المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها - م ٤

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد، فهذا هو المجلد الرابع من كتابي "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" يحوي -كأمثاله المتقدمة- خمسمائة حديث من الأحاديث الثابتة، أقدمه اليوم إلى القراء الكرام بعد أن مضى نحو خمس سنوات من طبع المجلد الذي قبله في سوريا، ولم يتيسر لنا طبع هذا الذي بين أيديهم إلا في هذه الآونة وفي الأردن، وبصعوبات طبعية جمة أحاطت به لا يعلم قدرها إلا الله عز وجل، لا داعي لشرحها وبيانها، إذ ما كل ما يُعلم يُقال، فحسبي أن أحتسب الأجر في تحملها عند الله تعالى الذي هو وحده ملاذ المؤمن ومعاذه في كل ما يناله ويصيبه من سراء أو ضراء، فإن ذلك كله خير بالنسبة للمسلم الصابر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم المتقدم في هذه السلسلة رقم (147) :

"عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابه ما يُحب حمد الله وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن".

ص: 3

ولعل من الخير الذي قضاه الله لنا، في هذه البرهة المديدة لطبع الكتاب والصعوبات المشار إليها آنفاً أنه تبارك وتعالى أتاح لي فُرصةً للاستفادة من بعض الكتب الحديثية المصورة، أو التي تم طبعها حديثا، ووقفت عليها بعد أن نُضد هذا المجلد، ولم يقيض لي الاستفادة منها من قبل، الأمر الذي مكنني من أن أستمد منها جل مادة (الاستدراك) الذي يراه القارئ في آخر الكتاب، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "

فأمر المؤمن كله خير"، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

هذا وقد يكون من المفيد أن أشير هنا إلى أمر هام طالما سُئلت عنه كتابة ولفظاً، وهو قولهم:

ما هو السبب في مخالفتك في التصحيح والتضعيف بعض من تقدمك من الحفاظ المحدثين كالسيوطي والمناوي وغيرهما، فضلاً عن بعض المشتغلين بالحديث من المعاصرين؟

والجواب:

أ- أما بالنسبة للحفاظ المتقدمين، فالسبب يعود إلى أمرين أساسين: الأول: أن الإنسان من طبعه الخطأ والنسيان، لا فرق في ذلك بين المتقدمين والمتأخرين، فقد ينسى المتقدم ويسهو، فيستدرك عليه المتأخر، وقديماً قالوا: كم ترك الأول للآخر.

فالحكم حينئذ للدليل والبرهان، فمع أيهما كان اتُّبع.

والآخر: وهو الأهم؛ أن المتأخر العارف بهذا الفن قد يتوسع في تتبع الطرق من دواوين السنة لحديث ما، فيساعده ذلك على تقوية الحديث لمعرفته بشواهده ومتابعاته وهذا من منهجي في التخريج، كما أشرت إلى ذلك فيما يأتي

ص: 4

(ص 525) ، وعلى تضعيف إسناد ظاهره الصحة، لأن تتبعه للطرق كشف له عن علة قادحة فيه كالإرسال أو الانقطاع أو التدليس وغيرهما، ما كان ليظهر له ذلك لولا تتبعه للطرق، وهذا أمر مذكور في علم مصطلح الحديث، فراجعه إن شئت في "الباعث الحثيث" في "المعلل من الحديث"(ص 68-77) أو غيره، ونحن -بفضل الله- من العارفين بذلك نظراً وتطبيقاً منذ نحو نصف قرن من الزمان، وكتبي أكبر شاهد على ذلك وبخاصة "إرواء الغليل"، وهذه السلسلة والسلسلة الأخرى، والأمثلة متوفرة فيهما بكثرة، ولا بأس من الإشارة إلى بعضها مما سيأتي في هذا المجلد (رقم 1502 و1513 و1528 و1542 و1566) و (ص 102 و143 و158 و176 و190 و202 و204 و215 و242 و243 و291 و299 و302 و314 و324 و330 و352 و355 و367 و381 و403 و404 و411 و424 و449 و466 و486 و541 و564 و568 و572 و618 و641 و648) .

