -]
…
: «إن إِبْرَاهِيمَ لم يكذب قطّ إلا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، كل ذلك فِي ذَاتِ اللَّهِ» ا. هـ قلت: وهي رواية صحيحة على الراجح.
اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وحُسْنِ الثَّنَاءِ عليه شيئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ علَى أحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ. فأرْفَعُ رَأْسِي، فأقُولُ: أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، فيُقَالُ: يا مُحَمَّدُ، أدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسَابَ عليهم مِنَ البَابِ الأيْمَنِ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ، وهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيما سِوَى ذلكَ مِنَ الأبْوَابِ، ثُمَّ قالَ: والذي نَفْسِي بيَدِهِ، إنَّ ما بيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ، كما بيْنَ مَكَّةَ وحِمْيَرَ أوْ كما بيْنَ مَكَّةَ وبُصْرَى»
(1)
.
وهذا الحديث ونحوه -مما ورد في الشفاعة في الموقف يوم القيامة- فيه الجمع بين نوعين من الشفاعة:
عامة في أهل الموقف كما يدل عليه أول الحديث.
وخاصة لأمته كما يدل عليه آخره «فأقُولُ: أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ» .
ولذلك ذكر جمع من العلماء أن أحاديث الشفاعة وقع فيها اختصار من بعض الرواة.
قَالَ الدَّاوُدِيُّ: كَأَنَّ رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ رَكَّبَ شَيْئًا عَلَى غَيْرِ أَصْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ ذَكَرَ الشَّفَاعَةَ فِي الْإِرَاحَةِ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ وَفِي آخِرِهِ ذَكَرَ الشَّفَاعَةَ فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ. قال الحافظ: يَعْنِي وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّحَوُّلِ مِنَ الْمَوْقِفِ وَالْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ وَسُقُوطِ مَنْ يَسْقُطُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فِي النَّارِ ثُمَّ يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّفَاعَةُ فِي الْإِخْرَاجِ ا. هـ
(2)
وقد بين العلماء
(3)
أنه يكون أولا الشَّفَاعَة الَّتِي لَجَأَ النَّاسُ فِيهَا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وَهِيَ الْإِرَاحَةُ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ ثُمَّ تَجِيءُ الشَّفَاعَةُ فِي الْإِخْرَاجِ بعد ذلك. وفسروا حصولَ الإراحةِ من هول الموقف بما ورد في حديث أبي سعيد من الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ كُلِّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ثُمَّ تَمْيِيزُ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ حُلُولُ الشَّفَاعَةِ بَعْدَ وَضْعِ الصِّرَاطِ وَالْمُرُورِ
(1)
البخاري (4712)، ومسلم (194).
(2)
فتح الباري لابن حجر (11/ 437 - 438)
(3)
انظر المرجع السابق
عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ كُلِّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ هُوَ أَوَّلُ فَصْلِ الْقَضَاءِ وَالْإِرَاحَةِ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ
(1)
ويؤيده ما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ:«إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ المَقَامَ المَحْمُودَ»
(2)
ورواه البخاري أيضا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ القِيَامَةِ، حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم»
(3)
قال البخاري: وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ:«فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ البَابِ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَحْمَدُهُ أَهْلُ الجَمْعِ كُلُّهُمْ»
(4)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ إِيرَادِ الْأَئِمَّةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي أَكْثَرِ طُرُقِهِ، لَا يَذْكُرُونَ أَمْرَ الشَّفَاعَةِ الْأُولَى، فِي إِتْيَانِ الرَّبِّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ،
…
، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَمُقْتَضَى سِيَاقِ أَوَّلِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَسْتَشْفِعُونَ إِلَى
(1)
كما في صحيح البخاري (4581) عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه عنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قالَ «
…
إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ، إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ، وَغُبَّرَاتُ أَهْلِ الكِتَابِ فَيُدْعَى اليَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ فَقَالُوا: عَطِشْنَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا، فَيُشَارُ أَلَا تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ: مَنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ المَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَكَذَلِكَ مِثْلَ الأَوَّلِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ، أَوْ فَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبُّ العَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا، فَيُقَالُ: مَاذَا تَنْتَظِرُونَ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَفْقَرِ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا»
(2)
صحيح البخاري (4718).
(3)
المرجع السابق (1475).
(4)
المرجع السابق معلقا عقب الحديث (1475).
آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَنْ يَفْصِلَ اللَّهُ عز وجل بَيْنَ النَّاسِ؟ لِيَسْتَرِيحُوا مِنْ مَقَامِهِمْ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سِيَاقَاتُهُ مِنْ سَائِرِ طُرُقِهِ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى الْمَحَزِّ إِنَّمَا يَذْكُرُونَ الشَّفَاعَةَ فِي عُصَاةِ الْأُمَّةِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَكَأَنَّ مَقْصُودَ السَّلَفِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الْحَدِيثِ هُوَ الرَّدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، الَّذِينَ يُنْكِرُونَ خُرُوجَ أَحَدٍ مِنَ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهَا، فَيَذْكُرُونَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ النَّصُّ الصَّرِيحُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْأَحَادِيثِ. ا. هـ
(1)
-ثم ذكر حديث ابن عمر المتقدم-.
الشفاعة العظمى يوم القيامة هي المقام المحمود:
والشفاعة العظمى هي المقام المحمود الذي وعده الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء]. فالناس إذا ضاق بهم الموقف، وطال المقام، واشتدَّ القلق، وألجمهم العرقُ التمسوا الشفاعة في أنْ يفصل اللهُ بينهم، فيأتون آدمَ فنوحًا ثم إبراهيمَ ثم موسى ثم عيسى، وكلُّهم يقول: نفسي نفسي، وهم من أشدِّ الأنبياء قربًا إلى الله، وأعظم الناس جاهًا ومنزلة عند الله -جل وعلا- حتى ينتهوا إلى نبينا محمد، فيقول:«أَنَا لَهَا»
(2)
فيشفع صلى الله عليه وسلم عند الله سبحانه في أهل الموقف أن يعجل الله عز وجل لحسابهم. وقد تقدم حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أنَّهُ قَالَ: «
…
فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ المَقَامَ المَحْمُودَ»
(3)
وروى مسلم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: ضَرَبَ فِي صَدْرِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللهِ عز وجل فَرَقًا، فَقَالَ لِي: «يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ،
(1)
البداية والنهاية ط هجر (19/ 419).
(2)
أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
تقدم
حَتَّى إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم»
(1)
(2)
. ا. هـ.
(3)
.
وفي مسند الإمام أحمد عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ
(4)
، وَيَكْسُونِي رَبِّي تبارك وتعالى حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ»
(5)
الشفاعة لأقوام استحقُّوا دخول الجنة أن يدخلوها:
ويشفع صلى الله عليه وسلم لأقوام استحقُّوا دخول الجنة في أن يدخلوها،
وهي النوع الثاني من أنواع الشفاعة الخاصة به صلى الله عليه وسلم. يقول صلى الله عليه وسلم «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا» ، وفي رواية:«أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ» ، وفي رواية:«أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ، لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ، وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ»
(6)
.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْتفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ»
(7)
.
(1)
أخرجه مسلم (820).
(2)
رواه بهذا اللفظ الترمذي في السنن (3615) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأحمد في المسند (2546) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وابن حبان (6478) من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه وهو في صحيح البخاري (3340، 4712) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظهما «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . ورواه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه دون قوله «وَلَا فَخْرَ» وزاد: «
…
وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ»
(3)
قصص الأنبياء (1/ 242)
(4)
أي: على موضع مرتفع
(5)
تقدم (ص 111) نهاية المجلس (25).
(6)
أخرجه بروايته كلها الإمام مسلم (196) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(7)
أخرجه مسلم (197) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحُذَيْفَةَ رضي الله عنهما، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَجْمَعُ اللهُ تبارك وتعالى النَّاسَ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا، اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ، لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ عليها السلام: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ
(1)
، اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى عليها السلام الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى عليها السلام، فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحِهِ، فَيَقُولُ عِيسَى عليها السلام: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ
…
»
(2)
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب:
ثالثا: ومن أنواع الشفاعة الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم: شفاعتُه في تخفيف العذاب عن عمِّه أبي طالب؛ فإنه شفع فيه عند الله حتى خُفِّف عَنْه العذابُ.
ففي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ:«لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ»
(3)
(1)
قوله: «وَرَاءَ وَرَاءَ» : بالفتح فيهما على المشهور والثانية مؤكدة للأولى كقولهم شذر مذر كما في شرح النووي على مسلم (3/ 71). والمعنى كما قال القاضي عياض في «مشارق الأنوار» (2/ 284): «أَي من غير تقريب وَلَا إدلال بخواصها» . وقال في «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (1/ 576): فيه إشارةٌ إلى تفضيل محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفيه حجةٌ على زيادة منزلة محمد صلى الله عليه وسلم في القرب على إبراهيم، وليس ذلك إلا بالرؤية والمناجاة - والله أعلم بقوله:" من وراء وراء" ا. هـ وقال النووي رحمه الله في «شرحه على مسلم» (3/ 71): «قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ هَذِهِ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ أَيْ لَسْتُ بِتِلْكَ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ -ثم نقل النووي عنه أن المعنى-: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَرَاءُ مُوسَى الَّذِي هُوَ وراء محمد صلى الله عليه وعليهم أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ.
(2)
أخرجه مسلم (195). ووهم الحاكم فخرجه في المستدرك على الصحيحين (8749) وصححه على شرطهما. وتعقبه شيخنا الوادعي في تحقيق المستدرك.
(3)
رواه البخاري (6564) ومسلم (210).
وقال الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ:«نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ»
(1)
وقال صلى الله عليه وسلم «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ»
(2)
النوع الرابع الشفاعة في أقوام دخلوا النار أن يخرجوا منها:
رابعا: ومن أنواع الشفاعة: الشفاعةُ فيمن دخل النار من أهل التوحيد أن يخرجوا منها، فيخرجون قد امتُحِشُوا،
(3)
وصاروا فحمًا، فيُطرَحونَ في نَهرِ الحياةِ، فينبُتونَ كما تَنبتُ الحبَّةُ في حميلِ السَّيلِ كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا، أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ»
(4)
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَجْمَعُ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ يَومَ القِيامَةِ كَذلكَ، فيَقولونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنا إلى رَبِّنا حتَّى يُرِيحَنا مِنْ مَكانِنا هذا
…
ثم ذكر الحديث بمعناه: يأتون آدم وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم قال: فأنْطَلِقُ، فأسْتَأْذِنُ علَى رَبِّي، فيُؤْذَنُ لي عليه، فإذا رَأَيْتُ رَبِّي وقَعْتُ له ساجِدًا، فَيَدَعُنِي ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقالُ لِي: ارْفَعْ مُحَمَّدُ وقُلْ يُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأحْمَدُ رَبِّي بمَحامِدَ عَلَّمَنِيها، ثُمَّ أشْفَعُ فَيَحُدُّ لي حَدًّا،
(1)
رواه البخاري (3883) ومسلم (209).
(2)
رواه مسلم (212) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ووهم الحاكم فأخرجه في المستدرك على الصحيحين (8740) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ا. هـ وتعقبه شيخنا الوادعي رحمه الله في التعليقات على المستدرك.
(3)
امتحشوا: أي احترقوا. وتروى: " امتَحَشُوا "
(4)
أخرجه البخاري (6560)، ومسلم (184) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أرْجِعُ، فإذا رَأَيْتُ رَبِّي وقَعْتُ ساجِدًا، فَيَدَعُنِي ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ وقُلْ يُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأحْمَدُ رَبِّي بمَحامِدَ عَلَّمَنِيها رَبِّي، ثُمَّ أشْفَعُ فَيَحُدُّ لي حَدًّا -يعني يعطيه عددًا معيَّنًا من الناس يشفع فيهم صلى الله عليه وسلم ثم يقول صلى الله عليه وسلم: فأقُولُ: يا رَبِّ ما بَقِيَ في النَّارِ إلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ، ووَجَبَ عليه الخُلُودُ» -يعني من كان من الكافرين-،
-نسأل الله السلامة والعافية-.
قال: وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وكانَ في قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ ما يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وكانَ في قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ ما يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وكانَ في قَلْبِهِ ما يَزِنُ مِنَ الخَيْرِ ذَرَّةً»
(1)
.
شفاعة المؤمنين لإخوانهم الذين دخلوا النار:
وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الناجين من عباد الله سبحانه من المؤمنين يجادلون الله سبحانه وتعالى عن إخوانهم. -وهذا يدل على فضل الأخُوَّة في الله سبحانه وتعالى، كما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أيضا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «
…
ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ»، [وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ] قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الجَسْرُ؟ قَالَ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ، تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، المُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الحَقِّ، قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ المُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فِي إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا
…
فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالمَلَائِكَةُ وَالمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ،
(1)
أخرجه البخاري (7410)، ومسلم (193).
فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدْ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ،
…
فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ،
…
» الحديث
(1)
وفي رواية في المسند وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُوضَعُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ، ثُمَّ يَسْتَجِيزُ النَّاسُ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَجْدُوحٌ بِهِ، ثُمَّ نَاجٍ وَمُحْتَبَسٌ بِهِ فَمَنْكُوسٌ فِيهَا قال: فَإِذَا فَرَغَ اللهُ عز وجل مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، يَفْقِدُ الْمُؤْمِنُونَ رِجَالًا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِمْ، وَيُزَكُّونَ بِزَكَاتِهِمْ، وَيَصُومُونَ صِيَامَهُمْ، وَيَحُجُّونَ حَجَّهُمْ وَيَغْزُونَ غَزْوَهُمْ فَيَقُولُونَ: أَيْ رَبَّنَا، عِبَادٌ مِنْ عِبَادِكَ كَانُوا مَعَنَا فِي الدُّنْيَا يُصَلُّونَ صَلَاتَنَا، وَيُزَكُّونَ زَكَاتَنَا، وَيَصُومُونَ صِيَامَنَا، وَيَحُجُّونَ حَجَّنَا، وَيَغْزُونَ غَزْوَنَا لَا نَرَاهُمْ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا إِلَى النَّارِ فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْهُمْ فَأَخْرِجُوهُ» ، قال صلى الله عليه وسلم:«فَيَجِدُونَهُمْ قَدْ أَخَذَتْهُمُ النَّارُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى قَدَمَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَزِرَتْهُ - يعني بلغت إلى حد المئزر- وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى ثَدْيَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى عُنُقِهِ، وَلَمْ تَغْشَ الْوُجُوهَ فَيَسْتَخْرِجُونَهُمْ مِنْهَا فَيُطْرَحُونَ فِي مَاءِ الْحَيَاةِ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الْحَيَاةُ؟ قَالَ: «غُسْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الزَّرْعَةِ. وَقَالَ مَرَّةً: فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الزَّرْعَةُ فِي غُثَاءِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَشْفَعُ الْأَنْبِيَاءُ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصًا فَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْهَا. قَالَ: ثُمَّ يَتَحَنَّنُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ عَلَى مَنْ فِيهَا، فَمَا يَتْرُكُ فِيهَا عَبْدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلَّا أَخْرَجَهُ مِنْهَا»
(2)
.
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين:
وإذا خرج عصاة المؤمنين أهل التوحيد من النار فحينها {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} ، كما ورد في تفسير الآية وهي قول الله سبحانه وتعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
(1)
أخرجه البخاري (7439) ومسلم (183) ومنه الزيادة.
(2)
أخرجه أحمد (11081) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)} [الحجر] فقد ذكر العلماء في تفسيرها: أنَّ عُصاةَ أهلِ التوحيد إذا دخلوا النار يقول لهم الكفار: ما فَضْلُكُمْ علينا؟ نحن في النار وأنتم في النار، فيغضب الله عز وجل لذلك فيأمر بإخراج من كان في قلبه مثقالُ حبَّةِ خردلٍ ومن قال: لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه من النار، فحينئذ يتمنَّى الكافرُ لو كان مسلمًا.
قال الإمام الترمذي رحمه الله: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنهم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«سَيَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ» هَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} قَالُوا: إِذَا أُخْرِجَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُوا الجَنَّةَ وَدَّ {الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)} ا. هـ
(1)
وفي المسند عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنِّي لَأَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْدِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَإِنِّي آتِي بَابَ الْجَنَّةِ، فَآخُذُ بِحَلْقَتِهَا، فَيَقُولُونَ: مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ، فَيَفْتَحُونَ لِي، فَأَدْخُلُ، فَإِذَا الْجَبَّارُ مُسْتَقْبِلِي، فَأَسْجُدُ لَهُ، فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَتَكَلَّمْ يُسْمَعْ مِنْكَ، وَقُلْ يُقْبَلْ مِنْكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: اذْهَبْ إِلَى أُمَّتِكَ، فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ شَعِيرٍ مِنَ الْإِيمَانِ، فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَأُقْبِلُ فَمَنْ وَجَدْتُ فِي قَلْبِهِ ذَلِكَ فَأُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ. فَإِذَا الْجَبَّارُ مُسْتَقْبِلِي، فَأَسْجُدُ لَهُ، فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَتَكَلَّمْ يُسْمَعْ مِنْكَ، وَقُلْ يُقْبَلْ مِنْكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ: اذْهَبْ إِلَى أُمَّتِكَ فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ نِصْفَ حَبَّةٍ مِنْ شَعِيرٍ مِنَ الْإِيمَانِ فَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ، فَأَذْهَبُ فَمَنْ وَجَدْتُ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَلِكَ أَدْخَلْتُهُمُ
(1)
«سنن الترمذي» (5/ 24 ت شاكر).
الْجَنَّةَ. فَإِذَا الْجَبَّارُ مُسْتَقْبِلِي فَأَسْجُدُ لَهُ، فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَتَكَلَّمْ يُسْمَعْ مِنْكَ، وَقُلْ يُقْبَلْ مِنْكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: اذْهَبْ إِلَى أُمَّتِكَ فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنَ الْإِيمَانِ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَأَذْهَبُ فَمَنْ وَجَدْتُ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَلِكَ أَدْخَلْتُهُمُ الْجَنَّةَ. وَفَرَغَ اللَّهُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ، وَأَدْخَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أُمَّتِي النَّارَ مَعَ أَهْلِ النَّارِ. فَيَقُولُ أَهْلُ النَّارِ: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْبَدُونَ اللَّهَ، لَا تُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا. فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: فَبِعِزَّتِي، لَأُعْتِقَنَّهُمْ مِنَ النَّارِ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ، فَيَخْرُجُونَ وَقَدِ امْتَحَشُوا، فَيَدْخُلُونَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي غُثَاءِ السَّيْلِ، وَيُكْتَبُ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ، فَيُذْهَبُ بِهِمْ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ. فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَلْ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الْجَبَّارِ»
(1)
الشفاعة في دخول من لا حساب عليهم الجنة:
خامسا: الشفاعة في دخول من لا حساب عليهم الجنة، وقد تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «
…
فأقُولُ: أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، فيُقَالُ: يا مُحَمَّدُ، أدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسَابَ عليهم مِنَ البَابِ الأيْمَنِ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ، وهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيما سِوَى ذلكَ مِنَ الأبْوَابِ
…
»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (12469) والدارمي (53) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (268) وابن خزيمة في التوحيد (2/ 710) وابن منده في الإيمان (877) وقال: هذا حديث صحيح مشهور عن ابن الهاد ا. هـ وقال الشيخ الألباني في ظلال الجنة (2/ 407): صحيح على شرط الشيخين ا. هـ قلت: قول ابن منده أصح، فالحديث من رواية الليث عن يزيد بن الهاد عن عمرو مولى المطلب عن أنس، وليس هو هكذا على رسم مسلم، كما في ترجمة ابن الهاد من كتاب "رجال صحيح مسلم" لابن مَنْجُويَه (2/ 362)، والرواة عن الليث، ليسوا على شرط البخاري، فالإسناد صحيح حسب والله أعلم. وللحديث طرق أخرى عن أنس، وشواهد من حديث أبي موسى وابن عباس وجابر والحسين بن علي رضي الله عنهم انظرها مخرجة في ظلال الجنة للألباني وفي أنيس الساري (تخريج أحاديث فتح الباري)(1/ 235).
(2)
البخاري (4712)، ومسلم (194).
الشفاعة في رفع درجات أقوام من أهل الجنة:
هذا هو النوع السادس من الشفاعة، وهذه النوع من أنواع الشفاعة ليس خاصا بنبينا صلى الله عليه وسلم، ولكنه المقدَّم فيها ثم يشفع بعده الأنبياء والملائكة والأولياء والأفراط أي: الأولاد الصغار الذين يموتون صغارًا فيشفعون ثم يخرج الله عز وجل برحمته من النار أقوامًا بدون شفاعة لا يحصيهم إلا الله -جل وعلا- فيدخلون الجنة
(1)
.
الشفاعة في أقوام قد أُمِرَ بهم إلى النار ألَّا يدخلوها:
سابعا: ومن أنواع الشفاعة التي يذكرها العلماء: الشفاعةُ في أقوام قد أُمِرَ بهم إلى النار ألَّا يدخلوها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وهذه قد يستدل لها: بما رواه مسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
(2)
قال: فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفعهم الله في ذلك ا. هـ
(3)
ثم قال: ويشكل على هذا أن هذه شفاعة في الدنيا
(4)
.
وابن القيم رحمه الله يقول: وَهَذَا النَّوْع لَمْ أَقِف إِلَى الْآن عَلَى حَدِيث يَدُلّ عَلَيْهِ. وَأَكْثَر الْأَحَادِيث صَرِيحَة فِي أَنَّ الشَّفَاعَة فِي أَهْل التَّوْحِيد مِنْ أَرْبَاب الْكَبَائِر إِنَّمَا تَكُون بَعْد دُخُولهمْ النَّار، وَأَمَّا أَنْ يُشْفَع فِيهِمْ قَبْل الدُّخُول، فَلَا يَدْخُلُونَ. فَلَمْ أَظْفَر فِيهِ بِنَصٍّ ا. هـ
(5)
وذكر الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- أن مما يدل على إثبات هذا النوع من الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي»
(6)
فأثبت صلى الله عليه وسلم شفاعته في أهل
(1)
أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183) كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
صحيح مسلم (948).
(3)
انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 334)
(4)
انظر: شرح العقيدة الواسطية (2/ 178)
(5)
انظر: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته (2/ 425).
(6)
أخرجه أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي (2436) وابن ماجه (4310) من حديث جابر رضي الله عنه.
الكبائر، وهو يشمل من استحق النار ممن دخل أو لم يدخل، فيُسْتَدَل بعموم هذا الحديث على صحة هذا النوع من الشفاعة، وصحة كونه شفاعة
(1)
.
قصة تبين المعتقد الصحيح في الشفاعة في أهل الكبائر:
قَالَ يَزِيدُ الْفَقِيرُ رحمه الله: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ، فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ، ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ: فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَإِذَا: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ، مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ؟ وَاللهُ يَقُولُ:{إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] وَ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]، فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ؟ قَالَ: فَقَالَ: «أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:«فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ عليها السلام يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ فِيهِ -؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:«فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ» ، قَالَ: ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ، وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ، - قَالَ: وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَاكَ - قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ «أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا» ، قَالَ: - يَعْنِي - «فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ» ، قَالَ:«فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ» ، فَرَجَعْنَا قُلْنَا: وَيْحَكُمْ أَتُرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَرَجَعْنَا فَلَا وَاللهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ. رواه مسلم
(2)
وفي المسند عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: كُنْتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَكْذِيبًا بِالشَّفَاعَةِ، حَتَّى لَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ كُلَّ آيَةٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ عز وجل فِيهَا خُلُودُ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ: يَا طَلْقُ، أَتُرَاكَ أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي، وَأَعْلَمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَاتُّضِعْتُ لَهُ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، بَلْ أَنْتَ أَقْرَأُ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي، وَأَعْلَمُ بِسُنَّتِهِ مِنِّي، قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي
قَرَأْتَ أَهْلُهَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَكِنْ «قَوْمٌ أَصَابُوا ذُنُوبًا، فَعُذِّبُوا بِهَا، ثُمَّ أُخْرِجُوا» ، صُمَّتَا - وَأَهْوَى بِيَدَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ - إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ» ، وَنَحْنُ نَقْرَأُ مَا تَقْرَأُ.
(1)
وقالَ نُعَيمُ بنُ حَمَّادٍ قَالَ: سُفْيَانُ -يعْنِي ابنَ عُيَيْنَةَ-: قَدِمَ عَلَيْنَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَمَعَهُ رَجُلٌ تَابِعٌ لَهُ عَلَى هَوَاهُ قَالَ: فَدَخَلَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْحِجْرَ فَصَلَّى فِيهِ، وَخَرَجَ صَاحِبُهُ، فَقَامَ عَلَى عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَهُوَ يُحَدِّثُ هَذَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَجَعَ إِلَى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَقَالَ لَهُ: يَا ضَالُّ أَمَا كُنْتَ تُخْبِرُنَا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَحَدٌ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَهُوَ ذَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» قَالَ: فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: هَذَا لَهُ مَعْنًى لَا تعْرِفُهُ قَالَ: فقَالَ الرَّجُلُ: وَأَيُّ مَعْنًى يَكُونُ لِهَذَا قَالَ: ثُمَّ نَفَضَ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ وَفَارَقَهُ.
(2)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حدَّثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: إِنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُخْرِجُ الله تعالى قَوْمًا مِنَ النَّارِ بَعْدَ مَا امْتَحَشُوا فِيهَا، وَصَارُوا فَحْمًا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرٍ عَلَى بَابِ الجنة، يسمى نهر الحياة، فينبتون فيها كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَوْ كَمَا تَنْبُتُ الثَّعَارِيرُ
(3)
، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيُقَالَ: هَؤُلَاءِ عتقاء الله
(1)
مسند أحمد (14534)
(2)
رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2048) والبيهقي في شعب الإيمان (319) والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ت بشار (14/ 75/ 4099)
(3)
بمثلثة مفتوحة، ثم مهملمة، واحدها ثعرور كعصفور، قال ابن الأعرأبي: هي قثاء صغار، وقال أبوعبيدة مثله، وزاد: ويقال بالشين المعجمة بدل المثلثة، وقيل: هو نبت في أصول الثمام كالقطن، قال الحافظ: والمقصود الوصف بالبياض والدقة، وجاء في تفسيره في رواية البخاري "6558" بالضغابيس، وفسره الأصمعي بأنه شيء ينبت في أصول الثمام يشبه الهليون، قال الحافظ: هذا التشبيه لصفتهم بعد أن ينبتوا، وأما في أول خروجهم النار فإنهم يكونون كالفحم، ووقع في حديث يزيد الفقير عن جابر عند مسلم:"فيخرجون كأنهم عيدان السمسم، فيدخلون نهراً، فيغتسلون، فيخرجون كأنهم القراطيس البيض" انظر "الفتح" 1/ 329 و 457، 458. [من تعليق الشيخ شعيب رحمه الله في تحقيق صحيح ابن حبان]
-عز وجل من النار». وقال رجل متهم برأي الخوارج يقال له هَارُونَ أَبُو مُوسَى أَوْ أَبُو مُوسَى بْنُ هارون: ما هذا الذي تحدث به أبا عَاصِمٍ؟ فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا عِلْجُ! فَلَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ
(1)
.
كلمة مهمة للإمام البيهقي:
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله:
…
وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا هَهُنَا، وَفِي كِتَابِ الْبَعْثِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ بِذُنُوبِهِ غَيْرَ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَبْقَى فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَالَّذِي تَلْحَقُهُ الشَّفَاعَةُ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا يُعَذَّبَ أَصْلًا غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَالذَّنْبُ خَطَرُهُ عَظِيمٌ، وَشَأْنُهُ جَسِيمٌ، وَرَبُّنَا غَفُورٌ رَحِيمٌ عِقَابَهُ شَدِيدٌ أَلِيمٌ ا. هـ
(2)
أمة محمد صلى الله عليه وسلم أول الأمم دخولا الجنة:
وأوَّلُ من يدخل الجنة من الأمم أمَّتُه صلى الله عليه وسلم فنحن كما قال صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ»
(3)
. أي: الآخرون زمنًا المتأخرون وقتًا لكننا الأوَّلون السابقون يوم القيامة، وهذا من تكرمة الله عز وجل لهذه الأمة.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أَهْلُ الجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ»
(4)
فثُلُثَا أهل الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
رسولنا صلى الله عليه وسلم أول شافع:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا» ،
وفي رواية: «أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ» ،
(1)
المطالب العالية (4560) وانظر أيضا: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2048) وشعب الإيمان للبيهقي (319) وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ت بشار (14/ 75/ 4099)
(2)
شعب الإيمان (1/ 506)
(3)
رواه في مسلم (855) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
سيأتي تخريجه في الجزء السابع مبحث "هذه الأمة هي أكثر أهل الجنة (ح: 13).
(1)
.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْتفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ»
(2)
.
من الأعمال الصالحة التي تشفع لصاحبها:
إخواني في الله: اجتهدوا في الأعمال الصالحات التي تقربكم إلى رب الأرض والسماوات؛ فإن الأعمال الصالحة تشفع لصاحبها عند الله -جل وعلا-
كما في صحيح مسلم عن أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ»
(3)
وفي المسند عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ» قَالَ: «فَيُشَفَّعَانِ»
(4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ سُورَةً مِنَ القُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ»
(5)
(1)
تقدم قريبا
(2)
تقدم قريبا.
(3)
صحيح مسلم (804)
(4)
أخرجه أحمد (6626) وهو في صحيح الترغيب والترهيب (984)
(5)
أخرجه أبو داود (1400) والترمذي (2891) وابن ماجه (3786) وهو في صحيح الترغيب والترهيب (1474)
وصح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ قَادَهُ إِلَى النَّارِ»
(1)
(2)
ما يمنع من الشفاعة:
واحذروا -رحمكم الله- من الأعمال التي تكون سببًا في حرمان الإنسان من الشفاعة يوم القيامة؛ فإن الشفاعة منزلة عظيمة، يأذن الله عز وجل فيها لمن شاء من عباده،
ومن ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(3)
فاحذر أيها العبد المسلم، وأمسك عليك لسانك، وابتعد عن السباب والشتم، وابتعد عن اللعن؛ لتكون بذلك من المقرَّبين عند الله.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه «وَاللَّهِ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ فِي الرَّفَاهِيَةِ يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ، فَتُرْدِيهِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»
(4)
(1)
مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6010) ومعجم الطبراني الكبير (9/ 132) وروي مرفوعا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رواه الطبراني (10/ 198) بسند واه، ورواه ابن حبان في صحيحه (1793) من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا، ورجح وقفه على ابن مسعود أبو حاتم كما في العلل لابنه (1681) والدارقطني في العلل (748) وانظر السلسلة الصحيحة (2019).
(2)
رواه ابن أبي شيبة (30047) والدارمي (3354) وهو في سنن الترمذي (2915) مرفوعا ثم ذكره موقوفا قال بنحوه وقال الموقوف أصح ا. هـ
(3)
أخرجه مسلم (2598) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(4)
أخرجه حسين المروزي في زوائد الزهد لابن المبارك (993) وهناد في الزهد (2/ 552) بسند صحيح وهو عند الطبراني في المعجم الكبير (9/ 237) رقم (9160) من طريق آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
أعنِّي على نفسك بكثرة السجود:
واجتهد -رحمك الله- في الإكثار من الصلوات النوافل؛ فقد روى مسلم من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي:«سَلْ» فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَال: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»
(1)
.
احذر من الاتكال وترك العمل:
واحذر من الوقوع فيما وقع فيه المقصرون وفيما وقع فيه أولئك المفرِّطون في توحيد الله -جل وعلا- الذين يعتقدون أن بعض الناس له الأحقية وله الصلاحية في أن يكون شافعًا له عند الله -بلا عمل-، بل إن بعض الناس يأتي الأموات والأولياء، فيطلب منهم أن يكونوا له شفعاء عند الله.
الشفاعة ملك لله:
واعلم أن الشفاعة ملكٌ لله سبحانه -كما تقدم- فلا تُطلَبُ إلا من الله. قال الله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ]. قال بعض العلماء: هذه الآية قطعت عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد قطع الله تعالى كلَّ الأسباب التي تعلَّق بها المشركون جميعًا، قطعًا يعلم من تأمَّلُه وعرفه أنَّ من اتَّخذ من دون الله وليًّا، أو شفيعًا، فهو {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41]
(1)
أخرجه مسلم (489).
(2)
انظر: كلام شيخ الإسلام في التسعينية (2/ 526) المسائل والأجوبة (ص: 117) واقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 226) والإخنائية أو الرد على الإخنائي ت العنزي (ص: 99) وسيأتي كلام ابن القيم وانظر: القول السديد للسعدي (67)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (9/ 314).
فالمشركُ إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، والنفعُ لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع:
• إما مالكٌ لما يريده عبادُه منه،
• فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك،
• فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا،
• فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده،
فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا مترتبًا، متنقلًا من الأعلى إلى ما دونه"
(1)
.
ومن تأمل هذه الآية أيقن أنَّ الشفاعة ملك لله سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني هؤلاء الذين تدعونهم وتعبدونهم من دون الله ادعوهم هل يملكون شيئًا عند الله؟! إنهم {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} فالشفاعة لا يملكونها، وكذلك قال سبحانه:{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} يعني ليسوا شركاء في ملك الله. ثم قال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} [سبأ] فليسوا معاونين ولا وزراء ولا وجهاء عند الله سبحانه؛ ليأذن لهم وليكونوا مقرَّبين عند الله. قال: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . فالشفاعةُ لا تكون إلا بإذن الله سبحانه،
-نسأل الله -جل وعلا- أن يُشفِّعَ فينا نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأن يُصلِح أعمالَنا-.
(1)
مدارج السالكين (1/ 351).
الشفاعة لأهل التوحيد والإخلاص:
والشفاعة عند الله يوم القيامة لا تكون إلا لأهل التوحيد أي: الذين ماتوا على توحيد الله؛ ولهذا لما سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ»
(1)
فبيَّن هذا الحديث أنَّ من مات على توحيد الله سبحانه فهو يوم القيامة من أهل الشفاعة الذين يأذن الله عز وجل فيهم بفضله ومنِّه وكرمه حتى لو مات على ذنوب عظيمة أو مات على كبيرة فإنه إذا مات على التوحيد يرجى له من الخير ويرجى له عند الله عز وجل من الفضل بقدر توحيده وإيمانه بالله.
وقد جاء ذلك صريحًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي»
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ، وَخَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(3)
.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا»
(4)
نسأل الله -جل وعلا- أن يعفو عنَّا، وأن يغفر لنا خطأنا وزللنا،
وأن يُثبِّتنا على دينه؛ إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
JIH
(1)
أخرجه البخاري (99) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي (2436) وابن ماجه (4310) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (201) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وفي (200) من حديث عن أنس رضي الله عنه
(4)
أخرجه مسلم (199) عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو في البخاري (6304) ومسلم (98) دون الجملة الأخيرة.
الإيمان بالحساب والجزاء
F e
المجلس الثلاثون
(1)
الإيمان بالحساب
تعريف الحساب:
قال أهل اللغة: الحسْب هو العد والإحصاء
(2)
.
والحساب شرعا: هو: "أن يُوقِف الحقُّ تبارك وتعالى عباده بين يديه، ويعرِّفَهم بأعمالهم التي عملوها، وأقوالهم التي قالوها، وما كانوا عليه في حياتهم الدنيا"
(3)
.
فمن تمام عدله تبارك وتعالى يوم القيامة أنه يُعرِّف عبادَه مقاديرَ الجزاء على أعمالهم ويذكِّرُهم بما قد نسُوه من ذلك، يقول ربنا:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].
وجوب الإيمان بالحساب:
الإيمانُ بالحساب، من جملة ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر، ونصوصُ الكتاب والسنة الدَّالةُ على ذلك كثيرةٌ جدًّا.
