المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها - م ٣

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الطبعة الثانية

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد، فإني أقدم اليوم إلى القراء الأحبة المجلد الثالث من "سلسلة الأحاديث الصحيحة" في طبعته الثانية الجميلة، بعد أن نفدت نسخ الطبعة الأولى منه، وكثر الطلب عليه، وتهيأت الأسباب لِإعادة طبعه على طريقة التصوير المعروفة اليوم بـ (الأوفست) . ولذلك فقد أعدت النظر فيه، ونقحته، وضممت إليه بعض الزوائد المفيدة، وصححت الأخطاء المطبعية التي كانت فيه، بالقدر الذي تساعدني عليه الطريقة المذكورة، وجعلت بقية الزوائد والفوائد في آخر الكتاب تحت عنوان:(استدراك وتصويب) ، مشيراً إليها بجعلها بين حاصرتين [] .

وألحقت ذلك بفهارس سبعة، بَديل الفهارس الأربعة التي كانت في الطبعة الأولى؛ لأنها لم تكن بقلمي، ولا كانت مرتبة الترتيب العلمي الدقيق الذي جريت عليه في المجلدات التي قبله وبعده، ذلك لأن المجلد طُبع أكثره وأنا في عمان، فتولى تصحيح تجاربه، ووضع فهارسه غيري من إخواننا الناشئين في سوريا.

فالحمد لله الذي يسر لي إعادة طبعه، والإشراف على تصحيحه، ووضع فهارسه، وقد ساعدتني في ذلك ابنتي أُنَيْسة زوجة نظام سكجها صاحب المكتبة الإسلامية؛ جزاهما الله تعالى خيراً.

ص: 1

هذا، وقد كان جاءني خطاب مؤرخ في 7/7/1403 هـ من أحد الأفاضل السعوديّين في الرياض، يذكر فيه أن الحديث الذي أوردته في هذا المجلد برقم (1449) من رواية البخاري في "الأدب الفرد" ضعيف جداً! وأنه قد أعجب به طائفة من الذين يَتّبعونني (!) في التصحيح والتضعيف، والاستنباط الفقهي، وأخذوا يعملون به! يعني زيادة:"ومغفرته" في رد السلام، الواردة في الحديث المشار إليه. وأرفق مع الخطاب ورقة كبيرة ذات وجهين، يبين فيها وجهة نظره في التضعيف المزعوم، ونزولاً عند رغبته كتبت إليه برأيي فيه.

ويمكن تلخيص كلامه في أربعة أمور:

الأول: أن قولي هناك: "رجاله ثقات من رجال "التهذيب" غير إبراهيم ابن المختار الرازي"؛ إنما هو سبق قلم مني لأنه من رجال "التهذيب".

الثاني: أن إبراهيم هذا قد قال البخاري فيه: "فيه نظر"، وقال ابن معين.. إلخ.

الثالث: أن فوقه هارون بن سعد قال فيه ابن معين وأبو حاتم: ليس به بأس.. إلخ.

الرابع: أن محمداً شيخ البخاري فيه ليس هو ابن سعيد الأصبهاني الثقة كما جزمت أنا به، وإنما هو ابن حميد المتروك عند البخاري نفسه! فكتبت إليه جواباً مفصلاً في الرد عليه، بينت له فيه خطأه فيما ذهب إليه، إلا الأمر الأول فإنه مصيب فيه، ولذلك فإني صححت في هذه الطبعة عبارة:"غير إبراهيم.." فجعلتها "وإبراهيم.." جزاه الله خيراً.

ص: 2

وخلاصة الرد فيما أذكر -فإني لم أحتفظ بنسخة منه لنفسي، وهذا من عيوبي التي أرجو الله تعالى أن يغفرها لي- كآلاتي:

أما الأمر الثاني، فإني لم أعتمد على قول من جرحه لسببين:

أحدهما: أنه جرح مبهم غير مفسر.

والآخر: أنه معارض بتوثيق من وثقه، وفيهم بعض المعروفين بالتشدد، وهو أبو حاتم فإنه قال -كما ذكرت هناك-:

"صالح الحديث".

وقد عزاه الفاضل المشار إليه لأبي داود، وهو من أوهامه، وإنما قال فيه أبو داود:

"لا بأس به". كما في "التهذيب".

