الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلسلةُ: ريِّ الظَّمْآن بِمَجالِس شُعَبِ الإيمَانِ (7)
الإِيْمَانُ
بالجنة والنار
تأليف
أبي حمزة غازي بن سالم أفلح
عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه وجميع المسلمين
تقديم
الدكتور عزيز بن فرحان العنزي الدكتور رشاد بن حمود الحزمي
الشيخ عبد العزيز بن يحيى البرعي الشيخ محمد بن عبد الله باموسى
الشيخ نعمان بن عبد الكريم الوتر
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى لمكتبة دروس الدار
1444 هـ - 2022 م
(مزيدة ومنقحة)
رقم الفسح الإعلامي في دولة الإمارات العربية المتحدة دبي
MC-01 - 01 - 7549142
Date-2022 - 04 - 19
الترقيم الدولي
ISBN: -978 - 9948 - 04 - 572 - 4
التصنيف العمري: E
تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقا لنظام التصنيف العمري الصادر عن وزارة الثقافة والشباب
للتواصل مع المؤلف: [email protected]
الإمارات العربية المتحدة - الشارقة
البريد الإلكتروني: [email protected]
للتواصل: 00971503667077
تويتر: @ DroosAldar
تتمة الركن السادس من أركان الإيمان
الإيمان
بالجنة والنار
المجلس السادس والثلاثون
(1)
الإيمان بالجنة والنار:
قال البيهقي: التاسع من شعب الإيمان "وهو باب في أن دار المؤمنين ومآبهم الجنة، ودار الكافرين ومآبهم النار"
(2)
وبعد أن يفصل الله عز وجل بين عباده يكون الناس يوم القيامة على فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وحينئذ يدخل أهل الجنةِ الجنةَ، ويدخل أهل النارِ النارَ.
والإيمان بالجنة والنار من الإيمان باليوم الآخر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ»
(3)
.
وفي رواية أخرى يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ»
(4)
.
فدلَّ هذا على وجوب الإيمان بالجنة والنار، وأنهما مخلوقتان موجودتان الآن، وقد جاءت في السنة الأخبارُ الكثيرةُ عن صفة الجنة وصفة النار،
وسنتحدث في هذا المجلس عمَّا أعدَّ الله عز وجل لأوليائه في الجنة، ثم نردف ذلك بذكر ما أعدَّ الله عز وجل لأعدائه في النار.
(1)
كان في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شهر شوال من عام 1441 هـ.
(2)
شعب الإيمان (1/ 560).
(3)
أخرجه البخاري (3435) واللفظ له، ومسلم (28) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (3435) أخرجه مسلم (28) واللفظ له.
الإيمان بالجنة:
إنَّ من الإيمان باليوم الآخر الإيمانَ بالجنة التي وعد الله عز وجل بها أولياءه وأهل طاعته.
وهي نعيم كاملٌ لا يشوبه نقص ولا يُعكِّر صفوه كَدَرٌ، وقد حدَّثنا الله -جل وعلا- في كتابه عن الجنة وجاء خبرُها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والإيمانُ بالجنة ووجودها واجبٌ على كل مسلم ومسلمة، وذلك-كما ذكرنا-من الإيمان باليوم الآخر.
الجنة والنار مخلوقتان موجودتان:
وذكر العلماءُ -رحمهم الله تعالى- ذلك في كتب العقائد فإنهم ينصون على ذلك ويقولون: ونؤمن بالجنة والنار وأنهما مخلوقتان وموجودتان، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة ورآها.
يقول الحافظ الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى- في عقيدته السلفية: "وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ، وَأنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا، فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ، وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ"
(1)
.
وهكذا قال غير واحد من أهل العلم في كتب العقيدة بناءً على ما ورد في الكتاب والسنة من خبر الجنة والنار، وهذا أمرٌ مشهورٌ، ومعلوم من الدين بالضرورة.
رؤية جبريل الجنة والنار:
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ عليها السلام إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهَا، فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ. فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَى النَّارِ وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ، فَأَمَرَ بِهَا
(1)
متن العقيدة الطحاوية (ص: 26).
فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا. فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَرَجَعَ، وَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا»
(1)
.
يعني: بسبب أنها حُفَّت بالشهوات؛ فالمعاصي قريبةٌ من قلوب الناس وطريق الشيطان مُمَهَّدٌ لكثير منهم، والطريقُ إلى الجنة يحتاج إلى صبر ومصابرة.
تذكر الجنة يُسلِّي المؤمنَ عمَّا فاته من الدنيا:
وإنَّ قلب المؤمن لَيَسْلُو حينما: يتأمل ما أعدَّ اللهُ عز وجل للناس يوم القيامة من الجنة لأوليائه ومن النار لأعدائه، ويعلم بذلك قيمة هذه الحياة الدنيا التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتيقن أنها لا شيء. يقول الله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} [لقمان].
وتكرر هذا التوجيه في كتاب الله -جل وعلا- من رب العالمين بألَّا نغتر بهذه الحياة الدنيا؛ فإنها فانية، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر].
وقال ربنا سبحانه وتعالى للناس أجمعين: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد].
ثم قال سبحانه وتعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21].
وقال ربنا سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} [الكهف]
(1)
أخرجه النسائي (3763)، والترمذي (2560) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
دار السلام:
ثم قال بعد ذلك: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] يعني إلى الجنة، فهي دار سالمة من كل الآفات، وهي دار السلامة من كلِّ بليةٍ وآفةٍ ومكروهٍ.
أما الدنيا فهي دارٌ مليئةٌ بالآفات، فَفَرَحُها منقطعٌ غيرُ دائمٍ، وسرورُها زائلٌ، والحياةُ فيها منغَّصةٌ ومكدَّرةٌ بالهموم والأحزان، لا يكاد إنسانٌ يقع له الفرح والسرور حتى ينقطع، ولا يزال المؤمن فيها في هَمٍّ وفي حزن وفي كرب، وهكذا هي الدنيا لا تدوم لأحد.
فيوم علينا ويوم لنا
…
ويوم نُساء ويوم نُسر
(1)
وقد قيل في بيان حال الدنيا.
ثمانية قام الوجود بها فهل
…
ترى من محيص للورى عن ثمانية
سرور وحزن واجتماع وفرقة
…
وعسر ويسر ثم سقم وعافية
بهنّ انقضت أعمار أولاد آدم
…
فهل من رأى أحوالهم متساوية
(2)
وقيل أيضا:
مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا
…
تِلْكُمُ الدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا
(3)
(1)
البيت لنمر بن تَوْلَب رضي الله عنه كما في "الكتاب" 1/ 86 لسيبويه والحماسة للبحتري (ص: 259) وذكره الخليل الفراهيدي في الجمل النحو (66) غير منسوب. واستشهد به أبو سفيان رضي الله عنه يوم أحد كما في مسند أحمد (7/ 418) رقم (4414) عن ابن مسعود رضي الله عنه بسند ضعيف.
(2)
الأبيات في «معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب» (3/ 1130) وهي منسوبة إلى الحسين بن عبد الرحيم بن الوليد بن عثمان بن جعفر أبي عبد الله الكلابي المعروف بابن أبي الزلازل، اللغويّ الأديب الكاتب الشاعر:(ت: 354 هـ)
(3)
هذه الكلمة مروية عن جماعة من السلف أن عيسى بن مريم عليهما السلام وعظ بها أصحابه. رواها ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا (370) وفي الزهد في الدنيا (347) عن سعيد بن عبد العزيز ورواها الإمام أحمد في الزهد (481) عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول. ورواه الإمام أحمد في الزهد (325) وابن عساكر في تاريخه (47/ 430) عن زرعة بن إبراهيم. ورواه أبو القاسم ابن حبيب النيسابوري في عقلاء المجانين (ص 24) -ومن طريقه ابن عساكر- عن مجاهد.
ولهذا فإن السعيد من جَعَلَ مِنْ هذا الدنيا مزرعةً له إلى الأخرى، يتقرب إلى ربه سبحانه، فعمر الإنسان في الدنيا قصيرٌ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:«أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ، إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ»
(1)
. ولكنه سيعيش في قبره سنين طويلة، والقبرُ روضةٌ من رياض الجنة أو حفرةٌ من حفر النار ثم يأتي يومُ القيامة، اليومُ الخالدُ الأبديُّ الذي لا يوم بعده. فهذه خلاصة حال الدنيا ثم يكون مآل الناس يوم القيامة إما إلى الجنة وإما إلى النار، وسنورد شيئًا مما يتيسر ذِكْرُه في هذا المجلس من أخبار الجنة التي جاء ذكرها في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من أسماء الجنة:
1 -
هي دار السلام كما تقدم
2 -
وهي: دار الخلد. وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّ أهلها لا يظعنون عنها أبدًا،
3 -
وهي دار المُقامة.
4 -
وهي جنَّة المأوى.
5 -
وهي جنَّات عدن. وعدن من الإقامة والدَّوامِ.
6 -
وهي دار الحيوان. قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت]؛ يعني: وإنَّ الآخرة يعني: الجنة. لهي الحيوان: لهي دار الحياة التي لا موت فيها. قال ابن القيم رحمه الله: وأهل اللغة على أنَّ الحيوان بمعنى: الحياة
…
ويحتمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} معنيين: أحدهما:
(1)
أخرجه الترمذي (3550)، وابن ماجه (4236) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ا. هـ وصححه ابن حبان (2980)، والحاكم (3598) وقال صحيح على شرط مسلم! وتعقبه شيخنا الوادعي في تعليقه على المستدرك فقال: لم يعتمد مسلم على محمد بن عمرو بن علقمة ا. هـ وكذا العلامة الألباني: وقال -كما في السلسلة الصحيحة (2/ 386) -: والصواب أنه حسن لذاته، صحيح لغيره
…
إلخ والحديث حسنه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (3779).
أنَّ حياة الآخرة هي الحياة؛ لأنَّه لا تنغيص فيها ولا نفاد لها: أي لا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار،
…
الثاني: أنْ يكون المعنى: أنَّها الدار التي لا تفنى ولا تنقطع، ولا تبيد كما يفنى الأحياء في هذه الدنيا، فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الَّذي يفنى ويموت ا. هـ
(1)
7 -
وهي جنة الفردوس. قال ابن القيم رحمه الله: والفردوس: اسم يُقال على جميع الجنة، ويقال على أفضلها وأعلاها، كأنَّه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات. وأصل الفردوس: البستان،
…
وقال مجاهد: "هو البستان بالرومية". واختاره الزجاج، فقال: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية. قال: وحقيقته أنَّه البستان الَّذي يجمع كل ما يكون في البساتين ا. هـ
(2)
8 -
وهي جنات النعيم: لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول والمشروب والملبوس والصُّور، والرَّائحة الطَّيِّبة والمنظر البهيج، والمساكن الواسعة، وغير ذلك من النَّعيم الظاهر والباطن.
9 -
وهي: المقام الأمين. قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)} [الدخان] قال ابن القيم رحمه الله: فالمقام: موضع الإقامة، والأمين: الآمن من كلَّ سوءٍ ومكروهٍ، وهو الَّذي قد جمع صفات الأمن كلها، فهو آمن من الزَّوال والخراب، وأنواع النُّغص، وأهله آمنون فيه من الخروج والنَّقص والنَّكد
…
وتأمَّل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)} [الدخان]، وفي قوله تعالى:{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)} [الدخان] فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام، فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرَّتها، وأمن الخروج منها، فلا يخافون ذلك، وأمن الموت فلا يخافون فيها موتًا ا. هـ
(3)
10 -
وهي: مَقْعَدُ الصدق،
11 -
وقَدَمُ الصدق. قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ
(1)
«حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم» (1/ 200)
(2)
المرجع السابق (1/ 202)
(3)
المرجع السابق (1/ 203)
صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر].
قال ابن القيم رحمه الله:
فسمَّى الجنَّة مقعد صِدْقٍ، لحصول كل ما يُراد من المقعد الحسن فيها، كما يقال: مودَّة صادقة: إذا كانت ثابتة تامَّة، وحلاوة صادقة، وحملة صادقة.
ومنه الكلام الصَّدق، لحصول مقصوده منه.
وموضوع هذه اللفظة في كلامهم: الصِّحة والكمال، ومنه الصَّدق في الحديث، والصدق في العمل،
…
ومنه الصَّداقة؛ لصفاء المودَّة والمُخالَّة، ومنه صَدَقَنِي القتال، وصَدَقَنِي المودَّة،
ومنه قدم الصِّدْق، ولسان الصَّدق، ومدخل الصدق، ومخرج الصَّدق.
وذلك كله للحقَّ الثابت المقصود الَّذي يرغب فيه، بخلاف الكذب الباطل، الَّذي لا شيءَ تحته، ولا يتضمن أمرًا ثابتًا. قال: وفُسِّرَ قدم الصَّدق:
• بالجنَّة،
• وفُسِّر بالأَعمال التي تنال بها الجنَّة،
• وفُسِّر بالسَّابقة التي سبقت لهم من اللَّه،
• وفُسِّر بالرسول الَّذي على يده وهدايته نالوا ذلك.
والتَّحقيق أنَّ الجميع حقَّ؛ فإنَّهم سبقت لهم من اللَّه بذلك السابقة بالأسباب التي قدَّرها لهم على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، وادَّخر لهم جزاءها يوم لقائه.
ولسان الصَّدق هو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال، وجميل الطرائق، وفي كونه لسان صِدْق إشارة إلى مطابقته للواقع، وأنَّه ثناء بحقًّ لا بباطل.
ومدخل الصدق ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الَّذي يكون صاحبه فيه ضامنًا على اللَّهِ، وهو دخوله وخروجه باللَّه وللَّه.
وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد، فإنَّه لا يزال داخلًا في أمرٍ وخارجًا من أمرٍ، فمتى كان دخوله للَّه وباللَّه وخروجه كذلك، كان قد أُدْخِل مدخل صدق وأُخْرِجَ مخرج صدق ا. هـ
(1)
(1)
المرجع السابق (1/ 205 وما قبلها).
الجنة خلقها الله بيده:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: «خَلَقَ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ: - الْعَرْشُ، وَالْقَلَمُ، وَعَدْنٌ، وَآدَمُ ثُمَّ قَالَ لِسَائِرِ الْخَلْقِ كن فَكَانَ» رواه أبو سعيد الدارمي والطبري وغيرهما
(1)
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ تبارك وتعالى بِيَدِهِ أَرْبَعَةً: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَاللَّوْحَ وَالْقَلَمَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} [المؤمنون]، وَقَالَ: الرَّابِعَةُ أَغْفَلَهَا»
(2)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: "لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ غَيْرَ ثَلَاثٍ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، قَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ»
(3)
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ عز وجل أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ، وَسَائِرُ ذَلِكَ قَالَ: لَهُ كُنْ فَكَانَ، خَلَقَ الْقَلَمَ بِيَدِهِ، وَآدَمَ بِيَدِهِ، وَالتَّوْرَاةَ كَتَبَهَا بِيَدِهِ، وَجَنَّاتِ عَدْنٍ بِيَدِهِ»
(4)
(1)
أخرجه الدارمي في نقضه على المريسي، ت الألمعي (1/ 261) والطبري في التفسير (20/ 145) والآجري في الشريعة (756) وأبو الشيخ في العظمة (2/ 578)، وابن بطة في الإبانة (229)، والحاكم (3244) وصححه، واللالكائي (729، 730)، والبيهقي في الأسماء والصفات (693) من طرق عن عُبَيْدِ بْنِ مِهْرَانَ -وَهُوَ الْمُكْتِبُ- ثَنَا مُجَاهِدٌ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فذكره. وقال الذهبي إسناده جيد، وقال الألباني: صحيح على شرط مسلم ا. هـ انظر: مختصر العلو (ص: 105). ورواه هناد في الزهد (45) حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:«خَلَقَ اللَّهُ تبارك وتعالى أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ: وَخَلَقَ الْقَلَمَ بِيَدِهِ، وَخَلَقَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ» ورواية الجماعة عن عبيد أصح.
(2)
أخرجه هناد في الزهد (44) حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، به ورواه الدارمي في النقض على المريسي ت الألمعي (1/ 263) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ مَيْسَرَة قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ غَيْرَ ثَلَاثٍ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكتب التوارة بِيَدِهِ، وغرس جنَّة بِيَدِهِ» ورواه الطبري جامع البيان ط هجر (17/ 6) حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا جرير، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ، قَالَ:" لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ شَيْئًا بِيَدِهِ غَيْرَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ الْأَلْوَاحَ بِيَدِهِ، وَالتَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ عَدْنًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] "»
(3)
أخرجه الدارمي في النقض على المريسي ت الألمعي (1/ 264) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ثَنَا سَعِيدُ بن أبي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، به.
(4)
أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1118) حَدَّثَنِي أَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، نا أَبُو قُتَيْبَةَ، نا حَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، به وعلي بن زيد ضعيف.
الجنة فيها ما لا عين رَأَتْ ولا أُذُن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر:
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنَ رَأَتْ، وَلَا أُذُنَ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَؤُوا إِنْ شئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}»
(1)
.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يخبرنا عن ربنا عز وجل أنه لا حدَّ لوصف الجنة وأنَّ النعيم الذي فيها يعجز العقل عن إدراكه، فمهما وصف لك هذا النعيم، فالنعيمُ أعظمُ من ذلك، وذلك فضلٌ من الله يؤتيه من يشاء.
موضع السوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها:
تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث سهل رضي الله عنه: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
(2)
.
لو أن عندك سوطًا ووضعته على الأرض فكم سيأخذ منها؟
إن ما يأخذه السوط من مساحة لو قُدِّرَ مثلُها في الجنة لكان خيرًا من الدنيا وما فيها.
وجاء في صحيح الإمام البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ فِي الجَنَّة خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ تَغْرُبُ»
(3)
.
فهذه الدنيا بقصورها، وأموالها، وخضرتها، وجمالها، وما فيها من أموال، وما فيها من أمور عظيمة لا تساوي عند نعيم الجَنَّة شيئًا.
ويقول نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، من حديث أنس رضي الله عنه:«لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، ثم قال:«وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّة اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا» ؛ أي: خمارها «خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
(4)
. هذه هي الدنيا التي نتنافس عليها، بل نتقاتل من أجلها، بل يجعلها الإنسان نُصُبَ عيْنيْه ليملأ من ذلك نفسه وقلبه.
(1)
أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824).
(2)
أخرجه البخاري (3250).
(3)
برقم (3253).
(4)
أخرجه البخاري (2792).
وقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ»
وفي رواية: «
…
وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ
…
»
وفي أخرى: «
…
وَلَا يَمْلَأُ نَفْسَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ»
(1)
.
وفيهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
…
وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ
…
»
(2)
وصح أن هذا كان قرآنا ثم نسخ
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (6436، 6437) ومسلم (1049) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. واللفظ للبخاري، والرواية الأولى له، والثاني لفظ مسلم. وفي الباب: عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، رواه البخاري (6438). وعن أنس رضي الله عنه، رواه مسلم (1048). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، رواه ابن ماجه (4235) وعن جابر رضي الله عنه رواه أحمد (14657). وعن عائشة رضي الله عنها رواه أحمد (24276). وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، رواه الطبراني في الأوسط (3473) وعن كعب بن عياض رضي الله عنه، رواه الطبراني في المعجم الكبير (19/ 180) رقم (406) وانظر: الأجوبة المرضية فيما سئل السخاوي عنه من الأحاديث النبوية (1/ 177) وسلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (6/ 961) رقم (2907)
(2)
صحيح البخاري (6439) وصحيح مسلم (1048)
(3)
كما في صحيح مسلم (1050) عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، قَالَ: بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: «
…
وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً، كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ، فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ، لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ،
…
» وفي سنن الترمذي (3898) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:«إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ القُرْآنَ» ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1]
…
وَقَرَأَ عَلَيْهِ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانِيًا، لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوَجْهِ ا. هـ وفي المسند (19280) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ كُنَّا نَقْرَأُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا آخَرَ، وَلَا يَمْلَأُ بَطْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» وفي المسند (21906) عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَيُحَدِّثُنَا فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ:«إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ، لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ، لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» وفي مسند البزار (4433) وشرح مشكل الآثار للطحاوي (2036) عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَانِيًا، وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ»
ولهذا فإن مَنْ كَتَبَ اللهُ له الجنة وزحزح عن النار فهو من الفائزين ومن الناجين ومن المفلحين. قال الله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران].
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرًا:
ذكر الله عز وجل لنا في كتابه كيف أنَّ أهل الإيمان سيُساقون إلى الجنة معزَّزِين مكرَّمين زُمَرًا أي: جماعةً، جماعةً إلى جنات النعيم.
قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر] أي: طابت أعمالكم، وطابت أقوالكم، وطابت أنفسكم، وطابت قلوبكم، فلذلك استحققتم هذه الدار الطيبة.
ويقول الله -جل وعلا- في شأن الجنة: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)} [ق] أزلفت يعني: قربت فلا يتحملون عناء الذهاب إليها، بل إنَّ الله عز وجل يقربها إليهم.
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة في دخول الجنة:
وقد تقدم معنا في الدرس الماضي حديث أبي سعيد رضي الله عنه وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ - يعني من العبور على الصراط - حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ» الحديث
(1)
. فإنهم إذا أذن لهم في الدخول؛ فلا يجدون الباب مفتوحًا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع إلى الله في أن يفتح لهم باب الجنة. كما تقدم في مباحث الشفاعة. قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ»
(2)
.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْتفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ»
(3)
.
(1)
أخرجه الإمام البخاري (2440) وتقدم في الجزء السادس (ص 250)
(2)
أخرجه الإمام مسلم (196) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وتقدم في الجزء السادس (ص 197)
(3)
أخرجه الإمام مسلم (197) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وتقدم في الجزء السادس (ص 197)
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحُذَيْفَةَ رضي الله عنهما، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَجْمَعُ اللهُ تبارك وتعالى النَّاسَ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا، اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ،
…
» -فذكر الحديث في طلب الشفاعة من أولي العزم وفيه-: «
…
فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ
…
»
(1)
. فيستفتح النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة حتى يدخلوا الجنة فإذا دخلوها، دخلوها بحسب أعمالهم
(2)
.
أول زمرة يدخلون الجنة:
(3)
.
أول من يدخل الجنة من هذه الأمة سبعون ألفًا بلا حساب ولا عذاب:
وأول من يدخل الجنة من أمته عليه الصلاة والسلام سبعون ألفًا من غير حساب ولا عذاب، لا يدخل أوَّلُهم حتى يدخل آخِرُهم يعني أنَّ هؤلاء السبعين يدخلون الجنة معًا لا يتقدم أحدهم على أحد. والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وسأذكر منها ما تيسر، فمنها:
1 -
عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ، قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: اسْتَرْقَيْتُ، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ فَقَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمُ الشَّعْبِيُّ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ
(1)
أخرجه مسلم (195). ووهم الحاكم فخرجه في المستدرك على الصحيحين (8749) وصححه على شرطهما. وتعقبه شيخنا الوادعي في تحقيق المستدرك.
(2)
تقدمت مباحث الشفاعة في المجلس التاسع والعشرين (6/ 189).
(3)
أخرجه البخاري (3246) واللفظ له، ومسلم (2834) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ:«لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ، أَوْ حُمَةٍ»
(1)
، فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ
(1)
(أَوْ حمة) بِضَم الْحَاء وَتَخْفِيف الْمِيم سم الْعَقْرَب وَشبههَا وَقيل فوعة السم وَقيل حِدته وحرارته وَالْمرَاد أَوْ ذِي حمة أَي لَا رقية إِلَّا من لدغ ذِي حمة. وهذا الحديث اختلف فيه اختلافا كثيرا حتى قال الدارقطني في العلل: "الحديث مضطرب":
1 -
فرواه الترمذي (2057) عن سفيان بن عيينة وأبو داود (3884) عن مالك بن مغول والبيهقي (19589) عن إسماعيل بن زكريا والطبراني في الكبير (587) عن عبد الله بن إدريس كلهم عن حصين عن الشعبي عن عمران مرفوعا. وخالفهم ابن فضيل عند البخاري (5750) فرواه عن حصين به موقوفا.
2 -
ورواه ابن ماجه (3513) عن أبي جعفر الرازي؛ والروياني (52) عن عباد بن العوام كلاهما عن حصين عن الشعبي عن بريدة مرفوعا وخالفهم هشيم كما عند مسلم فرواه عن حصين به عن بريدة موقوفا
3 -
ورواه شعبة عن حصين واختلف عليه فيه:
o فرواه المحاملي (388) عن محمد بن الوليد البسري؛ والطبراني في الأوسط (1449) عن محمد بن عبد الله بن عبيد؛ كلاهما عن عثمان بن عمر عن شعبة عن حصين به عن عمران به مرفوعا.
o وذكر الدارقطني رواية البسري في العلل (12/ 110) ثم قال: وقال غيره: عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حصين، عن الشعبي، عن بريدة الْأَسْلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال الترمذي: وَرَوَى شُعْبَةُ هَذَا الحَدِيثَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ بُرَيْدَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ يعني مرفوعا. وفي علل الحديث لابن أبي حاتم (6/ 330) قال: وَرَوَاهُ شُعبة عَنْ حُصَين، عَنِ الشَّعبي، عَنْ بُرَيدة، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال أبو حاتم شعبة أحفظهم.
o ورواه البيهقي (19545) عن روح عن شعبة عن حصين به عن بريدة موقوفا وهو عند ابن خزيمة في التوكل كما في "إتحاف المهرة"(2263) قال: أنا محمد بن معمر، ثنا روح، ثنا شعبة به. وظاهر سياق ابن حجر في إتحاف المهرة أنه مرفوع لكن كونه قرنه برواية ابن حبان عن هشيم به وهي موقوفة يدل على أن رواية ابن خزيمة موقوفة أيضا والله أعلم ويؤيده رواية البيهقي.
4 -
وأخرجه أبو داود (3889) عن يزيد بن هارون عن شريك، عن العباس بن ذريح، عن الشعبي، عن أنس رضي الله عنه. وتابعه محمد بن سعيد بن الأصبهاني أنا شريك به. أخرجه الحاكم (4/ 413)
وخالفهما علي بن الجعد كما في مسنده (2396) وسليمان بن داود العتكي عند أبي داود وعمرو بن عون عند ابن أبي حاتم في العلل: فرووه مرسلا عن شريك، عن العباس بن ذريح، عن الشعبي، رفعه، ا. هـ وهذا الاختلاف من شريك وهو ابن عبد الله النخعي فإنه صدوق يخطئ كثيرا كما في التقريب، وحكم عليه الحافظ في الفتح بالشذوذ وجعل العلة فيه من العباس، والعباس بن ذريح ثقة، فإعلاله بشريك أولى. وفي علل الحديث لابن أبي حاتم (6/ 331) عن أبيه قال:
…
وَلَيْسَ لِمَا رَوَى ابْنُ الأصبَهاني - مِنْ ذِكْرِ أنسٍ - مَعْنًى؛ لأَنَّ الحفَّاظَ يرسلونَه مِنْ حَدِيثِ شَريك، إِلا أَنْ يكونَ هَذَا مِنْ شَريك؛ لأَنَّ ابْنَ الأصبَهاني كَانَ مُتقنًا ا. هـ
5 -
ورواه مجالد عن الشعبي عن جابر كما في مسند البزار (3056/ كشف الأستار) ومسند الشهاب القضاعي (851)
6 -
وقال جابر: عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة. ذكره الدارقطني في العلل (12/ 110) وجابر هو الجعفي متروك.
7 -
وقال ابن أبي السفر: عن الشعبي، عن عبد الله بن مسعود، قوله، قاله شعبة عنه. ذكره الدارقطني في العلل (12/ 110)
وفي الباب عند مسلم (4/ 1725) عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ، وَالْحُمَةِ، وَالنَّمْلَةِ»
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ
(1)
، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى صلى الله عليه وسلم وَقَوْمُهُ، وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى
(1)
في رواية الترمذي: (2446) والنسائي في السنن الكبرى (7560) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَمُرُّ بِالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ القَوْمُ وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَحَدٌ حَتَّى مَرَّ بِسَوَادٍ عَظِيمٍ
…
الحديث. وهو من رواية عَبْثَرِ بْن القَاسِمِ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ-، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ به. وأشار الحافظ إلى وهم الراوي فيها فقال كما في فتح الباري (11/ 407): فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى تَعَدُّدِ الْإِسْرَاءِ وَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ أَيْضًا غَيْرَ الَّذِي وَقَعَ بِمَكَّةَ فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ بِسَنَدٍ صَحِيح (يعني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ أكربنا (كذا، وصوابه أكرينا أي أطلنا) الْحَدِيثَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عُدْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الثَّلَاثَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ أَبْطَأَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى نَامَ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَدِيثَ وَالَّذِي يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِسْرَاءَ الَّذِي وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ لَيْسَ فِيهِ مَا وَقَعَ بِمَكَّةَ مِنِ اسْتِفْتَاحِ أَبْوَابِ السَّمَاوَاتِ بَابًا بَابًا وَلَا مِنِ الْتِقَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ فِي سَمَاءٍ وَلَا الْمُرَاجَعَةِ مَعَهُمْ وَلَا الْمُرَاجَعَةِ مَعَ مُوسَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفَرْضِ الصَّلَوَاتِ وَلَا فِي طَلَبِ تَخْفِيفِهَا وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا تَكَرَّرَتْ قَضَايَا كَثِيرَةٌ سِوَى ذَلِكَ رَآهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمِنْهَا بِمَكَّة الْبَعْض وَمِنْهَا بِالْمَدِينَةِ بعد الهجرة الْبَعْضُ وَمُعْظَمُهَا فِي الْمَنَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ا. هـ وقال العلامة الألباني في كتابه: "الإسراء والمعراج وذكر أحاديثهما وتخريجها وبيان صحيحها (ص: 84) ": وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي حصين هذا وهو ثقة إلا أنه يبدو أنه وهم هو أو شيخه عبثر في ذكر الإسراء في هذا الحديث فقد رواه جمع من الثقات عن حصين بن عبد الرحمن به دون الإسراء. أخرجه البخاري (3410 و 5705 و 5752 و 6472 و 6541) ومسلم (374 و 375) وأحمد (1/ 271) وقد أشار الحافظ إلى شذوذ هذه الزيادة فقد ذكره بها من رواية الترمذي والنسائي
…
إلخ
الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ»، ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟» فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «هُمُ الَّذِينَ (لَا يَرْقُونَ)
(1)
، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ [وَلَا يَكْتَوُونَ]، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: " ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:«أَنْتَ مِنْهُمْ؟» ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:«سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»
(2)
.
ففي الحديث "فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية" أي أنه يدخل الجنة منهم خلق كثير فهذا بالكمية وأما بالكيفية فدخول سبعين ألفا منهم الجنة بغير حساب ولا عذاب. وذلك لكمال توكلهم وتوحيدهم لله تعالى. وفي معناه أحاديث كثيرة وردت فيمن يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ وفي أحاديث أخرى أنهم أكثر أهل الجنة، فمنها:
2 -
ما في صحيح مسلم عَنْ مُحَمَّد بنِ سِيرِينَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» ، قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ، فَقَامَ عُكَّاشَةُ، فَقَالَ: ادْعُ
(1)
قال ابن القيم: في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 130): وليس عند البخاري «لَا يَرْقُونَ» قال شيخنا وهو الصواب وهذه اللفظة وقعت مقحمة في الحديث وهي غلط من بعض الرواة فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوصف الذي يستحق به هؤلاء دخول الجنة بغير حساب هو تحقيق التوحيد وتجريده فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون والطيرة نوع من الشرك ويتوكلون على الله وحده لا على غيره وتركهم الاسترقاء والتطير هو من تمام التوكل على الله كما في الحديث الطيرة الشرك قال ابن مسعود وما منا إلا من تطير ولكن الله يذهبه بالتوكل. فالتوكل ينافي التطير وأما رقية العين فهي إحسان من الراقي قد رقى رسول الله جبريل وأذن في الرقي وقال لا بأس بها ما لم يكن فيها شرك واستأذنوه فيها فقال من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه وهذا يدل على أنها نفع وإحسان وذلك مستحب مطلوب لله ورسوله فالراقي محسن والمسترقي سائل راج نفع الغير والتوكل ينافي ذلك ا. هـ
(2)
رواه البخاري (3410، 5752، 6472، 6541) ومسلم (1/ 137 رقم 447).
اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:«أَنْتَ مِنْهُمْ» ، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، ادْعُ اللهِ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:«سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»
(1)
.
3 -
وفيه عن الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» ، قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»
(2)
4 -
وفي الصحيحين عنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هِيَ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ القَمَرِ» فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ، يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ، قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ» ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:«سَبَقَكَ عُكَاشَةُ»
(3)
5 -
ولمسلم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهِ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ:«اللهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ» ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهِ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ:«سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»
(4)
6 -
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ - لَا يَدْرِي أَبُو حَازِمٍ أَيَّهُمَا قَالَ - مُتَمَاسِكُونَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ»
(5)
(1)
رواه مسلم (1/ 198 رقم 218).
(2)
المرجع السابق.
(3)
رواه البخاري (5705، 5811، 6542) والزيادة له ومسلم (1/ 197 رقم 216) واللفظ له.
(4)
رواه مسلم (1/ 197 رقم 216).
(5)
رواه البخاري (3247، 6543، 6554) ومسلم (1/ 198 رقم 219).
7 -
وفي سنن ابن ماجه عن أَبِيْ أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَعَدَنِي رَبِّي سُبْحَانَهُ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا، لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَلَا عَذَابَ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي عز وجل»
(1)
8 -
وفي المسند وصحيح ابن حبان عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبَى الْيَمَانِ الْهَوْزَنِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» ، فَقَالَ: يَزِيدُ بْنُ الْأَخْنَسِ السُّلَمِيُّ رضي الله عنه: وَاللَّهِ مَا أُولَئِكَ فِي أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا كَالذُّبَابِ الْأَصْهَبِ فِي الذِّبَّانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ رَبِّي قَدْ وَعَدَنِي سَبْعِينَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعِينَ أَلْفًا وَزَادَنِي حَثَيَاتٍ»
(2)
9 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَكْثَرْنَا الْحَدِيثَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، ثُمَّ غَدَوْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ، وَمَعَهُ الثَّلَاثَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ مُوسَى عليهم السلام مَعَهُ كَبْكَبَةٌ
(3)
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَعْجَبُونِي، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقِيلَ لِي: هَذَا أَخُوكَ مُوسَى، مَعَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ. قَالَ: قُلْتُ: فَأَيْنَ أُمَّتِي؟ فَقِيلَ لِيَ: انْظُرْ عَنْ يَمِينِكَ. فَنَظَرْتُ، فَإِذَا الظِّرَابُ
(4)
قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ، ثُمَّ قِيلَ لِيَ: انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ. فَنَظَرْتُ، فَإِذَا الْأُفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ، فَقِيلَ لِي: أَرَضِيتَ؟ فَقُلْتُ: رَضِيتُ يَا رَبِّ، رَضِيتُ يَا رَبِّ. قَالَ: فَقِيلَ لِي: إِنَّ مَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فِدًا لَكُمْ أَبِي وَأُمِّي، إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ السَّبْعِينَ الْأَلْفِ، فَافْعَلُوا، فَإِنْ قَصَّرْتُمْ، فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الظِّرَابِ، فَإِنْ قَصَّرْتُمْ، فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأُفُقِ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ثَمَّ نَاسًا يَتَهَاوَشُونَ» . فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ لِي، يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ يَجْعَلَنِي مِنَ السَّبْعِينَ،
(1)
صحيح، رواه الترمذي (2437) وابن ماجه (4286).
(2)
صحيح، رواه أحمد (36/ 479) رقم (22156) وصححه ابن حبان (7246)
(3)
بضم الكافين وفتحهما: الجماعة المتضامة.
(4)
الظراب: بكسر معجمة آخره موحدة، هي الجبال الصغار المنبسطة على الأرض.
فَدَعَا لَهُ، فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ، يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:«قَدْ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» . قَالَ: ثُمَّ تَحَدَّثْنَا، فَقُلْنَا: مَنْ تَرَوْنَ هَؤُلَاءِ السَّبْعُونَ الْأَلْفُ؟ قَوْمٌ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا حَتَّى مَاتُوا؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» رواه أحمد
(1)
10 -
وله عَنِ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ الْأُمَمَ بِالْمَوْسِمِ [أيام الحج]، فَرَاثَتْ عَلَيْهِ أُمَّتُهُ، قَالَ:«فَأُرِيتُ أُمَّتِي، فَأَعْجَبَنِي كَثْرَتُهُمْ، قَدْ مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ، فَقِيلَ لِي: إِنَّ مَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . فَقَالَ عُكَّاشَةُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَدَعَا لَهُ، ثُمَّ قَامَ يَعْنِي آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مَنَهُمْ. قَالَ:«سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»
(2)
11 -
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، يُسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ، فَقَالَ: نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا
(3)
، انْظُرْ أَيْ ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ؟ قَالَ: فَتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا، وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ، الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ تَنْظُرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبَّنَا، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ، قَالَ
(4)
: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ، وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مُنَافِقًا، أَوْ مُؤْمِنًا
(1)
صحيح، رواه أحمد في المسند ط الرسالة (3806، 3987، 3988، 3989، 4000) وأورده الهيثمي في "المجمع" 10/ 406، وقال: رواه أحمد بأسانيد، والبزار أتم منه، والطبراني وأبو يعلى باختصار كثير، وأحد أسانيد أحمد والبزار، رجاله رجال الصحيح ا. هـ
(2)
حسن صحيح، رواه أحمد في المسند ط الرسالة (6/ 369/ 3819) والبخاري في الأدب المفرد (911)، وابن حبان (6084).
