الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقديم فضيلة الشيخ مصطفى بن العدوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذا بحث في المال الحرام، وصور اكتسابه، والحكم فيه، قام بإعداد هذا البحث أخي/ منصور النجار - وفقه الله لكل خير - وقد اعتنى فيه بسلامة المادة العلمية المستدل بها، فخرَّج الأحاديث والآثار، وحكم على كلٍ بما يستحق صحةً أو ضعفًا، وأورد طرفًا من أقوال الفقهاء والمفسرين في كتابه مع العزو إلى المصادر، ثم إنه - وفقه الله - قد أتى على كثير من صور اكتساب المال المعاصرة، وأعطاها الحكم اللائق بها، مع نقله لبعض الفتاوى المعاصرة لأهل العلم في هذا الصدد.
هذا؛ وأخي منصور - وفقه الله - ممن عهدناهم من ذوي الأخلاق الكريمة الحسنة، مع حبه لدينه وحرصه على العلم، فالله
أسأل أن يزيده توفيقًا وسدادًا وصلاحًا وإخلاصًا، وأن ينفع بعمله الإسلام والمسلمين.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد
والحمد لله رب العالمين
كتبه
أبو عبد الله مصطفى بن العدوي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، خالق السماوات والأرض وجاعل الظلمات والنور جلّ في علاه واحدٌ أحد، فردٌ صمد، لا محيد عنه ولا مفر، ذو العرش المجيد والبطش الشديد، الأمر أمره والملك ملكه يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فعالٌ لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، مكور الليل على النهار، تذكرةً لأولى القلوب والأبصار، وتبصرةً لذوي الألباب والاعتبار.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم النبيين، وخيرته من خلقه أجمعين صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطيبين الطاهرين وإخوانه من النبيين والمرسلين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذا بحث أعددته للمسلمين عامة ولطلاب العلم خاصة، تناولت فيه صور الكسب الحرام، وكيف للمسلم أن يتخلص من المال المحرم؟ وفق الكتاب وصحيح السنة، وضمنته جملة مسائل
كثر سؤال العامة عنها، منها على سبيل المثال؛ هل يجوز قبول الهدية ممن غالب ماله حرام؟ وهل يصح الحج من المال الحرام؟ وهل يجوز التخلص من المال الحرام في بناء المساجد؟ وكيف يتخلص التائب إلى الله من المال المكتسب من الحرام ولا يعلم له صاحب؟ وما الحكم في مال الكافر إذا أسلم؟ وماذا يجب على من سرق عينًا وأراد أن يتوب بعد زمن وقد هلكت العين وليس لها مثل؟ ومسائل كثيرة من هذا القبيل، وتوسعت كذلك في باب الربا وما يتعلق به من مسائل.
• وقد انتهجت في بحثي هذا ما يلي:
• جمع الوارد في الباب من كتاب ربنا سبحانه وتعالى ومن سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
• نقل فقه الصحابة والتابعين في كثيرٍ من المسائل.
• بيان درجة الأحاديث وكذا الآثار.
• نقل أقوال الأئمة من كتبهم المعتمدة وذلك في كثير من المسائل.
• مناقشة أقوال أئمة المذاهب في كثير من المسائل وإظهار الراجح معتمدًا في ذلك على ما يوافق الدليل.
• محاولة عرض المسألة في صورة مختصرة قبل ذكر الأدلة والخلاف الحاصل فيها، وأحيانا يكون هذا العرض في نهاية المسألة.
• تقيدت بالمسائل الشائعة في واقعنا المعاصر؛ غاضًا الطرف عن المعاملات التي اندثرت مما ذكره الفقهاء في كتبهم.
هذا، وأسأل الكريم المنان ذي الفضل والإحسان أن ينفع بهذا البحث كاتبه وناشره وقارئه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الأعلى، وأستحضر في هذا المقام قول أبي الطيب الوشاء: (وشريطتنا على قارئ كتابنا الإقصار عن طلب عيوب أخطائنا، والصفح عن ما يقف عليه من إغفالنا، والتجاوب عن ما ينتهي إليه من إهمالنا، وإن أداه التصفح إلى صواب نشره، أو إلى خطأ ستره؛ لأنه قد تقدمنا بالإقرار، ولابد للإنسان زلل وعثار، وليس كل الأدب عرفناه، ولا كل العلم دريناه، وعلينا في ذلك الاجتهاد وإلى الله الإرشاد، وقل ما نجا مؤلف لكتاب من راصد بمكيدة أو باحث عن خطيئة، وقد كان يقال من ألف كتابا فقد استشرف، وإذا أصاب فقد استهدف
(1)
، وإذا أخطأ فقد استقذف، وكان يقال لا يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يقل شعرًا أو يضع كتابًا
(2)
.
كما لا يسعنى فى تقدمتى هذه إلا أن أقدم جزيل الشكر للوالد الكريم والعالم الجليل شيخي أبي عبد الله مصطفى بن العدوي، فلقد
(1)
استهدف: صار هدفًا لغيره، فالسين والتاء هنا للصيرورة.
(2)
الموشي (ص 2).
بذل من وقته لمراجعة هذا الكتاب، أسأل الله عز وجل أن يجري الحق على لسانه، وأن يبارك في دعوته، وأن يرحم والديه، وأن ينبت ذريته نباتًا حسنًا.
كتبه
منصور بن عبد الحميد آل النجار
قبل غروب شمس يوم عاشوراء لعام 1435 من الهجرة
فتنة المال
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآب} [آل عمران].
اشتملت الآية الكريمة على بعض أنواع فتن الشهوات، ابتدأها ربنا سبحانه وتعالى بالنساء ثم ثنى بالبنين، ثم ثلث بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والمقصود بذلك إنما هو المال.
المال عماد رئيس من أعمدة التعامل بين الناس، فلا يكون هنالك بيعٌ ولا شراء إلا بالمال، ولا تكون هنالك تجارةٌ ولا مزارعة ولا مساقاة إلا بالمال، بل إن دولًا تشاجرت وتناحرت من أجل المال، والإنسان بطبعه بحاجةٍ إلى المال ليطعم ويشرب ويلبس ويسكن.
لا شك أن المال نعمةٌ من نعم الله رب العالمين أنعم بها على عباده، وهذه النعمة تستوجب شكرًا وعرفانًا، لكن للأسف قابلها البعض بالجحود والكفران.
الذي أعطى الغنيَّ مالًا هو الله والذي لم يعطِ الفقير هو الله فالمالك الحقيقي للمال وغيره هو الله رب العالمين، لكنه سبحانه ملَّكنا هذا المال ملكًا شرعيًّا للاختبار، فالنفس مجبولةٌ على حب المال، إلا أنه شتان بين من جمع المال من حِله وحرامه، وبين من اكتفى بحلاله، وفارِقٌ أيضًا بين من أنفق المال في كل سبيل، حرامًا كان أو حلالًا، وبين من استخدمه في الحلال الخالص.
إن المال بين يدي أقوامٍ نعمة وبين يدي آخرين يتحول إلى نقمة.
قال الله تعالى: {وَاْعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ» قِيلَ: وَمَا بَرَكَاتُ الأَرْضِ؟ قَالَ: «زَهْرَةُ الدُّنْيَا» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَلْ يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ، فَقَالَ:«أَيْنَ السَّائِلُ؟» قَالَ: أَنَا - قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَقَدْ حَمِدْنَاهُ حِينَ طَلَعَ ذَلِكَ- قَالَ: «لَا يَأْتِي الخَيْرُ إِلَّا بِالخَيْرِ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الخَضِرَةِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا، اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، وَإِنَّ هَذَا المَالَ حُلْوَةٌ، مَنْ أَخَذَهُ
بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ المَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ»
(1)
.
هذا مثالٌ نبويٌ شَبَّه فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا وبهجة منظرها وطيب نعيمها، وحلاوتها في النفوس - بنبات الربيع، وهو المرعى الذي ينبت في زمن الربيع، فإنه يُعجب الدواب التي ترعى فيه، فتُكثر الأكل منه بما يفوق احتياجها فتهلك.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ» فيتعجب الحاضرون، ويسأل سائل منهم ويقول: وما بركات الأرض؟ فيكون الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم: «زهرة الدنيا» .
فيزداد العجب عند الصحابة الحضور ويتوجه أحدهم بسؤال آخر: هل يأتي الخير بالشر؟ وهنا يطرأ طارئ مفاجئ وهو صَمْت النبي صلى الله عليه وسلم حتى علم الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم يعالج الوحي، ثم يعاود النبي صلى الله عليه وسلم الحديث ويقول:«أين السائل؟» فيجيب: أنا. فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا المال خضرة حلوة» ، أي ظاهر أمره هكذا.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (1465)، ومسلم (1052)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ثم يضرب له مثالًا ويقول: «إن كل ما أنبت الربيع يقتل حَبَطًا أو يُلم» .
والمعنى أن النبات الذي ينبت في زمن الربيع أو من الربيع الذي هو جدول الماء، تأكل منه الأنعام، وتُعجب به، فهو في أعينها خصرةٌ حلوة، إلا أن النتيجة تكون موتها أو مرضها؛ إن لم تمت الأنعام من كثرة ما أكلت فإنها تُصاب بمرض يسمى مرض الحبط، وهو ما يعتري الدواب من انتفاخ تموت بسببه، مع أن الدواب اشتهت الطعام وأقبلت عليه، إلا أنه كان سببًا في هلاكها.
ثم استثنى النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الماشية، صنفًا حُمدت عقباه، وهو صنف آكلة الخضرة، فقال عنها:«أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا، اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ» أي أن هناك من البقر من يأخذ من الطعام بقدر ما يكفيه، ثم بعد ذلك تستقبل البقرة الشمس لِتَحمي؛ فيسهل إخراج ما أُكل «فاجترت» أي أخرجت الطعام من بطنها مرة أخرى فمضغته ليسهل بلعه، «فثلطت وبالت» أي أخرجت فضلات غذائها، وهذا مثالٌ نافع.
ثم وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم نصيحته للأمة فقال: «وَإِنَّ هَذَا المَالَ حُلْوَةٌ، مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ المَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ»
هذا هو حال الطامع، يكون المال عليه وبالًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ»
(1)
.
إياك إياك يا عبد الله أن تعبد المال، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لُعِنَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَلُعِنَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ»
(2)
. حري بنا أن نربي أنفسنا ونهذبها، فالنفس مجبولةٌ منذ الصغر وحتى الهَرَم على حب المال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ المَالِ، وَطُولُ العُمُرِ»
(3)
.
احذر أيها الموحد أن يختلط مالك بالحرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (6436)، ومسلم (1048) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2886) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6421) من حديث أنس رضي الله عنه.
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟»
(1)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»
(2)
.
إن آكل الحرام ملعون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ»
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ»
(4)
.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي»
(5)
.
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2453)، ومسلم (1612) من حديث عائشة رضى الله عنها.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1597).
(5)
صحيح: أخرجه أبو داود (3580)، والترمذي (1336)، وابن ماجه (2313).
احذر عبد الله أن تنتهك حرمة مال امرئ مسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ»
(1)
.
إن آكل الحرام ناقص الإيمان فاقد للكمال الواجب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
(2)
.
واعلم يا من تعديت على مال المسلمين بغير حق أنك مؤديه يوم القيامة كما قال نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»
(3)
.
واعلم «أن كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعِرضه»
(4)
.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (2582) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
• أحذرك أيها الموفق منع حق الله في المال، فإن لله تعالى حقًّا أوجبه علينا في المال، والحقوق المالية على أربعة أقسام:
أولها: حق بسبب بلوغ النصاب، وهو حق الزكاة.
ثانيها: حق بسبب الكفارات، ككفارة اليمين.
ثالثها: حق بسبب الضمان، كمن ضمن مالا لإنسان.
رابعها: حق بسبب النسك، كدم النسك للمتمتع والقارن.
إن كثيرًا من أغنياء المسلمين يمنعون الزكاة مستحقيها، والزكاة حق للفقير، فمن منع الفقير حقه كمن اغتصبه ماله، ولقد حذر ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من هذا الصنف الذي لا يخرج زكاة ماله، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 34 يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ 35} [التوبة].
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ»
(1)
.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (1403) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - أَوْ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَوْ كَمَا حَلَفَ - مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ، أَوْ بَقَرٌ، أَوْ غَنَمٌ، لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا، إِلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ، أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ»
(1)
.
يا عبد الله؛ يا من أعطاك الله المال الكثير، كلما كثرت أموالك زاد مقدار زكاتك، وكلما كثرت زينها الشيطان لك، لا تقل: إن المال الواجب علي كثير، ما أقبحها والله من مقالة، هل قلت يومًا: أنا لا أستحق هذا المال الكثير؟!
أيها الغني بما أعطاه الله، إنك في اختبار؛ فهل لك أن تفوز؟!
أنفِق من مالك الذي ملكك الله إياه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ 254} [البقرة].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (1460)، ومسلم (987).
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
[المنافقون].
أخيرًا أيها المسلم؛ لتعلم أنك بين يدي الله مسئول عن مالك، مسئول عن مصدر كسبك، وكذلك مسئول عن جهات إنفاقك.
• 1•
صور من الكسب الحرام
السرقة
من الموبقات والمهلكات التي أوجب الله تعالى فيها الحد موبقة وكبيرة السرقة؛ سرقة أموال الناس سواء أكانت أموالًا عامة أم أموال خاصة، والسرقة تكون خُفية وخلسة فهي من الخيانة.
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على أن لا يسرقوا.
وعن عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه كان شهد بدرًا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا،
وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شيئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شيئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ»
(1)
.
•
السارق ملعون:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ»
(2)
.
•
السارقُ منفيٌّ عنه كمال الإيمان
(3)
:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
(4)
.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (18)، ومسلم (4558).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (4503).
(3)
المنفي الكمال الواجب، فالإيمان له كمالان: كمال واجب، وكمال مستحب.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (217).
•
السارق تُقطع يده:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة].
وعن عائشة ـ بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم المحتويات رضي الله عنه رضي الله عنها رضي الله عنها صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ المَرْأَةُ المَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!» ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، قَالَ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا»
(1)
.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قَطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَ سَارِقٍ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ
(2)
.
قال ابن كثير: وقد كان القطعُ معمولًا به في الجاهلية فقُرِّرَ في الإسلام وزيدت شروط أُخر
(3)
.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (6788)، ومسلم (4506).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6798)، واللفظ له، ومسلم (4502) والمجن: ما يُستَتَر به.
(3)
«تفسير ابن كثير» (3/ 107).
فحريٌّ بكل مسلم سلك طريق الاستقامة، أن يبتعد كل البعد عن هذه الجريمة النكراء جريمة السرقة؛ لِما تقدم ذكره من كتاب ربنا ومن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في شأنها، وما ذكر في هذا الباب قليلٌ، فلقد ورد في شأن هذه الكبيرة الكثير من الآيات البينات والأحاديث النبوية، ولكن عذرنا أن المقام هنا لا يستدعي الإطالة.
الرشوة
(1)
من جملة المال المحرم أَخْذ الرشوة، وهي ما يتعاطاه المسئول؛ ليقتطع حقًّا لإنسان ليس له، أو ليشفع في باطل، أو ليرفع عقوبةً عن رجلٍ قد استحقها، أو ليغض الطرفَ عن مخالفةٍ ارتُكبت.
وقد انتشرت الرشوة في هذا الزمان، فقلما تجد دائرة من الدوائر تخلو المصلحة فيها من الرشوة، إلا من رحم ربي وعصم، وإلى الله المشتكى، فأصبح من المتعارف بين عدد من المسئولين إذا أردت أن تنجز شيئًا فعليك بالمال، ولا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال.
(1)
قال ابن الأثير: الرِّشوة، والرُّشوة: الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء، فالراشي من يعطي الذي يُعِينه على الباطل والمرتشي: الآخذ، والرائش: الذي يسعى بينهما. «النهاية في غريب الأثر» (2/ 546).
وقال ابن حجر: الرشوة بضم الراء وكسرها ويجوز الفتح، وهي ما يؤخذ بغير عوض ويعاب أخذه. «فتح الباري» (5/ 221).
قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 188} [البقرة].
وقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].
قال الحسن: تلك الحكام، سمعوا كذبة وأكلوا رشوة
(1)
.
وقال قتادة: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} كان هذا وحكام اليهود بين أيديكم، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرشى
(2)
.
قال مجاهد: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} الرشوة في الحكم وهم اليهود
(3)
.
(1)
ضعيف: أخرجه الطبري في «تفسيره» (8/ 428)، قال: حدثنا المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو عقيل، قال: سمعت الحسن
…
به، والمثنى شيخ الطبري كثيرًا ما يحدث عنه الطبري فيقول: حدثنا المثنى وأحيانًا المثنى بن إبراهيم، ولم أقف له على ترجمة.
(2)
حسن: أخرجه الطبري (8/ 4228)، قال: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة.
(3)
في إسناده ضعف: أخرجه الطبري (8/ 4229)، قال: حدثني محمد بن عمرو أنه قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد؛ وعبد الله بن أبي نجيح أكثر عن مجاهد وكان يدلس عنه، كما وصفه بذلك النسائي (تعريف أهل التقديس (39)).
النبي صلى الله عليه وسلم يلعن الراشي والمرتشي:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي
(1)
.
(1)
صحيح: رواه غير واحد من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف واختلف عليه فرواه عنه أبو داود (3582)، والترمذي (337)، وابن ماجه (2313)، وأحمد (2/ 164، 190، 194، 112)، وابن الجارود (1586)، والحاكم (7066)، وابن حبان (5077)، والطيالسي (1390)، والبيهقي في «الكبرى» (10/ 132)، وفي «معرفة السنن» (14/ 243)، والطبراني في «الكبير» (1400)، (1435)، وفي «الأوسط» (158)، من طريق ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عنه عن عبد الله بن عمرو.
ورواه عنه الترمذي (1336)، وأحمد (2/ 387)، وابن حبان (5076)، والحاكم (7067)، وابن الجارود (585) من طريق عمرو بن أبي سلمة عنه عن أبي هريرة.
ورواه البزار (1037) من طريق الحسن بن عثمان بن عبد الرحمن بن عوف، ولكن بلفظ:«الراشي والمرتشي في النار» وسيأتي الحكم عليه.
ورواه أيضًا من غير طريق أبي سلمة ثوبان، كما عند البزار (4160) من طريق الليث عن أبي زرعة عن أبي إدريس عن ثوبان، والحاكم (7068) من نفس الطريق السابق ولكن بإسقاط أبي إدريس، وأحمد (5/ 269)، بإسقاط أبي إدريس أيضًا لكن بزيادة أبي الخطاب بين الليث وأبي زرعة، وطريق ثوبان فيه زيادة كلمة «والرائش» وسيأتي الحكم عليها، كذلك روى هذا الخبر من طريق أم سلمة كما عند الطبراني في «الكبير» (19387) من طريق قريبة بنت عبد الله بن وهب عن أبيها عن أم سلمة، وكذلك من طريق عائشة، كما عند البزار (287)، وأبي يعلى (4947) من طريق إسحاق بن يحيى بن طلحة عن أبي بكر بن حزم عن عمرة عن عائشة، قال الترمذي: وقد روى هذا الحديث عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح، قال: وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: حديث أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن شيء في هذا الباب وأصح.
جملة «الراشي والمرتشي في النار» لا تثبت، فقد جاءت عن طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عوف، وهذا إسناد ضعيف، فأبو سلمة لم يسمع من أبيه، كذلك جاءت هذه الجملة عند الطبراني من طريق علي بن بحر، وقد تفرد بها عن سائر الرواة.
زيادة كلمة «الرائش» لا تثبت، فقد رويت من طريق ثوبان الذي تقدم الإشارة إليه، والسند إلى ثوبان لا يثبت.
واشتد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على رجلٍ استعمله فقال: «وهذا أُهدي لي» كما في الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ عَامِلًا
(1)
، فَجَاءَهُ العَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَالَ لَهُ:«أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لَا؟» ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ العَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ:
(1)
أفادت الروايات الأخرى أن هذا العامل رجلٌ من الأزد يقال له: ابن اللتبية.
هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ: هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شيئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ، فَقَدْ بَلَّغْتُ» فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ
(1)
(2)
.
وقد ذكر البخاري رحمه الله هذا الحديث مبوبًا له بباب تحريم هدايا العمال.
وبوب له ابن خزيمة رحمه الله بقوله: باب التغليظ في قبول المصدق الهدية ممن يتولى السعاية عليهم.
وبوب له البيهقي بقوله: الهدية للوالي بسبب الولاية.
وعلى هذا لا يجوز أبدًا لأي مسلم أن يتخذ الهدايا من الناس بسبب عمله ووظيفته؛ فهذا سحت، وليكن حاضرًا بباله دومًا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟»
(3)
.
(1)
العفرة: بياض مشوب بالسمرة.
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2597، 6636، 7174)، ومسلم (4843).
(3)
سبق تخريجه مع الحكم عليه.
هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم يرد على كل متأول ومتفلسف تأويله وفلسفته، أقصد هؤلاء الذين يقولون: إنما هي هدايا بسبب المعرفة والصداقة.
هذا؛ وليتق الله من حملوا أمانة المسؤولية، فلا يدخلوا بطونهم الحرام ورحم الله السلف الصالح إذ كانوا يتورعون عن هدايا الأمراء خشيةً منهم أن تكون قد اختلطت بما يقدم إلى الأمراء من الهدايا التي هي في نظرهم سحت.
•
الفرق بين الهدية والرشوة:
ومما ينبغي أن يعلمه القاصي والداني في هذا الزمان الذي اختلطت فيه المسميات وسميت به الأشياء بغير اسمها
(1)
أن ثم فرقًا شاسعًا بين الهدية والرشوة:
• فالهدية: ما يعطيه الأخ لأخيه على سبيل المحبة وتأليف القلوب وتوطيد العلاقات من باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا»
(2)
.
(1)
فقد أصبحت الرشوة هدية، وسمي الربا تشغيل أموال، وسميت المسكرات بغير اسمها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(2)
حسن: أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (594) من طريق عمرو بن خالد قال: حدثنا ضمام بن إسماعيل قال: سمعت موسى بن وردان عن أبي هريرة.
وموسى بن وردان قال عنه أبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وروى عن ابن معين فيه قولان: الأول: صالح، والثاني: ليس بالقوي. وقال عنه ابن حجر: صدوق، ربما أخطأ. وقد سئل عنه ابن حنبل، فقال: لا أعلم إلا خيرًا. أما ضمام بن إسماعيل فقد قال عنه ابن حنبل: صالح الحديث. وقال يحيى بن معين: لا بأس به. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا وكان متعبدًا، أما شيخ البخاري، فقد وثقه الدارقطني وابن حبان والعجلي. وقال أبو حاتم: صدوق. انظر «تهذيب التهذيب» [(10/ 377)، (4/ 458)، (8/ 25)].
• وأما الرشوة: فهي إنما تكون لجلب مصلحة أو لنيل شفاعة، وهذا محرم في دين الله رب العالمين.
قال ابن القيم: والفرق بين الهدية والرشوة - وإن اشتبها في الصورة - القصد، فإن الراشي قصده بالرشوة التوصل إلى إبطال حق أو تحقيق باطل، فهذا الراشي الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رشا لدفع الظلم عن نفسه اختص المرتشي وحده باللعنة.
وأما المهدي فقَصْده استجلاب المودة والمعرفة والإحسان، فإن قصد المكافأة فهو معاوض وإن قصد الربح فهو مستكثر
(1)
.
ويرحم الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إذ قال: كانت الهدية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية واليوم رشوة.
(1)
«الروح» لابن القيم (241).
وفي هذا الذي ذكرت عن ابن عبد العزيز قصة حكاها فرات بن سلمان قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح، فبعث إلى بيته فلم يجدوا شيئًا يشترون له به، فركب وركبنا معه، فمر بِديْر فتلقاه غلمان للديرانيين معهم أطباق فيها تفاح، فوقف على طبق منها فتناول تفاحةً فشمها ثم أعادها إلى الطبق، ثم قال: ادخلوا ديركم، لا أعلمكم بعثتم إلى أحد من أصحابي بشيء.
قال: فحركت بغلتي فلحقته، فقلت يا أمير المؤمنين اشتهيت التفاح فلم يجدوه لك فأهديَ لك فرددته!! قال: لا حاجة لي فيه. فقلت: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟ قال: إنها لأولئك هدية، وهي للعمال بعدهم رشوة
(1)
.
•
الرشوة من دأب اليهود:
قال الله تعالى في شأنهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].
قال قتادة: كان هذا في حكام اليهود بين أيديكم كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرُّشى
(2)
.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه البخاري معلقًا (3/ 208) مختصرًا، وقد وصله محمد بن سعد رحمه الله في «الطبقات الكبرى» (7643) - طبعة دار صادر بيروت -، من طريق عبد الله بن جعفر، قال: أخبرنا أبو المليح عن فرات بن سلمان، وهذا السند صحيح رجاله ثقات.
(2)
تقدم تخريجه مع الحكم عليه ص (20).
ورُويَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر يخرص
(1)
الثمار، فجمعوا له حليًّا من حلي نسائهم فقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوزْ في القسمة!! فقال: يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليَّ، وما ذاك بحاملي أن أحيف عليكم، أما الذي عرضتم من الرشوة فإنه سحت، وإنا لا نأكلها!!
قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض
(2)
.
(1)
يخرص: يقدر الثمار وهي على الشجر.
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن حبان (11/ 607) من طريق حماد بن سلمة قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر فيما يحسب أبو سلمة عن نافع عن ابن عمر.
ومن نفس الطريق أخرجه البيهقي في «الكبرى» (11960، 18851) وفي «معرفة السنن والآثار» (3796)، وروي من غير هذا الطريق عن الزهري مرسلًا واختلف عليه:
فرواه مالك عنه عن سليمان بن يسار، كما في «الموطأ» (1388)، والبيهقي في «الكبرى» (7688)، وفي «السنن والآثار» (2466) من طريق الشافعي عن مالك به، ورواه معمر عنه مرسلًا. كما في المعجم الكبير للطبراني (13/ 178 - 426) من طريق موسى بن عقبة عنه.
هذا والإسناد الموصول صحيح لولا ما يعتريه من شك حماد بن سلمة.
•
أقسام الرشوة:
1 -
رشوة محرمة على الراشي والمرتشي، مثل أن يدفع مالًا للقاضي ليقضي له، أو يدفع مالًا ليتولى منصب القضاء.
2 -
رشوة محرمة على الآخذ دون المعطي، مثل أن يدفع أموالًا للحاكم أو السلطان ليرفع عنه ضرًّا أو يجلب له حقًّا هو له.
• أما القسم الأول: فلا خلاف بين أهل العلم على تحريمه وجعله من الكبائر.
قال السرخسي الحنفي: فأما من تعين لذلك كالقضاة والولاة، فعليه التحرز عن القبول بالهدية خصوصًا ممن كان لا يهدى إليه قبل ذلك؛ لأنه من جوالب القضاء، وهو نوع من الرشوة والسحت.
والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل ابن اللتبية على الصدقات فجاء بمال فقال: هذا لكم، وهذا مما أهدي إليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته:«ما بال قوم نستعملهم فيقدموا بمال، ويقولون هذا لكم، وهذا مما أهدي إليَّ فهل جلس أحدكم عند حمش أمه فينظر أيهدى إليه أم لا»
(1)
.
(1)
صحيح: وقد تقدم ص (21 - 22) ولكن دون لفظة «حمش أمه» ولعل المقصود بحمش أمه أي ساقاها.
واستعمل عمر رضي الله عنه أبا هريرة رضي الله عنه فقدم بمال فقال: من أين لك هذا؟ قال: تناتجت الخيول، وتلاحقت الهدايا. فقال: أي عدو الله هلا قعدت في بيتك فنظرت أيهدى إليك أم لا؟ وأخذ ذلك منه، وجعله في بيت المال
(1)
.
(1)
هذا الخبر صحيح: أخرجه القاسم بن سلام في كتابه «الأموال» (572)، وابن زنجويه (775) من طريق معاذ بن معاذ عن ابن عون عن ابن سيرين قال: لَمَّا قَدِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ لَهُ عُمَرُ، يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّ كِتَابِهِ، أَسَرَقْتَ مَالَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَسْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ وَلَا عَدُوِّ كِتَابِهِ، وَلَكِنِّي عَدُوُّ مَنْ عَادَاهُمَا، وَلَمْ أَسْرِقْ مَالَ اللَّهِ. قَالَ: فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ اجْتَمَعَتْ لَكَ عَشَرَةُ آلَافٍ؟ قَالَ: خَيْلِي تَنَاسَلَتْ وَعَطَائِي تَلَاحَقَ وَسِهَامِي تَلَاحَقَتْ، فَقَبَضَهَا مِنْهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمَّا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ اسْتَغْفَرْتُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
تنبيه: بعض أهل الأهواء يشككون في أبي هريرة بزعمهم أن عزل عمر له يثير الشك في أمانته، وهذا افتراء وبهتان، إنما أراد عمر رضي الله عنه بحكمته وحسن تصرفه وثقته التامة في أمانة أبي هريرة أن يقطع الشك الذي ربما يتسرب إلى نفوس ضعيفة بسبب نماء ماله، فسأله هذا السؤال، ثم إنه لما أخذ الأموال فهو لما يعتقده بأن العامل لا يجوز له أن يأخذ من الهدايا.
وليس أدل على أن عمر الفاروق كان واثقًا في أمانة أبي هريرة من أنه دعاه لولاية البحرين مرة أخرى كما عند أبي عبيد القاسم بن سلام (573) من طريق يعقوب بن إسحاق عن يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن سيرين، قال: قال أبو هريرة، ثم قال لي عمر بعد ذلك: ألا تعمل؟ قلت: لا. قال: قد عمل من هو خير منك يوسف. فقلت: يوسف نبي بن نبي بن نبي وأنا ابن أميمة، وأخشى ثلاثًا واثنتين. قال: فهلا قلت خمسًا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأحكم بغير حلم، وأخشى أن يُضرب ظهري، ويُشتم عرضي، ويُنتزع مالي.
فعرفنا أن قبول الهدية من الرشوة إذا كان بهذه الصفة، ومن جملة الأكل بالقضاء ومما يدخل به عليه التهمة، ويطمع فيه الناس، فليتحرز من ذلك إلا من ذي رحم، فقد كان التهادي بينهم قبل ذلك عادة، ولأنه من جوالب القرابة
(1)
.
قال المواق المالكي: لا ينبغي للقاضي أن يقبل الهدية من أحد ولا ممن كانت عادته بذلك قبل الولاية، ولا من قريب ولا من صديق ولا من غيرهم، وإن كافأ عليها بأضعافها، إلا مثل الوالد والولد وأشباههم من خاصة القرابة، التي تجمع من حرمة الخاصة ما هو أكثر من حرمة الهدية، قال ربيعة: إياك والهدية فإنها زريعة الرشوة
(2)
.
قال الماوردي - الشافعي-: وأما هدايا دار الإسلام فتنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدهما: أن يهدي إليه من يستعين به إما على حق يستوفيه، وإما على ظلم يدفعه عنه، وإما على باطل يعينه عليه، فهذه هي الرشوة المحرمة .... ثم قال: لأن الهدية إن كانت على حق يقوم به فهو من لوازم نظره، ولا يجوز لمن لزمه القيام بحق أن يستعجل عليه كما لا
يجوز أن يستعجل على صلاته وصيامه، وإن كان على باطل يعين عليه، كان الاستعجال أعظم تحريمًا وأغلظ مأثمًا
(1)
.
قال المرداوي - الحنبلي-: قال أحمد فيمن ولى شيئًا من أمر السلطان: لا أحل له أن يقبل شيئًا يروى «هدايا الأمراء غلول»
(2)
(1)
«الحاوي الكبير» (16/ 563).
(2)
لا يثبت: أخرجه البيهقي في «الكبرى» (10/ 138)، وأبو عوانة في «مستخرجه» (8/ 183)، وفي «مسنده» (7073)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (6136)، من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة عن أبي حميد الساعدي.
وكما هو واضح أنه نفس مخرج حديث ابن اللتبية (الزهري عن عروة عن أبي حميد) إلا أنه كما قال البزار رحمه الله: هذا الحديث رواه إسماعيل بن عياش واختصر وأخطأ فيه، وإنما هو عن الزهري عن عروة عن أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على الصدقة.
رُوي هذا الخبر أيضًا من طريق أبي هريرة، كما عند الطبراني في «معجمه الكبير» (19/ 478) من طريق أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي عن النضر بن شميل عن ابن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ابن عون إلا النضر، تفرد به أحمد بن معاوية.
قلت: أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي، قال عنه ابن عدي: حدث عن الثقات بالبواطيل وكان يسرق الحديث. ثم ذكر ابن عدي هذا الحديث «هدايا العمال» وقال: هذا الحديث بهذا الإسناد باطل.
أيضًا روى هذا الخبر من طريق جابر كما عند الطبراني في «الأوسط» (4969) من طريق قيس بن الربيع عن ليث عن عطاء عن جابر، وقال: لم يرو هذا الحديث عن عطاء إلا ليث تفرد به قيس.
قلت: قيس بن الربيع ضعَّفه يحيى بن معين، ولينه الإمام أحمد، وقال النسائي: ليس بثقة. وفي موضع آخر قال: متروك الحديث. وفي المقابل أثنى عليه آخرون، وقالوا: إن آفته بسبب ولده، كان يضع في حديثه ما ليس منه.
والحاكم خاصة لا أحبه له إلا ممن كان له به خلطة ووصلة ومكافأة قبل أن يلي
(1)
.
• وأما القسم الثاني من أقسام الرشوة: فيجوزه العلماء للضرورة، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
•
مسائل متعلقة بالرشوة:
•
هل يجوز لرجل أن يدفع رشوة لرفع الظلم أو لأخذ حقه أو للدفاع عن نفسه وماله؟
• جوز العلماء في هذه الحالة أن يدفع المسلم المال ليرفع الظلم عن نفسه أو ليحافظ على ماله.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 -
أن ابن مسعود لما أتى أرض الحبشة أَخَذ بشيء فتُعلق به فأعطى
(1)
«الفروع» (11/ 140).
دينارين حتى خُلي سبيله
(1)
.
2 -
عن الحسن أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطي الرجل من ماله ما يصون به عرضه
(2)
.
3 -
وعنه أيضًا أنه قال: لا بأس أن يصانع الرجل على نفسه وماله إذا خاف الظلم
(3)
.
4 -
عن جابر بن زيد: ما وجدنا في أيام زياد - أو ابن زياد - شيئًا هو أنفع من الرشا
(4)
أي أنهم كانوا يفعلون ذلك استدفاعًا للشر عنهم.
(1)
ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (22424)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 139) من طريق أبي العميس (عقبة بن عبد الله بن عقبة بن عبد الله بن مسعود) عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، وحديث القاسم عن ابن مسعود مرسل.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (22428) من طريق هشيم عن يونس عن الحسن.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (22427) من طريق هشيم عن يونس عنه، وورد هذا الكلام أيضًا عن عطاء، وجابر بن زيد والشعبي عند أبي شيبة أيضًا (22426).
(4)
صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (22423)، وعبد الرزاق (14672) في مصنفيهما، كذلك الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (14/ 336).
قال ابن عابدين - الحنفي -: وأما دفع الرشوة لدفع الظلم فجائز وليس يصبح أحل حرامًا ولا بسحت إلا على من أكله
(1)
.
قال برهان الدين مازه - الحنفي-: «
…
أن يهدي الرجل إلى رجلٍ مالًا لأن ذلك الرجل قد خوفه فيهدى إليه مالًا ليدفع الخوف عن نفسه، أو يهدي إلى السلطان مالًا ليدفع ظلمه عن نفسه أو ماله، هذا نوع لا يحل للآخذ الأخذ وإذا أخذ يدخل تحت الوعيد المذكور في هذا الباب؛ لأنه يأخذ المال للكف عن التخويف والظلم، والكف عن التخويف والظلم واجب بحكم الإسلام، ولا يحل أخذ المال بمقابلة الواجب.
• وهل يحل للمعطي الإعطاء؟ عامة المشايخ على أنه يحل؛ لأنه يجعل ماله وقاية لنفسه، أو يجعل بعض ماله وقاية للباقي، وكل ذلك جائز وموافق للشرع
(2)
.
قال الخرشي - المالكي-: وأما دفع المال لإبطال الظلم فهو جائز للدافع حرام على الآخذ
(3)
.
قال الماوردي - الشافعي-: فأما باذل الرشوة، فإن كانت
لاستخلاص حق أو لدفع ظلم، لم يحرم عليه بذلها كما لا يحرم افتداء الأسير بها
(1)
.
قال أبو الفرج بن قدامة المقدسي - الحنبلي-: وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزئه على واجبه فقال عطاء وجابر بن زيد والحسن: لا بأس أن يصانع عن نفسه
(2)
(3)
.
•
هل يجوز دفع الرشوة لمسئول في الدولة؛ لتوفير وظيفة مرموقة؟
لا يجوز قطعًا، وهذه المسألة لا تتنزل على من دفع رشوة لأخذ حقه، إنما الصورة التي يجوز فيها مثل هذا أن يقرر لك عمل بسبب تفوقك في الدراسة مثلًا، أو أن دُفعتك كلها صدر قرار بتعيينها ثم منعت منه، في هذه الحالة يحق لك أن تدفع المال مضطرًّا؛ لتحافظ على حقك، شريطة أن يكون دفع هذا المال هو الطريق الوحيد للحفاظ على الحق.
(1)
«الحاوي الكبير» (16/ 563).
(2)
سبق تخريج هذه الآثار مع الحكم عليها.
(3)
«الشرح الكبير» (11/ 403).
•
هل يجوز دفع مال أو ما يقابله لعسكري المرور بغية الإعفاء من المخالفة؟
إن كان السائق قد ارتكب مخالفة فلا يجوز له أن يدفع مالًا للشرطي؛ لأن هذه رشوة واضحة، فعسكري المرور يقوم بعمله المكلف به من قِبل الدولة، أما إن كان الشرطي متعنتًا، فهذا أيضًا لا تسارع بإعطاءه المال
من أول وهله؛ فهذا من قبيل التعاون على الإثم والعدوان، ويجب أن نتعاون جميعًا في إنكار هذا المنكر ومحاربة هذا الباطل، برفع أمره إلى قادته ومن هم فوقه، محتسبين الأجر عند الله، فإن نفذت كل السبل وعجزنا عن ردعه وكان أذاه واقعًا لا محالة، فحينئذٍ يجوز إعطاء المال له دفعًا للظلم، مع إنكارنا لذلك، والإثم عليه.
•
هل يجوز للطبيب أن يقبل هدايا شركات الأدوية؟
لا يجوز للطبيب أن يقبل هدايا شركات الأدوية؛ لأنه في منزلة العامل والشركات بمنزلة المستفيد من هذا العامل، بل يجب أن نسمي هذه الأشياء بمسماها الحقيقي، وهي أنها رشوة وليست هدية، ويقال لهذا الطبيب ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن اللتبية:«هل جلست في بيت أبيك أو أمك فنظرت هل يهدي إليك أم لا»
(1)
.
(1)
صحيح: تقدم ص (21 - 22).
فلو أغلق هذا الطبيب عيادته واعتزل مهنة الطب، هل كانت شركات الأدوية ستهدي إليه؟ ثم إنه لا يشك عاقل أن شركات الأدوية لا تفعل ذلك إلا لاستمالة قلوب الأطباء الذي يقع ضحية لهم المرضى، فيضطر الطبيب إلى كتابة الأدوية الكثيرة لهم، والتي ربما تزيد على حاجتهم مما يرهقهم جسديًّا وماديًّا.
•
رجل فقير مريض يريد أن يعالج على نفقة الدولة، ولا يستطيع الوصول إلى ذلك إلا إذا دفع رشوة للموظف المباشر المكلف بهذا العمل، فهل هذا يحل له؟
إن كانت حالته موافقة للشروط التي وضعتها الدولة لمن تساعدهم على نفقتها، فيصبح ذلك حقًّا له، فإن تعذرت عليه السبل ولم يجد إلا هذا الباب، فله أن يدفع مضطرًّا والإثم على الآخذ.
•
أحد الأطباء أبرم اتفاقًا مع معمل للتحاليل، حاصله أن يرسل إلى المعمل المرضى وله نسبة، فما حكم هذا؟
هذا من باب الرشوة المحرمة، لا شك في ذلك، وهو داخل تحت الوعيد المذكور «لَعْنَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي»
(1)
، والطبيب ومن اتفق معه من إدارة المعمل على ذلك شريكان في الإثم، ويجب على كل من تورط في هذا أن يبادر بالتوبة إلى الله وأن يتخلص
(1)
صحيح وقد تقدم ص (20).
من كل مال محرم حصله بهذا السبب.
