المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سَبِيلُ المُهْتَدِين إِلَى شَرْحِ الأَرْبَعِين النَّوَوِيَّةِ   (كُلُّ حَدِيثٍ مِنْهَا قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ - سبيل المهتدين إلى شرح الأربعين النووية

[خلدون نغوي]

فهرس الكتاب

سَبِيلُ المُهْتَدِين إِلَى شَرْحِ الأَرْبَعِين النَّوَوِيَّةِ

(كُلُّ حَدِيثٍ مِنْهَا قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ)

الإِمَامُ النَّوَوِيُّ

تَأْلِيفُ

أَبِي عَبْدِ اللهِ؛ خُلْدُونِ بنِ مَحْمُودِ بنِ نَغَوِي آل حَقُوي

ص: 1

‌مُقَدِّمَةُ المُؤَلِّفِ

إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ -وَإِلَى الآنَ- أَتَطَلَّعُ إِلَى خِدْمَةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَإِلَى أَنْ يَكُونَ لِي سَبَبٌ إِلَى رِضَاه تَعَالَى فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي

(1)

، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ أَكُونَ أَحَدَ جُنُودِ الإِسْلَامِ المُدَافِعِينَ عَنْهُ بِاليَدِ وَاللِّسَانِ.

وَلَمْ أَرَ أَنْفَعَ لِدِينِ الإِسْلَامِ -عِنْدَ أَزْمِنَةِ انْتِشَارِ الجَهْلِ وَالشِّرْكِ وَالبُعْدِ عَنِ السُّنَّةِ وَفُشُوِّ البِدَعِ- مِنْ جِهَادٍ بِاللِّسَانِ وَفَرْيٍ بِالقَلَمِ

(2)

، وَذَلِكَ بِنَشْرِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَبَيَانِ أُصُولِ أَهْلِ الإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَمَنْهَجِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي فَهْمِ دِينِ الإِسْلَامِ وَالعَمَلِ بِهِ.

وَقَدْ رَأَيتُ الاعْتِنَاءَ بِكِتَابِ (الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ) خَاصَّةً؛ لِمَا فِيهِ مِنْ

ذِكْرِ أَحَادِيثَ هِيَ قَوَاعِدُ الدِّينِ، وَلِمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَإِشَارَتِهِم إِلَى أَهَمِّيَّتِهِ وَجُودَةِ جَمْعِهِ؛ فَقُمْتُ -مُسْتَعِينًا بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ،

(1)

كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1631) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» .

وَأَنَا أَرْجُو اللهَ تَعَالَى الكَرِيمَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْ أَهْلِ العِلْمِ العَامِلِينَ المُنْتَفَعِ بِهِم، فَإِنَّ الدَّالَ عَلَى الخَيرِ كَفَاعِلِهِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ.

(2)

كَمَا فِي الحَدِيثِ «جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ» . صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2504) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3090).

ص: 3

وَمُسْتَنِيرًا بِشُرُوحِ العُلَمَاءِ- بِتَصْنِيفِ شَرْحٍ عَلَيهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ وَجِيزًا فِي عِبَارَتِهِ، وَاسِعًا فِي فَوَائِدِهِ

(1)

؛ مَعَ الاعْتِنَاءِ الشَّدِيدِ بِتَحْقِيقِ الآثَارِ المَرْفُوعَةِ وَالمَوقُوفَةِ مَوضِعِ الاسْتِدْلَالِ

(2)

، وَالعَزْوِ الصَّحِيحِ -مَا أَمْكَنَ- فِي مَوَاطِنِ الاخْتِلَافِ بَينَ العُلَمَاءِ، وَبَيَانِ الرَّاجِحِ مِنْهَا قَدْرَ الإِمْكَانِ.

وَلَا أَدَّعِي لِنَفْسِي التَّفرُّدَ فِي شَرْحِ الكِتَابِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ الاعْتِمَادُ عَلَى شُرُوحِ العُلَمَاءِ الأَفَاضِلِ -قَدِيمًا وَحَدِيثًا- المَعْرُوفِينَ بِسَلَامَةِ المَنْهَجِ، وَرُسُوخِ العِلْمِ، وَبُعْدِ النَّظَرِ.

عَلَى أَنَّنِي اعْتَقِدُ أَنِّي -إِنْ شَاءَ اللهُ- قَدْ وُفِّقْتُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي اسْتِيعَابِ فَوَائِدَ وَمَسَائِلَ تَمَسُّ الحَاجَةُ إِلَيهَا فِي كُلِّ بَابٍ؛ لَعَلَّهَا لَمْ تُجْمَعْ فِي شَرْحٍ وَاحِدٍ مِنْ شُرُوحِ هَذِهِ الأَرْبَعِينَ.

وَأَخِيرًا أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى إِجَابَتِي دَعْوَةً كَدَعْوَةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ} [إِبْرَاهِيم: 40، 41].

وَكَتَبَهُ

أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ خُلْدُونُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ نَغَوِي آل حَقُوِي

(3)

(1)

وَقَدْ أَضَفْتُ إِلَى شَرْحِ الكِتَابِ - عَقِبَ حَدِيثِ النَّهْي عَنِ البِدَعِ - مُلْحَقًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا مِمَّا يَعِزُّ الوُصُولُ إِلَى مِثْلِ فَائِدَتِهِ - بِفَضْلِ اللهِ-، وَهُوَ:(فَوَائِدُ وَمَسَائِلُ مِنْ كِتَابِ (الاعْتِصَامُ) وَغَيرِهِ).

(2)

مُعْظَمُ تَحْقِيقِ الحَدِيثِ فِي هَذَا الشَّرْحِ هُوَ مِنْ مُصَنَّفَاتِ الشَّيخِ الإِمَامِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

(3)

أُرَحِّبُ بِتَلَقِّي تَعْلِيقَاتِ القُرَّاءِ الكِرَامِ عَلَى العُنْوَانِ الإِلِكتْرُوني: [email protected].

ص: 4

تَرْجَمَةُ الإِمَامِ النَّوَوِيِّ:

اسْمُهُ وَنَسَبُهُ:

هُوَ يَحْيَى بْنُ شَرَفِ بْنِ مِرَى بْنِ حَسَنِ بْنِ حِزَامٍ؛ الحِزَامِيُّ النَّوَوِيُّ الحَورَانِيُّ الشَّافِعِيُّ؛ الشَّيخُ الإِمَامُ العَلَّامَةُ؛ شَيخُ الإِسْلَامِ، لَقَبُهُ: مُحْيِي الدِّينِ

(1)

، وَكُنْيَتُهُ:

أَبُو زَكَرِيَّا.

وُلِدَ سَنَةَ (631 هـ)، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ (676 هـ).

مَنْهَجُهُ العِلْمِيُّ:

قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تَارِيخُ الإِسْلَامِ وَوَفِيَّاتُ المَشَاهِيرِ وَالأَعْلَامِ) -عِنْدَ تَرْجَمَةِ الإِمَامِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "قَالَ شَيخُنَا ابْنُ العَطَّارِ: ذَكَرَ لِي شَيخُنَا رحمه الله

(2)

أَنَّهُ كَانَ لَا يَضِيعُ لَهُ وَقْتٌ فِي لَيلٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا فِي وَظِيفَةٍ مِنَ الاشْتِغَالِ بِالعِلْمِ، حَافِظًا لِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَارِفًا بِأَنْوَاعِهِ مِنْ صَحِيحِهِ وَسَقِيمِهِ وَغَرِيبِ أَلْفَاظِهِ وَاسْتِنْبَاطِ فِقْهِهِ، حَافِظًا لِلمَذْهَبِ وَقَوَاعِدِهِ وَأُصُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَاخْتِلَافِ العُلمَاءِ وَوِفَاقِهِم، سَالِكًا فِي ذَلِكَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ"

(3)

.

(1)

وَكَانَ مِنْ تَوَاضُعِهِ رحمه الله مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ كَرَاهِيَّتِهِ مَنْ لَقَّبَهُ -تَزْكِيَةً لَهُ- بِـ «مُحْيِي الدِّينِ» ، فَقَالَ:"لَا أَجْعَلُ فِي حِلٍّ مَنْ لَقَّبَنِي مُحْيِي الدِّين"! انْظُرْ كِتَابَ (المَنْهَلُ العَذْبُ الرَوِيُّ فِي تَرْجَمَةِ قُطْبِ الأَولِيَاءِ النَّوَوِيِّ) لِلحَافِظِ السَّخَاوِيِّ رحمه الله (ص: 11).

(2)

أَي النَّوَوِيُّ.

(3)

(تَارِيخُ الإِسْلَامِ وَوَفِيَّاتُ المَشَاهِيرِ وَالأَعْلَامِ) للذَّهَبِيِّ (50/ 251).

ص: 5

قُلْتُ (الذَّهَبِيُّ): "وَلَا يَحْتَمِلُ كِتَابُنَا أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ سِيرَةِ هَذَا السَّيِّدِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيهِ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ فِي الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ السُّكُوتُ، وَإِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ، وَرُبَّمَا تَأَوَّلَ قَلِيلًا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ؛ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى"

(1)

.

مُصَنَّفَاتُهُ:

لَهُ مِنَ المُصَنَّفَاتِ الكَثِيرُ الطَّيِّبُ رحمه الله، فَمِنْهَا:(تَهْذِيبُ الأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ)، وَ (مِنْهَاجُ الطَّالِبِينَ)، وَ (المِنْهَاجُ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمِ بْنِ الحَجَّاجِ)، وَ (حِلْيَةُ الأَبْرَارِ) المَعْرُوفُ بِـ (الأَذْكَارِ النَّوَوِيَّةِ) -، وَ (رِيَاضُ الصَّالِحِينَ مِنْ كَلَامِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ)، وَ (الإِيضَاحُ فِي المَنَاسِكِ)، وَ (رَوضَةُ الطَّالِبِينَ)، وَ (التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ)، وَ (مُخْتَصَرُ طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ لِابْنِ الصَّلَاحِ)، وَ (الأَرْبَعُونَ حَدِيثًا النَّوَوِيَّةُ) -وَهِيَ مَا أَقُومُ بِشَرْحِهَا-، وَ (المَجْمُوعُ شَرْحُ المُهَذَّبِ)، وَغَيرُهَا كَثِيرٌ

(2)

.

(1)

وَتَعَقَّبَهُ الحَافِظُ السَّخَاوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (المَنْهَلُ العَذْبُ الرَّوِيُّ فِي تَرْجَمَةِ قُطْبِ الأَولِيَاءِ النَّوَوِيِّ)(ص:44)؛ فَقَالَ: "وَصَرَّحَ اليَافِعِيُّ وَالتَّاجُ السُّبْكيُّ رَحِمَهُمَا اللهُ بِأَنَّهُ أَشْعَرِيٌّ.

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي تَارِيخِهِ: إِنَّ مَذْهَبَهُ فِي الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ السُّكُوتُ، وَإِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ، وَربَّمَا تَأَوَّلَ قَلِيلًا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. كَذَا قَالَ! وَالتَّاوِيلُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِ".

قُلْتُ: وَصَحَّحَ الشَّيخُ الفَاضِلُ مَشْهُورُ بْنُ حَسَنِ آل سَلْمَان -حَفِظَهُ اللهُ- كَونَهُ سَلَفِيَّ العَقِيدَةِ؛ وَخَاصَّةً فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، وَأَورَدَ الأَدِلَّةَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مُؤَلَّفَاتِ النَّوَوِيِّ نَفْسِهِ رحمه الله. انْظُرْ أَشْرِطَةَ شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَهُ (شَرِيطَ رَقَم: 347).

(2)

انْظُرْ كِتَابَ (الأَعْلَامُ) لِلزِّرِكْلِيِّ (8/ 149).

ص: 6

مُقَدِّمَةٌ عَلَى الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ:

- سَبَبُ تَصْنِيفِ النَّوَوِيِّ رحمه الله لِهَذِهِ الأَرْبَعِين

(1)

:

1 -

حَدِيثُ «مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا مِنْ أَمْرِ دِينِهَا؛ بَعَثَهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ فِي زُمْرَةِ الفُقَهَاءِ وَالعُلَمَاءِ»

(2)

، وَاتَّفَقَ الحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ.

2 -

اعْتِمَادًا عَلَى قَولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَحَادِيث الصَّحَيحَةِ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ»

(3)

، وَقَولِهِ صلى الله عليه وسلم:«نَضَّرَ اللهُ امْرِأً سَمِعَ مَقَالَتِي؛ فَوَعَاهَا؛ فَأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا»

(4)

.

3 -

اقْتِدَاءً بِتَصْنِيفِ العُلَمَاءِ المُتَقَدِّمِينَ لَهُ؛ حَيثُ جَمَعُوا أَحَادِيثَ فِي الفُرُوعِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالجِهَادِ وَ

قَالَ رحمه الله: "وَقَدِ اسْتَخَرْتُ اللهَ تَعَالَى فِي جَمْعِ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا -اقْتِدَاءً بَهَؤُلَاءِ الأَئِمَّةِ الأَعْلَامِ وَحُفَّاظِ الإِسْلَامِ-، وَقَدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ العَمَلِ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ

(5)

، وَقَدْ رَأَيتُ جَمْعَ أَرْبَعِينَ أَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛

(1)

بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ مِنْ مُقَدِّمَةِ النَّوَوِيِّ نَفْسِهِ رحمه الله عَلَى هَذِهِ الأَرْبَعِين.

(2)

وَضَعَّفَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي السِّلْسِلَةِ الضَّعِيفَةِ (10/ 102)، وَعَزَاهُ إِلَى كِتَابِ (الفَوَائِدُ)(4/ 37/2) لِأَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا.

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (67)، وَمُسْلِمٌ (1354) مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا.

(4)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2658) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6764).

(5)

وَمَعْنَى كَونِهِ فِي الفَضَائِلِ: أَي: إِيرَادُ الحَدِيثِ الضَّعِيفِ الإِسْنَادِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ فَضِيلَةِ عَمَلٍ مَا ثَابِتٍ شَرْعًا؛ أَوِ الحَثِّ عَلَيهِ، وَلَيسَ فِي مَعْرِضِ إِثْبَاتِ حُكْمٍ بِهِ.

قُلْتُ: وَأَمَّا دَعْوَى الاتِّفَاقِ هَذِهِ؛ فَغَيرُ مُسَلَّمٍ بِهَا، وَالرَّاجِحُ عَدَمُ الجَوَازِ؛ لِأَنَّ الكُلَّ شَرْعٌ.

ص: 7

وَهِيَ أَرْبَعُونَ حَدِيثًا مُشْتَمِلَةً عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، وَكُلُّ حَدِيثٍ مِنْهَا قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ؛ قَدْ وَصَفَهُ العُلَمَاءُ بِأَنَّ مَدَارَ الإِسْلَامِ عَلَيهِ، أَو هُوَ نِصْفُ الإِسْلَامِ، أَو ثُلُثُهُ، أَو نَحْو ذَلِكَ"

(1)

.

- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "أَمْلَى الإِمَامُ الحَافِظُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ مَجْلِسًا سَمَّاهُ (الأَحَادِيثُ الكُلِّيَّةُ) جَمَعَ فِيهِ الأَحَادِيثَ الجَوَامِعَ الَّتِي يُقَالُ: إِنَّ مَدَارَ الدِّينِ عَلَيهَا، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا مِنَ الكَلِمَاتِ الجَامِعَةِ الوَجِيزَةِ

(2)

؛ فَاشْتَمَلَ مَجْلِسُهُ هَذَا عَلَى سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا.

ثُمَّ إِنَّ الفَقِيهَ الإِمَامَ الزَّاهِدَ القُدْوَةَ أَبَا زَكَرِيَّا؛ يَحْيَى النَّوَوِيَّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيهِ أَخَذَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ الَّتِي أَمْلَاهَا ابْنُ الصَّلَاحِ، وَزَادَ عَلَيهَا تَمَامَ اثْنَينِ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، وَسَمَّى كِتَابَهُ بِـ (الأَرْبَعِينُ)، وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الأَرْبَعُونَ الَّتِي جَمَعَهَا، وَكَثُرَ حِفْظُهَا، وَنَفَعَ اللهُ بِهَا بِبَرَكَةِ نِيَّةِ جَامِعِهَا، وَحُسْنِ قَصْدِهِ؛ رحمه الله"

(3)

.

- اعْتَنَى بِشَرْحِ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ الكِبَارِ؛ أَبْرَزُهُم:

الحَافِظُ ابْنُ دَقِيقٍ العِيدُ؛ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، (ت 702 هـ).

الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله، (ت 795 هـ)، وَسَمَّى شَرْحَهُ: جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ

(4)

.

(1)

قَولُهُ (أَرْبَعِينَ): هُوَ بِاعْتِبَارِ الوَصْفِ الغَالِبِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّهَا اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا.

(2)

كَمَا فِي الحَدِيثِ «أُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ عز وجل، فَعَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ. صَحِيحٌ. أَبُو يَعْلَى (7238) عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1483).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 56).

(4)

وَكَثِيرٌ أَيضًا مِنْ عُلَمَائِنَا الأَفَاضِلِ المُعَاصِرِينَ، كَالشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِينَ، وَالشَّيخِ عَبْدِ المُحْسِنِ العَبَّادِ، رحمهم الله جَمِيعًا -أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا-.

ص: 8

‌الحَدِيثُ الأَوَّلُ: (إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)

عن أميرِ المؤمنينَ أبي حَفْصٍ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ تعالَى عليهِ وعلَى آلهِ وسَلَّمَ يقُولُ: «إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لكُلِّ امْرئٍ ما نَوَى فمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولِهِ، ومَن كانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرأةٍ يَنْكِحُهَا فهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إليهِ» رواهُ إمَامَا المُحَدِّثِينَ أبو عَبْدِ اللهِ محمدُ بنُ إسماعِيلَ بنِ إبراهيمَ ابنِ المُغِيرةِ بنِ بَرْدِزبَه البُخاريُّ، وأبُو الحُسَيْنِ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ بنِ مُسْلِمٍ القُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُوريُّ في صحيحَيْهِما اللَّذَيْنِ هُما أصَحُّ الكُتُبِ المُصَنَّفَةِ

(1)

.

- أَهَمِّيَّةُ الحَدِيثِ: قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "يَدْخُلُ فِي حَدِيثِ «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ثُلُثُ العِلْمِ"

(2)

، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَسْبَ العَبْدِ يَكُونُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوارِحِهِ، وَالنِّيَّةُ أَحَدُ الأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَيضًا: "يَدْخُلُ هَذَا الحَدِيثُ فِي سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الفِقْهِ"

(3)

.

وَاسْتَحَبَّ العُلَمَاءُ أَنْ تُسْتَفْتَحَ المُصَنَّفَاتُ بِهَذَا الحَدِيثِ، وَمِمَّنِ افْتَتَحَ بِهِ

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1)، وَمُسْلِمٌ (1907)، وَالحَدِيثُ مُتَوَاتِرٌ مَعْنَوِيًّا، غَرِيبٌ سَنَدًا.

(2)

رَوَاهُ البَيهَقِيُّ فِي (السُّنَنِ الكُبْرَى)(2255).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 61).

ص: 9

كِتَابَهُ: الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ

(1)

، وَالبَغَوِيُّ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ السُّنَّةِ)،

وَعَبْدُ الغَنِيِّ المَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ الأَحْكَامِ)، وَالسُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ (الجَامِعُ الصَّغِيرُ) رحمهم الله جَمِيعًا.

وَحَضَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى الابْتِدَاءِ بِهِ فِي المُصَنَّفَاتِ تَنْبِيهًا لِطَالِبِ العِلْمِ عَلَى تَصْحِيحِ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ إِقْدَامِهِ عَلَى العِلْمِ.

- هَذَا الحَدِيثُ مَيزَانٌ لِلأَعْمَالِ البَاطِنَةِ، وَحَدِيثُ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»

(2)

هُوَ مِيزَانٌ لِلأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا يُقْبَلُ العَمَلُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا بِهِمَا، أَي: الإِخْلَاصُ للهِ، وَالمُوَافَقَةُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

- وَرَدَ الحَدِيثُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةِ؛ مِنْهَا: «إِنَّمَا العَمَلُ بِالنِّيَّةِ» ، وَ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» .

- الأَعْمَالُ جَمْعُ عَمَلٍ، وَالمَقْصُودُ بِهَا هُنَا الأَعْمَالُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنِ المُكَلَّفِ، وَتَدْخُلُ فِيهَا الأَقْوَالُ وَالأَفْعَالُ مَعًا.

- النِّيَّةُ هُنَا فِي الحَدِيثِ هِيَ قَصْدُ القَلْبِ وَإِرَادَتُهُ وَمُبْتَغَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّوْرَى: 20]

(3)

.

(1)

وَقَدْ أَقَامَهُ البُخَارِيُّ رحمه الله مَقَامَ الخُطْبَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ؛ فقد أَورَدَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ بِدْءِ الوَحْيِّ.

(2)

رَوَاهُ َمُسْلِمٌ (1718) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَرْفُوعًا.

(3)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "قَالَ النَّوَوِيُّ: النِّيَّةُ: القَصْدُ؛ وَهِيَ عَزِيمَةُ القَلْبِ. وَتَعَقَّبَهُ الكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ عَزِيمَةَ القَلْبِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ القَصْدِ". فَتْحُ البَارِي (1/ 13).

ص: 10

- النِّيَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ بِعَامَّةٍ يُرَادُ بِهَا أَحَدُ مَعْنَيَينِ:

1 -

نِيَّةٌ يُقْصَدُ بِهَا التَّعَبُّدُ، وَهِيَ تَمْيِيزُ العَادَةِ عَنِ العِبَادَةِ، وَتَمْيِيزُ العِبَادَاتِ عَنْ بَعْضِهَا.

وَالتَّلَفُّظُ بِهَا فِي العِبَادَاتِ بِدْعَةٌ، وَفِي العَادَاتِ مَرَضٌ وَجُنُونٌ

(1)

.

2 -

نِيَّةٌ مُتَّجِهَةٌ إِلَى المَعْبُودِ، وَهِيَ الإِخْلَاصُ لَهُ فِي العِبَادَةِ.

وَعَلَى هَذَا المَعْنَى الأَخِيرِ: مَنْ نَوَى غَيرَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى فِي عَمَلِهِ فَهُوَ مُرَاءٍ، وَالرِّيَاءُ الكَامِلُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، وَلَا يَكَادُ يَصْدُرُ مِنْ مُسْلِمٍ فِي فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا}

[النِّسَاء: 142].

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "وَالنِّيَّةُ: هِيَ قَصْدُ القَلْبِ، وَلَا يَجِبُ التَّلَفُّظَ بِمَا فِي القَلْبِ فِي شَيءٍ مِنَ العِبَادَاتِ، وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَهُ قَولًا بِاشْتِرَاطِ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ، وَغَلَّطَهُ المُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ، وَاخْتَلَفَ المُتَأَخِّرُونَ مِنَ الفُقَهَاءِ فِي التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيرِهَا، فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ.

وَلَا يُعْلَمُ فِي هَذِهِ المَسَائِلِ نَقْلٌ خَاصٌّ عَنِ السَّلَفِ وَلَا عَنِ الأَئِمَّةِ إِلَّا فِي الحَجِّ وَحْدَهُ؛ فَإِنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: إِذَا أَرَادَ الحَجَّ يُسَمِّي مَا يُهِلُّ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُسَمِّيهِ فِي التَّلْبِيَةِ. وَهَذَا لَيسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ! فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَذْكُرُ نُسُكَهُ فِي تَلْبِيَتِهِ، فَيَقُولُ:«لَبَّيكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي أَنَّهُ يَقُولُ عِنْدَ إِرَادَةِ عَقْدِ الإِحْرَامِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الحَجَّ أَوِ العُمْرَةَ -كَمَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الفُقَهَاءِ- وَكَلَامُ مُجَاهِدٍ لَيسَ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ.

وَقَالَ أَكْثَرُ السَّلَفِ -مِنْهُمْ عَطَاءُ وَطَاوُسُ وَالقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالنَّخَعِيُّ-: تُجْزِئُهُ النِّيَّةُ عِنْدَ الإِهْلَالِ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا عِنْدَ إِحْرَامِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الحَجَّ أَوِ العُمْرَةَ، فَقَالَ لَهُ:(أَتُعْلِمُ النَّاسَ؟ أَوَلَيسَ اللهُ يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ؟!) ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 92).

ص: 11

- قَولُهُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ» : إِنَّمَا: لِلحَصْرِ، وَالبَاءُ هُنَا سَبَبِيَّةٌ، يَعْنِي: إِنَّمَا الأَعْمَال تُقْبَلُ -أَو تَقَعُ صَحِيحَةً- بِسَبَبِ النِّيَّةِ، يَعْنِي: بِقَصْدِهِ لِلعِبَادَةِ نَفْسِهَا، وَإِخْلَاصِهِ فِيهَا للهِ وَحْدَهُ.

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانيُّ رحمه الله: "وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ أَنَّ قَولَ الرَّجُلِ لِغَيرهِ (مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ) يُعَدُّ شِرْكًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مِنْ شِرْكِ الأَلفَاظِ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ مَشِيئَةَ العَبْدِ فِي دَرَجَةِ مَشيئَةِ الرَّبِّ سبحانه وتعالى، وَسَبَبُهُ: القَرْنُ بَينَ المَشيئَتَينِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَولُ بَعْضِ العَامَّةِ وأَشْبَاهِهِم -مِمَّنْ يَدَّعِي العِلْمَ-:(مَالِي غَيرُ اللهِ وَأَنْتَ) وَ (تَوَكَّلْنَا عَلى اللهِ وَعَلَيكَ)، وَمِثْلُهُ قَولُ بَعْضِ المُحَاضِرِينَ:(بَاسْمِ اللهِ وَالوَطَنِ)، أَو (بَاسْمِ اللهِ وَالشَّعْبِ)، وَنَحوِ ذَلِكَ مِنَ الأَلْفَاظِ الشِّرْكِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ الانْتِهَاءُ عَنْهَا، وَالتَّوبَةُ مِنْهَا أَدَبًا مَعَ اللهِ تبارك وتعالى.

وَلَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذا الأَدَبِ الكَرِيمِ كَثِيرٌ مِنَ العَامَّةِ، وَغَيرُ قَلِيلٍ مِنَ الخَاصَّةِ الَّذِينَ يُسَوِّغُونَ النُّطْقَ بِمِثْلِ هَذهِ الشِّرْكِيَّاتِ! كَمُنَادَاتِهِم غَيرَ اللهِ فِي الشَّدَائِدِ، والاسْتِنْجَادِ بِالأَمْوَاتِ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَالحَلِفِ بِهِم مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَالإِقْسَامِ بِهِم عَلَى اللهِ عز وجل، فَإِذَا مَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيهِم عَالِمٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنهَّمُ -بَدَلَ أَنْ يَكُونُوا عَونًا عَلَى إِنْكَارِ المُنْكَرِ- عَادُوا بِالإِنْكَارِ عَلَيهِ، وَقَالُوا: إِنَّ نِيَّةَ أُولَئِكَ -المُنَادِينَ غَيرَ اللهِ- طَيِّبَةٌ! وَ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ! كَمَا جَاءَ فِي الحِدِيثِ، فَيَجْهَلُونَ أَو يَتَجَاهَلُونَ -إِرْضَاءً لِلعَامَّةِ- أَنَّ النِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ -وَإِنْ وُجِدَتْ عِنْدَ المَذْكُورِينَ- فَهيَ لَا تَجْعَلُ العَمَلَ السَيِّئَ صَالِحًا! وَأَنَّ مَعْنَى الحَدِيثِ المَذْكُورِ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِالنِّيَّاتِ الخَالِصَةِ، لَا أَنَّ الأَعْمَالَ المُخَالِفَةَ لِلشَّرِيعَةِ تَنْقَلُبُ إِلَى أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ مَشْرُوعَةٍ بِسَبَبِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ بِهَا!

ص: 12

ذَلِكَ مَا لَا يَقُولُهُ إِلَّا جَاهِلٌ أَو مُغْرِضٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَو صَلَّى تُجَاهَ القَبْرِ؛ لَكَانَ ذَلكَ مُنْكَرًا مِنَ العَمَلِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلأَحَادِيثِ وَالآثَارِ الوَارِدَةِ فِي النَّهْي عَنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ بِالصَّلَاةِ، فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّ الَّذِي يَعُودُ إِلَى الاسْتِقْبَالِ -بَعْدَ عِلْمِهِ بِنَهي الشَّرْعِ عَنْهُ- إِنَّ نِيَّتَهُ طَيِّبَةٌ وَعَمَلُهُ مَشْرُوعٌ؟! كَلَّا ثُمَّ كَلَّا، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِي يَسْتَغِيثُونَ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْسَونَهُ تَعَالَى فِي حَالَةٍ هُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ فِيهَا إِلَى عَونِهِ وَمَدَدِهِ؛ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ نِيَّاتُهُم طَيِّبَةً؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُم صَالِحًا، وَهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى هَذا المُنْكَرِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"

(1)

.

- حُكْمُ العِبَادَةِ إِذَا خَالَطَهَا الرِّيَاءُ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ

(2)

:

1 -

أَنْ يَكُونَ البَاعِثَ عَلَى العِبَادَةِ مُرَاءَاةُ النَّاسِ مِنَ الأَصْلِ؛ كَمَنْ قَامَ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِ مُرَاءَاةِ النَّاسِ، وَلَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى! فَهَذَا شِرْكٌ وَالعِبَادَةُ بَاطِلَةٌ

(3)

.

2 -

أَنْ يَكُونَ الرِّيَاءُ مُشَارِكًا لِلعِبَادَةِ فِي أَثْنَائِهَا؛ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الحَامِلَ لَهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ الإِخْلَاصُ للهِ تَعَالَى ثُمَّ يَطْرَأُ الرِّيَاءُ فِي أَثْنَاءِ العِبَادَةِ؛ فَهُنَا نُمَيِّزُ العِبَادَةَ نَفْسَهَا؛ فَإِنْ كَانَتِ العِبَادَةُ لَا يَنْبَنِي آخِرُهَا عَلَى أوَّلِهَا -كَقِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَالصَّدَقَةِ تِلوَ الصَّدَقَةِ- فَأَوَّلُهَا صَحِيحٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَالبَاطِلُ آخِرُهَا.

(1)

الصَّحِيحَةُ (139).

(2)

(القَولُ المُفِيدُ) لِابْنِ عُثَيمِين رحمه الله (2/ 125) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(3)

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَإِنْ كَانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي سُقُوطِ الفَرْضِ؛ وَجَبَتْ عَلَيهِ الإِعَادَةُ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الإِخْلَاصِ الَّتِي هِي شَرْطٌ فِي صِحَّةِ العَمَلِ وَالثَّوَابِ عَلَيهِ لَمْ تُوجَدْ؛ وَالحُكْمُ المُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَإِنَّ الإِخْلَاصَ هُوَ تَجْرِيدُ القَصْدِ طَاعَةً لِلْمَعْبُودِ؛ وَلَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِهَذَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ المَامُورُ بِهِ فَلَمْ يَاتِ بِهِ؛ بَقِيَ فِي عُهْدَةِ الأَمْرِ". إِعْلَامُ المُوَقِّعِين (2/ 124)، وَيُنْظَرُ أَيضًا: الجَوَابُ الكَافِي (ص: 132).

ص: 13

أَمَّا إِذَا كَانَتِ العِبَادَةُ يَنْبَنِي آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا -كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ-؛ فَإِذَا دَافَعَ الرِّيَاءَ وَكَرِهَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ، لِقَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَو تَتَكَلَّمْ»

(1)

.

أمَّا إِذَا اسْتَرْسَلَ مَعَهُ ولم يُدَافِعْهُ؛ فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ جَمِيعُ العِبَادَةِ؛ لِأَنَّ آخِرَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهَا وَمُرْتَبِطٌ بِهَا

(2)

.

3 -

إِذَا طَرَأَ الرِّيَاءُ - وَهُوَ هُنَا مَحَبَّةُ الثَّنَاءِ وَالفَرَحُ بِهِ- بَعْدَ انْتِهَاءِ العِبَادَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيهَا شَيئًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ عُدْوَانٌ كَالمَنِّ وَالأَذَى بِالصَّدَقَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا العُدْوَانَ يَكُونُ إِثْمُهُ مُقَابِلًا لِأَجْرِ الصَّدَقَةِ فَيُبْطِلُهَا؛ لِقَولِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِينَ} [البَقَرَة: 264].

- لَيسَ مِنَ الرِّيَاءِ أَنْ يَفْرَحَ الإِنْسَانُ بِعِلْمِ النَّاسِ بِعِبَادَتِهِ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا طَرَأَ بَعْدَ الفَرَاغِ مِنَ العِبَادَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ؛ أَنَّهُ قِيلَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ مِنَ الخَيرِ؛ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

- قَولُهُ: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ» : أَي:

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5269)، وَمُسْلِمٌ (127) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ.

(2)

وَفِي بُطْلَانِهَا خِلَافٌ بَينَ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُم: إَنَّهُ يُجَازَى بِأَصْلِ نِيَّتِهِ؛ وَهُوَ قَولُ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ رحمهم الله. انْظُرْ كِتَابَ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(1/ 83).

قُلْتُ: وَلَكِنْ يَشْهَدُ لِمَا أَثْبَتْنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ المَرْفُوعُ «قَالَ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2985).

(3)

مُسْلِمٌ (2642).

ص: 14

مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ نِيَّةً وَقَصْدًا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثَوَابًا وَأَجْرًا وَمُتَابَعَةً

(1)

، وَالتَّكْرَارُ فِي قَولِهِ:«فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ» أُسْلُوبٌ مِنَ أَسَالِيبِ العَرَبِ فِي بَيَانَ تَحَقُّقِ الشَّيءِ وَوُقُوعِهِ عَلَى وَجْهِهِ.

- قَولُهُ: «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا

(2)

يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إلَيهِ»: لَمْ يُكَرِّرْ ذِكْرَ الدُّنْيَا وَالمَرْأَةِ تَحْقِيرًا لِشَانِهَا وَشَانِ مَنْ جَعَلَهَا مُبْتَغَاهُ؛ فَإنَّ الأَوَّلَ تَاجِرٌ، وَالثَّانِي خَاطِبٌ!

وَفِي هَذَا المَقَامِ اشْتَهَرَتْ قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي هَاجَرَ مِنْ أَجْلِ امْرَأَةٍ؛ فَسُمِّيَ تَبَعًا لَهَا بِمُهَاجِرِ أُمِّ قَيسٍ

(3)

.

- الهِجْرَةُ مَعْنَاهَا: التَّرْكُ، وَالهِجْرَةُ إِلى: مَعْنَاهَا الانْتِقَالُ إِلى.

وَالهِجْرَةُ إِلَى اللهِ: هِيَ الإِخْلَاصُ وَابْتِغَاءُ مَا عِنْدَهُ تَعَالَى. وَالهِجْرَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِيَ اتِّبَاعُهُ، وَالهِجْرَةُ بِمَعْنًى آخَرَ فِي الشَّرْعِ: تَرْكُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ

(4)

.

(1)

وَيُمْكِنُ القَولُ أَيضًا: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ تَقَرُّبًا وَطَاعَةً، وَإِلَى رَسُولِهِ مُتَابَعَةً.

(2)

دُنْيَا: مُؤَنَّثُ أَدْنَى، مِثْلُ: أَحْسَنُ وَحُسْنَى. وَالدُّنْيَا مِنَ الدُّنُوِّ، وَلَيسَتْ مِنَ الدَّنَاءَةِ.

(3)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَقِصَّةُ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيسٍ رَوَاهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ- قَالَ: "مَنْ هَاجَرَ يَبْتَغِي شَيئًا؛ فَإِنَّمَا لَهُ ذَلِكَ، هَاجَرَ رَجُلٌ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أُمُّ قَيسٍ؛ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: مُهَاجِرُ أُمِّ قَيسٍ". وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الأَعْمَشِ بِلَفْظِ: (كَانَ فِينَا رَجُلٌ خَطَبَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أُمُّ قَيسٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ حَتَّى يُهَاجِرَ؛ فَهَاجَرَ فَتَزَوَّجَهَا؛ فَكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيسٍ). وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيخَينِ، لَكِنْ لَيسَ فِيهِ أَنَّ حَدِيثَ الأَعْمَالِ سِيقَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيءٍ مِنَ الطُّرُقِ مَا يَقْتَضِي التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ". فَتْحُ البَارِي (1/ 10).

(4)

كَمَا فِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ (23967) مِنْ حَدِيثِ فُضَالَةِ بْنِ عُبَيدٍ مَرْفُوعًا: «المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الخَطَايَا وَالذُّنُوبَ» . الصَّحِيحَةُ (549).

ص: 15

- وَقَعَتِ الهِجْرَةُ فِي الإِسْلَامِ عَلَى وَجْهَينِ:

1 -

الانْتِقَالُ مِنْ دَارِ الخَوفِ إِلَى دَارِ الأَمْنِ، كَمَا في هِجْرَتَي الحَبَشَةِ، وَابْتِدَاءِ الهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ.

2 -

الهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الكُفْرِ إِلَى دَارِ الإِيمَانِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالمَدِينَةِ، وَهَاجَرَ إِلَيهِ مَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنَ المُسْلِمِينَ.

وَكَانَتِ الهِجْرَةُ إِذْ ذَاكَ تَخْتَصُّ بِالانْتِقَالِ إِلَى المَدِينَةِ إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ فَانْقَطَعَ الاخْتِصَاصُ وَبَقِيَ عُمُومُ الانْتِقَالِ مِنْ دَارِ الكُفْرِ لِمَنْ قَدِرَ عَلَيهِ بَاقِيًا، كَمَا في الحَدِيثِ «لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»

(1)

.

- فَائِدَةٌ:

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَكَمَا أَنَّ الإِيمَانَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ فَفَرْضٌ عَلَيهِ هِجْرَتَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ: هِجْرَةٌ إِلَى اللهِ عز وجل بِالتَّوحِيدِ وَالإِخْلَاصِ وَالإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالخَوفِ وَالرَّجَاءِ وَالمَحَبَّةِ وَالتَّوبَةِ، وَهِجْرَةٌ إِلَى رَسُولِهِ بِالمُتَابَعَةِ وَالانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِخَبَرِهِ وَتَقْدِيمِ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ عَلَى أَمْرِ غَيرِهِ وَخَبَرِهِ"

(2)

.

- فِي الحَدِيثِ فَوَائِدُ؛ مِنْهَا:

1 -

الحَثُّ عَلَى الإِخْلَاصِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ العَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ صَوَابًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ.

2 -

الحَثُّ عَلَى تَعَلُّمِ النِّيَّاتِ؛ فَفِي العَمَلِ الوَاحِدِ تَتَنَوَّعُ النِّيَّاتُ وَيَزْدَادُ بِهَا

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2479) عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7469).

(2)

زَادُ المَعَادِ (3/ 11).

ص: 16

الأَجْرُ، كَمَا قَالَ التَّابِعِيُّ الجَلِيلُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ:"تَعَلَّمُوا النِّيَّةَ؛ فَإِنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ العَمَلِ"

(1)

.

وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: "عِبَادَاتُ أَهْلِ الغَفْلَةِ عَادَاتٌ، وَعَادَاتُ أَهْلِ اليَقَظَةِ عِبَادَاتٌ"، كَمَثَلِ رَجُلٍ لَبِسَ ثَوبًا جَدِيدًا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَتَرَفَّعَ بِثِيَابِهِ! فَهَذَا لَا يُؤْجَرُ. وَآخَرُ لَبِسَ ثَوبًا جَدِيدًا يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ النَّاسُ قَدْرَ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيهِ مِنْ بَابِ قَولِهِ تَعَالَى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضُّحَى: 11]؛ فَهَذَا يُؤْجَرُ.

3 -

التَّرْهِيبُ مِنَ الرِّيَاءِ وَمِنْ إِرَادَةِ الإِنْسَانِ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا، كَمَا فِي الحَدِيثِ «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ العُلَمَاءَ، أَو لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَو لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيهِ؛ فَهُوَ في النَّارِ»

(2)

.

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ «بَشِّرْ هذِهِ الأمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالدِّينِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ؛ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيا لَمْ يَكُنْ لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ»

(3)

.

4 -

الإِشَارَةُ إِلَى عَظِيمِ أَجْرِ الهِجْرَةِ، كَمَا في صَحِيحِ مُسْلِمِ عَنْ عَمْرو بْنِ العَاصِ مَرْفُوعًا «وَأَنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَان قَبْلَهَا»

(4)

.

(1)

حِلْيَةُ الأَولِيَاءِ (3/ 70).

(2)

حَسَنٌ. ابْنُ مَاجَه (253) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6382).

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21220) عَنْ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2825).

(4)

مُسْلِمٌ (121).

ص: 17

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: كَيفَ يُجْمَعُ بين مَا فِي لَفْظِ الحَدِيثِ -حَيثُ قَرْنَ الرَسُولُ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ مَعَ اللهِ تَعَالَى بِـ (الوَاوِ) حَيثُ قَالَ: «إلى اللهِ ورَسُولِهِ» ولم يَقُلْ: «ثُمَّ رَسُولِهِ» - مَعَ الحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولُوا: «مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ» عِوَضًا عَنْ قَولِهِم: «مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ»

(1)

؟

الجَوَابُ: إِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِيعَةِ يَصِحُّ أَنْ يُعبَّرَ عَنْهُ بِالوَاوِ، لِأَنَّ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ رَبِّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النِّسَاء: 80]، وَأَمَّا الأُمُورُ الكَونِيَّةُ -كَالمَشِيئَةِ مَثَلًا- فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَنَ مَعَ اللهِ أَحَدٌ بِالوَاوِ أَبَدًا، لِأَنَّ مَشِيئَةَ العَبْدِ مُسْتَقِلَّةٌ عَنْ مَشِيئَةِ اللهِ -رُغْمَ أَنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَشَاءَ اللهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِير: 29]-، فَأَثْبَتَتِ الآيَةُ مَشِيئَتَينِ مُسْتَقِلَّتَينِ عَنْ بَعْضِهِمَا.

(1)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (3773). الصَّحِيحَةُ (136).

وَتَمَامُ الحَدِيثِ هُوَ عَنْ قُتَيلَةَ؛ أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ! وَتَقُولُونَ: وَالكَعْبَةِ! فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: «وَرَبِّ الكَعْبَةِ، وَأَنْ يَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ» .

ص: 18

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا حُكْمُ مَنْ خَالَطَتْ نِيَّتَهُ نِيَّةٌ غَيرُ الرِّيَاءِ؟

كَمَنْ جَاهَدَ مِنْ أَجْلِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَأَضَافَ لِذَلِكَ المَغْنَمَ!

وَكَمَنْ حَجَّ لِأَدَاءِ مَا أَوجَبَ اللهُ عَلَيهِ مِنْ فَرِيضَةٍ؛ وَأَضَافَ لِذَلِكَ تِجَارَةً دُنْيَوِيَّةً!

وَكَمَنْ وَصَلَ الرَّحِمَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ؛ وَتَوسِيعًا فِي رِزْقِهِ؛ وَإِطَالَةً لِعُمُرِهِ!

الجَوَابُ: إِنَّ هَذَا جَائِزٌ؛ وَلَا يَبْطُلُ عَمَلُهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى رَغَّبَ المُؤْمِنِينَ فِي تَقْوَاهُ بِذِكْرِ مَنَافِعَ لَهُم فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطَّلَاق: 2]. وَكَمَا فِي الحَجِّ: {لَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البَقَرَة: 198].

وَكَمَا فِي الصَّحِيحَينِ

(1)

مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَه فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» .

إِلَّا أَنَّ أَجْرَهُ يَنْقُصُ بِحَسْبِ ذَلِكَ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ

ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُصِيبُونَ الغَنِيمَةَ؛ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَي أَجْرِهِمْ مِنَ الأُجْرَةِ، وَيَبْقى لَهُمُ الثُّلْثُ، فَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمُ»

(2)

.

قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: "التَّاجِرُ وَالمُسْتَاجَرُ أَجْرُهُم عَلَى قَدْرِ مَا يَخْلُصُ مِنْ نيَّتِهِم فِي غَزَاتِهِم؛ وَلَا يَكُونُ مِثْلَ مَنْ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لَا يَخْلِطُ بِهِ غَيرَهُ"

(3)

.

(1)

البُخَارِيُّ (5985)، وَمُسْلِمٌ (2557).

(2)

مُسْلِمٌ (1906).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 82).

ص: 19

- تَنْبِيهٌ:

إِنَّ مَا سَبَقَ لَا يَعْنِي جَوَازَ أَنْ تَكُونَ نيَّتُهُ خَالِصَةً لِأَمْرِ الدُّنْيَا! فَإِنَّ هَذَا مَذْمُومٌ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإِسْرَاء: 18، 19].

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ «مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا! فَلَهُ مَا نَوَى»

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (3138) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6401).

ص: 20

‌الحَدِيثُ الثَّانِي: (حَدِيثُ جِبْرِيلَ فِي الإِسْلامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ)

عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَيضًا؛ قَال: بَينَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَومٍ؛ إِذْ طَلَعَ عَلَينَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيهِ إِلَى رُكْبَتَيهِ، وَوَضَعَ كَفَّيهِ عَلَى فَخِذَيهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَام، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البيتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِليهِ سَبِيلًا» . قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ؛ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ:«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ» . قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ:«أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ:«مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» . قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا، قَالَ:«أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ» . ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثَ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ:«يَا عُمَرُ أتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1)

مُسْلِمٌ (8) عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ البُخَارِيُّ (50) وَمُسْلِمٌ (9) أَيضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ.

ص: 21

- هَذَا الحَدِيثُ هُوَ الحَدِيثُ الأَوَّلُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، كَمَا أَنَّ حَدِيثَ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» هُوَ الأَوَّلُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ، وَلِأَهَمِّيَّتِهِ قَالَ عَنْهُ الشَّيخُ ابْنُ دَقِيقٍ العِيدُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:"هُوَ أُمُّ السُّنَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الفَاتِحَةَ هِيَ أُمُّ الكِتَابِ"

(1)

.

- فِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ زِيَادَاتٌ؛ مِنْهَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سَلُونِي» فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ. فَجَاءَ رَجُلٌ، فَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتَيهِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا الإِسْلَامُ؟.

وَقَولُهُ أَيضًا: «وَإِذَا رَأَيتَ الحُفَاةَ العُرَاةَ الصُّمَّ البُكْمَ مُلُوكَ النَّاسِ؛ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا. وَإِذَا رَأَيتَ رِعَاءَ البَهْمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ؛ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فِي خَمْسٍ مِنَ الغَيبِ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ» ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَان: 34]. قَالَ: ثُمَّ قَامَ الرَّجُلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رُدُّوهُ عَلَيَّ» فَالْتُمِسَ؛ فَلَمْ يَجِدُوهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا جِبْرِيلُ؛ أَرَادَ أَنْ تَعَلَّمُوا إِذَ لَمْ تَسْأَلُوا»

(2)

.

وَفِي لَفْظِ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ زِيَادَاتٌ أَيضًا؛ مِنْهَا فِي الإِسْلَام، فَقَالَ:«وَتَحُجَّ، وَتَعْتَمِرَ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الجَنَابَةِ، وَأَنْ تُتِمَ الوُضُوءَ» . قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» .

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ دَقِيق العِيد (ص: 29).

(2)

مُسْلِمٌ (10).

وَقَولُهُ: (الصُّمَّ البُكْمَ): كِنَايَةٌ عَنِ الجَهْلِ، أَي: لَمْ يَسْتَعْمِلُوا أَسْمَاعَهُم وَأَبْصَارَهُم فِي شَيءٍ مِنْ

أَمْرِ دِينِهِم.

ص: 22

وَقَالَ فِي الإِيمَانِ: «وَتُؤْمِنَ بِالجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالمِيزَانِ» ، وَقَالَ فِيهِ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُؤْمِنٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُم لِيُعَلِّمَكُم أَمْرَ دِينِكُم، خُذُوا عَنْهُ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْلَ مَرَّتِي»

(1)

.

- قَولُهُ: (يَا مُحَمَّدُ): وَلَمْ يَقُلْ: يَا رَسُولَ اللهِ لِيُفْهَمَ أَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ، وَالغَايَةُ مِنْهُ وُضُوحُ البَيَانِ لِعُمُومِ النَّاسِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

- قَولُهُ: «أَنْ تَشْهَدَ» : الشَّهَادَةُ مَعْنَاهَا: أُقرُّ بِقَلْبِي نَاطِقًا بِلِسَانِي، فَلَا يَكْفِي اللِّسَانُ وَحْدَهُ! بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اللِّسَانِ وَالقَلْبِ، قَالَ اللهُ عز وجل:{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزُخْرُف: 86].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "لَكِن مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ؛ فَإِنَّهُ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ لَهُ"

(2)

.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيُّ رحمه الله:

"وَعِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي (شَهِدَ) -تَدُورُ عَلَى الحُكْمِ وَالقَضَاءِ وَالإِعْلَامِ وَالبَيَانِ وَالإِخْبَارِ، وَهَذِهِ الأَقْوَالُ كُلُّهَا حَقٌّ لَا تَنَافِيَ بَينَهَا، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَتَضَمَّنُ كَلَامَ الشَّاهِدِ وَخَبَرَهُ، وَتَتَضَمَّنُ إِعْلَامَهُ وَإِخْبَارَهُ وَبَيَانَهُ. فَلَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

فَأَوَّلُ مَرَاتِبِهَا: عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ وَاعْتِقَادٌ لِصِحَّةِ المَشْهُودِ بِهِ وَثُبُوتِهِ.

وَثَانِيهَا: تَكَلُّمُهُ بِذَلِكَ -وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهِ غَيرَهُ- بَلْ يَتَكَلَّمُ بِهَا مَعَ نَفْسِهِ، وَيَتَذَكَّرُهَا، وَيَنْطِقُ بِهَا أَو يَكْتُبُهَا.

وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْلِمَ غَيرَهُ بِمَا يَشْهَدُ بِهِ، وَيُخْبِرَهُ بِهِ، وَيُبَيِّنَهُ لَهُ.

(1)

صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (173). وَانْظُرْ كِتَابَ (جَامِعُ العُلومِ وَالحِكَمِ)(1/ 75).

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير (7/ 243).

ص: 23

وَرَابِعُهَا: أَنْ يُلْزِمَهُ بِمَضْمُونِهَا وَيَأمُرَهُ بِهَا"

(1)

.

- قَولُهُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» : الاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ النَّفْيِّ يُفِيدُ الحَصْرَ، وَتَقْدِيرُ الكَلَامِ:(لَا إِلَهَ حَقٌّ إِلَّا اللهُ)، وَلَمْ نُقَدِّرْهُ:(لَا إِلَهَ مَوجُودٌ إِلَّا اللهُ) لِأَنَّ الآلِهَةَ الَّتِي يَعْبُدُهَا المُشْرِكونَ مَوجُودَةٌ، وَمِنْهَا: الأَنْبِيَاءُ وَالأَولِيَاءُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالهَوَى وَالقُبُورُ الَّتِي تُدْعَى مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى.

وَيَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِنَا لِكَلِمَةِ (حَقٌّ) قَولُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} [الحَجّ:62].

- قَولُهُ: «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» : يَشْمَلُ أَنْوَاعَ التَّوحِيدِ الثَّلَاثَةَ، وَهِيَ: تَوحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ وَتَوحِيدُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

قَالَ الزُّبَيدِيُّ فِي (تَاجُ العَرُوسِ) رحمه الله: "التَّوحِيدُ تَوحِيدَانِ، تَوحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوحِيدُ الأِلَهِيَّةِ.

فَصَاحِبُ تَوحِيدِ الرَّبَّانِيَّةِ يَشْهَدُ قَيُّومِيَّةَ الرَّبِ فَوقَ عَرْشِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِهِ وَحْدَهُ، فَلَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا مُحْيي وَلَا مُمِيتَ وَلَا مُدَبِّرَ لِأَمْرِ المَمْلَكَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا غَيرُهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بإِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ حَادِثٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا وَقَدْ أَحْصَاهَا عِلْمُهُ وَأَحَاطَتْ بِهَا قُدْرَتُهُ وَنَفَذَتْ فِيهَا مَشِيئَتُهُ وَاقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ.

وَأَمَّا تَوحِيدُ الإِلَهِيَّةِ فَهُوَ أَنٍ يجْمَعَ هِمَّتَهُ وَقَلْبَهُ وَعَزْمَهُ وَإِرَادَتَهُ وَحَرَكاتِهِ عَلَى

(1)

شَرْحُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص: 90).

ص: 24

أَدَاءِ حَقِّهِ وَالقِيَامِ بِعُبُودِيَّتِهِ"

(1)

.

- قَولُهُ: «وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ» : هَذَا يَسْتَلْزِمُ أُمُورًا؛ مِنْهَا:

1 -

تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ -إِذَا ثَبَتَتْ نِسْبَتُهُ إِلَيهِ-.

2 -

امْتِثَالُ أَمْرِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ.

وَمِنَ التَّرَدُّدِ المَذْمُومِ التَّوَقُّفُ عَنِ الامْتِثَالِ وَالتَّطْبِيقِ إِلَى أَنْ يُعْلَمَ هَلِ الأَمْرُ لِلوُجُوبِ أَمْ لِلاسْتِحْبَابِ! وَأَيضًا التَّوَقُّفُ عَنِ الامْتِثَالِ حَتَّى يُعْلَمَ مَا مَوقِفُ المَذْهَبِ الفُلَانِيِّ مِنْهُ!

3 -

اجْتِنَابُ نَهْيِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ، وَالحَذَرُ مِنْ قَولِ: هَذَا لَيسَ فِي القُرْآنِ!! لِقَولِهِ عليه الصلاة والسلام: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ؛ يَاتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي

-مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ وَنَهَيتُ عَنْهُ- فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي! وَمَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ»

(2)

.

4 -

أَنْ لَا يُقدِّمَ قَولَ أَحَدٍ مِنَ البَشَرِ عَلَى قَولِهِ صلى الله عليه وسلم، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه:"مِنْ هَهُنَا تَرِدُونَ، نَجِيئُكُمْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَجِيئُونَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ!! "

(3)

.

(1)

تَاجُ العَرُوسِ (9/ 276).

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (23876) عَنِ أَبِي رَافِعٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7172).

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (3121)، وَلَفْظُهُ "عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ المُتْعَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَقُولُ عُرَيَّةُ؟ قَالَ: يَقُولُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنِ المُتْعَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ؛ أَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ وَيَقُولُ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ". قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ: "بِإِسْنَادٍ صَحَيحٍ". التَّمْهِيدُ (ص: 417).

وَأَورَدَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (المَطَالِبُ العَالِيَةُ)(7/ 96) وَقَالَ: "قَالَ إِسْحَاقُ: نَا سُلَيمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيكَةَ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: "وَيحَكَ أَضَلَلْتَ! تَامُرُنَا بِالعُمْرَةِ فِي العَشْرِ وَلَيسَ فِيهِنَّ عُمْرَةٌ! " فَقَالَ: "يَا عُرَيُّ؛ فَسَلْ أُمَّكَ". قَالَ: "إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ؛ وَكَانَا أَعْلَمَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتْبَعَ لَهُ مِنْكَ". فَقَالَ: "مِنْ هَهُنَا تَرِدُونَ؛ نَجِيئُكُمْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَجِيئُونَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ". سَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَبَعْضُهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالعُمْرَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ".

قُلْتُ: وَإِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ رَاهَوِيه فِي مُسْنَدِهِ.

ص: 25

5 -

أَنْ لَا يَبْتَدِعَ فِي شَرْعِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ نَقَلَ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الاعْتِصَامُ) عَنْ مَالِكٍ قَولَهُ: "مَنِ ابْتَدَعَ فِي الإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً؛ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: {اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المَائِدَة: 3]، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَومَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ اليَومَ دِينًا"

(1)

.

6 -

أَنْ لَا يَغْلَوَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم فَيُعْطِيَهُ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّة شَيءٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} [الأَعْرَاف: 188].

- قَولُهُ: «وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ» : أَي: تَاتِي بِهَا قَائِمَةً تَامَّةً مُعْتَدِلَةً، وَعَلَيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعَلِّمِ صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا فِي الحَدِيثِ «صَلُّوا كَمَا رَأَيتُمُونِي أُصَلِّي»

(2)

.

- قَولُهُ: «وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ» : الزَّكَاةُ اسْمٌ لِمَا يُخْرِجُهُ المُسْلِمُ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى إِلَى الفُقَرَاءِ.

وَسُمِّيَتْ زَكَاةً لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ رَجَاءِ البَرَكَةِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَنْمِيَتِهَا بِالخَيرَاتِ، فَإِنَّهَا مَاخُوذَةٌ مِنَ الزَّكَاةِ؛ وَهِيَ النَّمَاءُ وَالطَّهَارَةُ وَالبَرَكَةُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التَّوبَة: 103].

- قَولُهُ: «تَصُومَ» : الصِّيَامُ لُغَةً: الإِمْسَاكُ، وَشَرْعًا: هُوَ الإِمْسَاكُ عَنِ المُفْطِرَاتِ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ تَعَبُّدًا للهِ عز وجل.

(1)

الاعْتِصَامُ (1/ 64).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (631) مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الحُوَيرِثِ مَرْفُوعًا.

ص: 26

- قَولُهُ: «وَتَحُجَّ البيتَ» : الحَجُّ لُغَةً: القَصْدُ، وَشَرْعًا: القَصْدُ إِلَى البَيتِ الحَرَامِ لِأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ فِي زَمَنِ مَخْصُوصٍ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي العُمُرِ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى القَادِرِ لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ:«إِنِ اسْتَطَعتَ إِليهِ سَبِيلًا» .

- قَولُهُ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ» : يَتَضَمَّنُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: إِيمَانٌ بِوُجُودِهِ، وَبِرُبُوبِيَّتِهِ، وَبِأُلُوهِيَّتِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

وَالإِيمَانِ باللهِ تَعَالَى يَكُونُ بِإِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ بِالعِبَادَةِ

(1)

مِنْ صَلَاةً وَدُعَاءً وَذَبْحٍ وَنَذْرٍ وَتَوَكُّلٍ وَرَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَ .... ، وَمِنْ صَرَفَ شَيئًا مِنْهَا لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى؛ فَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ سُبْحَانَهُ.

وَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ بِأَنَّ المُشْرِكِينَ الأَوَائِلَ لَمْ يَكُنْ شِرْكُهُم -غَالِبًا- هُوَ بِاعْتِقَادِ خَالِقٍ أَو رَازِقٍ أَو نَافِعٍ أَو ضَارٍّ مَعَ اللهِ تَعَالَى -كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهُ بِالقُرْآنِ-

(2)

! وَإِنَّمَا كَانَ شِرْكُهُم هُوَ بِاتِّخَاذِ الوَسَائِطِ وَالشُّفَعَاءِ بَينَهُم وَبَينَ اللهِ تَعَالَى حَيثُ تَعَلَّقُوا بِهِم فَدَعَوهُم وَاسْتَغَاثُوا بِهِم.

(1)

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ القُرْطُبِيُّ؛ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ (ت 671 هـ) رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَأَصْلُ العِبَادَةِ الخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدَةٌ إِذَا كَانَتْ مَوطُوءَةً بِالأَقْدَامِ". تَفْسِيرُ القُرْطُبِيِّ (1/ 225).

وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ القُرْطُبِيُّ؛ صَاحِبُ (المُفْهِمُ عَلَى مُسْلِمٍ)(ت 656 هـ) رحمه الله: "سُمِّيَتْ وَظَائِفُ الشَّرْعِ عَلَى المُكَلَّفِينَ عِبَادَاتٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَهَا وَيَفْعَلُونَهَا خَاضِعِينَ مُتَذَلِّلِينَ للهِ تَعَالَى". المُفْهِمُ عَلَى مُسْلِمٍ (1/ 181).

(2)

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العَنْكَبُوت: 61].

وَقَولَهُ تَعَالَى أَيضًا: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يُونُس: 31، 32].

ص: 27

قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يُونُس: 18].

وَأَتَتْهُم شُبْهَةُ صِحَّةِ دُعَائِهِم وَالاسْتِغَاثَةِ بِهِم مِنْ كَونِ هَؤُلَاءِ المَدْعُوِّينَ هُم مِنَ الصَّالِحِينَ؛ وَأَنَّهُم أَقْرَبُ مِنْهُم إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَسَمَّوا دُعَائَهُم إِيَّاهُم اسْتِشْفَاعًا بِهِم

(1)

، وَلَكِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الفِعْلِ هُوَ الشِّرْكُ مَعَ اللهِ تَعَالَى في الدُّعَاءِ؛ وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأى كَوكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأَنْعَام:76]

"وَالحَقُّ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي هَذَا المَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَومِهِ مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيهِ مِنْ عِبَادَة الهَيَاكِلِ وَالأَصْنَامِ.

فَبَيَّنَ فِي المَقَامِ الأَوَّلِ مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَة الأَصْنَامِ الأَرْضِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَلَى صُوَرِ المَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الخَالِقِ العَظِيمِ -الَّذِينَ هُمْ عِنْد أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوهُ-؛ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَه فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيهِ! "

(3)

.

ص: 28

- الإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ: وَالدَّلِيلُ العَامُّ هُوَ قَولُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفَتْح: 4].

وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَكُونُ وُفْقَ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:

الجِهَةُ الأُولَى: نَفْسُ التَّصْدِيقِ القَلْبِيِّ بِاللهِ وَبِشَرْعِهِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ

(1)

.

وَيَدُلُّ لَهُ قَولُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تُحْيِي المَوتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البَقَرَة:260]

(2)

.

وَيَدُلُّ لَهُ أَيضًا حَدِيثُ أَنَسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيرٍ» وَفِي لَفْظٍ (إِيمَانٍ) بَدَلَ (خَيرٍ). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(3)

(4)

.

(1)

وَشَبَّهَهُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ بِالفَرَحِ وَالحُزْنِ وَالغَضَبِ، حَيثُ تُلَاحَظُ فِي كُلٍّ مِنْهَا الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ، وَأَنَّهَا عَلَى دَرَجَاتٍ. انْظُرْ كِتَابَ (عُمْدَةُ القَارِي) لِلعَينِيِّ رحمه الله (1/ 108) عِنْدَ شَرْحِ كِتَابِ الإِيمَانِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (بَابُ الإيمَانِ وَقَولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، وَالحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ مِنَ الإِيمَانِ).

قُلْتُ: وَوَجْهُ إِيرَادِ لَفْظِ الحُبِّ وَالبُغْضِ مِنَ الحَدِيثِ فِي البَابِ ظَاهِرٌ فِي بَيَانِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ؛ وَأَنَّهُ دَرَجَاتٌ.

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ الصَحِيحِ إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ قَالَ: قَولُهُ: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أَي: يَزْدَادَ يَقِينِي". فَتْحُ البَارِي (1/ 47).

وَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الإِيمَانَ يَزِيدُ بِكَثْرَةِ النَّظرِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، وَعَجَائِبِ خَلْقِهِ، وَتَدْبِيرِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ.

(3)

البُخَارِيُّ (44)، وَمُسْلِمٌ (193).

(4)

بَوَّبَ عَلَيهِ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ الإِيمَانِ «بَابُ زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ» .

ص: 29

وَكَمَا فِي البُخَارِيِّ مُعَلَّقًا عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيكَةَ قَالَ: "أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كُلُّهُم يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُم أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ! "

(1)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ المَذْكُورِينَ كَانُوا قَائِلِينَ بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ المُؤْمِنِينَ فِي الإِيمَانِ خِلَافًا لِلْمُرْجِئَةِ القَائِلِينَ بِأَنَّ إِيمَانَ الصِّدِّيقِينَ وَغَيرِهِمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ! "

(2)

.

الجِهَةُ الثَّانِيَةُ: زِيَادَةُ الإِيمَانِ بِزِيَادَةِ تَعَلُّمِ شُعَبِ الإِيمَانِ؛ فَيَزْدَادُ مِقْدَارُ مَا يُؤْمِنُ بِهِ العَبْدُ.

وَيَدُلُّ لَهُ قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التَّوبَة:124]. أَي: فَمِنَ المُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ: أَيُّكُم زَادَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ إِيمَانًا -إِنْكَارًا وَاسْتِهْزَاءً بِالمُؤْمِنِينَ وَاعْتِقَادِهِم زِيَادَةَ الإِيمَانِ بِزِيَادَةِ العِلْمِ الحَاصِلِ بِالوَحْي وَالعَمَلِ بِهِ-

(3)

!

الجِهَةُ الثَّالِثَةُ: زِيَادَةُ الإِيمَانِ بِكَثْرَةِ الطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً»

(4)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1/ 18) تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)(1/ 110) عَنِ ابْنِ أَبِي خَيثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ، ومُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِ الإِيمَانِ لَهُ.

(2)

(فَتْحُ البَارِي)(1/ 111).

(3)

قَالَهُ العَيِنْيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي شَرْحُ البُخَارِيِّ)(1/ 112).

(4)

البُخَارِيُّ (9)، وَمُسْلِمٌ (35).

ص: 30

وَقَدْ بَوَّبَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَلَى الحَدِيثِ فِي كِتَابِ الإِيمَانِ بِـ «بَابُ الإيمَانِ، وَقَولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» ، وَهُوَ قَولٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفَتْح:4]{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكَهْف: 13]{وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى} [مَرْيَم: 76]{وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [مُحَمَّد: 17]{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المُدَّثِّر: 31]، وَقَولُهُ:{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التَّوبَة:124]، وَقَولُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ:{فَاخْشَوهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عِمْرَان: 173]، وَقَولُهُ تَعَالَى:{وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأَحْزَاب: 22]، وَالحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ مِنَ الإِيمَانِ.

وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البَقَرَة: 260].

وَقَالَ مُعَاذُ: "اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً".

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "اليَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ".

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "لَا يَبْلُغُ العَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ".

وَقَالَ مُجَاهِدُ: {شَرَعَ لَكُمْ} [الشُّورَى: 13] أَوصَينَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} سَبِيلًا وَسُنَّةً

(1)

.

(1)

البُخَارِيُّ (1/ 9).

ص: 31

- قَولُهُ: «وَمَلائِكَتِهِ» : يَتَضَمَّنُ الإِيمَانُ بِهِم أُمُورًا:

1 -

أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ للهِ تَعَالَى خَلْقًا كَرِيمًا عَلَيهِ، مُطِيعًا لَهُ، لَا يَعْصُونَهُ فِي أَمْرٍ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأَنْبِيَاء: 26، 27].

2 -

أَنْ نُؤْمِنَ بِأَسْمَاءِ مَنْ عَلِمْنَا مِنْ أَسْمَائِهِم؛ فَنَؤْمِنَ مَثَلًا بِأَنَّ هُنَاكَ مَلَكًا اسْمُهُ جِبْرِيلُ.

3 -

أَنْ نُؤْمِنَ بِمَا لَهُم مِنْ أَعْمَالٍ.

فَمَثَلًا: جِبْرِيلُ: مُوَكَّلٌ بِالوَحْي؛ يَنْزِلُ بِهِ مِنْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِلَى رُسُلِهِ بِالوَحْي.

وَمِيكَائِيلُ: مُوَكَّلٌ بِالمَطَرِ وَالنَّبَاتِ.

وَإِسْرَافِيلُ: مُوَكَّلٌ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ.

وَمِنَ المَلَائِكَةِ مَنْ هُمْ مُوَكَّلُونَ بِالسِّيَاحَةِ فِي الأَرْضِ يَلْتَمِسُونَ حِلَقَ الذّكْرِ وَالعِلْمِ؛ فَإِذَا وَجَدُوهَا جَلَسُوا.

وَمِنْهُم مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ بَنِي آدَمَ.

وَمِنْهُم مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِقَبْضِ رُوحِ بَنِي آدَمَ.

وَمِنْهُم مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِسُؤَالِ المَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، إِلَى آخِرِ مَا عَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ.

- المَلَائِكَةُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ نُورٍ، كَمَا في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «خُلِقَتِ المَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ»

(1)

.

(1)

مُسْلِمٌ (2996).

ص: 32

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ: "وَفِيه إِشَارَةٌ إِلَى بُطْلَانِ الحَدِيثِ المَشْهُورِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِر» وَنَحْوِهِ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي تَقُولُ بِأَنَّه صلى الله عليه وسلم خُلِقَ مِنْ نُورٍ! فَإِنَّ هَذَا الحَدِيثَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ المَلَائِكَةَ فَقَط هُمُ الَّذِينَ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ دُونَ آدَمَ وَبَنِيهِ؛ فَتَنَبَّهْ وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ"

(1)

.

- وَفِي الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ المَلَائِكَةَ أَجْسَامٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [فَاطِر: 1]، وَدَلَّتِ النُّصُوصُ أَيضًا أَنَّ لَهَا قُلُوبًا تَعْقِلُ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} [سَبَأ: 23]، وَفِي هَذَا أَيضًا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا أَرْوَاحٌ فَقَطْ لَيسَ لَهَا حَقِيقَةٌ أَو فِعْلٌ! أَو أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ قِوَى الخَيرِ فِي النُّفُوسِ!

- فِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إِمْكَانِيَّةِ تَشَكُّلِ المَلَائِكَةِ بِصُورَةِ البَشَرِ، وَكَمَا فِي مَجِيءِ جِبْرِيلَ إِلَى مَرْيَمَ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، وَمَجِيءِ المَلَائِكَةِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَوطٍ عليهما السلام فِي صُورَةِ بَشَرٍ أَيضًا

(2)

.

(1)

الصَّحِيحَةُ (458).

(2)

وَلَيسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مِهْنَةِ التَّمْثِيلِ! لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، وَأَمَّا

التَّمْثِيلُ مِنَ البَشَرِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الكَذِبِ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ التَّمْثِيلِ

مِنْ تَحْصِيلِ حَقٍّ، أَو جِهَادٍ، أَو .... ؛ فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيهِ السُّنَّةُ، وَلَيسَ هَذَا مَوضِعُ تَفْصِيلِهِ.

ص: 33

- قَولُهُ: «وَكُتُبِهِ» : الإِيمَانُ بِالكُتُبِ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ:

1 -

أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى الرُّسُلِ كُتُبًا؛ وَأَنَّهَا مِنْ عِنْدَهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ لَا نُؤْمِنُ بِأَنَّ الكُتُبَ المَوجُودَةَ الآنَ فِي أَيدِي هَذِهِ الأُمَمِ هِيَ نَفْسُهَا الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدَ اللهِ! لِأَنَّ هَذِهِ الكُتُبَ المَوجُودَةَ -الآنَ- مُحَرَّفَةٌ وَمُبَدَّلَةٌ، لَكِنَّ أَصْلَ هَذِهِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِم وَسَلَّمَ صَحِيحَةٌ؛ وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدَ اللهِ.

2 -

أَنْ نُؤْمِنَ بِصِحَّةِ مَا فِيهَا مِنْ أَخْبَارٍ، كَأَخْبَارِ القُرْآنِ وَأَخْبَارِ مَا لَمْ يُبَدَّلْ أَو يُحَرَّفْ مِنَ الكُتُبِ السَّابِقَةِ.

3 -

أَنْ نُؤْمِنَ بِمَا عَلِمْنَا مِنْ أَسْمَائِهَا، مِثْلَ: القُرْآنِ وَالتَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَصُحُفِ مُوسَى.

4 -

الإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَا سُبْحَانَهُ.

- قَولُهُ: «وَرُسُلِهِ» : الإِيمَانُ بِالرُّسُلِ يَتَضَمَّنُ:

1 -

الإِيمَانَ بِمَنْ عَلِمْنَا مِنْ أَسْمَائِهِم.

2 -

الإِيمَانَ بِأَنَّهُم صَادِقُونَ نَاصِحُونَ لِأَقْوَامِهِم.

3 -

الإِيمَانَ بِأَنَّهُم مُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تبارك وتعالى.

- قَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ ذِكْرُ عَدَدِ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَمْ وَفَّى عِدَّةُ الأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ:«مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِئَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ، جَمًّا غَفِيرًا»

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ (22288) مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ. قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (2668): "جُمْلَةُ القَولِ: إِنَّ عَدَدَ الرُّسُلِ المَذْكُورِينَ فِي حَدِيثِ التَّرْجَمَةِ صَحِيحٌ لِذَاتِهِ، وَإِنَّ عَدَدَ الأَنْبِيَاءِ المَذْكُورِينَ فِي أَحَدِ طُرُقِهِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ؛ فَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيرِهِ".

ص: 34

وَالأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي القُرْآنِ عَدَدُهُم خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ نَبِيًّا.

- الفَرْقُ بَينَ النَّبِيِّ وَالرَّسولِ: النَّبِيَّ هُوَ مَنْ بُعِثَ لِتَقْرِيرِ شَرْعٍ سَابِقٍ، وَالرَّسُولُ مَنْ بعثَهُ اللهُ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ يَدْعُو النَّاسَ إِلَيهَا؛ سَوَاءً كَانَتْ جَدِيدَةً أَو مُتَقَدِّمَةً. وَاللهُ أَعْلَمُ

(1)

(2)

.

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الإِرْسَالِ فَكُلُّهُم مُرْسَلُونَ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحَجّ: 52]، لَكِنَّ النَّبِيَّ لَيسَ رَسُولًا بِالمَعْنَى الأَخَصِّ

(3)

.

(1)

قَالَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّحِيحَةِ (2668)، وَبِنَحْوِهِ قَالَ العَلَّامَةُ الشَّيخُ عَبْدُ المُحْسِنِ العَبَّادِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى الأَرْبَعِينَ (ص: 23)، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَولِهِ تَعَالَى عَنِ الرُّسُلِ:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحَدِيد: 25]، وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّبِيِّينَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّورَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَونِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} [المَائِدَة: 44].

(2)

وَعَلَيهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ يَكُونُ فِي قَومٍ مُؤْمِنِينَ، فَهُوَ مِثْلُ المُجَدِّدِ لِرِسَالَةِ مَنْ قَبْلَهُ، أَمَّا الرَّسُولُ فَيُرْسَلُ إِلَى قَومٍ كَافِرِينَ، وَلِهَذَا مُهِمَّةُ الرَّسُولِ أَكْبَرُ.

وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَيسَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَاتِيَ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ، وِاسْتُدِلَّ

عَلَى هَذَا بِيُوسُفَ عليه الصلاة والسلام {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}

[يُوسُف: 38]، فَكَانَ يُوسُفُ عَلَى شَرِيعَةِ اِبْرَاهِيمَ عَلَيهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَكِنَّ الفَرْقَ أَنَّ يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام قَدْ بُعِثَ لِمُخَالِفِينَ، فَالضَّابِطُ عِنْدَهُم نَوعُ المَبْعُوثِ إِلَيهِم، فَإِنْ بُعِثَ إِلَى قَومٍ مُؤْمِنِينَ فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِنْ بُعِثَ إِلَى مُخَالِفِينَ فَهُوَ رَسُولٌ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(3)

أَفَادَهُ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ الأُصُولِ؛ شَرِيط رَقَم (2).

ص: 35

- أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أَخَصُّ مِنْ عَامَّةِ الرُّسُلِ، وَالرُّسُلُ أَخَصُّ مِنْ عَامَّةِ الأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ وَمَا وَصَّينَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشُّورَى: 13].

- قَولُهُ: «وَاليَومِ الآخِرِ» : الإِيمَانُ بِاليَومِ الآخِرِ يَتَضَمَّنُ:

1 -

الإِيمَانَ بِوُقُوعِهِ؛ وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ؛ وَهُوَ إِحْيَاؤُهُم حِينَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَيَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ؛ فَيُثِيبُ فِيهِ المُطِيعَ، وَيُعَذِّبُ فِيهِ العَاصِي، وَكُلٌّ بِحَسْبِ عَمَلِهِ.

2 -

الإِيمَانَ بِكُلِّ مَا ذَكَرَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ عَنْهُ، وَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَكُونُ فِي ذَلِكَ اليَومِ الآخِرِ؛ مِنْ كَونِ النَّاسِ يُحْشَرُونَ يَومَ القِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا -أَي: غَيرَ مَخْتُونِينَ-؛ بُهْمًا -أَي: لَيسَ مَعَهُم مَالٌ-

(1)

، وَأَيضًا مَا فِيهِ مِنَ الحَوضِ وَالشَّفَاعَةِ وَالصِّرَاطِ وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّ الجَنَّةَ دَارُ نَعِيمٍ، وَأَنَّ النَّارَ دَارُ عَذَابٍ شَدِيدٍ.

3 -

الإِيمَانَ بِنَعِيمِ القَبْرِ وَعَذَابِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ

(2)

(3)

.

(1)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأَنْبِيَاء: 104].

(2)

نَقَلَ الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ رحمه الله، كَمَا فِي كِتَابِهِ (الإِبَانَةُ) (ص: 14).

(3)

تَنْبِيهٌ: مِنَ الأَخْطَاءِ اللَّفْظِيَّةِ: قَولُ بَعْضِ العَامَّةِ عَنِ المَيِّتِ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى مَثْوَاهُ الأَخِيرِ، فَهَذِهِ مَقُولَةُ الزَّنَادِقَةِ وَالدَّهْرِيِّينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالمَعَادِ، بَلِ المَثْوَى الأَخِيرُ هُوَ الجَنَّةُ أَوِ النَّارُ.

ص: 36

- قَولُهُ: «وَأَنْ تَؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ» : الإِيمَانُ بِالقَدَرِ يَتَضَمَّنُ:

1 -

الإِيمَانَ بِعِلْمِ اللهِ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا

(1)

.

2 -

الإِيمَانَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيءٍ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ.

قَالَ اللهُ عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [الحَجّ: 70].

3 -

الإِيمَانَ بِأَنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ فِي الكَونِ هُوَ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا مَشِيئَةَ لِلعَبْدِ مَعَ مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ عز وجل:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [التَّكْوِير: 28، 29].

4 -

الإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفُرْقَان: 2].

- قَولُهُ: «خَيرِهِ وَشَرِّهِ» : مَفَادُهُ التَّاكِيدُ عَلَى أَنَّ الخَيرَ وَالشَّرَّ مَخْلُوقَانِ مُقَدَّرَانِ مِنَ اللهِ تَعَالَى.

- قَولُهُ: «فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ» : الإِحْسَانُ مَرْتَبَتَانِ:

1 -

مَرْتَبَةُ طَلَبٍ وَشَوقٍ، وَهُوَ مِنْ قَولِهِ:«كَأَنَّكَ تَرَاهُ» .

2 -

مَرْتَبَةُ هَرَبٍ وَخَوفٍ، وَهُوَ مِنْ قَولِهِ:«فَإِنَّهُ يَرَاكَ» .

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56] حَيثُ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ العِلْمَ القَدِيمَ؛ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ عَلَى تَكْفِيرِهِ، وَكَذَلِكَ غَيرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الإِسْلَامِ". جَامِعُ العُلومِ وَالحِكَمِ (1/ 104).

ص: 37

مَنْ دَعَاهُ خَوفًا وَطَمَعًا؛ مِنَ المُحْسِنِينَ.

وَإِنَّ إِحْسَانَ العَمَلِ يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ، فَمِنْهُ قَدْرٌ مُجْزِئٌ يَصِحُّ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ العَمَلُ حَسَنًا، وَمِنْهُ قَدْرٌ مُسْتَحَبٌ يَكُونُ العَبْدُ فِيهِ قَائِمًا فِي عَمَلِهِ عَلَى المَرْتَبَتَينِ السَّابِقَتَينِ

(1)

.

- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ العَابِدَ يَتَخَيَّلُ ذَلِكَ فِي عِبَادَتِهِ؛ لَا أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً -لَا بِبَصَرِهِ وَلَا بِقَلْبِهِ-!

وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ القُلُوبَ تَصِلُّ فِي الدُّنْيَا إِلَى رُؤْيَةِ اللهِ عَيَانًا كَمَا تَرَاهُ الأَبْصَارُ فِي الآخِرَةِ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ مَنْ يَزْعُمُهُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ!! فَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ هَذَا المَقَامَ هُوَ الَّذِي قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيرِهِمَا وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَيضًا أَنَّهُ حَصَلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَينِ

(2)

، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ أَيضًا، وَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: إِنَّهُ يَرَاهُ بِقَلْبِهِ، مِنْهُم الحَسَنُ وَأَبُو العَالِيَةِ وَمُجَاهِدُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الحَارِثِ بْنِ نَوفَلٍ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيمِيُّ وَغَيرُهُم، فَلَو كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ رُؤْيَةَ القَلْبِ مُشْتَرِكَةٌ بَينَ الأَنْبِيَاءِ وَغَيرِهِم لَمْ يَكُنْ فِي تَخْصِيصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ مَزِيَّةٌ لَهُ، لَاسِيَّمَا وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّهَا حَصَلَتْ لَهُ مَرَّتَينِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الصُّوفِيَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ رُؤْيَةَ القَلْبِ تَصِيرُ حَالًا وَمَقَامًا دَائِمًا أَو غَالِبًا لَهُم! وَمِنْ هُنَا يَنْشَأُ تَفْضِيلُ الأَولِيَاءِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنْوَاعٌ مِنَ الضَّلَالَاتِ

(1)

وَقَدْ أَشَارُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله في كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلومِ وَالحِكَمِ)(1/ 126) إِلَى فَائِدَةٍ لَطِيفَةٍ؛ وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا فَعَبَدَ اللهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ؛ فَإِنَّ جَزَاءَهُ هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ؛ فَيَرَى اللهَ تَعَالَى فِي الآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَة} [يُونُس: 26]، وَفَسَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ الكَرِيمِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (181) عَنْ صُهَيبٍ مَرْفُوعًا.

(2)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (176) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّهُ رَآهُ مَرَّتَينِ بِفُؤَادِهِ".

ص: 38

وَالمُحَالَاتِ وَالجَهَالَاتِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"

(1)

.

- قَولُهُ: «فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ» : السَّاعَةُ: هِيَ يَومُ القِيَامَةِ، وَ (الـ) التَّعْرِيفِ هُنَا هِيَ لِلعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَأُطْلِقَ لَفْظُهَا لِعَظَمَتِهَا وَشُهْرَتِهَا.

- قَولُهُ: «أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا» ؛ فِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَه: "قَالَ: وَكِيعٌ: يَعْنِي تَلِدُ العَجَمُ العَرَبَ"

(2)

، وَالمَعْنَى كَثْرَةُ انْتِشَارِ السَّرَارِي لِمَا يَحْصُلُ مِنَ الفُتُوحَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ وَحُصُولِ الرَّقِيقِ، وَتَسَرِّي كَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ بِالإِمَاءِ مِنَ العَجَمِ.

- قَولُهُ: «وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ» : كِنَايَةٌ عَنْ تَغَيُّرِ الحَالِ بِسُرْعَةٍ، وَالمَقْصُودُ بِالمَذْكُورِينَ هُمُ العَرَبُ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي أَحَدِ أَلْفَاظِهِ

(3)

.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الدُّنْيَا لُكَعُ بْنُ لُكَعٍ»

(4)

.

- إِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ العَلَامَاتِ عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَدْحِهَا أَو ذَمِّهَا، وَلَكِنْ كُلٌّ بِحَسْبِهِ، فَمَثَلًا: التَّطَاوُلُ فِي البُنْيَانِ بِغَيرِ حَاجَةٍ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّهُ شَرْعًا.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً فَقَالَ: «مَا هَذِهِ؟» . قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: هَذِهِ لِفُلَانٍ -رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ-. قَالَ: فَسَكَتَ وَحَمَلَهَا فِي نَفْسِهِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عَلَيهِ فِي النَّاسِ

(1)

(فَتْحُ البَارِي) لِابْنِ رَجِبٍ (1/ 214).

(2)

صَحِيحُ ابْنِ مَاجَه (63).

(3)

كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (2924) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَهُوَ صَحِيحٌ. الصَّحِيحَةُ (1345).

(4)

صَحِيحٌ. عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرْفُوعًا. رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ مُشْكِلِ الآثَارِ)(2051). الصَّحِيحَةُ (1505).

وَاللُّكَعُ هُوَ: اللَّئِيمُ وَالغَبِيُّ وَالأَحْمَقُ، وَالمُرَادُ بِذَلِكَ: قِلَّةُ العِلْمِ.

ص: 39

أَعْرَضَ عَنْهُ -صَنَعَ ذَلِكَ مِرَارًا- حَتَّى عَرَفَ الرَّجُلُ الغَضَبَ فِيهِ وَالإِعْرَاضَ عَنْهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى أَصْحَابِهِ؛ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُنْكِرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم! قَالُوا: خَرَجَ فَرَأَى قُبَّتَكَ. قَالَ: فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى قُبَّتِهِ فَهَدَمَهَا حَتَّى سَوَّاهَا بِالأَرْضِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَومٍ فَلَمْ يَرَهَا، قَالَ:«مَا فَعَلَتِ القُبَّةُ؟» . قَالُوا: شَكَا إِلَينَا صَاحِبُهَا إِعْرَاضَكَ عَنْهُ؛ فَأَخْبَرْنَاهُ فَهَدَمَهَا، فَقَالَ:«أَمَا إِنَّ كُلَّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلَّا مَا لَا؛ إِلَّا مَا لَاَ» . يَعْنِي مَا لَا بُدَّ مِنْهُ»

(1)

.

- قَولُهُ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا» : أَمَارَاتُ السَّاعَةِ نَوعَانِ: صُغْرَى كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث، وَكُبْرَى.

قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ: "الأَشْرَاطُ جَمْعُ شَرَطٍ، وَالشَّرَطُ هُوَ العَلَامَةُ الَّتِي تُفَرِّقُ الشَّيءَ وتُمَيِّزُهُ عَنْ غَيرِهِ.

وَأَشْرَاطُ السَّاعَةِ المَقْصُودُ بِهَا الآيَاتُ وَالعَلَامَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ، إِمَّا دُنُوًّا؛ فَتَكُونُ أَشْرَاطًا كُبْرَى، وَإِمَّا دِلَالَةً عَلَى القُرْبِ؛ فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الأَشْرَاطِ الصُّغْرَى.

وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ كَلِمَةِ الأَشْرَاطِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ، قَالَ عز وجل:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أنَّ تَاتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [مُحَمَّد: 18]، وَأَفَادَتِ الآيَةُ فَائِدَتَينِ:

الفَائِدَة الأُولَى: أَنَّ السَّاعَةَ لَهَا أَشْرَاطٌ وَعَلَامَاتٌ.

الفَائِدَة الثَّانِيَةَ: أَنَّ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ قَدْ وَقَعَتْ فِي وَقْتِ تَنَزُّلِ القُرْآنِ عَلَى

مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (5237). الصَّحِيحَةُ (2830).

ص: 40

وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ مِنَ الأَشْرَاطِ مَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنْ وُقُوعِ السَّاعَةِ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ وُقُوعِ السَّاعَةِ"

(1)

.

- فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الإِسْلَامَ غَيرُ الإِيمَانِ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ:«أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ» ، وَقَالَ:«أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ.

وَقَولُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ هُوَ: إِنْ ذُكِرَ الإِيمَانُ وَحْدَهُ دَخَلَ فِيهِ الإِسْلَامُ، وَإِنْ ذُكِرَ الإِسْلَامُ وَحْدَهُ دَخَلَ فِيهِ الإِيمَانُ، فَقَولُهُ تَعَالَى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المَائِدَة: 3] يَشْمَلُ الإِيمَانَ، وَقَولُهُ تَعَالَى:{فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عِمْرَان: 20] يَشْمَلُ الإِيمَانَ.

كَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا ذُكِرَ وَحْدَهُ دَخَلَ فِيهِ الإِسْلَامُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَبَشِّرالمُؤْمِنِينَ} [الصَّف: 13] بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصَّف: 11].

أَمَّا إِذَا ذُكِرَا جَمِيعًا فَإِنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ، وَيَكُونُ الإِسْلَامُ هُوَ الأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ مِنْ أَقْوَالِ اللِّسَانِ وَعَمَلِ الجَوَارِحِ، وَالإِيمَانُ هُوَ الأَعْمَالُ البَاطِنَةُ مِنْ اعْتِقَادَاتِ القُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِيقِ هَذَا الحَدِيثُ وَغَيرُهُ؛ كَقَولِ اللهِ عز وجل:{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}

[الحُجُرَات: 14].

قَالَ شيخُ الإِسْلَام رحمه الله: "قَالَ الجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ: بَلْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالإِسْلَامِ دُونَ الإِيمَانِ قَدْ لَا يَكُونُونَ كُفَّارًا فِي البَاطِنِ، بَلْ مَعَهُمْ بَعْضُ الإِسْلَامِ المَقْبُولِ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الإِسْلَامُ أَوسَعُ مِنَ الإِيمَانِ، فَكُلُّ

(1)

قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ شَرْحُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ، شَرِيط رَقَم (48).

ص: 41

مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، وَلَيسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا، وَيَقُولُونَ فِي قَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَزْنِي الزَّانِي -حِينَ يَزْنِي- وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»

(1)

: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الإِيمَانِ إلَى الإِسْلَامِ، وَدَوَّرُوا لِلْإِسْلَامِ دَارَةً، وَدَوَّرُوا لِلْإِيمَانِ دَارَةً أَصْغَرَ مِنْهَا فِي جَوفِهَا، وَقَالُوا: إذَا زَنَى خَرَجَ مِنَ الإِيمَانِ إلَى الإِسْلَامِ؛ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنَ الإِسْلَامِ إلَى الكُفْرِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تبارك وتعالى قَال:{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحُجُرَات: 14] "

(2)

.

وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ دَقِيق العِيد رحمه الله فِي شَرْحِهِ عَلَى الأَرْبَعِينَ: "وَقَالَ رحمه الله

-يَعْنِي: أَبَا عَمْرو بْنَ الصَّلَاحِ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ-: هَذَا بَيَانُ أَصْلِ الإِيمَانِ؛ وَهُوَ التَّصْدِيقُ البَاطِنُ، وَبَيَانُ أَصْلِ الإِسْلَامِ؛ وَهُوَ الاسْتِسْلَامُ وَالانْقِيَادُ الظَّاهِرُ. وَحُكْمُ الإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ ثَبَتَ فِي الشَّهَادَتَينِ، وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَيهَا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّومَ وَالحَجَّ لِكَونِهَا أَظْهَرَ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ وَأَعْظَمَهَا، وَبِقِيَامِهِ بِهَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ. ثُمَّ إِنَّ اسْمَ الإِيمَانِ يَتَنَاوَلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الإِسْلَامُ فِي هَذَا الحَدِيثِ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ لِكَونِهَا ثَمَرَاتِ التَّصْدِيقِ البَاطِنِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الإِيمَانِ، وَلِهَذَا لَا يَقَعُ اسْمُ المُؤْمِنِ المُطْلَقُ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَو تَرَكَ فَرِيضَةً، لِأَنَّ اسْمَ الشَيءِ مُطْلَقًا يَقَعُ عَلَى الكَامِلِ مِنْهُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّاقِصِ ظَاهِرًا إِلَّا بِنِيَّةٍ"

(3)

.

(1)

البُخَارِيُّ (2475)، وَمُسْلِمٌ (57) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (7/ 476).

(3)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ دَقِيق العِيد (ص: 34).

ص: 42

قَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله في صَحِيحِهِ عِنْدَ هَذَا الحَدِيثِ: "بَابُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ وَالإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ، وَبَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ، ثُمَّ قَالَ:«جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، وَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ عَبْدِ القَيسِ مِنَ الإِيمَانِ

(1)

، وَقَولِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عِمْرَان: 85] "

(2)

.

- فِي الحَدِيثِ ذِكْرُ ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: مُسْلِمٌ، وَأَعْلَى مِنْهُ المُؤْمِنُ، وَأَعْلَى

مِنْهُ المُحْسِنُ.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فَاطِر: 32 - 35]، فَقَدْ قَسَمَ سُبْحَانَهُ الأُمَّةَ الَّتِي أَورَثَهَا الكِتَابَ وَاصْطَفَاهَا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ بِالخَيرَاتِ.

وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ يَنْطَبِقُونَ عَلَى الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ المَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ"

(3)

.

(1)

وَهُوَ حَدِيثٌ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ بَنِي عَبْدِ القَيسِ: «أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ (53) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

(2)

البُخَارِيُّ (1/ 19).

(3)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (7/ 485).

ص: 43

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَتَى يَنْتَفِي اسْمُ الإِيمَانِ أَوِ الإِسْلَامِ عَنْ صَاحِبِهِ؟

الجَوَابُ:

اسْمُ الإِيمَانِ يَنْتَفِي بِتَرْكِ شَيءٍ مِنْ وَاجِبَاتِهِ، وَاسْمُ الإِسْلَامِ يَنْتَفِي بِتَرْكِ أَصْلِهِ

(1)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "لَا رَيبَ أَنَّهُ مَتَى ضَعُفَ الإِيمَانُ البَاطِنُ؛ لَزِمَ مِنْهُ ضَعْفُ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ أَيضًا، لَكِنَّ اسْمَ الإِيمَانِ يُنْفَى عَمَّنْ تَرَكَ شَيئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ:«لَا يَزْنِي الزَّانِي -حِينَ يَزْنِي- وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ: هَلْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا نَاقِصَ الإِيمَانِ، أَو يُقَالُ: لَيسَ بِمُؤْمِنٍ، لَكِنَّهُ مُسْلِمٌ؟ عَلَى قَولَينِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَمَّا اسْمُ الإِسْلَامِ؛ فَلَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ أَوِ انْتِهَاكِ بَعْضِ مُحَرَّمَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُنْفَى بِالإِتْيَانِ بِمَا يُنَافِيهِ بِالكُلِّيَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي شَيءٍ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ نَفْيُ الإِسْلَامِ عَمَّنْ تَرَكَ شَيئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ كَمَا يُنْفَى الإِيمَانُ عَمَّنْ تَرَكَ شَيئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ

(1)

لَيسَ المَقْصُودُ هُنَا بِالإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ نَفْسُ المَقْصُودِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَإِنَّمَا عُمُومُ اسْمِ الإِيمَانِ، وَعُمُومُ اسْمِ الإِسْلَامِ.

فَالمَقْصُودُ بِوَاجِبَاتِ الإِيمَانِ هُنَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، فَالَّذِي فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ هُوَ أَرْكَانُ الإِيمَانِ الَّذِي يَنْتَقِلُ بِهِ صَاحِبُهُ إِلَى الكُفْرِ المُخْرِجِ مِنَ المِلَّةِ إِنْ لَمْ يَاتِ بِهِ، وَأَمَّا الوَاجِبَاتُ هُنَا فَهِيَ مَا دَلَّتْ عَلَيهَا النُّصُوصُ مِنْ كَونِهَا يَزُولُ اسْمُ الإِيمَانُ عَنْ صَاحِبِهَا بِزَوَالِهَا -وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِيهِ أَصْلًا- كَمَا فِي قَولِهِ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيفَهُ» وَ «لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَامَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» وَ «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ» ، وَسَيَاتِي شَيءٌ فِي شَرْحِ ذَلِكَ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللهُ.

ص: 44

إِطْلَاقُ الكُفْرِ عَلَى فِعْلِ بَعْضِ المُحَرَّمَاتِ، وَإِطْلَاقُ النِّفَاقِ أَيضًا"

(1)

.

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله -عَنِ الأَعْرَابِ فِي الآيَةِ-: "فَإِنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُمْ رُسُوخُ الإِيمَانِ فِي القَلْبِ، وَتَثْبُتُ لَهُمُ المُشَارَكَةُ فِي أَعْمَالِ الإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ مَعَ نَوعِ إِيمَانٍ يُصَحِّحُ لَهُمُ العَمَلَ، إِذْ لَولَا هَذَا القَدْرُ مِنَ الإِيمَانِ؛ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا نُفِيَ عَنْهُمُ الإِيمَانُ لِانْتِفَاءِ ذَوقِ حَقَائِقِهِ، وَنَقْصِ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ القَائِمَ بِالقُلُوبِ مُتَفَاضِلٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ"

(2)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 111).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 113).

ص: 45

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا هِيَ مَذَاهِبُ النَّاسِ في الإِيمَانِ:

الجَوَابُ:

1 -

ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالأَوزَاعِيُّ وَإِسْحَقُ بْنُ رَاهَويه وَسَائِرُ أَهْلِ الحَدِيثِ وَأَهْلُ المَدِينَةِ رحمهم الله وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّهُ تَصْدِيقٌ بِالجَنَانِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ.

وَكَونُ العَمَلِ مِنَ الإِيمَانِ هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيهِ الأَدِلَّةُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً» وَفِي رِوَايَةٍ «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «فَأَفْضَلُهَا قَولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»

(1)

.

وَكَمَا فِي حَدِيثِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: «حَجٌ مَبْرُورٌ»

(2)

.

2 -

ذَهَبَ الكَثيرُ مِنْ الحَنَفِيَّةِ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله: أَنَّهُ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَتَصْدِيقٌ بِالجَنَانِ. وَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ رُكْنٌ زَائِدٌ

لَيسَ أَصْلِيًّا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو مَنْصُورٍ المَاتُرِيدِيُّ رحمه الله، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه.

3 -

ذَهَبَتِ الكَرَّامِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِيمَانَ هُوَ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَقَط! فَالمُنَافِقُونَ -عِنْدَهُم- مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الإِيمَانِ! وَلَكِنَّهُم يَقُولُونَ بِأَنَّهُم يَسْتَحِقُّونَ الوَعِيدَ الَّذِي

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (9)، وَمُسْلِمٌ (35).

(2)

البُخَارِيُّ (1519).

ص: 46

أَوعَدَهُمُ اللهُ بِهِ، وَقَولُهُم ظَاهِرُ الفَسَادِ.

4 -

ذَهَبَ الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَبُو الحَسَنِ الصَّالِحِيُّ -أَحَدُ رُؤُوسِ القَدَرِيَّةِ- إِلَى أَنَّ الإِيمَانَ هُوَ المَعْرِفَةُ بِالقَلْبِ! وَهَذَا القَولُ أَظْهَرُ فَسَادًا مِمَّا قَبْلَهُ! فَإِنَّ لَازِمَهُ أَنَّ فِرْعَونَ وَقَومَهُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ! فَإِنَّهُم عَرَفُوا صِدْقَ مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام؛ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَون:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإِسْرَاء: 102]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ} [النَّمْل: 14]، وَأَهْلُ الكِتَابِ كَانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَائَهُم؛ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ؛ بَلْ كَافِرِينَ بِهِ، مُعَادِينَ لَهُ، وَكَذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ -عِنْدَهُم- يَكُونُ مُؤْمِنًا! فَإِنَّهُ قَالَ:"وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ مِنْ خَيرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينًا، لَولَا المَلَامَةُ أَو حِذَارُ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبَيِّنًا"

(1)

.

(1)

يُنْظَرْ: (شَرْحُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ) لِابْنِ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيِّ رحمه الله (ص: 332).

ص: 47

‌الحَدِيثُ الثَّالِثُ: (بُنِي الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ)

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنهما؛ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «بُنِي الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ

(1)

؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيتِ، وَصَومِ رَمَضَانَ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

.

- هَذَا الحَدِيث هُوَ الحَدِيثُ الأَوَّلُ مِنْ كِتَابِ (جَامِعُ الأُصُولِ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ) لِابْنِ الأَثِيرِ رحمه الله

(3)

.

- الحَدِيثُ عِنْدَ البُخَارِيِّ بِتَمَامِهِ "أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا؛ وَتَتْرُكَ الجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل؛ وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللهُ فِيهِ؟! قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي؛ بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالصَّلَاةِ الخَمْسِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيتِ. قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} [الحُجُرَات: 9]، {قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأَنْفَالُ: 39]؟! قَالَ: فَعَلْنَا

(1)

وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ (16): «بُنيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ» .

(2)

البُخَارِيُّ (8)، وَمُسْلِمٌ (16).

(3)

وَهُوَ كِتَابٌ جَمَعَ فِيهِ مُصَنِّفُهُ أَحَادِيثَ الكُتُبِ السِّتَّةِ -عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ السَّادِسَ مِنْهَا هُوَ مُوَطَّأُ مَالِكٍ وَلَيسَ سُنَنَ ابْنِ مَاجَه-.

ص: 48

عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَكَانَ الإِسْلَامُ قَلِيلًا- فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ؛

إِمَّا قَتَلُوهُ وَإِمَّا يُعَذِّبُونَهُ، حَتَّى كَثُرَ الإِسْلَامُ؛ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ. قَالَ: فَمَا قَولُكَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ؟ قَالَ: أَمَّا عُثْمَانُ فَكَأَنَّ اللهَ عَفَا عَنْهُ؛ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَعْفُوا عَنْهُ! وَأَمَّا عَلِيٌّ؛ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخَتَنُهُ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ- فَقَالَ: هَذَا بَيتُهُ حَيثُ تَرَونَ".

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ "أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيرِ؟ فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا مَا تَرَى، وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ- فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ ".

- لَمْ يَذْكُرِ الحَدِيثُ الإِيمَانَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالمَلَائِكَةِ وَغَيرَ ذَلِكَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عليه السلام؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ المُرَادَ بِالشَّهَادَةِ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ؛ فَيَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنَ المُعْتَقَدَاتِ

(1)

.

- قَولُهُ: «وَإِقَامِ الصَّلَاةِ» : إِنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ هِيَ مِنْ مَبَانِي الإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهَا تَقَعُ بِاعْتِبَارَينِ

(2)

:

1 -

إِقَامَتِهَا عَلَى القَدْرِ الوَاجِبِ فِي الصَّلَاةِ؛ وَهُوَ أَقَلُّ مَا تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ.

2 -

إِقَامَتِهَا كَامِلَةً، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ تَكْمِيلُهَا وَتَتْمِيمُهَا بِالإِتْيَانِ بِكُلِّ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فِيهَا.

وَلَا رَيبَ أَنَّ إِقَامَتَهَا عَلَى وُفْقِ مَا دَلَّتْ عَلَيهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ مِنْ إِقَامَتِهَا الكَامِلَةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «صَلُّوا كَمَا رَأَيتُمُونِي أُصَلِّي»

(3)

.

(1)

أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)(1/ 50).

(2)

ذَكَرَهُ الشَّيخُ عَبْدُ المُحْسِنِ العَبَّادُ حَفِظَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ القَوِيِّ المَتِينِ)(ص: 31).

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (631) مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الحُوَيرِث مَرْفُوعًا.

ص: 49

فَلَيسَ مَعْنَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ مُجَرَّدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ! بَلْ أَنْ تَكُونَ قَوِيمَةً -أَي: وُفْقَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ- غَيرَ مُعْوَجَّةٍ

(1)

، وَتَأَمَّلْ كَيفَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِذَا اِطْمَأَنُّوا بَعْدَ الخَوفِ مِنْ عَدُوِّهِم أَنْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ -رُغْمَ أَنَّهُم كَانُوا يُصَلُّونَ صَلَاةَ الخَوفِ-؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ لَيسَتْ هِيَ مُجَرَّدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ! حَيثُ أَنَّهُم فِي صَلَاةِ الخَوفِ قَدْ قَصُرَتْ صَلَاتُهُم مِنْ جِهَةِ الكَمِّ وَالكَيفِ، وَغَابَ عَنْهَا -فِي الغَالِبِ- حُضُورُ القَلْبِ لِانْشِغَالِهِ بِالعَدُوِّ فِي الخَارِجِ.

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله -عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى-: {فَإِذَا قَضَيتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَانَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوقُوتًا} [النِّسَاء: 103]: "أَي: إِذَا أَمِنْتُم مِنَ الخَوفِ وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُكُم وَأَبْدَانُكُم فَأَتِمُّوا صَلَاتَكُم عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ بِأَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا وَخُشُوعِهَا وَسَائِرِ مُكَمِّلَاتِهَا"

(2)

.

وَمِمَّا يَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيضًا حَدِيثُ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي سِتِّينَ سَنَةً مَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ! لَعَلَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلَا يُتِمُّ السُّجُودَ، وَيُتِمُّ السُّجُودَ وَلَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ»

(3)

.

- هَذِهِ الأَرْكَانُ الخَمْسَةُ وَرَدَتْ فِي الحَدِيثِ مُرَتَّبَةً حَسْبَ أَهَمِّيَّتِهَا،

وَبَدَأَ فِيهَا بِالشَّهَادَتَينِ اللَّتَينِ هُمَا الأَسَاسُ لِكُلِّ عَمَلٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ عز وجل،

(1)

وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَاسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكَهْف: 1، 2]، فَتَأَمَّلْ كَيفَ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى الكِتَابَ بِأَنَّهُ قَيِّمٌ لَيسَ لَهُ عِوَجٌ.

(2)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 198).

(3)

حَسَنٌ. الأَصْبَهَانِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1922) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2535).

ص: 50

ثُمَّ ذَكَرَ الصَّلَاةَ الَّتِي تَتَكَرَّرُ فِي اليَومِ وَاللَّيلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ فَهِيَ صِلَةٌ وَثِيقَةٌ بَينَ العَبْدِ وَرَبَّهِ،

ثُمَّ الزَّكَاةَ الَّتِي تَجِبُ فِي المَالِ إِذَا مَضَى عَلَيهِ الحَولُ لِأَنَّ نَفْعَهَا مُتَعَدٍّ،

ثُمَّ الصِّيَامَ الَّذِي يَجِبُ شَهْرًا فِي السَّنَةِ، وُهُوَ عِبَادَةٌ غَيرُ مُتَعَدِّيَةِ النَّفْعِ،

ثُمَّ الحَجَّ الَّذِي لَا يَجِبُ فِي العُمُرِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً -إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا-.

ص: 51

- فِي حُكْمُ تَارِكِ الصَّلَاةِ تَكَاسُلًا:

قَالَ العَلَّامَةُ الشَّوكَانِيُّ رحمه الله: "وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ لَهَا تَكَاسُلًا مَعَ اعْتِقَادِهِ لِوُجُوبِهَا -كَمَا هُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ-؛ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ.

فَذَهَبَتِ العِتْرَةُ وَالجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ -مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ- إلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بَلْ يَفْسُقُ، فَإِنْ تَابَ؛ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ حَدًّا كَالزَّانِي المُحْصَنِ، وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيفِ.

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ

(1)

، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي

(1)

قُلْتُ: وَهَذَا الكُفْرُ عِنْدَهُم مَقْرُونٌ بِالاسْتِتَابَةِ كَمَا هُوَ قَولُ الإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله، وَسَيَاتِي.

قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى الأَرْبَعِينَ -شَرْحِ الحَدِيثِ الثَّالِثِ-: "الصَّحِيحُ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ تَهَاوُنًا وَكَسَلًا كُفْرٌ أَكْبَرٌ، لَكِنَّ كُفْرَهُ بَاطِنٌ وَلَيسَ كُفْرُهُ ظَاهِرًا، وَلَيسَ بِبَاطِنٍ وَظَاهِرٍ جَمِيعًا حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَ القَاضِي، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون لَهُ شُبْهَةٌ مِنْ خِلَافٍ أَو فَهْمٍ أَو نَحْوِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ بِرِدَّةِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الجِنْسِ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَهُوَ كَافِرٌ الكُفْرَ الأَكْبَرَ، وَأَمَّا المُعَيَّنُ؛ فَإِنَّ الحُكْمَ عَلَيهِ بِالكُفْرِ وَتَنْزِيلَ أَحْكَامِ الكُفْرِ كُلِّهَا عَلَيهِ هَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُكْمِ قَاضٍ يَدْرَأُ عَنْهُ الشُّبْهَةَ وَيَسْتَتِيبُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ المُعْتَمَدُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ". شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لصَالِح آلِ الشَّيخِ (ص: 93).

قُلْتُ: وَبِنَحْوِهِ يَقُولُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ المَادِّيَّ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ بَاطِنًا حَيثُ لَمْ يَرْضَ بِالصَّلَاةِ وَلَو قُتِلَ! أَفَادَهُ رحمه الله فِي أَشْرِطَةِ سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (شَرِيط رَقَم: 394).

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "قُلْتُ: تَارِكُ الصَّلَاةِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَبَعْضُ المَالِكِيَّةِ وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ خُزَيمَةَ وَأَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ وَأَبُو عُبَيدِ بْنُ جوَيرِيَةَ وَمَنْصُورٌ الفَقِيهُ وَأَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُكَفَّرُ بِذَلِكَ وَلَو لَمْ يَجْحَدْ وُجُوبَهَا، وَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا، وَذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ وَوَافَقَهُمُ المُزَنِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ وَلَا يُقْتَلُ، وَمِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ رَفَعَهُ «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى العِبَادِ» الحَدِيثَ، وَفِيهِ «وَمَنْ لَمْ يَاتِ بِهِنَّ؛ فَلَيسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ؛ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الجَنَّةَ» . أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ السَّكَنِ وَغَيرُهُمَا، وَتَمَسَّكَ أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ بِظَوَاهِرِ أَحَادِيثَ وَرَدَتْ بِتَكْفِيرِهِ، وَحَمَلَهَا مَنْ خَالَفَهُمْ عَلَى المُسْتَحِلِّ، جَمْعًا بَينَ الأَخْبَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقٍ العِيد رحمه الله: وَأَرَادَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَا زَمَانَهُ أَنْ يُزِيلَ الإِشْكَالَ؛ فَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» ، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ وَقَفَ العِصْمَةَ عَلَى المَجْمُوعِ، وَالمُرَتَّبُ عَلَى أَشْيَاءَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحُصُولِ مَجْمُوعِهَا وَيَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضِهَا. قَالَ: وَهَذَا إِنْ قَصَدَ الِاسْتِدْلَالَ بِمَنْطُوقِهِ وَهُوَ (أُقَاتِلُ النَّاسَ) إِلَخْ؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الأَمْرَ بِالقِتَالِ إِلَى هَذِهِ الغَايَةِ؛ فَقَدْ ذَهِلَ لِلْفَرْقِ بَينَ المُقَاتَلَةِ عَلَى الشَّيءِ وَالقَتْلِ عَلَيهِ، فَإِنَّ المُقَاتَلَةَ مُفَاعَلَةٌ تَقْتَضِي الحُصُولَ مِنَ الجَانِبَينِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِبَاحَةِ المُقَاتَلَةِ عَلَى الصَّلَاةِ إِبَاحَةُ قَتْلِ المُمْتَنِعِ مِنْ فِعْلِهَا إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ. وَلَيسَ النِّزَاعُ فِي أَنَّ قَومًا لَو تَرَكُوا الصَّلَاةَ وَنَصَبُوا القِتَالَ أَنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُمْ! وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِيمَا إِذَا تَرَكَهَا إِنْسَانٌ مِنْ غَيرِ نَصْبِ قِتَالٍ هَل يُقْتَلُ أَو لَا؟ وَالفَرْقُ بَينَ المُقَاتَلَةِ عَلَى الشَّيءِ وَالقَتْلِ عَلَيهِ ظَاهِرٌ". فَتْحُ البَارِي (12/ 203).

ص: 52

طَالِبٍ عليه السلام، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَينِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ

(1)

، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنِ المُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيهِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

(1)

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (حُكْمُ تَارِكِ الصَّلَاةِ)(ص: 48): "وَإِنَّ مِمَّا يُؤَكِّدُ مَا حَمَلْتُ عَلَيهِ كَلَامَ الإِمْامِ أَحْمَدَ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ (الإِنْصَافُ فِي مَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ مِنَ الخِلَافِ عَلَى مَذْهَبِ الإِمْامِ المُبَجَّلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل" لِلشَّيخِ عَلَاءِ الدِّينِ المَرْدَاوِيِّ، قَالَ رحمه الله (1/ 402) -كَالشَّارِحِ لِقَولِ أَحْمَدَ المُتَقَدِّمِ آنِفًا-:" (أَدْعُوهُ ثَلَاثًا): (الدَّاعِي لَهُ هُوَ الإِمَامُ أَو نَائِبُهُ) فَلَو تَرَكَ صَلَوَاتٍ كَثِيرْةً قَبْلَ الدُّعَاءِ؛ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ! وَلَا يَكْفُرُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ المَذْهَبِ، وَعَلَيهِ جَمَاهِيرُ الأَصْحَابِ وَقَطَعَ بِهِ الكَثِيرُ مِنْهُم".

وَمِمَّنِ اخْتَارَ هَذَا المَذْهَبَ أَبْو عَبْدِ اللهِ بْنُ بَطَّةَ -كَمَا ذَكَرَ الشَّيخُ أَبُو الفَرَجِ؛ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قُدَامَةَ المَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ (الشَّرْحُ الكَبِيرُ عَلَى (المُقْنِع) لِلإِمَامِ مُوَفَّقِ الدِّينِ المَقْدِسِيِّ)

(1/ 385) -، وَزَادَ أَنَّهُ أَنْكَرَ قَولَ مَنْ قَالَ بِكُفْرِهِ. قَالَ أَبُو الفَرَجِ:"وَهُوَ قَولُ أَكْثَرِ الفُقَهَاءِ، مِنْهُم أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكُ وَالشَّافِعِيُّ". اهـ مِنْ كِتَابِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.

قُلْتُ: قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "وَلَا يُعْرَفُ فِي شَيءٍ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ نَفْيُ الإِسْلَامِ عَمَّنْ تَرَكَ شَيئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ؛ كَمَا يُنْفَى الإِيمَانُ عَمَّنْ تَرَكَ شَيئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ! وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ إِطْلَاقُ الكُفْرِ عَلَى فِعْلِ بَعْضِ المُحَرَّمَاتِ، وَإِطْلَاقُ النِّفَاقِ أَيضًا". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 111).

ص: 53

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ وَالمُزَنِيُّ -صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ- إلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ؛ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ"

(1)

.

قُلْتُ: أَمَّا الجَاحِدُ لِوُجُوبِهَا؛ فَهُوَ كَافِرٌ خَارِجٌ مِنَ المِلَّةِ بِالإِجْمَاعِ.

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله: "وَأَجْمَعُ المُسْلِمُونَ أَنَّ جَاحِدَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ حَلَالٌ دَمُهُ كَسَائِرِ الكُفَّارِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَلَا لَهُ دِينٌ يُقِرُّ عَلَيهِ دَمَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ -وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيهَا، غَيرُ جَاحِدٍ بِفَرْضِهَا-"

(2)

.

- فِي الحَدِيثِ إِظْهَارُ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى حَيثُ جَعَلَ لِلإِسْلَامِ مَبَانٍ أُصُولًا عِظَامًا يَظْهَرُ بِهَا إِيمَانُ العَبْدِ؛ وَبِهِ يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا أَو كَافِرًا؛ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَسَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَينِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَو سَعِيدَةً» . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. قَالَ:«أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ؛ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ؛ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ» ثُمَّ قَرَأَ:

{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [اللَّيل: 5] الآيَةَ

(3)

.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ تَنَوُّعِ أَعْمَالِ الإِسْلَامِ، وَقِيَامُهَا بِالعَبْدِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ فِعْلًا وَتَرْكًا، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَدِّ النَّفْعِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ لِازِمُ

(1)

نَيلُ الأَوطَارِ (1/ 361).

(2)

الاسْتِذْكَارُ (1/ 235).

(3)

البُخَارِيُّ (1362)، وَمُسْلِمٌ (2647).

ص: 54

النَّفْعِ لِصَاحِبِهِ فَقَط، وَمِنْهَا مَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ سِرٌّ بَينَ العَبْدِ وَرَبِّهِ، وَمِنْهَا البَدَنِيُّ، وَمِنْهَا المَالِيُّ:

1 -

فَالشَّهَادَةُ تَقُومُ بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَهِيَ نُطْقٌ عَنْ عِلْمٍ.

2 -

وَالصَّلَاةُ تَقُومُ بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالجَوَارِحِ.

3 -

وَالصِّيَامُ يَقُومُ بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالجَوَارِحِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جَانِبِ التَرْكِ وَلَيسَ الفِعْلِ، وَهُوَ سِرٌّ بَينَ العَبْدِ وَرَبِّهِ.

4 -

وَالزَّكَاةُ تَتَعَرَّضُ لِلمَالِ دُونَ اللِّسَانِ وَالجَوَارِحِ، فَهِيَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَيسَتْ بَدَنِيَّةً كَالسَّابِقَتَينِ، وَهِيَ مُتَعَدِّيَّةُ النَّفْعِ لِلمُسْلِمِينَ.

5 -

وَالحَجُّ عِبَادَةٌ مُشْتَرَكَةٌ: مَالِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ.

- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "قَالَ طَاوُوسُ: مَثَلُ الإِسْلَامِ كَشَجَرَةٍ أَصْلُهَا الشَّهَادَةُ، وَسَاقُهَا كَذَا وَكَذَا، وَوَرَقُهَا كَذَا وَكَذَا، وَثَمَرُهَا: الوَرَعُ. وَلَا خَيرَ فِي إِنْسَانٍ لَا وَرَعَ فِيهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا دَخَلَ فِي مُسَمَّى الشَّجَرَةِ وَالنَّخْلَةِ مِنْ فُرُوعِهَا وَأَغْصَانِهَا وَوَرَقِهَا وَثَمَرِهَا إِذَا ذَهَبَ شَيءٌ مِنْهُ لَمْ يَذْهَبْ عَنِ الشَّجَرَةِ اسْمُهَا! وَلَكِنْ يُقَالُ: هِيَ شَجَرَةٌ نَاقِصَةٌ؛ وَغَيرُهَا أَكْمَلُ مِنْهَا.