فربُّنا قد امتدح نفسه في كتابه في سبعة مواضع بأنه سريع الحساب:
فقال -جل وعلا- في أربعة مواضع من كتابه: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
[آل عمران: 199، المائدة: 4، إبراهيم: 51، غافر: 17]
وقال عز وجل في موضعين من كتابه: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202، النور 39]،
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} [آل عمران].
(1)
كان في يوم الاثنين السادس عشر من شهر شوال من عام 1441 هـ.
(2)
ينظر: «تهذيب اللغة» (4/ 191) و «لسان العرب» (1/ 311)
(3)
القيامة الكبرى لعمر الأشقر، (ص: 193)
فامتدح نفسه بذلك؛ فهو يأتي بالعباد يوم القيامة، ويُعرِّفُهم بأعمالهم، لا يحتاج إلى معاوِنٍ، ولا يحتاج إلى عدٍّ، ولا يحتاج إلى أمر مما يحتاجه البشر.
وإنما قد علم ما كان منهم وما وقع من أعمالهم، فيُعرِّفُهم إيَّاها {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} [المعارج] يحاسبُهم جميعًا، ويُوقِفُهم على أعمالهم، كما قال:{أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] فامتداحُه لنفسه سبحانه بأنه سريع الحساب دالٌّ على هذه المسألة العظيمة، وهي أنَّ الحساب حقٌّ وكائنٌ يوم القيامة.
(1)
.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فِي هَذَا الْمَسْجِدِ بَدَأَ بِالْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ يُحَدِّثَنَا فَقَالَ:«وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَيَقُولُ ابْنَ آدَمَ: مَاذَا غَرَّكَ [بِيْ] يَا ابْنَ آدَمَ؟ [مَا غَرَّكَ بِيْ] مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ يَا ابْنَ آدَمَ؟ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ [مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ، مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ]»
(2)
الاستعاذة من سوء الحساب:
أخبرنا ربُّنا عن أوليائه المؤمنين بأنهم يسأَلُونه أن يُعِيذَهم من سوء الحساب يوم القيامة. يقول ربُّنا -جل وعلا-: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ
(1)
أخرجه البخاري (7512)، ومسلم (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد في الزهد (907) قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ هِلَالٍ الْوَزَّانِ، عَنْ ابن عُكَيمٍ به. وهذا إسناد صحيح. ومن طريق أبي عوانة رواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (848) والطبراني في الكبير (9/ 180/ 8899) ومنه الزيادة الأخيرة واللالكائي في شرح السنة (860) وأبو نعيم في الحلية (1/ 131). ورواه ابن المبارك في الزهد (38) وعبد الله بن أحمد في السنة (474، 475، 1151، 1152) وابن خزيمة في التوحيد (1/ 363 و 2/ 420) والطبراني في المعجمين الأوسط (449) والكبير (9/ 182/ 8900) وابن بطة في الإبانة (7/ 43) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1200) من طرق عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ هِلَالِ به.
الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [الرعد]. فأهل الإيمان يخافون سوءَ الحسابِ من ربهم -جل وعلا-. قال أهل التفسير:
سوءُ الحساب أن تُحصى عليهم جميعُ أعمالهم، ولا يُغفَر لهم منها شيءٌ
(1)
.
والكفار ينالهم هذا البلاءُ، -نسأل الله العفو والعافية- كما قال ربنا -جل وعلا-:{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)} [الرعد].
وقد أَمَرَ اللهُ عبادَه أن يتَّقوا هذا اليومَ العظيمَ الذي هو يومُ الحساب والجزاء، يقول ربُّنا:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة]. قال العلماء: هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن. وقال بعضهم: هي آخر ما نزل من كتاب الله. وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما
(2)
.
وقال أهل التفسير في قوله سبحانه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة] هو يوم الجزاء والحساب
(3)
.
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} كلُّ ما عَمِلْتَه ستجدُه أمامَك يوم القيامة، قال سبحانه:{وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} .
ويقول ربُّنا -جل وعلا-: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)} [النحل]
(1)
انظر تفسير الطبري (13/ 505)، وتفسير السمعاني (3/ 88)، وتفسير البغوي (4/ 309).
(2)
انظر تفسير الطبري (5/ 67)، وابن كثير (1/ 721).
(3)
انظر تفسير الطبري (1/ 158).
ويقول ربُّنا -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء].
فأعمالُك يحصيها اللهُ عليك، وتجدُها كلَّها، ما تذكُرُه منها وما نسِيتَه، تجدها كلَّها عند الله يوم القيامة، -نسأل الله -جل وعلا- أن يعفو عنَّا، وأن يغفر لنا، وأن يتجاوز عنَّا-.
ويقول ربنا -جل وعلا- في كتابه الكريم: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)} [الزمر]
هذه الأعمال التي يعملها الإنسان في الدنيا يحصيها الله سبحانه الله -جل وعلا-، وقد رَصَدَ لها ملائكة، قال عز وجل:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق]
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الإنفطار]. تُحصَى هذه الأعمالُ جميعًا، وتأتي يوم القيامة، فيحاسبك الله عز وجل عليها، يقول ربنا -جل وعلا-:{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} [النساء]
ويقول سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر]
ويقول -جل وعلا-: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]. ويقول -جل وعلا-: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء].
الحساب بين العرض والمناقشة:
يحاسب الله عبادَه في القيامة ويناقشهم، فيحاسِبُ بالعرض من قضى له بالمغفرة، ويناقِشُ بالحساب من قضى عليه بالعذاب.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ويحاسب اللهُ الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن، فيُقرِّره بذنوبه، كما وَصَفَ ذلك في الكتاب والسنة، وأمَّا الكفار: فلا يُحاسَبُون محاسبةَ من تُوزَنُ
حسناتُه وسيئاتُه؛ فإنه لا حسنات لهم، ولكن تُعَدُّ أعمالُهم وتحصى، فيُوقَفون عليها، ويُقرَّرُون بها، ويُجزَون بها"
(1)
.
الحساب العسير:
الحساب يشمل كلَّ شيء عَمِلَه الإنسانُ، والحسابُ منه العسير، ومنه اليسير، فمنه ما هو تكريم، ومنه ما هو توبيخ وتبكيت، ومنه ما هو فضل وصفح، ومنه ما هو غير ذلك. والمتولِّي للحساب هو أكرم الأكرمين صاحب الحق والعدل ربُّنا. يقول الله سبحانه:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)} [الزمر].
فتأمل مشهد الحساب يوم القيامة حين يأتي اللهُ سبحانه إتيانًا يليق بجلالته وعظمته، لفصل القضاء:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر] فيجيئ الله لفصل القضاء وللحساب، فالله هو المحاسِب، وهو الحكم العدل، قيُّومُ السماوات والأرض، يقول -جل وعلا-:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} [البقرة].
فنؤمن بأن الله يأتي إتيانًا يليق بجلالته وعظمته؛ فهو حقٌّ كما أخبر عن نفسه ولا نُؤَوِّله ولا نُحرِّفُه ولا نكذِّبُ به؛ فالله عز وجل قد نَصَّ في كتابه على إتيانه ومجيئه لفصل القضاء يوم القيامة.
والحساب يوم القيامة كما قال -جل وعلا-: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف] فكلُّ صغير وكبير سيلقاه الإنسانُ يوم القيامة، -نسأل اللهَ السَّلامة والعافية-.
(1)
العقيدة الواسطية: (ص: 98).
الحسابُ عن كل شيء:
يسأل الإنسان في موقف الحساب عن كلِّ ما عَمِلَ من خير ومن شر، فإن خيرًا كان خيرًا، وإن شرًّا كان شرًّا، إلا أن يعفو اللهُ عز وجل عن عباده يوم القيامة. قال ربنا سبحانه:{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)} [إبراهيم].
كلُّ أمة جاثية للحساب:
وتأمل هذا المشهد الذي يصوِّرُه اللهُ عز وجل يوم القيامة للحساب، يقول -جل وعلا-:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28]، فمِنْ شِدَّة الهول تجثوا الأممُ على الرُّكَب عندما يُدعَى الناسُ للحساب لعِظَمِ ما يشاهدون ولعِظَم ما هم فيه واقعون.
حساب المؤمن:
ويجعل الله -جل وعلا- حسابَ المؤمن حسابًا يسيرًا، فقد سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير، فقال صلى الله عليه وسلم:«هو: العَرْضُ»
(1)
ومعناه: أن تُعرَض عليه أعمالُه، فيقال له: أتذكر ذنبَ كذا؟ أتذكر ذنبَ كذا؟ ويجعله الله تعالى في كنفه، ويقول له:«سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ»
(2)
.
حساب الكافر:
وأما الكفار والفُجَّار فإن الله يحاسبهم وتُوزَن لهم أعمالُهم ويُنادَون على رؤوس الخلائق: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود] ويقولُ ربُّنا سبحانه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)} [القصص]. ويقول -جل وعلا-: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)}
(1)
تقدم في المجلس الحادي والعشرين.
(2)
أخرجه البخاري (2441) واللفظ له، ومسلم (2768) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[القصص]. ويقول سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة] وقال -جل وعلا- في سورة المؤمنون: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)} . فيقيم الله عز وجل عليهم الحُجَّة، ويُظهِر يوم القيامة عدلَه، «
…
وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ»
(1)
والأمر كما ذكر الله -جل وعلا- وذكرناه آنفًا- {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف].
حسنات الكفار في الدنيا:
فإن قال قائل: فما هو حال حسنات الكفار التي كانوا يعملونها في الدنيا؟ هل يُجازَون عليها؟ نقول: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ هؤلاء الكفار الذين ماتوا على كفرهم إذا عملوا خيرًا في الدنيا فإنَّ الله يُطعِمُهم به طعمة في الدنيا.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا في الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا في الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ في الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا»
(2)
.
ويقول الله -جل وعلا-: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان]
السؤال والحساب في موطن وتركه في موطن آخر:
وقد استشكل بعضُ الناس قولَ الله في حق الكفار:
(1)
جزء من حديث رواه البخاري (7416) ومسلم (1499) من حديث المغيرة. ورواه مسلم (2760) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (2808) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
{وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} [القصص]،
وقولَه سبحانه: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات] وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الكفار لا يُسأَلون يوم القيامة. والجواب الذي ذكره العلماء في ذلك: أنهم يُسألون في موطن دون موطن، فهذه الآيات التي ورد فيها أنهم لا يسألون دالة على أنهم في بعض المواطن لا يؤذن لهم بالسؤال ثم يؤذن لهم بعد ذلك، فيتخاصمون فيما بينهم
(1)
.
لا يظلم أحد يوم القيامة
وأخبرنا اللهُ أن الحساب يوم القيامة حسابٌ عادلٌ، ليس فيه شيء من الظلم؛
فالله -جل وعلا- منزَّهٌ عن ذلك، قال عز وجل:{ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة] فلا يقع الظلم من الله. يقول -جل وعلا- في حكاية خبر لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان]. ويقول -جل وعلا-: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} [النساء]. ويقول تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة] فقد أخبرنا الله عز وجل بأنَّ الحساب سيكون حسابًا عادلًا، فلا يُظلَم عند الله -جل وعلا- أحدٌ يوم القيامة.
لا تزر وازرة وزر أخرى:
وأخبرنا الله -جل وعلا- أنه لا يُؤخَذُ أحدٌ بذنب أحد في الحساب. كما قال سبحانه: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)} [الأنعام: 164]
(1)
ينظر: «الانتصار للقرآن للباقلاني» (2/ 598) و «تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن» (9/ 98، و 17/ 174 سورة الرحمن) وتفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 499).
وقولُ الله سبحانه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . جاء في أربعة مواضع أخرى من كتاب الله: [الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7، النجم: 38]
فلا يُظلَم أحدٌ عند الله، ولا يُؤخَذُ أحدٌ بذنب أحدٍ أبدًا إلا أن يكون متسبِّبًا في ذلك، فيكون له نصيبٌ كما قال -جل وعلا-:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وقال -جل وعلا-: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] فهم ينالون إثمهم وإثم غيرهم الذين كانوا سببًا في إضلالهم.
وفي صحيح مسلم عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1] وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»
(1)
(1)
صحيح مسلم (1017)
وفيه عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»
(1)
كتاب الإنسان وصحيفته يوم القيامة:
ويقول الله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)} [الإسراء]. وهذا من عدله سبحانه أنه إذا حاسب العبادَ يوم القيامة أخرج لكلٍّ كتابَه؛ ليقرأه سواء كان يقرأ في الدنيا أو لا يقرأ، فيخرج إليه الكتاب:{يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء] وهو كتابٌ شاملٌ؛ فكلُّ ما عمله يجده فيه. {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف] وقال قبل ذلك عن الكفار أنهم يقولون: {يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} .
تطاير الصحف:
قال الإمام البيهقي رحمه الله: قَالَ اللهُ عز وجل: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء]،
وَقَالَ عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الإنفطار]،
وَقَالَ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18]،
(1)
صحيح مسلم (2674)
وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} [الجاثية]
وَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ كُتُبَهُمْ يَقُولُونَ: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]،
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)} [الحاقة] .. (وقال تعالى): {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الإنشقاق]؛ قال: وَإِذْ وَقَفَ النَّاسُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي يُؤْتُونَها حُوسِبُوا بِهَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَاللهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا بُعِثُوا لَا يَكُونُونَ ذَاكِرِينَ لِأَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ اللهَ عز وجل قَالَ:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]؛ فَإِذَا ذَكَرُوهَا وَوُقِفُوا عَلَيْهَا حُوسِبُوا عَلَيْهَا ا. هـ
(1)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ سَعَادَةِ مَنْ أَوُتِيَ كِتَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيَمِينِهِ، وَفَرَحِهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ يَقُولُ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَهُ:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} أَيْ: خُذُوا اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي فِيهِ خَيْرٌ وَحَسَنَاتٌ مَحْضَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ بَدل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ حديثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ سُئِلَ عَنِ النجوى، فقال: سمعت النبي الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُدْنِي اللهُ العبدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فيُقَرِّره بِذُنُوبِهِ كُلِّهَا،
(1)
شعب الإيمان (1/ 417)
حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ اللَّهُ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. ثُمَّ يُعطَى كتابَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ،
…
الحديث»
(1)
ا. هـ
(2)
وقال رحمه الله: في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)} الآيات [الحاقة]: وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ إِذَا أُعْطِيَ أَحَدُهُمْ كِتَابَهُ فِي العَرَصات بِشَمَالِهِ، فَحِينَئِذٍ يَنْدَمُ غَايَةَ النَّدَمِ، {فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)} قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي مَوْتَةً لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا. وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَمَنَّى الْمَوْتَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ فِي الدُّنْيَا أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِنْهُ. {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)} أَيْ: لَمْ يَدْفَعْ عَنِّي مَالِي وَلَا جَاهِي عذابَ اللَّهِ وبَأسه، بَلْ خَلَص الْأَمْرُ إليَّ وَحْدِي، فَلَا مُعِينَ لِي وَلَا مُجِيرَ .... إلخ
(3)
. وقوله تعالى في سورة الإنشقاق: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)} أَيْ: بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، تُثْنى يَدُهُ إِلَى وَرَائِهِ وَيُعْطَى كِتَابَهُ بِهَا كَذَلِكَ.
-نسأل الله السلامة والعافية-
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها:
ومن عدل الله وتفضُّلِه ورحمتِه بعباده المؤمنين أنَّ المؤمن يجد في كتاب حسناتِه الحسناتِ المضاعفاتِ التي وعد الله عز وجل بها. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] وهذا من رحمة الله.
مضاعفة الصَّدقات:
قال الله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [التغابن: 17] وكما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الصدقة فإن المؤمن إذا «تَصَدَّقَ
(1)
تقدم (ص: 24)
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 213).
(3)
المرجع السابق (8/ 215).
بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ-أي: فرسه الصغير-حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ»
(1)
.
مضاعفة الحرف في تلاوة القرآن:
ومما يضاعف: تلاوتك لكتاب الله؛ فإنَّ من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ {الم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»
(2)
وكان ابن مسعود صلى الله عليه وسلم يقول: «تَعَلَّمُوا هَذَا الْقُرْآنَ فَإِنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ بِتِلَاوَتِهِ بِكُلِّ
حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ بِـ {الم} ، وَلَكِنْ بِأَلِفٍ، وَلَامٍ، وَمِيمٍ، بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ»
(3)
يُبدِّل الله السيئاتِ حسناتٍ للتائبين:
ويخبرنا ربنا أنه يتفضَّل على من يشاء من عباده، فيُبدِّل سيئاتهم حسناتٍ، فيجدون ذلك في كتاب حسناتهم يوم القيامة حينما يلقَوا ربهم -جل وعلا-. كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ
(1)
أخرجه البخاري (1410)، ومسلم (1014) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الترمذي (2910) من طريق مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيَّ قالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يَقُولُ فذكره وقوله في الإسناد (سمعت عبد الله بن مسعود)، قال البخاري في التاريخ الكبير (1/ 216): لا أدري حفظه أم لا ا. هـ وجزم الحافظ في التقريب وفي الإصابة ط هجر (10/ 522) أنه ولد عام أربعين. يعني بعد وفاة ابن مسعود رضي الله عنه بسنين، فإنه توفي عام (32 هـ). واختلف فيه على ابن مسعود رضي الله عنه في رفعه، فرواه أبو الأحوص عن ابن مسعود موقوفا، رواه الدارمي (3351). واختلف فيه على أبي الأحوص أيضا، والصواب وقفه؛ رواه شعبة -كما في التفسير من سنن سعيد بن منصور (1/ 35) -، والثوري -كما في سنن الدارمي (3351)، ورسالة الرد على من يقول الم حرف لابن منده (ص: 44) من طريقين عنه- وحماد بن زيد -كما في معجم الطبراني الكبير (9/ 130 رقم 8648) - عن عطاء بن السائب عن أبي الأحوص به موقوفا. وللحديث أسانيد عدة رفعا ووقفا. ولا يخفى أن الموقوف له حكم الرفع فمثله مما لا يقال بالرأي. والله أعلم. والحديث حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (660، 3327).
(3)
سنن الدارمي (3351) وانظر التعليق السابق.
صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ. لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَا هُنَا»
(1)
.
وهذا هو العرض الذي هو الحساب اليسير الذي يكون للمؤمن يوم القيامة.
إقامة الشهود على العباد:
ومن عَدْلِ الله في الحساب يوم القيامة أنه يُقِيمُ الشهودَ على الكفرة والمنافقين وعلى العصاة والمجرمين، نسأل الله العفو والعافية.
شهادة السمع والبصر والجلود:
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)} [فصلت]. فالله سبحانه يقيم عليهم الحجة يوم القيامة.
ولما يحاسب الله عز وجل الناسَ يوم القيامة، فينكر بعضُهم عملَه الذي عمل، ينطق الله أعضاءه بالشهادة ويقطع عليه الحجة. كما في صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ، فَقَالَ:«هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟» قَالَ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، قَالَ فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ»
(2)
(1)
أخرجه مسلم (190).
(2)
رواه مسلم (2969) وابن حبان (7358) ووهم الحاكم فاستدركه (8778) وقال على شرط مسلم ولم يخرجاه! ا. هـ
وفيه أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
…
فَيَلْقَى -أي اللهُ تعالى- الْعَبْدَ، فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي،
…
-فذكر الحديث ثم قال في الثالث-، فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ، وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ، وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: هَاهُنَا إِذًا، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللهُ عَلَيْهِ»
(1)
وهكذا يقطع الله عز وجل الحجة والعذر عن الناس جميعًا وعن كل مكابر فيقيم الله عز وجل عليهم الحُجَّة، ويُظهِر يوم القيامة عدلَه. «
…
وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ»
(2)
شهادة الأنبياء:
أولُ من يشهد على الأمم الرسلُ والأنبياءُ، فيشهد كلُّ رسول على أمته بالبلاغ. كما قال ربنا -جل وعلا-:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء]
ويقول سبحانه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89].
(1)
رواه مسلم (2968)
(2)
تقدم قريبا
أمة محمد تُصدِّق الأنبياء:
وأخبرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن أمة محمد تشهد للأنبياء يوم القيامة كما قال ربنا سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].
وخرَّج البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُدْعَى نُوحٌ يَومَ القِيامَةِ، فيَقولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ يا رَبِّ، فيَقولُ: هلْ بَلَّغْتَ؟ فيَقولُ: نَعَمْ، فيُقالُ لِأُمَّتِهِ: هلْ بَلَّغَكُمْ؟ فيَقولونَ: ما أتانا مِنْ نَذِيرٍ، فيَقولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فيَقولُ: مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أنَّه قدْ بَلَّغَ: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] فَذلكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]»
(1)
.
الأرض تشهد:
وقال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} [الزلزلة]. أَيْ: تُحَدِّثُ بِمَا عَمِلَ الْعَامِلُونَ عَلَى ظَهْرِهَا. قال مُجَاهِد والثوري وغيرهما: «تُحَدِّثُ بِأَخْبَارِ النَّاسِ بِمَا عَمِلُوا عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ»
(2)
. وقد روى الترمذي -بسند ضعيف- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وقال: فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا»
(3)
(1)
أخرجه البخاري (4487).
(2)
انظر: تفسير مجاهد (ص 742) وتفسير عبد الرزاق (3/ 450) رقم (3674) و «تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر» (24/ 561)، وتفسير ابن كثير - ت السلامة (8/ 460)
(3)
أخرجه الترمذي (2429، 3353) من طريق سعيد بن أبي أيوب، عن يحيى بن أبي سليمان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب ا. هـ ويحيى بن أبي سليمان، لين الحديث -كما في التقريب، وقال البخاري منكر الحديث. ورواه رشدين بن سعد، -وهو ضعيف- عن يحيى بن أبي سليمان، عن أبي حازم، عن أنس به رواه البيهقي في شعب الإيمان» (9/ 420 ط الرشد). وهذا منكر. قال البيهقي: فهذا -أي رواية بن أبي أيوب- أصح من رواية رشدين بن سعد ورشدين بن سعد ضعيف.
وروى الطبراني عن ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيَّ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اسْتَقِيمُوا وَنِعِمَّا إِنِ اسْتَقَمْتُمْ، وحَافِظُوا عَلَى الْوُضُوءِ، فَإِنَّ خَيْرَ عَمَلِكُمُ الصَّلَاةُ، وتَحَفَظُّوا مِنَ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ عَامِلٍ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلَّا وَهِي مُخْبِرَةٌ»
(1)
ورُوي عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَرْثَدٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءٍ رضي الله عنه: «اذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ حُجَيْرَةٍ وَشُجَيْرَةٍ لَعَلَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَشَهَّدُ لَكُمْ»
(2)
شهداء آخرون:
وقد روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه، قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ:«لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(3)
(4)
وفي سنن الترمذي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا»
(5)
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (5/ 65) رقم (4596) وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وقال المنذري:"وربيعة الجُرَشي مختلف في صحبته، وروى عن عائشة وسعد وغيرهما، قتل يوم (مرج راهط) ". والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (138).
(2)
أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1/ 388) وأبو الشيخ في العظمة (5/ 1713) وسنده ضعيف، ثم هو منقطع، يزيد لم يدرك أبا الدرداء.
(3)
أخرجه البخاري (609).
(4)
أخرجه الحميدي (749) وفي سنن ابن ماجه (723) نحوه
(5)
أخرجه الترمذي (828) وابن ماجه (2921) وصححه ابن خزيمة (2634) والحاكم في المستدرك (1656) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ا. هـ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1134) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1353) وقول الحاكم على شرطهما فيه نظر: فإن الحديث من طريق عبيدة بن حميد -ولم يرو له مسلم-، قال: حدثني عمارة بن غزية - وهو من رجال مسلم وأما البخاري فقال الحافظ (1/ 215) اسْتشْهد بِهِ فِي كتاب الزَّكَاة-، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد.
شهادة الليالي والأيام:
ورُوي بسند لا يصح عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، رضي الله عنه مرفوعا:«لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ إِلا يُنَادَى فِيهِ: يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا خَلْقٌ جَدِيدٌ، وَأَنَا فِيمَا تَعْمَلُ فِيهِ عَلَيْكَ شَهِيدٌ، فَاعْمَلْ فِيَّ خَيْرًا أَشْهَدُ لَكَ بِهِ غَدًا، فَإِنِّي لَوْ قَدْ مَضَيْتُ لَمْ تَرَنِي أَبَدًا، قَالَ: وَيَقُولُ اللَّيْلُ مِثْلَ ذَلِكَ»
(1)
والصحيح أنه من قول بعض السلف
(2)
.
فقد روى ابن أبي الدنيا عَنِ الْحَسَنِ البصري أنه قَالَ: " لَيْسَ يَوْمٌ يَأْتِي مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِلَّا يَتَكَلَّمُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَأَنَا عَلَى مَنْ يَعْمَلُ فِيَّ شَهِيدٌ، وَإِنِّي لَوْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ لَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
(3)
.
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زُبَيْدٍ الْإِيَامِيِّ، قَالَ: لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يُنَادِي: أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ. ابْنَ آدَمَ إِنِّي لَمْ أَقَرَّ بِكَ أَبَدًا، فَاتَّقِ اللَّهَ، وَاعْمَلْ فِيَّ خَيْرًا، فَإِذَا هُوَ أَمْسَى قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا أَبَدًا
(4)
.
وقال ابْنُ أَبِي خَالِدٍ: سَمِعْتُ أَبَا عِيسَى يَحْيَى بْنَ رَافِعٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} [ق] قَالَ: «سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ»
(5)
(1)
أخرجه ابن سمعون الواعظ في أماليه (226) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 303) والقزويني في التدوين في أخبار قزوين (2/ 93) وهو موضوع، كما في السلسلة الضعيفة (5649، 6976)
(2)
انظر: «تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة» (1/ 106) للشيخ محمد عمرو عبد اللطيف.
(3)
الزهد (424)، وكلام الليالي والأيام كلاهما لابن أبي الدنيا (22)
(4)
الزهد (408)، وكلام الليالي والأيام كلاهما لابن أبي الدنيا (6)
(5)
أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق (2/ 106) -ومن طريقه الدولابي في الكنى والأسماء (1410) -، وعبد الرزاق في تفسيره (2955) عن معتمر بن سليمان التيمي، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 211) رقم (35421) عن وكيع ويزيد بن هارون، وأبو داود في الزهد (101) عن خالد الواسطي والطبري في تفسيره ط هجر (21/ 429) عن مهران وحكام الرازيين، كلهم عن ابن أبي خالد به. ويحيى بن رافع مجهول، ذكره ابن حبان في ثقاته ولم يوثقه معتبر، وليس له راو إلا ابن أبي خالد. ورواه البيهقي في البعث والنشور (286) من طريق شَيْبَان، حدثني إسماعيلُ بنُ أَبي خَالِد، عن حَكِيم بْنِ جَابِرٍ قال: قال عُثْمانُ
…
فذكره. وحكيم وثقه ابن سعد وابن معين والنسائي والعجلي.
أربعٌ يُسأَل عنها المرءُ يومَ القيامة:
كلُّ عملٍ عَمِلَهُ الإنسانُ يُسأل عنه يوم القيامة، كما في حديثِ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ»
(1)
. فالذي يتأمل هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم يجد في نفسه حاجة لأن يقف وقفة عظيمة؛ لينظر إلى أعماله التي عملها والتي سيُسأَل عنها يوم القيامة.
سؤال العبد عن النعيم والماء البارد:
ويسأل العباد أيضًا عن النعيم الذي يتنعمون به. قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، النحل: 18]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في جامع الترمذي وغيره:
(1)
سنن الترمذي (2417) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قلت: وفي سنده سعيدُ بن عبد الله بن جُرَيْج راويه عن أبي برزة، قال أبو حاتم مجهول، وقال الذهبي في تاريخه: مجهول العدالة لم يضعف. واختار الحافظ أنه: صدوق. كما في التقريب. وهو الأقرب فقد روى عنه جماعة وصحح له الترمذي وذكره ابن حبان في الثقات. فالحديث حسن من هذا الوجه .. وله شاهد صالح موقوف، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه رواه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 60/ 111) مرفوعا وسنده ضعيف، وصحح الدارقطني وقفه كما في العلل (6/ 47) والموقوف رواه الدارمي (556) وغيره من طريق ليث ابن أبي سليم عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ:«لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا وَضَعَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ» وروي من حديث عبد الله بن مسعود، رواه الترمذي (2416) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ
…
وقال: وَحُسَيْنُ بْنُ قَيْسٍ يُضَعَّفُ فِي الحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ ا. هـ قلت: حسين متروك كما في التقريب. وفي الباب أيضا عن عبد الله بن عباس -رواه الطبراني في الكبير (11/ 102/ 11177)، وأبي الدرداء، رواه الطبراني في الأوسط (4710)، وعن أبي سعيد رواه ابن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (847) وعن جابر -رواه الدارقطني ومن طريقه الخطيب في «المتفق والمفترق» (1340)، وعن أبي ذر -رواه ابن عساكر (42/ 259) -وأسانيدها لا تصلح للاستشهاد. وانظر: السلسلة الصحيحة (946).
(1)
.
فهذا الماء الذي تشربه رقراقًا جميلًا باردًا يأتيك صافيًا نقيًّا تُسأَل عنه يوم القيامة، وتسأل عن هذه النعم التي أنعم الله عز وجل بها عليك.
جاء رجلٌ إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال له: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله بن عمرو: ألك امرأةٌ تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإنَّ لي خادمًا. قال: فأنت من الملوك
(2)
.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ»
(3)
.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى اللهَ، وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى اللهَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النِّعَمِ»
(4)
. فهذا من النعيم الذي يُسأَلُ عنه يوم القيامة.
يسأل عن العهود والمواثيق:
ويسأل الله عز وجل عبادَه عن العهود والمواثيق التي كانت عليهم، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)} [الأحزاب].
يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده:
ويحاسبون على سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم، كما قال -جل وعلا-:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء].
(1)
أخرجه الترمذي (3358) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال هذا حديث غريب. وصححه ابن حبان (7364) والحاكم (7203) ووافقه الألباني في الصحيحة (539)
(2)
رواه مسلم (2979).
(3)
أخرجه البخاري (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه أحمد (23158)، وابن ماجه (2141) والبخاري في الأدب المفرد (301)، من حديث عم عبد الله بن خبيب الجهني، واسمه عبيد بن معاذ رضي الله عنه كما في التقريب وأصله تبعا لابن منده في المعرفة-. والحديث صححه الحاكم (2131) ووافقه الألباني في الصحيحة (174) وقال الحاكم: الصَّحَابِيُّ الَّذِي لَمْ يُسَمِّهِ هُوَ يَسَارُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْجُهَنِيُّ ا. هـ فالله أعلم ولم أجد في الإصابة لابن حجر "يسارا" هذا.
يقول قتادة في تفسير هذه الآية: "لا تقل رأيتُ ولم تر، وسمعتُ ولم تسمع، فإن الله تبارك وتعالى سائُلك عن ذلك كلِّه"
(1)
.
ويقول الحافظ ابن كثير: "ومضمونُ ما ذكروه: أنَّ الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التَّوهُّم والخيال"
(2)
أول ما يحاسب عليه المرء من عمله صلاته:
أخبرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما في سنن النسائي - عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:«أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قَالَ اللَّهُ عز وجل: انْظُرُوا لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ وُجِدَ لَهُ تَطَوُّعٌ. قَالَ: أَكْمِلُوا بِهِ الْفَرِيضَةَ»
(3)
ورواه الإمام أحمد عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَتَمَّهَا كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّهَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتُكْمِلُوا بِهَا فَرِيضَتَهُ؟ ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ»
(4)
وروى دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنْ أَتَمَّهَا وَإِلَّا قِيلَ: انْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ،
(1)
تفسير ابن جرير الطبري (14/ 594).
(2)
تفسير ابن كثير (5/ 75).
(3)
أخرجه النسائي (467) عن النضر بن شميل، والبزار (9566) عن عبد الملك الجدي كلاهما قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن يحيى به. ورجاله ثقات. واختلف فيه على حماد خلافا لا يضر، -كما سيأتي في الذي بعده-. وقد رواه أبو داود (864) من طريق يُونُس بن عبيد، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ حَكِيمٍ الضَّبِّيِّ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ يُونُسُ: وَأَحْسَبُهُ ذَكَرَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلَاةُ» ،
…
» الحديث، وأنس الضبي مجهول. واختلف في سنده كثيرا ورجح الدارقطني في العلل (8/ 248) هذا الطريق عن الحسن.
(4)
أخرجه أحمد (16614، 16949) قال: حدثنا الحسن بن موسى ورواه ابن أبي شيبة (36008) قال حدثنا عفان، والمروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (186) عن أبي الوليد، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2552) عن عبيد الله بن محمد التيمي كلهم (عفان، والحسن بن موسى، وأبو الوليد، والتيمي) عن حماد عن الأزرق بن قيس، عن يحيى به. وجهالة الصحابي لا تضر، وقد سمي في رواية النسائي. تنبيه: وعن عفان رواه أحمد أيضا (20692) لكنه وقفه. ورفعه هو صحيح. وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (557).
فَأُكْمِلَتِ الْفَرِيضَةُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكْمُلِ الْفَرِيضَةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَطَوُّعٌ أُخِذَ بِطَرَفَيْهِ فَقُذِفَ بِهِ فِي النَّارِ» وهذا موقوف -على الصحيح- وله حكم الرفع.
(1)
وهكذا الزكاة والحج والصيام يسأل عنها العبد، فيسأل عن الفرائض، ويسأل عن أعماله الصالحة التي عملها وعن توحيده وعن إخلاصه.
الدعاء بـ (اللهم حاسبني حسابا يسيرا)
-نسأل الله -جل وعلا- أن يجعل حسابنا حسابًا يسيرًا-. وأن يجعلنا ممن قال فيهم عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الإنشقاق]. وقد رُوِيَ في المسندِ وغيرِه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو فيقول: «اللهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا»
(2)
. وتقول عائشةُ رضي الله عنها: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ» ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} ، قَالَتْ: فَقَال: «إِنَّمَا ذَلِكِ العَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِك»
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 171/ 7771، و 6/ 170/ 30424) قال حدثنا هشيم، وفي (6/ 170/ 30422، و (7/ 262/ 35904) قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ " -ومن طريق يزيد رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 541) -؛ ورواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (191، 192) عن خالد الواسطي، وعن بشر بن المفضل. كلهم عن داود به موقوفا. وتابعهم الثوري، وحفص بن غياث. قاله البيهقي. وخالفهم حماد بن سلمة فرواه عَنْ دَاوُدَ به مرفوعا. رواه أبو داود (866) وابن ماجه (1426) والدارمي (1395) وغيرهم. قَالَ الدارمي: " لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ غَيْرَ حَمَّادٍ. ا. هـ وقال البيهقي: رَفَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَوَقَفَهُ غَيْرُهُ ا. هـ
(2)
أخرجه أحمد (24215) من حديث عائشة رضي الله عنها. وهو في صحيح ابن خزيمة (849)، وصحيح ابن حبان (7372) ومستدرك الحاكم (190، 936، 7636) وصححه على شرط مسلم، وفيه نظر، فإنه من طريق محمد بن إسحاق بن يسار، وهو ممن روى له مسلم متابعة. والحديث جود إسناده العلامة الألباني في أصل صفة الصلاة (3/ 1008). وأعله محققوا المسند بتفرد محمد بن إسحاق بهذه الجملة، فالحديث توبع فيه محمد بن إسحاق دون هذه الزيادة فقد رواه الإمام أحمد (42/ 333) من طريق عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير -وهو شيخ ابن إسحاق- بسنده عن عائشة، دون ذكر زيادة ابن إسحاق. وعبد الواحد أوثق من ابن إسحاق.
(3)
تقدم في المجلس الحادي والعشرين.
التعوُّذ من ضيق المقام
كان النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح الصلاة في قيام الليل يُكَبِّرُ عَشْرًا، وَيَحْمَدُ عَشْرًا، وَيُسَبِّحُ عَشْرًا، وَيُهَلِّلُ عَشْرًا، وَيَسْتَغْفِرُ عَشْرًا، وَيَقُولُ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
،
وفي رواية: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الضِّيقِ يَوْمَ الْحِسَابِ»
(2)
.