(3)
في مسند أحمد (14721) من طريق ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرًا، عَنِ الْوُرُودِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ فَوْقَ النَّاسِ، فَيُدْعَى بِالْأُمَمِ بِأَوْثَانِهَا،
…
» الحديث.
(4)
في مسند أحمد ط الرسالة (15115) من طريق ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، يَسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ، قَالَ: نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَذَا، وَكَذَا " انْظُرْ، أَيْ: ذَلِكَ فَوْقَ النَّاسِ، قَالَ:«فَتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا، وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الْأَوَّلَ، فَالْأَوَّلَ، ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: مَنْ تَنْتَظِرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْتَظِرُ رَبَّنَا عز وجل، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ» قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ، وَيَتَّبِعُونَهُ،
…
» الحديث.
نُورًا، ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ، تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ، فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يُحَاسَبُونَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَإِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَشْفَعُونَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مِنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، فَيُجْعَلُونَ بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ، وَيَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ حَتَّى يَنْبُتُوا نَبَاتَ الشَّيْءِ فِي السَّيْلِ، وَيَذْهَبُ حُرَاقُهُ، ثُمَّ يَسْأَلُ حَتَّى تُجْعَلَ لَهُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا مَعَهَا
(1)
12 -
وفي مسند البزار عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَالِهِ الْفَلَتَانِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فِي الْمَجْلِسِ فَشَخَصَ بَصَرُهُ إِلَى رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ يَمْشِي، فَقَالَ:«أَبَا فُلَانٍ» قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا يُنَازِعُهُ الْكَلَامَ إِلَّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم:«أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» قَالَ: لَا، قَالَ:«أَتَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«وَالْإِنْجِيلَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«وَالْقُرْآنَ؟» قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ نَشَاءُ لَقَرَأْتُهُ، ثُمَّ نَاشَدَهُ «هَلْ تَجِدُنِي فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟» قَالَ: نَجِدُ مِثْلَكَ وَمِثْلَ هَيْأَتِكَ وَمِثْلَ مَخْرَجِكَ، فَكُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِينَا فَلَمَّا خَرَجْتَ خُوِّفْنَا أَنْ تَكُونَ أَنْتَ هُوَ فَنَظَرْنَا فَإِذا لَسْتَ أَنْتَ هُوَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«وَلِمَ ذَاكَ؟» قَالَ: مَعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ سَبْعُونَ أَلْفًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ حِسَابٌ وَلَا عَذَابٌ، وَإِنَّمَا مَعَكَ نَفَرٌ يَسِيرُ فَقَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنَا هُوَ وَإِنَّهُمْ لِأُمَّتِي، وَإِنَّهُمْ لِأَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا وَسَبْعِينَ أَلْفًا»
(2)
هذه الأمة هي أكثر أهل الجنة:
ومما يدخل في هذا الباب: "نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَفِهَا بِكَرَامَتِهَا عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهَا خَيْرُ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" ومن ذلك:
(1)
رواه مسلم (191).
(2)
صحيح الإسناد، رواه البزار في المسند (3700) وابن حبان (6580)
13 -
ما في الصحيحين -واللفظ للبخاري- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟، قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا ذَلِكَ الوَاحِدُ؟ قَالَ «أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ:«أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ:«أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ:«مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ»
(1)
14 -
وفيهما أيضا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ، فَقَالَ:«أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ:«أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ:«أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ:«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَحْمَرِ»
(2)
15 -
وفي مسند أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَنْ يَتَّبِعُنِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» قَالَ: فَكَبَّرْنَا. قَالَ: «أَرْجُو أَنْ يَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» قَالَ: فَكَبَّرْنَا. قَالَ: «أَرْجُو أَنْ يَكُونُوا الشَّطْرَ»
(3)
(1)
متفق عليه، رواه البخاري (3348، 4741، 6530) ومسلم (222)
(2)
متفق عليه، رواه البخاري (6528، 6642) ومسلم (221)
(3)
مسند أحمد ط الرسالة (23/ 328) رقم (15114). وسنده صحيح على شرط مسلم.
16 -
وَعَنِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، مِنْهُمْ ثَمَانُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» وفي رواية: «أَنْتُمْ مِنْهُمْ ثَمَانُونَ صَفًّا» رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد واللفظ له وابن حبان والحاكم
(1)
.
17 -
وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد
(2)
.
(1)
حسن صحيح، رواه الترمذي (2546)، وابن ماجه (4289) وأحمد (22940، 23002، 23061) وابن حبان (7459، 7460) والحاكم (273، 274) من طريق أبي سنان الشيباني، ضرار بن مرة، عن محارب بن دثار عن ابن بريدة، عن أبيه، به وصححه الحاكم على شرط مسلم. قلت: إسناد الحاكم ضعيف، فيه أحمد بن عبد الجبار يرويه عن ابن فضيل عن أبي سنان به. وأحمد ضعيف الحديث وليس له رواية في الكتب الستة وإنما قيل روى له أبو داود وقال الحافظ: لم يثبت أن أبا داود أخرج له ا. هـ ونقل المزي عن الحاكم قوله فيه: ليس بالقوي عندهم، تركه أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد يعنى ابن عقدة ا. هـ لكنه متابع فقد رواه الترمذي قال حدثنا حسين بن يزيد الطحان حدثنا محمد بن فضيل عن أبي سنان به. والحسين الطحان حسن الحديث، قال المزي في ترجمته: قال أبو حاتم: لين الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات ا. هـ وقد روى عنه جماعة من الأئمة كما في التهذيب منهم: أبو داود والترمذي وأبو يعلى الموصلي وأبو بكر ابن هانئ الأثرم والحسن بن سفيان وأبو زرعة الرازي ومحمد بن إسحاق الثقفي ومحمد بن يحيى بن مندة الأصبهاني. قلت: وابن بريدة في إسناده يحتمل أن يكون عبد الله كما هو صنيع الحافظ في الإتحاف (2329)، أو سليمان، كما هو صنيع المزي في التحفة (1938)، وكلاهما ثقة روى له مسلم، وروى البخاري أيضا لعبد الله؛ ومما يرجح كونه عبد الله أن الإمام أحمد روى الحديث في المسند (5/ 361) مصرحا به فقال: حَدَّثَنَا عَبْد الصَّمَد حَدثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِم حَدثَنَا ضِرَارٌ أَبُو سِنَانٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَة عَنْ أَبِيه به. وقد جاء الحديث من طريق أخرى عن سليمان بن بريدة عن أبيه فقد رواه الحاكم عقب هذا فقال: وله شاهد من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه، ثم أسنده عن الثوري من طرق، وقال: أرسله يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي عن الثوري ا. هـ ولا يضر إرسال من أرسله عن الثوري، فقد تقدم موصولا من الطريق الأولى. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد روي هذا الحديث عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ومنهم من قال سليمان بن بريدة عن أبيه. وحديث أبي سنان عن محارب بن دثار حسن. وأبو سنان اسمه ضرار بن مرة ا. هـ وحديث بريدة صححه الألباني في صحيح موارد الظمآن (2231)، وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح (1/ 512). وللحديث شاهد رواه الإمام أحمد (4328) وغيره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. والله أعلم.
(2)
رواه الترمذي (3001) وحسنه وابن ماجه (4287، 4288) والنسائي في الكبرى (11367) وأحمد (20011، 20015، 20025، 20029، 20049) وصححه الحاكم (6987) وحسنه العلامة الألباني كما في التعليق على هداية الرواة (6249) -وهو آخر حديث في المشكاة- وحسنه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح (222)
الفقراء أكثر أهل الجنة:
كما في صحيح البخاري عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«اطَّلَعْتُ فِي الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ»
(1)
وفي صحيح مسلم عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ»
(2)
الفقراء من المؤمنين يسبقون الأغنياء في دخول الجنة:
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن فقراء المؤمنين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بنصف يوم.
فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ، خَمْسِمِائَةِ عَامٍ»
(3)
.
وفي صحيح مسلم عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا»
(4)
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله: والَّذي في الصحيح أنَّ سبقهم لهم «بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا» .
فإمَّا أنْ يكون هو المحفوظ، وإمَّا أنْ يكون كلاهما محفوظان، وتختلف مُدَّة السبق بحسب أحوال الفقراء والأغنياء، فمنهم من يسبق بأربعين، ومنهم من يسبق بخمسمائة كما يتأخر مكث العُصاة من الموحدين في النَّار بحسب جرائمهم واللَّهُ أعلم.
قال: ولكن ها هنا أمرٌ يجب التنبيه عليه، وهو أنَّه لا يلزم من سبقهم لهم في الدخول ارتفاع منازلهم عليهم، بل قد يكون المتأخر أعلى منزلة؛ وإن سَبَقَهُ غيره في الدخول، والدليل على هذا أنَّ من الأمة من يدخل الجنَّة بغير حساب، وهم السَّبعون ألفًا، وقد يكون بعض من يُحَاسب أفضل من أكثرهم، والغني إذا حوسب على غِنَاهُ، فوجد قد شكر اللَّه تعالى فيه، وتقرَّب إليه بأنواع البِرِّ والخير والصَّدقة والمعروف، كان أعلى درجة
(1)
صحيح البخاري (3241)
(2)
صحيح مسلم (2737)
(3)
أخرجه الترمذي (2353) وابن ماجه (4122) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
صحيح مسلم (2979)
من الفقير الَّذي سبقه في الدخول، ولم تكن له تلك الأعمال، ولا سيِّما إذا شاركه الغني في أعماله هو وزاد عليه فيها، واللَّهُ لا يضيع أجرَ من أحسن عملًا. فالمزيَّة مزيَّتان؛ مزية سبق، ومزية رِفْعة، وقد يجتمعان وينفردان، فيحصل لواحد السبق والرِّفعة، ويعدمهما آخر، ويحصل لآخر السبق دون الرِّفعة، ولآخر الرفعة دون السبق، وهذا بحسب المتقضي للأمرين، أو لأحدهما وعدمه، وباللَّه التوفيق ا. هـ
(1)
.
النساء أقل ساكني أهل الجنة:
تقدم حديثا عمران وابن عباس رضي الله عنهما في المبحث السابق.
وفي صحيح مسلم من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ أَقَلَّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ»
(2)
.
وفي الصحيح بيان سبب ذلك:
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ» قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: «يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ»
(3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ:«يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ» ، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ:«فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ:«فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا»
(4)
(1)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم (1/ 241)
(2)
صحيح مسلم (2738).
(3)
صحيح البخاري (29) وصحيح مسلم (907).
(4)
أخرجه البخاري (304) وهو في مسلم (80 و 889) بنحوه.
وفي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ:«أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ: فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ مَا تُصَلِّي، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ»
(1)
وفي المسند عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ يَوْمًا فَأَتَى النِّسَاءَ فِي الْمَسْجِدِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِنَّ، فَقَالَ:«يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَوَاقِصِ عُقُولٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ بِقُلُوبِ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْكُنَّ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنَّكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَقَرَّبْنَ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُنَّ»
(2)
،
…
الحديث
فتبين من هذه الأحاديث خطورة اللعن وكفران العشير وأنه سبب لدخول النار.
وفي معنى هذه القلة المذكورة لهن في الجنة: جاء في صحيح مسلم عَنْ مُحَمَّد بن سيرين، قَالَ: اخْتَصَمَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ: [إِمَّا تَفَاخَرُوا وَإِمَّا تَذَاكَرُوا: الرِّجَالُ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ أَمِ النِّسَاءُ؟] فَسَأَلُوا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوَ لَمْ يَقُلْ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ؟»
(3)
وقد ذكر الحكيم الترمذيّ وغيره أن الوصف بكون النساء أكثر أهل النار كان قبل الشفاعة فيهنّ، فإذا دخلن الجنَّة بالشفاعة أو غيره يكون لكل رجل زوجتان، فيكنّ أكثر أهل الجنة ا. هـ
(4)
(1)
أخرجه مسلم (79).
(2)
مسند أحمد (14/ 449) رقم 8862 وهو في صحيح مسلم (2834)
(3)
صحيح مسلم (80) ولم يسق لفظه.
(4)
«التوضيح لشرح الجامع الصحيح» (19/ 128).
قال ابن الملقن رحمه الله: قال القرطبي رحمه الله: إنما كان النساء أقل ساكني الجنة؛ لما يغلب عليهم من الهوى والميل إلى عاجل زينة الدنيا، لنقصان عقولهن فيضعفن عن عمل الآخرة، والتأهب لها لميلهنّ إلى الدنيا والتزين بها ولها، ثم هن مع ذلك أقوى الأسباب التي يصرف بها الرجال عن الأخرى؛ لما لهم فيهن من الهوى، وأكثرهن معرضات عن الآخرة بأنفسهن، صارفات عنها لغيرهن، سريعات الانخداع لداعيهنّ من المعرضين عن الدين، عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إلى الآخرة وأعمالها من المتقين.
(1)
وقال المناوي رحمه الله: «إِنَّ أَقَلَّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ» أي في أول الأمر قبل خروج عصاتهن من النار فلا دلالة فيه على أن نساء الدنيا أقل من الرجال في الجنة
…
ا. هـ
(2)
وقال في موضع آخر أيضا:
…
لأنهن في الجنة باعتبار الحور وأقل ساكنيها نساء الدنيا فنساء الدنيا أقل أهل الجنة وأكثر أهل النار كما شهدت به الأخبار ا. هـ
(3)
واستشكل بعض الناس وصف النساء بنقصان عقلهن، ومما ذكره العلماء في بيان ذلك قول العلامة الألباني، قال رحمه الله: الحديث يقرر أمراً جِبِلْيّاً لا يمكن لأحد أن ينكره ولو كان ملحداً، وهو أن المرأة تحيض، وأن عقلها دون عقل الرجل، هكذا خلقها الله لحكمة بالغة، كما قال عز وجل:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)} [الليل]، ولهذا قال العلماء- واللفظ لعلامة الأندلس الحافظ ابن عبد البر -: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُقْصَانَ الدِّينِ قَدْ يَقَعُ ضَرُورَةً لَا تُدْفَعُ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَبَلَهُنَّ عَلَى مَا يَكُونُ نَقْصًا فِيهِنَّ قَالَ اللَّهُ عز وجل:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]؛ وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ أَيْضًا بَعْضَ الرِّجَالِ عَلَى بَعْضٍ، وَبَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضٍ، وَبَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]؛ {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)} [الزخرف] ا. هـ
(4)
.
(1)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح (19/ 128) وانظر: «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة» (ص 818)
(2)
فيض القدير (2/ 428).
(3)
المرجع السابق (3/ 85).
(4)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (3/ 326)
قال الألباني: فهذه قاعدة عامة لا تستطيع امرأة أن تخرج عنها، فكل امرأة تحيض، كما أن كل رجل يمذي. ثم إن الله تعالى بحكمته رتب على تلك الجبلَّة حُكمَينِ ثابتين: شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، والمرأة الحائض لا تصلي ولا تصوم، فهذه قاعدة لا استثناء فيها شرعاً، كالتي قبلها لا استثناء فيها قدراً. وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بقوله:«كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» -رواه الشيخان
(1)
، وهو مخرج في " الروض النضير"(رقم 73) -، قال: ويشبه ذلك الفرق الجِبِلِّيَّ بين الرجال والنساء: الفرقُ المعروف بين الملائكة كافة، والبشر عامة، فالأولون كما قال الله:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم]، والبشر على خلاف ذلك، طبعهم الله على المعصية، ولكن أمرهم بالاستغفار، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» رواه مسلم
(2)
،
…
إلخ.
(3)
لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة:
ومن هم الذين يدخلون الجنة؟ إنه «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ» .
1 -
خطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أربعين من أصحابه [وهو بمنى] وأخبرهم: «أَنَّ الجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ» متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(4)
2 -
وأذَّنَ بذلك بلالٌ رضي الله عنه يوم خيبر: كما في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، -فذكر الحديث- وفيه: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا بِلَالُ، قُمْ
(1)
أخرجه البخاري (3411) ومسلم (2431) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(2)
صحيح مسلم (2749) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/ 399)
(4)
أخرجه البخاري (6528) ومسلم (221) وأحمد (4251) ومنه الزيادة.
فَأَذِّنْ: لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ
…
» الحديث
(1)
وفي رواية -في الصحيحين-: ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: «أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ
…
»
(2)
3 -
وأذن بذلك أيضا: عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كما في الصحيح عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ،
…
فذكر الحديث وفيه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ، أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ» ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ: أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.
(3)
4 -
وفي الحَجَّة التي أمَّرَ فيها النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه سنة تسع من الهجرة بعث صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه «بسورة براءة»
(4)
(5)
5 -
وخَطَبَ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»
(6)
؛
6 -
وبعث أَيَّامَ التَّشْرِيقِ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَأَوْسَ بْنَ الْحَدَثَانِ رضي الله عنهما، فَنَادَيا «أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»
(7)
7 -
ونادى بذلك أيضا بِشْرُ بْنُ سُحَيْمٍ رضي الله عنه «أَمْرَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنَادِيَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مُؤْمِنٌ»
(8)
(1)
أخرجه البخاري (4203، 6602).
(2)
أخرجه البخاري (3062) ومسلم (111).
(3)
أخرجه مسلم (114).
(4)
أخرجه البخاري (369، 4655) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه الترمذي (871، 3092) من حديث علي رضي الله عنه وقال حسن صحيح. و (3091) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال حسن غريب وصححه الحاكم (4375). وأخرجه النسائي (2958) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
أخرجه ابن ماجه (1720) عن بشر بن سحيم رضي الله عنه وصححه ابن خزيمة (2960).
(7)
أخرجه مسلم (1142) من حديث كعب رضي الله عنه.
(8)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى (2906) والدارمي (1807) وصححه ابن خزيمة (2960)
8 -
وعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه قَالَ: -وذكر الحديث- أن رجلا من القسيسين دلَّه على النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ رضي الله عنه: فَانْطَلَقْتُ -وذكر الحديث في لقيه للنبي صلى الله عليه وسلم قال فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ:«وَمَا ذَاكَ» ؟ فَحَدَّثْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ حَدَّثَنِي أَنَّكَ نَبِيُّ؟ قَالَ:«لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مَسْلَمَةٌ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّكَ نَبِيٌّ أَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ:«لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ»
(1)
9 -
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»
(2)
فالذين سيدخلون الجنة بفضلٍ من الله -جل وعلا- ورحمةٍ منه هم المؤمنون بالله ورسله، الذين ماتوا على توحيد الله، ماتوا على التوحيد واجتناب الشرك والبُعْدِ عنه، فمن مات على التوحيد فهو من أهل الجنة.
مفتاح الجنة توحيد الله:
قال رجل لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِفْتَاحُ الجَنَّةِ؟ قَالَ: «بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلَّا لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ»
(3)
قال ابن القيم: «وقد جعل الله سبحانه لكل مطلوب مفتاحا يفتح به فجعل مفتاح الصلاة الطهور
…
ومفتاح الحج الإحرام ومفتاح البر الصدق ومفتاح الجنة التوحيد ومفتاح العلم حسن السؤال وحسن الإصغاء
…
ومفتاح كل خير الرغبة في الله والدار
(1)
أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/ 81) وأحمد (23712) وصححه ابن حبان (7124)
(2)
صحيح مسلم (54)
(3)
علقه البخاري في الصحيح (2/ 71) ووصله شيخه إسحاق بن راهويه كما في المطالب العالية (2893) -ومن طريقه البخاري في التاريخ الكبير مختصرا (1/ 95) وأبو نعيم في الحلية (4/ 66) وفي صفة الجنة (191) والحافظ في تغليق التعليق (2/ 453) - ورواه من غير طريق إسحاق البيهقي في الأسماء والصفات (208). وحسنه الحافظ في المطالب العالية. وروي في مسند أحمد (22102) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» وسنده ضعيف.
الآخرة ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل؛ وهذا باب عظيم من أنفع أبواب العلم وهو معرفة مفاتيح الخير والشر لا يوفق لمعرفته ومراعاته إلا من عظم حظه وتوفيقه فإن الله سبحانه وتعالى جعل لكل خير وشر مفتاحا وبابا يدخل منه إليه
…
وهذه الأمور لا يصدق بها إلا كل من له بصيرة صحيحة وعقل يعرف به ما في نفسه وما في الوجود من الخير والشر فينبغي للعبد أن يعتني كل الاعتناء بمعرفة المفاتيح وما جعلت المفاتيح له
…
إلخ
(1)
أهل التوحيد الذين يدخلون الجنة قسمان:
فمنهم: من يدخل الجنة ابتداءً. ومنهم: من يكون عنده ذنوب من كبائر أو غيرها لم يغفرها الله سبحانه وتعالى فإذا لم يغفر الله عز وجل لهم، فإنهم يدخلون النار ثم يؤذن فيهم بالشفاعة، فيشفع فيهم ويخرجون من النار، فيدخلون الجنة، وقد تقدم معنا ذلك في مبحث الشفاعة، وذكرنا قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي»
(2)
.
والمقصود أنَّ أهل التوحيد الذين وحَّدُوا الله وماتوا على توحيد الله سبحانه وتعالى فإن مآلهم الجنة بفضلٍ من الله عز وجل ورحمة.
الجنة دار الخلود:
أخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أيضًا أن الجنة دارٌ خالدةٌ لا تفنى ولا تبيد، وأهلها فيها خالدون لا يرحلون عنها ولا يظعنون ولا يبيدون ولا يموتون، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)} [الدخان: 56]
وتكرَّرَ في القرآن -في ستة وعشرين موضعا- قولُ الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا}
(3)
وقال -جل وعلا-: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} [الكهف: 108].
(1)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (1/ 139).
(2)
تقدم في آخر المجلس التاسع والعشرين.
(3)
[آل عمران: 15، 136، 198، النساء: 13، 57، 122، المائدة: 85، 119، التوبة: 22، 72، 89، 100، هود: 108، إبراهيم 23، الكهف: 108، طه: 86، الفرقان: 76، العنكبوت: 58، لقمان: 9، الأحقاف: 14، الفتح: 5، الحديد: 12، المجادلة: 22، التغابن: 9، الطلاق: 11، البينة: 8].
(1)
.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ، لَا يَبْأَسُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ»
(2)
.
ونعيمُ الجنة نعيمٌ يفوق الوصف ويقصر دونه الخيال، فليس لنعيمها نظيرٌ كما تقدم أن ذكرنا لكن جاء وصفها في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنها:«لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، مِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ» ، -والملاط ما يوضع بين اللبنتين وما يوضع بين الطوبتين-، قال صلى الله عليه وسلم:«وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَاليَاقُوتُ، وَتُرْبَتُهَا الزَّعْفَرَانُ»
وإذا كان ملاطها المسك وتربتها الزعفران وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت فما ظنك بجمالها!! -نسأل الله -جل وعلا- أن يدخلنا الجنة-؛
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ دَخَلَهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ»
(3)
.
فهذا شيء مما ذكر في السنة في وصف هذه الدار العظيمة.
(1)
أخرجه البخاري (3730)، ومسلم (2849) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (2836) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أحمد (13/ 410) رقم (8043) والترمذي (2526) وابن حبان (7387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه شيخنا مقبل الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1596).
جنتان من ذهب وجنتان من فضة:
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله: الجنَّة: اسمٌ شامل لجميع ما حوته من البساتين والمساكن والقصور وهي جنات كثيرة جدًّا، كما روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ البَرَاءِ رضي الله عنها وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ رضي الله عنه أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ، -وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ-، فَإِنْ كَانَ فِي الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي البُكَاءِ، قَالَ:«يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى»
(1)
…
إلخ
(2)
ويقول الله -جل وعلا-: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن]. ثم وصف هاتين الجنتين بأوصاف عدة في سورة الرحمن، وقال بعد ذلك:{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)} [الرحمن]. وجاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»
(3)
.
وقال أبو موسى رضي الله عنه: «{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن]: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِلتَّابِعِينَ»
(4)
أبواب الجنة:
وللجنة أبوابٌ يدخل منها المؤمنون، قال الله -جل وعلا-:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} [ص] وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ثمانية أبواب، كما في صحيح البخاري عَنْ
(1)
أخرجه البخاري (2809).
(2)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم (1/ 206)
(3)
أخرجه البخاري (4878)، ومسلم (180).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (34814) والحاكم (3772) وصححه.
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«فِي الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ»
(1)
.
فمنها بابٌ يُسمَّى باب الريان، وهو بابٌ لا يدخل منه إلا الصائمون، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ»
(2)
ومنها: بابُ الصَّلاة، وبابُ الجهادِ، وبابُ الصَّدَقة: كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ:«نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»
(3)
.
سعة أبواب الجنة:
في الصحيحين -في حديث الشفاعة- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «
…
فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ مَا
(1)
صحيح البخاري (3257) وفي الباب: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه رواه البخاري (3435) ومسلم (28). وعن عقبة بن عامر عن عمر رضي الله عنهما رواه مسلم (234).
(2)
أخرجه البخاري (1896)، ومسلم (1152) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (1897)، ومسلم (1027) وقال ابن العربي في المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 247): وأبوابُ الجنَّة ثمانية، ولم يخلق إلى الآن من يُسَمِّيها عن محمّد صلى الله عليه وسلم، والّذى صحَّ عنه أنّ للجنَّة بابًا يقال له الرَّيَّانُ، لا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصائمون،
…
إلخ. قلت: وصح ذكر تسمية هذه الأبواب في هذا الحديث.
بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ - أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى» وفي رواية مسلم: «
…
بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى»
(1)
وفي صحيح مسلم عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيِّ، قَالَ: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، «فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصَرْمٍ وَوَلَّتْ حَذَّاءَ
(2)
، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ
(3)
، يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لَا زَوَالَ لَهَا، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ، فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا، لَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا
(4)
، وَوَاللهِ لَتُمْلَأَنَّ، أَفَعَجِبْتُمْ؟ وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ
(5)
مِنَ الزِّحَامِ»
(6)
. وقد جاء التقدير بأن «بين المصراعين أربعين سنة» في أحاديث مرفوعة ذكرها ابن القيم وبين ضعفها ثم قال: وحديث أبي هريرة أصح ا. هـ
(7)
أول من يقرع باب الجنة:
تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم «أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ»
(8)
. وقال صلى الله عليه وسلم: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْتفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ» (8).
(1)
أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194) قال محقق مستخرج أبي عوانة: في معجم البلدان لياقوت الحموي: "الهجر بلغة حمير والعرب العاربة: القرية، فمنها: هجر البحرين، وهجر نجران، وهجر جازان
…
". وعليه فالذي يظهر أن المقصود بها: هَجَر جازان أو هَجَر نجران لقربها من بلاد قبيلة حِمير التي ديارها اليمن، مع رواية البخاري ومثيلتها عند المصنِّف كما سبق، والله سبحانه وتعالى أعلم. ا. هـ
(2)
آذنت: أي أعلمت. "بصرم" الصرم الانقطاع والذهاب. و "حذاء": مسرعة الانقطاع.
(3)
صبابة: البقية اليسيرة من الشراب تبقى في أسفل الإناء، "يتصابها" أي شرب صبابته.
(4)
قعرا: قعر الشيء أسفله.
(5)
كظيظ: أي ممتلئ.
(6)
صحيح مسلم (2967).
(7)
«حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم» (1/ 117)
(8)
تقدم في مباحث الشفاعة (6/ 197)
حِلَق أبواب الجنة:
في المسند-في حديث الشفاعة- عَنْ ثابت عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُطَوَّلُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّاسِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ، فَيَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا،
…
فذكر الحديث وفيه فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلِيَقْضِ بَيْنَنَا» قَالَ: «فَأَقُولُ: نَعَمْ، فَآتِي بَابَ الْجَنَّةِ، فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَأَسْتَفْتِحُ، فَيُقَالُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدُ فَيُفْتَحُ لِي فَأَخِرُّ سَاجِدًا، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي، وَلَا يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ بَعْدِي، فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ مِنْكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ،
…
» الحديث
(1)
وفي المسند أيضا عَنْ عَمْرٍو بن أبي عمرو، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنِّي لَأَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْدِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ؛ وَإِنِّي آتِي بَابَ الْجَنَّةِ، فَآخُذُ بِحَلْقَتِهَا، فَيَقُولُونَ: مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ، فَيَفْتَحُونَ لِي، فَأَدْخُلُ، فَإِذَا الْجَبَّارُ مُسْتَقْبِلِي، فَأَسْجُدُ لَهُ
…
»
…
الحديث
(2)
وفي سنن الترمذي عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: مُحَمَّدٌ
…
» الحديث قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(3)
قال ابن القيم: وهذا صريحٌ في أنَّها حلقة حِسِّية تُقَعْقَعُ وتُحَرَّك ا. هـ
(4)
(1)
مسند أحمد (13590) بسند صحيح قال: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، به.
(2)
مسند أحمد (19/ 451) رقم (12469) وإسناده صحيح قال: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ الْهَادِ، عَنْ عَمْرٍو، به
(3)
جامع الترمذي (3148). وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3643): صحيح لغيره.
(4)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم (1/ 122)
فتح أبواب الجنة في الدنيا:
في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»
(1)
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: وفتح أبواب الجنة في هذين اليومين محمول على ظاهره، ولا ضرورة تحوج إلى تأويله، ويكون فتحها تأهبا، وانتظارا من الخزنة لروح من يموت في ذينك اليومين ممن غفرت ذنوبه، أو يكون فتحها علامة للملائكة على أن الله تعالى غفر في ذينك اليومين للموحدين، والله تعالى أعلم ا. هـ
(2)
وفيه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يُحَدِّثُ النَّاسَ فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» قَالَ فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذِهِ فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ»
(3)
قال شيخنا الإتيوبي رحمه الله: فتح أبواب الجنة محمول على ظاهره وحقيقته، وذكر بعضهم احتمال أن يكون مجازًا عن التوفيق للطاعات في الدنيا، فإنها سبب في فتح أبواب الجنّة في الآخرة، والصواب ما قدّمته، وأما الاحتمال المذكور فيُبعده قوله:"يدخُلُ من أيها شاء"، فتأمل، والله تعالى أعلم ا. هـ
(4)
(1)
صحيح مسلم (2565)
(2)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 540)
(3)
صحيح مسلم (234)
(4)
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 195)
وقال النِّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ
(1)
أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ
(2)
أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» متفق عليه
(3)
.
وفي رواية للبخاري: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ»
(4)
.
وفي رواية لمسلم: «إِذَا كَانَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ
…
»
(5)
.
وفتح أبواب الجنة هنا على ظاهره، وحمله بعضهم على المجاز
قال الحافظ: قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ فَمِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ وَالْأَصْلُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ بِدَلِيلِ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ غَلْقُ أَبْوَابِ النَّارِ ا. هـ
(6)
أبواب الجنة درجات:
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله: ولمَّا كانت الجِنَانُ درجات بعضها فوق بعض، كانت أبوابها كذلك، وباب الجنَّةَ العالية فوق باب الجنَّة التي تحتها، وكلَّما عَلَت الجنَّة اتَّسعت، فعاليها أوسعُ ممَّا دونه، وسَعَة الباب بحسب وسع الجنَّة، ولعلَّ هذا وجه الاختلاف الَّذي جاء في مسافة ما بين مِصْراعي الباب، فإنَّ أبوابها بعضها أعلى من بعض ا. هـ
(7)
.
(1)
(فُتِّحَتْ) بالبناء للمجهول، وبتخفيف التاء، وروي بتشديدها، وقال الزرقانيّ: بتشديد الفوقية، ويجوز تخفيفها، وقال القاري: بالتخفيف، وهو أكثر كما في التنزيل، وبالتشديد لتكثير المفعول. انتهى من البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (20/ 366)
(2)
(وَغُلِّقَتْ) بالبناء للمجهول، وبتشديد اللام. ينظر: البحر المحيط الثجاج (20/ 366)
(3)
أخرجه البخاري (1898، 1899)، ومسلم (1079) واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(4)
برقم (1899).
(5)
برقم (1079).
(6)
فتح الباري (4/ 114)
(7)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم (1/ 123)
وعَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، رضي الله عنه قَالَ: [إنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ هَكَذَا بَعْضُهَا فَوقَ بَعْضٍ ثم قرأ {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}
(1)
أمة محمد صلى الله عليه وسلم أول الأمم دخولا الجنة:
وأوَّلُ من يدخلها من الأمم أمَّتُه صلى الله عليه وسلم فنحن كما قال صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ»
(2)
أي: الآخرون زمنًا المتأخرون وقتًا لكننا الأوَّلون السابقون يوم القيامة، وهذا من تكرمة الله عز وجل لهذه الأمة.
الجنة درجات:
والجنة درجاتٌ، وكلُّ درجة أعلى من التي دونها، يقول الله -جل وعلا-:{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75].
وفي الجنة مائة درجة ما بين الدرجة والأخرى كما بين السماء والأرض، أعدَّها الله -جل وعلا- للمجاهدين في سبيله. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ:«إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ»
(3)
(1)
ذكره ابن القيم في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم (1/ 123) من رواية: خلف بن هشام البزار ثنا أبو شهاب عن عمرو بن قيس الملائي عن أبي إسحاق عن عاصم به. والحديث سيأتي تخريجه في ذكر استقبال أهل الجنة.
(2)
رواه في مسلم (855) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (2790، 7423) ووهم الحاكم فخرجه في المستدرك على الصحيحين (267) وصححه على شرطهما وقال: لم يخرجاه!
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وهذا يدل على أنها في غاية العلو والارتفاع
…
قال: وهو لا ينفي أن يكون درج الجنة أكبر من ذلك
…
إلخ»
(1)
وقال أبو حازمٍ، عَنْ سَهْل بن سعدٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الغُرَفَ فِي الجَنَّةِ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ» قال أبو حازم: فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ رضي الله عنه، يُحَدِّثُ وَيَزِيدُ فِيهِ:«كَمَا تَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الغَارِبَ فِي الأُفُقِ: الشَّرْقِيِّ وَالغَرْبِيِّ»
(2)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا يَرَاهُمْ مَنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الطَّالِعَ فِي الْأُفُقِ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ»
(3)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ:«بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ»
(4)
. فيتفاوت الناس في الجنة بأعمالهم.
أعلى أهل الجنة منزلةً وأدناهم منزلة:
«سَأَلَ مُوسَى عليه السلام رَبَّهُ عز وجل، مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ: رَبِّ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ
(1)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (1/ 132)
(2)
أخرجه البخاري (6555، 6556) ومسلم (2830، 2831).
(3)
أخرجه الترمذي (3658) وحسنه، وابن ماجه (96) وأحمد (11939) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (3256) ومسلم (2831) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17] الْآيَةَ»
(1)
.
فأدنى أهلِ الجنة منزلةً فيها لهُ ملكُ الدنيا وعشرةُ أمثالِها، فيا سبحان الله ما أعظم هذا النعيم! وما أسفه عقولنا حين نُقدِّمُ الدنيا على هذا النعيم الباقي!! وسيأتي معنا ذكر الأحاديث في آخر أهل الجنة دخولا الجنة وما له من النعيم.
المنزلة العالية في الجنة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
-:
وفي الجنة منزلة عظيمة عالية رفيعة لا ينالها إلا رجلٌ واحدٌ هو نبينا المصطفى وإمامنا المجتبى محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه المنزلة هي الوسيلة التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله عز وجل أن تكون له،
وأن نقول في دعائنا بعد سماع الآذان: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ»
(2)
فالوسيلة هي هذه الدرجة الرفيعة التي أُمِرْنا أن نسألها للنبي صلى الله عليه وسلم
(3)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ، فَاسْأَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ:«أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ»
(4)
(1)
أخرجه مسلم (198) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (614) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه مسلم (384) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه أحمد (13/ 40) رقم (7598) والترمذي (3612) وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ ا. هـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني لشواهده في الصحيحة (3268).
وقال صلى الله عليه وسلم «الْوَسِيلَةُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ لَيْسَ فَوْقَهَا دَرَجَةٌ، فَسَلُوا اللهَ أَنْ يُؤْتِيَنِي الْوَسِيلَةَ»
(1)
وقال صلى الله عليه وسلم «سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، لَا يَسْأَلُ اللَّهَ لِي مُؤْمِنٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(2)
الشهداء في الدرجات العلى من الجنة:
وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن ثمة أناسًا من أمته يرفع الله درجاتِهم بأعمالهم الصالحة ومن هؤلاء: الشهداءُ الذين يقاتلون في سبيل الله، في الصف الأول، لا تلتفت وجوههم، فأولئك يلقون الله ويضحك إليهم سبحانه وتعالى. كما في المسند عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الشُّهَدَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الَّذِينَ إِنْ يُلْقَوْا فِي الصَّفِّ لَا يَلْفِتُونَ وُجُوهَهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا، أُولَئِكَ يَتَلَبَّطُونَ -أي يضطجعون-
(3)
فِي الْغُرَفِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ، وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ، وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ إِلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا فَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ»
(4)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يَلْتَقُونَ فِي الصَّفِّ فَلَا يَلْفِتُونَ وُجُوهَهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا، أُولَئِكَ يَتَلَبَّطُونَ فِي الْغُرَفِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ، إِنَّ رَبَّكَ إِذَا ضَحِكَ إِلَى قَوْمٍ فَلَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ»
(5)
(1)
أخرجه أحمد (11783) والطبراني في المعجم الأوسط (263، 1466) والقاضي إسماعيل في (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص: 50) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه الألباني في الصحيحة (3571)
(2)
أخرجه عبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب (688) وابن أبي شيبة (29590) والطبراني في المعجم الأوسط (633) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (257) وفي الثمر المستطاب (1/ 188)
(3)
قاله المنذري. انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2/ 138).