فَإِنْ قُطِعَ أَصْلُهَا وَسَقَطَتْ لَمْ تَبْقْ شَجَرَةً، وَإِنَّمَا تَصِيرُ حَطَبًا! فَكَذَلِكَ الإِيمَانُ وَالإِسْلَامُ إِذَا زَالَ مِنْهُ بَعْضُ مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّاه -مَعَ بَقَاءِ أَرْكَانِ بُنْيَانِهِ- لَا يَزُولُ بِهِ اسْمُ الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ بِالكُلِّيَّةِ -وَإِنْ كَانَ قَدْ سُلِبَ الاسْمُ عَنْهُ لِنَقْصِهِ-، بِخِلَافِ مَا انْهَدَمَتْ أَرْكَانُهُ وَبُنْيَانُهُ؛ فَإِنَّهُ يَزُولُ مُسَمَّاهُ بِالكُلِّيَّةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ"

(1)

.

(1)

فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي شَرْحُ البُخَارِي)(1/ 28).

ص: 55

- فَائِدَةٌ مِنْ كِتَابِ (فَتْحُ البَارِي) لِلْحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ رحمه الله -تَعْلِيقًا عَلَى قَولِ البُخَارِيِّ رحمه الله: وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ

(1)

-:

"وَأَكْثَرُ العُلَمَاءِ قَالُوا: هُوَ قَولٌ وَعَمَلٌ، وَهَذَا كُلُّهُ إِجْمَاعٌ مِنَ السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الحَدِيثِ، وَقَد حَكَى الشَّافِعِيُّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَيهِ، وَحَكَى أَبُو ثَور الإِجْمَاعَ عَلَيهِ أَيضًا.

وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِمَّن سَلَفَ لَا يُفَرِّقُونَ بَينَ الإِيمَانِ وَالعَمَلِ، وَحَكَاهُ غَيرُ وَاحِدٍ مِنْ سَلَفِ العُلَمَاءِ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَمِمَّن حَكَى ذَلِكَ عَن أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ: الفُضَيلُ بنُ عِياض، وَوَكِيعُ بنُ الجَرَّاحِ.

وَمِمَّن رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الإيمَانَ قَولٌ وَعَمَلٌ: الحَسَنُ، وَسَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ، وَعُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وَعَطَاءُ، وَطَاوسُ، وَمُجَاهِدُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَهُوَ قَولُ الثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَابنُ المُبَارَكِ، وَمَالِكُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبِي عُبَيدٍ، وَأَبِي ثَورٍ وَغَيرُهُم؛ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُم: إِنَّ الرَّقَبَةَ المُؤْمِنَةَ لَا تُجْزِئُ فِي الكَفَّارَةِ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنْهَا الإِقْرَارُ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ"

(2)

(3)

.

(1)

البُخَارِيُّ (1/ 10).

(2)

فَتْحُ البَارِي لِابْنِ رَجَب (1/ 5).

(3)

تَنْوِيهٌ: هَذِهِ الفِقْرَةُ وَالفَقَرَاتُ التَّالِيَةُ لَهَا مُصَوَّبَةٌ عَنِ النُّسْخَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الكِتَابِ المَطْبُوعِ؛ فَفِيهَا مَزِيدُ فَائِدَةٍ وَبَيَانٍ. نَسْأَلُ اللهَ التَّوفِيقَ وَالسَّدَادَ.

ص: 56

- وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ -مُعَلِّقًا عَلَى الشَّطْرِ الثَّانِي مِن عِبَارَةِ البُخَارِيِّ: (وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ) -:

"وَأَمَّا المَقَامُ الثَّانِي؛ فَذَهَبَ السَّلَفُ إِلَى أَنَّ الإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ المُتَكَلِّمِينَ، وَقَالُوا: مَتَى قَبِلَ ذَلِكَ كَانَ شَكًّا.

قَالَ الشَّيخُ مُحْيِيُ الدِّينِ: وَالأَظْهَرُ المُخْتَارُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ النَّظَرِ وَوُضُوحِ الأَدِلَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ إِيمَانُ الصِّدِّيقِ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ غَيرِهِ؛ بِحَيثُ لَا تَعْتَرِيهِ الشُّبَهُ.

وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ يَتَفَاضَلُ حَتَّى إِنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ الإِيمَانُ أَعْظَمَ يَقِينًا وَإِخْلَاصًا وَتَوَكُّلًا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ فِي التَّصْدِيقِ وَالمَعْرِفَةِ بِحَسَبِ ظُهُورِ البَرَاهِينِ وَكَثْرَتِهَا، وَقَدْ نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ (تَعْظِيمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ) عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الأَئِمَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ صَرَّحَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي (مُصَنَّفِهِ) عَنْ سُفْيَانَ الثَّورِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالأَوزَاعِيِّ وَابْنِ جُرَيجٍ وَمَعْمَرٍ وَغَيرِهِمْ -وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ فِي عَصْرِهِمْ-، وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو القَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ فِي كِتَابِ (السُّنَّةِ) عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوِيه وَأَبِي عُبَيدٍ وَغَيرِهِمْ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَرَوَى بِسَنَدِهِ الصَّحِيحِ عَنِ البُخَارِيِّ قَالَ: لَقِيتُ أَكْثَرَ مِنَ أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ العُلَمَاءِ بِالأَمْصَارِ؛ فَمَا رَأَيتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يَخْتَلِفُ فِي أَنَّ الإِيمَانَ قَولٌ وَعَمَلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

وَأَطْنَبَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَاللَّالِكَائِيُّ فِي نَقْلِ ذَلِكَ بِالأَسَانِيدِ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكُلِّ مَنْ يَدُورُ عَلَيهِ الإِجْمَاعُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَحَكَاهُ فُضَيلُ بْنُ عِيَاضٍ وَوَكِيعٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَقَالَ الحَاكِمُ فِي (مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ): حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ الأَصَمُّ؛ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ؛ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: الإِيمَانُ قَولٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيمٍ فِي تَرْجَمَةِ الشَّافِعِيِّ مِنَ (الحِلْيَةِ) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الرَّبِيعِ وَزَادَ (يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالمَعْصِيَةِ ثُمَّ تَلَا {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المُدَّثِّر: 31] الآيَةَ) "

(1)

.

- تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ:

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "فَقَولٌ: لَا إِلَه َإِلَّا اللهُ: قَوْلُ لِسَانٍ، وَإِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ: فِعْلُ الجَوَارِحِ، وَالحَيَاءُ: وَهَذَا عَمَلُ قَلْبٍ؛ مِنَ الإيمَانِ، وَلَا حَاجَةَ أَنْ نَقُولَ مَا يَدُورُ الآنَ بَينَ الشَّبَابِ وَطَلَبَةِ العِلْمِ: هَلِ الأَعْمَالُ مِنْ كَمَالِ الإِيمَانِ أَوْ مِنْ صِحَّةِ الإِيمَانِ؟

فَهَذَا السُّؤَالُ لَا دَاعِيَ لَهُ، أَيُّ إِنْسَانٍ يَسْأَلُكَ وَيَقُولُ: هَلِ الأَعْمَالُ شَرْطٌ لِكَمَالِ الإِيمَانِ أَوْ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الإِيمَانِ؟ نَقُولُ لَهُ: الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم أَشْرَفُ مِنْكَ وَأَعْلَمُ مِنْكَ وَأَحْرَصُ مِنْكَ عَلَى الخَيرِ؛ وَلَمْ يَسْأَلُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم هَذَا السُّؤَالَ! إِذًا يَسَعُكَ مَا يَسَعُهُم.

إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا العَمَلَ يَخْرُجُ بِهِ الإِنْسَانُ مِنَ الإِسْلَامِ صَارَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الإِيمَانِ، وَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ صَارَ شَرْطًا لِكَمَالِ الإِيمَانِ وَانْتَهَى المَوضُوعُ.

أَمَّا أَنْ تُحَاوِلَ الأَخْذَ وَالرَّدَّ وَالنِّزَاعَ؛ ثُمَّ مَنْ خَالَفَكَ قُلْتَ: هَذَا مُرْجِئٌ، وَمَنْ وَافَقَكَ رَضِيتَ عَنْهُ، وَإِنْ زَادَ قُلْتَ: هَذَا مِنَ الخَوَارِجِ!! وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.

فَلِذَلِكَ مَشُورَتِي لِلْشَّبَابِ وَلِطُلَّابِ العِلْمِ أَنْ يَدَعُوا البَحْثَ فِي هَذَا المَوضُوعِ، وَأَنْ نَقُولَ: مَا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُه شَرْطًا لِصِحَّةِ الإِيمَانِ وَبَقَائِهِ فَهُوَ شَرْطٌ، وَمَا لَا فَلَا وَنَحْسِمُ المُوضُوعَ"

(2)

.

(1)

فَتْحُ البَارِي لِابْنِ حَجَرٍ (1/ 47).

(2)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لِلْعُثَيمِين (ص: 337).

ص: 57

فَائِدَةٌ، ثُمَّ كَلِمَةُ حَقٍّ وَإِنْصَافٍ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الإِمَامِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله:

قَالَ الإِمَامُ البَرْبَهَارِيُّ

(1)

رحمه الله فِي عَقِيدَتِهِ المَشْهُورَةِ: "وَمَنْ قَالَ: الإِيمَانُ قَولٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الإِرْجَاءِ

(2)

كُلِّهِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ"

(3)

.

سُئِلَ الشَّيخُ العَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله عَن قَولِ البَعْضِ: إِنَّ الشَّيخَ الأَلْبَانِيَّ رحمه الله قَولُهُ فِي مَسَائِلِ الإِيمَانِ قَولُ المُرْجِئَةِ! فَمَا قَولُ فَضِيلَتِكُم فِي هَذَا؟

الجَوَابُ: "أَقُولُ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: أَقِلُّوا عَلَيهِ لَا أَبَا لِأَبِيكُم مِنَ اللَّومِ أَو سُدُّوا المَكَانَ الَّذِي سَدُّوا.

الأَلْبَانِيُّ رحمه الله عَالِمٌ مُحَدِّثٌ فَقِيهٌ، وَإِنْ كَانَ مُحَدِّثًا أَقْوَى مِنْهُ فَقِيهًا، وَلَا أَعْلَمُ لَه كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى الإِرْجَاءِ أَبَدًا، لَكِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُكَفِّرُوا النَّاسَ يَقُولُونَ عَنْهُ وَعَنْ أَمْثَالِهِ إِنَّهُم مُرْجِئَةٌّ! فَهُوَ مِن بَابِ التَّلْقِيبِ بِأَلْقَابِ السُّوءِ.

وَأَنَا أَشْهَدُ لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله بِالاسْتِقَامَةِ وَسَلَامَةِ المُعْتَقَدِ وَحُسْنِ المَقْصِدِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَا نَقُولُ إِنَّهُ لَا يُخْطِئُ، لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ مَعْصُومٌ إِلَّا الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام"

(4)

إِلَى آخِرِ مَا قَالَ رحمه الله.

وَقَالَ العَلَّامَةُ عَبْدُ المُحْسِنِ العَبَّادُ البَدْرُ حَفِظَهُ اللهُ: "وَإِنَّ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ أَنْ يُبْتَلَى عَدَدٌ قَلِيلٌ مِنْ طَلَبَةِ العِلْمِ بِالنَّيلِ مِنَ الشَّيخِ العَلَّامَةِ المُحَدِّثِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله وَوَصْفَهُ بِالإِرْجَاءِ! فِي الوَقْتِ الَّذِي سَلِمَ مِنْهُم دُعَاةُ التَّغْرِيبِ؛ قَتَلَةُ الأَخْلَاقِ، الَّذِينَ يَسْعَونَ جَاهِدِينَ لِلْإِفْسَادِ فِي بِلَادِ الحَرَمَينِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، وَسَلِمَ مِنْهُم أَهْلُ الزَّنْدَقَةِ وَأَهْلُ الزَّيغِ وَالضَّلَالِ! وَكَأَنَّهُ لَيسَ أَمَامَهُم فِي المَيْدَانِ إِلَّا هَذَا الرَّجُلُ ذُو الجُهُودِ العَظِيمَةِ فِي خِدْمَةِ سُنَّةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبَيَانِ عَقِيدَةِ السَّلَفِ! وَمَا أَحْسَنَ الأَثْرَ الَّذِي نَقَلَهُ ابنُ كَثِيرٍ فِي البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ (13/ 121) عَن سُفْيَانَ بنَ حُسَينٍ قَالَ: (ذَكَرْتُ رَجُلًا بِسُوءٍ عِنْدَ إِياسَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَنَظَرَ فِي وَجْهِي، وَقَالَ: أَغَزَوتَ الرُّومَ؟! قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَالسِّنْدُ وَالهِنْدُ وَالتُّرْكُ؟! قُلْتُ: لَا، قَالَ: أَفَتَسْلَمُ مِنْكَ الرُّومُ وَالسِّنْدُ وَالهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْكَ أَخُوكَ المُسْلِمُ؟! قَالَ: فَلَمْ أَعُدْ بَعْدَهَا)، وَهُم بِنَيلِهِم مِنَ الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله يُهْدُونَ لَهُ بَعْضَ حَسَنَاتِهِم، وَمِنَ الخَيرِ لَهُم أَنْ يُبْقُوا عَلَى تِلْكَ الحَسَنَاتِ وَأَنْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ عِلْمِهِ، وَيُوَجِّهُوا سِهَامَهُم إِلَى غَيرِهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ تُوَجَّهَ إِلَيهِ، وَقَدْ وَقَفْتُ فِي كَلَامِهِ عَلَى مَا يُوَضِّحُ سَلَامَتَهُ مِنَ الإِرْجَاءِ"

(5)

. إِلَى آخَرِ مَا قَالَ رحمه الله.

(1)

هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ خَلَفٍ البَرْبَهَارِيُّ (ف: 329 هـ) صَاحِبُ العَقِيدَةِ المَشْهُورَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.

(2)

"الإِرْجَاءُ عَلَى وَجْهَينِ: قَومٌ أَرْجَوا أَمْرَ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ؛ فَقَدْ مَضَى أُولَئِكَ، فَأَمَّا المُرْجِئَةُ اليَوْمَ فَهُم قَوْمٌ يَقُولُونَ: الإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمِلٍ". رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (تَهْذِيبُ الآثَارِ)(659/ 2) عَن سُفْيَانَ بْنَ عُيَينَةَ رحمه الله.

(3)

شَرْحُ السُّنَّةِ لِلْبَرْبَهَارِيِّ (ص: 129).

(4)

فِي لِقَاءِ إِدَارَةِ الدَّعْوَةِ بِوَزَارَةِ الأَوْقَافِ وَالشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ فِي دَولَةِ قَطَرٍ مَعَ فَضِيلَتِهِ، بِتَارِيخ: 7/ 5/2000 م.

(5)

كِتَابُ (الحَقُّ فِي نُصُوصِ الوَعْدِ وَالوَعِيدِ وَسَطٌ بَينَ طَرَفَي الإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ)(ص: 9) لِلشَّيخِ عَبْدِ المُحْسِنِ بنِ حَمَدٍ العَبَّادِ.

ص: 58

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلِ الإِيمَانُ مَخْلُوقٌ؟

الجَوَابُ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ الفَقِيهِ أَبِي اللَّيثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ

(1)

؛ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الإِيمانَ إِقْرَارٌ وَهِدَايَةٌ، فَالإِقْرَارُ صُنْعُ العَبْدِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَالهِدَايَةُ صُنْعُ الرَّبِّ وَهُوَ غَيرُ مَخْلُوقٍ"

(2)

.

قُلْتُ: كَمَا تَلْحَظُهُ فَي قَولِ اللهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَوحَينَا إِلَيكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشُّورَى: 53] فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا الإِيمَانَ لَيسَ مِنْ فِعْلِ العَبْدِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ هِدَايَةُ الرَّبِّ المُنَزَّلَةُ مِن عِنْدِهِ.

(1)

إِمَامٌ فَقِيهٌ مُحَدِّثٌ حَنَفِيٌّ، (ت 375 هـ). اُنْظُرِ السِّيَرَ لِلذَّهَبِيِّ (16/ 322).

(2)

قَالَهُ العَينِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (عُمْدَةُ القَارِي)(1/ 110).

ص: 59

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا وَجْهُ عَدَمِ ذِكْرِ الحَدِيثِ لِلجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ضِمْنَ هَذِهِ المَبَانِي الخَمْسَةِ؛ رُغْمَ عُلُوِّ شَانِهِ؟

الجَوَابُ هُوَ مِنْ أَحَدِ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ بَعْدُ.

2 -

أَنَّ الجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، وَلَيسَ بِفَرْضِ عَينٍ؛ بِخِلَافِ هَذِهِ الأَرْكَانِ

(1)

.

3 -

أَنَّ الجِهَادَ لَا يَسْتَمِرُّ فِعْلُهُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، بَلْ إِذَا نَزَلَ عِيسَى عليه السلام وَلَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مِلَّةٌ إِلَّا مِلَّةَ الإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الحَرْبُ أَوزَارَهَا وَيُسْتَغْنَى عَنِ الجِهَادِ؛ بِخِلَافِ هَذِهِ الأَرْكَانِ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِلَى أَنْ يَاتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَاللهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله -نَقْلًا عَنِ ابْنِ بَزِيزَةَ

(2)

-: "الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ: تَقْدِيمُ الجِهَادِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ البَدَنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَذْلَ النَّفْسِ، إِلَّا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى المُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَأَدَائِهَا فِي أَوقَاتِهَا وَالمُحَافَظَةِ عَلَى بِرِّ الوَالِدَينِ أَمْرٌ لَازِمٌ مُتَكَرِّرٌ دَائِمٌ لَا يَصْبِرُ عَلَى مُرَاقَبَةِ أَمْرِ اللهِ فِيهِ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ. وَاللهُ أَعْلَمُ"

(3)

.

(1)

فِي لَفْظٍ لِحَدِيثِ البَابِ عِنْدَ البُخَارِيِّ "أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا؛ وَتَتْرُكَ الجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل؛ وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللهُ فِيهِ؟! قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّلَاةِ الخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ البَيتِ".

وَفِي لَفْظٍ أَيضًا لِحَدِيثِ البَابِ عِنْدَ أَحْمَدَ (4798)"فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَالجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الجِهَادُ حَسَنٌ. هَكَذَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ". ضَعِيفٌ. إِرْوَاءُ الغَلِيلِ، تَحْتَ الحَدِيث بِرَقَم:(781).

(2)

مِنْ عُلَمَاءِ المَالِكِيَّةِ المَغَارِبَةِ، تُوُفِّيَ قُرَابَةَ (700 هـ).

(3)

فَتْحُ البَارِي (2/ 10).

ص: 60

‌الحَدِيثُ الرَّابِعُ: (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ

)

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ-: «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَومًا نُطْفَةً

(1)

، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيهِ المَلَكُ؛ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ

(2)

، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيدٍ؛ فَوَ اللهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيرُهُ

(3)

إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ -حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ- فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ؛ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ -حَتَّى مَا يَكُونُ بَينَهُ وَبَينَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ- فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ؛ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(4)

.

(1)

المَشْهُورُ فِي كُتُبِ الحَدِيثِ عَدَمُ ذِكْرِ النُّطْفَةِ، وَلَكِنَّ الحَدِيثَ التَّالِي لَهُ مِنْ كِتَابِ القَدَرِ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (3333) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا فِيهِ «وَكَّلَ اللهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَي رَبِّ نُطْفَةٌ؟ أَي رَبِّ عَلَقَةٌ؟ أَي رَبِّ مُضْغَةٌ؟ فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: أَي رَبِّ؛ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ».

(2)

تَنْبِيهٌ: فِي رِوَايَةِ البُخَارِيِّ فِي كِتَابِ القَدَرِ لَا تُوجَدُ لَفْظَةُ العَمَلِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "قَولُهُ «بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ» : كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ

وَنَقَصَ مِنْهَا ذِكْرُ العَمَلِ، وَبِهِ تَتِمُّ الأَرْبَعُ، وَثَبَتَ قَولُهُ:«وَعَمَلِهِ» فِي رِوَايَةِ آدَمَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الأَحْوَصِ عَنِ الأَعْمَشِ «فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ» فَذَكَرَ الأَرْبَعَ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ". فَتْحُ البَارِي (11/ 482).

(3)

ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ كُلَّهَا مُدْرَجَةٌ مِنِ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَرَجَّحَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)(11/ 487) رَفْعَهَا عَدَا القَسَم.

(4)

البُخَارِيُّ (3332)، وَمُسْلِمٌ (2643).

ص: 61

- هَذَا الحَدِيثُ هُوَ الحَدِيثُ الأَوَّلُ مِنْ كِتَابِ القَدَرِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ.

- قَولُهُ: (الصَّادِقُ المَصْدُوقُ): أَي الصَّادِقُ فِي قَولِهِ؛ المَصْدُوقُ فِيمَا يَاتِيهِ مِنَ الوَحْي الكَرِيمِ

(1)

، وَهَذَا مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه هُوَ تَهْيِئَةٌ لِمَا سَيُذْكَرُ مِنْ أُمُورِ الغَيبِ.

وَفِيهِ الدِّلَالَةُ عَلَى فَضْلِ الصَّحَابَةِ؛ وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مُؤْمِنٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ صِدْقِ نَبِيِّهِ، وَمِنْ جِهَةِ صِدْقِ مَنْ أَخْبَرَهُ

(2)

.

- العَلَقَةُ: دُودَةٌ مَعْرُوفَةٌ تَعِيشُ فِي المِيَاهِ الرَّاكِدَةِ، وَهُنَا هِيَ الدَّمُّ الجَامِدُ الغَلِيظُ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلرُّطُوبَةِ الَّتِي فِيهِا، وَلِتَعَلُّقِهَا بِمَا مَرَّتْ بِهِ.

وَالمُضْغَةُ هِيَ قِطْعَةُ اللَّحْمِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا بِقَدْرِ مَا يَمْضَغُ المَاضِغُ.

- كَونُ مَرْحَلَةِ النُّطْفَةِ وَالعَلَقَةِ وَالمُضْغَةِ كُلِّهَا وُفْقَ أَرْبَعِينَ يَومًا؛ لَا يَعْنِي مَثَلًا

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ دَقِيق العِيد (ص: 37).

(2)

وَمِثْلُهُ حَدِيث البُخَارِيِّ (6607) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه؛ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَعْظَمِ المُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنِ المُسْلِمِينَ -فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ القَومِ -وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الحَالِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى المُشْرِكِينَ- حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ المَوتَ، فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيفِهِ بَينَ ثَدْيَيهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَينِ كَتِفَيهِ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْرِعًا، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالَ: قُلْتَ لِفُلَانٍ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ فَلْيَنْظُرْ إِلَيهِ» -وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِنَا غَنَاءً عَنِ المُسْلِمِينَ- فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ المَوتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ؛ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ؛ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ» ". وَالشَّاهِدُ قَولُهُ: (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ).

ص: 62

أَنَّ النُّطْفَةَ تَبْقَى كَمَا هِيَ نُطْفَةً دُونَ تَغَيُّرٍ أَرْبَعِينَ يَومًا! وَإِنَّمَا الحَالُ الغَالِبُ عَلَيهَا هِيَ هَيئَةُ النُّطْفَةِ، وَكَذَا العَلَقَةُ وَالمُضْغَةُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ لَفْظُ الحَدِيثِ «يُجْمَعُ خَلْقُهُ» فَكُلٌّ مِنْهَا مَرْحَلَةُ جَمْعٍ.

- فِي الحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّفْخَ وَالكِتَابَةَ يَكُونَانِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَكِنَّ الكِتَابَةَ حَقِيقَةً تَكُونُ بَعْدَ قُرَابَةِ الأَرْبَعِينَ يَومًا لِلحَدِيثِ الصَّرِيحِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيفَةَ بْنِ أَسِيدٍ

(1)

مَرْفُوعًا «إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيلَةً بَعَثَ اللهُ إِلَيهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ؛ وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ

أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ؛ وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ؛ وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ المَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ؛ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ»

(2)

.

وَعَلَيهِ فَيَكُونُ تَرْتِيبُ الكِتَابَةُ بَعْدَ النَّفْخِ فِي حَدِيث البَابِ

(3)

لَيسَ مِنْ بَابِ التَّرْتِيبِ الزَّمَنِيِّ، وَإِنَّمَا مِنْ بَابِ التَّرْتِيبِ الخَبَرِيِّ؛ وَذَلِكَ مِنْ أَجْل أَنْ لَا يَنْقَطِعَ سِيَاقُ أَطْوَارِ تَشَكُّلِ الجَنِينِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ بِرِوَايَتِهِم بِالمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُونَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ المُرَادُ تَرْتِيبِ الإِخْبَارِ فَقَط لَا

(1)

بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ المُهْمَلَةِ، كَمَا أَفَادَهُ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَاري رحمه الله فِي كِتَابِهِ (مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ)(8/ 3449).

(2)

مُسْلِمٌ (2645)، وَيُنْظَرُ:(السِّلْسِلَةُ الضَّعِيفَةُ) لِلْأَلْبَانِيِّ تَحْتَ حَدِيثِ (2322).

(3)

وَمِثْلُهُ لَفْظُ البُخَارِيِّ (7454) الَّذِي فِيهِ «ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيهِ المَلَكُ؛ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» .

ص: 63

تَرْتِيبَ مَا أُخْبِرَ بِهِ"

(1)

.

وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَولُ اللهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السَّجْدَة: 7 - 9]، فَهُنَا أَخَّر ذِكْرَ نَفْخِ الرُّوحِ مَعَ أَنَّهُ بَينَهُمَا؛ لِأَجْلِ أَنْ يَتَنَاسَبَ ذِكْرُ الأَطْوَارِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإِنْسَانُ فِي تَكْوِينِهِ، وَهِيَ الطَّينُ ثُمَّ المَاءُ.

- أَلْفَاظُ تَكْوِينِ المَخْلُوقِ هِيَ: التَّصْوِيرُ، وَالخَلْقُ، وَالبَرْءُ، قَالَ تَعَالَى:{هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ} [الحَشْر: 24].

فَالمُصَوِّرُ مَعْنَاهُ: الَّذِي يَجْعَلُ الشَّيءَ عَلَى هَيئَةِ صُورَةٍ مُخَطَّطَةٍ.

وَالخَلْقُ أَي: خَلْقُ الجَنِينِ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَقَادِيرَهُ مِنَ الأَطْرَافِ وَالأَعْضَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالبَرْءُ: أَنْ يَكُونَ تَامًّا، يَعْنِي: أَنْ يَبْرَأَ مَا سَبَقَ، وَهَذَا فِي الجَنِينِ وَاضِحٌ

(2)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 163).

قُلْتُ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّهُمَا كِتَابَتَانِ كَابْنِ القَيِّمِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (التِّبْيَانُ فِي أَقْسَامِ القُرْآن)(ص: 349).

(2)

وَقَالَ الشَّيخُ الغُنَيمَانُ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (1/ 291): "فَالخَلْقُ فِي اسْمِ اللهِ تَعَالَى هُوَ: ابْتِدَاءُ تَقْدِيرِ النَّشْءِ. فَاللهُ تَعَالَى خَالِقُهَا، وَمُنْشِئُهَا، وَهُوَ مُتَمِّمُهَا وَمُدَبِّرُهَا؛ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ.

{البَارِئُ} يُقَالُ: بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ إِذَا فَطَرَهُم. وَالبَرْءُ: خَلْقٌ عَلَى صِفَةٍ، فَكُلُّ مَبْرُوءٍ مَخْلُوقٌ، وَلَيسَ كُلُّ مَخْلُوقٍ مَبْرُوءًا، لِأَنَّ البَرْءَ مِنْ تَبْرِئَةِ الشَيءِ مِنَ الشَيءِ، كَمَا يُقَالُ: بَرَاتُ مِنَ المَرَضِ وَمِنَ الدَّينِ، فَإِذَا فُصِلَ بَعْضُ الخَلْقِ مِنْ بَعْضٍ سُمِّيَ فَاعِلُهُ بارِئًا، فَهُوَ المَعْنَى الَّذِي بِهِ انْفَصَلَتِ الصُّورَةُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَصُورَةُ زَيدٍ مُفَارِقَةٌ لِصُورَةِ عَمْرو، وَصُورَةُ حِمَارٍ مُفَارِقَةُ لِصُورَةِ فَرَسٍ؛ فَتَبَارَكَ اللهُ خَالِقًا بَارِئًا.

{المُصَوِّرُ} أَي: مُصَوِّرُ كُلِّ صُورَةٍ لَا عَلَى مِثَالٍ احْتَذَاهُ وَلَا رَسْمٍ ارْتَسَمَهُ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا".

ص: 64

- قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُ بَعْدَ الاثْنَينِ وَالأَرْبَعِينَ

يَخْرُجُ عِلْمُ نَوعِ الجَنِينِ مِنْ كَونِهِ ذَكَرًا أَو أُنْثَى عَنِ اخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى بِهِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى خَصَّ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ خَمْسَةٍ مِنْ عِلْمِ الغَيبِ

(1)

؛ مِنْهَا: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لُقْمَان: 34] فَيَخْرُجُ عِنْدَهَا عَنْ كَونِهِ غَيبًا بِتَعْلِيمِهِ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ لِلمَلَكِ.

وَمِثْلُهُ مَعْرِفَةُ الأَطِبَّاءِ بِمَا فِي الرَّحِمِ بَعْدَ أَشْهُرٍ مِنْ تَكْوِينِهِ؛ فَهَذَا مَبْنِيٌ عَلَى أَنَّ اللهَ مَكَّنَهُم مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَا يَسْتَقِلُّونَ بِهِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم! وَنَقَلَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) عَنِ القُرْطُبِيِّ رحمه الله قَولَهُ: "أَنَّ هَذِهِ الخَمْسَ لَا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ عَلَى عِلْمٍ بِهَا قَاطِعٍ، وَأَمَّا الظَّنُّ بِشَيءٍ مِنْهَا بِأَمَارَةٍ قَدْ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَلَيسَ ذَلِكَ بِمُمْتَنِعٍ، وَلَا نَفْيُهُ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ"

(2)

.

- الرُّوحُ جِسْمٌ لِأَنَّهَا تُنْفَخُ، وَتُقْبَضُ، وَتُحَنَّطُ وَ

، وَلَكِنَّنَا لَا نَدْرِي مَاهِيَّتَهَا.

- لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنَ الحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ العَمَلِ وَالاعْتِمَادِ عَلَى القَدَرِ! بَلِ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيهِ هُوَ السَّعْيُ بِالعَمَلِ المُبَاحِ الصَّالِحِ المُوصِلِ لِلجَنَّةِ؛ لِأَنَّ الأَعْمَالَ أَسْبَابٌ لِلْخَوَاتِيمِ وَعَلَامَاتٌ لَهَا.

ص: 65

كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ» . فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: «لَا؛ اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ» . ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} إِلَى قَولِهِ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [اللَّيل: 5 - 7]

(1)

.

وَفِي صَحِيْحِ ابْنِ حِبَّانَ فِي آخِرِ الحَدِيْثِ "قَالَ سُرَاقَةُ: فَلَا أَكُونُ أَبَدًا أَشَدَّ اجْتِهَادًا فِي العَمَلِ مِنِّي الآنَ"

(2)

.

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ الآخَرِ: «إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ»

(3)

.

- قَولُهُ: «فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ» : أَي يَسْبِقُ عَلَيهِ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى فِيهِ المُخَالِفُ لِظَاهِرِ الحَالِ؛ فَلَا يَقَعُ إِلَّا مَا يَعْلَمُهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ، وَلَا يَعني هَذَا أنَّهُ أُجْبِرَ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ! وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَحَوُّلِ عَمَلِ الرَّجُلِ نَفْسِهِ؛ وَإِنَّمَا عِلْمُ اللهِ تَعَالَى سَابِقٌ لِعَمَلِ الرَّجُلِ.

قَالَ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَارِيِّ رحمه الله: "فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ دُخُولَ النَّارِ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّقِ العِلْمِ الإِلَهِيِّ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ العَمَلِ المَخْلُوقِيِّ؛ فَلَا يَكُونُ جَبْرًا مَحْضًا وَلَا قَدَرًا بَحْتًا"

(4)

.

وَتَأَمَّلْ كَيفَ أَنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ أَوِ النَّارِ فِي الحَدِيثِ كَانَ مُعَلَّقًا بِالعَمَلِ وَلَيسَ

(1)

البُخَارِيُّ (4947).

(2)

صَحِيحٌ. صَحِيْحُ ابْنِ حِبَّانَ (337). التَّعْلِيْقَاتُ الحِسَانُ (338).

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4696) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا كَمَا فِي الصَّحِيحَةِ (3521)، وَهُوَ لَفْظٌ لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ.

(4)

مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (1/ 154).

ص: 66

بِمُجَرَّدِ سَبْقِ الكِتَابِ؛ حَيثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ؛ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ

».

وَفِي الحَدِيثِ «لَا عَلَيكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ؛ فَإِنَّ العَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ أَو بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ -لَو مَاتَ عَلَيهِ دَخَلَ الجَنَّةَ- ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ البُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيّءٍ -لَو مَاتَ عَلَيهِ دَخَلَ النَّارَ- ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوتِهِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ:«يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيهِ»

(1)

.

- لَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ أَلْفَاظِ دُخُولِ النَّارِ -فِي كَثِيرٍ مِنْ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ-؛ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُهَا يَخْلُدُ فِيهَا أَبَدًا! كَمَا هُوَ المَعْرُوفُ مِنْ أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ.

- أَحْوَالُ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ لِلبِدَايَاتِ وَالنِّهَايَاتِ أَرْبَعٌ:

1 -

مَنْ بِدَايَتُهُ حَسَنَةٌ، وَنِهَايَتُهُ حَسَنَةٌ.

2 -

مَنْ كَانَتْ بِدَايَتُهُ سَيِّئَةٌ، وَنِهَايَتُهُ سَيِّئَةٌ.

وَهَاتَانِ الحَالَتَانِ هُمَا الأَصْلُ فِي أَعْمَالِ النَّاسِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النَّحْل: 97].

وَكَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيثِ: «إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» .

3 -

مَنْ بِدَايَتُهُ سَيِّئَةٌ، وَنِهَايَتُهُ حَسَنَةٌ، كَسَحَرَةِ فِرْعَونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى، وَكَاليَهُودِيِّ الَّذِي كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ؛ وَعَادَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ وَعَرَضَ

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (12214) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1334).

ص: 67

عَلَيهِ الإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ»

(1)

، وَكَمَا فِي حَدِيثِ البَابِ.

4 -

مَنْ كَانَتْ بِدَايَتُهُ حَسَنَةٌ، وَنِهَايَتُهُ سَيِّئَةٌ، كَالذِي نَشَأَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ؛ وَقَبْلَ المَوتِ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلَامِ وَمَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ، وَكَمَا فِي حَدِيثِ البَابِ.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ دَقِيق العِيد رحمه الله: "المُرَادُ: أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَعُ فِي نَادِرٍ ِمِنَ النَّاسِ؛ لَا أَنَّهُ غَالِبٌ فِيهِم! وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ؛ فَإِنَّ انْقِلَابَ النَّاسِ مِنَ الشَّرِّ إِلَى الخَيرِ كَثِيرٌ، وَأَمَّا انْقِلَابُهُم مِنَ الخَيرِ إِلَى الشَّرِّ فَفِي غَايَةِ النُّدُورِ

(2)

، وَللهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ عَلَى ذَلِكَ"

(3)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1356).

(2)

كَمَا فِي قَولِ هِرَقْلَ لِأَبِي سُفْيَانَ "وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ

-سَخْطَةً لَهُ-؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا؛ وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ القُلُوبِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4553) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

(3)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ دَقِيق العِيد (ص: 39).

ص: 68

- فِي الحَدِيثِ فَوَائِدُ؛ مِنْهَا:

1 -

الإِيمَانُ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى السَّابِقِ لِكُلِّ شَيءٍ.

2 -

الإِيمَانُ بِنَوعٍ مِنَ الكِتَابَةِ هِيَ الكِتَابَةُ العُمْرِيَّةُ الَّتِي يَكْتُبُهَا المَلَكُ

(1)

.

3 -

الإِيمَانُ بِأَنَّ هُنَاكَ مَلَكًا يَكْتُبُ هَذِهِ الأُمُورَ الأَرْبَعَةَ، وَأَنَّ هُنَاكَ مَلَكًا آخَرَ يَنْفُخُ الرُّوحَ

(2)

.

4 -

الإِيمَانُ بِأَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ يَكُونُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ

(3)

، وَهُوَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ غَسْلِ المَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيهِ كَالكَبِيرِ

(4)

.

وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الحِكْمَةِ مِنْ كَونِ عِدَّةِ المَرْأَةِ المُتَوَفَّى عَنْهَا زَوجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

5 -

بَيَانُ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الخَلْقِ، وَتَفْصِيلُ تَكْوِينِهِ سُبْحَانَهُ لِلإِنْسَانِ، وَتَدَرُّجِ الإِنْسَانِ فِي تِلْكَ المَرَاحِلِ، وَدِلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى المَعَادِ

(5)

.

6 -

الحَضُّ عَلَى السَّعْي المُبَاحِ خَلْفَ الرِّزْقِ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مَا قُدِّرَ لَهُ، كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ؛ تَسْأَلُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا! فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا»

(6)

.

(1)

وَهَذَا النَّوعُ مِنَ الكِتَابَةِ قَابِلٌ لِلتَّغْيِيرِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} [الرَّعْد: 39]، وَسَيَاتِي مَزِيدُ بَيَانٍ فِي المَسَائِلِ إِنْ شَاءَ اللهُ.

(2)

وَقَدْ يَكُونُ هُوَ نَفْسُهُ ذَلِكَ المَلَكَ.

(3)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ عِدَّةِ الوَفَاةِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا بَالُ العَشَرَةِ بَعْدَ الأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؟ فَقَالَ: يُنْفَخُ فِيهَا الرُّوحُ". فَتْحُ البَارِي (11/ 486).

(4)

وَأَيضًا يُؤْخَذُ مِنْهُ حُرْمَةُ إِسْقَاطِ الجَنِينِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَتْلًا لِإِنْسَانٍ.

(5)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79].

(6)

البُخَارِيُّ (5152).

ص: 69

7 -

تَرْكُ التَّعَلُّقِ بِالأَسْبَابِ لِأَنَّ الرِّزْقَ مُقَدَّرٌ عَلَى العَبْدِ، وَعَلَيهِ يَكُونُ التَّعَلُّقُ بِاللهِ وَحْدَهُ خَالِقِ الأَسْبَابِ.

8 -

عَدَمُ الاغْتِرَارِ بِكَثْرَةِ الأَعْمَالِ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعْوِيلِ عَلَى رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يَامَنَ المَرْءُ مِنَ الكُفْرِ بَعْدَ الإِيمَانِ.

9 -

عَدَمُ القُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِسَبَبِ كَثْرَةِ المَعَاصِي؛ بَلْ إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى وَمَغْفِرَتَهُ أَوسَعُ مِنْ مَعَاصِ العَبْدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمَر: 53].

10 -

أَنَّ الأَعْمَالَ بِالخَوَاتِيمِ

(1)

، كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ:«يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا أَكْثَرَ دُعَائِكَ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ؛ إِنَّهُ لَيسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَينَ أُصْبُعَينِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ؛ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ»

(2)

.

11 -

أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى شَيءٍ؛ حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ خَيرٍ أَو شَرٍّ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ المَعَاصِي تَحْتَ المَشِيئَةِ.

12 -

أَنَّ التَّوبَةَ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا

(3)

.

13 -

فِي الحَدِيثِ جَوَازُ القَسَمِ عَلَى الخَبَرِ الصَّادِقِ لِتَاكِيدِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ.

(1)

كَمَا فِي حَدِيثِ البُخَارِيِّ (6607) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ» .

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3522) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2091).

(3)

كَمَا فِي الحَدِيثِ «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» . صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (4250) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (615).

ص: 70

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ مِنْ مَعْنَى الإِيمَانِ بِالقَدَرِ تَرْكُ العَمَلِ، وَالاتِّكَالُ عَلَى مَا كُتِبَ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ؟ وَهَلْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِلعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟

الجَوَابُ: لَا، وَذَلِكَ لِسَبَبَينِ:

1 -

دَلِيلٌ أَثَرِيٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالعَمَلِ رُغْمَ وُجُودِ الكِتَابَةِ وَفِي نَفْسِ الحَدِيثِ، وَهُوَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَأَتَانَا

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَولَهُ -وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ-، فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَو سَعِيدَةً» ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؛ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ:

«أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ؛ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ؛ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ» ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [اللَّيل: 5 - 7]. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (4948)، وَمُسْلِمٌ (2647).

(2)

وَأَيضًا فِي الحَدِيثِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (4703) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إِنَّ اللهَ عز وجل خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ؛ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ؛ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ؛ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً؛ فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ؛ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ» . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَفِيمَ العَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عز وجل إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ؛ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ؛ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ؛ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ؛ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ» .

قُلْتُ: وَجُمْلَةُ مَسْحِ الظَّهْرِ ضَعَّفَهَا الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله قَدِيمًا؛ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تَصْحِيحِهَا بَعْدَ أَنْ تَنَبَّهَ إِلَى شَوَاهِدَ لَهَا. انْظُرْ تَخْرِيجَ الطَّحَاوِيَّةِ (ص: 266 - ط 2).

ص: 71

2 -

دَلِيلٌ نَظَرِيٌّ: أَنَّهُ يُقَالُ لِهَذَا الرَّجُلِ العَاصِي: مَا الَّذِي أَعْلَمَكَ أَنَّ اللهَ كَتَبَكَ مُسِيئًا؟ هَلْ تَعْلَمُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَعْمَلَ الإِسَاءَةَ؟! فَجَوَابُهُ حَتْمًا هُوَ النَّفْيُ؛ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ هُوَ نَفْسَهُ اخْتَارَ ذَلِكَ.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِينَ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَاسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأَنْعَام: 148، 149] حَيثُ جَعَلَ تَعَالَى عَدَمَ عِلْمِهِم بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ حُجَّةً بِالِغَةً عَلَيهِم.

وَقَالَ تَعَالَى أَيضًا عَنْهُم: {وَقَالُوا لَو شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزُّخْرُف: 20]

(1)

.

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (7/ 224): " {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أَي: بِصِحَّةِ مَا قَالُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ، {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أَي: يَكْذِبُونَ وَيَتَقَوَّلُونَ".

ص: 72

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيفَ الجَمْعُ بَينَ حَدِيثِ «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»

(1)

مَعَ الأَحَادِيثِ الكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي فِيهَا كِتَابَةُ أَجَلِ الإِنْسَانِ عَلَيهِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ المَرْفُوعُ فِي الصَّحِيحَينِ الَّذِي فِيهِ «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَومًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيدٍ»

(2)

؛ وَذَلِكَ فِي كَونِ الأَجَلِ مَكْتُوبًا، وَفِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ بَيَّنَ أَنَّهُ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ

(3)

! وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يُونُس: 49]؟

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ هَذَا أَمْرٌ غَيبِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيعَةِ، فَيَجِبُ إِثْبَاتُ كِلَا الأَمْرَينِ، فَنَقُولُ: العُمْرُ مَكْتُوبٌ؛ وَهُوَ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ بِسَبَبِ هَذِهِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

2 -

أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ دَلَّتْ أَصْلًا عَلَى إِمْكَانِيَّةِ حُصُولِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ فِي الأَعْمَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [فَاطِر: 11]

(4)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5985)، وَمُسْلِمٌ (2557) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

(2)

البُخَارِيُّ (3332)، وَمُسْلِمٌ (2643).

(3)

وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ فَهُوَ أَيضًا قَابِلٌ لِلنَّقْصِ.

(4)

وَفي شَرْحِ هَذَا التَّعْمِيرِ وَالنَّقْصِ أَقْوَالٌ أَشْهَرُهَا أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ -بِاخْتِصَارٍ وَتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ (14/ 333) -:

الأَوَّلُ: أَنَّ التَّعْمِيرَ هُوَ كِتَابَةُ كَمْ يَكُونُ لَهُ مِنَ العُمُرِ، كَمْ سَنَةً وَكَمْ شَهْرًا وَكَمْ يَومًا وَكَمْ سَاعَةً، وَالإِنْقَاصُ هُوَ كِتَابَةُ تَنَاقُصِ عُمُرِهِ البَاقِي حَتَّى يَسْتَوفيَ أَجَلَهُ. كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ: يُكْتَبُ عُمُرُهُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، ثُمَّ يُكْتَبُ فِي أَسْفَلِ ذَلِكَ: ذَهَبَ يَومٌ، ذَهَبَ يَومَانِ، حَتَّى يَاتيَ عَلَى آخِرِهِ. قُلْتُ: وَالضَّمِيرُ فِي قَولِهِ: {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُودُ إِلَى نَفْسِ الشَّخْصِ.

الثَّاني: أَنَّ المُعَمَّرَ مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً مَثَلًا، وَالمَنْقُوصَ مِنْ عُمُرِهِ مَنْ يَمُوتُ قَبْلَ سِتِّينَ سَنَةً، فَالتَّقْصِيرُ لَهُ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ كَانَ عُمُرُهُ أَطْوَلَ مِنْهُ. قُلْتُ: وَالضَّمِيرُ فِي قَولِهِ: {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُودُ إِلَى غَيرِ الأَوَّلِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ اللهَ كَتَبَ عُمُرَ الإِنْسَانِ مِائَةَ سَنَةٍ مَثَلًا إِنْ أَطَاعَ، وَتِسْعِينَ إِنْ عَصَى، فَأيُّهُمَا بَلَغَ فَهُوَ فِي كِتَابٍ. أَي: أَنَّهُ يُكْتَبُ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ: عُمُرُ فُلَانٍ كَذَا سَنَةً، فَإِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زِيدَ فِي عُمُرِهِ كَذَا سَنَةً، فَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوضِعٍ آخَرَ مِنَ اللَّوحِ المَحْفُوظِ إنَّهُ سَيَصِلُ رَحِمَهُ، فَمَنْ اطَّلَعَ عَلَى الأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ظَنَّ أَنَّهُ زِيَادَةٌ أَو نُقْصَانٌ.

قُلْتُ: وَالضَّمِيرُ فِي قَولِهِ: {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُودُ إِلَى نَفْسِ الشَّخْصِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ النَّقْصَ هُوَ النَّقْصُ مِنَ العُمُرِ المَكْتُوبِ، كَمَا يُرَادُ بِالزِّيَادَةِ الزِّيَادَةُ فِي العُمُرِ المَكْتُوبِ، وَالتَّغْيِيرُ يَكُونُ فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ دُونَ مَا فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى.

قُلْتُ: وَالضَّمِيرُ فِي قَولِهِ: {مِنْ عُمُرِهِ} يَعُودُ إِلَى نَفْسِ الشَّخْصِ.

وَالقَولُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ قَرِيبَانِ، وَالرَّابِعُ أَرْجَحُ لِمُوَافَقَتِهِ صَرِيحَ الحَدِيثِ وَكَلَامَ السَّلفِ كَعُمَرَ رضي الله عنه؛

كَمَا سَيَاتِي.

ص: 73

3 -

أَنَّ هَذِهِ الكِتَابَةَ لَا تُنَافِي وُجُودَ الزِّيَادَةِ أَصْلًا فِي الأَعْمَارِ تَبَعًا لِهَذَهِ الأَسْبَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الكِتَابَةَ مَقْطُوعٌ بِهَا بِاعْتِبَارِ الخَاتِمَةِ وَالنِّهَايَةِ؛ فَلَا يَمْنَعُ أَصْلًا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً ضِمْنَ هَذِهِ الكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [فَاطِر: 11]

(1)

.

ص: 74

وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ}

[الرَّعْد: 39]

(1)

(2)

4 -

أَنَّ التَّبْدِيلَ هُوَ حَاصِلٌ بِدِلَالَةِ صَرِيحِ الحَدِيثِ لَكِنَّهُ يَكُونُ فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ؛ بِخِلَافِ مَا هُوَ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى أَو فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ فَهُوَ لَا يَتَغَيَّرُ

(3)

.

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (4/ 469) بَعْدَ إِيرَادِهِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ: "وَمَعْنَى هَذِهِ الأَقْوَالِ: أَنَّ الأَقْدَارَ يَنْسَخُ اللهُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيُثْبِتُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ يُسْتَانَسُ لِهَذَا القَولِ بِمَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ (22386) عَنْ ثَوبَانَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الرَّجُلُ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، ولَا يَزِيدُ فِي العُمُرِ إِلَّا البِرُّ»» ".

قُلْتُ: وَالشَّطْرُ الأَوَّلُ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ، كَمَا فِي الصَّحِيحَةِ (154).

(2)

وَتَأَمَّلْ سِيَاقَ الآيَةِ السَّابِقَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الكِتَابَةَ هِيَ كِتَابَةُ الأَجَلِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَاتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرَّعْد: 38].

(3)

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَالجَوَابُ المُحَقَّقُ: أَنَّ اللهَ يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ أَجَلًا فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ؛ فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ زَادَ فِي ذَلِكَ المَكْتُوبِ، وَإِنْ عَمِلَ مَا يُوجِبُ النَّقْصَ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ المَكْتُوبِ.

وَنَظِيرُ هَذَا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيرِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ آدَمَ لَمَّا طَلَبَ مِنَ اللهِ أَنْ يُرِيَهُ صُورَةَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَأَرَاهُ إيَّاهُمْ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ بَصِيصٌ؛ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ فَقَالَ: ابْنُكَ دَاوُد. قَالَ: فَكَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. قَالَ: وَكَمْ عُمْرِي؟ قَالَ: أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ: فَقَدْ وَهَبْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً. فَكَتَبَ عَلَيهِ كِتَابًا وَشَهِدَتْ عَلَيهِ المَلَائِكَةُ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قَالَ: قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّونَ سَنَةً! قَالُوا: وَهَبْتَهَا لِابْنِك دَاوُد. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَأَخْرَجُوا الكِتَابَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ كَمَّلَ لِآدَمَ عُمُرَهُ وَلِدَاوُدَ عُمُرَهُ. فَهَذَا دَاوُدُ كَانَ عُمُرُهُ المَكْتُوبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ جَعَلَهُ سِتِّينَ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبَتْنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ"، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يَكُونُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ لَهُ وَمَا يَزِيدُهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَالمَلَائِكَةُ لَا عِلْمَ لَهُمْ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللهُ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الأَشْيَاءَ قَبْلَ كَونِهَا وَبَعْدَ كَونِهَا؛ فَلِهَذَا قَالَ العُلَمَاءُ: إنَّ المَحْوَ وَالإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ المَلَائِكَةِ، وَأَمَّا عِلْمُ اللهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ، وَلَا يَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ! فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إثْبَاتَ، وَأَمَّا اللَّوحُ المَحْفُوظُ؛ فَهَلْ فِيهِ مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ؟ عَلَى قَولَينِ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ". مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (14/ 491).

قُلْتُ: وَحَدِيثُ آدَمَ وَدَاوُدَ عليهما السلام صَحِيحٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (3368) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5208).

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِمَا فِي عِلْمِ الحَفَظَةِ وَالمُوَكَّلِينَ بِالآدَمِيِّ؛ فَيَقَعُ فِيهِ المَحْو وَالإِثْبَاتُ كَالزِّيَادَةِ فِي العُمُرِ وَالنَّقْصِ، وَأَمَّا مَا فِي عِلْمِ اللهِ فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إِثْبَاتَ. وَالعِلْمُ عِنْدَ اللهِ". فَتْحُ البَارِي (11/ 488).

وَقَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: " {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ} مِنَ الأَقْدَارِ. {وَيُثْبِتُ} مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَهَذَا المَحْو وَالتَّغْيِيرُ فِي غَيرِ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَكَتَبَهُ قَلَمُهُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ فِيهِ تَبْدِيلٌ وَلَا تَغْيِيرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ أَنْ يَقَعَ فِي عِلْمِهِ نَقْصٌ أَو خَلَلٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} أَي اللَّوحُ المَحْفُوظُ الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيهِ سَائِرُ الأَشْيَاءِ؛ فَهُوَ أَصْلُهَا، وَهِيَ فُرُوعٌ لَهُ وَشُعَبٌ. فَالتَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ يَقَعُ فِي الفُرُوعِ وَالشُّعَبِ كَأَعْمَالِ اليَومِ وَاللَّيلَةِ الَّتِي تَكتُبُهَا المَلَائِكَةُ، وَيَجْعَلُ اللهُ لِثُبُوتِهَا أَسْبَابًا، وَلِمَحْوِهَا أَسْبَابًا، لَا تَتَعَدَّى تِلْكَ الأَسْبَابُ مَا رُسِمَ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ، كَمَا جَعَلَ اللهُ البِرَّ وَالصِّلَةَ وَالإِحْسَانَ مِنْ أَسْبَابِ طُولِ العُمُرِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَكَمَا جَعَلَ المَعَاصِي سَبَبًا لِمَحقِ بَرَكَةِ الرِّزْقِ وَالعُمُرِ، وَكَمَا جَعَلَ أَسْبَابَ النَّجَاةِ مِنَ المَهَالِكِ وَالمَعَاطِبِ سَبَبًا لِلسَّلَامَةِ، وَجَعَلَ التَّعَرُّضَ لِذَلِكَ سَبَبًا لِلعَطَبِ، فَهُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الأُمُورَ بِحَسْبِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَمَا يُدَبِّرُهُ مِنْهَا لَا يُخَالِفُ مَا قَدْ عَلِمَهُ وَكَتَبَهُ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ". تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 419).

ص: 75

كَمَا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ -وَهُوَ يَطُوفُ بِالبَيتِ وَيَبْكِي-: "اللَّهُمَّ! إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ شِقْوَةً أَو ذَنْبًا؛ فَامْحُهُ؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الكِتَابِ؛ فَاجْعَلْهُ سَعَادَةً وَمَغْفِرَةً"

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (16/ 481). اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (5448).

ص: 76

قُلْتُ: وَهُنَاكَ وَجْهٌ خَامِسٌ أَورَدَهُ بَعْضُهُم، وَهُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي العُمُرِ هِيَ بِمَعْنَى البَرَكَةِ! وَهَذَا الوَجْهُ بَعِيدٌ عَنِ الصِّحَّةِ، وَالرَّاجِحُ مَا أَثْبَتْنَاهُ.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: "وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ المُرَادَ بِهِ البَرَكَةُ فِي العُمْرِ؛ بِأَنْ يَعْمَلَ فِي الزَّمَنِ القَصِيرِ مَا لَا يَعْمَلُهُ غَيرُهُ إِلَّا فِي الكَثِيرِ، قَالُوا: لِأَنَّ الرِّزْقَ وَالأَجَلَ مُقَدَّرَانِ مَكْتُوبَانِ. فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: تِلْكَ البَرَكَةُ -وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي العَمَلِ وَالنَّفْعِ- هِيَ أَيضًا مُقَدَّرَةٌ مَكْتُوبَةٌ وَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ"

(1)

.

وَفَرَّقَ بَعْضُهُم بَينَ العُمْرِ وَالأَجَلِ؛ فَجَعَلَ العُمْرَ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ بِدِلَالَةِ النُّصُوصِ، وَجَعَلَ الأَجَلَ غَيرَ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ أَيضًا بِدِلَالَةِ النُّصُوصِ! قُلْتُ: وَلَكِنَّ التَّفْرِيقَ يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ أَصْرَحَ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (14/ 490).

ص: 77

‌الحَدِيثُ الخَامِسُ: (ردُّ المُحْدَثَاتِ والبِدَعِ)

عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ؛ أُمِّ عَبْدِ اللهِ؛ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيسَ مِنْهُ؛ فَهُوَ رَدٌّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ»

(2)

.

- كُنِّيَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها بِأُمِّ المُؤْمِنِينَ لِأَنَّهَا إِحْدَى زَوجَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأَحْزَاب: 6].

وَكُنِّيَتْ بِـ (أُمِّ عَبْدِ اللهِ) بِنِسْبَةِ ابْنِ أُخْتِهَا إِلَيهَا، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّهَا قَالَتْ:"يَا رَسُولَ اللهِ كُلُّ صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنىً، قَالَ: «فَاكْتَنِي بِابْنِكِ عَبْدِ اللهِ» يَعْنِي: ابْنَ أُخْتِهَا"

(3)

.

قَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: "وَأَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لعَائِشَةَ أَنْ تُكْنَى بِأُمِّ عَبْدِ اللهِ

-وَهُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزَّبَيرِ- وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لَا الحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَقْطًا فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ؛ وَكَنَّاهَا بِهِ، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ"

(4)

.

(1)

البُخَارِيُّ (2697)، وَمُسْلِمٌ (1718).

(2)

مُسْلِمٌ (1718)، وَقَدْ أَورَدَهَا البُخَارِيُّ رحمه الله تَعْلِيقًا فِي صَحِيحِهِ (9/ 107).

وَبَوَّبَ عَلَيهِ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ (4/ 200): «بَابُ لُزُومِ السُّنَّةِ» .

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَه فِي سُنَنِهِ (1/ 6): «بَابُ تَعْظِيمِ حَدِيثِ الرَّسُولِ، وَالتَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ عَارَضَهُ» .

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4970). الصَّحِيحَةُ (132).

(4)

تُحْفَةُ المَودُودِ (ص: 134).

ص: 78

وَقَدْ تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَهَا سِتُّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَلَهَا تِسْعُ سِنِينَ.

- هَذَا الحَدِيثُ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ الَّتِي أُوتِيهَا المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي رَدِّ كُلِّ بِدْعَةٍ وَكُلِّ مُخْتَرَعٍ فِي الدِّينِ، وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إِبْطَالِ جَمِيعِ العُقُودِ المَمْنُوعَةِ شَرْعًا، وَعَدَمِ وُجُودِ ثَمَرَاتِهَا، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الأُصُولِيِّينَ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الفَسَادَ

(1)

.

- الرِّوَايَةُ الأُخْرَى لِلحَدِيثِ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ» صَرِيحَةٌ فِي تَرْكِ كُلِّ مُحْدَثَةٍ؛ سَوَاءً أَحْدَثَهَا فَاعِلُهَا أَو سُبِقَ إِلَيهَا.

- قَولُهُ: «فِي أَمْرِنَا» : أَي: فِي الدِّينِ، وَلَيسَ فِي الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ:

1 -

أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ «مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» كَمَا أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله

(2)

(3)

.

2 -

أَنَّ إِضَافَةَ الأَمْرِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِلى مَا جَاءَ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ لَا بِالدُّنْيَا.

3 -

أَنَّ الدُّنْيَا قَدْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى إِبَاحَةِ التَّوَسُّعِ فِيهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ تَلْقِيحِ النَّخْلِ؛ وَأَنَّهُ قَالَ فِيهِ عليه الصلاة والسلام:«أنْتُمْ أعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْياكُمْ»

(4)

.

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ دَقِيق العِيد (ص: 41).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ لابْنِ رَجَبٍ (1/ 176).

(3)

وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (المَجْمُوعُ)(1/ 464) إِلَى الصَّحِيحَينِ. وَرَوَاهُ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ السُّنَّةِ)(1/ 212) بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، أَخْرَجَاهُ مِنْ أَوجُهٍ".

(4)

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2363): بَابُ وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ شَرْعًا دُونَ مَا ذَكَرَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ الرَّاي، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ:«أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» .

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَيضًا (2361) عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيدِ اللهِ رضي الله عنه؛ قَالَ: "مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَومٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ: «مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟» فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ؛ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الأُنْثَى فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيئًا!»، قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ؛ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا؛ فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيئًا فَخُذُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عز وجل» ".

ص: 79

- قَولُهُ: «رَدٌّ» : أَي: مَرْدُودٌ.

- تَعْرِيفُ البِدْعَةِ: هِيَ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيهَا المُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ للهِ سُبْحَانَهُ

(1)

.

- البِدَعُ تُقْسَمُ عُمُومًا إِلَى قِسْمَينِ:

1 -

بِدَعٌ لُغَوِيَّةٌ: أَي: مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ هِيَ بِدْعَةٌ، وَهِيَ كُلُّ مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيرِ مِثَالٍ سَابِق -مُطْلَقًا أَو مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ أَو مَكَانٍ-، وَهِيَ عَامَّةٌ تَشْمَلُ مَا أُحْدِثَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَتَكُونُ مَذْمُومَةً أَو مَمْدُوحَةً بِحَسْبِ حَالِ مَا أُحْدِثَ، وَهِيَ غَيرُ مَقْصُودَةٍ فِي هَذَا الحَدِيث.

وَمِنَ البِدَعِ اللُّغَوِيَّةِ مَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه عَنْ جَمْعِ النَّاسِ فِي رَمَضَانَ: " نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ"

(2)

.

(1)

وَهُوَ تَعِرِيفُ الشَّيخِ الشَّاطِبِيِّ رحمه الله (ت 790 هـ) فِي كِتَابِهِ (الاعْتِصَامُ)(1/ 50).

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَأَصْلُ مَادَّةِ (بَدَعَ) لِلِاخْتِرَاعِ عَلَى غَيرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَمِنْهُ قَولُ اللهِ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البَقَرَة: 117]، أَي: مُخْتَرِعُهُمَا مِنْ غَيرِ مِثَالٍ سَابِقٍ مُتَقَدِّمٍ، وَقَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأَحْقَاف: 9] أَي: مَا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللهِ إِلَى العِبَادِ؛ بَلْ تَقَدَّمَنِي كَثِيرٌ مِنَ الرُّسُلِ. وَيُقَالُ: ابْتَدَعَ فَلَانٌ (بِدْعَةً) يَعْنِي ابْتَدَأَ طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيهَا سَابِقٌ. وَهَذَا أَمْرٌ (بَدِيعٌ) يُقَالُ فِي الشَّيءِ المُسْتَحْسَنِ الَّذِي لَا مِثَالَ لَهُ فِي الحُسْنِ؛ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ".

(2)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (2010)، وَسَيَاتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي المُلْحَقِ التَّالِي إِنْ شَاءَ اللهُ.

ص: 80

2 -

بِدَعٌ شَرْعِيَّةٌ: وَهِيَ مَا أُحْدِثَ فِي الدِّينِ عَلَى غَيرِ مِثَالٍ سَابِقٍ لَهَا فِي الشَّرْعِ

(1)

.

وَهِيَ مَذْمُومَةٌ مُطْلَقًا، وَعَلَيهَا مَدَارُ الحَدِيثِ، وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ أَيضًا بِقَولِهِ:«وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

وَغَيرُهُ.

وَيَدُلُّ لِمَعْنَاهُ أَيضًا مِنَ القُرْآن قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} [آل عِمْرَان: 85]، وَقَولُهُ تَعَالَى أَيضًا:

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللهُ} [الشُّورَى: 21].

- إِنَّ الالتِزَامَ بِالبِدْعَةِ ضَابِطٌ مُهِمٌّ لِتَسْمِيَتِهِا بِدْعَةً وَلِتَسْمِيَةِ صَاحِبِهَا مُبْتَدِعًا؛ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ مَرَّةً أَو مَرَّتَينِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِهِ؛ فَلَا يُوصَفُ بَأَنَّهُ مُبْتَدِعٌ! وَإِنَّمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ فَحَسْبُ

(3)

، وَكَذَا مَنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ وَوَقَعَ فِي البِدْعَةِ.

- هَذَا الحَدِيثُ هُوَ مِيزَانُ الأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ؛ كَمَا أَنَّ حَدِيثَ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» هُوَ مِيزَانُ الأَعْمَالِ البَاطِنَةِ.

(1)

وَلَا يَخْفَى إِنْ شَاءَ اللهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِّ إِحْيَاءُ السُّنَّةِ المَهْجُورَةِ بَينَ النَّاسِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي فعَمِلَ بِهَا النَّاسُ؛ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِم شَيئًا. وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَعُمِلَ بِهَا، كَانَ عَلَيهِ أَوزَارُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهَا شَيئًا» . صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (209) عَنْ عَمْرو بْنِ عَوفٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ ابْنِ مَاجَه (174).

(2)

مُسْلِمٌ (867).

(3)

انْظُرْ شَرْحَ الشَّيخِ صَالِح آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى الأَرْبَعِين -شَرْحَ الحَدِيثِ الخَامِسِ-

(ص: 127).

ص: 81

وَعَلَيهِ؛ فَيَلْزَمُ بَعْدَ الإِخْلَاصِ فِي العَمَلِ أَنْ يَكُونَ العَمَلُ نَفْسُهُ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ

(1)

، وَهَذِهِ المُوَافَقَةُ تَكُونُ فِي سِتَّةِ جَوَانِبَ مِنَ العِبَادَةِ، وَالإِخْلَالُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا يَجْعَلُ العَمَلَ بِدْعَةً، وَهَذِهِ الجَوَانِبُ هِيَ: السَّبَبُ، الجِنْسُ، الكَمِّيَّةُ، الكَيفِيَّةُ، الزَّمَانُ، المَكَانُ

(2)

، وَنَاتِي الآنَ عَلَى بَيَانِهَا بِاخْتِصَارٍ فَنَقُولُ:

1 -

سَبَبُ العِبَادَةِ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَ الإِنْسَانُ عِبَادَةً وُفْقَ سَبَبٍ لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ تَعَالَى سَبَبًا، كَأَنْ يَقْرَأَ سُورَةً مُعَيَّنَةً مِنَ القُرْآنِ كُلَّمَا دَخَلَ بَيتَهُ وَيتَّخِذَهَا سُّنَّةً؛ فَهَذَا مَرْدُودٌ، مَعَ أَنَّ قِرَاءَةَ القُرْآنِ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ؛ لَكِنْ لَمَّا قَرَنَهَا بِسَبَبٍ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا شَرْعِيًّا صَارَتْ مَرْدُودَةً.

2 -

جِنْسُ العِبَادَةِ: فَلَو أَنَّ أَحَدًا ضَحَّى بِفَرَسٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيهِ

وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ فِي الجِنْسِ، إِذْ إِنَّ الأَضَاحِيَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ، وَهِيَ: الإِبِلُ، وَالبَقَرُ، وَالضَّانُ وَالمَعْزُ.

3 -

الكَمِّيَّةُ (القَدْرُ): كَرَجُلٍ تَوَضَّأَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ -أَي: غَسَلَ كُلَّ عُضْوٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ-؛ فَالرَّابِعَةُ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ.

4 -

الكَيفِيَّةُ: كَمَنْ صَلَّى فَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ؛ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ تُوَافِقِ الشَّرِيعَةَ فِي الكَيفِيَّةِ.

5 -

الزَّمَانُ: فَلَو صَلَّى الصَّلَاةَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا؛ فَالصَّلَاةُ غَيرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّهَا

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (5/ 205): "وَهَذَانَ رُكْنَا العَمَلِ المُتَقَبَّلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ".

(2)

وَهِيَ مَا تَصْلُحُ أَنْ تُسَمَّى بِجِهَاتِ التَّعَبُّدِ السِّتِّ، انْظُرْ كِتَابَ (تَصْحِيحُ الدُّعَاءِ) (ص: 41) للشَّيخِ بَكْرِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ أَبُو زَيدٍ حَفِظَهُ اللهُ.

ص: 82

فِي زَمَنٍ غَيرِ مَا حَدَّهُ الشَّرْعُ، وَكَمَا لَو ضَحَّى قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ العِيدِ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقِ الشَّرْعَ فِي الزَّمَانِ.

6 -

المَكَانُ: فَلَو أَنَّ أَحَدًا اعْتَكَفَ فِي غَيرِ المَسَاجِدِ بِأَنْ يَكُونَ قَدِ اعْتَكَفَ فِي المَدْرَسَةِ أَو فِي البَيتِ؛ فَإِنَّ اعْتِكَافَهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقِ الشَّرْعَ فِي مَكَانِ الاعْتِكَافِ، فَالاعْتِكَافُ مَحَلُّهُ المَسَاجِدُ.

- المَصْلَحَةُ المُرْسَلَةُ وَضَوَابِطُهَا:

مِمَّا يتَّصِلُ بِهَذَا الأَمْرِ مِنَ الإِحْدَاثِ أَنَّ هُنَاكَ مُحْدَثَاتٍ لَمْ يَجْعَلْهَا الصَّحَابَةُ مِنَ البِدَعِ، بَلْ أَقَرُّوهَا وَجَعَلُوهَا سَائِغَةً، وَعُمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدَهِم أَيضًا، وَهَذِهِ سَمَّاهَا العُلَمَاءُ فِيمَا بَعْدُ بِالمَصَالِحِ المُرْسَلَةِ، وَمَعْنَى المَصَالِحِ المُرْسَلَةِ أَنَّ هَذَا العَمَلَ أَرْسَلَ -أَطْلَقَ- الشَّارِعُ حُكْمَهُ بِاعْتِبَارِ المَصْلَحَةِ؛ فَإِذَا رَأَى أَهْلُ العِلْمِ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً فَإِنَّ لَهُم أَنْ يَاذَنُوا بِهِ

(1)

.

وَعَلَى ذَلِكَ " فَإِذَنْ مِنَ المُهِمَّاتِ فِي هَذَا البَابِ أَنْ نُفَرِّقَ مَا بَينَ البِدْعَةِ وَمَا بَينَ المَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ:

أَوَّلًا: أَنَّ البِدْعَةَ فِي الدِّينِ مُتَّجِهَةٌ إِلَى الغَايَةِ، وَأَمَّا المَصْلَحَةُ المُرْسَلَةُ فَهِيَ مُتَّجِهَةٌ إِلَى وَسَائِلِ تَحْقِيقِ الغَايَاتِ.

ثَانِيًا: أَنَّ البِدْعَةَ قَامَ المُقْتَضِي لِفِعْلِهَا زَمَنَ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تُفْعَلْ، وَالمَصْلَحَةُ المُرْسَلَةُ لَمْ يَقُمِ المُقْتَضِي لِفِعْلِهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"

(2)

.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: " فَالمُهِمُّ أَنْ نَعْرِفَ الفَرْقَ بَينَ الوَسِيلَةِ وَبَينَ

(1)

وَسَيَاتِي ذِكْرُ أَمْثِلَةٍ عَلَيهَا إِنْ شَاءَ اللهُ فِي المُلْحَقِ التَّالِي عِنْدَ الجَوَابِ عَلَى بَعْضِ الشُّبُهَاتِ.

(2)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لصَالِح آلِ الشَّيخِ (ص: 136).

ص: 83

القَصْدِ أَوِ الغَايَةِ؛ فَوَسَائِلُ المَشْرُوعُ مَشْرُوعَةٌ، فَالبِدْعَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِيمَا قُصِدَ لِذَاتِهِ، أَمَّا مَا كَانَ وَسِيلَةً لِغَيرِهِ فَلَا، وَالوَسَائِلُ لَهَا أَحْكَامُ المَقَاصِدِ"

(1)

.

وَنَضْرِبُ لَهَا مِثَالًا وَاحِدًا فَقَط وَهُوَ جَمْعُ القُرْآنِ، فَقَدْ جُمِعَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَالعُلَمَاءُ أَجْمَعُوا -مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُم- أَنَّ جَمْعَ القُرْآنِ مِنَ الوَاجِبَاتِ العَظِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَقُومَ بِهَا الأُمَّةُ، وَلَكِنَّنَا نُلَاحِظُ فِي هَذَا أُمُورًا:

أ- هَذَا الجَمْعُ نَفْسُهُ لَيسَ مِنْ بَابِ التَّدَيُّنِ بِذَلِكَ.

وَتَأَمَّلْ كَيفَ اسْتَثْقَلَ زَيدٌ رضي الله عنه جَمْعَ المُصْحَفِ، فَقَالَ:" فَوَاللهِ لَو كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ؛ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ"

(2)

، فَلَو كَانَتْ عِبَادَةً عِنْدَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الجَمْعِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ ذَلِكَ القَولُ!

ب- لَمْ يَكُنِ المُقْتَضِي لِذَلِكَ قَائِمًا؛ لِأَنَّ الوَحْيَ لَمْ يَنْقَطِعْ بَعْدُ.

ج- أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى حِفْظِ القُرْآنِ مِنَ الضَّيَاعِ-كَمَا حَصَلَ مَعَ الأُمَمِ المَاضِيَةِ-.

فَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ -بَابِ جَمْعِ القُرْآنِ- " أَنَّ حُذَيفَةَ بْنَ اليَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ -وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ-، فَأَفْزَعَ حُذَيفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؛ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلَافَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى"

(3)

! فَتَأَمَّلْ كَونَ سَبَبِ الجَمْعِ هُوَ حِمَايَةُ القُرْآنِ مِنَ الضَّيَاعِ.

(1)

التَّعْلِيقُ عَلَى القَوَاعِدِ الحِسَانِ (ص: 52).

(2)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (4986).

(3)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (4987).

ص: 84

فَوَائِدُ مُتَعَلِّقَةٌ

- الفَائِدَة الأُولَى: قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ غُضَيفِ ابْنِ الحَارِثِ؛ قَالَ: " بَعَثَ إِلَيَّ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جَمَعْنَا النَّاسَ عَلَى رَفْعِ الأَيدِي عَلَى المِنْبَرِ يَومَ الجُمُعَةِ، وَعَلَى القَصَصِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالعَصْرِ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُمَا أَمْثَلُ بِدَعِكُمْ عِنْدِي، وَلَسْتُ بِمُجِيبِكُمْ إِلَى شَيءٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا أَحْدَثَ قَومٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِنَ السُّنَّةِ مِثْلُهَا»

(1)

فَتَمَسُّكٌ بِسُنَّةٍ خَيرٌ مِنْ إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ". انْتَهَى.

وَإِذَا كَانَ هَذَا جَوَابُ هَذَا الصَّحَابِيِّ فِي أَمْرٍ لَهُ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِيهَا؟! فَكَيفَ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُخَالِفُهَا؟!! وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ العِلْمِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُذَكِّرُ الصَّحَابَةَ كُلَّ خَمِيسٍ لِئَلَّا يَمَلُّوا، وَمَضَى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ:" حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمْعَةٍ؛ فَإِنْ أَبَيتَ فَمَرَّتَينِ"،

وَنَحْوُهُ وَصِيَّةُ عَائِشَةَ لِعُبَيدِ بْنِ عُمَيرٍ، وَالمُرَادُ بِالقَصَصِ التَّذْكِيرُ وَالمَوعِظَةُ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُهُ رَاتِبًا كَخُطْبَةِ الجُمُعَةِ!

بَلْ بِحَسْبِ الحَاجَةِ.

وَأَمَّا قَولُهُ فِي حَدِيثِ العِرْبَاضِ: «فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» بَعْدَ قَولِهِ: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُحْدَثَ يُسَمَّى بِدْعَةً، وَقَولُهُ:«كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا، أَمَّا مَنْطُوقُهَا فَكَأَنْ يُقَالَ: حُكْمُ كَذَا: بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ؛ فَلَا تَكُونُ مِنَ الشَّرْعِ! لِأَنَّ الشَّرْعَ كُلَّهُ هُدىً، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ

(1)

ضَعِيفٌ. أَحْمَدُ (16970) عَنْ غُضَيف مَرْفُوعًا. الضَّعِيفَةُ (6707).

ص: 85

الحُكْمَ المَذْكُورَ بِدْعَةٌ صَحَّتِ المُقَدِّمَتَانِ وَأَنْتَجَتَا المَطْلُوبَ، وَالمُرَادُ بِقَولِهِ:«كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» مَا أُحْدِثَ وَلَا دَلِيلَ لَهُ مِنَ الشَّرْعِ بِطَرِيقٍ خَاصٍّ وَلَا عَامٍّ"

(1)

.

- الفَائِدَة الثَّانِيَة: لَا يَصِحُّ تَصْنِيفُ المَنْهِيَّاتِ ضِمْنَ البِدَعِ المُحَرَّمَةِ! وَذَلِكَ

مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى النَّهْي عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِذَلِكَ فَقَط دُونَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَعًا أَو غَيرَ مُبْتَدَعٍ.

2 -

أَنَّ البِدَعَ تَطْرَأُ عَلَى مَا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَعَلَيهِ فَلَا يَصِحُّ إِدْرَاجُ أُمُورِ العَادَاتِ -مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ أَو لَمْ يُنْهَ- فِي هَذَا البَابِ كُلِّهِ.

3 -

أَنَّ البِدْعَةَ مُصْطَلَحٌ شَرْعِيٌّ فِي غَالِبِ النُّصُوصِ وَرَدَ عَلَى الذَّمِّ؛ وَعَلَيهِ فَلَا يَصِحُّ تَصْنِيفُ البِدَعِ إِلَى أَصْنَافٍ مُحَرَّمَةٍ وَغَيرِ مُحَرَّمَةٍ

(2)

!

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله تَحْتَ بَابِ البُخَارِيِّ (كِتَابُ الاعْتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ فِي العِلْمِ وَالغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالبِدَعِ):

" وَأَمَّا البِدَعُ: فَهِيَ جَمْعُ بِدْعَةٍ، وَهِيَ كُلُّ شَيءٍ لَيسَ لَهُ مِثَالٌ تَقَدَّمَ، فَيَشْمَلُ لُغَةً مَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ، وَيَخْتَصُّ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ بِمَا يُذَمُّ، وَإِنْ وَرَدَتْ فِي المَحْمُودِ فَعَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ"

(3)

.

- الفَائِدَة الثَّالِثَة: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ: أُصُولُ البِدَعِ أَرْبَعَةُ طَوَائِفَ؛ وَسَائِرُ الثِّنْتَينِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً عَنْ هَؤُلَاءِ تَفَرَّقُوا، وَهُمُ: الخَوَارِجُ، وَالرَّوَافِضُ، وَالقَدَرِيَّةُ،

(1)

فَتْحُ البَارِي (13/ 254).

(2)

وَسَيَاتِي فِي المُلْحَقِ التَّالِي إِنْ شَاءَ اللهُ مَزِيدُ بَيَانٍ مِنْ كَلَامِ الإِمَامِ الشَّاطِبِيِّ رحمه الله فِي ذَلِكَ.

(3)

فَتْحُ البَارِي (13/ 278).

ص: 86

وَالمُرْجِئَةُ

(1)

.

- الفَائِدَة الرَّابِعَة: الابْتِدَاعُ يَكُونُ فِي العَقَائِدِ وَالأَقْوَالِ كَمَا يَكُونُ فِي الأَعْمَالِ.

عَنْ نُوحٍ الجَامِع؛ قَالَ: " قُلْتُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: مَا تَقُولُ فِيمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنَ الكَلَامِ فِي الأَعْرَاضِ وَالأَجْسَامِ؟ فَقَالَ: مَقَالَاتُ الفَلَاسِفَةِ! عَلَيكَ بِالأَثَرِ وَطَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ؛ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ"

(2)

.

- الفَائِدَة الخَامِسَة: رَجَّحَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ جَمْعَ المُصْحَفِ كَانَ مَامُورًا بِهِ أَصْلًا.

قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: " وَقَالَ الحَارِثُ المُحَاسَبِيُّ فِي كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ: كِتَابَةُ القُرْآنِ لَيسَتْ بِمُحْدَثَةٍ! فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَامُرُ بِكِتَابَتِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالعُسُبِ؛ فَإِنَّمَا أَمَرَ الصَّدِّيقِ بِنَسْخِهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ مُجْتَمِعًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَورَاقٍ وُجِدَتْ فِي بَيتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا القُرْآنُ مُنْتَشِرٌ؛ فَجَمَعَهَا جَامِعٌ وَرَبَطَهَا بِخَيطٍ حَتَّى لَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيءٌ"

(3)

.

(1)

الاعْتِصَامُ (2/ 720)، وَانْظُرْ أَيضًا كِتَابَ (فَتْحُ البَارِي)(13/ 344) لِلحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.

(2)

(الحُجَّةُ فِي بَيَانِ المَحَجَّةِ) لِلأَصْبَهَانِيِّ (1/ 105).

(3)

الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ (1/ 206).

ص: 87

‌مُلْحَقٌ عَلَى الحَدِيثِ الخَامِسِ

فَوَائِدُ وَمَسَائِلُ مِنْ كِتَابِ (الاعْتِصَامُ) لِلْشَاطِبِيِّ وَغَيرِهِ

(1)

-‌

‌ أَهَمِّيَّةُ مَعْرِفَةِ البِدْعَةِ مِنَ السُّنَّةِ:

1 -

لِمَعْرِفَةِ العَمَلِ المَقْبُولِ مِنَ العَمَلِ المَرْدُودِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَة رضي الله عنها مَرْفُوعًا «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»

(2)

.

2 -

لِإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنَ السُّنَّةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «إِنَّ الإِسْلَامَ بَدَأ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأ؛ فَطُوبى لِلْغُرَباءِ؛ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أفْسَدَ النَّاسُ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي»

(3)

.

(1)

كِتَابُ (الاعْتِصَامُ) هُوَ لِلعَلَّامَةِ الأُصُولِيِّ أَبِي إِسْحَاقَ؛ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى الشَّاطِبِيِّ، (ت 790 هـ)، وَقَدْ أَضَفْتُ بَعْضَ الشُّبُهَاتِ وَجَوَابَهَا، مَعَ بَعْضِ الفَوَائِدِ بِحَمْدِ اللهِ زِيَادَةً عَلَى الأَصْلِ.

(2)

مُسْلِمٌ (1718).

(3)

وَالحَدِيثُ بِهَذَا القَدْرِ صَحِيحٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (2630) عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوفٍ مَرْفُوعًا، وتُنْظَرُ الصَّحِيحَةِ (3/ 268)، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله هُنَاكَ أَنَّ حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ هَذَا فِيهِ كَثِيرُ بْنُ عَمْرٍو؛ وَأَنَّهُ ضَعِيفٌ جِدًّا! وَفِي حَدِيثِهِ جُمْلَةٌ لَمْ تَرِدْ فِي شَيءٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَلَفْظُهَا «وَلَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ مِنَ الحِجَازِ مَعْقِلَ الأُرْوِيَّةِ مِنْ رَاسِ الجَبَلِ» ، لِذَلِكَ فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيخِ رحمه الله أَنَّ مَوضِعَ الإِنْكَارِ هُوَ ذَلِكَ -وَلَيسَ عُمُومُ الحَدِيثِ! -، فَقَدْ قَالَ رحمه الله فِي فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ-شَرِيطِ (487) سُؤَال رَقَم (5):"سُئِلَ عليه الصلاة والسلام كَمَا وَرَدَ فِي ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ -يَبْدُو ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- لَكِنَّ رِوَايَتَينِ اثْنَتَينِ مِنْهَا ثَابِتَتَانِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الحَدِيثِ؛ وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ فِيهَا ضَعْفٌ، الرِّوَايَةُ الأُولَى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَنْ هَؤُلَاءِ الغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «نَاسٌ صَالِحُونَ بَينَ نَاسٍ كَثِيرِينَ؛ مَنْ يَعْصِيهِم أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُم»، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ -وَهِيَ أَيضًا صَحِيحَةٌ كَالأُولَى- «الغُرَبَاءُ هُمُ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي مِنْ بَعْدِي» ".

وَبِمِثْلِ مَا بَيَّنَّا قَالَ شَيخُنَا عَبْدُ القَادِرِ الأَرْنَاؤُوط رحمه الله فِي تَحْقِيقِ جَامِعِ الأُصُولِ (9/ 341) حَيثُ قَالَ: "وَفِي سَنَدِهِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ المُزَنِيُّ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلِأَوَّلِهِ وَآخِرِهِ شَوَاهِدُ".

لِذَلِكَ مَن نَقَلَ عَنِ الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله تَضْعِيفَهُ لِعُمُومِ الحَدِيثِ فِي السُّنَنِ وَغَيرِهَا فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَيهِ! لِأَنَّ الشَّيخَ رحمه الله إِنَّمَا أَرَادَ بِالتَّضْعِيفِ السَّنَدَ -كَمَا هُوَ المَعْرُوفُ مِنْهُ فِي تَحْقِيقِهِ لِلسُّنَنِ- وَلَيسَ كُلَّ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ السَّابِقِ!!

ص: 88

3 -

حِفْظُ الشَّرِيعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ مِنَ التَّحْرِيفِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «يَحْمِلُ هَذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغَالِينَ، وَانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وَتَاوِيلَ الجَاهِلِينَ»

(1)

.

-‌

‌ تَعْرِيفُ البِدْعَةِ:

لُغَةً: أَصْلُ مَادَّةِ (بَدَعَ): الاخْتِرَاعُ عَلَى غَيرِ مِثَالٍ سَابِقٍ

(2)

.

وَمِنْهُ قَولُ اللهِ تَعَالَى {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البَقَرَة: 117] أَي: مُخْتَرِعُهُمَا مِنْ غَيرِ مِثَالٍ سَابِقٍ مُتَقَدِّمٍ.

وَقَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأَحْقَاف: 9] أَي: مَا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللهِ إِلَى العِبَادِ! بَلْ تَقَدَّمَنِي كَثِيرٌ مِنَ الرُّسُلِ.

وَيُقَالُ: ابْتَدَعَ فَلَانٌ (بِدْعَةً) يَعْنِي ابْتَدَأَ طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيهَا سَابِقٌ، وَهَذَا أَمْرٌ (بَدِيعٌ) يُقَالُ فِي الشَّيءِ المُسْتَحْسَنِ الَّذِي لَا مِثَالَ لَهُ فِي الحُسْنِ؛ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ.

وَأَمَّا شَرْعًا: فَهِيَ " طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيهَا المُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ للهِ سُبْحَانَهُ".

(1)

صَحِيحٌ. البَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (20911) عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ العُذْرِيِّ مَرْفُوعًا. تَحْقِيقُ المِشْكَاةِ لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله (248).

(2)

قَالَ فِي كِتَابِ (لِسَانُ العَرَبِ)(8/ 6): "بَدَعَ الشَّيءَ يَبْدَعُهُ بَدْعًا؛ وَابْتَدَعَهُ: أَنْشَأَهُ وَبَدَأَهُ".

ص: 89

-‌

‌ وَصْفُ البِدْعَةِ:

1 -

طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ؛ فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مَا فُعِلَ دُونَ التِزَامٍ؛ فيَكُونُ مُخَالَفَةً لِلسُّنَّةِ وَلَا يَكُونُ بِدْعَةً

(1)

.

2 -

أَنَّهَا فِي الدِّينِ، فَخَرَجَتْ بِذَلِكَ أُمُورُ الدُّنْيَا وَمُحْدَثَاتُهَا.

3 -

أَنَّهَا مُخْتَرَعَةٌ خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ.

4 -

أَنَّهَا تُضَاهِي الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ، فَهِيَ تُشَابِهُ الشَّرْعِيَّةَ وَلَكِنَّهَا تَخْتَلِفُ عَنْهَا فِي الحَقِيقَةِ.

5 -

مَقْصُودُهَا المُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ، وَلَيسَ مَا دَفَعَتِ الحَاجَةُ أَوِ المَصْلَحَةُ إِلَيهَا

(2)

.

- البِدْعَةُ التَّرْكِيَّةُ:

هِيَ تَرْكُ مَا أَحَلَّ اللهُ تَدَيُّنًا مِنْ غَيرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ

(3)

.

(1)

انْظُرْ شَرْحَ الشَّيخِ صَالِح آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى الأَرْبَعِين -شَرْحُ الحَدِيثِ الخَامِسِ-

(ص: 128).

قُلْتُ: وَكَذَا لَو أَنَّ أَحَدَ المَنْسُوبِينَ إِلَى السُّنَّةِ وَالعِلْمِ أَدَّاهُ عِلْمُهُ أَو خَطَؤُهُ إِلَى بِدْعَةٍ أَو بِدْعَتَينِ أَو ثَلَاثَةٍ -ضمن جُمْلَةِ اتِّبَاعِهِ لِلسُّنَّةِ-؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْدُّ مُبْتَدِعًا! إِذْ لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ وَصْفِ (الابْتِدَاعِ) بِعُمُومِهِ عَلَى المُتَّبِعِ لِلسُّنَّةِ فِي عُمُومِهِ! وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي السِّيَر (14/ 376): "وَلَو أَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ -مَعَ صِحَّةِ إِيمَانِهِ، وَتَوَخِّيهِ لاتِّبَاعِ الحَقِّ- أَهْدَرْنَاهُ وَبَدَّعنَاهُ! لَقَلَّ مَنْ يَسلَمُ مِنَ الأَئِمَّةِ مَعَنَا، رَحِمَ اللهُ الجَمِيعَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ".

(2)

كَمَا سَبَقَ فِي الكَلَامِ عَنِ المَصْلَحَةِ المُرْسَلَةِ، وَفِي الجَوَابِ عَلَى بَعْضِ الشُّبُهَاتِ الآتِيَةِ مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللهُ.

(3)

وَالعُذْرُ الشَّرْعِيُّ: هُوَ كَأَنْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ فِي دُنْيَاه، أَو فِي دِينِهِ كَأَكْلِ البَصَلِ وَالثُّومِ لِمَنْ يَاتِي المَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ.

ص: 90

كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: بَينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ؛ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَومَهُ»

(1)

.

قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رحمه الله: " وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِكَفَّارَةٍ، وَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً، وَيَتْرُكَ مَا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً"

(2)

.

قُلْتُ: وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أَئِمَّةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَعُدُّونَ الابْتِدَاعَ مَعْصِيَةً.

(1)

البُخَارِيُّ (6704).

(2)

المُوَطَّأُ للإِمَامِ مَالِكٌ (2/ 475).

ص: 91

-‌

‌ الأَدِلَّةُ مِنَ النَّظَرِ عَلَى ذَمِّ البِدَعِ:

1 -

أَنَّ العَقْلَ لَا يُدْرِكُ مَصْلَحَتَهُ الدُّنْيَوِيَّةَ مُسْتَقِلًّا

(1)

؛ فَمِنْ بَابِ أَولَى أَنْ لَا يُدْرِكَ مَصْلَحَتَهُ الأُخْرَوِيَّةَ مُسْتَقِلًّا؛ وَالَّتِي مَرْجِعُهَا إِلَى الوَحْي أَصْلًا.

2 -

أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ كَامِلَةً لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ، قَالَ تَعَالَى:{اليَومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكَمُ الإِسْلَامَ دِينًا}

[المَائِدَة: 3].

3 -

أَنَّ المُبْتَدِعَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ؛ حَيثُ زَعَمَ أَنَّ هُنَاكَ طُرُقًا أُخْرَى إِلَى اللهِ غَيرَ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ!

4 -

أَنَّ المُبْتَدِعَ قَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ مُضَاهِيًا لِلشَّارِعِ؛ حَيثُ شَرَعَ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللهُ تَعَالَى!

وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يُوسُف: 40]، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللهُ} [الشُّورَى: 21].

5 -

أَنَّ المُبْتَدِعَ مُتَّبِعٌ لِلهَوَى؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الهُدَى، وَقَدْ حَصَرَ اللهُ الإِتِّبَاعَ بَينَ أَمْرَينِ هُمَا: هُدًى مِنَ اللهِ، أَو هَوًى مِنَ العَبْدِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَومَ الظَّالِمِينَ} [القَصَص: 50]، وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى} [فُصِّلَت: 17].

(1)

حَيثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الاعْتِمَادِ عَلَى خِبْرَاتِ وَتَجَارُبِ مَنْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيهِ سِنًّا وَعِلْمًا -وَلَو فِي مَجَالٍ دُونَ مَجَالٍ-، كَمَا قَالَ عز وجل:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النَّحْل: 78].

ص: 92

-‌

‌ الأَدِلَّةُ مِنَ النَّقْلِ (الشَّرْعِ) عَلَى ذَمِّ البِدَعِ:

1 -

مِنَ القُرْآنِ، نَذْكُرُ بَعْضَهَا؛ مِنْهَا:

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتقِيمًا فاتَّبِعُوهُ وَلَاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلَّكُمْ تتَّقُونَ} [الأَنْعَام: 153].

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا؛ قَالَ: " خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومًا خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيطَانٌ يَدْعُو إِلَيهِ»، ثُمَّ تَلَا: {وأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتقِيمًا فاتَّبِعُوهُ وَلَاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلَّكُمْ تتَّقُونَ} [الأَنْعَام: 153] "

(1)

.

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إلىَ اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يفْعَلُونَ} [الأَنْعَام: 159].

2 -

مِنَ الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، نَذْكُرُ جُمْلَةً مِنْهُ:

- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَرْفُوعًا «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» .

مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

.

- عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَطَبَ يَقُولُ: «أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ خَيرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيرَ الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(1)

صَحِيحٌ. الدَّارِمِيُّ (208). ظِلَالُ الجَنَّةِ (16).

قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (12/ 229): "قَالَ مُجَاهِدُ: {ولَا تتَّبعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبُيلِهِ} قَالَ: البِدَعُ وَالشُّبُهَاتُ".

(2)

البُخَارِيُّ (2697)، وَمُسْلِمٌ (1718).

(3)

مُسْلِمٌ (867).

ص: 93

- عَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَومٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَينَا فَوَعَظَنَا مَوعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوعِظَةُ مُوَدِّعٍ؛ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَينَا؟ فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

.

- عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُم بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُم وَلَا آبَاؤُكُم؛ فَإِيَّاكُم وَإِيَّاهُم» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

وَفِي رِوَايَةٍ «يَكُونُ في آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَاتُونَكُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ؛ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ؛ لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ»

(3)

.

- عَنْ حُذَيفَةَ بْنِ اليَمَانِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَيرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الخَيرِ؛ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ» . قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَومٌ يَهْدُونَ بِغَيرِ هَدْيِي؛ تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ» ، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيهَا قَذَفُوهُ فِيهَا» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ:«هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» ، قُلْتُ: فَمَا تَامُرُنِي إِنْ

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2676). صَحِيحُ الجَامِعِ (2549).

(2)

مُسْلِمٌ (6).

(3)

مُسْلِمٌ (7).

ص: 94

أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَو أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» رَوَاهُ البُخَاريُّ

(1)

(2)

.

وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنْ لَمْ تَرَ خَلِيفَةً؛ فَاهْرُبْ فِي الأَرْضِ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوتُ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلِ

(3)

شَجَرَةٍ»

(4)

.

3 -

الأَدِلَّةُ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَة والتَّابِعِينَ، نَذْكُرُ بَعْضًا مِنْهَا:

أ- قَالَ ابْنُ مَسْعُود رضي الله عنه: " اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا؛ فَقَدْ كُفِيتُمْ"

(5)

.

(1)

البُخَارِيُّ (7084).

(2)

قَالَ الَحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "قَالَ ابْنُ بَطَّال: «مُرَادُ البَابِ الحَضُّ عَلَى الاعْتِصَامِ بِالجَمَاعَةِ،

وَالمُرَادُ بِالجَمَاعَةِ أَهْلُ الحَلِّ وَالعَقْدِ مِنْ كُلِّ عَصْرٍ.

وَقَالَ الكِرْمَانِيُّ: مَقْتَضَى الأَمْرِ بِلُزُومِ الجَمَاعَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ المُكَلَّفَ المُتَابَعَةُ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيهِ المُجْتَهِدُونَ، وَهُمُ المُرَادُ بِقَولِهِ: وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ". فَتْحُ البَارِي (13/ 316).

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ (4/ 37): "وَتَفْسِيرُ الجَمَاعَةِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ هُمْ: أَهْلُ الفِقْهِ وَالعِلْمِ وَالحَدِيثِ".

وَقَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله في صَحِيحِهِ (6/ 21): "بَابُ قَولِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِ الجَمَاعَةِ؛ وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ".

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله (9/ 101): "بَابُ قَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ يُقَاتِلُونَ»؛ وَهُمْ أَهْلُ العِلْمِ".

وَبَوَّبَ النَّوَويُّ رحمه الله فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (9/ 101): "بَابُ وُجُوبِ مُلَازَمَةِ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ عِنْدَ ظُهُورِ الفِتَنِ، وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَتَحْرِيمِ الخُرُوجِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَمُفَارَقَةِ الجَمَاعَةِ".

(3)

«عَلَى جِذْلٍ: أَصْلِ شَجَرٍ» . عَونُ المَعْبُودُ (11/ 213).

(4)

رَوَاهُ أَبْو دَاود الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ (444). الصَّحِيحَةُ (2739).

(5)

قَالَ العَجْلُونِيُّ رحمه الله: "رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ (211)، وَقَالَ النَّجْمُ: سَنَدُهُ صَحِيحٌ". كَشْفُ الخَفَاءِ (1/ 44).

قُلْتُ: وَالنَّجْمُ هَذَا هُوَ نَجْمُ الدِّينِ الغَزِّيِّ فِي كِتَابِهِ المُسَمَّى (إِتْقَانُ مَا يَحْسُنُ مِنَ الأَخْبَارِ الدَّائِرَةِ عَلَى الأَلْسُنِ). كَمَا بَيَّنَهُ العَجْلُونِيُّ نَفْسُهُ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ (1/ 9).

ص: 95

ب- عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: " إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا المَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا القُرْآنُ حَتَّى يَاخُذَهُ المُؤْمِنُ وَالمُنَافِقُ وَالرَّجُلُ وَالمَرْأَةُ وَالصَّغِيرُ وَالكَبِيرُ وَالعَبْدُ وَالحُرُّ! فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَاتُ القُرْآنَ؟! مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيرَهُ! فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ؛ فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ"

(1)

.

ج- عَنْ أَبِي إِدْرِيسٍ الخَولَانِيِّ

(2)

أَنَّهُ قَالَ: " لَأَنْ أَرَى فِي جَانِبِ المَسْجِدِ نَارًا لَا أَسْتَطِيعُ إِطْفَاءَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِيهِ بِدْعَةً لَا أَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا"

(3)

.

-‌

‌ جُمْلَةٌ مِنَ أَوجُهِ ذَمِّ المُبْتَدِعِ وَبَيَانِ عُقُوبَتِهِ:

1 -

حَجْبُ التَّوبَةِ عَنْهُ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ «إِنَّ اللهَ حَجَبَ التَّوبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَتَهُ»

(4)

، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الغَالِبِ حَيثُ إِنَّهُ يُصِرُّ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَقَلَّمَا يَرْجِعُ.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: " وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ -مِنْهُمْ الثَّورِيُّ-: البِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ المَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ المَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا وَالبِدْعَةُ لَا يُتَابُ مِنْهَا. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوبَةَ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ. بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتُوبُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى! وَلَو تَابَ؛

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4611) عَنْهُ مَوقُوفًا. صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4611).

(2)

مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّابِعِينَ (ت 80 هـ). (طَبَقَاتُ الحُفَّاظِ) لِلسُّيُوطِيِّ (ص: 26).

(3)

كِتَابُ السُّنَّةِ لِلمَرْوَزِيِّ (35).

(4)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ (4202) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (54).

ص: 96

لَتَابَ عَلَيهِ -كَمَا يَتُوبُ عَلَى الكَافِرِ"

(1)

.

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: " هُوَ إِبَاءٌ كَونِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ"

(2)

.

وَأَخْرَجَ اللَّالكَائِيُّ رحمه الله فِي عَقِيدَتِهِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِأَيُّوبَ (السِّخْتِيَانِيِّ):

"يَا أَبَا بَكْرٍ؛ إِنَّ عَمْرو بْنَ عُبَيدٍ [المُعْتَزِلِيَ] قَدْ رَجَعَ عَنْ رَايِهِ. قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ. قَالَ: بَلَى يَا أَبَا بَكْرٍ؛ إِنَّهُ قَدْ رَجَعَ. قَالَ أَيُّوبُ: إِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ! أَمَا سَمِعْتَ إِلَى قَولِهِ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ» "

(3)

.

2 -

الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا، وَالغَضَبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى.

لِقَولِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالهُمْ غَضَبٌ مِن رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ} [الأَعْرَاف: 152] وَالمُبْتَدِعُ مُفْتَرٍ عَلَى اللهِ عز وجل.

3 -

البُعْدُ عَنْ حَوضِهِ الشَّرِيفُ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إِنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ: هَلُمَّ عَنِ النَّارِ؛ وَأَنْتُمْ تَهَافَتُونَ فِيهَا، أَو تَقَاحَمُونَ فِيهَا تَقَاحُمَ الفَرَاشِ فِي النَّارِ، وَالجَنَادِبِ -يَعْنِي: فِي النَّارِ- وَأَنَا مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ! وَأَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الحَوضِ، فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا، فَأَعْرِفُكُمْ بِسِيمَاكُمْ وَأَسْمَائِكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الفَرَسَ-وَقَالَ غَيرُهُ: كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الغَرِيبَةَ مِنَ الإِبِلِ فِي إِبِلِهِ-؛ فَيُؤْخَذُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: إِلَيَّ،

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (11/ 684).

(2)

انْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش 704).

(3)

(اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ)(ص: 160).

وَالحَدِيثُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (7562) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه مَرْفُوعًا.

وَ (الفُوقَةُ): «مَوضِعُ الوَتَرِ مِنَ السَّهْمِ» . فَتْحُ البَارِي (12/ 290).

ص: 97

يَا رَبُّ؛ أُمَّتِي أُمَّتِي! فَيَقُولُ أَو يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ؛ إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، كَانُوا يَمْشُونَ بَعْدَكَ القَهْقَرَى! فَلَا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَاتِي يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ؛ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ! فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيئًا؛ قَدْ بَلَّغْتُ. وَلَا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَاتِي يَومَ القِيَامَةِ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ فَيُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ! فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيئًا؛ قَدْ بَلَّغْتُ. وَلَا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَاتِي يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُ قَشْعًا؛ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ! فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيئًا؛ قَدْ بَلَّغْتُ»

(1)

.

4 -

الخَوفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا.

كَبِدْعَةِ القَدَرِيَّةِ، وَالخَوَارِجِ، وَالبَاطِنِيَّةِ، وَالجَهْمِيَّةِ، وَالرَّافِضَةِ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأَنْعَام: 159].

(1)

صَحِيحٌ. البَزَّارُ (4/ 314). الصَّحِيحَةُ (2865).

وَ «القِشَعُ: الجُلُودُ اليَابِسَةُ» . (الصِّحَاحُ) لِلْجَوهَرِيِّ (3/ 1265).

ص: 98

-‌

‌ تَاصِيلٌ:

قَبْلَ الخَوضِ فِي الجَوَابِ عَنْ بَعْضِ الشُّبَهِ فِي هَذَا البَابِ لَا بُدَّ مِنْ تَاصِيلٍ مُهِمٍ هُنَا وَهُوَ أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ وُجُودِ بَعْضِ الأَدِلَّةِ وَالشُّبَهِ الَّتِي لَمْ يُمْكِنِ الجَوَابُ عَنْهَا؛ أَو لَمْ يُدْرَكْ جَوَابُهَا -وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَا مُسْتَدِلٌّ عَلَى جَوَازِ الابْتِدَاعِ-؛ فَمِثْلُ هَذِهِ الأَدِلَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ بِهَا دِلَالَةُ النُّصُوصِ العَامَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ قُرْآنِ وَسُنَّةٍ نَبَوِيَّةٍ! بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّوفِيقِ مَعَهَا مَا أَمْكَنَ ذَلِكَ؛ وَلَا نَضْرِبُ النُّصُوصَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ!

بَلْ لَو قُدِّرَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ العَامَّةَ أَقْوَى فِي التَّرْجِيحِ لِأَنَّهَا إِمَّا قُرْآنٌ كَرِيمٌ، أَو سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ ثَابِتَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ أَو مَشْهُورَةٌ، وَفِي أَشْهَرِ كُتُبِ السُّنَّةِ، وَدِلَالَتُهَا أَقْوَى مِنْ حَيثُ العُمُومِ، كَخُطَبِ الحَاجَةِ الَّتِي يَكْثُرُ تِكْرَارُهَا دُونَ تَخْصِيصٍ مِنَ الشَّارِعِ، وَأَقْوَى أَيضًا مِنْ جِهَةِ الدِّلَالَةِ وَالتَّصْرِيحِ؛ كَالنُّصُوصِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى المَنْهَجِ السُّنِّيِّ بِعَامَّةٍ، وَأَيضًا النُّصُوصِ الَّتِي تُبَيِّنُ الخُرُوجَ مِنَ الخِلَافِ وَالفِتَنِ.

لِذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَوقِفُنَا ابْتِدَاءً هُوَ مُحَاوَلَةُ تَوفِيقِ الدَّلِيلِ -مَوضِعِ الاشْتِبَاهِ- مَعَ النُّصُوصِ العَامَّةِ؛ بِحَيثُ يُحْمَلُ عَلَى مَحْمَلٍ لَا يُصَادِمُ بِهِ عَامَّةَ النُّصُوصِ الأَصْلِ فِي هَذَا البَابِ! فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ؛ فَيُسْكَتُ عَنْهُ وَيُتَوَقَّفُ فِيهِ

(1)

وَيُوكَلُ الأَمْرُ إِلَى عَالِمِهِ مِصْدَاقَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يُوسُف: 76].

(1)

أَي: بِخُصُوصِ هَذَا الوَجْهِ مِنَ الاسْتِدْلَالِ، وَلَيسَ إِبْطَالَ مَعْنَى الحَدِيثِ مُطْلَقًا! وَلَا يَخْفَى أَنَّ الدَّلِيلَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جِهَتَينِ: مُبَاشِرَةٍ؛ وَهِيَ دِلَالَةُ النَّصِّ بِالمُطَابَقَةِ، وَجِهَةٍ غَيرِ مُبَاشِرَةٍ: وَهِيَ بِالتَّضَمُّنِ وَاللُّزُومِ مِنْ مَفْهُومِ الحَدِيثِ.

ص: 99

وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَجْعَلَ جَهْلَنَا بِتَوجِيهِهِ دَلِيلًا عَلَى نَقْضِ الأُصُولِ! بَلْ نَرُدُّ المُتَشَابِهَ إِلَى المُحْكَمِ

(1)

، وَإِلَّا كُنَّا كَمَنْ يَبْنِي قَصْرًا فَيَهْدِمُ مِصْرًا! وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا البَابَ إِذَا فُتِحَ فَلَيسَ لَهُ ضَوَابِطُ تَحْصُرُهُ! لِأَنَّ مَجَالَ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ العَقْلِيَّينِ مَنُوطٌ بِالعَقْلِ؛ وَالعَقْلُ غَيرُ مَحْصُورٍ فِي شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، وَلَا بِعَالِمٍ دُونَ عَالِمٍ، وَلَا بِمِلَّةٍ دُونَ مِلَّةٍ! وَمُحَصَّلُ ذَلِكَ ضَيَاعُ الدِّينِ مُطْلَقًا، وَأَيضًا ضَيَاعُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَذَلِكَ لِعَدِم الاهْتِمَامِ بِحِفْظِهَا وَالدِّفَاعِ عَنْهَا؛ حَيثُ جُعِلَتِ الشَّرِيعَةُ غَيرَ مَحْصُورَةٍ بِهَا أَصْلًا! بَلْ يُقَالُ: لِكُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ دِينُ يُلَائِمُهُ! وَيَحْصُلُ فِينَا كَمَا حَصَلَ مَعَ الأُمَمِ المَاضِيَةِ مِنَ التَّفَرُّقِ فِي دِينِهَا.

وَرَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الصَّحَابِيِّ الجَلِيلِ حُذَيفَةَ -عِنْدَمَا كَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ- فَأَفْزَعَهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي القِرَاءَةِ؛ فَقَالَ حُذَيفَةُ لِعُثْمَانَ: " يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؛ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلَافَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى"

(2)

.

ص: 100

- أَمْثِلَةٌ عَلَى هَذَا التَّاصِيلِ:

1 -

مِنْ جِهَةِ دِلَالَةِ القُرْآنِ:

- قَولُهُ تَعَالَى فِي نِسْبَةِ الابْتِدَاعِ إِلَى أَهْلِ الكِتَابِ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحَدِيد: 27].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَولُهُ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أَي ابْتَدَعَتْهَا أُمَّةُ النَّصَارَى، {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيهِمْ} أَي: مَا شَرَعْنَاهَا لَهُم؛ وَإِنَّمَا هُم التَزَمُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِم)

(1)

.

- قَولُهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ تَمَامِ الدِّينِ: {اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المَائِدَة: 3].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " فَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ، وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ"

(2)

.

- قَولُهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللهُ}

[الشُّورَى: 21].

قَالَ الطَّبَرِيُّ رحمه الله: " يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَمْ لِهَؤُلْاَءِ المُشْرِكِينَ بِاللهِ شُرَكَاءُ فِي شِرْكِهِم وَضَلَالَتِهِم {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللهُ} يَقُولُ: ابْتَدَعُوا لَهُم مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يُبِحِ اللهُ لَهُم ابْتِدَاعَهُ"

(3)

.

قَولُهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ}

[المَائِدَة: 2].

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (8/ 29).

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (3/ 26).

(3)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (21/ 522).

ص: 101

قَالَ البَغَوِيُّ وَالخَازِنُ رَحِمَهُمَا اللهُ فِي تَفْسِيرَيهِمَا: " {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالعُدْوَانِ} قِيلَ: الإِثْمُ: الكُفْرُ، وَالعُدْوَانُ: الظُّلْمُ، وَقِيلَ: الإِثْمُ: المَعْصِيَةُ، وَالعُدْوَانُ: البِدْعَةُ"

(1)

.

- قَولُهُ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأَعْرَاف: 3].

قَالَ الخَازِنُ رحمه الله: " وَالمَعْنَى: وَلَا تَتَوَلَّوا مِنْ دُونِهِ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ، فَيَامُرُوكُم بِعِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَاتِّباعِ البِدَعِ وَالأَهْوَاءِ الفَاسِدَةِ"

(2)

.

2 -

مِنْ جِهَةِ دِلَالَةِ السُّنَّةِ:

- كَالحَدِيثِ الخَامِسِ مِنَ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَين مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ أحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيسَ منهُ فَهُوَ رَدٌّ» ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَقَدْ سَبَقَ

(3)

.

- وَكَحَدِيثِ العِرْبَاضِ مَرْفُوعًا «فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ»

(4)

.

- وَكَحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ العَاصِ مَرْفُوعًا «وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً؛ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» ، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيهِ وَأَصْحَابِي»

(5)

.

(1)

تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (2/ 9)، تَفْسِيرُ الخَازِنِ (2/ 7).

(2)

تَفْسِيرُ الخَازِنِ (2/ 181).

(3)

مُسْلِمٌ (1718).

(4)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2676). صَحِيحُ الجَامِعِ (2549).

(5)

حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (2641). صَحِيحُ الجَامِعِ (9474).

ص: 102

- وَكَحَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «تَرَكْتُ فيكُمْ شَيئَينِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتابَ اللهِ وسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ»

(1)

.

- وَكَحَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَابَى؟ قَالَ:«مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

- وَكَحَدِيثِ الذَّودِ عَنِ الحَوضِ، وَقَدْ سَبَقَ.

3 -

مِنْ جِهَةِ دِلَالَةِ النُّصُوصِ الَّتِي تُبَيِّنُ الخُرُوجَ مِنَ الخِلَافِ وَالفِتَنِ:

- كَمَا فِي الحَدِيثِ «يُوشِكُ أَنْ يَاتِيَ زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا» وَشَبَّكَ بَينَ أَصَابِعِهِ. فَقَالُوا: وَكَيفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «تَاخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ، وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ، وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ»

(3)

.

- وَكَحَدِيثِ حُذَيفَةَ فِي الخَيرِ وَالشَّرِّ وَالتَّمَسُّكِ بِجَمَاعَةِ المُؤْمِنِينَ وَإِمَامِهِم الَّذِي فِيهِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: «تَعْرِفُ مِنْهُم وَتُنْكِرُ» ، وَقَدْ سَبَقَ.

(1)

صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (319). صَحِيحُ الجَامِعِ (2937). وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ (3786) عَنْ جَابِرٍ عِوَضَ «وسُنَّتِي» : «وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيتِي» . الصَّحِيحَةُ (1761).

(2)

البُخَارِيُّ (7280).

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4342) عَنِ ابْنِ عمرو مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2744).

ص: 103

- جُمْلَةٌ مِنَ الشُّبَهِ وَجَوَابُهَا:

‌الشُّبْهَةُ الأُولَى:

قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ في الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيءٌ»

(1)

؛ فِيهِ دليلٌ عَلَى جَوَازِ الابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ!

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِيمَنْ أَنْشَأَ بِدْعَةً ابْتِدَاءً قَولُهُ: «مَنْ سَنَّ» حَيثُ نَسَبَ الاسْتِنَانَ إِلَى المُكَلَّفِ دُونَ الشَّارِعِ، وَلَو كَانَ المُرَادُ (مَنْ عَمِلَ سُنّةً ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ) لَمَا قَالَ:«مَنْ سَنَّ» ! فَالمَعْنَى إِذَن: (مَنِ اخْتَرَعَهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ) لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةً؛ فَلَهُ مِنَ الأَجْرِ مَا ذُكِرَ!

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

قَولُهُ: «مَنْ سَنَّ في الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً» لَيسَ المُرَادُ بِهِ الاخْتِرَاعَ! وَإِنَّمَا المُرَادُ بِهِ إِحْيَاءُ العَمَلِ مِمَّا غُفِلَ عَنْهُ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي جَاءَ لِأَجْلِهِ الحَدِيثُ هُوَ الصَّدَقَةُ المَسْنُونَةُ، وَأَنَّ فِعْلَ الرَّجُلِ -المَوصُوفِ فِي الحَدِيثِ- كَانَ إِحْيَاءَ سُّنَّةٍ نَبَوِيَّةٍ غَفَلَ عَنْهَا الحَاضِرُونَ -كَمَا سَتَجِدُهُ فِي لَفْظِ الحَدِيثِ نَفْسِهِ-، وَأَنَّ الحَدِيثَ لَيسَ فِيهِ عَمَلٌ جَدِيدٌ مُحْدَثٌ فِي الشَّرْعِ! لَكِنَّهُ مُحْدَثٌ بِاعْتِبَارِ تَنَبُّهِ النَّاسِ إِلَيهِ، وَأَنَّهُ أَحْيَا سُّنَّةً غَفَلَ عَنْهَا النَّاسُ حِينَهَا.

وَتَأَمَّلِ الحَدِيثَ الآخَرَ «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ؛ كانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يُنْقَصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيءٌ، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَعُمِلَ بِهَا؛ كانَ عَلَيهِ مِثْلُ أَوزَارِ مَنْ عَمِلَ بهَا لَا يُنْقَصُ مِنْ أَوزَارِهِمْ شَيءٌ»

(2)

.

(1)

مُسْلِمٌ (1017).

(2)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (209) تَحْتَ بَابِ (مَنْ أَحْيَا سُنَّةً قَدْ أُمِيتَتْ) عَنْ عَمْرو بْنِ عَوفٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ ابْنِ مَاجَه (174).

ص: 104

وَالحَدِيثُ -مَوضُوعُ البَحْثِ- بِتَمَامِ أَلْفَاظِهِ هُوَ كَالآتِي:

عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه؛ قَالَ: " كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَهُ أَقْوَامٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، (وَلَيسَ عَلَيهِم أُزُرٌ وَلَا شَيءٌ غَيرُهَا) عَامَّتُهُم مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُم مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ (وَفِي رِوَايَةٍ: فَتَغَيَّرَ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ) وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِم مِنَ الفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَصَلَّى (الظُّهْرَ، ثُمَّ صَعِدَ مِنْبَرًا صَغِيرًا)، ثُمَّ خَطَبَ (فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيهِ) فَقَالَ:«أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيبًا} [النِّسَاء: 1]، وَالآيَةَ الَّتِي فِي الحَشْرِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} [الحَشْر: 18 - 20]، تَصَدَّقُوا قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَينَكُم وَبَينَ الصَّدَقَةِ، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، (مِنْ شَعْيرِهِ)، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ» ، حَتَّى قَالَ:«وَلَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُم شَيئًا مِنَ الصَّدَقَةِ، وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَأَبْطَأُوا حَتَّى بَانَ فِي وَجْهِهِ الغَضَبُ» ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرِقٍ (وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ ذَهَبٍ) كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجَزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ (فَنَاوَلَهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِهِ)، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)، (فَقَبَضَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، (قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَى، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ فَأَعْطَى، ثُمَّ قَامَ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فَأَعْطَوا)، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ

ص: 105

(فِي الصَّدَقَاتِ)، (فَمِنْ ذِي دِينَارٍ، وَمِنْ ذِي دِرْهَمٍ، وَمِنْ ذِي، وَمِنْ ذِي) حَتَّى رَأَيتُ كَومَينِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنَّ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِم شَيءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً فِي الإِسْلَامِ سَيِّئَةً كَانَ عَلَيهِ وِزْرُهَا، وَمِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوزَارِهِم شَيءٌ» ، (ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} )، (قَالَ: فَقَسَمَهُ بَينَهُم) "

(1)

.

قُلْتُ: قَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمُ رحمه الله هَذَا الحَدِيثَ فِي صَحِيحِهِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ

بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ دَعَا إِلَى هُدَى؛ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيئًا. وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ؛ كَانَ عَلَيهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيئًا»

(2)

مِمَّا يُصَحِّحُ الوَجْهَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الحَدِيثِ.

2 -

أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الحَدِيثِ عَلَى الاخْتِرَاعِ؛ لَأَنَّهُ يُصْبِحُ بِذَلِكَ مُعَارِضًا لِلعُمُومَاتِ الكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ قَوَاعِدُ الدِّينِ؛ وَالتِي كَانَ يُحَافِظُ عَلَيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي خُطَبِهِ، كَمِثْلِ حَدِيثِ «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ، وَحَدِيثِ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا» وَقَدْ سَبَقَتْ، فَالأَصْلُ حَمْلُ النُّصُوصِ المُتَشَابِهَةِ عَلَى المُحْكَمَةِ، وَالتَّوفِيقُ بَينَهَا مَا أَمْكَنَ، وَلَيسَ رَدَّ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ!