•
رجل يريد أن يحج بيت الله الحرام عن طريق القرعة، فهل يجوز أن يقدم الرشوة لبعض المسئولين، ليضمنوا القائمة اسمه؟
لا يجوز، وهذا فعل محرم، ولا يستعان على طاعة الله بمعصيته؛ ولأن هذا ليس من حقه، فالحق لمن جاء اسمه عن طريق القرعة، وهو بهذا العمل سيرتكب جريمتين جريمة الرشوة، وجريمة الظلم إذ أنه سيحرم صاحب الحق من أخذ حقه.
•
ما حكم أجر مندوب الشركة الذي يقدم الهدايا للأطباء؟
مندوب الشركة الذي يقدم الهدايا للأطباء من أجل ترويج أدوية تلك الشركة دون غيرها يُعد رائشًا وهذا الوسيط بين الراشي والمرتشي
(1)
.
وعليه فراتبه محرم وينبغي أن يتخلص من هذا العمل ويتوب إلى الله.
(1)
من فتاوى اللجنة الدائمة (23/ 572).
بيع الخمور
انتشر بيع الخمور في كثير من عواصم وحواضر البلدان الإسلامية، بل أصبحت محلات الخمور مرخصة، مما أدى إلى جعل هذا الأمر مألوفًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فوجب علينا أن نُذكر الناس بما نَسوه أو تناسَوه من أن الخمر محرمة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ، وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ»
(1)
.
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: كُنْتُ سَاقِيَ القَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581).
خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا يُنَادِي:«أَلَا إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ» قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا. فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآيَةَ
(1)
.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
…
»
(2)
.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ»
(3)
.
لذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبَّد فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة. فانطلقَ مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابًا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمر كأسًا أو تقتل هذا
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2464)، ومسلم (1980).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (5575)، ومسلم (2003).
الغلام. قال: فاسقيني من هذه الخمر كأسًا. فسقته كأسًا قال: زيدوني. فلم يَرِم حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يُخرج أحدهما صَاحبه
(1)
.
أجمعت الأمة على تحريم بيع الخمر:
قال القرطبي: أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم
(2)
.
قال ابن عبد البر: وهذا إجماع من المسلمين كافةً عن كافة أنه لا يحل لمسلم بيع الخمر ولا التجارة في الخمر
(3)
.
قال النووي: فيه تحريم بيع الخمر وهو مجمع عليه
(4)
.
قال ابن حجر: «
…
وفيه تحريم بيع الخمر وقد نقل ابن المنذر وغيره في ذلك الإجماع»
(5)
.
(1)
صحيح موقوفًا: أخرجه ابن أبي شيبة (24543)، والنسائي في «الكبرى» (5176)، وابن حبان (5348)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 406)، وفي «السنن الكبرى» (8/ 287).
(2)
«تفسير القرطبي» (6/ 289).
(3)
«الاستذكار الجامع لمذاهب الفقهاء» (9/ 25).
(4)
«شرح النووي على مسلم» (11/ 3).
(5)
«فتح الباري» (4/ 415).
•
مسألة: هل يجوز التداوي بالخمر؟
سبق بيان حرمة الخمر وحرمة بيعها، ولكن هل يجوز للمسلم أن يتعاطى الخمر للتداوي أو لا؟
(1)
أقول وبالله التوفيق: اختلف العلماء في حكم التداوي بالخمر على قولين:
الأول: لا يجوز، وهذا قول الأحناف والمالكية، والمعتمد عند الشافعية والحنابلة.
الثاني: يجوز، وهذا وجه عند الحنفية وآخر عند الشافعية.
•
أدلة القائلين بعدم الجواز:
أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: «إنه ليس بدواء ولكنه داء»
(2)
.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا
(1)
هذه المسألة ليست متصلة بالكتاب، ولكن ذكرتها لكيلا يتعلل إنسان بأنه إنما يبيعها من أجل التداوي.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1984).
بِحَرَامٍ»
(1)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث
(2)
.
معنى قوله: «الدواء الخبيث» قيل: النجس أو الحرام أو السم أو ما تنفر منه الطباع أو كريه المذاق
(3)
.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حُرم عليكم
(4)
.
•
أدلة القائلين بالجواز:
قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
(1)
ضعيف: أخرجه أبو داود في «سننه» (3876)، والبيهقي في «الكبرى» (10/ 5)، والطبراني في «الكبير» (17/ 492) من طريق إسماعيل بن عياش عن ثعلبة بن مسلم عن أبي عمران الأنصاري عن أم الدرداء عن أبي الدرداء، وثعلبة بن مسلم مجهول.
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود (3870)، والترمذي (2045)، وابن ماجه (3459)، وأحمد (2/ 446)، والبيهقي في «الكبرى» (10/ 5).
(3)
انظر: «تحفة الأحوذي» (5/ 312)، و «شرح السنة» للبغوي (12/ 140).
(4)
صحيح موقوفًا: أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (23958)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (17097) من طريق الثوري عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود، وأخرجه البخاري معلقًا، باب شراب الحلواء والعسل.
[الأنعام: 119]
(1)
.
•
هذا الذي تقدم إجمالٌ وإليك نقل أقوال أهل العلم:
قال شمس الأئمة السرخسي الحنفي: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن إنسانًا أتاه وفي بطنه صفراء فقال: وُصف لي السكر.
فقال عبد الله: إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حُرم عليكم
(2)
، وبه نأخذ فنقول: كل شراب محرم فلا يباح شربه للتداوي حتى روي عن محمد أن رجلًا استأذنه في شرب الخمر للتداوي، قال: إن كان في بطنك صفراء، فعليك بماء السكر، وإن كان بك رطوبة فعليك بماء العسل فهو أنفع لك. ففي هذا إشارة أنه لا تتحقق الضرورة في الإصابة من الحرام، فإنه يوجد من جنسه ما يكون حلالًا والمقصود يحصل به، وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل في رجس
(1)
هذه الاستدلالات والله أعلم في غير موطنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث مسلم المتقدم قال: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء» .
(2)
صح موقوفًا: وقد تقدم.
شفاء»
(1)
، ولم يرد به نفي الشفاء أصلًا، فقد يشاهد ذلك، ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الشارع عليه الصلاة والسلام، ولكن المراد أنه لم يعين رجسًا للشفاء على وجه لا يوجد من الحلال ما يعمل عمله أو يكون أقوى منه
(2)
(3)
.
قال الدسوقي المالكي في «حاشيته» :
ولا يجوز التداوي بالخمر ولو تعين، وفي التداوي بغيره من النجاسات إذا تعين خلاف، وأجازوه للغصة كما قال الشارح لا لعطش لأنه يزيده
(4)
.
قال الخرشي المالكي:
اختلف العلماء في جواز التداوى بالنجس غير الخمر، وأما هو فلا يجوز التداوى به اتفاقًا ظاهرًا أو باطنًا
(5)
.
(1)
لم أقف عليه بهذا اللفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه قد ورد قريبًا من معناه في كلام ابن مسعود وقد تقدم.
(2)
«المبسوط» (24/ 17).
(3)
أشار ابن عابدين رحمه الله إلى أن هذه المسألة فيها عند الحنفية وجهان، وانظر حاشيته (20/ 297).
(4)
«حاشية الدسوقي» (1/ 179).
(5)
«شرح خليل» للخرشي (1/ 443).
قال النووي الشافعي:
وإن اضطر إلى شرب الخمر أو البول، شَرب البول لأن تحريم الخمر أغلظ ولهذا يتعلق به الحد فكان البول أولى، وإن اضطر إلى شرب الخمر وحدها ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يجوز أن يشرب لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ»
(1)
.
والثاني: يجوز؛ لأنه يدفع به الضرر عن نفسه، فصار كما لو أُكره على شربها.
الثالث: أنه إن اضطر إلى شربها للعطش لم يجز لأنها تزيد في الإلهاب والعطش، وإن اضطر إليها للتداوي جاز
(2)
.
قال ابن قدامة الحنبلي:
ولا يجوز التداوي بمحرم، ولا بشيء فيه محرم، مثل ألبان الأُتن، ولحم شيء من المحرمات، ولا شرب الخمر للتداوي به
(3)
.
(1)
لا يصح مرفوعًا، والصواب فيه الوقف على عبد الله بن مسعود وقد سبق ذكره.
(2)
«المجموع» (9/ 41).
(3)
«المغني» (21/ 432).
قال أبو الفرج بن قدامة:
ولا يجوز شربه (المسكر) للذة ولا للتداوي ولا للعطش ولا غيره إلا أن يضطر إليه لدفع لقمة غص بها فيجوز).
وقال: لا يجوز شربه للذة لما ذكرنا ولا للتداوي بها لذلك، فإن فعل فعليه الحد، وقال أبو حنيفة يباح شربها للتداوي. وللشافعي وجهان كالمذهبين وله وجه ثالث يباح للتداوي دون العطش؛ لأنها حال ضرورة فأبيح فيها كدفع الغصة وسائر ما يضطر إليه، ولنا ما روى الإمام أحمد بسنده عن طارق بن سويد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: «إنها ليس بدواء ولكنه داء»
(1)
. وبإسناد عن مخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد نبذت نبيذًا في جرة فخرج والنبيذ يهدر فقال: «ما هذا؟» فقالت: فلانة اشتكت بطنها فنقعت لها فدفعه برجله فكسره وقال: «إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء»
(2)
ولأنه محرم لعينه فلم يبح للتداوي كلحم الخنزير، وإن شربها للعطش وكانت ممزوجة بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضرورة كما تباح الميتة عند المخمصة
(3)
.
(1)
صحيح: وتقدم.
(2)
لا يصح مرفوعًا، تقدم.
(3)
«الشرح الكبير» لابن قدامة (10/ 329).
مما سبق يتبين لك أن جماهير أهل العلم على عدم جواز التداوي بالخمر خاصةً إذ إنها محرمة، ودلت الأدلة على كونها داء وليست دواء، وعلى هذا فلا يجوز بيعها ولا شراؤها بنية التداوي، هذا والله أعلى وأعلم.
•
إلى أصحاب محلات الخمور الذين يسمونها بغير اسمها:
بوب الإمام البخاري بابًا سماه باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، أورد فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم:«لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ»
(1)
.
•
شاربو الخمر يُضربون بالجريد والنعال:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ فِي الخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ
(2)
.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: كُنْتُ بِحِمْصَ فَقَالَ لِي بَعْضُ الْقَوْمِ: اقْرَأْ عَلَيْنَا. فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ سُورَةَ يُوسُفَ. قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَاللهِ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ. قَالَ: قُلْتُ: وَيْحَكَ، وَاللهِ لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي:«أَحْسَنْتَ» فَبَيْنَمَا أَنَا أُكَلِّمُهُ إِذْ وَجَدْتُ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ. قَالَ: فَقُلْتُ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ؟! لَا تَبْرَحُ
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (5590) معلقًا، ووصله أبو داود.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6773)، ومسلم (1706).
حَتَّى أَجْلِدَكَ!! قَالَ: فَجَلَدْتُهُ الْحَدَّ
(1)
.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ. فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ
(2)
.
ومعنى أخف الحدود أي أقل الحدود اجعلها ثمانين، وهذا لأن الحد هنا حد تعزير ففيه فسحة لاختيار الإمام.
•
يحرم الدواء بالخمر فلا يحل بيعها بحال:
عَنْ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ - أَوْ كَرِهَ - أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ:«إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ»
(3)
.
•
فتوى ابن عباس في بيع الخمر:
عَنْ يَحْيَى أَبِي عُمَرَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: سَأَلَ قَوْمٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا وَالتِّجَارَةِ فِيهَا، فَقَالَ: أَمُسْلِمُونَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ:
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (801).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1706).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1984).
فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ بَيْعُهَا، وَلَا شِرَاؤُهَا، وَلَا التِّجَارَةُ فِيهَا
(1)
.
•
ثمن الخمر حرام:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ»
(2)
.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنه: أِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟» قَالَ: لَا. فَسَارَّ إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«بِمَ سَارَرْتَهُ؟» ، فَقَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا. فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا» قَالَ: فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا
(3)
.
وأخيرًا: بائع الخمر إنما هو بائع للعصيان مجاهرٌ بذلك يُفسد الشبان، يتعاون مع الشيطان في غواية بني الإنسان، نسأل الله جل وعلا له الهداية والغفران، والله المستعان.
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (2004).
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود في «سننه» (3485).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1579).
بيعُ المخدِّرات والمُفتِّرات
من أبشع صور الاتجار المحرم الاتجار في المفترات والمسكرات كالأفيون والحشيش والبانجو والهيروين وغير ذلك مما اتُّخِذ سلاحًا للفتك بقوى وعقول أبناء هذه الأمة الذين هم سواعدها.
مما هو معلوم أن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئًا حرم ثمنه، وربنا سبحانه وتعالى حرم الخمر أشد التحريم؛ لذا استحق العقاب بائعها وشاربها، وكان بيعها وصنعها مُحَرَّمين.
والعلماء يُشركون مع الخمر في الحكم أنواع المفترات الأخرى لاشتراك هذه الأنواع مع الخمر في نفس العلة من الضرر والإسكار وتغطية العقول، فهذه الأنواع المخدرة تحدث ما تحدثه الخمر من النشوة والطرب.
قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والرخوة في الأعضاء، والخدَرَ في الأطراف، وهو مقدمة السكر ونهى عن شربه لئلا يكون ذريعة إلى السكر، وحكى العراقي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة
(1)
.
(1)
«عون المعبود» ، و «حاشية ابن القيم» (10/ 93).
•
الأدلة التي يُستدل بها في هذا الباب:
عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ»
(1)
.
عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ شَرَابًا يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ مِنَ الشَّعِيرِ، وَشَرَابٌ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ مِنَ الْعَسَلِ، فَقَالَ:«كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»
(2)
.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ»
(3)
.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، مَا أَسْكَرَ الفَرَقُ
(4)
مِنْهُ فَمِلْءُ الكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ»
(5)
، وفي رواية:
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (242)، ومسلم (2001).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1733).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (2003).
(4)
الفَرَق: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع، أو ستة عشر رطلًا، [آصع جمع صاع].
(5)
صحيح: أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (40/ 484)، وأبو داود في «سننه» (3687)، والترمذي (1866)، وابن حبان في «صحيحه» (5383)، والدارقطني في «سننه» (4658)، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (17349)، من طريق الربيع بن صبيح، ومهدي بن ميمون عن أبي عثمان الأنصاري عن القاسم بن محمد عن عائشة رضى الله عنها تحية طيبة وبعد
قال ابن المنذر عقب ذكره هذا الخبر:
وقد روينا هذا المعنى عن ابن عمر وابن عباس وعائشة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور
(1)
.
قال ابن عابدين الحنفي:
مطلب في البنج والأفيون والحشيشة (قوله لكن دون حرمة الخمر) - أي حرام دون حرمة الخمر - لأن حرمة الخمر قطعية يُكفَّر منكرها بخلاف هذا (قوله: لا يُحد بل يعزَّر) أي بما دون الحد
(2)
.
قال ابن نجيم الحنفي:
وممن صرح بحرمة الحشيش والبنج والأفيون الحدادي في «الجوهرة في آخر الأشربة» ، وصرح بتعزير آكله، ويشمل أيضًا من
غاب عقله بالبنج والأفيون
(1)
.
قال الحطاب المالكي - بعد ذكره لبعض أقوال علماء المذهب المقتضية بتجويز بيع البنج والأفيون:
مقتضى ما تقدم بيع هذه الأشياء من الأفيون والبنج، والجوزة ونحوها، ولم أر فيها أيضًا صريحًا، والظاهر أن يقال في ذلك كما قال ابن رشد في المِذْرِ، على القول بحرمة أكله إن كان فيه منفعة غير الأكل جاز بيعه ممن يصرفه في غير الأكل، ويؤمن أن يبيعه من يأكله، وكذلك يقال في هذه الأشياء وفي سائر المعاجين المغيبة للعقل، تجوز بيع ذلك لمن لا يستعمل منه القدر المغيب للعقل ويؤمن أن يبيعه من يستعمل ذلك، والله أعلم
(2)
.
قال الإمام النووي ـ الشافعي
ـ:
قال أصحابنا رحمهم الله: إذا لم يعلم كون الشراب مسكرًا، أو كون الحواء مزيلًا للعقل، لم يحرم تناوله، ولا قضاء عليه - يقصد الصلاة - كالإغماء، فإن علم أن جنسه مسكر، وظن أن ذلك القدر لا يسكر، وجب القضاء لتقصيره، وتعاطيه الحرام، وأما ما يزيل العقل من غير الأشربة والأدوية، كالبنج وهذه الحشيشة المعروفة فحكمه
حكم الخمر في التحريم
(1)
.
قال المرداوي - الحنبلي
-:
قال الزركشي: ومما يلحق بالبنج: الحشيشة الخبيثة، وأبو العباس يرى أن حكمها حكم المسكر حتى في إيجاب الحد. قال: وهو الصحيح إن أسكرت قليلها أو كثيرها وإلا حرمت وعزر فيها فقط في الأظهر، ولو طهرت. قال: وفرَّق أبو العباس بينها وبين البنج، بأنها تُشتهى وتُطلب فهي كالخمر بخلاف البنج، فالحكم عنده منوط باشتهاء النفس لها وطلبها
(2)
.
قال البهوتي - الحنبلي
-:
ولا يباح أكل الحشيشة المسكرة وتسمى حشيشة الفقراء؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»
(3)
. ولا يباح كل ما فيه مضرة من السموم وغيرها لقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
قال شيخ الإسلام بن تيمية:
وأما جماهير العلماء فعرفوا أن الذي أباحه هو الذي لا يسكر،
وهذا القول هو الصحيح في النص والقياس، وأما النص فللأحاديث الكثيرة فيه، وأما القياس فلأن جميع الأشربة المسكرة متساوية في كونها تسكر، والمفسدة الموجودة في هذا موجودة في هذا، والله تعالى لا يفرق بين المتماثلين بل التسوية بين هذا وهذا من العدل، والقياس الجلي، فتبين أن كل مسكر خمر حرام، والحشيشة المسكرة حرام، ومن استحل السكر منها فقد كفر، بل هي في أصح قولي العلماء نجسة كالخمر، فالخمر كالبول والحشيشة كالعذرة
(1)
.
•
شبهة والرد عليها:
يقول بعض الشباب المهتم بتجارة المخدرات: إن الله عز وجل لم يحرم في كتابه إلا الخمر فقط وهي التي تُتخذ من العنب.
يجاب عليه بما سبق من الأحاديث والتي فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر حرام»
(2)
، ثم إن الخمر تطلق على كل ما خامر العقل، ففي الحديث أن عمر رضي الله عنه قال على منبر النبي صلى الله عليه وسلم: أما بعدُ أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر
(1)
«الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (2/ 423).
(2)
صحيح: وقد تقدم قريبًا.
العقل
(1)
، فانظر إلى قول عمر:(والخمر ما خامر العقل). قال الحافظ في «الفتح» : أي غطاه فلم يتركه على حال
(2)
.
وعن ابن عمر رضى الله عنه قال: نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذٍ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب
(3)
.
وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ الحِنْطَةِ خَمْرًا، وَمِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا، وَمِنَ التَّمْرِ خَمْرًا، وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْرًا، وَمِنَ العَسَلِ خَمْرًا»
(4)
هذا لفظه عند ابن ماجه، وعند أبي داود بلفظ:«إِنَّ الْخَمْرَ مِنَ الْعَصِيرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالذُّرَةِ، وَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ»
(5)
.
فلا ينبغي بعد هذه النصوص الواضحة في تحريم كل مسكر مُفتر وفي كون الخمر المقصود بها كل ما غطى العقلَ المراء في هذا الأمر، وعلى هذا فكل هذه الأنواع المخدرة محرمة شرعًا، وما حرم في شرعنا حُرم علينا ثمنه كما قررنا ذلك في أكثر من موضع في هذا البحث
(1)
أخرجه البخاري (4619)، ومسلم (3032).
(2)
«فتح الباري» (1/ 114).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (4616).
(4)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3379)، ولمصحح أن يصححه بشواهده، فلكل فقراته شواهد.
(5)
إسناده ضعيف: ويصحح لما له من شواهد، أخرجه أبو داود (3677).
بالأدلة.
فليتق الله جل وعلا من جعل التجارة في المخدرات وسيلةً للتكسب، فبئس هذا التكسب المحرم، نسأل الله جل وعلا أن يغنينا والمسلمين بالحلال الطيب.
أتأمن أيها السكران جهلًا
…
بأن تفجأك في السكر المنية
فتضحى عبرة للناس طرًّا
…
وتلقى الله من شر البرية
بيع أكياس الدم للمرضى وغيرهم
أقول مستعينًا بالله: لا يجوز بيع الدم؛ لأنه محرم نجس بالإجماع، ولأن ربنا سبحانه وتعالى إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه.
والدليل على هذه القاعدة:
ما ورد عن ابن عباس رضى الله عنه قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا عِنْدَ الرُّكْنِ. قَالَ: فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَضَحِكَ، فَقَالَ:«لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ - ثَلَاثًا - إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ»
(1)
.
كذلك ما ورد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ محمد صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ» ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
(1)
صحيح: أخرجه أبو داود (3488)، وأحمد (1/ 247)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 3، 353)، وفي «معرفة السنن والآثار» (8/ 178) من طريق خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس.
أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ:«لَا، هُوَ حَرَامٌ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:«قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»
(1)
.
•
الدليل على كون الدم محرم:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ 172 إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 172، 173].
وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3].
•
الدليل على نجاسة الدم:
[الأنعام: 145].
قال الطبري: وكان بعض أهل المعرفة بلغات العرب من الكوفيين يقول: الرجس والنجس لغتان، ويحكى عن العرب أنها
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (4132) ومعنى كلمة «يستصبح»: أي يُستخدم في إضاءة المصباح، ومعنى «جملوه»: أذابوه.
تقول: ما كان رجسًا، ولقد رجس رجاسة، ونجس نجاسة: وكان بعض نحويِّ البصريين يقول: الرجس والرجز سواء وهما العذاب.
ثم قال: والصواب في ذلك من القول عندي ما قاله ابن عباس
(1)
ومن قال إن الرجس والنجس واحد
(2)
.
وقال في موطن آخر: وقد بينا معنى الرجس فيما مضى من كتابنا هذا وأنه النجس والنتن
(3)
.
قال القرطبي: «والدم» اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لا يؤكل ولا يُنتفع به
(4)
.
هذا ومما استدل به أهل العلم على عدم جواز بيع الدم حديث عون بن أبي جحيفة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وثمن الدم
(5)
.
(1)
يقصد قول ابن عباس أن معنى الرجس: الشيطان، وكان ذكر قول ابن عباس قبل كلامه هذا، إلا أن السند الذي ذكره عن ابن عباس فيه ضعف، وإليك هذا السند (المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس).
(2)
«تفسير الطبري» (9/ 552) ط دار هجر.
(3)
«تفسير الطبري» (9/ 635).
(4)
«تفسير القرطبي» (2/ 222) دار الكتب المصرية.
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (2086، 2238، 5945، 5962).
هذا ومن أهل العلم من يحمل هذا الحديث على كسب الحجام فقط، ومنهم من يجعل معناه عامًّا.
•
وقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على عدم جواز بيع الدم:
قال ابن حجر: والمراد تحريم بيع الدم كما حرم بيع الميتة والخنزير وهو حرام إجماعًا، أعني بيع الدم وأخذ ثمنه
(1)
.
قال ابن عبد البر: وجميع العلماء على تحريم بيع الدم والخمر
(2)
.
قال أبو محمد بن قدامة المقدسي: لا يجوز بيع الدم ولا السرجين
(3)
النجس؛ لأنه مجمعٌ على تحريمه ونجاسته، أشبه الميتة
(4)
.
قال القرطبي: اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لا يؤكل ولا يُنتفع به
(5)
.
جاء في حاشية ابن عابدين:
…
والآدمي مكرم شرعًا وإن كان
(1)
«فتح الباري» (4/ 427).
(2)
«التمهيد» (4/ 144).
(3)
أي: السماد.
(4)
«الكافي في فقه الإمام أحمد» (2/ 4).
(5)
«تفسير القرطبي» (2/ 222) وقد سبق نقله ولكن أعدته للفائدة.
كافرًا، فإيراد العقد عليه وابتذاله به وإلحاقه بالجمادات إذلال له. وهو غير جائز
(1)
.
وعلى هذا الذي قرأت من كلام الله عز وجل ومن كلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد هذا العرض لأقوال العلماء، لا يجوز لنا أن نتاجر في الدم.
وما يفعله إخواننا في بعض البلاد من تجميع أكياس الدم من المتطوعين ثم بعد ذلك يقومون ببيعها مستغلين بذلك اضطرار المريض لذلك - هو أشد حرمة؛ لما فيه من جمع بين بيع الدم الذي تقرر حرمته وبين خيانة الأمانة إذ أن الذين تبرعوا بدمائهم لم يوافقوا على بيعه.
وكما يحرم بيع الدم يحرم أيضًا شراؤه بالأجر؛ لأنه ما حرم بيعه حُرم شراؤه، ويستثنى من ذلك الضرورة، فقد يكون المريض في حالة حرجة ولا يجد من يتطوع وليس له سبيل إلا الشراء، فيشتري مكرهًا مضطرًّا ويكون الإثم في هذه الحالة على من باع لا على من اشترى.
قال النووي: وكما يحرم أخذ الأجرة في هذا يحرم إعطاؤها، وإنما يباح الإعطاء دون الأخذ في موضع ضرورة
(2)
.
وأهيب بأخي المتطوع بالدم - جزاه الله خيرًا -، احذر رحمني الله وإياك أن تأخذ أي تعويض أو مكافأة على هذا التبرع، أو أن تتبرع بنية أن تنتفع بالفحوصات والتحاليل الطبية التي يقدمها القائمون على بنوك الدم، فدمك ليس ملكًا لك حتى تأخذ عليه عوضًا، إنما أنت كلك ملك لله سبحانه وتعالى، فليكن عملك حسبة لوجه الله سبحانه وتعالى، أسأل الله جل وعلا أن لا يحرمني وإياك الأجر والثواب.
•
نص فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي:
حُكْم أخذ العوض عن الدم، وبعبارة أخرى بيع الدم، فقد رأى المجلس أنه لا يجوز؛ لأنه من المحرمات المنصوص عليها في القرآن الكريم مع الميتة ولحم الخنزير، فلا يجوز بيعه وأخذ عوض عنه، وقد صح في الحديث:«إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شيئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ»
(1)
، وصح أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الدم
(2)
.
ويستثنى من ذلك حالات الضرورة إليه للأغراض الطبية، ولا يوجد من يتبرع إلا بعوض، فإن الضرورات تبيح المحظورات بقدر ما تُرفع الضرورة، وعندئذٍ يحل للمشتري دفع العوض، ويكون الإثم على الآخذ، ولا مانع من إعطاء المال على سبيل الهبة أو المكافأة
(1)
سبق تخريجه والحكم عليه.
(2)
سبق تخريجه والحكم عليه.
تشجيعًا على القيام بهذا العمل الإنساني الخيري
(1)
لأنه يكون من باب التبرعات لا من باب المعاوضات
(2)
.
•
من فتاوى اللجنة الدائمة:
سؤال: بنك الدم يمنح هدايا للمتبرعين بالدم هي عبارة عن سجادة صلاة، وميدالية أو غتر - شماغ - أو غيرهما، وأحيانًا ثلاثمائة ريال. أرجو إيضاح رأي الشرع المطهر في هذه الهدايا؟
ج: لا يجوز بيع الدم؛ لما في صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة قال: رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى حَجَّامًا، فَأَمَرَ بِمَحَاجِمِهِ، فَكُسِرَتْ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ:«إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الكَلْبِ، وَكَسْبِ الأَمَةِ، وَلَعَنَ الوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَلَعَنَ المُصَوِّرَ»
(3)
.
(1)
أما ما يقوم به الإخوة جزاهم الله خيرًا في البنوك التي تعنى بجمع الدم كذلك الجمعيات الخيرية من إعطاء المتبرع ما يتقوى به بعد عملية سحب الدم من العصائر وغير ذلك، فهذا لا بأس به، وهو ليس من المعاوضة إنما هو من باب التعاون على الخير.
(2)
فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة من (13 - 20 رجب 1409 هـ، الموافق 19 - 26/ 2/ 1989 م).
(3)
سبق تخريجه والحكم عليه.
قال الحافظ في «الفتح» : المراد تحريم بيع الدم كما حرم بيع الميتة والخنزير وهو حرام إجماعًا، أعني بيع الدم وأخذ ثمنه. اهـ
(1)
.
وبالله التوفيق وصلِّ الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلِّم
(2)
.
(1)
تقدم عزوه إلى مصدره.
(2)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (13/ 72).
الجوائز التجارية واليانصيب وكل ما هو داخل في الميسر (القمار)
من السلوكيات المحرمة المنتشرة الآن طلب الحصول على المال بوسيلة تعتمد على المصادفة وما يسمونه بالحظ، وهي محاولة أخذ مال من إنسان يخاطر به، لا يدري هل يحصل له عوضه أم لا؟.
لجأ التجار إلى هذه السلوكيات الخاطئة ترويجًا لبضائعهم، فتجد التاجر من هؤلاء مثلًا يعلن عن جائزة كبيرة لمن يشتري سلعته، يحصل عليها من خلال كوبون يجده ويدخل به السحب، أو لا يجده، وهو إما فائز بالجائزة، وإما غير فائز بها، فالمشتري يشتري السلعة، وربما لا تكون مفضلة عنده، يدفع فيها المال، وينتظر هل يكسب أم لا؟، وهذا يسمى قمارًا أو ياناصيب، فالمشتري للسلعة يُقدم عليها مخاطرًا بثمنها فهو لا يدري أيكسب أم يضيع عليه ثمن السلعة، وغالبًا ما تجد هؤلاء التجار يرفعون أثمان السلع لتوفير ثمن الجوائز من مجموع المشتركين ثم بعد ذلك لا يربح إلا فرد أو اثنين ويُحرم الآخرون وكلهم شارك.
هنا المشتري يبذل ماله، بل يحاول مرة واثنان وأكثر رجاء تحصيل مجهول لا يدري أيتحصل عليه أم لا، ومما هو معلوم أن كل عقد معلق على خطر الحدوث من عدمه فهو غير جائزٍ شرعًا.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
قال مجاهد: الميسر: القمار كله
(1)
.
عن طاوس - قال في القمار-: إنه من الميسر
(2)
.
عن ابن عمر قال: الميسر: القمار
(3)
.
عن حماد بن نجيح، قال: رأيت ابن سيرين مرَّ على غلمان يوم العيد في المربد وهم يتقامرون بالجوز، فقال: يا غلمان لا تقامروا فإن القمار من الميسر
(4)
.
(1)
إسناده صحيح: انظر: «جامع معمر بن راشد» (19728)، و «تفسير مجاهد» (1/ 232)، و «تفسير عبد الرزاق» (256).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (26169).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (1260)، «جامع ابن وهب» (252).
(4)
صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (26170).
قال ابن وهب: سألت مالكًا عن الميسر، ما هو؟ قال: كل ما قومر عليه فهو حرام
(1)
.
قال يحيى بن سلام: وإنما حُرم القمار وهو الميسر والخمر بعد غزوة الأحزاب
(2)
.
وعلى هذا الذي ذكر مع قلته مقارنة بالكثرة من أقوال السلف في هذا الباب، فالميسر هو القمار، والقمار: كل شيء يبنى على المقامرة ولا تُعرف نتيجته من جوائز ومسابقات وغيرها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَاللَّاتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ»
(3)
.
• من أقوال العلماء المعاصرين:
قال الشيخ ابن جبرين رحمه الله:
ومما يجب التنبيه عليه ما انتشر في هذه الأزمنة من وجود المسابقات في بعض المحلات التجارية، فتأخذ رقمًا يتم السحب عليه، ثم توزع الجوائز على أصحاب الأرقام الفائزة، وبعض
المحلات التجارية أو المصانع تضع بداخل سلعتها حروفًا لأسماء، أو أرقامًا معينة أو أجزاء من صورة ما، ثم يقولون: مَنْ جمع هذه الحروف وتكونت لديه كلمة كذا فإنه يربح، ثم بعد ذلك يحدد الفائز الأول والثاني، وهكذا، علمًا بأن المشتري لا يعلم ما بداخل السلعة، فيلزم فتحها حتى يعلم الحرف أو الرقم الذي بداخله، وهكذا يظل يشتري حتى تتكون لديه جميع الحروف والأرقام، وربما لا تجتمع لديه فيكون خاسرًا، وربما يشتري أكثر من قيمة الجائزة، وهذا كله حرام، وسحت، ومن الميسر المحرم
(1)
.
•
فتوى العلامة ابن باز رحمه الله بتاريخ 15/ 7/ 1402 هـ:
قد لوحظ قيام بعض المؤسسات والمحلات التجارية بنشر إعلانات في الصحف وغيرها عن تقديم جوائز لمن يشتري من بضائعهم المعروضة مما يغري الناس بالشراء من هذا المحل دون غيره، أو يشتري سلعًا ليس له فيها حاجة طمعًا في الحصول على إحدى هذه الجوائز.
وحيث إن هذا نوع من القمار المحرم شرعًا، والمؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، ولما فيه من الإغراء والتسبب في ترويج سلعته، وإكساد سلع الآخرين المماثلة ممن لم يقامر مثل مقامرته؛ لذلك
(1)
«فتاوى الشيخ ابن جبرين» (65/ 22).
أحببت تنبيه القراء على أن هذا العمل محرم، والجائزة التي تحصل من طريقه محرمة؛ لكونها من الميسر المحرم شرعًا وهو القمار
(1)
.
•
فتوى اللجنة الدائمة قرار هيئة كبار العلماء برقم (162) بتاريخ 26/ 2/ 1410 هـ:
حكم المسابقات التي تقيمها بعض الشركات وتعلن عنها في وسائل الإعلام لطلب الحصول على الأموال الكثيرة دون مقابل اعتمادًا على التغرير والخداع لعامة الناس، وقد رأى المجلس أن هذا من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن كل مشترك يدفع مبلغًا من المال مخاطرة، وهو لا يدري هل يحصل على مقابل أو لا، وأن هذا هو القمار، وأن جميع المسابقات التي من هذا النوع ميسر وهو محرم شرعًا، فعلى المسلمين الذين يدفعون قليلًا من المال للحصول على أكثر منه، وعلى هؤلاء الذين يلجأون إلى هذه الحيل المحرمة لترويج سلعهم وصحفهم وغيرها عليهم التوبة إلى الله تعالى والتزام الطريق المشروع للكسب وطلب الرزق
(2)
.
(1)
مجلة البحوث الإسلامية الجزء (62/ 109).
(2)
مجلة البحوث الإسلامية جزء (62/ 109).
•
اليانصيب:
يلحق اليانصيب أيضًا بالميسر، فاليانصيب من صور القمار، فكل معاملة دائرة بين المكسب والخسران لا يدري فيها المتعامل أكان كاسبًا أم خاسرًا فهو يدفع ماله مخاطرة فهي محرمة.
بيع الخنازير
ابتلينا في هذا الزمان بأقوامٍ جعلوا الخنازير سلعة تباع وتشترى، فتجد مَتَاجِر ومعالف صُنعت خصيصًا لأجل الخنازير، مع توفر العلم لدى عوام المسلمين بأن الخنازيرمحرمة
(1)
، لا يجوز بيعها ولا شراؤها، إلا أنها شهوة
(1)
الخنازير نجسة؛ هذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، إذ أن أهل العلم لهم في المسألة قولان: قول بالنجاسة وقول بالطهارة، والذين قالوا بالنجاسة هم الحنفية، وبعض المالكية والشافعية والحنابلة ونقل القول بالطهارة عن المالكية أيضًا، ولكلٍّ دليله:
استدل القائلون بالنجاسة بقوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145].
وبحديث أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّا نُجَاوِرُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمُ الْخِنْزِيرَ وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمُ الْخَمْرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا» [أبو داود: 3839].
واستدل القائلون بالطهارة بأن الخنزير كائن حي، والحياة علة الطهارة، فكل حي طاهر.
والراجح القول القائل بنجاسته إذ إنه هو الموافق للدليل والله أعلم.
المال قد تحكمت في العقول؛ لذا أردت أن أبين هنا
حكم بيع الخنزير،
والله المستعان وعليه التكلان.
• حكم بيع الخنزير:
بيع الخنزير محرم بالإجماع، قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن بيع الخنزير وشراءه حرام، وأجمعوا على قتل كل ما يستضر به ويؤذي مما لا يبلغ أذى الخنزير كالفواسق التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم المحرمَ بقتلها، فالخنزير أولى بذلك لشدة أذاه، ألا ترى أن عيسى بن مريم عليه السلام يقتله عند نزوله؟
(1)
، فقتله واجب
(2)
.
قال ابن قدامة: ولا يجوز بيع الخنزير ولا الميتة ولا الدم، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به، وأجمعوا على تحريم الميتة والخمر وعلى أن بيع الخنزير وشراءه حرام
(3)
.
(1)
يقصد حديث: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» . صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (2222)، ومسلم (242).
(2)
«شرح البخاري» لابن بطال (6/ 344) مكتبة الرشد.
(3)
«المغني» (8/ 473).
قال القرطبي: لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر
(1)
فإنه يجوز الخرازة به
(2)
.
فائدة: جمهور أهل العلم يحرمون بيع الخنزير لأجل كونه نجسًا عندهم بينما يحرم المالكية بيعه لكونه محرمًا بنص القرآن الكريم.
(1)
قلت: وشعر الخنزير فيه خلاف بين أهل العلم هل يجوز الانتفاع به أم لا؟ والبعد عن كل ما يتعلق بالخنزير أَوْلى.
(2)
«تفسير القرطبي» (2/ 223).
الاتجار في الكلاب
إن مما يوجب الأسف والأسى ما نراه من انهدار أخلاقي في وسط الشباب!
إننا نرى في وسط الشباب أخلاقيات هابطة وعادات سافهة وانشغال بأمور تافهة.
من هذه الأشياء مصاحبة الكلاب فتجد الشاب من الشباب يصاحب كلبًا يمشي معه، يهتم بمأكله ومشربه وغسله، بل يمازحه ويلاعبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، حتى إن الكلاب أصبحت تباع وتشترى بل ويزداد ثمنها يومًا تلو الآخر، وكأن هؤلاء الشباب لا علم لهم بأن هذه الكلاب نجسة
(1)
لا يجوز بيعها واقتناؤها.
(1)
القول بنجاسة الكلاب هو القول الراجح من أقوال أهل العلم، فالعلماء في هذه المسألة مختلفون على قولين:
الأول: القول بطهارة الكلاب وهو قول المالكية، ورواية عند بعض الحنفية.
الثاني: القول بنجاسة الكلاب وهو قول بعض الحنفية وقول الشافعية والحنابلة وسحنون من المالكية، ولكل أدلته:
ولقد استدل القائلون بالطهارة:
1 -
بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
قالوا: إنها إن لم تكن طاهرة لما جاز الأكل مما أمسكت في الصيد.
2 -
بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه: كَانَتِ الكِلَابُ تَبُولُ، وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي المَسْجِدِ، فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
2 -
بحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر وعمرو ابن العاص مرا بحوض فقال عمرو: يا صاحب الحوض، أتَردُ على حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا، [الموطأ: 62]، قالوا: والسباع من جملتها الكلاب.
ويجاب على هذه الأدلة التي استدلوا بها بما يلي:
أ- لا يسلم لهم استدلالهم بالآية إذ أن بعض الفقهاء يقولون بغسل الموضع الذي أمسكه الكلب، أضف إلى ذلك أن الكلب المعلم له أحكامُه الخاصة.
ب- حديث عبد الله بن عمر حمله العلماء على أنه كان قبل الأمر بقتل الكلاب (*) والأمر بغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب، وكان قبل الأمر بصيانة المساجد عن هذا.
ج- حديث: «يا صاحب الحوض» ضعيف مرسل وإن صح فإن لفظة «السباع» تطلق ويراد بها ما يفترس الحيوان ويأكله قهرًا كالأسد والنمر والذئب، ثم إن العلماء حملوا هذا الخبر على كون الحوض كبيرًا إن حركت منه ناحية. لم تتحرك به الناحية الأخرى.
هذا وقد استدل القائلون بالنجاسة بما يلي:
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» . فلفظة «طهور» تدل على حدوث نجاسة للإناء، أيضًا جاءت لفظة «فليرقه» في رواية أخرى، وهذا يُشعر بأن ما في الإناء تنجس.
أيضًا استدلوا بأخبار أخرى لم آت بها لعدم ثبوتها.
(*) الأمر بقتل الكلاب منسوخ.