(4)
أخرجه أحمد (22476) وصححه الألباني في الصحيحة (6/ 124)
(5)
رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4131) وفي مسند الشاميين (538) من طريق عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ الأموي -وهو ثقة- قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنْ قَزَعَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه وقال الطبراني: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَّا ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَلَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ إِلَّا عَنْبَسَةُ، تَفَرَّدَ بِهِ: سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى ا. هـ وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2130). وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2558). وقد خولف فيه عنبسة فقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (19353) قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُبَارَكٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه. وهذا مرسل. لكن يشهد له ما قبله.
الساعي على الأرملة والمسكين:
ومنهم الساعي على الأرملة والمسكين: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوِ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ» وفي رواية «
…
وَأَحْسِبُهُ قَالَ - وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ»
(1)
.
الوالد يستغفر له ولده الصالح:
ومنهم من ينال رفعة الدرجات بالدعاء له بعد موته: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ»
(2)
.
فاجتهدوا عباد الله في الدعاء لآبائكم وأمهاتكم وأمواتكم من أجدادكم وأصولكم،
اجتهدوا في الدعاء والاستغفار لهم؛ فإن الله يرفع لهم الدرجات ويعفو عنهم السيئات ويعطيهم الحسنات ببركة هذا الدعاء، ولن تحرموا أنتم من الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى.
إلحاق ذرية المؤمن به في الدرجة وإن لم يعملوا عمله:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور: 21]
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ مَعَهُ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ» ، ثُمَّ قَرَأَ الآية وقال:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} يَقُولُ: «وَمَا نَقَصْنَاهُمْ»
(3)
(1)
أخرجه البخاري (5353، 6007)، ومسلم (2982) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه ابن ماجه (3660) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1598) وحسنه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (600)
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (3744) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/ 107) والطبري في التفسير ط هجر (21/ 579)، وروي مرفوعا، أخرجه البزار كما في كشف الأستار عن زوائد البزار (2260)، والطبراني في المعجم الصغير (640)، والمعجم الكبير (11/ 440) رقم (12248)، والطحاوي (1075)، والصحيح الموقوف، ولكن له حكم الرفع كما ذكر ذلك الطحاوي في شرح المشكل والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2490)
واختلف العلماء ما المراد بالذرية هنا؟:
هل يراد بالذرية الأولاد الذين ماتوا صغارا، أو هو على الإطلاق في الذرية المؤمنين،
قال شيخ الإسلام رحمه الله: غير المكلَّف قد يُرحَم، فإن أطفالَ المؤمنين مع آبائهم في الجنة، ثم احتج بالآية.
(1)
وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله:
قالت طائفة: المعنى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} في إيمانهم، فأتوا من الإيمان بمثل ما أتوا به، ألحقناهم بهم في الدرجات. وقد أطلق اللَّهُ سبحانه الذرية على الكبار،
…
قالوا: ويدلُّ على ذلك ما رواهُ ابن عباس رضي الله عنهما
…
[فذكر ما تقدم] قالوا: وأيضًا فالإيمان: هو القول والعمل والنية، وهذا إنما يمكن من الكبار. وعلى هذا، فيكون المعنى: أنَّ اللَّه سبحانه يجمع ذرية المؤمن إليه إذا أتوا من الإيمان بمثل إيمانه، إذ هذا حقيقة التَّبَعِيَّة، وإن كانوا دونه في الإيمان رفعهم اللَّه إلى درجته إقرارًا لعينه، وتكميلًا لنعيمه.
وقالت طائفة أخرى: الذرية ها هنا الصغار. والمعنى: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم في إيمان الآباء، والذرية تتبع الآباء -وإنْ كانوا صغارًا- في الإيمان وأحكامه، من الميراث والدية والصلاة عليهم، والدفن في قبور المسلمين، وغير ذلك؛ إلا فيما كان من أحكام البالغين،
…
قالوا: ويدل على صحة هذا القول: أنَّ البالغين لهم حكم أنفسهم في الثواب والعقاب، فإنَّهم مستقِلُّون بأنفسهم ليسوا تابعين الآباء في شيء من أحكام الدنيا، ولا أحكام الثواب والعقاب، لاستقلالهم بأنفسهم، ولو كان المراد بالذرية: البالغين؛ لكان أولاد الصحابة البالغون كلهم في درجة آبائهم، ويكون أولاد التابعين البالغين كلهم في درجة آبائهم، وهلم جرًّا إلى يوم القيامة، فيكون الآخرون في درجة السابقين.
(1)
جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم- (3/ 239):
قال ابن القيم: قلتُ: واختصاص الذُّرية ها هنا بالصغار أظهر لئلا يلزم استواء المتأخرين والسابقين في الدرجات، ولا يلزم مثل هذا في الصِّغار؛ فإنَّ أطفال كلِّ رجلٍ وذرِّيته معه في درجته، واللَّه أعلم ا. هـ
(1)
مساكن الجنة وقصورها وغرفها:
وفي الجنة لأهلها مساكنُ طيبةٌ وقصورٌ متنوعةٌ وغرفٌ مبنيةٌ
(2)
كما قال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72]
وكما قال تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ]
وكما قال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} [الزمر].
وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةً -وفي رواية: غُرَفاً- يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلَانَ الْكَلَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ»
(3)
.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةً -وفي رواية: غُرَفاً-، يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا» ، فَقَالَ أَبُو مالكٍ الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ لِلَّهِ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ»
(4)
(1)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (2/ 810) وانظر: الرسالة التبوكية زاد المهاجر إلى ربه - ت محمد جميل (ص 57)
(2)
قال الطبري: في تفسيره ت شاكر (19/ 321): (الْغُرْفَةَ) وهي منزلة من منازل الجنة رفيعة ا. هـ
(3)
أخرجه أحمد (22905) واللفظ له، وابن خزيمة (2137) -وقال إن صح الخبر-. وابن حبان (509) والطبراني في المعجم الكبير (3/ 301) رقم (3467). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (618، 947، 3718)
(4)
أخرجه أحمد (6615) -واللفظ له- والطبراني في المعجم الكبير (13/ 43) رقم (103). والحاكم في المستدرك (270، 1200) والبيهقي في شعب الإيمان (2825) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (617، 946، 2692، 3717) ووقع في المسند: (فَقَالَ أَبُو موسى الْأَشْعَرِيُّ) والمثبت من بقية المصادر.
وعن علي بن أَبِي طالب رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا» ، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نِيَامٌ»
(1)
.
وتقدم في مبحث درجات الجنة قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ:«بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ، وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ»
(2)
.
خيام الجنة:
قال نبينا صلى الله عليه وسلم «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمِ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» متفق عليه. وفي رواية لهما «
…
عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ، مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمِ الْمُؤْمِنُ» وفي رواية لهما: «الخَيْمَةُ دُرَّةٌ، (مُجَوَّفَةٌ)
…
، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا لِلْمُؤْمِنِ أَهْلٌ لَا يَرَاهُمُ الآخَرُونَ»
(3)
(1)
أخرجه التِرْمِذِيّ (1984)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الحَدِيثِ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ هَذَا مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ،
…
إلخ. ويشهد له ما قبله. ولذا حسنه الألباني في هداية الرواة (2/ 48).
(2)
صحيح البخاري (3265) وصحيح مسلم (2831) عَنْ أَبِي سعيد رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (3243، 4879)، ومسلم (2838) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
طيب ريح الجنة:
وللجنة ريحٌ طيبة مباركة وفي ذلك أحاديث منها:
1 -
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: رواه البخاري عنِ الحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»
(1)
.
وفي سنن ابن ماجه عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ لَمْ يَرَحْ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ»
(2)
وفي المسند عن شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فذكره وفيه: «
…
، وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (3166) ورواه الطبراني كما في «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم» (1/ 330) بلفظ: "
…
وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة مئة عام".» وسنده ضعيف. وفي سنن ابن ماجه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ فَتَجِدَ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» أخرجه ابن ماجه (2054) وسنده ضعيف؛ انظر: السلسلة الضعيفة (4777)
(2)
أخرجه ابن ماجه (2611) واختلف في تعيين عبد الكريم، هل هو الجزري الثقة، أو ابن أبي المخارق الضعيف. فرجح المنذري في الترغيب والترهيب ت عمارة (3/ 74)، والمزي في تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف (6/ 378) رقم (8922) أنه الجزري. وصحح البوصيري في زوائد ابن ماجه إسناده لذلك. وذكره شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (690) وقال: إسناده جيد ا. هـ ورجح الألباني أنه ابن أبي المخارق فقال متعقبا المنذري في صحيح الترغيب والترهيب» (2/ 438): الجزم بأنه الجزري فيه نظر، لأنه عند ابن ماجه (2611) عن محمد ابن الصباح: أنبأنا سفيان عن عبد الكريم عن مجاهد عن ابن عمرو. ومجاهد قد روى عنه الجزري هذا، وروى عنه عبد الكريم بن أبي أمية البصري، وهو ضعيف، وكل منهما روى عنه سفيان بن عيينة، وهو المراد هنا، وقد رواه الحكم بن عتيبة عن مجاهد بلفظ:"سبعين عاماً" كما تراه في رواية أحمد الصحيحة، وهذه مخالفة ظاهرة من عبد الكريم، وإذا كان من المحتمل أن يكون ابن أبي أمية الضعيف، فتعصيب المخالفة به أولى من تعصيبها بابن الجزري الثقة كما هو ظاهر لا يخفى بإذن الله تعالى ا. هـ وانظر: السلسلة الضعيفة (13/ 835).
(3)
مسند أحمد ط الرسالة (11/ 162 و 427) رقم (6592، 6834).
2 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا»
(1)
وفي الموطأ بسند صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه موقوفا- أَنَّهُ قَالَ: «نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ»
(2)
وفي سنن الترمذي بسند ضعيف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَلَا مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَقَدْ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ اللَّهِ، فَلَا يُرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»
(3)
وروى الطبراني عن عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(4)
ورجاله ثقات.
(1)
صحيح مسلم (2128).
(2)
موطأ مالك ت عبد الباقي (2/ 913) رقم: (7).
(3)
أخرجه الترمذي (1403) وقال: حديث حسن صحيح؛ وابن ماجه (2687) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (2581) وقال: على شرط مسلم ا. هـ وليس كذلك ففي إسناده معدي بن سليمان؛ قال أبو زرعة: واهي الحديث، يحدث عن ابن عجلان بمناكير ا. هـ وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائي: ضعيف ا. هـ
(4)
معجم الطبراني الأوسط (663، 8011) ورواه الإسماعيلي في معجمه (341)
3 -
حديث أبي بكرة رضي الله عنه:
رواه النسائي في الكبرى من طريق حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
(1)
وسنده ضعيف.
ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ به ولفظه: «
…
وَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ»
(2)
ورواه النسائي عن إِسْمَعِيلَ بنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ ثُرْمُلَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدَةً بِغَيْرِ حِلِّهَا، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أَنْ يَشُمَّ رِيحَهَا»
(3)
وهذا إسناد صحيح.
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى (8691) والحاكم في المستدرك (133) والحسن البصري رحمه الله مدلس وقد عنعن، ولذا ضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (6376) وفي سنده ومتنه اختلاف على حماد أشار إليه النسائي فقال: هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ حَدِيثُ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَابْنُ عُلَيَّةَ أَثْبَتُ مِنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَاللهُ أَعْلَمُ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَثْبُتُ مِنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ا. هـ قلت: حماد بن سلمة تابعه شريك بن الخطاب العنبري عن يونس به. رواه الحاكم (134). وتابعه أيضا مَخْلَدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، به. رواه ابن حبان (7383). والراوي عن مخلد: مسلم الجرمي وثقه الخطيب لكن قال ابن حبان في الثقات:
…
ربما أخطأ ا. هـ وقال الأزدي: حدث بأحاديث لا يتابع عليها ا. هـ وانظر: لسان الميزان ت أبي غدة (8/ 56). واختلف على حماد بن سلمة في سنده فقد رواه الإمام أحمد في المسند ط الرسالة (34/ 142 و 147) رقم (20506، 20515) قال: حَدَّثَنَا هَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكَرَةَ عن أبيه به نحوه. وابن زيد هو ابن جدعان. وخولف حماد بن سلمة؛ خالفه حماد بن زيد في متنه وابن علية في متنه وسنده. كما سيأتي.
(2)
أخرجه ابن حبان (7382). وتابعه معمر بن راشد فرواه كما في عبد الرزاق (19712) عَنْه، عَنْ قَتَادَةَ، أَوْ غَيْرِهِ، عَنِ الْحَسَنِ، به ولفظه:«إِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يَقْتُلُ نَفْسًا مُعَاهِدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَرِيحَهَا أَنْ يَجِدَهَا» . ورواه الإمام أحمد (20469) عن عبد الرزاق به وفيه عن قتادة وغير واحد. وفيه عنعنة الحسن كما تقدم.
(3)
أخرجه النسائي في المجتبى (4748) وأحمد في المسند (20397). وتابعه الثوري عن يونس. أخرجه أحمد (20383، 20523) وعبد الأعلى عن يونس رواه الحاكم (135). ورواه أيضا أحمد (20403) من حديث عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَوْشَنٍ الْغَطَفَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، به بلفظ:«مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أَنْ يَجِدَ رِيحَهَا» . ورجح البخاري في التاريخ الكبير (1/ 428) رواية بن ثرملة، وكذا النسائي كما تقدم وأبو علي الحافظ فيما نقله الحاكم في المستدرك (1/ 105) قال: قَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ يَحْكُمُ بِحَدِيثِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ، وَالَّذِي يَسْكُنُ إِلَيْهِ الْقَلْبُ أَنَّ هَذَا إِسْنَادٌ وَذَاكَ إِسْنَادٌ آخَرُ، لَا يُعَلِّلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَإِنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ إِمَامٌ». وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَيْضًا شَرِيكُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ شَيْخٌ ثِقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ا. هـ
4 -
حديث رجل من الصحابة رضي الله عنه:
وروى النسائي عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا»
(1)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وهذه الألفاظ لا تعارض بينها بوجه .... وريح الجنَّة نوعان: ريحٌ يوجد في الدنيا تشمُّه الأرواح أحيانًا ولا تدركه العبارة، وريح يُدرك بحاسة الشمِّ للأبدان، كما تشم روائح الأزهار وغيرها، وهذا يشترك أهل الجنَّة في إدراكه في الآخرة من قرب وبُعد، وأمَّا في الدنيا فقد يدركه من شاء اللَّهُ من أنبيائه ورسله ا. هـ
(2)
تربة الجنة:
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قالَ:
…
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ، مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: «لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا
(3)
الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ
(4)
، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ،
(1)
سنن النسائي (4749) من طريق شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، به والقاسم، قال ابن معين: لم نسمع أنه سمع من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ا. هـ وقال ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار: لا يصح له من صحابي لقى ا. هـ والحديث رواه الإمام أحمد في المسند الرسالة (27/ 135) رقم (16590) عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم به نحوه.
(2)
«حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم» (1/ 334).
(3)
"الملاط"، بكسر الميم وتخفيف اللام وآخره طاء مهملة: الطين الذي يجعل في البناء، يملط به الحائط، أي: يخلط.
(4)
"الأذفر" - بالذال المعجمة: المراد به طيب ريحه، قال ابن الأثير:"والذفر- بالتحريك- يقع على الطيب والكريه، ويفرق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به". وفي اللسان: "قال ابن الأعرابي: الذفر النتن، ولا يقال في شيء من الطيب "ذفر" إلا في المسك وحده".
وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ
…
» الحديث
(1)
وفي الصحيحين في حديث المعراج، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه كَانَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
…
فذكر الحديث وفي آخره قال صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ»
(2)
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ صَائِدٍ: «مَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ؟» قَالَ: دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ، مِسْكٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ:«صَدَقْتَ»
(3)
وفي رواية لمسلم: أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ، سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ:«دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ مِسْكٌ خَالِصٌ» .
قال النووي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّهَا فِي الْبَيَاضِ دَرْمَكَةٌ وَفِي الطِّيبِ مِسْكٌ وَالدَّرْمَكُ هُوَ الدَّقِيقُ الْحَوَارِيُّ الْخَالِصُ الْبَيَاضُ. قال: وَذَكَرَ مُسْلِمٌ الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سأل بن صياد عن تربة الجنة أو ابن صَيَّادِ سَأَلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَظْهَرُ. ا. هـ
(4)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ذهبت طائفة من السلف إلى أن تربتها متضمنة للنوعين المسك والزعفران
…
ويحتمل معنيين آخرين:
أحدهما: أن يكون التراب من زعفران فإذا عجن بالماء صار مسكا والطين ترابا
…
المعنى الثاني: أن يكون زعفرانا باعتبار اللون مسكا باعتبار الرائحة وهذا من أحسن شيء يكون البهجة والإشراق لون الزعفران والرائحة رائحة المسك وكذلك تشبهها بالدرمك وهو الخبز الصافي الذي يضرب لونه إلى صفرة مع لينها ونعومتها
…
إلخ
(5)
(1)
تقدم (ص: 351)
(2)
أخرجه البخاري (3342) ومسلم (163) وقوله: «جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ» أي قباب اللؤلؤ. شرح النووي (2/ 222).
(3)
أخرجه مسلم (2928)
(4)
شرح النووي على مسلم (18/ 52)
(5)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم (1/ 285)
ثمار الجنة:
ويكثر في الجنة الثمارُ المتنوعةُ كما قال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68]، {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ} يعني من جميع أصناف الفواكه، وأخصها النخل والرمان، اللذان فيهما من المنافع ما فيهما
(1)
.
وفي المستدرك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68] قَالَ: «نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ وَكَرَانِيفُهَا
(2)
ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَسَعَفُهَا
(3)
كِسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ أَوِ الدِّلَاءِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، وَلَيْسَ لَهَا عَجْمٌ»
(4)
وقال الله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} [الواقعة: 32 - 33]
قال الحافظ عماد الدين ابن كثير رحمه الله: أَيْ: وَعِنْدَهُمْ مِنَ الْفَوَاكِهِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ فِي الْأَلْوَانِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] أَيْ: يُشْبِهُ الشكلُ الشكلَ، وَلَكِنَّ الطَّعْمَ غيرُ الطَّعْمِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي ذِكْرِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى قَالَ: «فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَنَبْقُهَا مِثْلُ قلالَ هَجَرَ»
(5)
.
(1)
انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 507) وتفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 831).
(2)
الكرناف - بالضم والكسر للكاف-: أصول سعف النخل تبقى في الجذع بعد قطع السعف.
(3)
السَّعَفَاتُ جَمْعُ سَعَفَةٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهِيَ أغصانُ النَّخِيلِ. وَقِيلَ إِذَا يبسَت سميَت سَعَفَةً، وَإِذَا كَانَتْ رَطْبَةً فَهِيَ شَطْبَة ا. هـ من النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 368)
(4)
أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (3776) وعنه البيهقي في البعث والنشور (283) ورواه هناد في الزهد (99 و 107) وعبد الرزاق في التفسير (3115)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (48) وأبو نعيم في صفة الجنة (354، 406) وإسناده صحيح.
(5)
صحيح البخاري (3887)، من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه. ومسلم (162) من حديث أنس رضي الله عنه.
وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خُسِفَت الشَّمْسُ، .... وَفِيهِ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا
…
»
(1)
ولأَحْمَدَ عَنْ عَامِرُ بْنُ زَيْدٍ البَكَالي: أَنَّهُ سَمِعَ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدِ السُّلَمِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ:
جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَوْضِ وَذَكَرَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فِيهَا فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهَا شَجَرَةٌ تُدْعَى طُوبَى» فَذَكَرَ شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ،
قَالَ: أَيُّ شَجَرِ أَرْضِنَا تُشْبِهُ؟ قَالَ: «لَيْسَتْ تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ أَرْضِكَ» .
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أتيتَ الشَّامَ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «تُشْبِهُ شَجَرَةً بِالشَّامِ تُدْعَى الجَوزة، تَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ، وَيَنْفَرِشُ أَعْلَاهَا» . قَالَ: مَا عِظَمُ أَصْلِهَا؟ قَالَ: «لَوِ ارْتَحَلَتْ جَذعَة مِنْ إِبِلِ أَهْلِكَ مَا أَحَاطَتْ بِأَصْلِهَا حَتَّى تَنْكَسِرَ تَرْقُوَتُهَا هَرَمًا» .
قَالَ: فِيهَا عِنَبٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ؟ قَالَ: «مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، وَلَا يَفْتُرُ» .
قَالَ: فَمَا عظَم الحَبَّة؟ قَالَ: «هَلْ ذَبَحَ أَبُوكَ تَيْسًا مِنْ غَنَمِهِ قَطُّ عَظِيمًا؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَسَلَخَ إِهَابَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّكَ، فَقَالَ: اتَّخِذِي لَنَا مِنْهُ دَلْوًا؟» قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فَإِنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ لَتُشْبِعُنِي وَأَهْلَ بَيْتِي؟ قَالَ: «نَعَمْ وعامَّة عَشِيرَتِكَ»
(2)
.
وَقَوْلُهُ: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} أَيْ: لَا تَنْقَطِعُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، بَلْ أُكُلُهَا دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا، مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا، لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ شَيْءٌ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَنَاوُلِهَا عودٌ وَلَا شوكٌ وَلَا بُعدٌ.
(1)
صحيح البخاري (748)، وصحيح مسلم (907).
(2)
أخرجه أحمد (29/ 191) رقم (17642) وصححه ابن حبان (7414، 7416) وصححه الألباني في ظلال الجنة (716)، وفي التعليقات الحسان.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا تَنَاوَلَ الرَّجُلُ الثَّمَرَةَ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى»
(1)
.
(2)
وقال تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)} [ص].
أَيْ: مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا وَحَضَرَ كَمَا أَرَادُوا. {وَشَرَابٍ} أَيْ: مِنْ أَيِّ أَنْوَاعِهِ شَاءُوا أَتَتْهُمْ بِهِ الْخُدَّامُ ا. هـ
(3)
وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)} [الواقعة]. أي: ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار؛ فمهما تخيروا، وراق في أعينهم، واشتهته نفوسهم، من أنواع الفواكه الشهية، والجنى اللذيذ، حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه.
(4)
.
وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة]. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: - في تفسير قوله تعالى {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي شبيهه ونظيره لا عَيْنَهُ. وقال: ومعناه: إنَّه يشبه بعضه بعضًا، ليس أوَّله خَيْرًا من آخره، ولا هو ممَّا يَعْرض له ما يَعْرض لثمر الدنيا عند تقادم الشجر وكبرها من نقصان حملها، وصغر ثمرها وغير ذلك، بل أوَّله مثلُ آخره، وآخره مثل أوَّله، وهو خيار
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 102) رقم (1449) عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعَ مِنَ الْجَنَّةِ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى» وفي إسناده عباد بن منصور، قال الحافظ الضياء المقدسي في صفة الجنة (ص: 96): لا أعلم أنه روي إلا من هذا الطريق وعبّاد تكلم فيه بعض العلماء ا. هـ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 414): رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَزَّارُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: عِيدَ فِي مَكَانِهَا مِثْلَاهَا، وَرِجَالُ الطَّبَرَانِيِّ وَأَحَدُ إِسْنَادَيِ الْبَزَّارِ ثِقَاتٌ ا. هـ كذا قال، وتعقبه العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة (3146). وقال: عباد بن منصور ضعيف مدلس؛ كما قال الساجي وغيره ا. هـ وفي زوائد حسين المروزي ويحيى بن صاعد على الزهد والرقائق لابن المبارك (1489، 1490) عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: «نَخْلُ الْجَنَّةِ ثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ، كُلَّمَا نُزِعَتْ ثَمَرَةٌ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى»
…
فَقُلْنَا لِأَبِي عُبَيْدَةَ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ فَغَضِبَ، وَقَالَ: مَسْرُوقٌ.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 529 - 531)
(3)
المرجع السابق (7/ 78).
(4)
انظر: المرجع السابق (7/ 520) وتفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 833).
كله يشبه بعضه بعضًا
…
وأما قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} فقال الحسن: "خيارٌ كله لا رَذْل فيه، ألم تروا إلى ثمر الدنيا كيف يسترذلون بعضه، وأنَّ ذلك ليس فيه رذل"
(1)
. وقال قتادة: "خيارٌ لا رَذْلَ فيه، وإنَّ ثمار الدنيا ينفى منها، ويرذل منها"
(2)
…
وعلى هذا، فالمراد بالمُتَشَابه المُتَوافِق والمُتَماثِل. وقالت طائفة أخرى:
…
: "متشابهًا في الَّلون والمرأى، وليس يُشْبِهُ الطعمُ الطعمَ". قال مجاهد: "متشابهًا لونه مختلفًا طعمه
(3)
ا. هـ
(4)
وروى الطبري عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، أنه قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْرَجَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ زَوَّدَهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ، فَثِمَارُكُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ تَغَيَّرُ وَتِلْكَ لَا تَغَيَّرُ»
(5)
(1)
رواه الطبري = جامع البيان ط هجر (1/ 413)
(2)
المرجع السابق (1/ 414)
(3)
المرجع السابق (1/ 414)
(4)
«حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم» (1/ 365).
(5)
أخرجه الطبري في التفسير ط هجر (1/ 418) من طريق ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، وَعَبْدِ الْوَهَّابِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ،
والبزار (3030) من طريق ابن أبي عدي، والحاكم (3996) -ومن طريقه البيهقي في البعث والنشور (180) وابن عساكر في التاريخ (7/ 438) - من طريق هوذة بن خليفة عن عوف به. [ووقع في المستدرك: عن قسامة عن أبي بكر بن أبي موسى؛ وهو خطأ بينه العلامة أحمد شاكر في تحقيق التفسير (1/ 393) والصواب عن أبي موسى رضي الله عنه. وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 267) رقم (42) -ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره (417) - عن معمر؛ وابن الصواف في جزئه (22) ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه [كما في جامع الآثار لابن ناصر الدين (2/ 264)] عن محمد بن ميمون الزعفراني والدينوري في المجالسة (2808) -ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (7/ 410) - من طريق محمد بن ثور كلهم عَنْ عَوْفٍ، عَنْ قَسَامَةَ، عَنِ أبي موسى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه به. موقوفا. وخالفهم ربعي بن علية (وهو ثقة) -عند البزار (3029) والطبراني [كما في البداية والنهاية ط هجر (20/ 315)] والحسن بن فيل في جزئه (97) -، والعباس بن الفضل (وهو متروك) -عند الروياني (567) -، وإسحاق الأزرق (وهو ثقة) عند ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (108) - وأبو مسعود الزجاج ومعمر [كذا ولعل صوابه: معتمر]- عند ابن عساكر في التاريخ (64/ 37) بسند ضعيف- فرووه عن عوف به مرفوعا. وقال البزار: قد رواه غير واحد عن عوف
…
موقوفا ولا نعلم أحدا رفعه إلا ربعي ا. هـ والموقوف أرجح، ورجحه الألباني في السلسلة الضعيفة (6193) وقال العلامة أحمد شاكر في تحقيق تفسير الطبري (1/ 393): وهو وإن كان موقوفًا لفظًا فإنه مرفوع حكمًا، لأنه إخبار عن غيب لا يعلم بالرأي ولا القياس. والأشعري: هو أبو موسى، ولم يكن ممن يحكى عن الكتب القديمة ا. هـ
أشجار الجنة:
وفي الجنة أشجارٌ، وَرَدَ وَصْفُ بعضِها في السنة: فمن ذلك سدرةُ المنتهى التي أخبر الله عنها سبحانه بقوله: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم]. وفِي الصَّحِيحَيْنِ -كما تقدم- فِي ذِكْرِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى قَالَ: «فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَنَبْقُهَا مِثْلُ قلالَ هَجَرَ»
(1)
وفي الصحيح قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِئَةَ سَنَةٍ، وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} [الواقعة: 30]»
(2)
.
وللطبراني عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ أَعْرَابِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْمَعُكَ تَذْكُرُ شَجَرَةً فِي الْجَنَّةِ لَا أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا شَجَرَةً أَكْثَرَ شَوْكًا مِنْهَا يَعْنِي الطَّلْحَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ مِثْلَ خِصْيَةِ التَّيْسِ الْمَلْبُودِ
(3)
يَعْنِي الْمَخْصِيَّ فِيهَا سَبْعُونَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ لَا يُشْبِهُ لَوْنُهُ لَوْنَ الْآخَرَ»
(4)
شجرة طوبى:
وفي صحيح ابن حبان ومسند أحمد عن درَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا طُوبَى؟ قَالَ:«شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ مِائَةِ سَنَةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا»
(5)
.
(1)
تقدم قريبا.
(2)
أخرجه البخاري (3252)، ومسلم (2826) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
الملبود: الذي قد اجتمع شعره بعض على بعض وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر» (4/ 225): أَيِ المكْتَنِز اللَّحْم، الَّذِي لزِم بَعْضُه بَعْضاً فَتَلَبَّد ا. هـ
(4)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (17/ 130) رقم (318) وفي مسند الشاميين (492) -وعنه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 103) وفي صفة الجنة (347) -، وابن أبي داود في البعث (70) -ومن طريقه قوام السنة في الترغيب والترهيب (1007) والذهبي في سير أعلام النبلاء - ط الرسالة (12/ 96) - وقال الذهبي: حسن غريب.
(5)
أخرجه أحمد (11673) من طريق ابن لهيعة، وابن حبان (2625) من طريق عمرو بن الحارث كلاهما عن دراج به. وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1985).
وروى الطبري بسند ضعيف جدا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)} [الرعد: 29]«شَجَرَةُ غَرَسَهَا اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ بِالْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ، وَإِنَّ أَغْصَانَهَا لَتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ»
(1)
وروى ابن أبي الدنيا في صفة الجنة بسند ضعيف عن أبي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا انْطُلِقَ بِهِ إِلَى طُوبَى، فَتَفْتَحُ لَهُ أَكْمَامَهَا فَيَأْخُذُ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ شَاءَ، إِنْ شَاءَ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَحْمَرَ، وَإِنْ شَاءَ أَخْضَرَ وَإِنْ شَاءَ أَسْوَدَ مِثْلَ شَقَائِقِ النُّعْمَانِ وَأَرَقَّ وَأَحْسَنَ»
(2)
وفي تفسير عبد الرزاق عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، يَقُولُ اللَّهُ لَهَا تَفَتَّقِي لِعَبَادِي عَمَّا شَاءُوا فَتَتَفَتَّقُ لَهُمْ عَنِ الْخَيْلِ بِسُرُوجِهَا، وَلُجْمِهَا، وَعَنِ الْإِبِلِ بِرِحَالِهَا، وَأَزِمَّتِهَا وَعَمَّا شَاءُوا مِنَ الْكِسْوَةِ»
(3)
سِيقانُ أشجارِ الجنة من ذَهَبٍ:
روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلَّا وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ»
(4)
.
غراس الجنة:
وحثَّنا النبي عليه الصلاة والسلام على أن نستكثر من غراس الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم:
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (13/ 528) وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة (3830).
(2)
صفة الجنة لابن أبي الدنيا ت سليم (142) قال الألباني في: ضعيف الترغيب والترهيب (2/ 485): في إسناده سعيد بن يوسف -وهو الرحبي-، وأبو عتبة -واسمه أحمد بن الفرج الحمصي-، وهما ضعيفان ا. هـ قلت: أبو عتبة في سنده: هو الحسن بن علي السكوني، ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه أبو حاتم وقال كان يعد من الأبدال وكان من أفاضل أهل حمص ا. هـ[«الجرح والتعديل لابن أبي حاتم» (3/ 21)]
(3)
تفسير عبد الرزاق (1376)
(4)
أخرجه الترمذي (2525) وقال: حسن غريب. وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3732): حسن صحيح.
(1)
.
وفي سنن ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا، فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الَّذِي تَغْرِسُ؟» قُلْتُ: غِرَاسًا لِي، قَالَ:«أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ لَكَ مِنْ هَذَا؟» قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ»
(2)
- فما أعظم تفريطنا يا عباد الله!! -
طيور الجنة ودوابُّها:
وفي الجنة دوابُّ وطيورٌ لا يعلمها إلا الله، يقول سبحانه:{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)} [الواقعة: 21]. وتقدم معنا حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا الكَوْثَرُ؟ قَالَ: «ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ - يَعْنِي فِي الجَنَّةِ -[تُرَابُهُ الْمِسْكُ مَاؤُهُ] أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ، فِيهَا طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الجُزُرِ» قَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا» رواه الترمذي وغيره
(3)
وفي الصحيح أن رجلا جاء بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقِةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ»
(4)
.
أنهار الجنة وعيونها:
وفي الجنة أنهار كما ورد ذلك في آيات كثيرة، يقول الله -جل وعلا-:
(1)
أخرجه الترمذي (3462) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1550)
(2)
سنن ابن ماجه (3807). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1549)
(3)
تقدم تخريجه (6/ 324)
(4)
أخرجه مسلم (1892) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] وتأملوا فاتحة الآية، يقول الله لنبيه:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بشِّر المؤمنين بالجنة؛ وبشِّرهم أنها جنةٌ تجري من تحتها الأنهار وأنها جنةُ لا مثل لها.
يقول الله -جل وعلا-: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15].
ومن أنهار الجنة الكوثر: الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في الحديث عن الحوض.
وتكرَّر في القرآن في ثلاثة وثلاثين موضعا من كتاب الله: قوله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [أولها في سورة البقرة: 25، وآخرها في سورة البينة: 8]،
وفي موضع: {جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 100]،
وفي ثلاثة مواضع: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف: 43، يونس: 9، الكهف: 31].
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا يدلُّ على أمور:
أحدها: وجود الأنهار فيها حقيقة.
الثاني: أنَّها جارية لا واقفة.
الثالث: أنَّها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم، كما هو المعهود في أنهار الدنيا ا. هـ
(1)
(1)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (1/ 374)
قال ابن القيم رحمه الله: فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة، ونفى عن كلِّ واحدٍ منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أنْ يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة، وأنْ يصير قارصًا، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذَّة شربها، وآفة العسلِ عدم تصفيته. وهذا من آيات الرب تعالى أنْ يُجري أنهارًا من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها، ويُجْرِيْها في غير أخدود، وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللَّذة بها
…
فإنْ قيل: فقد وصفَ سبحانه الأنهارَ بأنَّها جارية، ومعلوم أنَّ الماء الجاري لا يأسن، فما فائدة قوله:{غَيْرِ آسِنٍ} ؟ قيل: الماء الجاري وإنْ كان لا يأسَن، فإنَّه إذا أُخِذَ منه شيء وطال مكثه أسن، وماء الجَنَّة لا يَعْرض له ذلك، ولو طال مكثه ما طال
…
قال: وتأمَّل اجتماع هذه الأنهار الأربعة، التي هي أفضل أشربة النَّاس، فهذا لريِّهم وطهورهم، وهذا لقوَّتهم وغذائهم، وهذا للذَّتهم وسرورهم، وهذا لشفائهم ومنفعتهم ا. هـ
(1)
قال: وأنهار الجنَّة تتفجَّر من أعلاها، ثمَّ تنحدر نازلةً إلى أقصى درجاتها: كما روى البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، بَيْنَ كُلُّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ وسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ»
(2)
…
وذكر مسروق عن عبد اللَّهِ -يعني ابن مسعود رضي الله عنه، قال:«إِنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَفَجَّرُ مِنْ جَبَلِ مِسْكٍ» . وهذا موقوفٌ صحيح
(3)
(1)
المرجع السابق (1/ 378)
(2)
صحيح البخاري (2790، 7423)
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (33958)، وهناد في الزهد (94) وابن أبي حاتم في تفسيره (254)، والبيهقي في البعث والنشور (267)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَلَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ أُخْدُودٌ فِي الْأَرْضِ لَا وَاللَّهِ إِنَّهَا لَسَائِحَةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، أَحَدُ حَافَّتَيْهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْأُخْرَى الْيَاقُوتُ وَطِينُهُ الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ» ، قُلْتُ: مَا الْأَذْفَرُ؟ قَالَ: «الَّذِي لَا خِلْطَ لَهُ»
(1)
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ»
(2)
. وفي رواية لأحمد: «فُجِّرَتْ أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنَ الْجَنَّةِ: الْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ»
(3)
قال النووي رحمه الله: فِيهِ تَأْوِيلَانِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي عِيَاضُ
…
الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّ لَهَا مَادَّةٌ مِنَ الْجَنَّةِ
…
وقد ذكر مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ الْفُرَاتَ وَالنِّيلَ يَخْرُجَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِي البخاري: من أصل سدرة المنتهى
(4)
ا. هـ
(5)
وقال الألباني رحمه الله: هذا ولعل المراد من كون هذه الأنهار من الجنة أن أصلها منها كما أن أصل الإنسان من الجنة، فلا ينافي الحديث ما هو معلوم مشاهد من أن هذه الأنهار تنبع من منابعها المعروفة في الأرض، فإن لم يكن هذا هو المعنى أو ما يشبهه، فالحديث من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها، والتسليم للمخبر عنها ا. هـ
(6)
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (66) وأبو نعيم في صفة الجنة (316) وصححه الألباني في الصحيحة (6/ 48) وقال: وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي ا. هـ وانظر: صحيح الترغيب (3723)
(2)
صحيح مسلم (2839)
(3)
مسند أحمد (12/ 506 رقم 7544) وسنده حسن.