أَيْ منْ شَدَائِدَ أَحْوَالِه وَسَكَرَاتِ أَهْوَالِه {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6]. قال ابن كثير: أَيْ: يَقُومُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرلا فِي مَوْقِفٍ صَعْبٍ حَرج ضَيِّقٍ ضنَك عَلَى الْمُجْرِمِ، وَيَغْشَاهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ-مَا تَعْجزُ الْقُوَى وَالْحَوَاسُّ عَنْهُ ا. هـ
(3)
المراؤون أول من تسعر به النار
وتأملوا ما جاء في شأن أولئك الذين يحاسبهم الله -جل وعلا- على أعمالهم التي عملوها لغير الله، قرؤوا القرآن لغير الله، تصدقوا لغير الله، جاهدوا لغير الله، فيناقَشُون الحساب يوم القيامة، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه:«يُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ. وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ. وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ»
(4)
، فهذا ممن يناقش الحساب يوم القيامة، ولا يغفر الله عز وجل له، ويأمر الله عز وجل به، فيُسحَب إلى نار جهنم، -نسأل الله السلامة والعافية-.
(1)
أخرجه أبو داود (766) والنسائي (1617) واللفظ له،، وابن ماجه (1356) من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (742) وفي الصحيحة تحت الحديث (3338)
(2)
أخرجه أحمد (25102)، والنسائي في الكبرى (10640)، والطبراني في الأوسط (8/ 210) برقم (8427) من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في أصل صفة الصلاة (1/ 267)
(3)
تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 347)
(4)
أخرجه مسلم (1905)، والترمذي (2382) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
بعض ما قيل من الشعر في الحساب:
وأَنْشَدُوا في هذا الموقف العظيم موقفِ الحساب ما نُقِلَ عن بعضهم أنه قال:
مَثِّل وقوفَكَ يومَ العَرْض عُرْيانَا
…
مستوحِشًا قَلِقَ الأحشاءِ حيرانَا
والنارُ تلهبُ من غيظٍ ومن حَنَقٍ
…
على العُصاةِ وربُّ العرشِ غضبانَا
اقرأْ كتابَك يا عبدي على مَهَلٍ
…
فهل ترى فيه حرفًا غيرَ ما كانَا
لما قرأْتَ ولم تُنْكِر قراءتَه
…
إقرارَ من عرف الأشياء عِرفانَا
نادى الجليلُ: خذوه يا ملائكتي
…
وامضُوا بعبدٍ عصى للنارِ عطشانَا
المشركون غدًا في النار يلتهبوا
…
والمؤمنون بدارِ الخُلْدِ سُكَّانَا
(1)
فيا إخواني في الله مَنْ عَلِمَ وآمَنَ حقًّا بأنه سيقف غدًا بين يدي الله وأنَّ الحساب حقٌّ؛ فإن ذلك يزجره عن الوقوع فيما حرَّم الله، ويزجره عن ظلم الناس، ويزجره عن ظلم نفسه، ويجعله يجتهد في الإصلاح، ويجتهد في أن يكون عبدًا صادقًا في دنياه، يعبد الله على بصيرة، ويريد وجه الله سبحانه، فعليكم بإخلاص العمل لله والجد والاجتهاد في إصلاح الأعمال؛ فإن العمل الصالح هو الذي يؤنسك في قبرك، وهو الذي ينفعك يوم القيامة، فيكون لك شفيعًا عند الله سبحانه.
أسأل الله أن يجعل حسابنا حسابًا يسيرًا،
ونعوذ به من سوء الحساب يوم القيامة،
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
الأبيات أوردها القرطبي في التذكرة (ص: 620) ولم ينسبها لقائل
JIH
الإيمان
باقتصاص المظالم
يوم القيامة
F e
المجلس الحادي والثلاثون
(1)
اقتصاص المظالم:
ومما يدخل في باب الإيمان باليوم الآخر ما أخبرنا الله عز وجل عنه مما يكون يوم القيامة من اقتصاص المظالم بين الخلق يوم القيامة، فيقتص بعضهم من بعض.
يوم القيامة يوم الفصل:
فالله -جل وعلا- الحكم العدل سمَّى يوم القيامة بيوم الفصل، قال -جل وعلا-:{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)} [النبأ: 17]
هذا اليوم يُفصَل فيه بين الناس، ويقتص فيه للمظلوم من الظالم، وتحيط بالظالم المظالم، وتصعد القلوب إلى الغلاصم، وليس لمن لا يرحمه الإله عاصم. وتعاد الحقوق إلى أهلها، فيَقتَصُّ الحكمُ العدلُ للمظلوم من ظالمه حتى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة
حتى الحيوان يُقتَصُّ لبعضهم من بعض كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»
(2)
إنه موقفٌ عظيمٌ، وهذا -واللهِ- ليستدعي من المؤمن أن يقف وقفة عظيمة مع نفسه ويحاسب النفس؛ ليتخلَّص من كل المظالم.
حديث أتدرون من المفلس؟
وحينما نتحدث عن هذا الأمر العظيم يتراءى لنا الحديث المشهور المعروف عند العلماء بحديث المفلس وهو ما أخرجه الإمام مسلم والترمذي وغيرهما من حديث أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومًا: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ» ؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(1)
كان في يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر شوال من عام 1441 هـ.
(2)
تقدم في المجلس السادس والعشرين.
(1)
.
تأملوا سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، -فلم يسألهم إلا ليعلمهم ويخبرهم، وفيه تعليم للأمة كلها- «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ» ؟ فأجابوا بهذا الجواب الذي هو معروف، وفيه بيانٌ للمفلس في حقيقة حال الناس في الدنيا، وهو من لا درهم عنده ولا متاع. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم:«أنَّ الْمُفْلِسَ» على الحقيقة من يأتي وقد صلَّى وقَبِلَ الله صلاتَه وزَكَّى وقَبِلَ اللهُ زكاته وصام وقَبِلَ اللهُ صيامه وعنده حج وذكر وطاعة، لكن:«وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا» -فمع أنه مُصَلٍّ وصائم وقائم ومن أهل التوحيد، لكنه جاء بهذه المظالم التي مات ولم يتحلَّلْ منها ولم يتب إلى الله عز وجل منها فماذا يُصنَع به؟ قال صلى الله عليه وسلم:«فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» . نسأل الله السلامة والعافية. وهذه-واللهِ-من أعظم الحسرات.
من الذي يَأخُذُ حسناته؟ ربما مَنْ كان يبغضه في الدنيا، أو مَنْ كان لا يأبه به واستضعفه، فلم يكن له وزنٌ عنده في الدنيا، فيأتي يوم القيامة، فيأخذ حقَّه من صاحبه، ولو كان أفقرَ الناس في الدنيا، ولو كان وضيعًا في نسبه أو حسبه أو غير ذلك في الدنيا، لكنه يأتي يوم القيامة، فيقول: يا رب خذ لي حقي من فلان، ولو كان فلانٌ هذا ملكًا أو رئيسًا أو وجيهًا أو مديرًا أو ذا مال أو جاهٍ في دنياه؛ فإنَّ كل ذلك يسقط يوم القيامة، ويقف الناس أجمعون بين يدي الله سواسية لا فرق إلا بالتقوى فينتصف للمظلوم من ظالمه.
(1)
أخرجه مسلم (2581) والترمذي (2418) واللفظ له.
التحلُّل من أصحاب المظالم في الدنيا:
وقد نصح نبيُّنا صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، وبين لنا المخرج من هذه المظالم. كما في صحيح الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ»
(1)
.
لا يتقاضى الناس بالدراهم والدنانير يوم القيامة، ولو كان تقاضيهم بهذه الأموال لكان الأمر هيِّنًا، ولكنها الحسنات والسيئات، فهذه الحسنات التي عملتها في الدنيا وتعبت عليها وقبلها الله عز وجل منك وسررت بها يأخذها أناس يوم القيامة مقابل مظلمتهم، فكيف ستكون الحسرة عند الإنسان يوم القيامة؟!
وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ» يعني يوم القيامة. وفي رواية: «
…
وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَيْسَ بِالدِّينَارِ وَلَا بِالدِّرْهَمِ، وَلَكِنَّهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ
…
»
(2)
إنها المظالم التي تُقتَصُّ من أصحابها في ذلك اليوم!! نسأل الله العفو والعافية.
وروي عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يكذبونني وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا، لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الفَضْلُ» فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى
(1)
أخرجه البخاري (2449)
(2)
أخرجه ابن ماجه (2414) وهو في صحيح الترغيب والترهيب (1803) والرواية الثانية رواها أحمد (5385) والحاكم (2222) ووقع عنده (بن عمرو) وهو خطأ. ورجح الأئمة الوقف في الحديث. انظر: علل الدارقطني (2992) المسند المصنف المعلل (15/ 429)
بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء]» فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَهُمْ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ
(1)
.
وتقدم حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: -فذكر الحديث وفيه- «
…
وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ» قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عز وجل عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ»
(2)
الظلم ظلمات يوم القيامة:
وجاء أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(3)
.
والظلم ليس مقتصرا على أخذ مال الغير بغير حق فحسب بل يشمل هذا وغيره من حقوق الآدميين. ومنه مبارزة الله بالمعاصي فإنه من ظلم المرء لنفسه. وقد بيَّن لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطره فقال: «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه
(4)
.
المقتول ظلمًا يطلب حقَّه يوم القيامة:
بيَّنَ لنا النبي صلى الله عليه وسلم عِظَمَ شأن الدماء والقتل بغير حق. كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لِي. وَيَجِيءُ الرَّجُلُ
(1)
أخرجه الترمذي (3165) وأحمد (26401) وغيرهما. والحديث تفرد به قراد أبو نوح وهو عبد الرحمن بن غزوان، وعده العلماء من أوهامه. انظر: المسند المصنف المعلل (38/ 340) وتحقيق المسند (43/ 407).
(2)
تقدم (ص: 142).
(3)
أخرجه البخاري (2447)، ومسلم (2579).
(4)
أخرجه مسلم (2578).
آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ، فَيَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِفُلَانٍ فَيَبُوءُ بِإِثْمِهِ»
(1)
.
وهذا المقتول يأتي يوم القيامة ورأسُه بين يديه ينادي ربَّه: «يَا رَبِّ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟» . كما في جامع الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَجِيءُ المَقْتُولُ بِالقَاتِلِ يَوْمَ القِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ، قَتَلَنِي هَذَا، [وفي رواية: يَا رَبِّ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟] حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنَ العَرْشِ» . قَالَ: فَذَكَرُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، التَّوْبَةَ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]»
(2)
.
وهذا من باب تعظيم حرمة قتل المسلمين وإراقة الدماء بغير حق. وإلا فالصحيح أن من تاب، تاب الله عليه.
وفي سنن النسائي من حديث جندب رضي الله عنه قال: حدثني فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: [يَا رَبِّ] سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ عَلَى مُلْكِ فُلَانٍ» . قَالَ جُنْدُبٌ: فَاتَّقِهَا
(3)
. وهذا يدُلُّ على عِظَمِ أمر الدم.
أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء:
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في الدِّمَاءِ»
(4)
.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث عِظَمُ أَمْرِ الدم؛ فإنَّ البَدَاءة إنما تكون بالأهم، والذنبُ يَعظُم بحسب عِظَمِ المفسدةِ وتفويتِ المصلحة، وإعدامُ البنية الإنسانية غايةٌ في ذلك، وقد ورد في التغليظ في أمر القتل آيات كثيرة وآثار شهيرة"
(5)
.
(1)
أخرجه النسائي (3997) وهو في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1910)
(2)
أخرجه الترمذي (3029) وأحمد (3445). وهو في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1911)
(3)
أخرجه النسائي (3998) وأحمد (16600). وهو في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1909)
(4)
أخرجه البخاري (6533)، ومسلم (1678).
(5)
فتح الباري (11/ 397).
تعظيم أمر الدماء:
قلت: ولهذا لم يأتِ في النصوص الشرعية في الكبائر مثلما جاء في أمر القتل بغير حق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
(1)
.
قال الحافظ في الفتح: قَوْلُهُ «فِي فُسْحَةٍ»
…
أَيْ سَعَةٍ قَوْلُهُ «مِنْ دِينِهِ» كَذَا لِلْأَكْثَرِ
…
وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ «مِنْ ذَنْبِهِ» فَمَفْهُومُ الْأَوَّلِ أَنْ يَضِيقَ عَلَيْهِ دِينُهُ فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْوَعِيدِ عَلَى قَتْلِ الْمُؤْمِنِ مُتَعَمِّدًا بِمَا يُتَوَعَّدُ بِهِ الْكَافِرُ وَمَفْهُومُ الثَّانِي أَنَّهُ يَصِيرُ فِي ضِيقٍ بِسَبَبِ ذَنْبِهِ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِبْعَادِ الْعَفْوِ عَنْهُ لاستمراره فِي الضّيق الْمَذْكُور وَقَالَ ابن الْعَرَبِيِّ الْفُسْحَةُ فِي الدِّينِ سَعَةُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْقَتْلُ ضَاقَتْ لِأَنَّهَا لَا تَفِي بِوِزْرِهِ وَالْفُسْحَةُ فِي الذَّنْبِ قَبُولُهُ الْغُفْرَانَ بِالتَّوْبَةِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْقَتْلُ ارْتَفَعَ الْقَبُولُ وَحَاصِله أَنه فسره على رَأْي ابن عُمَرَ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ ا. هـ
(2)
ومما يدل على عظمة هذا الذنب: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ - يَوْمَ عَرَفَةَ -: فَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا،
…
» ثم قال: «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
(3)
.
ثم خطب الناس يوم النحر فأعاد عليهم مقالته هذه في حرمة الدماء: كما في حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أنه ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ - أَوْ بِزِمَامِهِ - قَالَ:«أَيُّ يَوْمٍ هَذَا» ، فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، قَالَ:«أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:«فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا» فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ:«أَلَيْسَ بِذِي الحِجَّةِ» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ،
(1)
أخرجه البخاري (6862)
(2)
فتح الباري (12/ 188)
(3)
رواه مسلم (1218) عن جابر رضي الله عنه وفي الباب عن العداء بن خالد رواه أحمد (20336) وانظر الحديث الآتي.
كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ»
(1)
.
ثم خطب الناس في أوسط أيام التشريق فأعاد عليهم مقالته هذه في حرمة الدماء: فَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ:
…
«أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» ، قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ:«أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» ، قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» ، قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
…
» ـ قَالَ: - وَلَا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ، أَمْ لَا-ـ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَلَّغْتُ»، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ:«لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»
(2)
قال ابن حبان: فهذا بيانه صلى الله عليه وسلم للناس مؤكدًا مبينًا قَبْلَ أن يقبضه الله -جل وعلا- إِلَى جَنَّتِهِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ.
(3)
الجمع بينه وبين حديث «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاتُه» :
وقوله في الحديث السابق: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِى الدِّمَاءِ» ، لا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:«أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ»
(4)
.
(1)
رواه البخاري في مواضع أولها (67) ومسلم (1679). وهو حديث متواتر رواه جماعة من الصحابة منهم: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما رواه البخاري (1739)، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما رواه البخاري (1742) ومسلم مختصرا (66) وعمرو بن الأحوص رضي الله عنه رواه الترمذي (2159) وابن ماجه (3055) وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه رواه ابن ماجه (3931) والحارث بن عمرو السهمي رضي الله عنه رواه أحمد (15972) وأبي الغادية الجهني رضي الله عنه رواه أحمد (16699) ونُبَيْطُ بْنُ شَرِيطٍ رضي الله عنه رواه أحمد (18722) وحذيم بن عمرو السعدي رضي الله عنه رواه أحمد (18966). وعم أبي حرة الرقاشي رضي الله عنه رواه أحمد (20695) ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -غير مسمى-، رواه أحمد (23497) وعمار بن ياسر رضي الله عنهما رواه أبو يعلى (1622) ووابصة بن معبد رضي الله عنه رواه أبو يعلى (1589) وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما رواه أبو يعلى كما في المطالب العالية (1133) والسرى بنت نبهان رضي الله عنها رواه أبو يعلى كما في المطالب العالية (1275) وأنس بن مالك رضي الله عنه رواه الضياء المقدسي في المختارة (2684).
(2)
رواه أحمد (23489)
(3)
«الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان» (13/ 312)
(4)
تقدم (ص: 235)
وقد جاء في روايةٍ -ضعيفة- عن ابن مسعود رضي الله عنه الجمعُ بينهما ولفظه: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ»
(1)
قال العلماء: "المعاصِي التي يعاقبُ عليها العبدُ يومَ القيامةِ نوعانِ: حقُّ اللَّهِ، وحقُّ العبادِ، وأولُ ما يُقضَى فيه يومَ القيامةِ من حقوقِ اللَّهِ الصلاةُ، ومن حقوقِ العبادِ الدماءُ"
(2)
وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله: وإنما أراد - والله أعلم-: أن كل واحد من تلك الأوليات أوَّلٌ بالنسبة إلى التي في بابه، فأول ما يحاسبُ به من أركان الإسلام الصلاة، وأول ما يحاسب به من المظالم الدِّماء، وأول ما يحاسب به مما ينتشر فيه صِيتُ فاعله تلك الأمور. وهذا أوَّلُ ما يقاربه ويناسبه، وهكذا تعتبر ما يردُ عليك من هذا الباب، والله تعالى أعلم ا. هـ
(3)
الاقتصاص بين البهائم:
ومن صور القصاص ما ذكرناه أوَّلًا من أنه يقتص للبهائم بعضها من بعض، فإذا وقع ذلك وقِيدَ للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء قال الله عز وجل لها:«كُونِي ترابًا» فيقول الكافر حينئذ: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)} [النبأ]. كما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام] قَالَ: «يَحْشُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَهَائِمَ، وَالدَّوَابَّ، وَالطَّيْرَ، وَكُلَّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ» قَالَ: «ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا» قَالَ: «فَلِذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}»
(4)
(1)
رواه النسائي (3991) عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود به. وشريك سيء الحفظ. والجمع بينهما في حديث واحد من أخطائه.
(2)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5/ 42) للقرطبي. و" أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور"(ص: 50) لابن رجب. وفتح الباري لابن حجر (11/ 396)
(3)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 747)
(4)
رواه عبد الرزاق في التفسير (786، 3473) - ومن طريقه الطبري في التفسير (9/ 235/ ط هجر) والحاكم في المستدرك (3231) -، وابن راهويه في مسنده (322) وابن أبي حاتم في تفسيره (7262) وسنده حسن.
وَعَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ الْقَوَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، قَالَ:«إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُدَّتِ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ وَحَشَرَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالدَّوَابَّ وَالْوُحُوشَ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ جَعَلَ اللَّهُ الْقِصَاصَ بَيْنَ الدَّوَابِّ حَتَّى تَقُصَّ الشَّاةُ الْجَمَّاءُ مِنَ الْقَرْنَاءِ بِنَطْحَتِهَا فَإِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقِصَاصِ بَيْنَ الدَّوَابِّ قَالَ لَهَا: كُونِي تُرَابًا، فَتَكُونُ تُرَابًا فَيَرَاهَا الْكَافِرُ فَيَقُولُ: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)} [النبأ]»
(1)
وقال أبو ذر رضي الله عنه: رأى النبي صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان فقال: «يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟» قال: لا. قال: «لَكِنَّ اللهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا»
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»
(3)
قال النووي رحمه الله: هَذَا تَصْرِيحٌ بِحَشْرِ الْبَهَائِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِعَادَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُعَادُ أَهْلُ التَّكْلِيفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَكَمَا يُعَادُ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير] وَإِذَا وَرَدَ لَفْظُ الشَّرْعِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ا. هـ
(4)
وقال الملا علي قاري رحمه الله: قال ابن المَلَك
(5)
:
…
فَإِنْ قِيلَ: الشَّاةُ غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ، فَكَيْفَ يُقْتَصُّ مِنْهَا؟ قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَعَالٌ لِمَا يُرِيدُ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِعْلَامُ
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في الأهوال (182) وابن جرير في التفسير (24/ 54) والحاكم في المستدرك (8716) وأبو بكر الشافعي في الفوائد الشهير بالغيلانيات (1125) بسند صحيح عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ الْقَوَّاسِ به. والقواس ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (4/ 576) وقال: ذكره سليمان التيمي ولينه. وقال ابن المديني: لا أعلم أحدا روى عنه غير عوف ا. هـ زاد الحافظ في لسان الميزان (9/ 168): وقال إسحاق بن منصور عن ابن مَعِين: ثقة. وذَكَره ابن حِبَّان في "الثقات ا. هـ فالراجح فيه أنه ثقة كما قال ابن معين.
(2)
أخرجه أحمد (21438) وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 610).
(3)
تقدم في المجلس السادس والعشرين.
(4)
شرح النووي على مسلم (16/ 136).
(5)
هو محمد بن عبد اللطيف، ابن فِرِشْتَا، المعروف بابن مَلَك الكرماني (ت: 854 هـ) فقيه حنفي، له كتب، منها:(شرح مصابيح السنة للبغوي) نقلا عن: «الأعلام» للزركلي [بزيادة بين معكوفتين]
الْعِبَادِ بِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَضِيعُ، بَلْ يُقْتَصُّ حَقُّ الْمَظْلُومِ مِنَ الْمَظَالِمِ اهـ.
(1)
وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ وَتَوْجِيهٌ مُسْتَحْسَنٌ إِلَّا أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْحِكْمَةِ بِالْغَرَضِ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْقَضِيَّةَ دَالَّةٌ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ عَلَى كَمَالِ الْعَدَالَةِ بَيْنَ كَافَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الْحَيَوَانَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ التَّكْلِيفِ، فَكَيْفَ بِذَوِي الْعُقُولِ مِنَ الْوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ؟. ا. هـ
(2)
يُحبَس المؤمنون بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصُّون قبل دخول الجنة:
ومما يتصل بهذا الباب ما جاء في صحيح الإمام البخاري رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا»
(3)
.
فهذا يدل أيضًا على أنه حتى أهل الإيمان الذين يُوفِّقُهم الله عز وجل ويعبرون الصراط يقفون قبل أن يدخلوا الجنة، فيُحبَسُون في قنطرة بين الجنة والنار، فيُهذَّبون من كل المظالم التي كانت بينهم.
لا قُدِّسَت أمة لا يأخذ ضعيفُها حقَّه من شديدها:
وروى ابن أبي شيبة والبزَّار حديثاً عجيباً: عن بريدة رضي الله عنه قَالَ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعْفَرًا رضي الله عنه، حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ:«مَا أَعْجَبُ شَيْءٍ رَأَيْتَه؟» قال: رأيت امرأة تحمِل على رأسها مكتلاً مِنْ طَعَامٍ فَمَرَّ فَارِسٌ فَرَكَضَهُ فَأَبْذَرَهُ فَجَلَسَتْ تَجْمَعُ طَعَامَهَا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ قَالَتْ وَيْلٌ لَهُ إِذَا وَضَعَ الْمَلِكُ تبارك وتعالى كُرْسِيَّهُ فَأَخَذَ للمظلوم مِنَ الظَّالِمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَصْدِيقًا لِقَوْلِهَا «لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ أَوْ كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ ضَعِيفُهَا حَقَّهُ مِنْ شَدِيدِهَا، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعْتَعٍ؟»
(4)
.
(1)
ينظر: «شرح المصابيح لابن الملك» (5/ 361) وهو منقول عن «المفاتيح في شرح المصابيح» (5/ 259) لمظهر الدين الحسين الشيرازي الحنفي (ت: 727 هـ)
(2)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3203)
(3)
أخرجه البخاري (2440)
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة -كما في المطالب العالية (3298) - والبزار (4464) وابن أبي عاصم في السنة (582) والطبراني في المعجم الأوسط (5234) -وعنه أبو سعيد النقاش في فنون العجائب (22) - والبيهقي في السنن الكبرى (20203) وفي الأسماء والصفات (860) وفي شعب الإيمان (7142) وفي إسناده عطاء بن السائب وكان قد اختلط. والرواة عنه هنا ممن لا يعرف روايتهم عنه أكانت قبل الاختلاط أم بعده. لكن يشهد له الحديث الآتي فهو به حسن.
وَروى ابن ماجه عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ، قَالَ:«أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟» قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ، بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَتْ، صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟»
(1)
هذان خصمان اختصموا في ربهم:
ومما يتصل بهذا الباب ما جاء في الصحيح من حديث قيس بن عُبَاد عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ» قَالَ قيس بن عُبَاد: وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] وَهُمُ الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ، أَوْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الحَارِثِ رضي الله عنهم، -تبارز هؤلاء الثلاثة المؤمنون مع ثلاثة من المشركين-وهم: شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ.
(2)
.
وقال قيسٌ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يُقْسِمُ قَسَمًا: إِنَّ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] «إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ
…
»
(3)
(1)
أخرجه ابن ماجه (4010) وأبو يعلى (2003) وابن حبان (5058، 5059) وفي سنده أبو الزبير وهو مدلس وقد عنعن، لكن يشهد له حديث بريدة رضي الله عنه المتقدم ولآخره شواهد عدة. والحديث حسنه الألباني والأرناؤوط وانظر شواهده في تحقيق الأرناؤوط لصحيح ابن حبان (11/ 444/ رقم 5058). وتحقيق المطالب العالية لابن حجر لمجموعة من الباحثين بإشراف الدكتور سعد الشَّثري (13/ 698).
(2)
رواه البخاري (3965).
(3)
رواه البخاري (3966) ومسلم (3033)
ثلاثة خصمهم الله يوم القيامة:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا: «قَالَ اللهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ»
رواه البخاري
(1)
ورواه أحمد وزاد: «
…
وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ» وقال «وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ» بدل «يعطه»
(2)
.
من ظلم قيد شبر من الأرض:
وفي البخاري وغيره من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»
(3)
فمن اعتدى على أرض الناس في الدنيا وأخذها بغير حق، فيُطوَّق يوم القيامة من سبع أرضين، نسأل الله السلامة والعافية.
وفي البخاري أيضًا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَخَذَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ»
(4)
.
وفي مسند الإمام أحمد عن يعلى بن مرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِغَيْرِ حَقِّهَا، كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا إِلَى الْمَحْشَرِ»
(5)
-وقد تقدم بعض هذا في المجلس الثامن والعشرين-.
فما أعظم هذه المواقف التي ستقع في عرصات القيامة، وحين يقتص الله عز وجل للخلائق بعضهم من بعض، وحين يختصم الناس يوم القيامة بين يدي الحكم العدل الذي هو سريع الحساب، فيقضي بينهم!
(1)
أخرجه البخاري (2227) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه ابن ماجه (2442) بلفظ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
…
» الحديث، فجعله حديثا نبويا لا قدسيا وما في الصحيح أصح، رواه ابن ماجه عن شيخه سويد بن سعيد، وهو وإن روى له مسلم إلا أنه ضعيف.
(2)
مسند أحمد (14/ 318) رقم (8692) ورواه ابن الجارود في المنتقى (579)
(3)
أخرجه البخاري (2453)، ومسلم (1612).
(4)
تقدم في المجلس الثامن والعشرين.
(5)
تقدم (ص: 119)
الولاية خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها:
وفي صحيح الإمام مسلم رحمه الله أنَّ أبا ذر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا تستعملني؟ -يعني: لم لا تجعلني واليًا أو عاملًا لك على عمل؟ - قال: فضَرَبَ بيده على منكبيَّ ثم قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»
(1)
.
يأتي يوم القيامة أولئك المسؤولون الظلمة أمام الله ويحاكَمون، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَّا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَغْلُولَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، أَطْلَقَهُ الْحَقُّ أَوْ أَوْبَقَهُ»
(2)
(3)
فهذه المسؤوليات التي يتزاحم عليها الناس والتي يتسابقون إليها ويكون الإنسان فيها حاكمًا أو واليًا أو مسؤولًا أو مديرًا ثم لا يقوم فيها بما أمر الله -جل وعلا- فيقع منه الظلم يأتي يوم القيامة أمام الخلائق يُقتَصُّ للمظلوم منه، نسأل الله عز وجل العفو والعافية.
فهذه جملة من الأحاديث العظيمة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر العظيم اقتصاصِ المظالم والانتصاف للمظلوم من الظالم الذي سيقع في عرصات القيامة.
وقد جاء مبينًا موضَّحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أيما بيان وأيما توضيح وجاءت النصيحة من رسولنا صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ» رواه البخاري
(4)
فهل نعي هذه الكلمات الطيبات المباركات والنصائح والتوجيهات من رسولنا صلى الله عليه وسلم؟
(1)
أخرجه مسلم (1825).
(2)
أخرجه الدارمي (2557)، والبزار (1639) وهو في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين لشيخنا الوادعي (3181)
(3)
أخرجه الإمام أحمد (9573) وهو صحيح
(4)
تقدم.
وإنَّ الآخرة لأقربُ إلى أحدنا من شِراك نعله كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ»
(1)
.
فليس بينك وبين لقاء الله إلا أن تموت، والأجلُ الذي وضعه الله عز وجل للناس غيرُ معلوم؛ فلا يعلم الإنسان متى يموت؟ قد يخرج ولا يرجع، وقد ينام ولا يستيقظ، وقد يسافر ولا يرجع، فالأجل غير معروف، فيوشك أن يأتي ملك الموت ليأخذ الروح من صاحبها فيموت ويندم ولاتَ ساعة مندم.
فلتكن -يا عبد الله- حريصًا على أن تتحلَّل في هذه الدنيا في حال حياتك، وما دامت الروح في الجسد فاجتهد على ألا يكون لأحد عليك مظلمة.
أسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه
كما نسأله أن يرفع عنا هذا الوباء، ويصرف عنا البلاء، إنه سميع الدعاء؛
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(1)
أخرجه البخاري (6488) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
JIH
الإيمان بالميزان
F e
المجلس الثاني والثلاثون
(1)
نصب الموازين يوم القيامة:
الإيمان بنصب الموازين يوم القيامة؛ هو من الإيمان باليوم الآخر
فما أعظم سعادةَ هؤلاء الذين يأتون يوم القيامة، فتثقل موازينُ أعمالهم بما قدَّموا من إيمانٍ وعملٍ صالحٍ في الدنيا!
تعريف الميزان:
والميزان في لغة العرب معروفٌ؛ ويطلق على إطلاقات عدة، ومنها أنه يطلق، ويراد به الميزان ذو الكفتين، كما نقل ذلك غير واحد من أهل اللغة
(2)
.
ولذلك فأهل العلم حينما يتكلمون عن الميزان ويعرفونه يقولون: هو الميزان الذي أخبر عنه الله -جل وعلا- في كتابه، وأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّته، وهو ميزان حقيقي له كفتان، توزن به أعمالُ العباد خيرُها وشرُّها.
إجماع أهل السنة على أن الميزان حق:
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَيُوزَنُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ"
(3)
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ رحمه الله: سَأَلْتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَمَا أَدْرَكَا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، وَمَا يَعْتَقِدَانِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَا: " أَدْرَكْنَا الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ حِجَازًا وَعِرَاقًا وَشَامًا وَيَمَنًا فَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِمُ: الْإِيمَانُ
(1)
كان في يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر شوال من عام 1441 هـ.
(2)
جاء في المحكم لابن سيده (مادة وزن): "والميزان: ما وُزِنَ به" وقال صاحب تاج العروس (مادة: وزن): " (والمِيزان)، بالكسْرِ: (م) مَعْروفٌ، وَهِي الآلَةُ الَّتِي تُوزَنُ بهَا الأشْياء".
(3)
العقيدة الواسطية (ص: 97).
قَوْلٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ،
…
فذكر الاعتقاد إلى أن قالا:
…
وَالْمِيزَانُ حَقٌّ، لَهُ كِفَّتَانِ، تُوزَنُ فِيهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا حَقٌّ ا. هـ
(1)
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: وأجمعوا على أن الله ينصب الموازين لوزن أعمال العباد
(2)
.
الميزان ميزان حقيقي:
والميزان الذي أمرنا الله عز وجل أن نؤمن به هو ميزانٌ حقيقيٌّ. وذكر عن بعض أهل العلم أنهم يؤولون ويقولون: الميزان المراد به العدل، والصحيحُ الذي عليه إجماعُ أهل السنة أنه ميزان حقيقيٌّ تُوزَن به أعمالُ العبادِ كما دلَّت عليه الأدلة، -وسيأتي ذكرها-، وهي تدل على أنه ميزان حقيقي.
يقول القرطبي رحمه الله: "ورُوِيَ عن مجاهد والضحَّاك والأعمش أنَّ الميزان هنا بمعنى العدل والقضاء، وذِكْرُ الوزنِ والميزانِ ضَرْبُ مَثلٍ كما يقول: هذا الكلام في وزن هذا وفي وزنه أي: يعادله ويساويه، وإن لم يكن هناك وزن. قلت: وهذا القول مجازٌ، وليس بشيء وإن كان شائعًا في اللغة، للسُّنة الثابتة في الميزان الحقيقي ووصفه بكفتين ولسان، وإن كل كفة منهما طباق السموات والأرض"
(3)
.
وقال البيهقي في شعب الإيمان: وذهب أهل التفسير إلى إثبات هذا الميزان بكفتيه وجاء في الأخبار ما دل عليه. ا. هـ
(4)
الميزان له كفتان:
وقال أهل العلم: هذا الميزان ميزانٌ له كفَّتان حِسِّيَّتان مشاهدتان، وله لسان كذلك، وأن هذا الميزان عظيم، بحيث إنه يسع أن يُوزَنَ به ما في السماوات وما في الأرض.
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (321)
(2)
رسالة إلى أهل الثغر (ص: 161).
(3)
التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 724، 723).
(4)
«شعب الإيمان» (1/ 447 ط الرشد)
يقول الحافظ ابن قدامة: "والميزان له كفتان ولسان توزن به الأعمال
(1)
لسان الميزان:
روى اَلْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِيزَانٌ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ.
(2)
وروى حرب الكرماني واللالكائي عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: " ذُكِرَ الْمِيزَانُ عِنْدَ الْحَسَنِ، فَقَالَ: لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ ا. هـ
(3)
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الطحاوية: وكون الميزان له لسان كما ذكره ابن قدامة في اللمعة وذكره غيره، هذا لا أحفظ فيه دليلاً واضحاً -أو ما اطَّلَعْتُ فيه على دليل واضح-؛ لكن أخذوه من أنَّ ظاهر الوزن في الرُّجْحَان يتبين باللسان، فأَعْمَلُوا ظاهر اللفظ وجعلوا ذلك مثبتاً لوجود اللسان، فينبغي أن تكون محل بحث ا. هـ
قلت: الحق إثباته فقد نقل غير واحد إجماع السلف على إثباته.
قال الحافظ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمِيزَانِ وَأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ وَيَمِيلُ بِالْأَعْمَالِ ا. هـ
(4)
ومثله عن الحافظ ابن بطال
(5)
.
ونسبه أبو الحسن الأشعري: إلى قول أهل الحق
(6)
(1)
لمعة الاعتقاد (ص: 32).
(2)
نقله ابن أبي زمنين في أصول السنة (ص: 166)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 447 ط الرشد)، والكلبي: متهم بالكذب-. وشيخه أبو صالح اسمه باذام، وهو: ضعيف.
(3)
«مسائل حرب الكرماني ت فايز حابس» (3/ 1089 بترقيم الشاملة)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2210).
(4)
«فتح الباري» (13/ 538)
(5)
"شرح صحيح البخاري، مكتبة الرشد"(10/ 559)
(6)
«مقالات الإسلاميين ت زرزور» (2/ 353)
وقال الشيخ الغنيمان: الميزان لا يكون إلا بلسان، وبدون لسان لا يكون ميزان، فلابد أن يكون له لسان يعرف رجحانه من عدمه، وهذا أمرٌ يدل عليه كلمة (ميزان)، وقد أثبت العلماء ذلك من هذا ا. هـ
(1)
ونقل الطبري في تفسيره قول جماعة من العلماء: الْمِيزَانُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ، لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ
(2)
. وعند قول الله تعالى -في سورة الرحمن-: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} قال غير واحد من المفسرين: المعنى أقيموا لسان الميزان
(3)
.