هذا قوله، وهو في المعنى موافق لقول أبي حاتم، ونحوه فعل ابن حبان وابن شاهين فإنهما ذكراه في "الثقات".

وأما الثالث: فيكفي في رده ما نقله الفاضل نفسه عن الذهبي والعسقلاني أنه صدوق. ولا يضره أنه رافضي ما لم يكن داعية لأن العبرة في الرواية الصدق والضبط كما هو مقرر في علم المصطلح، على أنه قد ذكر بعضهم أنه نزع عن الرفض، ولعله لذلك اقتصر الذهبي في "الكاشف" على قوله فيه:

"صدوق". ولم يرمه بالرفض.

وأما الرابع: فهو من أعجب ما تغنى به! فإنه في الوقت الذي يأخذ

ص: 3

علي جزمي بأن محمداً شيخ البخاري في هذا الحديث هو ابن سعيد الأنصاري، بدعوى أنه لا دليل عليه! إذا به يعارضه دون أي دليل أو شبه دليل، بل مجرد ادعاء؛ لو قاله بخاري زمانه لم يقبل منه! فاسمع إليه كيف يقول:

"فالقطع بأن قول البخاري: "قال محمد" يعني ابن سعيد يفتقر إلى دليل، بل عندي أنه من رواية (كذا قال! ويعني أنه هو) ابن حميد الرازي، وكأن البخاري رحمه الله قال: "قال محمد" لهذه العلة، فيتأمل هذا الموضع".

فأقول: لقد تأملته فوجدته تكلفاً ظاهراً، يعتمد على مجرد الاحتمال، وترجيح بدون مرجح، وهو ما نسبه إلي بزعمه ثم أنكره علي! مع فارق كبير بيني وبينه -لا أقول من حيث التمكن والتمرس في هذا العلم- وإنما من حيث إنني قرنت الدعوى مع الدليل فقلت هناك في محمد بن سعيد:

"وهو من شيوخ البخاري في (الصحيح) ".

وهذا ما ذكروه صراحة في ترجمة محمد هذا، ولم يذكروا مثله في ترجمة محمد بن حميد الرازي، فلا أدري كيف تجاهل صاحبنا هذا كله، فأنكر علينا ما هو واقع فيه، ونحن بُرآء منه بفضل الله تبارك وتعالى.

ثم ما معنى قوله: "وكأن البخاري رحمه الله قال: "قال محمد" لهذه العلة.."؟ أليس يعني أن البخاري لم ينسب محمداً هذا -وهو ابن حميد الضعيف عنده- إلا تعمية لحاله وستراً عليه؟! أليس هذا أشبه ما يكون بنوع من أنواع التدليس وهو المعروف بتدليس الشيوخ؟! وهل يصح أن ينسب

ص: 4

ذلك لأمير المحدثين البخاري؟! قال الحافظ ابن كثير في "اختصار علوم الحديث"(ص 59) في تعريف التدليس المذكور:

"هو الإتيان باسم الشيخ أو كنيته على خلاف المشهور به تعمية لأمره، وتوعيراً للوقوف على حاله، ويختلف ذلك باختلاف المقاصد، فتارة يكره، كما إذا كان أصغر منه سناً،.. وتارة يحرم كما إذا كان غير ثقة فدلسه لئلا يعرف حاله...."!

فهل يليق بطالبٍ لهذا العِلْمِ أن يصدر منه مثل ذاك الكلام الذي يمس الإِمام البخاري ويرميه بالتدليس وتعميته أمر الراوي على الناس؟! أليس كان الأولى به إذا لم يكن لديه ما يرجح ما رجحناه أن يحسن ظنه بالبخاري ويحمل عدم نسبته لشيخه محمد على أنه الثقة، وليس المتروك عنده؟! هذا كان أولى به. والله الهادي.

ذلك خلاصة ما كنت كتبت به إليه في ردي المرسل إليه، فماذا كان موقفه تلقاءه؟

لقد كتب إلي جواباً آخر بتاريخ (8/12/1403 هـ) قال فيه بعد السلام والمقدمة، والدعاء لي بالخير، ووصفه إياي بـ "المحدث الخطير"! قال:

"شيخنا الجليل: جوابكم على مكتوبي وصل في حينه.. وها أنا ذا أعطف على ما كتبتم جواباً هو من باب "رب ناقل فقه إلى من هو أفقه منه"، و"رب ناقل فقه غير فقيه"، ومنكم نستفيد، ومن علومكم ننهل".