(4)
يشير إلى حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رضي الله عنه، في قصة الإسراء والمعراج فذكر الحديث وَقَالَ: وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، «أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الْأَنْهَارُ؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ،
…
» الحديث رواه البخاري (3887)، ومسلم (164). وفي رواية للبخاري (3207): «وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهَى،
…
فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: أَمَّا البَاطِنَانِ: فَفِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: النِّيلُ وَالفُرَاتُ» ا. هـ
(5)
شرح النووي على مسلم (17/ 177)
(6)
سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 229)
العيون في الجنة:
وفي الجنة عيونٌ كثيرةٌ مختلفةُ الطعوم والمشارب:
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45، الذاريات: 15]
وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)} [الدخان]، وقال سبحانه:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)} [المرسلات]
ويقول سبحانه: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50)} [الرحمن].
ويقول في الجنتين دونهما: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)} [الرحمن].
ومن تلك العيون: عينُ الكافور: قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} [الإنسان]. أي: يشربونها خالصًة.
ومن تلك العيون: عينُ التسنيم: قال الله: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين]. ومن عيون الجنة: السلسبيلُ: كما قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)} [الإنسان].
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: فأما العيون، فهي عيون الماء، والخمر، والسلسبيل، والتسنيم، وغير ذلك مما ذُكر أنه من شراب الجنة ا. هـ
(1)
وقال القرطبي رحمه الله: هِيَ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ: مَاءٌ وَخَمْرٌ وَلَبَنٌ وَعَسَلٌ ا. هـ
(2)
وقال فخر الدين الرازي رحمه الله: يحتمل أن يكون المراد منها -الأنهار الأربعة- ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار ا. هـ
(3)
(1)
زاد المسير في علم التفسير (2/ 535)
(2)
تفسير القرطبي (10/ 32)
(3)
تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (19/ 147)
وقال الحكيم الترمذي رحمه الله: وأما الأنهار: فهو ما ذكره الله في التنزيل: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15]، فهذه أربعة أصناف تجري في أنهارها لعامة أهل الجنة في غير أخدود.
وأما العيون: فهي أربعة: تسنيم، وزنجبيل، وكافور، وسلسبيل.
فأما الأبرار: فلهم الكافور خاصة، والأبرار: الصادقون. وأما المقربون: فلهم التسنيم، وهو الصديقون، فذكرهم الله في تنزيله، فقال:{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)} [الإنسان]، والكأس: الخمر، فيمزج الخمر لهم بالكافور، ثم وصف الكافور، فقال:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} [الإنسان]. فهذا لهم خاصة، ويمزج من الكافور لسائر أهل الجنة أشربتهم، فأما الشرب، فهو للأبرار، وهم عباد الله، ثم قال في قصتهم:{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)} [الإنسان]، فأخبر أن للأبرار منها مزاجاً تمزج أشربتهم من الزنجبيل، ولم يذكر أنها لهم شرب كما ذكر الكافور. ثم قال في سورة أخرى: إن الأبرار {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين]، ثم قال:{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)} [المطففين]، فأخبر أن للأبرار منها مزاجاً يمزج أشربتهم من التسنيم، ثم أخبر عن التسنيم لمن هي لهم مشرب، فقال:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين]، فأخبر أن هذه العين التي اسمها التسنيم هي للمقربين خاصة شرباً، كما أخبر هناك أن الكافور عيناً للأبرار شرباً. وإنما سمي تسنيماً، لأنه أشرف شراب في الجنة وأعلى، مأخوذ من السنام، فقد تسنم العيون والمياه، وأشرف عليهم، تجري من أعلى العرش. تحقق ذلك مما رواه أبو مقاتل، عن صالح بن سعيد، عن أبي سهل، عَنِ الْحَسَنِ -رحمة الله عليه-، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعُ عُيُونٍ فِي الْجَنَّةِ عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ تَحْتَ الْعَرْشِ إِحْدَاهُمَا الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} [الإنسان]، وَالْأُخْرَى زَنْجَبِيلٌ؛ وَ {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 66] مِنْ فَوْقِ
الْعَرْشِ إِحْدَاهُمَا الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ {سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 18] وَالْأُخْرَى التَّسْنِيمُ للمُقَرَّبينَ.
(1)
. فالتسنيم خاصة شرباً لهم، والكافور للأبرار خاصة شرباً لهم، ويمزج للأبرار من التسنيم بشرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل، فللأبرار منها مزاج، هكذا ذكره في التنزيل، وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب لهم، ولا نعلم أهل عليين إلا هذين النصفين: المقربون، والأبرار، فالمقربون: الصديقون، والأبرار: الصادقون، فما كان للأبرار مزاجاً، فهو للمقربين صرفاً، وما كان للأبرار صرفاً، فهو لسائر أهل الجنة مزاج. ".
(2)
وقال ابن القيم رحمه الله: في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)} [الإنسان]، فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين. ثمَّ قال:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} [الإنسان]، فهؤلاء المقربون السابقون، ولهذا خصَّهم بالإضافة إليه، وأخبرَ أنَّهم يشربون بتلك العين صِرفًا محضًا، وأنَّها تُمزَج للأبرار مزجًا: كما قال في سورة المطففين في شراب الأبرار: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين]. وقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين]، ولم يقل:"منها"، إشعارًا بأنَّ رِيَّهم بالعينِ نفسِها خالصةً لا بها وبغيرها. فضمّن "يشرب" معنى "يروى"، فعدَّى بالباء. وهذا ألطف مأخذًا وأحسن معنى من أن تُجعل الباءُ بمعنى "من"، ولكن يُشرَب الفعلُ معنى فعل آخرَ فيعدَّى تعديته. وهذه طريقة الحذَّاق من النحاة، وهي طريقة سيبويه وأئمة أصحابه. وقال في الأبرار:{مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)} ، لأنَّ شرب المقربين لمَّا كان أكمل استعير له الباء الدَّالّة على شرب الري بالعينِ خالصةً. ودلالة القرآن ألطف وأبلغ من أن يحيط بها البشر
…
ثمَّ ذكرَ شرابهم يعني المقربين فقال:
(1)
الحديث ضعيف مرسل. قال البخاري في التاريخ الكبير (4/ 282): صالح بْن سَعِيد عَنِ الْحَسَن عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وعَنْ أَبِي سهل عَنِ الْحَسَن، مرسل، سَمِعَ منه إِسْحَاق بْن سُلَيْمَان ا. هـ
(2)
نوادر الأصول في أحاديث الرسول ط النوادر (3/ 42) النسخة المسندة ت توفيق تكلة.
{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين]. ثمَّ قال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين]، والتسنيم أعلى أشربة الجنَّة. فأخبر سبحانه: أنَّ مزاجَ شراب الأبرار من التسنيم، وأنَّ المقرَّبين يشربون منه بلا مزاج. ولهذا قال:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين] كما قال في سورة الإنسان سواءً. قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفًا، وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا. وهذا لأنَّ الجزاء وفاقُ العملِ، فكما خلصت أعمالُ المقربين كلُّها للَّه، خلص شرابهم؛ وكما مزَجَ الأبرارُ الطاعاتِ بالمباحات، مُزِجَ لهم شرابُهم. فمن أخلصَ أُخلِصَ شرابُه، ومن مزَج مُزِج شرابُه ا. هـ
(1)
وقال رحمه الله: أخبر سبحانه عن مزاج شرابهم بشيئين؛ بالكافور في أوَّل السُّورة، والزنجبيل في آخرها، فإنَّ في الكافور من البرد وطيب الرَّائحة، وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرَّائحة، وما يحدث لهم باجتماع الشَّرابين -ومجيء أحدهما على إثر الآخر- حالةً أخرى أكمل وأطيب وألذ من كلٍّ منهما بانفراده، وتعتدل كيفية كل منهما بكيفية الآخر، وما ألطف موقع ذكر الكافور في أوَّل السورة، والزنجبيل في آخرها، فإنَّ شرابهم مُزِج أوَّلًا بالكافور، وفيه من البرد ما يجيء الزنجبيل بعده فيعدله. والظَّاهرُ أنَّ الكأس الثانية غير الأولى، وأنَّهما نوعان لذيذان من الشراب، أحدهما: مُزِجَ بكافور، والثاني: مُزِجَ بزنجبيل. وأيضًا؛ فإنَّه سبحانه أخبر عن مَزْجِ شرابهم بالكافور وبَرْدِهِ في مقابلة ما وصفهم به من حرارة الخوف، والإيثار، والصبر، والوفاءِ بجميع الواجبات التي نبَّهَ بوفائهم بأضعفها، وهو ما أوجبوه على أنفسهم بالنَّذْرِ على الوفاءِ بأعلاها، وهو ما أوجبه اللَّهُ عليهم، ولهذا قال:{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)} [الإنسان: 12]، فإنَّ في الصَّبر من الخشونة وحبس النَّفس عن شهواتها؛ ما اقتضى أنْ يكون في جزائهم من سعة الجنَّة، ونعومة الحريرِ ما يقابل ذلك الحبس والخشونة، وجمع لهم بين النضرة والسرور، هذا جمال
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم- (1/ 423)
ظواهرهم، وهذا جمال بواطنهم، كَمَا جمَّلُوا في الدنيا ظواهرهم بشرائع الإسلام، وبواطنهم بحقائق الإيمان ا. هـ
(1)
طعام أهل الجنة وشرابهم:
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)} [الطور].
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [المرسلات]
وفي صحيح مسلم عَنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ» قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: «جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ»
(2)
وفي المسند عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ؟ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنْ أَقَرَّ لِي بِهَذِهِ خَصَمْتُهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ» . قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حَاجَةُ أَحَدِهِمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ، فَإِذَا الْبَطْنُ قَدْ ضَمُرَ»
(3)
وروى الطبري في تفسيره عَنْ أَبِيْ أُمَامَةَ رضي الله عنه قالَ:
(1)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (1/ 392)
(2)
صحيح مسلم (2835)
(3)
مسند أحمد ط الرسالة (32/ 18) رقم (19269) وصححه ابن حبان (7424) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3739)، وشيخنا العلامة أبو عبد الرحمن الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (653).
(1)
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَكْفَؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ، كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ
(2)
، نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ
(3)
» قَالَ: فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ، أَبَا الْقَاسِمِ أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ:«بَلَى» قَالَ: تَكُونُ الْأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً - كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ؟ قَالَ: «بَلَى» قَالَ: إِدَامُهُمْ بَالَامُ وَنُونٌ، قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ -أي اليهودي-: «ثَوْرٌ وَنُونٌ، يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا»
(4)
وفي صحيح مسلم أَنَّ ثَوْبَانَ رضي الله عنه مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ
…
فذكر الحديث وفيه: قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ» ، قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قَالَ: «يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا» قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» قَالَ: صَدَقْتَ .... الحديث
(5)
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (20/ 646) وروى ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (128) آخره وجود إسناده المنذري وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3738).
(2)
قال الحافظ في فتح الباري (11/ 373): قَالَ الْخَطَّابِيُّ يَعْنِي خُبْزَ الْمَلَّةِ الَّذِي يَصْنَعُهُ الْمُسَافِرُ فَإِنَّهَا لَا تُدْحَى كَمَا تُدْحَى الرُّقَاقَةُ وَإِنَّمَا تُقَلَّبُ عَلَى الْأَيْدِي حَتَّى تَسْتَوِيَ وَهَذَا عَلَى أَنَّ السَّفَرَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ جَمْعُ سُفْرَةٍ وَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُتَّخَذُ لِلْمُسَافِرِ وَمِنْهُ سُمِّيَتِ السُّفْرَةُ ا. هـ
(3)
قال الحافظ في فتح الباري (11/ 373): النُّزُلُ بِضَمِّ النُّونِ وَبِالزَّايِ وَقَدْ تُسَكَّنُ مَا يُقَدَّمُ لِلضَّيْفِ وَلِلْعَسْكَرِ يُطْلَقُ عَلَى الرِّزْقِ وَعَلَى الْفَضْلِ وَيُقَالُ أَصْلَحَ لِلْقَوْمِ نُزُلَهُمْ أَيْ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغِذَاءِ وَعَلَى مَا يُعَجَّلُ لِلضَّيْفِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَهُوَ اللَّائِقُ هُنَا ا. هـ
(4)
صحيح البخاري (6520) وصحيح مسلم (2792).
(5)
صحيح مسلم (315).
وفي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه في قصة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه أنه قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ
…
ومنها: وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ؟
…
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «
…
وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ
…
»
(1)
وتقدم معنا حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا الكَوْثَرُ؟ قَالَ: «ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ - يَعْنِي فِي الجَنَّةِ -[تُرَابُهُ الْمِسْكُ مَاؤُهُ] أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ، فِيهَا طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الجُزُرِ» قَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا» رواه الترمذي وغيره
(2)
وروى البيهقي في البعث والنشور عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)} [الصافات] يَقُولُ: «الْخَمْرُ» ، وَقَوْلُهُ:{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)} [الصافات]، يَقُولُ:«لَيْسَ فِيهَا مِنْهَا صُدَاعٌ» ، وَفِي قَوْلِهِ:{يُنْزَفُونَ} يَقُولُ: «لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ» ، وَقَوْلُهُ:{وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)} [النبأ]، يَقُولُ:«مُمْتَلِئًا» . وَقَوْلُهُ: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)} [المطففين]، يَقُولُ:«الْخَمْرُ خُتِمَ بِالْمِسْكِ»
(3)
.
وفي صحيح البخاري عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)} [النبأ]، قَالَ:«مَلْأَى مُتَتَابِعَةً» قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِي الجَاهِلِيَّةِ: «اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا»
(4)
وفي المستدرك على الصحيحين عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)} [النبأ]؛ قَالَ: «هِيَ الْمُتَتَابِعَةُ الْمُمْتَلِئَةُ» قَالَ: وَرُبَّمَا سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ رضي الله عنه يَقُولُ: «اسْقِنَا وَادْهَقْ لَنَا»
(5)
(1)
صحيح البخاري (3329، 3938، 4480).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
البعث والنشور (322) ورواه لطبري في التفسير مفرقا، ط هجر (19/ 532 و 535) و (24/ 40 و 217).
(4)
صحيح البخاري (3839، 3840).
(5)
المستدرك على الصحيحين (3891) -وعنه البيهقي البعث والنشور (323) - وأخرجه المحاملي في الأمالي المحاملي رواية ابن يحيى البيع (21). وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وتعقبه الحافظ في إتحاف المهرة (7/ 585) فقال: قلت: بل أخرجه البخاري ا. هـ
وقال عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:{خِتَامُهُ مِسْكٌ} قَالَ: «خِلْطُهُ وَلَيْسَ بخَاتِمٍ يُخْتَمُ»
(1)
قال ابن القيم رحمه الله: قلت: يريد -واللَّه أعلم- أن آخره مسك يخالطه فهو من الخاتمة، ليس من الخاتم ا. هـ
(2)
من صفة أهل الجنة:
قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف: 43] وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ، وَلَا تَبَاغُضَ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الْحُسْنِ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا لَا يَسْقَمُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَبْصُقُونَ،
…
» الحديث
(3)
.
وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ «خَلَقَ اللهُ عز وجل آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا،
…
فذكر الحديث ثم قَالَ: فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدَهُ حَتَّى الْآنَ»
(4)
.
وفي المسند: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا، مُرْدًا، بِيضًا، جِعَادًا، مُكَحَّلِينَ، أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى خَلْقِ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا
…
»
(5)
(1)
رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق ت الأعظمي (الملحق/ 78) -ومن طريقه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (125) -؛ وابن وهب في تفسيره (334)، والطبري في التفسير ط هجر (24/ 216)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 219) رقم (9062) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (3909) وصححه، -وعنه البيهقي في البعث والنشور (324) -.
(2)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (1/ 402)
(3)
أخرجه البخاري (3246) واللفظ له، ومسلم (2834) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (3326) ومسلم (2814).
(5)
مسند أحمد (7933) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وسنده ضعيف فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وله شاهد من حديث شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، مرفوعا:«يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ بَنِي ثَلَاثِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ» وقال الألباني في الصحيحة (6/ 1224): حسنه الترمذي وهو صحيح بمجموع طرقه وشواهده ا. هـ وانظر: صحيح الترغيب والترهيب (3699)
وفي المعجم الكبير للطبراني أَنَّ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِي كَرِبٍ رضي الله عنه حَدَّثَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ سِقْطًا وَلَا هَرِمًا - وَإِنَّمَا النَّاسُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ - إِلَّا بُعِثَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانَ عَلَى مَسْحَةِ آدَمَ، وصُورَةِ يُوسُفَ، وَقَلَبِ أَيُّوبَ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عُظِّمُوا وَفُخِّمُوا كَالْجِبَالِ»
(1)
وفي رواية للبيهقي في البعث: «يُحْشَرُ مَا بَيْنَ السِّقْطِ إِلَى الشَّيْخِ الْفَانِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ فِي خَلْقِ آدَمَ، وَحُسْنِ يُوسُفَ، وَقَلْبِ أَيُّوبَ مُرْدًا مُكَحَّلِينَ أُولِي أَفَانِينَ» ، قَالَ: فَقُلْنَا: فَكَيْفَ بِالْكَافِرِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: «يَعْظُمُ لِلنَّارِ حَتَّى يَصِيرَ جِلْدُهُ أَرْبَعِينَ بَاعًا، وَحَتَّى يَصِيرَ نَابٌ مِنْ أَنْيَابِهِ مِثْلَ أُحُدٍ»
(2)
وروى ابن أبي داود في البعث عن هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُبْعَثُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فِي مِيلَادِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، جُرْدًا، مُرْدًا، مُكَحَّلِينَ، ثُمَّ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ، فَيُكْسَوْنَ مِنْهَا، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ»
(3)
(1)
المعجم الكبير (20/ 280) رقم (663) ورواه البيهقي في البعث والنشور (422). وفي رواية للطبراني (20/ 280) رقم (664): «يُحْشَرُ مَا بَيْنَ السِّقْطِ إِلَى الشَّيْخِ الْفَانِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ، وَقَلْبِ أَيُّوبَ، وَحُسْنِ يُوسُفَ مُرْدًا مُكَحَّلِينَ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَكَيْفَ بِالْكَافِرِ؟ قَالَ:«يَعْظُمُ لِلنَّارِ حَتَّى يَصِيرَ غِلَظُ جِلْدِهِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَقَرِيضَةُ النابِ مِنْ أَسْنَانِهِ مِثْلُ أُحُدٍ»
(2)
البعث والنشور للبيهقي (421) ورواه أبو يعلى -كما في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (18/ 724) رقم (4626) - وأبو نعيم الأصبهاني في صفة الجنة (258) والحديث حسنه لشواهده الألباني في السلسلة الصحيحة (2512)
(3)
البعث لابن أبي داود (65) -ومن طريقه أبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (582) وأبو نعيم في الحلية (3/ 65) وفي صفة الجنة (255 و 262) -، ورواه أبو الفضل الزهري في حديثه (46)، والبيهقي في البعث والنشور (418) وهارون اختلف في سماعه من أنس. لكنه في الشواهد.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عَنْ " أَطْفَالِ الْمُؤْمِنِينَ " هَلْ يَدُومُونَ عَلَى حَالَتِهِمْ الَّتِي مَاتُوا عَلَيْهَا؟ أَمْ يَكْبَرُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ؟ وَكَذَلِكَ الْبَنَاتُ هَلْ يَتَزَوَّجْنَ؟ فأجاب:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، إذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ دَخَلُوهَا كَمَا يَدْخُلُهَا الْكِبَارُ «عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ»
(1)
وَيَتَزَوَّجُونَ كَمَا يَتَزَوَّجُ الْكِبَارُ. وَمَنْ مَاتَ مِنْ النِّسَاءِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْنَ فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ فِي الْآخِرَةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ يَتَزَوَّجُ فِي الْآخِرَةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ا. هـ
(2)
لسان أهل الجنة:
قال ابْنُ شِهَابٍ الزهري: لِسَانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ
(3)
. وروي عن ابن عباس لكن بسند ضعيف جدا
(4)
وروي عنه مرفوعا ولا يصح أيضا
(5)
. وقال الإمام ابن تيمية: لَا يُعْلَمُ بِأَيِّ لُغَةٍ يَتَكَلَّمُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ -يعني يوم القيامة- وَلَا بِأَيِّ لُغَةٍ يَسْمَعُونَ خِطَابَ الرَّبِّ -جل وعلا-؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْنَا بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا رَسُولُهُ عليه الصلاة والسلام وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ الْفَارِسِيَّةَ لُغَةُ الجهنميين وَلَا أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ لُغَةُ أَهْلِ النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ وَلَا نَعْلَمُ نِزَاعًا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بَلْ كُلُّهُمْ يَكُفُّونَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ فُضُولِ الْقَوْلِ
…
-وذكر الأقاويل في هذا ثم قال: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا حُجَّةَ لِأَرْبَابِهَا لَا مِنْ طَرِيقِ عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ بَلْ هِيَ دَعَاوَى عَارِيَةٌ عَنْ الْأَدِلَّةِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ ا. هـ
(6)
(1)
قوله: "في عرض سبعة أذرع" ورد في حديث المسند المتقدم وحذفها الشيخ الألباني من الحديث في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 492) وقال: حذفتها لأني لم أجد لها شاهداً ا. هـ
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 310)
(3)
أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق ت الأعظمي (الملحق/ 71) وابن أبي الدنيا في صفة الجنة لابن أبي الدنيا ت سليم (209)
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة لابن أبي الدنيا ت سليم (208) وفي سنده الواقدي وهو متروك.
(5)
أخرجه الطبراني في الأوسط (5583) وفي الكبير (11/ 185) وأبو نعيم الأصبهاني في صفة الجنة (268)
(6)
مجموع الفتاوى (4/ 301)
أهل الجنة لا ينامون:
قال العلامة ابن عثيمين: والعُلَماء رحمهم الله يقولون: إنَّ النَّوْمَ أَخو الموتِ، وقد نفى الله عَنْهُمُ المَوْتَ فإذا انتفى المَوْتُ فإنَّ النَّوْمَ يَنْتَفي أيضًا، لأنَّه وفاةٌ صُغْرى ا. هـ
(1)
وقد روى الطبراني في المعجم الأوسط عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: سُئِلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ»
(2)
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا واستقبال أهل الجنة:
وفي زوائد المروزي على الزهد والرقائق لابن المبارك عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، رضي الله عنه قَالَ:[إنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ هَكَذَا بَعْضُهَا فَوقَ بَعْضٍ ثم قرأ {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}] وقال فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 73]: " سِيقُوا حَتَّى إِذَا انْتَهَوْا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَجَدُوا عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ سَاقِهَا عَيْنَانِ، فَغُمِسُوا فِي إِحْدَاهُمَا كَأَنَّمَا أُمِرُوا بِهَا، فَاطَّهَّرُوا مِنْهَا فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، فَلَنْ تُغَبَّرَ أَبْشَارُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَنْ تَشْعَثَ أَشْعَارُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا، كَأَنَّمَا دُهِنُوا بِالدِّهِانِ، ثُمَّ غُمِسُوا فِي الْأُخْرَى كَأَنَّمَا أُمِرُوا بِهَا، فَشَرِبُوا مِنْهَا فَأَذْهَبَتْ مَا كَانَ فِي بُطُونِهِمْ مِنْ أَذًى وَقَذًى، وَتَلَقَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر] ثُمَّ أَتَاهُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ يَسْتَقْبِلُونَهُمْ أَنْ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} ؛ ثُمَّ يَتَلَقَّاهُمُ الْوِلْدَانُ فَيَعْرِفُونَهُمْ وَيَفْرَحُونَ بِهِمْ، كَمَا يَفْرَحُ الْوِلْدَانُ بِالْحَمِيمِ إِذَا جَاءَهُمْ مِنَ الْغَيْبَةِ، [وفي رواية: وَيَتَلَقَّى كُلُّ غِلْمَانٍ صَاحِبَهُمْ يُطِيفُونَ بِهِ فِعْلَ الْوِلْدَانِ بِالْحَمِيمِ يَقْدَمُ مِنَ الْغَيْبَةِ، يَقُولُونَ: أَبْشِرْ قَدْ أَعَدَّ اللَّهُ
(1)
تفسير العثيمين: فاطر (ص 251)
(2)
المعجم الأوسط (919، 8816) واختلف في وصله وإرساله، ورجح ابن أبي حاتم كما في العلل لابنه (2147) والدارقطني في العلل (3215) إرساله وانظر: الضعفاء الكبير للعقيلي (2/ 301) وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (3/ 74) رقم (1087).
لَكَ مِنَ الْكَرَامَةِ كَذَا] ثُمَّ يَذْهَبُ بَعْضُ الْوِلْدَانِ إِلَى أَزْوَاجِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فَيُبَشِّرُ فَيَقُولُ: هَذَا فُلَانٌ بِاسْمِهِ فِي الدُّنْيَا، فَتَقُولُ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَسْتَخِفُّهَا الْفَرَحُ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، فَيَجِيءُ فَيَدْخُلُ، فَإِذَا نَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى تَأْسِيسِ بُنْيَانِهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أُسِّسَ عَلَى جَنْدَلِ اللُّؤْلُؤِ، فِيهِ أَخْضَرُ، وَأَبْيَضُ، وَأَصْفَرُ، وَأَحْمَرُ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى سَقْفِهِ فَإِذَا مِثْلُ الْبَرْقِ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ لَهُ لَأَلَمَّ أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهُ، [ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَإِذَا أَزْوَاجُهُ {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} (الغاشية)] ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ثُمَّ يَتَّكِئُ عَلَى أَرِيكَةٍ مِنْ أَرَائِكِهِ، ثُمَّ يَقُولُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} . [الْآيَةَ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: تَحْيَوْنَ فَلَا تَمُوتُونَ أَبَدًا وَتُقِيمُونَ فَلَا تَظْعَنُونَ أَبَدًا وَتَصْحَوْنَ _ أُرَاهُ قَالَ _ فَلَا تَمْرَضُونَ أَبَدًا "]
(1)
نساء أهل الجنة:
(1)
أخرجه الحسين المروزي في زوائده على الزهد والرقائق لابن المبارك (1450) من طريق زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وإِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، به. والزيادة في أوله ذكرها ابن القيم في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم (1/ 123) من رواية: خلف بن هشام البزار ثنا أبو شهاب عن عمرو بن قيس الملائي عن أبي إسحاق به. والحديث رواه ابن الجعد في مسنده (2569) -وعنه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (7) وأبو نعيم في صفة الجنة (280) والبيهقي في البعث والنشور (246) - أَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ به. والزيادة الثالثة والأخيرة منه. وعبد الرزاق في تفسيره (2646) -وعنه إسحاق بن راهويه كما في المطالب العالية (4601) - عن معمر عن أبي إسحاق -وفي رواية إسحاق معمر والثوري-، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 34) -ومن طريقه وأبو نعيم في صفة الجنة (281) - من طريق إِسْرَائِيلَ به. والزيادة الثانية منه. وابن أبي حاتم في التفسير (5/ 1480) من طريق إسرائيل به. وقال الحافظ في المطالب العالية (18/ 649): هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، إِذْ لَا مَجَالَ لِلرَّأَيِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ ا. هـ
قال ابن القيم رحمه الله: فتأمَّل جلالة المبشِّر ومنزلتهُ وصدقَه وعظمةَ مَنْ أرسله إليك بهذه البشارة، وقدر ما بشَّرك به، وضمنه لك على أسهل شيءٍ عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البَدَنِ بالجنان، وما فيها من الأنهارِ والثمارِ، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلبِ وقُرَّة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد، وعدم انقطاعه
…
إلى أن قال: والمطهرة: التي طُهِّرت من الحيضِ والبول والنفاس، والغائط والمخاط والبُصاق، وكل قَذَر، وكلِّ أذًى يكون من نساء الدنيا، وطُهِّرَ مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها، وطهرت أثوابها من أنْ يعرض لها دنسٌ أو وسخٌ ا. هـ
(1)
الحور العين:
وقال تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)} [الدخان] وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)} [الطور]
قال ابن القيم: والحُوْرُ: جمع حَوْراء، وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء، شديدة سواد العين؛
…
وعينٌ حوراء: إذا اشتدَّ بياضُ أبيضِها وسواد أسودها، ولا تسمى المرأة حوراء حتى تكون مع حور عينها بيضاء لون الجسد. والعِيْنُ: جمع عيناء، وهي العظيمة العين من النساء .... والصحيح: أنَّ العِيْنَ اللاتي جَمَعَتْ أعينهن صفات الحسن
(1)
والملاحة،
…
ومن محاسن المرأة اتساع عينها في طول، وضيق العين في المرأة من العيوب،
…
ا. هـ
(1)
.
قاصرات الطرف:
وقال تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)} [الصافات]؛ والمعنى: قَصَرْنَ طرفهنَّ على أزواجهنَّ، فلا يطمحن إلى غيرهم. وقيل: قصرن طرف أزواجهنَّ عليهنَّ، فلا يدعهم حسنهنَّ وجمالهنَّ أنْ ينظروا إلى غيرهنَّ. قال ابن القيم: وهذا صحيح من جهة المعنى، وأمَّا من جهة اللفظِ: فقاصرات: صفة مضافة إلى الفاعل، كحسان الوجوه، وأصله: قاصرٌ طرفهنَّ، أي: ليس بطامحٍ متعدٍّ ا. هـ
(2)
وقال الطبري رحمه الله: يعني: نساء قصرت أطرافهنّ على أزواجهنّ، فلا يردن غيرهم، ولا يمددن أعينهن إلى سواهم ا. هـ
(3)
عربا أترابا:
وقال تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة]. قال الطبري رحمه الله: وقوله: (عُرُبًا) يقول تعالى ذكره: فجعلناهنّ أبكارًا غنجات، متحببات إلى أزواجهنّ يحسن التبعل
…
وقوله: (أَتْرَابًا) يعني أنهنّ مستويات على سنّ واحدة ا. هـ
(4)
وقد روى الترمذي رحمه الله في الشمائل عَنِ الْحَسَنِ البصري رحمه الله قَالَ: أَتَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ:«يَا أُمَّ فُلَانٍ، إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ» قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي فَقَالَ: «أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ» إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)}
(5)
(1)
المرجع السابق (1/ 479)
(2)
المرجع السابق (1/ 473 - 476)
(3)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (20/ 124)
(4)
المرجع السابق (22/ 323)
(5)
الشمائل المحمدية (241) وله شواهد يحسن بها كما في السلسلة الصحيحة (2987)
وقال الله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)} [ص]. يعني: "مستويات على سنٍّ واحدةٍ وميلادٍ واحد، بنات ثلاث وثلاثين سنة
(1)
.
وقال أبو إسحاق الزجاج: "أي: هنَّ في غاية الشباب والحُسن ا. هـ
(2)
وقال الطبري رحمه الله: وقوله {أَتْرَابٌ (52)} يعني: أسنان واحدة
…
وقال بعضهم: متواخيات لا يتباغضن، ولا يتعادين، ولا يتغايرن، ولا يتحاسدن ا. هـ
(3)
قال ابن القيم: وسَمَّي سنَّ الإنسان وقرنه تِرْبه؛ لأنَّه مسَّ تراب الأرض معه في وقتٍ واحدٍ، والمعنى من الإخبار باستواء أسنانهنَّ، أنَّهنَّ ليس فيهنَّ عجائز قد فات حسنهنَّ، ولا ولائد لا يُطِقْنَ الوطَء ا. هـ
(4)
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان:
وقال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} [الرحمن: 56]. أي: لم يطأهنَّ، ولم يغشهنَّ، ولم يجامعهنَّ.
الحور العين خلقهن الله للبقاء:
وهؤلاء النِّسوة لسن من نساء الدنيا، وإنَّما هنَّ من الحُوْر العين، لأنَّه سبحانه جعلهنَّ ممَّا أعدَّهُ اللَّهُ في الجنَّة لأهلها ويدلُّ عليه أيضًا الآية التي بعدها، وهي قول الله تعالى:{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)} [الرحمن] ثمَّ قال: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74)} [الرحمن].
(1)
انظر: تفسير مقاتل بن سليمان (4/ 219)، تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر» (22/ 328)، وتفسير البغوي - إحياء التراث (4/ 74) وتفسير ابن كثير - ت السلامة (7/ 534). وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن -ط عطاءات العلم- (7/ 829).
(2)
انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 338)
(3)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (20/ 124)
(4)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (1/ 481)
قال الإمام أحمد: والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة، ولا عند النفخة، ولا أبدًا لأن الله تبارك وتعالى خلقهن للبقاء لا للفناء ولم يكتب عليهن الموت، فمن قال بخلاف ذلك فهو مبتدع مخالف وقد ضل عن سواء السبيل ا. هـ
(1)
كأنهن الياقوت والمرجان:
قال الله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} [الرحمن]
قالَ قَتَادَةُ: فِي صَفَاءِ الْيَاقُوتِ وَبَيَاضِ اللُّؤْلُؤِ ا. هـ
(2)
وقال الْحَسَنُ: صَفَاءُ الْيَاقُوتِ فِي بَيَاضِ الْمَرْجَانِ ا. هـ
(3)
وعن قتادة والثوري مثله
(4)
.
وقالَ السُّدِّيُّ: صَفَاءُ الْيَاقُوتِ وَحُسْنُ الْمَرْجَانِ ا. هـ
(5)
وقال أبو إسحاق الزجاج: قال أهل التفسير وأهل اللغة: هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان، والمرجان صغار اللؤلؤ وهو أشد بياضاً ا. هـ
(6)
وقال الحافظ ابن كثير: جَعَلُوا الْمَرْجَانَ هَاهُنَا اللُّؤْلُؤَ ا. هـ
(7)
جمال نساء أهل الجنة وحسنهن:
وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَدْوَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ، أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِي سَوْطَهُ - خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
(8)
.
(1)
انظر: مسائل حرب الكرماني ت فايز حابس (3/ 972 بترقيم الشاملة) وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 28 ت الفقي)، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (1/ 484).
(2)
تفسير عبد الرزاق (3099).
(3)
صفة الجنة لابن أبي الدنيا ت سليم (308)
(4)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (22/ 251).
(5)
المرجع السابق (22/ 251)
(6)
معاني القرآن وإعرابه للزجاج (5/ 103)
(7)
تفسير ابن كثير - ت سلامة- (7/ 504)
(8)
أخرجه البخاري (2796)
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» وفي رواية لمسلم: «
…
وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ»
(1)
وقال معمر عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:«إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ لَيُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ مِنْ تَحْتِ سَبْعِينَ حُلَّةً، كَمَا يُرَى الشَّرَابُ الْأَحْمَرُ فِي الزُّجَاجَةِ الْبَيْضَاءِ»
(2)
وَعَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:«إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُؤْتَى بِالْكَأْسِ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ زَوْجَتِهِ فَيَشْرَبُهَا ثُمَّ يَلْتَفِتُ إِلَى زَوْجَتِهِ فَيَقُولُ: قَدِ ازْدَدْتِ فِي عَيْنِي سَبْعِينَ ضِعْفًا حُسْنًا»
(3)
وعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
…
فذكر الحديث في قصة آخر أهل الجنة دخولا الجنة وفيه: «
…
فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَلْحِقْنَا بِالنَّاسِ فَيَقُولُ لَهُمُ: الْحَقُوا بِالنَّاسِ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ يَرْمُلُونَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى يَبْدُوَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ قَصْرٌ مِنْ دُرَّةٍ مُجَوَّفَةٍ، قَالَ: فَيَخِرُّ سَاجِدًا، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ، فَيُقَالُ: إِنَّمَا هَذَا مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِكَ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ
(1)
أخرجه البخاري (3245) ومسلم (2834/ 17)
(2)
رواه عبد الرزاق (20867) -ومن طريقه: الطبراني في المعجم الكبير (9/ 174) رقم (8864) -، ونعيم بن حماد في زياداته على الزهد لابن المبارك (74/ الملحق). ورواه بنحوه هناد في الزهد (10) -وعنه الترمذي (2534) -، وابن أبي شيبة (33989) والطبري في التفسير = جامع البيان ط هجر (22/ 250). من طرق عن عطاء بن السائب عن عمرو به. وجاء عند الترمذي (2533) أيضا وابن حبان (7396) مرفوعا وصحح الترمذي وقفه. ورجح وقفه أيضا الدارقطني في العلل (837). ورواه الطبري في التفسير عن الثوري وهناد في الزهد عن يونس بن أبي إسحاق كلاهما عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قوله.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (33993) وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (134)
فَيَسْتَقْبِلُهُ رَجُلٌ فَيَقُولُ: أَنْتَ مَلَكٌ؟ فَيُقَالُ: إِنَّمَا ذَلِكَ قَهْرَمَانٌ مِنْ قَهَارِمَتِكَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِكَ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ فَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا قَهْرَمَانٌ مِنْ قَهَارِمَتِكَ عَلَى هَذَا الْقَصْرِ تَحْتَ يَدَيْ أَلْفِ قَهْرَمَانٍ كُلُّهُمْ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِ عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى يُفْتَحَ الْقَصْرُ وَهُوَ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ سَقَايِفُهَا وَأَبْوَابُهَا وَأَغْلَاقُهَا وَمَفَاتِيحُهَا مِنْهَا، فَيُفْتَحُ لَهُ الْقَصْرُ فَيَسْتَقْبِلُهُ جَوْهَرَةٌ خَضْرَاءُ مُبَطَّنَةٌ بِحَمْرَاءَ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِيهَا سِتُّونَ بَابًا كُلُّ بَابٍ يُفْضِي إِلَى جَوْهَرَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى غَيْرِ لَوْنِ صَاحِبَتُهَا، فِي كُلِّ جَوْهَرَةٍ سُرَرٌ وَأَزْوَاجٌ وَتَصَارِيفُ - أَوْ قَالَ: وَوَصَائِفُ - قَالَ: فَيَدْخُلُ فَإِذَا هُوَ بَحَوْرَاءَ عَيْنَاءَ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةٌ يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ حُلَلِهَا كَبِدُهَا مِرْآتُهُ وَكَبِدُهُ مِرْآتُهَا، إِذَا أَعْرَضَ عَنْهَا إِعْرَاضَةً ازْدَادَتْ فِي عَيْنِهِ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: لَقَدِ ازْدَدْتِ فِي عَيْنِي سَبْعِينَ ضَعْفًا، وَتَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: فَيُشْرِفُ بِبَصَرِهِ عَلَى مِلْكِهِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ»
…
الحديث.