لذا أردت أن أبين
حكم بيع الكلاب
بشيءٍ من التفصيل، وإن كانت الحاجة ماسة إلى ذكر حكم اقتنائها وكذلك القول بنجاستها، إلا أن الذي يتعلق ببحثنا هذا هو حكم بيعها فقط إذ أن البحث خاص بأحكام المال الحرام
(1)
.
• حكم بيع الكلاب:
اختلف العلماء في مسألة بيع الكلاب على قولين.
وهذا الاختلاف يرجع لأمرين:
الأول: اختلافهم في هل هي طاهرة أو نجسه
(2)
.
(1)
لعلي بإذن الله سبحانه وتعالى أفرد هذه الأحكام المتعلقة بالكلاب بالذكر في سلسلة «منكرات وقع فيها كثير من الناس» والتي طبع الجزء الأول منها «منكرات الأفراح» ونسأل الله العون والسداد.
(2)
بينت في الهامش قبل الماضي أن الراجح والذي عليه جمهور أهل العلم القول بنجاستها.
الثاني: وجود النهي عن اقتنائها
(1)
.
•
نقل أقوال أهل العلم إجمالًا:
الأول: لا يجوز بيع الكلب مطلقًا، وهو المشهور من قول المالكية وقول الشافعية والحنابلة.
الثاني: يجوز للمنفعة، وهو قول الحنفية وسحنون من المالكية والحنابلة.
•
أدلة القائلون بعدم جواز بيع الكلاب:
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ
(2)
.
عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ:«نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ وَثَمَنِ الدَّمِ، وَنَهَى عَنِ الوَاشِمَةِ وَالمَوْشُومَةِ، وَلَعَنَ آكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَلَعَنَ المُصَوِّرَ»
(3)
.
(1)
أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلَّا كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ» .
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2122)، ومسلم (1567).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1980).
عَنْ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ»
(1)
.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلَّا كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ»
(2)
.
•
أدلة القائلين بالجواز للصيد أو للحراسة:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد
(3)
.
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (4095).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2197)، ومسلم (1575).
(3)
ضعيف: أخرجه الترمذي في «سننه» (1328)، وقال: هذا حديث لا يصح من هذا الوجه وأبو المُهَزِّم اسمه يزيد بن سفيان، وتكلم فيه شعبة بن الحجاج وضعفه، وقد روى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا ولا يصح، وأخرجه النسائي (4221) من حديث جابر من طريق حجاج بن محمد عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر، وقال: وحديث حجاج عن حماد بن سلمة ليس هو بصحيح. وقد قال البيهقي في «السنن الصغرى» (1535): الحديث الذي روي في استثنائه كلب الصيد لا يصح وكأنه أراد من رواه حديث النهي عن اقتناءه، فشُبِّه عليه. وأخرج هذا الحديث أيضًا ابن عدي في «الكامل» (1/ 194) من طريق أحمد بن علي المدائني قال: حدثنا أحمد بن علي الكندي حدثنا علي بن معبد حدثنا محمد بن الحسن عن أبي حنيفة عن الهيثم يعني الصراف عن عكرمة عن ابن عباس، ثم قال: وهذه الأحاديث لأبي حنيفة لم يحدث بها إلا أحمد بن عبد الله هذا وهي بواطيل عن أبي حنيفة، ولا يُعرف أحمد بن عبد الله هذا إلا بهذه الأحاديث.
ويجاب عن هذا بأنه خبر ضعيف كما هو واضح في الحاشية.
عَنِ ابْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ:«مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟» ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ، وَقَالَ:«إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ»
(1)
.
ويجاب عن هذا الخبر بأن فيه فقط نسخ لحكم قتل كلاب الصيد، وليس فيه نسخ نهيه عن ثمن الكلاب.
حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ، نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ»
(2)
.
كلمة (ضاري) الضار صفة للرجل الصائد صاحب الكلاب الذي اعتاد الصيد، وسمي الكلب ضاريًا استعارة.
وفي رواية لمسلم: قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع. فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعًا
(3)
.
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (280).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (5480)، ومسلم (1574).
(3)
والمعنى أن أبا هريرة كان له زرع مشتغل به فهو يتقن حفظ كل ما ورد في أمره.
•
أقوال أهل العلم في المسألة:
قال شمس الأئمة السرخسي (الحنفي):
وعن إبراهيم رحمه الله قال: لا بأس بثمن كلب الصيد وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ثمن كلب الصيد
(1)
وبه نأخذ فنقول: بيع الكلب المعلم يجوز، وعلى قول الشافعي رحمه الله لا يجوز بيع الكلب أصلًا، معلمًا كان أو غير معلم؛ لما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وحُلوان الكاهن، ومهر البغي، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، فلو كانت مالًا متقومًا لما أمر بذلك، ولأن الكلب نجس العين بدليل نجاسة سؤره فلا يجوز بيعه كالخنزير، والدليل عليه أنه لو كان محل البيع لم يفترق بين المعلم منه وغير المعلم كالفهد والبازي، وحجتنا في ذلك ما رواه إبراهيم من الرخصة
(2)
وذلك بعد النهي والتحريم فيه يتبين تيسير انتساخ ما روي عن النهي، وهذا لأنهم كانوا أَلِفُوا اقتناء الكلاب، وكانت الكلاب فيهم تؤذي الضيفان والغرباء فَنُهوا عن اقتنائها فشق ذلك عليهم فأمروا بقتل
(1)
الرواية التي يقصدها ضعيفة لا تثبت، وتقدم ذكرها.
(2)
حجتهم ضعيفة إذ أن السند لا يثبت إلى إبراهيم بهذا، وقد روى هذا الأثر عن إبراهيم أخرجه ابن أبي شيبة (21312) من طريق وكيع عن سفيان عن مغيره عن إبراهيم، ومغيرة هو مغيرة بن مقسم الضبي، كان يدلس خاصة عن إبراهيم.
الكلاب، ونهوا عن بيعها تحقيقًا للزجر عن العادة المألوفة
(1)
، ثم رخص لهم بعد ذلك في ثمن منتفعًا به من الكلاب، وهو كلب الصيد والحرث والماشية، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكلب إلا كلب الصيد والحرث والماشية
(2)
، وروي أنه قضى في كلب الصيد بأربعين درهمًا وفي كلب الحرث بفرق من الطعام، وفي كلب الماشية بشاة منها
(3)
.
وعن عثمان رضي الله عنه أنه قضى على رجل أتلف كلبًا لامرأة بعشرين بعيرًا، والحديث له قصة معروفة
(4)
.
وإذا ثبت أنه مال متقوم وهو منتفع به شرعًا جاز بيعه كسائر الأموال، وبيان كونه منتفعًا به أنه يحل الانتفاع به في حالة الاختيار
(1)
هذا التعليل لا دليل عليه فيما أعلم والله أعلى وأعلم.
(2)
رُوي هذا الخبر من طريق أبي هريرة وجابر، ولا يثبت وقد تقدم.
(3)
هذا الخبر عن ابن عمرو ضعيف: أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 8)، والدارقطني في «سننه» (5/ 436) من طريق إسماعيل ابن جستاس عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وإسماعيل هذا تابعي مجهول، قال آدم بن موسى: سمعت البخاري يقول: إسماعيل بن جستاس في كلب الصيد أربعين درهمًا، قال البخاري: وهذا حديث لا يتابع عليه، وينبه أن المصنف عزاه إلى ابن عمر وهو إنما يروى عن ابن عمرو.
(4)
منقطع: أخرجه البيهقي في «الكبرى» (6/ 7).
ويجوز تمليكه بغير عوض في حالة الحياة بالهبة، وبعد الموت بالوصية، فيجوز تمليكه بالعوض أيضًا
(1)
.
قال محمد بن الحسن (تلميذ أبي حنيفة): يُكره اقتناء الكلب لغير منفعة، فأما كلب الزرع أو الضرع أو الصيد أو الحرس فلا بأس به
(2)
.
قال الإمام مالك: أكره ثمن الكلب الضاري وغير الضاري لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب
(3)
.
قال الباجي (المالكي): نهيه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب يحتمل ان يريد به ثمن الكلب المنهي عن اتخاذه، فيتناول نهيه البائع عن أخذ ثمنه والانتفاع به وهذا يمنع نفعه، وأما الكلب المباحُ اتخاذه، وهو كلب الماشية والحرث والصيد فاختلف فيه قول مالك فيتأول بعض أصحابه أنه يجوز بيعه، وقال سحنون: يجوز أن يحج بثمنه، وقاله ابن كنانة، وبه قال أبو حنيفةَ وروى عنه ابن القاسم أنه كره بيعه، وهي رواية الموطأ
(4)
.
(1)
«المبسوط» (11/ 424).
(2)
«موطأ مالك» رواية محمد بن الحسن (3/ 361)، وهذا القول ليس في حكم بيع الكلب إنما هو في حكم الاقتناء، وذكرته لبيان أن الأحناف لا ينازعون في أصل كراهة اقتناء الكلب.
(3)
«الموطأ» (1919) رواية يحيى بن يحيى الليثي.
(4)
«المنتقى شرح الموطأ» (1173) باب ما جاء في ثمن الكلب.
قال الإمام الشافعي: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب. قال (الشافعي): وبهذا نقول: لا يحل للكلب ثمن بحال، وإذا لم يحل ثمنه لم يحل أن يتخذه إلا صاحب صيد أو حرث أو ماشية، وإلا لم يحل له أن يتخذه، ولم يكن له إن قتله أخذ ثمن، إنما يكون الثمن فيما قتل مما يملك إذا كان يحل أن يكون له في الحياة ثمن يُشترى به ويباع
(1)
.
قال الماوردي (الشافعي): بيع الكلب حكمه باطل وثمنه حرام، ولا قيمة على متلفه بحال، سواء كان منتفعًا به أم غير منتفع به
(2)
.
قال أبو محمد بن قدامة الحنبلي: لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل أي كلب كان، وبه قال الحسن وربيعة وحماد والأوزاعي والشافعي وداود، وكره أبو هريرة ثمن الكلب، ورخص في ثمن الكلب للصيد خاصة جابر بن عبد الله
(3)
، وعطاء
(4)
(1)
«الأم» (3/ 11).
(2)
«الحاوي الكبير» (5/ 375).
(3)
الخبر عن جابر مُعل: فقد روي عنه موقوفًا ومرفوعًا، ولا يثبت موقوفًا ولا مرفوعًا، ولا يصح من الوجهين.
(4)
الخبر إلى عطاء بن أبي رباح لا يثبت: أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (21313) من طريق وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عطاء، وجابر هو ابن يزيد بن الحارث ضعيف.
والنخعي
(1)
وجوز أبو حنيفة بيع الكلاب كلها وأخذ أثمانها وعنه في الكلب العقور أنه لا يجوز بيعه
(2)
.
قال ابن حزم: ولا يحل بيع كلب أصلًا، لا كلب صيد ولا كلب ماشية ولا غيرهما، فإن اضطر إليه ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه، وهو حلال للمشتري حرام على البائع، ينتزع منه الثمن متى قدر عليه، كالرشوة في دفع الظلم، وفداء الأسير، ومصانعة الظالم، ولا فرق، ولا يحل اتخاذ كلب أصلًا إلا لماشية أو لصيد أو لزرع أو لحائط، واسم الحائط يقع على البستان وجدار الدار فقط، ولا يحل أيضًا قتل الكلاب، فمن قتلها ضمنها بمثلها أو بما يتراضيان عليه عوضًا عنه إلا الأسود البهيم أو الأسود ذا النقطتين
(3)
.
• جاء في فتاوى اللجنة الدائمة:
لا يجوز بيع الكلاب ولا يحل ثمنها، سواء كانت كلاب حراسة أم صيد أو غير ذلك
(4)
.
(1)
السند إلى إبراهيم النخعي لا يثبت، وقد تقدم.
(2)
«المغني» لابن قدامة (4/ 324).
(3)
«المحلى» (9/ 10).
(4)
فتاوى اللجنة الدائمة (13/ 36) برقم (6554).
حكم بيع الأصنام والصور
مما هو معلوم للكافة أن دين الإسلام جاء بتحريم اتخاذ وصناعة الأصنام والتصاوير، على تفصيل بين أهل العلم في حكم التصوير وسيأتي.
•
الأدلة العامة في المسألة:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ:«إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ، وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ» ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ:«لَا، هُوَ حَرَامٌ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:«قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»
(1)
.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضى الله عنها: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى البَابِ، فَلَمْ
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (236)، ومسلم (4132).
يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ، قالت: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟» قالت: قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» وَقَالَ: «إِنَّ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ المَلَائِكَةُ»
(1)
.
وفي رواية: «وَأَنَّ مَنْ صَنَعَ الصُّورَةَ يُعَذَّبُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُقَالُ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»
(2)
.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي البَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام بِأَيْدِيهِمَا الأَزْلَامُ، فَقَالَ:«قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِالأَزْلَامِ قَطُّ»
(3)
.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2105)، ومسلم (2107).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (3224)، ومسلم (2107).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (3352).
تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»
(1)
.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»
(2)
.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الحَسَنِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ
(3)
، إِنِّي إِنْسَانٌ إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا» فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً، وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ، فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ، وَكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ
(4)
.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: وَعَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلُ فَقَالَ: «إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ»
(5)
.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (3873)، ومسلم (528).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (5951)، ومسلم (2107).
(3)
أبو العباس، كنية ابن عباس.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (2225).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (3227)، وبنحوه عند مسلم (2104).
عَنْ أَبي زُرْعَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ، فَرَأَى أَعْلَاهَا مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً»
(1)
.
عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ اشْتَرَى غُلَامًا حَجَّامًا، فَقَالَ:«إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الكَلْبِ، وَكَسْبِ البَغِيِّ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَالوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ وَالمُصَوِّرَ»
(2)
.
عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ «أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ»
(3)
.
•
نقل بعض أقوال أهل العلم في شروحات الأحاديث المتقدمة:
قال ابن دقيق العيد: حديث: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا ثم صوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله» قال: فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل، وقد
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (5953).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (5962).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (2287).
تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان أقرب عهد الناس بعبادة الأوثان وهذا الزمان - حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده - لا يساويه في هذا المعنى فلا يساويه في هذا التشديد - هذا أو معناه - وهذا القول عندنا باطل قطعًا؛ لأنه قد ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، وأنهم يقال لهم:«أحيوا ما خلقتم» وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل، وقد صرح بذلك في قوله عليه السلام:«المشبهون بخلق الله» ، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زمانًا دون زمان، وليس لنا أن نصرف النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق الله
(1)
.
قال الإمام النووي رحمه الله:
قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيها مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أم بساط أم درهم أم دينار، أم فلس أم إناء أم حائط أم غيرها، وأما
(1)
«إحكام الأحكام» (1/ 371).
تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام، هذا حكم نفس التصوير، وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقًا على حائط أو ثوب ملبوس أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنًا فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام، ولكن هل يمنع من دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ فيه كلام نذكره قريبًا إن شاء الله، ولا فرق في هذا كله وبين ما له ظل وما لا ظل له.
قال: هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
(1)
.
قال بدر الدين العيني:
تصوير الحيوان حرام، واختلفوا في هذا الباب:
فقال قوم من أهل الحديث وطائفة من الظاهرية: التصوير حرام، سواء في ذلك ظاهر حديث عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ» ، رواه مسلم وغيره.
وقال الجمهور من الفقهاء وأهل الحديث: كل صورة لا تشبه صورة الحيوان كصور الشجر والحجر والجبل ونحو ذلك فلا بأس به. واحتجوا في ذلك بما رواه مسلم قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ
(1)
«شرح النووي على مسلم» (14/ 81).
الْجَهْضَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ، فَأَفْتِنِي فِيهَا؟ فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي. فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ» وقَالَ: «إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ» ، فأقر به نصر بن علي.
والدليل على ذلك ما رواه الطحاوي من حديث مجاهد عن أبي هريرة قال: اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«ادْخُلْ» فَقَالَ: كَيْفَ أَدْخُلُ وَفِي بَيْتِكَ سِتْرٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهَا، أَوْ تُجْعَلَ بِسَاطًا
(1)
يُوطَأُ فَإِنَّا مَعْشَرَ الْمَلَائِكَةِ لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ. قال الطحاوي: فلما أبيحت التماثيل بعد قطع رءوسها الذي
(1)
الحديث عند مسلم مختصرًا، دون ذكر هذه الزيادة، والزيادة هذه عند النسائي (9793) في «الكبرى» ، من طريق هناد السري عن أبي بكر عن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة، والزيادة هذه لا يطمئن القلب إليها والله أعلم. لكن ورد خبر صحيح عن عائشة أخرجه البخاري (2479) عن عائشة أنها كانت اتخذت على سهوة لها سترًا فيه تماثيل فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذت منه نمرقتين، فكانتا في البيت يجلس عليهما.
لو قُطع من ذي الروح لم يبق، دل ذلك على إباحة تصوير ما لا روح له، وعلى خروج ما لا روح لمثله من الصور مما قد نهي عنه في الآثار
(1)
.
•
موقف الفقهاء من التصوير:
تكاد تكون كلمة فقهاء المذاهب متفقة على تحريم صنع الأصنام والتماثيل، أي كل ذي روح مجسمة، ثم إنه حدث خلاف بينهم في التصوير غير المجسم.
وبالإمكان أن نحصر الخلاف المعتبر بينهم في ثلاثة أقوال:
الأول: تحريم التصوير لذي الروح، وهي الصور المجسمة لحيوان أو غيره، سواء كان عاقلًا أم لا، وهذا القول منقول عن (المالكية، والشافعية وبعض الحنابلة)
(2)
.
الثاني: كراهية تصوير ذوي الأرواح فقط، وهذا منقول عن (الحنفية وبعض الحنابلة).
الثالث: جواز تصوير ما لا رأس له أو يدين، وهذا أيضًا منقول عن المالكية.
(1)
«عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (17/ 378).
(2)
نقل ابن العربي من المالكية أن الصورة إذا كان لها ظل حرم بالإجماع، سواء كان مما يمتهن أم لا، وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات. انظر «الفتح» (10/ 388).
هذا، ومن أهل العلم من فرَّق بين الممتهنة وغير الممتهنة، ومنهم من فرَّق بين الصورة التي لها ظل والصورة التي ليس لها ظل كما سيأتي.
•
بعض النقول عن أصحاب المذاهب:
قال الكاساني الحنفي:
فأما صورة ما لا حياة له كالشجرة ونحو ذلك فلا يوجب الكراهة؛ لأن عبدة الصور لا يعبدون تمثال ما ليس بذي روح، فلا يحصل التشبه بهم، وكذا النهي إنما جاء عن تصوير ذي الروح
(1)
.
قال ابن رشد المالكي:
سُئل أصبغ عن اللعب المصورة يلعب بها النساء والجواري، أيحل لهن ذلك؟ قال: ما أرى بأسًا ما لم تكن تماثيل مصورة مخروطة، فلا يجوز؛ لأن هذا يبقى، ولو كانت فخارًا أو عيدانًا تنكسر وتبلى رجوت أن تكون خفيفة إن شاء الله، كمثل رقم الثياب بالصور لا بأس بها لأنها تبلى وتمتهن.
قلت: أليس قد ذكر عن عائشة أنها كانت تلعب بهن؟ فقال: نعم، أخبرني بذلك عبد الله بن موهب يرفعه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان يأتيني جوارِ يلاعبنني بالبنات، فإذا رأيت
(1)
«بدائع الصنائع» (1/ 116).
رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيين وتقنعن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ويسيرهن إلي
(1)
، فقلت: أتري بعملها بأسًا وببيعها بأسًا؟ قال: أما الذي أجزت لك منها فلا أرى ببيعها بأسًا.
قال: قوله: (ما أرى بأسًا لم تكن تماثيل مصورة مخروطة) معناه لا بأس بها إذا لم تكن صورًا مخروطة مجسدة على صورة الإنسان، وإنما كانت عظامًا أو عيدانًا غير مخروطة على صورة الإنسان، إلا أنه عمل بها شبه الوجوه بالتزويق، فجاز ذلك؛ لأنه أشبه بالرقم، هذا معنى أصبغ بدليل تشبيهه ذلك برقوم الثياب بالصور، إلا أنه علل ذلك بعلة فيها نظر، فقال:(لأنها تبقى) قال: (ولو كانت فخارًا أو عيدانًا تنكر وتبلى رجوت أن تكون خفيفة إن شاء الله كمثل رقوم الثياب بالصور لا بأس بها لأنها تبلى وتمتهن). والصواب: أن لا فرق في ذلك بين ما يبقى أو يبلى فلا يبقى مما هو تمثال مجسد له ظل قائم يشبه الحيوان الحي بكونه على هيئته، وإنما استخف الرقوم في الثياب من أجل أنها ليست بتماثيل مجسدة
(2)
لها ظل قائم يشبه الحيوان في أنها مجسدة
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (6130)، ومسلم (1422).
(2)
يستدلون لهذا بالحديث الآتي: أخرجه البخاري (5958)، كذا مسلم (2106) من حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ الصُّورَةُ» قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ، فَعُدْنَاهُ، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ، رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنِ الصُّوَرِ يَوْمَ الأَوَّلِ؟ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ: «إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ» .
على هيئتها، وإنما هي رسوم لا أجساد لها، ولا يحيى في العادة ما كان على هيئتها، فالمحظور ما كان على هيئة ما يحيى ويكون له روح، بدليل قوله في الحديث: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ
(1)
، والمستخف ما كان بخلاف ذلك مما لا يحيى في العادة ما كان على هيئته، فالمستخف من هذه اللعب المصورة للعب الجواري بها، لما جاء من أن عائشة رضى الله عنها كانت تلعب بها بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينكر ذلك عليها، بل كان يسرب الجواري إليها، ما كان مشبهًا بالصورة، وليس بكامل التصوير، وكلما قل الشبه قوي الجواز، وكلما جاز اللعب به جاز عمله وبيعه على ما قال في الرواية
(2)
.
قال النووي الشافعي رحمه الله:
ومن المنكرات فرش الحرير، وصور الحيوانات على السقوف والجدران، والثياب الملبوسة، والستور المعلقة والوسائد الكبار المنصوبة، ولا بأس بما على الأرض، والبساط الذي يداس، والمخاد
(1)
صحيح: وقد تقدم.
(2)
«البيان والتحصيل» (18/ 574).
التي يتكأ عليها وليكن في معناها الطبق والخوان والقصعة، ولا بأس بصور الأشجار والشمس والقمر، وفي وجه يكره صورة الشجر، ولو كانت صور الحيوانات مقطوعة الرؤوس فلا بأس بها على الصحيح، ومنعه المتولي.
وهل دخول البيت الذي فيه الصور الممنوعةُ حرام، أو مكروه؟ وجهان بالتحريم، قال الشيخ أبو محمد بالكراهة، قال صاحب التقريب والصيدلاني ورجحه الإمام الغزالي في الوسيط، ولو كانت الصورةُ في الممر دون موضع الجلوس، فلا بأس بالدخول والجلوس، ولا يترك إجابة الدعوة بهذا السبب، وكذا لا بأس بدخول الحمام الذي على بابه صور، كذا قال الأصحاب
…
فرع: يحرم على المصور التصوير على الحيطان والسقوف، ولا يستحق أجرة، وفي نسج الثياب المصورة وجهان، جوزه أبو حامد لأنها قد لا تلبس، ورجح المنع الإمام الغزالي تمسكًا بالحديث:«لعن الله المصورين»
(1)
.
قلت (النووي): الصحيح التحريم، والحديث صحيح، والله أعلم
(2)
.
(1)
تقدم.
(2)
«روضة الطالبين» (7/ 336).
قال ابن قدامة الحنبلي:
وصنعة التصاوير محرمة على فاعلها، لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»
(1)
.
وعَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مَسْرُوقٍ فِي بَيْتٍ فِيهِ تِمْثَالُ مَرْيَمَ، فَقَالَ مَسْرُوقٌ: هَذَا تِمْثَالُ كِسْرَى؟ فَقُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ تِمْثَالُ مَرْيَمَ. فَقَالَ مَسْرُوقٌ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ»
(2)
.
متفق عليهما، والأمر بعمله محرم كعمله
(3)
.
وقال أيضًا:
فإن قطع رأس الصورة ذهبت الكراهة، قال ابن عباس: الصورة الرأس
(4)
، فإذا قطع الرأس فليس بصورة، وحُكي ذلك عن عكرمة،
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (5951).
(2)
صحيح: بنحوه أخرجه مسلم (2109)، وهو عند أحمد (6/ 23).
(3)
«المغني» (7/ 282).
(4)
صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (25299)، والبيهقي في «الكبرى» (14580).
وقد رُوي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ لِي: أَتَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَابِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي الْبَيْتِ يُقْطَعُ، فَيَصِيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ، فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ مَنْبُوذَتَيْنِ تُوطَآَنِ، وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ» فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»
(1)
، وإن قطع منه ما لا يبقى الحيوان بعد ذهابه، كصدره أو بطنه أو جُعل له رأس منفصل عن بدنه، لم يدخل تحت النهي؛ لأن الصورة لا تبقى بعد ذهابه، فهو كقطع الرأس، وإن كان الذاهب يبقى الحيوان بعده، كالعين واليد والرجل، فهو صورة داخلةٌ تحت النهي، وكذلك إذا كان في ابتداء التصوير صورة بدن بلا رأس، أو رأس بلا بدن، أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير حيوان، لم يدخل في النهي؛ لأن ذلك ليس بصورة حيوان
(2)
.
الحاصل:
مما تقدم يتضح:
1 -
أن صناعة التماثيل المجسدة لما فيه روح لا خلاف بين أهل العلم
(1)
ورد هذا الخبر بألفاظ متعددة، وإن كان يصح أصله، وقد تقدم.
(2)
«المغني» (7/ 282).
في تحريمه
(1)
، وعلى هذا فيحرم عمل هذا، وإن عُمل، فالأجرة على ذلك محرمة، يجب أن يتخلص منها.
2 -
الصور المجسدة التي لا روح فيها كالشجر ونحوه العلماء مختلفون في حكمه ولكل دليله، فالأمر واسع، وعلى هذا من رأى عدم الجواز سيحرم أخذ الأجرة عليه، ومن يرى الجواز، لا يرى في أخذ الأجرة مانعًا.
3 -
الصور التي فيها روح ولكنها غير مجسمة كالمرسومة على الفراش وغير ذلك، هذه أيضًا فيها خلاف، والحكم فيها كسابقتها.
4 -
أجاز بعض أهل العلم الصور الممتهنة التي تستخدم كلعب للأطفال.
5 -
أجاز بعض أهل العلم الصور الصغيرة المرقومة في الستر والثوب بدليل «إلا رَقمًا في ثوب» .
وأخيرًا: على المرء أن يتحرى الدقة ويلزم الورع فالأمر دين، فإن استطاع أن يقاطع كل هذا الذي سبق فهو أدين وأفضل، وإن لم يستطع فليسأل العلماء وليتق الله ما استطاع.
(1)
نقل ابن العربي من المالكية أن الصورة إذا كان لها ظل حُرم بالإجماع، سواء كان مما يمتهن أم لا، وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات. انظر:«فتح الباري» (10/ 388).
•
الصور الفوتغرافية:
ما حكم الرجل يمتهن مهنة التصوير الفوتغرافي؟
نقول ابتداءً: مسألة التصوير الفوتغرافي وهو التصوير بالآلة عمل مستحدث لم يكن على عهد الأولين؛ لذلك نجد العلماء المعاصرين مختلفين فيه على قولين:
القول الأول: يرى أنه ينسحب عليه النصوص العامة التي أتت في الوعيد، إذ لا دليل على التخصيص.
القول الثاني: يرى أن العلة منتفية فيها، فهي لا تضاهي خلق الله، هي حبس للصورة الحقيقية فقط، وقالوا: لا تُعبد.
ولكل وجهته، ولكل دليله، والأحوط أن نبتعد غاية البعد عنها إلا ما كان من ضرورة، ثم إنها وعلى فرض القول بجوازها، فإن فيها مخالفات تحدث من جرائها لا ينكرها أحد كتصوير النسوة المتبرجات، وتصوير العروسة مع عروسها يوم عرسهما في منظر فاضح، وتعليق الصور في لوحات العرض، وذلك يتضمن مجاهرة بالمعصية وتعظيمًا، وهذا محرم، وعليه فلا يجوز الاكتساب منها بهذه المخالفات، أما إن كان التصوير للضرورة كعمل رخصة لقيادة السيارة، أو بطاقة شخصية للتعرف وسد الذرائع، فهذا جائز لم يمنع من فعله أحد.
ويجدر أيضًا أن ننبه على أنه في حالة القول بجوازها، فالصور التذكارية غير جائزة وتعليقها في البيت وأماكن العمل لا يجوز، فلقد كانت بداية انحراف قوم نوح في أنهم صوروا عُبَّادهم في المعابد، بحجة أنهم إذا رأوهم نشطوا في العبادة، فلما هلك الجيل الذي صوَّر تماثيل الصالحين، جاء جيل آخر استحوذ عليه الشيطان وسوَّل لهم أن آباءهم كانوا يعبدون هذه الصور، فبدأت عبادة الأصنام.
احتكار السلع الغذائية وتخزينها وقت حاجة الناس إليها بغية رفع ثمنها
بعض التجار يمسك السلع الغذائية عنده مع حاجة الناس إليها واستغنائه هو عنها ينتظر غلاءها ليبيعها، وهذا الذي ذكرت ممنوع لا يجوز لما فيه من دناءة نفس وسوء خلق وغلو في الأنانية وحب النفس، ثم إن هذه الفعلة تورث الحقد والضغينة بين الناس، وتضر بالمسلمين وتهدد استقرارهم.
•
الأخبار التي وردت في الباب:
لم يصح في الباب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعًا إلا حديث واحد فيما أعلم والله أعلم، وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وبسنده عن سعيد بن المسيب أن معمرًا
(1)
قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» ، فَقِيلَ لِسَعِيدٍ: فَإِنَّكَ تَحْتَكِرُ. قَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ مَعْمَرًا الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ، كَانَ يَحْتَكِرُ
(2)
.
(1)
معمر بن أبي معمر، عبد الله بن نافع بن نضلة القرشي العدوي صحابي.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1605).
وصح عن ابن المسيب أنه كان يحتكر كما في الحديث الذي مضى، وثبت أيضًا بإسناد صحيح عند ابن أبي شيبة أنه كان يحتكر الزيت
(1)
، ويُحمل هذا على أنه كان يحتكره في وقت حاجة الناس فيه غير ماسة إليه كما سيأتي عند ذكر أقوال أهل العلم في المسألة.
•
الأخبار التي وردت في الباب ولكنها لا تثبت
(2)
:
ما رُوي عن الفاروق عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»
(3)
.
وما رُوي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنِ
(1)
صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (22152) عن عيسى بن يونس عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يحتكر الزيت.
(2)
ذكرت هنا الأخبار غير الثابتة لكونها مشتهرة فنبهت عليها ولكونها محل استشهاد أصحاب المذاهب.
(3)
ضعيف: أخرجه ابن ماجه في «سننه» (2153)، والدارمي (2544)، وعبد بن حميد في «المنتخب» (33)، والحاكم في «مستدركه» (2164)، والبيهقي في «الصغرى» (1568)، وفي «الكبرى» (11482)، وفي «شعب الإيمان» (10700) جميعهم من طريق علي بن سالم بن ثوبان عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولا يخفى على المشتغل بهذا الفن ضعف علي بن زيد بن جدعان وتلميذه في هذا السند علي بن سالم بن ثوبان.
احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ»
(1)
.
ما رُوي عن معقل بن يسار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا
(1)
ضعيف: أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 33)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (20769)، وأبو يعلى في «مسنده» (5746)، وابن الأعرابي في «معجمه» (449)، والحاكم في «مستدركه» (2165)، وابن عدي في «الكامل» (2/ 104)، والبزار في «مسنده» (5378)، وغيرهم من طريق أصبغ بن زيد الجهني عن أبي بشر عن أبي الزاهرية عن كثير عن مُرة الحضرمي عن ابن عمر، إلا أن الحاكم قد رواه عن أصبغ عن أبي الزاهرية بإسقاط أبي بشر، وهذا الوجه غير صحيح، وقد قال البزار عقب إخراجه للحديث: «وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا من هذا الوجه، ولا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه.
وقد حكم عليه أبو حاتم الرازي رحمه الله بالنكارة، كما في «علله» (1174)، وذكر ابن عدي الحديث في «الكامل» (2/ 105)، في ترجمة أصبغ ضمن ثلاثة أحاديث ثم قال: وهذه الأحاديث لأصبغ غير محفوظة يرويها عنه يزيد بن هارون، ولا أعلم روى عن أصبغ هذا غير يزيد بن هارون. وقال الهيثمي في «المجمع» (4/ 180): فيه أبو بشر الأملوكي ضعفه ابن معين.
قلت: أبو بشر هذا قال عنه الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» في ترجمته: أبو بشر مؤذن مسجد دمشق. وقال ابن معين أبو بشر عن أبي الزاهرية لا شيء. كذا نقل أيضًا عن ابن معين في «لسان الميزان» (9/ 21).
عَلَى اللهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
. وفي رواية: «فِي مُعَظَّمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
ما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ، ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْإِفْلاسِ أَوْ بِجُذَامٍ»
(2)
.
(1)
ضعيف: أخرجه أحمد في «مسنده» (5/ 27)، والطيالسي في «مسنده» (970)، والروياني (1312)، والحاكم في «مستدركه» (2168)، والطبراني في «معجمه الكبير» (16874)، وفي «الأوسط» (8651)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (11481) من طريق أبي المعلى العدوي عن الحسن البصري رحمه الله قال: ثَقُلَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ يَا مَعْقِلُ أَنِّي سَفَكْتُ دَمًا؟ قَالَ: مَا عَلِمْتُ. قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَنِّي دَخَلْتُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: مَا عَلِمْتُ، قَالَ: أَجْلِسُونِي. ثُمَّ قَالَ: اسْمَعْ يَا عُبَيْدَ اللَّهِ حَتَّى أُحَدِّثَكَ شَيْئًا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
…
وذكر الحديث.
وكما هو بين في جميع الكتب التي خرجت الحديث أن الحسن لم يصرح بآداة التحديث، والحسن معروف بتدليسه وإرساله، فكما يقول بعض أهل العلم: مراسيل الحسن البصري كالريح. وهو ممن لا يقبل العلماء إرساله لكونه كان يحدث عن الضعيف، وعلى هذا فصورة الخبر عندنا صورة المنقطع.
(2)
منكر: أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 21)، وابن ماجه في «سننه» (2155)، وعبد بن حميد في «المنتخب» (17)، وابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (250)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (10705)، والضياء المقدسي في «مختارته» (263)، وأبو القاسم الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (309)، (310)، جميعهم من طريق الهيثم بن رافع الطاطري عن أبي يحيى المكي عن فروخ مولى عثمان عن عمر.
قلت: فروخ مولى عثمان لم يروِ عنه غير أبي يحيى المكي، ولم يوثقه معتبر، وأبو يحيى المكي مجهول، والهيثم بن رافع متكلم فيه واستنكر عليه هذا الحديث. قال الدوري عن ابن معين: الهيثم بن رافع الطاطري بصري ثقة، وقال الآجري عن أبي داود: ثقة. وقال يحيى: ثقة، وقال أبو عبيد وكأنه لم يرضه سمعته يقول: روى حديثًا منكرًا في الحكرة. انظر: «تهذيب التهذيب» (163)، وقال الذهبي في «المغني» (7825): أبو يحيى المكي عن فروخ مولى عثمان في الاحتكار يجهل والخبر منكر.
ما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحُكرة في البلد
(1)
.
ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا
(1)
ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (20768)، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (مطالب 1412)، (إتحاف بوصيري 2746)، والمحاملي في «أماليه» (189)، والبيهقي في «الشعب» (10703)، وابن عساكر في «معجم شيوخه» (20768) جميعهم من طريق عبيد الله بن موسى عن الربيع بن حبيب عن نوفل بن عبد الملك عن أبيه عن علي. ونوفل بن عبد الملك مجهول، والراوي عنه ضعيف، ويذكر أن الحمل عليه بسبب روايته عن نوفل.
الْخَوَّانُونَ - أَيِ الْخَاطِئُونَ الْآثِمُونَ-»
(1)
.
ما رُوي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ خَاطِئٌ»
(2)
.
•
حكم الاحتكار
ذهب الأحناف
(3)
والمالكية والشافعية والحنابلة إلى القول بعدم جواز الاحتكار إلا أنهم اختلفوا في مسألة
(4)
وهي ما يجري فيه الاحتكار، هل يجري في كل ما يحتاجه الناس أو يجري في القوت خاصة أو في ماذا؟ على ما سيأتي توضيحه بعد ذلك، واستدلوا على قولهم بعدم الجواز بالأدلة التي سبق ذكرها صحيحها وضعيفها.
(1)
ضعيف: روي مرسلًا، أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (14891) قال: أخبرنا الأسلمي عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وصفوان ليس بصحابي.
(2)
إسناده ضعيف: ومعناه ورد في «صحيح مسلم» ، وقد تقدم، أما عن هذا فأخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 351)، وفي سنده أبو معشر نجيح المدني وهو ضعيف.
(3)
يجدر في هذا المقام التنبيه على أن الأحناف غالبًا ما يطلقون كلمة الكراهة غير مقيدة ويقصدون بها التحريم.
(4)
لا يُفهم من ذلك أنهم اختلفوا في باب الاحتكار في مسألة واحدة، لا، بل هذه أهمها، وإلا فهم مختلفون في مسائل أخرى تظهر من كلامهم وسيأتي.
•
أقوال أصحاب المذاهب الأربعة:
قال علاء الدين الكاساني الحنفي:
وأما حكم الاحتكار فنقول: يتعلق بالاحتكار أحكام، منها: الحرمة لما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»
(1)
، ولا يلحق اللعن إلا بمباشرة المحرم، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:«مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ»
(2)
، ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلا بارتكاب الحرام
(3)
.
قال مالك:
لا يجوز احتكار الطعام في سواحل المسلمين؛ لأن ذلك يضر بهم ويزيد في غلاء أسعارهم
(4)
.
جاء في المدونة: وسمعت مالكًا يقول: الحُكرة في كل شيء في السوق من الطعام والكتاب والزيت وجميع الأشياء والصوف وكل ما يضر بالسوق. قال: والسمن والعسل والعصفر وكل شيء. قال مالك:
(1)
ضعيف: وتقدم تخريجه مع بيان ضعفه.
(2)
ضعيف: وتقدم تخريجه مع بيان ضعفه.
(3)
«بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» (11/ 24).
(4)
«الاستذكار الجامع لمذاهب الفقهاء» (8/ 341).
يمنع من يحتكره كما يمنع من الحبِّ
(1)
.
قال أبو القاسم الرافعي الشافعي:
الاحتكار منهي عنه ثم هو مكروه أو محرم؟ قال بعض الأصحاب: إنه مكروه. والأصح التحريم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»
(2)
أي آثم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»
(3)
، وروى أيضًا:«من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله عز وجل منه»
(4)
.
والاحتكار أن يشتري ذو الثروة الطعام في وقت الغلاء ولا يدعه للضعفاء، ويحبسه ليبيعه منهم بأكثر عند اشتداد حاجاتهم
(5)
.
قال الشيرازي الشافعي:
ويحرم الاحتكار في الأقوات، وهو أن يبتاع في وقت الغلاء ويمسكه ليزداد ثمنه
(6)
.
(1)
«المدونة» (3/ 313).
(2)
صحيح: وقد تقدم.
(3)
ضعيف: وقد تقدم.
(4)
ضعيف: وقد تقدم.
(5)
«فتح العزيز شرح الوجيز» (8/ 216).
(6)
«المهذب في فقه الإمام الشافعي» للشيرازي (1/ 292).
قال أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي (الحنبلي):
والاحتكار محرم؛ لما روى سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ»
(1)
.
•
كلام ابن حزم في الاحتكار:
قال ابن حزم رحمه الله:
مسألة: والحُكرة المضرة بالناس حرام سواء في الابتياع أو في إمساك ما ابتاع، ويُمنع من ذلك، والمحتكر في وقت رخاء ليس آثمًا، بل هو محسن؛ لأن الجُلاب إذا أسرعوا البيع أكثروا الجلب، وإذا بارت سلعتهم ولم يجدوا مبتاعًا تركوا الجلب، فأضر ذلك بالمسلمين، قال الله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
فإن قيل: فإنكم تصححون الحديث من طريق محمد بن عجلان عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»
(2)
.
قلنا: ولكننا روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: كان
(1)
صحيح: وقد تقدم.