فهل استفاد شيئاً؟ لا، فإنه أرسل مع الجواب بحثاً له في ثمان

ص: 5

صفحات! يدندن فيه حول عدم شرعية الزيادة المذكورة في رد السلام وليس في إلقائه، واستدل على ذلك بحديثين ضعيفين، أحدهما منكر، والآخر شاذ، وقد فصلت القول فيهما في الكتاب الآخر "الضعيفة"(5433) ، وبينت فيه تعصبه لرأيه، ومخالفته للعلماء في ترجيحه التعديل على التجريح المفسر، ومحاولته تضعيف رواية الجرح عن الإمام أحمد بقوله:

"ولم أجد هذا القول مستفيضاً عن أحمد"!

مع أن العلماء تلقوه بالقبول كالذهبي والهيثمي وغيرهما.

ثم أتبع الحديثين المشار إليهما بأثرين صحيحين عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، لا حجة له فيهما لأنهما في ابتداء السلام وليس في رده فهو لا يفرق بين الابتداء به ورده، ولذلك فهو يعلل الحديث بهما، ويرد بعض الآثار الواردة عن السلف على وقفه! وقد خرج بعضها في المصدر الآنف الذكر، منها عن ابن عمر أنه كان إذا سُلِّم عليه فرد زاد، قال سالم مولى ابن عمر:

"فأتيته فقلت: السلام عليكم. فقال: السلام عليكم ورحمة الله،..

ثم أتيته مرة أخرى فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وطيب صلواته". رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وسكت عنه الحافظ في "الفتح".

فإذا أردت أيها القارئ أن تعرف أنه لا يفرق بين الابتداء بالسلام ورده، وأنه يخلط بينهما، فاسمع قوله:

"وكأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأخذ بالزيادة على ما في إطلاق

ص: 6

الآية وعمل بها، فلذا كان الناس يحيونه بما مر، ثم وقف على علم في هذا فنهى من زاد، وقال:"حسبك إلى وبركاته". كما أخرجه ابن وهب".

قلت: وهذا كذب على ابن عمر وابن وهب أيضاً، فإن نص روايته كما ذكره هو ونقله عن "الفتوحات الربانية". (5/293) وهذا عن ابن حجر، دون أن يشير إلى ذلك!:

عن ابن عمر أن رجلاً سَلَّم عليه فزاد: "ومغفرته"، فانتهره ابن عمر وقاك: حسبك إلى "وبركاته".

فأنت ترى أن هذا الأثر في النهي عن الزيادة في إلقاء السلام، وأن زيادة ابن عمر في رده وفقاً للآية.

فالعجب من هذا الكاتب الفاضل، كيف يخلط هذا الخلط الفاحش، ويتجرأ على إبطال العمل بإطلاق الآية - على حد تعبيره، ومخالفة الآثار السلفية الموافقة لها، بله الحديث، ولا يتنبه للفرق بين ذلك كله، وبين الأثرين الآخرين اللذين ذكرهما عن ابن عمر وابن عباس كما تقدمت الإشارة إليهما، وهما في النهي عن الزيادة في الإلقاء كأثر ابن عمر هذا الذي سُقت آنفاً نصه، ويحرص كل الحرص على صدّ الناس العاملين بذلك، بناء على هذا الخلط في الفهم، والجهل بهذا العلم، والله المستعان.

ومما يؤكد ذلك أن الحافظ ابن حجر قال في "الفتح"(11/6 - الطبعة السلفية) بعد أن ساق الآثار من النوعين، وبعض الأحاديث الموافقة للحديث الذي نحن في صدد الدفاع عنه، والرد على من ضعفه. وقد عزاه للبيهقي دون البخاري! قال:

ص: 7

"ونقل ابن دقيق العيد عن أبي الوليد بن رشد. أنه يؤخذ من قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدئ".

ثم قال:

"وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت قوي ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على (بركاته) ".