(1)
غناء الحور العين:
روى الطبراني في المعجم الأوسط عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَزْوَاجَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُغَنِّينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ سَمِعَهَا أَحَدٌ قَطُّ. إِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ بِهِ: نَحْنُ الْخَيِّرَاتُ الْحِسَانْ. * أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامْ * يَنْظُرْنَ بِقُرَّةِ أَعْيَانْ. وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ بِهِ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا يَمُتْنَهْ. * نَحْنُ الْآمِنَاتُ فَلَا يَخَفْنَهْ. * نَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلَا يَظْعَنَّهْ»
(2)
وفي البعث والنشور للبيهقي عن أبي صَالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: «إِنَّ في الجَنَّةِ نَهرًا طُولُ الجَنَّةِ، حَافَتَاُه العَذَارَى قِيَامٌ مُتَقَابِلَات، ويُغَنِّينَ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ يَسْمَعُهَا الخَلائِقُ، حَتَّى مَا يَرَوْنَ أَنَّ فِي الجَنَّةِ لَذَّة مِثْلَها، قُلنا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ومَا ذَاكَ الغِنَاء؟ قال: إِنْ شَاءَ اللهُ التَّسْبِيح، والتَّحْمِيد، والتَّقْدِيس، وثَنَاءٌ عَلى الرَّبِّ عز وجل»
(3)
.
(1)
صحيح. تقدم تحريجه
(2)
المعجم الأوسط (4917)، والمعجم الصغير (734) وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/ 8)
(3)
البعث والنشور (961) وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (11/ 49): قلت: وإسناده جيد، ورجاله ثقات رجال "الصحيح"؛ غير أبي عبد الرحيم - واسمه خالد بن أبي يزيد الحراني -، وهو ثقة. وأشار المنذري لتقويته ا. هـ
نكاح أهل الجنة ووطؤهم:
تقدم حديث زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه وفيه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «
…
إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ». رواه أحمد
(1)
وروى الترمذي عَنْ عِمْرَانَ القَطَّانِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يُعْطَى المُؤْمِنُ فِي الجَنَّةِ قُوَّةَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الجِمَاعِ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةٍ»
(2)
وفي صحيح ابن حبان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَنَطَأُ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ دَحْمًا دَحْمًا*، فَإِذَا قَامَ عَنْهَا رَجَعَتْ مُطَهَّرَةً بِكْرًا»
(3)
وروى الطبراني في الأوسط عنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَصِلُ إِلَى نِسَائِنَا فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ:«إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفْضِي فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى مِائَةِ عَذْرَاءَ»
(4)
وفي تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)} [يس]، قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، رضي الله عنه:
(1)
تقدم تخريجه
(2)
سنن الترمذي (2536) وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ القَطَّانِ ا. هـ وصححه ابن حبان (7400) وقال العلامة الألباني في هداية الرواة (5/ 208): إسناده حسن، بل هو صحيح لأن له شواهد منها عن زيد بن أرقم
…
ا. هـ
(3)
صحيح ابن حبان (7402)
(4)
المعجم الأوسط (718، 5267)، والمعجم الصغير (795) وصححه الضياء المقدسي في صفة الجنة (ص: 129) وقال: رجال هذا الحديث عندي على شرط الصحيح والله أعلم. وصححه ابن القيم في حادي الأرواح وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (367) وأعله الحافظان أبو حاتم وأبو زرعة -كما في علل الحديث لابن أبي حاتم (5/ 488) - وعدوه من أخطاء حسين الجعفي وقالا: هَذَا خطأٌ؛ إِنَّمَا هُوَ: هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ زيدٍ العَمِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ا. هـ وحديث ابن عباس أخرجه هناد بن السري في الزهد (88)، وأبو يعلى (2436) وغيرهم، من طريق أبي أسامة حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ ابن حسان، به. والحديث ذكره أيضا الدارقطني في علله (1832) ورجح طريق أبي أسامة.
{فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)} قَالَ: فِي افْتِضَاضِ الْعَذَارَى
(1)
.
وروي مثله عن ابن عباس
(2)
. وبه قال: سعيد بن المسيب، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والأعمش، وسليمان التيمي، والأوزاعي
(3)
.
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله: ولا يلحقهم بذلك جَنَابة، فيحتاجون إلى التَّطهير، ولا ضعف ولا انحِلال قوَّةٍ، بل وطؤهم وطءُ التذاذٍ ونعيم، لا آفة فيه بوجهٍ من الوجوه. وأكملُ النَّاسِ فيه أصونهم لنفسه في هذه الدَّارِ عن الحرامِ،
…
فمن ترك اللذة المحرمة للَّه استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون، ومن استوفاها ها هنا حُرِمَها هناك، أو نقص كمالها، فلا يجعل اللَّه لذة من أوضع في معاصيه ومحارمه، كلذة من ترك شهوته للَّه أبدًا، واللَّه أعلم ا. هـ
(4)
من اشتهى الولد في الجنة:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «المُؤْمِنُ إِذَا اشْتَهَى الوَلَدَ فِي الجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ كَمَا يَشْتَهِي»
(5)
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة ت سليم (264) والطبري في تفسيره، ط هجر (19/ 460) وأبو نعيم في صفة الجنة (375) وسنده حسن.
(2)
رواه الطبري في تفسيره ط هجر (19/ 460): عن المعتمر، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (277) عن يزيد بن زريع، كلاهما عن والد المعتمر سليمان التيمي، عن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس. ورواه أيضا من طريقين عن أسباط بن محمد، عن أبيه -وهو أبو عمرو-، عن عكرمة، به. ورواه الحسين المروزي في زوائده على الزهد لابن المبارك (1586) وسعيد بن منصور (1799) قالا أخبرنا سفيان، عن أبي عمرو، عن عكرمة قوله. وأبو عمرو هذا مقبول. ورواه أبو نعيم في صفة الجنة (376) من طريق سهل بن زياد أبي زياد، ثنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز، قال: قلت لابن عباس، فذكره.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 582).
(4)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (1/ 524)
(5)
أخرجه الترمذي (2563) وقال حسن غريب؛ وابن ماجه (4338) وأحمد (11063) والدارمي (2876) وصححه ابن حبان (7404) وصححه الشيخ الألباني في التعليقات الحسان وفي هداية الرواة (5574)، وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (654)
الزرع في الجنة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ، فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ» ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَجِدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(1)
تاج الوقار في الجنة:
روى الإمام أحمد في المسند عن بُرَيْدَةَ، رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: -فذكر الحديث وفيه-: «
…
وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كَانَ، أَوْ تَرْتِيلًا»
(2)
.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ نِعْمَ الشَّفِيعُ [لِصَاحِبِهِ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إِنَّهُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:[يَا رَبِّ قَدْ كُنْتُ أَمْنَعُهُ شَهْوَتَهُ فِي الدُّنْيَا فَأَكْرِمْهُ، قَالَ: فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، قَالَ: فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ] يَا رَبِّ حَلِّهِ حِلْيَةَ الْكَرَامَةِ، فَيُحَلَّى حِلْيَةَ الْكَرَامَةِ،
(1)
أخرجه البخاري (2348، 7519)
(2)
مسند أحمد (38/ 41) رقم (22950) ورواه الدارمي (3434) وصححه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2086) وحسنه الحافظ في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (3478) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 793)
[فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ] يَا رَبِّ، اكْسُهُ كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ فَيُكْسَى كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ، [فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ]، أَلْبِسْهُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، [قَالَ: فَيُكْسَى تَاجَ الْكَرَامَةِ، قَالَ: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ] يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَلَيْسَ بَعْدَ رِضَاكَ شَيْءٌ [فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ، وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً]»
(1)
وَعَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ
(2)
خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ»
(3)
زيارة أهل الجنة بعضهم بعضا وتذاكرهم ما كان في الدنيا:
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله: أخبر سبحانه وتعالى أنَّ أهل الجنَّة أقبل بعضهم على بعض يتحدثون، ويسأل بعضهم بعضًا عن أحوال كانت في الدنيا، فأفضت بهم المحادثة والمذاكرة إلى أنْ قال قائلٌ منهم:{كَانَ لِي قَرِينٌ} في الدنيا ينكر البعث والدَّار
(1)
رواه الترمذي (2915) والدارمي (3354) وابن أبي شيبة (30047) والحاكم (2029) بسند حسن. واللفظ للدارمي، والزيادات من ابن أبي شيبة، سوى الأخيرة فهي للترمذي والحاكم، والحديث رواه الترمذي مرفوعا وموقوفا، ورواه الحاكم مرفوعا وصحح الترمذي الموقوف. ولا يخفى أنه في حكم المرفوع. وانظر: صحيح الترغيب والترهيب (1425). والسلسلة الصحيحة (2829).
(2)
المذكور في الحديث سبع خصال، وقد وقع اضطراب في متنه، انظر في ذلك: السلسلة الصحيحة (3213)
(3)
رواه الترمذي (1663) وابن ماجه (2799) وأحمد (28/ 419) رقم (17182) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1375) وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة (3213)
الآخرة، ويقول ما حكاهُ اللَّهُ عنه، {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} بأنَّا نُبعث ونُجازى بأعمالنا، ونُحاسبُ بها بعد أنْ مَزَّقَنَا البِلَى، وكُنَّا تُرابًا وعظامًا، ثمَّ يقول المؤمنُ لإخوانه في الجنَّة:{هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} في النَّارِ لننظر منزلة قريني هذا وما صار إليه. هذا أظهرُ الأقوالِ
…
وقوله تعالى: {فَاطَّلَعَ} أي: أشرف. قال مقاتل: لما قال لأهل الجنَّة: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} ؟ قالوا له: إنَّك أعرف به منَّا، فاطَّلِعْ أنت، فَأَشْرَفَ فرأى قرينه في وسط الجحيم، ولولا أنَّ اللَّه عرَّفه إيَّاهُ لما عرَفه، لقد تغيَّر وجهُهُ ولونُهُ وغيَّرهُ العذاب أشدَّ تغيير، فعندها:{قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي: إنْ كدتَ لتهلكني، ولولا أنْ أنعمَ اللَّهُ عليَّ بنعمه لكنتُ من المحضرين معَك في العذاب. ا. هـ
(1)
وقال سبحانه: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} [الطور]. قال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر ابن كثير رحمه الله: أَيْ: أَقْبَلُوا يَتَحَادَثُونَ وَيَتَسَاءَلُونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا كَمَا يَتَحَادَثُ أَهْلُ الشَّرَابِ عَلَى شَرَابِهِمْ إِذَا أَخَذَ فِيهِمُ الشَّرَابُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ. {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أَيْ: قَدْ كُنَّا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا وَنَحْنُ بَيْنَ أَهْلِنَا خَائِفِينَ مِنْ رَبِّنَا مُشْفِقِينَ مِنْ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} أَيْ: فَتَصَدَّقَ عَلَيْنَا وَأَجَارَنَا مِمَّا نَخَافُ. {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أَيْ: نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَنَا وَأَعْطَانَا سُؤْلَنَا، {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}
…
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأوْدِيّ، حَدَّثَنَا وَكيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ
(1)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (1/ 562)
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا وَقِنَا عَذَابَ السَّمُومِ، إِنَّكَ أَنْتَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ. قِيلَ لِلْأَعْمَشِ: فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
(1)
ا. هـ
(2)
.
سوق الجنة:
عنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا، يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ، [فِيهَا كُثْبَانُ الْمِسْكِ] فَـ[إِذَا خَرَجُوا إِلَيْهَا] تَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ [وَبُيُوتهُمْ مِسْكًا]، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ، وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا»
(3)
وقوله: (يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ) قال النووي: أَيْ فِي مِقْدَارِ كُلِّ جُمْعَةٍ أَيْ أُسْبُوعٍ وَلَيْسَ هُنَاكَ حَقِيقَةً أُسْبُوعٌ لِفَقْدِ الشَّمْسِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ قال: (وريح الشَّمَالِ) بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْمِيمِ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ هَكَذَا الرِّوَايَةُ
…
وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي مِنْ دُبُرِ الْقِبْلَةِ. قَالَ الْقَاضِي وَخَصَّ رِيحَ الْجَنَّةِ بِالشَّمَالِ لِأَنَّهَا رِيحُ الْمَطَرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كَانَتْ تَهُبُّ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ وَبِهَا يَأْتِي سَحَابُ الْمَطَرِ وَكَانُوا يَرْجُونَ السَّحَابَةَ الشَّامِيَّةَ وَجَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ هَذِهِ الرِّيحِ الْمُثِيرَةِ أَيِ الْمُحَرِّكَةِ لِأَنَّهَا تُثِيرُ فِي وُجُوهِهِمْ مَا تُثِيرُهُ مِنْ مسك أرض الجنة وغيره من نعيمها ا. هـ
(4)
(1)
تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3316) رقم (18686). وومن طريق وكيع رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6036) حدثنا وكيع به. ورواه عبد الرزاق في المصنف (3/ 168 ط التأصيل الثانية) رقم (4180) عن الثوري، وابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء (98) عن شيبان، والبيهقي في شعب الإيمان (1924) عن شعبة وسعيد بن أبي عروبة، كلهم عن الأعمش به. وسنده صحيح. ورواه أحمد في الزهد (909) -ومن طريقه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 48) - من طريق ابن مهدي عن الثوري عن الأعمش، وفيه: عَنْ أَبِي الضُّحَى قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَائِشَةَ. ورواية الجماعة عن الأعمش مقدمة وفيها تعيين هذا المبهم.
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 435)
(3)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (2833/ 13) قال حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْبَصْرِيُّ، والإمام أحمد في مسنده ط الرسالة (21/ 430) رقم (14035) حَدَّثَنَا عَفَّانُ، كلاهما قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ به. والزيادات من المسند.
(4)
شرح النووي على مسلم (17/ 170).
وقال الدارمي رحمه الله: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا» . قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: «كُثْبَانٌ مِنْ مِسْكٍ يَخْرُجُونَ إِلَيْهَا فَيَجْتَمِعُونَ فِيهَا، فَيَبْعَثُ اللهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَتُدْخِلُهُمْ بُيُوتَهُمْ، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا، وَيَقُولُونَ لِأَهْلِيهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ» .
(1)
أهل الجنة كلهم ملوك فيها:
قال البزار رحمه الله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، ثنا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ:«خَلَقَ اللَّهُ تبارك وتعالى الْجَنَّةَ لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَغَرَسَهَا، وَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} [المؤمنون]، فَدَخَلَتْهَا الْمَلائِكَةُ، فَقَالَتْ: طُوبَاكِ مَنْزِلَ الْمُلُوكِ»
(2)
.
(1)
مسند الدارمي (3/ 1877) رقم (2883). قال العلامة الألباني: هذا إسناد صحيح، وهو ثلاثي؛ إن كان حميد ـ وهو الطويل ـ سمعه من أنس رضي الله عنه؛ فإن عامة حديثه عن أنس سمعه من ثابت؛ كما قاله غير واحد. وقد أوقفه بعضهم
…
إلخ السلسلة الصحيحة (7/ 1384). قلت: رواه عبد الله بن المبارك أنا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ سُوقَ كُثْبَانِ
…
الحديث موقوفا. أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة ت سليم (ص: 185) قال: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ، ثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ، أنا ابْنُ الْمُبَارَكِ به وسنده صحيح. ورواه الحسين المروزي في زوائده على الزهد والرقائق لابن المبارك (1/ 524) رقم (1491) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، به موقوفا. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنف ابن أبي شيبة (7/ 31) رقم (33975) قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ به موقوفا. وتابعه محمد بن عبد الملك الدقيقي عن يزيد به رواه البيهقي في البعث والنشور للبيهقي (375) وقال البيهقي (ص: 226): كَذَا أُتِيَ بِهِ مَوْقُوفًا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعْنَاهُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ ا. هـ وتابعه عبد الله بن المبارك -كما في الزهد والرقائق (2/ 70) - عن التيمي به موقوفا - ومن طريقه رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة ت سليم (ص: 184) رقم (246) قال: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ، أنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ، أنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، به-. ورواه قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ به مختصرا موقوفا. كما في جامع معمر بن راشد (11/ 418) رقم (20881) وتفسير عبد الرزاق (1378) عن معمر، وفي مصنف ابن أبي شيبة (7/ 38) رقم (34026) قال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، كلاهما (معمر ومسعر) قَالَا حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، به. ورواه سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ به مرفوعا وسعيد ضعيف رواه الطبراني في مسند الشاميين للطبراني (4/ 8) رقم (2575).
(2)
كشف الأستار عن زوائد البزار (4/ 189) رقم (3507). ورواه عدي بن الفضل -وهو متروك- عن الجريري به مرفوعا. رواه البزار (3508) والطبراني في الأوسط (3701) وغيرهما. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 397) وقال: رواه البزار مرفوعًا وموقوفاً،
…
ورجال الموقوف رجال الصحيح، وأبو سعيد لا يقول هذا إلا بتوقيف ا. هـ وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (2662): صحيح على شرط مسلم موقوفاً لكنه في حكم المرفوع ا. هـ ورواه وهيب بن خالد عن الجريري فرفعه بنحوه. رواه البيهقي في البعث والنشور (261) لكن في سنده محمد بن يونس وهو الكديمي أحد الهلكى. وقال المنذري في الترغيب والترهيب ت عمارة (4/ 513): أَخرجه البيهقي وغيره، ولكن وقفه هو الأصح المشهور، والله أعلم ا. هـ
قال الحافظ ابن كثير: أَيْ: {وَيَطُوفُ} عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ للخدْمَة {وِلْدَانٌ} مِنْ وِلْدَانِ الْجَنَّةِ {مُخَلَّدُونَ} أَيْ: عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ {مُخَلَّدُونَ} عَلَيْهَا، لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْهَا، لَا تَزِيدُ أَعْمَارُهُمْ عَنْ تِلْكَ السِّنِّ .... وَقَوْلُهُ:{إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} أَيْ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي انْتِشَارِهِمْ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ السَّادَةِ، وَكَثْرَتِهِمْ، وَصَبَاحَةِ وُجُوهِهِمْ، وَحُسْنِ أَلْوَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَحُلِيِّهِمْ، حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا. وَلَا يَكُونُ فِي التَّشْبِيهِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، وَلَا فِي الْمَنْظَرِ أَحْسَنُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ عَلَى الْمَكَانِ الْحَسَنِ. قَالَ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما:«مَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْفُ خَادِمٍ، كُلُّ خَادِمٍ عَلَى عَمَلٍ مَا عَلَيْهِ صَاحِبُهُ»
(1)
. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا رَأَيْتَ} أَيْ: وَإِذَا رَأَيْتَ يَا مُحَمَّدُ، {ثَمَّ} أَيْ: هُنَاكَ، يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وسَعَتها وَارْتِفَاعِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الحَبْرَة وَالسُّرُورِ، {رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} أَيْ: مَمْلَكَةً لِلَّهِ هُناك عَظِيمَةً وَسُلْطَانًا بَاهِرًا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ
(1)
أخرجه هناد في الزهد (1/ 133): قال حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، والحسين المروزي في زوائد الزهد لابن المبارك (1580) والطبري في تفسيره (20/ 644/ ط هجر) وأبو نعيم في صفة الجنة (332) من طريق يزيد بن زريع، والبيهقي في البعث والنشور (371) من طريق عبد الوهاب؛ كلهم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. وإسناده صحيح، قاله الألباني في السلسلة الضعيفة (11/ 481) وصححه في صحيح الترغيب والترهيب (3705).
لِآخَرِ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا إِلَيْهَا: إِنَّ لَكَ مثلَ الدُّنْيَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهَا»
(1)
ا. هـ
(2)
قلت: وفي صحيح مسلم عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه، قَالَ وهوَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ، مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ: رَبِّ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة] الْآيَةَ»
(3)
.
قال الحافظ ابن كثير: فَإِذَا كَانَ هَذَا عَطَاؤُهُ تَعَالَى لِأَدْنَى مَنْ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا هُوَ أَعْلَى مَنْزِلَةً، وَأَحْظَى عِنْدَهُ تَعَالَى ا. هـ
(4)
نعيم الجنة لا حدَّ له:
وفي الجنة من النعيم ما لا يوصف، فيها ما لا عينٌ رَأَتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما تقدم. قال الله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة]
(1)
صحيح البخاري (6571، 7511) وصحيح مسلم (186) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 292)
(3)
تقدم (ص: 359).
(4)
تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 292)
وفي سنن الترمذي عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا فِي الجَنَّةِ بَدَا لَتَزَخْرَفَتْ لَهُ مَا بَيْنَ خَوَافِقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَ فَبَدَا أَسَاوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ»
(1)
رؤية أهل الجنة ربهم سبحانه وتعالى:
وهي أعظم نعيم يحصل لأهل الجنة؛ فإذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم؛
وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم.
قال ابن القيم: اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على تتابع القرون وأنكرها أهل البدع المارقون ا. هـ
(2)
ومن أدلة إثبات رؤية الله سبحانه يوم القيامة:
قول اللَّهِ تبارك وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة]
وقوله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]؛
والزيادة هي رؤية المؤمنين الله تعالى كما سيأتي في السنة.
وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين]. فَإِذَا حُجِبَ أَوْلِيَاؤُهُ فَأَيُّ فَضِيلَةٍ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ.
قال الإمام الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فِي الآيةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَرَوْنَهُ عَلَى صِفَتِهِ ا. هـ
(3)
. وقَالَ: فَلَمَّا حَجَبَهُمْ فِي السَّخَطِ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي الرِّضَا.
(4)
وقال: فيها دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِ وُجُوهِهِمْ. ا. هـ
(5)
(1)
سنن الترمذي (2538) ورواه أحمد (3/ 57) رقم (1449) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3396) وصحيح الترغيب والترهيب (3765)
(2)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (2/ 605)
(3)
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 117) والإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 59) رقم (54)
(4)
الاعتقاد (ص: 131) ومعرفة السنن والآثار (1/ 191). رقم (346) كلاهما للبيهقي.
(5)
الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 60)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 518) رقم (809)
وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي رحمه الله: عنْ مُحَمَّدِ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَضَرْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيَّ وَقَدْ جَاءَتْهُ رُقْعَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ فِيهَا: مَا تَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: " فَلَمَّا أَنْ حُجِبُوا هَؤُلَاءِ فِي السَّخَطِ كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي الرِّضَا. قَالَ الرَّبِيعُ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَبِهِ تَقُولُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَبِهِ أَدِينُ اللَّهَ؛ لَوْ لَمْ يُوقِنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ لَمَا عَبْدَ اللَّهَ تَعَالَى ا. هـ
(1)
وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِمَعْنَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ؛ رَوَاهَا أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ عَنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَجِلَّائِهِمْ؛ ومنها:
ما فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تُضَارُّونَ
(2)
فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ،
…
» الحديث بطوله
(3)
.
وَلَهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ " قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 560) رقم (883)
(2)
(تُضَارُّونَ) بضم التاء، وتفتح، وتشديد الراء، على أنه من باب المفاعلة، أو التفاعل، من الضرر، والاستفهام للتقرير، وهو حَمْل المخاطب على الإقرار، والمعنى: هل يحصل لكم تزاحم، وتنازع يتضرر به بعضكم من بعض. وقال النووي: وروي "تضارون" بتشديد الراء، وتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما،
…
قال القاضي البيضاويّ رحمه الله: وفي "تضارون" المشدد من الضرر، والمخفف من الضير؛ أي: تكون رؤيته تعالى رؤية جلية بيّنة، لا تقبل مراء، ولا مرية، فيخالف فيها بعضكم بعضاً، ويكذبه، كما لا يشك في رؤية أحدهما؛ يعني: الشمس والقمر، ولا ينازع فيها، فالتشبيه إنما وقع في الرؤية باعتبار جلائها، وظهورها، بحيث لا يُرتاب فيها، ولا في سائر كيفياتها، لا في المرئيّ
…
إلخ
(3)
صحيح البخاري (806، 6573، 7437)، وصحيح مسلم (182).
«مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ تبارك وتعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا،
…
» الحديث
(1)
.
وَفِيهِمَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لَا تُضَامُونَ
(2)
فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا»
(3)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:«إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ يَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ" ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]»
(4)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»
(5)
وَللنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ عن السائب والد عطاء قال: صلى بنا عمارُ بن ياسر رضي الله عنهما صلاة، فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خفَّفت أو أوجزت الصلاة! فقال: أما على ذلك؟ فقد دعوتُ فيها بدعوات سمعتُهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام تبعه رجلٌ
(1)
صحيح البخاري (4581، 7439)، وصحيح مسلم (183)
(2)
"تضامون" بتشديد الميم، وتخفيفها، فمن شددها فتح التاء، ومن خففها ضمّها، قال القاضي البيضاويّ رحمه الله:
…
وفي "تضامون" بالتشديد من الضم؛ أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض في طلب رؤيته؛ لإشكاله، وخفائه، كما يفعلون في الهلال، أو لا يضمكم شيء دون رؤيته، فيحول بينكم وبينها، وبالتخفيف من الضيم؛ أي: لا ينالكم ضيم في رؤيته، فيراه بعض دون بعض، بل يستوون فيها. ا. هـ
(3)
صحيح البخاري (554، 573)، وصحيح مسلم (633)
(4)
صحيح مسلم (181)
(5)
تقدم (ص 352).
من القوم، فسأله عن الدعاء ثم جاء، فأخبر به القوم، -وهذا الدعاء هو قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ»
(1)
.
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ: أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُرَى فِي الْآخِرَةِ كَمَا يَشَاءُ.
حكم من جحد وكذب برؤية المؤمنين ربهم في الآخرة
وَمَنْ جَحَدَ الرُّؤْيَةَ فَهُوَ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، مُكَذِّبٌ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ رَادٌّ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مُخَالِفٌ لِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ فِي وَعِيدِ مُنْكِرِي اللِّقَاءِ وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ مُنْكِرَ الرُّؤْيَةِ بِلَا شَكٍّ وَلَا مِرْيَةٍ: فقد رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:«هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ، لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ:«فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ:«فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا» ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَيَلْقَى الْعَبْدَ، -يعني ربه- فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ، وَتَرْبَعُ، فَيَقُولُ: بَلَى، أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ، فَيَقُولُ
(1)
رواه النسائي (1305) وأحمد (18325)، وصححه ابن حبان (1971) والحاكم (1923)
لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ، وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ، وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: هَاهُنَا إِذًا، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللهُ عَلَيْهِ»
(1)
قال ابن القيم: فاجْمَعْ بين قوله: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ
…
»، وقوله لمن ظنَّ أنَّه غيرَ ملاقيه:«فإنِّي أنساكَ كما نسيتني» ، وإجماع أهل اللغة أنَّ اللقاء: المعاينة بالأبصارِ؛ يحصلْ لك العلمُ بأنَّ منكر الرؤية أحقُّ بهذا الوعيد. ومن تراجم أهل السنَّة على هذا الحديث: "بابٌ: في الوعيد لمنكر الرؤية"، كما فعل شيخ الإسلام وغيره، وباللَّه التوفيق ا. هـ
(2)
. قلت: وَذكره ابن مندة في الإيمان مع غيره تحت عنوان: "ذِكْرُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ عز وجل " ا. هـ
(3)
رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ:
لَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ تبارك وتعالى فِي دَارِ الْآخِرَةِ. كما تقدم. وَكَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي ثُبُوتِ: رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. والصحيح أنه لم يره كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» ، أَيْ: حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ النُّورُ، كَمَا قَالَ فِي لَفْظٍ آخَرَ:«رَأَيْتُ نُورًا»
(4)
.
قال ابن القيم: وَقَدْ حَكَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ اتّفَاقَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ.
(5)
(1)
صحيح مسلم (2968).
(2)
-حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (2/ 713)
(3)
(2/ 779).
(4)
صحيح البخاري (6545، 7518)، صحيح مسلم (2829)
(5)
زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 33 - 35) وانظر: نقض الدارمي على المريسي ت الألمعي (2/ 738)، والرد على الجهمية للدارمي - ت الشوامي (ص 114).
كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة:
هكذا بوب البخاري في صحيحه وذكر الحديثين التاليين:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» متفق عليه
(1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ، فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ» ، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَجِدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ» رواه البخاري
(2)
وفي الباب أيضا: حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} [مريم: 39] وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا» متفق عليه
(3)
.
(1)
صحيح البخاري (7518) صحيح مسلم (2829)
(2)
تقدم (ص: 402)
(3)
صحيح البخاري (4730) وصحيح مسلم (2849)
وَتقدم حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:«إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ يَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ" ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]»
(1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ اللَّهُ: أَتَشْتَهُونَ شَيْئًا فَأَزِيدَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، وَمَا فَوْقَ مَا أَعْطَيْتَنَا؟ قَالَ: فَيَقُولُ: بَلَى، رِضَايَ أَكْثَرُ» رواه ابن حبان والحاكم
(2)
قال ابن القيم: فأفضل نعيم أهل الجنَّة رؤية وجهه تبارك وتعالى، وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنَّة، وأعلى نعيمها وأفضله، الَّذي ما طابت لأهلها إلَّا به، واللَّه المستعان.
(3)
آخر أهل الجنة دخولا إليها:
وفي الصحيحين عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا [وفي رواية: يَخْرُجُ حَبْوًا]، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا - أَوْ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا - فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي - أَوْ: تَضْحَكُ مِنِّي - وَأَنْتَ المَلِكُ» فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَكَانَ يَقُولُ:«ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً»
(4)
(1)
تقدم (ص: 412)
(2)
صحيح ابن حبان (7439) ومستدرك الحاكم (276) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1336).
(3)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم- (2/ 717)
(4)
صحيح البخاري (6571، 7511) وصحيح مسلم (186).
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ صَرَفَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ قِبَلَ الْجَنَّةِ، وَمَثَّلَ لَهُ شَجَرَةً ذَاتَ ظِلٍّ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَكُونُ فِي ظِلِّهَا، فَقَالَ اللَّهُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ، فَقَالَ: لَا وَعِزَّتِكَ، فَقَدَّمَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا، وَمَثَّلَ لَهُ شَجَرَةً أُخْرَى ذَاتَ ظِلٍّ وَثَمَرَةٍ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِأَكُونَ فِي ظِلِّهَا وَآكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا، فَقَالَ اللَّهُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ، فَقَالَ: لَا وَعِزَّتِكَ، فَقَدَّمَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا، فَتُمَثَّلُ لَهُ شَجَرَةٌ أُخْرَى ذَاتُ ظِلٍّ وَثَمَرٍ وَمَاءٍ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَكُونُ فِي ظِلِّهَا وَآكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، فَقَالَ اللَّهُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَيُقَدِّمُهُ اللَّهُ إِلَيْهَا قَالَ: فَيَبْرُزُ لَهُ بَابُ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَأَكُونُ تَحْتَ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَأَنْظُرُ إِلَى أَهْلِهَا فَيُقَدِّمُهُ اللَّهُ إِلَيْهَا فَيَرَى أَهْلَ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَ: هَذَا وَهَذَا لِي؟، فَيَقُولُ اللَّهُ، تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى، يُذَكِّرُهُ اللَّهُ: سَلْ مِنْ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِي قَالَ اللَّهُ: هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فَتَقُولَانِ لَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اخْتَارَكَ لَنَا وَاخْتَارَنَا لَكَ، فَيَقُولُ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ» [قَالَ: وَأَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا، يُنْعَلُ مَنْ نَارٍ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ]»
(1)
وفي المسند عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَكُونُ قَوْمٌ فِي النَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا، ثُمَّ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، فَيُخْرِجُهُمْ مِنْهَا، فَيَكُونُونَ فِي أَدْنَى الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِي نَهَرٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَيَوَانُ (وفي رواية: فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ)، يُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: الْجَهَنَّمِيُّونَ، لَوْ ضَافَ أَحَدُهُمْ أَهْلَ الدُّنْيَا لَفَرَشَهُمْ، وَأَطْعَمَهُمْ، وَسَقَاهُمْ، وَلَحَفَهُمْ، وَلَزَوَّجَهُمْ، لَا يَنْقُصُهُ ذَلِكَ شَيْئًا»
(2)
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (34013) وعنه مسلم (188) لكن اختصره. وأحمد في مسنده (11216) والزيادة له.