ب- وأما بالنسبة للمخالفين من المعاصرين، فليس لمخالفتهم عندي قيمة تُذكر، لأن جمهورهم لا يُحسن من هذا العلم إلا مجرد النقل، وتسويد الحواشي بتخريج الأحاديث وعزوها لبعض الكتب الحديثية المطبوعة، مستعينين على ذلك بالفهارس الموضوعة لها قديماً وحديثاً، الأمر الذي ليس فيه كبير فائدة، كما كنت شرحت ذلك في مقدمة كتابي "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام"(ص 4) ، بل إنني أرى أن مثل هذا التخريج لا يخلو من شيء من التضليل -غير مقصود طبعاً- لكثير من القراء الذين يستلزمون من مجرد عزو الحديث لإمام أن الحديث مثبت! ويزداد توهمهم لصحة الحديث إذا اقترن مع تخريجه القول بأن رجاله ثقات، أو رجاله رجال

ص: 5

الصحيح، وهو لا يعني الصحة عند العلماء، كما كنت حققته في مقدمة كتابي "صحيح الترغيب"(1/39-47) وغيرها، كما أنهم يتوهمون من قول المُخرِّج: في إسناده فلان وهو ضعيف. أن الحديث ضعيف! وقد يكون معهم بعض هؤلاء المُخرِّجين أنفسهم! لجهلهم بما تقرر في علم المصطلح: أنه لا يلزم من ضعف السند ضعف المتن لاحتمال أن يكون لهذا الضعيف متابع يتقوى به، أو يكون للحديث شاهد يعتضد به كما أشرت إلى ذلك في تخريج الحديث الآتي برقم (1901) صفحة (525) ، وهذه حقيقة يعلمها كل من مارس هذا العلم وكان حافظاً واسع الاطلاع على المتون والأسانيد والشواهد، ذا معرفة بالرواة وأحوالهم، مع الدأب والصبر على البحث والنقد النزيه، وتجد هذه الحقيقة جليةً في كتبي كلها، وبخاصة هذه السلسلة، وبالأخص هذا المجلد منها، ويتجلى ذلك للقارئ بصورة سريعة جلية برجوعه إلى فهرس (أ- المواضيع والفوائد) . على أنه قد يكون إعلال الحديث بالراوي الضعيف، إنما هو اعتماد على قولٍ مرجوحٍ في تضعيفه قاله بعض أئمة الجرح والتعديل، ويكون هناك من وثقه ويكون توثيقه هو الراجح، فالتصحيح والتضعيف عملية علمية دقيقة، تتطلب معرفة جيدة بعلم الحديث وأصوله من جهة، وتحرياً وإحاطة بالغة بطرق الحديث وأسانيدها من جهة أخرى، وهذا أمر لا يستطيعه ولا يُحسنه جماهير المشتغلين اليوم بتخريج الأحاديث، وإذا رأَيت لأحدهم تحقيقاً ونفساً طويلاً في ذلك فهو على الغالب مسروق منتحل! والمنصفون منهم يَعزون التحقيق لصاحبه، وقليل ما هم. وسيرى القراء الكرام في هذا الكتاب أمثلة كثيرة تدل على ما ذكرنا من التقصير في تتبع الطرق والتحقيق؛ الذي أودى ببعض المعاصرين إلى تضعيف الأحاديث الصحيحة، فانظر مثلا آخر الكلام على حديث (العترة)(رقم 1761) ففيه الإشارة إلى

ص: 6

من ضعفه من أفاضل الدكاترة المعاصرين وإلى من ضعف حديث: "تركت فيكم أمرين

كتاب الله وسنتي.." من إخواننا الطيبين -إن شاء الله- فإنك تجد في ذلك مثالاً صالحاً للعبرة، هذا مع كون الاثنين على شيء لا بأس به من المعرفة بهذا العلم، فماذا يُقال عن الذين يتكلمون في تصحيح الأحاديث وتضعيفها بغير علم، بل بالهوى أو بالتقليد الأعمى لمن لا تخصص له بهذا العلم الشريف بل ولا له أية معرفة به!! كالذين يضعفون أحاديث المهدي الصحيحة، وأحاديث عيسى عليه السلام وغيرها. انظر (ص 38) ، وبعضهم يُخرج الأحاديث بطريقة يوهم القراء أنه بقلمه، وهو لغيره، حرصاً منه على الشهرة، وأن يُقال فيه محدث! وهؤلاء فيهم كثرة، وأساليبهم اليوم مختلفة.