3 -

أَيضًا يُقَالُ: لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الحَدِيثِ عَلَى الاخْتِرَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلعَقْلِ

(1)

وَالزِّيَادَاتُ بَينَ الأَقْوَاسِ أَفَادَهَا الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله كَمَا فِي كِتَابِهِ (أَحْكامُ الجَنَائِزِ)

(ص: 177)، وَذَكَرَ رحمه الله هُنَاكَ تَخْرِيجَ كَامِلِ أَلْفَاظِهَا، وَكُلُّهَا صَحِيحةٌ.

(2)

مُسْلِمٌ (2674).

ص: 106

فَالنَّاظِرُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ يَجِدُ كَثِيْرًا مِنَ النُّصُوصِ تَدُلُّ عَلَى ذَمِّ كَثِيْرٍ مِنَ المُبْتَدَعَاتِ رُغْمَ أَنَّ فَاعِلَهَا لَمْ يَرَ فِيْهَا بَأْسًا، بَلِ اسْتَحْسَنَهَا، وَظَنَّ نَفْسَهُ مَعَ السَّابِقِيْنَ فِي الخَيْرَاتِ!

ص: 107

وَهَاكَ بَعْضُ أَمْثِلَةٍ:

أ- حَدِيثُ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا؛ كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا. فَقَالُوا: وَأَينَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا؛ فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ؛ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيهِمْ، فَقَالَ:«أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ؛ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي»

(1)

.

ب- حَدِيثُ «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا -وَعَقَدَ تِسْعِينَ-»

(2)

.

ج- جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ عَنِ الوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ:«هَكَذَا الوُضُوءُ؛ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ»

(3)

.

د- عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ؛ قَالَ: " كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ صَلَاةِ الغَدَاةِ؛ فَإِذَا خَرَجَ مَشَينَا مَعَهُ إِلَى المَسْجِدِ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ؛

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5063)، وَمُسْلِمٌ (1401) مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه.

(2)

صَحِيحٌ. البَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (8477) عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3202).

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله:"وَلَيسَ مُرَادُهُ بِهَذَا مَنْ صَامَ الأَيَّامَ المُحَرَّمَةَ! فَإِنّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ: أَرَأَيت مَنْ صَامَ الدَّهْرَ؟ وَلَا يُقَالُ فِي جَوَابِ مَنْ فَعَلَ المُحَرّمَ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ! فَإِنَّ هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ سَوَاءٌ فِطْرُهُ وَصَومُهُ لَا يُثَابُ عَلَيهِ وَلَا يُعَاقَبُ، وَلَيسَ كَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ مِنَ الصِّيَامِ! فَلَيسَ هَذَا جَوَابًا مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ عَنِ المُحَرَّمِ مِنَ الصَّومِ". زَادُ المَعَادِ (2/ 26).

(3)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (140) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2980).

ص: 108

فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ؟ قُلْنَا: لَا، فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيهِ جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ إِنِّي رَأَيتُ فِي المَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ أَرَ -وَالحَمْدُ لِلَّهِ- إِلَّا خَيرًا، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ، رَأَيتُ فِي المَسْجِدِ قَومًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ -وَفِي أَيدِيهِمْ حَصىً-، فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً؛ فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً؛ فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً؛ فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً، قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ -أَوِ انْتِظَارَ أَمْرِكَ-. قَالَ: أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ! ثُمَّ مَضَى وَمَضَينَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الحِلَقِ فَوَقَفَ عَلَيهِمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الَّرحْمَنِ؛ حَصىً نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ؛ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيءٌ، وَيحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ؛ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ! هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ! وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِي أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ؛ أَو مُفْتَتِحُوا بَابِ ضَلَالَةٍ، قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا الخَيرَ! قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ حَدَّثَنَا أَنَّ قَومًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَايمُ اللهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ، ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ. فَقَالَ عَمْرُو ابْنُ سَلَمَةَ: رَأَينَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَومَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الخَوَارِجِ"

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. الدَّارِمِيُّ (210). الصَّحِيحَةُ (2005).

ص: 109

‌الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ:

إِنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم قَدْ عَمِلوا بِمَا لَمْ يَاتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ مِمَّا رَأَوهُ حَسَنًا وَأَجْمَعُوا عَلَيهِ -وَلَا تَجْتَمِعُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ-؛ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَمْعِ القُرْآنِ وَكَتْبِهِ فِي المَصَاحِفِ، وَعَلَى جَمْعِ النَّاسِ عَلَى المَصَاحِفِ العُثْمَانِيَّةِ أَيضًا، وَطَرْحِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ القِرَاءَاتِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ نَصٌّ! وَكَذَا جَمْعُ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم!

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

إِنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ المَصَالِحِ المُرْسَلَةِ

(1)

؛ لَا مِنْ قَبِيلِ البِدْعَةِ المُحْدَثَةِ! فَكُلُّ ذَلِكَ لَهُ أَصْلٌ يَشْهَدُ لَهُ فِي الجُمْلَةِ وَهُوَ:

- الأَمْرُ بِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ وَحِفْظِهَا،

- وَدَعَتْ إِلَيهِ الحَاجَةُ وَهِيَ: حِفْظُ القُرْآنِ مِنَ الاخْتِلَافِ فِيهِ،

- وَلَمْ يَكُنْ الدَّاعِي إِلَيهِ مَوجُودًا زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيثُ كَانَ الوَحْيُ مُتَجَدِّدًا لَمْ يَنْقَطِعْ بَعْدُ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَيهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ.

وَأَمَّا مَا سِوَى المُصْحَفِ مِنْ جَمْعِ الحَدِيثِ؛ فَالأَمْرُ فِيهِ أَسْهَلُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ كِتَابَةُ الحَدِيثِ، فَفِي الحَدِيثِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم:«اكْتُبوا لِأَبِي شَاه» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

، وَأَبُو شَاه: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ أَرَادَ أَنْ تُكْتَبَ لَهُ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَومَ فَتْحِ مَكَّةَ.

فَالكِتَابَةُ هَذِهِ هِيَ مِنْ قَبِيلِ القَاعِدَةِ المَشْهُورَةِ (مَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ؛ فَهُوَ وَاجِبٌ).

(1)

وَسَبَقَ الكَلَامُ عَلَيهَا فِي شَرْحِ الحَدِيثِ السَّابِقِ.

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2434)، وَمُسْلِمٌ (1355).

ص: 110

2 -

أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِم عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ هُوَ دَلِيلُ صِحَّتِهِ شَرْعًا؛ إِذْ إِنَّ الإِجْمَاعَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «إِنَّ اللهَ قَدْ أَجَارَ أُمَّتِي أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ»

(1)

، وَعَلَيهِ فَلَا يَصِحُّ الاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الوَاقِعَةِ عَلَى جَوَازِ الابْتِدَاعِ أَصْلًا!

قَالَ الإِمَامُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سُوِيدِ ابْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: لَا تَقُولُوا فِي عُثْمَانَ إِلَّا خَيرًا! فَوَاللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي المَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا؛ قَالَ

(2)

: (مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ القِرَاءَةِ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ قِرَاءَتِي خَيرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ! وَهَذَا يَكَادُ يَكُونُ كُفْرًا)، قُلْنَا: فَمَا تَرَى؟ قَالَ: (أَرَى أَنْ يُجْمَعَ النَّاسُ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا تَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ)، قُلْنَا: نِعْمَ مَا رَأَيتَ"

(3)

.

3 -

أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِالجَمْعِ هُوَ الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه -وَمِنْ ثُمَّ جَمْعُ عُثْمَانَ رضي الله عنه؛ وَأَمْرُهُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا لِكَونِهِ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَمَا فِي الحَدِيثِ «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ»

(4)

، فَهَذَا أَيضًا يُخْرِجُ هَذِهِ الوَاقِعَةَ مِنْ أَدِلَّةِ جَوَازِ الابْتِدَاعِ أَصْلًا.

قَالَ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَارِيِّ رحمه الله: " قَولُهُ: «فَعَلَيكُم بِسُنَّتِي» : اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى

(1)

حَسَنٌ. ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ (السُّنَّةُ)(82) عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1331).

(2)

أَي: عُثْمَانَ رضي الله عنه.

(3)

الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ (1/ 210).

(4)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2676). صَحِيحُ الجَامِعِ (2549).

ص: 111

الزَمُوا؛ أَي: بِطَرِيقَتِي الثَّابِتَةِ عَنِّي وَاجِبًا أَو مَنْدُوبًا، «وَسُنَّةَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ»: فَإِنَّهُم لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي، فَالإِضَافَةُ إِلَيهِم: إِمَّا لِعَمَلِهم بِهَا، أَو لِاسِتْنِبَاطِهِم وَاخْتِيَارِهِم إِيَّاهَا"

(1)

.

(1)

مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (1/ 252).

ص: 112

- فَائِدَةٌ:

قَالَ الإِمَامُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: " قَالَ ابْنُ التِّينِ وَغَيرُهُ: الفَرْقُ بَينَ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ وَجَمْعِ عُثْمَانَ؛ أَنَّ جَمْعَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ القُرْآنِ شَيءٌ بِذَهَابِ جُمْلَتِهِ، لْأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوضِعٍ وَاحِدٍ، فَجَمَعَهُ فِي صَحَائِفَ مُرَتِّبًا لِآيَاتِ سُوَرِهِ عَلَى مَا وَقَّفَهُمْ عَلَيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

وَجَمْعُ عُثْمَانَ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الَاخْتِلَافُ فِي وُجُوهِ القِرَاءَةِ حَتَّى قَرَؤُوهُ بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ؛ فَأَدَّى ذَلِكَ بَعْضَهُمِ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ! فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الأَمْرِ فِي ذَلِكَ؛ فَنَسَخَ تِلْكَ الصُّحُفَ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتِّبًا لِسُوَرِهِ، وَاقْتَصَرَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ عَلَى لُغَةِ قُرَيشٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ -وَإِنْ كَانَ قَدْ [وُسِّعَتْ قِرَاءَتُهُ] بِلُغَةِ غَيرِهِمْ رَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالمَشَقَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الأَمْرِ-، فَرَأَى أَنَّ الحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ قَدِ انْتَهَتْ؛ فَاقْتَصَرَ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ"

(1)

.

(1)

الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ (1/ 210).

ص: 113

‌الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ:

إِنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه جَمَعَ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ، وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ بقَولِهِ:(نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

! وَإِذَا ثَبَتَتْ بِدْعَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الشَّرْعِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الاسْتِحْسَانِ فِي البِدَعِ؛ فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه إِنَّمَا سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الحَالِ مِنْ حَيثُ تَرَكَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تَقَعْ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه؛ فَهِيَ بِدْعَةٌ لُغَوِيَّةٌ، بمَعْنَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَزَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه لَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ! وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الأَصْلِ صَلَّاهَا بِالنَّاسِ جَمَاعَةً فِي رَمَضَانَ؛ وَلَكِنَّهُ تَرَكَهَا لِعِلَّةٍ، وَهِيَ فِي قَولِهِ:«خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيكُم» ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَالَتْ عِلَّةُ التَّرْكِ؛ وَهِيَ حُصُولُ التَّشْرِيعِ بِوُجُوبِهَا

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ

(3)

: " وَقَولُهُ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أَي: خَالِقُهُمَا عَلَى غَيرِ مِثَالٍ سَبَقَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: وَهُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلشَّيءِ المُحْدَثِ: بِدْعَةٌ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ لِمُسْلِمِ «فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ".

وَالبِدْعَةُ عَلَى قِسْمَينِ: تَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً شَرْعِيَّةً، كَقَولِهِ: «فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،

(1)

البُخَارِيُّ (2010).

(2)

وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَيضًا أَحَدُ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ وَهُوَ "إِنْ كَانَتْ هَذِهِ بِدْعَةً؛ لَنَعِمَّتِ البِدْعَةُ".

رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ (كِتَابُ قِيَامِ رَمَضَانَ)(ص: 90).

(3)

تفْسِير ابْنُ كَثِيرٍ (1/ 398).

ص: 114

وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، وَتَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً لُغَوِيَّةً، كَقَولِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ جَمْعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ (نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ).

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الفَتْحِ (كِتَابِ الاعْتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ فِي العِلْمِ وَالغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالبِدَعِ): " وَأَمَّا البِدَعُ فَهُوَ جَمْعُ بِدْعَةٍ، وَهِيَ كُلُّ شَيءٍ لَيسَ لَهُ مِثَالٌ تَقَدَّمَ، فَيَشْمَلُ لُغَةً مَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ، وَيَخْتَصُّ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ بِمَا يُذَمُّ، وَإِنْ وَرَدَتْ فِي المَحْمُودِ فَعَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ"

(1)

.

2 -

أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِالجَمْعِ هُوَ الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ رضي الله عنه، وَأَمْرُهُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا لِكَونِهِ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -كَمَا سَبَقَ بَيَانُه-؛ فَهُمْ إِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِسُنَّتِهِ إِمَّا نَصًّا وَإِمَّا اسْتِنْبَاطًا

(2)

.

قَالَ أَبُو يُوسُفَ -تِلْمِيذُ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ-: " سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ التَّرَاوِيحِ وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ؟ فَقَالَ: التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَمْ يَتَخَرَّصْهُ عُمَرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ! وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبْتَدِعًا! وَلَمْ يَامُرْ بِهِ إِلَّا عَنْ أَصْلٍ لَدَيهِ وَعَهْدٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَقَدْ سَنَّ عُمَرُ هَذَا وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلَّاهَا جَمَاعَةً وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ؛ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالعَبَّاسُ وَابْنُهُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيرُ وَمُعَاذٌ وَأُبَيٌّ وَغَيرُهُمْ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَمَا رَدَّ عَلَيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمُ، بَلْ سَاعَدُوهُ وَوَافَقُوهُ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ. وَالسُنَّةُ إِقَامَتُهَا بِجَمَاعَةٍ لَكِنْ عَلَى الكِفَايَةِ"

(3)

.

(1)

فَتْحُ البَارِي (13/ 278).

(2)

وَسَبَقَ النَّقْلُ عَنِ المِرْقَاةِ فِي ذَلِكَ.

(3)

(مَرَاقِي الفَلَاحِ) لِلشُّرُنْبُلَالِي الحَنَفِيِّ (ص: 157).

ص: 115

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَبِكُلِّ حَالٍ؛ فَمَا جَمَعَ عُمَرُ عَلَيهِ الصَّحَابَةَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيهِ فِي عَصْرِهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الحَقُّ، وَلَو خَالَفَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ"

(1)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 125).

ص: 116

‌الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ:

قَولُهُ: عليه الصلاة والسلام: «مَا رَآهُ المُسْلِمُونَ حَسَنًا؛ فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ» وَالمَقْصُودُ بِذَلِكَ مَا رَأَوهُ بِعُقُولِهِم!

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ عَلَى شُهْرَتِهِ لَا أَصْلَ لَهُ مَرْفُوعًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَوقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَد -وَهُوَ حَسَنٌ-

(1)

.

2 -

أَنَّ مَا (رَآهُ المُسْلِمُونَ حَسَنًا) إِنَّمَا المَقْصُودُ بِهِ الإِجْمَاعُ؛ فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ كَونِهِ لَا أَصْلَ لَهُ شَرْعًا، فَهُوَ بِنَفْسِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «إِنَّ اللهَ قَدْ أَجَارَ أُمَّتِي أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ»

(2)

.

(1)

حَسَنٌ. أَحْمَدُ (3600) مَوقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (533).

(2)

حَسَنٌ. ابْن أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ (السُّنَّةُ)(82) عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1331).

ص: 117

‌الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ:

شُبْهَةُ اسْتِفْتَاءِ القَلْبِ: عَنْ وَابِصَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ البِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ: «يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، البِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيهِ القَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيهِ النَّفْسُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتُوكَ»

(1)

، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ فِي بَعْضِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى القَلْبِ دُونَ أَنَّ يَرُدَّهُ إِلَى الشَّرْعِ!

الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ مَعْنَى الحَدِيثِ أَنَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيكَ فَاتْرُكْهُ وَإِياَّكَ وَالتَّلَبُّسَ بِهِ، وَهُوَ كَحَدِيثِ «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ»

(2)

، فَلَيسَ فِيهِ إِنْشَاءُ عَمَلٍ ابْتِدَاءً! وَإِنَّمَا تَرْجِيحُ وَجْهٍ عَلَى وَجْهٍ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الاشْتِبَاهُ مِنْ كَلَامِ المُفْتِينَ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا أَنَّهُ قَدْ جُعِلَتْ فَتْوَى النَّفْسِ بَعْدَ اسْتِفْتَاءِ النَّاسِ -وَهُمُ العُلَمَاءُ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى-.

2 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَى مَنْ شَرَعُوا دِينًا لَمْ يَاذنْ بِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللهُ وَلَولا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَينَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشُّورَى: 21].

(1)

حَسَنٌ. أَحْمَدُ (18001) عَنْ وَابِصَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1734).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2518) عَنِ الحَسَنِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3378).

ص: 118

‌الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ:

إِنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَدْ أَحْدَثَ الأَذَانَ الثَّانِي فِي الزَّورَاءِ لِيَوم الجُمُعَةِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى اليَومَ بِالأَذَانِ العُثْمَانِيِّ!

الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ زِيَادَةَ الأَذَانِ الثَّانِي لِيَومِ الجُمُعَةِ مِنْ قِبَلِ الخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُثْمَانَ رضي الله عنه هِيَ مِنْ قَبِيلِ المَصَالِحِ المُرْسَلَةِ، فَهِيَ وَاقِعَةٌ تَحْتَ مَقْصُودِ الشَّارِعِ -وَهُوَ الإِعْلَامُ بِحُضُورِ وَقْتِ صَلَاةِ الجُمُعَةِ، وَالنِّدَاءُ إِلَيهَا-، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا النِّدَاءُ -الثَّانِي زَمَنًا- مَوجُودًا زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبِهِ؛ وَهُوَ اتِّسَاعُ المَدِينَةِ، حَيثُ لَمْ يَكُنْ صَوتُ المُؤَذِّنِ يَبْلُغُ إِلَى سُوقِ المَدِينَةِ المُسَمَّى بِالزَّورَاءِ؛ فلِذَلِكَ أَوجَدَهُ عُثْمَانُ رضي الله عنه.

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ

(1)

؛ قَالَ الإِمَامُ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: أَخْبَرَنِي السَّائِبُ ابْنُ يَزِيدَ: " أَنَّ الأَذَانَ -الذِي ذَكَرَهُ اللهُ فِي القُرْآنِ- كَانَ أَوَّلُهُ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ (وَإِذَا قَامَتِ الصَّلَاةُ) يَومَ الجُمُعَةِ (عَلَى بَابِ المَسْجِدِ) فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ وكَثُرَ النَّاسُ (وَتَبَاعَدَتِ المَنَازِلُ) أَمَرَ عُثْمَانُ يَومَ الجُمُعَةِ بِالأَذَانِ الثَّالِثِ (وَفِي رِوَايَةٍ: الأَوَّلُ، وَفِي أُخْرَى: بِأَذَانٍ ثَالِثٍ) (عَلَى دَارٍ لَهُ فِي السُّوقِ يُقَالُ لَهَا الزَّورَاءُ)، فَأَذَّنَ بِهِ عَلَى الزَّورَاءِ (قَبْلَ خُرُوجِهِ لِيُعْلِمَ النّاسَ أَنَّ الجُمُعَةَ قَدْ حَضَرَتْ)، فَثَبَتَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، (فَلَمْ يَعِبِ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيهِ، وَقَدْ عَابُوا عَلَيهِ حِينَ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنَى) "

(2)

.

(1)

وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ (912).

(2)

انْظُرْ كِتَابَ (الأَجْوِبَةُ النَّافِعَةُ عَنْ أَسْئِلَةِ لَجْنَةِ مَسْجِد الجَامِعَةِ)(ص: 17) لِلشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

ص: 119

2 -

أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بالأذان هُوَ الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُثْمَانُ رضي الله عنه، وَأَمْرُهُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا لِكَونِهِ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -كَمَا سَبَقَ بَيَانُه-؛ فَهُمْ إِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِسُنَّتِهِ إِمَّا نَصًّا وَإِمَّا اسْتِنْبَاطًا

(1)

.

تَنْبِيهٌ:

مِنَ الجَدِيرِ بِالذِّكْرِ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَمْرَينِ:

أ- إِنَّ هَذَا الأَذَانَ لَيسَ مَشْرُوعًا دَومًا! بَلْ يُشْرَعُ لِمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُم مِنْ بُعْدِ المَسْجِدِ عَنْ أَمَاكِنِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ، وَخَاصَّةً مَعَ تَوَفُّرِ مُكبِّرَاتِ الصَّوتِ الآنَ وَالَّتِي تُغْنِي عَنْ شَخْصِ المُؤَذِّنِ فِي المَكَانِ البَعِيدِ، وَإِذَا لَمْ تَدْعُ الحَاجَةُ إِلَيهِ فيَكُونُ فِعْلُهُ بِدْعَةً

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: " وَنَقَلَ حَرْبٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوِيه: أَنَّ الأَذَانَ الأَوَّلَ لِلْجُمُعَةِ مُحْدَثٌ؛ أَحْدَثَهُ عُثْمَانُ، رَأَى أَنَّهُ لَا يُسْمِعُهُ إِلَّا أَنْ يَزِيدَ فِي المُؤَذِّنِينَ؛ لِيَعْلَمَ الأَبْعَدِينَ ذَلِكَ، فَصَارَ سُنَّةً، لِأَنَّ عَلَى الخُلَفَاءِ النَّظَرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ. وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلى رَاي الإِمَامِ؛ فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيهِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ فَعَلَهُ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ إِلَيهِ"

(3)

.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الأَذَانُ يَومَ الجُمُعَةِ حِينَ يَدْخُلُ الإِمَامُ المَسْجِدَ وَيَجْلِسُ عَلَى مَوضِعِهِ الَّذِي يَخْطُبُ عَلَيهِ -خَشَبٌ أَو جَرِيدٌ أَو مِنْبَرٌ أَو

(1)

وَسَبَقَ النَّقْلُ عَنِ المِرْقَاةِ فِي ذَلِكَ.

(2)

فَائِدَةٌ: قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَأَمَّا مَا أَحْدَثَ النَّاسُ قَبْلَ وَقْتِ الجُمُعَةِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَيهَا بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَهُوَ فِي بَعْضِ البِلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَولَى".

فَتْحُ البَارِي (2/ 394).

(3)

(فَتْحُ البَارِي) لِابْنِ رَجَبٍ الحَنْبَلِيِّ (5/ 453).

ص: 120

شَيءٌ مَرْفُوعٌ لَهُ أَوِ الأَرْضُ-، فَإِذَا فَعَلَ أَخَذَ المُؤَذِّنُ فِي الأَذَانِ، فَإِذَا فَرَغَ قَامَ فَخَطَبَ لَا يَزِيدُ عَلَيهِ. (قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ إِذَا كَانَ عَلَى المِنْبَرِ؛ لَا جَمَاعَةُ مُؤَذِّنِينَ. أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ؛ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ؛ قَالَ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيد أَنَّ الأَذَانَ كَانَ أَوَّلُهُ لِلجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ وَكَثُرَ النَّاسُ أَمَرَ عُثْمَانُ بِأَذَانٍ ثَانٍ فَأَذَّنَ بِهِ، فَثَبَتَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. (قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَقَدْ كَانَ عَطَاءُ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ أَحْدَثَهُ، وَيَقُولُ: أَحْدَثَهُ مُعَاوِيَةُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. (قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَأَيُّهُمَا كَانَ، فَالأَمْرُ الَّذِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيِّ. (قَالَ الشَّافِعِيُّ): فَإِنْ أَذَّنَ جَمَاعَةٌ مِنَ المُؤَذِّنِينَ -وَالإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ، وَأُذِّنَ كَمَا يُؤَذَّنُ اليَومَ أَذَانٌ قَبْلَ أَذَانِ المُؤَذِّنِينَ؛ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ- كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُ، وَلَا يُفْسِدُ شَيءٌ مِنْهُ صَلَاتَهُ"

(1)

.

ب- إِنَّ هَذَا الأَذَانَ الثَّانِي حَالُهُ مُخْتَلِفٌ كَوَاقِعٍ عَنِ الأَذَانِ الثَّانِي المَوجُودِ الآنَ فِي غَالِبِ مَسَاجِدِ المُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُم يَجْعَلُونَهُ مِثْلَ الأَذَانِ الأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فِي نَفْسِ المَسْجِدِ! فِي حِينِ أَنَّ أَذَانَ عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ فِي السُّوقَ دُونَ المَسْجِدِ، أَي: أَنَّهُ فِي المَكَانِ الوَاحِدِ هُنَاكَ أَذَانٌ وَاحِدٌ.

فَصَارَتِ -اليَومَ- المُخَالَفَةُ مِنْ جِهَتَينِ: مِنْ جِهَةِ القَصْدِ: لِتَوَفُّرِ المُكَبِّرَاتِ الصَّوتِيَّةِ وَانْتِشَارِ المَسَاجِدِ الجَامِعَةِ، وَأَيضًا مِنْ جِهَةِ المَكَانِ: حَيثُ جَعَلوا الأَذَانَينِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ.

" وَكَأَنَّهُ لِذَلِكَ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَهُوَ بِالكُوفَةِ يِقْتَصِرُ عَلَى السُّنَّةِ

(1)

(الأُمُّ) لِلشَّافِعِيِّ (1/ 224).

ص: 121

وَلَا يَأخُذُ بِزِيَادَةِ عُثْمَانَ -كَمَا فِي القُرْطُبِيِّ-"

(1)

.

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله أَيضًا: " وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: (إِنَّمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَعِدَ المِنْبَرَ أَذَّنَ بِلَالٌ؛ فَإِذَا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُطْبَتِهِ أَقَامَ الصَّلَاةَ، وَالأَذَانُ الأَوَّلُ بِدْعَةٌ)

(2)

. رَوَاهُ أَبُو طَاهِرٍ المُخَلِّصُ فِي (فَوَائِدِهِ)(1 - 2/ وَرَقَة 229) ".

(1)

(الأَجْوِبَةُ النَّافِعَةُ) لِلْأَلْبَانِيِّ (ص: 22).

وَالأَثَرُ بِتَمَامِهِ فِي تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ (18/ 100): "وَقَدْ كَانَ الأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم -كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ- يُؤَذِّنُ وَاحِدٌ إِذَا جَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ بِالكُوفَةِ".

قُلْتُ: وَأَمَّا قَولُ الحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ رحمه الله فِي جَامِعِه (2/ 129) -فِي شَرْحِ حَدِيثِ اتِّبَاعِ سُنَّةِ الخُلَفَاءِ-: "وَمِنْ ذَلِكَ: أَذَانُ الجُمُعَةِ الأَوَّلُ؛ زَادَهُ عُثْمَانُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ عَلِيٌّ، وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِ» فَظَاهِرٌ -وَاللهُ أَعْلَمُ- عَلَى مَعْنَى إِقْرَارِ عَلِيٍّ بِفِعْلِهِ مِنْ جِهَةِ المَصْلَحَةِ وَلَيسَ مِنْ جِهَةِ الاسْتِمْرَارِ بِغَيرِ سَبَبٍ! وَهُوَ الَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيهِ عَمَلُ المُسْلِمِينَ إِلَى زَمَنِ الحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ رحمه الله -وَكَذَا قَبْلَ زَمَنِ اخْتِرَاعِ مُكَبِّرَاتِ الصَّوتِ الحَدِيثَةِ كَالآنَ- لَاسِيَّمَا لِصَلَاةِ الجُمُعَةِ فِي المَسْجِدِ الجَامِعِ".

(2)

"وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا أَرَادَ أَبُوهُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ" جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 129).

ص: 122

‌الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ:

جَاءَ عَنْ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِعْلُ أُمُورٍ تَعَبُّدِيَّةٍ ابْتِدَاءً فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيرِ تَوقِيفٍ مِنْهُ! فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ! فَمَا الجَوَابُ عَنْهَا؟

وَيُمَثَّلُ لَهَا بِأُمُورٍ مِنْهَا:

- صَلَاةِ بِلَالٍ رضي الله عنه رَكْعَتَينِ أَو أَكْثَرَ بَعْدَ كُلِّ وُضُوءٍ، وَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ

(1)

!

- التِزَامِ أَحَدِ الصَّحَابَةِ افْتِتَاحَ قِرَاءَتِهِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الفَاتِحَةِ بِسُورَةِ الإِخْلَاصِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَالتِزَامُ صَحَابِيٍّ آخَرَ خَتْمَ قِرَاءَتِهِ فِي صَلَاتِهِ بِالسُّورَةِ نَفْسِهَا، وَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمَا

(2)

!

- قَولِ أَحَدِ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ: " رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ" وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

(3)

!

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ الزَّمَنَ زَمَنُ تَشْرِيعٍ؛ فَمَا كَانَ مُنْكَرًا رُدَّ، وَمَا كَانَ صَحِيحًا أُقِرَّ، وَلَا يَكُونُ العَمَلُ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا حَتَّى يُقَرَّ مِنَ الشَّارِعِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ فِي السُّنَّةِ أَنَّهُ لَيسَ كُلُّ مَا أُحْدِثَ أُقِرَّ

(4)

!

2 -

أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم لَيسُوا بِمَعْصُومِينَ -لَا سِيَّمَا مِنْ جِهَةِ آحَادِهِم-! وَخَاصَّةً أَنَّ أَحَدَهُم إِذَا أَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ كَامِلَ العِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ وَمَا يَصْلُحُ فِيهَا

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1149)، وَمُسْلِمٌ (2458) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ.

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7375)، وَمُسْلِمٌ (813) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (799).

(4)

فَالنَّاظِرُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ يَجِدُ كَثِيرًا مِنَ النُّصُوصِ تَدُلُّ عَلَى ذَمِّ كَثِيرٍ مِنَ المُبْتَدَعَاتِ رُغْمَ أَنَّ فَاعِلَهَا لَمْ يَرَ فِيهَا بَاسًا، بَلِ اسْتَحْسَنَهَا، وَظَنَّ نَفْسَهُ مَعَ السابقين! وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ بَعْضِهَا؛ فَلَا نُكَرِّرُ.

ص: 123

وَمَا لَا يَصْلُحُ! فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُم حُجَّةً مُطْلَقًا؛ لَاسِيَّمَا وَهُم حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِالإِسْلَامِ.

وَتَأَمَّلْ فِي ذَلِكَ -مَثَلًا- حَدِيثَ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيثِيِّ؛ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَينٍ -وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ-، وَللِمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُم، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُم -وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- كَمَا قَالَتْ بَنو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَومٌ تَجْهَلُونَ} [الأَعْرَاف: 138]، لَتَرْكَبُنّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»

(1)

.

3 -

أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُقَيَّدٌ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَلَا يُفِيدُ العُمُومَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ اكْتَمَلَتْ، بِخِلَافِ زَمَنِ وُجُودِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَالشَّرِيعَةُ مَا تَزَالُ مُتَجَدِّدَةَ الأَحْكَامِ.

وَدَلِيلُ اكْتِمَالِهَا قَولُهُ تَعَالَى: {اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَام دِينًا} [المَائِدَة: 3].

4 -

أَنَّ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ رَدُّ المُتَشَابِهِ إِلَى المُحْكَمِ، وَعَدَمُ الاغْتِرَارِ بِأَحَادِيثِ الأَعْيَانِ المُعَارِضَةِ لِلأُصُولِ العَامَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ أَحَادِيثُ الاتِّبَاعِ وَعَدَمِ الابْتِدَاعِ، وَأَحَادِيثُ التَّمَسُّكِ بِالسُّنَنِ وَالأَخْذِ بِمَا نَعْلَمُ وَتَرْكِ مَا نُنْكِرُ

(2)

.

تَنْبِيهٌ: احْتَجَّ بَعْضُهُم بِقَولِ الحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي):

" اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِحْدَاثِ ذِكْرٍ فِي الصَّلَاةِ غَيرَ مَاثُورٍ؛ إِذَا كَانَ غَيرَ مُخَالِفٍ لِلمَاثُورِ"

(3)

عَلَى أَنَّهُ رحمه الله يَرَى جَوَازَ الإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ عُمُومًا! وَالجَوَابُ هُنَا

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21897) وَالتِّرْمِذِيُّ (2180). ظِلَالُ الجَنَّةِ (76).

(2)

وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ بَعْضِهَا؛ فَلَا نُكَرِّرُ.

(3)

فَتْحُ البَارِي (2/ 287).

ص: 124

عَلَى هَذَا النَّقْلِ مِنْ أَوجُهٍ:

أ- أَنَّ قَولَهُ: -اسْتُدِلَّ- لَا يَعْنِي أَنَّهُ نَفْسُهُ رحمه الله يُجِيزُ الابْتِدَاعَ! وَلَكِنَّهُ نَاقِلٌ، وَالنَّقْلُ لَا يَعْنِي الاسْتِحْسَانَ، وَإِذَا أَرَدْتَ مَذْهَبَهُ حَقِيقَةً فَانْظُرْ كَلَامَهُ فِي شَرْحِ البُخَارِيِّ -كِتَابُ الاعْتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي):" وَ (المُحْدَثَاتُ) بِفَتْحِ الدَّالِّ جَمْعُ مُحْدَثَةٍ، وَالمُرَادُ بِهَا مَا أُحْدِث وَلَيسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَيُسَمَّى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ (بِدْعَةً). وَمَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَيهِ الشَّرْع فَلَيسَ بِبِدْعَةٍ، فَالبِدْعَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَذْمُومَةٌ، بِخِلَافِ اللُّغَةِ فَإِنَّ كُلَّ شَيءٍ أُحْدِثَ عَلَى غَيرِ مِثَال يُسَمَّى بِدْعَةً سَوَاءً كَانَ مَحْمُودًا أَو مَذْمُومًا، وَكَذَا القَولُ فِي المُحْدَثَةِ وَفِي الأَمْرِ المُحْدَثِ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمَرْنَا هَذَا مَا لَيسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» "

(1)

.

ب- أَنَّ كَلَامَ الحَافِظِ الَّذِي فِيهِ الجَوَازُ غَيرُ مُسَلَّمٍ بِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِزَمَنِ الوَحْي. كَمَا قَالَهُ الشَّيخُ ابْنُ بَازٍ رحمه الله فِي التَّعْلِيقِ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ البَارِي)، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ الآنَ كَامِلَةٌ كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المَائِدَة: 3].

قُلْتُ: وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقِرَّ مَا صَنَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، بَلْ نَهَاهُم وَأَرْشَدَهُم، كَمَا سَلَفَ مَعَنَا فِي الآثَارِ.

(1)

فَتْحُ البَارِي (13/ 253).

ص: 125

‌الشُّبْهَةُ الثَّامِنَةُ:

قَسَمَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ -كَالعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ

(1)

- البِدْعَةَ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبَةٍ، وَمُسْتَحَبَّةٍ، وَمُبَاحَةٍ، وَمَكْرُوهَةٍ، وَمُحَرَّمَةٍ، فَكَيفَ تَقُولُونَ:«إِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ؟!

وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» هِيَ نَصُّ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ تَخْصِيصُهَا وَصَرْفُهَا عَنِ العُمُومِ.

(1)

تُوُفِّيَ سَنَةَ (660 هـ)، وَعَنْهُ أَخَذَ عَامَّةُ مَن قَالَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ.

وَمَقَالَتُهُ -نَقْلًا مِنَ الاعْتِصَامِ (1/ 241) بِحَذْفٍ يَسِيرٍ- هِيَ:

"وَالحَقُّ التَّفْصِيلُ؛ وَأَنَّهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:

قِسْمٌ وَاجِبٌ: وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الوُجُوبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنَ الشَّرْعِ، كَتَدْوِينِ القُرْآنِ وَالشَّرَائِعِ إِذَا خِيفَ عَلَيهَا الضَّيَاعُ ....

وَالقِسْمُ الثَّانِي: المُحَرَّمُ، وَهُوَ كُلُّ بِدْعَةٍ تَنَاوَلَتْهَا قَوَاعِدُ التَّحْرِيمِ وَأَدِلَّتُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، كَالمُكُوسِ، وَالمُحْدَثَاتِ مِنَ المَظَالِمِ، وَالمُحْدَثَاتِ المُنَافِيَةِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ؛ كَتَقْدِيمِ الجُهَّالِ عَلَى العُلَمَاءِ ....

وَالقِسْمُ الثَّالِثُ: إِنَّ مِنَ البِدَعِ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيهِ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ النَّدْبِ وَأَدِلَّتُهُ، كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ ....

وَالقِسْمُ الرَّابِعُ: بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَهِيَ مَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ الكَرَاهَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا، كَتَخْصِيصِ الأَيَّامِ الفَاضِلَةِ أَو غَيرِهَا بِنَوعٍ مِنَ العِبَادَةِ، وَمِنْ هَذَا البَابِ الزِّيَادَةُ فِي المَنْدُوبَاتِ المَحْدُودَاتِ، كَمَا وَرَدَ فِي التَّسْبِيحِ عَقِبَ الفَرِيضَةِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فتُفْعَلُ مَائَةً! وَوَرَدَ صَاعٌ فِي زَكَاةِ الفِطْرِ؛ فَجُعِلَ عَشْرَةُ أَصْوَاعٍ! بِسَبَبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا إِظْهَارٌ عَلَى الشَّارِعِ وَقِلَّةُ أَدَبٍ مَعَهُ.

وَالقِسْمُ الخَامِسُ: البِدَعُ المُبَاحَةُ، وَهِيَ مَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ الإِبَاحَةِ وَقَوَاعِدُهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ، كَاتِّخَاذِ المَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ، فَفِي الآثَارِ (أوَّلُ شَيءٍ أَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اتِّخَاذُ المَنَاخِلِ) ".

ص: 126

2 -

أَنَّ مَقْصُودَ العِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله فِي ذِكْرِ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ هُوَ شُمُولُ كُلِّ مَا يُحْدَثُ مِنَ البِدَعِ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالمَصَالِحِ المُرْسَلَةِ.

فَقَدْ جَعَلَ رحمه الله إِنْشَاءَ المَدَارِسِ الشَّرْعِيَّةِ وَالرَّدَّ عَلَى المُتَكَلِّمِينَ وَالفَلَاسِفَةِ جَعَلَهَا مِنَ البِدَعِ الوَاجِبَةِ وَالمُسْتَحَبَّةِ؛ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى المَصَالِحَ المُرْسَلَةَ، وَهَذَا غَيرُ مَا يِقْصِدُهُ المُبْتَدِعَةُ فِي تَقْسِيمِهِم البِدَعَ إِلَى بِدْعَةٍ حَسَنَةٍ وَبِدْعَةٍ سَيِّئَةٍ! فَإِنْشَاءُ المَدَارِسِ وَالرَّدُّ عَلَى الملاحدة هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا دَلَّتْ عَلَيهِ الشَّرِيعَةُ، فَلَمْ يَعُدْ لِلمُبْتَدِعَةِ مَا يَتَمَسَّكُونَ بِهِ مِنْ كَلَامِ الشَّيخِ العِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله

(1)

.

3 -

أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ نَفْسَهُ مُتَنَاقِضٌ.

قَالَ الإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله: " إِنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ أَمْرٌ مُخْتَرَعٌ لَا يَدُلُّ عَلَيهِ

دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُتَدَافِعٌ، لِأَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ البِدْعَةِ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَا مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ؛ وَلَا مِنْ قَوَاعِدِهِ، إِذْ لَو كَانَ هُنَالِكَ مَا يَدُلُّ

مِنَ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبٍ أَو نَدْبٍ أَو إِبَاحَةٍ لَمَا كَانَ ثَمَّ بِدْعَةٌ، وَلَكَانَ العَمَلُ

دَاخِلًا فِي عُمُومِ الأَعْمَالِ المَامُورِ بِهَا أَوِ المُخَيَّرِ فِيهَا، فَالجَمْعُ بَينَ كَونِ تِلْكَ الأَشْيَاءِ بِدَعًا وَبَينَ كَونِ الأَدِلَّةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا أَو نَدْبِهَا أَو إِبَاحَتِهَا جَمْعٌ بَينَ مُتَنَافِيَينِ!

(1)

وَقَالَ الإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله أَيضًا (1/ 246): "فَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ ظَاهِرٌ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَّى المَصَالِحَ المُرْسَلَةَ بِدَعًا بِنَاءً -وَاللهُ أَعْلَمُ- عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ أَعْيَانُهَا تَحْتَ النُّصُوصِ المُعَيَّنَةِ وَإِنْ كَانَتْ تُلَائِمُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ، فَمِنْ هُنَالِك جَعَلَ القَوَاعِدَ هِيَ الدَّالَّةَ عَلَى اسْتِحْسَانِهَا بِتَسْمِيَتِهِ لَهَا بِلَفْظِ البِدَعِ: وَهُوَ مِنْ حَيثُ فُقْدَانِ الدَّلِيلِ المُعَيَّنِ عَلَى المَسْأَلَةِ، وَاسْتِحْسَانُهَا: مِنْ حَيثُ دُخُولِهَا تَحْتَ القَوَاعِدِ، وَصَارَ مِنَ القَائِلِينَ بِالمَصَالِحِ المُرْسَلَةِ، وَسَمَّاهَا بِدَعًا فِي اللَّفْظِ كَمَا سَمَّى عُمَرُ رضي الله عنه الجَمْعَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي المَسْجِدِ بِدْعَةً".

ص: 127

أَمَّا المَكْرُوهُ مِنْهَا وَالمُحَرَّمُ فَمُسَلَّمٌ مِنْ جِهَةِ كَونِهَا بِدَعًا لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذْ لَو دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ أَمْرٍ مَا، أَو كَرَاهَتِهِ، لَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ كَونَهُ بِدْعَةً؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً كَالقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الخَمْرِ وَنَحْوِهَا! فَلَا بِدْعَةَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا ذَلِكَ التَّقْسِيمُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا الكَرَاهِيَةَ وَالتَّحْرِيمَ"

(1)

.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَقَدْ رَوَى الحَافِظُ أَبُو نُعَيمٍ الأَصْبَهَانِيُّ فِي (الحِلْيَةِ) عَنِ الشَّافِعِيِّ قَولَهُ:" البِدْعَةُ بِدْعَتَانِ: بِدْعَةٌ مَحْمُودَةٌ، وَبِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَمَا خَالَفَ السُّنَّةَ فَهُوَ مَذْمُومٌ" وَاحْتَجَّ بِقَولِ عُمَرَ: " نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ"

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ: أَنَّ البِدْعَةَ المَذْمُومَةَ مَا لَيسَ لَهَا أَصْلٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ يُرْجَعُ إِلَيهِ، وَهِيَ البِدْعَةُ فِي إِطْلَاقِ الشَّرْعِ، وَأَمَّا البِدْعَةُ المَحْمُودَةُ فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ، يَعْنِي: مَا كَانَ لَهَا أَصْلٌ مِنَ السُّنَّةِ يُرْجَعُ إِلَيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِدْعَةٌ لُغَةً لَا شَرْعًا؛ لِمُوَافَقَتِهَا السُّنَّةَ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ كَلَامٌ آخَرُ يُفَسِّرُ هَذَا؛ وَأَنَّهُ قَالَ: وَالمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ: مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا، أَو سُنَّةً، أَو أَثَرًا، أَو إِجْمَاعًا؛ فَهَذِهِ البِدْعَةُ الضَّلَالُ، وَمَا أُحْدِثَ فِيهِ مِنَ الخَيرِ لَا خِلَافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا؛ وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيرُ مَذْمُومَةٍ"

(3)

.

(1)

الاعْتِصَامُ للشَّاطِبِي (1/ 246).

(2)

حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ (9/ 113).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 131).

قُلْتُ: وَأَثَرُ الشَّافِعِيِّ الأَخِيرُ أَخْرَجَهُ البَيهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ (مَنَاقِبُ الشَّافِعِيِّ)(1/ 469).

ص: 128

قُلْتُ: وَظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّ البِدْعَةَ الغَيرَ مَذْمُومَةِ مَا وَافَقَتِ الشَّرْعَ، وَهَذِهِ هِيَ المَصْلَحَةُ المُرْسَلَةُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا دَخَلَ تَحْتَ عُمُومِ النُّصُوصِ مِنْ جِهَةِ الأَصْلِ وَالجِنْسِ إِذَا قَامَ الدَّاعِي لِفِعْلِهِ زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُمْ بِهِ؛ فَإِنَّ فِعْلَهَ يَكُونُ مُخَالَفَةً لِلْشَّرْعِ، وَهَذَا مِنْ مَعْنَى اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله نَصَّهُ عَلَى هَذَا المَعْنَى، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ):

" وَعَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: أَنْشَدَنِي الشَّافِعِيُّ:

قَدْ عَوِجَ النَّاسُ حَتَّى أَحْدَثُوا بِدَعًا

فِي الدِّينِ بِالرَّايِ لَمْ تُبْعَثْ بِهَا الرُّسُلُ

حَتَّى اسْتَخَفَّ بِحَقِّ اللهِ أَكْثَرُهُمْ

وَفِي الَّذِي حُمِّلُوا مِنْ حَقِّهِ شُغُلُ"

(1)

(1)

البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ (14/ 139).

ص: 129

-‌

‌ عَلامَاتُ أَهْلِ البِدَعِ الإِجْمَالِيَّةِ:

1 -

الفُرْقَةُ:

وَقَدْ دَلَّ عَلَيهَا قَولُهُ تَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عِمْرَان: 105].

2 -

اتِّبَاعُ المُتَشَابِهِ:

وَقَدْ دَلَّ لِذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبُعونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}

[آل عِمْرَان: 7]، ومَعْنَى المُتَشَابِهِ: مَا أَشْكَلَ مَعْنَاهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُبَيَّنْ مَغْزَاهُ.

وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: " تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عِمْرَان: 7] قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؛ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ»

(1)

".

3 -

اتِّبَاعُ الهَوَى:

وَقَدْ دَلَّ لِذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهِمْ زَيغٌ} [آل عِمْرَان: 7]، وَالزَّيغُ هُوَ المَيلُ عَنِ الحَقِّ اتِّبَاعًا لِلهَوَى.

وَكَذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللهِ}

[القَصَص: 50].

(1)

البُخَارِيُّ (4547)، وَمُسْلِمٌ (2665).

ص: 130

-‌

‌ أَحْوَالُ المُكَلَّفِينَ -أَو مَرَاتِبُ المُكَلَّفِينَ

-:

1 -

أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا، فَعَلَيهِ الأَخْذُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيهِ اجْتِهَادُهُ فِي الأَدِلَّةِ.

2 -

أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا خَالِصًا؛ خَالِيًا مِنَ العِلْمِ -وَهُوَ العَامِّيُّ- فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَائِدٍ يَقُودُهُ، وَعَالِمٍ يَقْتَدي بِهِ، وَعَلَيهِ الاقْتِدَاءُ بِمَنْ يَظُنُّهُ عَالِمًا بِالشَّرْعِ؛ كَمَا أَنَّهُ

لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَلِّمَ المَرِيضُ نَفْسَهُ إِلَى أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيسَ بِطَبِيبٍ! إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاقِدَ العَقْلِ.

3 -

أَنْ يَكُونَ غَيرَ بَالِغٍ مَبْلَغَ المُجْتَهِدِينَ؛ لَكِنَّهُ يَفْهَمُ الدَّلِيلَ وَمَوقِعَهُ، وَيَصْلُحُ فَهْمُهُ لِلتَّرْجِيحِ بِالمُرَجِّحَاتِ المُعْتَبَرَةِ.

ص: 131

‌الحَدِيثُ السَّادِسُ: (تَرْكُ الشُّبُهَاتِ)

عَنْ أبِي عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشيرٍ رضي الله عنهما قالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ وإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فقَدِ اسْتَبْرَأَ لدِينهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً ألا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ ألا وإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا و هِيَ القَلْبُ» . رواه البُخَاريُّ ومُسْلمٌ

(1)

.

- قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: " أَحَادِيثُ الإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادَيثَ: حَدِيثِ عُمَرَ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وحَدِيثِ عَائِشَةَ السَّابِقِ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذَا مَا لَيسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وَحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشَيرٍ"

(2)

.

- العِرْضُ: هُوَ مَوضِعُ المَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الإِنْسَانِ

(3)

.

- الحِمَى: أَي المَكَانَ المَحْمِيَّ الَّذِي يُمْنَعُ فِيهِ مِنِ اقْتِرَابِ مَاشِيَةِ الغَيرِ إِلَيهِ، وَعَادَةً مَا يَتَّخِذُهُ المُلُوكُ لِمَوَاشِيهِم.

- قَولُهُ: «يَرْتَعَ» : هُوَ أَكْلُ المَاشِيَةِ مِنَ المَرْعَى.

(1)

البُخَارِيُّ (52)، وَمُسْلِمٌ (1599).

(2)

انْظُرْ (طَرْحُ التَّثرِيبِ) لِلحَافِظِ العِرَاقِيِّ (2/ 5).

(3)

قَالَهُ صَاحِبُ كِتَابِ (القَامُوسُ المُحِيطُ)(ص: 646).

ص: 132

- قَولُهُ: «صَلَحَ» : يُقَالُ: صَلَحَ الشَيءُ وَفَسَدَ -بِفَتْحِ اللَّامِ وَالسِّينِ وَضَمِّهِمَا، وَالفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ-.

- الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَحْكَامَ -عُمُومًا- ثَلَاثَةٌ:

1 -

الحَلَالُ البَيِّنُ الوَاضِحُ.

2 -

الحَرَامُ البَيِّنُ الوَاضِحُ.

3 -

المُشْتَبِهُ، لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم:«وَبَينَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ» ، وَهُوَ بَينَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ،

فَإِنْ نَظَرْتَ إِلَيهِ مِنْ جِهَةٍ قُلْتَ: هُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قُلْتَ عَنْهُ: هُوَ حَرَامٌ، وهذا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَمَّا عِنْدَ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَلَالٌ أَو حَرَامٌ، وَدَلَّ قَولُهُ:«لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُونَ الحُكْمَ فِيهِ.

- الاشْتِبَاهُ فِي الدَّلِيلِ يَكُونُ مِنْ جِهَتَينِ:

1 -

مِنْ جِهَةِ صِحَّةِ الدَّلِيلِ أَو ضَعْفِهِ، وَهَذَا يُسَمَّى عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ

بِـ (تَخْرِيجِ المَنَاطِ).

2 -

مِنْ جِهَةِ دِلَالَتِهِ عَلَى المَطْلُوبِ وَصَرَاحَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا يُسَمَّى عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ بِـ (تَحْقِيقِ المَنَاطِ).

- قَولُهُ: «وَمَنْ وَقَعَ فَي الشُّبُهَاتِ؛ فقد وَقَعَ في الحَرَامِ» : هَذِهِ الجُمْلَةُ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَينِ:

1 -

أَنَّ مُوَاقَعَةَ المُشْتَبِهَاتِ حَرَامٌ مُطْلَقًا.

2 -

أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الوُقُوعِ فِي المُحَرَّمِ.

ص: 133

وَبِالنَّظَرِ فِي المِثَالِ المَطْرُوحِ يَتَّضِحُ أَنَّ الأَقْرَبَ هُوَ الثَّانِي

(1)

، فَيَكُونُ المَعْنَى أَنَّهُ أَوشَكَ أَنْ يَقَعَ فِي الحَرَامِ، وَذَلِكَ لِقَولِهِ فِي المِثَالِ:«يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ» فَهُوَ لِشِدَّةِ قُرْبِهِ مِنَ الحِمَى قَدْ لَا يَامَنُ تَعَدِّيَ المَاشِيَةِ عَلَى حِمَى المَلِكِ؛ فَيَقَعُ فِي المَحْظُورِ.

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيضًا بَعْضُ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ وَمِنْهَا: «فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيهِ مِنَ الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ أَوشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

وَمِنْهَا «وسَأَضْرِبُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلًا: إِنَّ اللهَ حَمَى حِمىً؛ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَا حَرَّمَ، وَإِنَّهُ مَنْ يَرْعَ حَولَ الحِمَى يُوشِكْ أَنْ يُخَالِطَهُ؛ وَإِنَّهُ مَنْ يُخَالِطِ الرِّيبَةَ يُوشِكْ أَنْ يَجْسُرَ»

(3)

.

وَمِنْهَا «اجْعَلُوا بَينَكُمْ وَبَينَ الحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الحَلَالِ؛ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ»

(4)

.

- قَولُهُ: «فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» : أَي اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي حَرَامٍ، وَلِعِرْضِهِ كَي لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ بِالذَّمِّ -لِكَونِهِ حَرَامًا عِنْدَ بَعْضِهِم-.

- فِي الحَدِيثِ الإِشَارَةُ إِلَى فَضْلِ الوَرَعِ، وَهُوَ هُنَا فِي تَرْكِ الشُّبُهَاتِ، كَمَا فِي حَدِيثِ «خَيرُ دِينِكُمُ الوَرَعُ»

(5)

.

(1)

وَإِنْ كَانَ الأَوَّلُ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ كَونِهِ دَيدَنًا.

(2)

البُخَارِيُّ (2051).

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3329). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (3329).

(4)

صَحِيحٌ. صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (5569). الصَّحِيحَةُ (896).

(5)

صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (314) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ رحمه الله:"عَلَى شَرْطِهِمِا". صَحِيحُ الجَامِعِ (3308).

ص: 134

قَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ رحمه الله عَقِبَ حَدِيثِ النُّعْمَانِ: " بَابُ تَفْسِيرِ المُشَبَّهَاتِ، وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ: مَا رَأَيتُ شَيئًا أَهْوَنَ مِنَ الوَرَعِ؛ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ"

(1)

.

- لَيسَ فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الحِمَى عَلَى المَرْعَى! إِلَّا إِنْ كَانَ حِمًى لِدَوَابِّ المُسْلِمِينَ عَنْ دَوَابِّ غَيرِ المُسْلِمِينَ، وَفِي الحَدِيثِ «المُسْلِمُونَ شُرَكاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الكَلَأِ وَالمَاءِ وَالنَّار»

(2)

.

- مِنْ فَوَائِدِ الحَدِيثِ:

1 -

أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ كُلُّهُم، وَذَلِكَ لِقَولِهِ:«لَا يعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» .

2 -

الحَثُّ عَلَى اتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ

(3)

.

3 -

أَنَّ الوَاقِعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَاقِعٌ فِي الحَرَامِ، وَذَلِكَ لِقَولِهِ:«مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ» ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ التَّحَرُّزِ مِنَ الشُّبُهَاتِ مُطْلَقًا

- لَا بِاعْتِبَارِ آحَادِ الشُّبهَاتِ-.

(1)

البُخَارِيُّ (3/ 53).

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)(1/ 126)(كِتَابِ الإِيمَانِ - بَابِ فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ): "كَأَنَّهُ أَرَادَ (أَي البُخَارِيُّ) أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الوَرَعَ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الإِيمَانِ؛ فَلِهَذَا أَورَدَ حَدِيثَ البَابِ فِي أَبْوَابِ الإِيمَانِ".

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3477) عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6713).

(3)

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا كَانَتْ شُبْهَةٌ، أَمَّا إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى حُكْمِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ وَسْوَاسًا! وَهُوَ مَذْمُومٌ بِلَا رَيبٍ.

ص: 135

4 -

اسْتِخْدَامُ الأَمْثِلَةِ لِلتَّعْلِيمِ، وَهَذَا هُوَ أُسْلُوبُ القُرْآنِ الكَرِيمِ، قَالَ تَعَالَى:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ} [العَنْكَبُوت: 43].

5 -

فِيهِ دَلِيلٌ لِقَاعِدَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، أَي أَنَّ كُلَّ ذَرِيعَةٍ تَوصِلُ إِلَى مُحَرَّمٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تُسَدَّ لِئَلَّا يَقَعَ المُسْلِمُ فِي المُحَرَّمِ

(1)

.

6 -

أَنَّ المَدَارَ فِي الصَّلَاحِ وَالفَسَادِ عَلَى القَلْبِ، إِذَا صَلَحَ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ.

7 -

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَلَبَ البَرَاءَةِ لِلعِرْضِ مَمْدُوحٌ كَطَلَبِ البَرَاءَةِ لِلدِّينِ، وَأَمَّا مَنْ أَتَى شَيئًا مِمَّا يَظُنُّهُ النَّاسُ شُبْهَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَلَالٌ فِي نَفْسِ الأَمْرِ؛ فَلَا حَرَجَ عَلَيهِ مِنَ اللهِ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ إِذَا خَشِيَ مِنْ طَعْنِ النَّاسِ عَلَيهِ بِذَلِكَ؛ كَانَ تَرْكُهُ حِينَئِذٍ أَولَى، وَذَلِكَ كَي يَسْتَبْرِئَ لِعِرْضِهِ

(2)

.

8 -

فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ العَقْلَ فِي القَلْبِ؛ وَأَنَّ الَّذِي يُدْرِكُ هُوَ القَلْبُ، وَالقُرْآنُ شَاهِدٌ بِهَذَا. وَكَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُوَنَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَو آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}

[الحَجّ: 46]

(1)

كَمِثْلِ النَّهْي عَنْ سَبِّ آلِهَةِ المُشْرِكِينَ، قَالَ تَعَالَى:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيرِ عِلْمٍ} [الأَنْعَام: 108].

وَكَمِثْلِ تَحْرِيمِ قَلِيلِ مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ، وَكَتَحْرِيمِ الخَلْوَةِ بِالأَجْنَبِيَّةِ، وَتَحْرِيمِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ العَصْرِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا؛ فَتَحْصُلُ مُشَابَهَةُ المُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِم، وَمَنْعِ الصَّائِمِ مِنَ المُبَاشَرَةِ إِذَا كَانَتْ تَتَحَرَّكُ شَهْوَتُهُ.

(2)

انْظُرْ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(1/ 204).

ص: 136

وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: " العَقْلَ فِي القَلْبِ"

(1)

.

9 -

أَنَّ صَلَاحَ الظَّاهِرِ دَلِيلُ صَلَاحِ البَاطِنِ، فَصَارَ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى العُصَاةِ الَّذِينَ إِذَا نُهُوا عَنِ المَعَاصِي قَالَوا: إِنَّ العِبْرَةَ بِمَا فِي القَلْبِ! فَيُقَالُ لَهُم: وَإِنَّ أَعْمَالَكُم دَالَّةٌ عَلَى قُلُوبِكُم.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: " فَأَصْلُ الإِيمَانِ فِي القَلْبِ، وَهُوَ قَولُ القَلْبِ وَعَمَلُهُ، وَهُوَ إقْرَارٌ بِالتَّصْدِيقِ وَالحُبُّ وَالِانْقِيَادُ، وَمَا كَانَ فِي القَلْبِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُوجِبُهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلَى الجَوَارِحِ، وَإِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاه دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ أَو ضَعْفِهِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ مِنْ مُوجِبِ إِيمَانِ القَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ، وَهِيَ تَصْدِيقٌ لِمَا فِي القَلْبِ وَدَلِيلٌ عَلَيهِ وَشَاهِدٌ لَهُ، وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ الإِيمَانِ المُطْلَقِ وَبَعْضٌ لَهُ، لَكِنَّ مَا فِي القَلْبِ هُوَ الأَصْلُ لِمَا عَلَى الجَوَارِحِ، كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ رضي الله عنه: " إنَّ القَلْبَ مَلِكٌ، وَالأَعْضَاءَ جُنُودُهُ؛ فَإِنْ طَابَ المَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ، وَإِذَا خَبُثَ المَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ"، وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً؛ إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الجَسَدِ؛ أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» "

(2)

.

(1)

حَسَنٌ. البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ (547) عَنْ عَلِيٍّ مَوقُوفًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (425).

(2)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (7/ 644).

ص: 137

‌الحَدِيثُ السَّابِعُ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ)

عَنْ أَبِي رُقَيَّةَ؛ تَمِيمِ بْنِ أَوسٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» . قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

- قَالَ أَبُو دَاوُد صَاحِبُ السُّنَنِ: " الفِقْهُ يَدُورُ عَلَى خَمْسَةِ أَحَادِيثَ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(2)

، وَ «الحَلَالُ بَيِّنٌ»

(3)

، وَ «مَا نَهَيتُكُم عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ»

(4)

، وَ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»

(5)

، وَ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»

(6)

"

(7)

.

- قَولُهُ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» : مَعْنَاهُ أَنَّ مُعْظَمَ الدِّينِ النَّصِيحَةُ، كَمِثْلِ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم:«الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ»

(8)

، وَ «الحَجُّ عَرَفَةُ»

(9)

.

- الحَدِيثُ جَعَلَهُ البُخَارِيُّ رحمه الله تَبْوِيبًا لِحَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ وَفِيهِ قَالَ:

(1)

مُسْلِمٌ (55).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1)، وَمُسْلِمٌ (1907) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا.

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (52)، وَمُسْلِمٌ (1599) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ البَشِيرِ مَرْفُوعًا.

(4)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7288) وَمُسْلِم (1337) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(5)

صَحِيحٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه (2341) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، الصَّحِيحَةُ (250)، وَسَيَاتِي.

(6)

مُسْلِمٌ (55).

(7)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 63).

(8)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2969) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3407).

(9)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (3015) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3172).

ص: 138

" بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"

(1)

.

- الدِّينُ يُقْصَدُ بِهِ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:

1 -

دِينٌ بِمَعْنَى العَمَلِ: كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:

{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المَائِدَة: 3]، وَعَلَيهِ الحَدِيثُ هُنَا.

2 -

دِينٌ بِمَعْنَى الجَزَاءِ: كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {مَالِكِ يَومِ الدِّينِ} [الفَاتِحَة:4].

3 -

دِينٌ بمَعْنَى الطَّرِيقَةِ: كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَاخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [يُوسُف: 76].

- الأَئِمَّةُ نَوعَان: العُلَمَاءُ وَالأُمَرَاءُ.

وَالنَّصِيحَةُ لَهُم تَكُونُ سِرًّا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ بِأَمْرٍ؛ فَلَا يُبْدِهِ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ يَاخُذُ بِيَدِهِ فَيَخْلُو بِهِ؛ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا قَدْ كَانَ أَدَّى الَّذِي عَلَيه»

(2)

.

- قَالَ الإِمَامُ أَبُو السَّعَادَاتِ؛ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله:

" النَّصِيحَةُ: كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ هِيَ إِرَادَةُ الخَيرِ لِلمَنْصُوحِ لَهُ، وَأَصْلُ النُّصْحِ فِي اللُّغَةِ: الخُلُوصُ، يُقَالُ نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ،

وَمَعْنَى نَصِيحَةِ اللهِ: صِحَّةُ الاعْتِقَادِ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ فِي عِبَادَتِهِ.

وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللهِ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَالعمَلُ بِمَا فِيهِ.

(1)

البُخَارِيُّ (57).

(2)

صَحِيحٌ. (السُّنَّةُ) لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (1096) عَنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ مَرْفُوعًا. ظِلَالُ الجَنَّةِ (1096)، بَابُ (كَيفَ نَصِيحَةُ الرَّعِيَّةِ لِلوُلَاةِ). وَأَورَدَهُ أَيضًا الهَيثَمِيُّ رحمه الله فِي المَجْمَعِ، بَابُ (النَّصِيحَةُ لِلأَئِمَّةِ وَكَيفِيَّتُهَا)(5/ 229).

ص: 139

وَنَصِيحَةُ رَسُولِهِ: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَالانْقِيَادُ لِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ.

وَنَصِيحَةُ الأَئِمَّةِ: أَنْ يُطِيعَهُم فِي الحَقِّ، وَلَا يَرَى الخُرُوجَ عَلَيهِم إِذَا جَارُوا.

وَنَصِيحَةُ عَامَّةِ المُسْلِمِينَ: إِرْشَادُهُم إِلَى مَصَالِحِهِم"

(1)

.

- قَالَ الإِمَامُ الشَّوكَانِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ شَرْحِ قَولِهِ تَعَالَى: {لَيسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى المَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التَّوبَة: 91]:

" {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وَأَصْلُ النُّصْحِ: إِخْلَاصُ العَمَلِ مِنَ الغِشِّ، وَمِنْهُ التَّوبَةُ النَّصُوحُ. قَالَ نَفْطَوَيهِ: نَصَحَ الشَّيءُ: إِذَا خَلُصَ، وَنَصَحَ لَهُ القَولَ: أَي: أَخْلَصَهُ لَهُ

(2)

، وَالنُّصْحُ لِلَّهِ: الإِيمَانُ بِهِ، وَالعَمَلُ بِشَرِيعَتِهِ، وَتَرْكُ مَا يُخَالِفُهَا كَائِنًا مَا كَانَ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا نُصْحُ عِبَادِهِ، وَمَحَبَّةُ المُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، وَبَذْلُ النَّصِيحَةِ لَهُمْ فِي أَمْرِ الجِهَادِ، وَتَرْكُ المُعَاوَنَةِ لِأَعْدَائِهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ.

وَنَصِيحَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَطَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا يَامُرُ بِهِ أَو يَنْهَى عَنْهُ، وَمُوَالَاةُ مَنْ وَالَاهُ، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ، وَمَحَبَّتُهُ، وَتَعْظِيمُ سُنَّتِهِ، وَإِحْيَاؤُهَا بَعْدَ مَوتِهِ بِمَا تَبْلُغُ إِلَيهِ القُدْرَةُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الدِّينُ النَّصِيحَةُ» "

(3)

.

- وَقَالَ الإمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " وَمِنَ النَّصِيحَةِ للهِ تَعَالَى وَلِكِتَابِهِ: إِكْرَامُ قَارِئِهِ

(1)

النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (5/ 63).

(2)

وَأَيضًا: "النُّصْحُ: بِمَعْنَى الالتِئَامِ وَالوَصْلِ بَينَ شَيئَينِ، كَمَا يُقَالُ عَنِ الخَيَّاطِ نَاصِحٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْصَحُ الطَّرَفَينِ، أَي: يَجْمَعُهُمَا بِالخِيَاطَةِ". انْظُرْ كِتَابَ (لِسَانُ العَرَبِ)(2/ 617).

(3)

فَتْحُ القَدِيرِ (2/ 446).

ص: 140

وَطَالِبِهِ، وَإِرْشَادُهُ إِلَى مَصْلَحَتِهِ، وَالرِّفْقُ بِهِ، وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى طَلَبِهِ بِمَا أَمْكَنَ، وَتَالِيفُ قَلْبِ الطَّالِبِ، وَأَنْ يَكُونَ سَمْحًا بِتَعْلِيمِهِ فِي رِفْقٍ، مُتَلَطِّفًا بِهِ، وَمُحَرِّضًا لَهُ عَلَى التَّعَلُّمِ"

(1)

.

- وَفِي مَعْنَى النَّصِيحَةِ لِعَامَّةِ المُؤْمِنِينَ الحَدِيثُ "المُؤْمِنُ مِرْآةُ المُؤْمِنِ، وَالمُؤْمِنُ أَخُو المُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيهِ ضَيعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ"

(2)

.

- المُتَأَمِّلُ فِي الحَدِيثِ يَجِدُهُ جَمَعَ الدِّينَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ النَّصِيحَةُ، وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلعَقَائِدِ وَالعِبَادَاتِ وَالمُعَامَلَاتِ وَحُقُوقِ الخَلْقِ.

(1)

التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ (ص: 39).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4918) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (926).

ص: 141

‌الحَدِيثُ الثَّامِنُ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهَمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ وُجُوبِ قِتَالِ النَّاسِ كَافَّةً حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاللهِ تَعَالَى وَيَدْخُلُوا الإِسْلَامَ، ثُمَّ يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَ الإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِاليَومِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}

[التَّوبَة: 29].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِتَالِ الجَمَاعَةِ المُمْتَنِعِينَ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ مِنَ القُرْآنِ قَولُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التَّوبَة: 5]، وَقَولُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التَّوبَة: 11] "

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (25)، وَمُسْلِمٌ (22).

وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ كَمَا قَالَهُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الفَتْحُ الكَبِيرُ)(2617).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 231).

ص: 142

- إِنَّ قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَا يَكُونُ ابْتِدَاءً؛ وَإِنَّمَا بَعْدَ الإِعْلَامِ وَالإِنْذَارِ.

وَبِالجُمْلَةِ إنْ هُمْ أَبَوا فَإِنَّهُم يُقَاتَلُونَ، إِلَّا إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ فَيَسْقُطُ عَنْهُمُ القِتَالُ بِالجِزَيَةِ. كَمَا فِي حَدِيثِ بُرَيدَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ

(1)

.

قَالَ الإِمَامُ الشَّوكَانِيُّ رحمه الله: " وَقَدْ ذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الدَّعْوَةِ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، وَلَا تَجِبُ لِمَنْ قَدْ بَلَغَتْهُم، وَذَهَبَ قَومٌ إِلَى الوُجُوبِ مُطْلَقًا"

(2)

.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " يَجِبُ -أَي: الإِنْذَارُ قَبْلَ الإِغَارَةِ- إِنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، وَلَا يَجِبُ إِنْ بَلَغَتْهُم؛ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ مَولَى ابْنِ عُمَرَ وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ وَالثَّورِيُّ وَاللَّيثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَورٍ وَابْنُ

(1)

وَلَفْظُهُ عَنْ بُرَيدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيشٍ أَو سَرِيَّةٍ أَوصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ؛ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيرًا، فَقَالَ:"اُغْزُوَا بِسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوَا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَو خِلَالٍ-، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ. ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ؛ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ المُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيهِمْ مَا عَلَى المُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ المُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيهِمْ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الغَنِيمَةِ وَالفَيءِ شَيءٌ؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوا؛ فَاسْأَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ؛ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكَفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوا؛ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ؛ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ؛ فَإِنَّكُمْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ؛ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ؛ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1731).

(2)

الدَّرَارِيُّ المَضِيَّةُ (2/ 445).

ص: 143

المُنْذِرِ وَالجُمْهُورُ. قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: وَهُوَ قَولُ أَكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى مَعْنَاهُ"

(1)

.

- كَمَا يَحْرُمُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ وَالشُّيُوخِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ.

قَالَ الإِمَامُ الشَّوكَانِيُّ رحمه الله: " يَحْرُمُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ وَالشُّيُوخِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَينِ وَغَيرِهِمَا، قَالَ: (وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَنَهَى رَسُولُ اللهِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ) "

(2)

.

- ظَاهِرُ الحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُكفُّ عَنْهُم إِلَّا بالشَّهَادَتَينِ وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالأَمْرُ لَيسَ كَذَلِكَ! بَلِ المَقْصُودُ هُوَ قَولُ:(لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) وَالتِزَامُ جَمِيعِ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ، وَأَعْظَمُهَا حَقُّ اللهِ المُتَعَلِّقُ بِالبَدَنِ وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَحَقُّ اللهِ المُتَعَلِّقُ بِالمَالِ وَهُوَ الزَّكَاةُ.

وَقَدْ دَلَّ لِذَلِكَ لَفْظُ الحَدِيثِ عَنْ أَبي هُرَيرَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا "أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ"

(3)

.

وَأَيضًا اللَّفْظُ الثَّانِي عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا فِي البُخَارِيِّ "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوا صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا؛ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَينَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا؛ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ"

(4)

.

- مَعْنَى الالتِزَامِ بِشَرَائِعِ الإِسْلَامِ: أَي: الإِقْرَارُ بِفَرْضِيَّتِهَا وَوُجُوبِهَا عَلَيهِم؛

(1)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (12/ 36).

(2)

الدَّرَارِيُّ المَضِيَّةُ (2/ 445).

(3)

مُسْلِمٌ (21).

(4)

البُخَارِيُّ (392).

ص: 144

وَأَنَّهُم مُخَاطَبُونَ بِهَا، أَي: مُخَاطَبُونَ بِكُلِّ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ، وَتُقَاتَلُ الطَّوَائِفُ المُمْتَنِعَةُ عَنْهَا، كَمَا فِي قِتَالِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه لِمَانِعِي الزَّكَاةِ.

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله -لَمَّا سُئِلَ عَنْ قِتَالِ التَّتَارِ-: " كُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنِ التِزَامِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ المُتَوَاتِرَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ القَومِ وَغَيرِهِمْ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَلْتَزِمُوا شَرَائِعَهُ -وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ نَاطِقِينَ بِالشَّهَادَتَينِ وَمُلْتَزِمِينَ بَعْضَ شَرَائِعِهِ-، كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم مَانِعِي الزَّكَاةَ، وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ بَعْدَ سَابِقَةِ مُنَاظَرَةِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما.

فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم عَلَى القِتَالِ عَلَى حُقُوقِ الإِسْلَامِ عَمَلًا بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَشَرَةِ أَوجُهٍ الحَدِيثُ عَنِ الخَوَارِجِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ شَرُّ الخَلْقِ وَالخَلِيقَةِ، مَعَ قَولِهِ:"تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ"

(1)

! فَعُلِمَ أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِصَامِ بِالإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ التِزَامِ شَرَائِعِهِ لَيسَ بِمُسْقِطٍ لِلْقِتَالِ، فَالقِتَالُ وَاجِبٌ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَحَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ؛ فَمَتَى كَانَ الدِّينُ لِغَيرِ اللهِ فَالقِتَالُ وَاجِبٌ.

فَأَيُّمَا طَائِفَةٍ امْتَنَعَتْ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَاتِ أَوِ الصِّيَامِ أَوِ الحَجِّ أَو عَنِ التِزَامِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ وَالخَمْرِ وَالزِّنَا وَالمَيسِرِ أَو عَنْ نِكَاحِ ذَوَاتِ المَحَارِمِ أَو عَنِ التِزَامِ جِهَادِ الكُفَّارِ أَو ضَرْبِ الجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الكِتَابِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الدِّينِ وَمُحَرَّمَاتِهِ الَّتِي لَا عُذْرَ لِأَحَدِ فِي جُحُودِهَا وَتَرْكِهَا -الَّتِي يَكْفُرُ الجَاحِدُ لِوُجُوبِهَا-؛ فَإِنَّ الطَّائِفَةَ المُمْتَنِعَةَ تُقَاتَلُ عَلَيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُقِرَّةً بِهَا، وَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَينَ العُلَمَاءِ"

(2)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3610)، وَمُسْلِمٌ (1064) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا.

(2)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (28/ 502).

ص: 145

وَمَعْنَى قَولِ العُلَمَاءِ: تُقَاتَلُ الطَّائِفَةُ المُمْتَنِعَةُ: أَنَّهُ " لَو اجْتَمَعَ أُنَاسٌ فَقَالُوا: نَحْنُ نَلْتَزِمُ بِأَحْكَامِ الإِسْلَامِ لَكِنْ لَا نَلْتَزِمُ بِالأَذَانِ! بِمَعْنَى أَنَّ الأَذَانَ لَيسَ لَنَا! وَإِنَّمَا لِطَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ الأُمَّةِ! أَو يَقُولُونَ: نَلْتَزِمُ إِلَّا الزَّكَاةَ؛ فَلَسْنَا مُخَاطَبِينَ بِأَنْ نُعْطِيهَا الإِمَامَ! يَعْنَي: أَنَّهُم يَعْتَقِدُونَ أَنَّ شَيئًا مِنَ الشَّرِيعَةِ لَيسُوا دَاخِلِينَ فِيهِ؛ هَذَا الَّذِي يُسَمَّى (الامْتِنَاعُ)، مِثْلَمَا حَصَلَ مِن مَانِعِي الزَّكَاةِ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، وَمِثْلَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ سُقُوطَ التَّكَالِيفِ عَنْهُم؛ أَوَ أَنَّهُم غَيرُ مُخَاطَبِينَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ وَأَنَّهُم غَيرُ مُخَاطَبِينَ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ"

(1)

.

- قَولُهُ: «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله» : (حَتَّى) هَلْ هِيَ لِلتَّعْلِيلِ بِمَعْنَى أَنْ أُقَاتِلَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَشْهَدُوا، أَو هِيَ لِلغَايَةِ بِمَعْنَى أُقَاتِلُهُم إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا؟ وَالجَوَابُ: أَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، وَلَكِنَّ الثَّانِي أَظْهَرُ، يَعْنِي أُقَاتِلُهُم إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا.

-قَولُهُ: «حَتَّى يَشْهَدُوا» : جَاءَ فِي رِوَايَةِ طَارِقٍ الأَشْجَعِيِّ بِلَفْظِ «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ؛ وَحِسَابُهُ عَلَى الله عز وجل» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

- الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ هُنَا لَيسَتَا عَلَى إِطْلَاقِهِمَا! بَلْ هِيَ المَعْهُودَةُ: أَي: صَلَاةُ الفَرِيضَةِ، وَزَكَاةُ الفَرِيضَةِ.

- المُقَاتَلَةُ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ تَكُونُ لِمَنْ امْتَنَعَ مِنْهَا وَقَاتَلَ عَلَيهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ يُقاتِلْ؛ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرًا، كَمَا فِي الحَدِيثِ «مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا؛ فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا؛ فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عز وجل»

(3)

.

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لصَالِح آلِ الشَّيخِ (ص: 173).

(2)

مُسْلِمٌ (23).

(3)

حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (1575) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1499).

"العَزْمَةُ: الحَقُّ وَالوَاجِبُ". شَرْحُ أَبِي دَاوُد لِلعَينِي (6/ 261).

ص: 146

- فِي الصَّحِيحينِ قِصَّةُ تَحَاوُرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَهُوَ أَنَّ أَبَا هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ؛ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: " كَيفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؛ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ؟!» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَينَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَو مَنَعُونِي عَنَاقًا

(1)

كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَ اللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ"

(2)

(3)

.

- إِنَّ مَانِعِي الزَّكَاةِ هُؤُلَاءِ -عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ- لَيسُوا مُرْتَدِّينَ! بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ البُغَاةِ الَّذِينَ يُقَاتَلُونَ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ بَغْيِهِم.

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: " قَالَ الخَطَّابِيُّ رحمه الله: مِمَّا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ فِي هَذَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ أَهْلَ الرِّدَّةِ كَانُوا صِنْفَينِ:

1 -

صِنْفٌ ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ، وَنَابَذُوا المِلَّةَ، وَعَادُوا إِلَى الكُفْرِ، وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمْ أَبُو هُرَيرَة بِقَولِهِ:" وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ".

(1)

(العَنَاقُ): هُوَ الصَّغِيرُ مِنْ وَلَدِ المَعْزِ، وَفِي رِوَايَةٍ (عِقَالًا).

(2)

البُخَارِيُّ (6925)، وَمُسْلِمٌ (20).

(3)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَفِي القِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تَخْفَى عَلَى بَعْضِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ؛ وَيَطَّلِعَ عَلَيهَا آحَادُهُم! وَلِهَذَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَى الآرَاءِ -وَلَو قَوِيَتْ- مَعَ وُجُودِ سُنَّةٍ تُخَالِفُهَا، وَلَا يُقَالُ: كَيفَ خَفِيَ ذَا عَلَى فُلَان! وَاللهُ المُوَفِّقُ". فَتْحُ البَارِي (1/ 76).

ص: 147

وَهَذِهِ الفِرْقَة طَائِفَتَانِ:

أ- إِحْدَاهُمَا أَصْحَابُ مُسَيلِمَةَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَغَيرِهمْ -الَّذِينَ صَدَّقُوهُ عَلَى دَعْوَاهُ فِي النُّبُوَّةِ-، وَأَصْحَابُ الأَسْوَدِ العَنْسِيِّ وَمَنْ كَانَ مِنْ مُسْتَجِيبِيهِ مِنْ أَهْل اليَمَن وَغَيرهمْ، وَهَذِهِ الفِرْقَةُ بِأَسْرِهَا مُنْكِرَةٌ لِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ مُدَّعِيَةً النُّبُوَّةَ لِغَيرِهِ، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْر رضي الله عنه حَتَّى قَتَلَ اللهُ مُسَيلِمَةَ بِاليَمَامَةِ؛ وَالعَنْسِيَّ بِصَنْعَاءَ، وَانْفَضَّتْ جُمُوعُهُمْ وَهَلَكَ أَكْثَرهمْ.

ب- وَالطَّائِفَة الأُخْرَى ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ، وَأَنْكَرُوا الشَّرَائِعَ، وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَغَيرِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ يُسْجَدُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي بَسِيطِ الأَرْضِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدٍ: مَسْجِدِ مَكَّةَ وَمَسْجِدِ المَدِينَةِ وَمَسْجِدِ عَبْدِ القَيسِ فِي البَحْرَينِ فِي قَرْيَة يُقَالُ لَهَا جُوَاثَا" ....

2 -

وَالصِّنْفُ الآخَرُ هُمُ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَينَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَأَقَرُّوا بِالصَّلَاةِ، وَأَنْكَرُوا فَرْضَ الزَّكَاةِ وَوُجُوبَ أَدَائِهَا إِلَى الإِمَامِ!

وَهَؤُلَاءِ عَلَى الحَقِيقَةِ أَهْلُ بَغْيٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُدْعَوَا بِهَذَا الِاسْم فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ خُصُوصًا لِدُخُولِهِمْ فِي غِمَارِ أَهْلِ الرِّدَّة، فَأُضِيفَ الِاسْمُ فِي الجُمْلَةِ إِلَى الرِّدَّةِ إِذْ كَانَتْ أَعْظَمَ الأَمْرَينِ وَأَهَمَّهُمَا.

وَأُرِّخَ قِتَالُ أَهْلِ البَغْي فِي زَمَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه إِذْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِي زَمَانِهِ لَمْ يَخْتَلِطُوا بِأَهْلِ الشِّرْكِ، وَقَدْ كَانَ فِي ضِمْنِ هَؤُلَاءِ المَانِعِينَ لِلزَّكَاةِ مَنْ كَانَ يَسْمَحُ بِالزَّكَاةِ وَلَا يَمْنَعُهَا؛ إِلَّا أَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ صَدُّوهُمْ عَنْ ذَلِكَ الرَّاي وَقَبَضُوا عَلَى أَيدِيهمْ فِي ذَلِكَ، كَبَنِي يَرْبُوع؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا صَدَقَاتِهمْ وَأَرَادُوا أَنْ يَبْعَثُوا بِهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه؛ فَمَنَعَهُمْ مَالِك بْن نُوَيرَةَ مِنْ ذَلِكَ وَفَرَّقَهَا

ص: 148

فِيهِمْ .... فَأَمَّا مَانِعُوا الزَّكَاةِ مِنْهُمُ المُقِيمُونَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ بَغْيٍ وَلَمْ يُسَمَّوا عَلَى الِانْفِرَادِ مِنْهُمْ كُفَّارًا -وَإِنْ كَانَتِ الرِّدَّةُ قَدْ أُضِيفَتْ إِلَيهِمْ لِمُشَارَكَتِهِمُ المُرْتَدِّينَ فِي مَنْعِ بَعْضِ مَا مَنَعُوهُ مِنْ حُقُوقِ الدِّينِ-؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّةَ اسْمٌ لُغَوِيٌّ، وَكُلُّ مَنِ انْصَرَفَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ مُقْبِلًا عَلَيهِ فَقَدْ ارْتَدَّ عَنْهُ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ القَومِ الِانْصِرَافُ عَنْ الطَّاعَةِ، وَمَنْعُ الحَقِّ، وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ اسْمُ الثَّنَاءِ وَالمَدْحِ بِالدِّينِ، وَعَلَقَ بِهِمُ الِاسْمُ القَبِيحُ لِمُشَارَكَتِهِمُ القَومَ الَّذِينَ كَانَ ارْتِدَادُهُمْ حَقًّا) انْتَهَى بِحَذْفٍ يَسِيرٍ"

(1)

.

(1)

شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1/ 202).

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "فَإِنْ قِيلَ كَيفَ تَأَوَّلْتَ أَمْرَ الطَّائِفَةِ الَّتِي مَنَعَتِ الزَّكَاةَ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيهِ وَجَعَلْتهمْ أَهْلَ بَغْيٍ؛ وَهَلْ إِذَا أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي زَمَاننَا فَرْضَ الزَّكَاةِ، وَامْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا؛ يَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ البَغْي؟!

قُلْنَا: لَا، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ فَرْضَ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ كَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ، وَالفَرْقُ بَينَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا عُذِرُوا لِأَسْبَابٍ وَأُمُورٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ، مِنْهَا قُرْبُ العَهْدِ بِزَمَانِ الشَّرِيعَةِ الَّذِي كَانَ يَقَعُ فِيهِ تَبْدِيلُ الأَحْكَامِ بِالنَّسْخِ، وَمِنْهَا أَنَّ القَومَ كَانُوا جُهَّالًا بِأُمُورِ الدِّينِ، وَكَانَ عَهْدُهُمْ بِالإِسْلَامِ قَرِيبًا؛ فَدَخَلَتْهُمُ الشُّبْهَةُ فَعُذِرُوا.

فَأَمَّا اليَومَ وَقَدْ شَاعَ دِينُ الإِسْلَامِ وَاسْتَفَاضَ فِي المُسْلِمِينَ عِلْمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ حَتَّى عَرَفَهَا الخَاصُّ وَالعَامُّ، وَاشْتَرَكَ فِيهِ العَالِمُ وَالجَاهِلُ؛ فَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِتَاوِيلٍ يَتَأَوَّلُهُ فِي إِنْكَارِهَا، وَكَذَلِكَ الأَمْرُ فِي كُلِّ مَنْ أَنْكَرَ شَيئًا مِمَّا أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَيهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ -إِذَا كَانَ عِلْمُهُ مُنْتَشِرًا- كَالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، وَصَومِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالِاغْتِسَالِ مِنَ الجَنَابَةِ، وَتَحْرِيمِ الزِّنَا، وَالخَمْرِ، وَنِكَاحِ ذَوَاتِ المَحَارِم، وَنَحْوِهَا مِنَ الأَحْكَامِ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا حَدِيثَ عَهْدٍ بِالإِسْلَامِ، وَلَا يَعْرِفُ حُدُودَهُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا أَنْكَرَ شَيئًا مِنْهَا جَهْلًا بِهِ لَمْ يَكْفُرْ، وَكَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ أُولَئِكَ القَومِ فِي بَقَاءِ اسْم الدِّينِ عَلَيهِ".

ص: 149

- فِي الحَدِيثِ فَوَائِدُ:

1 -

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ عَبْدٌ مَامُورٌ يُوجَّهُ إِلَيهِ الأَمْرُ كَمَا يُوَجَّهُ إِلَى غَيرِهِ، لِقَولِهِ:«أُمِرْتُ» .

2 -

وُجُوبُ مُقَاتَلَةِ النَّاسِ حَتَّى يَقُومُوا بِهَذِهِ الأَعْمَالِ، وَعَلَيهِ فَإِنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُدْعَى إِلَيهَا؛ فَإِنْ أَبَى فَإِنَّهُ يُقْتَلُ

(1)

.

3 -

أَنَّ الدَّمَ لَا يُعْصَمُ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَتَينِ؛ حَتَّى يَقُومَ بِحُقُوقِهِمَا، وَآكَدُ حُقُوقِهِمَا الصَّلَاةُ؛ فَلِذَلِكَ خَصَّهَا بِالذّكْرِ.

4 -

فَرَضِيَّةُ الجِهَادِ.

5 -

أَنَّ الكُفَّارَ تُبَاحُ دِمَاؤُهُم وَأَمْوَالُهُم إِذَا لَمْ يَشْهَدُوا بِالتَّوحِيدِ.

6 -

أَنَّ حِسَابَ الخَلْقِ عَلَى اللهِ عز وجل؛ وَأَنَّهُ لَيسَ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا البَلَاغُ، كَمَا فِي لفْظِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ وَفِي آخِرِهِ " ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيهِمْ بِمُصَيطِرٍ} [الغَاشِيَة: 21، 22] "

(2)

.

7 -

أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الإِسْلَامَ، وَأَسَرَّ الكُفْرَ؛ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَهَذَا قَولُ أَكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ

(3)

.

8 -

أَنَّ الأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَى الظَّاهِرِ.

(1)

وَقَدْ جَرَى العَمَلُ مِنَ الخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَجَعَلَ مَانِعَ الزَّكَاةِ كَتَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ قِتَالِهِ لِإِلْزَامِهِ بِهِمَا، كَمَا فِي قَولِهِ:"وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَينَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ". وَالحَدِيثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6925)، وَمُسْلِمٌ (20).

(2)

مُسْلِمٌ (21).

(3)

عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ مِلَّةٍ بَاطِنِيَّةٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ مُطْلَقًا حَتَّى يُعْلِنَ بَرَاءَتَهُ مِنْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ يُحْتَاطُ عُمُومًا فِي أَمْرِهِم، وَسَيَاتِي كَلَامُ شَيخِ الإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ.

ص: 150

9 -

فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ دِينَ الإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ؛ كَفَاهُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيهِ تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ المُتَكَلِّمِينَ وَمَعْرِفَةُ اللهِ بِهَا! خِلَافًا لِمَنْ أَوجَبَ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي نَحْوِ أَهْلِ القِبْلَة.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ دَقِيق العِيد رحمه الله: " وَهُوَ مَذْهَبُ المُحَقِّقِينَ وَالجَمَاهِيرِ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ"

(1)

.

قُلْتُ: وَفِي الحَدِيثِ " كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرِضَ؛ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَاسِهِ، فَقَالَ لَهُ:«أَسْلِمْ» فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ -وَهُوَ عِنْدَهُ-، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ:«الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ»

(2)

"، فَالحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ وُجُوبِ تَعَلُّمِ أَدِلَّةِ المُتَكَلِّمِينَ، وَالاكْتِفَاءِ بِالاعْتِقَادِ الجَازِمِ.

(1)

فِي شَرْحِهِ عَلَى الأَرْبَعِينَ (ص: 55).

(2)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (1356) عَنْ أَنَسٍ.

ص: 151

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- مَسْأَلَةٌ: هَلْ يُقْبَلُ إِسْلَامُ أَيِّ كَافِرٍ بِمُجَرَّدِ قَولِ الشَّهَادَتَينِ؟

الجَوَابُ: الأَصْلُ فِي قَبُولِ إِسْلَامِ الكَافِرِ هُوَ قَولُ الشَّهَادَتِينِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِهَذَا الكَافِرِ اعْتِقَادٌ خَاصٌّ سَابِقٌ؛ فَلَا يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ مُطْلَقًا حَتَّى يُضِيفَ إِلَى الشَّهَادَتِينِ إِبْطَالَ عَقِيدَتِهِ الخَاصَّةِ السَّابِقَةِ، كَمَا فِي لَفْظِ الحَدِيثِ «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عز وجل»

(1)

.

فَالبَاطِنِيُّ الَّذِي يُؤَلِّهُ عَلِيًّا رضي الله عنه؛ لَا أَقُولُ: إِذَا صَلَّى فَقَطْ -بَلْ وَإِذَا نَطَقَ الشَّهَادَتَينِ أَيضًا- أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا! لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُهَا عَلَى مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا عَلِيٌّ)!! لِذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يُعْلِنَ بُطْلَانَ مَا كَانَ عَلَيهِ سَابِقًا، وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ لَيسَتْ مُجَرَّدَ قَولِهَا! بَلْ وَلَا مُجَرَّدَ إِقَامَةِ مَظَاهِرِ تَوحِيدِ اللهِ تَعَالَى! بَلْ

لَا بُدَّ مِنَ الكُفْرِ بِغَيرِ اللهِ تَعَالَى مِنَ المَعْبُودَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

[البَقَرَة: 256]

(2)

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: كِتَابُ الرِّدَّةِ، فَصْلٌ فِيمَا تَحْصُلُ بِهِ تَوبَةُ المُرْتَدِّ، وَفِي مَعْنَاهَا إِسْلَامُ الكُفَّارِ الأَصْلِيِّ: " وَقَدْ وَصَفَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه تَوبَتَهُ؛ فَقَالَ: أَنْ يَشْهَدَ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ويَبْرَأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ

(1)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (23) مِنْ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ مَرْفُوعًا.

(2)

وَبِنَحْوِهِ أَيضًا أَفَادَ المُوَفَّقُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي كِتَابِه (المُغْنِي)(9/ 21).

وَانْظُرْ أَيضًا فَتْوَى الشَّيخِ ابْنِ بَازٍ رحمه الله فِي صَدَّام حُسَين فِي (مَجْمُوعُ فَتَاوَى ابْنِ بَاز)(6/ 121).

ص: 152

الإِسْلَامَ، وَقَالَ فِي مَوضِعٍ [أَي: الشَّافِعِيُّ]: إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتينِ صَارَ مُسْلِمًا. وَلَيسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ قَولٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الأَصْحَابِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الظِّهَارِ؛ بَلْ يَخْتَلِفُ الحَالُ بِاخْتِلَافِ الكُفَّارِ وَعَقَائِدِهِم"

(1)

.

وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله أَيضًا: " وَأَنَّ الثَّنَوِيَّ إِذَا قَالَ: (لَا إِلَهَ إلِّا اللهَ) لَمْ يَكُنْ مُؤمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنَ القَولِ بِقِدَمِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ؛ وَأَنْ لَا قَدِيمَ إِلَّا اللهُ؛ كَانَ مُؤمِنًا"

(2)

.

وَقَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله -فِي مَعْرِضِ الجَوَابِ عَنْ قَبُولِ تَوبَةِ النُّصَيرِيَّةِ-:

" لَكِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا أُخِذُوا فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ التَّوبَةَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ مَذْهَبِهِمُ التَّقِيَّةُ وَكِتْمَانُ أَمْرِهِمْ، وَفِيهِمْ مَنْ يُعْرَفُ وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ لَا يُعْرَفُ، فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُحْتَاطَ فِي أَمْرِهِمْ؛ فَلَا يُتْرَكُونَ مُجْتَمِعِينَ، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ وَلَا أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُقَاتِلَةِ، وَيُلْزَمُونَ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَيُتْرَكُ بَينَهُمْ مِنْ يُعَلِّمُهُمْ دِينَ الإِسْلَامِ، وَيُحَالُ بَينَهُمْ وَبَينَ مُعَلِّمِهِمْ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ وَجَاؤُوا إلَيهِ قَالَ لَهُمُ الصِّدِّيقُ: اخْتَارُوا؛ إمَّا الحَرْبَ المُجْلِيَةَ، وَإِمَّا السِّلْمَ المُخْزِيَةَ. قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ؛ هَذِهِ الحَرْبُ المُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا؛ فَمَا السِّلْمُ المُخْزِيَةُ؟ قَالَ: تَدَونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ، وَتَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَنُقَسِّمُ مَا أَصَبْنَا

ص: 153

مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَتُنْزَعُ مِنْكُمُ الحَلَقَةُ [الدُّرُوعُ] وَالسِّلَاحُ، وَتُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الخَيلِ، وَتُتْرَكُونَ تَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالمُؤْمِنَينَ أَمْرًا بَعْدَ رِدَّتِكُمْ. فَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ؛ إِلَّا فِي تَضْمِينِ قَتْلَى المُسْلِمِينَ"

(1)

.

وَقَالَ الإِمَامُ المُجدِّدُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله: " وَمِنْهَا قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عز وجل» وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّلَفُّظَ بِهَا عَاصِمًا لِلدَّمِ وَالمَالِ! بَلْ وَلَا مَعْرِفَةَ مَعْنَاهَا مَعَ لَفْظِهَا! بَلْ وَلَا الإِقْرَارَ بِذَلِكَ! بَلْ وَلَا كَونَهُ لَا يَدْعُو إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ! بَلْ لَا يَحْرُمُ مَالُهُ وَدَمُهُ حَتَّى يُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ الكُفْرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ فَإِنْ شَكَّ أَو تَوَقَّفَ لَمْ يَحْرُمْ مَالُهُ وَدَمُهُ"

(2)

.

وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " وَفِي قَولِهِ: «وكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكْفُرَ بِعِبَادَةِ مَنْ يُعَبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، بَلْ وَتَكْفُرَ أَيضًا بِكُلِّ كُفْرٍ، فَمَنْ يَقولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَيَرَى أَنَّ النَّصَارَى وَاليَهُودَ اليَومَ عَلَى دِينٍ صَحِيحٍ؛ فَلَيسَ بِمُسْلِمٍ"

(3)

!

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (35/ 157).

(2)

كِتَابُ التَّوحِيدِ (ص: 26).

(3)

القَولُ المُفِيدُ (1/ 157).

ص: 154

‌الحَدِيثُ التَّاسِعُ: (مَا نَهَيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ)

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا نَهَيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ

(1)

.

- الحَدِيثُ بَوَّبَ عَلَيهِ البُخَارِيُّ رحمه الله بِـ (بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وَبَوَّبَ عَلَيهِ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِـ (بَابُ تَوقِيرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَرْكِ إِكْثَارِ سُؤَالِهِ عَمَّا لَا ضَرُورَةَ إِلَيهِ أَو لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ وَمَا لَا يَقَعُ، وَنَحْو ذَلِكَ)

(2)

.

- قَولُهُ: «مَا نَهَيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ» هَذَا كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحَشَر: 7].

- سَبَبُ الحَدِيثِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: " خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا». فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَو قُلْتُ: نَعَمْ؛ لَوَجَبَتْ! وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيءٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيتُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَدَعُوهُ» ".

(1)

البُخَارِيُّ (7288) وَمُسْلِم. (1337).

(2)

مُسْلِمٌ (4/ 1830).

ص: 155

وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ بِزِيَادَةِ " فأُنْزِلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المَائِدَة: 101] "

(1)

.

- إِنَّ تَحْرِيمَ مَا نُهِيَ عَنْهُ يَسْقُطُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالمُعْتَدِينَ} [الأَنْعَام: 119].

- الضَّرُورَةُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ؛ وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْلِ، وَالمَالِ، وَالعَقْلِ

(2)

.

- لِلضَّرُورَةِ الَّتِي تُبِيحُ المَحْظُورَةَ قُيُودٌ هِيَ:

1 -

أَنْ لَا يَجِدَ سِوَى هَذَا المُحَرَّمَ.

وَهَذَا كَمِثْلِ مَنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الهَلَاكَ مِنَ الجُوعِ؛ وَلَمْ يَجِدْ إِلَّا لَحْمَ مَيتَةٍ أَو لَحْمَ خِنْزِيرٍ.

2 -

أَنْ تَنْدَفِعَ بِهِ الضَّرُورَةُ.

وَهَذَا كَمِثْلِ مَنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الهَلَاكَ مِنَ العَطَشِ؛ وَلَمْ يَجِدْ إِلَّا خَمْرًا؛ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَعَاطِيهِ، لِأَنَّ الخَمْرَ -وَإِنْ كَانَتْ شَرَابًا- لَكِنَّهَا لَا تَزِيدُ شَارِبَهَا إِلَّا عَطَشًا.

3 -

أَنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا.

(1)

صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (3704).

(2)

ذَكَرَهَا الإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (المُوَافَقَاتُ)(2/ 20)، وَتَرْتِيبُهَا هُوَ مِنَ الأَعْلَى إِلَى الأَدْنَى.

ص: 156

فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الهَلَاكَ مِنَ الجُوعِ فَأَكَلَ مِنَ المَيتَةِ؛ فَلْيَاكُلْ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ بِهِ الهَلَاكَ.

- المَنْهِيُّ عَنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَتُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ القَرَائِنُ.

- قَولُهُ: «وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» : دَلِيلٌ عَلَى القَاعِدَةِ الفِقْهِيَّةِ

[لَا وَاجِبَ مَعَ العَجْزِ]، وَمِثَالُهَا كَمَا فِي البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ مَرْفُوعًا «صَلِّ قَائِمًا؛ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا؛ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»

(1)

، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البَقَرَة: 286].

- قَالَ العَلَّامَةُ شَمْسُ الحَقِّ العَظِيمُ آبَادِي عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ «إِنَّ أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا: مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيءٍ لَمْ يُحَرَّمْ؛ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»

(2)

:

" اعْلَمْ أَنَّ المَسْأَلَةَ عَلَى نَوعَينِ:

1 -

مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّبْيِينِ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ، كَسُؤَالِ عُمَرَ رضي الله عنه وَغَيرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي أَمْرِ الخَمْرِ حَتَّى حُرِّمَتْ بَعْدَمَا كَانَتْ حَلَالًا، لِأَنَّ الحَاجَةَ دَعَتْ إِلَيهِ.

2 -

مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالسُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ وَلَا دَعَتْ إِلَيهِ حَاجَةٌ؛ فَالسُكُوتُ فِي مِثْلِ هَذَا عَنْ جَوَابِهِ رَدْعٌ لِسَائِلِهِ، وَإِنْ أَجَابَ عَنْهُ كَانَ تَغْلِيظًا لَهُ، فَيَكُونُ بِسَبَبِهِ تَغْلِيظٌ عَلَى غَيرِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الكَبَائِرِ لِتَعَدِّي جِنَايَتِهِ

(1)

البُخَارِيُّ (1117).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7289)، وَمُسْلِمٌ (2358) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا.

ص: 157

إِلَى جَمِيعِ المُسْلِمِينَ غَيرِهِ"

(1)

.

- فِي تَفْسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المَائِدَة: 101، 102].

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله:

" يَنْهَى اللهُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ سُؤَالِ الأَشْيَاءِ الَّتِي إِذَا بُيِّنَتْ لَهُم سَاءَتْهُم وَأَحْزَنَتْهُم، وَذَلِكَ كَسُؤَالِ بَعْضِ المُسْلِمِينَ لِرَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ آبَائِهِم، وَعَنْ حَالِهِم -فِي الجَنَّةِ أَوِ النَّارِ-! فَهَذَا رُبَّمَا أَنَّهُ لَو بُيِّنَ لِلسَّائِلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ خَيرٌ

(2)

! وَكَسُؤَالِهِم لِلأُمُورِ غَيرِ الوَاقِعَةِ.

وَكَالسُّؤَالِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ تَشْدِيدَاتٌ فِي الشَّرْعِ رُبَّمَا أَحْرَجَتِ الأُمَّةَ، وَكَالسُّؤَالِ عَمَّا لَا يَعْنِي؛ فَهَذِهِ الأَسْئِلَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا هِيَ المَنْهِيُّ عَنْهَا، وَأَمَّا السُّؤَالُ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مَامُورٌ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأَنْبِيَاء: 7].

{وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أَي: وَإِذَا وَافَقَ سُؤَالُكُم مَحَلَّهُ

(1)

عَونُ المَعْبُودِ (12/ 236).

(2)

كَالحَدِيثِ الَّذِي فِي البُخَارِيِّ (92) عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: "سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ». قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ»، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «أَبُوكَ سَالِمٌ مَولَى شَيبَةَ». فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللهِ عز وجل".

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ "فَقَامَ إِلَيهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَينَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «النَّارُ» ". البُخَارِيُّ (7294)، وَمُسْلِمٌ (2359).

ص: 158

فَسَأَلْتُم عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ عَلَيكُمُ القُرْآنُ فَتَسْأَلُونَ عَنْ آيَةٍ أَشْكَلَتْ أَو حُكْمٍ خَفِيَ وَجْهُهُ عَلَيكُم فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ نُزُولُ الوَحْي مِنَ السَّمَاءِ {تُبْدَ لَكُم} أَي: تُبيَّنُ لَكُم وَتَظْهَرُ؛ وَإِلَّا فَاسْكُتُوا عَمَّا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ.

{عَفَا اللهُ عَنْهَا} أَي: سَكَتَ مُعَافِيًا لِعِبَادِهِ مِنْهَا، فَكُلُّ مَا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا أَبَاحَهُ وَعَفَا عَنْهُ {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .

وَهَذِهِ المَسَائِلُ الَّتِي نُهِيتُم عَنْهَا {قَدْ سَأَلَهَا قَومٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَي: جِنْسَهَا وَشَبَهَهَا -سُؤَالَ تَعَنُّتٍ لَا اسْتِرْشَادٍ

(1)

-؛ فَلَمَّا بُيِّنَتْ لَهُم وَجَاءَتْهُم {أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَا نَهَيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» "

(2)

.

قُلْتُ: وَفِي الحَدِيثِ الَّذِي فِي البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: " سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ». قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ»، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «أَبُوكَ سَالِمٌ مَولَى شَيبَةَ». فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللهِ عز وجل"

(3)

.

(1)

وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (7293) عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ، وَفِيهِ أَيضًا (7296) عَنْهُ مَرْفُوعًا «لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ؛ فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟».

(2)

تَفْسِيرُ السَّعْدِي (ص: 245).

(3)

البُخَارِيُّ (92).

ص: 159

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فَقَامَ إِلَيهِ رَجُلٌ؛ فَقَالَ: أَينَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «النَّارُ»

(1)

.

- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} بَيَانُ أَنَّ السُّؤَالَ إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ لَا بَاسَ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكَلُّفًا وَهُوَ مِنَ العَنَتِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ؛ فَاقْبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ نَسِيًّا» ! ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَم: 64]

(2)

.

وَلَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم يُرَخِّصُ فِي المَسَائِلِ إِلَّا لِلأَعْرَابِ وَنَحْوِهِم مِنَ الوُفُودِ القَادِمِينَ عَلَيهِ يَتَأَلَّفُهُم بِذَلِكَ، فَأَمَّا المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ -المُقِيمُونَ بِالمَدِينَةِ؛ الَّذِينَ رَسَخَ العِلْمُ وَالإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِم- فَقَدْ نُهُوا عَنِ المَسْأَلَةِ، كَمَا في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ قَالَ:" نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيءٍ، وَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَاتِيَهُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ"

(3)

.

- قَولُهُ: «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» : يَشْمَلُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى، كَمَا فِي أَسْئِلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عليه السلام عَنِ البَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا، فَلَمَّا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم شَدَّدَ اللهُ عَلَيهِم، وَلَو ذَبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَتْهُم؛ فإنّ اللهَ تَعَالَى قَالَ:{إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} -بِالتَّنْكِيرِ- إِلَى أَنْ قَالَ: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}

[البَقَرَة: 67، 68].

(1)

البُخَارِيُّ (7294)، وَمُسْلِمٌ (2359).

(2)

صَحِيحٌ. الدَّارَقُطْنِيُّ (2066) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2256).

(3)

مُسْلِمٌ (12).

ص: 160

- فِي الحَدِيثِ وُجُوبُ الكَفِّ عَمَّا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لِقَولِهِ:«مَا نَهَيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ» وَلَمْ يُقَيَّدْ بِالاسْتِطَاعَةِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ هُوَ تَرْكٌ وَلَيسَ فِعْلًا.

ص: 161

3 -

أَوجُهُ كَرَاهَةِ المَسَائِلِ:

1 -

مَا يُخْشَى مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرَّمْ، أَو إِيجَابِ مَا يَشُقُّ القِيَامُ بِهِ، وَهَذَا قَدْ أُمِنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

2 -

أَنَّ مَا يَحْتَاجُهُ المُسْلِمُ فِي دِينِهِ لَا بُدَّ أَنَّ يَاتِيَ بَيَانُهُ فِي الشَّرْعِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ؛ لَا سِيَّمَا وَأَنَّ القُدْوَةَ مَوجُودَةٌ، وَهِيَ شَخْصُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا كَانَتْ هِمَّةُ السَّامِعِ مَصْرُوفَةً عِنْدَ سَمَاعِ الأَمْرِ وَالنَّهْي إِلَى فَرْضِ أُمُورٍ قَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْي، وَيُثَبِّطُ عَنِ الجِدِّ فِي مُتَابَعَةِ الأَمْرِ.

- يَتَعَيَّنُ عَلَى المُسْلِمِ الحَرِيصِ عَلَى دِينِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:

1 -

البَحْثُ عَمَّا جَاءَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ.

2 -

الاجْتِهَادُ فِي فَهْمِهَا وَالوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهَا.

3 -

الاشْتِغَالُ بِالتَّصْدِيقِ بِذَلِكَ -إنْ كَانَ مِنَ الأُمُورِ العِلْمِيَّةِ-، وَالعَمَلُ بِهِ -إِنْ كَانَ مِنَ الأُمُورِ العَمَلِيَّةِ- فِعْلًا أَو تَرْكًا.

- فِي ذِكْرِ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ فِي ذَمِّ المَسَائِلِ مِمَّا لَا يَحْتَاجُهَا المُسْلِمُ:

1 -

سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنِ اسْتِلَامِ الحَجَرِ؛ فَقَالَ لَهُ: " رَأَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ". فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَرَأَيتَ إِنْ غُلِبْتُ عَنْهُ؟ أَرَأَيتَ إنْ زُوحِمْتُ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عمر: " اجْعَلْ (أَرَأَيتَ) بِاليَمَنِ، رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ يَسْتَلِمُهُ وَقَبَّلَهُ"

(2)

.

(1)

قُلْتُ: وَقَدْ يَحْصُلُ العَنَتُ مِنْ نَاحِيَةٍ قَدَرِيَّةٍ؛ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ تَعَالَى لِهَؤُلْاَءِ، كَمَا فِي قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُم لَمَّا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم فِي وَصْفِ البَقَرَةِ أَوَّلًا؛ شَدَّدَ اللهُ عَلَيهِم فِي وَصْفِهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا.

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1611).

ص: 162

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ أَنْ لَا يَكُونَ لَكَ هَمٌّ إِلَّا فِي الاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى فَرْضِ العَجْزِ عَنْ ذَلِكَ أَو تَعَسُّرِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَإِنَّهُ يُفْتِرُ العَزْمَ عَنِ المُتَابَعَةِ؛ فَإِنَّ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ وَالسُّؤَالَ عَنِ العِلْمِ إِنَّمَا يُحْمَدُ إِذَا كَانَ لِلعَمَلِ لَا لِلمِرَاءِ وَالجِدَالِ"

(1)

.

2 -

عَنِ الصَّلْتِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ طَاوُسًا عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لِي: " كَانَ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: آللَّه. قُلْتُ: آللَّه. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَنَا أَخْبَرُونَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَعْجَلُوا بِالبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ؛ فَيُذْهَبَ بِكُمْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا! فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَعْجَلُوا بِالبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ؛ لَمْ يَنْفَكَّ المُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ، وَإِذَا قَالَ وُفِّقَ) "

(2)

.

3 -

قَالَ الشَّعْبِيُّ: " سُئِلَ عَمَّارُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَدَعُونَا حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ؛ بَحَثْنَاهَا لَكُم"

(3)

.

4 -

عَنْ طَاوُس، قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه -وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ-:" أُحَرِّجُ بِاللَّهِ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ سَأَلَ عَنْ شَيءٍ لَمْ يَكُنْ؛ فَإِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ بَيَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ"

(4)

.

5 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه؛ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ؛ فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يَلْعَنُ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ".

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 241).

(2)

صَحِيحٌ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ (155)، وَقَالَ الشَّيخُ حُسَينُ أَسَد حَفِظَهُ اللهُ:"إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ".

(3)

سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (1/ 423).

(4)

هَذَا الأَثَرُ وَمَا بَعْدَهُ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ) وُفْقَ التَّرْتِيبِ التَّالِي: (2051)، (2067)، (2068)، (1604).

ص: 163

6 -

كَانَ زَيدُ بْنُ ثَابِتٍ؛ " إِذَا سَأَلَهُ إِنْسَانٌ عَنْ شَيءٍ؛ قَالَ: (آللَّه؛ أَكَانَ هَذَا؟) فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ؛ نَظَرَ وَإِلَّا لَمْ يَتَكَلَّمْ".

7 -

قَالَ مَسْرُوقُ: " سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنْ شَيءٍ؛ فَقَالَ: (أَكَانَ بَعْدُ؟) فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: (أَجِمَّنَا -يَعْنِي: أَرِحْنَا- حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ اجْتَهَدْنَا لَكَ رَايَنَا) ".

ص: 164

‌الحَدِيثُ العَاشِرُ: (إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا)

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المُؤْمِنُون: 51]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البَقَرَة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ؛ أَشْعَثَ أَغْبَرَ؛ يَمُدُّ يَدَيهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ؛ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟!» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

- فِي الحَدِيثِ الأَمْرُ بِالأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبِ، وَأَنَّهُ سِمَةُ المُرْسَلِينَ وَسِمَةُ المُؤْمِنِينَ بِالمُرْسَلِينَ، وَأَثَرُ ذَلِكَ الأَكْلِ الطَّيِّبِ مِنَ الحَلَالِ عَلَى عِبَادَةِ المَرْءِ، وَعَلَى قَبُولِ اللهِ تَعَالَى لِعَمَلِهِ وَلِدُعَائِهِ.

فَفِي قَولِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المُؤْمِنُون: 51] بَيَانُ أَنَّ الأَجْرَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} مُرَتَّبٌ عَلَى أَمْرَينِ هُمَا: الأَكْلُ الطَّيِّبُ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَالمُرَادُ بِهَذَا أَنَّ الرُّسُلَ وَأُمَمَهُمْ مَامُورُونَ بِالأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي هِيَ الحَلَالُ، وَبِالعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمَا دَامَ الأَكْلُ

(1)

مُسْلِمٌ (1015).

ص: 165

حَلَالًا فَالعَمَلُ الصَّالِحُ مَقْبُولٌ، فَإِذَا كَانَ الأَكْلُ غَيرَ حَلَالٍ؛ فَكَيفَ يَكُونُ العَمَلُ مَقْبُولًا؟ وَمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ؛ وَأَنَّهُ كَيفَ يُتَقَبَّلُ مَعَ الحَرَامِ! فَهُوَ مِثَالٌ لِاسْتِبْعَادِ قَبُولِ الأَعْمَالِ مَعَ التَّغْذِيَةِ بِالحَرَامِ"

(1)

.

- قَولُهُ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ» : يَعْنِي أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ وَالعُيُوبِ، وَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ القُدُّوسِ

(2)

؛ فَلَهُ أَنْوَاعُ الكَمَالَاتِ فِي القَولِ وَالفِعْلِ، فَكَلَامُهُ أَطْيَبُ الكَلَامِ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا أَفْعَالُ خَيرٍ وَحِكْمَةٍ.

- الطَّيِّبُ ضِدُّ الخَبِيثِ، كَمَا قَالَ اللهُ عز وجل:{قُلْ لَا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ}

[المَائِدَة: 100]،

فَإِذَا وُصِفَ بِهِ اللهُ تَعَالَى فَمَعْنَاهُ: المُنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ،

وَإِذَا وُصِفَ بِهِ العَبْدُ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ الخَالِي مِنْ رَذَائِلِ الأَخْلَاقِ وَقَبَائِحِ الأَعْمَالِ،

وَإِذَا وُصِفَ بِهِ المَالُ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ حَلَالٌ مِنْ خِيَارِ الأَمْوَالِ،

وَإِذَا وُصِفتْ بِهِ الأَعْيَانُ أُرِيدَ بِهَا الصَّلَاحُ وَعَدَمُ النَّجَاسَةِ،

وَإِذَا وُصِفتْ بِهِ العَقَائِدُ أُرِيدَ بِهَا الصِّحَّةُ،

وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الطَّعَامُ أُرِيدَ بِهِ اللَّذَّةُ وَالنَّظَافَةُ وَعَدَمُ النَّجَاسَةِ،

وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الكَلَامُ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: " وَالطَّيِّبَاتُ جَمْعُ طَيِّبَةٍ، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى المُسْتَلَذِّ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَعَلَى النَّظِيفِ، وَعَلَى مَا لَا أَذًى فِيهِ، وَعَلَى الحَلَالِ"

(3)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 260).

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلْنَوَوِيِّ (7/ 100).

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: "وَالطَّيِّبُ هُنَا: مَعْنَاهُ الطَّاهِرُ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 258).

(3)

فَتْحُ البَارِي (9/ 518).

ص: 166

- قَولُهُ: «لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» : أَي: لَا يَرْضَى إِلَّا الطَّيِّبَ، وَالطَّيِّبُ مَا كَانَ حَلَالًا.

- الطَّيِّبُ يَعُمُّ الأَقْوَالَ

(1)

وَالاعْتِقَادَاتِ وَالأَفْعَالَ، فَالطَّيِّبُ مِنَ الأَعْمَالِ: مَا كَانَ خَالِصًا للهِ؛ مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، وَالطَّيِّبُ مِنَ الأَمْوَالِ: مَا اكْتُسِبَ عَنْ طَرِيقٍ حَلَالٍ.

- إِنَّ العَبْدَ إِذَا التَزَمَ الطِّيبَ فِي القَولِ وَالعَمَلِ وَالاعْتِقَادِ صَارَ مِنَ الطَّيِّبِينَ، وَصَارَتْ لَهُ دَارُ الطَّيِّبِينَ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّحْل: 32].

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزُّمَر:73]

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ «إنّ المَيّتَ تحْضُرُه المَلائِكَةُ؛ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صالِحًا قالَ: اخْرُجِي أيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الجَسَدِ الطّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوحٍ وَرَيحانٍ وَرَبٍّ غَيرِ غَضْبَانَ»

(2)

.

- قَولُهُ: «لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» : القَبُولُ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ بِحَسْبِ سِيَاقِهِ وَقَرِينَتِهِ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ:

1 -

الإِجْزَاءُ، كَحَدِيثِ «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ»

(3)

.

(1)

كَقَولِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إِبْرَاهِيم: 24].

وقَالَ تَعَالَى: {إِلَيهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فَاطِر: 10].

وكحَدِيثِ «الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2989)، وَمُسْلِمٌ (1009) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (4262) عَنِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1968).

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (641) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2853).

ص: 167

2 -

وَقَدْ يُراد بِهِ الثَّوَابُ، كَحَدِيثِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيءٍ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيلَةً»

(1)

.

3 -

وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الرِّضَى بِالعَمَلِ؛ وَأَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، كَحَدِيثِ «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ -وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ-؛ فَإنَّ اللهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ»

(2)

، وَعَلَى هَذَا الوَجْهِ حَدِيثُ البَابِ.

- فِي الحَدِيثِ ذِكْرُ عِدَّة صِفَاتٍ لِلدَّاعِي -هِيَ مَظِنَّةُ الإِجَابَةِ-، وَهِيَ:

1 -

السَّفَرُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ المُظْلُومِ، ودَعْوَةُ المُسَافِرِ»

(3)

.