من أدلة القرآن على أن الميزان حق:
قال ربنا -جل وعلا-: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} [الأعراف] وقال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] وقال ربِّنا في سورة القارعة: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} [القارعة]
من أدلة السنة على أن الميزان حق:
وقد جاء في السنة أحاديث كثيرة، منها قولُ النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:«كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»
(4)
.
فقوله «ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ» يدل على أنه ميزان حقيقي.
(1)
«شرح العقيدة الواسطية» (20/ 13 بترقيم الشاملة آليا)
(2)
«تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر» (10/ 69)
(3)
ينظر: «موسوعة التفسير المأثور» (21/ 82).
(4)
أخرجه البخاري (6406)، ومسلم (2694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
تزود بما يثقل ميزانك يوم القيامة:
ونحن في هذه الدنيا في فرصة ومهلة، والله -جل وعلا- أخبرنا أن موازيننا تثقلُ يوم القيامة بقدر ما نعمل من الأعمال الصالحات. وقد ضرب لذلك بعضُ أهل العلم مثلًا بأقوام جاؤوا على ساحل البحر، فانحسر البحر عن الجواهر والنفائس، فأخذ الناسُ يجمعون، كلٌّ يجمع بقدر ما يستطيع، فإذا رُئِيَ في هذا الموطن رجلٌ متغافلٌ عن جمع الجواهر وعن جمع الذهب وما انحسر عنه البحر فإنه يُعَدُّ في عُرْف الناس متكاسلًا، وربما قيل عنه: إنه مجنونٌ، فهكذا نحن في الدنيا في فرصة وفي مهلة
(1)
.
ومن رحمة الله -جل وعلا- وفضله أنه أخبرنا أن الأعمال الصالحة تضاعف في الميزان، وأنَّ الحسنة لا توزن بحسنة عند الله، وإنما تُوزَنُ بعشر حسنات؛ فتثقل بذلك الموازين:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام] وقال ربنا -جل وعلا-: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} [النمل] وقال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)} [القصص: 84].
لا وزن للحسنات بدون توحيد الله:
فالآيات دالة على أنه بقدر ما تستزيد من أعمالك الصالحة في الدنيا التي أساسُها توحيدُ الله والإيمانُ بالله والإخلاصُ لله فإن حسناتك تضاعف يوم القيامة، وتثقل الموازين بهذه الحسنات المضاعفة من رب العالمين.
ويقول ربنا -جل وعلا- في كتابه الكريم عن حال الكفار: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} [الكهف]
تأملوا حال هؤلاء! لماذا حبطت أعمالهم؟
(1)
انظر في أمثلة الدنيا: «عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين - ط عطاءات العلم» (1/ 444 - 470)
لأنهم جاؤوا ربهم سبحانه بالشرك، ولم يكونوا موحِّدين، فلو جاء رجلٌ بأعمال الدنيا الصالحة كلِّها إلا التوحيد فإنَّ الله عز وجل لا يقبل له عملًا؛
ولذا قال: {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} [الكهف: 105]
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ»
(1)
وإنما الذي ينفع في الميزان هو العمل الصالح مع إيمان بالله وتوحيد به.
قال الشوكاني رحمه الله: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} أَيْ: لَا يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَنَا قَدْرٌ وَلَا نَعْبَأُ بِهِمْ، وَقِيلَ: لَا يُقَامُ لَهُمْ مِيزَانٌ تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَهَؤُلَاءِ لَا حَسَنَاتٍ لَهُمْ ا. هـ
(2)
أمور عظيمة تثقل الميزان:
التسبيح:
من ذلك ما جاء في الحديث السابق: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ-أَوْ تَمْلأُ-مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ
…
» الحديث
(3)
. فتأملوا قوله صلى الله عليه وسلم: «وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ-أَوْ تَمْلأُ-مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ
…
» فإنه دالٌ على أن هذه الكلمات المباركات لعظيم فضلها وعلو مكانتها تملأ الميزان، والحديث على ظاهره من غير تأويل بثوابها؛ لعدم ما يمنع من كونها هي الموزون.
الكلمات الأربع الباقيات الصالحات واحتساب الولد الصالح إذا مات:
كذلك جاء عن أَبي سَلْمَى رضي الله عنه رَاعِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
(1)
أخرجه البخاري (4728)، ومسلم (2785) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
فتح القدير (3/ 373).
(3)
أخرجه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
وقوله: «
…
وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى
…
» يعني: يموت فيحتسبه والده سواء كان الأب أو الأم، فإذا مات الولد -وهذا ليس مقيَّدًا بالصغير- إذا مات الابن أو البنت صالحًا أو صالحةً فاحتسبته عند الله -جل وعلا- فإنَّ هذا الاحتساب عظيمٌ عند الله -جل وعلا- في الميزان. ويدل هذا الحديث أيضًا على ما دلت عليه الأدلة الأخرى من إثبات الميزان يوم القيامة.
الذكر دبر كل صلاة وعند النوم:
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَلَّتَانِ لَا يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ، أَلَا وَهُمَا يَسِيرٌ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ: يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَيَحْمَدُهُ عَشْرًا، وَيُكَبِّرُهُ عَشْرًا» ، قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ، قَالَ:«فَتِلْكَ خَمْسُونَ، وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ فِي المِيزَانِ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ تُسَبِّحُهُ وَتُكَبِّرُهُ وَتَحْمَدُهُ مِائَةً، فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ فِي المِيزَانِ، فَأَيُّكُمْ يَعْمَلُ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ سَيِّئَةٍ؟» قَالُوا: فَكَيْفَ لَا نُحْصِيهَا؟ قَالَ: «يَأْتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، حَتَّى يَنْفَتِلَ، فَلَعَلَّهُ أَلَّا يَفْعَلَ، وَيَأْتِيهِ وَهُوَ فِي مَضْجَعِهِ، فَلَا يَزَالُ يُنَوِّمُهُ حَتَّى يَنَامَ»
(2)
وقولُه صلى الله عليه وسلم: «فَتِلْكَ خَمْسُونَ، وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ» هو مجموع ما تقوله من هذه الكلمات؛ لأنك تقولها خمسَ مرَّات عقب كلِّ صلاة، ثلاثون بعد صلاة الفجر: عشر تسبيحات وعشر تحميدات وعشر تكبيرات، وهكذا بعد كل صلاة ثلاثون، فهذه مائة وخمسون
(1)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى (9923) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (470) وابن حبان (833) والطبراني في المعجم الكبير (22/ 348/ 873) والحاكم (1885) من حديث أبي سلمى رضي الله عنه. وهو في مسند الإمام أحمد (15662) و (18076) عن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير مسمى وفي (23100) أن رجلًا سمع النبي صلى الله عليه وسلم. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1204) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (609)
(2)
أخرجه أبو داود (5065)، والترمذي (3410) واللفظُ له، والنسائي (1348)، وابن ماجه (926).
باللسان. قال صلى الله عليه وسلم: «وأَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ فِي المِيزَانِ» يعني: الحسنة بعشرة أمثالها، وهذا الحديث الصحيح أيضًا من الأحاديث الدالة على الميزان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وانتبهوا -يا إخواني- إلى هذه الحسنات العظيمة التي يفقدها كثيرٌ من الناس، وقد اشتهر عند الناس اليوم أن من أذكار الصلاة أن تسبح ثلاثًا وثلاثين، وتحمد ثلاثًا وثلاثين، وتكبِّر ثلاثًا وثلاثين دُبُر كلِّ صلاة، وهذا صحيحٌ لكنَّ الإنسان قد يكسل أحيانًا أو ينشغل فنقول: لا تحرم نفسك من أن تقولها عشر مرات: عشر تسبيحات، وعشر تحميدات، وعشر تكبيرات، فالمجموع ثلاثون مرة، تقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر عشر مرات، لا تأخذ منك دقيقة واحدة، فتنال هذا الأجر والثواب.
ولهذا بيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لنا أنَّ الموفَّق من وفَّقه الله -جل وعلا- إذا كان المؤمنُ حقيقة يؤمنُ حقًّا وصدقًا بأن هناك موازين ستنصب يوم القيامة، وتوزن الأعمال، ويرى الناسُ ما عملوا من خير ومن شر فإنه سيستحضر هذا في كل يوم عقب كل صلاة، ويستحضر أن عنده هنا عمل إذا عمله كان مثقلا لميزانه يوم القيامة.
الرفق بالخادم والعامل:
وفي صحيح ابن حبان عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا خَفَّفْتَ عَنْ خَادِمِكَ مِنْ عَمَلِهِ كَانَ لَكَ أَجْرًا فِي مَوَازِينِكَ»
(1)
الخلق الحسن أعظم ما يثقل به الميزان:
والخُلُقُ الحسن من أعظم ما تثقل به الموازين يوم القيامة. كما في سنن أبي داود عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ»
ورواه الترمذي وزاد «
…
وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ»
(2)
وبعض الناس اليوم تسوء أخلاقه، فتجده سبَّابا، ذَرِبَ اللسان، يسُبُّ ويشتم ويلعن
(1)
رواه ابن حبان (4314) وحسنه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (611)
(2)
أخرجه أبو داود (4799)، والترمذي (2003)
ويهزأ ويسخر، وربما يفعل بعضُ الناس ذلك على سبيل المزاح واللعب واللهو.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»
(1)
.
فحسِّنْ خلقك -يا عبد الله- ما استطعت لتكون من الفائزين.
ثواب حضور الجنائز تثقل الميزان:
عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ» ، قِيلَ: وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ» متفق عليه. وفي رواية لهما: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» وفي رواية لمسلم «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ»
(2)
وعَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيُفْرَغَ مِنْهَا، فَلَهُ قِيرَاطَانِ، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِهِ مِنْ أُحُدٍ»
(3)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ خَرَجَ فِي جِنَازَةٍ فِيهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَصَلَّى عَلَيْهَا فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لِحَاجَةٍ فَضَرَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَنْكِبِي وَقَالَ أَتَدْرِي بِكَمِ انْصَرَفَ هَذَا؟ قُلْتُ لَا أَدْرِي قَالَ انْصَرَفَ بِقِيرَاطٍ فَقُلْتُ: ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَا الْقِيرَاطُ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَانْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا كَانَ لَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنِ انْتَظَرَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ، وَالْقِيرَاطُ مِثْلُ أُحُدٍ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ،
(1)
أخرجه البخاري (2989)، ومسلم (1009) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (1325، 47)، ومسلم (945/ 53).
(3)
أخرجه ابن ماجه (1541) وأحمد (21201) والطبراني في المعجم الأوسط (554) وهو في صحيح الترغيب والترهيب (3501)
ثُمَّ قَالَ: أَتَعْجَبُ مِنْ قَوْلِي مِثْلَ أُحُدٍ، حَقٌّ لِعَظَمَةِ رَبِّنَا أَنْ يَكُونَ قِيرَاطُهُ مِثْلَ أُحُدٍ وَيَوْمُهُ كَأَلْفِ سَنَةٍ.
(1)
العناية بالخيل في سبيل الله تثقل الميزان:
عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «
…
الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي ظُهُورِهَا وَلَا رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فِي مَرْجٍ وَرَوْضَةٍ، فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ، أَوِ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ، عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٌ، وَكُتِبَ لَهُ، عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا، حَسَنَاتٌ، وَلَا تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا، أَوْ شَرَفَيْنِ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا وَأَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَلَا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ، عَدَدَ مَا شَرِبَتْ، حَسَنَاتٍ»
(2)
وفي المسند من حديث شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ مَعْقُودٌ أَبَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ رَبَطَهَا عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا احْتِسَابًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ شِبَعَهَا وَجُوعَهَا، وَرِيَّهَا، وَظَمَأَهَا، وَأَرْوَاثَهَا، وَأَبْوَالَهَا فَلَاحٌ فِي مَوَازِينِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ رَبَطَهَا رِيَاءً، وَسُمْعَةً، وَفَرَحًا، وَمَرَحًا فَإِنَّ شِبَعَهَا، وَجُوعَهَا، وَرِيَّهَا، وَظَمَأَهَا، وَأَرْوَاثَهَا، وَأَبْوَالَهَا خُسْرَانٌ فِي مَوَازِينِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(3)
(1)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (8808) -ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (53/ 92) - وإسناده حسن في الشواهد، رجاله ثقات سوى محمد بن سعيد وهو ابن الفضل الدمشقي ذكره ابن أبي حاتم وترجم له ابن عساكر من رواية جمع عنه ولم يذكر بتوثيق.
(2)
أخرجه البخاري (2371) ومسلم (987)
(3)
أخرجه أحمد (27574) وأعله الشيخ الألباني بضعف شهر بن حوشب في السلسلة الضعيفة (6836) وحسنه شيخنا أحمد الشريف في موسوعته المباركة "وبل الغمامة في فضل الخيل التي في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"(1/ 66)
حاجة المرء إلى الحسنة الواحدة يوم القيامة:
وإنَّ الواحد منا يوم القيامة ليحتاج إلى الحسنة الواحدة، فيطلبها من أبيه، يطلبها من أخيه، يطلبها من أمه، يطلبها من أقرب الناس إليه، فلا يجدها أبدًا، كلٌّ يقول: نفسي نفسي، كما ذكر ذلك جماعة من أهل التفسير عند قول الله:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)} [عبس]. فالأب يقول لأبنائه: أيَّ أبٍ كنت لكم؟ فيقولون: كنت خير أب لنا، فيقول: حسنة واحدة. فيقولون له: نحن نريد ما تريد لا نستطيع نحن نريد ما تريد
(1)
.
أصحاب الأعراف:
قد دلت الأدلة على أن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح.
وأصحاب الأعراف هم: قوم يأتون يوم القيامة، تستوي حسناتهم وسيئاتهم. فيُحجَزون على الأعراف
(2)
ينظرون إلى أهل الجنة، وينظرون إلى أهل النار، {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 46] وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار، {قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} [الأعراف]، فيتعوذون بالله من منازلهم. فهؤلاء حُجِزوا بسبب أنهم لو كان لهم حسنةٌ زائدة لنجَوا في حينها مما هم فيه من كرب وهم وغم.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْرًا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ إِلَّا وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ غَلَبَتْ وَحْدَاتُهُ أَعْشَارَهُ»
(3)
(1)
انظر تفسير ابن كثير (8/ 325). وانظر ما تقدم (ص: 163)
(2)
الأعراف: جَمْعُ "عُرْف"، وَكُلُّ مُرْتَفَعٍ مِنَ الْأَرْضِ عِنْدَ الْعَرَبِ يُسَمَّى "عُرْفًا"، وهو: حِجَابٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وهو: السُّورُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد: 13] تفسير ابن كثير (3/ 418).
(3)
رواه ابن المبارك في الزهد (2/ 123) - ومن طريقه وطريق غيره الطبري (جامع البيان ط هجر 10/ 213 و 12/ 315) - وسنده واهٍ. وقال ابن فضيل في الدعاء (115) حَدَّثَنَا دَاوُدُ -وهو ابن أبي هند-، عَنْ عَامِرٍ -وهو الشعبي- قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - وهو ابن مسعود-:«أَرْبَعٌ لَا يَهْلِكُ بَعْدَهُنَّ إِلَّا هَالِكٌ قَالَ: إِذَا عَمِلَ الرَّجُلُ الْحَسَنَةَ كُتِبَتْ عَشْرًا، وَإِنْ هَمَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ حَسَنَةً، وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً كُتِبَتْ سَيِّئَةً، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا وَهَمَّ بِهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ» ورجاله ثقات لكنه مرسل الشعبي لم يسمع من ابن مسعود.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:«أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ هُمْ رِجَالٌ كَانَتْ لَهُمْ ذُنُوبٌ عِظَامٌ، وَكَانَ جَسِيمٌ أَمْرُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى يَقُومُونَ عَلَى الْأَعْرَافِ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ طَمِعُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا. وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ النَّارِ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْهَا فَأَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ»
(1)
وعَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:«أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَلَمْ تَفْضُلْ حَسَنَاتُهُمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ، وَلَا سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ»
(2)
(3)
الحرص على كسب الحسنات:
فليحرص الواحد منا على الاستكثار من الحسنات والمسارعة إلى الأعمال الطيبات الصالحات. فرب حسنة واحدة يكون فيها نجاتك عند الله وتثقل بالميزان.
فَاستعمل وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه إذ قال له: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»
(4)
.
وفي رواية:
(1)
رواه البيهقي في البعث والنشور (100) وفي شعب الإيمان (376)
(2)
رواه عبد الرزاق في تفسيره (905) والحسين المروزي في زوائد الزهد لابن المبارك (1372) والطبري في تفسيره (10/ 215) من طرق عن قتادة به وهو مرسل لم يسمع قتادة من ابن عباس رضي الله عنهما ويشهد له ما قبله. ورواه الحسين المروزي في زوائد الزهد لابن المبارك (1371) من طريق أبي العريان عن ابن عباس.
(3)
رواه الحاكم في المستدرك (3247) - وعنه البيهقي في البعث والنشور (101) - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِيُّ، ثنا الْهَيْثَمُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَ يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ
…
فذكره وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ ا. هـ وقد خولف عبيد الله بن موسى، فرواه هناد بن السري في الزهد (202) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ يُونُسَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ ووكيع أوثق وعامر لم يلق حذيفة. وقد جاء من طرق عن عامر عن حذيفة رواه الحسين المروزي في زوائد الزهد (1370) والطبري في تفسيره (10/ 215).
(4)
رواه مسلم (2626) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فذكره.
(1)
وفي مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ، مِنْ قَوْمِهِ
(2)
قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ،
…
(3)
تواجد النبي صلى الله عليه وسلم عند الميزان يوم القيامة:
وحين تُنْصَبُ الموازين يوم القيامة يصاب الناس بالهلع وبالخوف وبالفزع بسبب ما يشاهدونه من الكَرْبِ ومن عظيم الحزن ومن عظيم الأهوال في ذلك اليوم العظيم،
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: سَأَلْتُ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: قَالَ: «أَنَا فَاعِلٌ» قَالَ: فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: «اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ» قَالَ: قُلْتُ: فَإِذَا لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: «فَأَنَا عِنْدَ الْمِيزَانِ» قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: «فَأَنَا عِنْدَ الْحَوْضِ، لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَوَاطِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(4)
.
فهذه ثلاثة مواطن بيَّنَ لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه سيكون عندها، فإما أن يكون عند الميزان أو عند الصراط أو عند الحوض صلواتُ ربي وسلامه عليه. وهذا يدل على أنَّ
(1)
رواه الخرائطي مكارم الأخلاق (118) والبيهقي في الآداب (222) والسنن الكبرى (7824) وشعب الإيمان (3104، 7688)
(2)
قال الحافظ ابن أبي حاتم في العلل (2/ 325): قُلتُ لأَبِي: يُسَمَّى هَذا الرَّجُلُ مِنْ قَومِهِ؟ قالَ: نَعَم، سَمّاهُ عَبدُ الوارِثِ، عَنِ الجُرَيرِيِّ. ثم ذكر إسناده وفيه، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ جابِرِ بنِ سُلَيمٍ رضي الله عنه.
(3)
رواه الإمام أحمد (15955) وأبو عبيد في الخطب والمواعظ (15) والبغوي في معجم الصحابة (314) وابن أبي حاتم في العلل (3494)
(4)
أخرجه أحمد (12825)، والترمذي (2433).
الأمر عظيم، وأنَّ وجوده صلى الله عليه وسلم في هذه المواطن الثلاثة لأنها مواطن عظيمة، تغشى الناس في ذلك الحين حينما تُنصَبُ الموازين، فيبلغ الخوف والهلع بالناس أقصى الحدود، ينسى الحبيبُ حبيبَه، {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)} [المعارج]، لا يفكر أحدٌ إلا في نفسه، ويذهل عن كلِّ شيءٍ لا يفكر إلا في نتيجة ميزانه، حين توزن أعماله عند الله.
وقد رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أَنَّهَا ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا يُبْكِيكِ؟» قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا: عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَوْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الْكِتَابِ حِينَ يُقَالُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)} [الحاقة] حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ أَفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَالِهِ أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ» وفي إسناده ضعف
(1)
. إنه لأمرٌ عظيمٌ من أهوال يوم القيامة.
نسأل الله -جل وعلا- أن يلطف بنا وأن يجعل أعمالنا صالحة متقبلة.
ما يوزن يوم القيامة:
وذكر العلماء أيضًا أن الميزان:
• تُوزَن به أعمال العباد،
• وربما وُزِنَ به العاملُ أيضًا أي: صاحب العمل.
• وربما وزنت صحائف العمل أيضًا،
وعلى ذلك دلَّت الأدلة، فالأدلة تدل على أن الأعمال هي التي توزن من خير أو من شر كما في الحديث السابق: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ
…
» الحديث، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقْرَؤوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَؤوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ
(1)
أخرجه أبو داود (4755) من طريق الحسن عن عائشة وهو لم يسمع منها وانظر: ضعيف الترغيب والترهيب (2108).
أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا
…
»
(1)
. فهذا الحديث المبارك يدل على أنه يؤتى بالقرآن والعمل على هذه الهيئة، فيكون في ميزان العبد مثقلًا له عند الله. وتقدم معنا أن الخُلُق الحَسَنَ أثقلُ ما يكون في الميزان.
كذلك قال أهل العلم أيضًا: قد يوزن العامل نفسه،
وقد جاء في ذلك أحاديث منها: حديث أبي هريرة المتقدم: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ثم قرأ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} [الكهف]»
(2)
.
وكذلك جاء في مناقب ابن مسعود رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مِمَّ تَضْحَكُونَ؟» قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ»
(3)
.
رفعه الله بعمله الصالح وهو مع ضعف بنيته وجسده قوي القلب كبير العلم جليل القدر رضي الله عنه وأرضاه. وقد قال الشاعر:
تَرى الرَجُلَ النَحيفَ فَتَزدَريهِ
…
وَفي أَثوابِهِ أَسَدٌ مزيرُ
وَيُعجِبُكَ الطَريرُ فَتَبتَليهِ
…
فَيُخلِفُ ظّنَّكَ الرَجُلُ الطَريرُ
(4)
(1)
أخرجه مسلم (804) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (4728)، ومسلم (2785).
(3)
أخرجه أحمد (3991) عن ابن مسعود رضي الله عنه. بسند حسن. ورواه أحمد (920) والبخاري في الأدب المفرد (237) من حديث علي رضي الله عنه. ورواه البزار (3305) والحاكم (5385) من حديث قرة بن إياس رضي الله عنه. وانظر: إرواء الغليل (65) والسلسلة الصحيحة (2750)
(4)
البيتان للعبَّاس بن مرداس في ديوانه (ص: 58، 57). والمزير: هو الرجل القوي، والطرير: ذو الهيئة [«مقاييس اللغة» (3/ 409، 5/ 319)]
وعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنه إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ نحيفٌ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: «كُنَيْفٌ
(1)
مُلِئَ عِلْمًا؟ كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلْمًا» - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
(2)
حديث البطاقة:
والتوحيد والإخلاص هو أعظم ما تثقل به الموازين. ومن مواقف الميزان العظيمة ما أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي عُرِفَ عند العلماء بـ"قصة صاحب البطاقة" في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟! فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيءٌ»
(3)
.
(1)
قال الجوهري في الصحاح (مادة كنف): "الكِنْف بالكسر: وعاء تكون فيه أداة الراعي، وبتصغيره جاء الحديث: كُنَيْفٌ مُلِئَ علمًا". ا. هـ والتصغير هنا يراد به المدح والتعظيم.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1550) وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 344، 3/ 65) وابن أبي شيبة في المصنف (32236) والحاكم في المستدرك (5391) -وعنه البيهقي في المدخل (100) -. وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 129) وفي معرفة الصحابة (4493). ورواه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف (18187) -ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير للطبراني (9/ 349) رقم (9735) من طريق قتادة عن عمر وهذا منقطع فقتادة لم يدركهما. وأخرجه محمد بن الحسن الشيباني (607) في زوائده على موطأ مالك الخبر أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم وذكر قصة عن عمر. وله طرق أخرى.
(3)
أخرجه الترمذي (2639) وابن ماجه (4300) وصححه ابن حبان (225) والحاكم (9، 1937) وقال في الموضع الأول: على شرط مسلم ووافقه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (135) وقال في الموضع الثاني صحيح الإسناد ا. هـ وهو الصواب فإن الحديث ليس على شرط مسلم فهو من رواية الليث بن سعد قال حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو فذكره. ورجاله رجال مسلم لكنه لم يرو بهذه السياقة في صحيحه شيء. وعامر ليس له في صحيح مسلم إلا حديث واحد يرويه عن حنش الصنعاني كما في تهذيب الكمال في أسماء الرجال (14/ 85).
وهذا الحديث حديث عظيم، وفيه فوائد:
منها: إثبات الميزان.
ومنها: أن الميزان له كفتان.
ومنها: أن الأعمال توزن.
ومنها بيان طريقة الوزن وأن معنى ثقلت موازينه أي: نزلت،
فمن ثقلت موازينه يكون ناجيًا عند الله.
وقال بعض أهل العلم: ثقل الموازين يعني أن ينار له نور وأن يرى نورًا، ولكن ليس على هذا دليل.
فضل من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه:
كذلك بَيَّنَ العلماء أن هذا الرجل صاحب البطاقة لم يقل: "لا إله إلا الله" هكذا مجردة، وإنما هو رجل امتلأ قلبه إيمانًا وتوحيدًا، وامتلأ قلبُه إفرادًا لله بالعبادة، فهذا الذي نجا به. قال شيخ الإسلام رحمه الله:"وليس كلُّ من تكلم بالشهادتين كان بهذه المنزلة؛ لأن هذا العبد صاحبَ البطاقة كان في قلبه من التوحيد واليقين والإخلاص ما أَوْجَبَ أن عَظُمَ قَدْرُه حتى صار راجحًا على هذه السيئات"
(1)
.
إن الله لا يظلم مثقال ذرة:
وتأمل قوله: «إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ» فإنَّ هذا من الحكم العظيمة في نصب الله عز وجل الموازين ليقيم الحجة على العباد ويرى الإنسان محاسبته لنفسه بنفسه. قال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء]
(1)
المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 224).
وقال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف]
فاحرصوا على الأعمال الصالحات التي تكون سببًا في نجاتكم يوم القيامة.
وإذا عَمِلْتَ أيها المسلم عملًا صالحًا، فَأَخْلِصِ العملَ فيه لله، وليَكُنْ وَفْقَ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن العمل لا يقبله الله -جل وعلا- إلا أن يكون خالصًا صوابًا.
فإذا وفَّقك الله عز وجل إليه، فاحرص على المحافظة عليه، وابتعد عن الغيبة وعن النميمة وعن ظلم العباد، وكل ما هو سببٌ لِفَقْدِ الحسنات.
واحرصوا رحمكم الله على الأخلاق الحسنة؛ والمعاملة الطيبة والكلمة الطيبة، فإنَّها أثقل شيء يوضع في ميزان العبد يوم القيامة.
وهي أمور يستطيع كلُّ إنسان أن يحرص عليها ويستطيع كلُّ إنسان أن يتخلَّق بها،
ولا ينبغي للإنسان أن يقول: أنا تطبَّعت على هذا ولا أستطيع أن أغيِّرَ من أخلاقي ومن طبعي!، كلَّا، فالقرآن يُهذِّب الأخلاق، وقد كان الواحد من الصحابة رضي الله عنهم إذا أسلم خَلَعَ لباس الجاهلية على عتبة باب الإسلام، وتخلَّق بأخلاق هذا الدين، فيلبس لباس التقوى، ويرتدي رداء الإيمان، ويتجلبب بجلباب الخير، فيظهر ذلك على أخلاقه وعلى عمله وعلى أفعاله.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ما عُرِفَ عنه من الأمور قبل الإسلام حتى قال بعض الصحابة - وهو عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ رضي الله عنه يوماً، لزوجته وكانت قالت لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَ عُمَرَ آنِفًا وَرِقَّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا. قَالَ: أَطَمِعْتِ فِي إسْلَامِهِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا يُسْلِمُ الَّذِي رَأَيْتِ حَتَّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ، قال ذلك: يَأْسًا مِنْهُ، لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَقَسْوَتِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ.
(1)
.
(1)
حسن، رواه ابن إسحاق في السيرة (222) -ومن طريقه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (371)، والطبراني في المعجم الكبير للطبراني (25/ 29) رقم (47) وأبو نعيم في معرفة الصحابة (7832)، والحاكم (6895) -. من حديث أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنها وانظر صحيح السيرة للألباني (189)
ومع هذا فإنه لمَّا أسلم صار عبدًا خاشعًا أوَّاهًا منيبًا بكَّاءً بين يدي الله، وقَّافا عند حدوده. كما في صحيح البخاري عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
…
وذكر أن قوما أغضبوا عُمَر رضي الله عنه حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِم، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ بن قيس: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، قال:«وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ»
(1)
وبذا صار أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وصديقها أبي بكر رضي الله عنهما.
فيستطيع المؤمن أن يحرص على الانتفاع بكلام الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويربي نفسه ويهذب أخلاقه عليهما.
يقول ابن القيم رحمه الله:
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يُستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا،
ثم قال:
…
وثِقَلُ مِيزَانِهِ هُنَاكَ بِحَسَبِ تَحَمُّلِهِ ثِقَلَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا بِحَسَبِ مُجَرَّدِ كَثْرَةِ الْأَعْمَالِ،
وَإِنَّمَا يَثْقُلُ الْمِيزَانُ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَبَذْلِهِ إِذَا سُئِلَ، وَأَخْذِهِ إِذَا بَذَلَ
كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرَ رضي الله عنهما:
(وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ وَلَهُ حَقٌّ بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ،
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ وَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا
وَحُقَّ لِمِيزَانٍ يُوضَعُ فِيهِ الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا،
(1)
صحيح البخاري (4642)
وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي دَارِ الدُّنْيَا خِفَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا)
(1)
. ا. هـ
(2)
أسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا ممن ثقلت موازينُه
وأن يجعلنا من الناجين في يوم القيامة.
إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (942 - التفسير) وأبو نعيم في الحلية (1/ 36) عن عبد الرحمن بن سابط، وابن المبارك في "الزهد"(914) وابن أبي شيبة (35574، 38211) وأبو داود في الزهد (29) والخلال في السنة (345) عن زُبيد اليامي، والربعي في الوصايا (ص 34 - 35) عن قتادة، وابن عساكر في تاريخ دمشق (30/ 414) عن ابن أبي نجيح. وهذه الروايات ــ وإن كانت مراسيل ــ فإنها يعضد بعضها بعضًا، وتجعل للوصية أصلًا. وقد قال ابن القيم: تلقَّاها عمر بالقبول هو وسائر الصَّحابة رضي الله عنهم ا. هـ «مدارج السالكين» (1/ 579 ط عطاءات العلم).
(2)
اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 85)
JIH
الإيمان بالحشر
F e
المجلس الثالث والثلاثون
(1)
حشر الله عز وجل للعباد وتوجيهُهم إلى مآلهم إلى جنة أو إلى نار:
المستقَرُّ للإنسان يوم القيامة هو إما جنة وإما نار، فهو المقر الذي يصير إليه العباد جميعا.
فالناس في عرصات القيامة بعد الحساب والجزاء وبعد أن توزن الموازين وتتطاير الصحف، منهم آخذٌ كتابَه بيمينه وآخذٌ كتابَه بشماله.
يكون أيضًا من المواقف العظيمة موقف يجمع الله عز وجل فيه الأوَّلين والآخرين، ويجمع الله عز وجل فيه الناس، ويجتمع المؤمنون والكافرون والمنافقون في صعيد واحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يُؤمَرُ بهم، كلٌّ إلى حيث كتب الله عز وجل له، وذلك بأعمالهم التي عملوها إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
وقد جاء بيانُ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في جملة من الأحاديث:
فمن ذلك حديث أبي سعيد الخدري، وحديث عبد الله بن عمرو، وحديث جابر بن عبد الله، وحديث جرير بن عبد الله البجلي وغير واحد رضي الله عنهم.
ونورد ما تيسَّر من هذه الأحاديث؛ لننظر كيف سيكون الموقف بعد أن توزن الأعمال وتتطاير الصحف.
رؤية المؤمنين ربهم وحشر العباد إلى الصراط:
جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ
(1)
كان في يوم الخميس التاسع عشر من شهر شوال من عام 1441 هـ.
سَحَابٌ؟ قالوا: لا يا رسول الله
(1)
؟ -قال: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قالوا: لا. قال: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ
(2)
، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ
…
» الحديث
(3)
فأفادنا هذا الحديث: أن مما يقع من الأمور العظيمة في عرصات القيامة: أنَّ أهل الإيمان يرون ربهم -جل وعلا- قبل أن يجوزوا الصراط.
يوم يكشف عن ساق:
ويكون ذلك على الصفة والعلامة التي بينهم وبين ربهم -جل وعلا- وهي أن {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ» قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟» . قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «مَا تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ اللَّهِ تبارك وتعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ إِلاَّ يَتَسَاقَطُونَ في النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟
(1)
يعني أخبروني عن القمر إذا كان بدرًا وليس دونه سحاب هل هناك مرية وشك في رؤيته.
(2)
-يعني سترون ربكم رؤيةَ حقٍّ وسيكون ذلك يوم القيامة -نسأل الله أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه-، وهذه الرؤية قبل دخول الجنة، وهم ما زالوا في عرصات القيامة، كما في تمام الحديث.
(3)
أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182).
قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ في النَّارِ. ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ. مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. -قَالَ-: فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ في النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ في أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا. قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا-مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا-حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ. فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلاَّ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ. ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ
…
»
(1)
.
هذا موقف عظيم من مواقف القيامة وأهوالها! ومجمع يجمع الله عز وجل فيه الخلائق ثم يبدأ الله عز وجل بفصل بعضهم عن بعض وينادى: من كان يعبد إلهًا فليذهب معه.
تنبيه في تفسير كلمة التوحيد "لا إله إلا الله":
كم الآلهة المتعددة؟ الناس في هذه الدنيا يعبدون آلهةً متعددة. ولهذا قال ربنا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} [الحج]. ولهذا يقول العلماء في تفسير كلمة التوحيد كلمة "لا إله إلا الله"
(1)
أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183).
يقولون: معناها لا معبود بحق إلا الله، وغيرُ الله إن عُبِدَ فإنما يعبد بباطل. هذا معنى هذه الكلمة، وليس معناها أنه لا معبود إلا الله، بل لا معبود بحق إلا الله؛ فلا بد من هذه الكلمة -أعني كلمة "بحق"؛ لأنَّ هناك آلهةً عُبِدَت بباطل من دون الله، فليس هناك إله حق إلا الله -جل وعلا- لأنه الخالق الرزاق مالك الملك المدبر، فلا يستحق العبادة أحدٌ سواه.
أمَّا الآلهة المتعدِّدة التي انتشرت عند الناس: فمنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد القبور والأضرحة، ومنهم من يعبد البقر، أو الحجر أو الشجر أو غير ذلك من الآلهة. فإذا جاء يوم القيامة يزاد في التنكيل بهم، ويحشرون مع آلهتهم التي عبدوها من دون الله، هذا إذا كانت هذه الآلهة من هذه الأوثان وغيرها.