وبين يدي الآن المجلد الأول من كتاب "مختصر تفسير ابن كثير" اختصار وتحقيق محمد علي الصابوني، فيه العجب العجاب من السرقة باسم الاختصار والتحقيق، وليس فيه من التحقيق شيء، فإن الرجل ابتاع أسلوبا جديداً في ادعاء العلم وما ليس له منه، ذلك أن الحافظ ابن كثير في تخريجه لأحاديث "تفسيره" له طريقتان في غير ما رواه الشيخان:

الأولى: يسوق الحديث بإسناد مخرجه من المصنفين كأصحاب السنن والمسانيد والتفاسير.

والأخرى: يسوق الحديث ويُخرجه بعزوه إلى المصنفين دون أن يذكر الإسناد.

وهو في كل من الحالتين تارة يُصرح بمرتبة الحديث، وذلك من فوائد "تفسيره" وتارة يسكت، وهو في الحالة الأولى أكثر سكوتاً، ومن أمثلته

ص: 7

حديث قتل اليهود ثلاثة وأربعين نبياً في ساعة واحدة؛ وقد خرجته في السلسلة الأخرى برقم (5461) . ومنها حديث "الأبدال في أمتي ثلاثون، بهم ترزقون

" وإسناده ضعيف جداً، وهو مخرج هنالك برقم (936)، وحديث: اسم الله الأعظم في (آل عمران) : (قل اللهم مالك الملك

) وهو موضوع كما بينته هناك برقم (2772) إلى غير ذلك من الأمثلة وهي كثيرة جداً، لو تتبعَتْ لكان منها كتاب في مجلد كبير.

فجاء هذا الرجل الصابوني إلى هذه الأحاديث التي سكت عنها ابن كثير فاعتبرها صحيحة بإيراده إياها في "مختصره" وتصريحه في مقدمته (ص 9) بأنه اقتصر فيه على الأحاديث الصحيحة، وحذف الأحاديث الضعيفة! كما حذف الروايات الإسرائيلية، وهو في كل ذلك غير صادق كما تقدم وزدته بياناً في تخريج الحديث المشار إليه آنفا برقم (5461) ، وهو في ذلك قد سبق كل من كتب في هذا العلم الشريف جهلا وتضليلاً ودعوى فارغة، بحيث لا أعرف له شبيهاً إلا أن يكون المسمى عز الدين بليق صادقاً في قوله في مقدمة كتابه الذي سماه بغير حق "منهاج الصالحين":

"لا يروي الأحاديث المتناقضة، ويستبعد الأحاديث الضعيفة أو الموضُوعة".

وهو في قوله هذا أفاك كذاب، فقد درست كتابه هذا دراسة دقيقة لمناسبة عرضت، وتتبعت أحاديثه حديثاً حديثاً، فهالني كثرة ما فيه من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، حتى جاوز مجموعها الأربعمائة حديث، فتعجبت من جرأته وإقدامه على هذه الدعوى الطويلة العريضة، وهو من أجهل -إن لم أقل: أجهل- من رأيت ممن كتب في الحديث الشريف، ولا أعلم من يساويه