(2)
صحيح: وقد تقدم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبس نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقى من ثمره مجعل مال الله
(1)
، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم قد احتبس قوت أهله سنة، ولم يمنع من أكثر، فصح أن إمساك ما لابد منه مباح، والشراء مباح، والمذكور بالذم هو غير المباح بلا شك، فهذا الاحتكار الذي ذكرناه
(2)
.
•
في أي شيء يكون الاحتكار:
سؤال مهم: هل يجري الاحتكار في جميع السلع أو في المطعومات فقط أو ماذا؟
اختلف في ذلك أهل العلم، ونتج عن اختلافهم هذا ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يكون الاحتكار إلا فيما يتخذ قوتًا، وبهذا القول قال أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة رحمهم الله جميعًا.
القول الثاني: الاحتكار المحرم عامٌّ في كل ما يحتاجه الناس ويتضررون من حبسه، سواء كان قوتًا أم لباسًا أم غير ذلك، وبهذا
(1)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (14883)، وأبو داود في «سننه» (2963)، والترمذي في «سننه» (1823)، والنسائي في «الكبرى» (9187)، وأبو عوانة في «مسنده» (6669)، كذا في «مستخرجه» (5346) من طريق الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب.
(2)
«المحلى» (9/ 64).
القول قال مالك وأبو يوسف من الحنفية رحمهما الله.
القول الثالث: لا احتكار إلا في القوت والثياب خاصة، وهذا أيضًا نُقل عن محمد بن الحسن رحمه الله.
• أقوال أهل العلم في المسألة:
قال ابن نجيم (الحنفي):
وتخصيص الاحتكار بالأقوات قول الإمام
(1)
والثالث
(2)
، وقال أبو يوسف: كل ما يضر العامةَ فهو احتكار، بالأقوات كان أو ثيابًا أو دراهم أو دنانير اعتبارًا لحقيقة الضرر؛ لأنه هو المؤثر في الكراهة
(3)
.
قال المرغياني (الحنفي):
وتخصيص الاحتكار بالأقوات كالحنطة والشعير والتبن والقت قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: كل ما أضر بالعامة حَبْسه فهو احتكار وإن كان ذهبًا أو فضة أو ثوبًا. وعن محمد أنه قال: لا احتكار في الثياب
(4)
.
(1)
يقصد الإمام أبا حنيفة رحمه الله.
(2)
ثالث رجل في المذهب وهو محمد بن الحسن رحمه الله.
(3)
«البحر الرائق شرح كنز الدقائق» (8/ 229).
(4)
«الهداية شرح البداية» (4/ 92).
جاء في المدونة:
سمعت مالكًا يقول: الحكرة في كل شيء في السوق من الطعام والكتاب والزيت وجميع الأشياء والصوف وكل ما يضر بالسوق. قال: والسمن والعسل والعصفر وكل شيء
(1)
.
قال الشيرازي (الشافعي):
وأما غير الأقوات فيجوز احتكاره لما روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطعام
(2)
فدل على أن غيره يجوز ولأنه لا ضرر ولا ضرار
(3)
.
قال عبد الكريم الرافعي (الشافعي):
وتحريم الاحتكار يختص بالأقوات ومنها التمر والزبيب، ولا يعم جميع الأطعمة
(4)
.
(1)
«المدونه» (3/ 313).
(2)
ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (27060)، والبيهقي في «الشعب» (10699)، والحاكم في «مستدركه» (2163)، والروياني في «مسنده» (1209)، والطبراني في «مسند الشاميين» (593) من طريق القاسم بن عبد الرحمن الشامي عن أبي أمامة والقاسم هذا متكلم في حديثه، ويُذكر عنه أن في حديثه غرائب وأعاجيب.
(3)
«المهذب» (1/ 292).
(4)
«فتح العزيز شرح الوجيز» (8/ 216).
قال الأثرم
(1)
(صاحب الإمام أحمد):
سمعت أبا عبد الله يُسأل: عن أي شيء الاحتكار؟ قال: إذا كان من قوت الناس فهو الذي يُكره. وهذا قول عبد الله بن عمرو: وكان سعيد بن المسيب راوي حديث الاحتكار يحتكر الزيت
(2)
.
• الراجح في هذه المسألة:
بعد أن عرضنا أقوال الفقهاء في مسألة ما يجري فيه الاحتكار نقول: الاحتكار محرم بشرطين:
1 -
أن يكون المحتكر في غنى عنه.
2 -
أن يقع ضرر على المسلمين باحتكاره هذا.
أما عما يجري فيه الاحتكار فأقول: إذا توافر الشرطان السابقان في أي سلعة قوتًا كان أو غير قوت فيحرم الاحتكار، إذ أن الدليل في السُّنة عام «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» ، والمخصص له بالطعام غير صحيح، ولأن العلة من عدم جواز الاحتكار هي الضرر، فمتى وقع الضرر مُنع الاحتكار أما في وقت الرخاء فلا بأس بتخزين السلع إذ أن هذا من عادات التجار، والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
(1)
أبو بكر الأثرم أحمد بن محمد بن هانئ (ت: 273).
(2)
«المغني في فقه الإمام أحمد) (4/ 305).
• هل على من احتكر قوت المسلمين في وقت حاجتهم له لأجل أن يرفع ثمنه عليهم عقوبة دنيوية يجريها عليه الحاكم؟
ذهب الأئمة الفقهاء رحمهم الله تعالى إلى أنه إذا خُشي وقوع الأذى والضرر بالمسلمين، أمر الحاكمُ المحتكر أن يُخرج ما عنده إلى سوق المسلمين ليبيعه، فإن امتثل وإلا أجبر على ذلك وأخذ منه عنوة ويعطى قيمته أو مثله عند وجوده.
قال ابن نجيم الحنفي:
إذا امتنع المحتكر من بيع الطعام للإمام أن يبيعه عليهم، عنهم جميعًا على مسألة الحجر، وقيل: يبيع بالإجماع؛ لأنه اجتمع ضرر عامٌّ، وضرر خاص، فيقدم دفع الضرر العام، كما بينا في كتاب الحجر
(1)
.
قال الحصفكي الحنفي في الدر:
وفي السراج: لو خاف الإمام على أهل بلد الهلاك أخذ الطعام من المحتكرين وفرق عليهم، فإذا وجدوا سعة ردوا مثله، وهذا ليس بحجر بل للضرورة
(2)
.
قال الموصلي الحنفي:
وقد قال أصحابنا: إذا خاف الإمام على أهل مصر الضياع والهلاك، أخذ الطعام من المحتكرين وفرقه عليهم، فإذا وجدوا ردوا مثله
(1)
.
قال الحطاب المالكي:
إن نزلت حاجةٌ فادحةٌ أو أمر ضروري بالمسلمين فيجب على من كان عنده ذلك أن يبيعه بسعر وقته، فإن لم يفعل أُجبر على ذلك إحياءً للمُهَج، وإبقاءً للرمق، وأما إن كان اشتراه من الأسواق واحتكر وأضر بالمسلمين فيشترك فيه الناس بالسعر الذي اشتراه به
(2)
.
قال الرملي (الشافعي):
وهل يكره إمساك ما فضل عن كفايته ومؤنة سنة؟
وجهان: أوجههما عدمها، نعم الأوْلى بيعه ما زاد عليها، ويُجبر من عنده زائد على ذلك على بيعه في زمن الضرورة
(3)
.
(1)
«الاختيار لتعليل المختار» (4/ 172).
(2)
«مواهب الجليل شرح مختصر خليل» (6/ 12).
(3)
«نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج» (11/ 495).
قال منصور بن يونس البهوتي (الحنبلي):
(ويجبر المحتكر على بيعه كما يبيع الناس) دفعًا للضرر، (فإن أبى أن يبيع ما احتكره) من الطعام (وخيف التلف) بحبسه عن الناس (فرقه الإمام) على المحتاجين إليه (ويردون مثله) عند زوال الحاجة (وكذا سلاح) احتاجوا إليه
(1)
.
(1)
«كشاف القناع عن متن الإقناع» (9/ 24)، وما بين الأقواس لأبي النجا موسى الحجاوي صاحب الإقناع.
الربا
(1)
التعامل بالربا من الكبائر، ولا يخفى على أحد معنى الربا فالربا هو الزيادة في أشياء مخصوصة، مثاله: أن يبيع رجل إردبًّا من قمح جيد بأردبين من قمح رديء، أو أن تبادل امرأة مئة جرام ذهب جديد بمائتي جرام ذهب قديم، أو نحو ذلك، والربا يدخل في أكثر من هذا كما سيتضح.
ولقد حرم الله سبحانه وتعالى الربا في أكثر من موطن في القرآن الكريم، بل وشدد في عقوبة فاعله قال تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].
فهذا تهديد من ربنا سبحانه وتعالى لآكل الربا. وليس المقصود بأكل الربا مجرد الطعام فقط بل المقصود كل من أخذ الربا وقَبِله، سواء أكل
(1)
الربا لغة: الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو ربوًا أي زاد. انظر: «التعريفات» للجرجاني (146)، و «الصحاح» للجوهري (1/ 240).
به أكلًا أم بنَى به بيتًا أم اكتسى به كساءً أم شرب به دواءً، كل هذا داخل في التهديد، وإنما عبر سبحانه وتعالى عن كل هذا بالأكل؛ لأنه كل حال غالب من نزلت فيهم الآية.
قال الله تعالى في حقهم: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، والمراد بقوله:{لا يقومون} أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة، فهذا حال آخذ الربا يوم القيامة إذا قامت القيامة قام من قبره يتخبط يمنة ويسرى، حاله يشبه حال الممسوس تمامًا بتمام، ليكون هذا الوصف علامة ظاهرةً لآكلي الربا يوم القيامة ليعرفهم الناس، فيكون ذلك فضيحة لهم.
ثم بَيَّن سبحانه وتعالى سبب وحشة قيامهم هذا، وقبح حالهم وسوء ما حل بهم فقال سبحانه وتعالى:{ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، أي إن سبب ما حل بهم هو هذه الفلسفة الباطلة التي تعللوا بها، قولهم:{البيع مثل الربا} وهذا ما يتردد على ألسنة المرابين إلى اليوم، يقولون: هذه تجارات، هذه مكاسب، هذه أرباح!
سبحان من نبأنا بحالهم!!
ثم قال ربنا سبحانه وتعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].
وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130].
وقال تعالى في شأن اليهود: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 161].
وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].
أيضًا وردت في سنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم جملة تحذيرات من الربا:
أخرج الإمام مسلم في «صحيحه» من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ»، وَقَالَ:«هُمْ سَوَاءٌ»
(1)
.
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (4177).
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ»
(1)
.
وفي الحديث الطويل الذي أخرجه البخاري من حديث سمرة بن جندب قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟» قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ:«إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأُولَى» .
قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالَا لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (272).
قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ - قَالَ: وَرُبَّمَا قَالَ أَبُو رَجَاءٍ: فَيَشُقُّ - قَالَ: «ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأُولَى» :
قَالَ: قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالَا لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ - قَالَ: فَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ - فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ قَالَ: فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا».
قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: قَالَا لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ قَالَ: «فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ - حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ - أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ - وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا» .
وفي نهاية الحديث: «وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا»
(1)
.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري في «صحيحه» (6640).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»
(1)
.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنَ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ»
(2)
(3)
.
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (3009).
(2)
صحيح: أخرجه ابن ماجه في «سننه» (2279)، وأحمد في «مسنده» (3754، 4026، 5042، 5348)، وأبو يعلى في «مسنده» (5349)، والحاكم في «مستدركه» (2262)، والطبراني في «معجمه الكبير» (9/ 25)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5123).
(3)
لم أتعرض لذكر الأحاديث التي نصت على أن الربا أعظم من الزنا وذلك لضعفها، وقد وردت هذه الأخبار التي تحمل معنى واحدًا وهو تعظيم حرمة الربا عن فاحشة الزنا، من أكثر من طريق، وكل طرقها لا تخلو من ضعف شديد فقد جاءت من طريق أنس والبراء وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وغيرهم، ولا تصلح هذه الطرق للجمع، ولا يقال: يحسن الخبر هنا بمجموع طرقه، فإن جميع طرق الحديث تدور على الوضاعين والمتروكين ومَن ضَعْفه شديد، أيضًا هنالك طرق معلة ومتن هذا الحديث مستنكر، قال ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 248): واعلم أن مما يَرُد صحة هذا الأحاديث أن المعاصي إنما يُعلم مقاديرها بتأثيراتها، والزنا يُفسد الأنساب ويصرف الميراث إلى غير مستحقيه، ويؤثر من القبائح ما لا يؤثر أكل لقمة لا تتعدى ارتكاب نهي، فلا وجه لصحة هذا.
•
أقسام الربا:
ينقسم الربا إلى قسمين: ربا فضل، وربا نسيئة.
ربا الفضل: بيع شيء من الأجناس الربوية بجنسه مقابل العوض، يقول لك: خذ هذا التمر الرديء بمقابل ما عندك من تمر جيد بعوض.
ربا النسيئة: قلب الدين على المعسر، وهذا الربا هو ربا الجاهلية، فالزيادة فيه مشروطة بالأجل، فالمقترض إذا جاء وقت الدفع يقول له: تدفع أو ترابي: والنظام العالمي الآن قائم على هذا النوع.
•
الأحاديث الواردة في النهي عن ربا الفضل:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ»
(1)
.
وهذا دالٌ على تحريم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا أن يكون ذلك مثلًا بمثل، يدًا بيد، أي أنه لا يجوز مبادلة الذهب بغيره إلا أن يكون ذلك بدون عوض وأن يكون ذلك في نفس المجلس، كذلك الأصناف الأربعة الأخرى التي تشترك في علة الوزن أو المكيل، لا يجوز بيع أحدهما بمثله إلا أن يكون ذلك في نفس المجلس وبنفس
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (4147).
الوزن، فلا يجوز إذًا التأجيل إلا إذا اختلفت العلةُ الجنس، ومعنى ذلك أن الذهب والفضة يشتركان في علةٍ واحدة في علة مطلق الثمنية، فلا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا في مجلس واحد بنفس المثلية، ولكن يجوز بيع الذهب بالفضة بالتفاضل، أن تزيد مثلًا ولكن يشترط في مجلس واحد، أما الأصناف الأربعة الأخرى فهي تحمل علة أخرى وهي علة الطعم [البر، الشعير التمر، الملح]، فلا يجوز بيع البُر بالبُر إلا في مجلس واحد ووزن واحد، أما البُر بالشعير فيجوز بينهما التفاضل ولكن شريطة اتحاد المجلس.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا
(1)
بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ
(2)
إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»
(3)
(4)
.
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ»
(5)
.
(1)
ولاتشفوا: أي: ولا تزيدوا ولا تفضلوا.
(2)
الورق بالورق: أي الفضة بالفضة.
(3)
ناجز: حاضر.
(4)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2177)، ومسلم (4138).
(5)
«صحيح مسلم» (4142).
وعن بسر بن سعيد أن معمر بن عبد الله
(1)
أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ، فَقَالَ: بِعْهُ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا. فَذَهَبَ الْغُلَامُ، فَأَخَذَ صَاعًا وَزِيَادَةَ بَعْضِ صَاعٍ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ انْطَلِقْ فَرُدَّهُ، وَلَا تَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، قَالَ:«وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ» ، قِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ، قَالَ: «إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَارِعَ
(2)
»
(3)
.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأَنْصَارِيَّ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ
(4)
، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» ، قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الجَمْعِ
(5)
، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا
(1)
معمر بن عبد الله: هو معمر بن أبي معمر عبد الله بن نافع بن نضلة القرشي العدوي صحابي كبير. كان أسلم قديمًا، وتأخرت هجرته إلى المدينة لأنه كان هاجر الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة.
(2)
يضارع: يشابه، أي أنه خشي أن يشابه الربا.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (4164).
(4)
نوع جيد من التمر.
(5)
نوع رديء من التمر.
تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ المِيزَانُ»
(1)
(2)
.
وعن أبي سعيد الخدري قال: جَاءَ بِلَالٌ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ
(3)
، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مِنْ أَيْنَ هَذَا؟» فَقَالَ بِلَالٌ: تَمْرٌ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٌ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ عِنْدَ ذَلِكَ:«أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ»
(4)
.
وعنه قال: كُنَّا نُرْزَقُ تَمْرَ الجَمْعِ، وَهُوَ الخِلْطُ مِنَ التَّمْرِ، وَكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، وَلَا دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ»
(5)
.
وعن فضالة بن عبيد الأنصاري قال: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ، وَهِيَ مِنَ الْمَغَانِمِ تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ
(1)
معنى (وكذلك الميزان): أي كذلك ما يوزن أيضًا يباع مثلًا بمثل مثل ما يكال.
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (7350)، ومسلم (4165).
(3)
برني: نوع جيد من التمر، وهو من المغرب.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (4167).
(5)
صحيح: أخرجه مسلم (4169).
لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ»
(1)
.
•
الأدلة على تحريم ربا النسيئة:
الأدلة التي ذكرت في كتاب الله في التحذير من الربا وعاقبة أمره هي أدلة تحريم ربا النسيئة؛ إذ أن هذا النوع من الربا كان هو المتعارف عليه في الجاهلية والمعمول به عند العرب.
فالربا في الجاهلية يتلخلص فيما يلي: إذا حل موعد قضاء الدين على رجل قال له الدائن: تقضي ما عليك أو تزيد، فإن لم يتوفر للمدين القضاء زاد مقدارًا من المال فوق دينه، وأُخر الموعد إلى أجل محددا. وهكذا حتى تتراكم على المدين أموال طائلة، وفي هذا قال رب العالمين سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130].
وعن زيد بن أسلم قال: كَانَ الرِّبَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الْحَقُّ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الحق، قَالَ: أَتَقْضِي أَوْ تُرْبِي؟ فَإِنْ قَضَاه أَخَذَ منه، وَإِلاَّ زَادَهُ فِي حَقِّهِ وَأَخَّرَ عَنْهُ الأَجَلِ
(2)
.
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (4159).
(2)
صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1353)، ومن طريقه ابن نصر المروزي في «السنة» (170)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 275)، وفي «معرفة السنن» (8/ 29).
وعن قتادة أن ربا أهل الجاهلية: يبيع الرجلُ البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه
(1)
.
وعن ابن عباس أن أسامة بن زيد أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ»
(2)
.
قال ابن حبان: معنى هذا الخبر أن الأشياء إذا بيعت بجنسها من الأصناف الستة المذكورة في الخبر
(3)
، وبينهما فضل يكون ربا، وإذا بيعت بغير أجناسها وبينها فضل، كان ذلك جائزًا إذا كان يدًا بيد، وإذا كان ذلك نسيئة كان ربا
(4)
.
•
حكم الربا:
تقدم بيان حكم الربا بالكتاب والسنة، وهذا نقل إجماع علماء المسلمين على تحريمه:
(1)
صحيح: أخرجه الطبري (6276) في تفسيره قال: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عنه.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري في «صحيحه» (2179).
(3)
(4)
صحيح: ابن حبان (11/ 397)، ومن الفوائد أن ابن حبان أورد هذا الخبر مُبَوِبًا له بباب: ذكر خبر أوهم عالمًا من الناس أن الدرهم بالدرهمين جائز نقدًا، وإنما حرم ذلك نسيئة.
• أجمع المسلمون على تحريم الربا، إلا أنهم اختلفوا في ضابطه وفروعه.
قال الماوردي: ثم قد أجمع المسلمون على تحريم الربا، وإن اختلفوا في فروعه وكيفية تحريمه، حتى قيل: إن الله سبحانه وتعالى ما أحل الزنا ولا الربا في شريعةٍ قط
(1)
.
قال النووي: فقد أجمع المسلمون على تحريم الربا وعلى أنه من الكبائر، وقيل: إنه كان محرمًا في جميع الشرائع
(2)
.
قال ابن قدامة: وأجمعت الأمة على أن الربا محرم
(3)
.
• حكم ربا الفضل:
حكم ربا الفضل
حرام إلا أن خلافًا كان قد حدث بين الصحابة في حكمه ثم انتهى، فقد كان ابن عباس رضي الله عنه يقول بأن الربا في النسيئة فقط، ونُسب ذلك أيضًا لأسامة بن زيد وزيد بن أرقم، إلا أنه ورد من قول ابن عباس، وقد استدل على ذلك بما سمعه من أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ»
(4)
.
(1)
«الحاوي الكبير» (5/ 136).
(2)
«المجموع» (9/ 391).
(3)
«المغني» (7/ 491).
(4)
صحيح: وقد تقدم.
وحكي عن ابن عباس أنه رجع عن قوله.
•
هل ثبت عن ابن عباس أنه تراجع عن رأيه؟
نعم ثبت أن ابن عباس تراجع عن قوله هذا وسيأتي ذكره.
عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ زِيَادٍ قَالَ:«كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَرَجَعَ عَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِسَبْعِينَ يَوْمًا»
(1)
.
وعن أبي الجوزاء
(2)
قال: سَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِالصَّرْفِ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ- وَيُحَدَّثُ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، فَلَقِيتُهُ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجَعْتَ. قَالَ: نَعَمْ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَأْيًا مِنِّي. وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّرْفِ»
(3)
.
وعن أبي نضرة قال: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ، فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا، فَإِنِّي لَقَاعِدٌ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: مَا زَادَ فَهُوَ رِبًا.
(1)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (14548).
(2)
أبو الجوزاء: أوس بن عبد الله الربعي البصري من ربيعة الأزد، روى عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو وعائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم.
(3)
صحيح: أخرجه أحمد في «مسنده» (3/ 48)، وابن ماجه في «سننه» (2258) من طريق سليمان بن علي الربعي.
فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِمَا، فَقَالَ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: جَاءَهُ صَاحِبُ نَخْلِهِ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ طَيِّبٍ، وَكَانَ تَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا اللَّوْنَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَنَّى لَكَ هَذَا؟» قَالَ: انْطَلَقْتُ بِصَاعَيْنِ فَاشْتَرَيْتُ بِهِ هَذَا الصَّاعَ، فَإِنَّ سِعْرَ هَذَا فِي السُّوقِ كَذَا، وَسِعْرَ هَذَا كَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«وَيْلَكَ، أَرْبَيْتَ، إِذَا أَرَدْتَ ذَلِكَ، فَبِعْ تَمْرَكَ بِسِلْعَةٍ، ثُمَّ اشْتَرِ بِسِلْعَتِكَ أَيَّ تَمْرٍ شِئْتَ» ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ رِبًا، أَمِ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ؟، قَالَ: فَأَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ بَعْدُ فَنَهَانِي، وَلَمْ آتِ ابْنَ عَبَّاسٍ. قَالَ: فَحَدَّثَنِي أَبُو الصَّهْبَاءِ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهُ بِمَكَّةَ فَكَرِهَهُ
(1)
.
عن أبي الشعثاء جابر بن زيد قال: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ مِنَ الصَّرْفِ، إِنَّمَا هَذَا مِنْ رَأْيِي وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
حدثنا حيان بن عبيد الله العدوي، قال: سَأَلْتُ أَبَا مِجْلَزٍ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ، مَا كَانَ
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (4171).
(2)
صحيح: أخرجه الطبراني في «معجمه الكبير» (1/ 189)، و «الأوسط» (1620)، والخطيب البغدادي في «الفقه والمتفقه» (363)، والدولابي في «الكنى والأسماء» (826)، وابن شاهين في «ناسخ الحديث ومنسوخه» (491)، وعزاه الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف للنسائي في الكنى.
مِنْهُ عَيْنًا، يَعْنِي يَدًا بِيَدٍ، فَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ.
فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ لَهُ: يَا بْنَ عَبَّاسٍ أَلَا تَتَّقِي اللّهَ؟ إِلَى مَتَى تُوَكِّلُ النَّاسَ الرِّبَا؟ أَمَا بَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ: «إِنِّي لَأَشْتَهِي تَمْرَ عَجْوَةٍ» فَبَعَثَتْ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَجَاءَ بَدَلَ صَاعَيْنِ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ عَجْوَةٍ، فَقَامَتْ فَقَدَّمَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ أَعْجَبَهُ، فَتَنَاوَلَ تَمْرَةً، ثُمَّ أَمْسَكَ، فَقَالَ:«مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟» فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: بَعَثْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَانَا بَدَلَ صَاعَيْنِ هَذَا الصَّاعُ الْوَاحِدُ، وَهَا هُوَ كُلْ. فَأَلْقَى التَّمْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ:«رُدُّوهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، يَدًا بِيَدٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبًا» ثُمَّ قَالَ: «كَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ أَيْضًا» .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَاكَ اللَّهُ يَا أَبَا سَعِيدٍ الْجَنَّةَ، فَإِنَّكَ ذَكَّرْتَنِي أَمْرًا كُنْتُ نَسِيتُهُ، أَسْتَغْفِرُ اللّه وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ
(1)
.
(1)
ضعيف: أخرجه المروزي في «السنة» (177)، والحاكم في «مستدركه» (2/ 49)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 286)، وحبان بن عبيد الله العدوي ذكره ابن عدي في الضعفاء، وقال: وعامة ما يرويه إفرادات ينفرد بها. وقال البخاري: ذكر الصلت منه الاختلاط، وقال الذهبي عنه في «المغني»: ليس بحجة وقال في تعليقه على المستدرك: فيه ضعف وليس بحجة. وقال البيهقي: تكلموا فيه.
هذا وقد زعم ابن حزم رحمه الله (المحلى 8/ 12/ 4) أن أبا مجلز لم يسمع من ابن عباس، وهذا مخالف للصواب فقد صرح البخاري في «التاريخ الكبير» (2910) أن أبا مجلز سمع من ابن عباس وذكر هذا أيضًا الإمام مسلم في «الكنى والأسماء» (3362). وأبو مجلز هذا وثقه العلماء إلا أن ابن حجر قال عنه في تعريفه أهل التقديس (27): أشار ابن أبي خيثمة عن ابن معين إلى أنه كان يدلس، وجزم بذلك الدارقطني.
هذا، وقد ورد أثر عن سعيد بن جبير أن ابن عباس لم يرجع عن قوله في الصرف، وهذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» ، قال: أخبرنا ابن عيينة عن فرات القزاز، قال: عُدْنَا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ: أَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّرْفِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: عَهْدِي بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَمَا رَجَعَ عَنْهُ
(1)
.
وهذا الأثر الأخير يتعارض مع الأدلة المتقدمة والمُثِبْتة أن ابن عباس تراجع عن قوله. وقد يقال: هنا (إن القول المثبت يقدم على قول النافي)، وإن قيل: إن سعيدًا سمع هذا من ابن عباس قبل موته تعليل، فلعل هذا الفهم منه لقول ابن عباس كان عن مسألة خاصة، والله أعلى وأعلم.
(1)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (8/ 118)، والفاكهي في «أخبار مكة» (3/ 95).
• معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ربا إلا في النسيئة»
(1)
:
أردت أن أذكر أقوال أهل العلم في تفسير هذا الحديث لئلا يتوهم متوهم أنه معارض لحديث أبي سعيد: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ»
(2)
، والأمر ليس كذلك فليس هناك تعارض وإليك أقوال أهل العلم:
قال ابن حجر: اتفق العلماء على صحة حديث أسامة - يقصد: حديث «لا ربا إلا في النسيئة - واختلفوا في الجمع بينه، وبين حديث أبي سعيد، فقيل: منسوخ. ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقيل: المعنى في قوله: «لا ربا» التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب:(لا عالم في البلد إلا زيد) مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضًا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر، كما تقدم والله أعلم، وقال الطبري: معنى حديث أسامة لا ربا إلا في النسيئة، إذا
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2179)، ومسلم (4172)، وورد بعده ألفاظ معناها واحدة فورد بلفظ:«الربا في النسيئة» كما عند مسلم، وبلفظ:«إنما الربا في النسيئة» كما عند مسلم أيضًا، وورد أيضًا بلفظ:«لا ربا فيما كان يدًا بيد» وهو كذلك عند مسلم (4174).
(2)
متفق عليه: وقد تقدم.
اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يدًا بيد ربا جمعًا بينه وبين حديث أبي سعيد
(1)
.
قال النووي: وأما حديث أسامة: «لا ربا إلا في النسيئة» ، فقد قال قائلون بأنه منسوخ بهذه الأحاديث، وقد أجمع المسلمون على ترك العمل بظاهره وهذا يدل على نسخه.
وتأوله آخرون جملة تأويلات:
أحدها: أنه محمول على غير الربويات، وهو كبيع الدين بالدين مؤجلًا، بأن يكون له عنده ثوب موصوف فيبيعه بعبد موصوف مؤجلًا، فإن باعه به حالًا جاز.
الثاني: أنه محمول على الأجناس المختلفة، فإنه لا ربا فيها من حيث التفاضل بل يجوز تفاضلها يدًا بيد
(2)
.
الثالث: أنه مجمل وحديث عبادة بن الصامت وأبي سعيد
(1)
«فتح الباري» (4/ 382).
(2)
وهذا قول الشافعي فلقد قال رحمه الله: قد يحتمل أن يكون سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن الربا في صنفين مختلفين ذهب بفضة، وتمر بحنطة، فقال: إنما الربا في النسيئة. فحفظه، فأدى قول النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤد مسألة السائل، فكان ما أدى منه عند سمعه أن لا ربا إلا في النسيئة. «اختلاف الحديث» للشافعي (531).
الخدري وغيرهما مبين، فوجب العمل بالمبين وتنزيل المجمل عليه
(1)
، وهذا جواب الشافعي
(2)
.
قال ابن الجوزي: هذا الحديث محمول على أن أسامة سمع بعض الحديث، كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن بعض الأعيان الربوية ببعض كالثمر بالشعير والذهب بالفضة متفاضلًا، فقال: إنما الربا في النسيئة. وإنما حملناه على هذا لإجماع الأمة على خلافه، وإلى هذا المعنى ذهب أبو بكر الأثرم، وقد زعم قوم أنه منسوخ، وليس بشيء، قال أبو سليمان: النسخ إنما يقع في أمر قد كان في الشريعة، فأما إذا لم يكن مشروعًا. فلا يطلق عليه اسم نسخ. قال: وقد يغلط قوم فيقولون: شرب الخمر منسوخ. وهذا ما كان في شريعة قط فينسخ، وإنما كانوا يشربونها على عادتهم فحرمت
(3)
.
•
هل ربا الفضل يلحق الأصناف الستة المذكورة في حديث أبي سعيد فقط أو يلحق ما عداها من أصناف؟
مما سبق ذكره يتضح أن الأصناف الستة الواردة في حديث أبي سعيد - الذهب، والفضة، والبُر، والشعير، والتمر، والملح - يحرم
(1)
هذا أيضًا قول الشافعي وانظر: «اختلاف الحديث» (531).
(2)
«شرح صحيح مسلم» (11/ 25).
(3)
«كشف المشكل من حديث الصحيحين» (1/ 151).
التفاضل فيها عند اتحاد الجنس، فلا يحل لمسلم أن يبيع ذهبًا بذهب مع زيادة أو فضة بفضة مع زيادة.
أما غير هذه الأصناف الستة المذكورة من سائر أنواع الأصناف كاللحوم والفواكه وغير ذلك فهذا قد وقع فيها خلاف:
فذهب الأئمة الأربعة إلى أن الربا لا يختص بالأصناف الستة فقط، بل يتعدى إلى الأصناف الأخرى المشتركة مع هذه الأصناف في العلة، إلا أنهم اختلفوا في العلة في الأصناف الستة على ما سيأتي.
بينما ذهب فريق آخر من العلماء إلى قصر الربا على هذه الأصناف الستة التي ورد بها النص وعدم تعديه إلى غيرها من الأصناف، وهم أهل الظاهر، وحُكي هذا عن طاووس وعثمان البتي من الحنفية وابن عقيل من الحنابلة، وذهب إلى هذا أيضًا الصنعاني في كتابه «سبل السلام» .
هذا الذي ذكر إجمالٌ، وفيما ياتي التفصيل.
•
أدلة الجمهور القائلين بأن الربا يلحق ما عدا الأصناف الستة:
1 -
حديث سعيد بن المسيب أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأَنْصَارِيَّ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» ، قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الجَمْعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ المِيزَانُ»
(1)
.
قالوا: في هذا الخبر دليل على أن الحكم يتعدى الأصناف الستة إلى كل ما يوزن بالميزان.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2302، 7350)، ومسلم (4165)، وهذا وقد غمز الإمام البيهقي رحمه الله في لفظة:«وكذلك في الميزان» إذ قال في «السنن الكبرى» (5/ 285): وأخرجاه من حديث مالك عن عبد المجيد دون قوله: «وكذلك الميزان» ورواه قتادة عن سعيد بن أبي سعيد دون هذه اللفظة. اهـ.
قلت: أما نفيه رحمه الله أن أحدًا من الشيخين لم يروها من طريق مالك بهذه اللفظة فإن البخاري أخرجه (2302) من طريق مالك بلفظه، وقال: في «الميزان مثل ذلك» ، وهي قريبة في المعنى.
وقال البيهقي أيضًا في «معرفة السنن والآثار» (8/ 55): وقوله: «وكذلك الميزان» يشبه أن يكون من جهة أبي سعيد الخدري.
2 -
حديث معمر بن عبد الله: كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْل» قَالَ: وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ
(1)
.
قالوا: في هذا الخبر عمم الطعام كله، ولم يقتصر على البُر والتمر والملح والشعير.
3 -
قالوا: حديث أبي سعيد لا يفيد الحصر، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصر في بعض الأحاديث على النقدين فقط، وفي بعضها على أربعة أصناف فقط.
واستدلوا بحديث عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ»
(2)
، وبحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»
(3)
.
4 -
حديث: «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (4164) وقد تقدم.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (4142).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (2177)، ومسلم (4138) وقد تقدم.
بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ؛ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ - وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا -»
(1)
.
قالوا: قوله: «ولا الصاع بالصاعين» لم يقصد به عين الصاع، وإنما يقصد كل ما دخل تحت الصاع.
5 -
القياس قالوا: بأن في الأصناف الستة أوصافًا لها أثر في التحريم فيجب مراعاة هذه الأوصاف، واستخراج علة هذه الأحكام، والنظر في بقية الأصناف المشتركة في نفس العلة لتضمنها نفس الحكم، إذ أن القياس دليل شرعي.
•
بعض النُقول عن أصحاب المذاهب الأربعة:
قال السرخسي: اتفق فقهاء الأمصار على أن حكم الربا غير مقصور على الأشياء الستة وإن فيها معنى يتعدى الحكم بذلك المعنى إلى غيرها من الأموال، إلا داود من المتأخرين وعثمان البتي من المتقدمين، فإن داود يقول: حكم الربا مقصور على هذه الأشياء
(1)
ضعيف: أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 109) من طريق خلف بن خليفة عن أبي جناب عن أبيه عن ابن عمر، وأبو جناب هو يحيى بن أبي حية الكلبي، ضعيف كثير التدليس، وأبوه هو أبو حية حي الكلبي الكوفي متكلم فيه، ولا يخفى أن خلف بن خليفة كان قد اختلط في آخره. هذا ومعنى الحديث يصح بشواهده.
الستة؛ لأنه لا يجوز قياس غير المنصوص على المنصوص لإثبات الحكم، وعند فقهاء الأمصار - رحمهم الله تعالى- القياس حجة لتعدية الحكم الثابت بالنص، والبتي يقول: بأن القياس حجة ولكن من أصله أن لا يجوز القياس على الأصول إلا أن يقوم دليل في كل أصل على جواز القياس عليه
…
(1)
.
قال ابن رشد:
وأما الجمهور من فقهاء الأمصار فإنهم اتفقوا على أنه من باب الخاص أريد به العام، بخلاف غيرهم، فإنهم جعلوا النهي المتعلق بالأعيان الستة من باب الخاص أريد به الخاص
(2)
.
قال الشافعي:
وإنما حرمنا غير ما سمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المأكول والمكيل لأنه في معنى ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه
(3)
.
قال الماوردي:
أما المنصوص عليه في الربا فستة أشياء، وردت السنة بها وأجمع المسلمون عليها، وهي الذهب والفضة والبُر والشعير والتمر والملح.
(1)
«المبسوط» للسرخسي (12/ 197).
(2)
«بداية المجتهد» (2/ 129).
(3)
«الأم» (3/ 30).
واختلف الناس في ثبوت الربا فيما عداها: فحُكي عن طاوس وقتادة ومسروق والشعبي وعثمان البتي وداود بن علي الظاهري ونفاة القياس بأسرهم - أنه لا ربا فيما عدا الستة المنصوص عليها، فلا يجوز التخطي عنها إلا ما سواها تمسكًا بالنص ونفيًا للقياس واطراحًا للمعاني، وذهب جمهورالفقهاء ومثبتوا القياس إلى أن الربا يتجاوز المنصوص عليه إلى ما كان في معناه
(1)
.
قال ابن قدامة:
فهذه الأعيان المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والإجماع، واختلف أهل العلم فيما سواها، فحُكي عن طاوس وقتادة أنهما قصرا الربا عليها، وقالا: لا يجري في غيرها. وبه قال داود ونفاة القياس، وقالوا: ما عداها على أصل الإباحة لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، واتفق القائلون بالقياس على أن ثبوت الربا فيها بعلة، وأنه يثبت في كل ما وجدت فيه علتها؛ لأن القياس دليل شرعي فيجب استخراج علة هذا الحكم وإثباته في كل موضعٍ وجدت علة فيه، وقول الله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، يقتضي تحريم كل زيادة، إذ الربا في اللغة الزيادة، إلا ما أجمعنا على تخصيصه، وهذا يعارض ما ذكروه
(2)
.
(1)
«الحاوي الكبير» (5/ 152).
(2)
«المغني» لابن قدامة (7/ 494).
•
وجهة القائلين بأن الربا مقصور على الأصناف الستة فقط:
قالوا: إن في الحديث تخصيصًا للآية، ففيه تخصيص لأربعة أشياء فقط من المكيلات والمطعومات والأقوات، وقالوا: لو كان الحكم ثابتًا في كل المكيلات والمطعومات لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول: (لا تبيعوا المكيل بالمكيل) أو (لا تبيعوا الموزون بالموزون)، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك فالحكم مقصور على ما ذُكر فقط.
هذا وليعلم أن منهم من يرد القياس مطلقًا، ومنهم من يقبله ويقره ولكن لا يعمل به في هذه المسألة لعدم ورود دليل متفق عليه يُثبت علة التحريم.
قال الصنعاني: ولكن لما لم يجدوا علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافًا كثيرًا يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهب إليه الظاهرية من أنه لا يجري الربا إلا في الستة المنصوص عليها
(1)
.
•
الراجح في المسألة:
هو ما ذهب إليه الأئمة الأربعة وغيرهم من جماهير أهل العلم القائلين بأن الربا غير مقصور على الأصناف المذكورة الستة فقط، بل يتعداها لغيرها مما اشترك معها في العلة أو المعنى؛ وذلك لقوة أدلتهم التي ذكرت والله أعلم.
(1)
«سبل السلام» (3/ 38).
•
علة تحريم الربا في الأصناف الستة:
اختلف العلماء في العلة التي هي سبب تحريم الربا في الأصناف الستة، ومع اختلافهم هذا إلا أنهم اتفقوا في أصل واحد، وهو أن الحديث ينقسم قسمين أو يتعلق بموضوعين: الأول: النقدان، والثاني: الأصناف الأربعة ماعدا النقدين؛ لذلك نجدهم يختلفون في علة الربا في النقدين على حدة ثم يختلفون في علة الأصناف الأربعة الأخرى على حدة.
•
علة تحريم الربا في النقدين:
اختلف العلماء في علة تحريم الربا في النقدين على ثلاثة أقوال:
الأول: العلة فيهما الوزن مع الجنس، وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد في المشهور عنه، وهو قول الثوري والزهري.
الثاني: العلة فيهما غلبة الثمنية أو جوهر الثمنية، وإلى هذا ذهب الإمام مالك والإمام الشافعي في المشهور عنهما، وهو رواية عن الإمام أحمد.
الثالث: العلة فيهما مطلق الثمنية وهذا قول للمالكية غير مشهور، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
وعلى هذه الأقوال الثلاثة تخرج الأحكام مختلفة: فعلى القول الأول فإن الحكم بالربا سيتعدى إلى كل موزون. وعلى القول الثاني
فإن الحكم بالربا سيكون مقصورًا على الذهب والفضة فقط. وعلى القول الثالث سيتعدى الحكم إلى كل ما هو ثمني.
هذا الذي ذُكر إجمالٌ وإليك التفصيل:
•
أدلة القول الأول: (العلة فيهما الوزن مع الجنس)
1 -
حديث سعيد بن المسيب أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأَنْصَارِيَّ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» ، قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الجَمْعِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ المِيزَانُ»
(1)
.
ومحل الشاهد في هذا الحديث «وكذلك الميزان» . ووجه الحجة أنه اشتراط المماثلة، ولا يتحقق إلا بالكيل، ثم قاس عليه الميزان، أي ما يدخل تحته الوزن
(2)
.