(2)
أخرجه أحمد (4337) وابن أبي شيبة في مسنديهما (395) وصححه ابن حبان (7428، 7433)
وعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
…
فذكر الحديث وفيه: فَيَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالصِّرَاطُ كَحَدِّ السَّيْفِ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، قَالَ: فَيُقَالُ انْجُوا عَلَى قَدْرِ نُورِكُمْ
…
فذكر الحديث وفيه: حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يَجُرُّ يَدًا وَيُعَلِّقُ يَدًا وَيَجُرُّ رِجْلًا وَيُعَلِّقُ رِجْلًا فَتُصِيبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ، قَالَ: فَيَخْلُصُونَ فَإِذَا خَلَصُوا، قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْكَ بَعْدَ إِذْ رَأَيْنَاكَ، فَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا، فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى ضَحْضَاحٍ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ وَهُوَ مُصْفَقٌ مَنْزِلًا فِي أَدْنَى الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطِنَا ذَلِكَ الْمَنْزِلَ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُمْ: تَسْأَلُونِي الْجَنَّةَ وَهُوَ مُصْفَقٌ وَقَدْ أَنْجَيْتُكُمْ مِنَ النَّارِ، هَذَا الْبَابُ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا، فَيَقُولُ لَهُمْ: لَعَلَّكُمْ إِنْ أُعْطِيتُمُوهُ أَنْ تَسْأَلُونِي غَيْرَهُ، قَالَ: فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا نَسْأَلُكَ غَيْرَهُ وَأَيُّ مَنْزِلٍ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهُ، قَالَ: فَيُعْطَوْهُ فَيُرْفَعُ لَهُمْ أَمَامَ ذَلِكَ مَنْزِلٌ آخَرُ كَأَنَّ الَّذِي أُعْطَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ حُلْمٌ عِنْدَ الَّذِي رَأَوْهُ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُمْ: لَعَلَّكُمْ إِنْ أُعْطِيتُمُوهُ أَنْ تَسْأَلُونِي غَيْرَهُ، فَيَقُولُونَ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا نَسْأَلُكَ غَيْرَهُ وَأَيُّ مَنْزِلٍ أَحْسَنُ مِنْهُ؟ فَيُعْطَوْهُ ثُمَّ يَسْكُتُونَ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمْ، مَا لَكُمْ لَا تَسْأَلُونِي؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا قَدْ سَأَلْنَا حَتَّى اسْتَحْيَيْنَا، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُمْ: أَلَمْ تَرْضَوْا إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ مِثْلَ الدُّنْيَا مُنْذُ يَوْمِ خَلَقْتُهَا إِلَى يَوْمِ أَفْنَيْتُهَا وَعَشَرَةَ أَضْعَافِهَا» قَالَ: قَالَ مَسْرُوقٌ: فَمَا بَلَغَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا الْمَكَانَ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا ضَحِكَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَقَدْ حَدَّثْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِرَارًا فَمَا بَلَغْتُ هَذَا الْمَكَانَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا ضَحِكْتَ، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِرَارًا فَمَا بَلَغَ هَذَا الْمَكَانَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا ضَحِكَ حَتَّى تَبْدُوَ لَهَوَاتُهُ وَيَبْدُو آخِرُ ضِرْسٍ مِنْ أَضْرَاسِهِ لِقَوْلِ الْإِنْسَانِ: «أَتَهْزَأُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟» قَالَ: «فَيَقُولُ الرَّبُّ تبارك وتعالى لَا وَلَكِنِّي عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ فَسَلُونِي، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَلْحِقْنَا بِالنَّاسِ فَيَقُولُ لَهُمُ: الْحَقُوا بِالنَّاسِ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ يَرْمُلُونَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى يَبْدُوَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ قَصْرٌ مِنْ دُرَّةٍ مُجَوَّفَةٍ، قَالَ: فَيَخِرُّ سَاجِدًا، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ، فَيُقَالُ: إِنَّمَا هَذَا مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِكَ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ فَيَسْتَقْبِلُهُ رَجُلٌ فَيَقُولُ: أَنْتَ مَلَكٌ؟ فَيُقَالُ: إِنَّمَا ذَلِكَ
قَهْرَمَانٌ مِنْ قَهَارِمَتِكَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِكَ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ فَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا قَهْرَمَانٌ مِنْ قَهَارِمَتِكَ عَلَى هَذَا الْقَصْرِ تَحْتَ يَدَيْ أَلْفِ قَهْرَمَانٍ كُلُّهُمْ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِ عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى يُفْتَحَ الْقَصْرُ وَهُوَ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ سَقَايِفُهَا وَأَبْوَابُهَا وَأَغْلَاقُهَا وَمَفَاتِيحُهَا مِنْهَا، فَيُفْتَحُ لَهُ الْقَصْرُ فَيَسْتَقْبِلُهُ جَوْهَرَةٌ خَضْرَاءُ مُبَطَّنَةٌ بِحَمْرَاءَ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِيهَا سِتُّونَ بَابًا كُلُّ بَابٍ يُفْضِي إِلَى جَوْهَرَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى غَيْرِ لَوْنِ صَاحِبَتُهَا، فِي كُلِّ جَوْهَرَةٍ سُرَرٌ وَأَزْوَاجٌ وَتَصَارِيفُ - أَوْ قَالَ: وَوَصَائِفُ - قَالَ: فَيَدْخُلُ فَإِذَا هُوَ بَحَوْرَاءَ عَيْنَاءَ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةٌ يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ حُلَلِهَا كَبِدُهَا مِرْآتُهُ وَكَبِدُهُ مِرْآتُهَا، إِذَا أَعْرَضَ عَنْهَا إِعْرَاضَةً ازْدَادَتْ فِي عَيْنِهِ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: لَقَدِ ازْدَدْتِ فِي عَيْنِي سَبْعِينَ ضَعْفًا، وَتَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ: فَيُشْرِفُ بِبَصَرِهِ عَلَى مِلْكِهِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ» قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا كَعْبُ أَلَا تَسْمَعُ إِلَى مَا يُحَدِّثُنَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ عَنْ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَالَهُ فَكَيْفَ بِأَعْلَاهُمْ؟ قَالَ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَالْمَاءِ فَخَلَقَ لِنَفْسِهِ دَارًا بِيَدِهِ فَزَيَّنَهَا بِمَا شَاءَ وَجَعَلَ فِيهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالشَّرَابِ، ثُمَّ أَطْبَقَهَا فَلَمْ يَرَهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقَهَا لَا جِبْرِيلُ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. وَخَلَقَ دُونَ ذَلِكَ جَنَّتَيْنِ فَزَيَّنَهُمَا بِمَا شَاءَ وَجَعَلَ فِيهِمَا مَا ذَكَرَ مِنَ الْحَرِيرِ وَالسُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَأَرَاهُمَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَمَنْ كَانَ كِتَابُهُ فِي عِلِّيِّينَ يُرَى فِي تِلْكَ الدَّارِ، فَإِذَا رَكِبَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَنْزِلْ خَيْمَةً مِنْ خِيَامِ الْجَنَّةِ إِلَّا دَخَلَهَا مِنْ ضَوْءِ وَجْهِهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَسْتَنْشِقُونَ رِيحَهُ وَيَقُولُونَ: وَاهًا لِهَذِهِ الرِّيحِ الطَّيِّبَةِ، وَيَقُولُونَ: لَقَدْ أَشْرَفَ عَلَيْنَا الْيَوْمَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ "، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ قَدِ اسْتَرْسَلَتْ فَاقْبِضْهَا، فَقَالَ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ لِجَهَنَّمَ زَفْرَةً مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا يَخِرُّ لِرُكْبَتَيْهِ حَتَّى يَقُولَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ عليه السلام:
رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي، وَحَتَّى لَوْ كَانَ لَكَ عَمَلُ سَبْعِينَ نَبِيًّا إِلَى عَمَلِكَ لَظَنَنْتَ أَنْ لَا تَنْجُوَ مِنْهَا»
(1)
(1)
صحيح. أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (29)؛ وعبد الله بن أحمد في السنة (1203)؛ والشاشي في مسنده (410/ مختصرا) قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، والطبراني في المعجم الكبير (9763) قال: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الْأَزْدِيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْحَضْرَمِيُّ، والخلال في السنة -كما في إبطال التأويلات لأبي يعلى (1/ 155) - قال: أنا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، والدارقطني في رؤية الله (163) قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَوْفٍ، وابن منده في كتاب الإيمان (2/ 820) قال: أَنْبَأَ أَبُو عَمْرٍو، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَهْ، ح وَأَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثَنَا الصَّاغَانِيُّ، والبيهقي في البعث (425، 1012) قال: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، - وهو الصاغاني-؛ وأبو موسى المديني في كتاب اللطائف من علوم المعارف (649/ مختصرا) قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُوسَى، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، نا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ اللَّيْثِ؛ كلهم (ابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد، وابن أبي خيثمة، ومحمد بن النضر، والحضرمي، والمروذي؛ وابن أبي عوف، وابن وارة، والصاغاني والحسن بن أحمد بن الليث) قالوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ خَالِدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم به. وقال ابن منده:«هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ» ا. هـ وصححه المنذري في الترغيب وقال ابن القيم في "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح "(2/ 94 - طبعة الكردي): هذا حديث كبير حسن
…
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (7/ 349). وخولف فيه زيد بن أبي أنيسة؛ فرواه أبو خالد الدالاني عن المنهال به موقوفا -ولا يضر فله حكم الرفع وقد روي عنه مرفوعا-. رواه ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (278) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (123) قال: حَدَّثَنَاهُ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، والطبراني في المعجم الكبير (9763) قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، والدارقطني في كتاب الرؤية (162) قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ دُبَيْسِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَدَّادُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبِرْتِيُّ الْقَاضِي؛ والحاكم في المستدرك (3424) -وعنه البيهقي في البعث (399) - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عِصْمَةَ، قَالُوا: ثنا السَّرِيُّ بْنُ خُزَيْمَةَ، كلهم (محمد بن يحيى، ويوسف بن موسى، وعلي بن عبد العزيز، وأحمد البرتي، والسري بن خزيمة) قالوا: ثنا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ النَّهْدِيُّ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو خَالِدٍ الدَّالَانِيُّ، ثنا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه به موقوفا. ورواه الحاكم في (8751) قال: أَخْبَرَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دُحَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ الْغِفَارِيُّ، ثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ، به فرفعه. ورجح الدارقطني رفعه. انظر العلل للدارقطني (854)، وفي المنتخب من علل الخلال (1/ 263/ رقم 166) قال: أَخْبَرَنَا الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: ذَكَرْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ: ثنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
…
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَمْ يَقَعْ إِلَيْنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، وَاسْتَحْسَنَهُ. وَقَالَ: قَدْ رَوَاهُ الأَعْمَشُ مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ أَبُو يَزِيدَ الدَّالانِيُّ مَرْفُوعًا. قال الخلال: وأخبرني زكرنا بْنُ يَحْيَى: ثنا أَبُو طَالِبٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أبا عبد الله عن هذا الحديث، فجعلتُ أقرأهُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَا أَحْسَنَهُ، إِنَّمَا سَمِعْنَاهُ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ مُرْسَلا ا. هـ
الجنة لمن آمن وعمل صالحا:
وهذه الجنة ينالُها أهلُ الإيمان وأهلُ التقوى وأهلُ الأعمال الصالحات. والقرآنُ مليءٌ بحَثِّ الناس على العمل الصالح، قال تعالى:{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)} [الزخرف]. ويقول الله -جل وعلا-: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} [طه]. فالجنة يثيب الله عز وجل بها أولياءه ممن آمن وعمل صالحًا، وقال الله سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)} [الأحقاف] يعني بأعمالهم الصالحة. وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة] وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر]. والآيات في بشارة من آمن وعمل صالحا بالجنة كثيرة.
(1)
(1)
وجمعها ابن القيم في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم (2/ 825).
قال ابن القيم: «
…
مداره على ثلاث قواعد: إيمان، وتقوى، وعمل خالص للَّه على موافقة السنة. فأهل هذه الأصول الثلاثة هم أهل البشرى دون مَنْ عَدَاهم من سائر الخلق، وعليها دارت بشارات القرآن والسنة جميعها، وهي تجتمع في أصلين: إخلاص في طاعة اللَّه، وإحسان إلى خلقه، وضدها يجتمع في الذين يراؤون ويمنعون الماعون، ويرجع إلى خصلة واحدة، وهي موافقة الرب سبحانه وتعالى في محابِّه، ولا طريق إلى ذلك إلا بتحقيق القدوة ظاهرًا وباطنًا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وأما الأعمال التي هي تفاصيل هذا الأصل، فهي:«بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»
(1)
. وبين هاتين الشعبتين سائر الشُّعب التي مرجعها إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به، وطاعته في جميع ما أمر به إيجابًا واستحبابًا، كالإيمان بأسماء الرب وصفاته وأفعاله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل ا. هـ
(2)
دخول الجنة برحمة الله:
فليس عمل العبد مستقلا بدخولها، ولكنه سببٌ من أسباب دخول الجنة. كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:«لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: لَا، وَلَا أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»
(3)
والمعنى أنَّ هذه الأعمال ليست ثمنًا، ولكنها سبب، فالباء في قوله تعالى:{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)} [الأحقاف] سببيةٌ أي: بسبب أعمالكم، وليست باء الثمنية، قال غيرُ واحدٍ من السلف: "ينجونَ من النار بعفو الله ومغفرته، ويدخلونَ الجنة بفضله ونعمتِه، ويتقاسمونَ المنازلَ بأعمالهم ا. هـ فهذا ما تدل عليه الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة.
(4)
(1)
تقدم تخريج هذا الحديث برواياته المختلفة في المجلس الأول.
(2)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم (2/ 826).
(3)
أخرجه البخاري (5673)، ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
انظر: مفتاح دار السعادة (1/ 20)، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» (1/ 176) لابن القيم، البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/ 67)، والمحجة في سير الدلجة لابن رجب -ضمن مجموع مؤلفاته- (4/ 393).
سؤال الله الجنة:
روى الإمام الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ الجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَمَنْ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ»
(1)
وفي مسند أبي يعلى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا اسْتَجَارَ عَبْدٌ مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ، إِلَّا قَالَتِ النَّارُ: يَا رَبِّ إِنَّ عَبْدَكَ فُلَانًا قَدِ اسْتَجَارَكَ مِنِّي فَأَجِرْهُ، وَلَا يَسْأَلُ اللَّهَ عَبْدٌ الْجَنَّةَ فِي يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ، إِلَّا قَالَتِ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ إِنَّ عَبْدَكَ فُلَانًا سَأَلَنِي فَأَدْخِلْهُ»
(2)
وفي سنن أبي داود عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: «كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ» ، قَالَ: أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ»
(3)
وفي مسند أحمد وسنن ابن ماجه عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا
(1)
سنن الترمذي (2572) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3654)، وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (685)
(2)
مسند أبي يعلى الموصلي (6192)، وصححه على شرط الشيخين الضياء المقدسي في صفة الجنة (47) والمنذري في الترغيب (5521) وابن القيم في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم» (1/ 185) والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2506) وقال ابن كثير في البداية والنهاية ط هجر (20/ 385): على شرط مسلم ا. هـ والصواب -كما في علل الدارقطني (2213) - أن الحديث مداره على يونس بن خباب -وهو ضعيف رافضي لم يخرجا له- واختلف عليه فيه، والصواب رواية الجماعة عن يونس عن أبي علقمة عن أبي هريرة مرفوعا. وخولف فيه يونس -مع ضعفه-، فقد رواه الطيالسي في مسنده (2702) قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَلْقَمَةَ، فذكره مقطوعا. قَالَ شُعْبَةُ: وَلَمْ يَرْفَعْهُ يَعْلَى إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. ويعلى ثقة من رجال مسلم.
(3)
سنن أبي داود (792) وصححه الألباني في صفة الصلاة وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (46) ورواه ابن ماجه (910، 3847) وسمى الصحابي أبا هريرة رضي الله عنه. وصحح الدارقطني في العلل (1944) رواية أبي داود.
عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآَجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ تَقْضِيهِ لِي خَيْرًا»
(1)
من أسباب دخول الجنة:
قال الله تعالى {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} [ص]
وقال تعالى {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)} [القلم]
وأعظم أسباب دخول الجنة والنجاة من النار التوحيد، وقد تقدم حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ،
(1)
مسند أحمد (41/ 474) رقم (25019) سنن ابن ماجه (3846) وهو في السلسلة الصحيحة (1542).
وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ». وفي رواية:«أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ»
(1)
.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْنِينِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، [قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ:«لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ» ، قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: فَأَعَادَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ ذَا رَحِمِكَ» فَلَمَّا أَدْبَرَ، قَالَ رَسُولُ اللهَ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»
(2)
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولِ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ:«تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ» ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سَرَّهُ أَنَّ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا»
(3)
وفي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم «
…
مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ»
(4)
وفيه عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ:«نَعَمْ» ، قَالَ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا.
(5)
(1)
أخرجه البخاري (3435) ومسلم (28).
(2)
صحيح البخاري (1396، 5982) وصحيح مسلم (15) واللفظ له وما بين معكوفين رواية لمسلم.
(3)
صحيح البخاري (1397) وصحيح مسلم (14).
(4)
صحيح مسلم (1844)
(5)
المرجع السابق (15)
وفي سنن الترمذي عنْ أَبي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قالَ: سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» وفي رواية لأحمد والحاكم: «اعْبُدُوا رَبَّكُمْ
…
» وفي رواية لابن حبان والحاكم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَطِيعُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ
…
»
(1)
وروى أبو نعيم في معرفة الصحابة عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ، فَإِذَا النَّاسُ يُطِيفُونَ بِرَجُلٍ [وفي رواية:
…
فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ يُحَدِّثُ، مَجْذُوذِ الْأَصَابِعِ أومُجْذَمَ الْيَدَيْنِ]، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: فَقَالُوا: [إِنَّ] هَذَا أَفْقَهُ مَنْ بَقِيَ [عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ] الْيَوْمَ، [مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، هَذَا عَمْرٌو الْبِكَالِيُّ رضي الله عنه فَقُلْتُ: مَا لِيَدِهِ؟ [مَا شَأْنُ أَصَابِعِهِ؟] فَقَالُوا: أُصِيبَتْ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ بِالشَّامِ زَمَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ فِيكُمْ ثَلَاثَةَ أَعْمَالٍ كُلُّهَا تُوجِبُ لِأَهْلِهَا الْجَنَّةَ: رَجُلٌ قَامَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ مِنْ فِرَاشِهِ، وَدِثَارِهِ، وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَيَقُولُ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: مَا يَحْمِلُ عَبْدِي عَلَى مَا صَنَعَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا رَجَّيْتَهُ أَمْرًا فَرَجَاهُ، وَخَوَّفْتَهُ أَمْرًا فَخَافَهُ، قَالَ: فَيَقُولُ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا، وَآمَنْتُهُ مِمَّا خَافَ، وَرَجُلٌ كَانَ فِي فِئَةٍ فَانْكَشَفَتْ فِئَتُهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْعَدُوَّ بِنَحْرِهِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَيَقُولُ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: مَا حَمَلَ عَبْدِي هَذَا عَلَى مَا صَنَعَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: رَبَّنَا رَجَّيْتَهُ أَمْرًا فَرَجَاهُ، وَخَوَّفْتَهُ أَمْرًا فَخَافَهُ، قَالَ: فَيَقُولُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا، وَآمَنْتُهُ مِمَّا خَافَ، قَالَ: وَقَوْمٌ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللهَ عز وجل فَيَقُولُ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ:
(1)
أخرجه الترمذي (616) وأحمد (22161، 22258، 22260) وصححه ابن حبان (4563) والحاكم (19، 1436، 1741) وحسنه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (77). وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ا. هـ ووافقه الألباني في السلسلة الصحيحة (867)، وفيه نظر: فإنه من طريق معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر، وليس في مسلم رواية لمعاوية، عن سليم، بل لم يرو مسلم في صحيحه لسليم إلا حديثا واحدا من طريق عبد الرحمن بن جابر، عن سليم بن عامر قال حدثني المقداد؛ وهو حديث: «تدنى الشمس يوم القيامة
…
».
مَا حَمَلَ عَبِيدِي هَؤُلَاءِ عَلَى مَا صَنَعُوا؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا رَجَّيْتَهُمْ أَمْرًا فَرَجَوْهُ، وَخَوَّفْتَهُمْ أَمْرًا فَخَافُوهُ، قَالَ: فَيَقُولُ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ مَا رَجَوْهُ، وَآمَنْتُهُمْ مِمَّا خَافُوهُ»
(1)
وهذا باب واسع، فيا إخواني في الله اجتهدوا في الأعمال الصالحات. فنعيم الجنة لا يوصف، وإننا لا نكاد ننتهي من ذكر ما أعدَّ الله عز وجل لأوليائه في جنات عدن مما جاء أخباره في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولنحرص على قراءة ما أعدَّه الله عز وجل لأوليائه في الجنة من طعام وشراب ونعيم وراحة وخدم.
فالمؤمن إذا دخل الجنة -كما نقل ابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن القيم في حادي الأرواح وغيرهما- يكون فيها مَلِكاً: يسكن أعظم القصور، ويجتمع عليه من الخدم ما لا يُحصَى. كما قال الله -جل وعلا- في كتابه الكريم في سورة تتردد علينا ونقرؤها في فجر كل جمعة يقول تعالى:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} يعني على أهل الجنة {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} [الإنسان] فإذا كان الخادم في الجنة الذي يخدمك صورتُه كاللؤلؤ المنثور في جماله وفي حسنه فكيف بالمخدوم؟!
نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من أهل الجنة
ونسأله سبحانه وتعالى أن يُثبِّتنا على الأعمال الصالحات حتى نلقاه.
والحديث عن الجنة ونعيمها حديثٌ ذو شجون، ولعلَّ فيما ذكرناه كفايةٌ، والمقصود أن نعلم أن من الإيمان باليوم الآخر الإيمانَ بالجنة،
نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من أهلها،
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
معرفة الصحابة لأبي نعيم (4/ 2026) رقم (5092) ورواه ابن سعد في الطبقات ط دار صادر (7/ 421) مختصرا. وما بين معكوفين منه. ورواه البخاري في التاريخ الأوسط ط الرشد (781). وعزاه الحافظ في الإصابة ط هجر (7/ 487) إلى البخاري في التاريخ الصغير ومحمد بن نصر في قيام الليل [(المختصر ص 57)]، وابن مَنْدَه وقال: إسناده صحيح ا. هـ
الإيمان بالنار
المجلس السابع والثلاثون
(1)
الإيمان بالنار:
الإيمانُ بالجنة والنار أمرٌ واجبٌ، وهو متصِلٌ بالإيمان باليوم الآخر، فلا يتم إيمانُ امرئٍ حتى يؤمن بالجنة والنار، وأنهما حقٌّ وأنهما مخلوقتان موجودتان الآن كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله الجنة لأوليائه والنار لأعدائه، نسأل الله أن يجيرنا وإياكم منها.
وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ»
(2)
فدلَّ هذا الحديث على وجوب الإيمان بالجنة والنار.
الجنة والنار مخلوقتان موجودتان لا تفنيان ولا تبيدان:
يقول الطحاوي رحمه الله في عقيدته: "وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيْدَانِ، وأن اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ "
(3)
.
فهذا تلخيصٌ لعقيدة المؤمن التي يجب أن يعتقدها في باب الجنة والنار.
من أدلة الإيمان بالنار الاستعاذة بالله منها:
والإيمانُ بالنار قد دلَّت عليه نصوص كثيرةٌ من الكتاب والسنة، والقرآنُ مليءُ
(1)
كان في يوم الخميس السادس والعشرين من شهر شوال من عام 1441 هـ.
(2)
تقدَّم في المجلس الخامس والثلاثين.
(3)
متن الطحاوية بتعليق الألباني (ص: 73)
بالتحذير من النار -أعاذنا الله وإياكم منها-، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من النار. ولو تأمل المسلمُ حال النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة سيجد أنه صلى الله عليه وسلم كان يكرر الاستعاذة بالله -جل وعلا- من نار جهنم كثيرا.
استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من النار:
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» متفق عليه
(1)
وفي حديث عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ، [ثَلَاثَاً] ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» متفق عليه
(2)
.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ وَالهَرَمِ، وَالمَغْرَمِ وَالمَأْثَمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ القَبْرِ وَعَذَابِ القَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ» متفق عليه
(3)
وقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا، فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ،
…
فذكرت الحديث ثم قالت: فَكُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ، يَتَعَوَّذُ مِنْ [عَذَابِ النَّارِ، وَ] عَذَابِ الْقَبْرِ. متفق عليه
(4)
سؤال الله الجنة والاستعاذة به من النار في الصباح والمساء:
وفي أذكار الصباح والمساء جاءت السنَّةُ بالاستعاذة بالله -جل وعلا- من عذاب النار،
(1)
صحيح البخاري (4522) وصحيح مسلم (2690).
(2)
صحيح البخاري (6023، 6563) وصحيح مسلم (1016). وما بين قوسين رواية لهما.
(3)
صحيح البخاري (6367، 6375) وصحيح مسلم (589).
(4)
صحيح البخاري (1050) وصحيح مسلم (903) والزيادة منه.
فيستعيذ العبدُ من نار جهنم، ويستعيذ من عذاب القبر كلَّ صباح وكلَّ مساء.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَمْسَى قَالَ:«أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ» وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا: «أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ»
(1)
الاستعاذة بالله من النار قبل النوم:
روي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانِي وَآوَانِي، وَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي، وَالَّذِي مَنَّ عَلَيَّ فَأَفْضَلَ، وَالَّذِي أَعْطَانِي فَأَجْزَلَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ، أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ» رواه أبو داود، وهو حديث معل.
(2)
الأمر بالتعوذ بالله من النار:
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ فَقَالَ: «مَنْ يَعْرِفُ
(1)
صحيح مسلم (2723)
(2)
أخرجه أبو داود (5058) وصححه ابن حبان (5538) وصححه الألباني في التعليقات الحسان على شرط الشيخين. وقال شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1641): هذا حديث صحيحٌ على شرط البخاري ا. هـ قلت: والحديث معل فقد رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق (964) عن أَبي مَعْمَرٍ المقري، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ عِمْرَانَ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
…
فذكره قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ: فَقَالَ لَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْعَنَزِيُّ: كُنْتَ حَدَّثْتَ بِهِ مَرَّةً، فَقُلْتَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: ذَاكَ خَطَأٌ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: اجْعَلْهُ ابْنَ عِمْرَانَ ا. هـ قال الحافظ في النكت الظراف (5/ 444/ مع تحفة الأشراف): وابن عمران ما عرفته وهذه علة قادحة فإن أبا معمر أثبت من عبد الصمد -راويه عن أبيه عبد الوارث عند أبي داود - ا. هـ وقال ابن أبي حاتم في العلل (5/ 367) عن أبيه حَدِيثُ أَبِي مَعْمَر أشبهُ. قال قلتُ لأَبِي: ابنُ عمران من هو؟ قَالَ: لا أدري. قلتُ: فابنُ بُرَيْدة أدركَ ابنَ عُمَرَ؟ قَالَ: أَدركَهُ ولم يَبِنْ سماعُهُ منه ا. هـ
أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ:«فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟» قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ، فَقَالَ:«إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ» ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ:«تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ:«تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ:«تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، قَالَ:«تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. رواه مسلم
(1)
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها الاستعاذة بالله من النار في دعائها:
وفي مسند أحمد وسنن ابن ماجه -وقد تقدم- عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ: وفيه «
…
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ
…
»
(2)
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم رجلا عاده في مرضه أن يدعو بأن يقيه الله من النار:
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟» قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«سُبْحَانَ اللهِ لَا تُطِيقُهُ - أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ - أَفَلَا قُلْتَ: اللهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ، فَشَفَاهُ. رواه مسلم
(3)
وهذا الدعاء كان من أكثر أدعية النبي صلى الله عليه وسلم التي يدعو الله بها -كما تقدم-.
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الاستعاذة بالله من جهنم كما يعلمهم السورة من القرآن:
في الموطأ عَنْ مالِكٍ، -وهو في صحيح مسلم- عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ طَاوُسٍ
(1)
صحيح مسلم (2867)
(2)
تقدم (ص: 423)
(3)
صحيح مسلم (2688).
الْيَمَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ. كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»
(1)
الاستعاذة بالله من النار في كل صلاة:
وقد علَّمنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن نُكثِرَ من سؤال الله الجنة والاستعاذة به من النار، وقد تقدم في المجلس السابق ذكر ما صح في سنن أبي داود عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: «كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ» ، قَالَ: أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ»
(2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» رواه مسلم.
(3)
الدعاء للميت أن يعيذه الله من النار:
وعنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللهُمَّ، اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ
(1)
موطأ مالك ت عبد الباقي (1/ 215) رقم (33) وصحيح مسلم (2688).
(2)
تقدم (ص: 422).
(3)
صحيح مسلم (588).
وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ -» وفي رواية «وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ» قَالَ: «حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ» رواه مسلم
(1)
الاستعاذة بالله من النار في الطواف بين الركنين:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»
(2)
الاستعاذة بالله من النار في السفر في السحر:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يَقُولُ:
(3)
.
وفي مصنف عبد الرزاق عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، كَانَ إِذَا كَانَ عَشِيَّةَ الصُّبْحِ وَهُوَ مُسَافِرٌ قَالَ: قُلْتُ مَرَّاتٍ: «سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ صَاحِبْنَا، وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ جَهَنَّمَ» ورواه المحاملي في الدعاء بلفظ: كَانَ إِذَا غَشِيَهُ الصُّبْحُ، وَهُوَ مُسَافِرٌ، نَادَى: «
…
، عَائِذٌ بِاللَّهِ» - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -.
(4)
(1)
المرجع السابق (963)
(2)
سنن أبي داود (1892) وصححه ابن خزيمة (2721) وابن حبان (3826) والحاكم (1673) وحسنه الألباني
(3)
صحيح مسلم (2718) واستدركه الحاكم فرواه بلفظ:
…
إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ (فَبَدَا لَهُ الْفَجْرُ) قَالَ: «سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ (وَنِعْمَتِهِ)، وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا فَأفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذًا بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ» يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ. قال العلامة الألباني في الصحيحة (6/ 287): قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. قلت: إنما هو صحيح فقط، لأن راويه عنده عن ابن وهب (الربيع بن سليمان)، وليس من رجال مسلم، وقد زاد زيادتين: إحداهما: " ونعمته " بعد قوله: " بحمد الله ". وهي عند أبي داود أيضا. والأخرى في آخر الحديث: " يقول ذلك ثلاث مرات، ويرفع بها صوته ". قلت: هما شاذتان لعدم ورودهما في أكثر الطرق المشار إليها عن ابن وهب
…
إلخ.
(4)
مصنف عبد الرزاق (5/ 343 ط التأصيل الثانية) رقم (9567) والدعاء للمحاملي (55) -ومن طريقه الذهبي في سير أعلام النبلاء - ط الرسالة (6/ 385)، والحافظ في نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار ط ابن كثير (2/ 352) -.
الصالحون يستجيرون بالله من النار:
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)} [آل عمران]. وقال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)} [آل عمران]. وقال تعالى في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان: 65]
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ تبارك وتعالى مَلَائِكَةً [سَيَّارَةً، فُضُلًا] يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ» قَالَ: «فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» [فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ] قَالَ: «فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ» قَالَ: «فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟» قَالَ: «فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ؟» قَالَ: «فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟» قَالَ: «يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا» قَالَ: «يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟» قَالَ: «يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ» قَالَ: «يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟» قَالَ: «يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا» قَالَ: «يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟» قَالَ: «يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟» قَالَ: «يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ» قَالَ: «يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟» قَالَ: «يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا» قَالَ: «يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟» قَالَ: «يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا
مَخَافَةً» قَالَ: [قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ]«فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ» [قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا] قَالَ: «يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلَائِكَةِ: [رَبِّ] فِيهِمْ فُلَانٌ [عَبْدٌ خَطَّاءٌ] لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ [إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ]. قَالَ: [فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ] هُمُ الجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» متفق عليه
(1)
دخول النار هو الخزي العظيم:
خلق الله عز وجل نار جهنم وتوعَّد بها أعداءَه الكافرين والمتمرِّدين على شرعه والمكذبين لرسله وجعلها الخِزْيَ الأكبر والخسران العظيم الذي لا خِزْيَ فوقه ولا خُسْرانَ أعظم منه، يقول ربُّنا سبحانه وتعالى في دعاء أوليائه:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)} [آل عمران]
ويقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)} [التوبة]
ويقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)} [الزمر]. ولهذا قال ربنا سبحانه وتعالى آية أخرى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] فالفوزُ بالجنة يقابله هذا الخسران العظيم لمن باء بنار جهنم -عياذا بالله من النار-.
الإنذار بالنار والتحذير منها:
قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ
(1)
صحيح البخاري (6408) واللفظ له، وصحيح مسلم (2689) ومنه الزيادات.
مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم] وقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} [آل عمران] وقال تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)} [المدثر]
قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا أُنْذِرَ النَّاسُ بِشَيْءٍ أَدْهَى مِنْهَا، أَوْ بِدَاهِيَةٍ هِيَ أَدْهَى مِنْهَا
(1)
.
النبي صلى الله عليه وسلم ينذر أمته النار:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء]، دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ:«يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا» رواه مسلم
(2)
وفي المسند عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما يَخْطُبُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَقُولُ: «أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ، أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ» حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ بِالسُّوقِ، لَسَمِعَهُ مِنْ مَقَامِي هَذَا، قَالَ: حَتَّى وَقَعَتْ خَمِيصَةٌ كَانَتْ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ.
(3)
.
وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ» ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاح، ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ» ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلَاثًا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»
(4)
(1)
أخرجه الطبري في التفسير ط هجر (23/ 445)
(2)
أخرجه مسلم (204)
(3)
أخرجه أحمد (30/ 348) رقم (18398) والدارمي (2854) وصححه ابن حبان (644) والحاكم (1058) وصححه على شرط مسلم ووافقه الألباني في صحيح الترغيب (3659) وحسنه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (76).
(4)
أخرجه البخاري (6540) واللفظ له ومسلم (1016)
وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَـ[لَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ] جَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، [فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا] فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ [عَنِ النَّارِ] [هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ] وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ» . متفق عليه ولمسلم عَنْ جابر نحوه
(1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «[إِنِّي آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ، أَقُولُ: إِيَّاكُمْ وجهنمَ، إِيَّاكُمْ والحدودَ، إِيَّاكُمْ وجهنمَ، إِيَّاكُمْ والحدودَ، إِيَّاكُمْ وجهنمَ، إِيَّاكُمْ والحدودَ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا أَنَا مِتُّ تَرَكْتُكُمْ، وَ] أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَ أَفْلَحَ، وَيُؤْتَى بِأَقْوَامٍ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ، فَيُقَالُ: مَا زَالُوا بَعْدَكَ يَرْتَدُّونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ»
(2)
الوعيد لخاصة الخلق بالنار إذا عصوا الله:
قال الله -جل وعلا-: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} [الإسراء: 39] وقال سبحانه في حق الملائكة المكرمين: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء]
خوف الأنبياء عليهم السلام من النار:
وَعَنْ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة، قال: «فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ كَانَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ فَعَصَيْتُهُ وَأَطَعْتُ الشَّيْطَانَ، نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ، فَعَصَيْتُهُ فَأَخَافُ أَنْ يَطْرَحَنِي
(1)
أخرجه البخاري (6483) ومسلم (2284) والسياق له والزيادات من البخاري إلا الأخيرة فرواية لمسلم. ولمسلم (2285) من حديث جابر رضي الله عنه نحوه.
(2)
رواه أحمد (2327) -وابنه عبد الله في زوائده على المسند- وأبو خيثمة في التاريخ (181) وابن أبي عاصم في السنة (773) والبزار (5110) والزيادة في أوله للبزار. وفي سنده الليث بن أبي سليم ضعيف مختلط وللحديث طرق وشواهد ولذا حسنه الشيخ الألباني لغيره في السلسلة الصحيحة (3087) وفي صحيح الترغيب والترهيب (2344).
فِي النَّارِ فَانْطَلِقُوا إِلَى غَيْرِي» -وذكر في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى مثل ذلك-، كلهم يقول:«إِنِّيْ أَخَافُ أَنْ يَطْرَحَنِي فِي النَّارِ فَانْطَلِقُوا إِلَى غَيْرِي»
(1)
قال الحافظ زين الدين ابن رجب رحمه الله: ولم يزل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون يخافون النار ويخوفون منها ا. هـ
(2)
صفة الخوف الواجب:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: والقدر الواجب من الخوف، ما حمل عَلَى أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد عَلَى ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس عَلَى التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلاً محمودًا، فإن تزايد عَلَى ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًّا لازمًا بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل، لم يكن ذلك محمودًا،
…
والمقصود الأصلي هو طاعة الله عز وجل وفعل مراضيه ومحبوباته وترك مناهيه ومكروهاته. ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته في الصدور وإجلاله مقصود أيضاً، ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عونًا عَلَى التقرب إِلَى الله بفعل ما يحبه وترك ما يكرهه، ومتى صار الخوف مانعًا من ذلك وقاطعًا عنه فقد انعكس المقصود منه ا. هـ
(3)
خلق الله النار رحمة يخوف بها عباده:
قال الحافظ زين الدين ابن رجب رحمه الله: خوف العقاب ليس مقصودًا لذاته، إِنَّمَا هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها، ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله عَلَى عباده
(1)
أخرجه بهذا اللفظ: إسحاق ابن راهويه (184) وابن أبي الدنيا في الأهوال (154) والبزار (9801) وابن حبان (6465) وابن منده في «الإيمان» (2/ 851) رقم (882) وإسناده صحيح على شرط الشيخين. ورواه مسلم (194) ولم يسق لفظه بتمامه. وقال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية ط هجر» (19/ 418): وهي زيادة غريبة جدا، ليست في الصحيحين، ولا في أحدهما، بل ولا في شيء من بقية السنن، وهي منكرة جدا، فالله أعلم ا. هـ وقواه واحتج به الحافظ ابن رجب في «التخويف من النار» (23/ ط بشير عيون)
(2)
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص 24)
(3)
المرجع السابق (ص 52)
الذين خافوه واتقوه، ولهذا المعنى عدها سبحانه من جملة آلائه عَلَى الثقلين في سورة الرحمن. وقال سفيان بن عيينة:«خُلِقَتِ النَّارُ رَحِمةً يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ لِيَنْتَهُوا» أخرجه أبو نعيم
(1)
ا. هـ
(2)
سعة النار:
خَلَقَ اللهُ النارَ، وهي دارٌ شاسعةٌ واسعةٌ بعيدٌ قَعْرُها متراميةٌ أطرافُها، يقول الله -جل وعلا- مبيِّنًا ما هي عليه:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً-يعني صوت سقوط شيء-فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا»
(3)
.
ولهذا قال العلماء: بعيدٌ قعرُها. وجاء أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَوْ أَنَّ حَجَرًا مِثْلَ سَبْعِ خَلِفَاتٍ أُلْقِيَ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ هَوَى فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا لَا يَبْلُغُ قَعْرَهَا»
(4)
.
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، يَنْزِلُ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ [وَالْمَغْرِبِ]»
(5)
(6)
(1)
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم (7/ 275)، وأخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (141).
(2)
التخويف من النار (ص 52).
(3)
أخرجه مسلم (2844).
(4)
أخرجه هناد ابن السري في الزهد (252)، وابن أبي شيبة (7/ 52) رقم (34147) وأبو يعلى (4103) وابن أبي الدنيا في صفة النار (14) والبيهقي في البعث والنشور (484) من حديث يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه. ويزيد ضعيف. لكن للحديث شواهد يحسن بها فانظر: السلسلة الصحيحة (4/ 146).
(5)
أخرجه البخاري (6477) ومسلم (2988) ومنه الزيادة.
(6)
أخرجه البخاري (6478).
وفي سنن الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ [مِنْ سُخْطِ اللَّهِ] لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا [وفي رواية: مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ] يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ»
(1)
وقال عبد الله بن المبارك: أنا عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَتَدْرِي مَا سِعَةُ جَهَنَّمَ؟» قَالَ: قُلْتُ: لَا قَالَ: «أَجَلْ، وَاللَّهِ مَا تَدْرِي (إِنَّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِينَ خَرِيفًا، يَجْرِي فِيهَا أَوْدِيَةُ الْقَيْحِ وَالدَّمِ)» ، قُلْتُ لَهُ: أَنْهَارٌ؟ قَالَ: «لَا، بَلْ أَوْدِيَةٌ» ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي مَا سَعَةُ جَهَنَّمَ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ مَا تَدْرِي. حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها، أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] قُلْتُ: فَأَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ»
(2)
(1)
أخرجه الترمذي (2314) واللفظ له وابن ماجه (3970) ومنه الزيادة وصححه ابن حبان (5706) والحاكم (8769) والرواية المذكورة له وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وتعقبه الحافظ في إتحاف المهرة (15/ 447) فقال: قلت: قد أخرجه بمعناه ا. هـ يعني الرواية السابقة. قلت: وفي إسناد الحاكم محمد بن إسحاق بن يسار وهو ليس على شرط مسلم. وقد سقط ذكره من بعض الطبعات.