ص: 8

في ذلك إلا أن يكون الصابوني هذا، فإنه قلده حذو القذة بالقذة، فادعى كما سبق بأن مختصره ليس فيه إلا الأحاديث الصحيحة! إلا أنه يزيد عليه بإعجابه بنفسه وغروره بأنه أستاذ التفسير بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة كما يصف نفسه به في كتبه، وبأنه يضمر لأهل الحديث والعاملين به الذين يُسمَّوْن في بعض البلاد بـ (السلفيين) أشد البغض، ويحقد عليهم أسوأ الحقد، يدلك على ذلك ما سود به كتيبه الذي سماه بغير حق أيضاً "الهدي النبوي الصحيح في صلاة التراويح"، فإنه ما ألفه إلا للرد على السلفيين الذين أحيوا -فيما أحيوا- سنة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة، وليته كان رداً علمياً، إذن لقلنا: له رأيه واجتهاده -إن كان له رأي واجتهاد! - ولكنه جعله -والله أعلم- ذريعة لينال منهم، ويشفي بذلك غيظ نفسه، ويروي غليل صدره بسبهم وشتمهم والافتراء عليهم، فهو يلقبهم بـ "المتسلفين"(ص 35) ويكرر ذلك في غير ما موضع (ص 77 و138) وبـ "الجاهلين"(ص 75) وبـ "سوء الفهم وغباء الذهن"(ص 80) وبـ "الأدعياء المتطاولين على العلماء"، وبـ "تضليل السلف الصالح"(ص 89) ويكرر هذا في غير ما مكان واحد، وبـ "أدعياء العلم"(ص 130) ! إلى غير ذلك من الألفاظ التي تنبئ العاقل على ما انطوت عليه نفس هذا الرجل من الغل والحسد وسوء الظن بالمسلمين. فالله سبحانه وتعالى حسيبه، وليس من همي أن أرد عليه في كلماته هذه، فإن الأمر كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا} ولكني أريد أن أبين للناس أنه هو الدعي للعلم لكي لا يغتروا به وبكتاباته التي تطفح بالجهل المركب كما رأيت فيما تقدم صنيعه في "مختصره".

وأصرح من ذلك دلالة وأكشف لخزيه وعاره أنه زين الصفحة الأولى من

ص: 9

الورقة الأولى من "مختصره" وكذلك فعل بكتابه الآخر الذي سماه "صفوة التفاسير"؛ زينهما بأربعة أحاديث مخرجة تخريجاً مكذوباً مفضوحاً فيها كلها، ووضع تحتها اسم المنفق على طبع الكتابين المذكورين السيد حسن عباس شربتلي، وليس يهمني تحقيق أنها بقلم هذا أو الصابوني لأن الغاية تحذير القراء من الوقوع في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى العلماء، وتعريفهم بمن يدعي العلم ليحذروه،! والأحاديث الأربعة هي كما ساقها:

1-

"أشراف أمتي حملة القرآن". الترمذي

2-

"من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة

". البخاري

3-

"اقرؤا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لصاحبه". البخاري

4-

"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا

". متفق عليه

فعزوه هذه الأحاديث الأربعة إلى المذكورين كذب عليهم وهاك البيان:

أما الحديث الأول فلم يروه الترمذي مطلقاً، وإنما رواه الطبراني وغيره من المتساهلين في الرواية الذين لا يلتزمون الصحيح من الحديث. (انظر الجامع الصغير والكبير للسيوطي) .

والحديث الثاني والثالث فكذب على البخاري، فإنه لم يروهما، وإنما روى الثاني منهما الترمذي وصححه، وهو مخرج في التعليق على "الطحاوية"(ص 206 - الطبعة الرابعة) .

وأما الثالث فرواه مسلم دون البخاري كما في "الترغيب" و"الجامعين" وغيرهما.

وأما الرابع، فإنما رواه الإمام مالك في "الموطأ" معضلاً، لكن له شاهد عن ابن عباس، خرجته في "المشكاة"، وآخر بمعناه، سيأتي الكلام

ص: 10

عليه في هذا المجلد بإِذن الله في نهاية الحديث (1761) . ثم وقفت له على شاهد ثالث من حديث أنس في "طبقات الأصبهانيين" لأبي الشيخ (ص 279 - مخطوطة الظاهرية) ، فازداد الحديث به قوة على قوة، والحمد لله، وكان الأولى أن يذكر هناك، أو في (الاستدراك) ، ولكن هكذا قُدِّر، والخيرة فيما اختاره الله عز وجل.

هذا وقد يقول قائل: إن تَعْصيب الجناية في هذه الأحاديث الأربعة بالشيخ الصابوني لا وجه له، لأنها ليست بقلمه.

فأقول: الحقيقة أن ما تقدم من الإشارة إلى نمط من أخطائه في "مختصره" وإن كان يكفي لإدانته بالجناية على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضليله لقرائه فيها، فإنه يتحمل أيضا مسؤولية هذه الأحاديث الأربعة أيضا، لأنها إن لم تكن بقلمه وتزلف بنسبتها إلى المحسن الشربتلي، فحسبه أنه رضي بنشرها له في أول صفحة من كتابيه، وإن مما لا شك فيه أن أقل من ذلك يُعتبر إقرارا منه لها عند أهل العلم، فكيف وهو قد زين بها واجهة كتابيه؟!