وقد أجيب على هذا الاستدلال بأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وكذلك الميزان» أي: (لا يجوز التفاضل فيه فيما كان ربويًّا
(1)
صحيح: وقد تقدم ص (103).
(2)
انظر: «نصب الراية» (4/ 36).
موزونًا)
(1)
(2)
.
2 -
حديث حيان بن عبيد الله العدوي قال: سُئل لاحق بن حميد أبو مجلز - وأنا شاهد - عن الصرف فقال: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ، مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا، يَعْنِي يَدًا بِيَدٍ، فَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ.
فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ لَهُ: يَا بْنَ عَبَّاسٍ أَلَا تَتَّقِي الله؟ إِلَى مَتَى تُوَكِّلُ النَّاسَ الرِّبَا؟ أَمَا بَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ: «إِنِّي لَأَشْتَهِي تَمْرَ عَجْوَةٍ» فَبَعَثَتْ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَجَاءَ بَدَلَ صَاعَيْنِ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ عَجْوَةٍ، فَقَامَتْ فَقَدَّمَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ أَعْجَبَهُ، فَتَنَاوَلَ تَمْرَةً، ثُمَّ أَمْسَكَ، فَقَالَ:«مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟» فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: بَعَثْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَانَا بَدَلَ صَاعَيْنِ هَذَا الصَّاعُ الْوَاحِدُ، وَهَا هُوَ كُلْ فَأَلْقَى التَّمْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ:«رُدُّوهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، يَدًا بِيَدٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبًا» ثُمَّ قَالَ: «كَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ أَيْضًا» .
(1)
«شرح النووي على مسلم» (11/ 22).
(2)
أشرنا قبلُ في تخريج هذا الحديث إلى أن البيهقي غمز لفظة: «وكذلك الميزان» وأشار إلى احتمالية أن تكون من قول أبي سعيد.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَاكَ اللَّه يَا أَبَا سَعِيدٍ الْجَنَّةَ، فَإِنَّكَ ذَكَّرْتَنِي أَمْرًا كُنْتُ نَسِيتُهُ، أَسْتَغْفِرُالله وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ
(1)
.
ووجه الاستدلال: «هنا قوله وكل ما يكال أو يوزن» فالحنفية رحمهم الله يرون أنه حكم بأن كل ما يكال أو يوزن يجري فيه الربا.
وقد يجاب عليهم أيضًا بأن المعنى أنه لا يجوز التفاضل فيما كان ربويًّا موزونًا، وبأن الخبر هنا لا يصح، أو بما أجاب به البيهقي بأن لفظة «كل ما يكال أو يوزن» من كلام أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3 -
ما أخرجه الدارقطني في «سننه» من طريق أبي بكر بن عياش عن الربيع بن صبيح عن الحسن عن عبادة وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا وُزِنَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ إِذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، وَمَا كَيْلَ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ»
(2)
.
(1)
ضعيف: وقد تقدم ص (109).
(2)
ضعيف: أخرجه الدارقطني في «سننه» (2853)، والربيع بن صبيح ضَعَّفه بعض أهل العلم، وقال الدارقطني عقب هذا الحديث: لم يروه غير أبي بكر عن الربيع هكذا، وخالفه جماعة فرووه عن الربيع عن ابن سيرين عن عبدة وأنس بلفظ غير هذا اللفظ.
•
من كلام الأحناف والحنابلة رحمهم الله:
قال السرخسي: ثم اختلفوا بعد ذلك في المعنى الذي يتعدى الحكم به إلى سائر الأموال، قال علماؤنا رحمهم الله تعالى
(1)
: الجنسية والقدر، عرفت الجنسية بقوله صلى الله عليه وسلم:«الذهب بالذهب والحنطة بالحنطة» ، والقدر بقوله صلى الله عليه وسلم:«مثل بمثل» ويعني بالقدر الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن
(2)
.
قال المرداوي: قوله: «فأما ربا الفضل فيحرم في الجنس الواحد من كل مكيل أو موزون» هذا هو الصحيح من المذهب
(3)
بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب وجزم به في «الوجيز» وغيره وقَدَّمه في «الفروع» وغيره وقال هذا المذهب.
قال الشارح
(4)
: هذا أشهر الروايات وذكره الخرقي وابن أبي موسى وأكثر الأصحاب قال القاضي: اختراها الخرقي وشيوخ أصحابنا، قال الزركشي: هي الأشهر عنه ومختار عامة أصحابه، قال في «الرقائق»: اختاره الأكثرون، فعليها علة الربا في الذهب والفضة
(1)
يقصد علماء الأحناف.
(2)
«المسبوط» للسرخسي (12/ 99).
(3)
يقصد مذهب الحنابلة رحمهم الله.
(4)
لعله يقصد شارح المقنع المسمى بالشافي لابن أبي عمر المقدسي شمس الدين.
كونهما موزون جنس
(1)
.
•
وجهة أصحاب القول الثاني (العلة فيهما غلبة الثمنية أو جوهر الثمنية):
قال الشيخ عمر بن عبد العزيز المترك:
احتج من قال بغلبة الثمنية بأن النقدين جوهران نفيسان بهما تُقدر الأموال، ويُتوصل بهما إلى سائر الأشياء، فهما أثمان المبيعات غالبًا وقيم المتلفات في جميع أقطار الدنيا ولهما المكانة العالمية والقيمة العالية، فهما رائجان عند كل الأمم ولدى كل الدول قديمًا وحديثًا، وذلك لخصائص ومزايا اعتبرت في هذين المعدنين في الأوصاف والندرة كانا بهما أثبت من سواهما ليكونا أساسًا للتمويلات ومقياسًا لقيم سائر الأشياء وواسطة بين الإنسان وحاجاته؛ ولهذا قال بعض الفقهاء: إنهما يعتبران أثمانًا بالخلقة ولو غير مسكوكين، ولم يجعلا سلعًا يتجر فيهما
(2)
(3)
.
(1)
«الإنصاف» (5/ 13).
(2)
«الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية» (106) طبعة دار العاصمة للنشر والتوزيع.
(3)
أفدت كثيرًا من هذا الكتاب «الربا والمعاملات المصرفية» ، فأسأل الله جل وعلا أن يرحم مؤلفه الشيخ عمر بن عبد العزيز رحمةً واسعة، كذلك أسأل الله عز وجل أن يرحم من نشره وساعد في إخراجه وقَدَّم له وهو فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله، كذلك أسأل الله جل وعلا في هذا المقام أن يرحم شيوخنا ووالدينا وكل من كان له فضل علينا.
•
من كلام المالكية والشافعية رحمهم الله:
قال الخرشي المالكي: واختلف على أنه معلل هل علته غلبة الثمنية وهو المشهور، وقوله:(ومطلق الثمنية) وهو خلاف المشهور
(1)
.
قال النووي: واختلفوا في العلة التي هي سبب تحريم الربا في الستة: فقال الشافعي: العلة في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان، فلا يتعدى الربا منهما إلى غيرهما من الموزونات وغيرها لعدم المشاركة. قال: والعلة في الأربعة الباقية كونها مطعومة، فيتعدى الربا منها إلى كل مطعوم. وأما مالك فقال في الذهب والفضة كقول الشافعي رضي الله عنه
(2)
.
•
وجهة أصحاب القول الثالث (العلة فيهما مطلق الثمنية):
إن التعليل بمطلق الثمنية هو التعليل الذي يتناسب مع المقصد من تحريم جريان الربا في الذهب والفضة، إذ أن المقصد في تحريم جريان الربا في الذهب والفضة (أن تكون معيارًا للأموال يتوصل بها
إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فمتى بِيع بعضها ببعض إلى أجل قُصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوصل بها إلى تحصيل المطالب]
(1)
، [فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يُعطى صحاحًا ويأخذ مكسرة، أو خفافًا ويأخذ ثقالًا أكثر منها، لصارت متجرًا، وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولابد، فالأثمان لا تُقصد لأعيانها بل يُقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في نفسها سلعًا تُقصد لأعيانها فسد الأمر، وهذا معنى معقول يختص بالنقود ولا يتعدى إلى سائر الموزونات)
(2)
.
الراجح: هو القول القائل بأن العلة فيهما مطلق الثمنية وعلى هذا يتعدى الحكم إلى كل ما اتخذه الناس سكةً بينهم وراج رواج النقدين، كالأوراق النقدية
(3)
، إذ أن الأوراق النقدية صارت عملة
(1)
«مجموع الفتاوى» (29/ 471).
(2)
«إعلام الموقعين» (2/ 157).
(3)
لم تُعرف الأوراق النقدية إلا في العصر الحديث؛ لذلك لا نجد للعلماء المتقدمين فيها حكمًا، إلا أن العلماء لما عمت هذه الأوراق وأصبحت هي الوسيط بين الناس في التبادل حتى إنها صارت العملة الرائجة ولم يجدوا فيها نصًّا لعلماء المذاهب المتقدمين اجتهدوا وخَرَّجوا فتواهم على أقوال السابقين، فمنهم من جعلها إسناد بدين ومنهم من جعلها عروضًا، ومنهم من جعلها فلوسًا وبعضهم قال: هي متفرعة عن الذهب والفضة فهي بدل والبدل له حكم المبدل عنه. كذا قالوا، ومنهم من قال بأن الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه.
وعلى ترجيح أي وجه من هذه الأوجه والتخريجات تختلف الأحكام.
رائجة تحمل خصائص الأثمان من كونها مقياسًا للقيم وتعتبر قوة شرائية مطلقة، إذ أن معنى الثمنية هو المعنى الذي يميز النقدين عن غيرهما، فالذهب والفضة هما الأصل في المعاملات المتبادلة بين الناس في عصر النبوة.
وعلى هذا الذي رجُحَ يكون القول بأن العلة الوزن قولًا مرجوحًا إذ أن هذا التعليل ينافي الإجماع المنعقد على جواز إسلام النقدين في الموزونات من النحاس والحديد ولو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل، ثم إن الوزن ليس وصفًا ملازمًا للأموال بل هو أمر عارض، فعلةُ التحريم لا تؤخذ من أداة التقدير للشيء، إنما علة التحريم تكون في ذات الشيء.
كذلك القول القائل بأن العلة غلبة الثمنية أو جوهر الثمنية مرجوح إذ أن فيه مفسدة تنافي المقصد من تحريم الربا؛ لأن معاملات الناس اليوم أصبحت بغير النقدين، وعلى هذا القول سيفتح الباب للربا ويغلق باب الزكاة لكون القائل بهذا سيقول إنما النصاب في الذهب والفضة فقط ولا يكون في الأوراق النقدية.
•
علة تحريم الربا في الُبر والشعير والتمر والملح:
اختلف أهل العلم في تحديد العلة من تحريم الربا في الأصناف الأربعة (البُر والشعير والتمر والملح). إلى أقوال كثيرة متشعبة، أشهرها أربعة أقوال:
القول الأول: العلة فيها الجنس والقدر، ويعنون بالقدر الكيل الوزن، أي إن الربا يجري في مكيل أو موزون بجنسه، مطعومًا كان أو غير مطعوم كالحبوب والقطن والصوف والكتان، ولا يجري الربا عند أصحاب هذا القول في مطعوم لا يكال ولا يوزن، وهذا قول الحنفية وهو المشهور من أقوال الإمام أحمد.
القول الثاني: العلة فيها الجنس والطعم، أي إن الربا تجري في كل مطعوم بجنسه ولا يجري فيما عدا ذلك، وهذا قول الشافعي، والرواية الثانية عند أحمد.
القول الثالث: العلة فيها القوت أو ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدخرات، وهذا قول المالكية
(1)
.
القول الرابع: العلة فيها الطعم والجنس مكيلًا كان أو موزونًا وعلى هذا يجري الربا في كل ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من
(1)
وورد قول آخر عن المالكية وهو: العلة الاقتيات والادخار وكونه متخذًا للعيش غالبًا.
جنس واحد، أما ما انعدم فيه الكيل والوزن والطعم فلا ربا فيه. وهذا قول الشافعي في القديم والرواية الثالثة عند أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
•
أدلة أصحاب القول الأول (العلة فيها الجنس والقدر):
استدلوا بنفس الاستدلالات المتقدمة في كون العلة في النقدين الوزن مع الجنس ومنها حديث الجنيب وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: «لا تفعلوا إلا مثلًا بمثلٍ، أو بيعوا هذا، واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان»
(1)
.
واستدلوا أيضًا على كون الربا لا يجري في كل مطعوم لا يكال ولا يوزن بالآتي:
1 -
حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ؛ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ» - وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا - فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَبِيعُ الْفَرَسَ بِالْأَفْرَاسِ، وَالنَّجِيبَةَ
(2)
بِالْإِبِلِ؟ قَالَ: «لَا بَأْسَ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»
(3)
.
(1)
صحيح: تقدم ص (103).
(2)
النجيبة: مؤنث النجيب، جمع نجائب، ويقال نجائب الإبل: خيارها «المعجم الوسيط» (2/ 901).
(3)
إسناده ضعيف ولمعناه شاهد صحيح: وقد تقدم ص (102) أما شاهده فهو حديث الحسن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وهذا الحديث صحيح وسيأتي، أما شاهده فهو بدلا له المفهوم إذ أن النهي مقتصر على بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فقط، أما أن يكون يدًا بيد فلا.
2 -
حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا وُزِنَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ إِذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، وَمَا كَيْلَ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ»
(1)
.
قال ابن قدامة المقدسي: ولأن قضية البيع المساواة، والمؤثر في تحقيقها الكيل والميزان والجنس، فإن الوزن أو الكيل يسوي بينهما صورةً، والجنس يسوي بينهما معنى، فكانا علة، ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم، بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة إنه جائز إذا تساويا في الكيل
(2)
.
•
دليل أصحاب القول الثاني (العلة فيها الجنس والطعم):
1 -
حديث معمر بن عبد الله قال: كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ»
(3)
.
(1)
ضعيف وقد تقدم ص (120).
(2)
«المغني» (4/ 135).
(3)
صحيح: وقد تقدم ص (103).
وحجتهم أن الحكم إذا عُلق باسم مشتق دل على أن المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم، مثل قوله سبحانه:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ففهم أن السرقة هي علة قطع اليد، وعلى هذا فقد جاء في هذا الحديث «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، فتبين أن الطعم هو علة الحكم؛ لأن الطعام مشتق من الطعم.
وأجاب ابن حزم على هذا الاستدلال فقال:
ولا حجة لهم في الخبر المذكور؛ لأنه إنما فيه الطعام بالطعام مثلًا بمثل، وليس فيه المنع عنه مثلًا بأكثر، ولا إباحة، إنما هو مسكوت عنه، فوجب طلبه من غير هذا الخبر.
وأيضًا: فإن لفظة الطعام لا تُطلق في لغة العرب إلا على البُر وحده، كما روينا من طريق أبي سعيد الخدري وهو حجة في اللغة:«كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعَ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعَ أَقِطٍ»
(1)
، فلم يوقع اسم الطعام إلا على البُر وحده.
وأيضًا: فإذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» موجبًا عندكم للمنع من بيع الطعام بالطعام أكثر من مثل بمثل، فاجعلوا ولابد اقتصاره عليه السلام على ذكر الأصناف الستة مانعًا
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (1508)، ومسلم (2330).
من وقوع الربا فيما عداها وإلا فقد تناقضتم
(1)
.
قلت: وهذا الذي ذكره ابن حزم غريب جدًّا!! فقوله: («الطعام بالطعام مثلًا بمثل» ليس فيه المنع عنه مثلًا بأكثر ولا إباحة إنما هو سكوت عنه) فهذا قول مردود إذ أن أهل اللغة يعرفون أن هذا من باب الخبر الذي يراد به الأمر، والأمر يأتي في صورة الخبر للتأكيد: مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وكقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ 10 تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف: 10، 11]، والمعنى آمِنوا بالله ورسوله. فهو خبر في معنى الأمر، ويأتي الخبر بمعنى الأمر إيذانًا بوجوب الامتثال، فكأن المخاطب امتثل وبدأ في تنفيذ المطلوب، ومثله في الدعاء قول القائل:«رحمك الله» فهي جملة خرجت في صورة الخبر ثقة بالإجابة، وكأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها، والأمثلة على إيراد الخبر بمعنى الأمر كثيرة في القرآن والسنة.
وأما قوله: (لفظة الطعام لا تطلق في لغة العرب إلا على البُر وحده) فهو أيضًا غريب، إذ أن الطعام في لغة العرب: كل ما يؤكل وبه قوام البدن، فهو عام لكل ما يطعم من مأكول ومشروب، قال تعالى:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93]، وقال
(1)
«المحلى» (8/ 474) ط دار التراث.
تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، وقال تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 24، 25]، وقال تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا 8 إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 8، 9]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زمزم:«إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ»
(1)
، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا:«لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ»
(3)
، وفي حديث عبد الله بن عمرو أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»
(4)
.
وفي الحديث أَنَّ أُمَّ قَيْسٍ بنْتَ مِحْصَنٍ أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (6513).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2435)، ومسلم (4608) من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1274) من حديث عائشة.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (12)، ومسلم (169).
-صلى الله عليه وسلم فِي حَجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ
(1)
. وغير ما ذكر الكثير.
وعلى هذا فكلمة (الطعام) يراد بها لغة وعرفًا وشرعًا كل ما يؤكل ويطلق أحيانًا على ما يُشرب، أما ما قاله ابن حزم من أن اسم الطعام لا يقع إلا على البُر خاصة، فنحن لا نخالفه في أنها لغة أهل الحجاز والعراق، فكانوا يطلقون على البر الطعام، ولكن هذا يحتاج إلى النظر إلى سياق كلامهم، فالنظر إلى السياق يوصل إلى المعنى، أما إذا أطلقت كلمة (طعام) فهي على عمومها.
وأما قوله: (فإذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطعام بالطعام مثلًا بمثل» موجبًا عندكم للمنع من بيع الطعام بالطعام أكثر من مثل بمثل، فاجعلوا ولابد اقتصاره عليه السلام على ذكر الأصناف الستة مانعًا من وقوع الربا فيما عداها، وإلا قد تناقضتم) فنقول بأن هذا ليس تناقضًا إنما هو فهم دقيق لمدلولات الخطاب، وقد سبق بيان أن هذا من قبيل الخبر الذي يراد منه الأمر تأكيدًا لوجوب امتثاله.
•
وجهة أصحاب القول الثالث (العلة فيها القوت أو ما يصلح به القوت):
قالوا: لو كان المقصود الطعم وحده لاكتفى النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (223)، ومسلم (691).
بصنف واحد ينبه عليه، أما كونه صلى الله عليه وسلم ذكر أربعة أصناف ففيه بيان أنه والله أعلم له مقصد في كل صنف من هذه الأصناف، فنبه صلى الله عليه وسلم بالبُر على كل ما يقتات في حال الرفاهية، ونبه بالشعير على كل ما يحتاج ويقتات في حال الشدة كالذرة، ونبه بالتمر على كل ما يقتات وفيه حلاوة كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على كل ما يدخر لإصلاح الطعام كالتوابل، وقالوا أيضًا ما يفيد أن هذا هو المناسب للمقصد من تحريم الربا.
قال ابن رشد: فإنهم قالوا لما كان معقول المعنى في الربا إنما هو أن لا يغبن بعض الناس بعضًا وأن تحفظ أموالهم فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش وهي الأقوات
(1)
.
•
وجهة أصحاب القول الرابع (العلة فيها الطعم والجنس مكيلًا أو موزونًا:
وجهتهم أن الأصناف التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث اجتمع فيها الطعم مع الكيل أو الوزن، والأصل في البيع والشراء الحل، ولا يحق أن نحرم إلا ما تبين بالدليل حرمته والعلة الظاهرة والمشتركة بين الأصناف الأربعة هي الطعم مع الكيل أو الوزن.
(1)
«بداية المجتهد» (2/ 131).
واستدلوا أيضًا بالأحاديث التي فيها ذكر الكيل والوزن وقد تقدمت
(1)
. فجَمَع أصحاب هذا القول بين القول القائل بالوزن أو الكيل مع الجنس، والقول بالطعم مع الجنس.
هذا الذي ذكر إظهار بعض أدلة القوم ووجهاتهم وإليك نقل يسير عن أصحاب المذاهب التي تقدمت من كتبهم:
•
قول الأحناف:
قال السرخسي: قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: الجنسية والقدر - يقصد العلة -عُرفت الجنسية بقوله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة» ، والقدر بقوله صلى الله عليه وسلم:«مثل بمثل» ، ويعني بالقدر الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن، وظن بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى أن العلة مع الجنس الفضل على القدر، وذلك محكي عن الكوفي ولكنه ليس بقوي فإنه لا يجوز إسلامُ قفيز حنطة في قفيز شعير ولا تثبت حرمة النَّساء إلا بوجود أحد الوصفين، ولو كانت العلة هي الفضل لما حرم النساء هنا لانعدام، الفضل فعرفنا
(1)
استدلوا أيضًا بِحِديثِ الصواب فيه الوقف على سعيد أخرجه مالك في «الموطأ» (1306) عن أبي الزناد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: لا ربا إلا في ذهب أو فضة أو يكال أو يوزن بما يؤكل أو يشرب. قال الدارقطني: هذا مرسل ووهم ابن المبارك على مالك برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قول سعيد بن المسيب مرسل. سنن الدارقطني (3/ 400).
أن العلة نفس القدر مع الجنس
(1)
.
•
قول المالكية:
قال الحطاب المالكي: وإنما اختلفوا في العلة المقتضية للمنع حتى يقاس عليها، وقد اختُلف فيها على عَشَرة أقوال، ذكر المصنف منها قولين:
الأول: أنها الاقتيات والادخار، قال ابن الحاجب: وعليه الأكثر، قال بعض المتأخرين: وهو المعول عليه في المذهب، وتأول ابن رشد المدونة عليه، قال بعض المتأخرين: وهو المشهور من المذهب، ومعنى الاقتيات أن يكون الطعام مقتاتًا، أي تقوم به البنية، ومعنى الادخار أن لا يفسد بتأخيره إلا أن يخرج التأخير عن العادة.
والقول الثاني: أن العلة الاقتيات والادخار، وكونه متخذًا للعيش غالبًا، وهذا القول للقاضيين أبي الحسن بن القصار وعبد الوهاب، وعَبَّر عنه صاحب التنبيهات بالمقتات المدخر الذي هو أصل للمعاش غالبًا، ونسبه للبغداديين، قال: وتأول أبو جعفر بن زرب المدونة عليه، ثم ذكر القول الأول، فقال: وذهب كثير من شيوخنا إلى أنه لا يلزم التعليق بكونه أصلًا للعيش، وإنما المراد ادخاره غالبًا وكونه قوتًا. قال: وعلى اختلاف التعليلين اختلف أهل المذهب في البيض والتين؛
(1)
«المبسوط» (12/ 199).
لأنهما مدخران، بأن يُشوى ويُجعل في خلٍّ أو غيره، وقيل: غير مدخر، وقيل غير مقتات، وقيل: مقتات
(1)
.
•
قول الشافعية:
قال الشافعي: ولا نخالف في شيء من أحكام ما نصت السنة، من المأكول وغيره، وكل ما كان قياسًا عليها مما هو في معناها وحكمه حكمها، لم نخالف بين أحكامها وكل ما كان قياسًا عليها مما هو في معناها حكمنا له حكمها، من المأكول والمشروب والمكيل والموزون وكذلك ما في معناها عندنا والله أعلم، كل مكيلٍ ومشروبٍ بيع عددًا؛ لأنا وجدنا كثيرًا منها يوزن ببلدة ولا يوزن بأخرى، ووجدنا عامة الرطب بمكة إنما يباع في سلالة جزافًا، ووجدنا عامة اللحم إنما يباع جزافًا، ووجدنا أهل البدو إذا تبايعوا لحمًا أو لبنًا لم يتبايعوه إلا جزافًا، وكذلك يتبايعون السمن والعسل والزبد وغيره، وقد يوزن عند غيرهم ولا يمتنع من الوزن والكيل في بيع من باعه جزافًا أو عددًا فهو في معنى الكيل والوزن من المأكول والمشروب عندنا والله أعلم، وكل ما يبقى منه ويدخر وما لا يبقى ولا يُدخر سواء، لا يختلف، فلو نظرنا الذي يبقى منه ويدخر ففرقنا بينه وبين ما لا يبقى ولا يدخر، وجدنا التمر كله يابسًا يبقى غايةً، ووجدنا الطعام كله لا يبقى ذلك البقاء، ووجدنا اللحم لا يبقى ذلك البقاء،
(1)
«مواهب الجليل شرح مختصر خليل» (6/ 198).
ووجدنا اللبن لا يبقى ولا يُدخر، فإن قال قد يوقط، قيل: وكذلك عامة الفاكهة الموزونة قد تيبس وقشر الأترج بما لصق فيه ييبس، وليس فيما يبقى وما لا يبقى معنى يفرق بينه إذا كان مأكولًا أو مشروبًا فكله صنف واحد، والله أعلم
(1)
.
•
قول الحنابلة:
قال ابن قدامة: واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما؛ فَرُوي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات، أشهرهن أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس، نقلها عن أحمد الجماعة، وذكرها الخرقي وابن أبي موسى، وأكثر الأصحاب، وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي، فعلى هذه الرواية يجري الربا في كل مكيل أو موزون بجنسه، مطعومًا كان أو غير مطعوم، كالحبوب والأشنان، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن؛ لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ؛ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ - وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا -» . فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَبِيعُ
(1)
«الأم» (3/ 17).
الْفَرَسَ بِالْأَفْرَاسِ، وَالنَّجِيبَةَ بِالْإِبِلِ؟ قَالَ:«لَا بَأْسَ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»
(1)
(2)
.
الحاصل: أن الفقهاء رحمهم الله اختلفوا في العلة من تحريم الربا في الأصناف الأربعة، نشأ هذا الخلاف عن الأقيسة، فكل فريق ينظر إلى علة واحدة جمعتها الأصناف الأربعة ثم يقيس عليها، توسع هذا الخلاف إلى إيراد أقوال كثيرة منها ما هو معتبر ومنها ما هو غير معتبر وأشهر هذه الأقوال وأقواها أربعة أقوال:
أولها: العلة هي الجنس والقدر.
ثانيها: العلة هي الجنس والطعم.
ثالثها: العلة هي القوت والادخار.
رابعها: العلة هي الطعم والجنس مكيلا كان أو موزونًا.
وإذا نظرنا إلى هذه الأقوال مجتمعة، وجدنا أن القول بأن العلة هي الجنس والقدر بعيد عن الصواب وفيه تعسير على المسلمين بما لم ينزل الله ولم يشرع رسوله صلى الله عليه وسلم إذ أن القائل بهذا القول سيجعل حكم الربا جاريًا في كل مكيل وكل موزون سواء كان مطعومًا أم غير مطعوم، وهذا ليس عليه دليل ولا برهان.
(1)
تقدم ذكره.
(2)
«المغني» (7/ 496).
وإذا نظرنا إلى قول القائل بأن العلة القوت والادخار، نجده غير واضح إذ أن مطعومات كثيرة كانت لا تقتات ولا تدخر، أصبحت الآن تقتات وتدخر، وأصبح إدخار الطعام سهلًا ميسورًا، فهل الحكم سيتغير في الصنف الواحد من عصر إلى عصر؟ هذا محال إذ أن الحكم لا يتغير بينما الفتوى هي التي تتغير أحيانًا. أما قول القائل بأن العلة هي الطعم والجنس مكيلًا كان أو موزونًا، فأرى التقييد بالكيل والوزن أيضًا غير سديد، إذ أن أشياء تكال في بلد لا تكال في بلد أخرى، وأشياء أخرى كانت لا تكال ولا توزن، أصبحت الآن تكال وتوزن بل تباع بالجرامات وأخرى تباع بالسنتيمترات، ثم ما الفارق بين ما يكال أو يوزن وبين ما يعد؟ أليس المقصد من تحريم الربا المماثلة وعدم الظلم؟ فإذا سألنا عن حكم البرتقال هل يجري فيه الربا أم لا؟ ستكون على قاعدتهم يجري إذ هو مطعوم موزون، فإذا أبدلنا البرتقال بالبطيخ هل يجري فيه الربا أم لا؟ سيكون الجواب لا إذ هو معدود، فليس بموزون ولا مكيل، فيأتي هنا السؤال بداهة! ما الفارق بين البطيخ والبرتقال، أليس البرتقال فاكهة، والبطيخ فاكهة؟!
لذا أرى والله أعلى وأعلم أن القول الراجح من هذه الأقوال هو قول الإمام الشافعي والرواية الثانية عن الإمام أحمد، أن الربا يجري في كل مطعوم بجنسه، دون تعصب لهذا الرأي، فالخلاف في هذه المسألة واسع يسع أهل العلم فيه الخلاف ولمن اجتهد وأصاب أجران ولمن اجتهد وأخطأ أجر، وأسأل الله جل وعلا أن يجنبنا الشطط والزلل.
القرض بفائدة
القرض بفائدة نوع من أنواع الربا، أو هو داخل في ربا النسيئة، على قول بعض أهل العلم، والفرق بين القرض بفائدة وربا النسيئة على قول من فرق بينهما: أن الزيادة في ربا النسيئة لا تُطلب إلا عند عجز المدين عن سداد الدين، أما القرض بفائدة، فإن الزيادة فيه تشترط حالًا، أي في وقت الإقراض.
•
الأدلة على تحريم القرض بفائدة:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279].
والشاهد من هذه الآية قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]، ففي هذا بيان واضح أن الدائن ليس له شرعًا إلا رأس المال فقط إذ أن المقصود من القرض معاونة المقترض والإحسان إليه وليس مقصده الربح.
ما رواه عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
سلف وبيع وشرطين في بيع وربح ما لم يضمن
(1)
.
ومعنى هذا الخبر أن يقول الرجل للرجل: آخذ سلعتك بكذا
(1)
حسن: أخرجه أحمد (2/ 178)، وأبو داود (3506)، والترمذي (1234)، والنسائي في «المجتبى» (4629)، وفي «الكبرى» (6/ 66)، والبيهقي في «الكبرى» (5/ 336)، وغيرهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال الحاكم (2/ 21): هذا حديث على شرط جملة من أئمة المسلمين صحيح، وهكذا رواه داود بن أبي هند، وعبد الملك بن أبي سليمان وغيرهما عن عمرو بن شعيب، ورواه عطاء بن مسلم الخراساني عن عمرو بن شعيب بزيادة ألفاظ.
قلت: وقد روي من طرق أخرى غير طريق عمرو بن شعيب إلا أن أسانيدها لا تخلو من مقال، فقد أخرجه ابن حبان (4321)، والنسائي في «الكبرى» (5/ 53)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (8/ 41) من طريق الوليد عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء عن عبد الله بن عمرو، وعطاء هو الخراساني، كما جاء منسوبًا في طريق عبد الرزاق، وعطاء الخراساني مدلس ويرسل وله أوهام، كذلك الوليد بن مسلم مدلس وعنعن في هذا الطريق، قال الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (3/ 46): قال النسائي: عطاء هو الخراساني، ولم يسمع من عبد الله بن عمر، اهـ.
وأخرجه أيضًا البيهقي في «الكبرى» (7/ 313) من طريق يحيى بن صالح عن إسماعيل بن أمية عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، وقال: تفرد به يحيى بن صالح الأيلي وهو منكر بهذا الإسناد، وأخرجه مالك في «الموطأ» (1920) بلاغًا.
وكذا على أن تسلفني كذا وكذا
(1)
.
والشاهد من هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم عقد البيع مع القرض؛ لأنه سيحدث ولاشك محاباة من المدين في عقد البيع مقابل القرض، والشرع لا يبيح القرض بزيادة أية منفعة إذ أن القرض عمل برٍّ وإحسان، فإن كان هذا في البيع فمن باب أَوْلى أن تحرم الفائدة التي يشترطها المقرض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
فمن تدبر هذا علم أن كل معاملة كان مقصود صاحبها أن يقرض قرضًا بربح، واحتال على ذلك بأن اشترى من المقترض سلعة بمئة حالة تم باعه إياها بمئة وعشرين إلى أجل، أو باعه سلعته بمئة وعشرين إلى أجل، ثم ابتاعها بمئة حالة، أو باعها سلعة تساوي عشرين بخمسين وأقرضه مع ذلك خمسي، أو واطأ مخادعًا ثالثًا على أن يشتري منه سلعة بمئة ثم يبيعها المشتري للمقترض بمئة وعشرين ثم يعود المشتري المقترض فيبيعها للأول بمئة إلا درهمين وما أشبه هذه العقود، يقال فيها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم:«أَفَلا أَفْردَتَ أَحَدَ الَعْقدَينِ عَنِ الآخَرِ ثُمَّ نَظَرْتَ؟»
(2)
هل كنت مبتاعها أو بايعه بهذا الثمن
(1)
هذا تفسير مالك فيما نقله عنه ابن عبد البر «الاستذكار» (6/ 386).
(2)
لم أقف على خبر بهذا النص.
أو لا، فإذا كنت إنما نقصت هذا وزدت هذا لأجل هذا، كان له قسط من العوض، وإذا كان كذلك فهو ربا
(1)
.
ويستدل أهل العلم في هذا الباب بخبر يصح معناه ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو: «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، فَهُوَ رِبًا»
(2)
.
هذا وقد رُوي معناه موقوفًا عن غير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، كعبد الله بن عمر، وفضالة بن عبيد الله، وعبد الله بن مسعود، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن سلام، وعبد الله بن عباس.
عن مالك أنه بلغه أن رجلًا أتى ابن عمر فقال: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي أَسْلَفْتُ رَجُلًا سَلَفًا، وَاشْتَرَطْتُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّا أَسْلَفْتُهُ. فَقَالَ عَبْدُ
(1)
«إقامة الدليل على إبطال التحليل» (216).
(2)
متروك: أخرجه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» من طريق حفص بن حمزة، قال: أنبأنا سوار بن مصعب عن عمارة الهمداني قال: سمعت عليًّا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، فَهُوَ رِبًا» ، انظر:«بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث» (437)، و «المطالب العالية» (1484)، قال الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (3/ 90): وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك. وقال ابن عبد الوهاب في «التنقيح» (4/ 108): هذا إسناد ساقط، وسوار هو ابن مصعب، وهو متروك الحديث والله أعلم، قال عمر بن بدر في «المغني عن حفظ الكتاب» (403): لم يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَذَلِكَ الرِّبَا.
قَالَ: فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: السَّلَفُ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: سَلَفٌ تُسْلِفُهُ تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، فَلَكَ وَجْهُ اللَّهِ، وَسَلَفٌ تُسْلِفُهُ تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ صَاحِبِكَ، فَلَكَ وَجْهُ صَاحِبِكَ، وَسَلَفٌ تُسْلِفُهُ لِتَأْخُذَ خَبِيثًا بِطَيِّبٍ، فَذَلِكَ الرِّبَا. قَالَ: فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَشُقَّ الصَّحِيفَةَ، فَإِنْ أَعْطَاكَ مِثْلَ الَّذِي أَسْلَفْتَهُ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ أَعْطَاكَ دُونَ الَّذِي أَسْلَفْتَهُ فَأَخَذْتَهُ أُجِرْتَ، وَإِنْ أَعْطَاكَ أَفْضَلَ مِمَّا أَسْلَفْتَهُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، فَذَلِكَ شُكْرٌ شَكَرَهُ لَكَ وَلَكَ أَجْرُ مَا أَنْظَرْتَهُ»
(1)
.
عن عبد الله بن عمر أنه قال: «مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا فَلَا يَشْتَرِطْ إِلَّا قَضَاءَهُ»
(2)
.
عن أبي بردة قال: أَتَيْتُ المَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: أَلَا تَجِيءُ فَأُطْعِمَكَ سَوِيقًا
(3)
وَتَمْرًا، وَتَدْخُلَ فِي
(1)
منقطع: أخرجه مالك في «الموطأ» (682) بلاغًا، ومن طريقه عبد الرزاق في «مصنفه» (14662)، والبيهقي في «الكبرى» (5/ 350).
(2)
صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (363) قال عن نافع أنه سمع عبد الله بن عمر. ومن طريقه البيهقي في «السنن الصغرى» (5/ 195).
(3)
سُمي السويق سويقًا لأنه ينساق في الحلق، وهو طعام من الحنطة والشعير.
بَيْتٍ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ بِأَرْضٍ الرِّبَا بِهَا فَاشٍ
(1)
، إِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ، أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ، أَوْ حِمْلَ قَتٍّ
(2)
، فَلَا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِبًا
(3)
.
عن فضالة بن عبيد
(4)
أنه قال: كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الرِّبَا
(5)
.
عن عبد الله بن مسعود أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ، ثُمَّ إِنَّ الْمُسْتَقْرِضَ أَفْقَرَ الْمُقْرِضَ ظَهْرَ دَابَّتِهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: مَا أَصَابَ مِنْ ظَهْرِ دَابَّتِهِ فَهُوَ رِبًا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ
(1)
يقصد أرض العراق، فاش أي: شائع.
(2)
نوع من أنواع العلف.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري في «صحيحه» (3603).
(4)
فضالة بن عبيد بن نافذ صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: إنه شهد أُحُدًا وبايع تحت الشجرة، وشهد خيبر، وقيل: شهد الخندق، نزل الشام، وتولى قضاء دمشق في زمن معاوية، ومات بالشام في ولاية معاوية.
(5)
إسناده حسن: أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 350)، وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى ضعفه في «بلوغ المرام» عند كلامه على حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «كل قرض
…
» قال: وله شاهد ضعيف عن فضالة بن عبيد الله عند البيهقي، قلت: لعله يقصد بالضعف الوقف، وإلا فرجال الإسناد وإن كان في بعضهم بعض الكلام، إلا أنه يسير متحمل في مثل هذه الآثار.
مَنْفَعَةً
(1)
.
•
نقلُ إجماع أهل العلم على تحريم القرض بفائدة:
قال القرطبي: وأجمع المسلمون نقلًا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا، ولو كان قبضة من علف
(2)
.
قال ابن قدامة: وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرامٌ بغير خلاف.
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك - أن أخذ الزيادة على ذلك ربا
(3)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حرامًا، وكذلك إذا تواطأ على ذلك في أصح قول العلماء
(4)
.
(1)
إسناده منقطع: أخرجه البيهقي في «الكبرى» (350)، من طريق ابن سيرين عن ابن مسعود وقد قال البيهقي: ابن سيرين عن عبد الله بن مسعود منقطع. انظر: «تحفة التحصيل» (278)، وعلق البيهقي أيضًا على هذا الخبر في «سننه» بقوله: هذا منقطع.
(2)
«الجامع لأحكام القرآن» (3/ 241).
(3)
«المغني» (390).
(4)
«مجموع الفتاوى» (29/ 334).
حرق الكاوتش وما يشبههُ من معاملات
من المعاملات التي انتشرت في هذا الزمان ما يسميه عامة الناس يحرق الكاوتش، وصورته، أن يحتاج رجل إلى عَشَرة آلاف جنيه مثلًا، ولا يجد من يقرضه، فيذهب إلى تاجر من التجار (يعرف بصنيعه هذا بين الناس) فيشتري منه كاوتشًا أو أي بضاعة بخمسة عَشَر ألف جنيه على أن يسدد ثمنها مؤجلًا على أقساط، ثم يقوم ببيعها مرة أخرى له بعشرة ألاف فقط يأخذ ثمنها حالًا.
هذه الصورة هي إحدى صور بيع العينة
(1)
، وهذا تحايل اخترعه من أراد أن يُلبس الربا ثوبًا غير ثوبه حتى لا يُعرف، وهذه المعاملة بصورتها التي قدمتُ محرمة شرعًا لما فيها من التواطؤ والتحايل على الربا.
(1)
قال الجرجاني: بيع العينة هو أن يستقرض رجل من تاجر شيئًا فلا يقرضه قرضًا حسنًا، بل يعطيه عينًا ويبيعها من المستقرض بأكثر من القيمة، سُمى بها لأنها إعراض عن الدين إلى العين، «التعريفات» (69).
وقال البيهقي: التبايع بالعينة: أن يأتي الرجل فيقول: اشتر كذا وكذا، وأنا أشتريه منك بربح كذا وكذا. «شعب الإيمان» (6/ 92).
•
أدلة تحريم حرق الكاوتش «بيع العينة» :
قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وهذه المعاملة ليست بيعًا بل هي وسيلة من وسائل الربا
(1)
.
عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدرهم والدينار وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً، فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم»
(2)
.
(1)
قال ابن القيم: العينة وسيلة إلى الربا بل هي من أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام. «حاشية ابن القيم على سنن أبي داود» (9/ 337).