2 -

التَّوَاضُعُ حَالَ الدُّعَاءِ، لِقَولِهِ:«أَشْعَثَ أَغْبَرَ» ، وَهِيَ تُظْهِرُ الخُشُوعَ وَالاسْتِكَانَةَ وَالتَّذَلُّلَ للهِ تَعَالَى

(4)

.

3 -

رَفْعُ اليَدَينِ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ -عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ-، وَسَيَاتِي إِنْ شَاءَ اللهُ.

4 -

التَّوَسُّلُ بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ فِي الحَدِيثِ:«يَا رَبِّ» وَهُوَ أَكْثَرُ أَدْعِيَةِ الأَنْبِيَاءِ فِي القُرْآنِ.

- فِي الحَدِيثِ ذِكْرُ أَحَدِ مَوَانِعِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ وَهُوَ عَدَمُ التَّحَرُّزِ مِنَ

المَالِ الحَرَامِ.

(1)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2230) عَنْ بَعْضِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ.

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1410)، وَمُسْلِمٌ (1014) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1536) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3030).

(4)

وَمِنْ ذَلِكَ أَيضًا إِطَالَةُ السَّفَرِ؛ فَهُوَ أَدْعَى لِانْكِسَارِ النَّفْسِ وَتَوَاضُعِهَا وَرَجَائِهَا للهِ تَعَالَى.

ص: 168

وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ صِفَاتِ الدَّاعِي -الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الإِجَابَةِ- مَعَ اسْتِبْعَادِ الإِجَابَةِ؛ هُوَ بَيَانُ أَثَرِ المَطْعَمِ الحَرَامِ فِي مَنْعِ الإِجَابَةِ رُغْمَ كَثْرَةِ أَسْبَابِهَا.

- قَولُهُ: «فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟!» : اسْتِبْعَادٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسْتَجَابَ دُعَاءُ مَنْ هَذَا حَالُهُ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي عَدَمِ الوُقُوعِ؛ فَقَدْ يُسْتَجَابُ لَهُ لِعَارِضٍ آخَرَ، كَإِلْحَاحِهِ فِي الدُّعَاءِ، أَو إِخْلَاصِهِ عِنْدَ الاضْطِرَارِ، كَقَولِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العَنْكَبُوت: 65] وَهُمْ أَصْلًا مُشْرِكُونَ!

وَهَذِهِ الإِجَابَةُ لِلمُشْرِكِينَ تَظْهَرُ فِيهَا رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى العَامَّةُ بِعِبَادِهِ حَيثُ جَعَلَ لَهُم الإِجَابَةَ عِنْدَ الإِخْلَاصِ -فِي الشَّدَائِدِ- لِيَقْطَعَ عُرَى الشِّرْكِ مِنْ قُلُوبِهِم، وَتَقُومَ الحُجَّةُ عَلَيهِم فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ -رُغْمَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مَوَانِعِ الاسْتِجَابَةِ-، فَسُبْحَانَ اللهِ مَا أَرْحَمَهُ بِعِبَادِهِ.

اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ، وَأدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ.

- فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ المَالِ المُحَرَّمِ كَسْبًا -كَالمَالِ المَسْرُوقِ-، أَوِ المُحَرَّمِ لِعَينِهِ -كَالخَمْرِ وَالمَيتَةِ- لَا يَقْبَلُهُ اللهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَيسَ بِطَيِّبٍ، بَلْ هُوَ خَبِيثٌ.

- فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ يَكُونُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ، لِقَولِهِ تَعَالَى لِلرُّسُلِ:{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} ، وَقَالَ لِلمُؤْمِنِينَ:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّه} فَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى العَمَلَ الَّذِي فِي الآيَةِ الأُولَى شُكْرًا فِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سَبَأ: 13].

ص: 169

- فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الخَبَائِثِ، لِأَمْرِهِ تَعَالَى لِلرُّسُلِ بِالأَكْلِ {مِنْ الطَّيِّبَاتِ} وَلِلمُؤْمِنِينَ {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، لَكِنَّ مَدَارَ الخُبْثِ لَا يَقَعُ عَلَى مَا يَسْتَخْبِثُهُ النَّاسُ بِطِبَاعِهِم؛ فَكُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ طَبْعُهُ، وَإِنَّمَا الخَبِيثُ مَا اسْتَخْبَثَهُ الشَّرْعُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ هَذَا إِلَى عُقُولِ النَّاسِ! فَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَكْرَهُ مَا لَا يَعْتَادُ أَكْلُهُ مَثَلًا.

- فِي الحَدِيثِ جَوَازُ تَوجِيهِ الأَمْرِ لِمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ، حَيثُ أَمَرَ اللهُ

تَعَالَى المُرْسَلِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ أَصْلًا، وَهَذَا كَقَولِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ}

[الأَحْزَاب:1]

وَالوَاحِدُ مِنَّا -وَنَحْنُ مُفَرِّطُونَ- إِذَا قِيلَ لَهُ: (اتَّقِ اللهَ) انْتَفَخَ غَضَبًا، وَلَو قِيلَ لَهُ:(هَدَاكَ اللهُ) لَقَالَ: وَمَا الَّذِي أَنَا وَاقِعٌ فِيهِ؟! ورَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخَاطِبُهُ ربُّه بِقَولِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ} [الأَحْزَاب: 1]

(1)

!

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لِلْعُثَيمِين (ص: 148).

ص: 170

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- مَسْأَلَةٌ: هَلْ رَفْعُ اليَدَينِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ دُعَاءٍ؟

الجَوَابُ: هَذَا الرَّفْعُ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

1 -

مَا نُقِلَ فِيهِ رَفْعُ اليَدَينِ -مِثْلُ دُعَاءِ الخَطِيبِ لِلاسْتِسْقَاءِ أَوِ الاسْتِصْحَاءِ-؛ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيهِ، وَالمَامُومُونَ كَذَلِكَ

(1)

، وَمِثْلُهُ رَفْعُ اليَدَينِ فِي القُنُوتِ فِي النَّوَازِلِ أَو فِي الوِتْرِ

(2)

، وَكَذَلِكَ رَفْعُ اليَدَينِ عَلَى الصَّفَا وَعَلَى المَرْوَةِ

(3)

، وَفِي عَرَفَةَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَالرَّفْعُ فِيهِ مَشْرُوعٌ.

2 -

مَا لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ الرَّفعُ عِنْدَ ذِكْرِ صِفَةِ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم، كَالدُّعَاءِ حَالَ خُطْبَةِ الجُمُعَةِ -فِي غَيرِ الاسْتِسْقَاءِ وَالاسْتِصْحَاءِ-؛ فَلَو دَعَا الخَطِيبُ لِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ أَو لِنَصْرِ المُجَاهِدِينَ فِي خُطْبَةِ الجُمُعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ يَدَيهِ، وَلَو رَفَعَهُمَا لَأُنْكِرَ عَلَيهِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيبَةَ أَنَّهُ رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ -وَهُوَ يَدْعُو فِي

(1)

وحَدِيثهُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (1029).

(2)

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي أَشْرِطَةِ فتاوى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش: 395): "رَفْعُ اليَدَينِ فِي قُنُوتِ النَّوَازِلِ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الوِتْرِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ".

(3)

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَالَ: "أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ مَكَّةَ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالبَيتِ، ثُمَّ أَتَى الصَّفَا فَعَلَاهُ -حَيثُ يَنْظُرُ إِلَى البَيتِ- فَرَفَعَ يَدَيهِ، فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللهَ مَا شَاءَ أَنْ يَذْكُرَهُ وَيَدْعُوهُ. قَالَ: وَالأَنْصَارُ تَحْتَهُ. قَالَ هَاشِمٌ: فَدَعَا وَحَمِدَ اللهَ وَدَعَا بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ". صَحِيحٌ دُونَ قَولِهِ: (وَالأَنْصَارُ تَحْتَهُ). أَبُو دَاوُدَ (1872). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (1648).

تَنْبِيهٌ: قَالَ صَاحِبُ (عَونُ المَعْبُودِ بِشَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد)(5/ 228): "وَأَمَّا مَا يَفْعَلهُ العَوَامّ مِنْ رَفْع اليَدَينِ مَعَ التَّكْبِير عَلَى هَيئَة رَفْعهمَا فِي الصَّلَاة فَلَا أَصْل لَهُ".

ص: 171

يَومِ جُمُعَةٍ-؛ فَقَالَ عُمَارَةُ: " قَبَّحَ اللهُ هَاتَينِ اليَدَينِ، لَقَدْ رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ- مَا يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ؛ يَعْنِي السَّبَّابَةَ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ"

(1)

.

وَكَذَلِكَ رَفْعُ اليَدَينِ فِي دُعَاءِ الصَّلَاةِ كَالدُّعَاءِ بَينَ السَّجْدَتَينِ، وَالدُّعَاءَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ: الرَّفْعُ فِيهِ غَيرُ مَشْرُوعٍ.

3 -

مَا لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ الرَّفعُ وَلَا عَدَمُهُ

(2)

؛ فَالأَصْلُ الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ وَمِنْ أَسْبَابِ الإِجَابَةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ -إِذَا رَفَعَ إِلَيهِ يَدَيهِ- أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»

(3)

.

- تنبيه: وَأَمَّا مَسْحُ الوَجْهِ بِاليَدَينِ بَعْدَ الدُّعَاءِ فَقَدْ قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي الإِرْوَاءِ: " قَالَ النَّوَوِيُّ فِي المَجْمُوعِ: لَا يُنْدَبُ تَبَعًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَقَالَ: لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا جَاهِلٌ! وَمِمَّا يُؤَيِّدُ عَدَمَ مَشْرُوعيَّتِهِ أَنَّ رَفْعَ اليَدَينِ فِي الدُّعَاءِ قَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرْةٌ صَحِيحَةٌ وَلَيسَ فِي شَيءٍ مِنْهَا مَسْحُهُمَا بِالوَجْهِ! فَذَلِكَ يَدُلُّ

-إِنْ شَاءَ الله- عَلَى نَكَارَتِهِ وَعَدَمِ مَشْرُوعِيَّتِهِ"

(4)

.

(1)

مُسْلِمٌ (874).

(2)

أَي لَمْ تَرِدْ فِيهِ صِفَةُ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم، كَالأَدْعِيَةِ المُطْلَقَةِ.

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3556) عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1757).

(4)

الإِرْوَاءِ (2/ 182).

ص: 172

‌الحَدِيثُ الحَادِي عَشَرَ: (دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لا يُرِيبُكَ)

عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ؛ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ سِبْطِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَيحَانَتِهِ رضي الله عنهما؛ قَالَ: حَفِظْت مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إلَى مَا لَا يُرِيبُكَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ

(1)

.

- قَولُهُ: (سِبْط): السِّبْطُ: هُوَ ابْنُ البِنْتِ، أَمَّا ابْنُ الابْنِ فَيُسَمَّى حَفِيدًا.

- قَولُهُ: (وَرَيحَانَتُهُ): الرَّيحَانُ يُقْصَدُ بِهِ أَحَدُ أَمْرَينِ -وَهُوَ هُنَا صَحِيحٌ عَلَى الوَجْهَينِ مَعًا-:

1 -

الرَّيحَانُ بِمَعْنَى الرِّزْقِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله

(2)

.

2 -

الرَّيحَانُ المَشْمُومُ المَعْرُوفُ.

كَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ إِبْرَاهِيمَ؛ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ"

(3)

.

- قَولُهُ: «يُرِيبُكَ» بِفَتْحِ اليَاءِ وَضَمِّهَا: أَي: مَا تَشُكُّ فِيهِ.

- الحَدِيثُ أَورَدَهُ البُخَارِيُّ فِي (كِتَابِ البُيُوعِ، بَابُ تَفْسِيرِ المُشَبَّهَاتِ) وفيه: " قَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ

(4)

: مَا رَأَيتُ شَيئًا أَهْوَنَ مِنَ الوَرَعِ؛ دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا

(1)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (5711)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2518). صَحِيحُ الجَامِعِ (3377).

(2)

النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (2/ 288).

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: "وَقَالَ ابْنُ الجَوزِيِّ فِي فُنُونِ الأَفْنَانِ -فِي القُرْآنِ بِلُغَةِ هَمَذَانَ-: {وَرَيحَانٌ}: الرِّزْقُ". الإِتْقَانُ (2/ 122).

(3)

البُخَارِيُّ (1303).

(4)

بَصْرِيٌّ، أَحَدُ العُبَّادِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، (ت 180 هـ).

ص: 173

لَا يُرِيبُكَ"

(1)

.

- وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ «فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَانِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ»

(2)

.

وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي تَرْتَابُ فِيهِ يُشْبِهُ الكَذِبَ فِي نَفْسِكَ؛ فَإِنَّكَ تَجِدُ عِنْدَهُ الضِّيقَ فِي صَدْرِكَ؛ فَدَعْهُ إِلَى أَمْرٍ لَا تَرْتَابُ فِيهِ، وَعَلَامَتُهُ أَنَّهُ كَالصِّدْقِ لَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ حَرَجًا أَو ضِيقًا مِنْهُ، فَارْتِيَابُكَ مِنَ الشَّيءِ مُشْعِرٌ بِكَونِهِ مَظِنَّةً لِلبَاطِلِ فَاحْذَرْهُ، وَطُمَانِينَتُكَ لِلشَيءِ مُشْعِرَةٌ بِحَقِيقَتِهِ فَتَمَسَّكْ بِهِ.

- دِلَالَةُ الحَدِيثِ إِجْمَالًا: اُتْرُكْ مَا يُرِيبُكَ، أَي: مَا يَلْحَقُكَ بِهِ رَيبٌ وَشَكٌّ وَقَلَقٌ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ، أَي: إِلَى شَيءٍ لَا يَلْحَقُكَ بِهِ رَيبٌ وَلَا قَلَقٌ.

- فِي الحَدِيثِ أَيضًا بَيَانٌ لِقَاعِدَةِ البِنَاءِ عَلَى الأَصْلِ وَاليَقِينِ، لِأَنَّ الأَصْلَ وَاليَقِينَ هُوَ الَّذِي لَا رِيبَةَ فِيهِ؛ وَمُا يُشَكُّ فِيهِ فُهُوَ الرِّيبَةُ.

مِثَالُهُ: عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ؛ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيءَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ:«لَا يَنْفَتِلْ -أَو لَا يَنْصَرِفْ- حَتَّى يَسْمَعَ صَوتًا أَو يَجِدَ رِيحًا»

(3)

.

- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَهَا هُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ؛ وَهُوَ أَنَّ التَّدْقِيقَ فِي التَّوَقُّفِ عَنِ الشُّبُهَاتِ إِنَّمَا يَصْلُحُ لِمَنِ اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ كُلُّهَا وَتَشَابَهَتْ أَعْمَالُهُ فِي التَّقْوَى وَالوَرَعِ، فَأَمَّا مَنْ يَقَعُ فِي انْتِهَاكِ المُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَرَّعَ عَنْ شَيءٍ مِنْ دَقَائِقِ الشُّبَهِ! فَإِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ يُنْكَرُ

(1)

البُخَارِيُّ (3/ 53).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2518). صَحِيحُ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ (2518).

(3)

البُخَارِيُّ (137) بَابُ: لَا يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيقِنَ.

ص: 174

عَلَيهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ دَمِ البَعُوضِ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ:" يَسْأَلُونَنِي عَنْ دَمِ البَعُوضِ؛ وَقَدْ قَتَلُوا الحُسَينَ! " وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «هُمَا رَيحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا»

(1)

.

وَسَأَلَ رَجُلٌ بِشْرَ بْنَ الحَارِثِ

(2)

عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوجَةٌ، وَأُمُّهُ تَامُرُهُ بِطَلَاقِهَا؛ فَقَالَ: إِنْ كَانَ بَرَّ أُمَّهُ فِي كُلِّ شَيءٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِرِّهَا إِلَّا طَلَاقُ زَوجَتِهِ؛ فَلْيَفْعَلْ، وَإِنْ كَانَ يَبَرُّهَا بِطَلَاقِ زَوجَتِهِ ثُمَّ يَقُومُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أُمِّهِ فَيَضْرِبُهَا! فَلَا يَفْعَلْ.

وسُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله عَنْ رَجُلٍ يَشْتَرِي بَقْلًا وَيَشْتَرِطُ الخُوصَةَ -يَعْنِي: الَّتِي تُرْبَطُ بِهَا حُزْمَةُ البَقْلِ! -؛ فَقَالَ أَحْمَدُ: إِيش هَذِهِ المَسَائِل؟! قِيلَ لَهُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي نُعَيمٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي نُعَيمٍ؛ فَنَعَم"

(3)

.

(1)

البُخَارِيِّ (3753).

(2)

هُوَ بِشْرُ الحَافِي؛ الزَّاهِدُ المَعْرُوفُ، سَمِعَ مِنْ مَالِكٍ، (ت 227 هـ).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 283).

ص: 175

‌الحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه

(1)

.

- قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " قَالَ أَبُو دَاوُد -عَنِ الأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيهَا مَدَارُ الإِسْلَامِ- وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:

الأَوَّلُ: حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ «الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ»

(2)

.

الثَّانِي: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»

(3)

.

الثَّالِثُ: «لَا يَكُونُ المُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»

(4)

.

الرَّابِعُ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(5)

.

وَقِيلَ بَدَلَ الثَّالِثِ «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ»

(6)

"

(7)

.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2317)، ابْنُ مَاجَه (3976). صَحِيحُ الجَامِعِ (5911).

(2)

البُخَارِيُّ (52)، وَمُسْلِمٌ (1599).

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2317) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5911).

(4)

البُخَارِيُّ (13) وَمُسْلِمٌ (45) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

(5)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1)، وَمُسْلِمٌ (1907) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا.

(6)

صَحِيحٌ بِشَوَاهِدِهِ، ابْنُ مَاجَه (4102) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا، الصَّحِيحَةُ (944).

(7)

شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلنَوَوِيِّ (11/ 27) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

ص: 176

- قَولُهُ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ» : إِحْسَانُ الإِسْلَامِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى رُتْبَةِ الإِحْسَانِ فِي العِبَادَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ المَعْرُوفِ «الإِحْسانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ، فَالَّذِي يُحْسِنُ إِسْلَامَهُ هُوَ الَّذِي وَصَلَ إِلَى مَرْتَبَةِ الإِحْسَانِ.

- فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ؛ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا يُكْتَبُ لَهُ عَشَرَةُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُهَا حَتَّى يَلْقَى اللهَ»

(1)

.

وَدَلَّ ثَوَابُ الإِحْسَانِ عَلَى أَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ بَينَ أَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ مِنْ عَشْرَةِ أَضْعَافٍ لِلحَسَنَةِ إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، فَهَذَا بِحَسْبِ دَرَجَتِهِ فِي إِحْسَانِ الإِسْلَامِ.

- قَولُهُ: «تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» : العِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: شِدَّةُ الاهْتِمَامِ بِالشَّيءِ، وَالَّذِي لَا يَعْنِي: هُوَ الشَّيءُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ المُعْتَنِيَ بِهِ، وَلَيسَ لَهُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، فَتَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ مَعْنَاهُ: مَا لَا يَعْنِيهِ فِي دِينِهِ، وَمَا لَا يَعْنِيهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاه، وَلَيسَ المُرَادُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مَا لَا عِنَايَةَ وَلَا إِرَادَةَ لَهُ بِهِ بِحُكْمِ الهَوَى وَطَلَبِ النَّفْسِ! بَلْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالإِسْلَامِ؛ وَلِهَذَا جُعِلَ مِنْ حُسْنِ الإِسْلَامِ

(2)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (42)، وَمُسْلِمٌ (129).

(2)

فَالمَقْصُودُ هُوَ تَرْكُ مَا لَا يَنْفَعُ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، وَلَيسَ تَرْكَ مَا لَا هِوَايَةَ لَهُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ! فَإِنَّهُ مَتْرُوكٌ أَصْلًا، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، بِخِلَافِ تَرْكِ مَا قَدْ يَهْوَاهُ لِكَونِهِ

لَا يَنْفَعُهُ فِي أَمْرِ دِينِهِ أَو دُنْيَاه، كَمَا هُوَ جَارٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَجَالِسِ النَّاسِ مِنَ الحَدِيثِ عَنْ أَنْوَاعِ السَّيَّارَاتِ وَالهَوَاتِفِ المَحْمُولَةِ، وَأَثْمَانِهَا، وَمَيِّزَاتِهَا؛ فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ مِمَّا يَهْوَاهَا غَالِبُ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ الطِّبَاعِ وَالفُضُولِ؛ لَكِنَّهَا لَا تُفِيدُهُم فِي أَمْرِ دِينِهِم، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ فِي دُنْيَاهُم، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 177

قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " مَعْنَى الحَدِيثِ: إِذَا أَرَادَ [المَرْءُ] أَنْ يَتَكَلَّمَ فَلْيُفَكِّرْ؛ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيهِ تَكَلَّمَ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا وَشَكَّ فِيهِ أَمْسَكَ"

(1)

.

- العِلَّةُ فِي أَنَّ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي هُوَ مِنْ حُسْنِ الإِسْلَامِ: أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي العَلَاقَاتِ، أَو فِي الأَقْوَالِ، أَو فِي المَسْمُوعَاتِ -الَّتِي لَيسَ لِلعَبْدِ حَاجَةٌ بِهَا-؛ هِيَ ذَرِيعَةٌ لِارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ، أَوِ التَّفْرِيطِ فِي وَاجِبٍ؛ فَبِذَلِكَ تَفُوتُهُ رُتْبَةُ المُقْتَصِدِينَ الَّتِي فِي قَولِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ أَورَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} [فَاطِر:32].

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله -عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المُؤْمِنُون: 3]-: " أَي عَنِ البَاطِلِ، وَهُوَ يَشْمَلُ: الشِّرْكَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُم، وَالمَعَاصِيَ كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفُرْقَان: 72] "

(2)

.

وَيُشْبِهُهُ حَدِيثُ مُعَاذٍ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ؛ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟! قَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم -أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِم- إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِم؟!»

(3)

.

(1)

شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلنَوَوِيِّ (2/ 19).

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (5/ 462).

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2616) عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1122).

وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: "تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَقَالَ -يَعْنِي رَجُلًا-: أَبْشِرْ بِالجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَلَا تَدْرِي، فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، أَو بَخِلَ بِمَا لَا يَنْقُصُهُ» ". صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2316). تَحْقِيقُ الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله لِكِتَابِ (رَفْعُ الأَسْتَارِ) لِلصَّنْعَانِيِّ (ص: 72).

ص: 178

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: " {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ} وَهُوَ الكَلَامُ الَّذِي لَا خَيرَ فِيهِ وَلَا فَائِدَةَ، {مُعْرِضُونَ} رَغْبَةً عَنْهُ، وَتَنْزِيهًا لِأَنْفُسِهِم، وَتَرَفُّعًا عَنْهُ، وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، وَإِذَا كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ اللَّغْوِ؛ فَإِعْرَاضُهُم عَنِ المُحَرَّمِ مِنْ بَابِ أَولَى وَأَحْرَى، وَإِذَا مَلَكَ العَبْدُ لِسَانَهُ -إِلَّا فِي الخَير- كَانَ مَالِكًا لِأَمْرِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ وَصَّاهُ بِوَصَايَا قَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ» ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وَقَالَ:«كُفَّ عَلَيكَ هَذَا»

(1)

، فَالمُؤْمِنُونَ مِنْ صِفَاتِهِم الحَمِيدَةِ كَفُّ أَلْسِنَتِهِم عَنِ اللَّغْوِ وَالمُحَرَّمَاتِ"

(2)

.

- فَائِدَةٌ: فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ المَرْفُوعِ «إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ؛ كَتَبَ اللهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كانَ أسْلَفَها، ومُحِيَتْ عنهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أزْلَفَهَا، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ القِصَاصُ: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهَا»

(3)

، فَهَذَا الإِحْسَانُ مَحْمُولٌ عَلَى وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّهُ صِّحَّةُ الإِسْلَامِ دُونَ النِّفَاقِ

(4)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله

(5)

: " قَولُهُ: «فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ» : أَي: صَارَ إِسْلَامُهُ

(1)

صَحِيحٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (2616) عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1122).

(2)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 547).

(3)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (4998). الصَّحِيحَةُ (247)، وَاخْتَصَرَهُ البُخَارِيُّ (1/ 17) تَعْلِيقًا عَنْ مَالِكٍ.

وَبِنَحْوِهِ فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلَامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ» . البُخَارِيُّ (6921)، وَمُسْلِمٌ (120).

(4)

أَمَّا فِي حَدِيثِ البَابِ هُنَا فَحُسْنُ الإِسْلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الكَمَالِ كَمَا سَبَقَ.

(5)

فَتْحُ البَارِي (1/ 99).

ص: 179

حَسَنًا؛ بِاعْتِقَادِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَدُخُولِهِ فِيهِ بِالبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ"

(1)

.

2 -

أَنَّ الحُسْنَ فِي الحَدِيثَينِ مَحْمُولٌ عَلَى الإِسْلَامِ الكَامِلِ الحَسَنِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيهِ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله

(2)

.

قُلْتُ: وَالوَجْهَانِ مُحْتَمِلَانِ، وَقَدْ ذَهَبَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله إِلَى نَحْوِ مَا ذهبَ إِلَيهِ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ، وَنَقَلَهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ عَنْ نَصِّ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمُهُمَا اللهُ تَعَالَى، وَمثَّلَ لَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله بِمَنْ أَسْلَمَ -وَكَانَ يَسْرِقُ فِي الجَاهِلِيَّةِ- وَبَقِيَ عَلَى السَّرِقَةِ فِي الإِسْلَامِ؛ فَهَذَا يُؤَاخَذُ بِمَا أَسْلَفَ مِنَ السَّرِقَاتِ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَيضًا

(3)

، وَكَذَا رَجَّحَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله

(4)

.

(1)

وَذَهَبَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(1/ 296) إِلَى أَنَّ الحُسْنَ فِي الحَدِيثَينِ مَحْمُولٌ عَلَى الإِسْلَامِ الكَامِلِ الحَسَنِ.

قُلْتُ: والوجهان محتملان، وَقَدْ ذَهَبَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله إِلَى نَحْوِ مَا ذهبَ إِلَيهِ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ، وَنَقَلَهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ عَنْ نَصِّ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمُهُمَا اللهُ تَعَالَى، وَمثَّلَ لَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله بِمَنْ أَسْلَمَ -وَكَانَ يَسْرِقُ فِي الجَاهِلِيَّةِ- وَبَقِيَ عَلَى السَّرِقَةِ فِي الإِسْلَامِ، فَهَذَا يُؤَاخَذُ بِمَا أَسْلَفَ مِنَ السَّرِقَاتِ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَيضًا. انْظُرْ شَرِيطَ (426) مِنْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ، وَكَذَا رَجَّحَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله -كَمَا فِي الفَتَاوَى الكُبْرَى (5/ 278) -.

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 296).

(3)

انْظُرْ شَرِيطَ (426) مِنْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ.

(4)

الفَتَاوَى الكُبْرَى (5/ 278).

ص: 180

‌الحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ؛ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -خَادِمِ رَسُولِ اللهِ- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ

(1)

.

- قَولُهُ: «لَا يُؤمِنُ» : لَا يَعْنِي نَفْيَ أَصْلِ الإِيمَانِ وَصِحَّتِهِ! بَلْ كَمَالِهِ الوَاجِبِ، أَي: الَّذِي يَاثَمُ تَارِكُهُ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الدِّينِ، كَمَا فِي لَفْظِ الحَدِيثِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ «لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الخَيرِ»

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " فَإِنَّ الإِيمَانَ كَثِيرًا مَا يُنْفَى لِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِهِ وَوَاجِبَاتِهِ؛ كَقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي -حِينَ يَزْنِي- وَهُوَ مُؤْمِنٌ» .

(1)

البُخَارِيُّ (13)، وَمُسْلِمٌ (45)، وَلَفْظُ مُسْلِمِ «حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَو لأَخِيهِ» عَلَى الشَّكِّ.

(2)

صَحِيحٌ. صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (235). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1780).

وَبِنَحْوِهِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ يَاخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَو يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟» قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ فِيهَا خَمْسًا، وَقَالَ:«اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ» . صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2305). الصَّحِيحَةُ (930).

«تَكُنْ مُؤْمِنًا» : أَي: كَامِلًا، أَو مُعْطِيًا لَهُ الأَمْنَ، لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ وَسَلَّمَ:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَامَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» أَي: شُرُورَهُ وَغَوَائِلَهُ». مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (8/ 3237).

ص: 181

مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

، وَقَولِهِ:«وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَامَنُ جَارُهُ بِوَائِقَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

"

(3)

.

وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ دَقِيق العِيد رحمه الله: " قَالَ العُلَمَاءُ: يَعْنِي: لَا يُؤْمِنُ -مِنَ الإِيمَانِ التَّامِ-؛ وَإِلَّا فَأَصْلُ الإِيمَانِ يَحْصُلُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ"

(4)

.

- مُقْتَضَى هَذِهِ المَحَبَّةِ تَحْرِيمُ تَمَنِّي أَنْ يَكُونَ أَخَوكَ عَلَى غَيرِ الهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا تُنَالُ هَذِهِ المَرْتَبَةُ بِكَمَالِ سَلَامَةِ الصَّدْرِ مِنَ الغِشِّ وَالغِلِّ وَالحَسَدِ، وَكَمَا فِي الحَدِيثِ «لَا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ: أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ»

(5)

.

- فِي لَفْظِ النَّسَائِيِّ

(6)

قَيدٌ مُفِيدٌ وَهُوَ قَولُهُ: «مِنَ الخَيرِ» وَهَذَا يَشْمَلُ الطَّاعَاتِ -مِنَ الاعْتِقَادِ وَالقَولِ وَالعَمَلِ-، وَالمُبَاحَاتِ مِنَ الخَيرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

- قَولُهُ: «لأَخِيهِ» : أَي: لِأَخِيهِ فِي الإِسْلَامِ.

- يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ مَسْأَلةُ الإِيثَارِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ:

1 -

إِيثَارٌ بِأُمُورِ الدُّنْيَا كَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَ .... ، فَهَذَا مُسْتَحَبٌّ كَمَا فِي وَصْفِ خَاصَّةِ المُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ

(1)

البُخَارِيُّ (2475)، وَمُسْلِمٌ (57).

(2)

البُخَارِيُّ (6016)، وَمُسْلِمٌ (46).

وَالبَوَائِقُ: جَمْع بَائِقَة؛ وَهِيَ الغَائِلَةُ وَالدَّاهِيَةُ وَالفَتْكُ.

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 302).

(4)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ دَقِيق العِيد (ص: 63).

(5)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (54) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(6)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (5017)، الصَّحِيحَةُ (73).

ص: 182

خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحَشَر: 9]

(1)

.

2 -

إِيثَارٌ بِالقُرَبِ الدِّينِيَّةِ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مَا أُمِرْنَا بِهِ مِنَ المُسَابَقَةِ فِي الخَيرَاتِ وَالمُسَارَعَةِ فِي أَبْوَابِ الطَّاعَاتِ، قَالَ تَعَالَى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحَدِيد: 21].

وكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى أَيضًا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} [المُطَفِّفِين: 26]، وَمُقْتَضَى التَّنَافُسِ مَحَبَّةُ السَّبْقِ إِلَى الطَّاعَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثِرَ غَيرَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِيَسْبِقَهُ فِي ذَلِكَ!

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: " وَأَمَّا إِنْ قَامَ أَحَدٌ مِنَ الصَّفِّ تَبَرُّعًا وِآثَرَ الدَّاخِلَ بِمَكَانِهِ؛ فَهَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ أَمْ لَا؟

إِنِ انْتَقَلَ إِلَى مَكَانٍ أَفْضَلَ مِنْهُ لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنِ انْتَقَلَ إِلَى مَا دُونَهُ؛ فَكَرِهَهُ الشَّافِعِيَّةُ.

وَقَالَ أَحْمَدُ -فِيمَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الصَّفِّ الأَوَّلِ؛ وَقَدَّمَ أَبَاهُ فِيهِ-: هُوَ يَقْدِرُ أَنْ يَبَرَّ أَبَاهُ بِغَيرِ هَذَا! وَظَاهِرُهُ: الكَرَاهَةُ، وَأَنَّهُ يُكْرَهُ الإِيثَارُ بِالقُرَبِ"

(2)

.

وَقَالَ الإمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " الإِيثَارُ مَكْرُوهٌ فِي القُرَبِ، بِخِلَافِ الإِيثَارِ بِحُظُوظِ النَّفْسِ؛ فَإِنَّهُ مَحْبُوبٌ"

(3)

.

ص: 183

- وَفِيهِ أَيضًا أَنَّهُ يَحْسُنُ صِيَاغَةُ الكَلَامِ بِمَا يَحْمِلُ عَلَى العَمَلِ بِهِ، وَالشَّاهِدُ لِهَذَا قَولُهُ:«لِأَخِيهِ» ، لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي العَطْفَ وَالحَنَانَ وَالرِّقَةَ، وَنَظِيرُ هَذَا قَولُ اللهِ عز وجل فِي آيَةِ القِصَاصِ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيء} [البَقَرَة: 178].

- فِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ لِجَوَازُ نَفْي الشَّيءِ لِانْتِفَاءِ كَمَالِه، لِقَولِهِ:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ» ، وَكَقَولِهِ:«لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأَمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

، وَكَقَولِهِ:«لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

، أَي: لَا صَلَاةَ كَامِلَةً.

- فَائِدَةٌ:

إِنَّ نَفْيَ الكَمَالِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِوَاجِبٍ فِيهِ، وَإمَّا لِمُسْتَحَبٍّ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ نَفْيٌ لِلإِيمَانِ بِانْتِفَاءِ كَمَالِهِ المُسْتَحَبِّ!

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: " فَمَنْ قَالَ: إنَّ المَنْفِيَّ هُوَ الكَمَالُ؛ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ الكَمَالِ الوَاجِبِ -الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْعُقُوبَةِ-؛ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَفْيُ الكَمَالِ المُسْتَحَبِّ! فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ؛ فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ الوَاجِبَ كَمَا وَجَبَ عَلَيهِ وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ وَاجِبِهِ شَيئًا؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: مَا فَعَلَهُ، -لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا-"

(3)

.

(1)

البُخَارِيُّ (6016)، وَمُسْلِمٌ (46).

(2)

مُسْلِمٌ (560).

(3)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (7/ 15).

ص: 184

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: مِمَّا قَدْ يُعَكِّرُ ظَاهِرُهُ عَلَى فِقْهِ حَدِيثِ البَابِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ

(1)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا؛ أَنَّهُ قَالَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَينِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ القُرْآنَ؛ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا؛ فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» فَظَاهِرُهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ غَيرِهِ!

الجَوَابُ: أَنَّ الحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى الغِبْطَةِ وَلَيسَ عَلَى مَعْنَى تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنِ الغَيرِ!

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: " قَالَ العُلَمَاءُ: الحَسَدُ قِسْمَانِ: حَقِيقِيٌّ، وَمَجَازِيٌّ. فَالحَقِيقِيُّ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، وَهَذَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ، وَأَمَّا المَجَازِيُّ فَهُوَ الغِبْطَةُ، وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَ النِّعْمَةِ الَّتِي عَلَى غَيرِهِ مِنْ غَيرِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَانَتْ مُبَاحَةً، وَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالمُرَادُ بِالحَدِيثِ: لَا غِبْطَةَ مَحْبُوبَةٌ إِلَّا فِي هَاتَينِ الخَصْلَتَينِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا"

(2)

(3)

.

(1)

مُسْلِمٌ (815).

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ للنَّوَوِيُّ (6/ 97).

(3)

قُلْتُ: فَفِيهِ مَعْنَى قَولِ العُلَمَاءِ: المُسْلِمُ فِي دِينِهِ يَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَهُ وَلَيسَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ؛ بِخِلَافِ أَمْرِ الدُّنْيَا، كَمَا فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ "أَمَرَنِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ المَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللهِ لَومَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَولِ: لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتِ العَرْشِ". صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21415). الصَّحِيحَةُ (2166).

ص: 185

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ مُرَارَةَ الرَّهَاوِيِّ؛ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَدْ قُسِمَ لِي مِنَ الجَمَالِ مَا تَرَى؛ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَضَلَنِي بِشِرَاكَينِ فَمَا فَوقَهَا، أَفَلَيسَ ذَلِكَ هُوَ البَغْيُ؟ قَالَ:«لَا، لَيسَ ذَلِكَ بِالبَغْي، وَلَكِنَّ البَغْيَ مَنْ بَطِرَ -أَو قَالَ: سَفِهَ- الحَقَّ، وَغَمَطَ النَّاسَ»

(1)

؛ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ مَحَبَّةِ الخَيرِ لِلغَيرِ كَمَا يُحِبُّهُ المَرْءُ لِنَفْسِهِ!

الجَوَابُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلمُسْلِمِ أَنْ يَسْعَى بِأَنْ يَكُونَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ جَمَالًا؛ مَعَ كَونِهِ يُحِبُّ ذَلِكَ لِكُلِّ مُسْلِمِ

(2)

، أَمَّا مَا يُذَمُّ فَهُوَ تَلَبُّسُهُ فِي تِلْكَ الحَالِ بِالكِبْرِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (4058). غَايَةُ المَرَامِ (114).

(2)

كَمَا فِي قَولِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: "وَدَدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا العِلْمَ وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيَّ مِنْهُ شَيءٌ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 310).

ص: 186

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يَلْزَمُ كَمَالُ الإِيمَانِ مِنْ كَمَالِ هَذِهِ المَحَبَّةِ؟

الجَوَابُ: لَا، لِأَنَّهُ أَتَى بِإِحْدَى المُكَمِّلَاتِ؛ وَلَيسَ بِجَمِيعِهَا! وَلَكِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا.

ص: 187

‌الحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: (حُرْمَةُ دَمِ المُسْلِمِ)

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ -يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ- إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ المُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ

(1)

.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ عِصْمَةِ دَمِ المُسْلِمِ عُمُومًا، وَبَيَانُ مَا يَحِلُّ بِهِ دَمُهُ اعْتِمَادًا عَلَى قَاعِدَةِ:" الاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ النَّفْي يُفِيدُ الحَصْرَ".

- قَولُهُ: «لَا يَحِلُّ» : خَبَرٌ بِمَعْنَى الإِنْشَاءِ، وَهُوَ أَيضًا نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْي، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ المُسْلِمُ مُبَاحَ الدَّمِّ إِلَّا بِهَذِهِ الأُمُورِ.

- قَولُهُ: «الثَّيِّبِ» : أَي الَّذِي سَبَقَ لَهُ أَنْ أُحْصِنَ (أَي: تَزَوَّجَ) بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ.

- حَدُّ الزِّنَى

(2)

يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ حَالِ الزَّانِي:

1 -

البِكْرُ: عَلَيهِ الجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ.

قَالَ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَاخُذْكُمْ بِهِمَا رَافَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النُّور: 2].

(1)

البُخَارِيُّ (6867)، وَمُسْلِمٌ (1676).

(2)

"الزِّنَا: يُمَدُّ وَيُقْصَرُ". لِسَانُ العَرَبِ (14/ 359).

ص: 188

2 -

الثَّيِّبُ: عَلَيهِ الرَّجْمُ حَتَّى المَوتِ.

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا

(1)

، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مائَةٍ ونَفْيُ سَنَةٍ

(2)

، والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مائَةٍ

(3)

وَالرَّجْمُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

3 -

العَبْدُ وَالأَمَةُ: عَلَيهِ نِصْفُ مَا عَلَى الحُرِّ؛ غَيرَ أَنَّهُ لَا يُرْجَمُ.

قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَينَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} [النِّسَاء: 25]

(5)

.

- يَثْبُتُ حَدُّ الزِّنَى بِأُمُورٍ؛ هِيَ:

1 -

الاعْتِرَافُ.

(1)

وَذَلِكَ لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَاتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوتُ أَو يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النِّسَاء: 15].

(2)

وَهُوَ التَّغْرِيبُ: أَي النَّفْيُّ عَنِ البَلَدِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الجِنَايَةُ.

(3)

مُلَاحَظَةٌ: فِي وُجُوبِ الجَلْدِ عَلَى الثَّيِّبِ -زِيَادَةً عَلَى الرَّجْمِ- خِلَافٌ بَينَ أَهْلِ العِلْمِ، وَذَلِكَ لِوُرُودِ عِدَّةِ أَحَادِيثَ فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اكْتَفَى فِيهَا بِرَجْمِ الزَّانِي الثَّيِّبِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُم إِلَى أَنَّ النَّسْخَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُم إِلَى أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الإِمَامِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(4)

مُسْلِمٌ (1690).

(5)

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص: 174): "وَذَلِكَ الَّذِي يُمْكِنُ تَنْصِيفُهُ -وَهُوَ الجَلْدُ- فَيَكُونُ عَلَيهِنَّ خَمْسُونَ جَلْدَةً. وَأَمَّا الرَّجْمُ فَلَيسَ عَلَى الإِمَاءِ رَجْمٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَصَّفُ، فَعَلَى القَولِ الأَوَّلِ "وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الإِحْصَانِ الزَّوَاجُ وَلَيسَ الإِسْلَامَ" إِذَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ فَلَيسَ عَلَيهِنَّ حَدٌّ، إِنَّمَا عَلَيهِنَّ تَعْزِيرٌ يَرْدَعُهُنَّ عَنْ فِعْلِ الفَاحِشَةِ".

قُلْتُ: وَمَالَ إِلَيهِ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (2/ 262) لِأَنَّ سِيَاقَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَيهِ.

ص: 189

2 -

أَرْبَعَةُ شُهُودٍ.

3 -

تَزِيدُ المَرْأَةُ بِالحَبَلِ

(1)

.

عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه؛ قَالَ: " لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ! فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَو كَانَ الحَبَلُ، أَوِ الِاعْتِرَافُ، أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ". صَحِيحُ البُخَارِيِّ

(2)

.

4 -

وَأَيضًا تَزِيدُ المَرْأَةُ بِالوِلَادَةِ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَمْلِهَا

(3)

.

كَمَا فِي الأَثَرِ عَنْ أَبِي عُبَيدٍ؛ مَولَى عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَوفٍ " رُفِعَتْ إِلَى عُثْمَانَ امْرَأَةٌ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ: إِنَّهَا رُفِعَتْ إِلَيَّ امْرَأَةٌ -لَا أُرَاهُ إِلَّا قَالَ: وَقَدْ جَاءَتْ بِشَرٍّ، أَو نَحْو هَذَا- وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ! فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَتَمَّتِ الرَّضَاعَ كَانَ الحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. قَالَ: وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأَحْقَاف: 15] فَإِذَا أَتَمَّتِ الرَّضَاعَ كَانَ الحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ"

(4)

.

- شُرُوطُ وُجُوبِ القِصَاصِ

(5)

:

1 -

أَنْ يَكُونَ القَاتِلُ مُكَلَّفًا.

كَمَا فِي الحَدِيثِ «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ المَجْنُونِ المَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ

(1)

مِنْ غَيرِ زَوَاجٍ طَبْعًا.

(2)

البُخَارِيُّ (6829).

(3)

وَلَو كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً.

(4)

صَحِيحٌ. مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (13446)، وَقَالَ صَاحِبُ (التَّحْجِيلُ فِي تَخْرِيجِ مَا لَمْ يُخَرَّجُ فِي إِرْوَاءِ الغَلِيلِ) (ص: 452): إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

(5)

اُنْظُرْ كِتَابَ (الوَجِيزُ فِي فِقْهِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ العَزِيزِ) لِعَبْدِ العَظِيمِ بَدَوِي (ص: 453).

ص: 190

حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ»

(1)

.

2 -

عِصْمَةُ دَمِ المَقْتُولِ.

بِأَنْ يَكُونَ المَقْتُولُ مَعْصُومَ الدَّمِ -لِحَدِيثِ البَابِ-

(2)

.

3 -

أَنْ لَا يَكُونَ المَقْتُولُ وَلَدًا لِلقَاتِلِ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ «لَا يُقْتَلُ بِالوَلَدِ الوَالِدُ»

(3)

.

4 -

أَنْ لَا يَكُونَ المَقْتُولُ كَافِرًا.

كَمَا فِي الحَدِيثِ «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»

(4)

.

5 -

أَنْ لَا يَكُونَ المَقْتُولُ عَبْدًا وَالقَاتِلُ حُرًّا.

عَنِ الحَسَنِ مَقْطُوعًا " لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ"

(5)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4401) عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3512).

(2)

وَالمَعْنَى هُنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ المَقْتُولُ مُسْلِمًا مَهْدُورَ الدَّمِ لِسَبَبٍ مَا؛ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ؛ فَلَيسَ عَلَيهِ القِصَاصُ.

قَالَ الإِمَامُ الغَزَالِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الوَسِيطُ فِي المَذْهَبِ)(6/ 531): "أَمَّا كَيفيَّةُ الدَّفْعِ: فَيَجِبُ فِيهِ التَّدْرِيجُ، فَإِنِ انْدَفَعَ بِالكَلَامِ لَمْ يُضْرَبْ، أَو بِالضَّرْبِ لَمْ يَجْرَحْ، أَو بِالجَرْحِ لَمْ يُقْتَلْ، وَإِذا انْدَفَعَ لَمْ يُتْبَعْ.

وَلَو رَأَى مَنْ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ؛ فَلَهُ دَفْعُهُ إِنْ أَبَى -وَلَو بِالقَتْلِ-، فَإِنْ هَرَبَ فَاتَّبَعَهُ وَقَتلَهُ وَجَبَ القِصَاصُ عَلَيهِ -إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا-، فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ القَتْلَ -وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلآحَادِ قَتْلَهُ-، وَكَذَا مَنِ اسْتَبَدَّ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِق؛ فَلَا قِصَاصَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ بَيِّنَةٍ عَلَيهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ لِلزِّنَا وَالسَّرِقَةِ".

(3)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (2661) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. إِرْوَاءُ الغَلِيلِ (2214).

(4)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6903) مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا.

(5)

صَحِيحٌ مَقْطُوعًا. أَبُو دَاوُدَ (4517). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4517)، وَعَلَيهِ اتِّفَاقُ أَهْلِ العِلْمِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ» فَهُوَ ضَعِيفٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4515) عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا. ضَعِيفُ الجَامِعِ (5749).

ص: 191

- الكَافِرُ المَعْصُومُ الدَّمِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

1 -

المُعَاهَدُ: وَهُوَ مَنْ كَانَ بَينَنَا وَبَينَهُ عَهْدٌ، كَمَا جَرَى بَينَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقُرَيشٍ فِي صُلْحِ الحُدَيبِيَةِ

(1)

.

2 -

المُسْتَامَنُ: وَهُوَ الَّذِي قَدِمَ مِنْ دَارِ حَرْبٍ؛ لَكِنْ دَخَلَ إِلَينَا بِأَمَانٍ لِبَيعِ تِجَارَتِهِ أَو لِشِرَاءٍ أَو لِعَمَلٍ؛ فَهَذَا مُحْتَرَمٌ مَعْصُومُ الدَّمِ -حَتَّى وَإِنْ كَانَ مِنْ قَومٍ مُحَارِبِينَ لَنَا- لِأَنَّهُ أُعْطِيَ أَمَانًا خَاصًّا

(2)

.

3 -

الذِّميُّ: وَهُوَ الَّذِي يَسْكُنُ مَعَنَا وَنَحْمِيهِ وَنَذُبُّ عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي الجِزْيَةَ بَدَلًا عَنْ حِمَايَتِهِ وَبَقَائِهِ فِي بِلَادِنَا.

- قَولُهُ: «التَّارِكِ لِدِينِهِ» : هُوَ عَلَى مَعْنَيَينِ:

1 -

المُرْتَدُّ: الَّذِي تَرَكَ دِينَهُ كُلَّهُ؛ فَارْتَدَّ عَنِ الدِّينِ الإِسْلَامِيِّ.

2 -

مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الدِّينِ مِمَّا فِيهِ مُفَارَقَةٌ لِلجَمَاعَةِ، كَالخُرُوجِ عَلَى الإِمَامِ، أَوِ

(1)

قُلْتُ: وَيَدْخُلُ فِي العُهُودِ العُهُودُ العُرْفِيَّةُ.

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص: 618) مِنْ سُورَةِ القَصَصِ -حَولَ فَوَائِدَ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام: "وَمِنْهَا: أَنَّ قَتْلَ الكَافِرِ الَّذِي لَهُ عَهْدٌ بِعَقْدٍ أَو عُرْفٍ لَا يَجُوزُ؛ فَإِنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم عَدَّ قَتْلَهُ القِبْطِيَّ الكَافِرَ ذَنْبًا وَاسْتَغْفَرَ اللهَ مِنْهُ".

(2)

كَمَا فِي الحَدِيثِ «المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ؛ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» . صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4530) عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6666).

قَالَ الصَّنْعَانِيُّ رحمه الله: "قَولُهُ: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»: أَنَّهُ إذَا أَمَّنَ المُسْلِمُ حَرْبِيًّا كَانَ أَمَانًا مِنْ جَمِيعِ المُسْلِمِينَ وَلَو كَانَ ذَلِكَ المُسْلِمُ امْرَأَةً، كَمَا فِي قِصَّةِ أُمِّ هَانِئٍ، وَيُشْتَرَطُ كَونُ المُؤْمِنِ مُكَلَّفًا؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَمَانًا مِنَ الجَمِيعِ؛ فَلَا يَجُوزُ نَكْثُ ذَلِكَ". سُبُلُ السَّلَامِ (2/ 342).

ص: 192

البَغْي؛ فيَكُونُ المَقْصُودُ بِالمُفَارَقَةِ لِلجَمَاعَةِ مُفَارَقَةَ جَمَاعَةِ الأَبْدَانِ

(1)

.

- مِنَ العُلَمَاءِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى نَسْخِ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ القَتْلِ فِي الشَّرِيعَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا! وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ تِلْكَ النُّصُوصِ كُلِّهَا! لَا سِيَّمَا وَابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ مِنْ قُدَمَاءِ المُهَاجِرِينَ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ يَرْوِيهَا مَنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ كَأَبِي هُرَيرَةَ وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهم.

2 -

أَنَّ النَّصَّ العَامَّ لَا ينْسَخُ النَّصَّ الخَاصَّ؛ وَلَو كَانَ العَامُّ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ -عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيهِ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ-.

(1)

قُلْتُ: وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا سَابِقًا فِي شَرْحِ الحَدِيثِ الثَّامِنِ الكَلَامُ عَنِ الطَّائِفَةِ المُمْتَنِعَةِ عَنِ التِزَامِ بَعْضِ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ؛ وَأَنَّهُم يُقَاتَلُونَ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى التِزَامِهَا.

ص: 193

- تَنْبِيهٌ:

الَّذِي يُقِيمُ الحُدُودَ هُوَ الإِمَامُ أَو نَائِبُهُ.

قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ (مَنَارُ السَّبِيلِ)

(1)

: " وَلَا يُقِيمُهُ إِلَّا الإِمَامُ أَو نَائِبُهُ، سَوَاءً كَانَ الحَدُّ للهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا، أَو لِآدَمِيٍّ كَحَدِّ القَذْفِ، لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى الاجْتِهَادِ، وَلَا يُؤْمَنُ فِيهِ الحَيفُ؛ فَوَجَبَ تَفْوُيضُهُ إِلَيهِ، وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقِيمُ الحُدُودَ فِي حَيَاتِهِ، وَكَذَا خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَنَائِبُهُ كَهُوَ"

(2)

.

قَالَ الشَّوكَانِيُّ رحمه الله-عَنِ الفُقَهَاءِ الَّذِينَ يُنْتَهَى إِلَى أَقْوَالِهِم مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ-: " أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ يُقِيمُ شَيئًا مِنَ الحُدُودِ دُونَ السُّلْطَانِ، إِلَّا أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ حَدَّ الزِّنَا عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ"

(3)

.

"وَسُئِلَ شَيخُ الإِسْلَام ابْنُ تَيمِيَّةَ رحمه الله عَنْ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ بِزَوجٍ كَامِلٍ، وَلَهَا أَولَادٌ؛ فَتَعَلَّقَتْ بِشَخْصٍ مِنَ الأَطْرَافِ أَقَامَتْ مَعَهُ عَلَى الفُجُورِ! فَلَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهَا سَعَتْ فِي مُفَارَقَةِ الزَّوجِ؛ فَهَلْ بَقِيَ لَهَا حَقٌّ عَلَى أَولَادِهَا بَعْدَ هَذَا الفِعْلِ؟ وَهَلْ عَلَيهِمْ إثْمٌ فِي قَطْعِهَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهَا قَتْلُهَا سِرًّا؟ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيرُهُ يَاثَمُ؟

فَأَجَابَ رحمه الله:

الحَمْدُ لِلَّهِ. الوَاجِبُ عَلَى أَولَادِهَا وَعَصَبَتِهَا أَنْ يَمْنَعُوهَا مِنَ المُحَرَّمَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ إِلَّا بِالحَبْسِ حَبَسُوهَا، وَإِنِ احْتَاجَتْ إلَى القَيدِ قَيَّدُوهَا، وَمَا يَنْبَغِي لِلْوَلَدِ أَنْ يَضْرِبَ أُمَّهُ! وَأَمَّا بِرُّهَا؛ فَلَيسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهَا بِرَّهَا، وَلَا يَجُوزَ لَهُمْ مُقَاطَعَتُهَا

(1)

لِلشَّيخِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ ضُوَيَّان؛ مِنْ عُلَمَاءِ الحَنَابِلَةِ النَّجْدِيِّينَ، (ت 1353 هـ).

(2)

مَنَارُ السَّبِيلِ (2/ 361).

(3)

نَيلُ الأَوطَارِ (7/ 147).

ص: 194

بِحَيثُ تَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِنَ السُّوءِ، بَلْ يَمْنَعُوهَا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِمْ، وَإِنِ احْتَاجَتْ إلَى رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ رَزَقُوهَا وَكَسَوهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إقَامَةُ الحَدِّ عَلَيهَا بِقَتْلِ وَلَا غَيرِهِ، وَعَلَيهِمُ الإِثْمُ فِي ذَلِكَ"

(1)

.

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (34/ 177).

ص: 195

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: يُشْكِلُ حَدُّ الرَّجْمِ فِي حَقِّ الزَّانِي المُحْصَنِ مَعَ حَدِيثِ أَبِي يَعْلَى؛ شَدَّادِ بْنِ أَوسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

؟

الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ هَذَا نَفْسَهُ هُوَ مِنْ إِحْسَانِ القِتْلَةِ، فَالأَحْسَنُ هُوَ مَا وَافَقَ الشَّرْعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَومٍ يُوقِنُونَ} [المَائِدَة:50].

2 -

أَنَّ هَذَا الحُسْنَ لَا يَكُونُ فَقَط بِاعْتِبَارِ صِفَةِ إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَى المُعَاقَبِ؛ بَلْ وَأَيضًا يُعْتَبَرُ حَالُ النَّاسِ وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي رَدْعِهِم عَنْ مِثْلِ صَنِيعِ المَحْدُودِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(1)

مُسْلِمٌ (1955).

ص: 196

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدِ اسْتُشْكِلَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ فِي السُّنَّةِ أُمُورٌ يُقْتَلُ بِهَا فَاعِلُهَا مِثْلُ: اللِّوَاطِ، وَمَنْ أَتَى ذَاتَ مَحْرَمٍ، وَالسَّاحِرِ، وَمَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ، وَشَارِبِ الخَمْرِ فِي المَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَحَدِيثِ «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَينِ فَاقْتُلُوا الآخِرَ مِنْهُمَا»

(1)

، وَحَدِيثِ «مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ ثُمَّ وَضَعَهُ؛ فَدَمُهُ هَدْرٌ»

(2)

، وَالجَاسُوسِ المُسْلِمِ

(3)

إِذَا تَجَسَّسَ لِلكُفَّارِ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَالدَّاعِيَةِ إِلَى البِدْعَةِ، وَقِتَالِ الخَوَارِجِ!!

الجَوَابُ: إِنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ كُلَّهَا يُمْكِنُ رَدُّهَا إِلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ فَقَتْلُ المُسْلِمِ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الذُّنُوبِ:

1 -

تَرْكِ الدِّينِ: وَفِيهِ قِتَالُ الخَوَارِجِ وَالبُغَاةِ وَالسَّحَرَةِ.

2 -

إِرَاقَةِ الدَّمِ المُحَرَّمِ: وَيَشْمَلُ مَا يَقُومُ مَقَامُهُ مِنْ إِثَارَةِ الفِتَنِ المُؤَدِّيَةِ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، كَتَفْرِيقِ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، وَشَقِّ العَصَا، وَالمُبَايَعَةِ لِإِمَامٍ ثَانٍ، وَدَلِّ الكُفَّارِ عَلَى عَورَاتِ المُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ شَهْرِ السِّلَاحِ لِطَلَبِ القَتْلِ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَهُوَ مَظِنَّةٌ لِسَفْكِ الدِّمَاءِ المُحَرَّمَةِ

(4)

، وَكَذَلِكَ يَكُونُ شُرْبُ الخَمْرِ

(1)

مُسْلِمٌ (1853).

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "قَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوِيه: إِنَّمَا يُرِيدُ مَنْ شَهَرَ سِلَاحَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ فِي النَّاسِ حَتَّى اسْتَعْرَضَ النَّاسَ؛ فَقَدْ حَلَّ قَتْلُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الحَرُورِيَّةِ يَسْتَعْرِضُونَ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 323).

(3)

عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ.

(4)

قَالَ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيرِ نَفْسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المَائِدَة:32].

ص: 197

وَالإِصْرَارُ عَلَيهِ -فِي المَرَّةِ الرَّابِعَةِ- هُوَ مَظِنَّةُ سَفْكِ الدِّمَاءِ المُحَرَّمَةِ

(1)

.

3 -

انْتِهَاكِ الفَرْجِ المُحَرَّمِ: وَفِيهِ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ وَإِتْيَانُ البَهِيمَةِ وَإِتْيَانُ المَحَارِمِ

(2)

.

(1)

فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (18) عَنْ أَبِي سَعِيد الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا -فِي وَصْفِ أَثَرِ خَمْرٍ تُسَمَّى بِالنَّقِيعِ- «حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ -أَو إِنَّ أَحَدَهُمْ- لَيَضْرِبُ ابْنَ عَمِّهِ بِالسَّيفِ!» قَالَ: وَفِي القَومِ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ كَذَلِكَ، قَالَ: وَكُنْتُ أَخْبَؤُهَا حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

(2)

وَهُنَاكَ جَوَابٌ آخَرُ لِبَعْضِ هَذِهِ النُّصُوصِ؛ كَمِثْلِ أَنَّ الأَمْرَ بِالقِتَالِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ القَتْلُ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الرَّدْعُ وَالمَنْعُ، كَقِتَالِ الخَوَارِجِ وَالطَّائِفَةِ المُمْتَنِعَةِ، وَعَلَيهِ حَدِيثُ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهَمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى» وَقَدْ سَبَقَ.

ص: 198

‌الحَدِيثُ الخَامِسَ عَشَرَ: (فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَصْمُتْ)

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ

(1)

، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيفَهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

.

- هَذَا الحَدِيثُ مِنَ الأَحَادِيثِ الجَوَامِعِ فِي الآدَابِ وَالفَضَائِلِ، فَفِيهِ الأَدَبُ مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي أَنْ لَا يَقُولَ إِلَّا مَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، وَأَيضًا الأَدَبُ مَعَ خَلْقِهِ تَعَالَى؛ فَلَا يَفْعَلُ إِلَّا الأَحْسَنَ مَعَهُم.

وَأَيضًا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَهُوَ يَجْمَعُ بَينَ التَّخْلِيَةِ عَنِ الرَّذَائِلِ؛ وَذَلِكَ فِي تَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَالتَّحْلِيَةِ بِالفَضَائِلِ؛ وَذَلِكَ فِي فِعْلِ مَا يَنْبَغِي.

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ أَسْوَدَ بْنِ أَصْرَمَ؛ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوصِنِي، قَالَ:«هَلْ تَمْلِكُ لِسَانَكَ؟» ، قُلْتُ: فَمَا أَمْلِكُ إِذَا لَمْ أَمْلِكْ لِسَانِي؟! قَالَ: «فَهَلْ تَمْلِكُ يَدَكَ؟» ، قُلْتُ: فَمَا أَمْلِكُ إِذَا لَمْ أَمْلِكْ يَدِي؟! قَالَ: «فَلَا تَقُلْ بِلِسَانِكَ إِلَّا مَعْرُوفًا، وَلَا تَبْسُطْ يَدَكَ إِلَّا إِلَى خَيرٍ»

(3)

.

(1)

وَفِي لَفْظٍ «فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ» ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ «فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ (47)، وَفِي لَفْظٍ «فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» بَدَلَ «فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6138).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6138)، وَمُسْلِمٌ (47).

(3)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (1/ 281). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2867).

ص: 199

- قَولُهُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ» فِيهِ بَيَانُ أُمُورٍ:

1 -

أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِنَ الإِيمَانِ.

2 -

أَنَّ العَمَلَ مِنَ الإِيمَانِ.

3 -

أَنَّ مَنْ لَمْ يَاتِ بِهَذِهِ الأُمُورِ كَانَ نَاقِصَ الإِيمَانِ.

4 -

أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِنَ الوَاجِبَاتِ

(1)

.

- قَولُهُ: «فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَصْمُتْ» : هُوَ كَقَولِهِ تَعَالَى: {لَا خَيرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعْرُوفٍ أَو إِصْلَاحٍ بَينَ النَّاسِ} [النِّسَاء: 114].

- أَهَمِّيَّةُ تَرْكِ الكَلَامِ -إِنْ لَمْ يَكُنْ خَيرًا- هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:

1 -

أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الكَلَامِ المُبَاحِ قَدْ يُؤدِّي إِلَى الاسْتِئْنَاسِ بِكَلَامٍ مَكْرُوهٍ أَو كَلَامٍ مُحَرَّمٍ؛ كَغِيبَةٍ أَو نَمِيمَةٍ أَو بُهْتَانٍ أَو مُدَاهَنَةٍ.

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ «مَنْ صَمَتَ نَجَا»

(2)

.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " اعْلَمْ أَنَّهُ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنَّ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الكَلَامِ إِلَّا كَلَامًا تَظْهَرُ المَصْلَحَةُ فِيهِ، وَمَتَى اسْتَوَى الكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي المَصْلَحَةِ؛ فَالسُّنَّةُ الإِمْسَاكُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الكَلَامُ المُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَو مَكْرُوهٍ، بَلْ هَذَا كَثِيرٌ أَو غَالِبٌ فِي العَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيءٌ"

(3)

.

2 -

أَنَّ مَنْ حَرِصَ عَلَى حِفْظِ لِسَانِهِ؛ كَانَ أَحْرَصَ عَلَى حِفْظِ جَوَارِحِهِ.

(1)

وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَونِ العَمَلِ مِنَ الآدَابِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا! لَا سِيَّمَا إِذَا احْتَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ كَأَدَاةِ الشَّرْطِ هُنَا (مَنْ) وَتَعَلُّقِهَا بِالإِيمَانِ.

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (6481) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (536).

(3)

الأَذْكَارُ (ص: 332).

ص: 200

وَكَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَينَ لَحْيَيهِ وَمَا بَينَ رِجْلَيهِ؛ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ»

(1)

.

- قَولُهُ: «فَلْيَقُلْ خَيرًا» : الخَيرُ هَذَا يَكُونُ عَلَى جِهَتَينِ:

1 -

خَيرٍ فِي نَفْسِ المَقَالِ.

بِأَنْ يَذْكُرَ اللهَ عز وجل وَيُسبِّحَهُ وَيَحْمَدَهُ، وَيَقْرَأَ القُرْآنَ، وَيُعَلِّمَ العِلْمَ، وَيَامُرَ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؛ فَهَذَا خَيرٌ فِي نَفْسِهِ

(2)

.

2 -

خَيرٍ لِغَيرِهِ.

كَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى جُلَسَائِهِ مِنْ ضُيُوفٍ وَرَحِمٍ وَإِخْوَةٍ فِي اللهِ؛ فَإِنَّ هَذَا خَيرٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ مِنَ الأُنْسِ وَإِزَالَةِ الوَحْشَةِ وَحُصُولِ الإلْفَةِ، وسَبَقَ حَدِيثُ عُمَرَ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .

- فَائِدَةٌ:

إِنَّ التِزَامَ الصَّمْتِ وَاعْتِقَادَهُ قُرْبَةً -إِمَّا مُطْلَقًا، أَو فِي بَعْضِ العِبَادَاتِ كَالحَجِّ وَالاعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ- مَنْهِيٌّ عَنْهُ، كَمَا في الحَدِيثِ «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَلَا صُمَاتَ يَومٍ إِلَى اللَّيلِ»

(3)

.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه لِامْرَأَةٍ حَجَّتْ مُصْمِتَةً: " إِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا

(1)

البُخَارِيُّ (6474).

(2)

وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا تَدْعُو الحَاجَةُ إِلَيهِ أَيضًا.

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2837) عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7609).

وَالصُّمَاتُ: هُوَ السُّكُوتُ، فَفِيهِ النَّهْيُ عَمَّا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ الصَّمْتُ عَنِ الكَلَامِ فِي الاعْتِكَافِ وَغَيرِهِ. انْظُرْ (عَونُ المَعْبُودِ)(8/ 54).

ص: 201

مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي البُخَارِيِّ: بَينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ؛ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَومَهُ»

(2)

.

- قَالَ فِي كِتَابِ (لِسَانُ العَرَبِ)

(3)

: " الكَرِيمُ: الجَامِعُ لِأَنْوَاعِ الخَيرِ وَالشَّرَفِ وَالفَضَائِلِ، وَالكَرِيمُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحْمَدُ"

(4)

.

- قَولُهُ: «فَلْيُكْرِمْ» : أَصْلُ الإِكْرَامِ هُوَ التَّحَلِّي بِالفَضَائِلِ؛ وَكُلُّ مُكْرَمٍ بِحَسْبِهِ، فَنَوعُ الإِكْرَامٍ لَيسَ مُعَيَّنًا، بَلْ هُوَ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ إِكْرَامًا، وَيَخْتَلِفُ مِنْ جَارٍ إِلَى آخَرَ، فَجَارُكَ الفَقِيرُ رُبَّمَا يَكُونُ إِكْرَامُهُ بِرَغِيفِ خُبْزٍ، وَجَارُكَ الغَنِيُّ لَا يَكْفِي هَذَا فِي إِكْرَامِهِ، وَجَارُكَ الوَضِيعُ رُبَّمَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى شَيءٍ فِي إِكْرَامِهِ، وَجَارُكَ الشَّرِيفُ يَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ

(5)

.

(1)

البُخَارِيُّ (3834).

(2)

البُخَارِيُّ (6704).

تَعْلِيقٌ: قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رحمه الله فِي (المُوَطَّأُ)(2/ 475): "وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِكَفَّارَةٍ، وَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً، وَيَتْرُكَ مَا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً".

قُلْتُ: وَوَجْهُ كَونِ ذَلِكَ مَعْصِيَةً هُوَ أَنَّهُ ابْتِدَاعٌ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى.

(3)

لِسَانُ العَرَبِ لابْنِ مَنْظور (12/ 510).

(4)

وَالقُرْآنُ يُطْلَقُ عَلَيهِ وَصْفُ الكَرِيمِ، لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَينَ وَصْفَينِ، فَهُوَ:

1 -

الحَسَنُ البَهِيُّ: وَهَذَا كَمَالٌ فِي ذَاتِهِ.

2 -

الكَثِيرُ العَطَاءِ: وَهَذَا كَمَالٌ فِي العَطَاءِ.

(5)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لِلْعُثَيمِين (ص: 177).

ص: 202

- فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ الأَولَى بِالإِحْسَانِ، قَالَ تَعَالَى:{وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالوَالِدَينِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النِّسَاء: 36].

- فِي مَعْنَى قَولِهِ تَعَالَى: {وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ} [النِّسَاء: 36]، قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ:" {وَالجَارِ ذِي القُرْبَى} أَي الجَارِ القَرِيبِ الَّذِي لَهُ حَقَّانِ، حَقُّ الجِوَارِ وَحَقُّ القَرَابَةِ. {الجَارِ الجُنُبِ} أَي الَّذِي لَيسَ لَهُ قَرَابَةٌ. وَ {الصَّاحِبِ بِالجَنْبِ} قِيلَ: الرَّفيقُ فِي السَّفَرِ، وَقِيلَ: الزَّوجَةُ، وَقِيلَ: الصَّاحِبُ مُطْلَقًا -وَلَعَلَّهُ أَولَى- فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الصَّاحِبَ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، ويَشْمَلُ الزَّوجَةَ"

(1)

.

قُلْتُ: وَلَكِنَّ دَرَجَةَ الإِحْسَانِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَةِ الجِوَار؛ فَالأَقْرَبُ أَكْثَرُ إِحْسَانًا مِنَ الأَبْعَدِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارَينِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ:«إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا»

(2)

.

- قَولُهُ: «فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» : يَشْمَلُ أُمُورًا أَهَمُّهَا:

1 -

البِشْرُ فِي وَجْهِهِ.

2 -

كَفُّ الأَذَى عَنْهُ.

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِي (ص: 177).

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَالجَارُ القَرِيبُ: مَنْ بَينَهُمَا قَرَابَةٌ، وَالجَارُ الجُنُبُ بِخِلَافِهِ. وَهَذَا قَولُ الأَكْثَرِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ". فَتْحُ البَارِي (10/ 441).

(2)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (107). صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (79).

ص: 203

3 -

تَحَمُّلُ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ.

4 -

الإِحْسَانُ إِلَيهِ.

وَفِي الحَدِيثِ «إذا سَمِعْتَ جِيرَانَكَ يَقُولُونَ: قَدْ أحْسَنْتَ؛ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ أسَاتَ؛ فَقَدْ أَسَاتَ»

(1)

.

- جَاءَ فِي وَصْفِ المُنَافِقِينَ تَرْكُ هَذَا الإِحْسَانِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ} [المَاعُون: 7].

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: " {وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ}: أَي: يَمْنَعُونَ مَا يَجِبُ بَذْلُهُ مِنَ المَوَاعِينِ، وَهِيَ الأَوَانِي"

(2)

.

وَقَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: " {وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ}: أَي: يَمْنَعُونَ إِعْطَاءَ الشَّيءِ الَّذِي لَا يَضُرُّ إِعْطَاؤهُ عَلَى وَجهِ العَارِيَةِ أَوِ الهِبَةِ، كَالإِنَاءِ وَالدَّلْوِ وَالفَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتِ العَادَةُ بِبَذْلِهَا وَالسَّمَاحَةِ بِهَا"

(3)

.

- فِي بَيَانِ غِلَظِ تَحْرِيمِ أَذَى الجَارِ:

أ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» ، قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(4)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (3808) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1327).

(2)

تَفْسِيرُ العُثَيمِين -جُزْء عَمَّ- (ص: 329).

(3)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 935).

(4)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4477)، وَمُسْلِمٌ (86).

ص: 204

ب- عَنِ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَرْفُوعًا «لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ خَيرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، وَلَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ أَيسَرُ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيتِ جَارِهِ»

(1)

.

جـ- عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ فُلَانَةَ -يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا- غَيرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَإِنَّ فُلَانَةَ -يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَأَنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ

(2)

- وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ قَالَ: «هِيَ فِي الجَنَّةِ»

(3)

.

- فَائِدَةٌ:

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله فِي (السِّلْسِلَةُ الضَّعِيفَةُ): " (السَّاكِنُ مِنْ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ). ضَعِيفٌ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاود فِي المَرَاسِيلِ

(4)

، وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي حَدِّ الجِوَارِ عَلَى أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا الحَافِظُ فِي الفَتْحِ، وَكُلُّ مَا جَاءَ تَحْدِيدُهُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِينَ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّوَابَ تَحْدِيدُهُ بِالعُرْفِ، وَاللهُ أَعْلَمُ"

(5)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (23854). الصَّحِيحَةُ (65).

(2)

قَالَ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَارِيِّ رحمه الله: "وَقَولُهُ (تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ): أَي: بِقِطَعٍ مِنْهُ، جَمْعُ ثَورٍ -بِالمُثَلَّثَةِ- وَهُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الأَقِطِ". مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (8/ 3126).

قُلْتُ: وَالأَقِطُ لَبَنٌ مُجَفَّفٌ.

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (9675). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2560).

(4)

أَبُو دَاود فِي المَرَاسِيلِ (350).

(5)

تَحْتَ الحَدِيثِ (277) مِنَ الضَّعِيفَةِ.

ص: 205

- قَولُهُ: «فَلْيُكْرِمْ ضَيفَهُ» يَشْمَلُ أُمُورًا أَهَمُّهَا:

1 -

البِشْرُ فِي وَجْهِهِ.

2 -

طِيبُ الحَدِيثِ مَعَهُ.

3 -

إِحْضَارُ المُتَيَسِّرِ مِنَ الطَّعَامِ؛ وَهُوَ أَصْلُ إِكْرَامِ الضَّيفِ.

- فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي شُرَيحٍ الكَعْبِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيفَهُ جَائِزَتَهُ -يَومٌ وَلَيلَةٌ-، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ» ، وَفِي لَفْظٍ «وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وكَيفَ يُؤثِمُهُ؟ قَالَ:«يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلَا شَيءَ لَهُ يُقْرِيهِ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

.

وَعَلَيهِ فَالاسْتِضَافَةُ الوَاجِبَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَالجَائِزَةُ (العَطِيَّةُ)

(2)

، وَاليَومَانِ الآخَرَانِ بِحَسْبِ المُعْتَادِ، وَهَذِهِ الاسْتِضَافَةُ مَقْرُونَةٌ بِالطَّاقَةِ؛ فَمَنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَمْلِكُ إِلَّا قُوتَهُ وَقُوتَ عِيَالِهِ لَا تَلْزَمُهُ هَذِهِ الضِّيَافَةُ، وَلَا يَحِلُّ لِلضَّيفِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ المُضِيفِ وَلَا شَيءَ لَهُ يُقْرِيهِ بِهِ! فَرُبَّمَا دَعَاهُ ضِيقُ صَدْرِهِ بِهِ وَحَرَجُهُ إِلَى مَا يَاثَمُ بِهِ فِي قَولٍ أَو فِعْلٍ.

وَأَمَّا إِذَا آثَرَ المُضِيفُ الضَّيفَ -في حال ضيق يده- عَلَى نَفْسِهِ كَمَا فَعَلَ الأَنْصَارِيُّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ قَولُهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فَذَلِكَ مَقَامُ فَضْلٍ وَإِحْسَانٍ وَلَيسَ بِوَاجِبٍ.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6135)، وَمُسْلِمٌ (48).

(2)

وَفِي المُسْتَدْرَكِ لِلحَاكِمِ (7296): "جَائِزَتُهُ: أَنْ يُتحِفَهُ فِي اليَومِ وَاللَّيلَةِ بِأَفْضَلِ مَا يَجِدُ".

ص: 206

وَالحَدِيثُ فِي الصَّحِيحينِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَضُمُّ أَو يُضِيفُ هَذَا؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي! فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ؛ فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَاكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَينِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«ضَحِكَ اللهُ اللَّيلَةَ -أَو عَجِبَ- مِنْ فَعَالِكُمَا» فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحَشَر: 9]

(1)

.

- تَنْبِيهٌ عَلَى قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» :

" قَالَ العُلَمَاءُ: هَذَا فِي حَقِّ أَهْلِ القُرَى الَّذِينَ لَيسَ ثَمَّ مَكَانٌ يُمْكِنُ لِلضَّيفِ أَنْ يَسْتَاجِرَ فِيهِ، أَمَّا فِي المُدُنِ الكِبَارِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا الفَنَادِقُ، وَيَوجَدُ فِيهَا الدُّورُ الَّتِي تُؤَجَّرُ؛ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ الضِّيَافَةُ لِأَنَّهُ لَيسَ مُحْتَاجًا لَهَا، وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ فِي القُرَى وَأَهْلِ الخِيَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الضُّيُوفُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى المُضِيفِ أَنْ يُقْرِيَهُم يَومًا وَلَيلَةً، وَتَمَامُ الضِّيَافَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا.

وَإِذَا كَانَ البَيتُ ضَيِّقًا وَلَا مَكَانَ لِهَذَا الضَّيفِ فِيهِ -وَلَسْتَ ذَا غِنًى كَبِيرٍ بِحَيثُ تُعِدُّ بَيتًا لِلضُّيُوفِ-؛ فَيُمْكِنُ أَنْ تَعْتَذِرَ لَهُ وَتُعْطِيَهُ مَا يَنُوبُ عَنْ إِقَامَتِهِ لَدَيكَ فِي الفُنْدُقِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ نَوعٌ مِنَ الإِكْرَامِ"

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (3798)، وَمُسْلِمٌ (2054).

(2)

انْظُرْ شَرْحَ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لِلْعُثَيمِين (ص: 178)، شَرْحَ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لصَالِح آلِ الشَّيخِ

(ص: 246).

ص: 207

‌الحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ: (لا تَغْضَبْ)

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلًا

(1)

قَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوصِنِي، قَال:«لَا تَغْضَبْ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

- الوَصِيَّةُ: هِيَ العَهْدُ إِلَى الشَّخْصِ بِالأَمْرِ المُهِمِّ.

- قَولُهُ: «لَا تَغْضَبْ» : لَهُ مَعْنَيَانِ -أَو مَرْتَبَتَانِ-:

1 -

أَنْ تَجْتَنِبَ أَسْبَابَ الغَضَبِ؛ فَلَا تَسْعَ فِيمَا يُغْضِبُكَ.

وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ يَمْدَحُونَ التَّغَافُلَ، وَقَالَ رَجُلٌ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ زَائِدَةَ: " العَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي التَّغَافُلِ"،

فقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: " العَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، كُلُّهَا فِي التَّغَافُلِ"

(3)

.

2 -

أَنْ لَا تُنْفِذَ مُقْتَضَى الغَضَبِ، فَإِذَا أَتَتْ دَوَاعِي الغَضَبِ فَاكْظِمْ غَضَبَكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الغَضَبَ إِذَا مَلَكَ شَيئًا مِنْ بَنِي آدَمَ كَانَ هُوَ الآمِرُ وَالنَّاهِي لَهُ، وَلِهَذَا المَعْنَى قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "وَلَعَلَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَقَدْ خَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ (2353) مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؛ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، قَالَ: «لا تَغْضَبْ؛ وَلَكَ الجَنَّةُ» ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 362).

(2)

البُخَارِيُّ (6116)، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ (23171)، قَالَ الرَّجُلُ:"فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ؛ فَإِذَا الغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ". صَحِيحٌ. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2746).

(3)

رَوَاهُ البَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (8028).

ص: 208

هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأَعْرَاف: 154]

(1)

.

وَفِي البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَينَ اثْنَينِ وَهُوَ غَضْبَانُ»

(2)

.

- جَاءَ فِي فَضْلِ مَنْ كَظَمَ غَيظَهُ نُصُوصٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا:

أ- قَولُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عِمْرَان: 134].

ب- قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشُّورَى: 37]

(3)

.

جـ- حَدِيثُ «مَنْ كَظَمَ غَيظًا -وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ-؛ دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الحُورِ العِينِ؛ يُزَوِّجُهُ مِنْهَا مَا شَاءَ»

(4)

.

د- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو؛ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللهِ عز وجل؟ قَالَ: «لَا تَغْضَبْ»

(5)

.

هـ- حَدِيثُ «مَا مِنْ جُرْعَةٍ -أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللهِ- مِنْ جُرْعَةِ غَيظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ

(1)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (3/ 478): "يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ} أَي: سَكَنَ {عَنْ مُوسَى الغَضَبُ} أَي: غَضَبُهُ عَلَى قَومِهِ {أَخَذَ الألْوَاحَ} أَي: الَّتِي كَانَ أَلْقَاهَا مِنْ شِدَّةِ الغَضَبِ عَلَى عِبَادَتِهِم العِجْلَ -غَيرَةً للهِ وَغَضَبًا لَهُ-".

(2)

البُخَارِيُّ (7158).

(3)

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (ص: 759): " {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أَي: قَدْ تَخَلَّقُوا بِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، فَصَارَ الحِلْمُ لَهُم سَجِيَّةً، وَحُسْنُ الخُلُقِ لَهُم طَبِيعَةً؛ حَتَّى إِذَا أَغْضَبَهُم أَحَدٌ بِمَقَالِهِ أَو فِعاَلِهِ؛ كَظَمُوا ذَلِكَ الغَضَبَ فَلَمْ يُنْفِذُوهُ، بَلْ غَفَرُوهُ، وَلَمْ يُقَابِلُوا المُسِيءَ إِلَّا بِالإِحْسَانِ وَالعَفْوِ وَالصَّفْحِ".

(4)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2493) عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2231).

(5)

حَسَنٌ. أَحْمَدُ (6635)، وَصَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (296) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2747).

ص: 209

ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ»

(1)

.

- عِلَاجُ الغَضَبِ وَالحَدُّ مِنْهُ يَكُونُ بِأُمُورٍ؛ مِنْهَا:

1 -

الاسْتِعَاذَةُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ.

عَنْ سُلَيمَانَ بْنِ صُرَدٍ؛ قَالَ: " كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ-، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَودَاجُهُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَو قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَو قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ؛ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ» ،

فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ» . فَقَالَ: وَهَلْ بِي جُنُونٌ! ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

.

2 -

السُّكُوتُ.

لِحَدِيثِ «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ»

(3)

.

3 -

السُّكُونُ وَتَغْيِيرُ الحَالِ.

لِحَدِيثِ «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُم وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ؛ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الغَضَبُ وَإِلاَّ فَلْيَضْطَجِعْ»

(4)

.

4 -

مَعْرِفَةُ أَجْرِ مَنْ كَظَمَ غَيظًا.

وَقَدْ سَبَقَتْ فِي أَحَادِيثِ فَضْلِ مَنْ كَظَمَ غَيظًا.

5 -

مَعْرِفَةُ مَنْزِلَةِ مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ.

(1)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (4189) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2752).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3282)، وَمُسْلِمٌ (2610).

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (2136) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (1375).

(4)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4782) عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (694).

ص: 210

لِحَدِيثِ «لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ! إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»

(1)

.

وَفِي الحَدِيثِ أَيضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَومٍ يَصْطَرِعُونَ، فَقَالَ:«مَا هَذَا؟» قَالُوا: فُلَانٌ الصَّرِيعُ؛ مَا يُصَارِعُ أَحَدًا إِلَّا صَرَعَهُ. قَالَ: «أَفَلَا أَدُلُّكُم عَلَى مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟ رَجُلٌ ظَلَمَهُ رَجُلٌ؛ فَكَظَمَ غَيظَهُ، فَغَلَبَهُ، وَغَلَبَ شَيطَانَهُ، وَغَلَبَ شَيطَانَ صَاحِبِهِ»

(2)

.

6 -

مَعْرِفَةُ مَسَاوِئِ الغَضَبِ.

مِنَ الإِضْرَارِ بِالنَّفْسِ وَبِالآخَرِينَ؛ حَيثُ يَنْطَلِقُ اللِّسَانُ بِالشَّتْمِ وَالفُحْشِ وَالقَذْفِ وَالكُفْرِ، وَتَنْطَلِقُ اليَدُ بِالبَطْشِ بِغَيرِ تَعَقُّلٍ، وَقَدْ يَصِلُ الأَمْرُ إِلَى طَلَاقٍ أَو قَتْلٍ وَمَا شَابَهَ.

وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَى وَالغَضَبِ»

(3)

، وَفِي هَذَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الغَضَبَ لَا يُعِينُ عَلَى قَولِ الحَقِّ وَالعَمَلِ بِهِ.

- إِنَّ مَا سَبَقَ مِنَ الوَسَائِل هِيَ عِلَاجٌ لِلغَضَبِ إِذَا وَقَعَ، وَهُنَاكَ مِنَ الوَسَائِلِ مَا هُوَ وِقَايَةٌ مِنْ حُصُولِ الغَضَبِ؛ وَمِنْهَا:

1 -

التَّحَلِّي بِصِفَتَي الحِلْمِ وَالأَنَاةِ.

كَمَا فِي حَدِيثِ أَشَجِّ عَبْدِ القَيسِ؛ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ» ، قُلْتُ: مَا هُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الحِلْمُ وَالحَيَاءُ» ، قُلْتُ: أَقَدِيمًا

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6114)، وَمُسْلِمٌ (2609) مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ.

(2)

صَحِيحٌ. البَزَّارُ (13/ 475) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3295).

(3)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (1305) عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ النَّسَائِيِّ (1305).

ص: 211

كَانَا فِيَّ أَو حَدِيثًا؟ قَالَ: «بَلْ قَدِيمٌ» ، قُلْتُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا

(1)

.

2 -

البُعْدُ عَنْ أَسْبَابِ الغَضَبِ.

- فَضِيلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي كَظْمِ الغَيظِ:

عَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قَالَ: " قَدِمَ عُيَينَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيفَةَ؛ فَنَزَلَ عَلَى

ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيسٍ -وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَو شُبَّانًا-، فَقَالَ عُيَينَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي؛ هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ؛ فَاسْتَاذِنْ لِي عَلَيهِ؟ قَالَ: سَأَسْتَاذِنُ

لَكَ عَلَيهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَاذَنَ الحُرُّ لِعُيَينَةَ؛ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيهِ؛ قَالَ: هِي يَا ابْنَ الخَطَّابِ! فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَينَنَا بِالعَدْلِ! فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؛ إِنَّ اللهَ

تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {خُذْ العَفْوَ وَامُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} وَإِنَّ

هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ. وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ

كِتَابِ اللهِ"

(2)

.

- فَائِدَةٌ:

يَجُوزُ مِنَ الغَضَبِ مَا كَانَ للهِ تَعَالَى، قَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ:(بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لِأَمْرِ اللهِ)

(3)

، وَأَيضًا (بَابُ الغَضَبِ فِي المَوعِظَةِ

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (584) عَنِ الأَشَجِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (455).

(2)

البُخَارِيُّ (4642).

(3)

البُخَارِيُّ (8/ 27)، وَقَدْ سَبَقَهُ -بَابُ الحَذَرِ مِنَ الغَضَبِ-.

ص: 212

وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ)

(1)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَالوَاجِبُ عَلَى المُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى طَلَبِ مَا أَبَاحَهُ اللهُ لَهُ، وَرُبَّمَا تَنَاوَلَهَا بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ فَأُثِيبَ عَلَيهَا، وَأَنْ يَكُون غَضَبُهُ دَفْعًا لِلأَذَى فِي الدِّينِ لَهُ أَو لِغَيرِهِ، وَانْتِقَامًا مِمَّنْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَومٍ مُؤْمِنِينَ} [التَّوبَة: 14] "

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (1/ 30).

قُلْتُ: وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ أَيضًا بِأَنْ يَكُونَ مَضْبُوطًا بِالشَّرْعِ.

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 369).

ص: 213

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي جُمْلَةِ وَصَايَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفَ جَوَابُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عَنِ الوَصِيَّةِ! فَمَرَّةً قَالَ مِثْلَمَا قَالَ هُنَا: «لَا تَغْضَبْ» ، وَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ:«لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ»

(1)

، وَقَالَ أَبُو هُرَيرَةَ رضي الله عنه:«أَوصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ؛ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

، فَمَا الجَوَابُ عَنْ هَذَا التَّنَوُّعِ؟

الجَوَابُ: قَالَ العُلَمَاءُ: اخْتِلَافُ الإِجَابَةِ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَينِ:

1 -

أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَوَّعَ الإِجَابَةَ بِحَسْبِ الأَنْفَعِ لِلسَّائِلِ، فَالسَّائِلُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى الذِّكْرِ أَرْشَدَهُ إِلَى الذِّكْرِ، وَالَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ لَا يَغْضَبَ أَرْشَدَهُ إِلَى عَدَمِ الغَضَبِ، وَهَكَذَا.

2 -

أَنَّهُ نَوَّعَ الإِجَابَةَ لِبَيَانِ تَنَوُّعِ أَسْبَابِ الخَيرِ فِي الأُمَّةِ، وَهَذَا الاخْتِلَافُ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَلَيسَ اخْتِلَافَ تَضَادٍّ.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3375) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بِسْرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7700).

(2)

البُخَارِيُّ (1981)، وَمُسْلِمٌ (721).

ص: 214

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَولُهُ تَعَالَى: "غَضِبَ اللهُ"

(1)

: الغَضَبُ للهِ تَعَالَى؛ هَلْ هُوَ صِفَةٌ حَقِيقيَّةٌ ثَابِتَةٌ للهِ تَعَالَى؟ أَمْ كَمَا قَالَ أَهْلُ التَّاوِيلِ والتَّعْطِيلِ: غَضَبُ اللهِ هُوَ الانْتِقَامُ مِمَّنْ عَصَاهُ! وَبَعْضُهُم يَقُولُ: إِرَادَةُ الانْتِقَامِ مِمَّنْ عَصَاهُ!

وَالحُجَّةُ عِنْدَهُم أَنَّهَا تَشْبِيهٌ لِلخَالِقِ بِالمَخْلُوقِ! وَوَصْفٌ لَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ!

وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ غَضَبَ اللهِ تَعَالَى لَا يُمَاثِلُ غَضَبَ المَخْلُوقِينَ لَا فِي الحَقِيقَةِ وَلَا فِي الأَثَرِ.

أ- فَمِنْ حَيثُ الحَقِيقَةِ: غَضَبُ المَخْلُوقِ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ طَلَبًا لِلانْتِقَامِ، وَهُوَ جَمْرَةٌ يُلْقِيهَا الشَّيطَانُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ حَتَّى يَفُورَ، أَمَّا غَضَبُ الخَالِقِ؛ فَإِنَّهُ صِفَةٌ لَا تُمَاثِلُ هَذَا، قَالَ تَعَالَى:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}

[الشُّورَى: 11].

ب- مِنْ حَيثُ الأَثَرِ: غَضَبُ الآدَمِيِّ قَدْ يُؤَثِّرُ آثَارًا غَيرَ مَحْمُودَةٍ، فَقَدْ يَقْتُلُ المَغْضُوبَ عَلَيهِ، وَرُبَّمَا يُطَلِّقُ زَوجَتَهُ، أَو يِكْسِرُ الإِنَاءَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَيسَ لَهُ أَدْنَى ارْتِبَاطٍ بِمَوضُوعِ الغَضَبِ نَفْسِهِ! وَأَمَّا غَضَبُ اللهِ تَعَالَى فَلَا تَتَرَتَّبُ عَلَيهِ إِلَّا آثَارٌ حَمِيدَةٌ، فَاللهُ تَعَالَى عَزِيزٌ حَمِيدٌ حَكِيمٌ.

وَتَأَمَّلِ الاقْتِرَانَ بَينَ بَعْضِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى كَالعَزِيزِ وَالحَكِيمِ، وَالعَزِيزِ الحَمِيدِ؛ حَيثُ يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا تُخْرِجُهُ عِزَّتُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ حِكْمَتِهِ

ص: 215

وَاسْتِحْقَاقِهِ الحَمْدَ؛ بِخِلَافِ العَزِيزِ مِنَ البَشَرِ

(1)

.

2 -

يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ تَاوِيلِ صِفَةِ الغَضَبِ بِالانْتِقَامِ

(2)

قَولُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزُّخْرُف: 55] فَإِنَّ مَعْنَى {آسَفُونَا} أَغْضَبُونَا

(3)

؛ فَجَعَلَ الانْتِقَامَ غَيرَ الغَضَبِ، بَلْ أَثَرًا مُتَرَتِّبًا عَلَيهِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ تَفْسِيرِ الغَضَبِ بِالانْتِقَامِ.

وَلِتَمَامِ الفَائِدَةِ؛ فَإِنَّ الغَضَبَ صِفَةٌ تَدُلُّ عَلَى القُدْرَةِ، فَلَيسَتْ مَذْمُومَةً مُطْلَقًا!

قَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " وَالمُؤْلِمُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الغَضَبَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ أَثَارَ الحُزْنَ، وَلِهَذَا يَحْمَرُّ الوَجْهُ عِنْدَ الغَضَبِ لِثَوَرَانِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ القُدْرَةِ، وَيَصْفَرُّ عِنْدَ الحُزْنِ لِغَورِ الدَّمِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ العَجْزِ"

(4)

.

(1)

انْظُر (القَولُ المُفِيدُ) لِابْنِ عُثَيمِين (1/ 422).

(2)

وَإِنْ كَانَ الانْتِقَامُ قَدْ يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الغَضَبِ أَحْيَانًا؛ فَاللهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِالانْتِقَامِ مِنَ المُجْرِمِينَ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السَّجْدَة: 22].

(3)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (13/ 121).

(4)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (28/ 159).

ص: 216

‌الحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ)

عَنْ أَبِي يَعْلَى؛ شَدَّادِ بْنِ أَوسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

- قَولُهُ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ» : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِحْسَانَ وَاجِبٌ.

- قَولُهُ: «القِتْلَةَ» : هِيَ الهَيئَةُ وَالحَالَةُ.

- الكِتَابَةُ هُنَا قَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ كَونِيَّةً قَدَرِيَّةً، وَالأَظْهَرُ هُنَا أَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ لِدِلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيهَا حَيثُ أَمَرَ الذّابِحَ بِإِحْسَانِ الذَّبْحِ.

وَالفَرْقُ بَينَهُمَا أَنَّ الكَونِيَّةَ وَاقِعَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى وَقَدْ

لَا يُحِبُّهَا، أَمَّا الكِتَابَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَقَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ، وَهِيَ مَحْبُوبَةٌ دَومًا مِنَ

اللهِ تَعَالَى

(2)

.

ص: 217

- الإِحْسَانُ هُنَا هُوَ الإِحْسَانُ الوَاجِبُ؛ لِأَنَّ اللهَ فَرَضَهُ، وَفِي الجُمْلَةِ قَدْ يَكُون الإِحْسَانُ مُسْتَحَبًّا؛ وَلَكِنَّهُ لَيسَ المَقْصُودَ هُنَا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الإِحْسَانِ الوَاجِبِ هَيئَةُ الذَّبْحِ وَالقَتْلِ، وَأَيضًا قَولُهُ تَعَالَى:

{إِنَّ اللهَ يَامُرُ بِالعَدْلِ والإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النَّحْل: 90]، وَقَولُهُ تَعَالَى أَيضًا:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إِحْسَانًا} [الإِسْرَاء: 23].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَهَذَا الأَمْرُ بِالإِحْسَانِ تَارَةً يَكُونُ لِلوُجُوبِ كَالإِحْسَانِ إِلَى الوَالِدَينِ وَالأَرْحَامِ بِمِقْدَارِ مَا يَحْصُلُ بِهِ البِرُّ وَالصِّلَةُ، وَالإِحْسَانِ إِلَى الضَّيفِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ قِرَاهُ -عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ-، وَتَارَةً يَكُون لِلنَّدْبِ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَنَحْوِهَا"

(1)

.

- هَذَا الحَدِيثُ فِيهِ تَمْثِيلٌ لِنَوعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الإِحْسَانِ، وَتَأَمَّلْ كَونَهُ فِي القَتْلِ وَالذَّبْحِ رُغْمَ أَنَّهُ مَوتٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ

(2)

! فكَيفَ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِمَّا فِيهِ عَلَاقَةُ العَبْدِ مَعَ رَبِّهِ وَمَعَ إِخْوَانِهِ المُسْلِمِينَ؟!

وَفِي الحَدِيثِ «إِنَّ اللهَ تَعَالَى مُحْسِنٌ فَأَحْسِنُوا»

(3)

، وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ «إِذَا حَكَمْتُمْ فَاعْدِلُوا، وَإِذَا قَتَلْتُمْ فأَحْسِنُوا؛ فَإِنَّ اللهَ مُحْسِنٌ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ»

(4)

.

- الذَّبْحُ أَخَصُّ مِنَ القَتْلِ لِأَنَّهُ لِلأَكْلِ.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 381).

(2)

وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنِ التَّمْثِيلِ بِالقَتْلَى رُغْمَ أَنَّهُم مَوتَى؛ أَو سَيَمُوتُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ! كَمَا فِي حَدِيثِ بُرَيدَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1731)«وَلَا تُمَثِّلُوا» .

(3)

صَحِيحٌ. ابْنُ عَدِيٍّ فِي الكَامِلِ (8/ 173) عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1823).

(4)

صَحِيحٌ. ابْنُ عَدِيٍّ فِي الكَامِلِ (7/ 307) عَنْ أَنَس مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (469).

ص: 218

- يُسْتَثْنَى مِنْ إِحْسَانِ القَتْلِ حَالَةُ القِصَاصِ، لِأَنَّهَا مِمَّا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ

(1)

.

- مِنَ الإِحْسَانِ فِي الذّبْحِ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَمْرِ بِحَدِّ الشِّفَارِ، وَأَنْ تُوَارَى عَنِ البَهَائِمِ، وَقَالَ:«إِذَا ذَبَحَ أَحَدُكُمْ؛ فَلْيُجْهِزْ»

(2)

.

- شُرُوطُ الذَّكَاةِ

(3)

؟

الجَوَابُ: يُشْتَرَطُ فِي الذَّكَاةِ

(4)

شُرُوطٌ تِسْعَةٌ:

1 -

أَنْ يَكُونَ المُذَكِّي عَاقِلًا مُمَيِّزًا.

فَلَا يَحِلُّ مَا ذَكَّاُه مَجْنُونٌ أَو سَكْرَانٌ أَو صَغِيرٌ لَمْ يُمَيِّزْ أَو كَبِيرٌ ذَهَبَ تَمْيِيزُهُ وَنَحْوُهُم.

2 -

أَنْ يَكُونَ المُذَكِّي مُسْلِمًا، أَو كِتَابِيًّا -وَهُوَ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى دِينِ اليَهُودِ أَوِ النَّصَارَى-، لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} [المَائِدَة: 5].

وَكَمَا فِي الصَّحِيحِينِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا

(5)

.

3 -

أَنْ يَقْصِدَ التَّذْكِيَةَ؛ وَلَيسَ مُجَرَّدَ القَتْلِ! كَأَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَيَقْتُلَهَا وَلَا يَنْوِي الذَّبْحَ!

4 -

أَنْ لَا يَكُونَ الذَّبْحُ لِغَيرِ اللهِ -فَهُوَ شِرْكٌ فِي الأُلُوهِيَّةِ-، فَإِنْ كَانَ لِغَيرِ اللهِ

(1)

وَسَبَقَ الكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوضِعِهِ مِنْ شَرْحِ الحَدِيثِ الرَّابِعَ عَشَرَ.

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (5864) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3130).

(3)

بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ مِنْ كِتَابِ (أَحْكَامُ الأُضْحِيَةِ وَالذَّكَاةِ) لِابْنِ عُثَيمِين (2/ 259).

(4)

الذَّكَاةُ: هِيَ فِعْلُ مَا يَحِلُّ بِهِ الحَيَوَانُ الَّذِي لَا يَحِلُّ إِلَّا بِهِ مِنْ نَحْرٍ أَو ذَبْحٍ أَو جَرْحٍ، فَالنَّحْرُ لِلإِبِلِ، وَالذَّبْحُ لِغَيرِهَا، وَالجَرْحُ لِمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيهِ إِلَّا بِهِ.

(5)

البُخَارِيُّ (2617)، وَمُسْلِمٌ (2190).

ص: 219

لَمْ تَحِلَّ الذَّبِيحَةُ، كَالذِي يَذْبَحُ تَعْظِيمًا لِصَنَمٍ أَو صَاحِبِ قَبْرٍ أَو مَلِكٍ أَو ضَيفٍ مُعَظَّمٍ وَنَحْوِهِم، لِقَولِهِ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ المَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ اليَومَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوهُمْ وَاخْشَونِ اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المَائِدَة: 3].

وَالشَّاهِدُ مِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} . وَالنُّصُبُ: حَجَرٌ كَانَ يُنْصَبُ فَيُعْبَدُ، وَتُصَبُّ عَلَيهِ دِمَاءُ الذَّبَائِحِ.

5 -

أَنْ لَا يُسَمِّيَ عَلَيهَا اسْمَ غَيرِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ المَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ} [المَائِدَة: 3] وَالإِهْلَالُ: رَفْعُ الصَّوتِ، وَهِيَ هُنَا تَسْمِيَةُ الذَّابِحِ.

6 -

أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيهَا فَيَقُولَ عِنْدَ تَذْكِيَتِهَا: (بِسْمِ اللهِ)، لِقَولِهِ تَعَالَى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأَنْعَام: 118]، وَقَولِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا أنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ؛ فَكُلُوهُ»

(1)

.

وَالتَّكْبِيرُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ مُسْتَحَبٌّ وَلَيسَ بِوَاجِبٍ، وَتَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ إِذَا ذُكِرَ غَيرُ اسْمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيهَا؛ سَوَاءً كَانَ الذّابِحُ مُسْلِمًا أَمْ كِتَابِيًّا.

7 -

أَنْ تَكُونَ الذَّكَاةُ بِحَادٍّ يُنْهِرُ الدَّمَ مِنْ حَدِيدٍ أَو أَحْجَارٍ أَو زُجَاجٍ أَو غَيرِهَا، لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا أنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ فَكُلُوهُ، لَيسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ! وَسَأُحَدِّثُكُم عَنْ ذَلِكَ؛ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ»

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (5543)، وَمُسْلِمٌ (1968) مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مَرْفُوعًا.

(2)

البُخَارِيُّ (5543)، وَمُسْلِمٌ (1968) مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مَرْفُوعًا.

ص: 220

وَالعَظْمُ مَنْهِيٌّ عَنِ اسْتِخْدَامِهِ لِأَنَّهُ زَادُ إِخْوَانِنَا مِنَ الجِنِّ

(1)

، وَأَمَّا مُدَى الحَبَشَةِ فَهُوَ خَنْقٌ بِالأَظَافِرِ مِنْ أَهْلِ الحَبَشَةِ لِلشَّاةِ، وَيَدُلُّ عَلَى التَّوَحُّشِ.

8 -

إِنْهَارُ الدَّمِ، أَي: إِجْرَاؤُهُ بِالتَّذْكِيَةِ، لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم -كَمَا سَبَقَ-:«مَا أنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ فَكُلُوهُ» .

ثُمَّ إنْ كَانَ الحَيَوَانُ غَيرَ مَقْدُورٍ عَلَيهِ كَالشَّارِدِ أَوِ الوَاقِعِ فِي بِئْرٍ أَو مَغَارَةٍ وَنَحْوِهِ؛ كَفَى إِنْهَارُ الدَّمِ فِي أَيِّ مَوضِعٍ كَانَ فِي بَدَنِهِ، وَالأَولَى أَنْ يَتَحَرَّى مَا كَانَ أَسْرَعَ إِزْهَاقًا لِرُوحِهِ؛ لِأَنَّهُ أَرْيَحُ لِلحَيَوَانِ وَأَقَلُّ عَذَابًا.

9 -

أَنْ يَكُون المُذَكَّى مَاذُونًا فِي ذَكَاتِهِ شَرْعًا، فَمَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى كَصَيدِ الحَرَمِ وَالإِحْرَامِ؛ فَلَا يَحِلُّ وَإِنْ ذُكِّيَ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيكُمْ غَيرَ مُحِلِّى الصَّيدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المَائِدَة: 1]، وَكَمَا فِي الحَدِيثِ «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّباعِ، وكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيرِ»

(2)

.

- فَائِدَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالآيَةِ السَّابِقَةِ

(3)

:

إنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَاذَا أُعِيدَ ذِكْرُ أَصْنَافٍ مِنْ هَيئَاتِ الحَيَوَانَاتِ المَيِّتَةِ مَعَ أَنَّهَا كُلَّهَا أَصْلًا مَشْمُولَةٌ بِأَوَّلِ الآيَةِ وَفِيهَا {حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ المَيتَةُ} ؟!

ص: 221

وَالجَوَابُ: " إِنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الآيَةِ كَانُوا لَا يَعُدُّونَ المَيتَةَ مِنَ الحَيَوَانِ إِلَّا مَا مَاتَ مِنْ عِلَّةٍ عَارِضَةٍ بِهِ غَيرِ الانْخِنَاقِ وَالتَّرَدِّي وَالانْتِطَاحِ وَفَرَسِ السَّبُعِ! فَأَعْلَمَهُم اللهُ أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ مَا مَاتَ مِنَ العِلَلِ العَارِضَةِ، وَأَنَّ العِلَّةَ المُوجِبَةَ تَحْرِيمَ المَيتَةِ لَيسَتْ مَوتَهَا مِنْ عِلَّةِ مَرَضٍ أَو أَذًى كَانَ بِهَا قَبْلَ هَلَاكِهَا! وَلَكِنَّ العِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ يذبَحْهَا مِنْ أَجْلِ ذَبِيحَتِهِ بِالمَعْنَى الَّذِي أَحَلَّهَا بِهِ"

(1)

.

- فَائِدَةٌ: التَّسْمِيَةُ شَرْطٌ فِي حِلِّ الذّبِيحَةِ إِلاَّ لِنِسْيَانٍ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَوقُوفًا: " المُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ؛ فَلْيُسَمِّ ثُمَّ لِيَاكُل".

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: " وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَوقُوفًا عَلَيهِ"

(2)

.

قُلْتُ: وَقَدْ تَعَقَّبَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ الأَفَاضِلِ بِأَنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مُخَالِفٌ لِنَصِّ الآيَةِ الصَّرِيحِ {وَلَا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأَنْعَامُ: 121]، إِلَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَخْفَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَهُوَ تَرْجُمَانُ القُرْآنِ! وَيَزِيدُ هَذَا بَيَانًا أَنَّ نَصَّ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الآيَةِ كَمَا فِي

(1)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (9/ 507).

(2)

بُلُوغُ المَرَامِ (ص: 412).

تَنْبِيهٌ: لَفْظُ الأَثَرِ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (3538): "المُسْلِمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ؛ فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسَمِّيَ عَلَى الذَّبِيحَةَ؛ فَلْيُسَمِّ وَلَيأَكُلْ".

وَلَكِنْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ (4806)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الصُّغْرَى (3012)، بِلَفْظِ "فَإِنَّ المُسْلِمَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ"، وَلَعَلَّ الحَافِظَ مِنْ أَجْلِ هَذَا رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ -تَرْجِيحًا مِنْهُ-. وَاللهُ أَعْلَمُ.

ص: 222

قَولِهِ: " المُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ"، فَيَكُونُ النِّسْيَانُ مِنَ المُسْلِمِ اسْتِثْنَاءً مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه لِعُمُومِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ.

وَلَعَلَّهُ مِمَّا يَزِيدُ الأَمْرَ بَيَانًا أَيضًا أَنَّ النَّهْيَ أَصْلًا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالذَّبْحِ لِغَيرِ اللهِ، كَمَا فِي تَتِمَّةِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأَنْعَامُ: 121].

قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله: " ذَلِكَ فِسْقٌ: يَعْنِي مَعْصِيَةَ كُفْرٍ"

(1)

.

وَقَالَ البُخَارِيُّ رحمه الله في صَحِيْحِهِ: " بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيْحَةِ وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِيَ فَلَا بَاسَ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأَنْعَام: 121]؛ وَالنَّاسِي لَا يُسَمَّى فَاسِقًا! وَقَولُهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِيْنَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأَنْعَام: 121] "

(2)

، وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنَ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ أَنَّ المَقْصُودَ بِهَا هُمُ المُشْرِكُونَ؛ لِأَنَّهُم هُمْ أَولِيَاءُ الشَّيَاطِيْنِ وَلَيْسَ المُسْلِمُونَ -وَإِنْ أَخْطَأَوا -.

وأَيْضًا لِقَولِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَو أَخْطَانَا} [البَقَرَة: 286].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رجب رحمه الله: " وَكَذَا لَو تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيْحَةِ نِسْيَانًا؛ فِيْهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ [عَنْ أَحْمَدَ]، وَأَكْثَرُ الفُقَهَاءِ عَلَى أنَّها تُؤْكَلُ"

(3)

.

(1)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (12/ 76).

(2)

البُخَارِيُّ (90/ 7).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (367/ 2).

ص: 223

‌الحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: (اتَّقِ اللهَ حَيثُما كُنْتَ)

عَنْ أَبِي ذَرٍّ؛ جُنْدَبِ بْنِ جُنَادَةَ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اتَّقِ اللهَ حَيثُما كُنْتَ، وَأَتَّبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنِ» . رَوَاهُ التِّرمِذيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ

(1)

.

- هَذِهِ الوَصِيَّةُ وَصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ جَامِعَةٌ بَينَ حَقِّ اللهِ تَعَالَى وَحَقِّ عِبَادِهِ.

- قَولُهُ: «اتَّقِ اللهَ حَيثُمَا كُنْتَ» : هَذَا أَمْرٌ بِالتَّقْوَى، وَ (حَيثُمَا) هَذِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ الأَمْكِنَةِ، يَعْنِي فِي السِّرِّ وَالعَلَانِيَةِ.

وَفِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ «اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ»

(2)

.

وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: " أَشَدُّ الأَعْمَالِ ثَلَاثَةٌ: الجُودُ مِنْ قِلَّةٍ، وَالوَرَعُ فِي خَلْوَةٍ، وَكَلِمَةُ الحَقِّ عِنْدَ مَنْ يُرْجَى أَو يُخَافُ"

(3)

.

- المُتَّقِي لُغَةً: هُوَ مَنْ جَعَلَ بَينَهُ وَبَينَ مَا يَكْرَهُ وِقَايَةً، وَشَرْعًا: مَنْ جَعَلَ بَينَهُ وَبَينَ سَخَطِ اللهِ وَعَذَابِهِ وِقَايَةً.

(1)

حَسَنٌ، التِّرْمِذِيُّ (1987). صَحِيحُ الجَامِعِ (97).

(2)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (1305) عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ النَّسَائِيِّ (1305).

(3)

ابْنُ عَسَاكِرٍ فِي التَّارِيخِ (51/ 411).

ص: 224

- التَّقْوَى فِي القُرْآنِ تَكُونُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ:

1 -

تَقْوًى بِمَعْنَى التَّوحِيدِ، وَقَدْ أُمِرَ بِهَا النَّاسُ جَمِيعًا.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيبًا} [النِّسَاء:1].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: " يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا خَلْقَهُ بِتَقْوَاهُ -وَهِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- وَمُنَبِّهًا لَهُم عَلَى قُدْرَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُم بِهَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ آدَمَ عليه السلام"

(1)

.

2 -

تَقْوًى أُمِرَ بِهَا المُؤْمِنُونَ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البَقَرَة: 278]، فَهِيَ لِلمُؤْمِنِ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ التَّوحِيدَ، وَمَعْنَاهَا أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى.

3 -

تَقْوًى بِمَعْنَى الثَّبَاتِ عَلَيهَا وَعَلَى الطَّاعَةِ، فَهِيَ مُوَجَّهَةٌ لِمَنْ هُوَ آتٍ بِهَا.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأَحْزَاب: 1].

- التَّقْوَى لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ بَصِيرَةٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 187]، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: " كَمْ مِنْ

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (2/ 206).

ص: 225

مُرِيدٍ لِلْخَيرِ لَنْ يُصِيبَهُ؟! "

(1)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: " أَي: كَمَا بَيَّنَ اللهُ الصِّيَامَ وَأَحْكَامَهُ وَشَرَائِعَهُ وَتَفَاصِيلَهُ؛ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ سَائِرَ الأَحْكَامِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَي: يَعْرِفُونَ كَيفَ يَهْتَدُونَ، وكَيفَ يُطِيعُونَ"

(2)

.

- قَولُهُ: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا» : أَي: إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا بِحَسَنَةٍ؛ فَإِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السِّيِّئَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هُود: 114].

وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هُود: 114]، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَلِي هَذَا؟ قَالَ: «لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(3)

.

- تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ عَلَى مَرْتَبَتَينِ:

1 -

العُلْيَا؛ وَهِيَ أَنْ يَقْصِدَ بِالحَسَنَةِ إِذْهَابَ السَّيِّئَةِ؛ فَعِنْدَهَا يَتَبَرَّأُ بِقَلْبِهِ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ.

2 -

أَنْ يَعْمَلَ بِالخَيرِ مُطْلَقًا؛ وَالحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.

- قَولُهُ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنِ» : هَذَا مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى، وَأَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِلحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ القِيَامُ بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى

(1)

صَحِيحٌ. الدَّارِمِيُّ (210) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوقُوفًا. الصَّحِيحَةُ (2005).

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (1/ 520)

(3)

البُخَارِيُّ (526)، وَمُسْلِمٌ (2763).

ص: 226

دُونَ حُقُوقِ عِبَادِهِ! أَو لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَغْفَلُ العَبْدُ عَنْ حُقُوقِ العِبَادِ لِاشْتِغَالِهِ بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى؛ فَجَاءَ البَيَانُ بالأَمْرِ بِإِحْسَانِ العِشْرَةِ لِلنَّاسِ أَيضًا، فَإِنَّ مُعَاذًا كَانَ قَدْ بُعِثَ إِلَى اليَمَنِ مُعَلِّمًا لَهُم وَمُفَقِّهًا وَقَاضِيًا؛ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَالَقَةِ النَّاسِ بِخُلُقٍ حَسَنٍ، وَكَثِيرًا مَا يَغْلِبُ عَلَى مَنْ يَعْتَنِي بِالقِيَامِ بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى وَالعُكُوفِ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ وَطَاعَتِهِ إِهْمَالُ حُقُوقِ العِبَادِ بِالكُلِّيَّةِ أَوِ التَّقْصِيرُ فِيهَا! فَالجَمْعُ بَينَ القِيَامِ بِحَقِّ اللهِ وَحُقُوقِ النَّاسِ عَزِيزٌ جِدًّا

(1)

.

- فِي فَضْلِ حُسْنِ الخُلُقِ أَحَادِيثُ كَثِيرْةٌ، مِنْهَا:

1 -

«أكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، المُوَطَّؤُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَالَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَلَا خَيرَ فِيمَنْ لَا يَالَفُ وَلَا يُؤْلَفُ»

(2)

.

2 -

«إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الخُلُقِ وَحُسْنُ الجِوَارِ يُعَمِّرْنَ الدِّيَارَ، وَيَزِدْنَ فِي الأَعْمَارِ»

(3)

.

3 -

«أَكْثَرُ مَا يَلِجُ بِهِ الإِنْسَانُ النَّارَ الأَجْوَفَانِ: الفَمُ وَالفَرْجُ، وَأَكْثَرُ مَا يَلِجُ بِهِ الإِنْسَانُ الجَنَّةَ: تَقْوَى اللهِ عز وجل، وَحُسْنُ الخُلُقِ»

(4)

.

- فَائِدَةٌ:

لَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ بِأَنَّ السَّيِّئَاتِ العَظِيمَةَ تَحْتَاجُ لِحَسَنَاتٍ عَظِيمَةٍ لِتَكْفِيرِهَا.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَكَذَلِكَ المَرْأَةُ الَّتِي عَمِلَتْ بِالسِّحْرِ

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 454) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(2)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ (605) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (751).

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (25259) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (519).

(4)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (9096) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (977).

ص: 227

بِدَومَةِ الجَنْدَلِ وَقَدِمَتِ المَدِينَةَ تَسْأَلُ عَنْ تَوبَتِهَا؛ فَوَجَدَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ تُوُفِّيَ، فَقَالَ لَهَا أَصْحَابُهُ:" لَو كَانَ أَبَوَاكِ حَيَّينِ أَو أَحَدُهُمَا كَانَا يَكْفِيَانِكِ". خَرَّجَهُ الحَاكِمُ، وَقَالَ: فِيهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حِدْثَانَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ بِرَّ الوَالِدَينِ يَكْفِيَانِهَا"

(1)

.

وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَاللَّاتِ وَالعُزَّى! فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ! فَلْيَتَصَدَّقْ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

.

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوصِنِي؟ قَالَ:«إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا» ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَمِنَ الحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ قَالَ: «هِيَ أَفْضَلُ الحَسَنَاتِ»

(3)

.

- ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مُكَفِّرَةٌ لِلصَّغَائِرِ بِشَرْطِ اجْتِنَابِ الكَبَائِرِ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النِّسَاء: 31]، وَلِحَدِيثِ «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ؛ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ»

(4)

وَمَفْهُومُ هَذَا أَيضًا أَنَّ الكَبَائِرَ لَا تُكَفَّرُ إِلَّا بِتَوبَةٍ خَاصَّةٍ.

وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ تَكْفِيرِ بَعْضِ الأَعْمَالِ لِلكَبَائِرِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَضَمُّنِ تَوبَةٍ

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 436).

وَالأَثَرُ رَوَاهُ الحَاكِمُ بِرَقَم (7262)، وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (1/ 361):"هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى عَائِشَةَ".

(2)

البُخَارِيُّ (6650)، وَمُسْلِمٌ (1647).

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21487). الصَّحِيحَةُ (1373).

(4)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (233) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 228

خَاصَّةٍ لِهَذَا الذَّنْبِ، أَو أَنْ يَكُونَ العَمَلُ المُكَفِّرُ لِلذُّنُوبِ عَمَلًا مُمَيَّزًا دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى عَظَمَةِ أَجْرِهِ.

وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يُكفِّرُ الكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ مَعًا؛ وَلَكِنْ بِشَرْطِ الإِتْيَانِ بِهَا بِكَمَالِهَا، وَفِي هَذِهِ الحَالَةِ يَكُونُ عَمَلُهُ مَقْرُونًا بِتَوبَةٍ تُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ

(1)

، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي اليَسَرِ؛ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا «مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ وَالرُّبُعَ وَالخُمُسَ» حَتَّى بَلَغَ العُشُرَ

(2)

، وَعَلَى هَذَا فَالصَّلَاةُ الكَامِلَةُ هِيَ الَّتِي تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ دُونَ مَا كَانَ فِيهَا تَقْصِيرٌ، وَكَذَلِكَ كَلِمَةُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) الَّتِي يَدْخُلُ صَاحِبُهَا بِهَا الجَّنَّةَ وَيَحْرُمُ مُطْلَقًا عَلَى النَّارِ؛ هِيَ الخَالِصَةُ المَقْرُونَةُ باِلتَّوبَةِ النَّصُوحِ.

قَالَ الشَّيخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَن آل الشَّيخِ رحمه الله -نَقْلًا عَنْ شَيخِ الإِسْلَام رَحِمَهُمَا اللهُ-: " فِإِنَّهُ إِذَا قَالَهَا [يَعْنِي كَلِمَةَ التَّوحِيدِ" بِإِخْلَاصٍ وَيَقِينٍ تَامٍّ؛ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الحَالِ مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ أَصْلًا! فَإِنَّ كَمَالَ إِخْلَاصِهِ وَيَقِينِهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اللهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ كُلِّ شَيءٍ؛ فَإِذَن لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ إِرَادَةٌ لِمَا حَرَّمَ اللهُ، وَلَا كَرَاهَةٌ لِمَا أَمَرَ اللهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ -وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ذُنُوبٌ قَبْلَ ذَلِكَ-، فَإِنَّ هَذَا الإِيمَانَ وَهَذَا الإِخْلَاصَ وَهَذِهِ التَّوبَةَ وَهَذِهِ المَحَبَّةَ وَهَذَا اليَقِينَ لَا تَتْرُكُ لَهُ ذَنْبًا إِلَّا مُحِيَ عَنْهُ كَمَا يَمْحُو اللَّيلُ النَّهَارَ؛ فَإِذَا قَالَهَا عَلَى وَجْهِ الكَمَالِ

(1)

اُنْظُرْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ لِلْأَلْبَانِيِّ (ش: 622).

(2)

حَسَنٌ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (616). وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيرِهِ. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (538).

ص: 229

-المَانِعِ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ وَالأَصْغَرِ-؛ فَهَذَا غَيرُ مُصِرٍّ عَلَى ذَنْبٍ أَصْلًا؛ فَيُغْفَرُ لَهُ وَيَحْرُمُ عَلَى النَّارِ"

(1)

.

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله -عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابَةِ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ- وَفِيهِ «فَجَزَاؤُهَا بِمِثْلِهَا أَو أَغْفِر» : " وَفِيهِ رَدٌّ لِقَولِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ الكَبَائِرَ لَا تُغْفَرُ إِلَّا بِالتَّوبَةِ! "

(2)

.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُم عَلَى تَكْفِيرِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِلكَبَائِرِ أَيضًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ فِي الصَّحِيحَينِ مَرْفُوعًا «أَرَأَيتُمْ لَو أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَومٍ خَمْسًا؛ مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟» قَالُوا: لَا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيئًا. قَالَ: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ؛ يَمْحُو اللهُ بِهَا الخَطَايَا»

(3)

.

وَرَدَّ عَلَى هَذَا الاسْتِدْلَالِ الأَوَّلُونَ: " يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ أَنَّ المُرَادَ الصَّغَائِرُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ شَبَّهَ الخَطَايَا بِالدَّرَنِ، وَالدَّرَنُ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مِنَ القُرُوحِ وَالجِرَاحَاتِ"

(4)

.

وَرَدَّ الآخَرُونَ عَلَى هَذَا الاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الغَسْلَ يَذْهَبُ فِيهِ الوَسَخُ الكَبِيرُ الوَاضِحُ قَبْلَ الصَّغِيرِ، وَلُغَةُ الحَدِيثِ تَشْهَدُ بِذَلِكَ فِي قَولِهِ:«مِنْ دَرَنِهِ» و -دَرَنُهُ- هُنَا تُفِيدُ العُمُومَ؛ لِأَنَّ المُفرَدَ المُضافَ يَعُمُّ، وَأَيضًا قَولُهُ:«لَا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيئًا» فَـ -شَيئًا- نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْي فَتُفِيدُ العُمُومَ.

(1)

فَتْحُ المَجِيدِ (ص: 47).

(2)

فَتْحُ البَارِي (11/ 328).

(3)

البُخَارِيُّ (528)، وَمُسْلِمٌ (667).

(4)

انْظُر (فَتْحُ البَارِي) لِابْنِ حَجَرٍ (2/ 12).

ص: 230

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَلَيسَ هَذَا بِمُسْتَبْعَدٍ؛ فَفَضْلُ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتُهُ أَوسَعُ مِنْ أَنْ يُحِيط بِهِ عِلْمُ إِنْسَانٍ! اللَّهُمَّ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيتَ عَلَى نَفْسِكَ.

ص: 231

‌الحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: (احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ)

عَنْ أَبِي العَبَّاسِ؛ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَومًا؛ فَقَالَ: «يَا غُلَامُ؛ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدهُ تُجَاهَكَ، إِذَاَ سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَاَ اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ، وَاعْلَم أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وإِنْ اجْتَمَعوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَفِي رِوَايَةِ غَيرِ التِّرْمِذِيِّ «احْفَظِ اللهَ تَجٍدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَم أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَربِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا»

(1)

.

- قَولُهُ: «إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ» : عِبَارَةٌ فِيهَا التَّرْغِيبُ فِي العِلْمِ، فَقَولُهُ:«كَلِمَات» : جَمْعُ تَقْلِيلٍ، وَالمَقْصُودُ بِهَا هُنَا أَنَّهَا جُمَلٌ يَسِيرَةٌ لَيسَتْ بِكَثِيرَةٍ وَمُطَوَّلَةٍ لِذَا فَسَيَسْهُلُ عَلَيكَ حِفْظُهَا.

- الكَلِمَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَصْلِ اللُّغَةِ غَيرُ الكَلِمَةِ عِنْدَ النُّحَاةِ، فَالكَلِمَةُ

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2516)، وَأَحْمَدُ (2803). الصَّحِيحَةُ (2382).

ص: 232

عِنْدَ النُّحَاةِ: اسْمٌ أَو فِعْلٌ أَو حَرْفٌ، أَمَّا فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَصْلِ اللُّغَةِ فَالكَلِمَةُ: هِيَ الجُمْلَةُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ»

(1)

.

- قَولُهُ: «احْفَظِ اللهَ» : أَي: احْفَظْ حُدُودَهُ وَعُهُودَهُ وَأَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ؛ فَقِفْ عِنْدَ أَوَامِرِهِ بِالِامْتِثَالِ، وَعِنْدَ نَوَاهِيهِ بِالِاجْتِنَابِ.

وَهَذَا الحِفْظُ عَلَى دَرَجَتَينِ:

1 -

دَرَجَةٍ وَاجِبَةٍ: وَهِيَ الإِتْيَانُ بِالوَاجِبَاتِ، وَالامْتِنَاعُ عَنِ المُحَرَّمَاتِ.

2 -

دَرَجَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ: وَهِيَ الإِتْيَانُ بِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33].

- قَولُهُ: «يَحْفَظْكَ» : حِفْظُ اللهِ تَعَالَى لِلعَبْدِ هُوَ عَلَى دَرَجَتَينِ أَيضًا:

1 -

حِفْظِهِ فِي دُنْيَاهُ: مِنْ صِحَّةٍ وَمَعَاشٍ وَرِزْقٍ وَوَلَدٍ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الحِفْظِ لِمَصَالِحِ العَبْدِ فِي الدُّنْيَا.

قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله: " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكَهْف: 82]: حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا"

(2)

.

2 -

حِفْظِهِ فِي دِينِهِ: بِأَنْ يُسَلِّمَ لَهُ دِينَهُ مِنْ تَاثِيرِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6682)، وَمُسْلِمٌ (2694) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (18/ 91).

ص: 233

وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا -فِي دُعَاءِ العَبْدِ إِذَا أَرَادَ النَّومَ- «اللَّهُمَّ إِنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أرْسَلْتَها فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ»

(1)

.

وَمِنْ حِفْظِ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَولَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِيْنَ} [يُوسُف: 24].

وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ إِبْلِيْسُ الرَّجِيْمُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83].

- قَولُهُ: «تَجِدُهُ تُجَاهَكَ» : أَي: تَجِدُهُ أَمَامَكَ؛ قَرِيبًا مِنْكَ، يُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الوَلِيِّ.

فَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»

(2)

.

- فِي هَذَا الحَدِيثِ بَيَانٌ لِمَعِيَّةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ، وَهَذِهِ المَعِيَّةُ نَوعَانِ:

(1)

البُخَارِيُّ (6320)، وَمُسْلِمٌ (2714).

(2)

البُخَارِيُّ (6502).

ص: 234

1 -

مَعِيَّةٌ عَامَّةٌ.

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [المُجَادِلَة: 7].

وَهَذِهِ المَعِيَّةُ تَقْتَضِي عِلْمَهُ وَاطِّلَاعَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ لِأَعْمَالِهِم، وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ أَيضًا لِتَخْوِيفِ العِبَادِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ.

2 -

مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ.

كَقَولِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طَه: 46]، وَقَولِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى:{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشُّعَرَاء: 62].

وَهَذِهِ المَعِيَّةُ تَقْتَضِي النَّصْرَ وَالتَّايِيدَ وَالحِفْظَ وَالإِعَانَةَ، وَهِيَ المَقْصُودَةُ بِالحَدِيثِ هُنَا.

- قَولُهُ: «تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» : أَي: قُمْ بِحَقِّ اللهِ عز وجل فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالصِّحَّةِ وَالغِنَى؛ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ إِذَا زَالَتْ عَنْكَ الصِّحَّةُ وَالغِنَى وَاشْتَدَّتْ حَاجَتُكَ.

- مَعْرِفَةُ العَبْدِ لِرَبِّهِ نَوعَان:

1 -

مَعْرِفَةٌ عَامَّةٌ: وَهِيَ مَعْرِفَةُ الإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ وَالإِيمَانِ بِهِ تَعَالَى، وَهِيَ عَامَّةٌ لِلمُؤْمِنِينَ.

2 -

مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ: تَقْتَضِي مَيلَ القَلْبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالكُلِّيَّةِ، وَالانْقِطَاعَ إِلَيهِ، وَالأُنْسَ بِهِ وَحْدَهُ، وَالطُّمَانِينَةَ بِذِكْرِهِ، وَالحَيَاءَ وَالهَيبَةَ مِنْهُ، وَهِيَ المَقْصُودَةُ

ص: 235

بِالحَدِيثِ هُنَا.

- مَعْرِفَةُ اللهِ تَعَالَى أَيضًا لِعَبْدِهِ نَوعَان:

1 -

مَعْرِفَةٌ عَامَّةٌ: وَهِيَ عِلْمُهُ تَعَالَى بِعِبَادِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى مَا أَسَرُّوهُ وَمَا أَعْلَنُوهُ.

2 -

مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ: وَهِيَ تَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ تَعَالَى لِعَبْدِهِ، وَتَقْرِيبَهُ إِلَيهِ، وَإِجَابَةَ دُعَائِهِ وَإِنْجَاءَهُ لَهُ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَهِيَ المَقْصُودَةُ بِالحَدِيثِ هُنَا.

- قَولُهُ: «إِذَاَ سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَاَ اسْتَعَنتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ» : هو كَقَولِهِ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفَاتِحَة: 5]، وَفِيهِ بَيَانُ إِفْرَادِ اللهِ تَعَالَى بِالسُّؤَالِ وَالاسْتِعَانَةِ.

ولَكِنَّ هَذَا الإِفْرَادَ بِالسُّؤَالِ وَالاسْتِعَانَةِ يَكُونُ عَلَى مَرْتَبَتَينِ:

1 -

مَرْتَبَةٌ وَاجِبَةٌ: وَهِيَ التَّوحِيدُ؛ بِأَنْ يَسْتَعِينَ بِاللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَإِنَّ صَرْفَ ذَلِكَ لِغَيرِهِ تَعَالَى شِرْكٌ بِهِ.

2 -

مَرْتَبَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ أنْ يَقُومَ بِالمَطْلُوبِ وَحْدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ إِعَانَةً

(1)

.

وَهَذِهِ المَرْتَبَةُ الأَخِيرَةُ قَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم البَيعَةَ عَلَيهَا مِنْ عَدَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَأَمرَهُم أَلَّا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيئًا!

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَوفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ؛ قَالَ: " كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -تِسْعَةً، أَو ثَمَانِيَةً، أَو سَبْعَةً- فَقَالَ:«أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟» -وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيعَةٍ -قُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ! حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَبَسَطْنَا أَيدِيَنَا فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ قَائِلٌ:

(1)

يَعْنِي: بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا مِنَّةٍ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ أَمْرُكَ لِزَوجِكَ وَعَامِلِكَ وَغَيرِهِ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ.

ص: 236

يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ؛ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ:«أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَتَسْمَعُوا وَتُطِيعُوا» وَأَسَرَّ كَلِمَةً خُفْيَةً؛ قَالَ:

«وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيئًا» . قَالَ: فَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوطُهُ؛ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

- فِي مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ هُنَا؛ لَا يُكْتَفَى بِسُؤَالِ اللهِ تَعَالَى أُمُورَ الدُّنْيَا الهَامَّةَ وَأُمُورَ الآخِرَةِ فَقَط! بَلْ يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ يَغْفَلُ عَنْهُمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ:

1 -

سُؤَالُ اللهِ تَعَالَى أُمُورَ الدُّنْيَا كُلِّهَا وَلَو كَانَتْ قَلِيلَةَ الأَهَمِّيَّةِ وَالقَدْرِ.

كَمَا فِي قَولِ عَائِشَة رضي الله عنها: " سَلُوا اللهَ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى الشِّسْعَ؛ فَإِنَّ اللهَ إِنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ"

(2)

.

2 -

سُؤَالُ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ.

كَمَا فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ «لَا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاة تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»

(3)

.

وَكَمَا فِي قَولِ يَعْقُوبَ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّبْرِ عَلَى المَقْدُورِ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاَللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يُوسُف: 18].

- قَولُهُ: «وَاعْلَم أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ .. قَد كَتَبَهُ اللهُ لَكَ» : فِيهِ بَيَانُ القَدَرِ الثَّابِتِ؛ وَأَنَّ العِبَادَ لَنْ يُغَيِّرُوا مِنْ قَدَرِ اللهِ تَعَالَى المَاضِي شَيئًا.

(1)

مُسْلِمٌ (1043).

(2)

صَحِيحٌ مَوقُوفٌ. أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ (4560)، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ اليَومِ وَاللَّيلَةِ (1/ 314) عَنْ عَائِشَةَ مَوقُوفًا. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثَ الضَّعِيفَةَ (1363).

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1522) عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7969).

ص: 237

وَإِنَّ العِلْمَ بِذَلِكَ يُفِيدُنَا أَمْرَينِ:

1 -

تَعْظِيمَ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ بِالإِيمَانِ بِعِلْمِ اللهِ الأَزَلِيِّ، وَكِتَابَتِهِ سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ فِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ؛ وَأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَا لَمْ يَكُنْ.

وَكَمَا فِي البُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ مَرْفُوعًا «كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيءٌ قَبْلَهُ -وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ-، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيءٍ»

(1)

.

2 -

تَعْظِيمَ جَانِبِ الأُلُوهِيَّةِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ سُبْحَانَهُ وَالاعْتِصَامِ بِهِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَيهِ وَحْدَهُ فِي قَضَاءِ الحَاجَاتِ.

- قَولُهُ: «رُفعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» : أَي: إِنَّ الأَمْرَ مَضَى وَانْتَهَى.

وَلَا يُنَافِي هَذَا أَنَّ العَبْدَ مَامُورٌ بِالعَمَلِ وَالطَّاعَةِ! فَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ فِي جَنَازَةٍ؛ فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ» ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [اللَّيل: 5 - 7]»

(2)

، وَفِي لَفْظٍ «أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ الشَّقَاءِ»

(3)

.

- قَولُهُ: «وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ» : فِيهَا بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلصَّابِرِينَ.

وَلَا بُدَّ مِنْ لَفْتِ النَّظَرِ إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ الَّذِي يُثَابُ عَلَيهِ صَاحِبُهُ هُوَ صَبْرُ

(1)

البُخَارِيُّ (3191).

(2)

البُخَارِيُّ (4948)، وَمُسْلِمٌ (2647).

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3344) عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ (2664).

ص: 238

الرَّاضِي بِقَدَرِ اللهِ؛ المُحْسِنِ الظَّنَّ بِهِ وَبِحِكْمَتِهِ فِي أَفْعَالِهِ سبحانه وتعالى، وَلَيسَ صَبْرَ العَاجِزِ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا العَجْزَ؛ حَيثُ يَجْعَلُ عَجْزَهُ صَبْرًا! وَالفَرْقُ بَينَ قَلْبَيهِمَا كَالفَرْقِ بَينَ الحَيِّ وَالمَيِّتِ، وَسُبْحَانَ اللهِ العَلِيمِ بِذَاتِ الصُّدُورِ.

- مِمَّا يُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ المُصِيبَةِ أَمْرَانِ:

1 -

مُلَاحَظَةُ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي ابْتِلَائِهِ؛ وَأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا سُبْحَانَهُ تَدُورُ بَينَ العَدْلِ وَالفَضْلِ.

2 -

مُلَاحَظَةُ ثَوَابِ الرِّضَى بِالقَدَرِ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلصَّابِرِينَ

(1)

.

- مَرَاتِبُ النَّاسِ عِنْدَ المُصِيبَةِ:

1 -

مَرْتَبَةُ السَّخَطِ عَلَى قَدَرِ اللهِ تَعَالَى: وَيَكُونُ بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالجَوَارِحِ.

كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «لَيسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ»

(2)

.

2 -

مَرْتَبَةُ الصَّبْرِ: وَهُوَ الرِّضَى بِمَا قَدَّرَ اللهُ عِنْدَهُ مِنَ البَلَاءِ؛ وَأنَّهُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا اللهُ

(3)

.

وَهَذَا الابْتِلَاءُ قَدْ يَتَمَنَّى العَبْدُ زَوَالَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصَبْرِهِ! كَمِثْلِ مَنْ ابْتُلِيَ بِمَرَضٍ؛ فَيَعْلَمُ أنَّهُ لِحِكْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ؛ فَهُوَ رَاضٍ بِفِعْلِ رَبِّهِ وَتَقْدِيرِهِ؛ وَإِنْ كَانَ مُتَمَنِّيًا

(1)

قُلْتُ: وَمِنْ ثَوَابِ الصَّابِرِينَ هِدَايَةُ القَلْبِ وَثَبَاتُهُ، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [التَّغَابُن: 11].

(2)

البُخَارِيُّ (1294)، وَمُسْلِمٌ (103).

(3)

وَهَذِهِ المَرْتَبَةُ تُسَمَّى أَحْيَانًا بِمَرْتَبَةِ الرِّضَا وَلَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى؛ وَالَّذِي هُوَ المُقَارِنُ لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، أَمَّا المَرْتَبَةُ التَّالِيَةُ فَهِي الرِّضَا بِالمَقْدُورِ -وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الخَيرُ وَالشَّرُّ-، وَهِيَ أَعْلَى مِنَ السَّابِقَةِ.

ص: 239

لِزَوَالِ مَرَضِهِ -وَهُوَ المَقْدُورُ-.

3 -

مَرْتَبَةُ الرِّضَا بِالمَقْدُورِ: فَهُوَ رَاضٍ بِالقَدَرِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لِحِكْمَةٍ؛ وَأَيضًا هُوَ رَاضٍ بِمَا حَلَّ بِهِ -أَي: مِنَ المَقْدُورِ- فَهُوَ غَيرُ مُتَمَنٍ لِزَوَالِ مَا أَصَابَهُ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَالفَرْقُ بَينَ الرِّضَا وَالصَّبْرِ: أَنَّ الصَّبْرَ كَفُّ النَّفْسِ وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ -مَعَ وُجُودِ الأَلَمِ-، وَتَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ، وَكَفُّ الجَوَارِحِ عَنِ العَمَلِ بِمُقْتَضَى الجَزَعِ. وَالرِّضَا: انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَسَعَتُهُ بِالقَضَاءِ، وَتَرْكُ تَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ المُؤْلِمِ -وَإِنْ وُجِدَ الإِحْسَاسُ بِالأَلَمِ-، لَكِنَّ الرِّضَا يُخَفِّفُهُ لِمَا يُبَاشِرُ القَلْبَ مِنْ رَوحِ اليَقِينِ وَالمَعْرِفَةِ، وَإِذَا قَوِيَ الرِّضَا؛ فَقَدْ يُزِيلُ الإِحْسَاسَ بِالأَلَمِ بِالكُلِّيَّةِ"

(1)

.

قُلْتُ: لَكِنَّ هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَاخُذُ بِأَسْبَابِ إِزَالَةِ المُؤْلِمِ! لِأَنَّ المَقْصُودَ هُوَ إِظْهَارُ مَحَبَّةِ مَا اخْتَارَهُ اللهُ لَكَ لِأَنَّهُ نَاتِجٌ عَنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ تَعَلَّقَ بِالأَمْرِ مَا هُوَ خَيرٌ مِنْهُ، أَو مَا كَانَ مَذْمُومًا فِي نَفْسِهِ؛ فَالمَقْصُودُ هُنَا إِظْهَارُ الرِّضَا بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى فِي العَبْدِ.

وَقَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: " فَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِعْلُ التَّدَاوِي فِي نَفْسِهِ؛ وَالأَمْرُ بِهِ لِمَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ"

(2)

.

4 -

مَرْتَبَةُ الشُّكْرِ عَلَى المُصِيبَةِ: ووَجْهُهَا أَنَّه يَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنَّه لَمْ يَجْعَلْهَا فِي دِينِهِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ عَذَابَ الدُّنيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 488).

(2)

زَادُ المَعَادِ (4/ 9).

ص: 240

وَفِي الحَدِيثِ «وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنا فِي دِينِنَا»

(1)

.

- قَولُهُ: «وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَربِ» : هَذِهِ الإِجَابَةُ -أَي الإِجَابَةُ عِنْدَ الكَرْبِ- سَبَبُهَا أَمْرَانِ:

1 -

أَنَّ الكَرْبَ إِذَا اشْتَدَّ وَعَظُمَ وَتَنَاهَى؛ حَصَلَ لِلْعَبْدِ الإِيَاسُ مِنْ كَشْفِهِ مِنْ جِهَةِ المَخْلُوقِينَ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ الَّتِي تُطْلَبُ بِهَا الحَوَائِجُ؛ فَإِنَّ اللهَ يَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلَاق: 3]

(2)

.

2 -

أَنَّ المُؤْمِنَ إِذَا اسْتَبْطَأَ الفَرَجَ وَأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُ اسْتِجَابَةٌ؛ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّومِ، وَهَذَا اللَّومُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ انْكِسَارَ العَبْدِ لِمَولَاهُ، وَاعْتِرَافَهَ لَهُ بِأَنَّه أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ البَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَيسَ أَهْلًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ فَلِذَلِكَ تَسْرَعُ إِلَيهِ حِينَئِذٍ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَفْرِيجُ الكُرَبِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُم مِنْ أَجْلِهِ

(3)

.

(1)

حَسَنٌّ. التِّرْمِذِيُّ (2502) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1268).

(2)

وَكَذَلِكَ حَالُ المُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّهُم أَيضًا يُخْلِصُونَ للهِ تَعَالَى فِي الشِّدَّةِ لِزَوَالِ مَا يُنَازِعُ الفِطْرَةَ مِنَ الهَوَى وَالتَّقْلِيدِ بِمَا دَهَاهُم مِنَ الخَوفِ الشَّدِيدِ. تَفْسِيرُ البَيضَاوِيِّ (4/ 352).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 494) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

ص: 241

‌الحَدِيثُ العِشْرُونَ: (إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)

عَنْ أَبي مَسْعُودٍ البَدْرِيِّ

(1)

رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «إِنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لمْ تَسْتَحِ؛ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

- مَعْنَى الإِدْرَاكِ هُنَا: أَنَّهُ فَشَا فِي النَّاسِ، وَتَنَاقَلُوهُ عَنِ الأَنْبِيَاءِ.

- الحَيَاءُ لُغَةً: تَغَيُّرٌ يَلْحَقُ الإِنْسَانَ مِنْ خَوفِ مَا يُعَابُ بِهِ.

وَشَرْعًا: خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى اجْتِنَابِ القَبِيحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الحَقِّ.

- قَولُهُ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ» يَحْتَمِلُ مَعْنَيِينِ -وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ لِلْمُتَأَمِّلِ-:

1 -

إِذَا لَمْ تَكُنْ ذَا حَيَاءٍ صَنَعْتَ مَا شِئْتَ، فَالحَيَاءُ هُنَا عَائِدٌ عَلَى الفَاعِلِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَحِي، وَقَدْ خَرَجَ الكَلَامُ مَخْرَجَ الذَّمِّ

(3)

.

2 -

إِذَا كَانَ الفِعْلُ لَا يُسْتَحْيَى مِنْهُ؛ فَاصْنَعْهُ وَلَا تُبَالِ، وَالحَيَاءُ هُنَا عَائِدٌ عَلَى الفِعْلِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحْيَى مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا عَيبَ فِيهِ.

(1)

هُو عُقْبَةُ بْنُ عَمْرو البَدْرِيُّ الأَنْصَارِيُّ، لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَإِنَّمَا سَكَنَ بَدْرًا، وَرَجَّحَ البُخَارِيُّ شُهُودَهُ. انْظُرْ (فَتْحُ البَارِي)(7/ 319) لِابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.

(2)

البُخَارِيُّ (3484).

(3)

كَقَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَونَ عَلَينَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيرٌ أَمَّنْ يَاتِي آمِنًا يَومَ القِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فُصِّلَت: 40].

ص: 242

- مَا يُؤْثَرُ عَنِ النُّبُوَّةِ الأُولَى يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

1 -

مَا شَهِدَ شَرْعُنَا بِصِحَّتِهِ: فَهُوَ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ.

2 -

مَا شَهِدَ شَرْعُنَا بِبُطْلَانِهِ: فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ.

3 -

مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِتَايِيدِهِ وَلَا نَفْيِهِ: فَهَذَا يُتَوَقَّفُ فِيهِ.

- الحَيَاءُ -بِحَسْبِ مَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ- نَوعَانِ:

1 -

حَيَاءٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى؛ فَتَسْتَحِي مِنَ اللهِ عز وجل أَنْ يَرَاكَ حَيثُ نَهَاكَ، وَأَنْ يَفْقِدَكَ حَيثُ أَمَرَكَ.

2 -

حَيَاءٌ مَعَ المَخْلُوقِ؛ فَلَا تَفْعَلُ مَا يُخَالِفُ المُرُوءَةَ وَالأَخْلَاقَ.

- الحَيَاءُ -بِحَسْبِ اكْتِسَابِهِ- نَوعَانِ:

1 -

جِبِلِّيٌّ (غَيرُ مُكْتَسَبٍ): وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الأَخْلَاقِ الَّتِي يَمْنَحُهَا اللهُ العَبْدَ وَيَجْبُلُهُ عَلَيهَا، لَكِنَّهُ -وَإِنْ كانَ قَدْ يَكُونُ غَرِيزَةً- فَهُوَ فِي اسْتِعْمالِهِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ وَنيَّةٍ.

وَفِي حَدِيثِ أَشَجِّ عَبْدِ القَيسِ؛ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ» ، قُلْتُ: مَا هُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الحِلْمُ وَالحَيَاءُ» ، قُلْتُ: أَقَدِيمًا كَانَا فِيَّ أَو حَدِيثًا؟ قَالَ: «بَلْ قَدِيمٌ» ، قُلْتُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا

(1)

.

2 -

مُكْتَسَبٌ، وَسَبَبُ اكْتِسَابِهِ أَمْرَانِ:

أ- مَعْرِفَةُ اللهِ وَعَظَمَتِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ عِبَادِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيهِم وَعِلْمِهِ بِخَائِنَةِ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَى خِصَالِ الإِيمَانِ.

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (584) عَنِ الأَشَجِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (455).

ص: 243

ب- مُطَالَعَةُ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى، وَرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ فِي شُكْرِهَا

(1)

.

- فِي الحَدِيثِ قَولُهُ: «الحَيَاءُ لَا يَاتِي إِلَّا بِخَيرٍ»

(2)

: المَقْصُودُ بِهِ الحَيَاءُ الشَّرْعِيُّ، أَمَّا الحَيَاءُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ مَنْعُ مَا يَجِبُ أَو أَوقَعَ فِيمَا يَحْرُمُ؛ فَهُوَ لَيسَ حَيَاءً شَرْعِيًّا! بَلْ هُوَ عَجْزٌ وَمَهَانَةٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيهِ الحَيَاءُ لِمُشَابَهَتِهِ الحَيَاءَ الشَّرْعِيَّ.

وَفِي صَحِيحِ البُخَاريِّ تَحْتَ بَابِ (مَا لَا يُسْتَحْيَا مِنَ الحَقِّ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ)؛ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: " جَاءَتْ أُمُّ سُلَيمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ:

يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الحَقِّ؛ فَهَلْ عَلَى المَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ المَاءَ» . وَهُوَ المُرَادُ بِقَولِ مُجَاهِدٍ: لَا يَتَعَلَّمُ العِلْمَ مُسْتَحْي"

(3)

.

- الحَيَاءُ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ، لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم:«الحَيَاءُ شُعْبةٌ مِنَ الإِيمَانِ»

(4)

.

وَسَبَبُ كَونِ الحَيَاءِ مِنَ الإِيمَانِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَاتِي إِلَّا بِخَيرٍ: أَنَّهُ يَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ القَبَائِحِ، وَعَنْ دَنَاءَةِ الأَخْلَاقِ، وَيَحُثُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ وَمَعَالِيهَا؛

(1)

قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رحمه الله: "وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جُمِعَ لَهُ كَمَالُ نَوعَي الحَيَاءِ، فَكَانَ فِي الحَيَاءِ الغَرِيزِيِّ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَمِنْ حَيَائِهِ الكَسْبِيِّ فِي ذِرْوَتِهَا". المُفْهِمُ (1/ 219).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6117) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ "فَقَالَ بُشَيرُ بْنُ كَعْبٍ العَدَوِيِّ (مُصَغَّرٌ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ): إِنَّا نَجِدُ فِي بَعْضِ الكُتُبِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا للهِ، وَمِنْهُ ضَعْفٌ! فَغَضِبَ عِمْرَانُ، وَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ! ".

(3)

صَحِيحُ البُخَاريِّ (6121).

(4)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (9)، وَمُسْلِمٌ (35) مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ.

ص: 244

فَهُوَ مِنْ خِصَالِ الإِيمَانِ بِهَذَا الاعْتِبَارِ، فَإِذَا زَالَ الحَيَاءُ زَالَ الإِيمَانُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «إنَّ الحَيَاءَ وَالإِيمَانَ قُرِنَا جَمِيعًا؛ فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الآخَرُ»

(1)

، فَهُوَ كَالإِيمَانِ يَحُولُ بَينَ العَبْدِ وبَينَ المَعَاصِي.

- الحَيَاءُ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى: هُوَ حَيَاءٌ يَلِيقُ بِهِ، فَإِنَّهُ حَيَاءُ كَرَمٍ وَجُودٍ وَجَلَالٍ، فَإِنَّهُ تبارك وتعالى «حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إلَيهِ يَدَيهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَينِ»

(2)

.

وَالحَيَاءُ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ للهِ تَعَالَى فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَحَيَاؤُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ تَرْكُ

مَا لَيسَ يَتَنَاسَبُ مَعَ سِعَةِ رَحْمَتِهِ وَكَمَالِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ وَعَظِيمِ عَفْوِهِ وَحِلْمِهِ

(3)

.

(1)

صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (58) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1603).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3556) عَنْ سَلْمَانَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1757).

(3)

انْظُرْ كِتَابَ (صِفَاتُ اللهِ عز وجل الوَارِدَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) لِعَلَويّ السَّقَّافُ (ص: 149).

ص: 245

- أَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الحَيَاءِ:

1 -

«إنَّ لِكُلِّ دِينِ خُلُقًا؛ وَخُلُقُ الإِسْلَامِ الحَيَاءُ»

(1)

.

2 -

«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَإِذَا كَرِهَ شَيئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ»

(2)

.

3 -

«مَا كانَ الفُحْشُ فِي شَيءٍ قَطُّ إِلَّا شَانَهُ، وَلَا كانَ الحَيَاءُ فِي شَيءٍ قَطُّ إِلَّا زَانَهُ»

(3)

.

4 -

«اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ تَعَالَى حَقَّ الحَيَاءِ، مَنَ اسْتَحْيا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ؛ فَلْيَحْفَظِ الرَّاسَ وَمَا وَعَى، ولْيَحْفَظِ البَطْنَ وَمَا حَوَى، ولْيَذْكُرِ المَوتَ وَالبِلَا، وَمَنْ أرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ»

(4)

.

5 -

«إِنَّ الحَيَاءَ وَالعَفَافَ وَالعِيَّ -عِيَّ اللِّسَانِ لَا عِيَّ القَلْبِ

(5)

- وَالعَمَلَ مِنَ الإِيمَانِ، وَإِنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِي الآخِرَةِ، وَيُنْقِصْنَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا يَزِدْنَ فِي الآخِرَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يُنْقِصْنَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّ الشُّحَّ والفُحْشَ وَالبَذَاءَ مِنَ النِّفَاقِ، وَإِنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا، وَيُنْقِصْنَ مِنَ الآخِرَةِ، وَمَا يُنْقِصْنَ فِي الآخِرَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا»

(6)

.

(1)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (4181) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (940).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3562) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا.

(3)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (4185) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5655).

(4)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2458) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (935).

(5)

«العيُّ: وَهُوَ بِالفَتْحِ: العَجْزُ وَالتَّعَبُ وَعَدَمُ الإِطَاقَةِ، وَيسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى عَدَمِ الاهْتِدَاءِ لِوَجْهِ المُرَادِ. وَبِالكَسْرِ الحَصَرُ وَالعَجْزُ فِي النُّطْقِ خَاصَّةً» . تَاجُ العَرُوسِ (1/ 79).

(6)

صَحِيحٌ. البَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (7313) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ المُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَّهِ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3381).

وَالحَدِيثُ كَانَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله قَدْ ضَعَّفَهُ أَوَّلًا ثُمَّ صَحَّحَهُ بَعْدَمَا وَجَدَ لَهُ طَرِيقًا أُخْرَى عِنْدَ الدَّارِمِيِّ.

ص: 246

(1)

صَحِيحٌ. البَزَّارُ (7/ 89) عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3559). وَالحَدِيثُ كَانَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله أَيضًا قَدْ ضَعَّفَهُ فِي الضَّعِيفَةِ (1500) ثُمَّ صَحَّحَهُ بَعْدَمَا وَجَدَ لَهُ شَوَاهِدَ.

ص: 247

‌الحَدِيثُ الحَادِي وَالعِشْرُونَ: (قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ)

عَنِ أَبي عَمْرٍو -وَقِيلَ أَبي عمْرَةَ- سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه؛ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإِسْلامِ قَولًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيرَكَ؟ قَالَ:«قُلْ آمَنْتُ باللهِ، ثُمَّ استَقِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

- هَذَا الحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فُصِّلَت: 30].

- قَولُهُ: «استَقِمْ» : هُنَا لَيسَ مَعْنَاهُ طَلَبُ الشَّيءِ! وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ: الإِقَامَةُ عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَالثَّبَاتُ عَلَيهِ -طَاعَةً وَنَهْيًا-.

- (اسْتَقَامَ) بِنَاؤُهَا هُوَ (اسْتَفْعَلَ)، وَهَذَا البِنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيِينِ لُغَةً:

1 -

الطَّلَبُ: كَحَدِيثِ مُسْلِمٍ القُدُسِيِّ: «يَا ابْنَ آدَمَ؛ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي»

(2)

، وَأَيضًا حَدِيثُ مُسْلِمٍ القُدُسِيِّ «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»

(3)

.

2 -

كَثْرَةُ الوَصْفِ فِي الفِعْلِ: كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ

(1)

مُسْلِمٌ (38). وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (2410) بِلَفْظِ «قُلْ: رَبِّيَ اللهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ» . وَعِنْدَ الدَّارِمِيِّ (2752) بِلَفْظِ «اتَّقِ اللهَ ثُمَّ اسْتَقِمْ» .

(2)

مُسْلِمٌ (2569) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

مُسْلِمٌ (2577) عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا.

ص: 248

فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البَقَرَة: 34]، وَالمَعْنَى: إِنَّ إِبْلِيسَ زَادَ فِي كِبْرِهِ وَتَعَاظَمَ، وَكَمِثْلِ قَولِهِ تَعَالَى أَيضًا:{وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التَّغَابُن: 6].

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ وُجُوبِ العَمَلِ بِالشَّهَادَتَينِ مَعًا؛ وَلَيسَ بِالأُولَى مِنْهُمَا فَقَط -وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ-! فَالإِيمَانُ بِاللهِ يَتَضَمَّنُ الإِخْلَاصَ للهِ تَعَالَى فِي العِبَادَةِ، وَالاسْتِقَامَةُ تَتَضَمَّنُ التَّمَشِّيَ عَلَى شَرِيعَتِهِ عز وجل الَّذِي أَنْزَلَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فيَكُونُ جَامِعًا لِشَرْطَي قَبُولِ العَمَلِ وَهُمَا: الإِخْلَاصُ وَالمُتَابَعَةُ.

- رَوَى الطَّبَرِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَولَهُ: " مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الآيَةِ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}

[فُصِّلَت: 30]؟ قَالُوا: رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا مِنْ ذَنْبِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَقَدْ حَمَلْتُمْ عَلَى غَيرِ المَحْمَلِ! قَالَ: رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيرِهِ"

(1)

، فَيَكُونُ فِي هَذَا تَصْدِيقُ القَولِ بِالعَمَلِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ المُرَادَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوحِيدِ؛ إِنَّمَا أَرَادَ التَّوحِيدَ الكَامِلَ الَّذِي يُحَرِّمُ صَاحِبَهُ عَلَى النَّارِ، وَهُوَ تَحْقِيقُ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنَّ الإِلَهَ هُوَ المَعْبُودُ الَّذِي يُطَاعُ فَلَا يُعْصَى خَشْيَةً وَإِجْلَالًا وَمَهَابَةً وَمَحَبَّةً وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا وَدُعَاءً، وَالمَعَاصِي كُلُّهَا قَادِحَةٌ فِي هَذَا التَّوحِيدِ لِأَنَّهَا إِجَابَةٌ لِدَاعِي الهَوَى وَهُوَ الشَّيطَانُ، قَالَ اللهُ عز وجل:{أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجَاثِيَة: 23] قَالَ الحَسَنُ وَغَيرُهُ: هُوَ الَّذِي لَا يَهْوَى شَيئًا إِلَّا رَكِبَهُ!

(1)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيّ (21/ 464).

ص: 249

فَهَذَا يُنَافِي الِاسْتِقَامَةَ عَلَى التَّوحِيدِ"

(1)

.

- الفَائِدَة الأُولَى: إِنَّ لُزُومَ الاسْتِقَامَةِ لَا يَعْنِي العِصْمَةَ مِنَ الزَّلَلِ! وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ العَبْدَ المُسْتَقِيمَ إِذَا زَلَّ؛ فَإِنَّهُ يُتْبِعُ ذَلِكَ بِالاسْتِغْفَارِ وَالتَّوبَةِ.

وَدَلَّتْ لِذَلِكَ أُمُورٌ:

1 -

قَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فُصِّلَت: 6].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي الاسْتِقَامَةِ المَامُورِ بِهَا؛ فَيَجْبُرُ ذَلِكَ الاسْتِغْفَارُ المُقْتَضِي لِلتَّوبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الاسْتِقَامَةِ"

(2)

.

2 -

حَدِيثُ «اتَّقِ اللهَ حَيثُما كُنْتَ، وأتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنِ»

(3)

.

3 -

حَدِيثُ «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيرَ أعْمَالِكُم الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ»

(4)

.

- الفَائِدَة الثَّانية: التَّعْبِيرُ بِلَفْظَةِ (الاسْتِقَامَةِ) -عَنِ المُتَمَسِّكِ بِالشَّرِيعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ- أَولَى مِنَ التَّعْبِيرِ بِلَفْظَةِ (الالتِزَامِ)؛ لِكَونِ لَفْظِ (الاسْتِقَامَةِ) مُسْتَخْدَمٌ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

(5)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 509).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 510).

(3)

حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (1987) عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَمُعَاذٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (97).

(4)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (22436) عَنْ ثَوبَانَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (197).

(5)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص: 214).

ص: 250

‌الحَدِيثُ الثَّانِي وَالعِشْرُونَ: (أَحْلَلْتُ الحَلالَ، وَحَرَّمْتُ الحَرَامَ)

عَنْ أَبي عَبْدِ اللهِ؛ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا

(1)

سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: أَرَأَيتَ إِذا صَلَّيتُ المَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحلَلْتُ الحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلى ذَلِكَ شَيئًا؛ أَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قَالَ:«نَعَمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

- هَذَا الحَدِيثُ بَوَّبَ عَلَيهِ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِـ (بَابُ بَيَانِ الإِيمَانِ الَّذِي يُدْخَلُ بِهِ الجَنَّةُ؛ وَأَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ)

(3)

.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ عَدَمِ وُجُوبِ غَيرِ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ فِي اليَومِ وَاللَّيلَةِ، وَغَيرُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ لَا تَجِبُ إِلَّا لِسَبَبٍ.

- الصِّيَامُ لُغَةً: الإِمْسَاكُ. وَشَرْعًا: هُوَ الإِمْسَاكُ عَنِ المُفْطِرَاتِ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ تَعَبُّدًا للهِ عز وجل.

- قَولُهُ: (وَأَحْلَلْتُ الحَلَالَ): أَي: فَعَلْتُ الحَلَالَ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ، (وَحَرَّمْتُ الحَرَامَ): أَي اجْتَنَبْتُ الحَرَامَ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ.

وَالتَّقْيِيدُ بِكَونِهِ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ هُوَ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَى مَا فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ بِغَيرِ

(1)

هَذَا السَّائِلُ هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ قَوقَل -بِقَافَينِ مَفْتُوحَتَينِ-. جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 513).

(2)

مُسْلِمٌ (15).

(3)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (1/ 42).

ص: 251

نِيَّةٍ، كَمَنْ لَا يَسْرِقُ لِكَونِهِ غَنِيًّا، وَمَنْ لَا يَعُقُّ وَالِدَيهِ مِنْ جِهَةِ كَونِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ المَذْمُومَةِ عَادَةً وَعُرْفًا.

- قَولُهُ: (وَلَمْ أَزِدْ عَلى ذَلِكَ شَيئًا أَدْخُلُ الجَنَّةَ؟): لَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ العِبَادَاتِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ وُجُوبُهَا وَتَحْرِيمُ تَرْكِهَا! وَلَكِنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ أَزِدْ عَلَى الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ شَيئًا مِنَ التَّطَوُّعِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ شَيئًا مِنَ الصِّيَامِ؛ وَلَيسَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ دُونَ سَائِرِ الوَاجِبَاتِ!

وَمِثْلُهُ حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيدِ اللهِ أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ -ثَائِرَ الرَّاسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ- حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَومِ وَاللَّيلَةِ» ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قَالَ: «لَا؛ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«وَصِيَامُ رَمَضَانَ» ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيرُهُ؟ قَالَ: «لَا؛ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» ، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قَالَ: «لَا؛ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» . قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

.

- إِنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ فِي النُّصُوصِ يُرَادُ بِهِ نَوعَان: دُخُولٌ أَوَّلِيٌّ: يَعْنِي ابْتِدَاءً لَا يَسْبِقُهُ عَذَابٌ، وَدُخُولٌ مَآلِيٌّ.

وَالنَّفْيُ كَذَلِكَ جَاءَ عَلَى نَوعَينِ، هُمَا: نَفْيٌ مُطْلَقٌ: يَعْنِي لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَبَدًا، وَنَفْيٌ أَوَّلِيُّ: يَعْنِي لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا إِلَى الجَنَّةِ.

(1)

البُخَارِيُّ (46)، وَمُسْلِمٌ (11).

ص: 252

وَالَّذِينَ يُنْفَى عَنْهُم الدُّخُولُ الأَوَّلِيُّ لِلجَنَّةِ هُمْ أَهْلُ التَّوحِيدِ الَّذِينَ لَهُم ذُنُوبٌ -وَلَمْ يَغْفِرِ اللهُ تَعَالَى لَهُم أَوَّلًا- فَيُطَهَّرُونَ مِنْهَا بِالنَّارِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مَنَّانٌ، وَلَا وَلَدُ زِنْيَةٍ، وَلَا مُدْمِنٌ خَمْرٍ»

(1)

.

وَأَمَّا الَّذِينَ يُنْفَى عَنْهُم الدُّخُولُ المُطْلَقُ لِلجَنَّةِ -أَي لَا يَدْخُلُونَهَا لَا أَوَّلًا وَلَا آخِرًا- فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الكُفْرِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَاوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المَائِدَة: 72].

وَدَلَّ أَيضًا عَلَى تَفْصِيلِ دُخُولِ النَّارِ -مِنْ جِهَةِ التَّخْلِيدِ أَوِ الدُّخُولِ الأَوَّلِيِّ- الحَدِيثُ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَونَ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ -أَو قَالَ: بِخَطَايَاهُمْ- فَأَمَاتَتْهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ؛ فَبُثُّوا عَلَى أنْهَارِ الجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ: يَا أهْلَ الجَنَّةِ؛ أَفِيضُوا عَليهِمْ، فَينْبِتُونَ نَبَاتَ الحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيلِ»

(2)

، فَفِيهِ

(1)

صَحِيحٌ. الدَّارِمِيُّ (2138) عَنْ عَبْد اللهِ بْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (673).

وَأَمَّا قَولُهُ "وَلَدُ زِنْيَةٍ»: «أُرِيدَ بِهِ مَنْ تَحَقَّقَ بِالزِّنَى حَتَّى صَارَ غَالِبًا عَلَيهِ؛ فَاسْتَحَقَّ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَيهِ؛ فَيُقَالَ: هُوَ ابْنٌ لَهُ، كَمَا يُنْسَبُ المُتَحَقِّقُونَ بِالدُّنْيَا إلَيهَا؛ فَيُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الدُّنْيَا؛ لِعِلْمِهِمْ لَهَا وَتَحَقُّقِهِمْ بِهَا، وَتَرْكِهِمْ مَا سِوَاهَا". (شَرْحُ مُشْكِلِ الآثَارِ) لِلطَّحَاوِيِّ (2/ 372).

(2)

صَحِيحُ مُسْلِمِ (299) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا.

وَالضَّبَائِرُ: الجَمَاعَاتُ.

وَحَمِيلُ السَّيلِ: مَا حَمَلَهُ السَّيلُ مِنْ نَحْوِ طِينٍ أَو غُثَاءٍ.

والحِبَّةِ -بِكَسْرِ المُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ-: بُزُورُ الصَّحْرَاءِ.

ص: 253

بَيَانُ أَنَّ دُخُولَ النَّارِ أَيضًا نَوعَانِ.

- فِي هَذَا الحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ أَنَّ هَذِهِ الأَعْمَالَ أَسْبَابٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ، وَلَكِنْ لَمْ تُذْكَرْ فِيهِ مَوَانِعُ دُخُولِ الجَنَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ ارْتِكَابَ بَعْضِ الكَبَائِرِ يَمْنَعُ دُخُولَ الجَنَّةِ.

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ»

(1)

،

وَقَولِهِ: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»

(2)

،

وَقَولِهِ: «لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ»

(3)

،

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الجُهَنِيِّ؛ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَصَلَّيتُ الخَمْسَ، وَأَدَّيتُ زَكَاةَ مَالِي، وَصُمْتُ شَهْرَ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَومَ القِيَامَةِ هَكَذَا -وَنَصَبَ إِصْبَعَيهِ- مَا لَمْ يَعُقَّ وَالِدَيهِ»

(4)

، وَغَيرِهَا كَثِيرٌ.

- وَأَمَّا مَعْنَى النُّصُوصِ الَّتِي جَاءَتْ فِي تَرَتُّبِ دُخُولِ الجَنَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّوحِيدِ

(5)

؛ فَلَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُعَذَّبَ صَاحِبُهَا بِالنَّارِ عَلَى ذُنُوبِهِ مُطْلَقًا! وَصَحِيحٌ أَنَّ

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5984)، وَمُسْلِمٌ (2556) عَنْ جُبَيرِ بْنِ مُطْعِمٍ مَرْفُوعًا.

(2)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (91) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.

(3)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (54) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(4)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (39/ 522). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (2515).

(5)

كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ المَرْفُوعِ «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنى وَإنْ سَرَقَ؟! فَقَالَ: وَإنْ زَنى وَإنْ سَرَقَ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7487)، وَمُسْلِمٌ (94).

ص: 254

أَصْلَ النَّجَاةِ مِنَ الخُلُودِ فِي النَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالإِتْيَانِ بِكَلِمَةِ التَّوحِيدِ؛ وَلَكِنَّ كَمَالَ النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ الشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بَلْ حَتَّى كَونُ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْرُونٌ بِاجْتِنَابِ الكَبَائِرِ أَصْلًا؛ كَمَا سَبَقَ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " فَإِنَّ تَحَقُّقَ القَلْبِ بِمَعْنَى-لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ- وَصِدْقَهُ فِيهَا، وَإِخْلَاصَهُ بِهَا يَقْتَضِي أَنْ يَرْسَخَ فِيهِ تَأَلُّهَ اللهِ وَحْدَهُ إِجْلَالًا، وَهَيبَةً، وَمَخَافَةً، وَمَحَبَّةً، وَرَجَاءً، وَتَعْظِيمًا، وَتَوَكُّلًا، وَيَمْتَلِئَ بِذَلِكَ، وَيَنْتَفِيَ عَنْهُ تَالُّهُ مَا سِوَاهُ مِنَ المَخْلُوقِينَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَحَبَّةٌ وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا طَلَبٌ لِغَيرِ مَا يُرِيدُ اللهُ وَيُحِبُّهُ وَيَطْلُبُهُ، وَيَنْتَفِي بِذَلِكَ مِنَ القَلْبِ جَمِيعُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ وَإِرَادَاتِهَا، وَوَسَاوِسُ الشَّيطَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيئًا وَأَطَاعَهُ، وَأَحَبَّ عَلَيهِ وَأَبْغَضَ عَلَيهِ؛ فَهُوَ إِلَهُهُ! فَمَنْ كَانَ لَا يُحِبُّ وَلَا يُبْغِضُ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا يُوَالِي وَلَا يُعَادِي إِلَّا لَهُ؛ فَاللَّهُ إِلَهُهُ حَقًّا، وَمَنْ أَحَبَّ لِهَوَاهُ، وَأَبْغَضَ لَهُ، وَوَالَى عَلَيهِ، وَعَادَى عَلَيهِ؛ فَإِلَهُهُ هَوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجَاثِيَة: 23]، قَالَ الحَسَنُ: هُوَ الَّذِي لَا يَهْوَى شَيئًا إِلَّا رَكِبَهُ! وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي كُلَّمَا هَوَى شَيئًا رَكِبَهُ، وَكُلَّمَا اشْتَهَى شَيئًا أَتَاهُ، لَا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَعٌ وَلَا تَقْوًى!

وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ»

(1)

، وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَاعَ الشَّيطَانَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ؛ فَقَدْ عَبَدَهُ، كَمَا قَالَ عز وجل:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}

[يَس: 60].

(1)

مَوضُوعٌ، رَوَاهُ الطَّبَرَاِنُّي فِي الكَبِيرِ (8/ 103). ضَعِيفُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (39).

ص: 255

فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَحْقِيقُ مَعْنَى قَولِ -لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ- إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ إِصْرَارٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ، وَلَا عَلَى إِرَادَةِ مَا لَا يُرِيدُهُ اللهُ، وَمَتَى كَانَ فِي القَلْبِ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي التَّوحِيدِ، وَهُوَ نَوعٌ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَولِهِ تَعَالَى:{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا} [الأَنْعَامِ: 151] قَالَ: لَا تُحِبُّوا غَيرِي.

وَفِي صَحِيحِ الحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ: «الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيءٍ مِنَ الجَورِ، وَتُبْغِضَ عَلَى شَيءٍ مِنَ العَدْلِ، وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الحُبُّ وَالبُغْضُ؟! قَالَ اللهُ عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 31]»

(1)

، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَحَبَّةَ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ وَبُغْضَ مَا يُحِبُّهُ؛ مُتَابَعَةٌ لِلْهَوَى، وَالمُوَالَاةُ عَلَى ذَلِكَ وَالمُعَادَاةُ عَلَيهِ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ.

وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «لَا تَزَالُ -لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ- تَمْنَعُ العِبَادَ مِنْ سُخْطِ اللهِ؛ مَا لَمْ يُؤْثِرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى صَفْقَةِ دِينِهِمْ؛ فَإِذَا آثَرُوا صَفْقَةَ دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ ثُمَّ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ رُدَّتْ عَلَيهِمْ، وَقَالَ اللهُ: كَذَبْتُمْ»

(2)

.

فَتَبَيَّنَ بِهَذَا مَعْنَى قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ؛ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ»

(3)

، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ؛ فَلِقِلَّةِ صِدْقِهِ فِي قَولِهَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ إِذَا صَدَقَتْ طَهَّرَتْ مِنَ القَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ، فَمَنْ صَدَقَ فِي

(1)

صَحِيحٌ مِنْهُ الشَّطْرُ الأَوَّلُ فَقَط، رَوَاهُ الحَاكِمُ (3148) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. الضَّعِيفَة (3755).

(2)

إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا. مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى (4034) بِتَحْقِيقُ الشَّيخِ حُسَينِ أَسَد حَفِظَهُ اللهُ.

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (128)، مُسْلِمٌ (32).

ص: 256

قَولِهِ -لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ- لَمْ يُحِبَّ سِوَاهُ، وَلَمْ يَرْجُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَمْ يَخْشَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ، وَلَمْ يَتَوَكَّلْ إِلَّا عَلَى اللهِ، وَلَمْ تَبْقَ لَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ إِيثَارِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَمَتَى بَقِيَ فِي القَلْبِ أَثَرٌ لِسِوَى اللهِ؛ فَمِنْ قِلَّةِ الصِّدْقِ فِي قَولِهَا"

(1)

.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ مَنْ قَامَ بِالوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ المُحَرَّمَاتِ دَخَلَ الجَنَّةَ أَوَّلًا.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ حِكْمَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُثْقِلُ عَلَى المَدْعُوِّ بِذِكْرِ كُلِّ الشَّرَائِعِ! وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَى الأُصُولِ؛ فَقَدْ تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَنْبِيهَ هَذَا السَّائِلِ عَلَى السُّنَنِ وَالفَضَائِلِ تَسْهِيلًا وَتَيسِيرًا -لِقُرْبِ عَهْدِهِ بالإِسْلَامِ- لِئَلَّا يَكُونَ الإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ تَنْفِيرًا لِمِثْلِهِ، وَعَلِمَ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ فِيهِ الإِسْلَامُ وَشَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ؛ رَغِبَ فِيمَا رَغِبَ فِيهِ غَيرُهُ.

قَالَ القُرْطُبِيُّ رحمه الله: " وَإِنَّمَا سَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهَؤُلَاءِ السَّائِلِينَ عَنْ ذِكْرِ التَّطَوُّعَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا لَهُم كَمَا ذَكَرَهَا فِي حَدِيثِ طَلْحَةِ بْنِ عُبَيدِ اللهِ رضي الله عنه لِأَنَّ هَؤُلَاءِ -وَاللهُ أَعْلَمُ- كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ؛ فَاكْتَفَى مِنْهُم بِفِعْلِ مَا وَجَبَ عَلَيهِم فِي تِلْكَ الحَالِ لِئَلاَّ يَثْقُلَ ذَلِكَ عَلَيهِم فَيَمَلَّوا، أَو لِئَلَّا يَعْتَقِدُوا أَنَّ السُّنَنَ وَالتَّطَوُّعَاتِ وَاجِبَةٌ؛ فَتَرَكَهُمْ إِلَى أَنْ تَنْشَرِحَ صُدُورُهُم بِالفَهْمِ عَنْهُ، وَالحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ ثَوَابِ تِلْكَ المَنْدُوبَاتِ؛ فتَسْهُلَ عَلَيهِم"

(2)

.

قُلْتُ: وَفِي الحَدِيثِ عَنْ جَابِرٍ؛ قَالَ: "اشْتَرَطَتْ ثَقِيفُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا صَدَقَةَ عَلَيهَا وَلَا جِهَادَ؛ وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَيَصَّدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ» "

(3)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 524).

(2)

المُفْهِمُ لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تَلْخِيصِ كِتَابِ مُسْلِمٍ (1/ 166).

(3)

صَحِيحٌ. مُسْنَدِ أَحْمَدَ (14673 - 14674). الصَّحِيحَةُ (1889).

ص: 257

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- مَسْأَلَةٌ: مَا وَجْهُ عَدَمِ ذِكْرِ الزَّكَاةِ وَالحَجِّ فِي الحَدِيثِ؟

الجَوَابُ: هَذَا يَحْتَمِلُ أَوجُهًا:

1 -

أَنَّ الحَجَّ لَمْ يُذْكَرْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ فُرِضَ، وَلَمْ تُذْكَرِ الزَّكَاةُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ فَقِيرًا لَيسَ عِنْدَهُ مَالٌ يُزكَّيهِ؛ لِذَلِكَ لَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ أَصْلًا.

2 -

أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ وَالحَجُّ دَاخِلَينِ تَحْتَ إِحْلَالِ الحَلَالِ وَتَحْرِيمِ الحَرَامِ عُمُومًا.

3 -

أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ فَقَط لِأَنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِحَالٍ

(1)

، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَالحَجِّ فَإِنَّهُمَا مَقْرُونَانِ بِالاسْتِطَاعَةِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(1)

وَالصَّائِمُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصِّيَامَ فَعَلَيهِ الفِدْيَةُ.

ص: 258

‌الحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالعِشْرُونَ: (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ)

عَنْ أَبِي مَالِكٍ؛ الحَارِثِ بْنِ عَاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه؛ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ المِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ -أَو تَمْلَأُ- مَا بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَو عَلَيكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو؛ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

- الطُّهُورُ -بِضَمِّ الطَّاءِ-: المَقْصُودُ بِهِ التَّطَهُّرُ، أَمَّا الطَّهُورُ -بِالفَتْحِ-: فَإِنَّهُ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، يَعْنِي: المَاءَ وَالتُّرَابَ

(2)

.

- قَولُهُ: «الطُّهُورُ» : هُوَ الوُضُوءُ، كَمَا دَلَّ عَلَيهِ بَعْضُ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ «إِسْبَاغُ الوُضُوءِ: شَطْرُ الإِيمَانِ»

(3)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله -تَعْلِيقًا عَلَى قَولِ مَنْ قالَ: إِنَّ الطَّهَارَةَ هُنَا مَعْنَوِيَّةٌ؛ وَهِيَ تَطْهِيرُ النَّفْسِ بِتَرْكِ المَعَاصِي-: " وَهَذَا القَولُ مُحْتَمَلٌ لَولَا أَنَّ رِوَايَةَ «الوُضُوءُ شَطْرُ الإِيمَانِ» تَرُدُّهُ، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ «إِسْبَاغِ الوُضُوءِ» .

وَأَيضًا فَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ المَعْنَى؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَعْمَالِ تُطَهِّرُ النَّفْسَ مِنَ

(1)

مُسْلِمٌ (223).

(2)

وَمِثْلُهُ السَّحُورُ، وَالوَضُوءُ -يَعْنِي بِالضَّمِّ وَالفَتْحِ-.

(3)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (2437). صَحِيحُ الجَامِعِ (925).

ص: 259

الذُّنُوبِ السَّابِقَةِ، كَالصَّلَاةِ؛ فَكَيفَ لَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ الطُّهُورِ؟! وَمَتَى دَخَلَتِ الأَعْمَالُ -أَو بَعْضُهَا- فِي اسْمِ الطُّهُورِ لَمْ يَتَحَقَّقْ كَونُ تَرْكِ الذُّنُوبِ شَطْرَ الإِيمَانِ! وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيهِ الأَكْثَرُونَ: أَنَّ المُرَادَ بِالطُّهُورِ هَاهُنَا: التَّطْهِيرُ بِالمَاءِ مِنَ الأحْدَاثِ، وَكَذَلِكَ بَدَأَ مُسْلِمٌ بِتَخْرِيجِهِ فِي أَبْوَابِ الوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيرُهُمَا"

(1)

.

- قَولُهُ: «شَطْرُ الإِيمَانِ» : الإِيمَانُ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَينِ

(2)

:

1 -

أَنَّهُ الإِيمَانُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ.

وَيَدُلُّ لَهُ أَمْرَانِ:

أ- أَنَّ الوُضُوءَ مَعَ الشَّهَادَتَينِ مُوجِبٌ لِفَتْحِ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، لِذَلِكَ هُوَ نِصْفُ الإِيمَانِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ وُضُوئِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ»

(3)

.

ب- أَنَّ الوُضُوءَ مِنْ خِصَالِ الإِيمَانِ الخَفِيَّةِ الَّتِي لَا يُحَافِظُ عَلَيهَا إِلَّا مُؤْمِنٌ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيرَ أعْمالِكُم الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إِلَّا مُؤمِنٌ»

(4)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 7).

(2)

وَقَدْ ذَكَرَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله فِي الجَامِعِ عِدَّةَ مَعَانٍ، وَقَدْ اقْتَصَرْتُ عَلَى أَهَمِّهَا وَأَوضَحِهَا.

(3)

مُسْلِمٌ (234).

(4)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (22436) عَنْ ثَوبَانَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (197).

ص: 260

2 -

أَنَّ الإِيمَانَ هُوَ الصَّلَاةُ.

وَدَلَّ لِذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البَقَرَة: 143] وَالمُرَادُ بِالإِيمَانِ هُنَا صَلَاتُكُم إِلَى بَيتِ المَقْدِسِ، فَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ فَصَارَتْ كَالشَّطْرِ.

- الحَمْدُ: هُوَ وَصْفُ المَحْمُودِ بِالكَمَالِ، مَعَ المَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ.

- (الـ) التَّعْرِيفِ فِي (الحَمْدُ): هَذِهِ لِلاسْتِغْرَاقِ، فَكُلُّ أَنْوَاعِ المَحَامِدِ مُسْتَحَقَّةٌ للهِ تَعَالَى، فَاللهُ تَعَالَى يُحْمَدُ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ عَلَى أَسْمَائِهِ الحُسْنَى وَصِفَاتِهِ العُلَى، وَيُحْمَدُ أَيضًا مِنْ جِهَةِ أَفْعَالِهِ الحَكِيمَةِ، وَمن جِهَةِ إِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ، وَرَحْمَتِهِ بِهِم، وَنِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ.

- قَولُهُ: «الحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ المِيزَانَ» : مَعْنَاهُ أَنَّهَا لِعِظَمِ أَجْرِهَا تَمْلَأُ مِيزَانَ الحَامِدِ للهِ تَعَالَى.

- كَثِيرًا مَا يَقْتَرِنُ التَّسْبِيحُ مَعَ التَّحْمِيدِ فِي صِفَاتِ اللهِ عز وجل، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهٌ وَنَفْيٌ -وَالتَّنْزِيهُ لِوَحْدِهِ لَا يُمْدَحُ-؛ فَهُوَ نَفْيٌ مُجَرَّدٌ! لِذَلِكَ اقْتَرَنَ بِالحَمْدِ لِإِثْبَاتِ الكَمَالَاتِ للهِ تَعَالَى، وَهَذَا البَيَانُ جَارٍ عَلَى القَاعِدَةِ المَشْهُورَةِ (التَّخْلِيَةُ تَسْبِقُ التَّحْلِيَةَ).

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَلِهَذَا لَمْ يَرِدِ التَّسْبِيحُ مُجَرَّدًا! لَكِنْ مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الكَمَالِ، فَتَارَةً يُقْرَنُ بِالحَمْدِ، كَقَولِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَارَةً بِاسْمٍ مِنَ الأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى العَظَمَةِ وَالجَلَالِ، كَقَولِهِ: سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ"

(1)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 18).

ص: 261

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله -فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَلَى البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ-: " لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الأَولَى البَدَاءَةُ بِالتَّسْبِيحِ؛ لِأَنَّهُ يتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّقَائِصِ عَنِ البَارِي سبحانه وتعالى، ثُمَّ التَّحْمِيدُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الكَمَالِ لَهُ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْي النَّقَائِصِ إِثْبَاتُ الكَمَالِ! ثُمَّ التَّكْبِيرُ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْي النَّقَائِصِ وَإِثْبَاتِ الكَمَالِ أَنْ [لَا]

(1)

يَكُونَ هُنَاكَ كَبِيرٌ آخَرُ! ثُمَّ يَخْتِمُ بِالتَّهْلِيلِ الدَّالِّ عَلَى انْفِرَادِهِ سبحانه وتعالى بِجَمِيعِ ذَلِكَ"

(2)

.

- قَولُهُ: «الصَّلَاةُ نُورٌ» : سَبَبُهُ أَمْرَانِ:

1 -

الصَّلَاةُ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهَا؛ فَهِيَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَتَهْدِي إِلَى الصَّوَابِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ}

[العَنْكَبُوت: 45].

2 -

الصَّلَاةُ نُورٌ لِصَاحِبِهَا المَاشِي إِلَيهَا فِي المَسَاجِدِ يَومَ القِيَامَةِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الحَدِيثُ «بَشِّرِ المَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى المَساجِدِ؛ بِالنُّورِ التَّامِّ يَومَ القِيامَةِ»

(3)

.

وكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {يَومَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَينَ أَيدِيهِمْ وَبِأَيمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ اليَومَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ}

[الحَدِيد: 12].

- قَولُهُ: «الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ» : أَي: دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِ المُتَصَدِّقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ

(1)

فِي أُصُولِ الفَتْحِ المَشْهُورَةِ بِغَيرِ النَّفْي، وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهَا، كَمَا أَكَّدَ ذَلِكَ بَعْضُ مُحَقِّقِي نُسَخِ الفَتْحِ، وَكَذَا أَثْبَتَهَا بَعْضُ مَن نَقَلَ عَنِ الفَتْحِ مِنَ الشُّرَّاحِ.

(2)

فَتْحُ البَارِي (2/ 328).

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (223) عَنْ بُرَيدَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2823).

ص: 262

المَالَ مَحْبُوبٌ لِلنُّفُوسِ، وَلَا يُبْذَلُ المَحْبُوبُ إِلَّا فِي مَا هُوَ أَحَبُّ مِنْهُ، وَالصَّدَقَةُ هُنَا هِيَ الزَّكَاةُ -كَمَا فِي لَفْظِ النَّسَائِيِّ الصَّحِيحِ-

(1)

.

- قَولُهُ: «الصَّبْرُ ضِيَاءٌ» : الصَّبْرُ هُنَا عَامٌّ، وَقَدْ يَكُونُ مُرَادًا بِهِ الصِّيَامُ لِسَبَبَين:

1 -

أَنَّ فِي بَعْضِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَفْظُ «وَالصِّيَامُ ضِيَاءٌ»

(2)

.

2 -

أَنَّ الصِّيَامَ لُغَةً هُوَ الإِمْسَاكُ -وَهُوَ الصَّبْرُ عَنِ المُفْطِرَاتِ-، وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهْرَ رَمَضَانَ بِشَهْرِ الصَّبْرِ.

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ «صَومُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ؛ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ»

(3)

.

- قَولُهُ: «الصَّبْرُ ضِيَاءٌ» : لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ نُورٌ -كَمَا قَالَ فِي الصَّلَاةِ- لِأَنَّ الضِّيَاءَ فِيهِ حَرَارَةٌ، كَمَا قَالَ اللهُ عز وجل:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا} [يُونُس:5] فَالشَّمْسُ فِيهَا حَرَارَةٌ، وَالصَّبْرُ فِيهِ حَرَارَةٌ وَمَرَارَةٌ لِأَنَّهُ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ؛ فَجَعَلَ الصَّبْرَ ضِيَاءً لِمَا يُلَابِسُهُ مِنَ المَشَقَّةِ وَالمُعَانَاةِ.

- قَولُهُ: «القُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَو عَلَيكَ» : أَي أَنَّهُ يُحَاجُّ عَنْكَ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّوَاسِ بْنِ سِمْعَانَ مَرْفُوعًا «اقْرَؤُوا القُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَاتِي يَومَ القيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَينِ

(4)

: البَقَرَةَ وآلَ عِمْرانَ؛ فَإِنَّهُمَا يَاتِيَانِ يَومَ القيَامَةِ كَأَنِّهُمَا

(1)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (2437). صَحِيحُ الجَامِعِ (925).

(2)

أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله. جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 21).

(3)

صَحِيحٌ. البَزَّارُ (2/ 271) عَنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3804).

وَقَولُهُ «وَحَرَ الصَّدْرِ» : قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ)

(5/ 160): "غِشَّهُ وَوَسَاوِسَهُ، وَقِيلَ: الحِقْدَ وَالغَيظَ، وَقِيلَ: العَدَاوَةَ، وَقِيلَ: أَشَدَّ الغَضَبِ".

(4)

مَعْنَى (الزَّهْرَاوَينِ): "أَي: المُنِيرَتَانِ، إِمَّا لِهِدَايَتِهِمَا قَارِئَهُمَا، أَو لِمَا يُسَبِّبُهُ أَجْرُهُمَا مِنَ النُّورِ يَومَ القِيَامَةِ". (إِكْمَالُ المُعْلِمِ شَرْحُ مُسْلِمٍ) لِلْقَاضِي عِيَاض (3/ 173).

ص: 263

غَمَامَتَانِ أَو غَيَايَتَانِ أَو كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ

(1)

مِنْ طَيرٍ صَوَافَّ

(2)

يُحَاجَّانِ عَنْ أصْحَابِهِمَا، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ»

(3)

.

- القُرْآنُ يَكُونُ حُجَّةً لِصَاحِبِهِ عِنْدَمَا يَتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، أَي: يُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ، وَيَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ، وَيُحِلُّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُ حَرَامَهُ.

- قَولُهُ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو» : الغُدُوُّ: هُوَ السَّيرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ

(4)

.

- قَولُهُ: «فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا» : المُعْتِقُ لِنَفْسِهِ هُوَ مَنْ قَامَ بِطَاعَةِ اللهِ، كَمَا قَالَ اللهُ عز وجل:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ} [البَقَرَة: 207].

وَالَّذِي أَوْبَقَهَا: هُوَ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِطَاعَةِ اللهِ عز وجل؛ فَهَذَا مُوبِقٌ لَهَا، أَي: مُهْلِكٌ لَهَا.

- تَنْبِيهٌ:

وَأَمَّا قَولُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البَقَرَة: 121] فَإِنَّ المُرَادَ بِالتِّلَاوَةِ الاتِّبَاعُ وَلَيسَ مُطْلَقَ القِرَاءَةِ أَوْ حُسْنَ التَّجْوِيدِ لَهَا!

قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله: " وَالصَّوَابُ مِنَ القَولِ فِي تَاوِيلِ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى: (يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ) مِن قَولِ القَائِلِ: مَا زِلْتُ أَتْلُو أَثَرَهُ؛ إِذَا اتَّبَعَ أَثَرَهُ، لِإِجْمَاعِ

(1)

أَي: جَمَاعَتَانِ.

(2)

أَي: طَيرٌ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا.

(3)

مُسْلِمٌ (804).

(4)

وَالرَّوَاحُ: الرُّجُوعُ فِي آخِرِهِ.

ص: 264

الحُجَّةِ مِن أَهْلِ التَّاوِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَاوِيلُهُ"

(1)

، وَنَقَلَ رحمه الله هَذَا التَّفْسِيرَ -بِإِسْنَادِهِ- عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ رضي الله عنهم.

وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ -السَّابِقِ- «يَاتِي القُرْآنُ وَأَهْلُهُ -الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا- تَقْدُمُهُ سُورَةُ البَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ» فَبَانَتْ فِي الحَدِيثِ صِفَةُ أَهْلِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ وَالَّذِينَ هُمْ أَهْلُ اتِّبَاعِهِ.

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله -فِي قَولِهِ تَعَالَى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} -: " أَي: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، وَالتِّلَاوَةُ: الاتِّبَاعُ، فَيُحِلُّونَ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ"

(2)

.

(1)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (2/ 569).

(2)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 65).

ص: 265

‌الحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالعِشْرُونَ: (إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي)

عَنْ أَبي ذرٍّ الغِفَارْيِّ رضي الله عنه؛ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل أَنَّهُ قَالَ:

«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ،

يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فاَسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ،

يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ،

يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ،

يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي،

يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا زَادَ ذَلِكَ فَي مُلْكِي شَيئًا،

يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيئًا،

يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي؛ فَأَعْطَيتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يُنْقِصُ المِخْيَطُ إَذَا أُدْخِلَ البَحْرَ،

يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيرًا فَليَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1)

مُسْلِمُ (2577)، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيضًا فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ (338).

ص: 266

- قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: " هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ لِأَهْلِ الشَّامِ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي إِدْرِيسٍ الخَولَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه"

(1)

.

- هَذَا الحَدِيثُ حَدِيثٌ عَظِيمٌ فِي بَيَانِ:

1 -

كَمَالِ غِنَى اللهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّهُ لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ.

2 -

افْتِقَارِ العِبَادِ إِلَيهِ تَعَالَى.

3 -

الأَدَبِ لِلفُقَرَاءِ وَالأَغْنِيَاءِ أَنْ لَا يَسْأَلُوا وَلَا يَتَعَلَّقُوا إِلَّا بِاللهِ تَعَالَى.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ طَلَبِ الإِعَانَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى خَيرَي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَخَيرُ الدُّنْيَا قِسْمَانِ: هُدًى دِينِيٌّ، وَرِزْقٌ دُنْيَوِيٌّ مِنْ طَعَامٍ وَكِسَاءٍ، وَخَيرُ الآخِرَةِ: مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ؛ وَهِيَ المُوجِبَةُ لِلفَلَاحِ التَّامِّ وَشَتَّى أَصْنَافِ النَّعِيمِ الأَبَدِيِّ.

- إِنَّ مَعْرِفَةَ مِلْكِ اللهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الأَنْوَاعِ مِنَ الخَيرِ هُوَ دَلِيلُ التَّعَلُّقِ بِهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ الشِّرْكِ بِهِ، وَتَرْكِ دُعَاءِ غَيرِهِ.

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام: {قَالَ أَفَرَأَيتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَومَ الدِّينِ} [الشُّعَرَاء: 75 - 82].

- الظُّلْمُ لُغَةً: وَضْعُ الشَّيءِ فِي غَيرِ مَوضِعِهِ.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 34).

ص: 267

قَالَ في القَامُوسِ المُحِيطِ: " الظُّلْمُ -بِالضَّمِّ- وَضْعُ الشَّيءِ فِي غَيرِ مَوضِعِهِ، وَظَلَمَ الأَرْضَ: حَفَرَهَا فِي غَيرِ مَوضِعِ حَفْرِها، وَظَلَمَ البَعِيرَ: نَحَرَهُ مِنْ غَيرِ دَاءٍ. وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيئًا}، أَي: وَلَمْ تَنْقُصْ"

(1)

.

وَيُقَابِلُ الظُّلْمَ العَدْلُ: وَهُوَ وَضْعُ الشَّيءِ فِي مَوضِعِهِ، وَإِذَا وُضِعَ الشَّيءُ فِي مَوضِعِهِ لِيُنَاسِبَ الغَايَةَ المَحْمُودَةَ فَهُوَ الحِكْمَةُ.

- قَولُهُ: «حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» : أَي: مَنَعْتُ نَفْسِي مِنَ الظُّلْمِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ للهِ تَعَالَى تَتَضَمَّنُ كَمَالَ عَدْلِهِ تَعَالَى

(2)

.

وَهَذَا التَّحْرِيمُ جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ عَلَيهِ أَحَدٌ سُبْحَانَهُ!

كَمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأَنْعَام: 54]،

وَكَمَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا سُبْحَانَهُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ المَرْفُوعِ فِي الصَّحِيحَينِ فِي قَولِهِ: «حَقُّ الِعبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيئًا»

(3)

، وَكَقَولِهِ تَعَالَى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} [الرُّوم: 47].

- قَولُهُ: «فَلا تَظَالَمُوا» : الفَاءُ لِلتَّعْلِيلِ، أَي: لِأَنَّهُ حَرَّمَهُ تَعَالَى؛ فَلَا يَظْلِمْ بَعْضُكُم بَعْضًا

(4)

.

(1)

القَامُوسُ المُحِيطُ (ص: 524).

(2)

وَيُعْلَمُ بِذَلِكَ خَطَأُ مَنْ يَقُولُ: اللهُ يَظْلِمُ مَنْ ظَلَمَكَ! لِمَنْ سُمِعَ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ ظُلِمَ.

(3)

البُخَارِيُّ (2856)، وَمُسْلِمٌ (30).

(4)

وَلَا يَخفَى أَنَّ الظُّلْمَ أَنْوَاعٌ: ظُلْمُ العَبْدِ لِنَفْسِهِ بِالمَعَاصِي، وَظُلْمُهُ لِغَيرِهِ، وَالمُرَادُ بِالحَدِيثِ الثَّانِي.

ص: 268

- قَولُهُ: «كُلُّكُمْ ضَالٌّ» : فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الأَصْلَ فِي سَعْي الإِنْسَانِ -إِذَا لَمْ يَهْدِهِ اللهُ- أَنَّهُ ضَلَالٌ

(1)

، وَسَبَبُ الضَّلَالِ أَمْرَانِ: الظُّلْمُ، وَالجَهْلُ، قَالَ تَعَالَى:

{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأَحْزَاب: 72]

(2)

.

- قَولُهُ: «إِلاَّ مَنْ هَدَيتُهُ» : الهِدَايَةُ فِي هَذَا الحَدِيثِ تَشْمَلُ مَعْنَيَينِ:

1 -

هِدَايَةَ الإِرْشَادِ إِلَى الحَقِّ.

2 -

هِدَايَةَ التَّوفِيقِ إِلَى الإِيمَانِ.

- قَولُهُ: «كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ» : اللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي رَزَقَ الطَّعَامَ، وَهُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الطَّاعِمَ عَلَى أَنْ يَطْعَمَ؛ فَلَو شَاءَ مَنَعَهُ الرِّزْقَ، وَلَو شَاءَ مَنَعَهُ مِنَ الأَكْلِ.

(1)

كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى} [الضُّحَى: 7].

قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (8/ 456): "يَعْنِي ضَالًّا عَمَّا أَنْتَ عَلَيهِ {فَهَدَى} أَي: فَهَدَاكَ لِلتَّوحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ".

وكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى أَيضًا: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبْرِ} [العَصْر: 1 - 3].

(2)

وَالأَمَانَةُ هُنَا هِيَ التَّكْلِيفُ؛ الَّذِي هُوَ امْتِثَالُ الأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابُ المَحَارِمِ.

قَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ (6/ 380): "أَرَادَ بِالأَمَانَةِ الطَّاعَةَ وَالفَرَائِضَ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَى عِبَادِهِ، عَرَضَهَا عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ أَدَّوهَا أَثَابَهُمْ، وَإِنْ ضَيَّعُوهَا عَذَّبَهُمْ، وَهَذَا قَولُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الأَمَانَةُ: أَدَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَومُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ البَيتِ، وَصِدْقُ الحَدِيثِ، وَقَضَاءُ الدَّينِ، وَالعَدْلُ فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: الوَدَائِعُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الأَمَانَةُ: الفَرَائِضُ، وَقَضَاءُ الدَّينِ.

وَقَالَ أَبُو العَالِيَةِ: مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ".

ص: 269

- قَولُهُ: «كُلُّكُم عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ» : الكِسْوَةُ هُنَا تُحْمَلُ عَلَى مَعْنَيَينِ:

1 -

كِسْوَةُ البَدَنِ.

2 -

كِسْوَةُ الرُّوحِ بِالإِيمَانِ وَالتَّقْوَى.

قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأَعْرَاف: 26].

- قَولُهُ: «إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ» : الخَطَأُ هُنَا بِمَعْنَى الإِثْمِ، لِأَنَّ الخَطَأَ المُجَرَّدَ أَو عَدَمَ التَّعَمُّدِ هَذَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَو أَخْطَانَا} [البَقَرَة: 286].

- قَولُهُ: «فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ» : أَي اُطْلُبُوا مَغْفِرَتِي، وَذَلِكَ يَكُونُ بِأَمْرَينِ:

1 -

طَلَبُ المَغْفِرَةِ بِالقَولِ: كَأنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَو أَسْتَغْفِرُ اللهَ.

2 -

بِفِعْلِ مَا تَكُونُ بِهِ المَغْفِرَةُ، كَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

- قَولُهُ: «يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي» : وَذَلِكَ لِكَمَالِ غِنَى اللهِ تَعَالَى وَعِزَّتِهِ؛ فَمِنْ أَسْمَائِهِ: العَزِيزُ وَالغَنِيُّ.

- قَولُهُ: «لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا زَادَ ذَلِكَ فَي مُلْكِي شَيئًا» : فِيهِ الإِرْشَادُ إِلَى أَنَّ الطَّاعَةَ مِنَ العِبَادِ لَا يَعُودُ نَفْعُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى! بَلْ إِلَى العِبَادِ أَنْفُسِهِم، بِخِلَافِ مُلُوكِ الأَرْضِ؛ فَإِنَّ مُلْكَهُم يَزِيدُ بِزِيَادَةِ أَولِيَائِهِم وَأَتْبَاعِهِم وَأَمْلَاكِهِم.

- قَولُهُ: «لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيئًا» : فِيهِ الإِرْشَادُ إِلَى أَنَّ المَعْصِيَةِ مِنَ

ص: 270

العِبَادِ لَا يَعُودُ ضُرُّهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى! بَلْ عَلَى العِبَادِ أَنْفُسِهِم، بِخِلَافِ مُلُوكِ الأَرْضِ؛ فَإِنَّ مُلْكَهُم يَنْقُصُ بِكَثْرَةِ أَعْدَائِهِم وَمَنْ يَعْصِيهِم، وَبِكَثْرَةِ إِنْفَاقِهِم.

- قَولُهُ: «المِخْيَطُ» : الإِبْرَةُ السَّمِيكَةُ.

- قَولُهُ: «إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إَذَا أُدْخِلَ البَحْرَ» إِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ؛ وَالمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ شَيءٌ مِمَّا عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ بِإِنْفَاقِهِ مِنْهُ.

- قَولُهُ: «إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا» : الإِحْصَاءُ هُنَا يَكُونُ عَلَى مَرْتَبَتَينِ:

1 -

العَدُّ التَّفْصِيلِيُّ.

2 -

الحِفْظُ وَعَدَمُ التَّضْيِيعُ.

- قَولُهُ: «ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا» : هَذِهِ التَّوفِيَةُ نَوعَانِ:

1 -

التَّوفِيَةُ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ دُونَ الآخِرَة، وَهَذِهِ لِلكَافِرِ.

2 -

التَّوفِيَةُ لِلمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مَعًا، أَو فِي الآخِرَة فَقَط.

كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً؛ يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا»

(1)

.

- قَولُهُ: «فَمَنْ وَجَدَ خَيرًا؛ فَليَحْمَدِ اللهَ» : يَحْمَدُهُ عَلَى أَمْرَينِ:

1 -

عَلَى تَوفِيقِهِ لَهُ إِلَى العَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي قَولِ إِبْرَاهِيم عليه السلام:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ} [البَقَرَة: 128]

(2)

.

(1)

مُسْلِمٌ (2808).

(2)

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ «رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، إِلَيكَ مُخْبِتًا، لَكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا» صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3551) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ (3551).

ص: 271

2 -

عَلَى جَزَائِهِ عَلَيهِ الجَزَاءَ الوَفِيرَ رُغْمَ العَمَلِ القَلِيلِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وَلَا أَنَا؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ»

(1)

.

- قَولُهُ: «وَمَنْ وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفسَهُ» : أَي: منْ وَجَدَ شَرًّا أَو عُقُوبَةً فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُظْلَمْ، كَمَا مَرَّ مَعَنَا فِي البَابِ المَاضِي فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ

(2)

«كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا» فَنَسَبَ الإِهْلَاكَ إِلَى نَفْسِ الإِنْسَانِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ ذَلِكَ.

- فِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى ضَرُورَةِ سُؤَالِ اللهِ تَعَالَى الحَاجَاتِ كُلَّهَا، بِخِلَافِ مَنْ تَنَطَّعَ وَاسْتَحَبَّ أَنْ لَا يَطْلُبَ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا أُمُورَ الآخِرَةِ! قَالَتْ أُمُّ المُؤْمِنِينَ؛ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا:" سَلُوا اللهَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى الشَّسْعَ؛ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ اللهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ"

(3)

.

(1)

البُخَارِيُّ (6463)، وَمُسْلِمٌ (2816).

(2)

مُسْلِمٌ (223).

(3)

صَحِيحٌ مَوقُوفٌ. أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ (4560)، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ اليَومِ وَاللَّيلَةِ (1/ 314) عَنْ عَائِشَةَ مَوقُوفًا. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثَ الضَّعِيفَةَ (1363).

ص: 272

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: قَولُهُ تَعَالَى -فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ-: «كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيتُهُ» ، يُشْكِلُ مَعَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ المَرْفُوعِ «كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فأَبَوَاه يُهَوِّدَانِهِ، أَو يُنَصِّرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ»

(1)

مِنْ جِهَةِ حُصُولِ الهِدَايَةِ ابْتِدَاءً! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ الخِطَابَ فِي حَدِيثِ البَابِ هُوَ عَنِ المُكَلَّفِينَ الَّذِينَ تَبَيَّنَ سَعْيُهُم، وَاخْتَارُوا طَرِيقَهُم، بَينَمَا الحَدِيثُ الآخَرُ: الكَلَامُ فِيهِ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُكَلَّفُوا بَعْدُ.

2 -

أَنَّ مَعْنَى الفِطْرَةِ فِي هَذَا الحَدِيثِ الثَّانِي هُوَ الاسْتِعْدَادُ لِقَبُولِ الإِسْلَامِ؛ وَلَيسَ هُوَ نَفْسَ الإِسْلَامِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " قَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «يَقُولُ اللهُ عز وجل: خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ -وَفِي رِوَايَةٍ: مُسْلِمِينَ- فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ»

(2)

وَلَيسَ كَذَلِكَ! فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ بَنِي آدَمَ، وَفَطَرَهُمْ عَلَى قَبُولِ الإِسْلَامِ، وَالمَيلِ إِلَيهِ دُونَ غَيرِهِ، وَالتَّهَيُّؤِ لِذَلِكَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ بِالقُوَّةِ، لَكِنْ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ تَعْلِيمِ الإِسْلَامِ بِالفِعْلِ؛ فَإِنَّهُ قَبْلَ التَّعْلِيمِ جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ شَيئًا، كَمَا قَالَ عز وجل:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيئًا} [النَّحْل: 78]، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضُّحَى: 7]، وَالمُرَادُ: وَجَدَكَ غَيرَ عَالِمٍ بِمَا عَلَّمَكَ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ"

(3)

.

(1)

البُخَارِيُّ (1358)، وَمُسْلِمٌ (2658).

(2)

مُسْلِمٌ (2865) مَرْفُوعًا.

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 39).

ص: 273

المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا أَنْوَاعُ الهِدَايَةِ عُمُومًا؟

الجَوَابُ: أَنْوَاعُ الهِدَايَةِ -المَعْنَوِيَّةِ- فِي الشَّرِيعَةِ أَرْبَعَةٌ:

1 -

هِدَايَةُ الفِطْرَةِ (الغَرِيزَةِ): وَهِيَ هِدَايَةُ المَخْلُوقِ إِلَى مَا فِيهِ بَقَاءُ حَيَاتِهِ وَحُسْنُ مَعَاشِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عليه السلام:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طَه: 50]، يَعْنِي هَدَاهُ إِلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ فِي دُنْيَاهُ، كَهِدَايَةِ الطَّيرِ إِلَى صُنْعِ العُشِّ، وَهِدَايَةِ الرَّضِيعِ إِلَى الثَّدْي وَما أَشْبَهَ.

2 -

هِدَايَةُ الدِّلَالَةِ وَالإِرْشَادِ: وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَنْ دَلَّ إِلَى الخَيرِ، وَهِيَ الأَكْثَرُ فِي القُرْآنِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَومٍ هَادٍ} [الرَّعْد:7].

3 -

هِدَايَةُ التَّوفِيقِ لِلإِيمَانِ: وَهِيَ خَاصَّةٌ بِاللهِ عز وجل؛ فَهُوَ الَّذِي يُوَفِّقْ وَيُلْهِم، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا تَوفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هُود: 88]،

وَكَمَا قَالَ تَعَالَى أَيضًا: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القَصَص: 56]

(1)

.

4 -

هِدَايَةُ دُخُولِ الجَنَّةِ أَوِ النَّارِ: وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الإِيمَانِ وَالكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يُونُس: 9]،

(1)

قَالَ الإِمَامُ الرَّازِي رحمه الله: "قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشُّورَى: 52]! وَلَا تَنَافِيَ بَينَهُمَا؛ فَإِنَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ وَأَضَافَهُ إِلَيهِ: الدَّعْوَةُ وَالبَيَانُ، وَالَّذِي نَفَى عَنْهُ هِدَايَةُ التَّوفِيقِ، وَشَرْحُ الصَّدْرِ، وَهُوَ نُورٌ يُقْذَفُ فِي القَلْبِ فَيَحْيَا بِهِ القَلْبُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} [الأَنْعَام: 122] الآيَةُ". تَفْسِيرُ الرَّازِي (5/ 25).

ص: 274

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَولَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأَعْرَاف: 43].

وِهِدَايَةُ أَهْلِ النَّارِ إِلَى دُخُولِ النَّارِ هِيَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصَّافَّات: 23، 24]

(1)

.

وَيُتَنَبَّهُ أَيضًا إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الهِدَايَةِ -يُقَابِلُ الهِدَايَةَ المَعْنَوِيَّةَ- وَهُوَ الهِدَايَةُ الحِسِّيَّةُ، كَمَا فِي قَوْلِه تَعَالَى:{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشُّعَرَاء: 62]؛ " فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى كَمَا يَهْدِي إِلَى الطَّرِيقِ المَعْنَوِيِّ يَهْدِي أَيضًا إِلَى الطَّرِيقِ الحِسِّيِّ؛ لِقَولِهِ: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، وَلَيسَ المُرَادُ هُنَا هِدَايَةُ العِلْمِ وَالتَّوْفِيقِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ! وَإِنَّمَا المُرَادُ بِالهِدَايَةِ لِطَرِيقِ النَّجَاةِ الَّتِي يَنْجُو بِهَا؛ فَهَدَاهُ اللهُ سبحانه وتعالى"

(2)

.

وَكَقَولِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عليه الصلاة والسلام: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القَصَص: 22]" يَقُولُ: عَسَى رَبِّي أَنْ يُبَيِّنَ لِي قَصْدَ السَّبِيلِ إِلَى مَدْيَنَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الطَّرِيقَ إِلَيهَا"

(3)

.

(1)

يُنْظَرُ: (بَصَائِرُ ذَوِي التَّمْيِيزِ) لِلفَيرُوزآبَادِي (5/ 313)، (فَتْحُ البَارِي) لِابْنِ حَجَرٍ (11/ 515).

(2)

يُنْظَرُ: تَفْسِيرُ ابْنِ عُثَيمِين لِسُورَةِ الشُّعَرَاءِ (ص: 134).

(3)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (19/ 549).

ص: 275

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَنْ يَبْلُغَ العِبَادُ ضَرَّهُ؛ فَمَا الجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ البُخَارِيِّ الصَّحِيحِ «قَالَ اللهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ -وَأَنَا الدَّهْرُ- أُقَلِّبُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ»

(1)

؟

الجَوَابُ: لَا يَلْزَمُ مِنَ الأَذِيَّةِ الضَّرَرُ! فَالإِنْسَانُ مَثَلًا يَتَأَذَّى بِسَمَاعِ القَبِيحِ أَو مُشَاهَدَتِهِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَأَيضًا يَتَأَذَّى بِالرَّائِحَةِ الكَرِيهَةِ -كَالبَصَلِ وَالثُّومِ- وَلَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ! وَلِهَذَا أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى الأَذِيَّةَ فِي القُرْآنِ وَنَفَى الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأَحْزَاب: 57]، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَيضًا:{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الكُفْرَ بِالأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عِمْرَان: 177].

فَأَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى حُصُولَ الأَذَى وَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ الضَّرَرَ سُبْحَانَهُ، وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى:{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}

[آل عِمْرَان: 111].

(1)

البُخَارِيُّ (4826) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 276

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: بِمَ يَخْتَلِفُ الحَدِيثُ القُدُسِيُّ عَنِ القُرْآنِ؟

الجَوَابُ: الحَدِيثُ القُدُسِيُّ هُوَ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى كَالقُرْآنِ -مِنْ جِهَةِ كَونِهِ وَحْيًا-؛ لَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ عَنْهُ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ؛ مِنْهَا:

1 -

أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ التَّحَدِّي لِلمُشْرِكِينَ -أَي: مِنْ جِهَةِ الإِعْجَازِ- كَمَا جَاءَ فِي القُرْآنِ.

قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لَا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَو كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإِسْرَاء: 88]، أَمَّا الحَدِيثُ القُدُسِيُّ فَمِنْهُ مَا زُوِّرَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَهَذَا مَعْرُوفٌ.

2 -

أَنَّ القُرْآنَ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّبْدِيلِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجْر: 9] بِخِلَافِ الأَحَادِيثِ القُدُسِيَّةِ؛ فَفِيهَا الصَّحِيحُ وَفِيهَا الضَّعِيفُ.

فَالقُرْآنُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ القَطْعِيِّ المُفِيدِ لِلعِلْمِ اليَقِينِيِّ؛ فَلَو أَنْكَرَ مُنْكِرٌ مِنْهُ حَرْفًا أَجْمَعَ القُرَّاءُ عَلَيهِ كَانَ كَافِرًا؛ بِخِلَافِ الأَحَادِيثِ القُدُسِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَو أَنْكَرَ شَيئًا مِنْهَا لَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ.

3 -

أَنَّهُ لَا يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ كَالقُرْآنِ؛ فَلَا يُقَالُ فِيهِ: الحَرْفُ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ كَالقُرْآنِ!

كَمَا فِي الحَدِيثِ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ -وَالحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا-، لَا أَقُولُ {ألم} حَرْفٌ، وَلكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ،

وَمِيمٌ حَرْفٌ»

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2910) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3327).

ص: 277

وَعَلَى هَذَا الوَجْهِ أَيضًا أَنَّهُ لَا يُبْدَأُ بِالتَّعُوُّذِ وَالبَسْمَلَةِ قَبْلَ ذِكْرِهِ!

4 -

أَنَّ القُرْآنَ لَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالمَعْنَى؛ بِخِلَافِ الحَدِيثِ القُدُسِيِّ فَيَجُوزُ.

5 -

أَنَّ القُرْآن تُشْرَعُ قِرَاءَتُهُ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْهُ مَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِ قِرَاءَتِهِ؛ بِخِلَافِ الأَحَادِيثِ القُدُسِيَّةِ

(1)

.

(1)

وَأَضَافَ إِلَيهَا الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله أوجها؛ مِنْهَا -عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُ- فِي شَرْحِهِ عَلَى الأَرْبَعِينَ (ص: 237): "أَنَّ القُرْآنَ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا طَاهِرٌ عَلَى الأَصَحِّ؛ بِخِلَافِ الأَحَادِيثِ القُدُسِيَّةِ، وَمِنْهَا: أَنَّ القُرْآنَ لَا يَقْرَؤُهُ الجُنُبُ حَتَّى يَغْتَسِلَ؛ بِخِلَافِ الأَحَادِيثِ القُدُسِيَّةِ".

قُلْتُ: وَأَيضًا اخْتَلَفُوا فِي كَونِ اللَّفْظِ وَالمَعْنَى -فِي الأَحَادِيثِ القُدُسِيَّةِ- مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ أَمْ أَنَّ المَعْنَى فَقَط هُوَ مِنَ اللهِ تَعَالَى دُونَ لَفْظِهِ لِئَلَّا يُمَاثِلَ القُرْآنَ؛ فَلَا يَكُونُ ثَمَّ تَفْرِيقٌ بَينَهُمَا أَصْلًا! وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 278

‌الحَدِيثُ الخَامِسُ وَالعِشْرُونَ: (ذَهَبَ أَهَلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ)

عَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه أَيضًا: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالوا لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: يَا رَسُولَ اللهِ؛ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ! يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ! قَالَ:«أَوَ لَيسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟! إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمَيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بالِمَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَيَاتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ: «أَرَأَيتُمْ لَو وَضَعَهَا فَي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فَي الحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

- قَولُهُم: (الدُّثُورُ): جَمْعُ الدَّثْرِ -بِالفَتْحِ-، وَهُوَ المَالُ الكَثِيرُ، وَالمَعْنَى أَهْلُ الغِنَى.

- قَولُهُم: (ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ): أَي: تَفَرَّدُوا عَنَّا بِالصَّدَقَةِ؛ لِكَونِهِم أَغْنِيَاءَ وَنَحْنُ فُقَرَاءُ.

- التَّصَدُّقُ هُنَا هُوَ مِنْ بَابِ ضَرْبِ المِثَالِ الأَوضَحِ عَلَى التَّفْرِيقِ بَينَ الأَغْنِيَاءِ وَالفُقَرَاءِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الأَغْنِيَاءَ يَتَفَرَّدُونَ أَيضًا بِالعِتْقِ وَالحَجِّ وَالعُمْرَةِ وَالجِهَادِ

(1)

مُسْلِمٌ (1006).

ص: 279

بِالمَالِ، وَحَمْلِ النَّاسِ فِي الجِهَادِ، وَغَيرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.

كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَى وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، فَقَالَ:«وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ؛ وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَفَلَا أُعَلِّمُكُم شَيئًا تُدرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُم، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُم، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُم إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُم؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ

(1)

ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً»

(2)

، قَالَ أَبُو صَالِحٍ

(3)

: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المَائِدَة: 54]»

(4)

.

- قَولُهُ: «أَوَ لَيسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟» : فِيهِ أَنَّ الفُقَرَاءَ يُمْكِنُهُم التَّصَدُّقُ أَيضًا بِغَيرِ المَالِ، وَهَذَا رَاجِعٌ لِفَهْم مَعْنَى الصَّدَقَةِ عُمُومًا.

(1)

الصَّلَوَاتُ هُنَا هِيَ المَكْتُوبَةُ، لِوُرُودِ لَفْظٍ يَخُصُّهَا؛ فَيُحْمَلُ المُطْلَقُ عَلَى المُقَيَّدِ. انْظُرْ كِتَابَ (عُمْدَةُ القَارِي) لِلعَينِي (6/ 130).

(2)

فَائِدَةٌ:

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَمُقْتَضَى الحَدِيثِ أَنَّ الذِّكْرَ المَذْكُورَ يُقَالُ عِنْدَ الفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَو تَأَخَّرَ ذَلِكَ عَنِ الفَرَاغِ؛ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا بِحَيثُ لَا يُعَدُّ مُعْرِضًا أَو كَانَ نَاسِيًا أَو مُتَشَاغِلًا بِمَا وَرَدَ أَيضًا بَعْدَ الصَّلَاةِ كَآيَةِ الكُرْسِيِّ فَلَا يَضُرُّ، وَعَلى هَذَا هَلْ يَكُونُ التَّشَاغُلُ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ بِالرَّاتِبَةِ بَعْدَهَا فَاصِلًا بَينَ المَكْتُوبَةِ وَالذِّكْرِ أَو لَا؟ مَحَلُّ نَظَرٍ". فَتْحُ البَارِي (2/ 328).

(3)

أَبُو صَالِحِ السَّمَّانُ: ذَكْوانُ، تَابِعِيٌّ مِنَ الوُسْطَى، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ (ت 101 هـ).

(4)

البُخَارِيُّ (843)، وَمُسْلِمٌ (595).

ص: 280

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " فَالصَّدَقَةُ تُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ فِعْلِ المَعْرُوفِ وَالإِحْسَانِ"

(1)

، وَدَلَّ لِذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»

(2)

، وَبَوَّبَ عَلَيهِ النَّوَوِيُّ رحمه الله بِبَابِ (بَيَانُ أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ نَوعٍ مِنَ المَعْرُوفِ).

وَعَلَيهِ يُفْهَمُ مَعْنَى حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: (قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: {لَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النِّسَاء: 101] فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ! فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ؛ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:«صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»

(3)

.

قُلْتُ: فَصَارَ المَعْنَى هُنَا أَنَّ الصَّدَقَةَ هِيَ فَضْلُ اللهِ الوَاصِلُ مِنْهُ تَعَالَى إِلَى عِبَادِهِ.

- إِنَّ الصَّدَقَةَ بِمَعْنَاهَا العَامِّ -وَهُوَ إِيصَالُ الخَيرِ- نَوعَانِ:

1 -

إِيصَالُ الخَيرِ لِلنَّفْسِ: وَأَشَارَ إِلَيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في ذِكْرِ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ.

2 -

إِيصَالُ الخَيرِ إِلَى الغَيرِ: وَأَشَارَ إِلَيهِ في ذِكْرِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ

(4)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 58).

(2)

مُسْلِمٌ (1005)، وَهُوَ عِنْدَ البُخَارِيِّ (6021) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه.

(3)

مُسْلِمٌ (686).

(4)

وَأَمَّا قَولُهُ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» فَيَشْمَلُ الاثْنَينَ مَعًا، حَيثُ يُرَادُ بِذَلِكَ إِحْصَانُ نَفْسِهِ وَزَوجِهِ.

ص: 281

وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» ، قِيلَ: أَرَأَيتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يَعْتَمِلُ بِيَديهِ؛ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ» ، قَالَ: أَرَأَيتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: «يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ» ، قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: «يَامُرُ بِالمَعْرُوفِ أَوِ الخَيرِ» ، قَالَ: أَرَأَيتَ إِنْ لَمْ يفْعَلْ؟ قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ»

(1)

.

- قَولُهُ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» : البِضْعُ -لُغَةً- بَعْضُ الشَّيءِ، وَمَعْنَاهُ: الفَرْجُ، وَالمَقْصُودُ بِهِ الجِمَاعُ، وَهَذَا مِنْ شَرِيفِ الكَلَامِ؛ بِأَنْ لَا يُذْكَرَ مَا يُسْتَحْيَا ذِكْرُهُ صَرَاحَةً.

(1)

البُخَارِيُّ (6022)، وَمُسْلِمٌ (1008).

ص: 282

- تَنْبِيهٌ:

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: " وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا الصَّدَقَةُ مِمَّنْ يَطْلُبُ جَزَاءَهَا وَأَجْرَهَا! وَالصَّحِيحُ خِلَافُ ذَلِكَ"

(1)

.

قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لِلْمَطْلُوبِ أَيضًا مَا فِي الحَدِيثِ «مَا مِنِ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيلٍ يَغْلِبُهُ عَلَيهَا نَومٌ؛ إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَومُهُ عَلِيهِ صَدَقَةً»

(2)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 58).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1314) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5691).

ص: 283

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: بِنَاءً عَلَى قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: «فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فَي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» ؛ اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي مَسْأَلَةٍ: هَلْ يُؤْجَرُ المُسْلِمُ بِإِتْيَانِهِ الحَلَالَ دُونَ نِيَّةٍ؛ أَمْ لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ؟ فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ: الرَّاجِحُ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ؛ وَذَلِكَ لِأُمُورٍ:

1 -

جَمْعًا مَعَ النُّصُوصِ الكَثِيرَةِ الوَارِدَةِ فِي أَنَّ العَمَلَ المَاجُورَ عَلَيهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

.

وَكَمَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيهَا؛ حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ»

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله عِنْدَ حَدِيث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ هَذَا: " وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ للهِ؛ فَتُحْمَلُ الأَحَادِيثُ المُطْلَقَةُ عَلَيهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ"

(3)

.

2 -

أَنَّ الحَدِيثَ فِيهِ نِيَّةُ إِيجَادِ الوَلَدِ الصَّالِحِ ضِمْنًا، كَمَا دَلَّ لِذَلِكَ أَحَدُ أَلْفَاظِ الحَدِيث.

قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كَيفَ يَكُونُ لِي أَجْرٌ فِي شَهْوَتِي؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيتَ لَو كَانَ لَكَ وَلَدٌ فَأَدْرَكَ وَرَجَوتَ أَجْرَهُ، ثُمَّ مَاتَ؛ أَكُنْتَ تَحْتَسِبُهُ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«أَفَأَنْتَ خَلَقْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: بَلِ اللهُ خَلَقَهُ، قَالَ:«أَفَأَنْتَ هَدَيتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: بَلِ

(1)

البُخَارِيُّ (1)، وَمُسْلِمٌ (1907).

(2)

البُخَارِيُّ (56)، وَمُسْلِمٌ (1628).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 65).

ص: 284

اللهُ هَدَاهُ، قَالَ:«أَفَأَنْتَ كُنْتَ تَرْزُقُهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: بَلِ اللهُ يَرْزُقُهُ، قَالَ:«كَذَلِكَ فَضعهُ فِي حَلالِهِ وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ؛ فَإِنْ شَاءَ اللهُ أَحْيَاهُ وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ؛ وَلَكَ أَجْرُهُ»

(1)

، وَالشَّاهِدُ قَولُهُ:«فَضعهُ فِي حَلالِهِ وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ» .

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: " وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى جِمَاعِهِ لِأَهْلِهِ بِنِيَّةِ طَلَبِ الْوَلَدِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ الْأَجْرُ عَلَى تَرْبِيَتِهِ وَتَادِيبِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَيَحْتَسِبُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا بِقَضَاءِ شَهْوَتِهِ؛ فَهَذَا قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي دُخُولِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:«وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا» ، وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ:«إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ -وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا-؛ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ»

(2)

، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُؤْجَرُ فِيهَا إِذَا احْتَسَبَهَا عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً -تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ- إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا؛ حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» خَرَّجَاهُ

(3)

"

(4)

.

وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المُبَاحَاتِ تَصِيرُ طَاعَاتٍ بِالنِّيَّاتِ الصَّادِقَاتِ، فَالجِمَاعُ يَكُون عِبَادَةً إِذَا نَوَى بِهِ قَضَاءَ حَقِّ الزَّوجَةِ،

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21484) عَنْ أَبِي ذرٍّ. الصَّحِيحَةُ (575).

(2)

البُخَارِيُّ (5351)، وَمُسْلِمٌ (1002).

(3)

البُخَارِيُّ (56)، وَمُسْلِمٌ (1628).

(4)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 62).

ص: 285

وَمُعَاشَرَتَهَا بِالمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، أَو طَلَبَ وَلَدٍ صَالِحٍ، أَو إِعْفَافَ نَفْسِهِ؛ أَو إِعْفَافَ الزَّوجَةِ؛ وَمَنْعَهُمَا جَمِيعًا مِنَ النَّظَرِ إِلَى حَرَامٍ؛ أَوِ الفِكْرِ فِيهِ؛ أَوِ الهَمِّ بِهِ، أَو غَيرَ ذَلِكَ مِنَ المَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ"

(1)

.

3 -

أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ -مَوضِعَ الاسْتِدْلَالِ- لَيسَ فِيهِ عَدَمُ النِّيَّةِ! بَلِ

المَفْهُومُ وُجُودُ النِّيَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ العَكْسِ؛ لِقَولِهِ:«لَو وُضِعَ فِي الحَرَامِ؛ أَلَيسَ كَانَ عَلَيهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِنْ وَضَعَهَا فِي الحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي

تَرْكِ الحَرَامِ، وَالبُعْدِ عَنْهُ، وَابْتِغَاءِ الحَلَالِ عِوضًا عَنْهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الحَدِيثِ

أَنَّ الإِمْسَاكَ عَنِ الشَّرِّ صَدَقَةٌ

(2)

، وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِالنِّيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالحَمْدُ للهِ

عَلَى تَوفِيقِهِ.

(1)

شَرْحُ مُسْلِم لِلْنَّوَوِيِّ (7/ 92).

(2)

البُخَارِيُّ (1445)، وَمُسْلِمٌ (1008).

ص: 286

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي شَرْحِ البَابِ جَاءَ حَدِيثُ أَبي هُرَيرَةَ الَّذِي فِيهِ «أَفَلَا أُعَلِّمُكم شَيئًا تُدرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُم»

(1)

؛ وَفِيمَا يُدْرِكُونَه الجِهَادُ، وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ مَعَ حَدِيثِ الصَّحِيحِينِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا حِينَ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَعْدِلُ الجِهَادَ؛ فَقَالَ:«هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِد أَنْ تَقُومَ فَلَا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ فَلَا تُفْطِرَ؟»

(2)

وَفِيهِ أَنَّ عَمَلَ المُجَاهِدِ لَا يُدْرَكُ لَا بِصَلَاةٍ وَلَا بِصِيَامٍ! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ: أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ سَأَلَ عَنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فِي مُدَّةِ جِهَادِ المُجَاهِدِ مِنْ حِينِ خُرُوجِهِ مِنْ بَيتِهِ إِلَى قُدُومِهِ، فَهَذَا الَّذِي لَا يَعْدِلُه شَيءٌ مِنْ تِلْكَ الأَعْمَالِ، أَمَّا الفُقَرَاءُ فَقَدْ دَلَّهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَمَلٍ يُصَاحِبُهُم فِي مُدَّة عُمُرِهِم؛ وَهُوَ ذِكْرُ اللهِ الكَثِيرُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ جِهَادٍ بِالنَّفْسِ وَالمَالِ يَقَعُ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ وَيَتَوَقَّفُ فِي أَكْثَرِ الأَحْيَانِ

(3)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: -نَقْلًا عَنِ ابْنِ بَزِيزَةَ

(4)

-: " الذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ تَقْدِيمُ الجِهَاد عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ البَدَنِ لِأَنَّ فِيهِ بَذْلَ النَّفَسِ؛ إِلَّا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى المُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَأَدَائِهَا فِي أَوقَاتِهَا، وَالمُحَافَظَةَ عَلَى بِرِّ الوَالِدَينِ أَمْرٌ لَازِمٌ مُتَكَرِّرٌ دَائِمٌ لَا يَصْبِرُ عَلَى مُرَاقَبَةِ أَمْرِ اللهِ فِيهِ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ، وَاللهُ أَعْلَمُ"

(5)

.

(1)

وَمِثْلُهُ حَدِيثُ «أَلَا أُخْبِرْكُمْ بِخَيرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيرٍ لَكُمْ مِنْ تَعَاطِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «ذِكْرُ اللهِ عز وجل» . صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3377) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2629).

(2)

البُخَارِيُّ (2785)، وَمُسْلِمٌ (1878).

(3)

أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)(7/ 407) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(4)

مِنْ عُلَمَاءِ المَالِكِيَّةِ المَغَارِبَةِ، تُوفِّيَ قُرَابَةَ (700) لِلْهِجْرَةِ.

(5)

فَتْحُ البَارِي (2/ 10).

ص: 287

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُون وَاجِبًا وُجُوبًا عَينِيًّا، أَو كِفَائِيًّا، أَو يَكُونُ مُسْتَحَبًّا؛ فَمَا تَفْصِيلُ ذَلِكَ؟

الجَوَابُ: تَفْصِيلُ ذَلِكَ:

1 -

أَنَّ الوَاجِبَ عَينًا يَكُونُ عَلَى مَنْ قَدِرَ عَلَيهِ وَلَمْ يُوجَدْ غَيرُهُ.

2 -

وَالوَاجِبُ كِفَايَةً يَكُون لِمَن قَدِرَ عَلَيهِ وَلَكِنْ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ.

3 -

وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَذَلِكَ فِي الأَمْرِ بِالمُعْرُوفِ المُسْتَحَبِّ.

ص: 288

‌الحَدِيثُ السَّادِسُ وَالعِشْرُونَ: (كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ)

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، تَعْدِلُ بَينَ اثْنَينِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلَهُ عَلَيهَا؛ أَو تَرْفَعُ لَهُ عَلَيهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ

(1)

.

- هَذَا الحَدِيثُ أَصْلٌ فِي شُكْرِ النِّعَمِ للهِ تَعَالَى -الوَاجِبِ وَالمُسْتَحَبِّ-، قَالَ تَعَالَى:{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}

[المُلْك: 23].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: " {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} أَي: مَا أَقَلَّ مَا تَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ القِوَى الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيكُم فِي طَاعَتِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ"

(2)

.

وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيدٍ

(3)

أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَيهِ ضِيقَ حَالِهِ، فَقَالَ لَهُ يُونُسُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّ لَكَ بِبَصَرِكَ هَذَا الَّذِي تُبْصِرُ بِهِ مِئَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ الرَّجُلُ: لَا، قَالَ: فَبِيَدِكَ

(1)

البُخَارِيُّ (2928)، وَمُسْلِمٌ (1009).

(2)

تَفْسِيرُ ابْنُ كَثِيرٍ (8/ 182).

(3)

هُوَ يُونُسُ بْنُ عُبَيدِ بْنِ دِينَارٍ الكُوفِيِّ العَبْدِيِّ، مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ (ت 140 هـ). انْظُرْ (طَبَقَاتُ الحُفَّاظِ) لِلسُّيُوطِيِّ (ص: 69).

ص: 289

مِئَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَبِرِجْلَيكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَذكَّرَهُ نِعَمَ اللهِ عَلَيهِ، فَقَالَ يُونُسُ: أَرَى عِنْدَكَ مِئِينَ أُلُوفٍ؛ وَأَنْتَ تَشْكُوا الحَاجَةَ!

(1)

وَرَوَى البَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ بَكْرٍ المُزَنِيِّ؛ قَالَ: " يَا ابْنَ آدَمَ، إنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ قَدْرَ مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيكَ، فَغمِّضْ عَينَيكَ"، وَقَالَ بَعْضُهُم:" كَمْ مِنْ نِعْمَةٍ للهِ فِي عِرْقٍ سَاكِنٍ"

(2)

.

فَهَذِهِ النِّعَمُ مِمَّا يُسْأَلُ الإِنْسَانُ عَنْ شُكْرِهَا يَومَ القِيَامَةِ، وَيُطَالَبُ بِهَا كَمَا

قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَومَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التَّكَاثُر: 8]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه -فِي قَولِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَومَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} - قَالَ: " النَّعِيمُ: صِحَّةُ الأَبْدَانِ وَالأَسْمَاعِ وَالأَبْصَارِ، يَسْأَلُ اللهُ العِبَادَ فِيمَا اسْتَعْمَلُوهَا -وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُم- وَهُوَ قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإِسْرَاء: 36] "

(3)

.

- قَولُهُ: «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ» : السُّلَامَى هِيَ العَظْمُ أَوِ المِفْصَلُ، فَعَلَى كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ فِي كُلِّ يَومٍ، وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ بَنِي آدَمَ صَدَقَةٌ»

(4)

.

- جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ السُّلَامَى ثَلَاثُمَائَةٍ وَسِتُّونَ مِفْصَلًا.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى

(1)

سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ (6/ 292).

(2)

شُعَبُ الإِيمَانِ (4151).

(3)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (24/ 582).

(4)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (9133) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (574).

ص: 290

سِتِّينَ وَثَلَاثِمَائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وَحَمِدَ اللهَ، وَهَلَّلَ اللهَ، وَسَبَّحَ اللهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَو شَوكَةً أَو عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَو نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ - عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ السُّلَامَى-؛ فَإِنَّهُ يَمْشِي يَومَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ». قَالَ أَبُو تَوبَةَ: وَرُبَّمَا قَالَ: «يُمْسِي»

(1)

.

- فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ قَولُهُ: «كُلُّ مِيسَمٍ» بَدَلَ «كُلُّ سُلَاَمَى» ، وَالمِيسَمُ: كُلَّ عُضْوٍ عَلَى حِدَةٍ، مَاخُوذٌ مِنَ الوَسْمِ: وَهُوَ العَلَامَةُ، أَي: كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ عَلَيكَ وَأَثَرِ صُنْعِ اللهِ لَكَ فِي بَدَنِكَ مِنْ عَظْمٍ وَعِرْقٍ وَعَصَبٍ؛ فَيَجِبُ عَلَى العَبْدِ الشُّكْرُ عَلَى ذَلِكَ للهِ، وَالحَمْدُ لَهُ عَلَى خَلْقِهِ سَوِيًّا صَحِيحًا.

- إِنَّ شُكْرَ النِّعَمِ هُوَ نِعْمَةٌ أُخْرَى مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى العَبْدِ، وَهِيَ أَنْفَعُ لِلعَبْدِ مِنَ النِّعْمَةِ نَفْسِهَا، لِأَنَّ هَذَا الشُّكْرَ فَضْلُهُ رَاجِعٌ إِلَى العَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً؛ فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ؛ إَلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ»

(2)

.