(2)
الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (2/ 85) ورواه الترمذي (3241) والنسائي في السنن الكبرى (11389) وأحمد (24856) وابن أبي الدنيا في صفة النار (18) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 183) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (3630) - ومن طريقه البيهقي في البعث والنشور ت الشوامي (1154) - من طرق عن ابن المبارك به. واختصر الترمذي أوله. وروى النسائي المرفوع فقط. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال أبو نعيم: غريب من حديث مجاهد تفرد به حبيب عن حمزة (كذا وصوابه: تفرد به حبيب بن أبي عمرة) وهو كوفي ثقة عزيز الحديث ا. هـ وصححه الالباني في الصحيحة (561) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (1/ 464) وقال: هذا حديث صحيحٌ، وآخره في "الصحيح" ا. هـ قلت: يعني حديث عائشة رضي الله عنها رواه مسلم (2791) عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: «عَلَى الصِّرَاطِ» . والحديث رواه الحاكم (2999) أيضا من طريق هارون بن المغيرة، ثنا عنبسة، به وفيه أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: .. فقَالَ: يَقُولُ: «أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا أَنَا، وَيُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ» قَالَ: فَرَجَفَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْبَرُهُ حَتَّى قُلْنَا لَيَخِرَّنَّ ا. هـ وصححه الحاكم. وانظر: وصحيح الترغيب والترهيب (3684).
يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام:
تأملوا هذا الموقف الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين يؤتى بجهنم يوم القيامة. ففي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري: «ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ»
(1)
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» وجاء أيضًا مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
فتأمل كثرة عدد الملائكة الذين يأتون بالنار يومَ القيامة! قال الله -جل وعلا-: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر]
انظر كيف يؤتى بجهنم؟ يُؤتَى بها ولها سبعون ألفَ زمامٍ، مع كلِّ زمامٍ سبعون ألفَ ملكٍ يجرونها! فلك أن تتأمل عِظَمَ هذا الخلق الرهيب الذي جعل الله عز وجل معه سبعين ألفَ ملكٍ لكل زمام! فهذا يدل على عظمتها، نسأل الله السلامة والعافية.
يؤتى بجهنم بغتة:
يؤتى بالنار يوم القيامة بغتةً، فتفجأ أعداء الله، وتفجأ المجرمين. كما يقول الله سبحانه وتعالى:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)} [الأنبياء]
قوله تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} أي: تأتيهم فجأة فتُحيِّرُهم؛ لأنهم إن أرادوا الصبر عليها لم يقدروا، وإن أرادوا ردَّها {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} بسبب من الأسباب، {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} لا يُمهَلُون؛ ليستريحوا طَرْفَةَ عينٍ لتمام مدة الإنظار قبله، نسأل الله السلامة والعافية.
(1)
أخرجه البخاري (7439).
(2)
أخرجه مسلم (2842).
وبُرِّزَت الجحيمُ للغاوين:
ويقول الله -جل وعلا-: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)} [الشعراء] هذا من المواقف العظيمة يوم القيامة، يقول الحافظ ابن كثير:"أي أظهرت وكشف عنها، وبدت منها عنق، فزفرت زفرة بلغت منها القلوب إلى الحناجر"
(1)
ويقول الله جل: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)} [الكهف] أي: رأوا جهنَّمَ المحيطةَ بأنواع الهلاك: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} أي: أيقنوا بأنهم واقعون فيها. والظن هنا بمعنى اليقين أي: تيقَّنُوا حينئذ أنهم داخلون فيها، قال الله:{وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}
ويقول الله -جل وعلا- لنبيه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)} [الأنعام] أي: اطَّلعوا عليها، فعاينوها ورأوها، وتبينوها، فأيقنوا بما هم عليه من الهلاك حينما يمرون على الصراط والصراط منصوب على متن جنهم، فتأتي الندامةُ حينئذ:{يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)} . وقال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)} [الفجر: 23] يعني: من أيِّ وجهٍ له التذكر؟! {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 24] يتمنى أن يكون قد قدَّم شيئًا لحياته، سمَّاها حياةً؛ لأنها هي الحياة الحقيقية، إذ إنَّ الحياة الحقيقية هي الحياة يوم القيامة، لكنه لم يُقدِّمْ لها شيئًا، ففُوجِئَ بهذه النار، نسأل الله السلامة والعافية.
عَرْض النار:
تُعرَضُ النارُ يومَ القيامة على أعداء الله كما قال ربنا سبحانه: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]
(1)
تفسير ابن كثير (6/ 150، 149).
ويقول -جل وعلا-: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأحقاف: 34] يُسْأَلُون تبكيتًا، وردعًا، وتعذيبًا لهم:{قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)} [الأنعام]. ويقول سبحانه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)} [الكهف].
من سيُنَجِّيهم في ذلك الحين من عذاب الله سبحانه وتعالى؟! فيا أيها المؤمن وأنت تقرأ أو تستمع إلى هذه الأدلة من الآيات والأحاديث الصحيحة عليك أن تتوب إلى الله -جل وعلا-. وأن تعلم أنه لا مخرج للإنسان من هموم هذه الدنيا وأحزانها ومن عذاب الله يوم القيامة إلا أن يلقى الله سبحانه وتعالى تائبًا، وأن يلقى الله سبحانه وتعالى وهو على عملٍ صالحٍ يُقرِّبُه إلى الله -جل وعلا-. والله سبحانه وتعالى سمى يوم القيامة بيوم التغابن، اليوم الذي يحصل فيه الغبن لكل من فرط في طاعة الله -جل وعلا-.
فكاك المسلم من النار:
ومن المواقف العظيمة يوم القيامة: ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، دَفَعَ اللهُ عز وجل إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِنَ النَّارِ»
(1)
قال النووي رحمه الله: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «لِكُلِّ أَحَدٍ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ فَالْمُؤْمِنُ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ خَلَفَهُ الْكَافِرُ فِي النار» لاستحقاقه ذلك بكفره ومعنى «فِكَاكُكَ مِنَ النَّارِ» أَنَّكَ كُنْتَ مُعَرَّضًا لِدُخُولِ النَّارِ وَهَذَا فَكَاكُكَ
(1)
أخرجه مسلم (2767).
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لَهَا عَدَدًا يَمْلَؤُهَا فَإِذَا دَخَلَهَا الْكُفَّارُ بِكُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ صَارُوا فِي مَعْنَى الْفَكَاكِ لِلْمُسْلِمِينَ ا. هـ
(1)
والحديث المشار إليه رواه ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا لَهُ مَنْزِلَانِ: مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا مَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)} [المؤمنون]»
(2)
.
وقال البيهقي رحمه الله: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لِحَدِيثِ الْفِدَاءِ، وَالْكَافِرُ إِذَا أُورِثَ عَلَى الْمُؤْمِنِ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْمُؤْمِنُ إِذَا أُورِثَ عَلَى الْكَافِرِ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ فُدِيَ الْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
(3)
فاتقوا النار ولو بشق تمرة:
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» وفي رواية: «وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»
(4)
. دلَّ هذا الحديث على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكون المؤمن في الدنيا مجتهدًا في أن يعمل العمل الذي يقيه يوم القيامة من عذاب الله سبحانه وتعالى.
بعث النار:
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ»
(1)
شرح النووي على مسلم (17/ 85)
(2)
أخرجه ابن ماجه (4341) وصححه شيخنا الوادعي على شرط الشيخين في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (620).
(3)
شعب الإيمان (1/ 582).
(4)
أخرجه البخاري (7512) واللفظ له، ومسلم (1016) من حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه.
وهذا عددٌ عظيمٌ، قال العلماء «بَعْثُ النَّارِ» أي: المبعوث الموجه إليها، فيأمر اللهُ آدم ويقول له: ميِّزْ أهل النار من غيرهم، ويقول له من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون. يقول عليه الصلاة والسلام:«فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج] فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ؟» . إذا كان من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعين وينجو واحد فمن هو ذلك الواحد؟ - فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا وَمِنْكُمْ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ» قَالَ: فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ، إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ البَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، أَوِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الحِمَارِ»
(1)
.
وهذا يدل على فضل هذه الأمة المباركة. بل صح عَنِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، مِنْهُمْ ثَمَانُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» وفي رواية: «أَنْتُمْ مِنْهُمْ ثَمَانُونَ صَفًّا» رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد
(2)
. فدلَّ ذلك على أنَّ ثلثي أهل الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن جهنم كانت مرصادًا:
يقول ربنا سبحانه وتعالى في شأن النار يوم القيامة: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ]{مِرْصَادًا} أي: مرصدة يرصد فيها خزنتها من كان يُكذِّب بها وبالمعاد يوم القيامة.
يُعرَف المجرمون بسيماهم:
ويقول -جل وعلا- في شأن اختطاف الكفار والمجرمين: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} [الرحمن] فهم إذا جاؤوا يوم القيامة يُعرَفون بما عليهم من
(1)
أخرجه البخاري (6530) واللفظ له، ومسلم (222).
(2)
تقدم تخريجه في مبحث "هذه الأمة هي أكثر أهل الجنة. (ص: 17)
الكآبة والذلة والحزن وبسواد الوجوه وبزرقة العيون {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} [الرحمن: 41] تأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم، فتسحبهم إلى نار جهنم سحبًا،
يقول الله تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)} [الرحمن]. قال الحافظ ابن كثير: أَيْ: تَارَةً يُعَذَّبُونَ فِي الْجَحِيمِ، وَتَارَةً يُسْقَوْنَ مِنَ الْحَمِيمِ، وَهُوَ الشَّرَابُ الَّذِي هُوَ كَالنُّحَاسِ الْمُذَابِ، يُقَطِّعُ الْأَمْعَاءَ وَالْأَحْشَاءَ،
…
وَقَوْلُهُ: {آنٍ} أَيْ: حَارٌّ وَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْحَرَارَةِ، لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ ا. هـ
(1)
ويقول سبحانه وتعالى: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} [العلق] أي: زبانية جهنم وهم الملائكة الذين وكلوا بالعذاب.
صبغة في النار:
ومن المواقف التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ»
(2)
فتأمل يا أخي المسلم كيف هي الدنيا وأنها فانية لا تساوى عند الله شيئًا؛ فهذا «أَنْعَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ» ؛ كم كان عنده من النعيم، كان عنده شيء لا يوصف ولا يكاد يحصيه الإنسان في مجلس؛ لا يكاد ينقصه شيء من نعيم الدنيا ولكنه من أهل النار. «يُؤْتَى به فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ» فالعذاب فيها عظيم وشديد أنساه كل نعيم. وقد
(1)
تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 500)
(2)
أخرجه مسلم (2807).
جاء في الحديث أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ، أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي، فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ»
(1)
.
نسأل الله السلامة والعافية.
النار دركات:
والنار دَرَكَاتٌ كما أن الجنة دَرَجاتٌ، قال الله سبحانه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. والدَّرَك: الْمنزلَة، وَهِيَ مَنَازِلُ أَهْلِ النَّارِ وَقِيلَ: دَرَجَةٌ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: أَسْفَلُ النَّارِ.
(2)
قال ابن قتيبة رحمه الله: «فإن النار دركات، والجنة درجات، وعلى قدر الذنوب والحسنات تقع العقوبات والمثوبات، فمن أهل النار من طعامه الزّقّوم، ومنهم من طعامه غسلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصّديد» ا. هـ.
(3)
وقال القرطبي رحمه الله: «فالنار دركات سبعة أي طبقات ومنازل، وإنما قال: أدراك ولم يقل درجات لاستعمال العرب لكل ما تسافل درك، ولما تعالى درج، فيقول للجنة درج وللنار درك ا. هـ
(4)
ويجوز تسمية الكل درجات كما في قول الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132، الأحقاف: 19] أي وَلِكُلٍّ من الجنسين المذكورين دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منهما.
قال بعض المفسرين: يجوز أن يقال ذلك على وجه التغليب، لاشتمال كل على الفريقين ا. هـ
(5)
(1)
أخرجه البخاري (3334)، ومسلم (2805) كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
انظر: جمهرة اللغة (2/ 637) لابن دريد، وإعراب القراءات السبع وعللها ط العلمية (ص 87) ومقاييس اللغة لابن فارس (2/ 269).
(3)
تأويل مشكل القرآن (ص 48).
(4)
التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 838)
(5)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 304)
وقال زين الدين الرازي (ت: 666) رحمه الله: الدرجات تستعمل في الفريقين
…
وتحقيقه أن بعض أهل النار أخف عذاباً فمكانه فيها أعلى. وبعضهم أشد عذاباً فمكانه فيها أقل ولو سلم اختصاص الدرجات بأهل الجنة لقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ} [آل عمران: 163] فيكون راجعاً إليهم خاصة بتقديره. {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} ، وهم درجات عند الله {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} وهم دركات؟ إلا أنه حذف البعض لدلالة المذكور عليه ا. هـ
(1)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والدرجات إذا جاءت عامة دخل فيها المؤمن وغير المؤمن كما قال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132، الأحقاف: 19]، أما إذا خُصت بأهل النار فإنه يقال: دركات كما قال تعالى:: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]»
(2)
أبواب جهنم:
وللنار أبوابٌ كما قال الله -جل وعلا-: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} [الحجر].
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «[إِنَّ] أَبْوَابُ جَهَنَّمَ [هَكَذَا، وَوَضَعَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ] سَبْعَةٌ [أَبْوَابِ]، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَمْتَلِئُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ، [ثُمَّ الرَّابِعُ، ثُمَّ السَّابِعُ] ثُمَّ تَمْتَلِئُ كُلُّهَا»
(3)
وفي رواية: «
…
يَبْدَأُ بِالْأَسْفَلِ فَيَمْلَأُ فَهُوَ أَسْفَلُ سَافِلِينَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ حَتَّى يَمْلَأَ النَّارَ»
(4)
(1)
أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل (ص 54)
(2)
تفسير العثيمين: آل عمران (2/ 399)
(3)
رواه الطبري في تفسيره (14/ 74) واللفظ له وهناد في الزهد (247) وله الزيادات، وابن أبي شيبة (7/ 49) وابن أبي الدنيا في صفة النار (7) بمعناه مختصرا.
(4)
رواه ابن أبي شيبة (34126)
أبواب جهنم مغلقة:
ويقول الله -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)} [البلد] أي: مغلقة الأبواب. قال ابن رجب رحمه الله: وهذا الإطباق نوعان: أحدهما: خاص لمن يدخل في النار، أو من يريد الله التضييق عليه، أجارنا الله من ذلك
…
والثاني: الإطباق العام، وهو إطباق النار على أهلها المخلدين فيها ا. هـ
(1)
وروى ابن أبي شيبة عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: -في حديث طويل- «أهل النار إذا قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} [المؤمنون] قَالَ: فَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون]، قَالَ «فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ أُطْبِقَتْ عَلَيْهِمْ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ بَشَرٌ»
(2)
سرادق جهنم:
قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف]
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قال الزجاج: السرادق: كل ما أحاط بشيء
…
وإحاطة السرادق بهم قريب من المعنى المذكور في غلق الأبواب، وهو شبه قول من قال: إنه حائط لا باب له. ولما كان إحاطة السرادق بهم موجباً لهمهم وغمهم، وكربهم وعطشهم، لشدة وهج النار عليهم، قال الله تعالى:{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف] وقال تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} [الحج] ا. هـ
(3)
(1)
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص 84)
(2)
المصنف (7/ 512) ورواه حنبل بن إسحاق في الفتن (44) وابن أبي حاتم -كما في «تفسير ابن كثير» (5/ 499) -، والطبراني في الكبير (9/ 354) رقم (9761) والحاكم في المستدرك (3874، 8519) وعنه البيهقي في البعث (598) -وصححه الحاكم على شرط الشيخين وفيه نظر: فإن أبا الزعراء واسمه عبد الله بن هاني لم يخرجا له، وقد وثقه ابن سعد وابن حبان والعجلي ولم يرو عنه غير ابن أخته سلمة بن كهيل.
(3)
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص: 87)
ظلمة النار وشدة سوادها:
روى الإمام مالك بسند صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «أَتُرَوْنَهَا حَمْرَاءَ كَنَارِكُمْ هَذِهِ، لَهِيَ أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ وَالْقَارُ الزِّفْتُ»
(1)
وله حكم الرفع كما قال ابن عبد البر
(2)
.
وفي سنن الترمذي (2591) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، -مرفوعا وموقوفا- قَالَ:«أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ» وإسناده ضعيف
(3)
.
وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة عن أبي ظَبْيانَ عَنْ سَلْمانَ الفاَرِسي رضي الله عنه قال: «النَّارُ سوداءُ مُظلمة، لا يُضيءُ جَمرُها، ولا يُضِيءُ لَهبُها
(4)
؛ ثم قرأ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} [الحج: 22]»
(5)
(1)
مالك ت عبد الباقي (2/ 994) رقم (2)
(2)
الاستذكار (8/ 593)
(3)
سنن الترمذي (2591) وفي إسناده موقوفا ومرفوعا شريك بن عبد الله النخعي وهو ضعيف. وانظر: السلسلة الضعيفة (1305).
(4)
في رواية ابن أبي شيبة وهناد «وَلَا يُطْفَأُ لَهَبُهَا»
(5)
سنن سعيد بن منصور - تكملة التفسير 6 - 8 ط الألوكة» (1473) ومصنف ابن أبي شيبة ط القبلة (18/ 482) رقم (35257) ورواه ابن المبارك في الزهد (2/ 88)، وهناد في الزهد (248) وابن أبي الدنيا في صفة النار (19) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (3459) والبيهقي في البعث والنشور ت حيدر (575) وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. وفيه نظر: فإن أبا ظبيان راويه عن سلمان ليس له رواية في الصحيحين عن سلمان. وقد اختلف في سماعه من سلمان، وأثبت البخاري في التاريخ سماعه من سلمان وعلي. انظر: التاريخ الكبير (3/ 3 ت المعلمي). وقال الترمذي في سننه (5/ 723): سمعت محمد بن إسماعيل- يعني البخاري-، يقول: أبو ظبيان لم يدرك سلمان، مات سلمان قبل علي ا. هـ وسئل الدارقطني ألقى أبو ظبيان عمر و عليا؟ قال: نعم ا. هـ وفي جامع التحصيل (ص: 166): قال أحمد بن حنبل كان شعبة ينكر أن يكون أبو ظبيان سمع من سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه وقال أبو حاتم قد أدرك ابن مسعود ولا أظنه سمع منه والذي يثبت له ابن عباس وجرير بن عبد الله ولا تبين لي سماعه من علي رضي الله عنهم ا. هـ وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 363): يروي عن: عمر، وعلي، وحذيفة، والظاهر أن ذلك ليس بمتصل ا. هـ
شدة حر النار:
وأخبر الله -جل وعلا- عن شدة حرِّها وعِظَم دُخَانِها وشرارِها، فقال سبحانه:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} [الواقعة]. وقال -جل وعلا-: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة]
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا، مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ» قَالُوا: وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ:«فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا»
(1)
ورواه الإمام أحمد وزاد: «
…
وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ» وسنده صحيح
(2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ ضُرِبَ بِهَا الْبَحْرُ مَرَّتَيْنِ فَفَتَرَتْ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا انْتَفَعْتُمْ بِهَا، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»
(3)
شدة زمهرير النار:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» ثم قال: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ»
(4)
. فهذا الذي نجده في الدنيا من البرد الشديد ومن الحر الشديد هو من زفرة جهنم، -نسأل الله السلامة والعافية-.
وروى الطبري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسعود رضي الله عنه، قَالَ فِي الزَّمْهَرِيرِ:
(1)
صحيح البخاري (3265) وصحيح مسلم (4/ 2184) واللفظ له.
(2)
مسند أحمد (12/ 280) رقم (7327) ورواه الحميدي (1163) وصححه ابن حبان (7463) وانظر: صحيح الترغيب والترهيب (3/ 471)
(3)
أخرجه هناد في الزهد (235) والطبري في تفسيره ط هجر (19/ 651) والبيهقي في البعث والنشور (499)
(4)
أخرجه البخاري (537)، ومسلم (617).
(1)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أَيْ: لَا يَجِدُونَ فِي جَهنَّم بَرْدًا لِقُلُوبِهِمْ، وَلَا شَرَابًا طَيِّبًا يَتَغَذَّوْنَ بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ:{إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ: 25] قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: اسْتَثْنَى مِنَ الْبَرْدِ الْحَمِيمَ وَمِنَ الشَّرَابِ الْغَسَاقَ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. فَأَمَّا الْحَمِيمُ: فَهُوَ الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ وحُموه. والغَسَّاق: هُوَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَعَرَقِهِمْ وَدُمُوعِهِمْ وَجُرُوحِهِمْ، فَهُوَ بَارِدٌ لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ بَرْدِهِ، وَلَا يُوَاجَهُ مَنْ نَتَنِهِ ا. هـ
(2)
سجر جهنم وتسعيرها:
وروى البخاري عنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا» قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: «إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا،
…
-فذكر الحديث في الرؤيا- ثم قَالَ: «فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ المَرْآةِ، كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلًا مَرْآةً، وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟ فَقَالَا لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ،
…
» وفي آخر الحديث: «قال فقالا لي: وَأَمَّا الرَّجُلُ الكَرِيهُ المَرْآةِ، الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ
…
»
(3)
. ورواه ابن عساكر من طريق الدارقطني بسنده عن أبي خلدة خالد بن دينار عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب وقال فيه: «
…
قال فَمَضَيْتُ سَاعَةً، فَإِذَا أَنَا بِشَجَرَة لَو اجْتَمَعَ تَحْتَها الْخَلْقُ لأظَلَّتْهُمْ، وَتَحْتَها رَجُلَان، وَاحِدٌ يَجْمَعُ حَطَبًا، واْلآخَرُ يُوقَدُ، قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا هَذَا؟! فَقَالَ: ارْقبْ سَاعَةً،
…
ثم قال: قلتُ: فَالرَّجُلَانِ اللَّذَانِ كَانَا
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره ط هجر (23/ 552) ورواه يحيى بن معين في الجزء الثاني من حديثه رواية أبي بكر المروزي (124)
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 307)
(3)
صحيح البخاري (7047)
يُوقِدانِ النَّارَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: ذَلِكَ مَلَكَا جَهَنَّم يُحْمُونَ جَهَنَّمَ لأَعْداء اللهِ عز وجل يَوْمَ الْقِيامَة
…
» الحديث
(1)
سجر جهنم نصف النهار:
تسجر جهنم كل يوم نصف النهار. كما في حديث عَمْرو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ رضي الله عنه: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ،
…
» الحديث رواه مسلم
(2)
سجر جهنم بسبب الذنوب:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
…
إنما سعرت -جهنم- بخطايا بني آدم التي تقتضي غضب الله عليهم، فتزداد جهنم حينئذ تلهباً وتسعراً. هذا، وكما أن بناء دور الجنة وغرس الأشجار، يحصل بأعمال بني آدم الصالحة من الذكر وغيره، وكذلك حسن ما فيها من الزوجات وغيرهن، يتزايد بتحسين الأعمال الصالحة، فكذلك جهنم، تسعر وتزداد آلات العذاب فيها، بكثرة ذنوب بني آدم وخطاياهم وغضب الرب تعالى عليهم، نعوذ بالله من غضب الله، ومن النار، وما قرب إليها من قول وعمل، بمنه وكرمه ا. هـ
(3)
سجر جهنم بعد دخول أهلها:
قال الله تعالى: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء]. قال علي بن أبي طلحة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ:{كُلَّمَا خَبَتْ} قَالَ: سَكَنَتْ. وقال ابن
(1)
تاريخ دمشق لابن عساكر (27/ 4) وعزاه السيوطي في جمع الجوامع المعروف بـ «الجامع الكبير» (20/ 374) للدارقطني في الأفراد. قلت: وسنده قوي.
(2)
صحيح مسلم (832)
(3)
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص 102)
عباس ومجاهد: كُلَّمَا أَحْرَقَتْهُمْ تُسَعَّرُ بِهِمْ حَطَبًا، فَإِذَا أَحْرَقَتْهُمْ فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُمْ شَيْئًا صَارَتْ جَمْرًا تَتَوَهَّجُ، فَذَلِكَ خَبْوُهَا، فَإِذَا بُدِّلُوا خَلْقًا جَدِيدًا عَاوَدَتْهُمْ.
(1)
وقال ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَضَرِيُّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لِكَعْبٍ: خَوِّفْنَا يَا كَعْبُ، فَقَالَ [«يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ مِنْ أُمَّةٍ مَرْحُومَةٍ» ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ كَعْبٌ]: [يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَ لَيْسَ فِيكُمْ كِتَابُ اللَّهِ وَحُكْمُ رَسُولِهِ؟ قَالَ: بَلَى، ثُمَّ قَالَ: خَوِّفْنَا يَا كَعْبُ، قال فَقُلْتُ] وَاللَّهِ إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً قِيَامًا مُنْذُ خَلَقَهُمُ اللَّهُ، مَا ثَنَوْا أَصْلَابَهُمْ، وَآخَرِينَ رُكُوعًا، مَا رَفَعُوا أَصْلَابَهُمْ، وَآخَرِينَ سُجُودًا، مَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّوَرِ النَّفْخَةَ الْآخِرَةَ، فَيَقُولُونَ جَمِيعًا: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، مَا عَبَدْنَاكَ كَكُنْهِ مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُعْبَدَ، ثُمَّ قَالَ: " وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِرَجُلٍ يَوْمَئِذٍ كَعَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا، لَاسْتَقَلَّ عَمَلَهُ مِنْ شِدَّةِ مَا يُرَى يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهِ لَوْ دُلِّيَ مِنْ غِسْلِينَ دَلْوٌ وَاحِدٌ فِي مَطْلَعِ الشَّمْسِ، لَغَلَتْ مِنْهُ جَمَاجِمُ قَوْمٍ فِي مَغْرِبِهَا، وَاللَّهِ لَتَزْفُرَنَّ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا غَيْرُهُ إِلَّا خَرَّ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي، وَحَتَّى نَبِيِّنَا وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، يَقُولُ -أي إبراهيم-: رَبِّ أَنَا خَلِيلُكَ إِبْرَاهِيمَ،، [قَالَ: فَأَطْرَقَ عُمَرُ مَلِيًّا، قَالَ: قُلْتُ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوَلَسْتُمْ تَجِدُونَ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى؟» قَالَ: قَالَ عُمَرُ: كَيْفَ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)} [النحل]، قَالَ: فَسَكَتَ عُمَرُ] [وفي رواية: فَبَكَى عُمَرُ فَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ]، وقَالَ: فَأَبْكَى الْقَوْمَ حَتَّى نَشَجُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ، قَالَ: يَا كَعْبُ، بَشِّرْنَا، فَقَالَ: أَبْشِرُوا، [«يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ، مَا يَزَالُ اللهُ يَوْمَئِذٍ بِرَحْمَتِهِ وَصَفْحِهِ وَحِلْمِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَكَ عَمَلُ أَرْبَعِينَ طَاغُوتًا لَظَنَنْتَ أَنَّكَ سَتَنْجُو، إِنَّ إِبْلِيسَ يَوْمَئِذٍ لَيَتَطَاوَلُ طَمَعًا مِمَّا يَرَى مِنَ الرَّحْمَةِ»]، فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ شَرِيعَةً، لَا يَأْتِي أَحَدٌ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَعَ كَلِمَةِ
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (15/ 95)
الْإِخْلَاصِ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ كُلَّ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَأَبْطَأْتُمْ فِي الْعَمَلِ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ مِنْ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ مُغْدِرَةٍ، لَأَضَاءَتْ لَهَا الْأَرْضُ أَفْضَلَ مِمَّا يُضِيءُ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَلَوَجَدَ رِيحَ نَشْرِهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ نُشِرَ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا، لَصَعِقَ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَمَا حَمَلَتْهُ أَبْصَارُهُمْ.
(1)
وعنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُحَدِّثُ، فَجَاءَ عُمَرُ رضي الله عنه فَجَلَسَ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ فَنَادَاهُ فَقَالَ:«وَيْحُكَ يَا كَعْبُ خُوِّفْنَا» فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ النَّارَ لَتُقَرَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ حَتَّى إِذَا أُدْنِيَتْ وَقُرِّبَتْ زَفَرَتْ زَفْرَةً مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا صِدِّيقٍ وَلَا شَهِيدٍ إِلَّا وَجَثَا لِرُكْبَتَيْهِ سَاقِطًا، حَتَّى يَقُولَ كُلُّ نَبِيٍّ وَكُلُّ صِدِّيقٍ وَكُلُّ شَهِيدٍ: اللَّهُمَّ لَا أُكَلِّفُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، وَلَوْ كَانَ لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَمَلُ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَظَنَنْتُ أَنْ لَا تَنْجُوَ، قَالَ عُمَرُ:«وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمْرَ لَشَدِيدٌ»
(2)
الظل في النار:
وأما ظلالها فإن الله -جل وعلا- يقول: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} [الواقعة] وهذا الظل هو دخان النار. قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما
(3)
(1)
الزهد والرقائق لابن المبارك (225) -ومن طريقه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 368) -. وشريح قال المزي: لم يدرك كعبا. لكن له شواهد تدل على أن له أصلا. فقد رواه عفان بن مسلم في حديثه (24) وعبد الرزاق في تفسيره (1525) والإمام أحمد في الزهد (641) وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 368، 390) من طريق جعفر بن سليمان، عن علي بن زيد، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن كعب قال: كنت عند عمر فقال لي: يا كعب خوفنا،
…
فذكر نحوه. ومنه الزيادة الثانية والثالثة. ورواه أبو نعيم أيضا من طريق سعيد بن أبي هلال، أن عمر قال لكعب: خوفنا، فذكر نحوه. ومنه الزيادة الأولى والرابعة والخامسة. وتقدم بعضه في حديث مسروق عن ابن مسعود في مبحث آخر أهل الجنة دخولا الجنة. وانظر ما بعده.
(2)
رواه ابن أبي شيبة (7/ 49) رقم (34128) -ومن طريقه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 371) -. وهشام بن عمار في حديثه (128)، وإسناده حسن.
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 537)
والظل يُشعِر عادةً بالنداوة والبرودة، وتحبه النفوس لكنه في نار جهنم نوعٌ آخرُ من العذاب. كما قال الله -جل وعلا-:{انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)} [المرسلات].
وروى الطبراني في المعجم الأوسط عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)} [المرسلات] قَالَ: «أَمَا إِنَّهَا لَيْسَتْ مِثْلَ الشَّجَرِ وَالْجَبَلِ، وَلَكِنَّهَا مِثْلُ الْمَدَائِنِ وَالْحُصُونِ»
(1)
وقوله: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)} أَيْ: كَالْإِبِلِ السُّودِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
(2)
والآيات تقرر أنَّ الدخان الذي يتصاعد من هذه النار لضخامته ينقسم إلى أقسام وهو يلقي ظلالًا، ولكنها غير ظليلة ولا تقي من اللهب المشتعل.
- نسأل الله أن يحمينا وإياكم من نار جهنم-.
ويقول الله -جل وعلا- عن النار يوم القيامة: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)} [الفرقان]. قال الحافظ ابن كثير: وَقَوْلُهُ: {إِذَا رَأَتْهُمْ} أَيْ: جَهَنَّمُ {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} يَعْنِي: فِي مَقَامِ الْمَحْشَرِ. قَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} أَيْ: حَنَقًا عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا
(1)
المعجم الأوسط (912) ورواه سعيد بن منصور في سننه - تكملة التفسير 6 - 8 ط الألوكة» (2376) ومن طريقه البيهقي في البعث والنشور ت الشوامي (1101). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 132) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه حديج بن معاوية وهو ضعيف، وقال أبو حاتم: محله الصدق يكتب حديثه، وبقية رجاله ثقات ا. هـ وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (2135). وأخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة النار"(173) بسند ضعيف عن علقمة قوله، ولم يذكر ابن مسعود.
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 299)
وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 7 - 8] أَيْ: يَكَادُ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ؛ مِنْ شِدَّةِ غَيْظِهَا عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ا. هـ
(1)
.
من أودية جهنم:
ورُوى عَنِ أبي إسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، وعن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ:{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم]، قَالَ:«نَهَرٌ فِي جَهَنَّمَ - وفِي رِوَايَةِ - وَادٍ فِي جَهَنَّمَ بَعِيدُ الْقَعْرِ مُنْتِنُ الرِّيحِ»
(2)
سجن في جهنم:
وفي جامع الترمذي والمسند عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ»
(3)
السلاسل والأغلال والأنكال:
قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)} [الإنسان]
وقال تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)} [غافر]
(1)
تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 96)
(2)
مداره على أبي إسحاق، فروي هكذا عن البراء. ورواه سفيان الثوري وقيس بن الربيع وأبو الأحوص وشعبة عنه عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أبيه عَبْدِ الله بن مسعود وهو الصواب ورواه المُسيّبُ بن رافع، عن أبي عُبيدةَ، به. وروي عن أبي عبيدة عن عائشة والراجح رواية الجماعة عن أبي عبيدة عن أبيه. وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. ولذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 55) رواه الطبراني بأسانيد، ورجال بعضها ثقات، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. وقال المنذري كما في ضعيف الترغيب والترهيب (2/ 440): رواه الطبراني والبيهقي من رواية أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود، ولم يسمع منه. ورواة بعض طرقه ثقات. وقال: وإسناد هذا جيد لولا الانقطاع. وقال الألباني: ضعيف موقوف.
(3)
تقدم (ص: 127). وقال المنذري: (بُوْلَسُ) بضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح اللام بعدها سين مهملة. و (الخَبَالُ) بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة ا. هـ
وقال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} [الحاقة]
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فهذه ثلاثة أنواع: أحدها: الأغلال: وهي في الأعناق، كما ذكر سبحانه
…
النوع الثاني: الأنكال: وهي القيود،
…
النوع الثالث: السلاسل ا. هـ
(1)
وفي سنن الترمذي عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً مِثْلَ هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ الجُمْجُمَةِ، أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ لَبَلَغَتِ الأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ أَصْلَهَا أَوْ قَعْرَهَا» [وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)} [غافر] الْآيَاتُ].
(2)
(1)
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص: 125)
(2)
سنن الترمذي ت شاكر (2588) وقال هذا حديث إسناده حسن ا. هـ وهو كما قال. ورواه الإمام أحمد (11/ 443)(6856)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (3640) وصححه. والزيادة منه. وقال المباركفوري في التحفة: قوله «لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً» بفتح الراء والصادين المهملتين أي قطعة من الرصاص
…
«مِثْلَ هَذِهِ» إشارة إلى محسوسة معينة هناك كما أشار إليه الراوي بقوله «وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ الجُمْجُمَةِ» قال القارئ: بضم الجيمين
…
وهي قدح صغير
…
وقيل هي عظم الرأس المشتمل على الدماغ وقيل الأول أصح انتهى والجملة حالية لبيان الحجم والتدوير المعين على سرعة الحركة. قال التوربشتي: بين مدى قعر جهنم بأبلغ ما يمكن من البيان فإن الرصاص من الجواهر الرزينة والجوهر كلما كان أتم رزانة كان أسرع هبوطا إلى مستقره لا سيما إذا انضم إلى رزانته كبر جرمه ثم قدره على الشكل الدوري فإنه أقوى انحدارا وأبلغ مرورا في الجو انتهى
…
«وَهِيَ» أي مسافة ما بينهما «وَلَوْ أَنَّهَا» أي الرصاصة «أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ» أي المذكورة في قوله تعالى {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} فالمراد من السبعين الكثرة أو المراد بذرعها ذراع الجبار «لَسَارَتْ» أي لنزلت وصارت مدة ما سارت «أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» أي سنة «اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» أي منهما جميعا لا يختص سيرها بأحدهما «قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ» أي الرصاصة «أَصْلَهَا» أي أصل السلسلة «أَوْ قَعْرَهَا» شك من الراوي. قال القارئ: والمراد بقعرها نهايتها وهي معنى أصلها حقيقة أو مجازا فالترديد إنما هو في اللفظ المسموع ا. هـ
الكفار وقود النار:
وقد جعل الله عز وجل الكُفَّارَ وَقودًا للنار كما قال -جل وعلا-: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة: 24] أي: تُوقَد بالكفار من الناس ومن الإنس والجن. قال ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} : «حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ يَجْعَلُهَا اللهُ عز وجل عِنْدَهُ كَيْفَ شَاءَ، وَكَمَا شَاءَ»
(1)
. وفي رواية: قَالَ: «هِيَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ خَلَقَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَعُدُّهَا لِلْكَافِرِينَ»
(2)
وقال الحافظ ابن كثير: وَالْمُرَادُ بِالْحِجَارَةِ هَاهُنَا: هِيَ حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ الْعَظِيمَةُ السَّوْدَاءُ الصَّلْبَةُ الْمُنْتِنَةُ، وَهِيَ أَشَدُّ الْأَحْجَارِ حَرًّا إِذَا حَمِيَتْ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا ا. هـ
(3)
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
وأكثر المفسرين، على أن المراد بالحجارة، حجارة الكبريت توقد بها النار، ويقال: إن فيها خمسة أنواع من العذاب، ليس في غيرها من الحجارة:
• سرعة الإيقاد،
• ونتن الرائحة،
• وكثرة الدخان،
• وشدة الالتصاق بالأبدان،
• وقوة حرها إذا أحميت ا. هـ
(4)
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة النار (231) والطبراني في المعجم الكبير (9/ 210) رقم (9026) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (3034، 3827) وعنه البيهقي في البعث (503) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. قلت: هو صحيح فقط وليس على شرطهما.