(2)
حسن: له طرق إلى ابن عمر يقوي بعضها بعضًا، أخرجه أبو داود (3464)، والبزار (5887)، والبيهقي في «الكبرى» (5/ 316)، وغيرهم من طريق إسحاق بن أبي عبد الرحمن أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعًا حدثه عن ابن عمر به، وقد أشار البزار إلى أن أبا عبد الرحمن هو إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وليس كما ذكر، وقد وَهَّمه ابن القطان في كتابه إذ قال: وهذا وهم من البزار، وإنما اسم هذا الرجل إسحاق بن أسد أبو عبد الرحمن الخراساني يروي عن عطاء، روى عن حيوة بن شريح، وهو يروي عنه هذا الخبر، وبهذا ذكره ابن أبي حاتم، وليس هذا بإسحاق بن أبي فروة، ذلك مديني ويكنى بأبي سليمان، وهذا خراساني، ويكنى أبا عبد الرحمن وأيهما كان فالحديث من أجله لا يصح، «الوهم والإيهام» (5/ 295)، وأخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 42) من حديث شهر بن حوشب عن ابن عمر، وشهر متكلم فيه، وأخرجه الطبراني في «معجمه الكبير» (11/ 62)، وغيره من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر، ويخشى من تدليس الأعمش، وقد عنعن، وأخرجه أبو يعلى في مسنده (5659) وغيره من طريق ليث عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عمر، وليث بن أبي سليم ضعيف، على كلٍّ فهذه المتابعات يقوي بعضها بعضًا.
وفي هذا الخبر بيان نبوي أن الناس لو تبايعوا بالعينة سيكون ذلك مؤذنًا بإنزال البلاء والذل بهم، والبلاء والذل عقوبة، والعقوبة لا تكون إلا بذنب، فوجب على عباد الله سبحانه وتعالى أن يبتعدوا عن هذه المعاملة لما فيها من وعيد شديد.
حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع، وشرطين في بيع، وربح ما لم يضمن
(1)
.
وفي هذا الخبر نهي عن شرطين في بيع، ومن معاني هذا النهي أن يشترط شرطًا يخالف أصل البيع، وهذا حاصل في هذهِ المعاملة، إذ أن هناك اتفاقًا مضمرًا بين المتعاقدين على أن يرد المشتري البضاعة في الحال إلى البائع، وهذا مخالف لمعنى البيع.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا»
(2)
.
(1)
حسن: وقد سبق بيانه.
(2)
حسن: أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في «مصنفه» (6/ 120)، ومن طريقه أبو داود في «سننه» (3463)، وابن حبان في «صحيحه» (4974)، والحاكم في «مستدركه» (2/ 52)، كذا أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 343) من طريق يحيي بن زكريا بن أبي زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ورجاله ثقات عدا محمد بن عمرو فصدوق له أوهام.
ويفسر هذا الخبر ابنُ القيم بقوله: وللعلماء في تفسيره قولان:
أحدهما: أن يقول: بعتك بعشرة نقدًا، أو عشرين نسيئة. وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك ففسره في حديث ابن مسعود، قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة»
(1)
، قال سماك: الرجل يبيع الرجل فيقول: هو على نَساء بكذا، وبنقد بكذا.
وهذا التفسير ضعيف، فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين.
والتفسير الثاني: أن يقول: أبيعكها بمئة إلى سنة، على أن أشتريها
(1)
الصواب فيه الوقف على عبد الله بن مسعود: أخرجه أحمد (1/ 398)، والبزار (5/ 384) من طريق شريك عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه مرفوعًا، وأخرجه ابن خزيمة (176)، والطبراني في «الكبير» (8/ 266) من طريق سفيان عن سماك به موقوفًا، قال ابن الملقن: اختلف الحفاظ في سماع عبد الرحمن من أبيه: فقال يحيى بن معين في إحدى الروايتين: لم يسمع منه. وقال علي بن المديني والأكثرون: سمع منه. وهي زيادة علم، «البدر المنير» (6/ 497).
منك بثمانين حالة. وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله:«فله أو أوكسهما أو الربا» ، فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي، أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما، وهو مطابق لصفقتين في صفقة فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن هو أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا
(1)
.
•
أقوال أهل العلم في هذه المعاملة من بيع العينة:
ابتداءً، لأهل العلم في المسألة قولين:
أولهما: حرمة بيع العينة وأنها تحايل على الربا، وهذا مذهب جمهور أهل العلم كأبي حنيفة ومالك وأحمد ومحمد بن الحسن من الحنفية، وهذا هو الراجح.
وثانيها: جواز ذلك ما لم يكن هنالك شرط في العقد الأول يلزم الدخول في العقد الثاني، وهذا مذهب الشافعية والظاهرية وأبي يوسف من الحنفية.
(1)
«حاشة ابن القيم عن سنن أبي داود» (9/ 344).
•
أصحاب القول الأول (التحريم):
المذهب الحنفي:
قال السرخسي: وذُكر عن الشعبي أنه كان يكره أن يقول الرجل للرجل أقرضني. فيقول: لا حتى أبيعك. وإنما أراد بهذا إثبات كراهة العينة، وهو أن يبيعه ما يساوي عشرة بخمسة عشرة؛ ليبيعه المستقرض بعشرة فيحصل للمقرض زيادة، وهذا في معنى قرضٍ جر منفعة والإقراض مندوب إليه في الشرع والغرر حرام، إلا أن البخلاء من الناس تطرقوا بهذا إلى الامتناع مما يدنوا إليه والإقدام على ما نُهوا عنه من الغرور، وبنحوه ورد الأثر:«إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم حتى يطمع فيكم»
(1)
.
قال ابن عابدين: اختلف المشايخ في تفسير العينة التي ورد النهي عنها: قال بعضهم: تفسيرها أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ويستقرضه عَشَرة دراهم ولا يرغب المقرض في الإقراض طمعًا في فضل لا يناله بالقرض، فيقول: لا أقرضك، ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشر درهمًا. وقيمته في السوق عشرة ليبيعه في السوق بعشرة، فيرضى به المستقرض فيبيعه كذلك، فيحصل لرب الثوب درهمان وللمشتري قرض عشرة، وقال بعضهم: هي أن يُدخلا بينهما
(1)
«المبسوط» (14/ 64).
ثالثًا فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثنى عشر درهمًا ويسلمه إليه، ثم يبيعه المستقرض من الثالث بعشرة ويسلمه إليه، ثم يبيعه الثالث من صاحبه وهو المقرض بعشرة ويسلمه إليه ويأخذ منه العشرة، ويدفعها للمستقرض، فيحصل للمستقرض عشرة، ولصاحب الثوب عليه اثنا عشر درهمًا - كذا في المحيط، وعن أبي يوسف: العينة جائزة مأجور مَنْ عَمِل بها. كذا في مختار الفتاوى الهندية، وقال محمد: هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أكلة الربا
(1)
.
المذهب المالكي:
قال أبو عمر بن عبد البر: أما بيع العينة فمعناه أنه تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل بينهما سلعة مُحلِلَة، وهو أيضًا من باب بيع ما ليس عندك، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت السلعة المبيعة في ذلك طعامًا، دخله مع ذلك أيضًا بيع الطعام قبل أن يستوفى، مثال ذلك أن يطلب رجل من آخر سلعة ليبيعها منه بنسيئة وهو يعلم أنها ليست عنده، ويقول اشترها من مالكها هذا بعشرة، وهي عليَّ باثني عشر أو بخسمة عشر إلى أجل كذا. فهذا لا يجوز لما ذكرنا
(2)
.
قال الدسوقي في حاشيته: وأشار إلى القسم الثالث مخرجًا له من الجواز بقوله: بخلاف قول الآمر: اشترها بعشرة نقدًا وأنا آخذها منك باثنتى عشر لأجل كشهر فلا يجوز لما فيه من سلفٍ جرَّ نفعًا
(1)
.
المذهب الحنبلي:
قال أبو محمد بن قدامة: فأما بيع العينة فهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن حالًا، فلا يجوز لما روى سعيد عن غندر عن شعبة عن أبي إسحاق عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل، قالت: دخلتُ على عائشة أنا وأم ولد زيد بن أرقم، فقالت أم ولد زيد إني بعت غلامًا لزيد بن أرقم بثمان مئة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بست مئة درهم. فقالت لها: بئس ما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب
(2)
. ولا تقول مثل هذا إلا توقيفًا سَمِعَتْه من
(1)
«حاشية الدسوقي» (11/ 382).
(2)
ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (8/ 184) من طريق معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة ..... به، واختلف على أبي إسحاق فتارة يرويه عن امرأته وتارة عن امرأة أبي السفر، كما عند أبي يوسف في «الآثار» (843) وتارة يرويه مرسلًا، كما في «مسند الجعد» (451) ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (5/ 330)، وتابعه على هذا الخبر عن امرأته ولده يونس، كما في «سنن الدارقطني» (7/ 308).
ويضعف أهل العلم هذا الخبر لجهالة امرأة أبي إسحاق التي روى عنها، وللخلاف الوارد على أبي إسحاق، أما طريق يونس فهو أيضًا عن امرأة أبي إسحاق التي أشرنا إلى جهالتها، قال الدارقطني في «السنن» (7/ 308): أم محبة. والعالية مجهولتان لا يُحتج بهما.
قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (6/ 272): وهو خبر لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولا هو مما يحتج به عندهم، وامرأة أبي إسحاق وامرأة أبي السفر وأم ولد زيد بن أرقم كلهن غير معروفات بحمل العلم
…
والحديث منكر اللفظ لا أصل له؛ لأن الأعمال الصالحة لا يحبطها الاجتهاد، وإنما يحبطها الارتداد.
وقال الشافعي في «معرفة السنن» (4/ 368): وجملة هذا أنا لا نُثبت مثله عن عائشة.
هذا وقد حاول تصحيحه ابن الجوزي وابن عبد الهادي وابن القيم، وقولهم لا يقاوم قول من قدمنا من الأئمة.
النبي صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك ذريعة إلى الربا؛ لأنه أدخل السلعة ليستبيح بيعة ألف بخمس مئة والذرائع معتبرة، فإن اشتراها بسلعة جاز؛ لأنه لا ربا بين الأثمان والعروض
(1)
.
قال المرداوي: قوله: (ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها نقدًا إلا أن تكون قد تغيرت صفتها) هذه مسألة العينة،
(1)
«الكافي في فقه ابن حنبل» (2/ 14).
فِعلها محرم على الصحيح من المذهب، نص عليه وعليه الأصحاب
(1)
.
•
أصحاب القول الثاني (الجواز):
قول الحنفية:
قال أبو يوسف: العينة جائزة مأجور من عمل بها
(2)
(3)
.
قول الشافعية:
قال الإمام النووي: فصل: ليست من المناهي بيع العينة (بكسر العين المهملة، وبعد الياء نون) وهو أن يبيع غيره شيئًا بثمن مؤجل ويسلمه إليه ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدًا، وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقدًا ويشتري بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثمن الأول أم لا، وسواء صارت العينة عادة له غالبة في البلد أم لا، هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب، وأفتى الأستاذ أبو إسحاق
(1)
«الإنصاف» (4/ 242).
(2)
ذكر ذلك ابن عابدين عنه في حاشيته (5/ 273) وعزاه إلى مختار الفتاوى الهندية.
(3)
حمل السيد أبو السعود الحنفي قول أبي يوسف على صورة أخرى، وهي أن يبيعه المشتري في السوق ولا يرده إلى صاحبه الأصلي (يقصد التورق)، انظر:«حاشية ابن عابدين» (5/ 326) بتصرف.
الإسفراييني والشيخ أبو محمد بأنه إذا صار عادة له صار البيع الثاني كالمشروط في الأول، فيبطلان جميعًا
(1)
.
قلت: والذي يظهر من الكلام السابق عن الشافعية أنهم لا يُجوزون العينة بصورتها التي هي عليها الآن (حرق الكاوتش) فكلامهم عن رجل اشترى شيئًا لم يتفق مع بائعه أن يبيعه له مرة أخرى ثم بدا له أن يبيعه له.
الراجح في المسألة: حرمة هذه المعاملة التي انتشرت بين التجار الآن (حرق الكاوتش) لما فيها من تحايل واضح على الربا، ولكن لزامًا أن نفرق بين هذه المعاملة بصورتها التي قدمتُ والمعروفة بين عامة الناس وبين صورة أخرى حلال، وهي أن يشتري رجل من رجلٍ سلعة نسيئة، ثم بعد ذلك بمدة ودون اتفاق ولا نية مبيتة بدا له أن يبيعها له مرة أخرى، فهذه لا حرج فيها إن شاء الله، والله أعلى وأعلم.
(1)
«روضة الطالبين وعمدة المفتين» (3/ 417).
من به حاجة ماسة إلى المال (المضطر)
مسألة: رجل في حاجة ماسة إلى مال، ولا يجد من يقرضه قرضًا حسنًا، فاشترى سلعة نسيئة بألف جنيه، ثم باعها بعد ذلك لرجل آخر بتسع مئة جنيه حالًا، فما الحكم في هذه المعاملة؟
هذه المسألة يسميها بعض أهل العلم «بيع التورق»
(1)
والبعض الآخر يجعلها صورةً من صور العينة.
والناظر في هذه المسألة يجد أن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيها على قولين:
أحدهما: على التحريم، وثانيهما: على الجواز، وكل له وجهته، ولا حرج في هذا الخلاف، وذلك لانعدام النص الصريح الصحيح في المسألة.
•
أدلة القائلين بالتحريم:
1 -
استدلوا بكل الأخبار التي استدل بها القائلون بتحريم العينة وقالوا: هذه المعاملة (التورق) إحدى صور العينة.
(1)
لأن المقصود منها الورق، والذي أطلق عليها هذا الاسم الحنابلة.
2 -
قالوا بأن هذه المعاملة تدخل تحت بيع المضطر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضطر
(1)
.
•
أدلة القائلين بالجواز:
1 -
أن هذا من جملة البيع والشراء، وأحل الله البيع وحرم الربا.
2 -
أن الأصل في البيوع الحل والإباحة إلا بدليل، ولا يوجد دليل يمنع من هذه المعاملة.
3 -
حديث النهي عن بيع المضطر ضعيف.
4 -
لا يقال: إن هذه حيلة، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر، فجاء بتمر جنيب، فقال رسول
(1)
المراد حديث علي بن أبي طالب « ..... وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر
…
» والحديث ضعيف لا يثبت، أخرجه الإمام أبو داود في «سننه» (3384)، وأحمد في «مسنده» (1/ 116)، والبيهقي في «الكبرى» (2/ 280)، والصغرى (5/ 232) من طريق هشيم عن صالح بن عامر، قال: حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي
…
به، وهذا إسناد لا يثبت لجهالة الشيخ الذي من بني تميم، وللخطأ الذي يعتري صالح بن عامر أبا عامر، وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذا الخبر في «المطالب» (1422) من طريق أبي يعلى، قال: حدثنا روح بن حاتم، قال: حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه
…
بمعنى هذا الخبر، مطولًا. وتعقبه الحافظ بقوله: الكوثر متروك، ومكحول عن حذيفة رضي الله عنه منقطع.
الله صلى الله عليه وسلم: «أكل تمر خيبر هكذا؟» قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بصاعين والصاعين بالثلاث. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا»
(1)
، ولا يقال: إن هذه حيلة بل هذه توسعة من النبي صلى الله عليه وسلم وحلٌّ للبعد عن المناهي والمحرمات.
5 -
أن كل عقد صح ظاهره لا يجوز إبطاله بالتهمة المجردة عن اليقين.
•
من قال من الأئمة بالتحريم؟
قال بالتحريم المالكية على مذهبهم في تحريم بعض المعاملات التي ظاهرها الجواز سدًّا للذرائع، وهو قول للحنابلة وقول شيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم رحمهم الله.
قال ابن القيم:
وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا، والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون، وأخفها التورق، وقد كرهه عمر بن عبد العزيز، وقال: هو أخو الربا. وعن أحمد فيه روايتان،
(1)
صحيح: تقدم.
وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر، وهذا من فقهه رضي الله عنه، قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر. وكان شيخنا يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مرارًا وأنا حاضر فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حُرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه
(1)
.
•
من قال بالجواز من الأئمة؟
قال بالجواز الحنفية والشافعية وقول عند الحنابلة.
قول الحنفية:
قال ابن عابدين:
وقال محمد: هذا البيع
(2)
في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أكلة الربا، وقد ذمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظهر عليكم عدوكم»
(3)
أي اشتغلتم
(1)
«سد الذرائع وتحريم الحيل» (1/ 370).
(2)
يقصد بيع العينة.
(3)
الحديث حسن: وتقدم ذكره والحكم عليه دون لفظة (ذللتم، وظهر عليكم عدوكم) فهي مروية هنا بالمعنى.
بالحرث عن الجهاد، وفي رواية «سلط عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم»
(1)
، وقيل: إياك والعينة فإنها لعينة، ثم قال في «الفتح» ما حاصله: إن الذي يقع في قلبي أنه إن فعلت صورة يعود فيها إلى البائع جميع ما أخرجه أو بعضه كعود الثوب إليه في الصورة المارة، وكعود الخمسة في صورة إقراض الخمسة عشر، فيكره يعني تحريمًا، فإن لم يعد كما إذا باعه المديون في السوق فلا كراهة فيه، بل خلاف الأولى، فإن الأجل قابلة قسط من الثمن، والقرض غير واجب عليه دائمًا، بل هو مندوب، وما لم ترجع إليه العين التي خرجت منه لا يسمى بيع العينة؛ لأن من العين المسترجعة لا العين المطلقة، وإلا فكل بيع بيع العينة اهـ، وأقره في البحر والنهر والشر نبلالية، وهو ظاهر وجعله السيد أبو السعود محمل قول أبي يوسف وحمل قول محمد والحديث على صورة العود
(2)
.
أما الشافعية فهم كما تقدم النقل عنهم في حكم العينة أنهم يجوزونها.
(1)
هذه رواية ضعيفة لا تثبت: ولعله رحمه الله دخل عليه متن في متن فهذه الرواية طرف من حديث «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارَكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ» ، وهذا الخبر ضعيف لا يثبت.
(2)
«حاشية ابن عابدين» (5/ 326).
الحنابلة: ورد عن الإمام أحمد في المسألة الوجهان.
قال المرداوي: فائدة: لو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مئة بمئة وخمسين، فلا بأس، نص عليه، وهو المذهب وعليه الأصحاب، وهي مسألة التورق، وعنه يُكره، وعنه يحرم، اختاره الشيخ تقي الدين
(1)
.
•
من فتاوى اللجنة الدائمة:
سؤال: نرجو إفادتنا عن مسألة التورق وما حكمها؟
الجواب: مسألة التورق هي أن تشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم تبيعها بثمنٍ حال على غير من اشتريتها منه بالثمن المؤجل؛ من أجل أن تنتفع بثمنها، وهذا العمل لا بأس به عند جمهور العلماء. وبالله التوفيق وصلي الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
(2)
الشيخ بكر أبو زيد "عضو"
الشيخ صالح الفوزان "عضو"
الشيخ عبد الله بن غديان "عضو"
الشيخ عبد العزيز آل الشيخ "نائب الرئيس"
الشيخ عبد العزيز بن باز "الرئيس"
• الحاصل في المسألة:
…
أن أهل العلم اختلفوا على قولين، أكثرهم على الجواز وهذا الراجحُ من أقوالهم، ولكن ينبغي للمسلم أن يحتاط لدينه، وأن يجنح دائمًا إلى جانب الورع، وألا يتعامل بمثل هذه المعاملات إلا إذا اشتد به الأمر وألجأته الضرورة لذلك، هذا والله أعلم.
* * *
حكم البيع بالتقسيط
مسألة: ما حكم البيع بالقسط، وهل يجوز للبائع أن يزيد في ثمن السلعة مقابل الأجل؟
البيع بالتقسيط جائز ودلت عليه أدلة كثيرة، منها ما يلي:
1 -
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
2 -
أمرُ الله سبحانه وتعالى من له عبد أن يكاتبه إن أراد ذلك، إن علم فيه خيرًا، والمكاتبة بين العبد وسيده أن يدفع العبد ثمنًا لسيده على أقساط، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33].
وفي الصحيحين من حديث عائشة بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم المحتويات رضي الله عنه رضي الله عنها رضي الله عنها صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه قالت: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ وَقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الوَلَاءُ لَهُمْ. فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم،
فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»
(1)
.
والشاهد من هذا الخبر أن بريرة كانت قد كاتبتهم على تسع أواقٍ، في كل عام أوقية، وعَلِمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره.
3 -
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى بالأجل، فعن عائشة بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم المحتويات رضي الله عنه رضي الله عنها رضي الله عنها صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه قالت: اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ
(2)
.
وعنها أيضًا رضى الله عنها أنها قالت: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ
(3)
، هذا وقد بوب الإمام البخاري بابًا في صحيحه سماه «باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة» ، وقال الحافظ ابن حجر عند شرحه هذا الباب: قلت (ابن حجر): لعل المصنف - يقصد البخاري - تخيل أن أحدًا يتخيل أنه صلى الله عليه وسلم لا يشتري بالنسيئة لأنها دين فأراد دفع ذلك التخيل.
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2579)، ومسلم (1504). قال القرطبي: وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدًا والآخر في الذمة نسيئة. «تفسير القرطبي» (3/ 377).
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2096)، ومسلم (1630).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (2759).
4 -
ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَره أن يجهز جيشًا فنفدت الإبل، فأمَره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى أجل
(1)
.
(1)
مُعل: أخرجه الدارقطني في «سننه» (3052)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (10835)، من طريق ابن جريج أن عمرو بن شعيب أخبره عن أبيه عن عبد الله بن عمرو
…
به، قال ابن عبد الهادي: هذا إسناد جيد، وإن كان غير مخرج في شيء من السنن (تنقيح التحقيق 4/ 24) هذا، إلا أن هذا السند مُعل فقد أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (14144) قال أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا به وكما هو واضح فيه إرسال أضف لذلك أن ابن جريج لم يصرح فيه بالتحديث.
وقد روى الحديث من وجه آخر، فقد أخرجه أبو داود في «سننه» (3357)، قال: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير عن أبي سفيان عن عمرو بن حريش، عن عبد الله بن عمرو، وقريبًا من هذا المخرج أخرجه آخرون، إلا أنه اختلف فيه على محمد بن إسحاق اختلافًا واسعًا يوحي أن في السند اضطرابًا، فرواه جرير بن حازم عن ابن إسحاق بإسقاط يزيد بن أبي حبيب، وبقلب أبي سفيان مع مسلم بن جبير، فقال فيه عن ابن إسحاق عن أبي سفيان عن مسلم بن جبير، أخرجه بهذا الإسناد الدارقطني في «سننه» (3097)، قال الزيلعي: ورواه عفان عن حماد بن سلمة، فقال فيه عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن أبي سفيان عن عمرو بن حريش، ورواه عبد الأعلى عن ابن إسحاق عن أبي سفيان عن مسلم بن كثير عن عمرو بن الحريش فذكره، ورواه عبد الأعلى بن أبي شيبة، فأسقط يزيد بن أبي حبيب، وقدم أبا سفيان كما فعل جرير بن حازم، إلا أنه قال في مسلم بن جبير (مسلم بن كثير).
ومع هذا الاضطراب فعمرو بن حريش مجهول الحال، ومسلم بن جبير لم أجد له ذكرًا، ولا أعلمه في غير هذا الإسناد، وكذلك مسلم مجهول الحال أيضًا إذا كان عن أبي سفيان، وأبو سفيان فيه نظر. اهـ (نصب الراية: 4/ 47).
5 -
قياسًا على بيع السلم، والسلم بيع جائز بالكتاب والسنة وهو بيع شيء موصوف في الذمة مؤجلًا بعوض معجل، وفي حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ بِالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ:«مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»
(1)
.
•
هل يجوز للتاجر أن يزيد الثمن مقابل المدة المؤجلة (كأن يقول: هذا الجهاز بمائتي ألف نقدًا، وبمائتي وخمسين قسطًا)؟
لا بأس بزيادة قيمة السلعة مقابل زيادة الأجل شريطة أن يكون ذلك في البداية عند إنشاء العقد، وألا يفترقا دون تحديد ثمن معين، وإليك الأدلة التى يستدل بها الفقهاء على ذلك:
1 -
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والشاهد من هذه الآية أن المحرم من المعاملات الربا، وهذا ليس بربا، إنما هو سعر زاده المشتري من أجل الانتفاع ولأجله رضي بأن
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2253)، ومسلم (4203).
يبيع مؤجلًا.
2 -
لم يشترط ربنا سبحانه وتعالى في آية الدين أن يكون ذلك بسعر الوقت الحاضر إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»
(1)
، ولم يشترط أن يكون ذلك بسعر الوقت الحالي.
3 -
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَره أن يجهز جيشًا فنفدت الإبل، فأمره أن يشتري البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة إلى إبل الصدقة
(2)
.
4 -
عن ابن مسعود قال: صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ رِبًا، إلاَّ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: إِنْ كَانَ بِنَقْدٍ فَبِكَذَا، وَإِنْ كَانَ بِنَسِيئَةٍ فَبِكَذَا
(3)
.
5 -
ما روي عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسًا أن يقال للسلعة هي بنقد كذا، وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقا إلا عن رضا
(4)
.
(1)
صحيح: وقد تقدم.
(2)
مُعل: تقدم قريبًا.
(3)
صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (20828)، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله، ومعلوم أن عبد الرحمن تُكلم في سماعه من أبيه، والصواب أنه سمع من أبيه.
(4)
ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (20826)، من طريق يحيى بن زكريا عن أشعث عن عكرمة عن ابن عباس، وأشعث ضعيف.
•
من قال بذلك من الأئمة؟
قال بهذا القول أصحاب المذاهب الأربعة، وإليك نقل كلامهم:
المذهب الحنفي:
قال السرخسي: وإذا عقد العقد على أنه إلى أجل كذا بكذا وبالنقد بكذا، أو قال إلى شهر بكذا أو إلى شهرين بكذا، فهو فاسد؛ لأنه لم يعاطه على ثمن معلوم، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شرطين في بيع، وهذا هو تفسير الشرطين في بيع، ومطلق النهي يوجب الفساد في العقود الشرعية، وهذا إذا افترقا على هذا، فإن كان يتراضيان بينهما ولم يتفرقا حتى قاطعه على ثمن معلوم وأتما العقد عليه فهو جائز لأنهما ما افترقا إلا بعد تمام شرط صحة العقد
(1)
.
المذهب المالكي:
قال أبو عمر بن عبد البر: وقال مالك فيمن قال أبيعك هذا الثوب بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر إلى أجل: إذا كان البائع والمبتاع كل واحد منهما إن شاء أن يترك البيع ترك ولا يلزمه، فلا بأس بذلك، ولا يجوز عند مالك الشافعي وأبي حنيفة إن افترقا على ذلك بالالتزام حتى يفترقا على وجه واحد، وهو قول الثوري.
(1)
«المبسوط» (13/ 8).
وقال الأوزاعي:
إن افترقا على ذلك وقبض السلعة فهي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، وقال ابن شبرمة: إذا فارقه على ذلك فضاع فعليه أقل الثمنين نقدًا، وبيان ذلك أنه إذا افترق على إلزام إحدى البيعتين بغير عينها فلا يجوز عند جميعهم؛ لأنه من باب بيعتين في بيعة، وافترقا على غير ثمن معلوم، فإن افترقا على البيعتين معًا على غير التزام بثمن يلزم أحدهما بعد ذلك، فأجازه مالك وجعله من باب بيع الخيار، وعند أبي حنيفة والشافعي لا يجوز إذا افترقا على غير ثمن معلوم ولا بالتزام ولا بغير التزام لأنهما قد افترقا على ثمن مجهول ودخلا تحت نهي النبي صلى الله عليه وسلم بيعتان في بيعة
(1)
.
المذهب الشافعي:
قال الشافعي: وهما وجهان:
أحدهما: أن يقول: (قد بعتك هذا العبد بألف نقدًا أو بألفين إلى سنة قد وجب لك بأيهما شئت أنا، وشئت أنت)، فهذا بيع الثمن فهو مجهول.
والثاني: أن يقول: (قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف فإذا وجب لك عبدي وجبت لي دارك)؛ لأن ما نقص من كل
(1)
«الاستذكار» (6/ 452).
واحد منهما مما باع ازداده فيما اشترى، فالبيع في ذلك مفسوخ ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش
(1)
.
المذهب الحنبلي:
قال ابن قدامة:
وقد روي في تفسير بيعتين وجه آخر وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر نسيئة، أو بعشرة مكسرة أو بتسعة صحاحًا. هكذا فسره مالك والثوري وإسحاق، وهو أيضًا باطل، وهو قول الجمهور؛ لأنه لم يجزم له ببيع واحد، فأشبه ما لو قال: بعتك هذه أو هذا، ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول؛ ولأن أحد العوضين غير معين، ولا معلوم فلم يصح، كما لو قال:(بعتك أحد عبيدي)، وقد روي عن طاووس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا فيذهب على أحدهما، وهذا محمول على أنه جرى بينهما بعدما يجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال: خذه أو قد رضيت، ونحو ذلك فيكون عقدًا كافيًا وإن لم يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أو
(1)
«مختصر المزني من علم الشافعي» (1/ 88)، وقد نقل النووي في «روضة الطالبين» (3/ 397)، والخطيب الشربيني في «الإقناع» (1/ 422) هذا الكلام وزادا فيه:«أما لو قال: (بعتك بألف نقدًا وبألفين نسيئة)، أو قال: (بعتك نصفه بألف ونصفه بألفين) فيصح العقد» .
يدل عليه فلم يصح؛ لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابًا لما ذكرناه
(1)
.
من
فتاوى
الشيخ عبد الحليم محمود:
قال: لقد أباح جمهور الفقهاء أن يكون الثمن المؤجل أعلى من الثمن المدفوع فورًا؛ وذلك لأن الثمن المدفوع فورًا يمكن الانتفاع به في معاملات تجارية أخرى، أما الثمن المؤجل فإنه لا يتأتى فيه ذلك
(2)
.
تأجير ذكران البهائم لغرض إتيان إناثها (كراء عَسْب الفحل)
من الأمور المنتشرة بين الزراع والقائمين على تربية المواشي تأجير ذكران الحيوانات، فتجد الرجل عنده كبش أو ثور أو فرس أو حمار فيقوم بتأجيره لفلان من الناس لأجل أن يأتي نوعه من الإناث عنده، ويجعلها مهنة يتكسب من ورائها، وهذا نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال: نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن عَسْب الفحل
(1)
، وعَسْب الفحل هو ماء الذكر من الحيوان، وسيأتي بيانه.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ، وَعَنْ بَيْعِ الْمَاءِ وَالْأَرْضِ لِتُحْرَثَ»، فَعَنْ ذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2284).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1565).
قال ابن الأثير:
عَسْب الفحل: ماؤه، فرسًا كان أو بعيرًا أو غيرهما، وعَسْبه أيضًا ضرابه، يقال: عَسَب الفحلُ الناقة يَعْسِبها عَسْبًا، ولم ينه عن واحد منهما، وإنما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه، فإن إعارة الفحل مندوب إليها، وقد جاء في الحديث (ومن حقها إطراقُ فحلها)
(1)
، ووجه الحديث أنه نهى عن كراء عَسْب الفحل، فحذف المضاف وهو كثير في الكلام
(2)
.
وعلى هذا يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إجارة الفحل إذ أن ماءه ليس محلًاّ للعقود والمعاوضات وهذا من محاسن الشريعة الإسلامية إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المعاوضة عليه بالثمن واستحب إعارته لتدوم المحبة والمودة بين المسلمين، ومما ينبغي
(1)
(إطراق فحلها) إعارته للضرب أي: الإتيان، وهذه جملة من الحديث الصحيح، الذي أخرجه مسلم (988) من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلَا بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ، لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا، إِلَّا أُقْعِدَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ ذَاتُ الظِّلْفِ بِظِلْفِهَا، وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ الْقَرْنِ بِقَرْنِهَا، لَيْسَ فِيهَا يَوْمَئِذٍ جَمَّاءُ (الجماء: الشاة لا قرن لها) وَلَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ:«إِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَمَنِيحَتُهَا، وَحَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ» .
(2)
«النهاية في غريب الأثر» (3/ 464).
الإشارة إليه أن بعض أهل العلم جعلوا هذا النهي للتنزيه، وبناء عليه أجازوا بيع عَسْب الفحل؛ لذا رأيت أن أنقل قول كل فريق لتتم الفائدة، مع ترجيحنا للقول القائل بأن النهي للتحريم.
•
من قال من العلماء بتحريم كراء عسب الفحل:
قال بالتحريم أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وإليك نقل الأقوال من كتب مذاهبهم:
قال الكاساني (الحنفي):
ولا يجوز استئجار الفحل للضراب؛ لأن المقصود منه النسل، وذلك بإنزال الماء، وهو عين، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن عسب الفحل، أي كرائه؛ لأن العسب في اللغة وإن كان اسمًا للضِّراب لكن لا يمكن حمله عليه؛ لأن ذلك ليس بمنهي عنه لما في النهي عنه من قطع النسل، فكان المراد منه كراء عسب الفحل إلا أنه حذف الكراء وأقام العسب مقامه، كما في قوله عز وجل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ونحو ذلك
(1)
.
قال محمد بن محمد البابرتي الحنفي:
ولا يجوز أخذ أجرة عسب الفحل، أي ضرابه، وهو أن يؤجر
(1)
«بدائع الصنائع» (9/ 312).
فحلًا لينزو على الإناث، وخَرَّج بعض الشافعية والحنابلة بجوازه وجهًا، وهو أنه انتفاع مباح؛ ولهذا جاز بطريق الاستعارة، والحاجة تدعو إليه، فكان جائزًا كاستئجار الظئر للإرضاع، قلنا: وهو مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من السحت عسب التيس» رواه البخاري
(1)
، ومراده أخذ الأجرة عليه
(2)
.
قال النووي الشافعي:
اختلف العلماء في إجارة الفحل وغيره من الدواب للضراب، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور وآخرون: استئجاره لذلك باطل وحرام، ولا يستحق فيه عوض، ولو أنزاه المستأجر لا يلزمه المسمى من أجره ولا أُجرة مثل، ولا شيء من الأموال. قالوا: لأنه غرر مجهول وغير مقدور على تسليمه
(3)
.
قال الماوردي الشافعي:
فقد حكى ابن أبي هريرة اختلاف أصحابنا في معنى هذا النهي على وجهين:
أحدهما: أن النهي عنه نهي تنزيه؛ لدناءته واتباع الجاهلية في فعله.
(1)
ليس في كتاب البخاري بهذا اللفظ.
(2)
«العناية شرح الهداية» (12/ 392).
(3)
«شرح النووي على مسلم» (10/ 230).
والثاني: أنه نهي تحريم - وهو الصحيح - لأن ذلك الماء مما تحرم المعاوضة عليه، ولا يصح أخذ البدَل عنه، والله أعلم
(1)
.
قال ابن قدامة الحنبلي: عَسْب الفحل: ضرابه، وبيعه: أَخْذ عوضه، وتسمى الأجرة عسب الفحل مجازًا، وإجارة الفحل للضراب حرام والعقد فاسد، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وحُكي عن مالك جوازه، قال ابن عقيل: ويحتمل عندي الجواز؛ لأنه عقد على منافع الفحل ونزوه، وهذه المنفعة مقصودة، والماء تابع والغالب حصوله عقيب نزوه فيكون كالعقد على الظئر ليحصل اللبن في بطن الصبي، ولنا ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع عسب الفحل. رواه البخاري، وعن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل. رواه مسلم، ولأنه مما لا يقدر على تسليمه، فأشبه إجارة الآبق، ولأن ذلك متعلق باختبار الفحل وشهوته؛ ولأن المقصود هو الماء، وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد، وهو مجهول، وإجارة الظئر خولف فيه الأصل لمصلحة بقاء الآدمي، فلا يقاس عليه ما ليس مثله.
فعلى هذا إذا أعطى أجرة لعسب الفحل فهو حرام على الآخذ لما ذكرنا، ولا يحرم على المعطي؛ لأنه بذل ماله لتحقيق مباح يحتاج إليه
(2)
.
(1)
«الحاوي الكبير» (5/ 726).
(2)
«المغني» (4/ 300).
•
من قال بجواز كراء عسب الفحل؟
قال بهذا القول المالكية، وهو وجه عند الشافعية
(1)
وآخر عند الحنابلة
(2)
.
جاء في المدونة:
قلت: أرأيتَ إن استأجرت فحلًا لإنزاء فرس أو حمار أو تيس أو بعير أو غير ذلك، أيجوز هذا في قول مالك أم لا؟ قال: قال مالك: إذا استأجره ينزيه أعوامًا معروفة بكذا وكذا، فهذا جائز، وإن استأجره ينزيه شهرًا بكذا وكذا، فذلك جائز، وإن استأجره ينزيه حتى تَعْلق الرَّمَكة فذلك فاسد لا يجوز.
قلت: من أي وجه جوز مالك إجارة الفحل، قد بلغك أن بعض العلماء كرهوه، وذكروه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من الغرر في القياس. قال: إنما جوزه مالك؛ لأنه ذكر أن العمل عندهم عليه، وأدرك الناس يجيزونه بينهم فلذلك جوزه مالك
(3)
.
(1)
سبق بيان هذا الوجه في كلام الماوردي قبل قليل.
(2)
سبق بيان هذا الوجه في كلام ابن قدامة قبل قليل.
(3)
«المدونة الكبرى» (3/ 438).
•
مسألة: هل يجوز إعارة الفحل؟
الجواب: نعم، إعارة الفحل جائزة بل ومندوب إليها، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، ففي «صحيح مسلم» من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه «
…
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ:«إِطْرَاقُ فَحْلِهَا .... »
(1)
، وهذا الذي نص عليه الحديث، اتفق عليه أئمة المذاهب الأربعة ومن تابعهم
(2)
، والحمد لله رب العالمين.
•
مسألة: هل يجوز أن يعطي صاحبُ الأنثى صاحبَ الفحل شيئًا على سبيل الهدية؟
الجواب: نعم يجوز، من باب أن صاحب الفحل فَعَل معروفًا، فجاز أن يجازى عليه - شريطة أن لا يكون ذلك مشروطًا أو بالاتفاق.
دل على الجواز الحديث الذي أخرجه الترمذي في «سننه» من حديث أنس بن مالك أَنَّ رَجُلًا مِنْ كِلَابٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُطْرِقُ الفَحْلَ فَنُكْرَمُ.
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (988) وتقدم نص الحديث كاملًا في الحاشية قبل قليل.
(2)
قال الحافظ ابن حجر: (وأما عارية ذلك (عسب الفحل) فلا خلاف في جوازه «فتح الباري» (4/ 461).
فَرَخَّصَ لَهُ فِي الكَرَامَةِ
(1)
.
(1)
صحيح: أخرجه الترمذي (1321)، والبيهقي في «الكبرى» (5/ 339)، وغيرهما من طريق يحيى بن آدم عن إبراهيم بن حميد الرؤاسي عن هشام بن عروة عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أنسَ، وهذا سند رجاله ثقات، إلا أن البعض تكلم في رواية محمد بن إبراهيم عن أنس، والصحيح إثبات السماع له، قال يعقوب بن سفيان الفسوي: سألت عليًّا: لقي محمد بن إبراهيم التيمي أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنس بن مالك، ورأى ابن عمر، «المعرفة والتاريخ» (10/ 223).
بيع الغرر
من الكسب غير المشروع في دين الإسلام الذي ينبغي للتاجر المسلم أن يحذره ويتوقى شره - بيعُ الغرر، والغرر عنوان جامع لكثيرٍ من المعاملات المحرمة، فكل معاملة بيع قامت على أساس من التغطية والتعمية لأمر السلعة تدخل تحت بيع الغرر.
قال أبو السعادات الجزري: هو ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول
(1)
.
وصور بيع الغرر كثيرة جدًّا، منها بيع السمك في الماء، وبيع الطير في الهواء أو بيع كرتونة طعام لا يدرى ما بداخلها من حيث الكم والنوع
(2)
، كذلك بيع ثمر الأرض لمدة أعوام محددة. وغير ذلك، وهذا كله داخل تحت مسمى بيع الغرر لوجود الجهالة في المُثمن.
(1)
«النهاية في غريب الأثر» (3/ 661).
(2)
هذا ما لم تكن موصوفة إما إن كانت موصوفة فلها حكم آخر نتناوله إن شاء الله تعالى.
كذلك يندرج تحت بيع الغرر ما كانت فيه الجهالة في الثمن، كأن تقول: اشتريت منك هذا الكتاب بما في جيبي من النقود. هذا أيضًا داخلٌ في الغرر.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ
(1)
، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ
(2)
.