من عُبِدَ من الأنبياء والصالحين:
أما عبادتهم للأنبياء وعبادتهم للمرسلين وعبادتهم للصالحين ونحوهم ممن هو غير راضٍ عن عبادتهم إيَّاه فإن الله عز وجل ينجيهم. كما في مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ:
…
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِقُرَيْشٍ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ» وَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ النَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليها السلام، (وَمَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ)
(1)
، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى كَانَ نَبِيًّا وَعَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَالِحًا، فَلَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَإِنَّ آلِهَتَهُمْ لَكَمَا تَقُولُونَ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} [الزخرف: 57] قَالَ:
(1)
قال الشيخ أحمد البنا في الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (18/ 266): أي وما تقول النصارى في محمد من عدم تصديقهم بنبوته ا. هـ وقال العلامة أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 284): قوله «وما تقول في محمد» هكذا هو في الأصلين وابن كثير، وفي الزوائد «وما يقول محمد» ، ولعله أصح، أو يكون في الكلام نقص ا. هـ
قُلْتُ: مَا يَصِدُّونَ؟ قَالَ: يَضِجُّونَ، {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61]، قَالَ: هُوَ خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
(1)
وفي رواية عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالُوا: شَتَمَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا فَقَامَ ابْنُ الزِّبَعْرَى فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: شَتَمَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالُوا: قَالَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} قَالَ: ادْعُوهُ لِي، فَدُعِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: يَا مُحَمَّدُ هَذَا شَيْءٌ لِآلِهَتِنَا خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قَالَ: «بَلْ لِكُلِّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ عز وجل» قَالَ: فَقَالَ: خَصَمْنَاهُ وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ، يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ صَالِحٌ وَعُزَيْرًا عَبْدٌ صَالِحٌ، وَالْمَلَائِكَةَ عِبَادٌ صَالِحُونَ، قَالَ:«بَلَى» ، قَالَ: فَهَذِهِ النَّصَارَى يَعْبُدُونَ عِيسَى وَهَذِهِ الْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا وَهَذِهِ بَنُو مَلِيحٍ تَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، قَالَ: فَضَجَّ أَهْلُ مَكَّةَ فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء] قَالَ: وَنَزَلَتْ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} [الزخرف] وَهُوَ الضَّجِيجُ
(2)
.
وفي رواية عن الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزِّبَعْرَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، تَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةَ:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)}
(1)
أخرجه أحمد (2918) من طريق شيبان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن أبي يحيى، مولى ابن عقيل الأنصاري، به فذكره. وروى الحاكم في المستدرك (3003) آخره وصححه. وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3208)
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (986) من طريق أبي بكر بن عياش، عن عاصم، به ومن هذا الطريق رواه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 153) رقم (12739) وسقط من سنده "أبو يحيى". والصواب إثباتها فقد رواه الواحدي في أسباب النزول (306) من الطريق التي رواها الطبراني بإثباتها
[الأنبياء]، فَقَدْ عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْمَلَائِكَةُ وَعُزَيْرٌ وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، أَوَكُلُّ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ مَعَ آلِهَتِنَا؟، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101] وَنَزَلَتْ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} [الزخرف: 57]
(1)
قال الحافظ عماد الدين إسماعيل ابن كثير رحمه الله:
وَهَذَا الجدل الذى سلكوه بَاطِل. وهم يعلمُونَ ذَلِك، لأنهم قوم عرب، وَمن لغتهم أَنْ " مَا " لما لَا يعقل، فَقَوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} إِنَّمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَحْجَارِ الَّتِي كَانَتْ صُوَرَ أَصْنَامٍ، وَلَا يَتَنَاوَلُ ذَلِك الْمَلَائِكَة الَّذين زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُمْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَا الْمَسِيح، وَلَا عَزِيزًا، وَلَا أَحَدًا مِنَ الصَّالِحِينَ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنْ مَا ضربوه بِعِيسَى بن مَرْيَمَ مِنَ الْمَثَلِ جَدَلٌ بَاطِلٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} [الزخرف] ا. هـ
(2)
مقالة اليهود والنصارى في ادعائهم لله ولدا:
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه وغيره بيانٌ عظيم بأن هناك فرقًا كبيرًا بين أهل الإيمان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وبين اليهود والنصارى عبدة الأوثان؛ فإنهم عبدوا غير الله وادَّعَوا أن الله اتخذ صاحبة أو ولدًا. وبعضُ الناس في هذه الأيام يريد أن يُميِّع الأمر، ويقول: ليس بيننا وبين اليهود والنصارى فرق البتة، فهم أهل دين ونحن أهل دين وهم أصحاب كتاب ونحن أصحاب كتاب ونحن من أبناء الديانات السماوية. وكلها أقاويل باطلة. وقد راجت على بعض الناس في الدنيا لكنها لا تروج يوم القيامة. فانظروا حين ينادي منادٍ
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (988) وحسنه شيخنا الوادعي في الصحيح المسند من أسباب النزول (137). ورواه الحاكم (3449) من طريق يزيد النحوي عن عكرمة به وصححه. وفي سنده محمد بن موسى بن حاتم وهو ضعيف كما في لسان الميزان (7/ 540)
(2)
السيرة النبوية لابن كثير (2/ 53 - 54)
«لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ» ، فيذهبُ أصحابُ الصليب مع صليبهم، وأصحابُ الأوثان مع أوثانهم، وأصحابُ كل آلهة مع آلهتهم، فيتساقطون في نار جهنم. -نعوذ بالله-
مآل المنافقين:
ويبقى المؤمنون ومن كان يتظاهر بالإيمان أيضًا من المنافقين، فيميز الله عز وجل أيضًا في هذه الأمة بين المؤمن الصادق الذي عَبَدَ الله سبحانه خالصًا وبين المنافق الذي كان يصلي ويصوم ويحج ويتصدق وهو مع المؤمنين ظاهرا لكنه لم يكن عمله لله -جل وعلا- خالصًا. يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وقد سئل عن الورود- قال: «نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا انْظُرْ أَيْ ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ، فَتُدْعَى الأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ مَنْ تَنْظُرُونَ؟ -أي: من تنتظرون؟ - فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبَّنَا. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ. فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ -قَالَ- فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ -مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ- نُورًا ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يُحَاسَبُونَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَإ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَشْفَعُونَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً
…
» إلى آخر الحديث
(1)
. -والحديث له حكم الرفع-. وهكذا فإنَّ نور المنافق ينطفئ يوم القيامة، وقد ذكر الله عز وجل هذا النور في كتابه في سورة الحديد وفي سورة التحريم: يقول الله -جل وعلا-: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الحديد]. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين المتصدقين: أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة، بحسب أعمالهم، كما قال عبد الله بن مسعود في قوله:{يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: 12] قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة،
(1)
أخرجه مسلم (489).
ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويطفأ مرة"
(1)
. قال: وأما أهل النفاق فإن الله يقول: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] ماذا يحصل لهم في هذا الموقف؟
قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات
من الأهوال المزعجة والزلازل العظيمة، والأمور الفظيعة، وإنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله ورسوله وعمل بما أمر الله به وترك ما عنه زجر"
(2)
.
كلٌ نوره يوم القيامة بحسب عمله في دنياه:
وانظروا إلى هذا الموقف العصيب الذي يحتاج فيه الإنسان إلى العمل الصالح، هذا الموقف الذي يتميز فيه الكفار من المؤمنين ومن المنافقين، ويغدو كلٌّ إلى مصيره ومآله الذي كتب الله عز وجل: فذلة ومهانة تلحق الكافرين، وتلحق هؤلاء المجرمين، وذلة ومهانة تكون على رؤوس المنافقين، وسعادةٌ وفرحةٌ تكون لأهل الإيمان.
حال الكافر يوم القيامة:
وأما الكافرون في هذا الموقف العظيم -كما ذكرنا في الأدلة السابقة-: فيؤمر بهم، فيحشرون مع ما كانوا يعبدون. وانظر إلى تصوير القرآن الكريم إذ يقول الله:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} يساقون إلى جهنم جماعَة تلو جماعَة يُنهَرون نهرًا غليظًا، ويصاح بهم من هنا وهناك كما يفعل الراعي ببقره أو غنمه، يُنهَرون وهم يغدُون إلى نار جهنم. {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر: 71]
…
الآيات.
ثم انظروا أيضًا إلى قول الله سبحانه: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)} [فصلت] يعني: يُجمَعون، فتجمعهم الزبانية على آخرهم كما يفعل البشر بالبهائم!
(1)
تفسير ابن كثير (8/ 15).
(2)
المرجع السابق (8/ 50).
ويصور الله لنا هذا الموقف في آية أخرى: فيقول -جل وعلا-: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)} [الفرقان] فيحشرون على وجوههم لا كما كانوا يمشون في الدنيا على أرجلهم. وقد جاء في الصحيحين من حديث أنس صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال:
(1)
-بلى وعزةِ ربنا-. فهذه صورةٌ عظيمةٌ، صورةٌ فيها فزعٌ وخوفٌ، كيف يحشرون على وجوههم التي هي أشرف أعضائهم والتي يحميها الإنسان في الدنيا من كل أذى؟!
ويصور الله عز وجل لنا هولًا آخر مما يكون عند حشر هؤلاء إلى النار: فيقول سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء].
وفي آية أخرى فيها أن الله يجمعهم مع نظرائهم ومع الأشرار: فيحشرون مع أزواجهم، كما قال الله -جل وعلا-:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات]. {وَأَزْوَاجَهُمْ} يعني: ونظراءهم، فكلُّ من كان في شر يُحشَر مع من هو مثلُه. {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي: دلُّوهم على نار جهنم.
-نسأل الله السلامة والعافية-.
ويزيد بلاءَهم أنهم يكونون مغلوبين مقهورين أذلاء صاغرين: كما قال ربنا -جل وعلا-: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)} [آل عمران]
وقبل أن يصلوا إلى نار جهنم تَصُكُ مسامَعَهم أصواتُها التي تملأ قلوبهم رعبًا وهلعًا
{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)} [الفرقان]
فإذا وقفوا على النار فإنَّ الله يقول: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)} [الأنعام]
(1)
تقدم (ص: 130).
ولكنهم لا يجدون من النار مفرًّا: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)} [الكهف]
تأملوا كيف الذلة والمهانة التي تكون لهؤلاء يوم القيامة!
وكيف يقادون إلى نار جنهم بهذه الصورة المذلة المهينة جزاءَ ما عملوا في هذه الدنيا من أعمال سيئة! يقول الله: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم]. فهذه آيات صوَّر الله عز وجل فيها الحال التي يكون عليها هؤلاء.
حال المنافق يوم القيامة:
أما أهل النفاق الذين يُعطَون نورًا ثم ينطفئ عنهم فإنه تتعدد حسرتهم يوم القيامة، كانوا مع المؤمنين في الدنيا، يُصلُّون معهم، يصومون معهم، يحجون معهم، يتصدقون معهم، وربما أخذوا من الليل، فقاموا، وربما فعلوا وفعلوا، لكن أعمالهم لم تُخلَص لله. كانوا في الدنيا مع المؤمنين ثم ماتوا ودُفِنُوا في مقابر المسلمين ثم يقومون يوم القيامة، مع المسلمين ثم يحشرون، فإذا حُشِروا أُعطِيَ كلُّ إنسانٍ من أهل الإيمان نورًا، ويعطى المنافق نورًا، لكنّ نور المؤمن يبقى ويظل معه، وأما نور المنافق فإنه ينطفئ. وحينئذ ينادي أهلَ الإيمان:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} ولا يزال المنافق مغترًّا حتى يقسم النور ويميز الله بين المنافق وبين المؤمن، فينادي:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} كنا معكم في الدنيا، فيرد عليهم المؤمنون:{ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} يعني من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور، قال الله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)} [الحديد]. قال أهل التفسير: هو حائط بين الجنة والنار يُحجَز فيه بين أهل النفاق وبين أهل الإيمان
(1)
.
فوالله إن هذا لأمر عظيم يجعل القلب يرجف خوفًا على نفسه من النفاق.
-نسأل الله السلامة والعافية-
خوف المؤمن من النفاق:
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان أشدَّ ما يكونون خوفًا من النفاق ومن الوقوع فيه.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: «مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا»
(2)
، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:«أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ»
(3)
. وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ: «مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ»
(4)
ا. هـ
(5)
.
فهؤلاء في هذا الموقف ينادون أهل الإيمان: أما كنا معكم في الدار الدنيا؟!
(1)
تفسير الطبري (22/ 403).
(2)
وصله: ابن سعد في «الطبقات الكبرى ط دار صادر» (6/ 285)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 160) رقم (34970)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 353 ت المعلمي)، وابن أبي الدنيا في «الصمت» (104، 576)، وعبد الله بن أحمد في زوائد «الزهد» (2071) وغيرهم.
(3)
وصله البخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 137 ت المعلمي) والخلال في «السنة» (1081) من طريق يَحيى بن اليَمانِ، عنْ سُفيانَ، عنِ ابنِ جُريجٍ، عنِ ابنِ أَبي مُليْكَةَ به.
(4)
وصله المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (687) والفريابي في «صفة النفاق وذم المنافقين» (81)، من طريق جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَحْلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ:«مَا مَضَى مُؤْمِنٌ قَطُّ وَلَا بَقَى إِلَّا وَهُوَ مِنَ النِّفَاقِ مُشْفِقٌ، وَلَا مَضَى مُنَافِقٌ قَطُّ وَلَا بَقَى إِلَّا وَهُوَ مِنَ النِّفَاقِ آمِنٌ» ورواه الفريابي أيضا (82) والخلال في «السنة» (1653) -واللفظ له-، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1058): من طريق مُؤَمَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ:«وَاللَّهِ، مَا أَصْبَحَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ وَلَا أَمْسَى عَلَى وَجْهِهَا مُؤْمِنٌ، إِلَّا وَهُوَ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَا أَمِنَ النِّفَاقَ إِلَّا مُنَافِقٌ» ورواه البيهقي في الشعب (833) من طريق مؤمل عن حماد بن زيد عن المعلى، ورواه الخلال أيضا (1656) من طريق هِشَامٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ:«وَاللَّهِ مَا مَضَى مُؤْمِنٌ وَلَا تَقِيٌّ إِلَّا يَخَافُ النِّفَاقَ، وَمَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ»
(5)
«صحيح البخاري» (1/ 18 ط السلطانية)
أما كنا معكم نشهد الجمعات ونصلي الجماعات ونقف بعرفات ونحضر الغزوات ونؤدي معكم الواجبات؟!
فيقول لهم المؤمنون: بلى قد كنتم معنا: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} [الحديد]
قال ابن كثير رحمه الله: "قال بعض السلف: أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات {وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} أي: أخَّرتم التوبة من وقت إلى وقت. وقال قتادة: {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالحق وأهله {وَارْتَبْتُمْ} أي: بالبعث بعد الموت {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} أي: قلتم: سيغفر لنا. وقيل: غرتكم الدنيا {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} أي: ما زلتم في هذا حتى جاء الموت {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي: الشيطان. قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار
(1)
. ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين: إنكم كنتم معنا أي: بأبدانٍ لا نية لها ولا قلوب معها، وإنما كنتم في حيرة وشك، فكنتم تراؤون الناس، ولا تذكرون الله إلا قليلًا. قال مجاهد: كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم، وكانوا معهم أمواتًا، ويعطون النور جميعًا يوم القيامة، ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور، ويماز بينهم حينئذ
(2)
"
(3)
.
-فنسأل الله السلامة والعافية-
أيها العبد المؤمن، هذا جانب واحد من تلك الجوانب العظيمة التي تقع في يوم القيامة أخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم وفصَّل القرآن شيئًا منها.
نسأل الله -جل وعلا- أن يتقبل منا أعمالنا، وأن يعيذنا من الكفر والشرك والشقاق والنفاق وسيئ الأخلاق، ونسأله سبحانه أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.
(1)
تفسير ابن جرير الطبري (22/ 406).
(2)
المرجع السابق (22/ 404).
(3)
وانظر كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 18).
JIH
الإيمان
بالحوض المورود
F e
المجلس الرابع والثلاثون
(1)
الإيمان بالحوض:
من الإيمان بالغيب ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بحوض النبي صلى الله عليه وسلم حيث يكرم الله عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في الموقف العظيم بإعطائه حوضًا واسع الأرجاء، ماؤُه أبيضُ من اللبن، وأحلى من العسل، وريحُه أطيبُ من المسك، وكِيزانُه كنجوم السماء يُمَدُّ من نهر الكوثر من الجنة كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
تواتر أحاديث الحوض:
وقد ورد فيه أحاديثُ كثيرةٌ بلغت مبلغ التواتر كما قال الناظم
(2)
:
مما تواترَ حديثُ «مَنْ كَذَبْ»
…
وَ «مَنْ بَنَى للهِ بيتاً واحْتَسَبْ»
و «رؤيةٌ» «شَفَاعَةٌ» و «الْحَوضُ»
…
وَ «مْسُحُ خُفَّيْنِ» وَهذى بَعْضُ
وعدَّها جماعة من العلماء نحو خمسين حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذُكِرَت في هذه الأحاديث أوصافُه وما يتعلق بأخباره ونُورِدُ هنا ما تيسَّر منها.
ذكر جملة من أحاديث الحوض:
1 -
عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي الله عنهم، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا؟ قَالَ:«سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ» متفق عليه
(3)
(1)
كان في يوم الأحد الثاني والعشرين من شهر شوال من عام 1441 هـ.
(2)
البيتان عزاهما الكتاني في نظم المتناثر إلى العلامة محمد التاودي في حاشيته على البخاري (زاد المجد الساري) ترجمه الزركلي في الأعلام (6/ 62) وقال: محمد التاودي بن محمد الطَّالِب ابن محمد بن علي، ابن سَوْدَة المُرِّي الفاسي (1111 - 1209) فقيه المالكية في عصره، وشيخ الجماعة بفاس.
(3)
أخرجه البخاري (3792) ومسلم (1845)
2 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَمَامَكُمْ حَوْضٌ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ» متفق عليه وفي رواية لمسلم: «إِنَّ أَمَامَكُمْ حَوْضِي
…
» وفي رواية له أيضا ذكره وزاد «
…
فِيهِ أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا»
(1)
3 -
وعنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، (وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ)، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ [وفي رواية: مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ]، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا» متفق عليه
(2)
4 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ:«إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، [وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الحَوْضُ] وَإِنِّي وَاللهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ، وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، أَوْ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ، وَإِنِّي، وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَنَافَسُوا فِيهَا» متفق عليه
(3)
5 -
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي عَلَى الحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا. متفق عليه
(4)
6 -
وعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ «إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، فَوَاللهِ لَيُقْتَطَعَنَّ دُونِي رِجَالٌ، فَلَأَقُولَنَّ: أَيْ رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، مَا
(1)
رواه البخاري (6577) ومسلم (2299).
(2)
رواه البخاري (6579) ومسلم (2292) واللفظ له والرواية للبخاري وقوله (زواياه سواء) زيادة لمسلم.
(3)
رواه البخاري (1344، 4042) -والزيادة له-، ومسلم (2296).
(4)
أخرجه البخاري (6593، 7048) ومسلم (2292)
زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» رواه مسلم
(1)
7 -
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَذْكُرُونَ الْحَوْضَ، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ يَوْمًا مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَارِيَةُ تَمْشُطُنِي، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«أَيُّهَا النَّاسُ» فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ: اسْتَأْخِرِي عَنِّي، قَالَتْ: إِنَّمَا دَعَا الرِّجَالَ وَلَمْ يَدْعُ النِّسَاءَ، فَقُلْتُ: إِنِّي مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي لَكُمْ فَرَطٌ عَلَى الْحَوْضِ، فَإِيَّايَ لَا يَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ فَيُذَبُّ عَنِّي كَمَا يُذَبُّ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، فَأَقُولُ: فِيمَ هَذَا؟ فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا» رواه مسلم
(2)
8 -
وَلمسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَقَالَ: «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَإِنَّ عَرْضَهُ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى الْجُحْفَةِ،
…
» الحديث قَالَ عُقْبَةُ: فَكَانَتْ آخِرَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ
(3)
.
9 -
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ اليَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ» متفق عليه، وفي رواية لمسلم:«تُرَى فِيهِ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ» ولمسلم وابن ماجه «مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ، وَالْمَدِينَةِ، أَوْ كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ، وَعَمَّانَ»
(4)
10 -
ولأحمد من طريق علي بن زيد عن الحسن عن أنس مرفوعا: «إِنَّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ، - أَوْ ما بَيْنَ صَنْعَاءَ وَمَكَّةَ -»
(5)
11 -
وعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ رِجَالٌ مِمَّنْ صَاحَبَنِي، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَرُفِعُوا إِلَيَّ اخْتُلِجُوا دُونِي،
(1)
أخرجه مسلم (2294)
(2)
المرجع السابق (2295)
(3)
رواه مسلم (2296) وهو بنحوه -مع قول عقبة-عند البخاري (4042) وليس فيه تحديد المسافة.
(4)
أخرجه البخاري (6580)، ومسلم (2303) وابن ماجه (4304)
(5)
مسند أحمد (13405) وسنده ضعيف لضعف علي بن زيد
فَلَأَقُولَنَّ: أَيْ رَبِّ أُصَيْحَابِي، أُصَيْحَابِي، فَلَيُقَالَنَّ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» متفق عليه
(1)
12 -
وعَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقَالَ:«أَنَا فَاعِلٌ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: «اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ» . قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ المِيزَانِ» . قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ المِيزَانِ؟ قَالَ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوْضِ فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ المَوَاطِنَ» أخرجه الترمذي
(2)
13 -
وعَنْ مَعْدَانَ بنِ أَبِيْ طَلْحَةَ عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنِّي لَبِعُقْرِ حَوْضِي أَذُودُ النَّاسَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ أَضْرِبُ بِعَصَايَ حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ» . فَسُئِلَ عَنْ عَرْضِهِ فَقَالَ: «مِنْ مَقَامِي إِلَى عَمَّانَ» [أو قال: مَا بَيْنَ بُصْرَى وَصَنْعَاءَ أَوْ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَمَكَّةَ] وَسُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ فَقَالَ: «أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَالْآخَرُ مِنْ وَرِقٍ» رواه مسلم
(3)
14 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَلَا إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَإِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ، كَأَنَّ الْأَبَارِيقَ فِيهِ النُّجُومُ» رواه مسلم
(4)
15 -
وَعَنْ جُنْدَبَ بنِ عَبد اللهِ بنِ سُفْيَانَ البَجَلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ» متفق عليه
(5)
16 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، [وَ] لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ، حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لِأُنَاوِلَهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ
(1)
أخرجه البخاري (6582) ومسلم (2304)
(2)
تقدم في أحاديث الحوض (ص: 237)
(3)
صحيح مسلم (2301) وعبد الرزاق (20853) - وعنه أحمد (37/ 106) - والزيادة منه.
(4)
رواه مسلم (2305) وفي (1822) مختصرا
(5)
رواه البخاري (6589) ومسلم (2289).
أَصْحَابِي، [فَـ] يَقُولُ:[إِنَّكَ] لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» متفق عليه
(1)
17 -
وَعَنْ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الحَوْضَ فَقَالَ: «كَمَا بَيْنَ المَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ» متفق عليه
(2)
18 -
زاد مسلم -وهو في البخاري تعليقا-: فَقَالَ لَهُ المُسْتَوْرِدُ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ: الأَوَانِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ المُسْتَوْرِدُ:«تُرَى فِيهِ الآنِيَةُ مِثْلَ الكَوَاكِبِ»
(3)
وفي رواية للبزار: قال المستورد: لَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«تَرَى فِيهِ الْآنِيَةَ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ»
(4)
19 -
وعَنْ أَبِيْ حَازِمٍ -سلمةَ بنِ دينارٍ- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ»
20 -
قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه وأرضاه، لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَزِيدُ فِيهَا:«فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي» متفق عليه
(5)
21 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ حَوْضِي لَأَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، [لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَلَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ
(1)
أخرجه البخاري (7049) واللفظ له، ومسلم (2297). والزيادة من رواية للبخاري رقم (6576)
(2)
أخرجه البخاري (6591)، ومسلم (2298).
(3)
علقه البخاري (6592) بصيغة الجزم، ووصله مسلم (2298).
(4)
علقه البخاري (6592) بصيغة الجزم، ووصله مسلم (2298) والبزار (3465) كلاهما عن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَارِثَةَ،
…
-فذكر الحديث- فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ:
…
إلخ. ورواه زكريا الساجي - كما في المعجم الكبير للطبراني (3/ 237) رقم (3262) - عن ابن بزيغ به بلفظ مسلم المذكور أعلاه. ورواه بكر بن بكار - كما في السنة لابن أبي عاصم (730) - عن شعبة به بلفظ مسلم.
(5)
رواه البخاري (6583، 6584، 7050) ومسلم (2290)
اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ] إِنِّي لَأَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ الْإِبِلَ الْغَرِيبَةَ عَنْ حَوْضِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ» رواه مسلم وابن ماجه
(1)
22 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا، مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ» رواه مسلم
(2)
23 -
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أيضا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ» قَالُوا يَا نَبِيَّ اللهِ أَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلَا يَصِلُونَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِي. فَيُجِيبُنِي مَلَكٌ، فَيَقُولُ: وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟» رواه مسلم
(3)
24 -
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ القِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي، فَيُحَلَّئُونَ
(4)
عَنِ الحَوْضِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي، فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ القَهْقَرَى» علقه البخاري ووصله أبو عوانة في المستخرج.
(5)
(1)
رواه مسلم (284) وابن ماجه (4302) بسند واحد، والزيادة لابن ماجه.
(2)
رواه مسلم (247)
(3)
رواه مسلم (247) ونحوه في (249) وللبخاري (2367) ومسلم (2302) جملة الذود عن الحوض من طريق أخرى. وللبخاري (136) ومسلم (247) من طريق أخرى جملة الوضوء.
(4)
يُحَلَّئُونَ -بفتح الحاء المهملة، وتشديد اللام، بعدها همزة مضمومة قبل الواو- أي: يطردون ويمنعون. انظر: فتح الباري (11/ 474).
(5)
رواه البخاري (6585) معلقا، فقال: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الحَبَطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ به. ووصله يعقوب بن شيبة في مسند عمر بن الخطاب (ص: 85) وأبو عوانة في المستخرج ط الجامعة الإسلامية (10164) -ومن طريقه الحافظ في تغليق التعليق (5/ 187) -. وخولف فيه شبيب، فرواه ابن وهب عن يونس عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
…
فذكره. رواه البخاري (6586) وقال الدارقطني كما في التتبع (ص 123): قد خالف يونس جماعة منهم معمر، رواه عن الزهري عن رجل عن أبي هريرة ولو كان عن ابن المسيب لم يكن عنه الزهري ولصرح به. والله أعلم. ورواه شعيب وعقيل عن الزهري قال: كان أبو هريرة يحدث مرسلاً
…
قال: ولم يتابع يونس على سعيد. وقال الدارقطني: وقال عبد الله بن سالم عن الزبيدي عن الزهري عن أبي جعفر محمد بن علي عن عبيد الله ابن أبي رافع عن أبي هريرة ا. هـ قلت: وطريق ابن أبي رافع رواه البخاري تعليقا عقب رواية ابن وهب المتقدمة. ووصلها يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (1/ 360) وابن أبي عاصم في السنة (769/ مختصرا) والطبراني في مسند الشاميين (1708) وابن عبد البر في التمهيد (2/ 296 ط المغربية) وابن عساكر في تاريخ دمشق (8/ 108)، -ومن طريقه الحافظ في تغليق التعليق (5/ 188) -، وانظر العلل للدارقطني (1366).
25 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا، أَلَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ، آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ، يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ، عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ، مَا بَيْنَ عُمَانَ
(1)
إِلَى أَيْلَةَ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» رواه مسلم
(2)
26 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ:«مَا أَنْتُمْ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِمَّنْ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ» قَالَ: قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: سَبْعُ مِائَةٍ أَوْ ثَمَانِ مِائَةٍ. رواه أبو داود
(3)
(1)
قال الشيخ محمد تقي العثماني في تكملة فتح الملهم (10/ 477): ضبطه القاضي عياض بفتح العين، وتشديد الميم، وهي عَمّان البلقاء، عاصمة الأردنّ اليوم، وجزم الحافظ في الفتح بأنه عُمَان بضمّ العين، وتخفيف الميم، وهو البلد المعروف بالخليج اليوم الذي عاصمته مسقَط، وبذلك جزم البكريّ، قال: ويبدو أنه الأصحّ؛ لكون مسافة ما بين أيلة وعَمّان البلقاء قريبةً، بخلاف المسافة بينهما وبين عُمَان مسقط ا. هـ
(2)
رواه مسلم (2300)
(3)
رواه أبو داود (4746) وأحمد (19268) والحاكم في المستدرك (256، 257) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولكنهما تركاه للخلاف الذي في متنه من العدد والله أعلم ا. هـ وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (607) وتعقب الحاكم فقال: هو على شرط البخاري فقط؛ لأن طلحة بن يزيد ليس من رجال مسلم وقول الحاكم: "إنهما تركاه للخلاف في متنه من العدد". الأولى أن يقال: تركاه لأنهما لم يلتزما أن يخرجا كل حديث صحيح. وقد ذكرت ذلك في آخر "الإلزامات للدارقطني" معزوًّا إلى الشيخين -رحمهما الله- ا. هـ قلت: وطلحة بن يزيد ذكر الحافظ في التهذيب أن النسائي وثقه ا. هـ وتعقبه الشيخ الأرناؤوط في تحقيق السنن بأنه وهم في ذلك وقال إنه لم يقف على كلام النسائي ا. هـ قلت: وتوثيق النسائي لطلحة هذا موجود في السنن الكبرى عقب حديث ابن مسعود رضي الله عنه في السنن الكبرى (2689) كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ،
…
».
27 -
وَعَنِ الصُّنَابِحِ الْأَحْمَسِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ فَلَا تَقْتَتِلُنَّ بَعْدِي» رواه ابن ماجه
(1)
28 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ لِي حَوْضًا مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَبْيَضَ، مِثْلَ اللَّبَنِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه ابن ماجه
(2)
29 -
وفي سنن النسائي الكبرى عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ مُخَضْرَمَةٍ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ يَوْمُكُمْ هَذَا؟» قُلْنَا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ:«صَدَّقْتُمْ، يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، أَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ شَهْرُكُمْ هَذَا؟» قُلْنَا: ذُو الْحِجَّةِ، قَالَ:«صَدَّقْتُمْ، شَهْرُ اللهِ الْأَصَمُّ، أَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ بَلَدُكُمْ هَذَا؟» قُلْنَا: الْبَلَدُ الْحَرَامُ، قَالَ:«صَدَّقْتُمْ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ، هَذَا أَلَا إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ فَلَا تُسَوِّدُوا وَجْهِي، أَلَا وَقَدْ رَأَيْتُمُونِي وَسَمِعْتُمْ مِنِّي، وَسَتُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ [أَلَا وَإِنِّي مُسْتَنْقِذٌ رِجَالًا أَوْ نَاسًا، وَمُسْتَنْقَذٌ مِنِّي آخَرُونَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا
(1)
رواه ابن ماجه (3944) وإسناده صحيح
(2)
رواه ابن ماجه (4301) وابن أبي شيبة (31681) وغيرهما وفي سنده عطية راويه عن أبي سعيد، وهو ضعيف مدلس. والحديث حسنه الشيخ الألباني لشواهده في السلسلة الصحيحة (3949)
تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ]»
(1)
30 -
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُونِي فَأَنَا عَلَى الْحَوْضِ [وَالْحَوْضُ] مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ، وَسَيَأْتِي [أَقْوَامٌ] رِجَالٌ وَنِسَاءٌ بِآنِيَةٍ وَقِرَبٍ ثُمَّ لَا يَذُوقُونَ مِنْهُ شَيْئًا» رواه أحمد
(2)
.
31 -
وفي رواية له عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قال: قالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا عَلَى الْحَوْضِ أَنْظُرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ، فَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي، وَمِنْ أُمَّتِي، قَالَ: فَيُقَالُ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، مَا بَرِحُوا بَعْدَكَ يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» قَالَ جَابِرٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْحَوْضُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ - يَعْنِي عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ - وَكِيزَانُهُ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَهُوَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا»
(3)
32 -
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «حَوْضِي مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى صَنْعَاءَ، لَهُ مِيزَابَانِ، إِحْدَاهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخَرُ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا» رواه الطبراني في الأوسط
(4)
33 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَارِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ، حَوْضٌ أَعْرَضُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَبُصْرَى، فِيهِ عَدَدُ النُّجُومِ
(1)
رواه النسائي في السنن الكبرى (4084) وأحمد (23497) ومنه الزيادة وسنده صحيح. ورواه ابن ماجه (3075) -مع الزيادة- من طريق أخرى وسمى الصحابي "عبد الله بن مسعود" وفي سنده زافر بن سليمان، صدوق كثير الأوهام. والحديث أصله عن ابن مسعود في الصحيحين كما تقدم.
(2)
رواه أحمد (15120) والبزار (2975) وابن حبان (6449) بسند صحيح. والسياق لابن حبان والزيادة من مسند البزار والأولى لأحمد أيضا -وجاء عنده موقوف- ولكن له حكم الرفع كما لا يخفى.
(3)
رواه أحمد (15121) وسنده صحيح.
(4)
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (3384) وفي إسناده سفيان بن وكيع قال الحافظ: كان صدوقا، إلا أنه ابتلى بوراقه، فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنصح فلم يقبل فسقط حديثه ا. هـ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 367):
…
وفيه سفيان بن وكيع، وهو ضعيف ا. هـ
قِدْحانٌ مِنْ فِضَّةٍ،
…
» الحديث رواه الطبراني
(1)
34 -
وفي المسند عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «حَوْضِي كَمَا بَيْنَ عَدَنَ وَعَمَّانَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، أَكْوَابُهُ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، أَوَّلُ النَّاسِ عَلَيْهِ وُرُودًا صَعَالِيكُ الْمُهَاجِرِينَ» قَالَ قَائِلٌ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الشَّعِثَةُ رُءُوسُهُمْ، الشَّحِبَةُ وُجُوهُهُمْ، الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، لَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ، وَلَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ الَّذِينَ يُعْطُونَ كُلَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَلَا يَأْخُذُونَ الَّذِي لَهُمْ»
(2)
35 -
وَعَنْ أَبَي بَرْزَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى صَنْعَاءَ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، عَرْضُهُ كَطُولِهِ، فِيهَا مِزْرَابَانِ يَنْثَعِبَانِ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ وَرِقٍ وَذَهَبٍ، أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ [وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ]، فِيهِ أَبَارِيقُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ [تَنْزُو فِي أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ -يَعْنِي الْآنِيَةَ-] [مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ]» رواه أحمد وابن حبان والحاكم
(3)
36 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» . فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْأَخْنَسِ السُّلَمِيُّ رضي الله عنه وَاللَّهِ مَا أُولَئِكَ فِي أُمَّتِكَ إِلَّا كَالذُّبَابِ الْأَصْهَبِ فِي الذِّبَّانِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ رَبِّي قَدْ وَعَدَنِي سَبْعِينَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا وَزَادَنِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ» . قَالَ: فَمَا سِعَةُ حَوْضِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: «كَمَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى عَمَّانَ وَأَوْسَعَ وَأَوْسَعَ» . يُشِيرُ بِيَدِهِ. قَالَ: «فِيهِ
(1)
رواه الطبراني في المعجم الكبير (3/ 67) رقم (2683) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 165):
…
وفيه زيد بن الحسن الأنماطي، قال أبو حاتم: منكر الحديث، ووثقه ابن حبان، وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات ا. هـ وانظر: السلسلة الضعيفة (4961)
(2)
رواه أحمد (6162) وفي إسناده الْمُخَارِقُ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ، مجهول. ويشهد للحديث حديث ثوبان الآتي. ولذا حسنه الألباني في ظلال الجنة (2/ 337)
(3)
رواه ابن حبان (6548) والسياق له وأحمد (19804) وليس عنده (عرضه كطوله) وله الزيادة الأخيرة والبزار (3849) وله الزيادتان الأخيرتان. والحاكم في المستدرك (255) وعنده الزيادات الثلاث. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3621)
مَثْعَبَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ». قَالَ: فَمَا حَوْضُكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَاءٌ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مَذَاقَةً مِنَ الْعَسَلِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا، وَلَمْ يَسْوَدَّ وَجْهُهُ أَبَدًا» رواه أحمد وابن حبان
(1)
37 -
وَعَنْ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيَّ رضي الله عنه قالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا حَوْضُكَ الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْهُ؟ فَقَالَ: «هُوَ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ
(2)
إِلَى بُصْرَى، ثُمَّ يُمِدُّنِي اللَّهُ فِيهِ بِكُرَاعٍ لَا يَدْرِي بَشَرٌ مِمَّنْ خُلِقَ أَيُّ طَرَفَيْهِ»، قَالَ: فَكَبَّرَ عُمَرُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا الْحَوْضُ فَيَزْدَحِمُ عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ يُقْتُلُونَ
(3)
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَمُوتُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ يُورِدَنِيَ اللَّهُ الْكُرَاعَ فَأَشْرَبَ مِنْهُ» رواه ابن حبان
(4)
38 -
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَ أَفْلَحَ، وَيُؤْتَى بِأَقْوَامٍ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ، فَيُقَالُ: مَا زَالُوا بَعْدَكَ يَرْتَدُّونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» رواه أحمد
(5)
(1)
رواه أحمد (22156) واللفظ له وابن حبان مفرقا (6457، 7246).