- فِي الحَدِيثِ ذِكْرُ أَمْثِلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ لِلصَّدَقَاتِ اللَّازِمَةِ وَالمُتَعَدِّيَةِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الحَصْرِ، فَاللَّازِمَةُ مَا اقْتَصَرَ نَفْعُهَا عَلَى نَفْسِ العَبْدِ، وَالمُتَعَدِّيَةُ مَا تَعَدَّى نَفْعُهَا إِلَى الغَيرِ.

- الشُّكْرُ يَكُونُ عَلَى دَرَجَتَينِ:

1 -

دَرَجَةٍ وَاجِبَةٍ: وَهِيَ أَنْ يَاتِيَ بِالوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَجْتَنِبَ المَحَارِمَ، فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ كَافٍ فِي شُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ.

(1)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1007). وَ (أَبُو تَوبَةَ) هُوَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، ثِقَةٌ حَافِظٌ (ت 241 هـ).

(2)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (3805) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5563).

ص: 291

2 -

دَرَجَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ: وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ العَبْدُ بَعْدَ أَدَاءِ الفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ المَحَارِمِ بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ، وَهَذِهِ دَرَجَةُ السَّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ، وَهِيَ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُومُ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فَيَقُولُ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(1)

.

- فِي الحَدِيثِ قَولُهُ: عليه الصلاة والسلام: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ فِي كُلِّ يَومٍ صَدَقَةٌ، فَلَهُ بِكُلِّ صَلَاةٍ صَدَقَةٌ، وَصِيَامٍ صَدَقَةٌ، وَحَجٍّ صَدَقَةٌ، وَتَسْبِيحٍ صَدَقَةٌ، وَتَكْبِيرٍ صَدَقَةٌ، وَتَحْمِيدٍ صَدَقَةٌ، وَيَجْزِي أَحَدَكُمْ مِنْ ذلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى»

(2)

.

فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ هَذِهِ المَفَاصِلُ فِي رَكْعَتَينِ تَرْكَعْهُمَا مِنَ الضُّحَى فَقَدْ أَدَّيتَ الشُّكْرَ المُسْتَحَبَّ لِهَذِهِ المَفَاصِلِ

(3)

.

وَإنَّمَا كَانَتَا مُجْزِئَتَينِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ اسْتِعْمَالًا لِلأَعْضَاءِ كُلِّهَا فِي الطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ؛ فَتَكُونُ كَافِيَةً فِي شُكْرِ نِعْمَةِ سَلَامَةِ هَذِهِ الأَعْضَاءِ.

- قَولُهُ: «تَعْدِلُ بَينَ اثْنَينِ صَدَقَةٌ» : أَي أَنْ تُصْلِحَ بَينَهُمَا بِالعَدْلِ، وَلَا يَجُوزُ الإِصْلَاحُ بِلَا عَدْلٍ!

(1)

البُخَارِيُّ (1130)، وَمُسْلِمٌ (2819).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (1286) عَنْ أَبِي ذرٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (8089).

(3)

أَفَادَهُ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي شَرْحِهِ عَلَى الأَرْبَعِينَ (ص: 263).

وَقَالَ أَيضًا: "الرَّاجِحُ أَنَّهُ تُسَنُّ المُدَاوَمَةُ عَلَى رَكْعَتَي الضُّحَى.

وَوَقْتُهَا: مِنِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَيدَ رُمْحٍ -فِي رَاي العَينِ- إِلَى قُبَيلِ الزَّوَالِ، يَعْنِي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِنَحْوِ ثُلُثِ سَاعَةٍ إِلَى قُبَيلِ الزَّوَالِ بِعَشْرِ أَو خَمْسِ دَقَائِقَ، وَآخِرُ الوَقْتِ أَفْضَلُ، وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ، وَأَكْثَرُهَا لَا حَدَّ لَهُ؛ فَصَلِّ مَا شِئْتَ فَأَنْتَ عَلَى خَيرٍ".

ص: 292

- قَولُهُ: "الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ": هِيَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ لِلنَّفْسِ وَلِلغَيرِ، وَمُخَاطَبَةُ النَّاسِ بِمَا فِيهِ السُّرُورُ، وَجَمْعُ القُلُوبِ وَتَأْلِيفُهَا.

ص: 293

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- مَسْأَلَةٌ: قَولُهُ: «وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلَهُ عَلَيهَا» هَلْ يَشْمَلُ -مِنْ بَابِ أَولَى- أَنَّكَ لَو وَجَدْتَ إِنْسَانًا عَلَى الطَّرِيقِ وَطَلَبَ مِنْكَ أَنْ تَحْمِلَهُ إِلَى بَلَدٍ فَحَمَلْتَهُ بِسَيَّارَتِكَ؟ وَما حُكْمُ ذَلِكَ؟

الجَوَابُ: أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي هَذَا، وَأَمَّا مِنْ حَيثُ الحُكْمِ؛ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ فِي مَهْلَكَةٍ

(1)

وَأَمِنْتَ مِنْهُ؛ وَجَبَ عَلَيكَ أَنْ تَحْمِلَهُ، وَإِنْ لَمْ تَامَنْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ فَلَا يَلْزَمُكَ أَنْ تَحْمِلَهُ، مِثْلَ أَنْ تَخَافَ أَنْ يَغْتَالَكَ أَو يُحَوِّلَ مَسِيرَكَ إِلَى اتِّجَاهٍ آخَرَ بِالقُوَّةِ! فَلَا يَلْزَمُكَ لِقَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»

(2)

.

(1)

وَالمَهْلَكَةُ تَكُونُ إِمَّا لِقِلَّةِ المَاشِي فِيهَا، أَو لِأَنَّ فِيهَا قُطَّاعَ طَرِيقٍ رُبَّمَا يَقْضُونَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ.

(2)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (2341) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (250).

ص: 294

‌الحَدِيثُ السَّابِعُ وَالعِشْرُونَ: (البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ)

عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ

(1)

رضي الله عنه؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«البِرُّ: حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ: مَا حَاكَ في نَفْسِكَ وكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيهِ النَّاسُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ؛ قَالَ: أَتَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرُّ وَالإِثْمِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:«اسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ البِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيهِ القَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتُوكَ» . رُوِّينَاهُ فِي مُسْنَدَيِّ الإِمَامَينِ: أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ، وَالدَّارِمِيِّ؛ بِإِسْنَادٍ حَسَنٌ

(3)

.

- البِرُّ: كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الخَيرِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} [المَائِدَة: 2]، فَالبِرُّ يَكُونُ بِمَعْنَى الصِّلَةِ، وَبِمَعْنَى الصَّدَقَةِ، وَبِمَعْنَى اللُّطْفِ وَالمَبَرَّةِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالعِشْرَةِ، وَبِمَعْنَى الطَّاعَةِ، وَهَذِهِ الأُمُورُ هِيَ مَجَامِعُ حُسْنِ الخُلُقِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " فَقَدْ يَكُونُ المُرَادُ بِالبِرِّ: مُعَامَلَةَ الخَلْقِ بِالإِحْسَانِ، وَبِالتَّقْوَى: مُعَامَلَةَ الحَقِّ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مُحَرَّمَاتِهِ،

(1)

سَمْعَان: بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا.

(2)

مُسْلِمٌ (2553).

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (18001)، وَالدَّارِمِيُّ (2575). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (1734).

ص: 295

وَقَدْ يَكُونُ أُرِيدَ بِالبِرِّ فِعْلُ الوَاجِبَاتِ، وَبِالتَّقْوَى: اجْتِنَابُ المُحَرَّمَاتِ،

وَقَولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} [المَائِدَةِ:2] قَدْ يُرَادُ بِالإِثْمِ: المَعَاصِي، وَبِالعُدْوَانِ: ظُلْمُ الخَلْقِ، وَقَدْ يُرَادُ بِالإِثْمِ: مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الخَمْرِ، وَبِالعُدْوَانِ: تَجَاوُزُ مَا أُذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ

مِمَّا جِنْسُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ، كَقَتْلِ مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ لِقِصَاصٍ وَمَنْ لَا يُبَاحُ، وَأَخْذِ زِيَادَةٍ

عَلَى الوَاجِبِ مِنَ النَّاسِ فِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمُجَاوَزَةِ الجَلْدِ فِي الَّذِي أُمِرَ بِهِ

فِي الحُدُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ"

(1)

.

- أَنْوَاعُ البِرِّ:

1 -

بِرٌّ بَينَ العَبْدِ وَرَبِّهِ: وَهُوَ الإِيمَانُ، قَالَ تَعَالَى:{لَيسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [البَقَرَة: 177].

2 -

بِرٌّ بَينَ العَبْدِ وَبَينَ النَّاسِ: وَهُوَ أَنْ تُخَالِقَهُم بِأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ، كَبَذْلِ النَّدَى (المَعْرُوفِ)، وَكَفِّ الأَذَى، وَكَظْمِ الغَيظِ، وَأَنْ تُحْسِنَ إِلَى الخَلْقِ، وَأَنْ تَجْزِيَ بِالسَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ، وَأَنْ تَعْفُوَ عَنِ المُسِيءِ.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 98).

ص: 296

- حُسْنُ الخُلُقِ نَوعَانِ:

1 -

غَرِيزَيٌّ: كَمَا فِي الحَدِيثِ: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ أَخْلَاقكُمْ كَمَا قَسَمَ أَرْزَاقكُمْ»

(1)

.

2 -

مُكْتَسَبٌ: وَيَكُونُ بِالتَّخَلُّقِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالغَيرِ.

كَمَا فِي حَدِيثِ أَشَجِّ عَبْدِ القَيسِ؛ أَنَّهُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ» ، قُلْتُ: مَا هُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الحِلْمُ وَالحَيَاءُ» ، قُلْتُ: أَقَدِيمًا كَانَا فِيَّ أَو حَدِيثًا؟ قَالَ: «بَلْ قَدِيمٌ» ، قُلْتُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا

(2)

.

- قَولُهُ: «وَالإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ» : أَي: تَرَدَّدَ، وَصِرْتَ مِنْهُ فِي قَلَقٍ.

- قَولُهُ: «وكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيهِ النَّاسُ» : وَذَلِكَ لِأَنَّكَ تَرَى أَنَّهُ مَحَلُّ ذَمٍّ وَعَيبٍ.

- قَولُهُ: «وَالإثْمُ: مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيهِ النَّاسُ» : الإِثْمُ هُنَا هُوَ مَا يُقَابِلُ البِرَّ: وَيُعْرَفُ بِصِفَتَينِ:

1 -

صِفَةٍ بَاطِنَةٍ «مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ» : أَي: مَا حَزَّ فِي نَفْسِكِ وَأَثَّر فِيهِ.

2 -

صِفَةٍ ظَاهِرَةٍ «كَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيهِ النَّاسُ» : أَي: لِعِلْمِكَ أَنَّهُ مِمَّا يُنْكَرُ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى حَدِيثِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي مَسْعُود البَدْرِيِّ مَرْفُوعًا «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» وَقَدْ سَبَقَ.

- قَولُهُ: «وَالإثْمُ: مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيهِ النَّاسُ» : هَذِهِ الجُمْلَةُ إِنَّمَا يُخَاطَبُ بِهَا مَنْ كَانَ قَلْبُهُ صَافِيًا سَلِيمًا، أَمَّا المُتَمَرِّدُونَ الخَارِجُونَ

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (275) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2714).

(2)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (584) عَنِ الأَشَجِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (455).

ص: 297

عَنْ طَاعَةِ اللهِ؛ الَّذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُم؛ فَهُؤُلَاءِ لَا يُبَالُونَ، بَلْ رُبَّمَا يَتَبَجَّحُونَ بِفِعْلِ المُنْكَرِ وَالإِثْمِ! فَالكَلَامُ هُنَا لَيسَ عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ لِمَنْ كَانَ قَلْبُهُ سَلِيمًا طَاهِرًا نَقِيًّا مَعْرُوفًا صَاحِبُهُ بِالاسْتِقَامَةِ.

- المُرَادُ بِاطِّلَاعِ النَّاسِ هُنَا فِي الحَدِيثِ هُمْ أَمَاثِلُهُم وَوُجُوهُهُم، لَا غَوغَاؤُهُم!

- قَولُهُ: «البِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيهِ النَّفْسُ» : أَي: أَنَّ نَفْسَكَ لَا تُحَدِّثُكَ بِالخُرُوجِ عَنْهُ.

- قَولُهُ: «وَاطْمَأَنَّ إِلَيهِ القَلْبُ» : اطْمَأَنَّ: أَي: اسْتَقَرَّ

(1)

إِلَيهِ القَلْبُ وَرَضِيَ بِهِ وَانْشَرَحَ بِهِ.

- مَعْنَى الطُّمَانِينَةِ هُنَا: هُوَ السُّكُونُ إِلَى الفِعْلِ وَالرَّاحَةُ فِيهِ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ حَدِيثِ «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَانِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ»

(2)

.

فَالصِّدْقُ يَتَمَيَّزُ عَنِ الكَذِبِ بِسُكُونِ القَلْبِ إِلَيهِ وَمَعْرِفَتِهِ؛ وَأَنَّ الَّذِي تَرْتَابُ مِنْهُ يُشْبِهِ الكَذِبَ فِي نَفْسِكَ؛ فَإِنَّكَ تَجِدُ عِنْدَهُ الضِّيقَ فِي صَدْرِكَ؛ فَدَعْهُ إِلَى أَمْرٍ لَا تَرْتَابُ فِيهِ، وَعَلَامَتُهُ أَنَّهُ كَالصِّدْقِ لَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ حَرَجًا أَو ضِيقًا مِنْهُ، فَارْتِيَابُكَ مِنَ الشَّيءِ مُشْعِرٌ بِكَونِهِ مَظِنَّةً لِلبَاطِلِ؛ فَاحْذَرْهُ، وَطُمَانِينَتُكَ لِلشَيءِ مُشْعِرَةٌ بِحَقِيقَتِهِ؛ فَتَمَسَّكْ بِهِ.

- قَولُهُ: «وِإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتُوكَ» : أَي: عُلَمَاؤُهُم، كَمَا فِي رِوَايَةِ «وَإِنْ أَفْتَاكَ المُفْتُونَ»

(3)

.

(1)

وَمِنْهُ قَولُهُ فِي حَدِيثِ المُسِيءِ صَلَاتَهُ «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا» : أَي: تَسْتَقِرَّ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (757)، وَمُسْلِمٌ (397) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2518) عَنِ الحَسَنِ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3378).

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (17742) عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2881).

ص: 298

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ جَوَامِعِ الكَلِمِ الَّتِي أُوتِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ حَيثُ أَجَابَ السَّائِلَ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ، كَمَا فِي سِيَاقِ الحَدِيثِ عَنْ وَابِصَةَ؛ قَالَ:" أَتَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيئًا مِنَ البِرِّ وَالإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ".

- فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى فِطْرَةِ اللهِ لِعِبَادِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ الحَقِّ وَالسُّكُونِ إِلَيهِ، وَالنُّفُورِ عَنْ ضِدِّهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «مَا أَنْكَرَ قَلْبُكَ فَدَعْهُ»

(1)

، وَكَمَا فِي الأَثَرِ " الإِثْمُ حَوَازُّ القُلُوبِ"

(2)

.

- فَائِدَةٌ: إِنَّ طُمَانِينَةَ البَاطِنِ وَعَدَمَهَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ المَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى المُكَلَّفِ، أَو تَضَارُبِ الحُجَجِ لَدَيهِ، أَمَّا لَدَى وُضُوحِ دَلِيلِهَا، أَوِ اتِّفَاقِ مَنْ أَفْتَى بِهَا؛ فَلَيسَتْ مَقْصُودَةً فِي هَذَا الحَدِيثِ، وَإِنَّمَا يُذَمُّ صَاحِبُهَا، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ

(3)

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ نَاسًا بِالإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ، فَبَقِيَ مِنْهُم بَقِيَّةٌ لَمْ يُفْطِرُوا، فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: إِنَّ أُنَاسًا لَمْ يُفْطِرُوا! فَقَالَ: «أُولَئِكَ العُصَاةُ، أُولَئِكَ العُصَاةُ»

(4)

.

(1)

صَحِيحٌ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي (تَارِيخِ دِمَشْق)(3966) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيجٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2230).

(2)

صَحِيحٌ. البَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (6892) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوقُوفًا. الصَّحِيحَةُ (2613).

وَ (حَوَازُّ): جَمْعُ حَازَّةٍ، وَهِيَ الأُمُورُ الَّتِي تَحُزُّ فِي القُلُوبِ وَتَحُكُّ وَتُؤَثِّرُ، وَيَتَخَالَجُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مَعَاصِيَ لِفَقْدِ الطُّمَأنِينَة إِلَيهَا. القَامُوسُ المُحِيطُ (ص: 509).

(3)

مُسْلِمٌ (1114).

(4)

وَهَذَا كَمَنْ يَرَى التَّمَنُّعَ عَنِ القَصْرِ فِي الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، أَوِ التَّرَخُّصَ فِي الجَمْعِ لِلسَّفَرِ! وَكَمَنْ لَا يَتَرَخَّصُ لِلمَسْحِ عَلَى الخُفَّينِ لِعَدَمِ طُمَانِينَتِهِ لِذَلِكَ!

ص: 299

- مَسْأَلَةٌ عَلَى الحَدِيثِ: مَا حُكْمُ تَرَدُّدِ المُكَلَّفِ فِي العَمَلِ؟

الجَوَابُ: هَذَا التَّرَدُّدُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

1 -

مَا وَرَدَ النَّصُّ الشَّرْعِيُّ بِهِ مِنْ كِتَابٍ أَو سُنَّةٍ أَو إِجْمَاعٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى فِي النَّفْسِ تَرَدُّدٌ مِنْهُ.

2 -

إِذَا اخْتَلَفَ المُفْتُونَ -وَقَدْ أَوضَحَ المُسْتَفْتِي لَهُم حَالَهُ-؛ فَإِنَّ عَلَيهِ أَنْ يَاخُذَ بِفَتْوَى الأَعْلَمِ الأَفْقَهِ مِنْهُم، وَمَنْ تَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ لِصِحَّةِ فَتْوَاهُ.

3 -

إِذَا لَمْ يُحْسِنِ السُّؤَالَ، أَو أَنَّ المُفْتِيَ لَمْ يَسْتَفْصِلْ مِنْهُ بِشَكْلٍ كَافٍ؛ فَيَقَعُ فِي قَلْبِ السَّائِلِ أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى فِي جَوَابِ المُفْتِي؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَيهِ الكَلَامُ فِي الحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَاخُذُ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيهِ نَفْسُهُ.

ص: 300

‌الحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالعِشْرُونَ: (عَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ)

عَن أَبِي نَجِيحٍ؛ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنهَا العُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَأَنَّهَا مَوعِظَةُ مُوَدِّعٍ؛ فَأَوصِنَا، قَالَ:«أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عز وجل، وَالسَّمعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيكُمْ عَبْدٌ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ؛ وَقَالَ: حَدِيث حَسَنٌ صَحِيحٌ

(1)

.

- جَاءَ فِي لَفْظٍ آخَرَ لِلْحَدِيثِ «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيضَاءِ، لَيلُهَا كَنَهَارِهَا،

لَا يَزيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ؛ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا؛ فَإِنَّمَا المُؤْمِنُ كَالجَمَلِ الأَنِفِ؛ حَيثُمَا قِيدَ انْقَادَ»

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4607)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2676). صَحِيحُ الجَامِعِ (2549).

(2)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (43) وأَحْمَد (17142). الصَّحِيحَةُ (937).

وَالمَحَجَّةُ البَيضَاءُ: هِي جَادَّةُ الطَّرِيقِ. انْظُرِ: (التَّنْوِيرُ شَرْحُ الجَامِعِ الصَّغِيرِ) للصَّنْعَانِيِّ (8/ 49).

وَالجَمَلُ الأَنِفُ: أَيِ الَّذِي جُعِلَ الزِّمَامُ فِي أَنْفِهِ؛ فَيَجُرُّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ إِلَى حَيثُ يَشَاءُ، حَيثُمَا قِيدَ -أَي: سِيقَ-. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْظُرْ حَاشِيَةَ السِّنْدِيِّ عَلَى سُنَنِ ابْنِ مَاجَه (1/ 21).

ص: 301

- هَذَا الحَدِيثُ أَصْلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي التَّمَسُّكِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِسُنَّةِ أَصْحَابِهِ، وَذَمِّ المُبْتَدَعَاتِ وَكُلِّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِهِم رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِم مِنَ الاعْتِقَادَاتِ وَالأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ.

وَلِذَلِكَ كَانَ أَهْلُ العِلْمِ يُورِدُونَهُ عِنْدَهُم فِي العَقَائِدِ وَالأُصُولِ، وَاُنْظُرْ تَبْوِيبَاتِهِمُ التَّالِيَةَ فِي كُتُبِهِم:

1 -

شَرْحُ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِللَّالِكَائِيِّ: " سِيَاقُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُم وَالخَالِفِينَ لَهُم مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ"

(1)

.

2 -

السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ: " بَابُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنِ اِتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينِ"

(2)

.

3 -

سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ: " بَابٌ فِي لُزُومِ السُّنَّةِ"

(3)

.

4 -

سُنَنُ ابْنِ مَاجَه: " بَابُ اتِّبَاعِ سُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ"

(4)

.

5 -

سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ: " بَابُ مَا جَاءَ فِي الأَخْذِ بِالسُّنَّةِ وَاجْتِنَابِ البِدَعِ"

(5)

.

6 -

شُعَبُ الإِيمَانِ لِلبَيهَقِيِّ: " فَصْلٌ فِي فَضْلِ الجَمَاعَةِ والأُلْفَةِ، وَكَرَاهِيَةِ الاخْتِلَافِ وَالفُرْقَةِ، وَمَا جَاءَ فِي إِكْرَامِ السُّلْطَانِ وَتَوقِيرِهِ"

(6)

.

(1)

شَرْحُ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِللَّالِكَائِيِّ (1/ 82).

(2)

السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (1/ 30).

(3)

سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (4/ 200).

(4)

سُنَنُ ابْنِ مَاجَه (1/ 15).

(5)

سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (4/ 341).

(6)

شُعَبُ الإِيمَانِ لِلبَيهَقِيِّ (10/ 16).

ص: 302

7 -

صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ: " ذِكْرُ وَصْفِ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ مِنْ بَينِ الفِرَقِ الَّتِي تَفْتَرِقُ عَلَيهَا أُمَّةُ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

8 -

شَرْحُ السُّنَّةِ لِلبَغَوِيِّ: " بَابُ الاعْتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ"

(2)

.

9 -

السُّنَنُ الوَارِدَةُ فِي الفِتَنِ لِأَبِي عَمْرُو الدَّانِي: " بَابُ الِاسْتِمْسَاكِ بِالدِّينِ وَاللُّزُومِ عَلَى السُّنَّةِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ وَظُهُورِ الفِتَنِ"

(3)

.

10 -

الشَّرِيعَةُ لِلآجُرِّيِّ: " بَابُ الحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللهِ عز وجل، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَسُنَّةِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم، وَتَرْكِ البِدَعِ، وَتَرْكِ النَّظَرِ وَالجِدَالِ فِيمَا يُخَالِفُ فِيهِ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَقَولَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم"

(4)

.

- الوَعْظُ: هُوَ التَّذْكِيرُ بِمَا يُلَيِّنُ القَلْبَ سَوَاءً كَانَتِ المَوعِظَةُ تَرْغِيبًا أَو تَرْهِيبًا

(5)

، وَالسُّنَّةُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ فِي الأَيَّامِ -أَي: كُلَّ فَتْرَةٍ-، كَمَا فِي الحَدِيثِ

" كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِالمَوعِظَةِ فِي الأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَينَا"

(6)

.

- قَولُهُ: «بِتَقْوَى اللهِ»

(7)

: التَّقْوَى: هِيَ أَنْ تَجْعَلَ بَينَكَ وَبَينَ مَا تَكْرَهُ وِقَايَةً،

(1)

صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (1/ 178).

(2)

شَرْحُ السُّنَّةِ لِلبَغَوِيِّ (1/ 189).

(3)

السُّنَنُ الوَارِدَةُ فِي الفِتَنِ لِأَبِي عَمْرُو الدَّانِي (2/ 373).

(4)

الشَّرِيعَةُ لِلآجُرِّيِّ (1/ 398).

(5)

وَقَالَ بَعْضُهُم: المَوعِظَةُ هِيَ ذِكْرُ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَقْرُونًا بِالتَّرْغِيبِ أَوِ التَّرْهِيبِ.

(6)

صَحِيح البُخَارِيِّ (68) تَحْتَ بَابِ (مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهُمْ بِالمَوعِظَةِ وَالعِلْمِ كَي لَا يَنْفِرُوا)، وِبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ؛ قَالَ:"كَانَ عَبْدُ اللهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَومٍ! قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالمَوعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَينَا".

(7)

التَّقْوَى أَصْلُهَا (وَقْوَى)، فَالتَّاءُ فِيهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَهِيَ مِنَ الوِقَايَةِ، وَقَاهُ يَقِيهِ وِقَايَةً.

وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ الحَدِيثِ الثَّامِنَ عَشَرَ بَيَانُ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، وَسَبَقَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 187].

ص: 303

وَشَرْعًا: مَنْ جَعَلَ بَينَهُ وَبَينَ سَخَطِ اللهِ وَعَذَابِهِ وِقَايَةً.

- قَولُهُ: «وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» : هَذِهِ لِلأَمِيرِ، فَالسَّمْعُ إِذَا تَكَلَّمَ، وَالطَّاعَةُ إِذَا أَمَرَ، وَهِيَ مِنْ ثَمَرَاتِ البَيعَةِ لَهُ.

وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ المُسْلِمَ إِذَا بَايَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَأَهْلِ الحَلِّ وَالعَقْدِ؛ فَإِنَّ بَيعَتَهُم لَهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ هِيَ مُبَايَعَةٌ لِبَقِيَّةِ المُسْلِمِينَ، كَمَا جَرَى فِي مُبَايَعَةِ الوُفُودِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَكَذَا كَانَ عَمَلُ أَهْلِ الإِسْلَامِ.

- إِنَّ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِلأَمِيرِ المُسْلِمِ لَهَا قَيدَانِ:

1 -

أَنْ تَكُونَ فِي غَيرِ المَعْصِيَةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»

(1)

، وَهَذَا يَشْمَلُ الوَاجِبَاتِ وَالمُبَاحَاتِ.

أ- فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ مِنَ الوَاجِبَاتِ؛ صَارَتِ الطَّاعَةُ هُنَا لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى.

ب- وَإِنْ كَانَ الأَمْرُ مِنَ المُبَاحَاتِ؛ صَارَتِ الطَّاعَةُ هُنَا لِحَقِّ الأَمِيرِ المُسْلِمِ نَفْسِهِ.

(1)

وَالحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي البُخَارِيِّ (4340) عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ؛ فَقَالَ: أَلَيسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوقِدُوا نَارًا، فَأَوقَدُوهَا، فَقَالَ: اُدْخُلُوهَا، فَهَمُّوا -وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا- وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ؛ فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«لَو دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ» .

ص: 304

2 -

أَنَّ الطَّاعَةَ تَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالحُكْمِ وَرِعَايَةِ النَّاسِ، وَلَيسَتْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِشُؤُونِ النَّاسِ الدَّاخِلِيَّةِ.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: " فَلَو قَالَ لَكَ الأَمِيرُ مَثَلًا: لَا تَاكُلِ اليَومَ إِلَّا وَجْبَتَينِ، أَو مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَجِبْ عَلَيكَ أَنْ تُوَافِقَ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيكَ أَنْ تُنَابِذَ -بِمَعْنَى أَنْ تَعْصِيَهُ جِهَارًا-؛ لِأَنَّ هَذَا يُفْسِدُ النَّاسَ عَلَيهِ"

(1)

.

قُلْتُ: وَمِثْلُهُ إِمَارَةُ السَّفَرِ تَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ السَّفَرِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَتَأَمَّلْ كَيفَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُسَعِّرْ عَلَى النَّاسِ لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ فِي حُقُوقِهِم،

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ المُسَعِّرُ، القَابِضُ، البَاسِطُ، الرَّزَّاقُ،

وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ»

(2)

.

فَالحَدِيثُ " فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّسْعِيرَ تَصَرُّفٌ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِغَيرِ إِذْنِ أَهْلِهَا، فَيَكُونُ ظُلْمًا، فَلَيسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَعِّرَ، لَكِنْ يَامُرُهُمْ بِالإِنْصَافِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الخَلْقِ وَالنَّصِيحَةِ"

(3)

.

- النَّوَاجِذُ: هِيَ الأَضْرَاسُ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ التَّمَسُّكِ.

- قَولُهُ: «مُحْدَثَاتِ الأُمُورِ» : هِيَ الَّتِي أُحْدِثَتْ عَلَى غَيرِ أَصْلٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ

(4)

.

- الوَصِيَّةُ فِي الحَدِيثِ لَهَا جَانِبَانِ، الأَوَّلُ: هُوَ التَّقْوَى، وَهَذِهِ بَينَ العَبْدِ

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص: 279).

(2)

صَحِيحُ وَضَعِيفُ التِّرْمِذِيِّ (1314).

(3)

انْظُرْ حَاشِيَةَ السِّنْدِيِّ عَلَى سُنَنِ ابْنِ مَاجَه (2/ 20).

(4)

وَلْيُرَاجَعْ لُزُومًا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مُلْحَقِ الحَدِيثِ الخَامِسِ حَولَ تَقْسِيمِ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ لِلْمُحْدَثَاتِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ.

ص: 305

وَرَبِّهِ، وَالثَّانِي: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، وَهَذِهِ بَينَ المُسْلِمِ وَإِمَامِهِ.

- فِي الحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ حُصُولُ الاخْتِلَافِ فِي الأُمَّةِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ العِصْمَةِ مِنْ أَثَرِ هَذَا الاخْتِلَافِ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ يَتَرَجَّحُ مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.

- قَولُهُ: «فَعَلَيكُم» : " اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى: الزَمُوا، أَي: بِطَرِيقَتِي الثَّابِتَةِ عَنِّي وَاجِبًا أَو مَنْدُوبًا، «وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ» فَإِنَّهُم لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي، فَالإِضَافَةُ إِلَيهِم: إِمَّا لِعَمَلِهم بِهَا، أَو لِاسِتْنِبَاطِهِم وَاخْتِيَارِهِم إِيَّاهَا"

(1)

.

- فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلخُلَفَاءِ سُنَّةً مُتَّبَعَةً.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَالسُّنَّةُ: هِيَ الطَّرِيقَةُ المَسْلُوكَةُ، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِمَا كَانَ عَلَيهِ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالأَعْمَالِ وَالأَقْوَالِ، وَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الكَامِلَةُ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ قَدِيمًا لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُّنَّةِ إِلَّا عَلَى مَا يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ وَالأَوزَاعِيِّ وَالفُضَيلِ بْنِ عِيَاضٍ"

(2)

.

وَقَالَ البَغَوِيُّ رحمه الله: " وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الوَاحِدَ مِنَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إِذَا قَالَ قَولًا -وَخالَفَهُ غَيرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ-؛ كَانَ المَصِيرُ إِلَى قَولِهِ أَولَى، وَإِلَيهِ ذَهَبَ

(1)

قَالَهُ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَارِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ)(1/ 252).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 120).

ص: 306

الشَّافِعِيُّ فِي القَدِيمِ"

(1)

.

- فِي حُجِيَّةِ قَولِ الخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ مُلَاحَظَتَانِ:

1 -

مَا جَمَعَ عُمَرُ عَلَيهِ الصَّحَابَةَ فَاجْتَمَعُوا عَلَيهِ فِي عَصْرِهِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الحَقُّ -وَلَو خَالَفَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ-.

2 -

مَا لَمْ يَجْمَعْ عُمَرُ النَّاسَ عَلَيهِ؛ بَلْ كَانَ لَهُ فِيهِ رَايٌ -وَهُوَ يُسَوِّغُ لِغَيرِهِ أَنْ يَرَى رَايًا يُخَالِفُ رَايَهُ- كَمَسَائِلِ الجَدِّ مَعَ الإِخْوَةِ، وَمَسْأَلَةِ طَلَاقِ البَتَّةِ؛ فَلَا يَكُونُ قَولُ عُمَرَ فِيهِ حُجَّةً عَلَى غَيرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(2)

.

- الخِلَافَةُ الرَّاشِدَةُ: هِيَ رَاشِدَةٌ مِنَ الرَّشَدِ وَهُوَ ضِدُّ السَّفَهِ، وَالرَّشَدُ هُوَ العِلْمُ بِالحَقِّ وَالعَمَلُ بِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ مِنْ بَعْدِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، كَمَا فِي الحَدِيثِ «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ المُلْكَ مَنْ يَشَاءُ -أَو مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ-»

(3)

.

(1)

شَرْحُ السُّنَّةِ (1/ 207).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 125) -بِحَذْفٍ يَسِيرٍ- فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَنْ عُمَرَ الفَارُوقِ رضي الله عنه، وَالمَقْصُودُ عُمُومُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَمَا لَا يَخْفَى.

(3)

حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (4647) عَنْ سَفِينَةَ مَولَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. الصَّحِيحَةُ (459).

وَعِنْدَ أَحْمَدَ (21919) وَغَيرِهِ عَنْ سَفِينَةَ؛ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ المُلْكُ». قَالَ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه سَنَتَينِ؛ وَخِلَافَةَ عُمَرَ رضي الله عنه عَشْرَ سِنِينَ؛ وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ رضي الله عنه اثْنَي عَشْرَ سَنَةً؛ وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ".

ص: 307

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَنِ المَقْصُودُ بِالخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى وَجْهِ الإِجْمَالِ؟

الجَوَابُ: الظَّاهِرُ مِن قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: «الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ» أَنَّ هَذِهِ أَوْصَافٌ لَا أَعْيَانٌ؛ فَلَا تَقْتَصِرُ عَلَى الأَرْبَعَةِ المُجْمَعِ عَلَيهِم فَقَط!

قَالَ الإِمَامُ الآجُرِّيُّ رحمه الله: " عَلَامَةُ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا: سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ، كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسُنَنِ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ،

وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَى آخِرِ مَا كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ،

مِثْلَ الْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِمْ، وَمُجَانَبَةُ كُلِّ مَذْهَبٍ يَذُمُّهُ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ"

(1)

.

وَقَدْ تَرْجَمَ لِحَدِيثِ البَابِ الإِمَامُ اللَّالَكَائِيُّ رحمه الله فَقَالَ: " سِيَاقُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُم وَالخَالِفِينَ لَهُم مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ"

(2)

.

وَقَالَ الإِمَامُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: " المَقْصُودُ مِن الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ الفَارُوقُ، وَعُثْمَانُ ذُو النُّورَينِ، وَعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. هَؤُلَاءِ الأَرْبَعَةُ بِاتِّفَاقِهِم، ثُمَّ أَهْلُ الحَدِيثِ يَضُمُّونَ إِلَى هَؤُلَاءِ الأَرْبَعَةِ: عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ -وَهُوَ لَهُ صِلَةٌ بِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ مِن جِهَةِ ابْنَتِهِ-، هَؤُلَاءِ هُمُ الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، ثُمَّ مَن سَارَ عَلَى دَرْبِهِم، وَسَلَكَ طَرِيقَهُم

(1)

الشَّرِيعَةُ لِلآجُرِيِّ (1/ 300).

(2)

شَرْحُ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِللَّالِكَائِيِّ (1/ 82).

ص: 308

وَعَلَى نَهْجِهِم مِن الحُكَّامِ"

(1)

.

وَقَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِينَ رحمه الله: " الصَّحِيحُ أَنَّ صِفَةَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مُعَلَّقَةٌ بِأَوْصَافٍ لَا بِأَعْيَانٍ؛ يَعْنِي: لَيسَ الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ هُمُ الأَرْبَعَةُ! بَلْ كُلُّ مَن خَلَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي أُمَّتِهِ عِلْمًا وَدَعْوَةً وَتَعْلِيمًا؛ هَذَا خَلِيفَةٌ رَاشِدٌ، وَأَرْشَدُ مَن خَلَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُمُ الصَّحَابَةُ رُجُوعًا إِلَى حُكْمِ اللهِ عز وجل"

(2)

.

قُلْتُ: وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا التَّعْمِيمِ مَا ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ بِأَنَّ «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ المُلْكَ مَنْ يَشَاءُ -أَو مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ-» -وَقَدْ سَبَقَ-،

وَأَنَّ هَذَا يَحْصُرُ الخِلَافَةَ الرَّاشِدَةَ -قَدَرًا- فِي هَؤُلَاءِ الأَرْبَعَةِ فَقَط رضي الله عنهم! وَذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الفَتْرَةَ الزَّمَنِيَّةَ لَا تَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَدْ يَاتِي بَعْدَهَا مَا هُوَ مِنَ الخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ! وَإِنَّمَا فِيهَا التَّنْصِيصُ -قَدَرًا- عَلَى الرَّشَدِ فِي خِلَافَةِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ المَعْرُوفِينَ رضي الله عنهم.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ، ثُمَّ سَكَتَ»

(3)

.

(1)

جَامِعُ تُرَاثِ العَلَّامَةِ الأَلْبَانِيِّ فِي المَنْهَجِ وَالأَحْدَاثِ الكُبْرَى (1/ 76).

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ عُثَيمِينَ لِسُورَةِ الشُّورَى (ص: 92).

(3)

حَسَنٌ. مُسْنَدُ أَحْمَدَ (18406). الصَّحِيحَةُ (5).

وَتَتِمَّةُ الحَدِيثِ "قَالَ حَبِيبٌ: فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي صَحَابَتِهِ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ -يَعْنِي عُمَرَ- بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ، فَأُدْخِلَ كِتَابِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسُرَّ بِهِ وَأَعْجَبَهُ".

وَتَعَقَّبَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله ذَلِكَ بِقَولِهِ: "وَمِنَ البَعِيدِ عِنْدِي حَمْلُ الحَدِيثِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، لِأَنَّ خِلَافَتَهُ كَانَتْ قَرِيبَةَ العَهْدِ بِالخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ وَلَمْ تَكُنْ بَعْدَ مُلْكَينِ: مُلْكٍ عَاضٍّ وَمُلْكٍ جَبْرِيَّةٍ! وَاللهُ أَعْلَمُ". الصَّحِيحَةُ (1/ 35).

ص: 309

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ الصَّحَابَةِ -وَعَلَى رَاسِهِم الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ-، وَكَمَا فِي البُخَارِيِّ «خَيرُ النَّاسِ قَرْنِي»

(1)

، وَلَكْنِ قَدْ وَرَدَ فِي نُصُوصٍ أُخَرَ صَحِيحَةٍ قَولُهُ:«إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ زَمَانَ صَبْرٍ؛ للمُتَمَسِّكِ فِيهِ أَجْرُ خَمْسِينَ شَهِيدًا» ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِنَّا أَو مِنْهُمْ؟ قَالَ:«مِنْكُمْ»

(2)

! فَمَا التَّوفِيقُ؟

وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ زِيَادَةِ الأَجْرِ فِي العَمَلِ زِيَادَةُ الفَضْلِ! أَي: أَنَّ الفَضْلَ الأَكْبَرَ هُوَ قَطْعًا لِلصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَدْ يُؤْجَرُ عَلَى فِعْلٍ مَا أَكْثَرَ مِمَّا يُؤْجَرُونَ هُمْ عَلَى نَفْسِ الفِعْلِ، كَالحَدِيثِ السَّابِقِ.

فَأَفْضَلِيَّةُ الصَّحَابَةِ أَفْضَلِيَّةٌ مِنْ حَيثُ العُمُومِ وَالجِنْسِ؛ لَا مِنْ حَيثُ الأَفْرَادِ مُطْلَقًا! فَلَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ أفضل مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ -مِنْ جِهَةِ العِلْمِ وَالعِبَادَةِ مَثَلًا-! أَمَّا فَضْلُ الصُّحْبَةِ؛ فَلَا يَنَالُهُ أَحَدٌ غَيرُ الصَّحَابَةِ، وَلَا

(1)

البُخَارِيُّ (2652).

(2)

صَحِيحٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ (10/ 182) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. اُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الصَّحِيحَةِ (494).

ص: 310

أَحَدَ يَسْبِقُهُم فِيهِ.

2 -

أَنَّ هَذَا الأَجْرَ لَيسَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُقيَّدٌ بِأُمُورٍ هِيَ: ذَلِكَ الزَّمَنُ، وَذَلِكَ الصَّبْرُ، وَتِلْكَ الشِّدَّةُ، بَينَمَا فَضْلُ الصَّحَابَةِ دَائِمٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.

ص: 311

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَولُهُ: «وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيكُم عَبْدٌ»

(1)

كَيفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا مَعَ النُّصُوصِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ يُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطٌ مِنْهَا: أَنَّ يَكُونَ قُرَشِيًّا

(2)

، وَأَنْ يَكُونَ حُرًّا

(3)

؟!

الجَوَابُ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّ الحَدِيثَ جَاءَ لِضَرْبِ المَثَلِ فِي المُبَالَغَةِ فِي السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَقَدْ يُضْرَبُ المَثَلُ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا -وَلَو كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ- بَنَى اللهُ لَهُ بَيتًا فِي الجَنَّةِ»

(4)

(5)

.

2 -

أَنَّ قَولَهُ صلى الله عليه وسلم: «وَإِنْ تَأَمَّرَ» مَعْنَاهُ صَارَ أَمِيرًا بِالتَّغَلُّبِ، أَي: لَيسَ بِالاخْتِيَارِ، فَلَا يَجُوزُ اخْتِيَارُهُ عَلَى هَذِهِ الحَالِةِ ابْتِدَاءً؛ وَلَكِنْ إِنْ تَغَلَّبَ وَصَارَ أَمِيرًا بِالقُوَّةِ وَالسَّيفِ قَهْرًا فَهُنَا يَكُون لَهُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ.

3 -

أَنَّ كَونَهُ عَبْدًا؛ قَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَلَيسَ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، يَعْنِي لَا بِاعْتِبَارِ حَالِهِ الآنَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(1)

«حَبَشِيٌّ» كَمَا هُوَ لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ (2676) فِي سُنَنِهِ.

(2)

كَمَا فِي البُخَارِيِّ (3501) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ» .

وَعِنْدَ أَحْمَدَ (12900) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «الأئِمَّةُ مِنْ قرَيشٍ» . صَحِيحُ الجَامِعِ (2757).

(3)

قَالَ الشَّيخُ عَبْدُ المُحْسِنِ العَبَّادِ حَفِظَهُ اللهُ: "وَقَدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ العَبْدَ لَيسَ أَهْلًا لِلخِلَافَةِ". فَتْحُ القَوِيِّ المَتِينِ فِي شَرْحِ الأَرْبَعِينَ (ص: 97).

(4)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (738) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6128).

وَ (القَطَاةُ): نَوعٌ مِنَ اليَمَامِ، وَالمَعْنَى: المَوضِعُ الَّذِي تَتَّخِذُهُ لِبَيضِهَا. المُفْهِمُ لِلْقُرْطُبِيِّ (4/ 143).

(5)

المُفْهِمُ لِلْقُرْطُبِيِّ (4/ 37).

ص: 312

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ لِوَلِيِّ الأَمْرِ غَيرِ المُسْلِمِ -عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ- طَاعَةٌ؟

الجواب: الحَاكِمُ غَيرُ المُسْلِمِ يُطَاعُ فِيمَا هُوَ مِنَ المَعْرُوفِ، كَأَنْظِمَةِ المُرُورِ وَقَوَانِينِ المُؤَسَّسَاتِ العَامَّة ِوَ .... ؛ مِمَّا هُوَ ظَاهِرُ فِي المَعْرُوفِ وَالمَصْلَحَةِ العَامَّةِ مِنْ غَيرِ مَعْصِيَةٍ.

جَاءَ فِي فَتَاوَى الشَّيخِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ بَازٍ رحمه الله:

" سُؤَالٌ: مَا حُكْمُ سَنِّ القَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ العَمَلُ بِهَا؟ وَهَلْ يَكْفُرُ الحَاكِمُ بِسَنِّهِ هَذِهِ القَوَانِينَ؟

جَوَابٌ: إِذَا كَانَ القَانُونُ يُوَافِقُ الشَّرْعَ فَلَا بَاسَ بِهِ، مِثْلَ أَنْ يَسُنَّ قَانُونًا لِلطُّرُقِ يَنْفَعُ المُسْلِمِينَ وَغَيرَ ذَلِكَ مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي تَنْفَعُ المُسْلِمِينَ -وَلَيسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْعِ- وَلَكِنْ لِتَسْهِيلِ أُمُورِ المُسْلِمِينَ فَلَا بَاسَ بِهَا. أَمَّا القَوَانِينُ الَّتِي تُخَالِفُ الشَّرْعَ فَلَا يَجُوزُ سَنُّهَا، فَإِذَا سَنَّ قَانُونًا يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الزَّانِي، أَو لَا حَدَّ عَلَى السَّارِقِ، أَو لَا حَدَّ عَلَى شَارِبِ الخَمْرِ؛ فَهَذَا قَاُنونٌ بَاطِلٌ، وَإِذَا اسْتَحَلَّهُ الوَالِي كَفَرَ؛ لِكِونِهِ اسْتَحَلَّ مَا يُخَالِفُ النَّصَّ وَالإِجْمَاعَ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ المُحَرَّمَاتِ المُجْمَعِ عَلَيهَا فَهُوَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ.

سُؤَالٌ: كَيفَ نَتَعَامَلُ مَعَ هَذَا الوَالِي؟

جَوَابٌ: نُطِيعُهُ فِي المَعْرُوفِ وَلَيسَ فِي المَعْصِيَةِ حَتَّى يَاتِيَ اللهُ بِالبَدِيلِ"

(1)

.

(1)

مَجْمُوعُ فَتَاوَى ابْنِ بَازٍ (7/ 119).

ص: 313

‌الحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالعِشْرُونَ: (أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ)

عَن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ. قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ -وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ-: تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيتَ» ، ثُمَّ قَالَ:«أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيرِ: الصَّومُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوفِ اللَّيلِ» ثُمَّ تَلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَة: 16، 17]، ثُمَّ قَالَ:«أَلا أُخْبِرُكَ بِرَاسِ الأَمْرِ، وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟» قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«رَاسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ» ، ثُمَّ قَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟» قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: «كُفَّ عَلَيكَ هَذَا» ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ؛ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلَّا حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2616). الصَّحِيحَةُ (1122).

ص: 314

- قَولُهُ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ» : أَي: شَاقٌّ مِنْ حَيثُ الامْتِثَالِ، لَكِنَّهُ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيهِ.

- قَولُهُ: «تَعبُدُ اللهَ» : بِمَعْنَى تَتَذَلَّلُ لَهُ بِالعِبَادَةِ حُبًّا وَتَعْظِيمًا، مَاخُوذٌ مِنْ قَولِهِم: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ؛ أَي: مُمَهَّدٌ وَمُهَيَّأٌ لِلسَّيرِ عَلَيهِ.

وَالمَقْصُودُ أَنْ لَا تَعْبُدِ اللهَ وَأَنْتَ تَعْتَقِدُ أَنَّ لَكَ الفَضْلَ فِي قِيَامِكِ بِهَا! كَقَولِهِ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحُجُرَات: 17].

- قَولُهُ: «الصَّومُ جُنَّةٌ» : هُنَا المَقْصُودُ بِهِ صَومُ النَّفْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ صِيَامَ رَمَضَانَ، وَكَذَا الصَّدَقَةُ.

- قَولُهُ: «جُنَّةٌ» : يَعْنِي: وِقَايَةٌ، وَهِيَ وِقَايَةٌ مِنْ جِهَتَينِ: جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ فِي الآخِرَةِ، وَجُنَّةٌ مِنَ المَعَاصِي فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 183] فَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى الغَايَةَ مِنَ الصِّيَامِ تَحْصِيلَ التَّقْوَى.

- قَولُهُ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوفِ اللَّيلِ» : وَهُوَ قِيَامُ اللَّيلِ، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا القِيَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى الصَّدَقَةِ فِي أَنَّهُمَا يُطْفِئَانِ غَضَبَ الرَّبِّ تَعَالَى.

- قَولُهُ تَعَالَى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوفًا وَطَمَعًا} : أَي: إِنْ ذَكَرُوا ذُنُوبَهُم خَافُوا، وَإِنْ ذَكَرُوا فَضْلَ اللهِ طَمِعُوا، فَهُم بَينَ الخَوفِ وَالرَّجَاءِ.

- قَولُهُ: «رَاسُ الأَمْرِ» : أَي: أَمْرُ الإِنْسَانِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خُلِقَ، فَرَاسُهُ الإِسْلَامُ: أَي: أَنْ يُسْلِمَ للهِ تَعَالَى ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، فَهُوَ الاسْتِسْلَامُ

ص: 315

للهِ بِالتَّوحِيدِ، وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالانْقِيَادِ، وَالبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

- قَولُهُ: «عَمُودُهُ الصَّلَاةُ» : العَمُودُ هُوَ مَا يَقُومُ عَلَيهِ البِنَاءُ؛ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ العَبْدِ لَا يَكُونُ قَائِمًا سَوِيًّا إِلَّا بِالصَّلَاةِ.

- قَولُهُ: «ذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ» : تَشْبِيهٌ لِلأَمْرِ بِالجَمَلِ، وَالجَمَلُ أَعْلَاهُ ذِرْوَةُ السَّنَامِ، وَالمُرَادُ بِهِ هُنَا جِهَادُ الأَعْدَاءِ فِي الخَارِجِ.

وَسَبَبُ كَونِهِ ذِرْوَةَ السَّنَامِ هُوَ أَنَّ الذِّرْوَةَ هِيَ الأَعْلَى، فَبِالجِهَادِ يَعْلُو الإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ رَاسُ الأَمْرِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّاكِيدِ عَلَى أَنَّ هَذَا الجِهَادَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ سَبِيلَ اللهِ وَلَيسَ الحَمِيَّةَ وَالوَطَنِيَّةَ وَالقَومِيَّةَ!

- قَولُهُ: «بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ» : المِلَاكُ بِكَسْرِ المِيمِ وَفَتْحِهَا؛ أَي: مَقْصُودُهُ وَجِمَاعُهُ، وَمَا يُعْتَمَدُ عَلَيهِ.

- سَبَبُ كَونِ اللِّسَانِ هُوَ مِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ أَنَّهُ سَهْلُ الحَرَكَةِ، كَثِيرُ الخَطَايَا، وَكَفُّهُ لَيسَ عَلَى عُمُومِهِ؛ فَهُوَ كَمَا مَرَّ مَعَنَا فِي الحَدِيثِ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ؛ فَليَقُل خَيرًا أَو ليَصْمُتْ»

(1)

فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيرٍ.

- قَولُهُ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ» : أَي: صَارَتْ أمُّكَ ثَكْلَى بِمَوتِكِ، وَالثَّكْلَى هِيَ الَّتِي يَمُوتُ وَلَدُهَا، وَهَذَا مِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي تَقُولُهُ العَرَبُ وَلَا تَقْصِدُ حَقِيقَتَهُ؛ فَهُوَ مِنَ بَابِ الحَثِّ عَلَى الشَّيءِ.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ وَالمُبَاعَدَةَ عَنِ النَّارِ سَبَبُهُ العَمَلُ.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ قَدْ يُكَبُّونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم، لِقَولِهِ:

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6475)، وَمُسْلِمٌ (48) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 316

«وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم» ، وَهِيَ كَقَولِهِ تَعَالَى:{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ العَذَابِ} [الزُّمَر: 24]، فَأَهْلُ النَّارِ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ؛ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا إِلَّا بِوُجُوهِهِم، وَالمَعْنَى أَنَّهَا لَيسَتْ مَحْجُوبَةً عَنْهُم، بَلْ هِيَ تَمَسُّ أَكْثَرَ عُضْوٍ يَحْرِصُونَ عَلَى وِقَايَتِهِ.

ص: 317

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: يُشْكِلُ هَذَا الحَدِيثُ فِي قَولِهِ: «أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ» مَعَ حَدِيثِ «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَلَاَ أَنَا؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدِنِيَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ»

(1)

! فَمَا الجَمْعُ؟

الجَوَابُ: أَنَّ البَاءَ فِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ هِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، وَالتِي تُفِيدُ أَنَّ هَذَا العَمَلَ هُوَ سَبَبٌ لِهَذِهِ النَّتِيجَةِ، أَمَّا الحَدِيثُ الثَّانِي فَالبَاءُ فِيهِ هِيَ بَاءُ العِوَضِ، وَالتِي تُفِيدُ أَنَّ النَّتِيجَةَ مُقَابِلَةٌ وَمُسَاوِيَةٌ لِلسَّبَبِ، فَإِذَا قُلْتَ: بِعْتُكَ هَذَا الكِتَابَ بِدِرْهَمٍ؛ فَهَذِهِ لِلعِوَضِ، وَإِذَا قُلْتُ: أَكْرَمْتُكَ بِحُسْنِ خُلُقِي؛ فَهَذِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ

(2)

، فَالمَنْفِيُّ فِي الحَدِيثِ الثَّانِي هُوَ العِوَضُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الجَنَّةِ لَيسَ فَضْلًا وَعَطَاءً مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ، وَعَلَيهِ فَلَا تَعَارُضَ بَينَ الحَدِيثَينِ

(3)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6463)، وَمُسْلِمٌ (2816) عَنْ أَبي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

مِثَالُ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ قَولُهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزُّخْرُف:72].

(3)

وَتَأَمَّلْ قَولَهُ تَعَالَى فِي جَزَاءِ المُؤْمِنِينَ يَومَ القِيَامَةِ: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النَّبَأ: 36].

ص: 318

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يُذْكَرْ فِي الحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ؛ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَاتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ} [النَّحْل: 98]!

الجَوَابُ: قَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم العَمَلِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ تَامُرُ بِالاسْتِعَاذَةِ فِي حَالِ التِّلَاوَةِ وَلَيسَ فِي حَالِ الاسْتِشْهَادِ وَالاسْتِدْلَالِ، وَكُتُبُ الحَدِيثِ -مِنْ جِهَةِ الهَدْي النَّبَوِيِّ- تَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي رِسَالَتِهِ (القُذَاذَةُ فِي تَحْقِيقِ مَحَلِّ الِاسْتِعَاذَةِ): " الَّذِي ظَهَرَ لِي -مِنْ حَيثُ النَّقْلِ وَالِاسْتِدْلَالِ- أَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يَقُولَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى؛ وَيَذْكُرُ الآيَةَ، وَلَا يَذْكُرُ الِاسْتِعَاذَةَ، فَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي الأَحَادِيثِ وَالآثَارِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ

"

(1)

.

(1)

الحَاوِي لِلفَتَاوِي (1/ 297).

ص: 319

‌الحَدِيثُ الثَّلاثُونَ: (إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ؛ فَلا تُضَيِّعُوهَا)

عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ -جُرثُومِ بْنِ نَاشِرٍ- رضي الله عنه؛ عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ؛ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا؛ فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ؛ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيرَ نِسْيَانٍ؛ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» . حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيرُهُ

(1)

.

- الحَدِيثُ هُنَا شَمَلَ أَحْكَامَ الدِّينِ كُلَّهَا، وَهِيَ: فَرَائِضُ، وَمَحَارِمُ، وَحُدُودُ، وَمَسْكُوتٌ عَنْهَا.

- الحَدِيثُ هُنَا ضَعِيفٌ، وَلَكِنْ يَقْرُبُ مِنْهُ حَدِيثُ «مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ؛ فَاقْبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ نَسِيًّا، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَم: 64]»

(2)

.

- (جُرْثُوم): الجُرْثُومَةُ مَعْنَاهَا: الأَصْلُ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيهِ، وَلَيسَتْ هِيَ كَلِمَةُ ذَمٍّ فِي أَصْلِهَا!

(1)

ضَعِيفٌ. الدَّارَقُطْنِيُّ (4196). تَحْقِيقُ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلأَلْبَانِيِّ (1841).

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "حَسَنٌ لِغَيرِهِ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيرُهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّوَاهِدَ الَّتِي رَفَعَتْهُ إِلَى الحُسْنِ ضَعِيفةٌ جِدًّا لَا تَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ -كَمَا أَوضَحْتُهُ فِي غَايَةِ المَرَامِ-، وَانْظُرْ ضَعِيفَ الجَامِعِ (1597)، وَالمِشْكَاةَ (197)، وَالتَّعْلِيقَاتِ الرَّضِيَّةَ (3/ 24)». انْظُرْ كِتَابَ (تَرَاجُعُ العَلَّامَةِ الأَلْبَانِيِّ فِي مَا نَصَّ عَلَيهِ تَصْحِيحًا وَتَضْعِيفًا"(1/ 304) لِمُحَمَّد حَسَن الشَّيخ.

(2)

صَحِيحٌ. الدَّارَقُطْنِيُّ (2066) عَنْ أَبِي الدّرْدَاء مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2256).

ص: 320

- قَولُهُ: «فَرَضَ» : أَي: أَوجَبَ.

- قَالَ أَهْلُ العِلْمِ عَنِ الفَرْضِ وَالوَاجِبِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي الفَرْقِ بَينَهُمَا:

1 -

إِنَّ الفَرْضَ مَا دَلَّ القُرْآنُ عَلَى وُجُوبِهِ، وَالوَاجِبَ مَا دَلَّتِ السُّنَّةُ

عَلَى وُجُوبِهِ.

وَهَذَا التَّفْرِيقُ هُوَ مِنْ جِهَةِ عَزْوِ الدَّلِيلِ لَا مِنْ جِهَةِ المَرْتَبَةِ.

2 -

إِنَّ الفَرْضَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَالوَاجِبَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ غَيرِ قَطْعِيٍّ.

وَهَذَا التَّفْرِيقُ عِنْدَهُم هُوَ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ وَالمَرْتَبَةِ.

3 -

إِنَّ الفَرْضَ وَالوَاجِبَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ؛ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَينَهُمَا لَا مِنْ جِهَةِ عَزْوِ الدَّلِيلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ المَرْتَبَةِ، وَهُوَ الأَرْجَحُ.

- قَولُهُ: «حَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا» : قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "وَأَمَّا حُدُودُ اللهِ الَّتِي نَهَى عَنِ اعْتِدَائِهَا؛ فَالمُرَادُ بِهَا جُمْلَةُ مَا أَذِنَ فِي فِعْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ أَوِ الإِبَاحَةِ، وَاعْتِدَاؤُهَا: هُوَ تُجَاوُزُ ذَلِكَ إِلَى ارْتِكَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطَّلَاقِ: 1] "

(1)

.

وَفِي الحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَتَعَرَّجُوا

(2)

، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوفِ الصِّرَاطِ؛ فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ: وَيحَكَ لَا

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 160).

(2)

وَفِي نُسَخٍ: وَلَا تَتَفَرَّجُوا، وَلَا تَعْوَجُّوا.

ص: 321

تَفْتَحْهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ! وَالصِّرَاطُ الإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ تَعَالَى، وَالأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَاسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللهِ عز وجل، وَالدَّاعِي فَوقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ»

(1)

.

- الحَدُّ جَاءَ فِي الأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ:

1 -

الحَدُّ: أَي: مَا أُذِنَ بِهِ، وَالمَعْنَى مَا وَرَدَ وَقُصِدَ بِهِ جُمْلَةُ مَا أَذِنَ بِهِ الشَّارِعُ وَدَلَّ عَلَيهِ؛ فَالَّذِي يَخْرُجُ مِنْ دَائِرَةِ المَاذُونِ بِهِ إِلَى خَارِجِهِ؛ فَقَدْ تَعَدَّى الحَدَّ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البَقَرَة: 229]

(2)

، وَهُوَ المَقْصُودُ بِالحَدِيثِ هُنَا، وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الحَدِّ هُوَ عَنْ تَجَاوُزِهِ.

2 -

الحَدُّ: أَي: المُحرَّمُ؛ وَيَدُلُّ عَلَيهِ سِيَاقُ الكَلَامِ فِي النَّهْي عَنْ قُرْبَانِهِ، أَو أَنْ تُذْكَرَ عَلَيهِ العُقُوبَةُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 187]

(3)

، وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الحَدِّ هُوَ عَنْ قُرْبَانِهِ.

3 -

الحَدُّ: أَي: العُقُوبَةُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ عَنِ النَّبِيِّ

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (17634) عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3887).

(2)

قَالَ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَاخُذُوا مِمَّا آتَيتُمُوهُنَّ شَيئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البَقَرَة: 229].

(3)

قَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 187].

ص: 322

صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: «لَا يُجْلَدُ فَوقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»

(1)

.

- قَولُهُ: «سَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ» : أَي: لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَهَا.

- قَولُهُ: «غَيرَ نِسْيَانٍ» : أَي: أَنَّهُ عز وجل لَمْ يَتْرُكْهَا نَاسِيًا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَم: 64]، وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى بِالخَلْقِ حَتَّى لَا يُضَيِّقَ عَلَيهِم.

- قَولُهُ: «فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا» : أَي: لَا تَسْأَلُوا، مَاخُوذٌ مِنْ بَحْثِ الطَّائِرِ فِي الأَرْضِ، أَي: لَا تُنَقِّبُوا عَنْهَا، بَلْ دَعُوهَا.

- البَحْثُ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ خَاصٌّ أَو عَامٌّ -وَهُوَ المَسْكُوتُ عَنْهُ-هُوَ عَلَى قِسْمَينِ:

1 -

أَنْ يَبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ فِي دِلَالَاتِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الفَحْوَى -أَي: المَعْنَى-، وَالمَفْهُومِ -مُوَافَقَةً أَو مُخَالَفَةً-، وَالقِيَاسِ الظَّاهِرِ الصَّحِيحِ؛ فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِمَّا يِتَعيَّنُ فَعْلُهُ عَلَى المُجْتَهِدِينَ فِي مَعْرِفَةِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

2 -

البَحْثُ وَالتَّدْقِيقُ فِي الوُجُوهِ المُسْتَبْعَدَةِ، وَالنَّظَرُ فِي الفُرُوقِ الَّتِي لَا تَاثِيرَ لَهَا عَلَى الشَّرْعِ؛ فَهُوَ المَذْمُومُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ؛ فَاقْبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ نَسِيًّا! {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَم: 64]»

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالبَحْثِ عَنْهُ: أُمُورُ الغَيبِ الخَبَرِيَّةِ الَّتِي أُمِرَ بِالإِيمَانِ بِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيفِيَّتَهَا، وَبَعْضُهَا قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي هَذَا العَالَمِ المَحْسُوسِ؛ فَالبَحْثُ عَنْ كَيفِيَّةِ

(1)

البُخَارِيُّ (6850)، وَمُسْلِمٌ (1708).

(2)

صَحِيحٌ. الدَّارَقُطْنِيُّ (2066) عَنْ أَبِي الدّرْدَاء مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2256).

ص: 323

ذَلِكَ هُوَ مِمَّا لَا يَعْنِي، وَهُوَ مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ، وَقَدْ يُوجِبُ الحَيرَةَ وَالشَّكَّ، وَيَرْتَقِي إِلَى التَّكْذِيبِ"

(1)

.

- تَنْبِيهٌ:

قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: " ثُمَّ إِنَّ فِي اسْمِ ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ اخْتِلَافًا كَثِيرًا عَجِيبًا لَمْ يَسْتَطِعِ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -عَلَى حِفْظِهِ وَعِلْمِهِ- أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بِرَايٍ رَاجِحٍ، بَلْ وَكَلَ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَالعَجَبُ مِنَ المُصَنِّفِ كَيفَ جَزَمَ بِاسْمِهِ المَذْكُورِ دُونَ أَنْ يُشِيرَ إِلَى الاخْتِلَافِ المَذْكُورِ! "

(2)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 172).

(2)

تَحْقِيقُ رِيَاضُ الصَّالِحِينَ، فَائِدَة رَقَم (21) مِنْ مُقَدِّمَتِهِ.

ص: 324

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَا التَّوفِيقُ بَينَ الحَدِيثِ هُنَا «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيرَ نِسْيَانٍ»

(1)

، وَبَينَ قَولِهِ تَعَالَى:{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التَّوبَة: 67]؟

الجَوَابُ: إِنَّ المُرَادَ بِالنِّسْيَانِ فِي الآيَةِ هُنَا التَّركُ، يَعْنِي تَرَكُوا شَرْعَ اللهِ؛ فَتَرَكَهُم سُبْحَانَهُ فِي العَذَابِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ المُقَابَلَةِ، أَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ الخَطَأُ وَالذُّهُولُ وَالغَفْلَةُ؛ فَهَذَا الَّذِي لَا يُوصَفُ اللهُ عز وجل بِهِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:

{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طَه: 52]، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِهِ الإِنْسَانُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ فِي الحَدِيثِ نَفْيُهُ.

ص: 325

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَل فِي الحَدِيثِ إِثْبَاتُ صِفَةِ السُّكُوتِ للهِ تَعَالَى؟

الجَوَابُ: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ السَّلَفِ هَذَا الوَصْفُ.

وَلَكِنَّ السُّكُوتَ أَصْلًا نَوعَانِ:

1 -

سُكُوتٌ يُقَابِلُ الكَلَامَ؛ فَلَا يُوصَفُ اللهُ تَعَالَى بِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ مَوصُوفٌ بِصِفَةِ الكَلَامِ.

2 -

سُكُوتٌ يُقَابِلُ الإِظْهَارَ لِلأَحْكَامِ، أَي: مَعْنَى السُّكُوتِ هُنَا عَدَمُ إِظْهَارِ حُكْمِ أَمْرٍ مَا؛ فَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ المَعْنَى.

مِثَالُ ذَلِكَ: لَو تَكَلَّمَ المُدَرِّسُ عَنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيفِيَّةَ السُّجُودِ؛ فَيُقَالُ: تَكَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ وَسَكَتَ عَنْ كَيفِيَّةِ السُّجُودِ؛ رُغْمَ أَنَّهُ لَمْ يَصْمُتْ! وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ مَعْنَاهُ فِي الحَدِيثِ

(1)

.

وَعَلَى العُمُومِ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَينَ إِثْبَاتِ الصِّفَةِ وَبَينَ الإِخْبَارِ، فَحِينَ نَصِفُ اللهَ سبحانه وتعالى فَلَا نَصِفُهُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَو وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُه صلى الله عليه وسلم، أَمَّا بَابُ الإِخْبَارِ عَنِ اللهِ عز وجل؛ فَالأَمْرُ فِيه وَاسِعٌ.

(1)

انْظُرْ شَرْحَ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لصَالِح آلِ الشَّيخِ (ص: 424).

ص: 326

‌الحَادِي وَالثَّلاثُونَ: (ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا)

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِديِّ؛ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: يَا رَسولَ اللهِ؛ دُلَّنِي عَلى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللهُ وَأَحَبَّنِيَ النَّاسُ، فَقَالَ:«ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيدِي النَّاسِ يُحبَّكَ النَّاسُ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيرُهُ بِأَسَانِيدَ حَسَنةٍ

(1)

.

- الزُّهْدُ لُغَةً: الرَّغْبَةُ عَنِ الشَيءِ وَاحْتِقَارُهُ وَارْتِفَاعُ الهِمَّةِ عَنْهُ، يُقَالُ: شَيءٌ زَهِيدٌ أَي: قَلِيلٌ حَقِيرٌ، وَالزُّهْدُ حَقِيقَتُهُ:" تَرْكُ مَا يُشْغِلُكَ عَنِ اللهِ عز وجل"

(2)

، وَالاقْتِصَارُ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ مِنْهَا.

- الزُّهْدُ أَعْلَى مِنَ الوَرَعِ، فَالوَرَعُ: تَرْكُ مَا قَدْ يَضُرُّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَالزُّهْدُ: تَرْكُ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الآخِرَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَنْفَعُ أَعْلَى مِنْ تَرْكِ مَا قَدْ يَضُرُّ.

- سُمِّيَتِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا لِأَحَدِ أَمْرَينِ:

1 -

أَنَّهَا دُنْيَا فِي الزَّمَنِ، أَي: أَدْنَى زَمَنًا وَأَقْرَبُ مِنَ الآخِرَةِ، فَهِيَ الأُولَى؛ وَتِلْكَ الآخِرَةُ.

2 -

أَنَّهَا دُنْيَا فِي القَدْرِ وَالمَنْزِلَةِ، مِنَ الدَّنَاءَةِ؛ فَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ العَمَلَ

(1)

صَحِيحٌ بِشَوَاهِدِهِ. ابْنُ مَاجَه (4102). الصَّحِيحَةُ (944).

(2)

قَالَهُ أَبُو سُلَيمَانَ الدَّارَانِيُّ، كَمَا فِي حِلْيَةِ الأَولِيَاءِ (1/ 258)، وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله:"وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو سُلَيمَان حَسَنٌ، وَهُوَ يَجْمَعُ جَمِيعَ مَعَانِي الزُّهْدِ وَأَقْسَامِهِ وَأَنْوَاعِهِ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 186).

ص: 327

وَالانْشِغَالَ بِهَا.

وَالأَوَّلُ أَقْرَبُ نَظَرًا لِتَسْمِيَةِ مُقَابِلَتِهَا بِالآخِرَةِ وَلَيسَ بِالعُلْيَا!

- اشْتَمَلَ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى وَصِيَّتَينِ عَظِيمَتَينِ:

1 -

الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا؛ وَأَنَّهُ مُقْتَضٍ لِمَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ.

2 -

الزُّهْدُ فِيمَا فِي أَيدِي النَّاسِ؛ وَأَنَّهُ مُقْتَضٍ لِمَحبَّةِ النَّاسِ.

- فِي الحَدِيثِ ذَمُّ التَّعَلُّقِ بِالدُّنْيَا، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ؛ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمٌ أَو مُتَعَلِّمٌ»

(1)

.

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ الآخَرِ «مَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الآخِرَةُ جَمَعَ الله لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً، وَمَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الدُّنْيَا فَرَّقَ الله عَلَيهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَينَ عَينَيهِ، وَلَمْ يَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ»

(2)

.

- الزُّهْدُ دَرَجَتَانِ:

1 -

مَنِ اقْتَصَرَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِ مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمقَ فَقَط، وَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنَ الزُّهَّادِ.

2 -

مَنْ فَسَحَ لِنَفْسِهِ أَحْيَانًا فِي تَنَاوُلِ بَعْضِ شَهَوَاتِهَا المُبَاحَةِ لِتَقْوَى النَّفسُ بِذَلِكَ وَتَنْشَطَ لِلعَمَلِ، وكما فِي الحَدِيثِ «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْياكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَينِي فِي الصَّلَاةِ»

(3)

.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2322) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2797).

وَقَولُهُ «إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ» : أَي: مَبْغُوضَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِكَونِهَا مُبْعِدَةٌ عَنِ اللهِ، «مَلْعُونٌ مَا فِيهَا»: أَي: مِمَّا يُشْغِلُ عَنِ اللهِ. انْظُرْ كِتَابَ (تُحْفَةُ الأَحْوَذِيِّ)(6/ 504).

(2)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (4105) عَنْ زَيدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (950).

(3)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (3939) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3124).

ص: 328

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَمَتَى نَوَى الْمُؤْمِنُ بِتَنَاوُلِ شَهَوَاتِهِ الْمُبَاحَةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ؛ كَانَتْ شَهَوَاتُهُ لَهُ طَاعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: " إِنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي"

(1)

، يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْوِي بِنَوْمِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْقِيَامِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ؛ فَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ نَوْمِهِ كَمَا يَحْتَسِبُ ثَوَابَ قِيَامِهِ"

(2)

.

- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكَهْف: 7]: بَيَانُ أَنَّ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا هِيَ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ جَعَلَهُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَنْظُرَ سُبْحَانَهُ أَيَّهُم كَانَ مُؤْمِنًا بِوَعْدِ رَبِّهِ فَأَخَذَ مِنْ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَأَيُّهُم عَاشَ لِدُنْيَاهُ وَنَسِيَ آخِرَتَهُ، ثُمَّ أَعْقَبَ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا بِبَيَانِ فَنَائِهَا فَقَالَ:{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيهَا صَعِيدًا جُرُزًا}

(3)

، فَكَانَ الفَائِزُ فِي هَذَا الامْتِحَانِ هُوَ مَنْ اشْتَغَلَ بِآخِرَتِهِ وَلَمْ يَنْشَغِلْ بِدُنْيَاهُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ} [غَافِر: 39]، قَالَ سَعِيدُ ابْنُ جُبَيرٍ:" مَتَاعُ الغُرُورِ: مَا يُلْهِيكَ عَنْ طَلَبِ الآخِرَةِ، وَمَا لَمْ يُلْهِكَ فَلَيسَ بِمَتَاعِ الغُرُورِ؛ وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ بَلَاغٍ إِلَى مَا هُوَ خَيرٌ مِنْهُ"

(4)

.

فَكَانَ الفَائِزُ هُوَ مَنْ جَعَلَ هَمَّهُ التَّزَوُّدَ مِنْهَا لِلآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ القَرَارِ، وَاكْتَفَى مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَكْتَفِي بِهِ المُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:

(1)

وَهُوَ بِتَمَامِهِ «أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيتُ جُزْئِي مِنَ النَّومِ؛ فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللهُ لِي؛ فَأَحْتَسِبُ نَومَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَومَتِي» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4341) عَنْ أَبِي بُرْدَةَ.

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 192).

(3)

(جُرُزًا): أَي: أَرْضًا غَلِيظَةً لَا تُنْبِتُ شَيئًا.

قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (5/ 317): "أَرْضٌ جَارِزَةٌ: يَابِسَةٌ غَلِيظَةٌ يَكْتَنِفُهَا رَمْلٌ أَو قَاعٌ".

(4)

تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (8/ 39).

ص: 329

(اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَلَمَّا اسْتَيقَظَ جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَلَا آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الحَصِيرِ شَيئًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟! مَا أَنَا وَالدُّنْيَا؟! إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»

(1)

.

- وَأَمَّا الزُّهْدُ بِمَا فِي أَيدِي النَّاسِ فَقَدْ تَكَاثَرَتِ الأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالأَمْرِ بِالاسْتِعْفَافِ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ وَالاسْتِغْنَاءِ عَنْهُم

(2)

، وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ مَا بِأَيدِيهِم كَرِهُوهُ وَأَبْغَضُوهُ، لِأَنَّ المَالَ مَحْبُوبٌ لِنُفُوسِ بَنِي آدَمَ؛ فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُم مَا يُحِبُّونَهُ كَرِهُوهُ لِذَلِكَ، وَمَنِ اسْتَعَفَّ عَمَّا فِي أَيدِي النَّاسِ أَحَبُّوهُ.

قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِأَهْلِ البَصْرَةِ: مَنْ سَيِّدُ أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ؟ قَالُوا: الحَسَنُ، قَالَ: بِمَ سَادَهُم؟ قَالُوا: احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِ، وَاسْتَغْنَى هُوَ عَنْ دُنْيَاهُم

(3)

.

- وَفِي الحَدِيثِ فَائِدَةٌ: أَنَّهُ لَا بَاسَ بِالسَّعْي فِيمَا تُكْتَسَبُ بِهِ مَحَبَّةُ العِبَادِ مِمَّا لَيسَ بِمُحَرَّمٍ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ الأَمْرُ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ أَيضًا

(4)

، وَغَيرِ ذَلِكَ مِنْ جَوَالِبِ المَحَبَّةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الشَّارِعُ.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (3709) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5668).

(2)

وَفِي الحَدِيثِ «وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1427) عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ مَرْفُوعًا.

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 206).

(4)

كَمَا فِي الحَدِيثِ «لَا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ: أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ (54) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 330

‌الحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّلاثُونَ: (لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ)

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . حَدِيث حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه

(1)

وَالدَّارَقُطْنِيُّ

(2)

مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي المُوَطَّأِ

(3)

مُرْسَلًا عَنْ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْقَطَ أَبَا سَعِيدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا

(4)

.

- قَالَ أَبُو دَاوُد صَاحِبُ السُّنَنِ: (الفِقْهُ يَدُورُ عَلَى خَمْسَةِ أَحَادِيثَ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(5)

، وَ «الحَلَالُ بَيِّنٌ»

(6)

، وَ «مَا نَهَيتُكُم عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ»

(7)

، وَ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»

(8)

، وَ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»

(9)

)

(10)

.

(1)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (2341) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (250)

(2)

الدَّارَقَطْنِيُّ (4541) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا.

(3)

المُوَطَّأُ (2/ 745).

(4)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: "وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيخُ رحمه الله أَنَّ بَعْضَ طُرُقِهِ تُقوَّى بِبَعْضٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ". جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 210).

(5)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1)، وَمُسْلِمٌ (1907) عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا.

(6)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (52)، وَمُسْلِمٌ (1599) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ البَشِيرِ مَرْفُوعًا.

(7)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7288) وَمُسْلِم (1337) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(8)

صَحِيحٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه (2341) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، الصَّحِيحَةُ (250)، وَسَيَاتِي.

(9)

مُسْلِمٌ (55).

(10)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (1/ 63).

ص: 331

- قَولُهُ: «لَا ضَرَرَ» : (لَا) نَافِيَةٌ لِلجِنْسِ، وَ (ضَرَرَ) اسْمُهَا، وَالخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَائِنٌ، وَالمَعْنَى لَا ضَرَرَ كَائِنٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهِي وَالنَّفْي كَمَا سَيَاتِي.

- وَالضَّرَرُ وَالضِّرَارُ مَنْفِيَّانِ مِنْ جِهَتَينِ: مِنْ جِهَةِ العِبَادَاتِ، وَمِنْ جِهَةِ المُعَامَلَاتِ.

1 -

مِنْ جِهَةِ العِبَادَاتِ: فَالعِبَادَاتُ لَمْ يُشْرَعْ مِنْهَا شَيءٌ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى المُكَلَّفِ، بَلْ إِذَا حَصَلَ تَضَرُّرٌ فَإِنَّ الشَّرْعَ يُرَخِّصُ لَهُ فِيهِ، فَمَنْ تَضَرَّرَ بِالصَّلَاةِ قَائِمًا صَلَّى جَالِسًا، وَمَنْ تَضَرَّرَ بِالوُضُوءِ بِالمَاءِ رُخِّصَ لَهُ بِالتَّيَمُّمِ.

2 -

مِنْ جِهَةِ المُعَامَلَاتِ وَالأُمُورِ الاجْتِمَاعِيَّةِ؛ فَهَذِهِ قِسْمَان:

أ- مِنْ جِهَةِ الشَّرِيعَةِ نَفْسِهَا؛ فَلَيسَ فِي أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي جَعَلَهَا عَلَى عِبَادِهِ فِيمَا بَينَهُم ضَرَرٌ، مِنْ بُيُوعٍ وَحُقُوقٍ وَنِكَاحٍ وَ ....

ب- مِنْ جِهَةِ المُكَلَّفِ؛ فَهُوَ مَامُورٌ بِأَنْ لَا يَضُرَّ غَيرَهُ.

- أَمَّا مَعْنَى الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ: فَدَارَتْ عِبَارَاتُ أَهْلِ العِلْمِ حَولَ عِدَّةِ مَعَانٍ؛ مِنْهَا:

1 -

أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ التَّكْرَارَ لِلتَّاكِيدِ، وَالمَعْنَى: النَّهْيُّ عَنْ إِيصَالِ الضَّرَرِ لِلغَيرِ.

2 -

أَنَّ الضَّرَرَ هُوَ الاسْمُ: أَي: نَفْيُ وُجُودِ الضَّرَرِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالضِّرَارُ هُوَ الفِعْلُ: أَي النَّهْيُ عَنِ الإِضْرَارِ بِالغَيرِ.

3 -

الضَّرَرُ: أَنْ يَضُرَّ بِمَنْ لَا يَضُرُّهُ، وَالضِّرَارُ: أَنْ يَضُرَّ بِمَنْ قَدْ أَضَرَّ بِهِ عَلَى

ص: 332

وَجْهٍ غَيرِ جَائِزٍ

(1)

.

4 -

لَا ضَرَرَ: أَي: عَلَى النَّفْسِ، وَلَا ضِرَارَ مِنْكَ عَلَى الغَيرِ.

5 -

أَنَّ الضَّرَرَ إِيصَالُ الأَذَى لِلغَيرِ لِمَنْفَعَةٍ مَا، وَالضِّرَارُ مَا كَانَ دُونَ

مَنْفَعَةٍ، وَهَذَا الوَجْهُ هُوَ الأَولَى

(2)

، وَعَلَيهِ فيَكُونُ الضِّرَارُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَالضَّرَرُ فِيهِ تَفْصِيلٌ

(3)

.

- فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ قَولُهُ: «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللهُ عَلَيهِ»

(4)

.

- إِنَّ إِدْخَالَ الضَّرَرِ عَلَى أَحَدٍ بِحَقٍّ -إِمَّا لِكَونِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ فَيُعَاقَبُ بِقَدْرِ جَرِيمَتِهِ، أَو لِكَونِهِ ظَلَمَ غَيرَهُ؛ فَيَطْلُبُ المَظْلُومُ مُقَابَلَتَهُ بِالعَدْلِ-؛ فَهَذَا غَيرُ مُرَادٍ قَطْعًا، وَإِنَّمَا المُرَادُ: إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِغَيرِ حَقٍّ.

(1)

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله: "وَالضَّرَرُ: ابْتِدَاءُ الفِعْلِ. وَالضِّرَارُ: الجَزَاءُ عَلَيهِ. وَقِيلَ الضَّرَرُ: مَا تَضُرُّ بِهِ صَاحِبَكَ وَتَنْتَفِعُ بِهِ أَنْتَ، وَالضِّرَارُ: أَنْ تَضُرُّه مِنْ غَيرِ أَنْ تَنْتَفِعَ بِهِ. وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَتَكْرَارُهُمَا لِلتَّاكِيدِ". النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (3/ 81).

(2)

وَهُوَ قَولُ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ وَابْنِ الصَّلَاحِ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى. انْظُرْ كِتَابَ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)

(2/ 212).

(3)

وَهُنَاكَ قَولٌ قَرِيبٌ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الضَّرَرَ مَا يَحْصُلُ دُونَ قَصْدٍ، وَالضِّرَارَ مَا يَحْصُلُ بِقَصْدِ الضَّرَرِ نَفْسِهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ لِلسَّابِقِ لِأَنَّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِنَفْسِهِ فَلَيسَ أَصْلُهُ قَصْدَ الضَّرَرِ! بِخِلَافِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ الضَّرَرَ دُونَ مَنْفَعَةٍ غَالِبًا هُوَ مَقْصُودٌ لِلضُّرِّ بِالغَيرِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

(4)

حَسَنٌ. الحَاكِمُ (2345) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6372).

ص: 333

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- مَسْأَلَةٌ: فِي عَلَاقَاتِ النَّاسِ فِيمَا بَينَهُم يَحْصُلُ شَيءٌ مِنَ الضَّرَرِ أَثْنَاءَ انْتِفَاعِ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِم؛ فَهَلْ يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا الضَّرَرِ؟

الجَوَابُ: إِنَّ أَهْلَ العِلْمِ فِيهِ عَلَى قَولَينِ: مِنْهُم مَنْ مَنَعَ مُطْلَقًا

(1)

، وَمِنْهُم مَنْ فَصَّلَ -وُهُوَ الرَّاجِحُ وَاللهُ أَعْلَمُ

(2)

-، لِأَنَّ مَصَالِحَ العِبَادِ لَا تَتَمُّ إِلَّا بِوُقُوعِ شَيءٍ مِنَ الضَّرَرِ أَوِ التَّعَدِّي المُحْتَمَلِ عَلَى بَعْضِهِم، وَهَذَا الجَوَازُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطَينِ:

1 -

أَنْ تَكُونَ المَصْلَحَةُ فِيهِ ظَاهِرَةً حَقِيقِيَّةً.

2 -

أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا الضَّرَرِ مُعْتَادًا، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: أَنْ يَكُونَ هَذَا الضَّرَرُ مُحْتَمَلًا.

وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ؛ مِنْهَا: مَنْ يُرِيدُ شِوَاءَ طَعَامٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَارٍ وَدُخَانٍ، وَالدُّخَانُ فِيهِ أَذًى عَلَى الجَارِ! فَمِثْلُ هَذَا الشِّوَاءِ مَصْلَحَتُهُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهُ طَعَامٌ يَحْتَاجُ لِهَذَا النَّوعِ مِنَ الطَّهْي، وَهَذَا الضَّرَرُ مُعْتَادٌ؛ فَالتَّأَذِّي بِالدُّخَانِ مِمَّنْ حَولَكَ شَائِعٌ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ بِهَذِهِ الصُّورَةِ

(3)

.

(1)

كَالإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. انْظُرْ كِتَابَ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(2/ 217).

(2)

وَهُوَ قَولُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَ اللهُ الجَمِيعَ- وَخَاصَّةً أَنَّ مَصَالِحَ النَّاسِ لَا تَتِمُّ بِدُونِهِ! وَعَلَيهِ جَرَى العَمَلُ. انْظُرْ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(2/ 217).

(3)

وَهَذا بِخِلَافِ مِنْ أَشْعَلَ نَارًا لِأَنَّهُ يُحِبُّ رُؤْيَةَ الدُّخَانِ!

ص: 334

وَمِثْلُ مَنْ أَشْعَلَ نَارًا لِلطَّهْوِ وَالشَّوي عِنْدَ الحَائِطِ الفَاصِلِ بَينَهُ وَبَينَ جَارِهِ تَمَامًا؛ فَالأَذَى أَشَدُّ وَهُوَ لَيسَ مُعْتَادًا!

وَكَمَنْ أَرَادَ إِزَالَةَ حَائِطٍ مِنْ دَارِهِ فَاسْتَخْدَمَ مُتَفَجِّرَاتٍ فَأَسْقَطَ بَيتَ جَارِهِ!

وَكَمَنْ يَعْمَلُ عَلَى تَرْمِيمِ بَيتِهِ فَقَامَ بِأَعْمَالِ الصِّيَانَةِ فِي مُنْتَصَفِ اللَّيلِ عِنْدَ نُومِ النَّاسِ! فَهَذَا غَيرُ مَعْهُودٍ وَلَا مُحْتَمَلٍ.

وَمِثْلُ مَنْ كَنَسَ أَمَامَ بَيتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَطَايُرِ الغُبَارِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً عَلَى المَارَّةِ وَعَلَى السَّيَّارَاتِ القَرِيبَةِ.

وَمِثْلُ مَنْ يَبْنِي بَيتًا فَلَا بُدَّ مِنَ الأَصْوَاتِ العَالِيَةِ مِنَ الطَّرْقِ وَالصّيَاحِ وَانْتِشَارِ الغُبَارِ.

ص: 335

‌الحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالثَّلاثُونَ: (البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي)

عَنِ ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَومٍ وَدِمَاءَهُمْ؛ وَلَكِنَّ البَيِّنَةَ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ البَيهَقِيُّ وَغَيرُهُ هَكَذَا، وَبَعْضُهُ فِي الصَّحِيحَينِ

(1)

.

- الَّذِي فِي الصَّحِيحَينِ «اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ» ، وَعِنْدَ الإِسْمَاعِيلِيِّ «وَلَكِنَّ البَيِّنَةَ عَلَى الطَّالِبِ، وَاليَمِينَ عَلَى المَطْلُوبِ»

(2)

.

وَبَوَّبَ البُخَارِيُّ رحمه الله عَلَى الحَدِيثِ بِاللَّفْظِ التَّامِّ، وَهُوَ قَولُهُ:" بَابُ إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ؛ فَالبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ"، وَفِي صَحِيحِهِ مَعْنَاهُ وَهُوَ حَدِيثُ المُتَخَاصِمَينِ فِي البِئْرِ، وَفِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلمُدَّعِي:«بَيِّنَتُكَ أَو يَمِينُهُ؟»

(3)

.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لِأَبِي، قَالَ الكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي، أَزْرَعُهَا لَيسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ:«أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟» ، قَالَ: لَا، فَقَالَ: «فَلَكَ

(1)

البُخَارِيُّ (4552)، وَمُسْلِمٌ (139)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (21201).

(2)

فَتْحُ البَارِي (5/ 282).

(3)

البُخَارِيُّ (4549).

ص: 336

يَمِينُهُ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ؛ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيهِ، وَلَيسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيءٍ! فَقَالَ: لَيسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَدْبَرَ:«أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالٍ لِيَاكُلَهُ ظُلْمًا؛ لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»

(1)

.

- هَذَا الحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي القَضَاءِ، وَقَاعِدَةٌ يَنْتَفِعُ بِهَا القَاضِي، وَيَنْتَفِعُ بِهَا المُصْلِحُ بَينَ اثْنَينِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

وَفِي قَولِهِ تَعَالَى عَنْ دَاوُد عليه السلام: {وَآتَينَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ}

[ص: 20]؛ قَالَ قَتَادَةُ: (فَصْلُ الخِطَابِ): " البَيِّنَةُ عَلَى الطَّالِبِ، وَاليَمِينُ عَلَى المَطْلُوبِ"

(2)

.

وَقَالَ ابْنُ المُنْذِرِ رحمه الله: " أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ البَيِّنَةَ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ"

(3)

.

- حِكْمَةُ الحَدِيثِ: أَنَّ الأَحْكَامَ بَينَ النَّاسِ لَو كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ فَإِنَّهُ سَيَاتِي مَنْ يَدَّعِي مَالَ غَيرِهِ -بَلْ وَدَمَهُ أَيضًا-، وَسَتَضِيعُ الحُقُوقُ، وَتُرَاقُ الدِّمَاءُ بِغَيرِ حَقٍّ!

- فِي التَّفْرِيقِ بَينَ المُدَّعِي وَبَينَ المُدَّعَى عَلَيهِ: المُدَّعِي مَنْ إِذَا سَكَتَ تُرِكَ، وَالمُدَّعَى عَلَيهِ مَنْ إِذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ، وَقِيلَ: المُدَّعِي هُوَ مَنْ يُخَالِفُ قَولُهُ الظَّاهِرَ.

- قَولُهُ: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي» : البَيِّنَةُ: هِيَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُظهِرُ الحَقَّ وَيُبَيِّنُهُ.

(1)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (139)

(2)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (21/ 173).

(3)

الإِجْمَاعُ (ص: 65).

ص: 337

- مِن أَمْثِلَةِ البَيِّنَاتِ:

الإِقْرَارُ، وُالشُّهُودِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البَقَرَة: 282]، وَالغَايَةُ مِنْهُمَا تَرْجِيحُ أَحَدِ الطَّرَفَينِ عِنْدَ الاخْتِلَافِ.

وَاعْتِبَارُ القَرَائِنِ، كَظَاهِرُ الحَالِ، كَمَنْ يَرْكُضُ هَارِبًا وَعَلَى رَاسِهِ عِمَامَةٌ وَبِيَدِهِ عِمَامَةٌ، وَيَتْبَعُهُ رَجُلٌ لَا عِمَامَةَ عَلَى رَاسِهِ؛ فَظَاهِرُ الحَالِ أَنَّ الأَوَّلَ سَرَقَ

عِمَامَةَ غَيرِهِ.

وَمِنَ القَرَائِنِ أَيضًا فَهْمُ القَاضِي بِالاخْتِبَارِ، كَمَا فِي قِصَّةِ حُكْمِ سُلَيمَانَ عليه الصلاة والسلام عَلَى المَرْأَتَينِ فِي الصَّبِيِّ لِأَيِّهِمَا كَانَ.

فَفِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَأَخْبَرَتَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقَّهُ بَينَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلُ يَرْحَمُكَ اللهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى»

(1)

.

- الشَّهَادَةُ هِيَ مِنَ البِيِّنَاتِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ: مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلًا عَدْلًا.

وَيَجُوزُ إِشْهَادُ غَيرِ المُسْلِمِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي الوَصِيَّةِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَينِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَو آخَرَانِ مِنْ غَيرِكُمْ} [المَائِدَة: 108].

قَالَ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: " يُخْبِرُ تَعَالَى خَبَرًا مُتَضَمِّنًا لِلأَمْرِ بِإِشْهَادِ اثْنَينِ

(1)

البُخَارِيُّ (6769)، وَمُسْلِمٌ (1720).

ص: 338

عَلَى الوَصِيَّةِ إِذَا حَضَرَ الإِنْسَانَ مُقَدِّمَاتُ المَوتِ وَعَلَائِمُهُ؛ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ، وَيُشْهِدَ عَلَيهَا اثْنَينِ ذَوَي عَدْلٍ مِمَّنْ تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُمَا، {أَو آخَرَانِ مِنْ غَيرِكُمْ} أَي: مِنْ غَيرِ أَهْلِ دِينِكُم مِنَ اليَهُودِ أَوِ النَّصَارَى أَو غَيرِهِم، وَذَلِكَ عِنْدَ الحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَعَدَمِ غَيرِهِمَا مِنَ المُسْلِمِينَ"

(1)

.

وَأَمَّا الحُرِّيَّةُ؛ فَالجُمْهُورُ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَكُون حُرًّا، وَأَجَازُ البَعْضُ شَهَادَةَ العَبْدِ فِي الشَّيءِ التَّافِهِ.

- يُعْتَبَرُ عَدَدُ الشُّهُودِ بِحَسْبِ مَا دَلَّ عَلَيهِ الشَّرْعُ، وَأَحْوَالُهُ تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ نَوعِ الحَقِّ:

1 -

فِي حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ:

أ- مَا يُقْصَدُ بِهِ المَالُ -كَالبَيعِ وَالإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ-: فَفِيهِ شَاهِدَانِ رَجُلَانِ، أَو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، أَو شَاهِدٌ وَيَمِينُ المُدَّعِي.

ب- مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيهِ إِلَّا الرِّجَالُ فِي الغَالِبِ -كَالزَّوَاجِ وَالطَّلَاقِ-: فَفِيهِ شَاهِدَانِ ذَكَرَانِ.

ج- مَا لَا تَطَّلِعُ عَلَيهِ إِلَّا النِّسَاءُ فِي الغَالِبِ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ المَالُ -كَالوِلَادَةِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ الدَّاخِلِيَّةِ-: فَفِيهِ رَجُلَانِ، أَو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، أَو أَرْبَعُ نِسْوَةٍ.

2 -

فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى:

أ- فِي الزِّنَا: لَا يُقْبَلُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ.

ب- فِي غَيرِ الزِّنَا مِنَ الحُدُودِ: فَفِيهِ شَاهِدَانِ.

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 246)

ص: 339

ج- فِي هِلَالِ رَمَضَانَ: فَفِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ

(1)

.

- يُعْتَبَرُ فِي إِثْبَاتِ الرِّضَاعِ شَهَادَةُ الوَاحِدَةِ، كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ -تَحْتَ بَابِ شَهَادَةِ المُرْضِعَةِ-، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا! فَأَتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «وَكَيفَ وَقَدْ قِيلَ؟! دَعْهَا عَنْكَ أَو نَحْوَهُ

(2)

.

قَالَ الإِمَامُ الصَّنْعَانِيُّ رحمه الله: " فَيَكُونُ هَذَا الحُكْمُ مَخْصُوصًا مِنْ عُمُومِ الشَّهَادَةِ المُعْتَبَرِ فِيهَا العَدَدُ"

(3)

.

- قَولُهُ: «اليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» : أَي أَنَّ صَاحِبَ الدَّعْوَى يُطَالَبُ بِالبَيِّنَةِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَدِيهِ مَا يُبَيِّنُ وَيُؤَيِّدُ دَعْوَاهُ كَانَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلَا يُرْجَعُ إِلَى يَمِينِهِ إِذَا جَاءَ المُدَّعِي بِالبَيِّنَةِ!

قَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: " بَابُ مَنْ أَقَامَ البَيِّنَةَ بَعْدَ اليَمِينِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ»، وَقَالَ طَاوُسُ وَإِبْرَاهِيمُ وَشُرَيحُ: البَيِّنَةُ العَادِلَةُ أَحَقُّ مِنَ اليَمِينِ الفَاجِرَةِ"

(4)

.

قَالَ العَينِيُّ رحمه الله: " وَحَاصِلُ مَعْنَى كَلَامِهِم أَنَّ المُدَّعَى عَلَيهِ إِذَا حَلَفَ دَفَعَ المُدَّعِي بِاليَمِينِ، ثُمَّ إِذَا أَقَامَ المُدَّعِي البَيِّنَةَ المَرْضِيَّةَ -وَهُوَ مَعْنَى العَادِلَةِ- عَلَى

(1)

بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ مِنْ كِتَابِ (الوَجِيزُ فِي فِقْهِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ العَزِيزِ)(ص: 476) لِلشَّيخِ عَبْدِ العَظِيمِ بْنِ بَدَوِي حَفِظَهُ اللهُ.

(2)

صَحِيحِ البُخَارِيِّ (2660).

(3)

سُبُلُ السَّلَامِ (2/ 318).

(4)

البُخَارِيُّ (3/ 180).

ص: 340

دَعْوَاهُ ظَهَرَ أَنَّ يَمِينَ المُدَّعَى عَلَيهِ كَانَتْ فَاجِرَةً -أَي: كَاذِبَةً-، فَسَمَاعُ هَذِهِ البَيِّنَةِ العَادِلَةِ أَولَى بِالقَبُولِ مِنْ تِلْكَ اليَمِينِ الفَاجِرَةِ؛ فَتُسْمَعُ هَذِهِ البَيِّنَةُ وَيُقْضَى بِهَا. وَاللهُ أَعْلَمُ"

(1)

.

إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَدَى المُدَّعَى عَلَيهِ بَيِّنَةٌ يُدْلِي بِهَا؛ فيَكُونُ الأَمْرُ لِلقَاضِي فِي الحُكْمِ وَالنَّظَرِ فِي التَّرْجِيحِ بَينَهَا.

- إِنَّ الحَاكِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمُجَرَّدِ رَايِهِ وَلَا بِعِلْمِهِ فِي الوَقَائِعِ! وَإِنَّمَا بِمَا دَلَّتْ عَلَيهِ الدَّلَائِلُ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النِّسَاء: 105].

- إِنَّ حُكْمَ الحَاكِمِ لَا يُحِلُّ الحَرَامَ! وَإِنَّمَا هُوَ يَقْضِي بِحَسْبِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ.

كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فَمَنْ قَضَيتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيئًا بِقَولِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ؛ فَلَا يَاخُذْهَا»

(2)

.

- قَولُهُ: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» : يُسْتَثْنَى مِنْهَا نَوعَانِ:

1 -

القَسَامَةُ:

قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله: " القَسَامَةُ -بِالفَتْحِ- اليَمِينُ كَالقَسَمِ، وَحَقِيقَتُهَا أَنْ يُقْسِمَ مِنْ أَولِيَاءِ الدَّمِ خَمْسُونَ نَفَرًا عَلَى اسْتِحْقاقِهِم دَمَ صَاحِبِهِم إِذَا وَجَدُوهُ قَتِيلًا بَينَ قَومٍ

(1)

عُمْدَةُ القَارِي (13/ 257).

(2)

البُخَارِيُّ (2680)، وَمُسْلِمٌ (1713).

ص: 341

وَلَمْ يُعْرَفَ قَاتِلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا خَمْسِينَ أقْسَمَ المَوجُودُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا"

(1)

.

وَوَجْهُ المُخَالَفَةِ فِيهَا لِلأَصْلِ: أَنَّ اليَمِينَ كَانَتْ لِلمُدَّعِي، وَأَنَّهَا خَمْسُونَ يَمِينًا، وَأَنَّ الأَيمَانَ قَدْ تَكُونُ لِشَيءٍ غَيرِ مُشَاهَدٍ.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: " وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ أَيمَانَهُم بِمَثَابَةِ البَيِّنَةِ، وَكَثْرَةُ الأَيمَانِ هِيَ لِعِظَمِ شَانِ الدِّمَاءِ، بِخِلَافِ الأَمْوَالِ"

(2)

.

2 -

اليَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ:

عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " قَضَى بِاليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ"

(3)

، حَيثُ جُعِلَ هَذَا يَمِينًا لِلمُدَّعِي.

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله: " وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيرِهِمْ؛ رَأَوا: أَنَّ اليَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ جَائِزٌ فِي الحُقُوقِ وَالأَمْوَالِ، وَهُوَ قَولُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالُوا:

لَا يُقْضَى بِاليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ إِلَّا فِي الحُقُوقِ وَالأَمْوَالِ، وَلَمْ يَرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ وَغَيرِهِمْ أَنْ يُقْضَى بِاليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ"

(4)

.

(1)

النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (4/ 62).

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: "وَلَا يَكُونُ فِيهِم صَبِيٌّ وَلَا امْرَأَةٌ وَلَا مَجْنُونٌ وَلَا عَبْدٌ، أَو يُقْسِمُ بِهَا المُتَّهَمُونَ عَلَى نَفْي القَتْلِ عَنْهُم، فَإِنْ حَلَفَ المُدَّعُونَ اسْتَحَقُّوا الدِّيَةَ، وَإِنْ حَلَفَ المُتَّهَمُونَ لَمْ تَلْزمْهُمُ الدِّيَةُ".

قُلْتُ: وَحَدِيثُ القَسَامَةِ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6889)، وَمُسْلِمٌ (1713).

(2)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ (ص: 332) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1344). صَحِيحُ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ (1344)، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1712) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَه.

(4)

التِّرْمِذِيُّ (3/ 620).

ص: 342

وَقَدْ أَنْكَرَهُ الأَحْنَافُ بِسَبَبِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البَقَرَة: 282] وَقَدْ أَجَابَ الإِسْمَاعِيلِيُّ رحمه الله عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ مَا حَاصِلُهُ: " إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَى الشَّيءِ نَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ"

(1)

.

قُلْتُ: وَهَذَانِ النَّوعَانِ كَانَ اليَمِينُ فِيهِمَا عَلَى المُدَّعِي؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هُنَاكَ مُرَجِّحٌ فِي صَفِّ كُلٍّ منِهْمَا، اعْتُبِرَ هَذَا اليَمِينُ.

فَفِي الحَالَةِ الأُولَى هُنَاكَ مَا يُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ بِـ (اللَّوثِ) كَوُجُودِ الضَّغِينَةِ أَصْلًا بَينَ الطَّرَفَينِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ اللَّوثُ قَرِينَةً، وَفِي الحَالَةِ الثَّانِيَةِ وُجُودُ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ؛ فَإِذَا أُضِيفَ لَهَا اليَمِينُ الجَازِمَةُ عَلَى ذَلِكَ الأَمْرِ قَامَتِ البَيِّنَةُ بِذَلِكَ كَالشَّاهِدَينِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

- قَولُهُ: «اليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» : يُسْتَثْنَى مِنْهَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَينَ الطَّرَفَينِ مُخَالَطَةٌ فَلَا يُسْتَحْلَفُ المُدَّعَى عَلَيهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَتَبَذَّلَ السُّفَهَاءُ الكُبَرَاءَ

(2)

؛ فَيُسِيئُونَ إِلَيهِم أَمَامَ النَّاسِ بِالتُّهْمَةِ وَالحَلِفِ.

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رحمه الله: " فَلْيَقِفْ عِنْدَ مَا شَرَطْنَا فِي أَنْ لَا يَقْبَلَ فِيمَنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُ، وَعُلِمَتَ بِالْعِلْمِ عِنَايَتُهُ، وَسَلِمَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَزِمَ الْمُرُوءَةَ وَالتَّصَاوُنَ، وَكَانَ خَيْرُهُ غَالِبًا، وَشَرُّهُ أَقَلَّ عَمَلِهِ؛ فَهَذَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ قَائِلٍ

لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ إِنْ شَاء الله"

(3)

.

(1)

فَتْحُ البَارِي (5/ 281).

(2)

أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ عَنِ الإِمَامُ مَالِكُ رَحِمَهُمَا اللهُ. جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 237).

(3)

جَامِعُ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ (2/ 1117).

ص: 343

- أَحْوَالُ الدَّعَاوَى ثَلَاثَةٌ، هِيَ:

1 -

مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيهِ: وَفِيهَا حَدِيثُ البَابِ.

2 -

مُدَّعًى عَلَيهِ دُونَ مُدَّعٍ: وَهِيَ مَا كَانَ فِي حُقُوقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَنْ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ، وَالمُطَلِّقُ، وَالنَّاكِحُ؛ فَيُعْتَبَرُ يَمِينُهُ إِذَا اتُّهِمَ.

3 -

مُدَّعٍ دُونَ مُدَّعًى عَلَيهِ: أَي إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ شَيئًا لَيسَ لَهُ صَاحِبٌ مَعْرُوفٌ؛ فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهَا غَلَبَةُ الظَّنِّ عَلَى صِدْقِهِ، كَاللُّقْطَةِ، وَالغَنِيمَةِ، وَالغُصُوبِ.

4 -

أَكْثَرُ مِن مُدَّعٍ عَلَى شَيءٍ وَاحِدٍ: أَي إِذَا ادَّعَتْ أَطْرَافٌ عَلَى شَيءٍ وَلَيسَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ؛ أُقْرِعَ بَينَهُمَا عَلَى اليَمِينِ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَومٍ اليَمِينَ؛ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَينَهُمْ فِي اليَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ)

(1)

.

- يُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ البَابِ -مِنْ جِهَةِ التَّوحِيدِ- أَنَّ مَنْ كَانَ مُدَّعِيًا مَحَبَّةَ اللهِ تَعَالَى طُولِبَ بِالبَيِّنَةِ، وَهِيَ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عِمْرَان: 31].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: " هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللهِ -وَلَيسَ هُوَ عَلَى الطَّرِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ-؛ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ حَتَّى يَتَّبِعَ الشَّرْعَ المُحَمَّدِيَّ وَالدِّينَ النَّبَوِيَّ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ) "، إِلَى أَنْ قَالَ رحمه الله: " ثُمَّ قَالَ آمِرًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ

(1)

البُخَارِيِّ (2674).

ص: 344

خَاصٍّ وَعَامٍّ: {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا} أَي: خَالَفُوا عَنْ أَمْرِهِ {فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِي الطَّرِيقَةِ كُفْرٌ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ -وَإِنِ ادَّعَى وَزَعَمَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيهِ-! حَتَّى يُتَابِعَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ خَاتَمَ الرُّسُلِ وَرَسُولَ اللهِ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَينِ الجِنِّ وَالإِنْسِ؛ الَّذِي لَو كَانَ الأَنْبِيَاءُ -بَلِ المُرْسَلُونَ، بَلْ أُولُو العَزْمِ مِنْهُمْ- فِي زَمَانِهِ لَمَا وَسِعَهُمْ إِلَّا اتِّبَاعُهُ وَالدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعُ شَرِيعَتِهِ"

(1)

.

- المُدَّعَى عَلَيهِ يَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ بِالعَدَمِ، فَلَيسَ عَلَيهِ حَرَجٌ فِي ذَلِكَ، حَيثُ قَدْ يُخْشَى أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا أَو جَاهِلًا أَو غَابَ عَنْهُ ذَلِكَ العِلْمُ!

كَمَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَينِ -وَقَدْ سَبَقَ، وَاللَّفْظُ هُنَا لِأَبِي دَاوُدَ- عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيسٍ " أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ وَرَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوتَ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضٍ مِنَ اليَمَنِ، فَقَالَ الحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ أَرْضِي اغْتَصَبَنِيهَا

أَبُو هَذَا وَهِيَ فِي يَدِهِ. قَالَ: «هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟» قَالَ: لَا؛ وَلَكِنْ أُحَلِّفُهُ -وَاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا أَرْضِي اغْتَصَبَنِيهَا أَبُوهُ-! فَتَهَيَّأَ الكِنْدِيُّ -يَعْني لِلْيَمِينِ-" وَسَاقَ الحَدِيثَ، وَالشَّاهِدُ قَولُهُ: " أُحَلِّفُهُ؛ وَاللَّهِ مَا يَعْلَمُ"

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ أَبُو دَاوُد -صَاحِبُ السُّنَنِ-: " بَابُ: الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ فِيمَا غَابَ عَنْهُ"

(3)

.

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (2/ 32).

(2)

أَبُو دَاوُدَ (3622).

(3)

أَبُو دَاوُدَ (5/ 470).

ص: 345

‌الحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالثَّلاثُونَ: (مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنكَرًا فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ)

عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ قَالَ: سَمِعْتُ رِسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِقَلبِه، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

- الحَدِيثُ بَوَّبَ عَلَيهِ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِـ (بَابِ بَيَانِ كَونِ النَّهْي عَنِ المُنْكَر مِنَ الإِيمَانِ، وَأَنَّ الإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَر وَاجِبَانِ)، ثُمَّ أَورَدَ الحَدِيثَ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ؛ قَالَ:" أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالخُطْبَةِ يَومَ العِيدِ -قَبْلَ الصَّلَاةِ- مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيهِ رَجُلٌ؛ فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ! فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» ".

- قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: " وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا البَابَ -أَعْنِي: بَابَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ- قَدْ ضُيِّعَ أَكْثَرُهُ مِنْ أَزْمَانٍ مُتَطَاوِلَةٍ وَلَمْ يَبْقْ مِنْهُ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ إِلَّا رُسُومٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا، وَهُو بَابٌ عَظِيمٌ بِهِ قِوَامُ الأَمْرِ وَمِلَاكُهُ، وَإِذَا كَثُرَ الخَبَثُ عَمَّ العِقَابُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ، وَإِذَا لَمْ يَاخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ أَوشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِعِقَابِهِ"

(2)

.

(1)

مُسْلِمٌ (49).

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ للنَّوَوِيّ (2/ 24).

ص: 346

وَفِي البُخَارِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوقَهُمْ، فَقَالُوا: لَو أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوقَنَا! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِمْ نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعًا»

(1)

.

وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الأَنْفَال: 25].

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: " بَلْ تُصِيبُ فَاعِلَ الظُّلْمِ وَغَيرِهِ، وَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ فَلَمْ يُغَيَّرْ؛ فَإِنَّ عُقُوبَتَهُ تَعُمُّ الفَاعِلَ وَغَيرَهُ، وَالتَّقْوَى مِنْ هَذِهِ الفِتْنَةِ تَكُونُ بِالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، وَقَمْعِ أَهْلِ الشَّرِّ وَالفَسَادِ؛ وَأَنْ لَا يُمَكَّنُوا مِنَ المَعَاصِي وَالظُّلْمِ مَهْمَا أَمْكَنَ"

(2)

.

- المُنْكَرُ: اسْمٌ لِمَا عُرِفَ فِي الشَّرِيعَةِ قُبْحُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ.

- قَالَ العُلَمَاءُ: ظَاهِرُ الحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ النَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ حَتَّى يُرَى بِالعَينَ، وَيُنَزَّلُ السَّمْعُ المُحَقَّقُ مَنْزِلَةَ الرَّاي بِالعَينِ، فَإِذَا عَلِمَ بِمُنْكَرٍ -أَي: لَيسَ مُشَاهَدَةً-؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الإِنْكَارِ؛ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي النَّصِيحَةِ.

- قَولُهُ: «فَلْيُغَيِّرْهُ» : تَتَضَمَّنُ مَعَانِيَ؛ مِنْهَا الإِزَالَةُ بِاليَدِ، كَكَسْرِ آلَةِ اللَّهْوِ وَآنِيَةِ الخَمْرِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِالقَلْبِ.

- إِنَّ مَا يُتْلَفُ مِن آلَاتِ اللَّهْوِ المُحَرَّمَةِ لَا ضَمَانَ عَلَيهَا.

(1)

البُخَارِيُّ (2493).

(2)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 318).

ص: 347

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " وَالأَصْنَامُ وَآلَاتُ المَلَاهِي لَا يَجِبُ فِي

إِبْطَالِهَا شَيءٌ، وَالأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُكْسَرُ الكَسْرَ الفَاحِشَ؛ بَلْ تُفْصَلُ لِتَعُودَ كَمَا

قَبْلَ التَّالِيفِ، فَإِنْ عَجَزَ المُنْكِرُ عَنْ رِعَايَةِ هَذَا الحَدِّ لِمَنْعِ صَاحِبِ المُنْكَرِ؛ أَبْطَلَهُ كَيفَ تَيَسَّرَ"

(1)

.

وَهَكَذَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ الخَلِيلُ عليه الصلاة والسلام حِينَ حَطَّمَ الأَصْنَامَ "وَهَذِهِ هِيَ المَرْتَبَةُ الرَّفِيعَةُ؛ مَرْتَبَةُ تَغْييرِ المُنْكَرِ بِاليَدِ، سَنَّهَا أَبُو الأَنْبِيَاءِ إِبْرَاهِيمُ، وَتَبِعَهُ فِيهَا مُوسَى حِينَمَا قَالَ لِلْسَّامِرِيِّ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97]، وَتَبِعَهُمَا خِتَامُهُم وَأَفْضَلُهُم مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم؛ فَحَطَّمَ أَوْثَانَ العَرَبِ المُحِيطَةِ بِمَكَّةَ، وَأَرْسَلَ أَصْحَابَهُ يَهْدِمُونَهَا فِي كُلِّ حَيٍّ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْ طَاغِيَةِ ثَقِيفٍ شَفَاعَةُ ثَقِيفٍ"

(2)

.

- إِنَّ الإِنْكَارَ بِاللِّسَانِ هُوَ تَغْيِيرٌ لِلمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ صَاحِبُ المُنْكَرِ! وَيَكُونُ إِنْكَارُ اللِّسَانِ بِالزَّجْرِ، وَالتَّوبِيخِ، وَالرَّسَائِلِ، وَالكِتَابَةِ فِي الصُّحُفِ وَوَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ أَسَالِيبِ الرَّدْعِ المُمْكِنَةِ.

- قَولُهُ: «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ» : هُوَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيِينِ مُتَلَازِمَينِ:

1 -

أَقَلِّ المَرَاتِبِ إِيمَانًا: وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ يَسْتَطِيعُهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَعَدَمُ الإِنْكَارِ فِي القَلْبِ دَلِيلٌ عَلَى ذَهَابِ الإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ.

2 -

أَقَلِّ أَنْوَاعِ الإِيمَانِ ثَمَرَةً: لِعَدَمِ تَعَدِّي نَفْعِهَا.

- فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ -بَعْدَ حَدِيثِ البَابِ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ

(1)

مِنْهَاجُ الطَّالِبِينَ (ص: 147).

(2)

آثَارُ الإِمَامِ مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِيِّ (1/ 396).

ص: 348

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَاخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ؛ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ»

(1)

.

قُلْتُ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ المَرْتَبَةَ الأَخِيرَةَ مِنَ الإِنْكَارِ بِالقَلْبِ هِيَ مِنَ الإِيمَانِ، وَلَكِنْ بِأَدْنَى مَرَاتِبِهِ، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ قُدْرَتِهِ عَلَى الأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَإِلَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا لَهَا أَصْلًا لَمْ تَكُنْ أَدْنَى فِي حَقِّهِ! وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا؛ فَتَنَبَّهْ.

وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاء: 95، 96] حَيثُ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ أُولِي الضَّرَرِ مِنْ جُمْلَةِ المُقَارَنَةِ بَينَ الحَالِ الأَدْنَى وَالحَالِ الأَعْلَى الَّذِي هُوَ لِأَهْلِ الجِهَادِ بِالمَالِ وَالنَّفْسِ.

- وَفِي الحَدِيثِ أَنَّ المُؤْمِنَ لَا يَرْضَى بِالمُنْكَرِ أَبَدًا، فَإِنِ اسْتَطَاعَ تَغْيِيرَهُ غيَّرَه؛ وَإِلَّا أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ؛ وَإِلَّا أَنْكَرَهُ فِي قَلْبِهِ وَاعْتَقَدَ بُطْلَانَهُ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " فَدَلَّتْ هَذِهِ الأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى وُجُوبِ إِنْكَارِ المُنْكَرِ بِحَسَبِ القُدْرَةِ عَلَيهِ، وَأَنَّ إِنْكَارَهُ بِالقَلْبِ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ فَمَنْ لَمْ

(1)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (50).

ص: 349

يُنْكِرْ قَلْبُهُ المُنْكَرَ دَلَّ عَلَى ذَهَابِ الإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ"

(1)

.

وَقَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: " فَأَصْلُ الإِيمَانِ فِي القَلْبِ -وَهُوَ قَولُ القَلْبِ وَعَمَلُهُ-، وَهُوَ إقْرَارٌ بِالتَّصْدِيقِ، وَالحُبُّ، وَالِانْقِيَادُ، وَمَا كَانَ فِي القَلْبِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُوجِبُهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلَى الجَوَارِحِ، وَإِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ أَو ضَعْفِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتِ الأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ مِنْ مُوجِبِ إِيمَانِ القَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ، وَهِيَ تَصْدِيقٌ لِمَا فِي القَلْبِ وَدَلِيلٌ عَلَيهِ وَشَاهِدٌ لَهُ، وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ الإِيمَانِ المُطْلَقِ وَبَعْضٌ لَهُ، لَكِنَّ مَا فِي القَلْبِ هُوَ الأَصْلُ لِمَا عَلَى الجَوَارِحِ، كَمَا قَالَ

أَبُو هُرَيرَةَ رضي الله عنه: «إنَّ القَلْبَ مَلِكٌ، وَالأَعْضَاءَ جُنُودُهُ؛ فَإِنْ طَابَ المَلِكُ طَابَتْ

جُنُودُهُ، وَإِذَا خَبُثَ المَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ»

(2)

، وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا «إنَّ

فِي الجَسَدِ مُضْغَةً؛ إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الجَسَدِ؛ أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»

(3)

"

(4)

.

- إِنَّ تَغْيِيرَ المُنْكَرِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالأَمِيرِ فَقَطْ! بَلْ ذَلِكَ ثَابِتٌ لِآحَادِ المُسْلِمِينَ لِقَولِهِ: «مِنكُم» ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَامُرُ وَيَنْهَى مَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَامُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالصَّومِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ المُسْلِمِينَ عُلَمَاءُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِقِ الأَفْعَالِ وَالأَقْوَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالاجْتِهَادِ وَلَمْ يَكُنْ لِلعَوَامِّ فِيهِ مَدْخَلٌ؛ فَلَيسَ لَهُم إِنْكارُه، بَلْ ذَلِكَ لِلعُلَمَاءِ.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 245).