قال الإمام النووي:
وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع؛ ولهذا قدمه مسلم ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع الآبق والمعدوم والمجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير واللبن في الضرع وبيع الحمل في البطن وبيع بعض الصبرة مبهمًا، وبيع ثوب من الأثواب وشاة من الشياة، ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة
(3)
.
(1)
بيع الحصاة نوع من الأنواع المنهي عنها وهو داخل أيضًا في بيع الغرر، ومعناه أن تقول مثلا لشخص: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة. ثم ترمي بالحصاة، أو أن تقول أبيعك: من أرضي قطعة مقدارها من هنا إلى حد ما تقع عليه الحصاة. أو أن تقول: إذا رميت الثوب هذا بالحصاة فهو لك. وهذه كلها كانت من صور الجاهلية وجاء الإسلام بتحريمها لما فيها من مخادعة.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1513).
(3)
«شرح النووي على مسلم» (10/ 156).
قال الثعلبي المالكي
(1)
: يجمع بيع الغرر ثلاثة أوصاف:
أحدهما: تَعَذُّر التسليم غالبًا.
والثاني: الجهل.
والثالث: الخطر والقمار.
فأما ما يرجع إلى تعذر التسليم فكالآبق
(2)
، والضالة والشارد، والمغصوب والطير في الهواء والسمك في الماء، وبيع الأجنحة واستثنائها، وحبل الحبلة وهو نتاج ما تنتج الناقة، والمضامين. وهي ما في ظهور الفحول.
وأما ما يرجع إلى الجهل فيتنوع: فمنه الجهل بجنس المبيع كقوله: بعتك ما في كمي، أو ما في صندوقي أو ما في يدي، ومنه ما يرجع إلى الجهل بصفاته كقوله: بعتك ثوبًا في بيتي أو فرسًا في إصطبلي ومنه الجهل بالثمن في جنسه أو مقداره أو أجله، مثل أن يقول: بعتك بما يخرج به سعر اليوم، أو بما يبيع به فلان متاعه، أو بما يحكم به زيد. ومنه البيعتان في بيعه وهو قوله: بعتك هذا الثوب بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر إلى أجل على أنه قد وجب بأحد الثمنين، ومنه
(1)
أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي المالكي (ت: 422 هـ).
(2)
أي: العبد الآبق (الهارب المتمرد على صاحبه).
بيع اللحم في جلده والحنطة في تبنها، ومنه شرط الخيار الممتد، والأجل المجهول نحو قدوم زيد وموت فلان، وما أشبه ذلك.
وأما الخطر فبيع ما لا ترجى سلامته كالمريض في السياق، وما لا يدرى أيسلم أم يتلف ولا ظاهر ولا أمارة تغلب على الظن معهما سلامته، كبيع الثمرة قبل بُدُو صلاحها، وأما القمار فكبيع الملامسة، وهو أن يلمس الرجل الثوب فيلزمه البيع بلمسه ولم يبينه، وبيع المنابذة هو أن ينبذ أحدهما ثوبًا إلى الآخر وينبذ الآخر ثوبه إليه فيجب البيع بذلك، ومنه بيع الحصاة، وصفته أن تكون بيده حصاة فيقول: إذا سقطت من يدي فقد وجب البيع. وقيل: تكون ثياب عدة فيقول: على أيهما سقطت الحصاة فقد وجب البيع، ومنه المزابنة
(1)
، وقد ذكرناها.
وهذه كلها بيوع الجاهلية وكثير منها ما يتداخل فيجتمع الجهل وتعذر التسليم كالآبق والشارد، فإن انضم إلى ذلك جهل بالثمن أو بالأجل تأكد الغرر لكثرة أسبابه
(2)
.
(1)
قال ابن الأثير: المزابنة في الحديث، وهي بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وأصله من الزبن وهو الدفع، كأن كل واحد من المتابعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه، وإنما نهى عنه لما يقع فيه من الغبن والجهالة «النهاية» (2/ 294)، وعلى هذا فالمزابنة بيعُ معلومٍ بمجهول من جنسه، كالعنب بالزبيب والرطب بالتمر وهكذا.
(2)
«التلقين» (2/ 150).
•
مسألة: هل استثنى العلماء من التحريم بعض صور الغرر؟
الجواب: نعم قد استثنى العلماء من الغرر ما دعت الحاجةُ إليه، كبيع الدار بأساسها، فلا شك أن الأساس غير معلوم ولكن يصعب اشتراط رؤيته، وكذلك الوسائد المحشوة بالقطن، القطن فيها غير معلوم ويصعب رؤيته، ونظائر هذا كثيرة.
قال النووي:
أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير، منها أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم يُرى حشوها، ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز، وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة والثوب ونحو ذلك شهرًا مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يومًا وقد يكونُ تسعة وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء، وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشاربين
(1)
.
(1)
«شرح النووي على مسلم» (10/ 156).
هل يجوزُ بيع السلع التجارية اعتمادًا على الصفة عند تعذر عرضها كاملة للمشتري؟
أقول وبالله التوفيقُ هذه المسألة منتشرة وكثر السؤال عنها، فتجد كثيرًا من المحلات، خاصة محلات الملابس والمفروشات إذا ذهب المشتري إليها فإنها لا تعرض السلعة أمامه ليعاينها تعيينًا تامًّا، وإنما تبيعها في غلافها معتمدة على الوصف المكتوب في الورقة التي أُلصقت بها، مما يدفع بعض الناس إلى سؤال وهو: هل هذا من بيع الغرر المنهي عنه أو لا؟
والجواب على هذا السؤال يتمثل فيما يلي: هذه المسألة راجعة لمسألة أخرى تكلم عليها العلماء في كتب الفقه، وهي مسألة: هل يجوز بيع العين الغائبة على الوصف أو لا؟
• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
الأول: يجوز، وهو قول الحنفية
(1)
والمالكية ورواية الحنابلة.
(1)
الحنفية: يجيزون بيع العين بغير رؤية ولا وصف، ويُثبتون للمشتري خيار الرؤية إن شاء أنفذ البيع وإن شاء رده.
الثاني: لا يجوز، وهو قول الشافعية وقول الإمام أحمد.
ولكلٍّ من أصحاب هذين القولين دليله، والقائلون بالجواز
(1)
يرون أنه ليس من الغرر؛ إذ أن المشتري لو وجد السلعة مخالفة للوصف فله حق الخيار في إنفاذ البيع من عدمه، وأيضًا الضرورة دعت إلى ذلك، فهنالك أشياء يشق على البائع عرضها كاملة كأثواب القماش والمطعومات المعلبة وغير ذلك، ثم إن الإمام مالك حكى أنه وجد الناس يتعاملون بذلك ويجيزونه وسيأتي، أما القائلون بالبطلان وعدم الجواز، فيجعلونه من باب البيع بالغرر، وتقدم ذكر النهي عن بيع الغرر.
• وإليك أقوال الأئمة رحمهم الله:
قال الكاساني (الحنفي):
وأما العلم بأوصاف المبيع والثمن فهل هو شرط لصحة البيع بعد العلم بالذات، والجهل بها هل هو مانع من الصحة؟ قال أصحابنا: ليس بشرط الصحة، والجهل بها ليس بمانع من الصحة لكنه شرط اللزوم فيصح بيع ما لم يره المشتري لكنه لا يلزم، وعند الشافعي: كون المبيع معلوم الذات والصفة من شرائط الصحة حتى لا يجوز بيع ما لم يره المشتري عنده.
(1)
أعرضت عن ذكر الأدلة النقلية التي أستدل بها القائلون بالجواز لضعفها، فيما أرى والله أعلم.
قال الإمام مالك:
وبيع الأعدال
(1)
على البرنامج
(2)
مخالف لبيع الساج
(3)
في جرابه والثوب في طيه وما أشبه ذلك، فَرْقُ بين ذلك الأمر المعمول به، ومعرفة ذلك في صدور الناس، وما مضى من عمل الماضين فيه، وأنه لم يزل من بيوع الناس الجائزة، والتجارة بينهم التي لا يرون بها بأسًا؛ لأن بيع الأعدال على البرنامج على غير نشر لا يراد به الغرر، وليس يشبه الملامسة
(4)
.
جاء في المدونة: وقول مالك في الرجل يقدم له أصناف من البز فيحضره السوام، ويقرأ عليهم برنامجه، ويقول: في عدل كذا وكذا ملحفة بصرية، وكذا وكذا رايطة سابرية وذرعها كذا وكذا، فيسمى أصناف تلك البزوز لهم بأجناسه وذرعه وصفاته، ثم يقول: اشتروا على هذا، فيشترون، ويخرجون الأعدال على ذلك، فيفتحونها فيشتغلون ويبرمون أن ذلك لهم إذا كان موافقًا للبرنامج الذي باعه عليه.
(1)
الأعدال: الأوعية التي يوضع فيها الملابس والطعام وغير ذلك.
(2)
البرنامج: الدفتر المكتوب على الوعاء فيه صفة ما بداخل الوعاء.
(3)
الساج: الطيلسان الأخضر، والفارق أنه كان يباع على غير صفة فلا يجوز بيعه على غير صفة ولا رؤية.
(4)
«موطأ مالك» (1950).
قال: قال مالك: فهذا لم يزل الناس يجيزونه بينهم إذا لم يكن المتاع مخالفًا لصفة البرنامج فكفى بقول مالك حجة، فكيف وقد أخبر أنه فِعل الناس مع ما ذكر من الآثار في ذلك؟
(1)
.
قال النووي الشافعي:
(فرع) في مذاهب العلماء في بيع العين الغائبة، قد ذكرنا أن أصح القولين في المذهب بطلانه وبه قال الحكم وحماد، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وابن المنذر وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يصح، نقله البغوي وغيره عن أكثر العلماء، قال ابن المنذر: فيه ثلاثة مذاهب عن الشافعي: الأول: أنه لا يصح، والثاني: يصح البيع إذا وصفه وللمشتري الخيار إذا رآه، سواء كان على تلك الصفة أم لا، وهو قول الشعبي والحسن والنخعي والثوري، وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الرأي، والثالث: يصح البيع وللمشتري الخيار إن كان على غير ما وصف وإلا فلا خيار، قاله ابن سيرين وأيوب السختياني ومالك وعبيد الله بن الحسن وأبو ثور وابن نصر، قال ابن المنذر: وبه أقول
(2)
.
(1)
«المدونة» (3/ 260).
(2)
«المجموع» (9/ 301).
قال ابن قدامة الحنبلي:
وإذا وصف المبيع للمشتري فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم، صح بيعه في ظاهر المذهب، وهو قول أكثر أهل العلم، وعن أحمد لا يصح حتى يراه؛ لأن الصفة لا تحصل بها معرفة البيع فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه، ولنا أنه بيع بالصفة فصح كالسلم، ولا نُسلم أنه لا تحصل به معرفة المبيع فإنها تحصل بالصفات الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهرًا
(1)
.
الحاصل: أن العلماء يرحمهم الله اختلفوا في مسألة البيع بالصفة دون الرؤية على قولين: الراجح فيهما والله أعلم قول الجمهور القائلين بالجواز، إذ أن هذا هو الموافق للقواعد الكلية من الشريعة والمشقة تجلب التيسير، فالضرورة والحاجة تدعو إلى ذلك، فليس بمعقول أن يقال لبائع السمن: افتح صفيحة السمن أولًا كي يراها المشتري. فماذا لو لم تعجبه، كيف يردها البائع على حالتها الأولى، أليس هذا مما يضر بالسلعة نفسها؟ ويقوي هذا القول أمران:
أولهما: ما نقله مالك من أنه وجد الناس يتعاملون بهذه المعاملة ويجيزونها. ثانيهما: أن القائلين بهذا القول قالوا: بأنه إذا وجد السلعة على غير ما وصفت له، فله ردها للبائع، هذا والله أعلم.
(1)
«المغني» (4/ 77).
لا تبع ما ليس عندك
من الأمور المنهي عنها أن يبيع الرجل ما لا يملك، أو ما ليس عنده، وقد دل على ذلك جملة أخبار عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضى الله عنه، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟ فَقَالَ:«لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اشْتَرَى أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ
(2)
.
وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ
(1)
صحيح: أخرجه أبو داود (3503)، والترمذي (1277)، والنسائي (4534)، وابن ماجه (2187) وغيرهم.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2133)، ومسلم (1525).
طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ»
(1)
.
وعنه رضي الله عنه قال: رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً، يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ
(2)
.
وعنه أيضًا: كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَبْتَاعُ الطَّعَامَ، فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ، إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ، قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ
(3)
.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ»
(4)
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2133)، ومسلم (1526).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2131).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1527).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1528).
لا تبع الزرع في الأرض قبل بدو صلاحه (نضجه)
نهى النبي صلى الله عليه وسلم التجار والزراع أن يبيعوا الثمار قبل بدو صلاحها، أي قبل أن تطيب وتصلح للأكل، وفي هذا حِرص من الشرع على دوام المحبة والألفة والإخاء بين المسلمين، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يُحدث الفُرقة بينهم، فلو أنه تعاقد البائع والمشتري على نوع من الثمار وهو ما زال في الأرض لم ينضج بعد، فلربما جاءت آفة من السماء، تصيب الثمر، فيخسر المشتري ماله الذي دفعه، ولربما ينضج الثمر ويحلو في عين البائع ويجد البائع أن سعره قد ارتفع عن يوم التعاقد، فيحدث في نفسه من المشتري شيئًا، مما يؤدي إلى التباغض؛ لذا فإن الإسلام قد نهى عن هذا كله، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا
(1)
، ومثل هذا الخبر ورد عن جابر أيضًا
(2)
، وعن
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (1486)، ومسلم (1534).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (1487)، ومسلم (1536).
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَلَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ
(1)
.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَعَنِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ. قِيلَ: وَمَا يَزْهُو؟ قَالَ: «يَحْمَارُّ أَوْ يَصْفَارُّ»
(2)
، وعن أبي البختري الطائي، قال: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنِ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ، قَالَ: نَهَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُوكَلَ مِنْهُ، وَحَتَّى يُوزَنَ
(3)
.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ، وَعَنِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ، وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ»
(4)
.
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ، وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، إِلَّا العَرَايَا
(5)
.
وعلى هذا فلا يجوز لأحد أن يتعدى كل هذه النصوص النبوية الصحيحة ليوقع نفسه في المحرم، ويأسرها بالمعصية.
(1)
صحيح: أخرجه مسلم (1538).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2197)، ومسلم (1555).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (2246)، ومسلم (1537).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1535).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (2189)، ومسلم (1536).
قال ابن قدامة:
لا يخلو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يشتريها بشرط التبقية
(1)
، فلا يصح البيع إجماعًا
(2)
؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع. متفق عليه
(3)
، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث.
القسم الثاني: أن يبيعها بشرط القطع في الحال، فيصح بالإجماع؛ لأن المنع إنما كان خوفًا من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها، بدليل ما روى أنس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّه الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» رواه البخاري
(4)
، وهذا مأمون فيما يقطع، فصح بيعه كما لو بدا صلاحه.
(1)
أي يشتريها ويتم العقد ثم يتركها في الأرض حتى تنضج فيحصدها.
(2)
وهَّم الحافظ ابن حجر نقل هذا الإجماع في «الفتح» ، وذكر القول بالجواز عن يزيد بن ابي حبيب، (4/ 493).
(3)
تقدم ذكره.
(4)
أخرجه البخاري بهذا السياق برقم (2198)، بلفظ:«بم تستحل مال أخيك» ، (2208).
القسم الثالث: أن يبيعها مطلقًا ولم يشترط قطعًا ولا تبقية، فالبيع باطل، وبه قال مالك والشافعي وأجازه أبو حنيفة؛ لأن إطلاق العقد يقتضي القطع، فهو كما لو اشترطه، قال: ومعنى النهي أن يبيعها مدركة قبل إدراكها، بدلالة قوله:«أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» فلفظة المنع تدل على أن العقد يتناول معنىً هو معقودٌ في الحال يتصور المنع، ولنا [القائل: ابن قدامة] أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فيدخل فيه محل النزاع
(1)
.
مسألة: رجلٌ يريدُ أن يبيع أرضه بما فيها من زرع فما الحكم حيث أن الثمر لم يظهر صلاحه بعد؟
الجواب: هذه المسألة على خلاف ما قد سبق، فلا يضر هنا احتمال الغرر وذلك للحاجة الداعية إلى ذلك، كما أنه تحتمل جهالة أساس الدار، وجهالة بيع اللبن في الضرع مع بيع الشاة.
ثم إن المسألة فيها نص عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ
(2)
، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ، وَمَنِ ابْتَاعَ
(1)
«المغني» (9/ 218).
(2)
التأبير: التلقيح.
عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ»
(1)
، قوله صلى الله عليه وسلم:«إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ» فيه دليل على أن المشتري له أن يشترط الثمر لنفسه، وقد حكى ابن قدامة الإجماع على جواز هذا فقال: وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يبيعها مفردة لغير مالك الأصل، فهذا الضرب الذي ذكرنا حكمه وبيان بطلانه.
الثاني: أن يبيعها مع الأصل فيجوز بالإجماع؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ»
(2)
، وَلِأَنَّهُ إذَا بَاعَهَا مَعَ الْأَصْلِ حَصَلَتْ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضُرَّ احْتِمَالُ الْغَرَرِ فِيهَا، كَمَا احْتَمَلَتْ الْجَهَالَةُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ بَيْعِ الشَّاةِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ مَعَ التَّمْرِ، وَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ فِي بَيْعِ الدَّارِ ..
الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً لِمَالِكِ الْأَصْلِ، نَحْوُ أَنْ تَكُونَ لِلْبَائِعِ وَلَا يَشْتَرِطُهَا الْمُبْتَاعُ، فَيَبِيعَهَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ يُوصِيَ لِرَجُلٍ بِثَمَرَةِ نَخْلَتِهِ، فَيَبِيعَهَا لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَهُوَ
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2379)، ومسلم (1543).
(2)
العزو السابق.
الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ الْأَصْلُ وَالثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي، فَيَصِحُّ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا مَعًا. وَلِأَنَّهُ إذَا بَاعَهَا لِمَالِكِ الْأَصْلِ حَصَلَ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْكَمَالِ؛ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِأُصُولِهَا وَقَرَارِهَا، فَصَحَّ، كَبَيْعِهَا مَعَ أَصْلِهَا. وَالثَّانِي، لَا يَصِحُّ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ الثَّمَرَةَ خَاصَّةً، وَالْغَرَرَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ أَصْلًا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأُصُولُ لِأَجْنَبِيٍّ، وَلِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُمَا مَعًا، فَإِنَّهُ مُسْتَثْنَى بِالْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْغَرَرَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ أَصْلًا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، وَفِيمَا إذَا بَاعَهُمَا مَعًا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ تَبَعًا، وَيَجُوزُ فِي التَّابِعِ مِنْ الْغَرَرِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَتْبُوعِ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالْحَمْلِ مَعَ الشَّاةِ، وَغَيْرِهِمَا. وَإِنْ بَاعَهُ الثَّمَرَ، بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ، صَحَّ، وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَهُ.
(1)
.
(1)
«المغني» (4/ 218).
الغش التجاري
من المصائب التي ظهرت في زماننا بين التجار انعدام الأمانة حتى أن الثقة أصبحت منعدمة بين جُلِّ البائعين والمشترين، فإذا أراد الرجل أن يشتري شيئًا فكَّر واستشار وبحث عن الأمين، وما هذا إلا لندرة الأمناء الذين لا يلجئون إلى صور الغش والمخادعة في تجاراتهم، وصدق رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لما حدَّث عن رفع الأمانة فقال:«يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلاً أَمِينًا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ»
(1)
.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (7497)، ومسلم (143) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
وإن كان حذيفة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ
(1)
لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ الإِسْلَامُ وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلاَّ فُلَانًا وَفُلَانًا
(2)
.
فماذا نقول نحن؟! إن الغش التجاري انتشر في هذه الآونة بصورة مذهلة، بل وأصبحت له طرائق متعددة كلها تدور حول مخادعة الآخر وكتمان عيب السلعة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو القائل:«مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»
(3)
.
الذي يغش الناس في البيع والشراء إنما هو آكل لأموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ] النساء [.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن أكل مال المسلم عن غير تراض هو أكل لماله بالباطل، والغش والتدليس ينافيان التراضي.
(1)
بايعت هنا بمعنى البيع والشراء.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (7497)، ومسلم (143).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (101) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الغش من صفات اليهود، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا»
(1)
، ومعنى جملوها، أي أذابوها.
حذر النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الغش في البيع والشراء ففي الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ» . قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَىْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى»
(2)
.
والتجارة التي تقوم على الغش ممحوقة البركة، وقد صدق رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال:«الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»
(3)
.
قال ابن حجر الهيتمي: وضابط الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائعٍ أو مشترٍ فيها شيئًا لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل، فيجب عليه أن يعلمه به ليدخل في أخذه على بصيرة
(4)
.
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2223)، ومسلم (1581).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (102).
(3)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2097)، ومسلم (1532).
(4)
الزواجر (1/ 396).
•
بعض صور الغش في التجارة:
التلاعب بالموازين سواء كان ذلك بالتطفيف أو بإفساد مؤشر الميزان أو بوضع معدن أسفل الكفة التي توضع عليها البضاعة وغير ذلك مما ابتكره الغشاشون.
إبدال وعاء السلعة الخفيف بوعاء ثقيل وذلك في السلع التي تباع معلبة، بحيث يثقل الوزن.
بعض بائعي الفواكه والخضروات يضعون في نهاية القفص المعد للسلعة ورقًا كثيرًا، ثم يجعلون أفضل وأجود الفاكهة أعلى القفص، وبهذا يُخدع المشتري من جهتين، الجهة الأولى: أنه يظن أن الفاكهة كلها بنفس الجودة، والجهة الثانية: أنه يظن أن القفص ممتلئ كله.
الغشاشون من تجار الملابس يأتون بالملابس المستعملة ثم يغسلونها ويقومون بكيها مستخدمين مادة النشا في الكي مما يوهم المشتري أنها ملابس جديدة قوية.
في تجارة الأغنام والمواشي يعمد بعض التجار ممن لا خلاق لهم إلى تغذيتها بالذرة أو طعام مالح آخر لتشرب الكثير من الماء لعرضها للبيع فينتفخ جانبيها فيحسبها المشتري تحمل لحمًا كثيرًا وهي ليست كذلك، ومنهم من يمتنع عن حلب بهيمته عددًا من المرات فيمتلئ ضرعها لبنًا فيظهر للمتشري أنها حلوب، ومنهم من لا يبيع الماشية إلا أثناء حملها ليُخفي بذلك عيبًا فيها.
في مجال تجارة السيارات المستعملة تجد عجبًا، فمن تجار السيارات من يأتي بالسيارة الممتهنة فيحسن سمكرتها ويصلح ما في ماكينتها من عطب ثم يرشها بالبوية، وعند بيعها لا يُظهر ذلك كله للمشتري لينال بذلك مبلغًا كبيرًا، ولو علم المشتري ماذا حدث بهذه السيارة، وكيف كانت لما دفع له، ومنهم من يعمد إلى عداد الكيلو في السيارة الذي يدل على أنها سارت كثيرًا فينقصه بحيلة، ليتوهم المشتري أنها لم تسر إلا قليلًا.
في أوساط تجار الذهب تجد غشاشين أيضًا، فمنهم من يخلط الذهب بالنحاس ويعرضه للبيع على أنه كله ذهب، ومنهم من يعمد إلى شراء الذهب المستعمل النظيف ليبيعه دون صياغة، ويكتم أنه مستعمل ويأخذ مِصنَاعِية الذهب الجديد.
بعض تجار العطور يبيعون زجاجة العطر على أنها كلها خام، وغالب ما فيها زيت.
السماسرة المخادعون خاصة المهنيون، فقد تأتي بسباك أو كهربائي أو نجار أو نقاش لبيتك ثم توكله ليشتري لك المؤن والخامات فإذا به يتفق مع التاجر ليأتي لك بفاتورة مغايرة من حيث السعر الحقيقي ليستفيد هو بالفارق المالي، وهذا غش وخيانة من التاجر والصانع.
في محلات الأزياء وكذا السجاد والمفروشات يستخدم بعضهم الأضواء الخافتة بألوانها المختلفة، كذلك يستخدمون أشعة الليزر لإظهار القبيح حسنًا.
كذلك من صور الغش والاحتيال:
التلاعب في ماركة السلعة، فيأتي هذا الرجل الغاش للناس فيصنع جهازًا أو يقوم بتعبئة سلعة من السلع ثم يلصق على كارتونة الجهاز أو على وعاء السلعة علامة ماركة عالمية مشهورة؛ لينخدع الناس فيُقبِلون على جهازه أو سلعته.
هذا الذي ذكرت إشارة إلى بعض صور الغش التجاري إجمالًا، وما لم أذكر أكثر مما ذكرت وسأفصل القول في بعض طرائق الغش المحرمة فيما يلي.
•
التطفيف في الميزان:
نزلت سورةٌ في كتاب الله تعالى تحذر من التطفيف في الميزان، قال الله تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} ] المطففين: 2 [.
والتطفيف: هو التلاعب في الموازين ومنع صاحب الحق من حقه، فمن البائعين من إذا اكتال لنفسه وفاها حقها، وإذا كال لغيره بخسه حقه، فتجد بعض الجزارين مثلًا يزن مع اللحم عظمًا وشحمًا
أضعاف ما يزن من اللحم، أو يلعب في عداد الميزان أو يضع ورقة سميكة أعلى الكفة ليزن عليها اللحم وغير ذلك.
إن تطفيف الميزان شأنه عند الله عظيم، ولنا في مدين قوم شعيب عبرة، قال الله تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ] هود: 85 [.
لقد حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وزنا لإخواننا شيئًا أن نوفِّيهم حقهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا»
(1)
، وليتق الله التجار وليعلموا أن الحقوق إن لم تؤدى في الدنيا فهي مؤداة في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
•
تأجير بعض الأفراد ليتظاهروا بالشراء ثم يقومون برفع ثمن السلعة ليقع فيها غيرهم (التناجش):
وهذا من سوء الخلق وقلة الدين، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الخديعة، وهو المعبر عنه في السنة بمصطلح التناجش،
(1)
صحيح: أخرجه ابن ماجه (2222)، وابن أبي عوانة في مستخرجه (4865)، والشهاب في مسنده (759) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
والتناجش هو: (أن يزيد في السلعة ولا رغبة له في شرائها بل ليغُرَّ غيره في شرائها)
(1)
.
عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَهَى عَنِ النَّجْشِ»
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»
(3)
.
وعن عمرو بن مهاجر أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِبَعَثَ عميرة بْنَ يزِيد الْفِلَسْطِينِيَّ يَبِيعُ السَّبْيَ فِيمَنْ يَزِيدُ، فَلَمَّا فَرَغَ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: عُمَرُ: كَيْف كَانَ الْبَيْعُ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَاسِدًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْلَا أَنِّي كُنْتُ أَزِيدَ عَلَيْهِمْ فَأُنْفِقُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: كُنْتُ تَزِيدُهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا تُرِيدُ أَنْ تَشْتَرِيَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ عُمَرُ هَذَا النَّجْشُ لَا يَحِلُّ، ابْعَثْ يَا عميرة مُنَادِيًا يُنَادِي أَلَا إنَّ الْبَيْعَ مَرْدُودٌ إِنَّ النَّجْشَ لَا يَحِلُّ
(4)
.
قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله،
(1)
«شرح النووي على صحيح مسلم» (16/ 120).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6963).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (2563).
(4)
حسن: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (20570)، وعبد الرزاق (14882).
واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، فذهب أهل الظاهر إلى أن البيع في النجش مفسوخ؛ لأنه طابق النهي ففسد، وقال مالك: المشتري بالخيار وهو عيب من العيوب، وحجته أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التصرية
(1)
، ثم يجعل المشتري بالخيار إذا علم أنها مصراة، ولم يقض بفساد البيع، ومعلومة أن التصرية غش وخديعة، فكذلك النجش يصح فيه البيع ويكون المشتري بالخيار، وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: البيع في النجش لازم ولا خيار للمبتاع في ذلك؛ لأنه ليس بعيب في نفس البيع، وإنما هي خديعة في الثمن، وقد كان على المشتري أن يتحفظ ويحضر من يميز إن لم يكن ممن يميز
(2)
.
•
الاعتماد على الحلف الكاذب:
بعض الناس يعتمدون في مخادعة الناس على الأيمان، فهم يروجون تجاراتهم بالحلف الكاذب، فمنهم من يقول والله هذه السلعة عليَّ بكذا، ومنهم من يقول: والله لقد عرض لي فيها كذا، ومنهم من يقول: والله هذا الثمن لم يوفِّ حقها، وهكذا، وهذا كله يضر بالمسلم، ويشينه بين يدي ربه سبحانه وتعالى.
قال الله عز وجل: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلَا تَشْتَرُوا
بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}] النحل: 95 [.
قال ابن كثير: حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلًا أي خديعة ومكرًا؛ لئلا تزل قدم بعد ثبوتها، مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به، لم يبق له وثوق بالدين، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام؛ ولهذا قال:{وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94].
ثم قال تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} أي: لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عَرَض الحياة الدنيا وزينتها، فإنها قليلة، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له
(1)
.
عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ»
(2)
.
والمقصود باليمين الغموس، الحلف الكاذب، وسميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في النار.
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 600) ط دار طيبة.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6675).
عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ»
(1)
.
(2)
.
عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»
(3)
.
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَقَامَ سِلْعَةً وَهُوَ فِي السُّوقِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطَ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً}
(4)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلاَّ
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (7183)، ومسلم (220).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2515)، ومسلم (220).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (171).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (2088).
لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ»
(1)
.
•
حبس اللبن في ضروع البهائم حتى تظهر ممتلئة باللبن فيغتر بها المشتري:
هذا الأمر من صور الغش القديمة والتي ما زالت فاشية حتى الحين ولقد نهى عنها النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ»
(2)
.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصروا» أي لا تحبسوا اللبن في ضروع الإبل أو الغنم وتمسكونها عن الحلب حتى تظهر أمام المشتري أنها مليئة باللبن.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ
(3)
، وَلَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2358).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2148) من حديث أبي هريرة.
(3)
«لا تلقوا الركبان» أي لا تستقبلوا الذين جاءوا بالبضائع والسلع من خارج البلد لتشتروا منهم قبل أن يدخلوا البلد ويتعرفوا على أسعار السلع.
وَمَنِ ابْتَاعَهَا فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ»
(1)
.
فحبس اللبن في ضرع الدابة تدليس وغش فضلًا عن أن فيه تعذيب للدابة وقد أمر الله بالإحسان إليها.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2150) من حديث أبي هريرة.
أخذ العربون
مما هو ذائع بين كثير من التجار اليوم أَخْذ العربون، وصورته أن يتفق المشتري مع البائع على شراء سلعة معينة ثم يدفع له جزءًا من المال على أنه إن تم البيع احتسب من الثمن، وإن لم يتم كان للبائع ولا يرد منه شيء
(1)
.
قال الأصمعي: العربون أعجمي معرب
(2)
.
قال مالك: (العربون) أن يشتري الرجلُ العبدَ أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارًا أو درهمًا أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك
(3)
.
(1)
أنظر: «الفائق» (2/ 410) بتصرف يسيرٍ.
(2)
«المصباح المنير» (2/ 401).
(3)
«الموطأ» حديث (1271).
سؤال: هل ورد في الباب دليل صحيح صريح؟
لم يرد في الباب سوى دليل واحد صريح إلا أنه ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ونصه: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان»
(1)
.
(1)
ضعيف: أخرجه أبو داود في «سننه» (3504)، وابن ماجه (2192)، وأحمد في «مسنده» (11/ 332)، والبيهقي في «الكبرى» (10656)، ومالك في «الموطأ» (1271)، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» من طريق مالك، قال: حدثني الثقة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولا يخفى ما في هذا الوجه من الانقطاع؛ فشيخ مالك الذي وسمه بالثقة مجهول، وكما هو مقرر في قواعد الجرح والتعديل أن قول الثقة:(حدثني الثقة) لا يُعد تعديلًا له، وجَزَم بعض أهل العلم أن الثقة هذا هو ابن لهيعة، قال ابن عدي: ويقال: إن مالكًا سمع هذا الحديث من ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب ولم يسمه لضعفه والحديث عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مشهور (الكامل: 4/ 153).
قلت: وهذا ورد من وجه آخر عن ابن لهيعة، أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 177)، وعزاه في «الاستذكار للموطأ» برواية ابن وهب (6/ 264) من طريق عبد الله بن وهب عن مالك عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. إلا أن ابن لهيعة متكلم فيه أيضًا، وأخرجه ابن عبد البر أيضًا في «التمهيد» (24/ 177)، وابن عدي في «الكامل» (4/ 153) من طريق ابن لهيعة عن أبيه عن جده. وأخرجه ابن ماجه (2193) من طريق أبي محمد كاتب مالك عنه وعبد الله بن عامر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأبو محمد كاتب مالك وشيخه ضعيفان، أبو محمد اسمه حبيب بن أبي حبيب قال عنه النسائي: متروك الحديث (الضعفاء: 61)، وقال عنه الذهبي: كذبه أبو داود (الكاشف: 905)، وقال عنه ابن عدي: يضع الحديث (الكامل: 2/ 411)، وأما شيخه فهو عبد الله بن عامر الأسلمي، قال عنه البخاري: يتكلمون في حفظه، (التاريخ الكبير:(5/ 156)، وقال النسائي عنه: ضعيف (الضعفاء: 323)، وضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين (الكامل: 4/ 154)، وللحديث وجه آخر عن عمرو بن شعيب أيضًا أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 178) من طريق الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن عمرو بن شعيب، والحارث عنده أوهام، ومتكلم فيه، انظر:«التقريب» .
مما سبق يتضح أن مدار الحديث علي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهذه سلسلة متكلم فيها ثم إن الراوي عن عمرو إما مجهول كما في أكثر الروايات عن مالك وإما ابن لهيعة وهو متكلم فيه بكلام لا يخفى على أحِد من أهل هذا الفن، وإما من هو متروك، وهكذا والخبر بهذه الصفة لا يُطَمْئِن القلب إلى تحسينه.
•
حكم أخذ العربون:
اختلف أهل العلم في أخذ العربون على قولين:
القول الأول: عدم الجواز وهو قول الجمهور، فبه قال الحنفية والمالكية والشافعية، وهي إحدى الروايات عن أحمد، ونُقل هذا القول عن الثوري والأوزاعي والليث بن سعد.
القول الثاني: الجواز، وهو المشهور عند الحنابلة.
•
أدلة أصحاب القول الأول (القائلين بعدم الجواز):
1 -
استدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29].
2 -
حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان
(1)
.
3 -
أن العربون اشتراط للبائع بغير عوض.
•
أدلة أصحاب القول الثاني (القائلين بالجواز):
1 -
أثر عبد الرحمن بن فروخ قال: إن نافع بن عبد الحارث اشترى لعمر من صفوان بن أمية دار السجن بأربعة آلاف، فإن رضي عمر رضي الله عنه، فالبيع جائز، وإن لم يرضى فلصفوان أربع مئة درهم
(2)
.
(1)
ضعيف، تقدم تحقيقه قبل قليل.
(2)
ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (23201)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (9213)، والبيهقي في «الكبرى» (11180)، والفاكهي في «أخبار مكة» (2076)، من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن فروخ به، وأخرجه البخاري معلقًا (كتاب الخصومات - باب الربط والحبس في الحرم)، والحديث مخرج في الجزء الثاني من حديث سفيان بن عيينة للطائي (88) - مخطوط -، ويضعف هذا الخبر لأجل رواية عبد الرحمن بن فروخ، لم يرو عنه سوى عمرو بن دينار ولم أقف على أحد وثقه، سوى ذكر ابن حبان له في الثقات، وقال عنه الحافظ في «التقريب»: مقبول [3979]، أي إذا توبع ولم أجد له متابعًا.
2 -
أثر زيد بن أسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحل العربان في البيع
(1)
.
3 -
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: كان لا يرى بالعربون بأسًا
(2)
.
هذا وثَم أثار أخرى.
4 -
القياس على أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئًا.
•
من أقوال الفقهاء في المسألة (القائلون بالتحريم):
قال مالك: وذلك فيما نوى والله أعلم أن يشتري الرجلُ العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشتراه منه أو تكارى منه: أُعطيك دينار أو درهمًا، أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك، فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة،
(1)
ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (23195)(3200)، وزيد بن أسلم أرسله فهو لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (23197)، وعبد الله بن أبي نجيح مع كونه ثقة إلا أن الحافظ ابن حجر ذكره في المرتبة الثالثة من مراتب المدلسين، وقال: ابن أبي نجيح المكي المفسر، أكثرَ عن مجاهد وكان يدلس عنه، وصفه بذلك النسائي (77).
أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك، باطل بغير شيء.
قال أبو عمر: على قول مالك هذا جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين، منهم الشافعي والثوري وأبو حنيفة
(1)
والأوزاعي والليث؛ لأنه من بيع القمار والغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل
(2)
.
قال النووي: ولا يصح بيع العربون بأن يشتري ويعطيه دراهم لتكون من الثمن إن رضي السلعة وإلا فهبة
(3)
.
قال أيضًا: في مذاهب العلماء في بيع العربون قد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه، إن كان الشرط في نفس العقد، وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس، والحسن، ومالك، وأبي حنيفة، قال: وهو يشبه قول الشافعي
(4)
.
(1)
نُقل هذا القول عن أبي حنيفة من أكثر من مصدر، وحاولت أن أتتبع كلام أبي حنيفة في كتب مذهبه المعتمده فيما تيسر لي الآن، فلم أجد شيئًا إلا ما قرأته في كتاب (النتف في الفتاوى) للسغدي، فلقد ذكر بيع العربون من جملة البيوع الفاسدة (1/ 472).
(2)
«التمهيد» (24/ 179).
(3)
«منهاج الطالبين» (47).
(4)
«المجموع» (9/ 335).
القول بالجواز:
قال ابن قدامة المقدسي: والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهمًا أو غير على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فذلك للبائع، يقال: عربون أو أربون وعربان وأربان، قال أحمد: لا بأس به
(1)
.
الراجح: كما هو واضح رأي الجمهور لا يُحلونه وأحمد يخالف في ذلك، والخبر المرفوع في الباب لا يثبت، إلا أن قول الجمهور أقرب للصواب لما في هذا البيع من أكل المال بغير عوض ولا هبة، وإنما مخاطرة من المشتري، والله أعلى وأعلم.
ومما ينبغي أن ينبه عليه أن الحرمة إنما هي خاصة بالصورة التي بينتها في بداية المسألة وإلا فهنالك صور أخرى، نختار فيها القول بالجواز كعقود الإستصناع مثلًا، والله الموفِق والهادي إلى طريق الرشاد.
(1)
«المغني» لابن قدامة (4/ 175).
مسائل متعلقه بالمال الحرام
كيف يُتخلص من المال الحرام الذي لا يُعرف له مالك
إذ كان لزامًا على كل مَنْ ملك مالًا حرامًا لا يحل له أن يرده إلى صاحبه إن عرفه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ»
(1)
، فكيف بمن عند مال حرام لا يعرف مالكه الحقيقي، كأن يكون جمعه من رِشًا كان تلقاها في مصلحة حكومية، أو كان قد اكتسبه من عمل محرم كالغناء والرقص وشهادة الزور والتعامل بالربا؟
هذا، الذي حصل مالًا محرمًا لا يعرف صاحبه، أو اكتسبه من عمل محرم يجب عليه أن يتنزه ويتخلص منه، ويكون هذا بأن ينفقه في مصالح المسلمين أو يتصدق به عن صاحبه الذي لا يعرفه على الفقراء والمساكين على الصحيح من قولي أهل العلم.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2448).
•
أقوال أهل العلم في المسألة:
الأول: ينفق في مصالح المسلمين ويتصدق به على الفقراء والمساكين وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة وبعض الشافعية.
1 - قول الأحناف رحمهم الله:
قال صاحب تنوير الأبصار في فقه أبي حنيفة:
عليه ديون ومظالم جهل أربابها وآيس من معرفتهم، فعليه التصدق بقدرها من ماله وإن استغرقت جميع ماله
(1)
.
قال الحصكفي في «الدر المختار» : هذا مذهب أصحابنا - يقصد ما ذكره صاحب «تنوير الأبصار» - لا نعلم بينهم خلافًا
(2)
.
قال ابن عابدين: كأنه والله تعالى أعلم لأنه بمنزلة المال الضائع، والفقراء مصرفه عند جهل أربابه، وبالتوبة يسقط إثم الإقدام على الظلم
(3)
.