(2)
في رواية غير ابن حبان «كَمَا بَيْنَ الْبَيْضَاءِ إِلَى بُصْرَى» .
(3)
في رواية الطبراني «يُقَاتِلُونَ» .
(4)
رواه ابن حبان (6450) واللفظ له؛ ورواه بقي بن مخلد (15) في جزئه وابن أبي عاصم في السنة (715) والطبراني في المعجمين الكبير (17/ 126/ 312) والأوسط (402) ومسند الشاميين (2860) والبيهقي في البعث والنشور (274). ورواه أحمد (17642) مختصرا من طريق أخرى.
(5)
رواه أحمد (2327) -وابنه عبد الله في زوائده على المسند- وأبو خيثمة في التاريخ (181) وابن أبي عاصم في السنة (773) وحسنه الألباني لغيره في السلسلة الصحيحة (3087) وفي صحيح الترغيب والترهيب (2344).
ذكر قصة سؤال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله أبا سلام رحمه الله عن حديث الحوض:
39 -
قال الإمام الترمذي رحمه الله حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
(1)
قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ
(2)
قَالَ: روى مُحَمَّدُ بْنُ المُهَاجِرِ
(3)
، عَنْ العَبَّاسِ بْنِ سَالِمٍ اللَّخْمِيِّ
(4)
، عَنْ
(5)
أَبِي سَلَّامٍ الحَبَشِيِّ
(6)
، قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ فَحُمِلْتُ عَلَى البَرِيدِ، قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ [سَلَّمَ وَ] قَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ مَرْكَبِي البَرِيدُ، [وَقَدْ أَشْفَقْتُ عَلَى رِجْلَيَّ][وَكَانَتْ قَدْ أُصِيبَتْ رِجْلُهُ]، فَقَالَ [عُمَرُ كَالْمُتَوَجِّعِ]: يَا أَبَا سَلَّامٍ مَا أَرَدْتُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ وَلَكِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ حَدِيثٌ تُحَدِّثُهُ، عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الحَوْضِ فَأَحْبَبْتُ أَنْ تُشَافِهَنِي بِهِ، قَالَ أَبُو سَلَّامٍ، حَدَّثَنِي ثَوْبَانُ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:
(1)
هو: الإمام البخاري صاحب الصحيح.
(2)
هو: يحيى بن صالح الوحاظي، أبو زكريا، ويقال أبو صالح، الشامي الدمشقي، ويقال الحمصي. ثقة روى له الجماعة إلا النسائي
(3)
ثقة روى له الجماعة إلا البخاري فروى له في الأدب المفرد.
(4)
العباس بن سالم: وثقه العجلي وأبو داود السجستاني كما في التهذيب (14/ 212) وقال البزار ليس به بأس؛ وجاء توثيقه من الراوي عنه أو من دونه في سند بقي بن مخلد. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 276) وذكره البخاري في التاريخ الكبير (7/ 7) وقال سمع أبا إدريس ثم ترجم له مرة أخرى فقال عباس بن سلام بن أبي سلام الحبشي الشامي أخو معاوية عن جده أبي سلام وقال روى عنه محمد بن مهاجر ا. هـ وتعقبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه (26/ 265) فقال: وهو وهم وهذا هو العباس بن سالم الذي تقدم ذكره ولا أعرف لمعاوية أخا إلا زيد بن سلام والله أعلم ا. هـ وترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1173) وقال: روى عن أبى سلام الأسود صاحب أبى أمامة وثوبان ا. هـ ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا ..
(5)
في سند ابن ماجه عن الْعَبَّاسِ بْنِ سَالِمٍ الدِّمَشْقِيُّ قال: نُبِّئْتُ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْحَبَشِيِّ
…
فذكره. قلت ولعله تصحيف فالحديث رواه بقي بن مخلد - كما في كتاب الحوض والكوثر (19) - عن شيخ ابن ماجه فقال نا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: نا مَرْوَانُ يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ سَالِمٍ -دِمَشْقِيٌّ ثَبْتٌ-، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْحَبَشِيِّ،
…
فذكره.
(6)
هو ممطور الأسود الحبشي ويقال النوبي ويقال الباهلي، أبو سلام الدمشقي الأعرج، ثقة روى له الجماعة إلا البخاري فروى له في الأدب المفرد.
«[إِنَّ] حَوْضِي مِنْ عَدَنَ [أَبْيَنَ]
(1)
إِلَى عَمَّانَ البَلْقَاءِ
(2)
، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ، وَأَكْوَابُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ» [فَقَامَ عُمَرُ [بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «هُمُ]
(3)
الشُّعْثُ رُءُوسًا، الدُّنْسُ ثِيَابًا الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ المُتَنَعِّمَاتِ وَلَا تُفْتَحُ لَهُمُ أَبْوَابُ السُّدَدِ»
قَالَ [فَبَكَى عُمَرُ بن عبد العزيز حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ]
(4)
وقال: لَكِنِّي نَكَحْتُ المُتَنَعِّمَاتِ، وَفُتِحَ لِيَ السُّدَدُ، وَنَكَحْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ المَلِكِ لَا جَرَمَ أَنِّي لَا أَغْسِلُ رَأْسِي حَتَّى يَشْعَثَ، وَلَا أَغْسِلُ ثَوْبِي الَّذِي يَلِي جَسَدِي حَتَّى يَتَّسِخَ.
(5)
(1)
هذه الزيادة -والتي قبلها- من رواية الطيالسي. وهذه عند البيهقي في الشعب أيضا.
(2)
وفي رواية مروان عند ابن ماجه وغيره: «مَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى أَيْلَةَ»
(3)
هذه الزيادة من رواية الطيالسي. والباغندي والبيهقي في الشعب.
(4)
من رواية مروان عند ابن ماجه.
(5)
الحديث مداره على محمد بن المهاجر عن العباس عن أبي سلام وهو مروي من طرق:
1 -
رواه الترمذي (2444) وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه (ص: 374) - ومن طريقه تمام في فوائده (573) وابن منده في معرفة الصحابة (ص: 360) - من طريق يحيى بن صالح؛
2 -
وابن ماجه في سننه (4303) وبقي بن مخلد في الحوض والكوثر (19) وحرب الكرماني في مسائله، ت فايز حابس (3/ 1085) من طريق مروان بن محمد؛
3 -
وأحمد بن حنبل في مسنده (37/ 50) رقم (22367) وأبو داود الطيالسي في مسنده (1088) -ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان (10003) - والباغندي في مسند عمر بن عبد العزيز (63) -ومن طريقه ابن عساكر في التاريخ (26/ 250) - وابن أبي الدنيا في الأولياء (7) وفي التواضع والخمول (3)؛ وإبراهيم الحربي في غريب الحديث (2/ 815) -مختصرا- والبيهقي في البعث والنشور (136) وابن عساكر في التاريخ (60/ 264) من طرق عن أبي عتبة إسماعيل بن عياش-؛
4 -
والروياني في المسند (653) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (7374) - وعنه وعن غيره البيهقي في البعث والنشور (135) - من طريق عبد الله بن يوسف التنيسي،
5 -
والبزار في المسند (4167) والطبراني في المعجم الأوسط (396) ومسند الشاميين (1411) والأوائل (19) وتمام في الفوائد (574) - مع القصة لكن جعلها في آخره- من طريق أبي توبة الربيع بن نافع -بذكر المرفوع فقط دون القصة لكن ذكرها تمَّام في آخر الحديث-
6 -
وأبو عروبة الحراني في الأوائل -المرفوع فقط مختصرا- (99) -ومن طريقه ابن عساكر في التاريخ (26/ 249) - قال حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار؛
o كلهم (يحيى بن صالح ومروان بن محمد وإسماعيل بن عياش، ومحمد بن يوسف والربيع وعمرو بن عثمان) قالوا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُهَاجِرِ، به.
o والزيادات الأولى والرابعة للحاكم والثانية للبيهقي والثالثة لتمام والباقي من مسند أحمد والطيالسي.
o قال الترمذي: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ» وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، " وَأَبُو سَلَّامٍ الحَبَشِيُّ اسْمُهُ: مَمْطُورٌ وَهُوَ شَامِيٌّ ثِقَةٌ ا. هـ وهو المتقدم برقم (13)
o وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه متصلا بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه عن ثوبان وإسناده حسن محمد بن مهاجر ثقة والعباس بن سالم ليس به بأس، وأبو سلام مشهور.
o وقال الحاكم هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ "
o وقال الطبراني: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَالِمٍ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ ا. هـ
7 -
قلت: بل توبع: فالحديث رواه الباغندي في مسند عمر بن عبد العزيز (65) -ومن طريقه ابن عساكر في التاريخ (45/ 216) - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ، ثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَالِمٍ، به. لكن في إسناده أحمد بن الفرج متكلم فيه وهو صالح في الشواهد والمتابعات.
8 -
والحديث في العلل لابن أبي حاتم (2128) قال: وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رواه مُصْعَب بن سَلاَّمٍ، عن عبد الله بن العلاء ابن زَبْرٍ، عَنْ أَبِي سَلاَّم، عَنْ أبي أُمامةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ في الحَوْضِ؟ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هَكَذَا رَوَاهُ مُصْعَب؛ وإنما هو: عَنْ أَبِي سَلاَّم، عَنْ ثَوْبَانَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال أَبِي: لا أعرفُهُ من حديث عبد الله بْن العلاء بْن زَبْر، ولكنْ رَوَاهُ يَحْيَى بْن الحارثِ، وشَيْبةُ بْن الأَحْنَفِ، وشَدَّاد أَبُو محمد، وعباس بن سالم، كلُّهم عَنْ أَبِي سَلاَّم، عَنْ ثَوْبانَ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ في الحوض، وهو الصَّحيح.
9 -
وقد توبع العباس اللخمي؛ رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (459) وفي السنة (706، 749) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قنا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، نا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، ثنا أَبُو سَلَّامٍ الْأَسْوَدُ، به -بدون القصة-.
o وخولف ابن أبي عاصم فقد رواه الطبراني في مسند الشاميين (1206) حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1414) من طريق الحسن بن سفيان كلاهما (ابنا المعلى وسفيان) قالا: ثنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، ثنا صَدَقَةُ، ثنا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، ثنا أَبُو سَلَّامٍ الْأَسْوَدُ، به -فأسقطا من سنده بسر بن عبيد الله-.
o ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 99/ 1437) وفي مسند الشاميين (1206) عن أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر ثنا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ به.
10 -
ورواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (460) وفي السنة (707، 747) وفي الأوائل (186) والباغندي في مسند عمر بن عبد العزيز (64) من طريق سُوَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثنا أَبُو مُحَمَّدٍ شَدَّادٌ الضَّرِيرُ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَدِمْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ لِي: ادْنُهْ ادْنُهْ حَتَّى كَادَتْ رُكْبَتِي تَلْزَقُ بِرُكْبَتِهِ قَالَ: حَدِّثْنِي حَدِيثَ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَوْضِ. قُلْتُ: سَمِعْتُ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، فذكره.
11 -
ورواه الطبراني في مسند الشاميين (904، 1625) وابن المقرئ في المعجم (1034) والآجري في الشريعة (824، 1118) من طريقين عن الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ، وَشَيْبَةُ بْنُ الْأَحْنَفِ، قَالَا: سَمِعْنَا أَبَا سَلَّامٍ الْأَسْوَدَ، يُحَدِّثُ عَنْ ثَوْبَانَ، فذكره -أي المرفوع- مختصرا. ورواه الدولابي في الكنى والأسماء (1557) من طريق مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَبَا سَلَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَوْبَانُ، فذكره. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 100/ 1443) وعنه أبو نعيم في معرفة الصحابة (1415، 1416) ثنا حفص بن عمر بن الصباح، ثنا عبد الله بن جعفر الرقي، ثنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ثَوْبَانَ، به مختصرا -المرفوع-
o ورواه أبو نعيم أيضا (1416) حدثنا أبو عمرو بن حمدان قال: ثنا الحسن بن سفيان، ثنا عمرو الناقد، ثنا عمرو بن عثمان -وهو ضعيف-، عن عبيد الله به.
o وخالفهم أبو حاتم الرازي في سنده فقد رواه ابن أبي عاصم في السنة (710) قال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ -وهو الرازي أبو حاتم-، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ بَعْضِ مَنْ حَدَّثَهُ، عَنْ ثَوْبَانَ، به
o ورجح أبو حاتم -كما في علل الحديث (2160) لابنه- هذا الوجه وقال: أظنُّ أَنَّهُ أَبُو سَلاَّمٍ الحَبَشِيُّ؛ لأنَّ هَذَا الحديثَ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ ثَوْبان إِلا أَبُو سَلاَّمٍ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ؛ فأَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ ا. هـ
ما ورد في إنكار عبيد الله بن زياد للحوض والرد عليه:
40 -
عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ زِيَادًا، أَوِ ابْنَ زِيَادٍ، ذُكِرَ عِنْدَهُ الْحَوْضُ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَنَسًا، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَسُوءَنَّهُ غَدًا. فَقَالَ: مَا أَنْكَرْتُمْ مِنَ الْحَوْضِ؟ قَالَ: سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَقَدْ أَدْرَكْتُ عَجَائِزَ بِالْمَدِينَةِ لَا يُصَلِّينَ صَلَاةً إِلَّا سَأَلْنَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُورِدَهُنَّ حَوْضَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. رواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن أبي
عاصم
(1)
41 -
وقالَ حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ الْحَوْضَ، فَلَمَّا رَأَوْنِي اطَّلَعْتُ عَلَيْهِمْ، قَالُوا: قَدْ جَاءَكُمْ أَنَسٌ، فَقَالُوا: يَا أَنَسُ مَا تَقُولُ فِي الْحَوْضِ؟ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ أَنِّي أَعِيشُ حَتَّى أَرَى أَمْثَالَكُمْ تَشُكُّونَ فِي الْحَوْضِ، لَقَدْ تَرَكْتُ عَجَائِزَ بِالْمَدِينَةِ مَا تُصَلِّي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا سَأَلَتْ رَبَّهَا أَنْ يُورِدَهَا حَوْضَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رواه الحاكم
(2)
42 -
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ حَيَّانَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فِي مَجْلِسِهِ، قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: مَا أَحَادِيثُ تُحَدِّثُهَا وَتَرْوِيهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَجِدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل؟ تُحَدِّثُ أَنَّ لَهُ حَوْضًا فِي الْجَنَّةِ قَالَ: قَدْ حَدَّثَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَعَدَنَاهُ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْتَ. قَالَ: إِنِّي قَدْ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ جَهَنَّمَ» وَمَا كَذَبْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(3)
43 -
وقال أبو داود: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ أَبُو طَالُوتَ، قَالَ: شَهِدْتُ أَبَا بَرْزَةَ رضي الله عنه دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَحَدَّثَنِي فُلَانٌ - سَمَّاهُ مُسْلِمٌ وَكَانَ فِي السِّمَاطِ - فَلَمَّا رَآهُ عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدِيَّكُمْ هَذَا الدَّحْدَاحُ، فَفَهِمَهَا الشَّيْخُ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنِّي أَبْقَى فِي قَوْمٍ يُعَيِّرُونِي بِصُحْبَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ: إِنَّ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَكَ زَيْنٌ غَيْرُ شَيْنٍ، قَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِأَسْأَلَكَ عَنِ
(1)
رواه ابن أبي شيبة (29889) وأبو يعلى (3355) وابن أبي عاصم في السنة (698) واللفظ له، والبيهقي في البعث والنشور (157)، وقال الشيخ الألباني في ظلال الجنة: إسناده صحيح على شرط مسلم ا. هـ ورواه أحمد (13405) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أنس وعنه عن الحسن عن أنس.
(2)
رواه الحسين المروزي في زوائد الزهد (1609) -ومن طريقه الآجري في الشريعة (838) - والحاكم في المستدرك (260) والبيهقي في البعث والنشور (158)، وقال الشيخ الألباني في ظلال الجنة:(2/ 321): إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات ا. هـ
(3)
رواه أحمد (19266) والحاكم في المستدرك (258) وإسناد أحمد صحيح على شرط مسلم.
الْحَوْضِ، سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ فِيهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ: نَعَمْ «لَا مَرَّةً، وَلَا ثِنْتَيْنِ، وَلَا ثَلَاثًا، وَلَا أَرْبَعًا، وَلَا خَمْسًا، فَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فَلَا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ مُغْضَبًا»
(1)
44 -
ولأحمد في المسند بسند صحيح عَنْ أَبِي سَبْرَةَ، قَالَ: كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَسْأَلُ عَنِ الْحَوْضِ، حَوْضِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يُكَذِّبُ بِهِ، بَعْدَمَا سَأَلَ أَبَا بَرْزَةَ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وعَائِذَ بْنَ عَمْرٍو وَرَجُلًا آخَرَ، وَكَانَ يُكَذِّبُ بِهِ، فَقَالَ أَبُو سَبْرَةَ: أَنَا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ فِيهِ شِفَاءُ هَذَا، إِنَّ أَبَاكَ بَعَثَ مَعِي بِمَالٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما فَحَدَّثَنِي مِمَّا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمْلَى عَلَيَّ، فَكَتَبْتُ بِيَدِي، فَلَمْ أَزِدْ حَرْفًا، وَلَمْ أَنْقُصْ حَرْفًا، حَدَّثَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا إِنَّ مَوْعِدَكُمْ حَوْضِي، عَرْضُهُ وَطُولُهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَمَكَّةَ
(2)
، وَهُوَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فِيهِ مِثْلُ النُّجُومِ أَبَارِيقُ، شَرَابُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الْفِضَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مَشْرَبًا، لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا» فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: مَا سَمِعْتُ فِي الْحَوْضِ حَدِيثًا أَثْبَتَ مِنْ هَذَا فَصَدَّقَ بِهِ، وَأَخَذَ الصَّحِيفَةَ فَحَبَسَهَا عِنْدَهُ
(3)
.
ذكر سَعَةُ الحوض:
في أحاديث الحوض المتقدمة بيان سَعَةِ حوضِه صلى الله عليه وسلم. وفي الجمع بين الروايات المتعددة وتفسيرها يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
1 -
وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ [في الصحيحين]«كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ اليَمَنِ»
وَ"أَيْلَةُ" مَدِينَةٌ كَانَتْ عَامِرَةً وَهِيَ بِطَرَفِ بَحْرِ الْقُلْزُمِ مِنْ طَرَفِ الشَّامِ وَهِيَ الْآنَ خَرَابٌ يَمُرُّ بِهَا الْحَاجُّ مِنْ مِصْرَ فَتَكُونُ شَمَالِيَّهُمْ وَيَمُرُّ بِهَا الْحَاجُّ مِنْ غَزَّةَ وَغَيْرِهَا فَتَكُونُ أَمَامَهُمْ وَيَجْلِبُونَ إِلَيْهَا الْمِيرَةَ مِنَ الْكُرْكِ وَالشَّوْبَكِ وَغَيْرِهِمَا يَتَلَقَّوْنَ بِهَا الْحَاجَّ ذَهَابًا وَإِيَابًا وَإِلَيْهَا تُنْسَبُ الْعَقَبَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ نَحْوَ الشَّهْرِ
(1)
سنن أبي داود (4749).
(2)
وفي رواية لأحمد (11/ 458)«كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ - أَوْ قَالَ: صَنْعَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ»
(3)
رواه الإمام أحمد (6514) وأبو سبرة راويه عن عبد الله بن عمرو مجهول. -كما في لسان الميزان ت أبي غدة (3334) - وحديثه يصلح في الشواهد.
بِسَيْرِ الْأَثْقَالِ إِنِ اقْتَصَرُوا كُلَّ يَوْمٍ عَلَى مَرْحَلَةٍ وَإِلَّا فَدُونَ ذَلِكَ وَهِيَ مِنْ مِصْرَ عَلَى أَكْثَرِ مِنَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ
…
وَأَمَّا "صَنْعَاءُ" فَإِنَّمَا قُيِّدَتْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالْيَمَنِ احْتِرَازًا مِنْ صَنْعَاءَ الَّتِي بِالشَّامِ
…
2 -
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ [في مسلم] أَيْضًا «كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ»
3 -
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ [في مسلم] مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ «عَدَنَ» بَدَلَ «صَنْعَاءَ»
4 -
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ [في مسلم]«أَبْعَدَ مِنْ أَيْلَةَ إِلَى عَدَنَ»
وَ "عَدَنُ" بِفَتْحَتَيْنِ بَلَدٌ مَشْهُورٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فِي أَوَاخِرِ سَوَاحِلِ الْيَمَنِ وَأَوَائِلِ سَوَاحِلِ الْهِنْدِ وَهِيَ تُسَامِتُ صَنْعَاءَ وَصَنْعَاءُ فِي جِهَةِ الْجِبَالِ
5 -
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ [في مسلم]«مَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى أَيْلَةَ»
وَ "عُمَانُ" بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ بَلَدٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرَيْنِ
(1)
6 -
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ (كذا: وصوابه برزة) عِنْدَ ابن حِبَّانَ «مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَقَارِبَةٌ لِأَنَّهَا كُلُّهَا نَحْوَ شَهْرٍ أَوْ تَزِيدُ أَوْ تَنْقُصُ؛
وَوَقَعَ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى التَّحْدِيدُ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ:
7 -
فَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ «كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى الْجُحْفَةِ»
(2)
8 -
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ (كذا)«كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ»
(3)
9 -
وَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ [عند الترمذي]«مَا بَيْنَ عَدَنَ وَعَمَّانَ الْبَلْقَاءَ»
(4)
10 -
وَنَحْوُهُ لِابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه.
وَ "عَمَّانُ" هَذِهِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ لِلْأَكْثَرِ وَحُكِيَ تَخْفِيفُهَا وَتُنْسَبُ إِلَى الْبَلْقَاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا
وَ "الْبَلْقَاءُ" بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا قَافٌ وَبِالْمَدِّ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ
(1)
تقدم تعليق الشيخ محمد تقي العثماني عليه
(2)
هو في صحيح مسلم -وليس في المسند- كما تقدم.
(3)
ورد هذا من حديث حارثة في الصحيحين وأنس عند مسلم -كما تقدم-. والذي في حديث جابر بن عبد الله المتقدم: «مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ» وفي حديث جابر بن سمرة «كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ» .
(4)
ورد هذا من حديث أبي سلام عن ثوبان المتقدم.
فِلَسْطِينَ.
11 -
وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ «مَا بَيْنَ بُصْرَى إِلَى صَنْعَاءَ أَوْ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ»
(1)
وَ "بُصْرَى" بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ بِطَرَفِ الشَّامِ مِنْ جِهَةِ الْحِجَازِ
…
12 -
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ أَحْمَدَ «بُعْدَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَأَيْلَةَ»
13 -
وَفِي لَفْظٍ «مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعَمَّانَ»
(2)
14 -
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ [عند الطبراني]«مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى بُصْرَى»
15 -
وَمِثْلُهُ لِابْنِ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ.
16 -
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ «كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ إِلَى أَيْلَةَ أَوْ بَيْنَ صَنْعَاءَ وَمَكَّةَ»
17 -
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سعيد عِنْد ابن أبي شيبَة وابن مَاجَهْ «مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ»
18 -
وَفِي حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ «كَمَا بَيْنَ الْبَيْضَاءِ إِلَى بُصْرَى»
وَ "الْبَيْضَاءُ" بِالْقُرْبِ مِنَ الرَّبَذَةِ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
وَهَذِهِ الْمَسَافَاتُ مُتَقَارِبَةٌ وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى نَحْوِ نِصْفِ شَهْرٍ أَوْ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا أَوْ تَنْقُصُ. وَأَقَلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ:
19 -
مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابن عُمَرَ [عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَمَامَكُمْ حَوْضٌ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ»] مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِسَنَدِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَزَادَ: قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ، قَالَ قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَنَحْوُهُ لَهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لَكِنْ قَالَ ثَلَاثَ لَيَالٍ.
وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ:
…
- فذكر أقوال جماعة ثم قال-:
(1)
ورواه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق والحديث في صحيح مسلم أيضا بدون هذه الزيادة كما تقدم
(2)
رواه بهذا اللفظ أبو نعيم الحداد في جامع الصحيحين بحذف المعاد والطرق (1/ 141) ولفظه: «حَوْضِيْ مَا بَيْنَ مَكَّةَ إِلَى عَمَّانَ زَوَايَاهُ سَوَاءٌ
…
»
• وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ الْمَسَافَةِ الْقَلِيلَةِ مَا يَدْفَعُ الْمَسَافَةَ الْكَثِيرَةَ فَالْأَكْثَرُ ثَابِتٌ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَلَا مُعَارَضَةَ وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ أَوَّلًا بِالْمَسَافَةِ الْيَسِيرَةِ ثُمَّ أُعْلِمَ بِالْمَسَافَةِ الطَّوِيلَةِ فَأَخْبَرَهُ بِهَا كَأَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِاتِّسَاعِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَكُونُ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَطْوَلِهَا مَسَافَةً.
• وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَمَعَ الِاخْتِلَافَ: بِتَفَاوُتِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ،
20 -
وَرَدَّهُ بِمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «زَوَايَاهُ سَوَاءٌ»
21 -
وَوَقَعَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ وَجَابِرٍ وَأَبِي بَرْزَةَ وَأَبِي ذَرٍّ «طُولُهُ وَعَرْضُهُ سَوَاءٌ»
(1)
• وَجَمَعَ غَيْرُهُ بَيْنَ الِاخْتِلَافَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِاخْتِلَافِ السَّيْرِ الْبَطِيءِ وَهُوَ سَيْرُ الْأَثْقَالِ وَالسَّيْرِ السَّرِيعِ وَهُوَ سَيْرُ الرَّاكِبِ الْمُخِفِّ وَيُحْمَلُ رِوَايَةُ أَقَلِّهَا وَهُوَ الثَّلَاثُ عَلَى سَيْرِ الْبَرِيدِ فَقَدْ عُهِدَ مِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ مَسَافَةَ الشَّهْرِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَوْ كَانَ نَادِرًا جِدًّا.
وَفِي هَذَا الْجَوَابِ عَنِ الْمَسَافَةِ الْأَخِيرَةِ نَظَرٌ وَهُوَ فِيمَا قَبْلَهُ مُسَلَّمٌ وَهُوَ أَوْلَى مَا يُجْمَعُ بِهِ.
• وَأَمَّا مَسَافَةُ الثَّلَاثِ [أي الواردة في حديث ابن عمر] فَإِنَّ الْحَافِظَ ضِيَاءَ الدِّينِ الْمَقْدِسِيَّ ذَكَرَ فِي الْجُزْءِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الْحَوْضِ أَنَّ فِي سِيَاقِ لَفْظِهَا غَلَطًا وَذَلِكَ الِاخْتِصَارُ وَقَعَ فِي سِيَاقِهِ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ
22 -
ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ فَوَائِدِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْهَيْثَمِ الدَّيْرَعَاقُولِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ فَقَالَ «فِيهِ عَرْضُهُ مِثْلُ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ»
(2)
قَالَ الضِّيَاءُ فَظَهَرَ بِهَذَا أنه وَقع فِي حَدِيث ابن عُمَرَ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ كَمَا بَيْنَ مَقَامِي
(1)
تقدمت هذه الأحاديث سوى حديث النواس رضي الله عنه، ولم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن رواه الحافظ عمر البجيري -كما في الذيل على الحوض والكوثر (ص: 156) رقم (84) - ومن طريقه الضياء المقدسي في المنتقى من مسموعات مرو (93) ولفظه: «إن حوضي عرضه (وطوله) كما بين أيلة إلى عمان
…
» الحديث. وفي سنده محمد بن إسحاق بن إبراهيم روى له ابن ماجه وهو متهم وقال ابن حجر: كذبوه والراوي عنه سليمان وهو الخبائري كذاب كما في الميزان (2/ 209).
(2)
لم أقف عليه.
وَبَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ فَسَقَطَ "مَقَامِي وَبَيْنَ"
وَقَالَ الْحَافِظُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ:
…
بَيْنَهُمَا -أي قريتا جرباء وأذرح- غَلْوَةَ سَهْمٍ
(1)
وَهُمَا مَعْرُوفَتَانِ بَيْنَ الْقُدْسِ وَالْكَرْكِ.
23 -
قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ الْقَدْرُ الْمَحْذُوفُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ «مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَجَرْبَاءَ وَأَذْرَحَ»
(2)
24 -
قُلْتُ: وَهَذَا يُوَافق رِوَايَة أبي سعيد عِنْد بن مَاجَهْ: «كَمَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ»
…
وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ رَجَعَ جَمِيعُ الْمُخْتَلِفِ إِلَى أَنَّهُ لِاخْتِلَافِ السَّيْرِ البطيء وَالسير السَّرِيع ا. هـ
(3)
الحوض زواياه سواء:
ورد هذا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «زَوَايَاهُ سَوَاءٌ» ، وَوَقَعَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي بَرْزَةَ وَأَبِي ذَرٍّ «طُولُهُ وَعَرْضُهُ سَوَاءٌ» يعني: فهو مربع الأضلاع.
صفة مائه ورائحته:
في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ» .
وفي رواية: «وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ» يعني: من الفضة.
وعند الطبراني في الأوسط عن الْبَرَاءِ رضي الله عنه مرفوعا: «
…
أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا»
ولمسلم عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، قَالَ: «
…
وَسُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ فَقَالَ: «أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَالْآخَرُ مِنْ وَرِقٍ» وفي المسند عن جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «
…
وَهُوَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا»
(1)
غلوة سهم: بفتح الغين المعجمة: غاية بلوغ السهم.
(2)
لم أقف عليه.
(3)
فتح الباري (11/ 470).
ولمسلم عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «
…
وَلَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ»
وله أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «
…
لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ» الحديث.
وَلَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، «
…
يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ،
…
مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ».
وَلهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «
…
مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا».
وفي الصحيحين عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو « .. وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ [وفي رواية: مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ]، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ،
…
فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا»
ولأحمد في المسند عَنْهُ: «
…
شَرَابُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الْفِضَّةِ».
وَعند ابن حبان وأحمد في حديثِ أَبَي بَرْزَةَ رضي الله عنه: «
…
فِيهَا مِزْرَابَانِ يَنْثَعِبَانِ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ وَرِقٍ وَذَهَبٍ، أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ»
ورواه أحمد وزاد «مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ»
ورواه البزار والحاكم وزادا: «وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ»
وَلأحمد وابن حبان في حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه: «مَاءٌ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مَذَاقَةً مِنَ الْعَسَلِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا، وَلَمْ يَسْوَدَّ وَجْهُهُ أَبَدًا»
وفي الترمذي عن أَبي سَلَّامٍ، حَدَّثَنِي ثَوْبَانُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «
…
مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ،
…
مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ»
وفي المسند من حديث ابن عمر: «أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ» . -رزقنا الله بفضله شربة منه لا نظمأ بعدها أبدا-
كيزانُه وأوانيه:
وهذا الحوض المبارك له كيزان وأباريق وأكواب عظيمة وكثيرة. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من وصفها فقال صلى الله عليه وسلم: كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المتقدم: «وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا» .
وقوله: «كَنُجُومِ السَّمَاءِ» يعني: في الكثرة، وقيل: في اللون فهي تضيء وتلمع كنجوم السماء.
وفي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: «وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ» متفق عليه، وفي رواية لمسلم:«تُرَى فِيهِ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ» وعن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما نحوه رواه الطبراني في الأوسط.
وَلِمُسلمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَأَنَّ الْأَبَارِيقَ فِيهِ النُّجُومُ» .
وفي حَدِيثِ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنهما في المسند-: «
…
وَكِيزَانُهُ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَهُوَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا»
وَلمسلم -وهو في البخاري تعليقا-: في حديث المُسْتَوْرِدِ رضي الله عنه: «تُرَى فِيهِ الآنِيَةُ مِثْلَ الكَوَاكِبِ»
وفي رواية للبزار: «تَرَى فِيهِ الْآنِيَةَ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ»
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فِيهِ عَدَدُ النُّجُومِ قِدْحانٌ مِنْ فِضَّةٍ،
…
» رواه الطبراني.
وَلابن ماجه عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «
…
لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ» وَلهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «
…
آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ» وفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عند مسلم-: «
…
وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ»
وفي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، -عند مسلم-: قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا، أَلَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ، آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ، يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ،
…
»
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «
…
فِيهِ أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ» رواه مسلم.
ولأحمد في المسند عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «
…
فِيهِ مِثْلُ النُّجُومِ أَبَارِيقُ».
وَلابن حبان وأحمد والبزار والحاكم عَنْ أَبَي بَرْزَةَ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «
…
فِيهِ أَبَارِيقُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ»
ورواه البزار والحاكم وزادا «تَنْزُو فِي أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ -يَعْنِي الْآنِيَةَ-
…
»
الحوض موجود الآن:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ» - يعني: إني سابقكم إلى الله -جل وعلا- قال: «وَإِنِّي لأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا»
(1)
وفي رواية: «وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ»
(2)
.
وهذا الخبر منه عليه الصلاة والسلام تصريحٌ بأن الحوض حقيقيٌّ على ظاهره، وأنه مخلوق، موجود اليوم، فيجب الإيمان بما أخبر به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ رحمه الله: وَقَوْلُهُ «لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي» هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَكَأَنَّهُ كُشِفَ لَهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ا. هـ
(3)
مكان الحوض:
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن مكان حوضه فقال: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» رواه البخاري
(4)
.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: «وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» يدل على أن حوضه هناك، وموضع المسجد من حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضا: المسجد من محال الحوض يوم القيامة؛ لأن الحوض طويل طوله مسيرة شهر ا. هـ
(5)
(1)
أخرجه البخاري (4042) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(2)
أخرجها البخاري (1344)، ومسلم (2296).
(3)
فتح الباري (3/ 211) و (11/ 475)
(4)
أخرجه البخاري (1196) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (1/ 360، 2/ 115)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وهذا يحتمل أنه في هذا المكان، لكن لا نشاهده؛ لأنه غيبي، ويحتمل أن المنبر يوضع يوم القيامة على الحوض ا. هـ
(1)
وقال الحافظ رحمه الله: قَوْلُهُ «وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» أَيْ: يُنْقَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنْصَبُ عَلَى الْحَوْضِ؛ وَقَالَ الْأَكْثَرُ الْمُرَادُ مِنْبَرُهُ بِعَيْنِهِ الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهُوَ فَوْقَهُ وَقِيلَ الْمُرَادُ الْمِنْبَرُ الَّذِي يُوضَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
…
وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ قَصْدَ مِنْبَرِهِ وَالْحُضُورَ عِنْدَهُ لِمُلَازَمَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يُورِدُ صَاحِبَهُ إِلَى الْحَوْضِ ويقتضى شربه مِنْهُ
…
ا. هـ
(2)
وقوله: "والأول أظهر"، يؤيده ما رواه النسائي عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ قَوَائِمَ مِنْبَرِي هَذَا رَوَاتِبُ فِي الْجَنَّةِ»
(3)
وفي المسند عَنْ سَهْلِ بن سعدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ» قَالَ سهلٌ: والتُّرْعَةُ الْبَابُ.