(2)

ضَعِيفٌ. شُعَبُ الإِيمَانِ (108). الضَّعِيفَةُ (4074).

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (52)، وَمُسْلِمٌ (1599).

(4)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (7/ 644).

ص: 350

- إِنَّ إِنْكَارَ المُنْكَرِ يَخْتَلِفُ عَنِ النَّصِيحَةِ مِنْ جِهَتَينِ:

1 -

الإِنْكَارُ أَخَصُّ مِنَ النَّصِيحَةِ.

2 -

الإِنْكَارُ يَكُونُ عَلَنًا، أَمَّا النَّصِيحَةُ فَتَكُونُ سِرًّا.

- فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ شُهُودِ أَمَاكِنِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ دُونَ تَغْيِيرِهَا، كَمَا فِي الأَدِلَّةِ التَّالِيَةِ:

1 -

قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَومِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

[الأَنْعَام: 68 - 69]

(1)

.

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: " {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَومِ الظَّالِمِينَ} يَشْمَلُ الخَائِضِينَ بِالبَاطِلِ وَكُلَّ مُتَكَلِّمٍ بِمُحَرَّمٍ، أَو فَاعِلٌ لِمُحَرَّمٍ؛ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الجُلُوسُ وَالحُضُورُ عِنْدَ حُضُورِ المُنْكَرِ الَّذِي لَا يُقْدَرُ عَلَى إِزَالَتِهِ"

(2)

.

2 -

قَولُهُ عليه الصلاة والسلام فِي الحَدِيثِ: «إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا -وَقَالَ مَرَّةً: أَنْكَرَهَا- كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا»

(3)

، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الرَّاضِي بِالشَّيءِ كَفَاعِلِهِ.

قَالَ العَلَّامَةُ شَمْسُ الحَقِّ العَظِيمُ آبَادِي: " «فَكَرِهَهَا» أَي: بِقَلْبِهِ، «كَمَنْ غَابَ عَنْهَا» أَي: فِي عَدَمِ لُحُوقِ الإِثْمِ لَهُ، وَهَذَا عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إِزَالَتِهَا بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ،

(1)

قَولُهُ تَعَالَى: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} : «يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِالبَاطِلِ» . التَّحْرِيرُ وَالتَّنْوِيرُ لِابْنِ عَاشُور

(7/ 289).

(2)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 260).

(3)

حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (4345) عَنِ العُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ الكِنْدِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (689).

ص: 351

«وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» أَي: فِي المُشَارَكَةِ فِي الإِثْمِ -وَإنْ بَعُدَتِ المَسَافَةُ بَينَهُمَا-"

(1)

.

- إِنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَامُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَر وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [آل عِمْرَان: 104]، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَتَعَيَّنُ فِي حَالَتَينِ:

1 -

إِذَا كَانَ المُنْكَرُ فِي مَوضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا هُوَ.

2 -

إِذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إِزَالَتِهِ إِلَّا هُوَ، كَمَنْ يَرَى زَوجَتَهُ أَو وَلَدَهُ أَو غُلَامَهُ عَلَى مُنْكَرٍ.

- قَالَ الشَّيخُ مُلَّا عَلِي القَارِيّ رحمه الله: " ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ المُنْكَرُ حَرَامًا وَجَبَ الزَّجْرُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ مَكْرُوهًا نُدِبَ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ أَيضًا تَبَعٌ لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ؛ فَإِنْ وَجَبَ فَوَاجِبٌ، وَإِنْ نُدِبَ فَمَنْدُوبٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الحَدِيثِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ شَامِلٌ لَهُ"

(2)

.

- عِنْدَ تَغْيِيرِ المُنْكَرِ تُرَاعَى أُمُورٌ، هِيَ:

1 -

العِلْمُ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الأَمْرُ مُنْكَرًا وَاضِحًا يَتَّفِقُ عَلَيهِ الجَمِيعُ، أَو فِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ غَيرُ مُعْتَبَرٍ.

وَأَيضًا أَنْ يَسْتَبِينَ كَونُ الأَمْرِ مُنْكَرًا فِي حَقِّ المُنْكَرِ عَلِيهِ بِدُونِ التِبَاسٍ، كَالإِنْكَارِ عَلَى امْرَأَةٍ تَاكُلُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِعِلَّةِ حَيضِهَا! وَهُوَ أَمْرٌ خَفِيٌّ.

وَمِنْ جُمْلَةِ العِلْمِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هُنَا مَعْرِفَةُ حَالِ المَدْعُوِّ، وَطَرِيقَةِ الدَّعْوَةِ، وَمَادَّةِ

(1)

عَونُ المَعْبُودِ (11/ 336).

(2)

مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ (8/ 3209).

ص: 352

الدَّعْوَةِ؛ كَمَا أَفَادَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي إِرْسَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ

(1)

.

2 -

القُدْرَةُ عَلَى تَغْيِيرِهِ: وَكُلٌّ بِحَسْبِ طَاقَتِهِ وَوِلَايَتِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «مَا مِنْ قَومٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالمَعَاصِي؛ ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ»

(2)

.

وَلَكِنْ تُلَاحَظُ فِيهِ القُدْرَةُ عَلَى تَحَمُّلِ الأَذَى، وَكُلٌّ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ، وَفِي الحَدِيثِ «لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ؛ يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ»

(3)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: " فَأَمَّا حَدِيثُ «لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ الأَذَى وَلَا يَصْبِرُ عَلَيهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ حِينَئِذٍ لِلأَمْرِ -وَهَذَا حَقٌّ-، وَإنَّمَا الكَلَامُ فِيمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ، كَذَلِكَ قَالَهُ الأَئِمَّةُ؛ كَسُفْيَانَ وَأَحْمَدَ وَالفُضِيلِ بْنِ عِيَاضٍ وَغَيرِهِم"

(4)

.

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: " قَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ مُطْلَقًا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَفَعَهُ:«أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»

(5)

، وَبِعُمُومِ قَولِهِ: «مَنْ رَأَى

(1)

وَفِيهِ: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ» إِلَى آخِرِ الحَدِيثِ. صَحِيحُ البُخَارِيِّ (7371).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4338) عَنْ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3353).

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2254) عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (613).

(4)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 251).

(5)

صَحِيحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (4344). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (4344).

ص: 353

مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ» الحَدِيثَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ إِنْكَارُ المُنْكَرِ؛ لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَ المُنْكِرَ بَلَاءٌ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: «يُسْتَعْمَلُ عَلَيكُمْ أُمَرَاءُ بَعْدِي؛ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»

(1)

الحَدِيث). قَالَ: وَالصَّوَابُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ المَذْكُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيهِ حَدِيثُ:«لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ «يَتَعَرَّضَ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ»

(2)

. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ غَيرُهُ: يَجِبُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ضَرَرًا"

(3)

.

3 -

عَدَمُ الانْتِقَالِ إِلَى مُنْكَرٍ آخَرَ مِثْلِهِ أَو أَشَدَّ! وَلَكِنْ إِلَى مَعْرُوفٍ، أَو تَرْكٍ لِلمُنْكَرِ، أَو أَدْنَى مِنْهُ.

4 -

الرِّفقُ: كَمَا فِي الحَدِيثِ «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ»

(4)

.

وَالأَصْلُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ هُوَ الرِّفْقُ، لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الشِّدَّةُ هِيَ الأَفْضَلُ فِي بَعْضِ الَحالَاتِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى عَنِ المُسْتَهْزِئِينَ:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التَّوبَةُ: 65، 66].

5 -

ظَنُّ الانْتِفَاعِ.

(1)

صَحِيحُ مُسْلِمٍ (1854).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2254) عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (613).

(3)

فَتْحُ البَارِي (13/ 53).

(4)

مُسْلِمٌ (2594) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 354

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ وُجُوبُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ مُتَعَلِّقٌ

بِظَنِّ الانْتِفَاعِ؟

الجَوَابُ: فِيهِ خِلَافٌ

(1)

؛ وَلَعَلَّ الأَرْجَحَ هُوَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الوَعْظَ غَايَتُهُ الانْتِهَاءُ عَنِ المُنْكَرِ، وَلَيسَ عَمَلًا تَعَبُّدِيًّا مَحْضًا! وَدَلَّتْ لِهَذَا أَدِلَّةٌ؛ مِنْهَا:

1 -

قَولُهُ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأَعْلَى: 9].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ: " أَي: ذَكِّرْ حَيثُ تَنْفعُ التَّذْكِرَةُ"

(2)

.

(1)

وَالجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ، وَاسْتُدِلَ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ بِقَولِهِ تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَينَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأَعْرَافُ:164، 165]، وَالشَّاهِدُ فِيهِ أَنَّ النَّجَاةَ كَانَتْ لِمَنْ كَانَ يَنْهَى عَنِ السُّوءِ.

وَرُدَّ عَلَى الاسْتِدْلَالِ السَّابِقِ بِتَمَامِ الآيَةِ وَفِيهَا {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وَالشَّاهِدُ هُوَ أَخْذُ الظَّالِمِينَ فَقَط بِالعَذَابِ.

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (8/ 380).

فَائِدَةٌ: قَالَ أَيضًا الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "وَمِنْ هَاهُنَا يُؤْخَذُ الأَدَبُ فِي نَشْرِ العِلْمِ؛ فَلَا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيرِ أَهْلِهِ! كَمَا قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: "مَا أَنْتَ مُحدِّثٌ قَومًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً". وَقَالَ: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟! " ".

قُلْتُ: أَمَّا الأَثَرُ الأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (5) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوقُوفًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (127) عَنْ عَلِيٍّ مَوقُوفًا.

ص: 355

وَقَالَ العَلَّامَةُ الشَّنْقِيطِيُّ رحمه الله: " وَيُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهِ: مَظِنَّةُ النَّفْعِ بِهِ، فَإِنْ جَزَمَ بِعَدَمِ الفَائِدَةِ فِيهِ؛ لَمْ يَجِبْ عَلِيهِ، كَمَا يَدُلُّ لَهُ ظَاهِرُ قَولِهِ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} "

(1)

.

2 -

فِي الحَدِيثِ «إِذَا رَأيتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَكانُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ بَينَ أَصَابِعِهِ-؛ فَالْزَمْ بَيتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُهُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيكَ بِأمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ العَامَّةِ»

(2)

.

قَالَ العَلَّامَةُ شَمْسُ الحَقِّ العَظِيمُ آبَادِي: " أَي: اِلْزَمْ أَمْرَ نَفْسِكَ، وَاحْفَظْ دِينَكَ، وَاتْرُكِ النَّاسَ وَلَا تَتَّبِعَهُمْ، وَهَذَا رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهِي عَنِ المُنْكَرِ إِذَا كَثُرَ الأَشْرَارُ وَضَعُفَ الأَخْيَارُ"

(3)

.

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ قَالَ: " هَذِهِ الآيَةُ {عَلَيكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيتُمْ} [المَائِدَة: 105] لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِنَا؛ إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ" .... ، وَكَلَامُ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ؛ لَمْ يَجِبْ عَلِيهِ، كَمَا حُكِيَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَكَذَا قَالَ الأَوزَاعِيُّ: مُرْ مَنْ تَرَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْكَ"

(4)

.

قُلْتُ: وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ، وَتَذْكِيرِ النَّاسِ بِأَمْرِ الدِّينِ

(5)

.

قَالَ الشَّيخُ صَالِحُ آلِ الشَّيخِ حَفِظَهُ اللهُ: " وَمَفْهُومُ الآيَةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى

(1)

أَضْوَاءُ البَيَانِ (1/ 465).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4343) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (205).

(3)

عَونُ المَعْبُودِ (11/ 335).

(4)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 253).

(5)

أَفَادَهُ الغَزَالِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (إِحْيَاءُ عُلُومِ الدِّينِ)(2/ 319).

ص: 356

ظَنِّهِ الانْتِفَاعُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيهِ، وَيَكُونُ الحَالُ إِذًا عَلَى الاسْتِحْبَابِ.

وَهَذَا القَولُ أَظْهَرُ عِنْدِي وَأَصَحُّ، وَهُوَ قَولُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُم، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِم دَخَلُوا عَلَى وُلَاةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَدَخَلُوا عَلَى بَعْضِ الأُمَرَاءِ فِي زَمَنِهِم، فَوَجَدُوا عِنْدَهُم مُنْكَرَاتٍ فَلَمْ يُنْكِرُوا! فَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِم عَدَمُ الانْتِفَاعِ بِالأَمْرِ وَالنَّهْي؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُم تَرَكُوا وَاجِبًا!

وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجِبُ؛ يَبْقَى الاسْتِحْبَابُ حِمَايَةً لِلْشَّرِيعَةِ، وَصِيَانَةً لِهَذَا الوَاجِبِ الشَّرْعِيِّ، وَكَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا

ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ»

(1)

! يَعْنِي أَنَّهُ يَامُرُهُ مَرَّةً وَيَتْرُكُ ذَلِكَ، فَيَبْقَى هَذَا عَلَى جِهَةِ الاسْتِحْبَابِ دَائِمًا إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ فِي إِنْكَارِ المُنْكَرِ"

(2)

.

(1)

ضَعِيفٌ. أَبُو دَاودَ (4336) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. الضَّعِيفَةُ (201).

(2)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لصَالِح آلِ الشَّيخِ (ص: 467).

ص: 357

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يُنْكَرُ عَلَى وُلَاةِ الأَمْرِ عَلَانِيَةً؟

الجَوَابُ: إِنَّ الإِنْكَارَ عَلَى الأُمَرَاءِ لَا يَكُونُ عَلَانِيَةً بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ! إِلَّا إِنْ كَانَ المُنْكَرُ عَلَانِيَةً تَفُوتُ فَائِدَةُ إِنْكَارِهِ بِمُضِيِّ وَقْتِهِ؛ وَإِلَّا فَالأَصْلُ الإِسْرَارُ.

فَالإِنْكَارُ عَلَى الوُلَاةِ نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ، وَلَكِنَّهُم فَرَّقُوا بَينَ المُنْكَرِ الَّذِي يُفْعَلُ أَمَامَ النَّاسِ عَلَنًا كَحَالِ الأَمِيرِ الَّذِي قَدَّمَ خُطْبَتَيِّ العِيدِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمَا بَينَ مَا يُجْرِيهِ فِي وِلَايَتِهِ؛ فَجَعَلُوا مَا يُجْرِيهِ فِي وِلَايَتِهِ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ النَّصِيحَةِ، وَمَا يَفْعَلُهُ عَلَنًا يَاتِي عَلِيهِ هَذَا الحَدِيثُ

(1)

.

وَكَمَا فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ؛ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَومَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى؛ فَأَوَّلُ شَيءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ -وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ- فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَامُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ، أَو يَامُرَ بِشَيءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ -وَهُوَ أَمِيرُ المَدِينَةِ- فِي أَضْحىً أَو فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَينَا المُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ؛ فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ! فَجَبَذْتُ بِثَوبِهِ؛ فَجَبَذَنِي، فَارْتَفَعَ فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ. فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ! فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ؛ قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ. فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ -وَاللَّهِ- خَيرٌ مِمَّا لَا أَعْلَمُ. فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ"

(2)

.

(1)

يُنْظَرْ: (شَرْحَ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ) لصَالِح آلِ الشَّيخِ (ص: 472).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (956)، وَمُسْلِمٌ (889).

ص: 358

وَمِمَّا جَاءَ فِي أَنَّ الأَصْلَ فِي الإِنْكَارِ عَلَى الوُلَاةِ هُوَ الإِسْرَارُ مَا ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِهِ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ يَاخُذُ بِيَدِهِ فَيَخْلُو بِهِ؛ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا قَدْ كَانَ أَدَّى الَّذِي عَلَيه»

(1)

.

وَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ؟! فَقَالَ: أَتُرَونَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ! وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَينِي وَبَينَهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ، وَلَا أَقُولُ لأَحَدٍ -يَكُونُ عَلَيَّ أَمِيرًا-: إِنَّهُ خَيرُ النَّاسِ! بَعْدَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَامُرُ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَر؟! فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ

المُنْكَر وَآتِيهِ»

(2)

.

قَالَ الشَّيخُ الفَاضِلُ عَبْدُ المُحْسِنِ العَبَّادِ حَفِظَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ عَلَى سُنَنِ

أَبِي دَاوُدَ -عِنْدَ حَدِيثِ «أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»

(3)

-:

" وَهَذَا الحَدِيثُ لَا يُسْتفَادُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الكَلَامِ عَلَى أَخْطَاءِ الوُلَاةِ عَلَى المَنَابِرِ! لِأَنَّ هَذَا تَشْهِيرٌ وَإِيذَاءٌ، وَالإِنْسَانُ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُنْصَحَ عَلَى المَنَابِرِ، وَأَنْ

(1)

صَحِيحٌ. كِتَابُ (السُّنَّةُ) لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (1096) عَنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ مَرْفُوعًا.

وَفِي ظِلَالِ الجَنَّةِ (1096): بَابُ «كَيفَ نَصِيحَةُ الرَّعِيَّةِ لِلوُلَاةِ» .

وَأَورَدَهُ أَيضًا الهَيثَمِيُّ رحمه الله فِي المَجْمَعِ: بَابُ «النَّصِيحَةُ لِلأَئِمَّةِ وَكَيفِيَّتُهَا» (5/ 229).

(2)

البُخَارِيُّ (3267)، وَمُسْلِمٌ (2989).

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاودَ (4344) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1100).

ص: 359

يُشَهَّرَ بِهِ عَلَى المَنَابِرِ، وَأَنْ يُتكَلَّمَ مَعَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ

(1)

! وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللهِ عَلِيهِ: (مَنْ نَصَحَ أَخَاهُ سِرًّا؛ فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ نَصَحَهُ عَلَانِيَةً؛ فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ) "

(2)

.

قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ أُسْلُوبَ نَصِيحَةِ الصَّحَابِيِّ الجَلِيلِ أَبِي شُرَيحٍ -خُوَيلِدِ بْنِ عَمْرٍو- الْخُزَاعِيِّ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه؛ حِينَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ -وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ- ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَولًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَومِ الْفَتْحِ؛ فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَينَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ:" أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ! فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ؛ وَلَمْ يَأذَنْ لَكُمْ! وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَومَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ؛ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ». فَقِيلَ لأَبِي شُرَيحٍ: مَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيحٍ، إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلا فَارًّا بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخَرْبَةٍ! "

(3)

.

(1)

وَهُوَ يُجَرِّئُ السُّفَهَاءَ عَلَيهِم، كَمَا أَنَّهُ يُفَرِّقُ كَلِمَتَهُم الَّتِي لَا تَتِمُّ مَصَالِحُ النَّاسِ إِلَّا بِهَا.

(2)

شَرْحُ سُنَنِ أَبِي دَاودَ الصَّوتِيِّ (شَرِيط: 373).

(3)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (104)، وَصَحِيحُ مُسْلِمٍ (1354).

قُلْتُ: إِلَّا أَنَّهُ لَا يَخْفَى الفَرْقُ بَينَ اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ فِيهَا وَبَينَ طَلَبِ أَهْلِ الإِجْرَامِ فِيهَا مِن

اللُّصُوصِ وَالقَتَلَةِ!

ص: 360

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ قَولُهُ: عليه الصلاة والسلام: «فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ» هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ دُونَ اعْتِبَارٍ لِلفِتْنَةِ المُتَرَتِّبَةِ عَلَى ذَلِكَ؟

الجَوَابُ: " لَا، بَلْ إِذَا خَافَ فِي ذَلِكَ فِتْنَةً فَلَا يُغَيَّرْ، لِأَنَّ المَفَاسِدَ يُدْرَأُ أَعْلَاهَا بِأَدْنَاهَا، كَمَا لَو كَانَ يَرَى مُنْكَرًا يَحْصُلُ مِنْ بَعْضِ الأُمَرَاءِ -وَيَعْلمُ أَنَّهُ لَو غَيَّرَ بِيَدِهِ اسْتَطَاعَ- وَلَكِنْ تَحْصُلُ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ إِمَّا عَلِيهِ هُوَ، وَإِمَّا عَلَى أَهْلِهِ، وَإِمَّا عَلَى قُرَنَائِهِ مِمَّنْ يُشَارِكُونَهُ فِي الدَّعْوَةِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، فَهُنَا نَقُولُ: إِذَا خِفْتَ فِتْنَةً فَلَا تُغَيِّرْ، لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيرِ عِلْمٍ} [الأَنْعَام: 108] "

(1)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: " يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَالمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ المُشْرِكِينَ -وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ- إِلَّا أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلِيهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا؛ وَهِيَ مُقَابَلَةُ المُشْرِكِينَ بِسَبِّ إِلَهِ المُؤْمِنِينَ -وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ-"

(2)

.

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله فِي مَعْرِضِ الإِنْكَارِ عَلَى الوُلَاةِ:

" وَأَمَّا الخُرُوجُ عَلَيهِمْ بِالسَّيفِ؛ فَيُخْشَى مِنْهُ الفِتَنُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى سَفْكِ دِمَاءِ المُسْلِمِينَ.

نَعَمْ؛ إِنْ خَشِيَ فِي الإِقْدَامِ عَلَى الإِنْكَارِ عَلَى المُلُوكِ أَنْ يُؤْذِيَ أَهْلَهُ أَو جِيرَانَهُ؛ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ حِينَئِذٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعَدِّي الأَذَى إِلَى غَيرِهِ، كَذَلِكَ قَالَ الفُضَيلُ بْنُ عِيَاضٍ وَغَيرُهُ.

وَمَعَ هَذَا؛ فَمَتَى خَافَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ السَّيفَ أَوِ السَّوطَ أَوِ الحَبْسَ أَوِ القَيدَ

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص: 336).

(2)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (3/ 314).

ص: 361

أَوِ النَّفْيَ أَو أَخْذَ المَالِ أَو نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الأَذَى؛ سَقَطَ أَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ، وَقَدْ نَصَّ الأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيرُهُمْ.

قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَتَعَرَّضُ لِلسُّلْطَانِ؛ فَإِنَّ سَيفَهُ مَسْلُولٌ.

وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ كَالجِهَادِ؛ يَجِبُ عَلَى الوَاحِدِ أَنْ يُصَابِرَ فِيهِ الِاثْنَينِ وَيَحْرُمَ عَلَيهِ الفِرَارُ مِنْهُمَا، وَلَا يَجِبَ عَلَيهِ مُصَابَرَةُ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ.

فَإِنْ خَافَ السَّبَّ أَو سَمَاعَ الكَلَامِ السَّيِّءِ؛ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الإِنْكَارُ بِذَلِكَ! نَصَّ عَلَيهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِنِ احْتَمَلَ الأَذَى وَقَوِيَ عَلَيهِ؛ فَهُوَ أَفْضَلُ، نَصَّ عَلَيهِ أَحْمَدُ أَيضًا، وَقِيلَ لَهُ: أَلَيسَ قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَيسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ؛ أَنْ يُعَرِّضَهَا مِنَ البَلَاءِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ» ، قَالَ: لَيسَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ"

(1)

.

وَقَالَ أَيضًا الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: آمُرُ السُّلْطَانَ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُ عَنِ المُنْكَرِ؟ قَالَ: إِنْ خِفْتَ أَنْ يَقْتُلَكَ؛ فَلَا، ثُمَّ عُدْتُ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عُدْتُ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا؛ فَفِيمَا بَينَكَ وَبَينَهُ.

وَقَالَ طَاوُسُ: أَتَى رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ؛ فَقَالَ: أَلَا أَقُومُ إِلَى هَذَا السُّلْطَانِ فَآمُرُهُ وَأَنْهَاهُ؟ قَالَ: لَا؛ تَكُنْ لَهُ فِتْنَةً، قَالَ: أَفَرَأَيتَ إِنْ أَمَرَنِي بِمَعْصِيَةِ اللهِ؟ قَالَ: ذَلِكَ الَّذِي تُرِيدُ؛ فَكُنْ حِينَئِذٍ رَجُلًا"

(2)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 249).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 248).

ص: 362

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ

(1)

حَدِيثَ جِهَادِ الأَئِمَّةِ بِاليَدِ «فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ»

(2)

لِمُخَالَفَتِهِ الأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا الأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى جَورِ الأَئِمَّةِ! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ: " إِنَّ التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقِتَالَ! وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، فَقَالَ: التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ لَيْسَ بِالسَّيْفِ وَالسِّلَاحِ! وَحِينَئِذٍ فَجِهَادُ الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ أَنْ يُزِيلَ بِيَدِهِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، مِثْلُ أَنْ يُرِيقَ خُمُورَهُمْ، أَوْ يَكْسِرَ آلَاتِ الْمَلَاهِي الَّتِي لَهُمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ يُبْطِلَ بِيَدِهِ مَا أَمَرُوا بِهِ مِنَ الظُّلْمِ -إِنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ-، وَكُلُّ هَذَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ قِتَالِهِمْ، وَلَا مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمِ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ! فَإِنَّ هَذَا أَكْثَرُ مَا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُقْتَلَ الْآمِرُ وَحْدَهُ.

وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ؛ فَيُخْشَى مِنْهُ الْفِتَنُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ"

(3)

.

(1)

كالإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله. (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(2/ 248).

(2)

وَقَدْ سَبَقَ.

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 248).

ص: 363

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: هَلْ يَجُوزُ تَسَوُّرُ الجُدْرَانِ وَالتَّجَسُّسُ عَلَى مَنْ عُلِمَ مِنْهُمُ الاجْتِمَاعُ عَلَى مُنْكَرٍ فِي نَادِيهِم؟

الجَوَابُ: لَا يَجُوزُ، بَلْ أَنْكَرَهُ الأَئِمَّةُ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّجَسُّسِ المَنْهِيِّ عَنْهُ

(1)

، وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ: إِنَّهُ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا! قَالَ: " قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ؛ فَإِنْ يَظْهَرْ لَنَا نُقِمْ عَلَيهِ"

(2)

.

وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي المُنْكَرِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُقُوعُهُ سِرًّا -بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ عَنْهُ- انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا -كَالزِّنَا وَالقَتْلِ- فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّجَسُّسُ وَالإِقْدَامُ عَلَى الكَشْفِ وَالبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ انْتِهَاكِ المَحَارِمِ.

ص: 364

- المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَولُ اللهِ عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيتُمْ} [المَائِدَة: 105] أَلَا يَدُلُّ أَنَّ المُسْلِمَ مَعْنِيُّ بِنَفْسِهِ فَقَطْ! وَلَيسَ عَلِيهِ شَيءٌ فِي كَونِ غَيرِهِ ضَالًّا؟!

الجَوَابُ: لَا؛ فَإِنَّ المَعْنَى: إِذَا قُمْتُم بِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْكُم مِنَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ فَقَدْ أَدَّيتُم مَا عَلَيكُم، وَلَا يَضُرُّكُم بَعْدَ ذَلِكَ ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيتُم.

كَمَا جَاءَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُم تَقْرَؤُونَ هَذِهِ الآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيرِ مَوضِعِهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيتُمْ} [المَائِدَة: 105]! وَإِنَّمَا سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا الظَّالِمَ؛ فَلَمْ يَاخُذُوا عَلَى يَدَيهِ؛ أَوشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ»

(1)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4338) عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (3353).

ص: 365

- المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: هَلْ لِمَنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي أَمْرِ دِينِهِ، أَو قَائِمًا عَلَى بَعْضِ المَعَاصِي أَنْ يَامُرَ بِالمَعْرُوفِ أَو يَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَونَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البَقَرَة: 44]؟!

الجَوَابُ: قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: " لَيسَ فِي الآيَةِ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِمَا أُمِرَ بِهِ أَنَّهُ يَتْرُكُ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ! لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى التَّوبِيخِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الوَاجِبَينِ؛ وَإِلَّا فَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ عَلَى الإِنْسَانِ وَاجِبَينِ: أَمْرَ غَيرِهِ وَنَهْيَهُ، وَأَمْرَ نَفْسِهِ وَنَهْيَهَا، فَتَرْكُ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ رُخْصَةً فِي تَرْكِ الآخَرِ! فَإِنَّ الكَمَالَ أَنْ يَقُومَ الإِنْسَانُ بِالوَاجِبَينِ، وَالنَّقْصَ الكَامِلَ أَنْ يَتْرُكَهُمَا، وَأَمَّا قِيَامُهُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ؛ فَلَيسَ فِي رُتْبَةِ الأَوَّلِ، وَهُوَ دُونَ الأَخِيرِ، وَأَيضًا؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى عَدَمِ الانْقِيَادِ لِمَنْ يُخَالِفُ قَولُهُ فِعْلَهُ! فَاقْتِدَاؤُهُم بِالأَفْعَالِ أَبْلَغُ مِنِ اقْتِدَائِهِم بِالأَقْوَالِ المُجَرَّدَةِ"

(1)

.

وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " قَالَ العُلَمَاءُ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الحَالِ مُمْتَثِلًا مَا يَامُرُ بِهِ مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ! بَلْ عَلِيهِ الأَمْرُ وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِمَا يَامُرُ بِهِ، وَالنَّهْيُّ وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلِيهِ شَيئَانِ: أَنْ يَامُرَ نَفْسَهُ وَيَنْهَاهَا، وَيَامُرَ غَيرَهُ وَيَنْهَاهُ؛ فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا؛ كَيفَ يُبَاحُ لَهُ الإِخْلَالُ بِالآخَرِ؟! "

(2)

.

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 51).

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ (2/ 23).

ص: 366

- المَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: كَيفَ يَكُونُ الخَوفُ مُسْقِطًا لِلإنْكَارِ؛ وَفِي الحَدِيثِ «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَو شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَو يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ»

(1)

؟!

الجَوَابُ: إِنَّ هَذَا الحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ المَانعَ لَهُ مِنَ الإِنْكَارِ مُجَرَّدُ الهَيبَةِ دُونَ الخَوفِ مِنَ الضَّرَرِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ المُسْقِطِ لِلإِنْكَارِ

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ كَالجِهَادِ؛ يَجِبُ عَلَى الوَاحِدِ أَنْ يُصَابِرَ فِيهِ الِاثْنَينِ وَيَحْرُمَ عَلَيهِ الفِرَارُ مِنْهُمَا، وَلَا يَجِبَ عَلَيهِ مُصَابَرَةُ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ.

فَإِنْ خَافَ السَّبَّ أَو سَمَاعَ الكَلَامِ السَّيِّءِ؛ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الإِنْكَارُ بِذَلِكَ! نَصَّ عَلَيهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِنِ احْتَمَلَ الأَذَى وَقَوِيَ عَلَيهِ؛ فَهُوَ أَفْضَلُ، نَصَّ عَلَيهِ أَحْمَدُ أَيضًا، وَقِيلَ لَهُ: أَلَيسَ قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَيسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ؛ أَنْ يُعَرِّضَهَا مِنَ البَلَاءِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ» ، قَالَ: لَيسَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ"

(3)

.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (11474) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (168).

(2)

يُنْظَرُ: جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 248).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 249).

ص: 367

‌الحَدِيثُ الخَامِسُ وَالثَّلاثُونَ: (لا تَحَاسَدُوا)

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَيعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا. المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التّقْوَىَ هَهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَىَ صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ-، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَىَ المُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

- هَذَا الحَدِيثُ أَصْلٌ فِي حَقِّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ؛ وَفِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَينَ المُسْلِمِينَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَامُلِ، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ؛ مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى»

(2)

.

وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ «المُؤْمِنُ مِرْآةُ المُؤْمِنِ، وَالمُؤْمِنُ أَخُو المُؤْمِنِ؛ يَكُفُّ عَلَيهِ ضَيعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ»

(3)

، يَعْنِي: أَنَّهُ يَمْنَعُ تَلَفَهُ وَخُسْرَانَهُ، وَيَجْمَعُ إِلَيْهِ مَعِيشَتَهُ وَيَضُمُّهَا لَهُ، وَيَحْفَظُهُ وَيَصُونَهُ وَيَذُبُّ عَنْهُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ

(4)

.

(1)

مُسْلِمٌ (2564)، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ أَيضًا (6064).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6011)، وَمُسْلِمٌ (2586) مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا.

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4918) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (926).

(4)

يُنْظَرْ: عَونُ المَعْبُودِ (13/ 178).

ص: 368

- الحَسَدُ: البُغْضُ وَالكَرَاهَةُ لِمَا يَرَاهُ الحَاسِدُ مِنْ حُسْنِ حَالِ المَحْسُودِ

(1)

.

وَيُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيين:

1 -

كَرَاهَةٍ لِلنِّعْمَةِ عَلَى أَخِيهِ مُطْلَقًا؛ فَهُوَ مُتَمَنٍّ لِزَوَالِهَا، وَهَذَا هُوَ المَذْمُومُ.

2 -

كَرَاهَةِ أَنْ يَفْضُلَهُ أَحَدٌ فِي أَمْرٍ مَا؛ فَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَو أَفْضَلَ مِنْهُ، وَهَذَا النَّوعُ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى الغِبْطَةَ، " وَسَمَّاهُ حَسَدًا مِنْ بَابِ الاسْتِعَارَةِ"

(2)

.

وَهُوَ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مَمْدُوحًا فِي الحَالِ الَّتِي يُتَنَافَسُ فِيهَا عَلَى الخَيرِ.

قَالَ شيخُ الإِسْلَام رحمه الله عَنْ هَذَا النَّوعِ الثَّانِي: " وَلِهَذَا يُبْتَلَى غَالِبُ النَّاسِ بِهَذَا القِسْمِ الثَّانِي، وَقَدْ تُسَمَّى المُنَافَسَةَ، فَيَتَنَافَسُ الِاثْنَانِ فِي الأَمْرِ المَحْبُوبِ المَطْلُوبِ؛ كِلَاهُمَا يَطْلُبُ أَنْ يَاخُذَهُ، وَذَلِكَ لِكَرَاهِيَةِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيهِ الآخَرُ، كَمَا يَكْرَهُ المُسْتَبِقَانِ -كُلٌّ مِنْهُمَا- أَنْ يَسْبِقَهُ الآخَرُ. وَالتَّنَافُسُ لَيسَ مَذْمُومًا مُطْلَقًا! بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ فِي الخَيرِ، قَالَ تَعَالَى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} [المُطَفِّفِين: 26] "

(3)

.

- الحَسَدُ فِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى قَدَرِ اللهِ تَعَالَى؛ حَيثُ جَعَلَ اللهُ نِعْمَتَهُ فِيمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا -فِي ظَنِّ الحَاسِدِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ مِنْ ظَنِّ السُّوءِ بِاللهِ تَعَالَى-، وَلَهُ تَعَالَى الحِكْمَةُ فِيمَا قَدَّرَهُ.

وَالوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَفْرَحَ لِأَخِيهِ المُسْلِمِ بِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِ، وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا فِي الحَدِيثِ:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، وَالحَسَدُ

(1)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى لِابْنِ تَيمِيَّة (10/ 111).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 262).

(3)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (10/ 113).

ص: 369

بِضِدِّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الحَاسِدَ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

- فَائِدَةٌ: مِمَّا يُشْرَعُ لِمَن يَخْشَى العَينَ أَوِ الحَسَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيرِهِ أَنْ يَدْعُوَ بِالبَرَكَةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ أَو مِنْ نَفْسِهِ أَو مِنْ مَالِهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيُبَرِّكْهُ؛ فَإِنَّ العَينَ حَقٌّ»

(1)

.

- تَنْبِيهٌ:

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: " الأَحْسَنُ -إِذَا كَانَ الإِنْسَانُ يَخَافُ أَنْ تُصِيبَ عَينُهُ أَحَدًا لِإِعْجَابِهِ بِهِ- أَنْ يَقُولَ: تَبَارَكَ اللهُ عَلَيكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَصَابَ أَخَاهُ بِعَينٍ: «هَلَّا بَرَّكْتَ عَلَيهِ»! أَمَّا (مَا شَاءَ اللهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) فَهَذِهِ يَقُولُهَا مَنْ أَعْجَبَهُ مُلْكُهُ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ الجَنَّةِ لِصَاحِبِهِ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكَهْف: 39] "

(2)

.

قُلْتُ: وَأَمَّا حَدِيثُ ذِكْرِ (مَا شَاءَ اللهُ؛ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) خَشْيَةَ الآفَةِ؛ فَلَا يَصِحُّ

(3)

.

- دَرَجَاتُ الحَسَدِ:

1 -

أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَفُوقَ غَيرَه فَقَط، فَهَذَا جَائِزٌ؛ بَلْ لَيسَ بِحَسَدٍ أَصْلًا.

2 -

أَنْ يَكْرَهَ نِعْمَةَ اللهِ عز وجل عَلَى غَيرِهِ كَرَاهَةً قَلْبِيَّةً خَارِجَةً عَنْ قَصْدِهِ، وَلَا يَسْعَى فِي تَنْزِيلِ مَرْتَبَةِ وَشَانِ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عز وجل عَلَيهِ، بَلْ هُوَ يُدَافِعُ هَذَا الحَسَدَ؛ فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ؛ وَلَكِنَّ غَيرَهُ أَكْمَلُ مِنْهُ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله -فِي سِيَاقِ الكَلَامِ عَنْ أَنْوَاعِ الحَسَدِ -: "

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (15700) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2573).

(2)

لِقَاءُ البَابِ المَفْتُوحِ (19/ 235).

(3)

ضَعِيفٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ (5995). الضَّعِيفَةَ (2012).

ص: 370

وَهَذَا عَلَى نَوعَينِ، أَحَدِهِمَا: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ إِزَالَةُ الحَسَدِ مِنْ نَفْسِهِ -فَيَكُونُ مَغْلُوبًا عَلَى ذَلِكَ-؛ فَلَا يِاثَمُ بِهِ"

(1)

.

قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رحمه الله: " لَيسَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ خُلِقَ مَعَهُ الحَسَدُ؛ فَمَنْ لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ إِلَى البَغْي وَالظُّلْمِ لَمْ يَتْبَعْهُ مِنْهُ شَيءٌ"

(2)

.

قُلْتُ: وَفِي الحَدِيثِ «صَومُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ؛ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ»

(3)

.

3 -

أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ الحَسَدُ، وَيَسْعَى فِي تَنْزِيلِ مَرْتَبَةِ الَّذِي حَسَدَهُ؛ فَهَذَا هُوَ الحَسَدُ المُحَرَّمُ الَّذِي يُؤَاخَذُ عَلَيهِ الإِنْسَانُ.

- قَولُهُ: «وَلَا تَنَاجَشُوا» : النَجَشُ لُغَةً: أَصْلُهُ الخَتْلُ -وَهُوَ الخِدَاعُ-

(4)

.

قَالَ الإِمَامُ ابْنُ دَقِيق العَيدِ رحمه الله: " وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّائِدِ: نَاجِشٌ؛ لِأَنَّهُ يَخْتِلُ الصَّيدَ، وَيَحْتَالُ لَهُ"

(5)

.

- المَنْهِيُّ عَنْهُ هُنَا لَهُ حَالَتَانِ:

1 -

عَامَّةٌ: وَهِيَ أَنْ يَسْعَى بَعْضُكُم مَعَ بَعْضٍ بِالخِدَاعِ وَالحِيلَةِ وَالمُوَارَبَةِ

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 262).

(2)

التَّمْهِيدُ لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ (6/ 124).

(3)

صَحِيحٌ. البَزَّارُ (2/ 271) عَنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3804).

قَولُهُ: «وَحَرَ الصَّدْرِ» : قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ)(5/ 160): "غِشَّهُ وَوَسَاوِسَهُ، وَقِيلَ: الحِقْدَ وَالغَيظَ، وَقِيلَ: العَدَاوَةَ، وَقِيلَ: أَشَدَّ الغَضَبِ".

(4)

لِسَانُ العَرَبِ (11/ 199).

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ رحمه الله: "أَصْلُ النَّجَشِ: الإِثَارَةُ". الفَائِقُ (3/ 407).

(5)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ دَقِيق العِيد (ص: 117).

ص: 371

وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ المَذْمُومَةِ؛ فَيَكُونُ المَعْنَى: لَا تَتَخَادَعُوا، فَيَدْخُلُ فِيهَا تَدْلِيسُ العُيُوبِ وَكِتْمَانُهَا، وَغِشُّ المَبِيعِ الجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ، وَغُبْنُ المُسْتَرْسِلِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ المُمَاكَسَةَ.

2 -

خَاصَّةٌ: وَهِيَ المُسْتَعْمَلَةُ فِي البَيعِ؛ بِأَنْ يَزِيدَ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ مَنْ لَا يَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا؛ لِيَخْدَعَ المُشْتَرِيَ لَهَا!

- وَأَمَّا حُكْمُ هَذَا البَيعِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّجَشُ؛ فَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَأَكْثَرُ الفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ البَيعَ صَحِيحٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَأَحْمَدَ أَثْبَتَا لِلْمُشْتَرِي الخِيَارَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالحَالِ، وَغُبِنَ غُبْنًا فَاحِشًا يَخْرُجُ عَنِ العَادَةِ"

(1)

.

وَقَالَ أَيضًا رحمه الله: " وَإِنَّمَا يَجُوزُ المَكْرُ بِمَنْ يَجُوزُ إِدْخَالُ الأَذَى عَلَيهِ -وَهُمُ الكفَّارُ المُحَارِبُونَ-، كَمَا فِي الحَدِيثِ «الحَرْبُ خُدْعَةٌ»

(2)

"

(3)

.

- قَولُهُ: «وَلَا تَبَاغَضُوا» : التَّبَاغُضُ هُنَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِحُدُوثِ البَغْضَاءِ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ، فَكُلُّ قَولٍ يُؤَدِّي إِلَى البُغْضِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالأَمْرُ بِعَدَمِ التَّبَاغُضِ هُوَ أَمْرٌ أَيضًا بِالتَّحَابِّ.

- قَولُهُ: «وَلَا تَدَابَرُوا» : التَّدَابُرُ أَنْ يَفْتَرِقَ النَّاسُ؛ كُلٌّ يُوَلِّي الآخَرَ دُبُرَهُ، وَهَذَا يَعْنِي: القَطِيعَةَ وَالهُجْرَانَ، وَالهَجْرُ لَهُ حَالَانِ:

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 264).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (3030)، وَمُسْلِمٌ (1739) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 265).

ص: 372

1 -

هَجْرُ المُسْلِمِ لِأَخِيهِ لِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ أَو لِشَيءٍ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ عَلَيهِ: فَهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ»

(1)

.

2 -

هَجْرُ المُسْلِمِ لِأَجْلِ الدِّينِ: إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ فِي ذَلِكَ الهَجْرِ

(2)

؛ فَهُوَ مَشْرُوعٌ، وَلَا يُقيَّدُ بِالثَّلَاثِ.

- تَنْبِيهٌ: مَنْ كَانَتْ عَادَتَهُ مَعَ أَخِيهِ المَوَدَّةُ وَالمُصَافَحَةُ فَهَجَرَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ أَنَّ يُصَافِحَهُ فَقَطْ لِيَقْطَعَ هُجْرَانَهُ! بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَودَةِ المَوَدَّةِ أَيضًا، وَفَرَّقَ بَعْضُهُم بَينَ الأَقَارِبِ وَالأَجَانِبِ؛ فَأَلْزَمُوا المَوَدَّةَ بَعْدَ الهُجْرَانِ بَينَ الأَقَارِبِ وَذَلِكَ لِحَقِّ الرَّحِمِ.

- قَولُهُ: «وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَيعِ بَعْضٍ» : هَذَا يَشْمَلُ البَائِعَ وَالمُشْتَرِي، فَلَا يَجُوزُ الإِضْرَارُ بِالمُشْتَرِي بِأَنْ تَعْرِضَ لِبَائِعِهِ سِعْرًا أَكْبَرَ فَتَشْتَرِيَ مِنْهُ، وَأَيضًا لَا يَجُوزُ الإِضْرَارُ بِالبَائِعِ بِأَنْ تَعْرِضَ عَلَى الشَّارِي سِعْرًا أَقَلَّ كَي تَبِيعَهُ، وَهَذِهِ المُدَاخَلةُ فِي البَيعِ وَالشِّرَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْكَالٍ:

1 -

حِينَ المُسَاوَمَةِ مَعَ البَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَتَّفِقَا وَيَتَفَرَّقَا، كَمَا فِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «لَا

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6077)، وَمُسْلِمٌ (2560) عَنْ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ:«يَلْتَقِيَانِ؛ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا! وَخَيرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» .

وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ (4914) بِلَفْظِ: «فَمَنْ هَجَرَ فَوقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ؛ دَخَلَ النَّارَ» . صَحِيحٌ. صَحِيحُ الجَامِعِ (7659).

وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ (4915) أَيضًا عَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ مَرْفُوعًا: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ» . صَحِيحٌ. الصَّحِيحَةُ (928).

(2)

وَهَذَا قَيدٌ مُهِمٌّ لِأَنَّ الغَايَةَ مِنَ الهَجْرِ هُنَا الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ.

ص: 373

يَسُمِ الرَّجُلُ عَلَى سَومِ أَخِيهِ»

(1)

.

2 -

بَعْدَ البَيعِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ

(2)

.

3 -

بَعْدَ تَمَامِ البَيعِ.

- قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ رحمه الله: " وَهَذَا البَيعُ مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ إِضْرَارٌ بِالغَيرِ، وَلَكِنَّهُ مُنْعَقِدٌ؛ لِأَنَّ نَفْسَ البَيعِ غَيرُ مَقْصُودٍ بِالنَّهِي؛ فَإِنَّهُ لَا خَلَلَ فِيهِ"

(3)

.

- قَولُهُ: «وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» : أَي حَقِّقُوا أُخُوَّةَ الدِّينِ، وَصِيرُوا مِثْلَ الإِخْوَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الإِخْوَانَ يُحِبُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَتَجَاوَزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ حَقِّهِ لِأَخِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحُجُرَات: 10]، وَدَلَّتِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ أَنَّ ذَلِكَ الإِصْلَاحَ هُوَ سَبَبٌ لِرَحْمَةِ اللهِ تبارك وتعالى.

- قَولُهُ: «لَا يَظْلِمُهُ» : لَا فِي مَالِهِ، وَلَا فِي عِرْضِهِ مِنْ غِيبَةٍ وَبُهْتَانِ وَسَبٍّ، وَفِي كُلِّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ؛ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ لَيسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ! مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ؛ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيهِ»

(4)

.

(1)

مُسْلِمٌ (1413).

(2)

وَهِيَ مُدَّةٌ يَسْمَحُ بِهَا البَائِعُ -أَو يَشْتَرِطُهَا الشَّارِي- بَعْدَ البَيعِ؛ يَسْتَطِيعُ فِيهَا المُشْتَرِي النُّكُولَ

فِي البَيعِ.

(3)

النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ (1/ 173).

(4)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6534) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

وَفِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا: «المُسْلِمُ منْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» . البُخَارِيُّ (10)، وَمُسْلِمٌ (40).

ص: 374

وَفِي الحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «الظُّلْمُ ثَلَاثَةٌ: فَظُلْمٌ لَا يَتْرُكُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ يُغْفَرُ، وَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ. فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ؛ فَالشِّرْكُ، لَا يَغْفِرُهُ اللهُ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ؛ فَظُلْمُ العَبْدِ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يُتْرَكُ؛ فَقَصُّ اللهِ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»

(1)

.

وَالتَّحَلُّلُ مِنَ المَظْلِمَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ فِي حِلٍّ مِنْهَا.

قَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله: " فَكَانَ مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَنَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- فَلْيَتَحَلَّلْهُ بِمَا يُتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ مِثْلِهِ؛ مِنْ دَفْعِ مَالٍ مَكَانَ مَالٍ، وَمِنْ عَفْوٍ عَنْ عُقُوبَةٍ وَجَبَتْ فِي انْتِهَاكِهِ عِرْضَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الانْتِهَاكَ يُوجِبُ عَلَى المُنْتَهِكِ العُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، كَقَولِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: يَا فَاسِقُ أَو يَا خَبِيثُ أَو يَا سَارِقُ -بِدُونِ حُجَّةٍ-! فَعَلَى ذَلِكَ القَائِلِ العُقُوبَةُ؛ فَالتَّحَلُّلُ مِنْهَا هُوَ طَلَبُ العَفْوِ عَنْهُ"

(2)

.

- قَولُهُ: «وَلَا يَخْذُلُهُ» : الخُذْلَانُ: تَرْكُ الإِعَانَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بَعْضَهُم أَولِيَاءَ بَعْضٍ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِيَاءُ بَعْضٍ} [التَّوبَة: 71]، وَكَمَا فِي الحَدِيثِ «مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِظَهْرِ الغَيبِ؛ نَصَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»

(3)

.

- قَولُهُ: «وَلَا يَكْذِبُهُ» : أَي: لَا يُخْبِرُهُ بِالكَذِبِ

(4)

، سَوَاءً الكَذِبَ القَولِيَّ أَوِ الفِعْلِيَّ، وَالكَذِبُ القَولِيُّ: كَأَنْ يَقُولَ لَهُ: حَصَلَ كَذَا وَكَذَا؛ وَهُوَ لَمْ يَحْصُلْ!

(1)

حَسَنٌ. البَزَّارُ (13/ 115)، وَالطَّيَالِسِيُّ (2223). الصَّحِيحَةُ (1927).

(2)

شَرْحُ مُشْكِلِ الآثَارِ (1/ 177) بِحَذْفٍ يَسِيرٍ.

(3)

حَسَنٌ. البَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (16685) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6574).

(4)

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيضًا: وَلَا يُكَذِّبُهُ فِي حَدِيثِهِ؛ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ كُلَّمَا تَكَلَّمَ: أَنْتَ كَاذِبٌ!

ص: 375

وَالكَذِبُ الفِعْلِيُّ: كَأَنْ يَبِيعَ عَلَيهِ سِلْعَةً مُدَلَّسَةً؛ فَيُظْهِرَ هَذِهِ السِّلْعَةَ وَكَأَنَّهَا جَدِيدَةٌ! فَإِظْهَارُهُ إِيَّاهَا عَلَى أَنَّهَا جَدِيدَةٌ؛ هُوَ كَأَنَّهُ يَقُولُ بِلِسَانِهِ: هِيَ جَدِيدَةٌ.

- قَولُهُ: «وَلَا يَحْقِرُهُ» : أَي: لَا يَسْتَصْغِرُهُ؛ وَيَرَى أَنَّهُ أَكْبَرَ مِنْهُ؛ وَأَنَّهُ لَا يُسَاوِي شَيئًا! وَذَلِكَ لِأَنَّ الإِسْلَامَ رَفَعَ المُسْلِمَ، فَهَذَا المُسْلِمُ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيهِ بِعَينِ مَا وَقَرَ فِي قَلْبِهِ مِنَ التَّوحِيدِ وَالإِيمَانِ وَمَعْرِفَتِهِ بِاللهِ تَعَالَى وَبِالإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ وَالعِلْمِ؛ فَمِثْلُهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقَّرَ! بَلْ يُحْتَرَمُ لِمَا مَعَهُ مِنَ الإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ، وَهَذَا الاحْتِقَارُ مَنْشَأُهُ مِنَ الكِبْرِ كَمَا فِي الحَدِيثِ «الكِبْرُ: سَفَهُ الحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ»

(1)

.

- قَولُهُ: «التَّقْوَى هَاهُنَا» : يَعْنِي أَنَّ تَقْوَى اللهِ عز وجل تَقُومُ فِي القَلْبِ ابْتِدَاءً، وَمِنْ ثُمَّ يَنْشَأُ عَنْهَا العَمَلُ الصَّالِحُ، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ تَاكِيدًا لِكَونِ القَلْبِ هُوَ الأَصْلَ لِعَمَلِ الأَعْضَاءِ.

- قَولُهُ: «بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ» : هَذِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بقَولُهُ: «وَلا يحَقِرُهُ» : أَي: يَكْفِي الإِنْسَانَ مِنَ الإِثْمِ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ! فَهُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ.

- قَولُهُ: «كُلُّ المُسْلِمِ عَلَىَ المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» : فِيهِ بَيَانٌ لِعُمُومِ حُرْمَةِ المُسْلِم؛ وَعَدَمِ ظُلْمِهِ أَو قَتْلِهِ أَو غِيبَتِهِ أَوِ الإِضْرَارِ بِهِ.

وَقَدْ قَرَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُرْمَةَ المُسْلِمِ بِحُرْمَةِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فِي حَدِيثِ «إنَّ دِمَاءَكُم وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيكمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هَذَا في شَهْرِكمْ هَذَا فِي بَلدِكمْ هَذَا»

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (548) عَنِ ابْنِ عَمْرو مَرْفُوعًا، صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (426).

وَقَولُهُ «غَمْصُ النَّاسِ» : «احْتِقَارُهُم، وَعَدَمُ الاعْتِدَادِ بِهِم» . التَّنْوِيرُ لِلْصَنْعَانِيِّ (1/ 367).

(2)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1218) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.

ص: 376

- تَتْمِيمًا لِلفَائِدَةِ: جَاءَ فِي أَلْفَاظِ الحَدِيثِ عِدَّةُ زِيَادَاتٍ؛ نَذْكُرُهَا وَنَشْرَحُهَا بِاخْتِصَارٍ:

1 -

قَولُهُ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ»

(1)

.

قَالَ العَلَّامَةُ شَمْسُ الحَقِّ العَظِيمُ آبَادِي: (أَي: احْذَرُوا اتِّبَاعَ الظَّنِّ، أَوِ احْذَرُوا سُوءَ الظَّنِّ. وَالظَّنُّ: تُهْمَةٌ تَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِلَا دَلِيلٍ، وَلَيسَ المُرَادُ تَرْكَ العَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ غَالِبًا! بَلِ الْمُرَادُ تَرْكُ تَحْقِيقِ الظَّنِّ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ بِهِ)

(2)

، وَعَلَيهِ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ حَدِيثُ النَّفْسِ! لِأَنَّ هَذَا لَا يُمْلَكُ، وَقَدْ تَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا النَّهْيُ هُوَ عَنِ العَمَلِ بِمُقْتَضَاه.

2 -

قَولُهُ: «لا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا»

(3)

: قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: التَّحَسُّسُ -بِالحَاءِ-: الاسْتِمَاعُ لِحَدِيثِ القَومِ، وَبِالجِيمِ: البَحْثُ عَنِ العَورَاتِ

(4)

.

وَفِي الحَدِيثِ «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ؛ لَا تَغْتَابُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَورَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَو فِي جَوفِ بَيتِهِ»

(5)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5143)، وَمُسْلِمٌ (2563) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

عَونُ المَعْبُودِ (13/ 177).

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5143)، وَمُسْلِمٌ (2563).

(4)

ذَكَرَهُمَا النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (16/ 119).

وَقَالَ أَيضًا: "وَقِيلَ بِالجِيمِ: التَّفْتِيشُ عَنْ بَوَاطِنِ الأُمُورِ، وَقِيلَ: بِالجِيمِ: أَنْ تَطْلُبَهُ لِغَيرِكَ، وَبِالحَاءِ: أَنْ تَطْلُبَهُ لِنَفْسِكَ".

(5)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4880) عَنِ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7984).

ص: 377

3 -

قَولُهُ: «لا تَنافَسُوا»

(1)

: مِنَ المُنَافَسَةِ، وَهِيَ الرَّغْبَةُ فِي الشَّيءِ وَالانْفِرَادِ بِهِ

(2)

.

4 -

قَولُهُ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُم وَلَا إِلَى صُوَرِكُم؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُم وَأَعْمَالِكُم»

(3)

.

5 -

قَولُهُ: «لَا تَهَجَّرُوا»

(4)

: عَلَى مَعْنَيِينِ:

أ- مِنَ المُقَاطَعَةِ وَتَرْكِ الكَلَامِ، فَهِيَ بِمَعْنَى التَّدَابُرِ.

ب- مِنْ قَولِ الهُجْرِ -بِضَمِّ الهَاءِ- وَهُوَ الكَلَامُ القَبِيحُ

(5)

.

وَفِي الحَدِيثِ «وَنَهَيتُكمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ؛ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ؛ فلْيَزُرْ، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا»

(6)

.

6 -

قَولُهُ: «وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أو يَترُكَ»

(7)

: فَإِذَا خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً؛ فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِخِطْبَتِهَا إِلَّا بِإِذْنِ الأَوَّلِ، أَو بَعْدَ أَنْ يَتْرُكَهَا الأَوَّلُ.

قَالَ الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله عَقِبَ الحَدِيثِ: " قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّمَا مَعْنَى كَرَاهِيَةِ أَنْ يَخْطِبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ: إِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ فَرَضِيَتْ بِهِ؛ فَلَيسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطِبَ عَلَى خِطْبَتِهِ.

(1)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2563).

(2)

فَيضُ القَدِيرِ (3/ 122).

(3)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2564).

(4)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2563).

(5)

شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلْنَّوَوِيِّ (16/ 120).

(6)

صَحِيحٌ. النَّسَائِيُّ (2033) عَنْ بُرَيدَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (4584).

(7)

البُخَارِيُّ (5144)، وَمُسْلِمٌ (2563)، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ (1412):«إِلَّا أَنْ يَاذَنَ لَهُ» .

ص: 378

وقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ «لَا يَخْطِبِ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» : هَذَا عِنْدَنَا إِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ فَرَضِيَتْ بِهِ وَرَكَنَتْ إِلَيهِ؛ فَلَيسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطِبَ عَلَى خِطْبَتِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ رِضَاهَا أَو رُكُونَهَا إِلَيهِ؛ فَلَا بَاسَ أَنْ يَخْطِبَهَا، وَالحُجَّةُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيسٍ؛ حَيثُ جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيفَةَ وَمُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ خَطَبَاهَا، فَقَالَ:«أَمَّا أَبُو جَهْمٍ؛ فَرَجُلٌ لَا يَرْفَعُ عَصَاهُ عَنِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ؛ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِن انْكِحِي أُسَامَةَ»

(1)

. فَمَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ عِنْدَنَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ فَاطِمَةَ لَمْ تُخْبِرْهُ بِرِضَاهَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَو أَخْبَرَتْهُ لَمْ يُشِرْ عَلَيهَا بِغَيرِ الَّذِي ذَكَرَتْ"

(2)

.

(1)

صَحِيحُ مُسْلِمٌ (1480).

(2)

سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (3/ 432).

ص: 379

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: مَنْ ظَلَمَ أَخَاهُ بِغِيبَةٍ وَجَبَ عَلِيهِ أَنْ يَتَحَلَّلَهُ مِنْهَا كَمَا فِي نَصِّ الحَدِيثِ «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيءٍ؛ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ»

(1)

، فَفِيهِ النَّصُّ عَلَى التَّحَلُّلِ فِي العِرْضِ، وَلَكِنَّ إِخْبَارَهُ بِأَنَّهُ قَدْ اغْتَابَهُ وَقَالَ عَنْهُ: كَذَا وَكَذَا؛ يُوجِدُ البُغْضَ وَالكُرْهَ مِنْ صَاحِبِهِ عِنْدَمَا يُخْبَرُ بِذَلِكَ! فَكَيفَ العَمَلُ؟

الجَوَابُ -وَهُوَ تَفْصِيلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ-: إِذَا عَلِمَ المُغْتَابُ؛ وَجَبَ الاسْتِحْلَالُ مِنْهُ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ؛ فَلَا، بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ أَيضًا؛ لِأَنَّهُ يَجْلِبُ الوَحْشَةَ وَإِيغَارَ الصَّدْرَ

(2)

.

(1)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (2449).

(2)

ذَكَرَهُ الصَّنْعَانِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (سُبُلُ السَّلَامِ)(2/ 685).

وَقَالَ أَيضًا عَنْ حَدِيثِ البَابِ: "وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الاسْتِحْلَالُ -وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عُلِمَ-؛ إِلَّا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ قَدْ بَلَغَهُ، وَيَكُونُ حَدِيثُ أَنَسٍ "الآتِي" فِيمَنْ لَمْ يَعْلَمْ، وَيُقَيَّدُ بِهِ إِطْلَاقُ حَدِيثِ البُخَارِيِّ".

قُلْتُ: وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ بِأَنَّ مَنِ اغْتَابَ أَخَاهُ فَلَا يُخْبِرْهُ؛ وَلَكِنْ لِيَسْتَغْفِرْ لَهُ كَكَفَّارَةٍ لِذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «كَفَّارَةُ الغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنِ اغْتَبْتَهُ» . رَوَاهُ البَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (6367)، وَنُقِلَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله تَضْعِيفُهُ.

وَقَالَ الصَّنْعَانِيُّ رحمه الله أَيضًا: "وَفِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الاسْتِغْفَارَ مِنَ المُغْتَابِ لِمَنِ اغْتَابَهُ يَكْفِي وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الاعْتِذَارِ مِنْهُ". سُبُلُ السَّلَامِ (2/ 685).

وَفِي أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ (ش: 160) قَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله مَا مَفَادُهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي السُّنَّةِ الاسْتِغْفَارُ لِمَنْ ظُلِمَ، وَلَكِنْ يَتَحَلَّلهُ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَيَدْعُو لَهُ.

قُلْتُ: وَقَدْ يَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ «اللَّهُمَّ؛ فَأَيُّمَا عَبْدٍ مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ؛ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيكَ يَومَ القِيَامَةِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6361)، وَمُسْلِمٌ (2601) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 380

قَالَ الفَقِيهُ أَبُو اللَّيثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ رحمه الله: " قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي تَوْبَةِ الْمُغْتَابِ؛ هَلْ تَجُوزُ مِنْ غَيرِ أَنْ يَسْتَحِلَّ مِنْ صَاحِبِهِ؟

قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّ مِنْ صَاحِبِه.

وَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى وَجْهَينِ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ قَدْ بَلَغَ إِلَى الَّذِي اغْتَابَهُ؛ فَتَوْبَتُهُ أَنْ يَسْتَحِلَّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ؛ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُضْمِرَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهِ.

وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ سِيرِينَ فَقَالَ: إِنِّي اغْتَبْتُكَ؛ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ. فَقَالَ: وَكَيفَ أُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ؟! فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَيهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اسْتِحْلَالِهِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ إِلَى صَاحِبِهِ تِلْكَ الْغِيبَةُ؛ فَتَوْبَتُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَتُوبَ إِلَيهِ، وَلَا يُخْبِرُ صَاحِبَهُ! فَهُوَ أَحْسَنُ لِكَيلَا يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ بِهِ"

(1)

.

وَقَالَ شَيخُ الإِسْلَامِ رحمه الله: " إذَا اغْتَابَهُ أَوْ قَذَفَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ؛ فَقَدْ قِيلَ: مِنْ شَرْطِ تَوْبَتِهِ إعْلَامُهُ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد"

(2)

.

وَقَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: " وَالَّذِينَ قَالُوا لَا بُدَّ مِن إِعْلَامِهِ جَعَلُوا الغِيبَةَ كَالحُقُوقِ المَالِيَّةِ، وَالفَرْقُ بَينَهُمَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الحُقُوقَ المَالِيَّةَ يَنْتَفِعُ المَظْلُومُ بِعَودِ نَظِيرِ مَظْلِمَتِهِ إِلَيهِ؛ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا، وَأَمَّا فِي الغِيبَةِ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ! وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِإِعْلَامِهِ إِلَّا عَكْسَ مَقْصُودِ الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ يُوغِرُ صَدْرَهُ، وَيُؤْذِيهِ إِذَا سَمِعَ مَا رُمِي بِهِ، وَلَعَلَّهُ يُهَيِّجُ عَدَاوَتَهُ وَلَا يَصْفُو لَهُ أَبَدًا! وَمَا كَانَ هَذَا

(1)

تَنْبِيهُ الغَافِلِينَ (ص: 166).

(2)

مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (18/ 189).

ص: 381

سَبِيلُهُ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ الحَكِيمَ صلى الله عليه وسلم لَا يُبِيحُهُ، وَلَا يُجَوِّزُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَهُ وَيَامُرَ بِهِ! وَمَدَارُ الشَّرِيعَةِ عَلَى تَعْطِيلِ المَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا لَا عَلَى تَحْصِيلِهَا وَتَكْمِيلِهَا! وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ"

(1)

.

(1)

الوَابِلُ الصَّيِّبُ (ص: 141).

ص: 382

- تَنْبِيهٌ:

" الغِيبَةُ لَيسَتْ كُلُّهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ! فَغِيبَةُ الأُمَرَاءِ أَشَدُّ مِنْ غِيبَةِ العَامَّةِ؛

لِأَنَّهَا تُفْضِي لِتَرْكِ طَاعَتِهِم، وَالخُرُوجِ عَلَيهِم، وَانْتِشَارِ الفَسَادِ، وَغِيبَةُ العُلَمَاءِ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى تَرْكِهِم وَتَرْكِ مَا يَحْمِلُونَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا مُضِرٌّ

بِتَدَيُّنِ النَّاسِ"

(1)

.

(1)

شَرْحُ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِابْن عُثَيمِينَ (6/ 104).

ص: 383

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيفَ نَتَصَرَّفُ فِي التَّبَاغُضِ؛ رُغْمَ أَنَّ البَغْضَاءَ وَالمَحَبَّةَ لَيسَتَا بِاخْتِيَارِ الإِنْسَانِ؟!

الجَوَابُ: بِمَعْرِفَةِ أَنَّ المَحَبَّةَ لَهَا أَسْبَابٌ، وَالبَغْضَاءَ لَهَا أَسْبَابٌ؛ فَابْتَعِدْ عَنْ أَسْبَابِ البَغْضَاءِ، وَأَكْثِرْ مِنْ أَسْبَابِ المَحَبَّةِ.

فَمَثَلًا إِذَا كُنْتَ أَبْغَضْتَ شَخْصًا لِأَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا مَا؛ فَاذْكُرْ مَحَاسِنَهُ حَتَّى تُزِيلَ عَنْكَ هَذِهِ البَغْضَاءَ، كَمَا دَلَّ لِذَلِكَ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَفْرَكْ

(1)

مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا؛ رَضيَ مِنْهَا خُلُقًا آخَرَ»

(2)

.

(1)

"قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: فَرِكَهُ -بِكَسْرِ الراء- يَفْرَكُهُ بِفَتْحِهَا: إِذَا أَبْغَضَهُ، وَالْفَرْكُ -بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَإِسْكَانِ الرَّاءِ-: الْبُغْضُ". شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ (10/ 58).

(2)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1469) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

ص: 384

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا هِيَ التَّورِيَةُ؟ وَمَا حُكْمُهَا؟

الجَوَابُ: التَّورِيَةُ وَالتَّعْرِيضُ هُمَا: أَنْ تُطْلِقَ لَفْظًا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنًى وَتُرِيدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ؛ لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِه، وَهِيَ كَذِبٌ فِي ظَاهِرِ الكَلَامِ ولَيسَتْ بِكَذِبٍ فِي حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " قَالَ العُلَمَاءُ: فَإِنْ دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى خِدَاعِ المُخَاطَبِ أَوْ حَاجَةٌ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهَا إِلَّا بِالكَذِبِ؛ فَلَا بَاسَ بِالتَّعْرِيضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَلَيسَ بِحَرَامٍ؛ إِلَّا أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى أَخْذِ بَاطِلٍ أَوْ دَفْعِ حَقٍّ؛ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ حَرَامًا، هَذَا ضَابِطُ البَابِ"

(1)

.

وَيُشْتَرَطُ فِيهَا أُمُورٌ:

1 -

أَنْ لَا يُقْسِمَ عَلَيهَا، لِحَدِيثِ «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيهِ صَاحِبُكَ»

(2)

، وَلَكِنْ إِلَّا إِذَا دَعَتْ لِذَلِكَ ضَرُورَةٌ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ؛ قَالَ: خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ-، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي؛ فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَحْلِفُوا، وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي، قَالَ:«صَدَقْتَ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ»

(3)

.

2 -

أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا ظُلْمٌ.

(1)

الأَذْكَارُ (ص: 380).

(2)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1653) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاود (3256). صَحِيحُ الجَامِعِ (3758).

ص: 385

3 -

أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الإِكْثَارُ مِنْهَا

(1)

؛ لِأَنَّهُ يُجَرِّئُ المَرْءَ عَلَى الكَذِبِ فَيَسْتَمْرِئُهُ، وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ أَيضًا عُدَّ كَاذِبًا عِنْدَ النَّاسِ! وَالمُسْلِمُ مَامُورٌ بِالاسْتِبْرَاءِ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ.

وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّعْرِيضِ بِحَسْبِ القَصْدِ:

1 -

إِنْ أَدَّتْ إِلَى بَاطِلٍ؛ فَهِيَ حَرَامٌ، كَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ ظُلْمًا؛ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَ القَاضِي؛ وَإِخْفَاءِ عَيبِ البَيعِ وَمَا أَشْبَهَ.

2 -

إِنْ أَدَّتْ إِلَى وَاجِبٍ؛ فَهِيَ وَاجِبَةٌ.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِينَ رحمه الله: " أَمَّا دَفْعُ الظُّلْمِ؛ فَمِثْلُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيرِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: دَخَلَ عَلَيهِ لِصٌّ أَوْ جُنْدِيٌّ ظَالِمٌ يُرِيدُ أَنْ يَاخُذَ مَالَهُ؛ فَقَالَ: افْتَحْ لِيَ هَذَا الصُّنْدُوقَ، قَالَ: وَاللهِ مَا فِي هَذَا الصُّنْدُوقِ شَيءٌ. المُخَاطَبُ سَوفَ يَظُنُّ أَنَّ الجُمْلَةَ نَفْيٌ؛ فَيَنْصَرِفُ، وَهُوَ يُرِيدُ بِهَا الإِثْبَاتَ! فَهَذِهُ التَّوْرِيَةُ لَا شَكَّ فِي جَوَازِهَا، بَلْ إِذَا كَانَ المَالُ لِلْغَيرِ؛ مِثْلُ أَنْ يَاتِيَ شَخْصٌ وَيَقُولُ: فُلَانٌ؛ عِنْدَكَ لَهُ كَذَا وَكَذَا؟ فَأَقُولُ: وَاللهِ؛ مَا عِنْدِي لَهُ شَيءٌ -أَعْرِفُ أَنِّي لَو أَقْرَرْتُ لَأَخَذَهَا"

(2)

.

3 -

إِنْ أَدَّتْ إِلَى مَصْلَحَةٍ أَو حَاجَةٍ؛ فَهِيَ جَائِزَةٌ.

4 -

أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا لَا هَذَا وَلَا هَذَا؛ فَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيهَا، وَالأَقْرَبُ عَدَمُ جَوَازِ الإِكْثَارِ مِنْهَا كَمَا سَلَفَ.

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص: 350).

(2)

تَفْسِيرُ سُورَةِ غَافِر لِابْنِ عُثَيمِين (ص: 245).

ص: 386

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَسْتَدِلُّ بِالحَدِيثِ عَلَى فِعْلِ المَعَاصِي بِقَولِهِ: «التّقْوَىَ هَهُنَا» أَي: فِي القَلْبِ؟

الجَوَابُ: أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: لَو كَانَ قَلْبُكَ نَقِيًّا تَقِيًّا لَظَهَرَتِ التَّقْوَى عَلَى فِعْلِكَ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»

(1)

.

(1)

صَحِيحُ البُخَارِيِّ (52) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا.

ص: 387

- المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: هَلْ مِنَ المَنْهِيِّ عَنْهُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الفَاسِقِ وَالجَاهِلِ مِنَ البُغْضِ وَالنِّقْمَةِ عَلِيهِمَا؟

الجَوَابُ: لَا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيسَ احْتِقَارًا لِأَخِيكَ المُسْلِمِ نَفْسِهِ! وَلَكِنْ لِمَا اتَّصَفْ بِهِ الجَاهِلُ مِنَ الجَهْلِ؛ وَالفَاسِقُ مِنَ الفِسْقِ، فَمَتَى زَالَ ذَلِكَ رَاجَعَهُ إِلَى الاحْتِفَالِ بِهِ ورَفْعِ قَدْرِهِ

(1)

، فَهُوَ بُغْضٌ لِصِفَةِ الفِسْقِ وَالجَهْلِ فِيهِ؛ لَا لِخُصُوصِ نَفْسِهِ.

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِين لِابْنِ دَقِيق العِيد (ص: 118).

ص: 388

- المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَلَا يَتَعَارَضُ بَيعُ المَزَادِ مَعَ الحَدِيثَ «وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَيعِ بَعْضٍ» ؟

الجَوَابُ: لَا تَعَارُضَ، فَقَدْ ثَبَتَ فِعْلُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا فِي المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ " أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ

(1)

، فَاحْتَاجَ؛ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟» فَاشْتَرَاهُ نُعَيمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَدَفَعَهُ إِلَيهِ"

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ زَينُ الدِّينِ العِرَاقِيُّ رحمه الله: " وَأَمَّا السَّومُ فِي السِّلْعَةِ الَّتِي تُبَاعُ فِيمَنْ يَزِيدُ؛ فَلَيسَ بِحَرَامٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالجُمْهُورُ بِجَوَازِ البَيعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَنْ يَزِيدُ، وَكَرِهَهُ بَعْضُ السَّلَفِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ الإِجْمَاعَ عَلَى الجَوَازِ"

(3)

.

قُلْتُ: وَلَعَلَّ مِنْ عِلَّةِ جَوَازِ بَيعِ المُزَايَدَةِ أَنَّهُ يَكُونُ المُشْتَرِي لَيسَ بِمَعْرُوفٍ أَصْلًا، وَلَمْ يَجْرِي بَينَهُ وَبَينَ البَائِعِ سَومٌ خَاصٌّ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْشَا عَنْهُ التَّبَاغُضُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ المَحْذُورِ فِي البَيعِ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(1)

"مَعْنَى (أَعْتَقَهُ عَنْ دُبُرٍ) أَيْ: دَبَّرَهُ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَسُمِّيَ هَذَا تَدْبِيرًا لِأَنَّهُ يَحْصُلُ العِتْقُ فِيهِ فِي دُبُرِ الْحَيَاةِ". شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ (11/ 141).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (2141)، وَمُسْلِمٌ (997).

وَبَوَّبَ عَلِيهِ البُخَارِيُّ: «بَابُ بَيعِ المُزَايَدَةِ» .

(3)

طَرْحُ التَّثْرِيبِ (6/ 71).

ص: 389

- المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَنْ ظَلَمَ غَيرَهُ بِمَالٍ كَغَصْبٍ أَو سَرِقَةٍ أَو إِكْرَاهٍ؛ فَمَاذَا يَتَرَتَّبُ عَلَيهِ عِنْدَ التَّوبَةِ -فِي حَقِّ صَاحِبِ المَالِ-؟

الجَوَابُ عَلَى دَرَجَاتٍ:

1 -

أَنْ يَرُدَّ المَالَ إِلَى صَاحِبِهِ.

وَذَلِكَ بِأَيِّ شَكْلٍ مُمْكِنٍ، وَلَا يَلْزَمُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، كَمَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُرْسِلَهُ مَعَ شَخْصٍ مُؤْتَمَنٍ عِنْدَ النَّاسِ فَيُوصِلَهُ إِلَى صَاحِبِ الحَقِّ.

2 -

إِنْ مَاتَ صَاحِبُهُ أَدَّاهُ إِلَى وَرَثَتِهِ.

3 -

إِنْ جَهِلَ صَاحِبَهُ أَو مَكَانَهُ أَو وَرَثَتَهُ؛ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ عَنْ صَاحِبِهِ.

وَقَدِ " اشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً؛ فَالْتَمَسَ صَاحِبهَا سَنَةً فَلَمْ يَجِدْهُ

وَفُقِدَ، فَأَخَذَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَينِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَنْ فُلَانٍ؛ فَإِنْ أَتَى فُلَانٌ فَلِي وَعَلَيَّ"

(1)

.

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (7/ 50) تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الحَافِظُ وَصَحَّحَهُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ. فَتْحُ البَارِي (9/ 430).

وَقَولُهُ (فَلِيَ): أَي: الصَّدَقَةُ، وَ (عَلَيَّ): أَي: الأَدَاءُ إِلَيهِ مَرَّةً ثَانِيَةً.

ص: 390

‌الحَدِيثُ السَّادِسُ وَالثَّلاثُونَ: (مَنْ نَفّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً)

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَىَ مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَونِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَونِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا؛ سَهّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَىَ الجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَومٌ فِي بَيتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ؛ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أَبَطأَ بِهِ عَمَلُهُ؛ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

- قَولُهُ: «نَفَّسَ» : أَي: خَفَّفَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَتَهُ، أَمَّا التَّفْرِيجُ فَفِيهِ إِزَالَتُهَا.

- قَولُهُ: «كُرْبَةً» : شِدَّةً عَظِيمَةً، وَهِيَ مَا أَهَمَّ النَّفْسَ وَغَمَّ القَلْبَ.

- قَولُهُ: «مُعْسِرٍ» : مَنْ وَقَعَ فِي العُسْرِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ سَدَادَ مَا عَلَيهِ.

- التَّيسِيرُ عَلَى المُعْسِرِ دَرَجَتَانِ:

1 -

إِنْ كَانَ غَرِيمًا: فَالتَّيسِيرُ إِنْظَارُهُ إِلَى المَيسَرَةِ، أَوِ الوَضْعُ عَنْهُ.

2 -

إِعْطَاؤُهُ مَا يَزُولُ بِهِ إِعْسَارُهُ.

(1)

مُسْلِمٌ (2699).

ص: 391

وَفِي الحَدِيثِ «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ؛ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الخَيرِ شَيءٌ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُوسِرًا -وَكَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ-، وَكَانَ يَامُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ المُعْسِرِ، فَقَالَ اللهُ عز وجل لِمَلائِكَتِهِ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ؛ تَجَاوَزُوا عَنْهُ»

(1)

.

" لَكِنْ إِذَا كَانَ الحَقُّ لَكَ؛ فَالتَّيسِيرُ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ لِغَيرِكَ فَالتَّيسِيرُ مُسْتَحَبٌّ، مِثَالُ ذَلِكَ: رَجُلٌ يَطْلُبُ شَخْصًا أَلْفَ رِيَالٍ -وَالشَّخْصُ مُعْسِرٌ؛ فَهُنَا يَجِبُ التَّيسِيرُ عَلَيهِ لِقَولِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} [البَقَرَة: 280]، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَطْلُبَهُ مِنْهُ، وَلَا أَنْ تُعَرِّضَ بِذَلِكَ، وَلَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِهِ عِنْدَ القَاضِي لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} وَمِنْ هُنَا نَعْرِفُ خَطَأَ أُولَئِكَ القَومِ الَّذِينَ يُطَالِبُونَ المُعْسِرِينَ، وَيَرْفَعُونَهُم لِلقَضَاءِ، وَيُطَالِبُونَ بِحَبْسِهِم! وَإِنَّ هَؤُلَاءِ -وَالعِيَاذُ بِاللهِ- قَدْ عَصَوا اللهَ عز وجل وَرَسُولَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} "

(2)

.

- قَولُهُ: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا» : السَّترُ لَهُ حَالَانِ:

1 -

سَتْرٌ مَادِّيٌّ: بِإِعْطَائِهِ كِسْوَةً تَسْتُرُ عَورَتَهُ.

2 -

سَتْرٌ مَعْنَوِيٌّ: وَهُوَ سَتْرُ عَيبِهِ وَمَا وَقَعَ بِهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ.

- السَّتْرُ عَلَى العَاصِي فِيهِ تَفْصِيلٌ:

1 -

إِنْ كَانَ الوَاقِعُ فِي المَعْصِيَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، أَو كَانَ مَسْتُورًا لَا يُعْرَفُ بِشَيءٍ مِنَ المَعَاصِي؛ فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ أَو زَلَّةٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُهَا وَلَا هَتْكُهَا وَلَا التَّحَدُّثُ بِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ النُّصُوصُ.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1307) عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البَدْرِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3159).

(2)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص: 359).

ص: 392

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النُّور: 19]، وَالمُرَادُ: إِشَاعَةُ الفَاحِشَةِ عَلَى المُؤْمِنِ المُسْتَتِرِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ، أَوِ اتُّهِمَ بِهَا وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهَا، كَمَا فِي قِصَّةِ الإِفْكِ.

وَفِي الحَدِيثِ «أَقِيلُوا ذَوِي الهَيئَاتِ عَثَراتِهِمْ إِلَّا الحُدُودَ»

(1)

، وَلَو تَابَ أَحَدٌ مِنَ أَهْلِ هَذَا النَّوعِ كَانَ الأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَتُوبَ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ اللهِ تَعَالَى، وَيَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ.

قُلْتُ: وَأَمَّا حَدِيثُ «ادْرَؤُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ

(2)

، لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ إِجْمَالًا، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي سُنَنِ البَيهَقِيِّ الكُبْرَى مَوقُوفًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه " ادْرَؤُوا الجَلْدَ وَالقَتْلَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَهُوَ أَثَرٌ حَسَنٌ

(3)

.

2 -

مَنْ كَانَ مُشْتَهِرًا بِالمَعَاصِي، مُعْلِنًا بِهَا، لَا يُبَالِي بِمَا ارْتَكَبَ مِنْهَا وَلَا بِمَا قِيلَ لَهُ فِيهَا؛ فَهَذَا هُوَ الفَاجِرُ المُعْلِنُ، وَلَيسَ لَهُ غِيبَةٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا بَاسَ بِالبَحْثِ عَنْ أَمْرِهِ لِتُقامَ عَلَيهِ الحُدُودُ، وَلِيَنْكَفَّ شَرُّهُ وَيَرْتَدِعَ بِهِ أَمْثَالُهُ، وَيَكُونُ السُّكُوتُ

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4375) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (638).

وَ «ذَوِي الهَيئَاتِ» الَّذِينَ تُقَالُ عَثَرَاتُهُم: «هُمُ الَّذِينَ لَيسُوا يُعْرَفُونَ بِالشَّرِّ؛ فَيَزِلُّ أَحَدُهُم الزَّلَّةَ» . نَقَلَهُ البَيهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى (8/ 580) عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى.

وَ «إِلَّا الحُدُودَ» : المَعْنَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَو أُخِذَ بِجَرِيمَتِهِ وَلَمْ يَبْلُغِ الإِمَامَ؛ فَإِنَّهُ يُشْفَعُ لَهُ حَتَّى لَا يَبْلُغَ الإِمَامَ، أَمَّا إِذَا بَلَغَ الإِمَامَ فَلَا شَفَاعَةَ وَلَا إِقَالَةَ.

(2)

رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي التَّارِيخِ (23/ 347)، اُنْظُرِ الإِرْوَاءَ (2316).

(3)

سُنَنِ البَيهَقِيِّ الكُبْرَى (17064) مَوقُوفًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَاُنْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى حَدِيثِ الضَّعِيفَةِ (2198)، وَلَفْظُهُ هُنَاكَ (الحَدُّ) بَدَلُ (الجَلْدِ) كَمَا هُوَ عِنْدَ البَيهَقِيِّ وَفِي الإِرْوَاءِ (2355).

ص: 393

عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُعِينُهُ عَلَى مُنْكَرِهِ.

قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رحمه الله: " مَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ أَذًى لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ؛ فَلَا بَاسَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الإِمَامَ، وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِشَرٍّ أَو فَسَادٍ؛ فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ حَتَّى يُقَامَ عَلَيهِ الحَدُّ"

(1)

.

- قَولُهُ: «سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» : بِأَلَّا يُعَاقِبَهُ عَلَى مَا فَرَّطَ بِهِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَتَبَّعَ أَخَاهُ وَفَضَحَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَفْضَحُهُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ؛ لَا تَغْتَابُوا المُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَورَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَو فِي جَوفِ بَيتِهِ»

(2)

.

- قَولُهُ: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا» هَذَا الطَّرِيقُ نَوعَانِ:

1 -

طَرِيقٌ مَادِّيٌّ: وَهُوَ المَشْيُ بِالأَقْدَامِ إِلَى مَجَالِسِ العِلْمِ.

2 -

طَرِيقٌ مَعْنَوِيٌّ: كَالحِفْظِ وَالمُذَاكَرَةِ وَالمُطَالَعَةِ وَالتَّفَهُّمِ.

- قَولُهُ: «يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا» : أَي: يَطْلُبُ عِلْمًا شَرْعِيًّا قَاصِدًا بِهِ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنَّ يَكُونَ سَبَبُ طَلَبِهِ هُوَ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى؛ وَإِلَّا كَانَ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ!

وَفِي الحَدِيثِ «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ العُلَمَاءَ، أَو لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ،

أَو لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيهِ؛ فَهُوَ في النَّارِ»

(3)

.

وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " وَإِنْ كَانَ هَذَا شَرْطًا فِي كُلِّ عِبَادَةٍ؛ لَكِنَّ عَادَةَ

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 293) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (4880) عَنِ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7984).

(3)

حَسَنٌ. ابْنُ مَاجَه (253) عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (2160).

ص: 394

العُلَمَاءِ يُقَيِّدُونَ هَذِهِ المَسْأَلَةَ بِهِ -أَي: الإِخْلَاصِ- لِكَونِهِ قَدْ يَتَسَاهَلُ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَيَغْفَلُ عَنْهُ بَعْضُ المُبْتَدِئِينَ وَنَحْوهِم"

(1)

.

- قَولُهُ: «سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَىَ الجَنَّةِ» : التَّسْهِيلُ تَسْهِيلَانِ:

1 -

أَنَّ ذَلِكَ العِلْمَ يَكُونُ سَبَبًا مُوصِلًا لَهُ إِلَى الجَنَّةِ.

2 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَهِّلُ طَرِيقَ الجَنَّةِ الحِسِّيَّ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ وَهُوَ الصِّرَاطُ.

- قَولُهُ: «فِي بَيتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ» : هِيَ المَسَاجِدُ.

وَيُلْحَقُ بِالمَسْجِدِ -فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الفَضِيلَةِ- الاجْتِمَاعُ فِي مَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ وَنَحْوِهِمَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى

(2)

، وَيَدُلُّ عَلَيهِ لَفْظٌ لِمُسْلِمٍ «لَا يَقْعُدُ قَومٌ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا حَفتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»

(3)

، فَيَكُونُ القَيدُ فِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ قَدْ خَرَجَ عَلَى الغَالِبِ؛ فَلَا يَكُون لَهُ مَفْهُومٌ يُعْمَلُ بِهِ.

- إِنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ عَلَى تِلَاوَةِ كِتَابِ اللهِ عز وجل لَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ:

1 -

أَنْ يَقْرَؤُوا جَمِيعًا بِفَمٍ وَاحِدٍ وَصَوتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ شَكْلَانِ:

أ- عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ: فَلَا بَاسَ بِهِ.

ب- عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ: هُوَ بِدْعَةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ

(4)

.

(1)

شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْنَّوَوِيِّ (17/ 21).

(2)

شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلْنَّوَوِيِّ (17/ 22) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(3)

مُسْلِمٌ (2700).

(4)

وَعَدَّهُ الإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الاعْتِصَامُ)(1/ 35) مِنَ البِدَعِ الإِضَافِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ أَسْبَابِ تَالِيفِهِ لِلكِتَابِ.

وَقَالَ رحمه الله: "فَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى القَولِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَنْفَعُ وِلَا فَائِدَةَ فِيهِ -كَمَا يَعْزِي إِلَيَّ بَعْضُ النَّاسِ- بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمِ الدُّعَاءَ بِهَيئَةِ الاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الإِمَامَةِ! وَسَيَاتِي مَا فِي ذَلِكَ مِنَ المُخَالفَةِ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الصَّالَحِ وَالعُلَمَاءِ".

ص: 395

2 -

أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُهُم وَيُنْصِتَ الآخَرُونَ، ثُمَّ يَقْرَأَ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ وَهَكَذَا، سَوَاءً أَكَانَ لِنَفْسِ المَقْرُوءِ -الصَّفْحَةِ أَوِ الجُزْءِ- أَمْ غَيرِهِ

(1)

.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " فَصْلٌ فِي الإِدَارَةِ بِالقُرْآنِ: وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ جَمَاعَةٌ يَقْرَأُ بَعْضُهُم عُشْرًا أَو جُزْءًا أَو غَيرَ ذَلِكَ ثُمَّ يَسْكُتُ وَيَقْرَأُ الآخَرُ مِنْ حَيثُ انْتَهَى الأَوَّلُ ثُمَّ يَقْرَأُ الآخَرُ؛ وَهَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ:

لَا بَاسَ بِهِ"

(2)

.

3 -

أَنْ يَجْتَمِعُوا وَكُلُّ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ لِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَسْتَمِعَ لَهُ الآخَرُونَ.

- قَولُهُ: «السَّكِينَةُ» : هِيَ طُمَانِينَةُ القَلْبِ، وَانْشِرَاحُ الصَّدْرِ.

- «غَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ» : شَمَلَتْهُم مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَالمَعْنَى أَنَّ غَشَيَانَ الرَّحْمَةِ هَذِهِ تَسْتَوعِبُ كُلَّ ذَنْبٍ

(3)

.

- قَولُهُ: «حَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ» : أَحَاطَتْ بِهِم بِحَيثُ لَا يَدَعُونَ لِلشَّيطَانِ فُرْجَةً يَتَوَصَّلُ مِنْهَا لِلذَّاكِرِينَ.

- قَولُهُ: «وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» : أَثْنَى اللهُ عَلَيهِم أَمَامَ مَنْ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ مِنَ

(1)

وَهَذَا وَمَا بَعْدَهُ جَائِزانِ.

(2)

التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ (ص: 103).

(3)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ دَقِيق العِيد (ص: 121).

قُلْتُ: وَبِمَعْنَاهُ حَدِيثُ المَلَائِكَةِ الطَّوَّافِينَ عَلَى حِلَقِ الذِّكْرِ، وَفِيهِ «أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ» ، وَسَيَاتِي.

ص: 396

المَلَائِكَةِ.

- قَولُهُ: «مَنْ أَبْطَأَ» : أَي: مَنْ قَصَّرَ، وَذَلِكَ لِفَقْدِ بَعْضِ شُرُوطِ الصِّحَةِ

أَوِ الكَمَالِ

(1)

، قَالَ تَعَالَى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَينَهُمْ يَومَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المُؤْمِنُون: 101].

وَفِي الحَدِيثِ «إِنَّ أَولِيَائِي يَومَ القِيَامَةِ هُمُ المُتَّقُونَ -وَإِنْ كَانَ نَسَبٌ أَقْرَبَ مِنْ نَسَبٍ-، لَا يَاتِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ وَتَاتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ وَتَقُولُونَ:

يَا مُحَمَّدُ! فَأَقُولُ هَكَذَا -وَأَعْرَضَ فِي كِلَا عِطْفَيهِ-»

(2)

.

- قَولُهُ: «لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» : لَمْ يُلْحِقْهُ بِرُتَبِ أَصْحَابِ الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ، لِأَنَّ المُسَارَعَةَ إِلَى السَّعَادَةِ وَالدَّرَجَاتِ العَالِيَةِ تَكُونُ بِالأَعْمَالِ لَا بِالأَحْسَابِ.

- فِي الحَدِيثِ فَوَائِدُ أُخَرُ مِنْهَا:

أَنَّ الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، وَأَنَّ يَومَ القِيَامَةِ فِيهِ كُرَبٌ عَظِيمَةٌ وَلَكِنَّهَا عَلَى المُسْلِمِ يَسِيرَةٌ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَكَانَ يَومًا عَلَى الكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفُرْقَان: 26]، وَأَنَّ المُؤْمِنِينَ يَخْتَلِفُ يُسْرُهُم بِحَسْبِ إِيمَانِهِم، وَفِي الحَدِيثِ «تَدْنُو الشَّمْسُ يَومَ القِيَامَةِ مِنَ الخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمالِهِمْ فِي العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حِقْوَيهِ

(3)

، ومِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ العَرَقُ إِلْجَامًا»

(4)

.

(1)

قُلْتُ: كَكُفْرٍ أَو فِسْقٍ أَو ضَعْفِ عَمَلٍ.

(2)

حَسَنٌ. البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ (897) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (765).

(3)

"الحقْوُ -بِكَسْرِ الحَاءِ وَفَتْحِهَا-: هُوَ مَعْقِدُ الإِزَارِ". شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلْنَّوَوِيِّ (18/ 142).

(4)

مُسْلِمٌ (2864) عَنِ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَرْفُوعًا.

ص: 397

- عِنْدَ ابْنِ مَاجَةَ زِيَادَةٌ بِلَفْظِ: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا؛ أَقَالَ اللهُ تَعَالَى عَثْرَتَهُ»

(1)

، وَالمَعْنَى مَنْ وَافَقَ مُسْلِمًا عَلَى نَقْضِ البَيع أَوِ العَهْدِ «أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَهُ» أَي: يُزِيلُ ذَنْبَهُ، وَيَغْفِرُ لَهُ خَطِيئَتَهُ.

- حَدِيثٌ جَلِيلٌ فِي فَضْلِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ:

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «إِنَّ لِلَّهِ تبارك وتعالى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً -فُضُلًا- يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَؤوا مَا بَينَهُمْ وَبَينَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عز وجل -وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ-: مِنْ أَينَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ، قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا؛ أَي رَبِّ، قَالَ: فَكَيفَ لَو رَأَوا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوا نَارِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَيفَ لَو رَأَوا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ؛ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ! قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ؛ هُمُ القَومُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ»

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. ابْنِ مَاجَه (2199)، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الأَوسَطِ (889) بِلَفْظِ «مَنْ أَقَالَ أَخَاهُ بَيعًا» . الصَّحِيحَةُ (2614).

(2)

البُخَارِيُّ (6408)، وَمُسْلِمٌ (2689).

ص: 398

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: إِذَا كَانَ أَحَدُهُم قَارِئًا وَالآخَرُونَ مُسْتَمِعِينَ؛ هَلْ لِلمُسْتَمِعِ الثَّوَابُ أَيضًا؟

الجَوَابُ: نَعَم، وَدَلَّ لِذَلِكَ أُمُورٌ:

1 -

أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلمُسْتَمِعِ لِقِرَاءَةِ القَارِئِ إِذَا سَجَدَ القَارِئُ أَنْ يَسْجُدَ أَيضًا مَعَهُ.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَينَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ؛ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوضِعَ جَبْهَتِهِ"

(1)

.

2 -

أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ الإِيمَانِ لِمُسْتَمِعِ القُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأَنْفَال: 2].

3 -

فِي قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- جَاءَ قَولُهُ تَعَالَى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يُونُس: 89] مَعَ أَنَّ الدَّاعيَ هُوَ مُوسَى عليه السلام وَحْدَهُ! وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَارُونُ عليه السلام يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ كَانَ دَاعِيًا مِثْلَهُ.

قَالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيتَ فِرْعَونَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يُونُس: 88، 89]: " فإنْ قَالَ قَائِلٌ: وكَيفَ نُسِبَتِ الإِجَابَةُ إِلَى اثْنَين وَالدُّعَاءُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ وَاحِدٍ؟! قِيلَ: إِنَّ الدَّاعِيَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا؛ فَإِنَّ الثَّانِيَ كَانَ مُؤَمِّنًا وَهُوَ هَارُونُ؛ فَلِذَلِكَ نُسِبَتِ الإِجَابَةُ إِلَيهِمَا؛ لِأَنَّ المُؤَمِّنَ دَاعٍ"

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (1075)، وَمُسْلِمٌ (575).

(2)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (15/ 185).

ص: 399

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يَدَّعِي الإِعْسَارَ مَنْ لَيسَ بِمُعْسِرٍ! فَمَا السَّبِيلُ مَعَهُ؟

الجَوَابُ: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ صَاحِبُ حِيلَةٍ؛ وَأَنَّه مُوسِرٌ لَكِنِ ادَّعَى الإِعْسَارَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُمَاطِلَ بِحَقِّكَ! فَهُنَا لَكَ الحَقُّ أَنْ تُطَالِبَهُ.

ص: 400

‌الحَدِيثُ السَّابِعُ وَالثَّلاثُونَ: (إنَّ اللهَ عز وجل كَتَبَ الحَسَناتِ وَالسيِّئَاتِ)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى قَالَ: «إنَّ اللهَ عز وجل كَتَبَ الحَسَناتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا؛ كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا؛ كَتَبَهَا اللهُ عَنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا؛ كَتَبَها عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فعَمِلَهَا؛ كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ

(1)

.

- هَذَا حَدِيثٌ شَرِيفٌ عَظِيمٌ بَيَّنَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِقْدَارَ تَفَضُّلِ اللهِ عز وجل عَلَى خَلْقِهِ بِأَنْ ضَاعَفَ لَهُمُ الحَسَنَاتِ وَلَمْ يُضَاعِفْ عَلَيهِمُ السَّيِّئَاتِ؛ بَلْ جَعَلَ الهَمَّ بِالحَسَنَةِ حَسَنَةً أَيضًا.

وَفِيهِ أَنَّ مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنْ جَعَلَ لَهَا مُضَاعَفَةَ الأَعْمَالِ رُغْمَ قِصَرِ الأَعْمَارِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

(2)

.

وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الأُمَمِ مَا بَينَ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى

(1)

البُخَارِيُّ (6491)، وَمُسْلِمٌ (131).

(2)

البُخَارِيُّ (6624)، وَمُسْلِمٌ (855).

ص: 401

كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ العَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ العَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَينِ قِيرَاطَينِ؟ أَلَا فَأَنْتُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَينِ قِيرَاطَينِ، أَلَا لَكُمُ الأَجْرُ مَرَّتَينِ. فَغَضِبَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً! قَالَ اللهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

- قَولُهُ: «كَتَبَ» : أَي: كَتَبَ وُقُوعَهَا وَثَوَابَهَا، أَمَّا وُقُوعُهَا: فَفِي اللَّوحِ المَحْفُوظِ وَصُحُفِ المَلَائِكَةِ، وَأَمَّا ثَوَابُهَا: فَبِمَا دَلَّ عَلَيهِ الشَّرْعُ.

- قَولُهُ: «ثُمَ بَيَّنَ ذَلِك» : أَي: فَصَّلَهُ.

- قَولُهُ: «هَمَّ» : الهَمُّ هُنَا لَيسَ هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا النِّيَّةُ وَالعَزْمُ عَلَى الفِعْلِ

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: " (هَمَمْتُ بِكَذَا): أَي: قَصَدْتُهُ بِهِمَّتِي، وَهُوَ فَوقَ مُجَرَّدِ خُطُورِ الشَّيءِ بِالقَلْبِ"

(3)

.

- قَولُهُ: «كَامِلَةً» : لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ نُقْصَانُهَا لِأَنَّهَا فِي الهَمِّ لَا فِي العَمَلِ.

(1)

البُخَارِيُّ (3459).

(2)

وَفي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ (379) بِلَفْظِ: «إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً» وَمَعْنَاهُ الهَمُّ أَيضًا. أَفَادَهُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ)(2/ 319).

(3)

فَتْحُ البَارِي (11/ 323).

ص: 402

- قَولُهُ: «فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا» : هُوَ عَلَى وُجُوهٍ:

1 -

أَنْ يَسْعَى بِأَسْبَابِهَا وَلَكِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا؛ فَهَذَا يُكْتَبُ لَهُ الأَجْرُ كَامِلًا، لِقَولِ اللهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ} [النِّسَاء: 100].

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: " أَي: وَمَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِنِيَّةِ الهِجْرَةِ فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ؛ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنَ اللهِ ثَوَابُ مَنْ هَاجَرَ"

(1)

.

2 -

أَنْ يَهُمَّ بِالحَسَنَةِ وَيَعْزِمَ عَلَيهَا وَلَكِنَّهُ يَتْرُكُهَا لِحَسَنَةٍ أَفْضَلَ مِنْهَا؛ فَهَذَا يُثَابُ ثَوَابَ الحَسَنَةِ العُلْيَا الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ، وَيُثَابُ عَلَى هَمِّهِ الأَوَّلِ لِلحَسَنَةِ الدُّنْيَا، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ رَجُلًا قَامَ يَومَ الفَتْحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيتِ المَقْدِسِ رَكْعَتَينِ. قَالَ:«صَلِّ هَا هُنَا» . ثُمَّ أَعَادَ عَلَيهِ فَقَالَ: «صَلِّ هَا هُنَا» . ثُمَّ أَعَادَ عَلَيهِ فَقَالَ: «شَانُكَ إِذًا»

(2)

، فَهَذَا رُغِّبَ بِالانْتِقَالِ مِنْ أَدْنَى إِلَى أَعْلَى؛ فَالأَجْرُ فِيهِ حَتْمًا أَعْلَى.

3 -

أَنْ يَتْرُكَهَا تَكَاسُلًا وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ الأُولَى، " مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَي الضُّحَى؛ فَقَرَعَ عَلَيهِ البَابَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَالَ لَهُ: هَيَّا بِنَا نَتَمَشَّى، فَتَرَكَ الصَّلَاةَ وَذَهَبَ مَعَهُ يَتَمَشَّى، فَهَذَا يُثَابُ عَلَى الهَمِّ الأَوَّلِ"

(3)

.

- السَّيِّئَةُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَبَبَينِ:

1 -

أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا لَيسَتْ بِحَسَنَةٍ؛ فَهِيَ مِنَ السُّوءِ.

(1)

تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (2/ 391).

(2)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (3305). الإِرْوَاء (972).

(3)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص: 369).

ص: 403

2 -

أَنَّهَا تَسُوءُ صَاحِبَهَا بِعُقُوبَتِهَا.

- قَولُهُ: «وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا» : هُوَ عَلَى وُجُوهٍ أَفَادَهَا الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله فِي شَرْحِهِ عَلَى الأَرْبَعِينَ

(1)

:

1 -

أَنْ يَهُمَّ وَيَعْزِمَ بِالسَّيِّئَةِ بِقَلْبِهِ ثُمَّ يُرَاجِعَ نَفْسَهُ فَيَتْرُكَهَا للهِ عز وجل؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُؤْجَرُ؛ فَتُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «قَالَتِ المَلَائِكَة: يَا رَبِّ؛ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِسَيِّئَةٍ -وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ- فقَالَ: ارْقُبُوهُ؛ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً؛ إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّاي»

(2)

.

وَكَمَا فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» ، قِيلَ: أَرَأَيتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يَعْتَمِلُ بِيَديهِ؛ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ» ، قَالَ: أَرَأَيتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: «يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ» ، قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: «يَامُرُ بِالمَعْرُوفِ أَوِ الخَيرِ» ، قَالَ: أَرَأَيتَ إِنْ لَمْ يفْعَلْ؟ قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ»

(3)

.

قُلْتُ: وَهَذِهِ الصَّدَقَةُ الأَخِيرَةُ هِيَ بِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ بِكَفِّ أَذِيَّتِهِ عَنِ النَّاسِ، وَلَيسَتْ عَفْوَ الخَاطِرِ!

2 -

أَنْ يَهُمَّ وَيَعْزِمَ بِالسَّيِّئَةِ بِقَلْبِهِ ثُمَّ يَتْرُكَهَا مُرَاءَاةً لِلمَخْلُوقِينَ! فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ.

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ عُثَيمِين (ص: 370) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

(2)

مُسْلِمٌ (129).

(3)

البُخَارِيُّ (1445)، وَمُسْلِمٌ (1008).

ص: 404

3 -

أَنْ يَهُمَّ وَيَعْزِمَ بِالسَّيِّئَةِ بِقَلْبِهِ ثُمَّ يَعْزِفَ عَنْهَا لَا للهِ وَلَا لِلعَجْزِ؛ فَهَذَا لَا لَهُ وَلَا عَلَيهِ.

4 -

أَنْ يَهُمَّ وَيَعْزِمَ بِالسَّيِّئَةِ بِقَلْبِهِ -وَلَمْ يَسْعَ بِأَسْبَابِهَا- لَكِنَّهُ يَعْجَزُ عَنْهَا؛ فَهَذَا تُكْتَبُ عَلَيهِ سَيِّئَةً، لَكِنْ لَيسَ كَعَامِلِ السَّيِّئَةِ، وَإِنَّمَا يُكْتَبُ عَلَيهِ وِزْرُ نِيَّتِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ

(1)

، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ؛ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ؛ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا؛ فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ. وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ»

(2)

(3)

.

5 -

أَنْ يَهُمَّ بِالسَّيِّئَةِ وَيَسْعَى فِي الحُصُولِ عَلَيهَا وَلَكِنْ يَعْجَزُ عَنْهَا؛ فَهَذَا يُكْتَبُ عَلَيهِ وِزْرُ السَّيِّئَةِ كَامِلًا، كَمَا فِي الحَدِيثِ «إِذَا تَوَاجَهَ المُسْلِمَانِ بِسَيفَيهِمَا؛ فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ هَذَا القَاتِلُ؛ فَمَا بَالُ المَقْتُولِ؟

(1)

«أَي: إِنَّمَا حَالُ أَهْلِهَا حَالُ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ» . تُحْفَةُ الأَحْوَذِيِّ (6/ 507).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2325) عَنْ أَبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3024).

(3)

قُلْتُ: هَذِهِ المَسْأَلَةُ غَيرُ مُسَلَّمٍ بِهَا، فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثتْ بِهِ أنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَو تَعْمَلْ بِهِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5269)، وَمُسْلِمٌ (127).

وَأَمَّا الحَدِيثُ الَّذِي اسْتُدِلَّ بِهِ فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِالكَلَامِ، فَهُوَ مُطَابِقٌ لِهَذَا الحَدِيثِ، عَدَا عَنِ المُخَالَفَةِ الصَّرِيحَةِ لِحَدِيث البَابِ، فَنَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ أَيضًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيهِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 405

قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»

(1)

، وَمَثَّلَ لَهُ أَهْلُ العِلْمِ بِأَمْثِلَةٍ مِنْهَا: لَو أَنَّ إِنْسَانًا تَهَيَّأَ لِيَسْرِقَ بَيتًا، وَأَتَى بِالسُّلَّمِ لِيَتَسَلَّقَ، وَلَكِنْ عَجَزَ، فَهَذَا يُكْتَبُ عَلَيهِ وِزْرُ السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ وَسَعَى بِأَسْبَابِهَا، وَلَكِنْ عَجَزَ، وَمِنْهَا لِصٌّ مَعَهُ خَمْسُونَ مِفْتَاحًا يُرِيدُ أَنْ يَسْرِقَ بَيتًا، فَجَرَّبَ المَفَاتِيحَ كُلَّهَا فَلَمْ يُوَافِقْ وَاحِدٌ مِنْهَا البَابَ؛ فَذَهَبَ وَلَمْ يَسْرِقْ.

- قَولُهُ: «عِنْدَهُ» : إِشَارَةٌ إِلَى الاعْتِنَاءِ بِهَا.

- قَولُهُ: «عَنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ» : الأَصْلُ أَنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا وَلَكِنَّهَا قَدْ تَزِيدُ.

- مِنْ أَسْبَابِ مُضَاعَفَةِ الحَسَنَاتِ:

1 -

الزَّمَانُ الفَاضِلُ.

مِثَالُهُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاس مَرْفُوعًا «مَا مِنْ أَيَّام العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ»

(2)

، وَقَالَ تَعَالَى:{لَيلَةُ القَدْرِ خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القَدْر:3].

2 -

المَكَانُ الفَاضِلُ.

مِثَالُهُ: حَدِيثُ الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «صَلَاةٌّ في مَسْجِدي هَذا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ»

(3)

.

3 -

نَوعُ العَمَلِ.

مِثَالُهُ: حَدِيثُ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ «مَا تَقَرَّبَ

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (31)، وَمُسْلِمٌ (2888) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

البُخَارِيُّ (969)، وَأَبُو دَاود (2438) وَاللَّفْظُ لَهُ.

(3)

البُخَارِيُّ (1190)، وَمُسْلِمٌ (1394).

ص: 406

إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مَمَّا افتَرَضْتُ عَلَيهِ»

(1)

، وَحَدِيثُ «مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ الله كُتِبَتْ لَهُ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ»

(2)

.

4 -

تَعَدِّي النَّفْعِ.

كَالصَّدَقَةِ الجَارِيَةِ، وَالعِلْمِ النَّافِعِ، وَسَنِّ السُّنَّةِ الحَسَنَةِ

(3)

، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَرِيرٍ مَرْفُوعًا «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيءٌ»

(4)

.

5 -

اعْتِبَارُ العَامِلِ.

كَالإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ العَزْمِ، وَحُضُورِ القَلْبِ، كَمَا فِي المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَو أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»

(5)

.

6 -

دَرَجَةُ مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ فِي العَمَلِ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي اليَسَرِ؛ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا «مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ وَالرُّبُعَ وَالخُمُسَ حَتَّى بَلَغَ العُشُرَ»

(6)

.

(1)

البُخَارِيُّ (6502)، وَفِي الحَدِيثِ كَلَامٌ، رَاجِعِ الصَّحِيحَةَ (1640).

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (1625) عَنْ خُرَيمِ بْنِ فَاتِكٍ الأَسَدِيِّ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2604).

قُلْتُ: وَمِصْدَاقُهَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البَقَرَة: 261].

(3)

كَمَا سَبَقَ فِي بَيَانِ مَعْنَاهَا فِي مُلْحَقِ الحَدِيثِ الخَامِسِ.

(4)

مُسْلِمٌ (1017).

(5)

البُخَارِيُّ (3673)، وَمُسْلِمٌ (2540).

(6)

حَسَنٌ لِغَيرِهِ. النَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى (616). صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (538).

ص: 407

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ القَصَصِ: " كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البَقَرَة: 261] بِحَسْبِ حَالِ العَامِلِ وَعَمَلِهِ، وَنَفْعِهِ وَمَحَلِّهِ وَمَكَانِهِ"

(1)

، وَهُنَاكَ وُجُوهٌ أُخْرَى فِي المُفَاضَلَةِ تَظْهَرُ لِلمُتَأَمِّلِ وَمُتَدَبِّرِ الأَدِلَّة.

- قَولُهُ: «كَتَبَها اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» : صَرِيحٌ فِي أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تَتَضَاعَفُ، وَلَكِنَّ السَّيِّئةَ قَدْ تَعْظُمُ أَحْيَانًا.

وَالقَولُ بِالمُضَاعَفَةِ يُمْكِنُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَوجُهِ الإِسَاءَةِ فِي المَعْصِيَةِ الوَاحِدَةِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَقَدْ تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِشَرَفِ فَاعلِهَا، وَقُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِاللهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَ اللهُ خَاصَّةَ عِبَادِهِ عَلَى المَعْصِيَةِ بِمُضَاعَفَةِ الجَزَاءِ -وَإِنْ كَانَ قَدْ عَصَمَهُم مَنْهَا- لِيُبَيِّنَ لَهُم فَضْلَهُ عَلَيهِم بِعِصْمَتِهِم مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَولا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيهِمْ شَيئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ} [الإِسْرَاء: 74، 75]، وَقَالَ تَعَالَى أَيضًا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَاتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَينِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَينِ} [الأَحْزَاب: 30، 31]، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَينِ يَتَأَوَّلُ في آلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَني هَاشِمٍ مِثْلَ ذَلِكَ لِقُرْبِهِم مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"

(2)

.

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: " وَالجُمْهُورُ عَلَى التَّعْمِيمِ في الأَزْمِنَةِ

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 625).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 318).

ص: 408

وَالأَمْكِنَةِ، لَكِنْ قَدْ يَتَفَاوَتُ بِالعِظَمِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَولِهِ:«القَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ» أَنْ يَكُونَا في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ العَذَابِ بِالاتِّفَاقِ"

(1)

.

(1)

فَتْحُ البَارِي (11/ 329).

ص: 409

- مِنْ أَسْبَابِ عِظَمِ السَّيِّئَاتِ:

1 -

شَرَفُ الزَّمَانِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَومَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِن َّأَنْفُسَكُمْ} [التَّوبَة: 36].

قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم} : " فِي كُلِّهِنَّ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ؛ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالعَمَلَ الصَّالحَ وَالأَجْرَ أَعْظَمَ"

(1)

.

2 -

شَرَفُ المَكَانِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}

[الحَجّ:25]

(2)

.

3 -

حَالُ العَامِلِ.

كَأَذِيَّةِ الجَارِ لِجَارِهِ -وَقَدْ أُمِرَ بِالإِحْسَانِ إِلَيهِ-، كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنِ المِقْدَادِ ابْنِ الأَسْوَدِ مَرْفُوعًا «لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ خَيرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، وَلَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ أَيسَرُ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيتِ جَارِهِ»

(3)

.

(1)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (14/ 238).

(2)

وَالمَقْصُودُ بِالإِلْحَادِ هُنَا المَعْصِيَةُ، كَمَا أَفَادَهُ الطَّبَرِيُّ رحمه الله في التَّفْسِيرِ (18/ 602).

وَفي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (5/ 27): كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو بْنِ العَاصِ يَقُولُ: "الخَطِيئَةُ فِيهِ أَعْظَمُ"، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَالَ:"لَأَنْ أُخْطِئَ سَبْعِينَ خَطِيئَةً -يَعني: بِغَيرِ مَكَّةَ- أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُخْطِئَ خَطِيئَةً وَاحِدَةً بِمَكَّة".

(3)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (23854). الصَّحِيحَةُ (65).

ص: 410

- إِنَّ كِتَابَةَ السَّيِّئَةِ عَلَى العَبْدِ لَيسَتْ حَتْمًا، وَذَلِكَ لِسِعَةِ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «أَو مَحَاهَا، وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ»

(1)

، يَعْنِي: أَنَّ السَّيِّئَةَ إمَّا أَنْ تُكتَبَ لِعَامِلِهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً أَو يَمْحُوهَا اللهُ بِمَا شَاءَ مِنَ الأَسْبَابِ كَالتَّوبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ وَعَمَلِ الحَسَنَاتِ

(2)

.

وَمَعْنَى «وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إلاَّ هَالِكٌ» : أَي: لَا يَهْلِكُ إِلَّا مَنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَلَمْ يَاخُذْ مُطْلَقًا بِأَسْبَابِ النَّجَاةِ وَإِنْ قَلَّتْ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَولَهُ:

" وَيلٌ لِمَنْ غَلَبَ وُحْدَانُهُ عَشَرَاتِهِ"

(3)

.

(1)

مُسْلِمٌ (131).

(2)

وَقَدْ سَبَقَ الكَلَامُ عَلَى الَّذِي تُمْحَى بِهِ السيِّئَاتُ فِي شَرْحِ الحَدِيثِ الثَّامِنَ عَشَرَ.

(3)

تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (12/ 454).

ص: 411

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلْ تَتَفَاضَلُ الحَسَنَاتُ عَنْ بَعْضِهَا وَكَذَا السَّيِّئَاتُ؛ أَمْ كُلُّهَا سَوَاءٌ؟

الجَوَابُ: بَلْ تَتَفَاضَلُ بَينَ بَعْضِهَا بِالعِظَمِ، فَحَسَنَةُ التَّوحِيدِ أَعْظَمُهَا.

كَمَا فِي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ؛ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوصِنِي؟ قَالَ:

«إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا» ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنَ الحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ قَالَ:«هِيَ أَفْضَلُ الحَسَنَاتِ»

(1)

.

وَأَيضًا سَيِّئَةُ الشِّرْكِ هِيَ أَعْظَمُهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 48].

بَلْ قَدْ تَتَضَاعَفُ السَّيئِةُ الوَاحِدَةُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَوجُهِ الإِسَاءَةِ فِي المَعْصِيَةِ الوَاحِدَةِ.

(1)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (21487). الصَّحِيحَةُ (1373).

ص: 412

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَل قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَو تَعْمَلْ بِهِ»

(1)

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الهَامَّ بِالمَعْصِيَةِ إِذَا تَكَلَّم بِمَا هَمَّ بِهِ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الهَمِّ؟

وَالجَوَابُ: نَعَم، لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ -وَلَو مِنْ جِهَةِ الكَلَامِ فَقَطْ-، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ قَولُ القَائِلِ:«لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ؛ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزرُهُمَا سَوَاءٌ»

(2)

.

وَتَأَمَّلْ كَيفَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَاقَبَ أَصْحَابَ الحَرْثِ -فِي قِصَّةِ سُورَةِ القَلَمِ- عَلَى قَولِهِم؛ حَيثُ قَالَ عَنْهُم: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القَلَم: 17، 18] رُغْمَ أَنَّهُم لَمْ يَعْمَلُوا بَعْدُ، فَقَالَ تَعَالَى:{فَطَافَ عَلَيهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القَلَم: 19، 20].

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (5269)، وَمُسْلِمٌ (127) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(2)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2325) عَنْ أَبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (3024).

ص: 413

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَو تَعْمَلْ بِهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَهْمَا حَدَّثَ المَرْءُ نَفْسَهُ بِهِ لَا يُؤَاخَذُ عَلَيهِ؟

الجَوَابُ: هَذَا هُوَ الأَصْلُ؛ إِلَّا إِنْ كَانَ هَذَا الحَدِيثُ عَمَلًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالِ القُلُوبِ، فَمَا يَعْقِدُ القَلْبُ عَلَيهِ وَيُصَمِّمُ عَلَى صِحَّتِهِ وَيَدُومُ فِيهِ وَيُسَاكِنُهُ فَهُوَ يَاثَمُ بِهِ إِنْ كَان مُحَرَّمًا؛ وَقَدْ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ، كَالشَّكِّ فِي الوَحْدَانِيَّةِ أَوِ النُّبُوَّةَ أَوِ البَعْثِ أَو غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، أَوِ اعْتِقَادِ تَكْذِيبِ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ يُعَاقَبُ عَلَيهِ العَبْدُ، وَيَصِيرُ بِذَلِكَ كَافِرًا أَو مُنَافِقًا.