وهذه شهادة هامة من أمير المؤمنين في الحديث ترد على الكاتب المومى إليه من الناحيتين الحديثية والفقهية، وتطابق تماماً ما ذهبنا إليه حديثياً وفقهياً، فطوبى لإِخواننا الذين يعملون بهذه السنة وغيرها؛ وبخاصة الذين بشرنا بهم الكاتب في خطابه الأول إليَّ، مريداً منهم تركها! فـ {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ} ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ذلك، ثم خطرت في بالي خاطرة، استكمالاً لما كنت رجحته فيما رددت به على الأخ الفاضل أن شيخ البخاري في الحديث الذي ضعفه ليس هو محمد بن حميد الرازي الضعيف، وإنما هو محمد بن سعيد الأصبهاني الثقة الذي اعتمده البخاري في "صحيحه"، فكلفت أحد أصهاري أن يتتبع لي من "التاريخ الكبير" للبخاري أسماء (المحمدين) من شيوخه الذين روى عنهم فيه مباشرة أو تعليقاً، ففعل جزاه الله خيراً، فانكشف لي ما يأتي:

أنه حين يروي لمحمد بن حميد الرازي، فهو يبينه بأحد وجهين:

الأول: أن يسميه منسوباً لأبيه: (محمد بن حميد) كما رأيته في مواضع عديدة، وهذه أرقامها:

ص: 8

(2/2/49 و74 و299 و3/2/16 و274 و4/1/73 و131)، ومن المفيد أن أقول: إنه قد صرح بالتحديث عنه في أكثر هذه المواضع، وهذا مما لم يذكر في ترجمته ولا في ترجمة الرازي في "تهذيب الكمال" للحافظ المزي ولا فروعه، وكأن ذلك لضعفه، أو لعدم رواية البخاري عنه في كتبه الأخرى التي ترجموا لرواتها، كـ "الأدب المفرد" وغيره.

الثاني: أن يقتصر على نسبته لأبيه دون أن يسميه فيقول: (قال ابن حميد)، وهذه أرقامها:

(1/2/196 و324 و 2/2/218 و4/1/1/98-99) .

وقد رأيته أبهمه في موضعين اثنين فقط:

أحدهما: في (2/1/204) .

والآخر: في (3/2/119) .

لكن بالنسبة للموضع الأول، فقد بينه في مكان آخر (1/2/196) بأنه (ابن حميد) في نفس الحديث الذي رواه في الموضع الأول، فمن المحتمل أنه سقط بيانه من الناسخ هناك.

وأما الموضع الآخر، فيمكن أن يقال فيه الاحتمال المذكور قبل، وما سيذكر قريباً من اختلاف النسخ.

ثم وجدت فيه موضعاً ثالثاً، وقع فيه مبهماً (3/1/16) ، لكن ذكر المصحح في تعليقه عليه أنه وقع في نسخة "محمد بن حميد"، ولذلك ذكرته في الأول المتقدم.

والخلاصة: إن هذا التتبع والتحقيق كشف لي عن أن من عادة

ص: 9

البخاري في "التاريخ الكبير"، أنه إذا روى عن محمد بن حميد الرازي بينه ونسبه بوجه من الوجهين السابقين، وهو اللائق بمقامه في دينه وعلمه، وتنزُّهه عن التدليس، كما سبق بيانه، فلا ينتقض ذلك بما وقع في تلك المواضع القليلة، لما ذكرته آنفاً.

وبذلك نتأكد من صواب ما كنت رجحته في ردي المشار إليه: إن الحديث من رواية البخاري عن محمد بن سعيد الرازي الثقة، وليس من روايته عن محمد بن حميد الرازي كما جزم به الفاضل المردود عليه دون حجة أو برهان، لأنه لو كان من حديثه لبينه البخاري كما فعل بغيره من

الأحاديث المشار إليها بأرقامها المتقدمة، وبذلك أيضا أثبتنا أن البخاري ليس من عادته أن يستر حال محمد بن حميد الرازي بعدم نسبته لأبيه لضعفه! كما أشعر به من لم يحسن الكتابة في هذا الموضوع الدقيق، والله تعالى ولي التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم طريق.

هذا، ولا يفوتني أن أشكر بعض إخواننا الذين نبهونا على بعض الأخطاء التي كانت في الطبعة السابقة، فصححناها قدر استطاعتنا، فجزاهم الله خيرا، وجعلنا وإياهم من الصالحين. الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وعلى ربهم يتوكلون.

عمان 6 شوال 1406 هـ

وكتب

محمد ناصر الدين الألباني

ص: 10