(4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مِنْبَرِي هَذَا عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ»
(5)
وزاد في رواية: «
…
وَمَا بَيْنَ مِنْبَرِي وَحُجْرَتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ»
(6)
أول الناس ورودًا على حوضه:
أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أول الناس ورودًا عليه وشربًا منه. كما في حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيه فُقَراءُ المُهَاجِرِينَ: الشُّعْثُ رُؤُوسًا الدُّنْسُ ثيابًا، الَّذِينَ لَا يَنْكحُونَ المُنَعَّماتِ وَلَا تُفْتَحُ لهُمُ السُّدَدُ الَّذِينَ يُعْطُونَ الحَقَّ الّذِي عَلَيْهِمْ وَلَا يُعْطَوْنَ الّذِي لَهُمْ»
(7)
(1)
شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (2/ 157)
(2)
فتح الباري (4/ 100)
(3)
سنن النسائي (696) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2050)
(4)
مسند أحمد (22841) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 479)
(5)
رواه أحمد (8721) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 480) رقم (2363) وذكره شيخنا أبو عبد الرحمن الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (1292)
(6)
رواه أحمد (9338) وإسناده صحيح.
(7)
تقدم
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
أَوَّلُ النَّاسِ عَلَيْهِ وُرُودًا صَعَالِيكُ الْمُهَاجِرِينَ» قَالَ قَائِلٌ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الشَّعِثَةُ رُؤُوسُهُمْ، الشَّحِبَةُ وُجُوهُهُمْ، الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، لَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ، وَلَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ الَّذِينَ يُعْطُونَ كُلَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَلَا يَأْخُذُونَ الَّذِي لَهُمْ»
(1)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «الَّذِينَ يُعْطُونَ الحَقَّ الّذِي عَلَيْهِمْ» معناه أنهم: يؤدون الحقوق التي عليهم كاملة خوفًا من الله وخشية.
وقوله: «وَلَا يُعْطَوْنَ الّذِي لَهُمْ» أي: لقلة اهتمام الناس بهم، فلا يعطونهم حقوقهم كاملة، فيصبرون على ذلك. ومن عدم تقدير الناس لهم ما ذكر في الحديث أنهم «
…
لَا يَنْكحُونَ المُنَعَّماتِ وَلَا تُفْتَحُ لهُمُ السُّدَدُ» أي لو خطبوا المتنعمات من النساء لم يجابوا ولو دقوا الأبواب واستأذنوا الدخول لم يفتح لهم ولم يؤذن. والمعنى: أنهم قائمون بفرائض الله -جل وعلا-، وقائمون بما أمرهم الله عز وجل به حتى لو كانوا ينتقصون من حقوقهم، وهذه فضيلةٌ ظاهرةٌ لهؤلاء الفقراء الذين خافوا الله وصبروا في الدنيا من أجل الله سبحانه.
فضل أهل اليمن:
وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي لَبِعُقْرِ حَوْضِي أَذُودُ النَّاسَ لأَهْلِ الْيَمَنِ أَضْرِبُ بِعَصَايَ حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ» فَسُئِلَ عَنْ عَرْضِهِ فَقَالَ: «مِنْ مَقَامِي إِلَى عَمَّانَ» وَسُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ فَقَالَ: «أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ»
(2)
.
قال النووي رحمه الله: مَعْنَاهُ أَطْرُدُ النَّاسَ عَنْهُ غَيْرَ أَهْلِ الْيَمَنِ لِيَرْفَضَّ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَهَذِهِ كَرَامَةٌ لِأَهْلِ الْيَمَنِ فِي تَقْدِيمِهِمْ فِي الشُّرْبِ مِنْهُ مُجَازَاةً لَهُمْ بِحُسْنِ صَنِيعِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَالْأَنْصَارُ مِنَ الْيَمَنِ فَيَدْفَعُ غَيْرَهُمْ حَتَّى يَشْرَبُوا كَمَا دَفَعُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْدَاءَهُ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَمَعْنَى «يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ» أَيْ يَسِيلُ عَلَيْهِمْ ا. هـ
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد (6162)
(2)
تقدم.
(3)
شرح النووي على مسلم (15/ 62).
هل لكل نبي حوض؟
اختلف العلماء هل لكل نبي حوضٌ خاصٌّ به أم أن الحوضَ خاصٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وردت في ذلك أحاديث يُحسِّنُها بعضُ العلماء منها:
حديث الحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً» رواه الترمذي وقال «هذا حديث غريب» وقد روى الأشعث بن عبد الملك، هذا الحديث عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ولم يذكر فيه عن سمرة وهو أصح.
(1)
وَعَنْ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابًا مِنْ أُمَّتِهِ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرَهُمْ كُلِّهِمْ وَارِدَةً، فَإِنَّهُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ قَائِمٌ عَلَى حَوْضٍ مَلْآنَ، مَعَهُ عَصًا، يَدْعُو مَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّتِهِ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ سِيمَاءٌ يَعْرِفُهُمْ بِهَا نَبِيُّهُمْ»
(2)
.
وَعَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ لِي حَوْضًا طُولُهُ مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فَكُلُّ نَبِيٍّ يَدْعُو أُمَّتَهُ، وَلِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيهِ الْفِئَامُ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْتِيهِ الْعُصَبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيهِ النَّفَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيهِ الرَّجُلَانِ وَالرَّجُلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ، فَيُقَالُ: قَدْ بَلَّغْتَ، وَإِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(3)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(1)
أخرجه الترمذي (2443). والمرسل رواه نعيم بن حماد كما في زياداته على الزهد لابن المبارك (2/ 121) وأبو عمر السلمي في جزئه (1037) من طريقين عن هشام بن حسان، عن الحسن به ورواه ابن أبي الدنيا كما في البداية والنهاية لابن كثير ط هجر (19/ 469) عن حزم بن أبي حزم عن الحسن به
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (7/ 259) رقم (7053)
(3)
رواه هشام بن عمار في حديثه (59) وابن أبي الدنيا -كما في البداية والنهاية ط هجر (19/ 459) - واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2117) وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/ 145) وأوله عند ابن ماجه في سننه (4301) وليس فيه موضع الشاهد.
(1)
.
وهذا الأحاديث مفرداتها ضعيفة كما قال العلماء، وحسن الحديث بمجموعها جماعة من أهل العلم ومنهم: الحافظ المزي رحمه الله فقد قال صهره الحافظ ابن كثير رحمه الله -بعد أن ساق ماورد في الباب-: وقد أفتى شيخنا الحافظ المزي بصحته بهذه الطرق.
(2)
وكذلك صححه الشيخ الألباني رحمه الله
(3)
.
وقال الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: أسانيده ضعيفة، وفي بعضها إرسال، ولعلها تُحدث له أصلًا، فتكون من باب الحسَن لغيره ا. هـ
(4)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ولكن نعلم أن حوضه صلى الله عليه وسلم أعظم الحياض وأكثرها وارداً ا. هـ
(5)
وقال الحافظ رحمه الله: وَإِنْ ثَبَتَ فَالْمُخْتَصُّ بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم الْكَوْثَرُ الَّذِي يُصَبُّ مِنْ مَائِهِ فِي حَوْضِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ نَظِيرُهُ لِغَيْرِهِ وَوَقَعَ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِ بِهِ فِي السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ ا. هـ
(6)
وقال الحافظ أيضا: وَالْحِكْمَةُ فِي الذَّوْدِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ أَنْ يُرْشِدُ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى حَوْضِ نَبِيِّهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ «أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَأَنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ بِكَثْرَةِ مَنْ يَتْبَعُهُمْ» فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ إِنْصَافِهِ وَرِعَايَةِ إِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ لَا أَنَّهُ يَطْرُدُهُمْ بُخْلًا عَلَيْهِمْ بِالْمَاءِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَطْرُدُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّرْبَ مِنَ الْحَوْضِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ا. هـ
(7)
(1)
رواه ابن أبي الدنيا -كما في البداية والنهاية ط هجر (19/ 459) -. وابن مردويه في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 243) - وفي إسناده من لا يعرف، وقال ابن كثير: حديث غريب.
(2)
البداية والنهاية ط هجر (19/ 469)
(3)
سلسة الأحاديث الصحيحة (4/ 117) رقم (1589).
(4)
مسائل الإمام ابن باز (ص: 273) تقييد الشيخ عبد الله بن مانع.
(5)
الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم (ص 389)
(6)
فتح الباري (11/ 467)
(7)
المرجع السابق (11/ 474)
نهر الكوثر:
ومما خصَّ الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم الكوثرُ ونزل في ذلك سورة عظيمة،
قال الله تعالى: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر].
الكوثر نهر في الجنة:
قال الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أنه قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ» فَقَرَأَ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر: 1 - 3]. ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» فَقُلْنَا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ» رواه الإمام مسلم
(1)
تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للكوثر:
روى البخاري في صحيحه عنْ هُشَيْمٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«الكَوْثَرُ: الخَيْرُ الكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ» قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: «النَّهَرُ الَّذِي فِي الجَنَّةِ مِنَ الخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ»
(2)
وقول سعيد بن جبير يبين أنه لا اختلاف بين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قول ابن عباس رضي الله عنهما.
ولعطاء بن السائب فيه إسناد آخر: قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ قَالَ: قَالَ لِي مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: مَا سَمِعْتَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، يَذْكُرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فِي الْكَوْثَرِ؟ فَقُلْتُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: هَذَا الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، فَقَالَ مُحَارِبٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ،
(1)
رواه مسلم (400) وفي رواية له قَالَ: «نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ حَوْضٌ»
(2)
صحيح البخاري (6578، 4966) ووهم الحاكم فخرجه في المستدرك (3979) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه!.
مَا أَقَلَّ مَا يَسْقُطُ لِابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: لَمَّا أُنْزِلَتْ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هُوَ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، يَجْرِي عَلَى جَنَادِلِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، شَرَابُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» قَالَ: «صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، هَذَا وَاللَّهِ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ» رواه أحمد وغيره
(1)
وقد نقل المفسرون في تفسير الكوثر أقوالا أخرى: فقيل النبوة، وقيل القرآن، وقيل الإسلام، وقيل إنه التوحيد وقيل الشفاعة. ولا معدل عن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحوض يمد من الكوثر:
كما في الحديث المتقدم: قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» فَقُلْنَا اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
…
» فبين أن الخير الكثير هو الحوض الذي يُمَدُّ من نهر الكوثر بميزابين يصبان فيه كما في حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه المتقدم «
…
يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ،
…
»
وَتقدم أيضا في حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما «
…
لَهُ مِيزَابَانِ، إِحْدَاهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخَرُ مِنْ فِضَّةٍ،
…
» رواه الطبراني في الأوسط.
قال شيخنا العلامة المحدث عبد المحسن العباد -حفظه الله- في شرح سنن أبي داود: وهذا يدل على أن الكوثر نهر في الجنة، وأن فيه حوضاً، وجاء في بعض الأحاديث الصحيحة بيان أن الحوض يصب فيه ميزابان من الجنة، وعلى هذا فيكون الكوثر في الجنة والحوض في عرصات القيامة، وهو يمد ويصل إليه الماء من ذلك النهر الذي في
(1)
رواه أحمد (5913) عن مؤمل عن حماد به ومؤمل ضعيف، لكنه قد توبع فقد رواه الحاكم في المستدرك (6308) قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن علي بن بكر العدل حدثناه! (كذا وصوابه حفدة) إبراهيم بن هانئ -وهو صدوق-، ثنا الحسن (كذا وصوابه الحسين) بن الفضل البجلي -وهو ثقة-، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد به. وعطاء بن السائب في سنده وإن كان قد اختلط فإن سماع حماد منه كان قبل الاختلاط. والحديث رواه بقي بن مخلد في جزئه في الحوض (38) نا ابن كاسب، قال: نا سليمان بن حرب عن حماد به. ورواه أبو نعيم في صفة الجنة (326) -بسند صحيح- عن إسحاق بن حرب (كذا وصوابه سليمان بن حرب) عن حماد. والحديث رواه الترمذي (3361) وابن ماجه (4334) وأحمد (5355) وغيرهم من طرق أخرى عن عطاء به.
الجنة. وعلى هذا فيكون الحوض شيئاً والكوثر شيئاً آخر وليسا شيئاً واحداً، والكوثر هو الأصل والحوض فرع منه، والكوثر في الجنة والحوض إنما هو في عرصات القيامة، والماء الذي في الحوض جاء من الكوثر كما جاء في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا. هـ
آنية الكوثر:
تقدم في حديث أنس رضي الله عنه، «آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ»
وروى البخاري عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ -وهو ابن عبد الله بن مسعود-، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} قَالَتْ: «نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم، شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ»
(1)
حافتا الكوثر وطينته:
قالَ قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ، الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ - أَوْ طِيبُهُ - مِسْكٌ أَذْفَرُ»
(2)
وفي رواية: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ:«أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفًا، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ [الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ، قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى طِينَةٍ فَاسْتَخْرَجَ مِسْكًا، ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهَى فَرَأَيْتُ عِنْدَهَا نُورًا عَظِيمًا]»
(3)
حافتا الكوثر من ذهب ومجراه على جنادل الياقوت والدر وصفة شرابه:
تقدم حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قال: لَمَّا أُنْزِلَتْ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هُوَ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، يَجْرِي عَلَى جَنَادِلِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، شَرَابُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد
(4)
(1)
صحيح البخاري (4965)
(2)
رواه البخاري (6581)
(3)
رواه البخاري (4964) والترمذي (3360) ومنه الزيادة
(4)
رواه أحمد (5913) عن مؤمل عن حماد به ومؤمل ضعيف، لكنه قد توبع فقد رواه الحاكم في المستدرك (6308) قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن علي بن بكر العدل حدثناه! (كذا وصوابه حفدة) إبراهيم بن هانئ -وهو صدوق-، ثنا الحسن (كذا وصوابه الحسين) بن الفضل البجلي -وهو ثقة-، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد به. وعطاء بن السائب في سنده وإن كان قد اختلط فإن سماع حماد منه كان قبل الاختلاط. والحديث رواه بقي بن مخلد في جزئه في الحوض (38) نا ابن كاسب، قال: نا سليمان بن حرب عن حماد به. ورواه أبو نعيم في صفة الجنة (326) -بسند صحيح- عن إسحاق بن حرب (كذا وصوابه سليمان بن حرب) عن حماد. والحديث رواه الترمذي (3361) وابن ماجه (4334) وأحمد (5355) وغيرهم من طرق أخرى عن عطاء به.
صفة القصر على الكوثر:
عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، فذكر الحديث وفيه:
…
فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ، وَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِي، نِعْمَ الِابْنُ أَنْتَ،
…
ثم قال: ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ، فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟، قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ،
…
الحديث
(1)
طيور الكوثر:
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الزهريِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا الكَوْثَرُ؟ قَالَ: «ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ - يَعْنِي فِي الجَنَّةِ -[تُرَابُهُ الْمِسْكُ مَاؤُهُ] أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ، فِيهَا طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الجُزُرِ» قَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا»
(2)
(1)
رواه البخاري (7517)
(2)
رواه الترمذي (2542) من طريق القعنبي؛ وأحمد (13485) حدثنا إبراهيم ابن أبي العباس عن أبي أويس؛ وتمام في الفوائد (1224) من طريق ابن أبي أويس عن أبيه. وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (79، 144) من طريق معن بن عيسى؛ والبيهقي في البعث والنشور (265) من طريق الدراوردي كلهم (القعنبي، ومعن، وأبو أويس، والدراوردي) عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبيه به. وقال الترمذي هذا حديث حسن. ورواه أحمد (13475) -ومن طريقه الضياء في المختارة (6/ 242/ 2258) - من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن عبد الله به. والزيادة منه. وعنده (قال أبو بكر) بدل عمر. وقال الألباني في صحيح السيرة (219): وهي منكرة ا. هـ وقد توبع محمد بن عبد الله؛ رواه أحمد (13480): حدثنا يعقوب؛ وفي (13484) حدثنا إبراهيم ابن أبي العباس وتمام في الفوائد (1223) والخطيب في المتفق والمفترق (800) والضياء في المختارة (6/ 242/ 2259) من طريق ابن أبي أويس كلاهما (يعقوب وابن أبي العباس وابن أبي أويس) عن أبي أويس قال: أخبرني ابن شهاب، أن أخاه، أخبره، به. ورواه النسائي في السنن الكبرى (11639) عن ابن الهاد عن عبد الوهاب عن عبد الله بن مسلم عن ابن شهاب عن أنس. وهذا مقلوب الذي قبله. والصواب ما تقدم وهذه رواية شاذة. ورواه الحاكم (3978) بسند صحيح عن عاصم بن علي عن أبي أويس به. وعنده الزيادة الأولى وعنده (قال أبو بكر) بدل عمر. وهي منكرة كما تقدم. ورواه أبو نعيم في صفة الجنة (342) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن مسلم به. ورواه ابن إسحاق في السيرة (ص 272) - ومن طريقه هناد في الزهد (136)، والبيهقي في البعث (123) - حدثني جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن عبد الله بن مسلم الزهري به. والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2514).
فتأمل أيها المحب لله ورسوله إذا كان طينه وترابه مسكًا أذفر فما بالك ببقيته وبأوصافه!! -نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا ممن يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا-.
أناس يُذَادُون عن الحوض:
احذر أيها المؤمن فإن ثمة أناسًا يأتون يوم القيامة يُذَادُونَ عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتدري من هم؟
إنهم أولئك الذين ارتدوا على أدبارهم، إنهم أولئك الذين تنكبوا الصراط وابتعدوا عن اتباع رسولنا عليه الصلاة والسلام.
قال نبينا عليه الصلاة والسلام كما تقدم- من حديث ابن مسعود:
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (6583) واللفظ له، ومسلم (2290).
وفي حديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى عَرَفْتُهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ: أَصْحَابِي! فَيَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَك»
(1)
.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟! وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» فكان الراوي يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن عن ديننا. متفق عليه
(2)
.
وأنا أقول كما قال: اللهم إني أعوذ بك أن أرجع على عقبي، أو أن أفتن عن ديني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَذُودَنَّ رِجَالًا عَنْ حَوْضِي كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الإِبِلِ عَنِ الْحَوْضِ» متفق عليه
(3)
.
«كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الإِبِلِ» أي: كما تطرد الناقة الغريبة.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي، فَيُحَلَّؤُونَ عَنِ الْحَوْضِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى»
(4)
.
وعن أبي هريرة أيضًا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ: هَلُمَّ فَقُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ: هَلُمَّ قُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلُ هَمَلِ النَّعَم» رواه البخاري
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (6582) واللفظ له، ومسلم (2304).
(2)
أخرجه البخاري (6593)، ومسلم (2393).
(3)
أخرجه البخاري (2367)، ومسلم (2302).
(4)
تقدم (ص 298)
(5)
أخرجه البخاري (6587).
والمعنى: أن كثيرًا سيُخْتَلَجُون دون حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولئك الذين من صفاتهم: أنهم ارتدوا على أدبارهم يعني: وقعوا في الشرك بالله -جل وعلا- وأنهم لم يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقيدته وعبادته.
فاحذر -عبدَ الله- من الشرك ومن النفاق،
واحذر من البدع والمُحْدَثات؛ فإنَّ المرء لا يكون متَّبِعًا للنبي صلى الله عليه وسلم حقًا إلَّا إذا سار على شرعته واتبع سنته صلى الله عليه وسلم.
أما أولئك الذي ارتدوا أو لم يتبعوه صلى الله عليه وسلم فسيُحرَمون من حوضه عليه الصلاة والسلام نسأل الله السلامة والعافية-.
وجاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر ويقول: «إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّهِ - وفي رواية: إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللهِ- حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} [الأنبياء: 104]، ثم قال عليه الصلاة والسلام:«فأوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ يُؤْخَذُ برِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فأقُولُ: أَصْحَابِي! فيُقَالُ: إنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ علَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ، فأقُولُ كما قالَ العَبْدُ الصَّالِحُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 117 - 118]»
(1)
وفي حديث جابر المتقدم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَسَيَأْتِي أَقْوَامٌ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ بِآنِيَةٍ، ثُمَّ لَا يَذُوقُونَ مِنْهُ شَيْئًا» أي: من الحوض شيئًا.
وجاء أيضًا في سنن الترمذي عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ تِسْعَةٌ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعَةٌ أَحَدُ العَدَدَيْنِ مِنَ العَرَبِ وَالآخَرُ مِنَ العَجَمِ فَقَالَ: «اسْمَعُوا، هَلْ سَمِعْتُمْ؟ إنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ [يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ] فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَيَّ الحَوْضَ،
(1)
أخرجه البخاري (3447)، ومسلم (2860)
وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيَّ الحَوْضَ»
(1)
وفي المسند عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه:«أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ» ، قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟، قَالَ:«أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي، لَا يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَا يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَسَيَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي. يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَالصَّلَاةُ قُرْبَانٌ - أَوْ قَالَ: بُرْهَانٌ - يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ النَّارُ، أَوْلَى بِهِ. يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، النَّاسُ غَادِيَانِ: فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا»
(2)
فهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الظلمة وأعوانهم لا يَرِدُونَ الحوض.
نسأل الله -جل وعلا- أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا من أولئك الذين يردون حوضه صلى الله عليه وسلم فينالون شربة من حوضه لا يظمؤون بعدها أبدًا.
لقاء النبي صلى الله عليه وسلم عند الحوض:
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر عند حصول الأثرة وقال: «اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» . وذلك في أحاديث كثيرة -تقدم ذكرها- ومنها:
حديث أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي الله عنهم، -في الصحيحين- أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا؟ قَالَ:«سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ»
وفي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَنْصَارَ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَكْتُبَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: «ذَاكَ لَهُمْ مَا
(1)
أخرجه الترمذي (2259) والنسائي (4207) وأحمد (18126) والزيادة منه وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب. وصححه الشيخ مقبل في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (41)
(2)
مسند أحمد (14441) وصححه ابن حبان (1723، 4514) والحاكم (265، 8302) وحسنه الشيخ مقبل في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (898).
شَاءَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ»، يَقُولُونَ لَهُ، قَالَ:«فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ»
(1)
وفي رواية -في الصحيحين-: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الحَوْضِ» [قَالُوا: سَنَصْبِرُ] قَالَ أَنَسٌ فَلَمْ نَصْبِرْ
(2)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَالَ للأَنْصَارِ «
…
إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ»
(3)
وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّي لأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا»
(4)
وفي الباب: عن أبي سعيد الخدري والبراء بن عازب
(5)
وقال له رجلٌ: يا رسول الله: اشفع لي عند الله يوم القيامة فقال له: «أَنَا فَاعِلٌ» فقال: يا رسول الله: أين أجدك؟ أين أطلبك؟ قال: «اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ» قال: فإن لم ألقك؟ قال: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ المِيزَانِ» قال: فإن لم أَلْقَك؟ قال: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوْضِ؛ فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ المَوَاطِنَ»
(6)
.
وختاما يقول شمس الدين ابن القيم رحمه الله:
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يُستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا، ثم قال:
وَمِنْهَا: أَنَّ وُرُودَ النَّاسِ الْحَوْضَ وَشُرْبَهُمْ مِنْهُ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ بِحَسَبِ وُرُودِهِمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشُرْبِهِمْ مِنْهَا،
فَمَنْ وَرَدَهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ وَشَرِبَ مِنْهَا وَتَضَلَّعَ وَرَدَ هُنَاكَ حَوْضَهُ وَشَرِبَ مِنْهُ وَتَضَلَّعَ،
(1)
أخرجه البخاري (3163)
(2)
أخرجه البخاري (3147، 4331) ومسلم (1059) وله الزيادة
(3)
أخرجه البخاري (4330) ومسلم (1061)
(4)
تقدم في هذا المجلس.
(5)
أخرجها أحمد في مسنده (11547) و (18582).
(6)
تقدم في أحاديث الحوض.
فَلَهُ صلى الله عليه وسلم حَوْضَانِ عَظِيمَانِ: حَوْضٌ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ سُنَّتُهُ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَحَوْضٌ فِي الْآخِرَةِ، فَالشَّارِبُونَ مِنْ هَذَا الْحَوْضِ فِي الدُّنْيَا هُمُ الشَّارِبُونَ مِنْ حَوْضِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَشَارِبٌ، وَمَحْرُومٌ، وَمُسْتَقِلٌّ، وَمُسْتَكْثِرٌ، وَالَّذِينَ يَذُودُهُمْ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ عَنْ حَوْضِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَذُودُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَتْبَاعَهُمْ عَنْ سُنَّتِهِ وَيُؤْثِرُونَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا؛
فَمَنْ ظَمِأَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا شُرْبٌ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ ظَمَأً وَأَحَرُّ كَبِدًا «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ أَشَرِبْتَ فَيَقُولُ: نَعَمْ وَاللَّهِ فَيَقُولُ: لَكِنِّي وَاللَّهِ مَا شَرِبْتُ، وَاعَطَشَاهُ»
(1)
.
فَرِدْ أَيُّهَا الظَّمْآنُ وَالْوِرْدُ مُمْكِنٌ
…
فَإِنْ لَمْ تَرِدْ فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ هَالِكُ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِضْوَانُ يَسْقِيكَ شَرْبَةً
…
سَيَسْقِيكَهَا إِذْ أَنْتَ ظَمْآنُ مَالِكُ
وَإِنْ لَمْ تَرِدْ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَوْضَهُ
…
سَتُصْرَفُ عَنْهُ يَوْمَ يَلْقَاكَ آنِكُ
(2)
نسأل الله -جل وعلا- أن يُعِيذَنا من الفتن، وأن يُثبِّتَنا على دينه حتى نلقاه،
ونسأله -جل وعلا- أن يرزقنا شربةً من حوضه، لا نظمأ بعدها أبدًا،
وأكتفي بهذا والله تعالى أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
روى أبو نعيم في «حلية الأولياء» (6/ 209): عَنِ الْفَضْلِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى تَدَافُعِ أُمَّتِي بَيْنَ الْحَوْضِ وَالْمَقَامِ فَيلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَيَقُولُ يَا فُلَانُ أَشَرِبْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ أَشَرِبْتَ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ صُرِفَ وَجْهِي فَمَا قَدَرْتُ أَنْ أَشْرَبَ فَيَرْجِعُ» والفضل الرقاشي منكر الحديث.
(2)
اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 85)
JIH
الإيمان بالصراط
F e
المجلس الخامس والثلاثون
(1)
الإيمان بالصراط:
من الإيمان باليوم الآخر: الإيمانُ بالصِّراط، فأهلُ السنة والجماعة يؤمنون بالصراط.
تعريف الصراط:
قال شيخ الإسلام: " وهو الجسر الذي بين الجنة والنار يمر الناس عليه على قدر أعمالهم:
…
"
(2)
.
الإجماع على الإيمان بالصراط:
نقل غيرُ واحدٍ من العلماء إجماعَ أهل السنة والجماعة على الإيمان بالصراط منهم:
أبو الحسن الأشعري، وابن بطة العكبري، والقاضي عياض، والنووي، وشيخ الإسلام، وغيرهم
(3)
.
ومستَنَدُ ذلك أدلة كثيرة ومنها: تلك الآيةُ العظيمة التي أقضَّت مضاجع السلف،
وهي قولُ اللهِ سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)} [مريم].
وقد سبقها قولُ اللهِ سبحانه وتعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)} [مريم]. -والحديث في هذه الآيات عن النار -أعاذنا اللهُ وإيَّاكم منها-، ثم قال تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} أي: وإن منكم إلا وارد النار.
(1)
كان في يوم الإثنين الثالث والعشرين من شهر شوال من عام 1441 هـ.
(2)
العقيدة الواسطية (ص: 99).
(3)
ينظر: رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري (286)، والشرح والإبانة لابن بطة (201) وإكمال المعلم للقاضي عياض (1/ 550)، وشرح النووي على مسلم (3/ 20)، والعقيدة الواسطية (ص: 99)، مجموع الفتاوى (3/ 199).
قال قيس بن أبي حازم رحمه الله: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَاضِعًا رَأْسَهُ فِي حِجْرِ امْرَأَتِهِ، فَبَكَى فَبَكَتِ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ:«مَا يُبْكِيكِ؟» ، قَالَتْ: رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ، فَقَالَ:" إِنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فَلَا نَدْرِي أَنَنْجُو مِنْهَا أَمْ لَا؟ "
(1)
وقالَ مُجَاهِدٍ رحمه الله: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: -فذكر هذه الآية-، قَالَ:«أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَرِدُهَا، فَانْظُرْ هَلْ نَصْدُرُ مِنْهَا أَمْ لَا؟»
(2)
وعنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ رحمه الله قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا الْتَقَوْا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: هَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ وَارِدٌ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: هَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ خَارِجٌ مِنْهَا؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَفِيمَ الضَّحِكُ إِذًا؟.
(3)
.
وقال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله: فما أعظم خطرك يا أخي في هذه الصّلاة، وفي غيرها من عملك، وما أولاك بالهمّ والحزن، والخوف والوجل فيها، وفيما سواها ممّا افترض الله عليك، إنك لا تدري: هل يقبل منك صلاةً قط، أم لا؟ ولا تدري: هل يقبل منك حسنةً قط، أم لا؟ وهل غفر لك سيئةً قط، أم لا؟ ثم أنت -مع هذا- تضحك وتغفل، وينفعك العيش، وقد جاءك اليقين: أنّك وارد النّار، ولم يأتك اليقين أنّك صادرٌ عنها، فما أحقّ بطول الحزن منك، حتى يتقبل الله منك؟ ثمّ -مع- هذا لا تدري، لعلّك لا تصبح إذا أمسيت، ولا تمسي إذا أصبحت، فمُبشّرٌ بالجنة، أو مُبشرٌ بالنّار ا. هـ
(4)
(1)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1779) -ومن طريقه الطبري في «جامع البيان ط هجر» (15/ 594) والحاكم (8748) - قَالَ: أرنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، به وفي الزهد والرقائق لابن المبارك - ط الأعظمي- (309) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (28/ 106) - عَنْ عَبَّادٍ الْمِنْقَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ قَالَ: لما نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِلَى بَيْتِهِ فَبَكَى، فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَبَكَتْ،
…
» فذكر نحوه. ورواه ابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام ت السقا (2/ 373)؛ ومن طريقه الطبري في التاريخ (3/ 37) والطبراني كما في مجمع الزوائد (6/ 157) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 118) - عن عروة بن الزبير
…
قال: فَلَمَّا وَدَّعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مَنْ وَدَّعَ مِنْ أُمَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَى، فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ يَا بْنَ رَوَاحَةَ؟
…
فذكره نحوه.
(2)
رواه الحسين المروزي في زوائده على ابن المبارك في الزهد والرقائق ط الأعظمي (1418) والطبري في تفسيره ط هجر (15/ 598) وسنده صحيح.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 187) وانظر: «التخويف من النار لابن رجب/ ت بشير عيون» (245)
(4)
رسالة "الصلاة"(ص: 112) وانظر: «الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه» (5/ 510)
تواتر أدلة الإيمان بالصراط:
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالرُّؤْيَةِ وَفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَتَوَاتَرْ لَفْظٌ بِعَيْنِهِ
…
وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ يَتَوَاتَرُ عِنْدَهُمْ مَا لَا يَتَوَاتَرُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ
…
إلخ ا. هـ
(1)
صفة الصراط:
قال القاضي عياض رحمه الله: والسلفُ مجمِعُونَ على حمله على ظاهره دون تأويل، والله أعلم بحقيقة صفته، وهو الجِسْر، كما جاء في الحديث الآخر، ويُقالُ بكسر الجيم وفتحِها ا. هـ
(2)
.
الصراط دَحْضٌ مَزَلَّة:
وقد جاءت السنة ببيان صفة هذا الصراط، وفيها: أن الصراط زَلِقٌ؛ ففي الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الجَسْرُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ،
…
»
(3)
.
وقوله: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ» بمعنى واحد
(4)
. و «مَزِلَّةٌ» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَتَشْدِيدُ اللَّامِ- أَيْ مَوْضِعُ الزَّلَلِ
…
(5)
. وتقدم هذا الحديث في أبواب الشفاعة.
الصراط له جنبتان:
وبيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ للصراط جنبتين أو أنَّ له حافتين: كما في حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما وتقدما معنا في أبواب الشفاعة-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ»
…
الحديث
(6)
(1)
«مجموع الفتاوى» (18/ 69) وبنحوه في (19/ 12)
(2)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 550)
(3)
أخرجه البخاري (7439) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
ينظر: "غريب الحديث للخطابي"(2/ 247)
(5)
فتح الباري (13/ 429).
(6)
أخرجه مسلم (195) عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما. وخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (8749) وصححه على شرطهما. وتعقبه شيخنا الوادعي في تحقيق المستدرك.
وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُحْمَلُ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَقَادَعُ بِهِمْ جَنَبَتَا الصِّرَاطِ تَقَادُعَ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ» ، قَالَ:«فَيُنْجِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ» ، قَالَ:«ثُمَّ يُؤْذَنُ لِلْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ أَنْ يَشْفَعُوا فَيَشْفَعُونَ، وَيُخْرِجُونَ وَيَشْفَعُونَ، وَيُخْرِجُونَ وَيَشْفَعُونَ، وَيُخْرِجُونَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً مِنْ إِيمَانٍ»
(1)
قال ابن الأثير رحمه الله: «جَنَبَتَا الصِّرَاطِ تَقَادُعَ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ» أي: تسقطهم فيها بعضهم فوق بعض، وتقادع القوم: إذا مات بعضهم إثر بعض وأصل القدع: الكف والمنع أي: تسقطهم فيها بعضهم فوق بعض"
(2)
نسأل الله السلامة والعافية.
لحافتي الصراط كلاليب وخطاطيف وحسكة:
ولحافتي الصراط كلاليب كما سبق في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الجَسْرُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ»
(3)
.
وَقَوْلُهُ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ» تقدم قريبا بيانه.
وَقَوْلُهُ «عَلَيْهِ خطاطيف» هو جمع خطَّاف بِالضَّمِّ وَهُوَ الحديدة المعوجة كالكلوب يختطف بهَا الشَّيْء.
وَقَوْلُهُ «وَكَلَالِيبٌ» جمع كَلوب بِفَتْح الْكَاف وَهُوَ حَدِيدَة معطوفة الرَّأْس يعلق عَلَيْهَا اللَّحْم، وَقيل: الكلوب الَّذِي يتَنَاوَل بِهِ الْحدادُ الْحَدِيدَ من النَّار، -وقيل-: هُوَ المعقف الَّذِي يخطف بِهِ الشَّيْء.
(4)
وقوله: «وَحَسَكَةُ» بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ نَبَاتٌ لَهُ ثَمَرٌ خَشِنٌ يَتَعَلَّقُ بِأَصْوَافِ الْغَنَمِ وَرُبَّمَا اتُّخِذَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيدٍ وَهُوَ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ.
وَقَوْلُهُ «مُفَلْطَحَةٌ» بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا طَاءٌ ثُمَّ حَاءٌ مُهْمَلَتَانِ وَهُوَ الَّذِي فِيهِ اتِّسَاعٌ وَهُوَ عَرِيضٌ يُقَالُ فَلْطَحَ الْقُرْصَ بَسَطَهُ وَعَرَّضَهُ.
(1)
أخرجه أحمد (20440) وحسنه الألباني في ظلال الجنة (837).
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 24).
(3)
أخرجه البخاري (7439) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري (25/ 126 و 129 و 130)
وَقَوْلُهُ «عَقِيفَةٌ» بِالْقَافِ ثُمَّ الْفَاءِ وَزْنُ عَظِيمَةٌ وَلِبَعْضِهِمْ «عُقَيْفَاءُ» بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ مَمْدُودٌ. وَهِي المنعطفة المعوجة.
(1)
وفي حديث آخر -تقدم معنا في أبواب الشفاعة-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ» قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: «أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا» ، قَالَ:«وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنِ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ»
(2)
.
يعني: يعبر على هذا الصراط إلى الجنة أقوامٌ فيُخطَفُون ويُلْقَوْن في نار جهنم
-نسأل الله السلامة والعافية-. ومنهم: أهل النفاق -كما تقدَّم معنا
(3)
- أنَّ الله عز وجل يُعطِي كلَّ إنسان نورًا بقدر عمله، فأما المنافق فينطفئ عليه النور على الصِّراط ويُقذَف في نار جهنم.