فإن قيل: لعله لا يعلم ما ذكرت من حالها.

فأقول: نعم هذا ممكن، بل إن حسن الظن به وأنه لم يتقصد تزيين واجهة كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى العلماء يحملنا على ترجيح أنه لا يعلم ذلك، ولكن أليس هذا الاعتذار عنه أو منه، هو كما يُقال: عذر أقبح من ذنب! إذ كيف يجوز له أن يُزين بها كتابه وهو لا يعلم حالها؟؟ والله عز وجل يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . ولقد أحسن من قال لمثله:

ص: 11

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

إن هذا الرجل وأمثاله من المقلدين يقيمون أشد النكير على الشباب المؤمن، لا لشيء إلا لكونهم يتبعون السنة الصحيحة، ولا يلتزمون مذهباً معيناً يقلدونه -كما هو الواجب كتاباً وسنة واتباعاً للأئمة الأربعة وغيرهم- بدعوى أنهم ليسوا من أهل العلم، فيوجبون عليهم أن يقلدوا المذهب، وينسون أنفسهم حين يكتبون في علم الحديث وهم به أجهل من أولئك السُّنِّيِّين بفقههم التقليدي! دون أن يشعروا مطلقاً بأنهم يعيثون فساداً في الأصل الثاني من أصلي الشريعة، ألا وهي السنة المطهرة وأنهم يتعرضون بذلك للوقوع في وعيد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً أو جهلاً، فيصدق عليهم على الأقل قوله صلى الله عليه وسلم:"من حدث عني بحديث يُرى (أي عند أهل العلم بالحديث) أنه كذب فهو أحد الكذابَيْن". رواه مسلم وغيره. فإن الحديث الأول الذي عزاه للترمذي كذباً، هو نفسه أيضاً لا يصح كما قال إمام المحدثين البخاري، لأنه من رواية نهشل بن سعيد وهو كذاب كما قال الإمام ابن راهويه ومن قبله الطيالسي، وفيه راو آخر واهٍ، وقد خرجته في الكتاب الآخر:"الضعيفة"(2416) .

ذكرت آنفاً ما يقتضيه حسن الظن به أن تخريج تلك الأحاديث ليست له، ولكني وجدت الرجل -لإغراقه في جهله- لا يَدَعني أن أبقى عند ما ذكرتُ، فقد وجدته وقع له في صلب كتيبه المتقدم أكاذيب أخرى تشبه تلك مشابهة تامة، إلى أخطاء أخرى، لا بُد لي من بيانها نصحاً وتحذيراً.

1-

ذكر (ص 67) حديث "

وسننت لكم قيامه"، وقال:

ص: 12

"رواه أصحاب السنن" وهم أربعة معروفون، ولم يروه منهم إلا النسائي وابن ماجه!

2-

ذكر (ص 18) حديثاً في فضل رمضان، وقال:

"رواه النسائي"

وهو كذب عليه، فإنه لم يروه، وإنما رواه الطبراني كما في "الترغيب" و"المجمع" للهيثمي، وقال:

"فيه الفضل بن عيسى الرقاشي وهو ضعيف".

3-

وذكر (ص 50) حديث: "أرِحنا بها يا بلال"، فقال في الحاشية مخرجاً له:

"لسان العرب".

فلم يعرف هذا المسكين مصدراً لهذا الحديث غير هذا الكتاب المعروف بأنه ليس من كتب الحديث، وإنما هو في اللغة، مع أنه في "سنن أبي داود" ومخرج في كتب السنة مثل "المشكاة"(1253) وغيره!

4-

أورد (ص 56) أثر أُبيّ بن كعب في صلاته في رمضان عشرين ركعة، وأنه كان لا يقنت إلا في النصف الثاني

وقال نقلاً عن "المغني" لابن قدامة: "رواه أبو داود".

قلت وله علة ظاهرة وهي الانقطاع بين الحسن -وهو البصري- وعمر، وبمثله يحتج على السلفيين المتمسكين بالسنة في صلاة التراويح كما تقدم، ويرميهم بكل باقعة كما سلف.