(2)
أخرجه الطبري في التفسير الطبري ط هجر» (1/ 403) وانظر: «صحيح الترغيب والترهيب» (3/ 476)
(3)
تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 201)
(4)
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص: 136)
يقرن الكفار بشياطينهم:
قال قَتَادَةُ: «حَتَّى إِذَا جَاآنَا هُوَ وَقَرِينُهُ جَمِيعًا»
(1)
.
وقال الطبري: وَقَوْلُهُ: {يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}
…
ذُكِرَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ عِنْدَ لُزُومِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ حَتَّى يُورِدَهُ جَهَنَّمَ
…
ثم أسند عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قَبْرِهِ، سَفَعَ بِيَدِهِ الشَّيْطَانَ، فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى يُصَيِّرَهُمَا اللَّهُ إِلَى النَّارِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ:{يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)} وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَكَّلُ بِهِ مَلَكٌ فَهُوَ مَعَهُ حَتَّى قَالَ: إِمَّا يُفْصَلُ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ نَصِيرُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ ا. هـ
(2)
اختصام الكفار مع شياطينهم:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأخبر الله تعالى عن اختصام الكفار مع من كان معهم من الشياطين، ومن عبدوه من دون الله تعالى. قال الله تعالى:{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)} [الشعراء] ا. هـ
(3)
(1)
تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (20/ 598)
(2)
المرجع السابق (20/ 599 - 600)
(3)
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص: 134)
تلاعن أهل النار فيها:
ومن جملة أنواع عذاب أهل النار فيها تلاعنهم وتباغضهم، وتبرؤ بعضهم من بعض، ودعاء بعضهم على بعض بمضاعفة العذاب،
كما قال الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف: 38]
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وحينئذ فلا يبعد أن يقرن كل كافر بشيطانه الذي أضله، وبصورة من عبده من دون الله من الحجارة ا. هـ
(1)
تفاوت أهل النار في العذاب:
عن النُّعْمَانِ بنِ بَشِيْرٍ رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ لَرَجُلٌ، تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ، يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي المِرْجَلُ وَالقُمْقُمُ» متفق عليه، وفي رواية لمسلم «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ
(1)
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص: 135)
مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِ الْمِرْجَلُ، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا»
(1)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَنْتَعِلُ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ» رواه مسلم
(2)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» رواه مسلم
(3)
وَعَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«(إِنَّ) مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى حُجْزَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى تَرْقُوَتِهِ (وفي رواية: إِلَى عُنُقِهِ)» رواه مسلم
(4)
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: وهذا الحديث أيضًا يدلّ على أن أهل النار يتفاوتون فيها، ويصح مثل هذا في الكفار،
…
ويصح أن يكون ذلك فيمن يعذب من الموحدين، إلا أن الله تعالى يميتهم إماتة، كما صح في الحديث ا. هـ
(5)
عصاة المؤمنين لا يُخلَّدُون في النار إذا دخلوها:
النار نارٌ خالدة لا تفنى ولا تبيد، يُعذِّب اللهُ عز وجل فيها الكفار والمشركين. كما تقدم في كلام الطحاوي:"والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدًا ولا تبيدان" ويدخلها من شاء الله من عصاة أهل التوحيد لكنهم بفضل من الله ورحمة منه لا يُخلَّدُون في نار جهنم كما تقدم في مسائل الشفاعة. فهؤلاء لَقُوا الله -جل وعلا- بذنوب لم يغفرها الله عز وجل لهم، فيُعذَّبُون في النار بقدر ما يشاء الله سبحانه وتعالى ثم يخرجون منها.
(1)
صحيح البخاري (6561، 6562) واللفظ له، وصحيح مسلم (213)
(2)
صحيح مسلم (211)
(3)
تقدم (ص: 178)
(4)
صحيح مسلم (2845)
(5)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (7/ 189)
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: وَلَكِنْ إنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، إذْ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ فُسَّاقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنْ أَهْلِ السَّرِقَةِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ إذَا عَذَّبَهُمْ فِيهَا عَذَّبَهُمْ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى حِقْوَيْهِ؛ وَمَكَثُوا فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا أُخْرِجُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَالْحِمَمِ فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَاةُ فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ. وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَكْتُوبٌ عَلَى رِقَابِهِمْ هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ عُتَقَاءُ اللَّهِ مِنْ النَّارِ. وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ طَوِيلٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا. هـ
(1)
موت عصاة المؤمنين في النار إذا دخلوها:
كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ - أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ - فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا، أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ
(2)
، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ»
(3)
قال النووي رحمه الله: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُمِيتُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِمَاتَةً بَعْدَ أَنْ يُعَذَّبُوا الْمُدَّةَ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْإِمَاتَةُ إِمَاتَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، يَذْهَبُ مَعَهَا الْإِحْسَاسُ وَيَكُونُ عَذَابُهُمْ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، ثُمَّ يُمِيتُهُمْ ثُمَّ يَكُونُونَ مَحْبُوسِينَ فِي النَّارِ مِنْ غَيْرِ إِحْسَاسٍ الْمُدَّةَ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ مَوْتَى قَدْ صَارُوا فَحْمًا
(1)
مجموع الفتاوى (35/ 203)
(2)
جمع ضبارة بفتح الضاد وكسرها، وهو الأشهر ويقال فيها أيضا إضبارة قال أهل اللغة الضبائر جماعات في تفرقة (فبثوا) معناه فرقوا.
(3)
صحيح مسلم (185)
فَيُحْمَلُونَ ضَبَائِرَ كَمَا تُحْمَلُ الْأَمْتِعَةُ، وَيُلْقَوْنَ عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ؛ فيصب عليهم ماء الحياة فيحيون وَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، فِي سُرْعَةِ نَبَاتِهَا وَضَعْفِهَا فَتَخْرُجُ لِضَعْفِهَا صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً ثُمَّ تَشْتَدُّ قُوَّتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَيَصِيرُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَتَكْمُلُ أَحْوَالُهُمْ فَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَمَعْنَاهُ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا إِمَاتَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِمَوْتٍ حَقِيقِيٍّ وَلَكِنْ تَغَيَّبَ عَنْهُمْ إِحْسَاسُهُمْ بِالْآلَامِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آلَامُهُمْ أَخَفَّ فَهَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَالْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ا. هـ
(1)
الخلود للكافرين:
أما الكافر والمشرك فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر أنهم في نار جهنم خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يخرجون منها بشفاعة بل لا يؤذن لهم بالشفاعة، ومن هؤلاء أيضًا المنافقون، كما قال الله -جل وعلا-:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة]
أما المؤمن الذي يموت عاصيًا لم يتب إلى الله سبحانه وتعالى ثم يدخل نار جهنم فإنه لا يخلد فيها كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء كما ذكرنا أصحابُ الكبائر: كمن مات على الكِبْر أو قاتلًا لنفس أو آكلًا للربا أو آكلًا لأموال الناس بالباطل أو مات ظالمًا للناس أو مات وقد وقع في شيء من الرياء أو كالنساء الكاسيات العاريات، فهؤلاء تحت المشيئة فإذا لم تدركهم رحمة الله سبحانه وتعالى وكُتِبَ عليهم العذابُ فإنهم لا يخلدون في نار جهنم.
ينقطع رجاء أهل النار عند ذبح الموت:
ولا يزال أهل جهنم في رجاء الفرج إلى أن يذبح الموت فحينئذ يقع منهم الإياس وتعظم عليهم الحسرة والحزن. فإنه إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، -كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ،
(1)
شرح النووي على مسلم (3/ 38)
فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ». ثم قرأ رسول الله {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} [مريم]
(1)
المشرك والكافر لا تنفعه حسناته التي عملها في الدنيا يوم القيامة:
قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان]. وجاء في صحيح الإمام مسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها، أنَّها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من قرابتها يُدعى عبد الله بن جُدْعَانَ، فأثنت عليه، وقالت رضي الله عنها: يا رسول الله، إنَّ عبدَ الله بن جُدْعَانَ كان يقري الضيف، ويطعم المسكين، ويفعل ويفعل، أينفعه ذلك عند الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؛ إِنَّهُ مَا قَالَ يَومًا قَطُّ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَومَ الدِّيْنِ»
(2)
. هذا الرجل أدركه الإسلام فلم يسلم، وكان على خلال من الخير والفضل، فقد كان يطعم المسكين، ويذبح الذبائح للفقراء والمحتاجين، وكان يقري الضيف، ويطعم الطعام، وينصر المظلوم، ويؤدي الأمانة، ويصدق في الحديث، ويحسن الجوار، ويفعل ويفعل، لكنه لَمْ يكن مُصَدِّقًا بالبعث، ومَن لَمْ يُصَدِّق به كافرٌ، والكافر لا ينفعه أيُّ عمل من أعمال البرّ؛ لإحباطه بكفره
(3)
.
وفي مسند أبي يعلى أنَّها رضي الله عنها أثنت عليه خيرًا، فقالت: كَانَ يَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ
(4)
، وَيُكْرِمُ الْجَارَ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَيُوفِي بِالذِّمَّةِ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَفُكُّ الْعَانِي، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيُؤَدِّي الْأَمَانَةَ. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«هَلْ قَالَ يَوْمًا وَاحِدًا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ؟» قالت: لا، وَمَا كَانَ يَدْرِي مَا جَهَنَّمُ! فقال صلى الله عليه وسلم:«فَلَا إِذًا»
(5)
(1)
تقدم (ص: 414)
(2)
صحيح مسلم (214)
(3)
انظر: البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (5/ 476).
(4)
الكوماء هو: البعير الضخم السنام
(5)
مسند أبي يعلى (4870) ورواه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2746، 4359) وسنده صحيح
هذا الرجل مؤدٍّ لحقوق عظيمة، لكنه فرَّط في أعظمها، وترك أعظمها، وهو حق الله -جل وعلا-، قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، فهذا الرجل عمل هذه الأعمال، وأدَّى هذه الصالحات، يريد الثناء والذكر، لا يرجو من الله ثوابًا، ولا يخاف من عقابه، فكان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله أنَّها لا تنفعه عند الله -جل وعلا-.
ولما أسلم عدي بن حاتم رضي الله عنه، وهو ابن صاحب المفاخر، فأبوه حاتم الطائي الذي تضرب العرب به المثل في الجود والكرم. فوقف عديٌ رضي الله عنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، يسأل عن عمل أبيه حاتم الطائي. فقال: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَبَاكَ أَرَادَ أَمْرًا فَأَدْرَكَهُ»
(1)
؛ يعني: الذكر، أراد من كرمه وإحسانه إلى النَّاس الذكر والثناء والسُمعة؛ فأدركها في الدنيا، فأمَّا يوم القيامة فلا.
وأما ما ورد في شأن أبي طالب أنه يخفف عنه فهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في أحاديث الشفاعة.
حُفَّت النار بالشهوات:
إن طريق جهنم قد حُفَّ بالشهوات؛ ولذلك يقع كثيرٌ من الناس في حبائل الشيطان ويقع كثيرٌ من الناس في هذه الشهوات التي زُيِّنَتْ لهم. والواجب على المسلم أن يجاهد نفسه في هذه الدنيا. يقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14] هذه الدنيا هي التي فُتِنَ بها كثيرٌ من الناس، وما عند الله خيرٌ وأبقى.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (30/ 200) ط الرسالة رقم (18262) وابن حبان: (332)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان"(1/ 366).
أهل النار كثير:
جاءت الأخبار أيضًا في السنة بأن أهل النار كثير وبأن الناجين قليل. يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ]. وأخبر عن قلة أهل الإيمان فقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف] فيجب على المسلم أن يخاف من النار، وأن يحرص أن يكون مع الثلة المؤمنة القليلة التي تلقى الله -جل وعلا- يوم القيامة، وهي في أمنٍ وأمان وفي رضا من الرحمن بالإيمان بالله سبحانه وتعالى والأعمال الصالحات.
النساء أكثر أهل النار:
ولتحذر النساءُ من عذاب الله -جل وعلا- فقد جاء في حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ أَقَلَّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ» رواه مسلم
(1)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: «رَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ»
(2)
. فالواجب على المرأة أن تتقي الله -جل وعلا- في دينها وفي إيمانها وفي إقبالها على ربها سبحانه وتعالى. وفي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ:«يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ،
…
»، الحديث
(3)
. وفي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ»
…
الحديث.
(4)
وفي المسند عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ يَوْمًا فَأَتَى النِّسَاءَ فِي الْمَسْجِدِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِنَّ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ،
…
إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنَّكُنَّ
(1)
تقدم
(2)
أخرجه البخاري (5197)، ومسلم (907) واللفظ له، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (304) وهو في مسلم (80 و 889) بنحوه.
(4)
أخرجه مسلم (79).
أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَقَرَّبْنَ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُنَّ»
(1)
،
…
الحديث. وانظر ما تقدم في مبحث أقل ساكني أهل الجنة النساء
(2)
كِبَرُ حَجم الكُفَّار في النار وغلظ أجسامهم:
وتأملوا أيضًا من مواقف جهنم العظيمة ما يقوله عليه الصلاة والسلام مبيِّنًا عِظَمَ خَلْقِ أهل النار؛ فإن خلْقَ أحدهم يضخم حتى يزداد عذابُه وتزداد آلامُه، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46].
قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ضِرْسُ الْكَافِرِ، أَوْ نَابُ الْكَافِرِ، مِثْلُ أُحُدٍ وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ» رواه مسلم
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الكَافِرِ [فِي النَّارِ] مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ للرَّاكِبِ المُسْرِعِ» . متفق عليه
(4)
وتقدم حديث مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَتَدْرِي مَا سِعَةُ جَهَنَّمَ؟» قَالَ: قُلْتُ: لَا قَالَ: «أَجَلْ، وَاللَّهِ مَا تَدْرِي (إِنَّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِينَ خَرِيفًا، يَجْرِي فِيهَا أَوْدِيَةُ الْقَيْحِ وَالدَّمِ)» ،
…
إلخ
(5)
وفي سنن الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ غِلَظَ جِلْدِ الكَافِرِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا [بِذِرَاعِ الْجَبَّارِ]، وَإِنَّ ضِرْسَهُ مِثْلُ أُحُدٍ، وَإِنَّ مَجْلِسَهُ مِنْ جَهَنَّمَ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ»
(6)
(1)
مسند أحمد (14/ 449) رقم (8862) وهو في صحيح مسلم (80) ولم يسق لفظه. وانظر تخريجه في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3142)
(2)
انظر ما تقدم: (ص: 30).
(3)
أخرجه مسلم (2851) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
صحيح البخاري (6551) وصحيح مسلم (2852) ومنه الزيادة. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
تقدم تخريجه (ص: 438)، وانظر: السلسلة الصحيحة (561) وصحيح الترغيب والترهيب (3684).
(6)
أخرجه الترمذي (2577) والسياق له، وصححه ابن حبان (7486) والحاكم (8760) والزيادة لهما من حديث شيبان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه. وصحح إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 95) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (621). ورواه ابن أبي شيبة (34155) حدثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال ابن مسعود لأبي هريرة رضي الله عنهما: تراه كم غلظ جلد الكافر؟ قال أبو هريرة رضي الله عنه: لا فقال عبد الله: غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا. ورجح الدارقطني في العلل (1941) الموقوف.
وفي مصنف ابن أبي شيبة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«يَعْظُمُونَ فِي النَّارِ حَتَّى تَصِيرَ شِفَاهُهُمْ إِلَى صُدُورِهِمْ مَقْبُوحُونَ يَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ»
(1)
طعام وشراب أهل النار:
ولأهل النار طعام وشراب لكنه عذابٌ في عذاب.
قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)} [الغاشية] والضريع: شوكٌ بأرض الحجاز يقال له: الشِّبْرِق
(2)
، وقال الله تعالى:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)} [الدخان].
وقد وَصَفَ اللهُ شجرة الزقوم في آية أخرى، فقال:{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} [الصافات]
وفي المسند والسنن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} ، وقال صلى الله عليه وسلم «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي الْأَرْضِ، لَأَمَرَّتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا مَعِيشَتَهُمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ طَعَامُهُ، وَلَيْسَ لَهُ طَعَامٌ غَيْرُهُ»
(3)
(1)
المصنف (7/ 53) رقم (34152) بسند صحيح.
(2)
تفسير الطبري (24/ 331).
(3)
حديث معل؛ رواه أحمد (2735، 3136) والترمذي (2585) وابن ماجه (4325) والنسائي في السنن الكبرى (11004) وصححه ابن حبان (7470) والحاكم (3158، 3686) رووه من طرق عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس. -وهذا إسناد ظاهره الصحة- وخالفه الفضيل بن عياض فرواه عن الأعمش عن أبي يحيى القتات -وهو ضعيف- عن مجاهد عن ابن عباس موقوفا. رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (3137) وتابعه يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش به رواه أسد بن موسى في الزهد (36) وابن أبي شيبة (34144) وابن أبي الدنيا في صفة النار (79) والطبري في التفسير ط هجر (19/ 651، 21/ 54) والبيهقي في البعث والنشور ت حيدر (544). قال أبو حاتم كما في علل الحديث (2119): الأعمش قليل السماع من مجاهد، وعامة ما يروي عن مجاهد مُدَلَّس. وفي تاريخ الدوري عن ابن معين (2/ 235):«إنما سمع من مجاهد أربعة أحاديث أو خمسة» . وقال ابن المديني كما في تهذيب التهذيب: «قال يعقوب بن شيبة في مسنده: ليس يصح للأعمش عن مجاهد إلا أحاديث يسيرة، قلت لعلي بن المديني: كم سمع الأعمش من مجاهد؟ قال: لا يثبت منها إلا ما قال سمعت، هي نحو من عشرة، وإنما أحاديث مجاهد عنده عن أبي يحيى القتات ا. هـ فتبين بهذا ضعف الحديث ولذا ضعفه العلامة الألباني في الضعيفة (6782).
قال الحافظ زين الدين ابن رجب رحمه الله: وقد دل القرآن، على أنهم يأكلون منها، حتى تمتلئ منها بطونهم، فتغلي في بطونهم كما يغلي الحميم، وهو الماء الذي انتهى حره، ثم بعد أكلهم منها يشربون عليه من الحميم {شُرْبَ الْهِيمِ (55)} [الواقعة]
(1)
ا. هـ
(2)
وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)} [المزمل] أي: وطعاما يَغَصّ به آكله، فلا هو نازل عن حلقه، ولا هو خارج منه.
(3)
وقال تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)} [الحاقة]
وهو ما يسيل من صديد أهل النار. قاله ابن عباس رضي الله عنه. وقال قتادة: هو شر الطعام وأخبثه وأبشعه ا. هـ
(4)
.
وقال كَعْبٌ الأحبار لعمر رضي الله عنه: وَاللَّهِ لَوْ دُلِّيَ مِنْ غِسْلِينَ دَلْوٌ وَاحِدٌ فِي مَطْلَعِ الشَّمْسِ، لَغَلَتْ مِنْهُ جَمَاجِمُ قَوْمٍ فِي مَغْرِبِهَا ا. هـ
(5)
.
(1)
الهيم: الإبل العطاش.
(2)
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص 144)
(3)
انظر: تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (23/ 384)
(4)
انظر: المرجع السابق (23/ 240)
(5)
تقدم (ص 139)
شراب أهل النار:
وقد ذكر الله في كتابه من شراب أهل النار:
1 -
الحميم كما في قوله -جل وعلا-: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} [محمد].
وهو الحار الذي قد انتهى حره يحرق ويقطع الأمعاء.
2 -
والماء كالمهل كما في قوله تعالى -جل وعلا-: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف].
والمهل: هو كلّ مائع قد أوقد عليه حتى بلغ غاية حره، أو لم يكن مائعا، فانماع بالوقود عليه، وبلغ أقصى الغاية في شدّة الحرّ. يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم
(1)
. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ قَطِرَانِ جَهَنَّمَ وَقَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ، لَأَحْرَقَتِ الْأَرْضَ وَمَنْ فِيهَا»
(2)
3 -
الغساق، قال تعالى:{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)} [ص] وهو ما يسيل من صديد أهل النار. قاله قتادة والسدي وإبراهيم النخعي وغيرهم واختاره ابن جرير.
(3)
ورُوي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهَرَاقُ بِهِ الدُّنْيَا، لَأَنْتَنَ أَهْلَ الدُّنْيَا»
(4)
(1)
انظر: تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (15/ 250)
(2)
أخرجه الطبراني -في زوائده على الزهد لأسد بن موسى- (35) ورجاله ثقات لكنه غريب لا يوجد في الكتب المشهورة.
(3)
انظر: تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (20/ 130)
(4)
أخرجه ابن المبارك في مسنده (137) عن هشام بن سعد -وفيه ضعف- عن عمرو به. وخولف فيه فقد رواه أسد بن موسى في الزهد (32) وابن وهب في التفسير (263) والطبري (20/ 129) من طرق عن ابن لهيعة عن أبي قبيل، عن أبي هبيرة الزيادي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: أي شيء الغساق، قالوا: الله أعلم، فقال عبد الله بن عمرو: هو القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهراق بالمغرب أنتنت أهل المشرق، ولو تهراق في المشرق أنتنت أهل المغرب. وهذا إسناد ضعيف، أبو هبيرة لم يتبين لي من هو؟ ورواه الطبري (24/ 32) حدثت عن محمد بن حرب، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن أبي مالك، عن عبد الله بن عمرو، به. وأبو مالك لم أعرفه. ورواه الترمذي (2584) عن عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا رشدين بن سعد قال: حدثني عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:{كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29]«كعكر الزيت، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه» قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة» قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» ثم قال الترمذي: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد، وفي رشدين مقال، وقد تكلم فيه من قبل حفظه ا. هـ والحديث في ضعيف الترغيب والترهيب (2156)
4 -
الصديد: قال الله تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)} [إبراهيم]. وهو القيح والدم. وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عز وجل عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ:«عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ» أَوْ «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ»
(1)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ، فَشَرِبَ، فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ، فَشَرِبَ، فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ، أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدَغَةِ الْخَبَالِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رَدَغَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ»
(2)
لباس أهل النار:
قال الله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج: 19]
قَرَأَ إِبْرَاهِيمُ النخعي هذه الآية فَقَالَ: «سُبْحَانَ مَنْ قَطَّعَ مِنَ النِّيرَانَ ثِيَابًا»
(3)
وقال تعالى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)} [إبراهيم] أَيْ:
(1)
صحيح مسلم (2002)
(2)
أخرجه ابن ماجه (3377) واللفظ له والنسائي (5670) مختصرا وصححه ابن حبان والحاكم وصححه الألباني في هداية الرواة (3/ 448) وشيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (401).
(3)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 212) والبيهقي في البعث والنشور (528)
ثِيَابُهُمُ الَّتِي يَلْبَسُونَهَا عَلَيْهِمْ مِنْ قَطِرَانٍ، وَهُوَ الَّذِي تُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ، وَهُوَ أَلْصَقُ شَيْءٍ بِالنَّارِ.
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: القَطران هُوَ: النُّحَاسُ الْمُذَابُ
(1)
، أَيْ: مِنْ نُحَاسٍ حَارٍّ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ.
(2)
وفي صحيح مسلم عن أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا، تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ»
(3)
وقال الله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)} [الأعراف] المهاد: ما يقعد عليه ويضطجع كالفراش الذي يفرش والبساط الذي يبسط. والغواش: جمع غاشية، وهو ما غشاهم فغطاهم من فوقهم
(4)
.
في النار حيات وعقارب:
وفي المسند عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي النَّارِ حَيَّاتٍ كَأَمْثَالِ أَعْنَاقِ الْبُخْتِ، تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ فَيَجِدُ حَمْوَتَهَا أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَإِنَّ فِي النَّارِ عَقَارِبَ كَأَمْثَالِ الْبِغَالِ الْمُوكَفَةِ، تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ، فَيَجِدُ حَمْوَتَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً»
(5)
وروى الطبري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: «إِنَّ لِجَهَنَّمَ سَوَاحِلَ فِيهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ
(6)
»
(7)
(1)
«تفسير الطبري (13/ 745)
(2)
تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 522)
(3)
صحيح مسلم (934)
(4)
انظر: تفسير الطبري (10/ 196)
(5)
مسند أحمد (17712) وأخرجه ابن حبان (7471) والحاكم (8754)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3429)
(6)
البُخْت: إبل خراسانية طويلة الأعناق. كما في اللسان
(7)
تفسير الطبري (14/ 332).
وروى ابن أبي شيبة: عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فِي قَوْلِهِ:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] قَالَ: «زِيدُوا عَقَارِبَ أَدْنَاهَا [وفي رواية: أنيَابُهَا] كَالنَّخْلِ الطِّوَالِ»
(1)
أعظم عذاب أهل النار:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: أعظمُ عذابِ أهلِ النارِ حجابُهم عن اللَّه عز وجل، وإبعادُهم عنه. وإعراضُه عنهم، وسخطُه عليهم، كما أنَّ رضوانَ اللَّه على أهلِ الجنةِ أفضلُ من كلِّ نعيم الجنة، وتجليه لهم ورؤيتهم إيَّاهُ أعظمُ من جميع أنواع نعيم الجنةِ. قال اللَّه تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} [المطففين]. فدْكر اللَّهُ تعالى ثلاثةَ أنواعٍ من العذابِ: حجابُهم عنه، ثم صليهم الجحيمَ، ثم توبيخُهم بتكذيبِهِم به في الدنيا. ووصفَهُم بالرانِ على قلوبِهِم، وهو صدأُ الذنوب الذي سوَّد قلوبَهُم، فلم يصلْ إليها بعدَ ذلك في الدنيا شيءٌ من معرفةِ اللَّهِ ولا منْ إجلالِهِ ومهابتِهِ وخشيتِهِ ومحبتِهِ، فكما حجبتْ قلوبُهم في الدنيا عن اللَّهِ حجبوا في الآخرةِ عن رؤيتِهِ ا. هـ
(2)
طلب أهل النار الرجعة والتخفيف من العذاب:
ويشكو أهلُ النار إلى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة وإلى خزنة جهنَّم حالَهم وما هم فيه، فهل يجابون إلى ذلك؟ كلَّا لا يُجَابُون، -نسألُ الله العفو والعافية-، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}
(1)
«مصنف ابن أبي شيبة» (7/ 51) رقم (34138) واللفظ له. ورواه ابن أبي الدنيا في صفة النار (93)، وأبو يعلى (2659) والطبراني في المعجم الكبير (9/ 226) رقم (9103، 9104، 9105) والرواية له. والحاكم في المستدرك على الصحيحين (3357، 8755) وصححه على شرطهما وهو في صحيح الترغيب والترهيب (3678) للألباني.
(2)
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص: 195)
-لو قدَّم الأرضَ كلَّها بما فيها ومِلْأَها ذهبًا فديةً ما قَبِلَ اللهُ عز وجل منه-، قال الله تعالى:{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)} [آل عمران]
ويقول -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)} [المائدة] بل يقول الله عز وجل له كما تقدم معنا في الحديث: «فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ، أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي، فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ»
(1)
-نسأل الله السلامة والعافية-.
استغاثة ونداء أهل النار:
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ النَّارِ نَادَوْا: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ، فَخَلَّى عَنْهُمْ أَرْبَعِينَ عَامًا، ثُمَّ أَجَابَهُمْ:{إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)} [الزخرف]. [هَانَتْ دَعْوَتُهُمْ وَاللَّهِ عَلَى مَالِكٍ، وَرَبِّ مَالِكٍ {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)}]{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} [المؤمنون]، قَالَ: فَخَلَى عَنْهُمْ مِثْلَيِ
(2)
الدُّنْيَا، [وفي رواية: فَخَلَّى عَنْهُمْ مِثْلَ الْأُولَى لَا يُجِيبُهُمْ]
(3)
ثُمَّ أَجَابَهُمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون]، قَالَ: فَلَمْ يَيْئِسِ [أي ينطق] الْقَوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ، إِنْ كَانَ إِلَّا الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ»
(4)
(1)
تقدَّم في هذا المجلس.
(2)
عند ابن أبي الدنيا في صفة النار (168) والطبري في رواية والطبراني والحاكم (مثل الدنيا)
(3)
لفظ هناد في الزهد.
(4)
مصنف ابن أبي شيبة (7/ 48) -وعنه ابن أبي الدنيا في صفة النار (168) - ورواه هناد في الزهد (214) والطبري في تفسيره ط هجر (20/ 649) وابن أبي حاتم -كما في «تفسير ابن كثير - ت السلامة (5/ 499) - والطبراني في المعجم الكبير جـ 13، 14 (13/ 352) رقم (14171) والحاكم في المستدرك (8770) والبيهقي في الأسماء والصفات (480) ومنه الزيادة. وصححه الحاكم على شرط الشيخين. وإنما هو صحيح فحسب ففي سند الحاكم عبد الوهاب بن عطاء ولم يرو له البخاري في صحيحه والراوي عنه يحيى بن أبي طالب لم يخرجا له. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3691)
وعن عُمَرَ بْنِ أَبِي لَيْلَى عن مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ أنه قال: بَلَغَنِي: أَنَّ أَهْلَ النَّارِ
1 -
اسْتَغَاثُوا بِالْخَزَنَةِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل:{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)} سَأَلُوا يَوْمًا وَاحِدًا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ فِيهِ الْعَذَابُ، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْخَزَنَةُ:{قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى} فَرَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْخَزَنَةُ: {قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)} [غافر].
2 -
وَلَمَّا يَئِسُوا مِمَّا عِنْدَ الْخَزَنَةِ، {وَنَادَوْا يَامَالِكُ} وَهُوَ عَلَيْهِمْ وَلَهُ مَجْلِسٌ فِي وَسَطَهَا، وَجُسُورٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَهُوَ يَرَى أَقْصَاهَا كَمَا يَرَى أَدْنَاهَا، فَقَالُوا:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]. سَأَلُوا الْمَوْتَ قَالَ: " فَمَكَثَ عَنْهُمْ لَا يُجِيبُهُمْ ثَمَانِينَ سَنَةً،
…
فلِحِظَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الثَّمَانِينَ: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)} [الزخرف]
3 -
فَلَمَّا سَمِعُوا مَا سَمِعُوا مِمَّا قِبَلَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا هَؤُلَاءِ، قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْعَذَابِ مَا قَدْ تَرَوْنَ، فَهَلُمُّوا فَلْنَصْبِرْ، فَلَعَلَّ الصَّبْرَ يَنْفَعُنَا، كَمَا صَبَرَ أَهْلُ الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَنَفَعَهُمُ الصَّبْرُ إِذْ صَبَرُوا. فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ، فَتَصَبَّرُوا، فَطَالَ صَبْرُهُمْ، ثُمَّ جَزَعُوا، فَنَادَوْا:{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)} [إبراهيم]- أَيْ: مَلْجَأَ - فَقَامَ إِبْلِيسُ عِنْدَ ذَلِكَ فَخَطَبَهُمْ: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22]، يَقُولُ: بِمُغْنٍ عَنْكُمْ شَيْئًا. {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22].
4 -
فَلَمَّا سَمِعُوا مَقَالَتَهُ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ فَنُودُوا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)} [غافر] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر: 12] قَالَ: «هَذِهِ وَاحِدَةٌ» .
5 -
قَالَ: فَنَادَوُا الثَّانِيَةَ: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] يَقُولُ: لَوْ شِئْتَ لَهَدَيْتُ النَّاسَ جَمِيعًا فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [السجدة: 13 - 14] يَقُولُ: بِمَا تَرَكْتُمْ أَنْ تَعْمَلُوا لِيَوْمِكُمْ هَذَا. {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} : إِنَّا تَرَكْنَاكُمْ، {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)} [السجدة: 14] فَهَذِهِ اثْنَتَانِ.
6 -
قَالَ: فَنَادَوُا الثَّالِثَةَ: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم: 44] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)} [إبراهيم] قَالَ: «هَذِهِ الثَّالِثَةُ» .
7 -
قَالَ: ثُمَّ نَادَوُا الرَّابِعَةَ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} قَالَ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)} [فاطر]
8 -
فَمَكَثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهَ، ثُمَّ نَادَاهُمْ:{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)} فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ قَالُوا: الْآنَ يَرْحَمنا رَبُّنَا. وَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: {قَالُوا رَبَّنَا
غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أَيِ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبْتَ عَلَيْنَا. {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون] فَانْقَطَعَ عِنْدَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ وَالرَّجَاءُ مِنْهُمْ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، يَنْبَحُ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ. وَأُطْبِقَتْ عَلَيْهِمْ فذَلِكَ قَوْلُهُ:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات].
(1)
وقال أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أنه قَالَ:
لِأَهْلِ النَّارِ خَمْسُ دَعْوَاتٍ يُجِيبُهُمُ اللَّهُ عز وجل فِي أَرْبَعَةٍ فَإِذَا كَانَتِ الْخَامِسَةُ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بَعْدَهَا أَبَدًا:
يَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)} [غافر] فَيُجِيبُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر]،
ثُمَّ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)} ، فَيُجِيبُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى:{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)} [السجدة]
ثُمَّ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فَيُجِيبُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44]
فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فَيُجِيبُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)} [فاطر]. ثُمَّ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ
(1)
صفة النار لابن أبي الدنيا (251) وتفسير الطبري ط هجر (17/ 119)
(106)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)}، فَيُجِيبُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى:{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} ، [المؤمنون] فَلَا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدَهَا أَبَدًا.
(1)
من أسباب النجاة من النار:
فهذا تطوافٌ في شيء مما ورد في جهنم يوم القيامة، فيجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما جاء عن الله -جل وعلا- من أخبار تتعلق بنار جهنم.
وقد كَتَبَ العلماءُ في ذلك الكتبَ الكثيرةَ، ومن أشهرها:
كتابُ "التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار"، للحافظ ابن رجب رحمه الله
وكذلك "صفة النار" لابن أبي الدنيا،
فيمكن للإنسان أن يراجع مثل هذه الكتب ليتذكر ويتفكر ويتأمل.
وإني لأوصي نفسي وإخواني بالتوبة النصوح والرجوع إلى الله -جل وعلا-
وأن يجعل الإنسانُ نُصُبَ عينيه ما هو كائن يوم القيامة والمصيرُ الذي يساق إليه كلُّ إنسان.
عليك أيها المؤمن بالأعمال الصالحة التي تكون لك وقايةً من عذاب الله -جل وعلا- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ»
(2)
ويقول -جل وعلا-: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن]
فالخوفُ من الله والوَجَلُ من الله ورجاء ما عند الله أيضًا يكون وقايةً لك.
فلنسأل الله الجنة، ولنستعذ به من النار على الدوام.
(1)
الأسماء والصفات للبيهقي (482)
(2)
أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد كان نبيُّنا عليه الصلاة والسلام وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لا تمضي عليه صلاة إلا ويسأل اللهَ فيها الجنةَ ويستعيذ به من النار،
وكذلك يفعل في الصباح والمساء كما تقدم.
فنحن -والله- أحوجُ ما نكون إلى لزوم هذه الأدعية التي تجعلنا على صلة دائمة بالله سبحانه.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا سَأَلَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثًا، إِلَّا قَالَتِ الْجَنَّة: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَلَا اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ مُسْتَجِيرٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إِلَّا قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ»
(1)
.
أي: لو سألت الله الجنة ثلاثًا كلَّ يوم وسألته أن يعيذك من النار ثلاثًا
فإن النار والجنة تدعوان لك،
فأمَّا الجنَّة فتقول: اللهم أَدْخِلْه الجنة، وأما النارُ فتقول: اللهم أَجِرْه مني.
وقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر فيجلسون مع المؤمنين ثم يلقون ربهم سبحانه وتعالى «فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ؛ قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَال: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ»
(2)
.
فهذا حال المؤمنين في الدنيا، فهم قريبون من الله، وقريبون من الدار الآخرة، يتذكرونها، ويسألون الله الجنة، ويستعيذون به من النار،
وأخيرا:
(1)
أخرجه أحمد (12585)، والترمذي (2572) والنسائي (5521)، وابن ماجه (4340) وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب (3654)، وشيخنا العلامة الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (685)
(2)
تقدم (ص: 435)
أذكر نفسي وإخواني بالحذر من غضب الله وأمن عقابه،
ولا تقل: لا يُعذِّب اللهُ بالذنب الواحد،
فإنما خرج آدم عليها السلام من الجنة بأكلة حين ذاق الشجرة،
وطُرِدَ إبليس من الجنة بسجدة أباها،
وقال صلى الله عليه وسلم: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»
(1)
نسأل الله عز وجل أن يُوفِّقَنا وإيَّاكم لما يُحِبُّ ويرضى،
اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار،
اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار،
اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار،
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ولمشايخنا ولمن له حقٌّ علينا
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات].
(1)
أخرجه البخاري (3318)، ومسلم (2619) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.