وجاء أيضًا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُجَازَى حَتَّى يُنَجَّى»
(4)
. فالمقصود بذلك التقريب، أما تلك التي تكون يوم القيامة فالله عز وجل أعلم بقدرها. والمقصود: أنَّ الصراط عليه كلاليب وعليه خطاطيف تختطف من أُمرِتْ بخطفه.
فيا أيها العبد المؤمن: إذا أردت النجاة من هذه الأهوال يوم القيامة فعليك بإصلاح عملك، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ
(1)
ينظر: فتح الباري (13/ 429)، عمدة القاري (25/ 126 و 129 و 130).
(2)
تقدم.
(3)
في المجلس الثالث والثلاثين.
(4)
أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أَحَدًا (110)} [الكهف] من كان يرجو لقاء الله أي: من كان يرجو أن يرى الله يوم القيامة، ويدخل الجنة فعليه بإصلاح عمله في الدنيا، وإلا فالمرور على الصراط ليس بالأمر الهَيِّن.
الصراط أَحَدُّ من السيف:
وجاء أيضًا وَصْفُ الصراط بأنه أَحَدُّ من الموسى أو أحدُّ من السيف: كما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ»
(1)
وورد ذلك في بعض الأحاديث الضعيفة المرفوعة كما في حديث عائشة المتقدم قريبا وفيه «وَلِجَهَنَّمَ جِسْرٌ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ»
(2)
. وفي حديث الصور الطويل المشهور «وَيُضْرَبُ بِالصِّرَاطِ بَيْنَ ظَهْرَانَيِّ جَهَنَّمَ، كَحَدِّ الشَّعْرَةِ، أَوْ كَحَدِّ السَّيْفِ لَهُ كَلَالِيبُ وَخَطَاطِيفُ»
(3)
. وفي شعب الإيمان للبيهقي -وضعفه- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ عَلَى جَهَنَّمَ جِسْرًا أَدَقَّ مِنَ الشَّعْرِ وأحد مِنَ السَّيْفِ»
(4)
.
لكن صح عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: «يُوضَعُ الصِّرَاطُ وَلَهُ حَدٌّ كَحَدِّ الْمُوسَى فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا مَنْ تُجِيزُ عَلَى هَذَا، فَيَقُولُ: أُجِيزَ عَلَيْهِ مَنْ شِئْتُ»
(5)
(1)
صحيح مسلم (183).
(2)
مسند أحمد (41/ 302) رقم (24793). وإسناده ضعيف.
(3)
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (10). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإسناده ضعيف. وانظر: فتح الباري (11/ 368)
(4)
شعب الإيمان (361)
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (34195) وسنده صحيح. ورواه الحاكم في المستدرك (8739) من طريق المسيب بن زهير عن هدبة بن خالد ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن سلمان به مرفوعا. وقال:" هذا حديث صحيح على شرط مسلم ". وتعقبه الشيخ الألباني فقال: وفيه نظر، فإن هدبة بن خالد وإن كان من شيوخ مسلم، فإن الراوي عنه المسيب بن زهير لم أر من وثقه، وقد ترجم له الخطيب (13/ 149) وكناه أبا مسلم التاجر، وذكر أنه روى عنه جماعة، وأنه توفي سنة (285)، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وقد رواه الآجري في " الشريعة " (382) عن عبيد الله بن معاذ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا حماد بن سلمة به موقوفا على سلمان. وإسناده صحيح، وله حكم المرفوع، لأنه لا يقال من قبل الرأي ا. هـ وتوبع معاذ -وهو العنبري- على وقفه رواه أيضا أسد بن موسى -كما في الزهد (66) له-، والحسن بن موسى -عند ابن أبي شيبة في المصنف -، وأبو نصر التمار -عند ابن أبي الدنيا -كما في البداية والنهاية ط هجر (20/ 110) - واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2221)؛ والأسود بن عامر -عند ابن الأعرابي في المعجم (1827) - كلهم (أسد والحسن بن موسى والتمار، والأسود) عن حماد به موقوفا. وله حكم الرفع كما تقدم وانظر: السلسلة الصحيحة (941).
وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «والصِّراط كحَدِّ السيف دحضٌ مزلةٍ»
(1)
. وفي رواية: «يُوضَعُ الصِّرَاطُ عَلَى سَوَاءِ جَهَنَّمَ مِثْلَ حَدِّ السَّيْفِ الْمُرْهَفِ، مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ،
…
» الحديث
(2)
الورود على الصراط من الأهوال العظيمة:
والورود على الصراط من الأهوال العظيمة يوم القيامة. وقد تقدم معنا في الحديث عن الميزان ما رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أَنَّهَا ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا يُبْكِيكِ؟» قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ:
…
فذكر الميزان وتطاير الصحف ثم قال: وَعِنْدَ الصِّرَاطِ إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ» وفي إسناده ضعف
(3)
. ومما يدل على هوله أوصافه المتقدمة، وكذا ما جاء من وقوف المرسلين وغيرهم على الصراط ودعائهم للمارين بالنجاة كما سيأتي.
دعاء المرسلين عليهم السلام وأتباعهم عندما يضرب الصراط:
وجاء في الحديث أن الرسل عليهم السلام وأتباعهم يقفون ويدعون بالسلامة والنجاة. ففي حديث أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «
…
فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ،
…
» متفق عليه وفي رواية للترمذي وأحمد: «
…
فَيَقُومُ المُسْلِمُونَ وَيُوضَعُ الصِّرَاطُ، فَيَمُرُّونَ عَلَيْهِ مِثْلَ جِيَادِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَقَوْلُهُمْ عَلَيْهِ سَلِّمْ سَلِّمْ
…
»
(4)
(1)
أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (278) والحاكم (3424) وقواه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 620) بحديث سلمان المتقدم. وانظر: صحيح الترغيب والترهيب (3/ 419)
(2)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/ 203) رقم (8992) عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه. وانظر: صحيح الترغيب والترهيب (3627).
(3)
أخرجه أبو داود (4755) من طريق الحسن عن عائشة وهو لم يسمع منها وانظر: ضعيف الترغيب (2108).
(4)
صحيح البخاري (806) وصحيح مسلم (182) ورواية الترمذي في سننه (2557) ومسند أحمد (8817) وإسنادها صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1330) رقم (8025) وفي تخريج الطحاوية (576)
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «
…
حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا، فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ،
…
» الحديث
(1)
.
وروى الترمذي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «شِعَارُ المُؤْمِنِ عَلَى الصِّرَاطِ، رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ» وإسناده ضعيف لكن يشهد له ما قبله
(2)
.
(3)
نبينا صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يدعو للمارين بالسلامة:
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحُذَيْفَةَ رضي الله عنهما، -في صحيح مسلم- قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«
…
وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ
…
ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا
(1)
تقدم (ص: 200)
(2)
سنن الترمذي (2432)، وقال:«هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ» . وانظر: السلسلة الضعيفة (1973).
(3)
فتح الباري (11/ 452)
يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا
…
»
(1)
. ومر معنا حديثُ النَّضْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقَالَ:«أَنَا فَاعِلٌ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: «اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ» . قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ المِيزَانِ» . قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ المِيزَانِ؟ قَالَ: «فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوْضِ فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ المَوَاطِنَ»
(2)
. وهذا يدل على أنَّ هذه المواطن الثلاثة مواطنُ عظيمة. وفي حديث آخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَقَائِمٌ أَنْتَظِرُ أُمَّتِي تَعْبُرُ الصِّرَاطِ»
(3)
وهذا يدُلُّ أيضًا على عِظَمِ هذا الموقفِ الذي يحتاج فيه الإنسانُ إلى عمله الصالح.
الملائكة يدعون أيضا للمارين بالسلامة:
وفي رواية عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيَمُرُّ النَّاسُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ وَعَلَيْهِ حَسَكٌ وَكَلَالِيبُ وَخَطَاطِيفُ تَخْطَفُ النَّاسَ يَمِينًا وَشِمَالًا وَبِجَنْبَتَيْهِ مَلَائِكَةٌ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ
…
»
(4)
وفي المسند عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَذْكُرُ الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ، أَمَّا عِنْدَ ثَلَاثٍ فَلَا،
…
فذكر الحديث وفيه: وَلِجَهَنَّمَ جِسْرٌ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، عَلَيْهِ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ يَأْخُذُونَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالنَّاسُ عَلَيْهِ كَالطَّرْفِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ، وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ: رَبِّ سَلِّمْ، رَبِّ سَلِّمْ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُسَلَّمٌ، وَمُكَوَّرٌ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ»
(5)
(1)
تقدم.
(2)
تقدم في أحاديث الحوض.
(3)
تقدم (ص: 167). وقوله: «أَنْتَظِرُ أُمَّتِي» قال السندي: الظاهر أن المراد بهذه الأمة من لا حساب عليهم، فأُذن لهم في الدخول إلى الجنة ا. هـ
(4)
أخرجه أحمد (11201، 11202) وأبو يعلى (1253) والنسائي في السنن الكبرى (11264)، وابن حبان (7379) والحاكم (8737)، وقال: صحيح على شرط مسلم ا. هـ قلت: الحديث إسناده صحيح، وهو من طريق عثمان بن غياث عن أبي نضرة، وهو بهذا السياق ليس على شرط مسلم، وينظر: تحقيق المسألة في بيان شرط الشيخين في السلسلة الصحيحة -بما لا تكاد تجده في مكان آخر- (3/ 66).
(5)
مسند أحمد (41/ 302) رقم (24793). وإسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة.
وفي المستدرك عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] قَالَ: «الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ مِثْلُ حَدِّ السَّيْفِ فَتَمُرُّ الطَّائِفَةُ الْأُولَى كَالْبَرْقِ، وَالثَّانِيَةُ كَالرِّيحِ، وَالثَّالِثَةُ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعَةُ كَأَجْوَدِ الْإِبِلِ وَالْبَهَائِمِ، ثُمَّ يَمُرُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ تَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ»
(1)
المشركون يقعون في النار قبل الصراط:
قال الحافظ زين الدين عبد الرحمن ابن رجب رحمه الله: فأما المشركون فإنهم لا يمرون على الصراط إنما يقعون في النار قبل وضع الصراط ا. هـ ودليل ذلك ما تقدم في المجلس الثالث والثلاثين في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الله يجمع الناس يوم القيامة، فيقول: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا،
…
فذكر الحديث
…
قال فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ
…
»
(2)
وفي حديث أبي سعيد «
…
إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ إِلاَّ يَتَسَاقَطُونَ في النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ
…
فذكر الحديث وفيه: ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ
…
»
(3)
قال ابن رجب رحمه الله: فهذا الحديث صريح في أن كل من أظهر عبادة شيء سوى الله، كالمسيح وعزير من أهل الكتاب، فإنه يلحق بالمشركين في الوقوع في النار قبل نصب الصراط، إلا أن عباد الأصنام والشمس والقمر وغير ذلك من المشركين تتبع كل فرقة منهم ما كانت تعبد في الدنيا، فترد النار مع معبودها أولاً،
…
ولا يبقى بعد ذلك إلا من كان يعبد الله وحده في الظاهر، سواء كان صادقاً أو منافقاً من هذه الأمة وغيرها، ثم
(1)
المستدرك على الصحيحين للحاكم (3423) أخرجه من طريق عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ الْقَنَّادُ، أَبنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، به ورجاله ثقات، وقال الحاكم:«هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ» ا. هـ وفيه نظر: فإن البخاري لم يخرج لعمرو وهو ابن حماد بن طلحة.
(2)
أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182).
(3)
أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183).
يتميز المنافقون على المؤمنين بامتناعهم من السجود، وكذلك يمتازون عنهم بالنور الذي يقسم المؤمنين ا. هـ
(1)
صفة الورود على الصراط:
اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في صفة هذا الورود، وأصحُّ الأقوال -إن شاء الله- هو: قولُ من قال من العلماء أنَّ الورود هنا المراد به: العبورُ على الصراط يوم القيامة أو هو دخول عبور وذلك بالنسبة للمؤمن
(2)
. كما في صحيح الإمام مسلم من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قالَ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ رضي الله عنها، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ رضي الله عنها:«لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا» قَالَتْ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ قَالَ اللهُ عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم]»
(3)
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: وحاصل ما فهمت -أي حفصة رضي الله عنها منها أن الورود فيها بمعنى الدخول وأنها قابلت عموم قوله صلى الله عليه وسلم «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» بعموم قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وكأنها رجَّحت عموم القرآن فتمسكت به، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأن آخر الآية يبيِّن المقصود، فقرأ قوله تعالى {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} وحاصل الجواب تسليم أن الورود دخول، لكنه دخول عبور، فينجو من اتقى، ويترك فيها من ظلم، وبيان ذلك أن جهنم - أعاذنا الله منها - محيطة بأرض المحشر وحائلة بين الناس وبين الجنة، ولا طريق للجنة إلا الصراط الذي هو جسر ممدود على متن جهنم، فلا بدَّ لكل من ضمَّه المحشر من العبور عليه؛ فناج مُسَلَّم، ومخدوش مرسل، ومكردسٌ في نار جهنم - كما تقدَّم، وهذا قول الحسن وقتادة، وهو الذي تعضده الأخبار الصحيحة والنظر المستقيم ا. هـ
(4)
.
(1)
«التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار» (ص 235 - 238)
(2)
روى الترمذي ت شاكر (3160) بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ في تفسير الآية:«يَرِدُونَهَا ثُمَّ يَصْدُرُونَ بِأَعْمَالِهِمْ» .
(3)
صحيح مسلم (2496)
(4)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 444)
وقال النووي رحمه الله: والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون ا. هـ
(1)
وهذا المعنى لا ينافي ما ذكره القرطبي من أن الورود الدخول في النار -كما في فهم السيدة حفصة رضي الله عنها؛ لأن المرور على الصراط هو دخول في النار.
يعطى المارون على الصراط نورا بحسب أعمالهم:
والمارون على الصراط يعطون نورا بحسب أعمالهم. قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الحديد]. وتقدم معنا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح الإمام مسلم رحمه الله لمَّا سُئِل عن الورود الذي يكون في ذلك اليوم، فقال رضي الله عنه وأرضاه: «فَتُدْعَى الأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ مَنْ تَنْظُرُونَ؟ -أي: من تنتظرون؟ -فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبَّنَا. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ. فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ-قَالَ-فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ- مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ - نُورًا ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ
…
» الحديث
(2)
.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: 12]. قَالَ: «يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ النَّخْلَةِ وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِهِ يُطْفَأُ مَرَّةً وَيَتَّقِدُ أُخْرَى»
(3)
.
ورواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة -وغيره- عنه مرفوعا قال صلى الله عليه وسلم: «
…
فيرفعون رؤوسهم فَيُعْطِيهِمْ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ رَجُلًا يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً وَيُطْفِئُ مَرَّةً فَإِذَا أضاء قدم قدمه ومشى وإذا انطفئ قَامَ عَلَى
(1)
شرح النووي على مسلم (16/ 58)
(2)
أخرجه مسلم (489). وتقدم في المجلس الثالث والثلاثين.
(3)
مصنف ابن أبي شيبة (7/ 107) رقم (34558) وسنده حسن.
الصِّرَاطِ قَالَ وَالرَّبُّ عز وجل أَمَامَهُمْ حَتَّى يَمُرَّ فِي النَّارِ فَيَبْقَى أَثَرُهُ كَحَدِّ السَّيْفِ دَحْضَ مَزِلَّةٍ فَيَقُولُ مُرُّوا فيمرون على قدر نورهم»
(1)
.
وروى الحاكم عَنْ يَزِيدَ بْنِ شَجَرَةَ الرَّهَاوِيِّ، وَكَانَ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْجُيُوشِ، أنه قال: «
…
إِنَّكُمْ مَكْتُوبُونَ عِنْدَ اللَّهِ بِأَسْمَائِكُمْ وَسِيمَائِكُمْ وَحِلَاكُمْ وَنَجْوَاكُمْ وَمَجَالِسِكُمْ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ: يَا فُلَانُ هَذَا نُورُكَ، وَيَا فُلَانُ لَا نُورَ لَكَ
…
»
(2)
قال ابن القيم رحمه الله: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يُستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا، ثم قال: وَمِنْهَا: قَسْمُهُ الْأَنْوَارَ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُعْطَى مِنَ النُّورِ هُنَاكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ نُورِ إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَمُتَابَعَتِهِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِ الدُّنْيَا فَمِنْهُمْ: مَنْ يَكُونُ نُورُهُ كَالشَّمْسِ وَدُونَ ذَلِكَ كَالْقَمَرِ وَدُونَهُ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً. وَمِنْهُمْ: مَنْ يَكُونُ نُورُهُ كَالسِّرَاجِ فِي قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ: مَنْ يُعْطَى نُورٌ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِئُ مَرَّةً وَيُطْفِيُ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَهُوَ هَذَا النُّورُ بِعَيْنِهِ أَبْرَزَهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ فِي الْآخِرَةِ ظَاهِرًا يُرَى عِيَانًا بِالْأَبْصَارِ، وَلَا يَسْتَضِيءُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يَمْشِي أَحَدًا إِلَّا فِي نُورِ نَفْسِهِ إِنْ كَانَ " لَهُ " نُورٌ مَشَى فِي نُورِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ أَصْلًا لَمْ يَنْفَعْهُ نُورُ غَيْرِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ فِي الدُّنْيَا قَدْ حَصَلَ لَهُ نُورٌ ظَاهِرٌ غَيْرُ مُسْتَمِرٍّ وَلَا مُتَّصِلٍ بِبَاطِنِهِ وَلَا لَهُ مَادَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ أُعْطِيَ فِي الْآخِرَةِ نُورًا ظَاهِرًا لَا مَادَّةَ لَهُ ثُمَّ يُطْفَأُ عَنْهُ أَحْوَجُ مَا كَانَ إِلَيْهِ.
(3)
.
النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته بنورهم:
روى ابن المبارك والحاكم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، سَمِعَ أَبَا ذَرٍّ، وَأَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ فِي السُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِرَفْعِ
(1)
تقدم قريبا (ص: 312)
(2)
مستدرك الحاكم (6087) وصحح إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 375) والضعيفة (8/ 217).
(3)
انظر: «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 73 ط عطاءات العلم)
رَأْسِهِ، فَأَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ، وَأَنْظُرُ عَنْ شِمَالِي، فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَأَنْظُرُ مِنْ خَلْفِي، فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنَ الْأُمَمِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ مِنْ بَيْنَ الْأُمَمِ، مَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى أُمَّتِكَ، قَالَ: غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْأُمَمِ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، وَأَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَبِأَيْمَانِهِمْ»
(1)
البشارة للمشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بشّر المشّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»
(2)
قال المباركفوري رحمه الله: «بالنَّور التام» ، قال:"الذي يحيط بهم من جميع جهاتهم، أي على الصراط لما قاسوا مشقة المشي في ظلمة الليل جوزوا بنور يضيء لهم ويحيطهم"
(3)
وهذا عملٌ يسير على من يسّره الله عز وجل عليه.
أول الناس مرورا على الصراط هذه الأمة:
ثبت في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «
…
فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ،
…
»
(4)
أول الأمة مرورا على الصراط فقراء المهاجرين:
روى الإمام مسلم عن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ
…
ثم قال اليهودي: جِئْتُ أَسْأَلُكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟» قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، فَنَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعُودٍ مَعَهُ، فَقَالَ:«سَلْ» فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ
(1)
«الزهد والرقائق - ابن المبارك - ت الأعظمي» (الملحق/ 112) و «المستدرك على الصحيحين للحاكم» (3784)، وصححه الألباني لغيره في «صحيح الترغيب والترهيب» (1/ 188).
(2)
رواه أبو داود (561) والترمذي (221) من حديث بريدة رضي الله عنه. ورواه ابن ماجه (780، 781) من حديث سهل بن سعد، وأنس رضي الله عنهما؛ وهو في صحيح الترغيب والترهيب (315).
(3)
تحفة الأحوذي (2/ 13)
(4)
صحيح البخاري (806) وصحيح مسلم (182).
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ» قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ
…
» الحديث
(1)
.
وقوله: «إجَازَة» هو بِكَسْر الْهمزَة وزاي أَي جَوَازًا وعبورا.
وفيه بيان فضل فقراء المهاجرين، حيث أكرمهم الله تعالى بسبق غيرهم في الجواز على الصراط.
قال العلماء: ولا يدلّ هذا على أن فقراء المهاجرين أفضل من أغنيائهم، للإجماع على أن عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف، أفضل من أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله عنهم.
(2)
أحوال المارين على الصراط:
في حديثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «
…
ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ»، [وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ] قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الجَسْرُ؟ قَالَ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ، تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، المُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا،
…
» الحديث
(3)
وفي الصحيحين في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «
…
وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وَبِهِ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ،
…
غَيْرَ أَنَّهَا لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمُ المُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو
…
» الحديث
(4)
وتقدم معنا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح الإمام مسلم رحمه الله لمَّا سُئِل عن الورود الذي يكون في ذلك اليوم، فقال رضي الله عنه وأرضاه: «فَتُدْعَى الأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ مَنْ تَنْظُرُونَ؟ -أي: من تنتظرون؟ -فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبَّنَا. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ. فَيَتَجَلَّى لَهُمْ
(1)
صحيح مسلم (315)
(2)
انظر: «البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج» (7/ 539)
(3)
أخرجه البخاري (7439) ومسلم (183) ومنه الزيادة.
(4)
أخرجه البخاري (6573) واللفظ له ومسلم (182).
يَضْحَكُ-قَالَ-فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ- مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ - نُورًا ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يُحَاسَبُونَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَإ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَشْفَعُونَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً
…
» الحديث
(1)
.
وتقدم حديث أبي هريرة وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ» قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: «أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلاَّ زَحْفًا. قال عليه الصلاة والسلام: وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ»
(2)
.
وفي جامع الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كَلَمْحِ البَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَحُضْرِ الفَرَسِ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ كَمَشْيِهِ»
(3)
.
وفي رواية لغيره: «فَيَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالصِّرَاطُ كَحَدِّ السَّيْفِ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، قَالَ: فَيُقَالُ انْجُوا عَلَى قَدْرِ نُورِكُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالطَّرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّحْلِ وَيَرْمُلُ رَمَلًا فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يَجُرُّ يَدًا وَيُعَلِّقُ يَدًا وَيَجُرُّ رِجْلًا وَيُعَلِّقُ رِجْلًا فَتُصِيبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ، قَالَ: فَيَخْلُصُونَ
…
»
(4)
الحديث
(1)
أخرجه مسلم (489). وتقدم في المجلس الثالث والثلاثين.
(2)
تقدم تخريجه في هذا المجلس.
(3)
أخرجه الترمذي (3159).
(4)
صفة الجنة لابن أبي الدنيا ت العساسلة (31) وسنده حسن. ورواه أيضا الطبراني في المعجم الكبير (9/ 357) رقم (9763) والدارقطني في الرؤية (162) والحاكم في المستدرك (3424، 8751) واللفظ له وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3591) وفي الصحيحة (3129)
فهذه الأحاديث وغيرها فيها بيان حال الناس عند المرور على الصراط.
قَالَ ابن أَبِي جَمْرَةَ رحمه الله: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمَارِّينَ عَلَى الصِّرَاطِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
• نَاجٍ بِلَا خُدُوشٍ
• وَهَالِكٌ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ
• وَمُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا يُصَابُ ثُمَّ يَنْجُو
قال: وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْهَا يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا تُعْرَفُ بِقَوْلِهِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ»
(1)
فالناجي بلا خدش هو الناجي المُسلَّم كما في الحديث وورد بيان صفتهم في حديث جابر رضي الله عنه وفيه «
…
فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يُحَاسَبُونَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَإ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ
…
»
والهالك من يُكْدَسٌ في نار جهنم، -نسأل الله السلامة والعافية-:
كما تقدم في الحديث «وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ»
وفي لفظٍ: «مَكَرْدَسٌ»
(2)
وفي لفظ: «وَمَنْكُوسٌ فيها»
(3)
وهؤلاء هم المنافقون، فيُلْقَون في نار جهنم.
وكذلك: بعض العصاة من أهل التوحيد الذين تَنَال بعضَهم الشفاعةُ كما تقدم.
وأما الكفار فتقدم أنهم يلقون في النار قبل نصب الصراط.
والمتوسط بينهما هو المشار إليه في الروايات بأنه المخدوش:
قال «
…
وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ
…
»
أو المخردل قال «
…
وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو
…
»
(1)
«فتح الباري لابن حجر» (11/ 454)
(2)
رواية لمسلم. قال النووي رحمه الله في شرح مسلم (3/ 72): (فمخدوش ناج ومكدوس) هو بالدال
…
ووقع في أكثر الأصول هنا مكردس بالراء ثم الدال وهو قريب من معنى المكدوس ا. هـ
(3)
رواه ابن ماجه (4280) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. وهو في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1360) رقم (8189)
وهؤلاء هم العصاة الذين اجترحوا السيئات، واكتسبوا الخطايا فتخطفهم الكلاليب، فتجرح أجسادهم لكنهم ينجُون بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بسبب أعمالهم.
فلا بد من العمل كما قال الله سبحانه وتعالى في أهل الجنة:
{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف].
وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} [النحل]
وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 72]
وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19، المرسلات: 43]
وقال تعالى عن أهل النار: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)} [السجدة: 14]
والعابرون للصراط متفاوتون بحسب أعمالهم كما تقدم في الأحاديث:
" فمنهم من يمُرُّ كلمح البصر، ومنهم من يمُرُّ كالبرق، ومنهم من يمُرُّ كالريح، ومنهم من يمُرُّ كالفرس الجواد، ومنهم من يمُرُّ كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم؛ فإنَّ الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم. فمن مرَّ على الصراط؛ دخل الجنة".
(1)
.
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يُستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا، ثم قال: وَمِنْهَا: أَنَّ مَشْيَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ فِي السُّرْعَةِ وَالْبِطْءِ بِحَسَبِ " سُرْعَةِ " سَيْرِهِمْ "وَبُطْئِهِ" عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا فَأَسْرَعُهُمْ سَيْرًا هُنَا أَسْرَعُهُمْ هُنَاكَ وَأَبْطَأُهُمْ هُنَا أَبْطَأُهُمْ هُنَاكَ. وَأَشَدُّهُمْ ثَبَاتًا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " هُنَا " أَثْبَتُهُمْ هُنَاكَ وَمَنْ خَطِفَتْهُ كَلَالِيبُ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ هُنَا خَطِفَتْهُ الْكَلَالِيبُ الَّتِي كَأَنَّهَا شَوْكُ السَّعْدَانِ هُنَاكَ
(1)
انظر: العقيدة الواسطية (ص: 99).
وَيَكُونُ تَأْثِيرُ الْكَلَالِيبِ فِيهِ هُنَاكَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ الشَّهَوَاتِ " وَالشُّبُهَاتِ " وَالْبِدَعِ فِيهِ هَاهُنَا فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُسَلَّمٌ، وَمَخْزُولٌ أَيْ: مُقَطَّعٌ بِالْكَلَالِيبِ مُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ كَمَا أَثَّرَتْ فِيهِمْ تِلْكَ الْكَلَالِيبُ فِي الدُّنْيَا {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [النبأ]{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت]
(1)
.
آخر من يجوز الصراط:
روى أَنَسٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ [يَمْشِي عَلَى الصِّرَاطِ]، فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا [وفي رواية: فَإِذَا جَاوَزَ الصِّرَاطَ] الْتَفَتَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: يَا ابْنَ آدَمَ، لَعَلِّي إِنَّ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: لَا، يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا، فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟
(1)
انظر: «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 74 ط عطاءات العلم)
قَالَ: يَا رَبِّ، أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟»، فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ، قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ»
(1)
قلت: قوله في الحديث: «آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
…
» إلخ.
وفي رواية للحديث -عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ ابن مسعود رضي الله عنه:«إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا»
(2)
واختلف في الجمع بينهما.
هل هذا الرجل دخل النار ثم خرج منها، أو هو ممن لم يدخلها؟
والظاهر أنهما حديثان كما يتبين من الزيادتين المذكورة.
وقد قال الحافظ رحمه الله: قَالَ عِيَاضٌ:
…
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ هُنَا بِمَعْنَى الْوُرُودِ وَهُوَ الْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ
…
قال الحافظ رحمه الله: قُلْتُ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أنس عَنْ ابن مَسْعُودٍ مَا يُقَوِّي هذا الِاحْتِمَالَ
…
ا. هـ
(3)
وقال رحمه الله: وَأَشَارَ ابن أَبِي جَمْرَةَ إِلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ آخِرِ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ
…
وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهَا حَقِيقَةً وَبَيْنَ آخِرِ مَنْ يَخْرُجُ مِمَّنْ يَبْقَى مَارًّا عَلَى الصِّرَاطِ
(1)
أخرجه مسلم (187) قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه به. وأخرجه أحمد في المسند (3899) حدثنا عفان به. وأخرجه أحمد أيضا (3714) قال حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد به وعنده الزيادتان. ومن طريق يزيد رواه أبو يعلى (5290) والشاشي (268) في مسنديهما، وأبو عوانة في المستخرج على مسلم (372) ورواه ابن حبان في صحيحه (7430) من طريق إسحاق بن راهويه قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (248) وأبو يعلى في المسند (4980) قالا: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، والطبراني في المعجم الكبير (10/ 9) رقم (9775) من طريق حجاج بن منهال ثلاثتهم عن حماد به. وعندهم الزيادة الأولى. وأبو عوانة في المستخرج على مسلم (373) من طريق عمرو بن عاصم الكلابي عن حماد به وعنده الزيادتان.
(2)
أخرجه البخاري (6571) ومسلم (186) عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
فتح الباري لابن حجر (11/ 443)
فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ النَّارِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ أَصَابَهُ مِنْ حَرِّهَا وَكَرْبِهَا مَا يُشَارِكُ بِهِ بَعْضَ مَنْ دَخَلَهَا ا. هـ
(1)
الأمانة والرحم تقومان جنبتي الصراط:
والأمانةُ والرَّحِمُ حول الصراط، يقفان في ناحيتي الصراط: كما تقدم في الحديث وهذا يدُلُّ على عِظَمِ هذه الأعمال.
قال التوربتشي: «
…
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَمَانَةَ وَالرَّحِمَ لِعِظَمِ شَأْنِهِمَا وَفَخَامَةِ مَا يَلْزَمُ الْعِبَادُ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّهِمَا يُمثَّلان هُنَاكَ لِلْأَمِينِ وَالْخَائِنِ وَالْمُوَاصِلِ وَالْقَاطِعِ فَيُحَاجَّانِ عَنِ الْمُحِقِّ وَيَشْهَدَانِ عَلَى الْمُبْطِلِ»
(2)
(3)
فلا يجوزُ الصراطَ إلا من صَلَح عملُه، ونجا بفضل من الله ورحمته.
القنطرة بعد الصراط:
فإذا نجا المؤمنون من أهوال هذا الصراط -ولا يجوزه إلا المؤمنون-؛ حُبِسُوا بعد ذلك في قَنْطَرَةٍ بين الجنة والنار.
وهذه القنطرة خاصة لمسلك المؤمنين إلى الجنة يقفون عندها فيقتص لبعضهم من بعض، ويُهَذَّبُون ويُنَقَّوْن قبل أن يدخلوا الجنة.
(1)
المرجع السابق (11/ 459)
(2)
«الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي» (4/ 1203) وانظر: فتح الباري (11/ 453)
(3)
«شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن» (11/ 3525) وانظر: فتح الباري (11/ 453)
كما أخبر بذلك نبيُّنا صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ - يعني من العبور على الصراط - حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا»
(1)
.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «هذا القصاص غير القصاص الأول الذي في عرصات القيامة، لأن هذا قصاص أخص؛ لأجل أن يذهب الغل والحقد والبغضاء التي في قلوب الناس، فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص»
(2)
وفي الصحيحين عَنْ أُسَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قُمْتُ عَلَى بَابُ الجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ،
…
» الحديث
(3)
.
قال الحافظ: قَوْلُهُ «أَصْحَابُ الجَدِّ» بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيِ الْغِنَى. وقَوْلُهُ «مَحْبُوسُونَ» أَيْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ الْفُقَرَاءِ مِنْ أَجْلِ الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الْمَالِ وَكَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَنْطَرَةِ الَّتِي يَتَقَاصُّونَ فِيهَا بَعْدَ الْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ ا. هـ
(4)
قال ابن بطال رحمه الله: وإنما صار «أَصْحَابُ الجَدِّ» محبوسون
(5)
لمنعهم حقوق الله الواجبة للفقراء فى أموالهم، فحبسوا للحساب عما منعوه، فأما من أدى حقوق الله فى أمواله، فإنه لا يحبس عن الجنة، إلا أنهم قليل، إذ أكثر شأن (أهل) المال تضيع حقوق الله فيه؛ لأنه محنة وفتنة ا. هـ
(6)
(1)
أخرجه البخاري (2440) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
«شرح العقيدة الواسطية» (2/ 163)
(3)
صحيح البخاري (5196، 6547)، وصحيح مسلم (2736)
(4)
فتح الباري لابن حجر (11/ 420)
(5)
كذا، وكأنه على الحكاية للحديث والقياس: محبوسين، وجاءت كذلك في عمدة القاري للعيني (20/ 187)
(6)
«شرح صحيح البخاري» (7/ 318)
وقال الداودي رحمه الله: أرجو أن يكون هؤلاء أهل التفاخر؛ لأن أفاضل الصحابة كانت لهم أموال ووصفهم الله تعالى بأنهم سابقون ا. هـ
(1)
فاحذروا أيها المؤمنون من الظلم، واحذروا عاقبته، واحذروا من التفريط في الأعمال الصالحات؛ فإن المؤمن في يوم القيامة يحتاج إلى العمل الصالح الذي يُقَرِّبُه إلى الله -جل وعلا- كما يحتاج إلى العمل الذي يكون شفيعًا له عند الله سبحانه وتعالى.
شفاعة المؤمنين لإخوانهم إذا عبروا الصراط:
وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الناجين من عباد الله سبحانه من المؤمنين يجادلون الله سبحانه وتعالى عن إخوانهم. فقد جاء في المسند وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُوضَعُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ،
…
، ثُمَّ يَسْتَجِيزُ النَّاسُ،
…
قال: فَإِذَا فَرَغَ اللهُ عز وجل مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، يَفْقِدُ الْمُؤْمِنُونَ رِجَالًا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِمْ، وَيُزَكُّونَ بِزَكَاتِهِمْ، وَيَصُومُونَ صِيَامَهُمْ، وَيَحُجُّونَ حَجَّهُمْ وَيَغْزُونَ غَزْوَهُمْ فَيَقُولُونَ: أَيْ رَبَّنَا، عِبَادٌ مِنْ عِبَادِكَ كَانُوا مَعَنَا فِي الدُّنْيَا يُصَلُّونَ صَلَاتَنَا، وَيُزَكُّونَ زَكَاتَنَا، وَيَصُومُونَ صِيَامَنَا، وَيَحُجُّونَ حَجَّنَا، وَيَغْزُونَ غَزْوَنَا لَا نَرَاهُمْ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا إِلَى النَّارِ فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْهُمْ فَأَخْرِجُوهُ» الحديث
(2)
. وتقدم -كما ذكرنا- الحديثُ عن موضوع الشفاعة. وهذا يدل على فضل الأخُوَّة في الله سبحانه وتعالى، وأن من فضلها: أن المؤمن يشفع لأخيه المؤمن فيجادل عنه، حتى يرحمه الله ويخرج من النار.
نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يعيذنا من النار
ونسأله سبحانه وتعالى أن يهدينا صراطه المستقيم.
JIH
انتهى الجزء السادس
ويليه الجزء السابع: الإيمان بالجنة والنار
(1)
نقله ابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (19/ 125)
(2)
أخرجه أحمد (11081) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.