5-

ذكر (ص 78) حديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وفي رواية

ص: 13

أخرى: "ما كان الله ليجمع أمتي على ضلالة. وقال:

"رواه أصحاب السنن".

وهذا كذب أيضاً عليهم جميعاً إلا الترمذي فإنه رواه باللفظ الأول، وأما الآخر فرواه ابن أبي عاصم في "السنة" وإسناده ضعيف كما بينته في "ظلال الجنة"(رقم 80) ، لكنه حسن بمجموع طرقه كما شرحته في "الصحيحة"(1331) وغيره.

6-

وفي (ص 96) ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" وقال:

"أخرجه البخاري".

قلت: وهو كذب عليه أيضاً فإنما رواه مسلم فقط في "الصحيح" عن ابن مسعود، نعم رواه البخاري في "الأدب المفرد" عن ابن عمرو، فإن كان يعنيه، فهذا من الأدلة على أن الصابوني لجهله لا يُفرق بين ما يرويه البخاري في "الصحيح" وما يرويه خارجه، وإلا لقيد العزو إليه بقوله:"في الأدب المفرد"! وهو مخرج في المجلد الأول من هذه "السلسلة الصحيحة" برقم (134) ، وسيأتي بإذن الله تعالى بزيادة في التخريج والطرق في هذا المجلد برقم (1626) .

7-

ذكر (ص 128) حديث: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، وقال في تخريجه:

"أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد في المسند (5/252) وقال: إسناده صحيح".

قلت: ولقد كذب على الإمام أحمد أيضاً -وإن كان الحديث في نفسه

ص: 14

ثابتاً- فإنه لم يقل ذلك، وقد أخرجه في موضع آخر من "المسند"(5/256) ، وهذا الكذب يعرفه كل مشتغل بهذا العلم الشريف، فإن الإمام أحمد رحمه الله ليس من عادته في مسنده التصحيح. ولقد خطر في البال أنه لم يحسن التعبير، أراد أن يقول: وقال الترمذي: "إسناده صحيح"، ولكن الترمذي لم يقل ذلك أيضاً، وإنما قال:"حسن صحيح"، والفرق بين العبارتين لا يخفى على أهل العلم.

ولهذا الرجل أخطاء كثيرة، وأكاذيب أخرى، وبخاصة على إخواننا السلفيين، لا مجال لذكرها أو الإشارة إليها في هذه المقدمة؛ فإنها حديثية محضة، ولعله يُتاح لنا ذلك في فرصة أخرى إن شاء الله.

وجملة القول: إنني أطلت الكلام في الشيخ الصابوني بصورة خاصة من بين المخالفين من المعاصرين، لأنه يصلح مثالاً لجمهورهم الذين لا يحسنون من هذا العلم حتى ولا مجرد النقل، وزاد عليهم في كثرة أوهامه وأكاذيبه، فلا يقام لأمثاله وزن في هذا العلم الشريف.

وهذا لا يمنعني من أن أعترف أن هناك بعض الرجال المتأخرين لهم فضلهم الظاهر في هذا العلم، نستفيد كثيراً من تحقيقاتهم وتعليقاتهم، كأمثال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله وغيره من الأفاضل. والله ولي التوفيق.

وفي الختام لا بد لي من أن أشكر كل من ساعدني في تبييض هذا المجلد وتقديمه إلى المطبعة وتصحيح تجاربه ووضع فهارسه، وبخاصة ابنتي أنيسة أم عبد الله جزاها الله خيراً، وبارك فيها وفي زوجها وذريتهما، فإنها ساعدتني كثيرا في تصحيح التجارب وكتابة بطاقات الفهارس، فوفرت عليَّ بذلك وقتاً كثيراً وجهداً عظيماً.

ص: 15

كما أشكر الدار السلفية في الكويت، والمكتبة الإسلامية في عمان على جهودهما في طبع هذا المجلد ونشره على الناس.

أثابني الله وإياهم جميعاً على خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديمه إلى المسلمين صافياً نقياً، ورزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وختم لنا بالوفاة على الإيمان والتوحيد الخالص؛ إنه سميع مجيب.

عمان 12 ربيع الآخر سنة 1404 هـ

وكتب

محمد ناصر الدين الألباني

ص: 16