وَيُلْحَقُ بِهَذَا القِسْمِ سَائِرُ المَعَاصِي المُتَعَلِّقَةِ بِالقُلُوبِ، كَمَحَبَّةِ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ، وَبُغْضِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَالكِبْرِ، وَالعُجْبِ، وَالحَسَدِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النُّور: 19]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى أَيضًا:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحَجّ: 25].

وَفِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَولِهِ عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قَالَ: " لَو أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ -وَهُوَ بِعَدَن أَبْينَ

(1)

لَأَذَاقَهُ اللهُ عز وجل عَذَابًا أَلِيمًا"

(2)

.

قَالَ الإِمَامُ القَصَّابُ رحمه الله

(3)

: " وَمِنْهَا: أَنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَسْأَلُ عَنِ

(1)

عَدَنُ أَبْيَن: مَدِينَةٌ فِي أَقْصَى اليَمَنِ.

(2)

مُسْنَدُ أَحْمَد (4071). وَصَحَّحَ الإِمَامُ أَحْمَدُ شَاكِر رَفْعَهُ -زِيَادَةً عَلَى صِحَّةِ وَقْفِهِ-.

(3)

عِنْدَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإِسْرَاء: 36].

ص: 414

الإِضْمَارَاتِ وَالطَّوَايَاتِ المَذْمُومَةِ وَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهَا الجَوَارِحُ بِالحَرَكَاتِ؛ لِأَنَّ الأَفْئِدَةَ مَحَلُّ الضَّمَائِرِ وَالنِّيَّاتِ، وَبِهَا تَصِحُّ جَمِيعُ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ وَالحَرَكَاتِ. وَلَيسَ فِي قَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِخْبَارًا عَن رَبِّهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ يَقُولُ لِمَلَائِكَتِهِ:«إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا حَتَّى يَعْمَلَهَا»

(1)

- مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ فِي الاهْتِمَامِ بِسَيِّئَةٍ لَا تُعْمَلُ إِلَّا بِالجَوَارِحِ مِثْلِ القَتْلِ وَالزِّنَا وَأَشْبَاهِهِ مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ فِعْلُهَا إِلَّا بِالجَوَارِحِ؛ فَتَجَاوَزَ اللهُ -رِفْقًا بِعِبَادِهِ، وَرَحْمَةً لَهُم- عَنِ الاهْتِمَامِ بِهَا دُونَ الفِعْلِ، إِذِ الاهْتِمَامُ يُضَاهِي الخَاطِرَ وَالشَّهْوَةَ -وَهُمَا غَيرُ مَمْلُوكَين-؛ فَأَمَّا مَا كَانَ سُلْطَانُهُ فِيهِ لِلْقَلْبِ مِن الطَّوِيَّةِ عَلَى الكُفْرِ، وَحِفْظِ المُنْكَرِ، وَأَبَاطِيلِ السِّحْرِ وَأَشْبَاهِهِ؛ فَالإِضْمَارُ عَلَيهِ، وَالقَبُولُ لَهُ عَمَلٌ يَكْتُبُه الحَافِظُ، وَيَسْأَلُ عَنْهُ الرَّبُّ جَلَّ وَتَعَالَى"

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (6491)، مُسْلِمٌ (128).

(2)

النُّكَتُ الدَّالَّةُ عَلَى البَيَانِ (2/ 160).

ص: 415

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى عِلْمِ المَلَكِ بِمَا فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ؟

الجَوَابُ: نَعَم، وَلَكِنَّ هَذَا حَاصِلٌ بِإطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى لَهُ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: " فِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المَلَكَ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَلْبِ الآدَمِيِّ، وَذَلِكَ إِمَّا بِإِطْلَاعِ اللهِ إِيَّاُه عَلَى ذَلِكَ أَو بِأَنْ يَخْلِقَ لَهُ عِلْمًا يُدْرِكُ بِهِ ذَلِكَ"

(1)

.

قُلْتُ: وَسَبَبُ هَذَا الجَوابِ الَّذِي تَقَدَّمَ بِهِ الحَافِظُ رحمه الله هُوَ كَونُ عِلْمِ مَا فِي الصُّدُورِ خَاصٌّ بِاللهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّهُ مِنَ الغَيبِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ اللهُ سُبْحَانَهُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فَاطِر: 38]، فَلَيسَ بِغَرِيبٍ أَنْ يُمَكِّنَ اللهُ تَعَالَى المَلَكَ مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَيسَ بِمَلَكٍ: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأَنْعَامُ: 50].

قَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ رحمه الله: " {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ} أَي: خَزَائِنُ رِزْقِهِ فَأُعْطِيكُم مَا تُرِيدُونَ، {وَلَا أَعْلَمُ الغَيبَ} فَأُخْبِرُكُم بِمَا غَابَ مِمَّا مَضَى وَمِمَّا سَيَكُونُ، {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ المَلَكَ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيهِ الآدَمِيُّ وَيُشَاهِدُ مَا لَا يُشَاهِدُهُ الآدَمِيُّ"

(2)

.

(1)

فَتْحُ البَارِي (11/ 325).

(2)

تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (3/ 145).

ص: 416

‌الحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالثَّلاثُونَ: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ)

عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلِيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلِيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيهِ، ولا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

- تَمَامُ الحَدِيثِ فِي البُخَارِيِّ فِيهِ «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوتَ؛ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» .

- قَولُهُ: «مَنْ عَادَى» : يَعْنِي اتَّخَذَ الوَلِيَّ عَدُوًّا وَأَبْغَضَهُ.

- الوَلِيُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ هُوَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ؛ لَيسَ بِنَبِيٍّ، قَالَ تَعَالَى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يُونُس: 62، 63].

- الوَلَايَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَينِ:

1 -

وَلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَهَذِهِ للهِ عز وجل، لَا تَصْلُحُ لِغَيرِهِ، كَالسِّيَادَةِ المُطْلَقَةِ.

(1)

البُخَارِيُّ (6502)، وَفِي الحَدِيثِ كَلَامٌ، وَسَيَاتِي. الصَّحِيحَةُ (1640).

ص: 417

وَوَلَايَةُ اللهِ لِعِبَادِهِ أَيضًا نَوعَان:

أ- عَامَّةٌ: وَهِيَ الشَّامِلَةُ لِكُلِّ أَحَدٍ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَولَاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يُونُس: 30]، فجَعَلَ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَلَايَةً عَلَى هَؤُلَاءِ المُفْتَرِينَ؛ فَهَذِهِ وَلَايَةٌ عَامَّةٌ، فاللهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عِبَادَهُ بِالتَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيرِ ذَلِكَ.

ب- خَاصَّةٌ: وَهِيَ أَنْ يَتَوَلَّى اللهُ العَبْدَ بِعِنَايَتِهِ وَتَوفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَهَذِهِ خَاصَّةٌ بِالمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ المُرَادَةُ فِي الحَدِيثِ.

قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَولَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لَا مَولَى لَهُمْ} [مُحَمَّد:11].

2 -

وَلَايَةٌ مُقَيَّدَةٌ مُضَافَةٌ: وَهَذِهِ يَجُوزُ أَنْ تُطْلَقَ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَلَهَا فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: النَّاصِرُ، وَالمُتَوَلِّي لِلأُمُورِ، وَالسَّيِّدُ، وَالعَتِيقُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَولَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ}

[التَّحْرِيم: 4].

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ! وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَولَايَ. وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي! وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي»

(1)

.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: "وَعَلَيهِ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِاسْتِنْكَارِ بَعْضِ النَّاسِ لِمَنْ خَاطَبَ مَلِكًا بِقَولِهِ: مَولَايَ! لِأَنَّ المُرَادَ بِمَولَايَ أَي: مُتَوَلِّي أَمْرِي،

(1)

البُخَارِيُّ (2552)، وَمُسْلِمٌ (2249).

ص: 418

وَلَا شَكَّ أَنَّ رَئِيسَ الدَّولَةِ يَتَوَلَّى أُمُورَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 59] "

(1)

.

- قَولُهُ: «آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ» : أَي: أَعْلَمْتُهُ، وَمَعْنَى إِعْلَامِهِ بِالحَرْبِ: أَي: تَعَرُّضُهُ لِإِهْلَاكِ اللهِ تَعَالَى لَهُ.

- فِي الحَدِيثِ أَنَّ مُعَادَاةَ أَولِيَاءِ اللهِ هِيَ مِنْ كَبَائِرِ الذّنُوبِ؛ لقَولِهِ: «فَقَدْ آذَنتُهُ بِالحَرْبِ» ، وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ عَلَى عَمَلٍ خَاصٍّ؛ فَيَكُونُ هَذَا العَمَلُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَمِثْلُهُ مِنَ الذُّنُوبِ آكِلُ الرِّبَا وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ

(2)

.

- إِنَّ بِتَفَاضُلِ الإِيمَانِ وَالتَّقْوَى تَتَفَاضَلُ الوَلَايَةُ للهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحُجُرَات: 13].

- قَسَمَ اللهُ تَعَالَى أَولِيَاءَهُ المُقَرَّبينَ إِلَى دَرَجَتَينِ:

1 -

دَرَجَةِ المُقْتَصِدِينَ: وَهُمُ المُتَقَرِّبُونَ إِلَيهِ بِأَدَاءِ الفَرَائِضِ، وَيَشْمَلَ ذَلِكَ فِعْلَ الوَاجِبَاتِ وَتَرْكَ المُحَرَّمَاتِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ الَّتِي افْتَرَضَهَا عَلَى عِبَادِهِ.

2 -

دَرَجَةِ السَّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ: وَهُمُ الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ -بَعْدَ الفَرَائِضِ-

ص: 419

بِالاجْتِهَادِ فِي نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ، وَالكَفِّ عَنْ دَقَائِقِ المَكْرُوهَاتِ.

- فِي الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ يُوصِلُ إِلَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَوَلَايَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ سِوَى طَاعَتِهِ سُبْحَانَهُ الَّتِي شَرَعَهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَمَنِ ادَّعَى وَلَايَةَ اللهِ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيهِ وَمَحَبَّتَهُ بِغَيرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ؛ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ.

- الفَائِدَة الأُولَى: فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ عبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» . قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوتَ! قَالَ: «لَيسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ؛ فَلَيسَ شَيءٌ أَحَبَّ إِلَيهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ. وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ؛ فَلَيسَ شَيءٌ أَكْرَهَ إِلَيهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ»

(1)

.

- الفَائِدَة الثَّانِيَة: مُعَادَاةُ الوَلِيِّ عَلَى قِسْمَينِ:

أ- إِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ وَلَايَتِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي عَلَيهِ الحَدِيثُ.

ب- إِنْ كَانَ نِزَاعًا فِي مُخَاصَمَةٍ أَو مُحَاكَمَةٍ تَرْجِعُ إِلَى اسْتِخْرَاجِ حَقٍّ أَو كَشْفِ غَامِضٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الحَدِيثِ، وَإِنَّهُ جَرَى بَينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُشَاجَرَةٌ، وَبَينَ العَبَّاسِ وَعَلِيٍّ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الوَقَائِعِ الَّتِي لَا تَقْدَحُ فِي أَصْحَابِهَا.

- الفَائِدَة الثَّالِثَة: فِي الحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَا يُسَمَّى بِخَاصَّةِ الخَاصَّةِ مِنَ النَّاسِ -وُفْقَ مَا يُعَرِّفُهُ بِهِ غُلَاةُ المُتَصَوِّفَةِ-! وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ لَهُم أَنْ يَسْأَلُوا اللهَ تَعَالَى

شَيئًا -عَلَى حَدِّ زَعْمِهِم-؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي يَقِينِهِم بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ أَعْلَمُ

(1)

البُخَارِيُّ (6507).

ص: 420

بِأَحْوَالِهِم مِنْهُم!

وَالرَّدُّ عليهم هُوَ مِنْ جِهَتَينِ:

أ- مِنْ جِهَةِ أَنَّ نَفْسَ سُؤَالِ العَبْدِ للهِ تَعَالَى هُوَ عِبَادَةٌ، وَفِي الحَدِيثِ «إنَّهُ مَنْ لم يَسْأَلِ اللهِ يَغضَبْ عَلَيهِ»

(1)

.

بَلْ إِنَّ ذِكْرَ ضَعْفِ العَبْدِ وَافْتِقَارِهِ وَإِنْزَالَ حَوَائِجِهِ بِاللهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ نَوعُ تَوَسُّلٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَينَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأَنْبِيَاء: 83، 84].

ب- مِنْ جِهَةِ أَنَّ العَبْدَ إِذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ وَلَايَةِ اللهِ تَعَالَى لَمْ يَمْتَنِعْ -كَمَا دَلَّ عَلَيهِ الحَدِيثُ- أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ حَوَائِجَهُ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ مِمَّنْ يَخَافُهُ! وَاللهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ وَأَنْ يُعِيذَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعيذَ بِهِ، وَفِي القُرْآنِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً مِنْ دُعَاءِ الأَنْبِيَاءِ لِرَبِّهِم جل جلاله.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3373) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (2654).

ص: 421

- تَنْبِيهٌ:

الحَدِيثُ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ إِسْنَادِهِ الَّذِي فِي البُخَارِيِّ، لَكِنْ لَهُ طُرُقٌ يَرْتَقِي بِهَا إِلَى الصَّحِيحِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ كَرَامَةَ عَنْ خَالِدٍ، وَلَيسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مَعَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَخْلَدٍ القَطَوَانِيَّ تَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ وَغَيرُهُ، وَقَالُوا: لَهُ مَنَاكِيرُ! وَعَطَاءُ الَّذِي فِي إِسْنَادِهِ قِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ يَسَارٍ، وَإِنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الصَّحِيحِ مَنْسُوبًا كَذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لَا تَخْلُو كُلُّهَا عَنْ مَقَالٍ"

(1)

.

قَالَ الشَّيخُ المُحَدِّثُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: " قُلْتُ: وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، وَهُوَ مِنَ الأَسَانِيدِ القَلِيلَةِ الَّتِي انْتَقَدَهَا العُلَمَاءُ عَلَى البُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى

(2)

، فَقَالَ الذَّهَبِيُّ رحمه الله فِي تَرْجَمَةِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ هَذَا -وَهُوَ القَطْوَانِيُّ- بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اخْتِلَافَ العُلَمَاءِ فِي تَوثِيقِهِ وَتَضْعِيفِهِ وَسَاقَ لَهُ أَحَادِيثَ تَفَرَّدَ بِهَا؛ وَهَذَا مِنْهَا:(فَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَلَولَا هَيبَةُ الجَامِعِ الصَحِيحِ (!) لَعَدَدْتُهُ فِي مُنْكَرَاتِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، وَذَلِكَ لِغَرَابَةِ لَفْظِهِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يَنْفَرِدُ بِهِ شَرِيكُ -وَلَيسَ بِالحَافِظِ-، وَلَمْ يُرْوَ هَذَا المَتْنُ إِلَّا بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَا أَخْرَجَهُ مَنْ عَدَا البُخَارِيِّ،

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 330).

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِير رحمه الله: "ثُمَّ حَكَى [يعني: ابْنَ الصَّلَاحِ] أَنَّ الأُمَّةَ تَلَقَّتْ هَذَينِ الكِتَابَينِ بِالقَبُولِ سِوَى أَحْرُفٍ يَسِيرَةٍ انْتَقَدَهَا بَعْضُ الحُفَّاظِ كَالدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيرِهِ، ثُمَّ اسْتَنْبَطَ مِنْ ذَلِكَ القَطْعَ بِصِحَّةِ مَا فِيهِمَا مِنَ الأَحَادِيثِ؛ لِأَنَّ الأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ عَنِ الخَطَأِ، فَمَا ظَنَّتْ صِحَّتَهُ وَوَجَبَ عَلَيهَا العَمَلُ بِهِ؛ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الأَمْرِ، وَهَذَا جَيِّدٌ". البَاعِثُ الحَثِيثُ (ص: 35).

ص: 422

وَلَا أَظُنُّهُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَطَاءَ، فَقِيلَ: هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ). وَنَقَلَ كَلَامَهُ هَذَا بِشَيءٍ مِنَ الاخْتِصَارِ الحَافِظُ فِي الفتح، ثُمَّ قَالَ:(قُلْتُ: لَيسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ جَزْمًا، وَإِطْلَاقُ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ هَذَا المَتْنُ إِلَّا بِهَذَا الإِسْنَادِ مَرْدُودٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَشَرِيكُ -شَيخُ شَيخِ خَالِدٍ- فِيهِ مَقَالٌ أَيضًا، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ المِعْرَاجِ الَّذِي زَادَ فِيهِ وَنَقَصَ وَقدَّمَ وَأَخَّرَ وَتفرَّدَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيهَا -كَمَا يَاتِي القَولُ فِيهِ مُسْتَوعَبًا فِي مَكَانِهِ-، وَلَكِنْ لِلحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا)

(1)

"

(2)

.

(1)

فَتْحُ البَارِي (11/ 341).

(2)

الصَّحِيحَةُ (1640).

ص: 423

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: هَلِ اسْتِجَابَةُ اللهِ تَعَالَى لِدُعَاءِ الدَّاعِي هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ مَادَامَ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الأَوصَافِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الحَدِيثِ؟

الجَوَابُ: لا، لِأَنَّ النُّصُوصَ يُقَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِجَابَةُ الدُّعَاءِ لَهَا شُرُوطٌ وَأَنْوَاعٌ:

وَالشُّرُوطُ هِيَ:

1 -

أَنَّ لَا يَكُونَ الدُّعَاءُ فِيهِ إِثْمٌ. 2 - أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ قَطِيعَةُ رَحِمٍ.

3 -

أَنْ لَا يَسْتَعجِلَ الإِجَابَةَ فَيُؤَدِّي بِهِ لِتَرْكِ الدُّعَاءِ إِذَا لَمْ تُعَجَّلْ لَهُ!

4 -

حُضُورُ القَلْبِ فِي الدُّعَاءِ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ «اُدْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»

(1)

.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَوقُوفًا " لَا يَسْمَعُ اللَّهُ مِنْ مُسْمِعٍ، وَلَا مُرَاءٍ، وَلَا لَاعِبٍ؛ إِلَّا داعٍ دَعَا يَثْبُتُ مِنْ قَلْبِهِ"

(2)

.

5 -

الرَّجَاءُ مَعَ الدُّعَاءِ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ «يَا ابْنَ آَدَمَ؛ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِي وَرَجَوتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي»

(3)

(4)

.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3479) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (594).

(2)

صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (473).

(3)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3540) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (127).

(4)

وَهُنَاكَ مَوَانِعُ لِلإِجَابَةِ وَآدَابٌ أُخَرُ سَبَقَ الكَلَامُ عَلَيهَا فِي شَرْحِ الحَدِيثِ العَاشِرِ بِحَمْدِ اللهِ.

ص: 424

وَالإِجَابَةُ أَنْوَاعٌ هِيَ:

1 -

أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ فِي الحَاضِرِ.

2 -

أَنْ يُصْرَفَ بِهَا مِنَ السُّوءِ عَنِ المُسْلِمِ مِثْلُهَا.

3 -

أَنْ يُدَّخَرَ جَوَابُهَا إِلَى الآخِرَةِ.

وَفِي الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِمِثْلِهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ»

(1)

.

وَفِي الحَدِيثِ أَيضًا «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِلَّهِ -يَسْأَلُهُ مَسْأَلَةً- إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا، إِمَّا عَجَّلَهَا لَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا ادَّخَرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: قَدْ دَعَوتُ وَدَعَوتُ فَلَا أَرَاهُ يُسْتَجَابُ»

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (710) تَحْتَ بَابِ «مَا يُدَّخَرُ لِلدَّاعِي مِنَ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ» عَنْ أَبِي سَعِيد الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (550).

(2)

صَحِيحٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (711) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (551).

ص: 425

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ رَدَّ هَذَا الحَدِيثَ طَائِفَةٌ مِن النَّاسِ؛ وَقَالُوا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالتّرَدُّدِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَرَدَّدُ مَنْ لَا يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ، وَاللهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِالعَوَاقِبِ! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ: إِنَّ التَّرَدُّدَ قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ العِلْمِ بِالعَوَاقِبِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَا فِي الفِعْلَينِ مِنَ المَصَالِحِ وَالمَفَاسِدِ؛ فَيُرِيدُ الفِعْلَ لِمَا فِيهِ مِنَ المَصْلَحَةِ، وَيَكْرَهُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ المَفْسَدَةِ؛ لَا لِجَهْلِهِ بِهِ! وَهُوَ الوَجْهُ هُنَا؛ فَإِنَّ العَبْدَ الَّذِي صَارَ مَحْبُوبًا للهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ اللهَ يَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ قَضَى بِالمَوتِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ؛ وَهَذَا مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَةِ حَبِيبِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي سُمِّيَ تَرَدُّدًا فِي الحَدِيثِ

(1)

(2)

.

(1)

انْظُرْ مَجْمُوعَ الفَتَاوَى (18/ 129) لِشَيخِ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

(2)

وَذَهَبَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ رحمه الله وَغَيُرُهُ إِلَى مَعْنَيِينِ آخَرَينِ، فَقَالَ رحمه الله: "وَتَاوِيلُهُ عَلَى وَجْهَينِ، أَحَدِهِمَا: إِنَّ العَبْدَ قَدْ يُشْرِفُ فِي أَيَّامِ عُمُرِهِ عَلَى المَهَالِكِ مَرَّاتٍ ذَاتِ عَدَدٍ؛ مِنْ آفَةٍ تَنْزِلُ بِهِ، أَو دَاءٍ يُصِيبُهُ؛ فَيَدْعُو اللهَ، فَيَشْفِيهِ مِنْهَا؛ فَهُوَ المُرَادُ مِنَ التَّرَدُّدِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ، وَهَذَا عَلَى مَعْنَى مَا رُوِيَ «أَنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ البَلاءَ» .

وَالوَجْهِ الأَخَرِ: أَنْ يَكُونَ المُرَادُ مِنْهُ تَرْدِيدَ الرُّسُلِ، مَعْنَاهُ: مَا رَدَدْتُ رُسُلِي فِي شَيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرْدِيدِي إِيَّاهُمْ فِي نَفْسِ المُؤْمِنِ، كَمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَإِرْسَالِ مَلَكِ المَوتِ إِلَيهِ، وَلَطْمِهِ عَينَهُ، ثُمَّ رَدِّهُ إِلَيهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَحَقِيقَةُ المَعْنَى فِي الوَجْهَينِ عَطْفُ اللهِ عز وجل عَلَى العَبْدِ، وَلُطْفُهُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ". شَرْحُ السُّنَّةِ (5/ 20).

ص: 426

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يُحْمَلُ الحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا» ؟

الجَوَابُ: نَعَمْ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ حَقِيقَتُهُ، وَلَكِنْ مَا ظَاهِرُ هَذَا الحَدِيثِ؟

هَلْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَكُونُ نَفْسَ سَمْعِ الوَلِيِّ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ؟ أَو يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَدِّدُ الوَلِيَّ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجلِهِ بِحَيثُ يَكُونُ إِدْرَاكُهُ وَعَمَلُهُ للهِ وَبِاللهِ وَفِي اللهِ؟

لَا رَيبَ أَنَّ القَولَ الأَوَّلَ لَيسَ هُوَ ظَاهِرُ الكَلَامِ، بَلْ وَلَا يَقْتَضِيهِ الكَلَامُ لِمَنْ تَدَبَّرَ الحَدِيثَ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ:«وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ» ، وَقَالَ:«وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» فَأَثْبَتَ عَبْدًا وَمَعْبُودًا، وَمُتَقَرِّبًا وَمُتَقَرَّبًا إِلَيهِ، وَمُحِبًّا وَمَحْبُوبًا، وَسَائِلًا وَمَسْئُولًا، وَمُعْطِيًا وَمُعْطًى، وَمُسْتَعِيذًا وَمُسْتَعَاذًا بِهِ، فَسِيَاقُ الحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى اثْنَينِ مُتَبَايِنَينِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيرُ الآخَرِ.

وَإِذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ القَولِ الأَوَّلِ وَامْتِنَاعُهُ تَعَيَّنَ القَولُ الثَّانِي، وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الحَدِيثِ حَيثُ جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الإِثَابَةِ وَالإِعَانَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَدِّدُ هَذَا الوَلِيَّ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَمَلِهِ، وَهَذَا مَا فَسَّرَهُ بِهِ السَّلَفُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مُطَابِقٌ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَمُوَافِقٌ لِحَقِيقَتِهِ، وَمُتَعَيِّنٌ بِسِيَاقِهِ، وَلَيسَ فِيهِ تَاوِيلٌ وَلَا صَرْفٌ لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَللهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ

(1)

(2)

.

(1)

المُجَلَّى فِي شَرْحِ القَوَاعِدِ المُثْلَى لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص: 284) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.

قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قَولُ القَائِلِ: جَعَلَ الوَزِيرُ فُلَانًا يَدَهُ اليُمْنَى، وَفُلَانًا عَيْنَهُ، فَمَا هُوَ ظاهِرُ هَذَا الكَلَامِ عَلَى الحَقِيقَةِ وُفْقَ اللِّسَانِ العَرَبِيِّ وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ العَالِمِ أَوِ العَامِيِّ؟ وَفِي الجَوَابِ هُنَا الجَوَابُ هُنَاكَ.

(2)

وَفِي الجَوَابِ عَنِ الحَدِيث أَقْوَالٌ أُخْرُ؛ مِنْهَا: إِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا كَانَ وَلِيًّا للهِ عز وجل حَفِظَ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ وَ .... ، فَلَا يَسْتَخْدِمُهَا إِلَّا فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "وَقَالَ الطُّوفِيُّ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ -مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَولِهِم- أَنَّ هَذَا مَجَازٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ نُصْرَةِ العَبْدِ وَتَايِيدِهِ وَإِعَانَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الآلَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا". فَتْحُ البَارِي (11/ 344).

وَ (الطُّوفِيُّ) هَذَا؛ لَعَلَّهُ هُوَ سُلَيمَانُ بْنُ عَبْدِ القَوِيِّ الطُّوفِيُّ الصَّرْصَرِيُّ؛ أَبُو الرَّبِيعِ؛ نَجْمُ الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 716 هـ)، وَلَهُ شَرْحُ عَلَى الأَرْبَعِين. انْظُرْ كِتَابَ (ذَيلُ طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ) لِلحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ رحمه الله (4/ 404).

قُلْتُ: وَهَذَا المَعْنَى حَقٌّ، لَكِنْ لَيسَ فِي الحَدِيثِ مَجَازٌ حَتَّى يُذْهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ! فَالحَدِيثُ ظَاهِرُهُ هُوَ هَذَا المَعْنَى نَفْسُهُ.

ص: 427

‌الحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالثَّلاثُونَ: (التَّجَاوُزُ عَنِ الخَطَأُ وَالنِّسْيَانِ)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ الله ِصَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَال: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ» . حَدِيث حَسَنٌ. رَوَاهُ ابْن مَاجَه والبَيهَقِيُّ وَغَيرُهُمَا

(1)

.

- قَولُهُ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي» : اللَّامُ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ، أَي: تَجَاوَزَ مِنْ أَجْلِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ.

- التَّجَاوُزُ هُنَا هُوَ الوَضْعُ، وَالأُمَّةُ هُنَا هِيَ أُمَّةُ الإِجَابَةِ؛ وَلَيسَتْ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ.

- الخَطَأُ: أَنْ يَرْتَكِبَ الإِنْسَانُ غَيرَ الصَّوَابِ مِنْ غَيرِ عَمْدٍ.

(1)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (2043)، وَالبَيهَقِيُّ فِي الكُبْرَى (15094). صَحِيحُ الجَامِعِ (1731).

وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: "إِلَّا أَنَّهُ قَدْ أُعِلَّ بِعِلَّةٍ غَيرِ قَادِحَةٍ". فَتْحُ البَارِي (5/ 161).

ص: 428

- النِّسْيَانُ: هُوَ ذُهُولُ القَلْبِ عَنْ شَيءٍ مَعْلُومٍ مِنْ قَبْلُ.

- الاسْتِكْرَاهُ: هُوَ الإِجْبَارُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُكْرِهَهَ شَخْصٌ عَلَى عَمَلٍ مُحَرَّمٍ وَلَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ.

- هَذِهِ الأَعْذَارُ الثَّلَاثَةُ شَهِدَ لَهَا القُرْآنُ الكَرِيمُ، فَأَمَّا الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ فَقَدْ قَالَ اللهُ عز وجل:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَو أَخْطَانَا} [البَقَرَة: 286]

(1)

.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: (لَمَّا نَزَلَ قَولُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَو أَخْطَانَا} قَالَ اللهُ: «قَدْ فَعَلْتُ»)

(2)

.

وَأَمَّا الإِكْرَاهُ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ عز وجل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النَّحْل: 106]، فَرَفَعَ اللهُ عز وجل حُكْمَ الكُفْرِ عَنِ المُكْرَهِ -المُطْمَئِنِّ بِالإِيمَانِ-، وَمَا دُونَ الكُفْرِ مِنَ المَعَاصِي هُوَ مِنْ بَابِ أَولَى.

وَفِي مُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ: أَخَذَ المُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيرٍ! ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَا وَرَاءَكَ؟» قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيرٍ. قَالَ:«كَيفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطْمَئِنًا بِالإِيمَانِ. قَالَ: «إِنْ عَادُوا فَعُدْ»

(3)

.

(1)

وَقَالَ تَعَالَى أَيضًا: {وَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأَحْزَاب:5].

(2)

مُسْلِمٌ (126). وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ؛ فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّاي.

(3)

مُسْتَدْرَكُ الحَاكِمِ (3362)، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ رحمه الله:"عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ»، وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الدِّرَايَةِ (2/ 197): «وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ؛ إِنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ".

وَفِي الإِسْنَادِ كَلَامٌ، وَقَدْ جَزَمَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله بِثُبُوتِ نُزُولِ الآيَةِ فِي عَمَّارٍ لِمَجِيءِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ؛ إِلَّا أَنَّ سِيَاقَ الحَدِيثِ فِيهِ نَظَرٌ. يُنْظَرُ: فِقْهُ السِّيرَةِ لِلغَزَالِيِّ (ص: 111) بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.

ص: 429

- فِي الحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الوَاجِبَاتِ عُمُومًا لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِالعِلْمِ؛ لِقَولِ اللهِ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإِسْرَاء: 15]، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُقَصِّرًا فَهُوَ مُحَاسَبٌ بِهَا، كَمَنْ عِنْدَهُ مَنْ يَسْأَلُهُ مِنَ العُلَمَاءِ وَلَكِنْ لَا يَحْرِصُ عَلَى سُؤَالِهِم مَعَ عِلْمِهِ بِجَهْلِ نَفْسِهِ وَحَاجَتِهِ لِلْعِلْمِ!

عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا في سَفَرٍ؛ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ في رَاسِهِ

ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا:

مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى المَاءِ! فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «قَتَلُوهُ؛ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟! فَإِنَّمَا شِفَاءُ

العِيِّ السُّؤَالُ»

(1)

.

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: " وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ؛ وَهِيَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّ المَرْأَةَ إِذَا حَاضَتْ مُبَكِّرَةً لَزِمَهَا الصِّيَامُ! وَيَظُنُّونَ أَنَّ المَرْأَةَ لَا يَلْزَمُهَا الصِّيَامُ إِلَّا إِذَا تَمَّ لَهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً! وَهِيَ قَدْ حَاضَتْ وَلَهَا إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً مَثَلًا؛ فَلَهَا خَمْسُ سِنِينَ لَمْ تَصُمْ! فَهَلْ نُلْزِمُهَا بِالقَضَاءِ؟

الجَوَابُ: لَا نُلْزِمُهَا بِالقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جَاهِلَةٌ وَلَمْ تُقَصِّرْ، لَأَنَّهُ لَيسَ عِنْدَهاَ مَنْ تَسْأَلُهُ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَهَا يَقُولُونَ لَهَا: أَنْتِ صَغِيرَةٌ؛ لَيسَ عَلَيكِ شَيءٌ! وَكَذَلِكَ لَو

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (336) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (4362).

ص: 430

كَانَتْ لَا تُصَلِّي"

(1)

.

- فِي العُذْرَ بِالجَهْلِ ضَوَابِطُ عِدَّةٌ، مِنْهَا

(2)

:

1 -

إِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ -دُونَ تَقْصِيرٍ مِنْهُ- كَبُعْدِهِ عَنْ بِلَادِ الإِسْلَامِ، أَو لِعَدَمِ شُهْرَةِ المَسْأَلَةِ؛ فَيُعْذَرُ.

مِثَالُهُ: رَجُلٌ زَنَى يَحْسَبُ أَنَّ الزِّنَى حَلَالٌ! لِأَنَّهُ عَاشَ فِي غَيرِ بِلَادِ الإِسْلَامِ -وَهُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ-؛ فَلَا حَدَّ عَلَيهِ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ، حَيثُ أَسْلَمَ حَدِيثًا وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ، فَقَولُهُ مَقْبُولٌ، لَكِنْ لَو قَالَ رَجُلٌ عَاشَ بَينَ المُسْلِمِينَ: إِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ! فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَيُقَامُ عَلَيهِ الحَدُّ.

2 -

الجَهْلُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الفِعْلِ لَيسَ بِعُذْرٍ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ! إِنَّمَا العُذْرُ إِذَا جَهِلَ الحُكْمَ.

مِثَالُهُ: رَجُلٌ جَامَعَ زَوجَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ -وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الجِمَاعَ حَرَامٌ-؛ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ كَفَّارَةً؛ فَهَذَا تَلْزَمُهُ الكَفَّارَةُ، لِأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ غَيرُ مَعْذُورٍ حَيثُ انْتَهَكَ حُرْمَةَ رَمَضَانَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ؛ فَتَلْزَمُهُ الكَفَّارَةُ، وَلِهَذَا أَلْزَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المُجَامِعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِالكَفَّارَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الكَفَّارَةَ

(3)

.

وَأَيضًا كَرَجُلٍ زَنَى -وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ-، لَكِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ

الزَّانِي

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِين لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص: 388).

(2)

بِتَصَرُّفٍ مِنْ شَرْحِ الشَّيخِ ابْنِ عُثَيمِين رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَرْبَعِين (ص: 386).

(3)

وَالحَدِيثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1936)، وَمُسْلِمٌ (1111).

ص: 431

المُحْصَنَ عَلَيهِ الرَّجْمُ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَو عَلِمَ أَنَّ عَلَيهِ الرَّجْمَ مَا زَنَى؛

فَإِنَّهُ يُرْجَمُ.

3 -

الجَهْلُ فِي حَقَّ اللهِ تَعَالَى يَرْفَعُ الإِثْمَ، أَمَّا فِي حَقِّ المَخْلُوقِ فَلَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ -وَإِنْ أَسْقَطَ الإِثْمَ-.

مِثَالُهُ: رَجُلٌ أَخَذَ شَاةً -ظَنَّهَا شَاتَهُ- فَذَكَّاهَا وَأَكَلَهَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لِغَيرِهِ؛ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا، لِأَنَّ هَذَا حَقُّ آدَمِيٍّ، وَحُقُوقُ الآدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المُشَاحَّةِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الإِثْمُ لِأَنَّهُ غَيرُ مُتَعَمِّدٍ لِأَخْذِ مَالِ غَيرِهِ.

4 -

الحَدِيثُ عَامٌّ فِي المَحْظُورَاتِ، أَمَّا المَامُورَاتُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ أَدَاؤُهَا وَقَضَاؤُهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ تُفْعَلَ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ الإِثْمُ فِي تَاخِيرِهَا بِعُذْرٍ، وَسَيَاتِي الكَلَامُ عَلَيهَا فِي المَسَائِلِ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَفِي الحَدِيثِ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَو نَسِيَهَا؛ فَلْيُصِلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»

(1)

، فَعَذَرَهُ عَلَى التَّاخِيرِ وَلَمْ يُعْفِهِ مِنَ القَضَاءِ.

وَكَذَا لَو أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ لَحْمَ إِبِلٍ -وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ- وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الإِبِلِ نَاقِضٌ لِلوُضُوءِ، فَصَلَّى؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعِيدَ الوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الوَاجِبَ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ مَعَ الجَهْلِ، وَأَمَّا المُحَرَّمُ فَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ وَانْتَهَى مِنْهُ.

- إِنَّ العُذْرَ بِالإِكْرَاهِ يُقَيَّدُ بِمَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا لِلآدَمِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِيهِ بِالإِكْرَاهِ.

مِثَالٌ: لَو أَنَّ رَجُلًا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ إِنْسَانٍ، وَقَالَ لَهُ المُكْرِهُ: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَ فُلَانًا أَو أَقْتُلَكَ -وَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ- فَقَتَلَهُ؛ فَإِنَّ القاتِلَ المُكْرَهَ يُقْتَلُ بِهِ.

- المُكْرَهُ نَوعَانِ:

1 -

مَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ بِالكُلِّيَّةِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الامْتِنَاعِ: كَمَنْ حُمِلَ كَرْهًا

(1)

البُخَارِيُّ (597)، وَمُسْلِمٌ (684) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

ص: 432

وَأُدْخِلَ إِلَى مَكَانٍ حَلَفَ عَلَى الامْتِنَاعِ مِنْ دُخُولِهِ، أَو حُمِلَ كَرْهًا وَضُرِبَ بِهِ غَيرُهُ حَتَّى مَاتَ ذَلِكَ الغَيرُ -وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الامْتِنَاعِ-، أَوِ امْرَأَةٍ زُنِيَ بِهَا مِنْ غَيرِ قُدْرَةٍ لَهَا عَلَى الامْتِنَاعِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا إِثْمَ عَلَيهِم بِالاتِّفَاقِ.

2 -

مَنْ أُكْرِهَ بِضَرْبٍ أَو غَيرِهِ حَتَّى فَعَلَ المَحْظُورَ؛ فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ بَينَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى، وَبَينَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ العَبْدِ، وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُهُ.

- التَّجَاوُزُ عَنِ النِّسْيَانِ مُقَيَّدٌ بِمَا لَمْ يَتَعَاطَ صَاحِبُهُ أَسْبَابَهُ، كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اشْتِغَالَهُ بِأَمْرٍ مَا سَيَشْغَلُهُ عَنِ الصَّلَاةِ وَقَدْ يَنْسَاهَا لِذَلِكَ!

- يَنْبَغِي لِلنَّاصِحِ أَنْ تَكُونَ لَهُ مَعَ النَّاسِ نَظْرَتَانِ: نَظْرَةُ حَازِمٍ: بِأَنْ لَا يَتَهَاوَنَ مَعَ مَنْ عَلِمَ مِنْهُ تَقْصِيرًا، وَالأُخْرَى نَظْرَةُ رَاحِمٍ: إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ؛ لَكِنَّهُ جَاهِلٌ أَو نَاسٍ أَو تَائِبٌ.

ص: 433

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- المَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي حَدِيثِ المُسِيءِ صَلَاتَهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَامُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ إِلَّا الصَّلَاةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا دُونَ مَا سَبَقَ مِنْهَا! فَمَا الجَوَابُ؟

الجَوَابُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الوَاجِبَاتِ تَسْقُطُ بِالجَهْلِ مَا لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُهَا فِي الوَقْتِ -اسْتِدْلَالًا بِنَفْسِ الحَدِيثِ-

(1)

.

وَالحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ، وَقَالَ:«ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ!» فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ:«ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثَلَاثًا! فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيرَهُ؛ فَعَلِّمْنِي. فَقَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَا مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا»

(2)

.

(1)

شَرْحُ الأَرْبَعِين لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص: 388).

(2)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (757)، وَمُسْلِمٌ (397).

ص: 434

- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ يُبْنَى عَلَى مَا سَلَفَ؛ أَنَّ مَنْ جَهِلَ الزَّكاةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَيهِ تَكْلِيفُ مَا سَلَفَ مِنَ السَّنَوَاتِ؟

الجَوَابُ: لَا، لِأَنَّ هَذَا الوَاجِبَ الَّذِي تَرَكَهُ جَهْلًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقَّانِ: حَقُّ للهِ تَعَالَى، وَحَقٌّ لِلغَيرِ، فَلَو أَخَّرَهَا عَمْدًا إِلَى خَمْسِ سَنَوَاتٍ لَزِمَهُ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْهَا، وَلَكِنْ لَا نُؤَثِّمُهُ بِتَرْكِهَا جَهْلًا.

ص: 435

‌الحَدِيثُ الأَرْبَعُونَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَو عَابِرُ سَبِيلٍ)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمنْكِبَيَّ فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَو عَابِرُ سَبِيلٍ» ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ:(إِذَا أَمْسَيتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ؛ وَمِنْ حَيَاتِكَ لمَوتِكَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

- الحَدِيثُ رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ مِنْ صَحِيحِهِ، وَمَفَادُ الحَدِيثِ هُوَ تَرْكُ التَّعَلُّقِ بِالدُّنْيَا، وَالاقْتِصَارُ مِنْهَا عَلَى مَا يَنْفَعُ فِي الآخِرَةِ، وَالسَّعْيُ لِاغْتِنَامِ الوَقْتِ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " هَذَا الحَدِيثُ أَصْلٌ فِي قِصَرِ الأَمَلِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ المُؤْمِنَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ الدُّنْيَا وَطَنًا وَمَسْكَنًا فَيَطْمَئِنَّ فِيهَا! وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا كَأَنَّهُ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ يُهَيِّئُ جِهَازَهُ لِلرَّحِيلِ. وَقَدِ

(1)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6416).

وَقَالَ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله: "قُلْتُ: وَقَدْ أَعَلَّ بَعْضُ الأَئِمَّةِ إِسْنَادَ هَذَا الحَدِيثَ بِالعَنْعَنَةِ، وَلَمْ يَسْتَطِعِ الحَافِظُ دَفْعَهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: «وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى عِنْدَ النَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَهَذَا مِمَّا يُقَوِي الحَدِيثَ المَذْكُورَ، لِأَنَّ رُوَاتَهُ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ -وَإِنْ كَانَ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ عَبْدَةَ مِنِ ابْنِ عُمَرَ".

قُلْتُ: وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (2/ 132) وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ: «اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَكُنْ

»، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَالاخْتِلَافُ المَذْكُورُ لَمْ يَتَعَرَّضِ الحَافِظُ لِذِكْرِهِ فِي التَّهْذِيبِ، بَلْ ذَكَرَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَبْدَةَ لَقِيَ ابْنَ عُمَرَ فِي الشَّامِ. وَاللهُ أَعْلَمُ". مُخْتَصَرُ صَحِيحِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ (4/ 137).

ص: 436

اتَّفَقَتْ عَلَى ذَلِكَ وَصَايَا الأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ، قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَونَ أَنَّهُ قَالَ:{يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ} [غَافِر: 39]. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا! إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» . وَمِنْ وَصَايَا المَسِيحِ عليه السلام لِأَصْحَابِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: " اُعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا"، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:" مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى مَوجِ البَحْرِ دَارًا؟! تِلْكُمُ الدُّنْيَا، فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا". وَ " دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَبِي ذَرٍّ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي بَيتِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَينَ مَتَاعُكُمْ؟ قَالَ: إِنَّ لَنَا بَيتًا

نُوَجِّهُ إِلَيهِ، قَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مَتَاعٍ مَا دُمْتَ هَاهُنَا، قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ المَنْزِلِ

لَا يَدَعُنَا فِيهِ"

(1)

"

(2)

.

- قَولُهُ: (بِمَنْكِبَيَّ): بِفَتْحِ المِيمِ وَكَسْرِ الكَافِ، وَهُوَ مَجْمَعُ العَضُدِ وَالكَتِفِ، وَيُرْوَى بِالإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ.

- التَّوجِيهُ النَّبَوِيُّ فِي الحَدِيثِ بِأَنْ يَكُونَ العَبْدُ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُ غَرِيبٌ هُوَ مِنْ أَوجُهٍ:

1 -

أَنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَ آدَمُ عليه الصلاة والسلام مِنَ الجَنَّةِ إِلَى الأَرْضِ صَارَ هُوَ وَذُرِّيَتُهُ غُرَبَاءَ عَنْ وَطَنِهِم، وَلَكِنَّهُم عَائِدُونَ إِلَيهِ إنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، فَالشَّاهِدُ مِنَ الحَدِيثِ إِذًا أَنْ يُهَيِّأَ المَرْءُ نَفْسَهُ لِلعَودَةِ إِلَى دَارِ خُلُودِهِ، وَيَاخُذَ بِأَسْبَابِهَا؛ لِذَلِكَ فَهُوَ غَرِيبٌ، وَلَا يَانَسُ الغَرِيبُ إِلَّا إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ.

2 -

أَنَّ الغَرِيبَ فِي غَيرِ بَلَدِهِ لَيسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي مُنَافَسَةِ أَهْلِ البَلَدِ فِي دَارِهِم

(1)

أَخْرَجَهُ البَيهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ (10168).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 377).

ص: 437

وَعِزِّهِم، فَالدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ ولَيسَتْ دَارَ مَقَرٍّ، وَفِي الحَدِيثِ «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا! مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»

(1)

(2)

.

3 -

أَنَّ الغَرِيبَ المُقِيمَ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ؛ هَمُّهُ التَّزَوُّدُ لِلرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ، وَلَا يَهْتَمُّ بِإِعْمَارِ دَارِ غُرْبَتِهِ وَتَحْسِينِ مَسْكَنِهِ وَالاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ تَارِكُهُ، وَفِي الحَدِيثِ «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيهِ مِنْ مَالِهِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيهِ. قَالَ:«فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ»

(3)

.

- التَّوجِيهُ النَّبَوِيُّ بِأَنْ يَكُونَ العَبْدُ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُ عَابِرُ سَبِيلٍ هُوَ مِنْ وَجْهَينِ:

1 -

أَنَّ عَابِرَ السَّبِيلِ أَقَلُّ تَعَلُّقًا بِمَسْكَنِهِ وَمَتَاعِهِ مِنَ الغَرِيبِ؛ لِأَنَّ الغَرِيبَ قَدْ يَجْلِسُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ ثُمَّ يَرْحَلُ، أَمَّا عَابِرُ السَّبِيلِ فَهُوَ غَيرُ جَالِسٍ أَبَدًا، بَلْ هُوَ مَارٌّ مِنْ غَيرِ مُكْثٍ فِي مَكَانِهِ أَصْلًا.

2 -

أَنَّ عَابِرَ السَّبِيلِ أَسْرَعُ وَأَخَفُّ حَرَكَةً مِنَ الغَرِيبِ لِأَنَّهُ قَلِيلُ المَتَاعِ، وَهَذِهِ القِلَّةُ مِنَ المَتَاعِ فِي الدُّنْيَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّعَلُّقِ بِهَا.

- إنَّ عَطْفَ عَابِرِ السَّبِيلِ عَلَى الغَرِيبِ لَيسَ مِنْ بَابِ الشَّكِّ، وَلَا مِنْ بَابِ

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (2377) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (5668).

(2)

قَالَ ابْنُ دَقِيق العِيد رحمه الله فِي شَرْحِهِ عَلَى الأَرْبَعِينَ (ص: 133): "قَالَ ابْنُ هُبَيرَةَ رحمه الله: حَضَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّشَبُّهِ بِالغَرِيبِ، لِأَنَّ الغَرِيبَ إِذَا دَخَلَ بَلْدَةً لَمْ يُنَافِسْ أَهْلَهَا فِي مَجَالِسِهِم، وَلَا يَجْزَعُ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ فِي المَلْبُوسِ".

وَابْنُ هُبَيرَةَ: هُوَ يَحْيَى بنُ مُحَمَّدٍ الشَّيبَانِيُّ؛ أَبُو المُظَفَّرِ، مِنْ عُلَمَاءِ الحَنَابِلَةِ الفُحُولِ، لَهُ كِتَابُ (الإِفْصَاحُ) شَرْحُ صَحِيحَي البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَكَانَ وَزِيرًا لِلدَّولَةِ؛ سَلَفِيًّا أَثرِيًّا، (ت 560 هـ). اُنْظُرِ السِّيَرَ لِلذَّهَبِيِّ (39/ 443).

(3)

رَوَاهُ البُخَارِيُّ (6442) فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.

ص: 438

التَّخْيِيرِ؛ وَإِنَّمَا مِنْ بَابِ التَّرَقِّي فِي التَّمْثِيلِ، لِأَنَّ عَابِرَ السَّبِيلِ أَقَلُّ تَعَلُّقًا بِالدُّنْيَا مِنَ الغَرِيبِ.

- فِي الحَدِيثِ التَّشْبِيهُ بِالمَحْسُوسِ لِيَكُونَ أَحْفَظَ فِي الذِّهْنِ، وَفِي قَولِهِ:(أَخَذَ بِمنْكَبَيَّ) فِعْلُ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِانْتِبَاهِ المُخَاطَبِ وَحُضُورِ قَلْبِهِ.

- فِي الحَدِيثِ فَضِيلَةُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما لِكَونِهِ عَمِلَ بِمُقْتَضَى الوَصِيَّةِ.

- فِي الحَدِيثِ إِرْشَادٌ لِعَدَمِ التَّعَلُّقِ بِطُولِ الأَمَلِ، فَالإِنْسَانُ لَا يَدْرِي مَتَى يَنْقَطِعُ أَجَلُهُ، وَفِي البُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ:«هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ -أَو قَدْ أَحَاطَ بِهِ-، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ؛ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا»

(1)

.

وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيضًا الَّذِي فِي البُخَارِيِّ «هَذَا الأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَينَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الخَطُّ الأَقْرَبُ»

(2)

.

- قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رحمه الله: " اجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ، فَقَالُوا لِأَحَدِهِم: مَا أَمَلُكَ؟ قَالَ: مَا أَتَى عَلَيَّ شَهْرٌ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنِّي سَأَمُوتُ فِيهِ، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبَاهُ: إنَّ هَذَا لَأَمَلٌ، فَقَالَا لِأَحَدِهِم: فَمَا أَمَلُكَ؟ قَالَ: مَا أَتَتْ عَلَيَّ جُمُعَةٌ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنِّي سَأَمُوتُ فِيهَا، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبَاهُ: إنَّ هَذَا لَأَمَلٌ، فَقَالَا لِلآخَرِ: فَمَا أَمَلُكَ؟ قَالَ:

(1)

البُخَارِيُّ (6417).

(2)

البُخَارِيُّ (6418).

ص: 439

مَا أَمَلُ مَنْ نَفْسُهُ فِي يَدِ غَيرِهِ؟ "

(1)

.

- قَولُ ابْنِ عُمَرَ " إِذَا أَمْسَيتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ"؛ فِيهِ إِرْشَادَانِ:

1 -

كُنْ دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ مِنَ المَوتِ أَنْ يُفَاجِئَكَ وَأَنْتَ غَيرُ مُسْتَعِدٍّ لَهُ.

2 -

بَاشِرْ فِي العَمَلِ وَلَا تُؤَخِّرْهُ.

- قَولُ ابْنِ عُمَرَ " وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ؛ وَمِنْ حَيَاتِكَ لمَوتِكَ": مَعْنَاهُ: المُبَادَرَةُ فِي العَمَلِ عِنْدَ صِحَّتِهِ وَعَافِيَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَاتِيَ عَلَيهِ زَمَنٌ يَعْجَزُ فِيهِ عَنِ العَمَلِ -لِمَرَضٍ أَو مَوتٍ- فَيَنْدَمَ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِي وَقْتِ صِحَّتِهِ، كَمَا في البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ»

(2)

(3)

.

- في صَحِيحِ مُسْلِمٍ

(4)

عَنْ أَبِي هُريرة مَرْفُوعًا «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَو خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَو أَمْرَ العَامَّةِ»

(5)

. فَالوَاجِبُ عَلَى المُؤْمِنِ المُبَادَرَةُ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ لَا يَقْدِرَ

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 384).

(2)

البُخَارِيُّ (6412).

(3)

وَفِي الحَدِيثِ «اغْتَنِمْ خَمْسًا قبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وفَراغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وشَبابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وغِناكَ قَبْلَ فَقْرِكَ» . صَحِيحٌ. الحَاكِمُ (7846) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (1077).

(4)

مُسْلِمٌ (2947).

(5)

وَشَرْحُ الغَرِيبِ بِاخْتِصَارٍ مِنْ كِتَابِ (فَيضِ القَدِيرِ)(3/ 194) لِلمَنَاوِيِّ رحمه الله:

" (الدُّخَانَ): أَي: ظُهُورُهُ، (وَدَابَّةَ الأَرْضِ وَالدَّجَّالَ): أَي: خُرُوجُهُمَا، وَسُمِّيَ الدَّجَّالُ بِهَذَا الاسْمِ لِأَنَّهُ خَدَّاعٌ مُلَبِّسٌ وَيُغَطِّي الأَرْضَ بِأَتْبَاعِهِ، (خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ): المُرَادُ حَادِثَةُ المَوتِ الَّتِي تَخُصُّ الإِنْسَانَ، وَقِيلَ هِيَ مَا يَخُصُّ الإِنْسَانَ مِنَ الشَّوَاغِلِ المُقْلِقَةِ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَمَا يَهْتَمُ بِهِ، وَ (أَمْرَ العَامَّةِ): القِيَامَةُ.

قُلْتُ: وَأَمَّا الدَّابَّةُ فَفِي تَفْسِيرِ الشَّيخِ السَّعْدِيِّ (ص: 610): «قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا وَقَعَ القَولُ عَلَيهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النَّمْل: 82]: أَي: إِذَا وقعَ عَلَى النَّاسِ القَولُ الَّذِي حَتَمَهُ اللهُ وَفَرَضَ وَقْتَهُ {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً} خَارِجَةً {مِنَ الأَرْضِ} أَو دَابَّةً مِنْ دَوَابِّ الأَرْضِ لَيسَتْ مِنَ السَّمَاءِ، وَهَذِهِ الدَّابَّةُ {تُكَلِّمُهُمْ} أَي: تُكَلِّمُ العِبَادَ {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} أَي: لِأَجْلِ أَنَّ النَّاسَ ضَعُفَ عِلْمُهُم وَيَقِينُهُم بِآيَاتِ اللهِ، فَإِظْهَارُ اللهِ هَذِهِ الدَّابَّةَ مِنْ آيَاتِ اللهِ العَجِيبَةِ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ".

ص: 440

عَلَيهَا وَيُحَالَ بَينَهُ وَبَينَهَا إِمَّا بِمَرَضٍ أَو مَوتٍ أَو بِأَنْ يُدْرِكَهُ بَعْضُ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عَمَلٌ.

- فَائِدَةٌ: تَتِمَّةُ الحَدِيثِ المَرْفُوعِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ «وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ القُبُورِ» ، وَتَتِمَّةُ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ " فَإِنَّكَ يَا عَبْدَ اللهِ لَا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَدًا"

(1)

يَعْنِي:

1 -

لَعَلَّكَ غَدًا مَعْدُودٌ مِنَ الأَمْوَاتِ

(2)

.

2 -

أَو لَعَلَّكَ بَعْدَ مَوتِكَ تَكُونُ شَقِيًّا أَو سَعِيدًا

(3)

.

ص: 441

مَسَائِلُ عَلَى الحَدِيثِ:

- مَسْأَلَةٌ: فِي البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَو سَافَرَ كَتَبَ اللهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا»

(1)

فَفِيهِ أَنَّ العَبْدَ يُكْتَبُ لَهُ الأَجْرُ فِي المَرَضِ، فَمَا هُوَ تَوجِيهُ الحَدِيثِ مَعَ حَدِيثِ البَابِ «خُذْ

مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ» وَالَّذِي مَفَادُهُ أَنَّهُ سَيَاتِي عَلَيكَ وَقْتٌ لَا تَسْتَطِيعُ فِيهِ العَمَلَ لِتَنَالَ الأَجْرَ؟

الجَوَابُ: لَا تَعَارُضَ أَبَدًا، لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى هَذَا وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ يَعْمَلُ، أَمَّا التَّحْذِيرُ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ شَيئًا؛ فَإِنَّهُ إِذَا مَرِضَ نَدِمَ عَلَى تَرْكِهِ العَمَلَ، وَعَجَزَ لِمَرَضِهِ عَنِ العَمَلِ فَلَا يُفِيدُهُ النَّدَمُ

(2)

.

(1)

البُخَارِيُّ (2996).

(2)

قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي)(11/ 235).

ص: 442

‌الحَدِيثُ الحَادِي وَالأَرْبَعُونَ: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)

عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ؛ عَبْدِ اللهِ بِنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ رَوَينَاهُ فِي كِتَابِ الحُجَّةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ

(1)

.

- الحَدِيثُ ضَعِيفٌ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " تَصْحِيحُ هَذَا الحَدِيثِ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ وُجُوهٍ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ حَدِيثٌ يَتَفَرَّدُ بِهِ نُعَيمُ بْنُ حَمَّادٍ المَرْوَزِيُّ"

(2)

، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الشَّيخُ الأَلْبَانِيُّ رحمه الله

(3)

.

وَلَكِنْ قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رحمه الله: " مَعْنَى الحَدِيثِ -بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِسْنَادِهِ- صَحِيحٌ"

(4)

.

- عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما مِنَ المُكْثِرِينَ رِوَايَةً لِلحَدِيثِ، وَكَانَ أَبُو هُرَيرَةَ رضي الله عنه يَغْبِطُهُ عَلَى هَذَا وَيَقُولُ: " مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا

(1)

ضَعِيفٌ. السُّنَّةُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (15). ظِلَالُ الجَنَّةِ (15).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 294).

(3)

ظِلَالُ الجَنَّةِ (15).

(4)

شَرْحُ الأَرْبَعِينَ لِابْنِ عُثَيمِين (ص: 395).

ص: 443

مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ". البُخَارِيُّ

(1)

.

- قَولُهُ: «لا َيُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ» : هَذَا فِيهِ نَفْيٌ لِكَمَالِ الإِيمَانِ الوَاجِبِ.

- مَعْنَى الحَدِيثِ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الإِيمَانِ الوَاجِبِ حَتَّى تَكُونَ مَحبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَغَيرِهَا؛ فَيُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأَحْزَاب: 36].

وَفِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، فَلَا يَكُونُ المُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَقًّا حَتَّى يُقَدِّمَ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَحَبَّةِ جَمِيعِ الخَلْقِ، وَمَحَبَّةُ الرَّسُولِ تَابِعَةٌ لِمَحَبَّةِ مُرْسِلِهِ

(2)

.

- قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: " قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرُجُورِيُّ

(3)

: كُلُّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ عز وجل وَلَمْ يُوَافِقِ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ؛ فَدَعَوَاهُ بَاطِلَةٌ، وَكُلُّ مُحِبٍّ لَيْسَ يَخَافُ اللَّهَ؛ فَهُوَ مَغْرُورٌ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ

(4)

: لَيْسَ بِصَادِقٍ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ عز وجل وَلَمْ يَحْفَظْ

(1)

البُخَارِيُّ (113).

(2)

البُخَارِيُّ (15)، وَمُسْلِمٌ (44).

(3)

"إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ؛ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُوريُّ الصُّوفِيُّ، "المُتَوَفَّى: 330 هـ"، أَحَدُ المَشَايخِ، صَحِبَ الجُنَيدَ، وَعَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ المَكِّيَّ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ مُدَّةً، وَبِهَا مَاتَ". تَارِيخُ الإِسْلَامِ لِلْذَهَبِيِّ (7/ 587).

(4)

"يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرّازيُّ؛ أَبُو زَكَرِيَّا الصُّوفِيُّ، "الوَفَاةُ: 251 - 260 هـ"، العَارِفُ المَشْهُورُ، صَاحِبُ المَوَاعِظِ، كَانَ حَكِيمَ أَهْلِ زَمَانِهِ، سَمِعَ إِسْحَاقَ بْنَ سُلَيْمَانَ الرَّازِيَّ، وَمَكِّيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَغَيرَهُمَا". تَارِيخُ الإِسْلَامِ لِلْذَهَبِيِّ (6/ 231).

ص: 444

حُدُودَهُ!.

وَسُئِلَ رُوَيْمٌ

(1)

عَنِ الْمَحَبَّةِ؛ فَقَالَ: الْمُوَافَقَةُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَأَنْشَدَ:

وَلَوْ قُلْتَ لِي مُتْ مُتُّ سَمْعًا وَطَاعَةً

وَقُلْتُ لِدَاعِي الْمَوْتِ أَهْلًا وَمَرْحَبًا

وَلِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ:

تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تَزْعُمُ حُبَّهُ

هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ شَنِيعُ

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ

إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

فَجَمِيعُ المَعَاصِي تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ هَوَى النُّفُوسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ المُشْرِكِينَ بِاتِّبَاعِ الهَوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدىً مِنَ اللهِ} [القَصَص: 64]، وَكَذَلِكَ البِدَعُ؛ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ الهَوَى عَلَى الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى أَهْلُهَا أَهْلَ الأَهْوَاءِ، وَكَذَلِكَ المَعَاصِي؛ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ تَقْدِيمِ الهَوَى عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ"

(2)

.

- قَولُهُ: «حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» : الهَوَى بِالقَصْرِ هُوَ: المَيلُ، وَبِالمَدِّ هُوَ: الرِّيحُ، وَالمُرَادُ الأَوَّلُ.

(1)

"رُوَيْمُ بْنُ أَحْمَدَ، وَقِيلَ: ابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُوَيْمَ بْنَ يَزِيدَ، أَبُو الحَسَنِ الصُّوفِيُّ البَغْدَادِيُّ، "المُتَوَفَّى: 303 هـ"، كَانَ عَالِمًا بِالقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ، وَكَانَ ظَاهِرِيَّ المَذْهَبِ". تَارِيخُ الإِسْلَامِ لِلْذَهَبِيِّ (7/ 67).

(2)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 397).

ص: 445

- كِتَابُ (الحُجَّةُ عَلَى تَارِكِ المَحَجَّةِ) لِلشَّيخِ أَبِي الفَتْحِ؛ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ المَقْدِسِيِّ الشَّافِعِيِّ؛ الفَقِيهِ الزَّاهِدِ نَزيلِ دِمَشْقَ، تَضَمَّنَ كِتَابُهُ ذِكْرَ أُصُولِ الدِّينِ عَلَى قَوَاعِدِ أَهْلِ الحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ، (ت 490 هـ)

(1)

.

- قَولُهُ: (هَوَاهُ): الهَوَى لَهُ مَعْنَيَانِ:

1 -

المَيلُ إِلَى خِلَافِ الحَقِّ -وَهُوَ المَعْنَى إِذَا أُطْلِقَ اللَّفْظُ-، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص: 26].

وَكَقَولِهِ تَعَالَى أَيضًا: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى} [النَّازِعَات: 40، 41].

2 -

المَحَبَّةُ وَالمَيلُ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ فِيهِ المَيلُ إِلَى الحَقِّ وَغَيرِهِ، فيُذَمُّ وَيُمْدَحُ بِحَسْبِ المَحْبُوبِ.

وَفِي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: " أَمَا تَسْتَحِي المَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ؟! فَلَمَّا نَزَلَتْ {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأَحْزَاب: 51]

(2)

، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ"

(3)

.

وَعَلَى هَذَا النَّوعِ يُحْمَلُ الحَدِيثُ، أَي: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم الإِيمَانَ الوَاجِبَ

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 393)، وَاُنْظُرِ السِّيَرَ لِلذَّهَبِيِّ (19/ 136).

(2)

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّفْسِيرِ (6/ 445): " {تُرْجِي} أَي: تُؤَخِّرُ {مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أَي: مِنَ الوَاهِبَاتِ أَنْفُسَهُنَّ، {وَتُؤْوِي إِلَيكَ مَنْ تَشَاءُ} أَي: مَنْ شِئْتَ قَبِلْتَهَا، ومَنْ شِئْتَ رَدَدْتَهَا، وَمَنْ رَدَدْتَهَا؛ فَأَنْتَ فِيهَا أَيضًا بِالخَيَارَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ إنْ شِئْتَ عُدْتَ فِيهَا فَآوَيتَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنِ ابْتَغَيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيكَ} ".

(3)

البُخَارِيُّ (5113)، وَمُسْلِمٌ (1464).

ص: 446

حَتَّى تَكُونَ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَحَبَّةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا الوجْهِ -أَنَّ الهَوَى هُنَا بِمَعْنَى المَحَبَّةِ- لَا يَبْقَى وَجْهٌ

لِإِنْكَارِ مَتْنِ الحَدِيثِ -مِمَّنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالفَضْلِ- بِحُجَّةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلهَوَى أَنْ يُوَافِقَ الشَّرْعَ؛ وَأَنَّ الهَوَى مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ دَومًا؛ وَأَنَّ الإِيمَانَ يَكُونُ بِمُخَالَفَةِ الهَوَى بِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ! وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ الإِنْكَارِ بِالحَدِيثِ «حُفَّتِ الجَنَّةَ بِالمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»

(1)

، وَأَيضًا بِحَدِيثِ «وَالمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ»

(2)

.

قُلْتُ: بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي مَا يَهْوَاهُ وَيُحِبُّهُ المَرْءُ بِطَبْعِهِ مَا يُؤْجَرُ عَلَيهِ -مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ- كَمَا فِي حَدِيثِ «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»

(3)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَمَتَى نَوَى الْمُؤْمِنُ بِتَنَاوُلِ

شَهَوَاتِهِ الْمُبَاحَةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ؛ كَانَتْ شَهَوَاتُهُ لَهُ طَاعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا،

كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: " إِنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي"

(4)

، يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْوِي بِنَوْمِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْقِيَامِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ؛ فَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ نَوْمِهِ كَمَا يَحْتَسِبُ ثَوَابَ قِيَامِهِ.

وَكَانَ بَعْضُهُمْ إِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ شَهَوَاتِهِ الْمُبَاحَةِ وَاسَى مِنْهَا إِخْوَانَهُ، كَمَا

(1)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2822) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

(2)

صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (23967) عَنْ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيدٍ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (549).

(3)

رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1006) عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا.

(4)

وَهُوَ بِتَمَامِهِ «أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيتُ جُزْئِي مِنَ النَّومِ؛ فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللهُ لِي؛ فَأَحْتَسِبُ نَومَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَومَتِي» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ (4341) عَنْ أَبِي بُرْدَةَ.

ص: 447

رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا لَمْ يَاكُلْهُ حَتَّى يَشْتَهِيَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ؛ فَيَاكُلُهُ مَعَهُمْ، وَكَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا؛ دَعَا ضَيْفًا لَهُ لِيَاكُلَ مَعَهُ"

(1)

.

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 192).

ص: 448

‌الحَدِيثُ الثَّانِي وَالأَرْبَعُونَ: (إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِي وَرَجَوتَنِي)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: «يَا ابْنَ آَدَمَ؛ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِي وَرَجَوتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيتَنِي لَا تُشْرِك بِي شَيئًا لأَتَيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحَيحٌ

(1)

.

- قَولُهُ: «يَا ابْنَ آَدَمَ» : المَقْصُودُ بِابْنِ آدَمَ هُنَا المُسْلِمُ الَّذِي اتَّبعَ رِسَالَةَ الرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيهِ، وَذَلِكَ لِكَونِهِ عَلَّقَ المَغْفِرَةَ بِالدُّعَاءِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا فَإِنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ أَصْلًا؛ فَدَلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالمُسْلِمِ.

- قَولُهُ: «غَفَرْتُ لَكَ» ، الغَفْرُ: السَّتْرُ، وَفِي الحَدِيثِ هُنَا: أَنْ يَسْتُرَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا أَثَرَ الذَّنْبِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهُوَ العُقُوبَةَ عَلَيهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

- قَولُهُ: «عَنَانَ السَّمَاءِ» : أَي السَّحَابَ العَالِي.

- قَولُهُ: «مَا دَعَوتَنِي» : (مَا) هُنَا شَرْطِيَّةٌ، وَفِعْلُ الشَّرْطِ:(دَعَوتَنِي)، وَجَوَابُ الشَّرْطِ:(غَفَرْتُ)، وَالدُّعَاءُ هُنَا يَشْمَلُ دُعَاءَ العِبَادَةِ وَدُعَاءَ المَسْأَلَةِ.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3540). الصَّحِيحَةُ (127).

ص: 449

وَمَعْنَاهُمَا:

1 -

دُعَاءُ العِبَادَةِ: وَهُوَ الدُّعَاءُ بِلِسَانِ الحَالِ، كَالصَّومِ وَالصَّلَاةِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ العِبَادَاتِ، وَسُمِّيَ دُعَاءً لِأَنَّهُ دَاعٍ بِلِسَانِ حَالِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ الجَنَّةَ وَالبُعْدَ عَنِ النَّارِ فَإِنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى أَعْمَالِ الطَّاعَةِ للهِ؛ فَهُوَ دَاعٍ فِي الجُمْلَةِ.

وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجِنّ: 18]، وَهَذَا النَّوعُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ لِغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ المَقْصُودُ بِالحَدِيثِ هُنَا.

2 -

دُعَاءُ المَسْأَلَةِ: وَهُوَ الدُّعَاءُ بِلِسَانِ المَقَالِ، أَي: يَدْعُو سَائِلًا بِلِسَانِهِ، كَقَولِكَ: يَا غَفُورُ اغْفِرْ لِي.

وَالنَّوعَانِ مَجْمُوعَانِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 55 - 56].

- قَولُهُ: «مَا دَعَوتَنِي وَرَجَوتَنِي» : الدُّعَاءُ هُنَا فِيهِ قَيدٌ هَامٌّ وَهُوَ قَولُهُ: (وَرَجَوتَنِي) فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا القَيدِ، أَي: أَنْ تَكُونَ دَاعِيًا للهِ رَاجِيًا إِجَابتَهُ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِقَلْبٍ غَافِلٍ فَيَبْعُدُ جَوَابُهُ، كَمَا فِي الحَدِيثِ «اُدْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»

(1)

.

فَإِنَّهُ " لَا بُدَّ مَعَ الدُّعَاءِ مِنْ رَجَاءٍ، وَأَمَّا القَلْبُ الغَافِلُ اللَّاهِيُ الَّذِي يَذْكُرُ الدُّعَاءَ عَلَى وَجْهِ العَادَةِ! فَلَيسَ حَرِيًّا بِالإِجَابَةِ، بِخِلَافِ الذِّكْرِ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا يُعْطَى أَجْرًا بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَلُّ مِمَّا لَوِ اسْتَحْضَرَ وَذَكَرَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ"

(2)

.

(1)

صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (3479) عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (594).

(2)

شَرْحُ الأَرْبَعِين لِابْنِ عُثَيمِين (ص: 400).

ص: 450

قَالَ الإِمَامُ الصَّنْعَانِيُّ رحمه الله: " غَافِلٍ لَاهٍ عَنْ مَعْنَى مَا قَالَهُ، أَو غَافِلٍ لَاهٍ عَنِ الطَّاعَاتِ، أَو عَنِ اللهِ، أَو عَنْ رَجَائِهِ الإِجَابَةَ، وَالمُرَادُ: الحَثُّ عَلَى حُضُورِ القَلْبِ، وَالإِقْبَالُ عَلَيهِ تَعَالَى بِالكُلِّيَّةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ"

(1)

.

- قَولُهُ: «وَلا أُبَالِي» : أَي: لَا أَكْتَرِثُ بِذُنُوبِكَ وَلَا أَسْتَكْثِرُهَا -وَإِنْ كَثُرَتْ- إِذْ لَا يَتَعَاظَمُنِي شَيءٌ أَعْطَيتُهُ، وَهَذَا يُفِيدُ كَمَالَ السُّلْطَانِ، وَكَمَالَ الإِحْسَانِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ.

وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ. لِيَعْزِم المَسْأَلَةَ؛ فَإنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «وَلكِنْ لِيَعْزِمْ وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيءٌ أَعْطَاهُ»

(2)

.

- قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " وَأَمَّا قُرَابُ الأَرْضِ: فَرُوِيَ بِضَمِّ القَافِ وَكَسْرِهَا، وَالضَّمُّ هُوَ المَشْهُورُ، وَمَعْنَاهُ: مَا يُقَارِبُ مِلْئَهَا"

(3)

.

- شُرُوطُ التَّوبَةِ

(4)

:

1 -

الإِخْلَاصُ فِيهَا: فَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى التَّوبَةِ خَوفُهُ مِنْ أَحَدٍ! أَو تَابَ لِأَجْلِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ مُسْتَقِيمٌ! فَـ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(5)

.

2 -

النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَفِي الحَدِيثِ «النَّدَمُ تَوبَةٌ»

(6)

.

(1)

التَّنْوِير شَرْحُ الجَامِعِ الصَّغِيرِ (1/ 472).

(2)

البُخَارِيُّ (6339)، وَمُسْلِمٌ (2679).

(3)

الأَذْكَارُ (ص: 404).

(4)

يُنْظُرْ شَرْحُ الأَرْبَعِين لِابْنِ عُثَيمِين (ص: 401).

(5)

البُخَارِيُّ (1)، وَمُسْلِمٌ (1907).

(6)

صَحِيحٌ. ابْنُ مَاجَه (4252) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (6802).

ص: 451

3 -

الإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ.

لَكِنْ إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ؛ وَجَبَ أَدَاؤُهُ:

أ- فَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الأَوَامِرِ وَيُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُهُ؛ فَلَا بُدَّ

مِنْ فِعْلِهِ.

ب- وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ الكَفَّارَاتِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهَا.

ج- وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ العِبَادِ؛ فَيَجِبُ رَدُّهُ.

4 -

العَزْمُ عَلَى عَدَمِ العَودَةِ فِي المُسْتَقْبَلِ.

5 -

أَنْ تَكُونَ التَّوبَةُ فِي وَقْتِ القَبُولِ.

وَهِيَ عَلَى حَالَتَينِ:

أ- عَامَّةٍ: وَهِيَ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ.

كَمَا فِي الحَدِيثِ «لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»

(1)

.

وَكَقَولِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَومَ الفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السَّجْدَة: 28، 29].

ب- خَاصَّةٍ لِكُلِّ فَرْدٍ: وَهِيَ قَبْلَ نَزْعِ الرُّوحِ، لِقَولِهِ تَعَالَى:{وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النِّسَاء: 18].

قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رحمه الله: "وَذَلِكَ أَنَّ التَّوبَةَ فِي هَذِهِ الحَالِ تَوبَةُ اِضْطِرَارٍ لَا

(1)

صَحِيحٌ. أَبُو دَاوُدَ (2479) عَنْ مُعَاوِيَة مَرْفُوعًا. صَحِيحُ الجَامِعِ (7469).

ص: 452

تَنْفَعُ صَاحِبَهَا! إِنَّمَا تَنْفَعُ تَوبَةُ الاخْتِيَارِ"

(1)

.

- الفَائِدَة الأُولَى: إنَّ الحَدِيثَ فِيهِ بَيَانُ مَغْفِرَةِ اللهِ تَعَالَى لِلذُّنُوبِ وَلَو كَانَتْ بِمِقْدَارِ الأَرْضِ، ولَكِنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِأُمُورٍ:

1 -

أَنْ لَا يُشْرِكَ بِاللهِ تَعَالَى شَيئًا.

وَلَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ التَّوحِيدَ هُوَ سَبَبُ الشَّفَاعَاتِ؛ فَكُلَّمَا قَوِيَ التَّوحِيدُ كُلَّمَا زَادَتِ الشَّفَاعَةُ فِي حَقَّهِ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي الحَدِيثِ «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَومَ القِيَامَةِ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَو نَفْسِهِ»

(2)

.

2 -

أَنْ يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ لِقَولِهِ: «لَقِيتَنِي» .

3 -

أَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالمَشِيئَةِ لِقَولِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاء: 48].

- الفَائِدَة الثَّانِيَة: قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَأَفْضَلُ أَنْوَاعِ الاسْتِغْفَارِ: أَنْ يَبْدَأَ العَبْدُ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ، ثُمَّ يُثَنِّيَ بِالاعْتِرَافِ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ يَسْأَلَ اللهَ المَغْفِرَةَ، كَمَا فِي البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوسٍ مَرْفُوعًا «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي؛ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي؛ فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»

(3)

"

(4)

.

(1)

تَفْسِيرُ السَّعْدِيِّ (ص: 171).

(2)

البُخَارِيِّ (99) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا.

(3)

البُخَارِيّ (6306).

وَمَعْنَى (أَبُوءُ): أَعْتَرِفُ.

(4)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 412).

ص: 453

- الفَائِدَة الثَّالثَة: قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " مَنْ جَاءَ مَعَ التَّوحِيدِ بِقُرَابِ الأَرْضِ -وَهُوَ مِلْؤُهَا أَو مَا يُقَارِبُ مِلْأَهَا- خَطَايَا؛ لَقِيَهُ اللهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، لَكِنْ هَذَا مَعَ مَشِيئَةِ اللهِ عز وجل؛ فَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِذُنُوبِهِ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَتُهُ أَنْ لَا يَخَلُدَ فِي النَّارِ؛ بَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: المُوَحِّدُ لَا يُلْقَى فِي النَّارِ كَمَا يُلْقَى الكُفَّارُ، وَلَا يَلْقَى فِيهَا مَا يَلْقَى الكُفَّارُ، وَلَا يَبْقَى فِيهَا كَمَا يَبْقَى الكُفَّارُ.

فَإِنْ كَمُلَ تَوحِيدُ العَبْدِ وَإِخْلَاصُهُ لِلَّهِ فِيهِ، وَقَامَ بِشُرُوطِهِ كُلِّهَا -بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، أَو بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ عِنْدَ المَوتِ-؛ أَوجَبَ ذَلِكَ مَغْفِرَةَ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، وَمَنَعَهُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ بِالكُلِّيَّةِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِكَلِمَةِ التَّوحِيدِ قَلْبُهُ؛ أَخْرَجَتْ مِنْهُ كُلَّ مَا سِوَى اللهِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا وَمَهَابَةً وَخَشْيَةً وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا، وَحِينَئِذٍ تُحْرَقُ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ كُلُّهَا وَلَو كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ، وَرُبَّمَا قَلَبَتْهَا حَسَنَاتٍ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي تَبْدِيلِ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ؛ فَإِنَّ هَذَا التَّوحِيدَ هُوَ الإِكْسِيرُ الأَعْظَمُ، فَلَو وُضِعَتْ مِنْهُ ذَرَّةٌ عَلَى جِبَالِ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا لَقَلَبَهَا حَسَنَاتٍ"

(1)

.

- الفَائِدَة الرَّابِعَة: تَوبَةُ اللهِ تَعَالَى عَلَى العَبْدِ تَرِدُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَينِ:

1 -

تَوفِيقُهُ تَعَالَى لِلعَبْدِ كَي يَتُوبَ.

2 -

قَبُولُهُ تَعَالَى لِلتَّوبَةِ.

وَكِلَا النَّوعَينِ مَجْمُوعَانِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ

(1)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 417).

ص: 454

يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

[التَّوبَة: 117 - 118]

(1)

.

- الفَائِدَة الخَامِسَة: لَيسَ مِنْ شَرْطِ التَّوبَةِ عَدَمَ العَودَةِ لِلْذَّنْبِ! وَإِنَّمَا العَزْمُ عَلَى عَدَمِ العَودَةِ؛ فَإِنَّهُ إِنْ عَادَ إِلَى الذَّنْبِ؛ فَإنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ تَوبَتَهُ الأُولَى.

كَمَا في الصَّحِيحَين من حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ مَرْفُوعًا «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا؛ فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَاخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي: رَبِّ؛ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا؛ فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَاخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ؛ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا؛ فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَاخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ»

(2)

.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رحمه الله: " وَالمَعْنَى: مَا دَامَ عَلَى هَذَا الحَالِ؛ كُلَّمَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ الاسْتِغْفَارُ المَقْرُونُ بِعَدَمِ الإِصْرَارِ"

(3)

.

تَمَّ الكِتَابُ بِحَولِهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وَفَضْلِهِ.

(1)

وَأَمَّا قَولُهُ تَعَالَى -هُنَا-: {لِيَتُوبُوا} فَلَيسَتْ هِيَ المُرَادَةُ؛ لَأَنَّهَا تَوبَةٌ مِنَ العَبْدِ وَلَيسَتْ

مِنَ اللهِ.

(2)

البُخَارِيُّ (7507)، وَمُسْلِمٌ (2758).

(3)

جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (2/ 409).

ص: 455

وَأَخِيرًا؛ أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى إِجَابَتِي دَعْوَةً كَدَعْوَةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إِبْرَاهِيم: 40، 41].

وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

وَكَتَبَهُ /

أَبُو عَبْدِ اللهِ؛ خُلْدُونُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ نَغَوِي الحَقَوِيُّ

ص: 456

‌فِهْرِسُ المَصَادِرِ وَالمَرَاجِعِ

- وُفْقَ التَّرْتِيبِ الأَبْجَدِيِّ -:

- الاسْتِذْكَارُ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ يُوسُف بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ البَرِّ؛ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عُمَرَ، المَالِكِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 463 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت، تَحْقِيقُ سَالِم مُحَمَّد عَطَا، وُمُحَمَّد عَلِي مُعَوَّض.

- الاعْتِصَامُ، لِلإِمَامِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ اللَّخْمِيِّ الغِرْنَاطِيِّ، الشَّهِيرِ بِالشَّاطِبِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 790 هـ)، دَارُ ابْنِ عَفَّانَ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ سَلِيمِ بْنِ عِيدٍ الهِلَالِيِّ.

- الإِبَانَةُ عَنْ أُصُولِ الدِّيَانَةِ، لِلإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الأَشْعَرِيِّ؛ أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 324 هـ)، دَارُ الأَنْصَارِ، القَاهِرَةُ، بِتَحْقِيقِ فَوقِيَّة حُسَين مَحْمُود.

- الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ القُرْآنِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْر؛ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 911 هـ)، الهَيئَةُ المِصْرِيَّةُ العَامَّةُ لِلكِتَابِ، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد؛ أَبِي الفَضْلِ إِبْرَاهِيم.

- الإِجْمَاعُ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ المُنْذِرِ النَّيسَابُورِيِّ؛ أَبِي بَكْر، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 315 هـ)، دَارُ المُسْلِمِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، بِتَحْقِيقِ فُؤَاد عَبْدِ المُنْعِمِ أَحْمَد.

- الأَجْوِبَةُ النَّافِعَةُ عَنْ أَسْئِلَةِ لَجْنَةِ مَسْجِدِ الجَامِعَةِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

ص: 457

- الأَدَبُ المُفْرَدُ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الجعْفِيِّ البُخَارِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 256 هـ)، دَارُ البَشَائِرِ الإِسْلَامِيَّةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد فُؤَاد عَبْدِ البَاقِي.

- الأَذْكَارُ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ الفِكْرِ لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ الفَاضِلِ عَبْدِ القَادِرِ الأَرْنَؤُوطِ.

- الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ، أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، مَكْتَبَةُ السوادي، جِدَّة، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ الحَاشِدِيِّ.

- الأَعْلَامُ لِلزِّرِكْلِيِّ، تَالِيفُ خَيرِ الدِّينِ بْنِ مَحْمُودٍ الزِّرِكْلِيِّ الدِّمَشْقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1396 هـ)، دَارُ العِلْمِ لِلمَلَايِينِ.

- الأُمُّ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 204 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ، بَيرُوت.

- البَاعِثُ الحَثِيثُ إِلَى اخْتِصَارِ عُلُومِ الحَدِيثِ، لِلحَافِظِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ ابْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيِّ الدِّمَشْقِيِّ؛ أَبِي الفِدَاءِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 774 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ المُحَدِّثِ أَحْمَد شَاكِر.

- البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، لِلحَافِظِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيِّ الدِّمَشْقِيِّ؛ أَبِي الفِدَاءِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 774 هـ)، دَارُ هجر، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التّركيّ.

ص: 458

- التِّبْيَانُ فِي أَقْسَامِ القُرْآن، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ، بَيرُوت.

- التِّبْيَانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرْآنِ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ ابْنِ حَزْمٍ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد الحَجَّار.

- التَّحْجِيلُ فِي تَخْرِيجِ مَا لَمْ يُخَرَّجُ فِي إِرْوَاءِ الغَلِيلِ، لِلشَّيخِ عَبْدِ العَزيزِ بْنِ مَرْزُوقٍ الطّريفي، (مُعَاصِرٌ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، لِلإِمَامِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الفَضْلِ الأَصْبَهَانِيِّ؛ أَبِي القَاسِمِ، المُلَقَّبِ بِقَوَّامِ السُّنَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 535 هـ)، دَارُ الحَدِيثِ، القَاهِرَةُ، بِتَحْقِيقِ أَيمَن بْنِ صَالِحِ بْنِ شَعْبَانَ.

- التَّمْهِيدُ لِشَرْحِ كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ آلِ الشَّيخِ، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ التَّوحِيدِ.

- التَّمْهِيدُ لِمَا فِي المُوَطَّأِ مِنَ المَعَانِي وَالأَسَانِيدِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ يُوسُف بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ البَرِّ؛ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عُمَرَ، المَالِكِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 463 هـ)، وِزَارَةُ عُمُومِ الأَوقَافِ وَالشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ، المَغْرِب، بِتَحْقِيقِ مُصْطَفَى بْنِ أَحْمَد العَلَوِيِّ، وَمُحَمَّد عَبْدِ الكَبِير البَكْرِيِّ.

- التَّنْوِيرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغِيرِ، لِلإِمَامِ الفَقِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّنْعَانِيِّ؛ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1182 هـ)، مَكْتَبَةُ دَارِ السَّلَامِ، الرِّيَاضُ، بِتَحْقِيقِ د. مُحَمَّد إِسْحَاق مُحَمَّد إِبْرَاهِيم.

ص: 459

- الجَامِعُ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ؛ شَمْسِ الدِّينِ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 671 هـ)، دَارُ الكُتُبِ المَصْرِيَّةِ، القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ أَحْمَد البردوني وإبراهيم أطفيش.

- الحَاوِي لِلفَتَاوَى، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْر؛ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 911 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت.

- الحُجَّةُ فِي بَيَانِ المَحَجَّةِ، لِلإِمَامِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الفَضْلِ الأَصْبَهَانِيِّ؛ أَبِي القَاسِمِ، المُلَقَّبِ بِقَوَّامِ السُّنَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 535 هـ)، دَارُ الرَّايَةِ، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعٍ المَدْخَلِيِّ.

- الدَّرَارِي المَضِيَّةُ؛ شَرْحُ الدُّرَرِ البَهِيَّةِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّوكَانِيِّ اليَمَنِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1250 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ.

- السُّنَنُ الكُبْرَى، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ، أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد عَبْدِ القَادِرِ عَطَا.

- السُّنَنُ الوَارِدَةُ فِي الفِتَنِ وَغَوَائِلِهَا وَالسَّاعَةُ وَأَشْرَاطُهَا، لِلإِمَامِ عُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ؛ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 444 هـ)، دَارُ العَاصِمَةِ، الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ رِضَاءِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ إِدْرِيس المُبَارَكْفُورِيِّ.

- الشَّرِيعَةُ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الآجُرِّيِّ البَغْدَادِيِّ؛ أَبِي بَكْرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 360 هـ)، دَارُ الوَطَنِ لِلنَّشْرِ- الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سُلَيمَانَ الدّميجي.

ص: 460

- الصَّلَاةُ وَحُكْمُ تَارِكِهَا، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، مَكْتَبَةُ الثَّقَافَةِ بِالمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ.

- الفَائِقُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ، لِلشَّيخِ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرو بِنْ أَحْمَدَ الزَّمَخْشَرِيِّ؛ أَبِي القَاسِمِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 538 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ، لُبْنَان، بِتَحْقِيقِ عَلِي البجاوي وَمُحَمَّد أَبُو الفَضْلِ إِبْرَاهِيم.

- الفَتْحُ الكَبِيرُ، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْر؛ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 911 هـ)، دَارُ الفِكْرِ، بَيرُوت.

- القَامُوسُ المُحِيطُ، لِمُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الفَيرُوزآبَادِي؛ أَبِي طَاهِرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 817 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مَكْتَبِ تَحْقِيقِ التُّرَاثِ فِي مُؤَسَّسَةِ الرِّسَالَةِ.

- القَولُ المُفِيدُ عَلَى كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ ابْنِ الجَوزِيِّ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ.

- الكَامِلُ فِي ضُعَفَاءِ الرِّجَالِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيٍّ الجُرْجَانِيِّ؛ أَبِي أَحْمَدَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 365 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَادِل أَحْمَد عَبْدِ المَوجُود، وَعَلِي مُحَمَّد مُعَوَّض، وَعَبْدِ الفَتَّاحِ أَبُو سنة.

- المُجَلَّى فِي شَرْحِ القَوَاعِدِ المُثْلَى لِلشَّيخِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ ابْنِ حَزْمٍ، تَالِيفُ كَامِلَة الكَوَارِي.

- المَجْمُوعُ شَرْحُ المُهَذَّبِ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ الفِكْرِ.

ص: 461

- المُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَينِ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَيسَابُورِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ الحَاكِمِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 405 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُصْطَفَى عَبْدِ القَادِرِ عَطَا.

- المَطَالِبُ العَالِيَةُ بِزَوَائِدِ المَسَانِيدِ الثَّمَانِيَةِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ العَاصِمَةِ، الرِّيَاض، بِتَنْسِيقِ سَعْدِ بْنِ نَاصِرٍ الشَّثْرِيِّ.

- المُعْجَمُ الأَوسَطُ، لِلحَافِظِ سُلَيمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ؛ أَبِي القَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 360 هـ)، دَارُ الحَرَمَينِ، القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ طَارِقِ بْنِ عَوَض اللهِ بْنِ مُحَمَّد، وَعَبْدِ المُحْسِنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الحُسَينِيِّ.

- المُعْجَمُ الصَّغِيرُ، لِلحَافِظِ سُلَيمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ؛ أَبِي القَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 360 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، دَارُ عَمَّار، بَيرُوت، عَمَّان، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد شَكُور مَحْمُود الحَاج أمرير.

- المُعْجَمُ الكَبِيرُ، لِلحَافِظِ سُلَيمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ؛ أَبِي القَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 360 هـ)، مَكْتَبَةُ ابْنِ تَيمِيَّةَ، القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ حَمْدِي بْنِ عَبْدِ المَجِيدِ السَّلَفِيِّ.

- المُفْهِمُ لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تَلْخِيصِ كِتَابِ مُسْلِمٍ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 656 هـ)، دَارُ ابْنِ كَثِيرٍ، دِمَشْق، بِتَحْقِيقِ مُحْيي الدِّين مستو، وَآخَرِين.

- المَنْهَلُ العَذْبُ الرَّوِيُّ فِي تَرْجَمَةِ قُطْبِ الأَولِيَاءِ النَّوَوِيِّ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّد السَّخَاوِيِّ الشَّافِعِيِّ؛ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 902 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ أَحْمَد فَرِيد المزيدي.

ص: 462

- المُوَافَقَاتُ، لِلإِمَامِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ اللَّخْمِيِّ الغِرْنَاطِيِّ، الشَّهِيرِ بِالشَّاطِبِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 790 هـ)، دَارُ ابْنِ عَفَّانَ، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ الفَاضِلِ مَشْهُور بْنِ حَسَن آل سَلْمَان.

- المُوَطَّأ، لِلإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الأَصْبَحِيِّ المَدَنِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 179 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ، بَيرُوت، بِتَرْقِيمِ وَتَعْلِيقِ مُحَمَّدِ فُؤَادِ عَبْدِ البَاقِي.

- النُّكَتُ الدَّالَّةُ عَلَى البَيَانِ فِي أَنْوَاعِ العُلُومِ وَالأَحْكَامِ، لِلْإِمَامِ مُحَمَّد بْنِ عَلِي بْنِ مُحَمَّد الكَرَجِيِّ؛ أَبِي مُحَمَّدٍ القصَّابِ، (المُتَوَفَّى نحو سَنَةِ 360 هـ)، دَارُ القَيِّم - دَارُ ابْنِ عَفَّان.

- النِّهَايَةُ فِي غَرِيبِ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ، لِلمُبَارَكِ بْنِ مُحَمَّدِ الجَزَرِيِّ؛ أَبِي السَّعَادَاتِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 606 هـ)، مُؤَسَّسَةُ التَّارِيخِ العَرَبِيِّ، بِتَحْقِيقِ طَاهِر أَحْمَد الزَّاوِي وَمَحْمُود مُحَمَّد الطَنَاحِيّ.

- الوَجِيزُ فِي فِقْهِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ العَزِيزِ، لِلشَّيخِ الفَاضِلِ عَبْدِ العَظِيمِ بْنِ بَدَوِي، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ ابْنِ رَجَبٍ.

- الوَسِيطُ فِي المَذْهَبِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الغَزَالِيِّ الطُوسِيِّ، أَبِي حَامِدٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 505 هـ)، دَارُ السَّلَامِ، القَاهِرَةُ، بِتَحْقِيقِ أَحْمَد مَحْمُود إِبْرَاهِيم، وَمُحَمَّد مُحَمَّد تَامِر.

- إِحْيَاءُ عُلُومِ الدِّينِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الغَزَالِيِّ الطُوسِيِّ، أَبِي حَامِدٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 505 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ، بَيرُوت.

- إِرْوَاءُ الغَلِيلِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، بَيرُوت.

ص: 463

- إِكْمَالُ المُعْلِمِ، لِلقَاضِي عِيَاضِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ اليَحْصُبِيِّ؛ أَبِي الفَضْلِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 544 هـ)، دَارُ الوَفَاءِ، المَنْصُورَة، بِتَحْقِيقِ يَحْيَى إِسْمَاعِيل.

- أَحْكَامُ الأُضْحِيَةِ وَالذَّكَاةِ (ضِمْنَ كِتَابِ الصَّيدِ الثَّمِينِ)، لِلشَّيخِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ الثِّقَةِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، مَكَّة المُكَرَّمَة.

- أَحْكَامُ الجَنَائِزِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ.

- أَشْرِطَةُ سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّورِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ الأَرْبَعِين حَدِيثًا النَّوَوِيَّة، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ آلِ الشَّيخِ، (مُعَاصِرٌ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ آلِ الشَّيخِ، (مُعَاصِرٌ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ ثَلَاثَةِ الأُصُولِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ آلِ الشَّيخِ، (مُعَاصِرٌ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد، لِلشَّيخِ الإِمَامِ عَبْدِ المُحْسِنِ العَبَّادِ، (مُعَاصِرٌ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

- أَشْرِطَةُ شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، لِلشَّيخِ الفَاضِلِ مَشْهُور حَسَن سَلْمَان، (مُعَاصِرٌ)، البَرْنَامِجُ الحَاسُوبِيُّ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَالأَثَرِ.

ص: 464

- بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ الفَلَقِ، الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ سَمِيرِ بْنِ أَمِين الزهري.

- تَارِيخُ الإِسْلَامِ وَوَفِيَّاتُ المَشَاهِيرِ وَالأَعْلَامِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَايمازَ الذَّهَبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 748 هـ)، دَارُ الكِتَابِ العَرَبِيِّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عُمَر عَبْدِ السَّلَامِ التَّدْمُرِيِّ.

- تَارِيخُ دِمَشْقَ، لِلحَافِظِ عَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللهِ؛ المَعْرُوفِ بِابْنِ عَسَاكِر؛ أَبِي القَاسِمِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 571 هـ)، دَارُ الفِكْرِ، بتحقيق عَمْرو بْنِ غرامة العمروي.

- تَبْيِينُ العَجَبِ بِمَا وَرَدَ فِي شَهْرِ رَجَب، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، بِتَحْقِيقِ أَبِي أَسْمَاءَ؛ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ آل عصر.

- تُحْفَةُ الأَحْوَذِيِّ شَرْحُ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، لِلإِمَامِ الفَقِيهِ مُحَمَّد عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ المُبَارَكْفُورِي؛ أَبِي العِلَا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1353 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت.

- تُحْفَةُ المَودُودِ بِأَحْكَامِ المَولُودِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، مَكْتَبَةُ دَارِ البَيَانِ، دِمَشْق، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ عَبْدِ القَادِرِ الأَرْنَاؤُوطِ.

- تَخْرِيجُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (الطَّبْعَةُ الثَّانِيَةُ)، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، بَيرُوت.

ص: 465

- تَرَاجُعُ العَلَّامَةِ الأَلْبَانِيِّ فِي مَا نَصَّ عَلَيهِ تَصْحِيحًا وَتَضْعِيفًا، لِمُحَمَّد حَسَن الشَّيخ؛ أَبِي الحَسَنِ، (مُعَاصِرٌ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- تَصْحِيحُ الدُّعَاءِ، للشَّيخِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَبُو زَيدٍ، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ العَاصِمَةِ، الرِّيَاض.

- تَفْسِيرُ البَيضَاوِيِّ، لِلقَاضِي عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدَ الشِّيرَازِيِّ؛ نَاصِرِ الدِّينِ البَيضَاوِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 685 هـ)، دَارُ الفِكْرِ، بَيرُوت.

- تَفْسِيرُ القُرْآنِ العَظِيمِ، لِلحَافِظِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيِّ الدِّمَشْقِيِّ؛ أَبِي الفِدَاءِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 774 هـ)، دَارُ طيبَة، بِتَحْقِيقِ سَامِي مُحَمَّد سَلَامَة.

- تَفْسِيرُ جُزْءِ (عَمَّ)، لِلشَّيخِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ الثُرَيَّا لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- تَمَامُ المِنَّةِ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى فِقْهِ السُّنَّةِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، دَارُ الرَّايَةِ، الرِّيَاض.

- تَنْبِيهُ الغَافِلِينَ بِأَحَادِيثِ سَيِّدِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، لِلْشَّيخِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ابْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ؛ أَبِي اللَّيثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 373 هـ)، دَارُ ابْنِ كَثِيرٍ، دِمَشْق-بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ يُوسُف عَلِي بديوي.

- تَيسِيرُ الكَرِيمِ الرَّحْمَنِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ المَنَّانِ، المُسَمَّى بِتَفْسِيرِ السَّعْدِيِّ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَاصِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ السَّعْدِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1376 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ معَلَّا اللَّويحق.

ص: 466

- جَامِعُ البَيَانِ فِي تَاوِيلِ القُرْآنِ، لِلإمَامِ المُفَسِّرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرِ الآمِلِي الطَّبَرِيِّ؛ أَبِي جَعْفَر، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 310 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ المُحَدِّثِ أَحْمَد شَاكِر.

- جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ فِي شَرْحِ خَمْسِينَ حَدِيثًا مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَجَبٍ البَغْدَادِيِّ الحَنْبَلِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 795 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ شُعَيبِ الأَرْنَؤُوطِ، إِبْرَاهِيم باجس.

- جَامِعُ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ يُوسُف بنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ البَرِّ؛ القُرْطُبِيِّ؛ أَبِي عُمَرَ، المَالِكِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 463 هـ)، دَارُ ابْنِ الجَوزِيِّ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ أَبِي الأَشْبَالِ الزّهيري.

- حَاشِيَةُ السِّنْدِيِّ عَلَى سُنَنِ ابْنِ مَاجَه، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الهَادِي التتوي السِّنْدِيِّ؛ أبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1138 هـ)، دَارُ الجِيلِ، بَيرُوت.

- حُكْمُ تَارِكِ الصَّلَاةِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، دَارُ الجَلَالَينِ، الرِّيَاض.

- حِلْيَةُ الأَولِيَاءِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَبِي نُعَيمٍ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 430 هـ)، دَارُ السَّعَادَةِ، مِصْر.

- ذَيلُ طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَجَبٍ البَغْدَادِيِّ الحَنْبَلِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 795 هـ)، مَكْتَبُ العُبَيكَان، الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ سُلَيمَان العُثَيمِين.

- رَفْعُ الأَسْتَارِ لِإِبْطَالِ أَدِلَّةِ القَائِلِينَ بِفَنَاءِ النَّارِ، لِلإِمَامِ الفَقِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّنْعَانِيِّ؛ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1182 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.

ص: 467

- رَوضَةُ الطَّالِبِينَ وَعُمْدَةُ المُفْتِينَ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ عَالَمِ الكُتُبِ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ عَادِل عَبْدِ المَوجُود، وَعَلِي معَوَّض.

- رِيَاضُ الصَّالِحِينَ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.

- زَادُ المَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، لِلإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَلِيّ بْنِ مُحَمَّدِ الجَوزِيِّ؛ أَبِي الفَرَجِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 579 هـ)، دَارُ الكِتَابِ العَرَبِيِّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مَهْدِي.

- زَادُ المَعَادِ فِي هَدْي خَيرِ العِبَادِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيَّوبَ، ابْنِ قَيِّمِ الجَوزِيَّةِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 751 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بَيرُوت.

- سُبُلُ السَّلَامِ، لِلإِمَامِ الفَقِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّنْعَانِيِّ؛ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1182 هـ)، دَارُ الحَدِيثِ.

- سِلْسِلَةُ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَشَيءٌ مِنْ فِقْهِهَا وَفَوَائِدِهَا، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- سِلْسِلَةُ الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

ص: 468

- سُنَنُ الدَّارَقُطْنِيِّ، لِلحَافِظِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ؛ أَبِي الحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 385 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ شُعَيبٍ الأَرْنَؤُوط وَغَيرِهِ.

- سُنُنُ ابْنِ مَاجَه، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدٍ القُزْوِينِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 273 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ الكُتُبِ العَرَبِيَّةِ، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد فُؤَاد عَبْدِ البَاقِي.

- سُنُنُ التِّرْمِذِيِّ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ سَورةَ التِّرْمِذِيِّ؛ أَبِي عِيسَى، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 279 هـ)، دَارُ الغَرْبِ الإِسْلَامِيِّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ بَشَّار عَوَّاد مَعْرُوف.

- سُنُنُ النَّسَائِيِّ (المُجْتَبَى)، لِلإِمَامِ أَحْمَدِ بْنِ شُعَيبِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ النَّسَائِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 303 هـ)، مَكْتَبُ المَطْبُوعَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ، حَلَب، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الفَتَّاحِ أَبِي غُدَّة.

- سُنُنُ النَّسَائِيِّ الكُبْرَى، لِلإِمَامِ أَحْمَدِ بْنِ شُعَيبِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ النَّسَائِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 303 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بَيرُوت، حَسَن عَبْدُ المُنْعِمِ شَلَبِي.

- سُنُنُ أَبِي دَاوُد، لِلإِمَامِ سُلَيمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ الأَزْدِيِّ السَّجِسْتَانِيِّ؛ أَبِي دَاوُد، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 275 هـ)، المَكْتَبَةُ العَصْرِيَّةُ، صيدَا، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّدِ مُحْيي الدِّينِ عَبْدِ الحَمِيدِ.

- سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَايمازَ الذَّهَبِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 748 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ مَجْمُوعَةٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ.

ص: 469

- شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ، لِلْشَيخِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ آلِ الشَّيخِ، دَارُ العَاصِمَةِ، الرِّيَاض.

- شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ الثُّرَيَّا لِلنَّشْرِ.

- شَرْحُ الأَرْبَعِينَ حَدِيثًا النَّوَوِيَّةَ، لِلإِمَامِ العَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ دَقِيق العِيد؛ أَبِي الفَتْحِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 702 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرَّيَّانِ، بَيرُوت.

- شَرْحُ السُّنَّةِ، لِلإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ؛ الحُسَينِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَبِي مُحَمَّدِ البَغَوِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 516 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، دِمَشْق، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ شُعَيب الأَرْنَؤُوط وَمُحَمَّد زُهَير الشَّاوِيش.

- شَرْحُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ، لِلشَّيخِ الفَقِيهِ عَلِيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيِّ الدِّمَشْقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 792 هـ)، دَارُ السَّلَامِ- مِصْرَ، بِتَحْقِيقِ المُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ.

- شَرْحُ أُصُولِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، لِلإِمَامِ هِبَةِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ الطَبَرِيِّ الرَّازِيِّ اللَّالكَائِيِّ؛ أَبِي القَاسِمِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 418 هـ)، دَارُ طَيبَة، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ أَحْمَدَ بْنِ سَعْدِ بْنِ حَمْدَانَ الغَامِدِيِّ.

- شَرْحُ رِيَاضِ الصَّالِحِين، لِلشَّيخِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ العُثِيمِين، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1421 هـ)، دَارُ الوَطَنِ لِلنَّشْرِ- الرِّيَاض.

- شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، لِلإِمَامِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ بْنِ مَرِيِّ النَّوَوِيِّ؛ أَبِي زَكَرِيَّا، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 676 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ، بَيرُوت.

ص: 470

- شَرْحُ كِتَابِ التَّوحِيدِ مِنْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلشَّيخِ الفَاضِلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ الغُنَيمَانِ، مَكْتَبَةُ الدَّارِ، المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ.

- شَرْحُ مُشْكِلِ الآثَارِ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الأَزْدِيِّ الحَجْرِيِّ المِصْرِيِّ؛ المَعْرُوفِ بِالطَّحَاوِيِّ؛ أَبِي جَعْفَر، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 321 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ شُعَيبِ الأَرْنَؤُوطِ.

- شُعَبُ الإِيمَانِ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ، أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، مَكْتَبَةُ الرُّشْدِ، الرِّيَاض، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ العَلِيِّ عَبْدِ الحَمِيدِ حَامِد.

- صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ بِتَرْتِيبِ ابْنِ بَلبان، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حِبَّانَ؛ أَبِي حَاتِمٍ البُسْتِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 354 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ شُعَيبٍ الأَرْنَؤُوط.

- صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، دَارُ الصِّدِّيقِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ.

- صَحِيحُ البُخَارِيِّ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الجعْفِيِّ البُخَارِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 256 هـ)، دَارُ طَوقِ النَّجَاةِ (مُصَوَّرَةٌ عَنْ السُّلْطَانِيَّةِ بِإِضَافَةِ تَرْقِيمِ مُحَمَّد فُؤَاد عَبْدِ البَاقِي)، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد زُهَير بْنِ نَاصِر النَّاصِر.

- صَحِيحُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

ص: 471

- صَحِيحُ الجَامِعِ الصَّغِيرِ وَزِيَادَاتِهِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ.

- صَحِيحُ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- صَحِيحُ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- صَحِيحُ سُنَنِ النَّسَائِيِّ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- صَحِيحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُد، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

- صَحِيحُ مُسْلِمٍ، لِلإِمَامِ مُسْلِمِ بْنِ الحَجَّاجِ القُشَيرِيِّ النَّيسَابُورِيِّ؛ أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 261 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد فُؤَاد عَبْدِ البَاقِي.

- صِفَاتُ اللهِ عز وجل الوَارِدَةُ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِلشَّيخِ عَلَوِي بْنِ عَبْدِ القَادِرِ السَّقَّافِ، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ الهِجْرَةِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ.

- ضَعِيفُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، مَكْتَبَةُ المَعَارِفِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، الرِّيَاض.

ص: 472

- طَبَقَاتُ الحُفَّاظِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْر؛ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 911 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت.

- طَرْحُ التَّثْرِيبِ فِي شَرْحِ التَّقْرِيبِ، لِلحَافِظِ زَينِ الدِّينِ؛ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ الحُسَينِ العِرَاقِيِّ؛ أَبِي الفَضْلِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 806 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ.

- عُمْدَةُ القَارِي شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلإِمَامِ المُحَدِّثِ مَحْمُودِ بْنِ أَحْمَدَ؛ بَدْرِ الدِّينِ العَينِيِّ الحَنَفِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 855 هـ)، دَارُ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ، بَيرُوت.

- عَمَلُ اليَومُ وَاللَّيلَةِ، لِلحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الدّينَوَريِّ؛ المَعْرُوفِ بِـ (ابْنِ السُّنِّيِّ)، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 364 هـ)، دَارُ القِبْلَةِ لِلثَّقَافَةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَمُؤَسَّسَةُ عُلُومِ القُرْآنِ، جِدَّة، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ كَوثَر البرني.

- عَونُ المَعْبُودِ شَرْحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُد، لِلإِمَامِ الفَقِيهِ مُحَمَّدِ أَشْرَف بْنِ أَمِيرٍ؛ شَمْسِ الحَقِّ العَظِيمِ آبَادِي؛ أَبِي الطَّيِّبِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1329 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت.

- غَايَةُ المَرَامِ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الحَلَالِ وَالحَرَامِ، لِلمُحَدِّثِ الإِمَامِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، بَيرُوت.

- فَتْحُ البَارِي شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ حَجَرٍ؛ أَبِي الفَضْلِ العَسْقَلَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 852 هـ)، دَارُ المَعْرِفَةِ، بَيرُوت.

ص: 473

- فَتْحُ البَارِي شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ ابْنِ رَجَبٍ البَغْدَادِيِّ الحَنْبَلِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 795 هـ)، مَكْتَبُ تَحْقِيقِ دَارِ الحَرَمَينِ، القَاهِرَةُ، مَجْمُوعَةٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ.

- فَتْحُ القَدِيرِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّوكَانِيِّ اليَمَنِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1250 هـ)، دَارُ ابْنِ كَثِيرٍ، دَارُ الكَلِمِ الطَّيِّبِ، دِمَشْق، بَيرُوت.

- فَتْحُ القَوِيِّ المَتِينِ فِي شَرْحِ الأَرْبَعِين، لِلشَّيخِ الفَاضِلِ عَبْدِ المُحْسِنِ العَبَّادِ البَدْرِ، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ ابْنِ القَيِّمِ، الدَّمَّامُ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ.

- فَتْحُ المَجِيدِ شَرْحُ كِتَابِ التَّوحِيدِ، لِلشَّيخِ العَلَّامَةِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ حَسَن آلِ الشَّيخِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1285 هـ)، مَطْبَعَةُ السُّنَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ، القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد حَامِدِ الفَقي.

- فَيضُ القَدِيرِ شَرْحُ الجَامِعِ الصَّغِيرِ، لِلشَّيخِ عَبْدِ الرَّؤُوفِ المُنَاوِيِّ؛ زَينِ الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1031 هـ)، المَكْتَبَةُ التِّجَارِيَّةُ الكُبْرَى، مِصْر.

- قَوَاعِدُ التَّحْدِيثِ مِنْ فُنُونِ مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ، لِلشَّيخِ مُحَمَّدُ جَمَال الدِّين القَاسِمِيُّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1332 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت.

- كِتَابُ السُّنَّةِ (وَمَعَهُ ظِلَالُ الجَنَّةِ فِي تَخْرِيجِ السُّنَّةِ بِقَلَمِ مُحَمَّدِ نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ)، لِلحَافِظِ أَحْمَدِ بْنِ عَمْرو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ؛ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ الشَّيبَانِيِّ؛ أَبِي بَكْر، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 287 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ.

- كِتَابُ قِيَامِ رَمَضَانَ، لِلحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 294 هـ)، دَارُ الاعْتِصَامِ، (اخْتِصَارُ المَقْرِيزِيِّ)، بِتَحْقِيقِ مُحَمَّد أَحْمَد عَاشُور، وَجَمَال عَبْد المِنْعِم الكومي.

ص: 474

- كَشْفُ الخَفَاءِ وَمُزِيلُ الإِلْبَاسِ، لِلشَّيخِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدَ بْنِ عَبْدِ الهَادِي الجَرَّاحِيِّ العَجْلُونِيِّ؛ أَبِي الفِدَاءِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1162 هـ)، المَكْتَبَةُ العَصْرِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ هنداوي.

- لُبَابُ التَّاوِيلِ فِي مَعَانِي التَّنْزِيلِ (تَفْسِيرُ الخَازِنِ)، لِلإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الشيحي؛ أَبِي الحَسَنِ؛ المَعْرُوفِ بِالخَازِنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 741 هـ)، دَارُ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ، بَيرُوت.

- لِسَانُ العَرَبِ، لِمُحَمَّدِ بْنِ مُكرَّم بْنِ مَنْظُور؛ أَبِي الفَضْلِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 711 هـ)، دَارُ صَادِر، بَيرُوت.

- مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ وَمَنْبَعُ الفَوَائِدِ، لِلإِمَامِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي بَكْر بْنِ سُلَيمَانَ الهَيثَمِيِّ؛ أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 807 هـ)، مَكْتَبَةُ القُدْسِيِّ، القَاهِرَةَ، بِتَحْقِيقِ حُسَامِ الدِّينِ القُدْسِيِّ.

- مَجْمُوعُ الفَتَاوَى، لِشَيخِ الإِسْلَامِ؛ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الحَلِيمِ بْنِ تَيمِيَّةَ الحَرَّانِيِّ؛ أَبِي العَبَّاسِ؛ تَقِي الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 728 هـ)، مُجَمَّعُ المَلِكِ فَهْدٍ لِطِبَاعَةِ المُصْحَفِ الشَّرِيفِ، المَدِينَةُ النَّبَوِيَّةُ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ، بِاعْتِنَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ مُحَمَّد بْنِ قَاسِمٍ.

- مَجْمُوعُ فَتَاوَى ابْنِ بَاز، لِلعَلَّامَةِ الإِمَامِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَاز، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1420 هـ)، دَارُ القَاسِمِ، الرِّيَاض، بِإِشْرَافِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الشويعر.

- مُخْتَصَرُ كِتَابِ الاعْتِصَامِ، لِلشَّيخِ عَلَوِي بْنِ عَبْدِ القَادِرِ السَّقَّافِ، (مُعَاصِرٌ)، دَارُ الهِجْرَةِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ.

ص: 475

- مَرَاقِي الفَلَاحِ شَرْحُ مَتْنِ نُورِ الإِيضَاحِ، لِلشَّيخِ حَسَنِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ عَلِيٍّ الشُّرُنْبُلَالِيِّ؛ المَصْرِيِّ الحَنَفِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1069 هـ)، المَكْتَبَةُ العَصْرِيَّةُ.

- مِرْقَاةُ المَفَاتِيحِ شَرْحُ مِشْكَاةِ المَصَابِيحِ، لِلشَّيخِ الفَقِيهِ مُلَّا عَلِيِّ الهَرَوِيِّ القَارِيّ، أَبِي الحَسَنِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1104 هـ)، دَارُ الفِكْرِ- بَيرُوت.

- مُسْنَدُ الإِمَامِ أَحْمَدَ، لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدٍ الشَّيبَانِيِّ؛ أَبِي عَبْدِ اللهِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 241 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بِتَحْقِيقِ شُعَيبِ الأَرْنَؤُوطِ، عَادِل مرشد، وَآخَرُونَ.

- مُسْنَدُ البَزَّارِ (البَحْرُ الزَّخَّارُ)، لِلحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرو بْنِ عَبْدِ الخَالِقِ العَتَكِيِّ، المَعْرُوفِ بِالبَزَّارِ؛ أَبِي بَكْرٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 292 هـ)، مَكْتَبَةُ العُلُومِ وَالحِكَمِ، المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ، مَجْمُوعَةٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ.

- مُسْنَدُ الدَّارِمِيِّ، لِلإِمَامِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ؛ أَبِي مُحَمَّدٍ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 255 هـ)، دَارُ المُغْنِي لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السّعُودِيَّةُ، بِتَحْقِيقِ حُسَين سَلِيم أَسَد الدَّارَانِيِّ.

- مُسْنَدُ الشَّامِيِّين، لِلحَافِظِ سُلَيمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ؛ أَبِي القَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 360 هـ)، مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ حَمْدِي بْنِ عَبْدِ المَجِيدِ السَّلَفِيِّ.

- مُسْنَدُ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، لِلحَافِظِ سُلَيمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ الجَارُودِ الطَّيَالِسِيِّ البَصْرِيِّ؛ أَبِي دَاوُدَ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 204 هـ)، دَارُ هجر، بِتَحْقِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التّركيّ.

ص: 476

- مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَبِي يَعْلَى؛ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيّ بْنِ المثُنى التَّمِيمِيِّ المَوصِلِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 307 هـ)، دَارُ المَامُونِ لِلتُّرَاثِ، دِمَشْقَ، بِتَحْقِيقِ حُسَين سَلِيم أَسَد الدَّارَانِيِّ.

- مِشْكَاةُ المَصَابِيحِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الخَطِيبِ التِّبْرِيزِيِّ، أَبِي عَبْدِ اللهِ؛ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 741 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ الشَّيخِ مُحَمَّد نَاصِرِ الدِّينِ الأَلْبَانِيِّ رحمه الله.

- مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، لِلحَافِظِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ هَمَّام الصَّنْعَانِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 211 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، بَيرُوت، بِتَحْقِيقِ حَبِيبِ الرَّحْمَن الأَعْظَمِيِّ.

- مَعَالِمُ التَّنْزِيلِ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ (تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ)، لِلإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ؛ الحُسَينِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَبِي مُحَمَّدِ البَغَوِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 516 هـ)، دَارُ طِيبَةَ لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيعِ، بِتَحْقِيقِ النمر وضميرية والحرش.

- مَنَارُ السَّبِيلِ فِي شَرْحِ الدَّلِيلِ، لِلشَّيخِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمِ بْنِ ضُوَيَّان، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1353 هـ)، المَكْتَبُ الإِسْلَامِيُّ، بِتَحْقِيقِ زُهَير الشَّاوِيش.

- مَنَاقِبُ الشَّافِعِيِّ، لِلإِمَامِ الحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَينِ بْنِ عَلِيٍّ الخُرَاسَانِيِّ، أَبِي بَكْرٍ البَيهَقِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 458 هـ)، مَكْتَبَةُ دَارِ التُّرَاثِ، القَاهِرَة، بِتَحْقِيقِ السَّيد أَحْمَد صَقر.

- نَيلُ الأَوطَارِ، لِلإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّوكَانِيِّ اليَمَنِيِّ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ 1250 هـ)، دَارُ الحَدِيثِ، مِصْر، بِتَحْقِيقِ عِصَامِ الدِّينِ الصَّبَابطي.

ص: 477