2 - قول المالكية رحمهم الله:
قال ابن عبد البر: واختلفوا فيما يفعل بما غُل إذا افترق أهل العسكر ولم يصل إليهم: فقال جماعة من أهل العلم: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، وهذا مذهب الزهري، ومالك، والأوزاعي، والليث، والثوري، وروى ذلك عن عبادة بن الصامت ومعاوية بن أبي سفيان والحسن البصري وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس لأنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يُعرف صاحبه، وذكر بعض الناس عن الشافعي أنه كان لا يرى الصدقة بالمال الذي لا يعرف صاحبه، وقال: كيف يتصدق بمال غيره؟
(1)
، وهذا عندي معناه فيما يمكن وجود صاحبه والوصول إليه أو إلى ورثته
(2)
.
قال القرافي: الأموال المحرمة من الغصوب وغيرها، إذا علمت أربابها رُدت إليهم، وإلا فهي من أموال بيت المال، تُصرف في مصارفها الأولى فالأولى من الأبواب والأشخاص على ما يقتضيه نظر الصارف من الإمام أو نوابه أو من حصل ذلك عنده من المسلمين، فلا تتعين الصدقة، قد يكون الغزو أولى في وقت أو بناء جامع أو قنطرة، فتُحرم الصدقة لتعيين غيرها من المصالح، وإنما يذكر
(1)
هذا النقل الذي نسبه إلى الأئمة منه ما وقفت عليه، ومنه ما لم أقف عليه، ومنه ما صح سنده إلى صاحبه، ومنه ما لم يصح وسيأتي هذا.
(2)
«التمهيد» (2/ 24) مؤسسة قرطبة.
الأصحاب الصدقة في فتاويهم في هذه الأمور؛ لأنها الغالب
(1)
.
هذا وقد جاء عن مالك ما يفيد بجواز الصدقة بالمال الذي لا يُعرف صاحبه، قال ابن رشد: سئل مالك عن الذي يوصى لرجل بدين فَيُطلب فلا يوجد ولا يُعرف، قال: يتصدق به. قال مالك: ويقول: اللهم عن فلان
(2)
.
3 - قول بعض الشافعية رحمهم الله:
قال النووي: قال الغزالي: إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءَة منه - فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتًا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة كالقناطر والرُّبُط والمساجد ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدق به
(3)
.
قال النووي معلقًا على كلام الغزالي: وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه
(4)
.
(1)
«الذخيرة» (6/ 28) دار الغرب الإسلامي.
(2)
«البيان والتحصيل» لابن رشد، هذا والنقل عن مالك لا يختص هنا بالمال المحرم، ولكن أوردته لما فيه من جواز الصدقة بما لا يملك الإنسان عن صاحب المال للتعذر.
(3)
«المجموع» (9/ 330).
(4)
المصدر السابق.
4 - قول الحنابلة رحمهم الله:
قال ابن مفلح: واختار شيخنا فيمن كسب مالًا حرامًا برضا الدافع ثم تاب كثمن خمر ومهر بغيٍّ وحلوان كاهن - أن له ما سلف .... قال أيضًا: لا ينتفع به، ولا يرده لقبضه عوضه، ويتصدق به، كما نص عليه أحمد في حامل الخمر، وقال في مال مكتسب من خمر ونحوهِ: يتصدق به، فإذا تصدق به، فللفقير أكله ولولي الأمر أن يعطيه أعوانه. وقال أيضًا فيمن تاب: إن علم صاحبه دفعه إليه، وإلا صرفه في مصالح المسلمين
(1)
.
قال ابن قدامة المقدسي: فصل: إذا تاب الغالُّ قبل القسمة رد ما أخذه في المقسم بغير خلاف؛ لأنه حقٌّ تعين رده إلى أهله، فإن تاب بعد القسمة فمقتضى المذهب أن يؤدي خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي، وهذا قول الحسن والزهري، ومالك والأوزاعي والثوري والليث
(2)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مسألة: في الأموال التي يجهل مستحقيها مطلقًا أو مبهمًا، فإن هذه عامة النفع؛ لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير، إما لكونها قُبضت ظلمًا كالغصب وأنواعه من الجنايات، والسرقة والغلول، وإما لكونها قُبضت بعقد فاسد من ربا أو ميسر، ولا يعلم عين المستحق لها، وقد
(1)
«الفروع» (11/ 141).
(2)
«المغني» (10/ 524) دار الفكر.
يعلم أن المستحق أحد رجلين، ولا يعلم عينه، كالميراث الذي يعلم أنه لإحدى الزوجين الباقية دون المطلقة، والعين التي يراعيها اثنان فيقر بها ذو اليد لأحدهما:
فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف، إعطاء هذه الأموال لأَوْلى الناس بها، ومذهب الشافعي أنها تحُفظ مطلقًا ولا تُنفق بحال، فيقول فيما جهل مالكه من الغصوب والعوارى والودائع: إنها تحفظ حتى يظهر أصحابها كسائر الأموال الضائعة، ويقول في العين التي عُرفت لأحد الرجلين: يوقف الأمر حتى يصطلحا، ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جُهل مالكه أنه يُصرف عن أصحابه في المصالح: كالصدقة على الفقراء، وفيما استَبهم مالكه القرعة عند أحمد والقسمة عند أبي حنيفة
(1)
.
قال ابن رجب الحنبلي: من تصرفات الغاصب في المال المغصوب: أن يتصدق به عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه، أو إلى ورثته فهذا جائز عند أكثر العلماء منهم: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد
(2)
، وغيرهم.
(1)
«مجموع الفتاوى» (28/ 596).
(2)
نُقل عن أحمد ما يفيد أنه يجوز التصدق بالمال الحرام (قال فوزان تلميذ أحمد: سمعت أحمد يقول:
…
فإن لم يعلم كم الحلال والحرام، يتصدق بقدر ما فيه من الحرام ويأكل الباقي)، انظر:«طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (1/ 194).
تنبيه: ورد في المسألة قول أخر وهو:
أن هذه الأموال تحفظ لأربابها أبدًا حكمها حكم الأموال الضائعة، وقد عزى هذا القول غير واحد من أهل العلم إلى الإمام الشافعي
(1)
، ولم أقف عليه من كلام الشافعي في هذه المسألة التي نحن بصددها تحديدًا.
•
أدلة التصدق بالمال الحرام الذي لا يُعرف له مالك:
استدل أهل العلم لذلك بجملة أدلة منها الضعيف ومنها الصحيح، وإليك بيان بعضها:
1 -
حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ يُوصِي الْحَافِرَ:«أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ» ، فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ، ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ، فَأَكَلُوا، فَنَظَرَ آبَاؤُنَا
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (28/ 596)، و «جامع العلوم والحكم» ) لابن رجب (268)، هذا وقد نُقل عن الفضيل بن عياض قوله: الواجب إتلاف المال المحرم، وعدم جواز التصدق به. وحاول البعض مناقشة هذا القول ولم أقف علي سند عندي صحيح إلى الفضيل رحمه الله بهذا، والفضيل رحمه الله في المسائل العلمية لا يوضع في مواجهة من ذكرنا أقوالهم.
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فَمِهِ، ثُمَّ قَالَ:«أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا» ، فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى الْبَقِيعِ يَشْتَرِي لِي شَاةً، فَلَمْ أَجِدْ فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً، أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِهَا بِثَمَنِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَطْعِمِيهِ الْأُسَارَى»
(1)
.
والشاهد من هذا الخبر قوله صلى الله عليه وسلم «أطعميه الأسارى» .
قال الطيبي: وهم كفار [الأسارى] وذلك أنه لما لم يوجد صاحب الشاة ليستحلوا منه، وكان الطعام في صدد الفساد، ولم يكن بد من إطعام هؤلاء، فأمر بإطعامهم
(2)
.
2 -
عن حوشب بن سيف قال: غزا الناس في زمان معاوية وعليهم عبد الرحمن بن خالد، فغل رجل من المسلمين مئة دينار رومية. فلما
(1)
صحيح: أخرجه أبو داود (3334)، وأحمد (5/ 293)، والدارقطني (5/ 293)، والبيهقي في «الكبرى» (5/ 335)، وفي «دلائل النبوة» (6/ 310) من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار، وأخرجه أحمد (3/ 351)، والحاكم في «مستدركه» (4/ 262) من طريق حماد عن حميد عن أبي المتوكل عن جابر، ولكن رواية جابر من غير ذكر «أطعميه الأسارى» .
(2)
«عون المعبود» (9/ 153).
قفل الجيش قدم الرجل فأتى عبد الرحمن بن خالد فأخبره خبره وسأله أن يقبلها منه فأبى وقال: قد تفرق الجيش فلن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة!! فجعل يستقرئ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون له مثل ذلك، فلما قدم دمشق دخل على معاوية فذكر ذلك له فقال له مثل ذلك، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال: أمطيعي أنت يا عبد الله؟ قال: نعم. قال: فانطلِقْ إلى معاوية فقل له: اقبل مني خمسك، فادفع إليه عشرين دينارًا، وانظر الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم. ففعل الرجل، فقال معاوية: لأن أكون أفتيته بها أحبُّ إليَّ من كل شيء أملكه
(1)
.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (2732)، من طريق عبد الله بن المبارك وابن المنذر في «الأوسط» (6448) من طريق العباس بن محمد القنطري عن مبشر وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (29/ 138)، من طريق أبي إسحاق، جميعهم عن صفوان بن عمر واختلف عليه: فرواه عبد الله في سنن سعيد عنه عن حوشب بن سيف من قوله، ورواه أبو إسحاق والعباس عنه عن حوشب عن عبد الله بن الشاعر، ولعل رواية ابن المبارك أثبت ويكون الخبر من رواية حوشب، قال الإمام أحمد عن حوشب بن سيف: شامي ثقة، ووثقه العجلي، أما عن صفوان بن عمرو فقد وثقه ابن حجر والذهبي، وقال عنه أحمد: ليس به بأس. وأثنى عليه ابن معين خيرًا.
3 -
عَنْ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ:«اشْتَرَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً بِسِتِّ مِئَةٍ أَوْ بِسَبْعِ مِئَةٍ، فَنَشَدَهُ سَنَةً لَا يَجِدُهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهَا إِلَى السُّدَّةِ، فَتَصَدَّقَ بِهَا مِنْ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمَيْنِ عَنْ رَبِّهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا خَيِّرْهُ، فَإِنِ اخْتَارَ الْأَجْرَ، كَانَ الْأَجْرُ لَهُ، وَإِنِ اخْتَارَ مَالَهُ، كَانَ لَهُ مَالُهُ» ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:«هَكَذَا افْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ»
(1)
.
4 -
عن ابن عباس في الغلول يصيبه الرجل، وقد تفرق الجيش قال: يرده إلى مغنم المسلمين
(2)
.
5 -
أيضًا استدلوا بالقياس على اللقطة ومن مات ولا وارث له، كذلك استدلوا بالعمومات الواردة في حرمة إتلاف وإضاعة المال.
(1)
إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (18631)، ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (6449)، عن الثوري وإسرائيل، عن عامر بن شقيق عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عامر بن شقيق قال عنه يحيى بن معين: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وليس من أبي وائل بسبيل.
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2733) من طريق إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عكرمة عن ابن عباس، وعبد الرحمن بن زياد هو الإفريقي ضعيف، كذلك إسماعيل بن عياش متكلم فيه.
قال أبو حامد الغزالي: أما قول القائل: لا نتصدق إلا بالطيب، فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا، ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر
(1)
.
•
هل يجوز التخلص من المال الحرام الذي لا يُعرف صاحبه في بناء المساجد؟
المال المحرم لعينه كالمال المغصوب والمسروق، ولا يدرى من صاحبه وكذلك المال المحرم لكسبه - الذي اكتسبه إنسان بطريق محرم - كبيع الخمر أو التعامل بالربا، أو أجرة الغناء والزنا، ونحو ذلك - فهذا يجوز أن ينفق في مصالح المسلمين، أما المساجد فقد قال بعض أهل العلم بالجواز، وبعضهم مَنَع ذلك، والأَوْلى أن تُصرف في مصالح المسلمين العامة غير المساجد.
قال القرافي: الأموال المحرمة من الغصوب وغيرها، إذا عُلمت أربابها رُدت إليهم، وإلا فهي من أموال بيت المال تُصرف في مصارفها الأَوْلى فالأَوْلى من الأبواب والأشخاص على ما يقتضيه نظر الصارف من الإمام أو نوابه أو مَنْ حصل ذلك عنده من المسلمين، فلا تتعين الصدقة قد يكون الغزو أولى في وقت، أو بناء جامع أو قنطرة، فتحرم الصدقة لتعيين غيرها من المصالح
(2)
.
قال النووي: قال الغزالي: إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه - فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتًا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه يئس من معرفته، فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة، كالقناطر، والرُّبُط والمساجد ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدق به
(1)
.
قال النووي معلقًا على كلام الغزالي: وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه
(2)
(3)
.
هذا والأولى أن يتورع في بناء المساجد عن المال المحرم إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، فقد رُوي أن العرب كانت في جاهليتها تحرص أشد الحرص على أن تبقي الكعبة المشرفة وهي بيت الله الحرام بعيدة عن أي درهم حرام، فلقد ذكر ابن هشام في سيرته أن قريشًا لما أرادوا أن يهدموا الكعبة ويعيدوا بناءها، قام أبو وهب عائذ
(1)
«المجموع» (9/ 330).
(2)
المصدر السابق.
(3)
لم أذكر أقوال القائلين بالمنع إذ لم أجد ذلك مذكورًا صراحة في كتب الفقهاء المتقدمين رحمهم الله، وإنما قال بذلك عدد من المعاصرين فيما وقفت والله أعلم، كذلك الكلام في هذه المسألة بكاملها - أقصد مسألة بناء المساجد بالمال المحرم - قليل في كتب المتقدمين.
بن عمران بن مخزوم خال أبي الرسول صلى الله عليه وسلم فتناول من الكعبة حجرًا فوثب في يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تُدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس. فاتفقوا على ذلك فقصرت بهم النفقة أن يبنوها على قواعد إبراهيم
(1)
.
(1)
«سيرة ابن هشام» (2/ 15) بتصرف، ط دار الجيل، وهذه القصة أخرجها ابن إسحاق في «مغازيه» (2/ 48)، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح أنه حُدث عن عبد الله بن صفوان بن أمية أنه رأى ابنًا لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب، فقال عبد الله بن صفوان: إن جده - يعني أبا وهب - هو الذي أخذ من الكعبة حجرًا
…
وحكى القصة. وهذا السند منقطع كما لا يخفى، فعبد الله بن أبي نجيح لم يسمع من عبد الله بن صفوان، إلا أن هذه القصة يشهد لأصلها ما أخرجه البخاري (1584)، ومسلم (3313) في صحيحيهما من حديث عائشة ـ رضى الله عنهاـ أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدار أمن البيت هو؟ قال:«نعم» قلت - عائشة أم المؤمنين -: فما لهم لم يُدخلوه في البيت؟ قال: «إن قومك قصرت بهم النفقة» .
وقد نقل ابن حجر رحمه الله عن سفيان بن عيينة أنه روى في جامعه عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بني زهرة أدرك ذلك، فسأله عمر عن بناء الكعبة فقال: إن قريشًا تقربت لبناء الكعبة - أي بالنفقة الطيبة - فعجزت فتركوا بعض البيت في الحجر، فقال عمر: صدقت. «الفتح» (4/ 263).
قلت (منصور): وهذا السند الذي نقله الحافظ ابن حجر صحيح.
مَنْ غَصَب عينًا ثم هلكت وأراد أن يتوب ويرد الحق لصاحبه
هذه المسألة يكثر سؤال الناس عنها لانتشارها، فقد يأتي سائل ويقول: كنت أعمل في مصنع عصائر، وكنت آخذ كثيرًا من المعلبات دون إذن صاحب المصنع
(1)
، وقد استُهلكت هذه المعلبات، فماذا أصنع؟
وآخر يقول: أخذت منذ زمن بعيد سيارة ليست لي بحق، وقد استُهلكت وتغير حالها وأنا أريد أن أتوب إلى الله تعالى، فماذا أفعل؟
أسئلة كثيرة على غرار هذه الأسئلة يحتاج الناس إلى الإجابة عليها.
فنقول وبالله التوفيق: الغصب وهو الاستيلاء على مال الآخر بغير حق- حرام بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
(1)
أنواع الغصب كثيرة فيكون الغصب بالاختلاس والسرقة والخيانة والجحد والاقتطاع، فالغصب أخذ المال عدوانًا وقهرًا؛ لذا فإن حد القطع لا يكون في كل حالات الغصب.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»
(1)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ»
(2)
، وغير هذا من الآيات والأحاديث.
أما الإجماع فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على تحريم الغصب
(3)
ولا خلاف بين أهل العلم
(4)
على أن من أخذ شيئًا بغير إذن صاحبه وأراد أن يتوب إلى الله تعالى وعنده هذا الشيء - أن عليه أن يؤديه أولَا إلى صاحبه.
• واستدل العلماء بوجوب رد المغصوب إلى صاحبه بجملة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
1 -
(5)
.
(1)
صحيح: أخرجه الإمام مسلم (3009) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2)
صحيح: متفق عليه أخرجه البخاري (2453)، ومسلم (4222).
(3)
انظر: «المغني» (11/ 1126)، و «الاستذكار» (7/ 148).
(4)
انظر: «بداية المجتهد» (2/ 317)، و «مراتب الإجماع» (59).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (6534).
2 -
وأيضًا استدلوا بحديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا ولا جَادًّا، وَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا صَاحِبِهِ فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ»
(1)
.
3 -
واستدلوا أيضًا بحديث آخر عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ»
(2)
.
أما إن اسْتُهلك المغصوب كأن يكون طعامًا، أو هلك كأن يكون حيوانًا، فالغاصب ضامن له، وعليه أن يرد قيمته أو مثله، على خلاف
(3)
بين أهل العلم كما سيأتي.
(1)
حسن: أخرجه أبو داود في «سننه» (5005)، والترمذي (2160)، والبيهقي (6/ 92)، (6/ 100)، والحاكم في «مستدركه» (3/ 739)، وعبد بن حميد في «منتخبه» (1/ 162)، والبخاري في «الأدب» (241)، وغيرهم من طريق عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده، ورواه الطيالسي في «مسنده» (2/ 636) من طريق عبد الله بن السائب عن جده، بإسقاط أبيه، ولعله وهم، وعبد الله بن السائب وثقه النسائي.
(2)
حسن بشواهده: أخرجه أبو داود (3563)، والترمذي (1266)، وابن ماجه (2400)، وأحمد في «مسنده» (5/ 8، 13)، والبزار (10/ 407)، والنسائي في «الكبرى» (5/ 333)، والبيهقي في «الكبرى» (6/ 90، 95)، والحاكم في «مستدركه» (2/ 55)، وغيرهم من طريق قتادة عن الحسن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويضعف هذا السند لعدم تصريح الحسن البصري بالسماع من سمرة، قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه إلا سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن لمعنى الحديث شواهد كثيرة.
(3)
ليس هناك خلاف بين أهل العلم في أنه يضمن، ولكن الخلاف في هل تجزئ القيمة أم لابد من وجود المثل كما سيتضح.
•
الأدلة على أن صاحب الملك - المغصوب منه - له المثل:
1 -
قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
2 -
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ القَصْعَةَ، فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، وَقَالَ:«كُلُوا» وَحَبَسَ الرَّسُولَ
(1)
وَالقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ القَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ المَكْسُورَةَ
(2)
.
3 -
(3)
، وقد بوب الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله:«باب إذا هدم حائطًا فليبنِ مثله» .
4 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ:«أَعْطُوهُ» ،
(1)
الرسول، أي رسول أم المؤمنين التي أرسلت الطعام.
(2)
أخرجه البخاري (2481).
(3)
أخرجه البخاري (2482).
فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلَّا سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ:«أَعْطُوهُ» ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّه بِكَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»
(1)
.
5 -
ما رُوي عن ابن مسعود وعثمان بن عفان أنهما قضيا على من استهلك فصلانًا بفصلان مثلها
(2)
.
6 -
ما ورد عن شريح في أنه اختصم إليه رجل في قَصَّار
(3)
شق ثوبًا فقال شريح: من شق ثوبًا فهو له. فقال رجل: أو ثمنه. فقال: إنه كان أحب إليه من ثمنه يوم أن اشتراه
(4)
.
بهذه الأدلة قال فريق من أهل العلم بوجوب المثل لا القيمة، إلا أن المسألة لا تخلو من خلاف؛ وذلك لغياب الأدلة الصريحة الأشد التصاقًا بالباب، وإليك بيان اختلاف العلماء:
القول الأول: أن الواجب القيمة في غير المكيل والموزون، فالمكيل والموزون يجب فيهما أن يُرد المثل، وهذا قول الحنفية
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2306).
(2)
استدل بهذا ابن حزم رحمه الله في «المحلى» (8/ 141)، وابن القيم في «إعلام الموقعين» (324) ولم أقف له على سند.
(3)
قصار: صباغ.
(4)
صح عن شريح: أخرجه عبد الرزاق (14953) من طريق معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن شريح.
والمالكية والشافعية والحنابلة، وسيأتي دليلهم.
القول الثاني: أن الواجب المثل في الجميع سواء كان مكيلًا أو غير مكيل، وسواء كان حيوانًا أوغيره، إلا إذا فقد وجود المثل، وهو وجه عند الحنابلة ورجحه ابن حزم وابن تيمية وابن القيم.
•
النقول عن بعض أهل العلم في المسألة:
1 - قول الأحناف رحمهم الله:
قال السرخسي: المغصوب إذا كان من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون فعليه المثل عندنا
…
وإن كان المغصوب من العدديات المتفاوتة كالثياب والدواب فالواجب على الغاصب ضمان القيمة إذا تعذر رد العين عندنا
(1)
.
2 - قول المالكية رحمهم الله:
قال ابن عبد البر: والأعيان التي يحب رد مثلها عند فقدها كل مكيل أو موزونٍ أو معدود من الطعام كله والأدام، وكذلك الذهب والفضة، مضروبًا كان أو مسبوكًا، وكذلك كل مكيل أو موزون من غير الطعام كالنوى والعصفر والحديد والرصاص والقطن وما شاكل ذلك كله، ولا يؤخذ منه في شيء من هذا كله قيمته إلا أن لا يوجد
(1)
«المبسوط» (11/ 95)، وانظر:«الاختيار لتعليل المختار» (3/ 68)، و «البحر الرائق شرح كنز الدقائق» (21/ 60).
مثله، فإن لم يوجد مثله انصرف إلى قيمته يوم غصبه
…
وأما العروض كلها سوى ما تقدم وصفه، فعلى مغتصب شيء منها إن أفسده إفسادًا يسيرًا رُد ما نقصه الإفساد، وإن أفسده إفسادًا يُذهب جل منافعه أو جماله أو استهلاكه بأسره فهو ضامن لقيمته كاملة يوم اغتصبه
(1)
.
3 - قول الشافعية رحمهم الله:
قال الماوردي: وأما الحال الثانية: وهو أن يكون المغصوب تالفًا فهو مضمون عليه، سواء تلف لفعله، أو غير فعله، إذا كان لقوله:«يكون على اليد ما أخذت حتى تؤدى»
(2)
، ثم هو على ضربين:
أحدهما: أن يكون له مثل المغصوب، كالذي تتساوى أجزاؤه من الحبوب، والأدهان والدراهم والدنانير، فعليه رد مثله جنسًا ونوعًا وصفةً وقدرًا؛ لأن مثل الشيء أخص به بدلًا من القيمة؛ لأنه مثل في الشرع واللغة، والقيمة مثل في الشرع دون اللغة، فإن طلب أحدهم القيمة لم يُجب إليها، سواء كان طالبها الغاصب أو المغصوب منه؛ لأنها غير المستحق، فأما أن تراضيا بالقيمة مع القدرة على المثل ففي جوازه وجهان بناءً على اختلاف الوجهين في جواز أخذ أرش العيب مع القدرة على رد المعيب.
(1)
«الكافي في فقه أهل المدينة» (2/ 480)، وانظر:«المدونة الكبرى» (4/ 178)، «جامع الأمهات» لابن الحاجب (287).
(2)
سبق تخريجه والحكم عليه ص (213).
والضرب الثاني: أن لا يكون له مثل، كالذي تختلف أجزاؤه من الثياب، والعبيد، فعليه قيمته في أكثر أحواله قيمةً من وقت الغصب إلى وقت التلف، وبه قال جمهور الفقهاء
(1)
.
4 - قول الحنابلة رحمهم الله:
قال ابن قدامة: لما تَعَّذر ردُّ العين وجب رد ما يقوم مقامها في المالية، ثم يُنظر فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب والأدهان وجب مثله؛ لأن المثل أقرب إليه من القيمة وهو مماثل له من طريق الصورة والمشاهدة والمعنى، والقيمة مماثلة من طريق الظن والاجتهاد، فكان ما طريقه المشاهدة مقدمًا، كما يقدم النص على القياس لكون النص طريقه الإدراك بالسماع والقياس طريقه الظن والاجتهاد، وإن كان غير متقارب الصفات وهو ماعدا المكيل والموزون وجبت قيمته في قول الجماعة، وحُكي عن العنبري: يجب في كل شيء مثله
(2)
.
(1)
«الحاوي الكبير» (7/ 319)، وانظر:«الوسيط» لأبي حامد (3/ 395)، و «أسنى المطالب في شرح روض الطالب» للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 345).
(2)
«المغني» لابن قدامة (5/ 374)، وانظر:«الإنصاف» (6/ 128)، و «المبدع» لابن مفلح (5/ 16).
من هذا الذي يتقدم يتضح أن ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أن ما له مثل (المكيل والموزون) وجب أن يُرد مثله وأنه لا يُنتقل إلى القيمة إلا إذا تعذر وجود المثل.
هذا وقد استدل العلماء على جواز القيمة فيما لا تتماثل أجزاؤه بحديث ابن عمر قال: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ، أَوْ شِرْكًا، أَوْ قَالَ: نَصِيبًا، وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ العَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»
(1)
، وجه الدلالة من هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أن يُقَوم النصف أو النصيب الذي له.
وقد تعقب أصحاب القول الثاني هذا الاستدلال بأنه في غير محله، وسيأتي الكلام هنالك (في كلام ابن حزم رحمه الله.
القول الثاني: يجب المثل في الجميع، سواء كان مكيلًا أو غير مكيل، موزونًا أو غير موزون، حيوانًا أو جمادًا، إن أمكن، وهذا القول هو وجه في مذهب الإمام أحمد، قال به العنبري ورجحه ابن تيمية وابن القيم، وقال به ابن حزم رحمهم الله.
قال ابن قدامة: وحُكي عن العنبري: يجب في كل شيء مثله
(2)
.
قال ابن حزم: وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه - يقصد أن
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2491).
(2)
«المغني» (5/ 374).
المثل في كل شيء - وما نعلم لمن قضى بالقيمة حجة أصلًا، إلا أن بعضهم أتى بطامة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى على من أعتق شريكًا له في عبد بأن يُقوم عليه باقيه لشريكه، قالوا: فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من استهلك حصة غيره من العبد بالقيمة.
قال: وهذا من عجائبهم فإنهم أفحشوا الخطأ في هذا الاحتجاج من وجهين:
أحدهما: احتجاجهم به فيمن استهلك، والمعتق نصيبه من عبد بينه وبين آخر لم يستهلك شيئًا، ولا غصب شيئًا ولا تعدى أصلًا، بل أعتق حصته التي أباح الله تعالى له عتقها، وإنما هو حكم من الله تعالى أنفذه لا لتعدٍ من المعتق أصلًا.
والثاني: عجيب تناقضهم لأنه يلزمهم إن كان المعتق المذكور مستهلكًا حصة شريكه ولذلك يضمن القيمة بأن يوجبوا ذلك عليه، معسرًا كان أو موسرًا كما يفعلون في كل مستهلك وهم لا يفعلون هذا
(1)
.
قال ابن تيمية: ويضمن المغصوب بمثله مكيلًا أو موزونًا أو غيرهما حيث أمكن وإلا فالقيمة
(2)
.
(1)
«المحلى» (8/ 141).
(2)
«الفتاوى الكبرى» (5/ 420)، وانظر:«الاختيارات الفقهية» (501).
قال ابن القيم: واختلفوا في الجدار يهدم هل يضمن بقيمته أو يعاد مثله؟ على قولين وهما للشافعي، والصحيح ما دلت عليه النصوص وهو مقتضى القياس الصحيح، وما عداه فمناقض للنص والقياس؛ لأن الجميع يضمن بالمثل تقريبًا، وقد نص الله سبحانه وتعالى على ضمان الصيد بمثله
(1)
من النَّعَم، ومعلوم أن المماثلة بين بعير وبعير أعظم من المماثلة بين النعامة والبعير، وبين شاة وشاة أعظم منها بين طير وشاه
(2)
، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم بدل البعير الذي أقرضه مثله دون قيمته
(3)
، وَرَدّ عوض القصعة التي كسرتها بعض أزواجه قصعتها نظيرها
(4)
، وقال:«إناء بإناء وطعام بطعام»
(5)
، فسَوَّى بينهما في الضمان.
(1)
(2)
لأن المماثلة تكون بين الصيد وبين ما يماثله بين النعم التي تصلح أن تكون أضحية، فكانوا يحكمون في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحشي ببقرة، وفي الظبي شاة، فهنا يقول ابن القيم: المماثلة بين بعير وبعير أعظم من المماثلة بين نعامة وبعير أي من باب أَوْلى والله أعلم.
(3)
صحيح: وتقدم ذكره مع العزو.
(4)
صحيح: وتقدم ذكره مع العزو.
(5)
هذه الجملة زيادة في حديث أنس عند الترمذي (1410).
وهذا عين العدل ومحض القياس، وتأويل القرآن، وقد نص الإمام أحمد على هذا في مسائل إسحاق بن منصور، قال إسحاق: قلت لأحمد: قال سفيان: من كسر شيئًا صحيحًا فقيمته صحيحًا، فقال أحمد: إن كان يوجد مثله فمثله، وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته
(1)
، ونص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: سألت أحمد عن الرجل يكسر قصعة الرجل أو عصاه أو يشق ثوبًا لرجل، قال: عليه المثل في العصا والقصعة والثوب: فقلت: أرأيت إن كان الشق قليلًا؟ فقال: صاحب الثوب مخير في ذلك قليلًا كان أو كثيرًا. وقال في رواية إسحاق بن منصور من كسر شيئًا صحيحًا فإن كان يوجد مثله فمثله، وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته، فإذا كسر الذهب فإنه يصلحه إن كان خلخالًا، وإن كان دينارًا أعطى دينارًا آخر مكانه: قال إسحاق كما قال
(2)
، وقال في رواية موسى بن سعيد: وعليه المثل في العصا والقصعة إذا كسر وفي الثوب، ولا أقول في العبد والبهائم والحيوان
(3)
.
(1)
انظر: «مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه» لإسحاق بن منصور (2092).
(2)
«مسائل الإمام أحمد» رواية إسحاق بن منصور (2093).
(3)
«إعلام الموقعين» (1/ 326) وكلامه في هذه المسألة أكثر مما نقلت، فليرجع إليه من شاء.
الحاصل في المسألة:
من غصب شيئًا وهلك عنده وأراد التوبة وأن يرد الحق إلى أهله، فعليه أن يرد مثل الشيء الذي هلك إن كان مثليًّا، فإن لم يستطع الإتيان بمثله رد قيمته.
أما الخلاف الذي حدث بين أهل العلم: فهو خلاف حاصل عن تصور كل فريق منهم لما يصلح أن يكون مثليًّا وما لا يصلح، والمثلي هو الذي تتماثل أفراده، فجمهور العلماء على أن المثلي لا يكون إلا في الكيل أو الموزون، وزاد المالكية المعدود الذي لا تختلف أفراده، بينما يرى غيرهم من أهل العلم أن المثلية تصلح في كل شيء.
وعلى هذا كان هذا الخلاف اليسير، فالجمهور لا يرون أن الحيوان مثلي، فقالوا: تجب فيه القيمة، وغيرهم يرون أنه مثلي ولكل وجهته، ثم إنهم جميعهم متفقون على أنه إذا تعذر وجود المثل كانت القيمة، فالكلام إذًا في هذا الأمر يُرجع إليه عند التنازع، بحيث لو اختلفا، هذا يقول بالقيمة وهذا يقول لا بالمثل، فهنا يحكم الحاكم إن كان المثل متوفرًا، فهو من حق المغصوب منه، وإن لم يكن متوفرًا يحكم بالقيمة.
والسؤال الآن: إن تعذر المثل ولجأنا إلى القيمة، فعلى أي وقت تحُسب؟ هل تحُسب قيمة الشيء وقت أن غصبت أو وقت القضاء؟ هذا ما يأتي في المبحث القادم، إن شاء الله تعالى.
رجل اغتصب متاعًا فهلك عنده
وليس له مثل فهل يُحسب قيمته يوم أن اغتصبه
أو يوم قضائه، أو ماذا؟
أقول وبالله التوفيق: هذه المسألة ليس فيها دليل بخصوصها لا في الكتاب الحميد ولا في السنة النبوية؛ ولأجل ذلك نشأ الخلاف بين أهل العلم في الجواب عليها، فمن قائل بأن على الغاصب قيمة المتاع يوم أن غصبه. ومن قائل بأن عليه قيمته يوم قضائه، وثَم أقوال أخرى وإليك التفصيل:
•
أقوال العلماء في المسألة:
القول الأول: على الغاصب قيمته يوم غصبه، وهذا قول أبي يوسف من الحنفية وقول المالكية.
القول الثاني: على الغاصب قيمته يوم أن هلك عنده، وهذا قول الحنابلة
(1)
.
(1)
كذلك أيضًا هو قول الحنابلة إذا كان المتاع الهالك مثليًّا، فيقولون عليه قيمته يوم الإتيان بمثله.
القول الثالث: على الغاصب دفع أقصى قيمة وصل إليها من يوم أن غصبه إلى يوم أن هلك عنده أو تعذر الإتيان بمثله إن كان مثليًّا، وهذا قول الشافعية.
القول الرابع: التفصيل بين إن كان هذا المتاع مثليًّا
(1)
أو لا: فإن لم يكن مثليًّا فيجب على الغاصب دفع قيمته يوم غصبه، وإن كان مثليًّا وجب عليه دفع قيمته يوم انقطاعه - أي: يوم انقطاع تداوله-، وهو قول محمد بن الحسن ووجه عند الحنابلة، بينما ذهب أبو حنيفة في المثلي إلى أنه يجب عليه قيمته يوم قضائه.
هذا الذي ذكرت إجمالٌ، وإليك النقل عن أهل العلم.
•
قول الحنفية رحمهم الله:
قال الموصلي الحنفي:
وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَفَاوِتِ وَالْمَزْرُوعِ (فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ)؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ وَإِيصَالًا لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَسَوَاءٌ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ بِالْغَصْبِ صَارَ مُتَعَدِّيًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَقَدِ امْتَنَعَ فَيَجِبُ الضَّمَانُ، وَتَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ، وَبِهِ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ. (وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ النُّقْصَانَ) اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ.
(1)
يقصد بالمثلي الكيل والموزون.
(و) أَمَّا الْمِثْلِيُّ (إِذَا انْقَطَعَ تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَوْمَ الْغَصْبِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَوْمَ الِانْقِطَاعِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ فَيُعْتَبَرُ يَوْمَئَذٍ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْتَحَقَ بِذَوَاتِ الْقِيَمِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ؛ إِذْ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِانْتِقَالَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا بِالِانْقِطَاعِ
(1)
.
•
قول المالكية رحمهم الله:
قال مالك: من اغتصب حيوانًا فإنما عليه قيمته يوم اغتصبه. فلست التفت إلى نقصان قيمة الحيوان أو زيادته بعد ذلك
(2)
.
قال الدسوقي:
وَغَيْرُ الْمِثْلِيِّ إذَا تَغَيَّرَ عِنْدَ الْغَاصِبِ لَا يَأْخُذُهُ رَبُّهُ، فَاللَّازِمُ لِلْغَاصِبِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ، وَإِنَّمَا لَزِمَتِ الْقِيمَةُ فِي الْغَزْلِ وَالْحُلِيِّ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا لَكِنَّهُ دَخَلَتْهُ صَنْعَةٌ، وَالْمِثْلِيُّ إذَا دَخَلَتْهُ صَنْعَةٌ
(1)
«الاختيار لتعليل المختار» (3/ 68)، وانظر:«البحر الرائق شرح كنز الدقائق» لابن نجيم (21/ 60)، و «المبسوط» (1/ 95).
(2)
«المدونة» (4/ 178) وهذا على مذهبه رحمه الله بأن الربح ونماء المال يكون للغاصب لا لرأس المال، على ما فصلناه في هذه المسألة بعينها، فانظرها غير مأمور.
لَزِمَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ (قَوْلُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ) أَيْ لَا يَوْمَ تَغَيُّرِهِ
(1)
.
•
قول الشافعية رحمهم الله:
قال الماوردي:
والضرب الثاني: أن لا يكون له مثل، كالذي تختلف أجزاؤه من الثياب والعبيد، فعليه قيمته في أكثر أحواله قيمة، من وقت الغصب إلى وقت التلف، وبه قال جمهور الفقهاء
(2)
.
قال النووي:
وفي القيمة المعتبرة أحد عشر وجهًا، أصحها يجب أقصى القيم من يوم الغصب إلى الإعواز
(3)
.
• قول الحنابلة رحمهم الله:
قال البهوتي:
ويضمن غير المثلي إذا تلف أو أتلف بقيمته يوم تلفه
(4)
.
(1)
«حاشية الدسوقي» (14/ 416)، وانظر:«الكافي في فقه أهل المدينة» (2/ 480).
(2)
«الحاوي الكبير» (7/ 319).
(3)
«روضة الطالبين» (5/ 20)، والأحد عشر وجهًا التي أشار إليها منها ستة أوجه لا تخالف أنه يأخذ أقصى القيمة والاختلاف فيها هل من يوم الغصب إلى يوم الإعواز أم إلى يوم التلف أم إلى يوم القضاء أم إلى يوم المطالبة أم إلى يوم تغريم القيمة؟ وهكذا.
(4)
«الروض المربع» (277).
قال المرداوي:
فإن اتصل بأن غصب ما قيمته مئة فارتفع السعر إلى مائتين وتلفت العين، ضمن المائتين وجهًا واحدًا إذ الضمان معتبر بيوم التلف
(1)
.
قال ابن مفلح:
وإن تلف المغصوب ضمنه بمثله إن كان مكيالًا أو موزونًا، وإن أعوز المثل فعليه قيمة مثله يوم إعواز، وقال القاضي: يضمنه بقيمته يوم القبض. وعنه: تلزمه قيمتة يوم تلفه، وإن لم يكن مثليًّا ضمنه بقيمته يوم تلفه في بلده من نقده
(2)
.
• الراجح في المسألة:
ما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله أن على الغاصب أن يرد إلى المغصوب منه قيمة هذا الشيء في أكثر أحواله قيمة من وقت الغصب إلى وقت أن تلف عنده، وذلك لأنه فوَّت على صاحبه الانتفاع به يوم أن كان في أعلى قيمة وصل إليها، والله المستعان.
(1)
«الإنصاف» (5/ 115).
(2)
«المبدع» (5/ 16).
من ورث مالًا حرامًا
هذه المسألة يكثر السؤال عنها، فيأتي سائل ويقول: إن لي تركة ورثتها عن أبي وكان أبي يقترض ويُقرض بالربا، فماذا أفعل؟
وآخر يقول: ورثت أموالًا عن أخى وليس له وارث غيري، وكان يتاجر في المسكرات، فهل هذا المال لي حرام أم حلال؟
وآخر يقول: كان والدي يأخذ الرشوة، وورثت ماله فهل هو حرام أم حلال؟
أسئلة كثيرة تأتي، تتعلق بهذا الباب، وكما هو معلوم فإن عمومات شريعتنا تأمرنا بتحري الطيب من المال والطعام؛ لذا نقول وبالله التوفيق، لهذه المسألة ثلاثة اتجاهات:
الأول: ورث مالًا حرامًا؛ وهو يعرف مالكه الحقيقي، كأن يكون مسروقًا أو مغتصبًا.
الثاني: ورث مالًا يعلم أنه كله حرام، ولكن لا يعرف صاحبه الحقيقي.
الثالث: ورث مالًا حلالًا اختلط بالحرام.
أما الاتجاه الأول: - وهو من ورث مالًا حرامًا وهو يعلم مالكه الحقيقي- فهذا يجب عليه أن يرد المال إلى صاحبه إن كان حيًّا، أو لورثته إن كان ميتًا، ولا نزاع في ذلك بين أهل العلم، وسيأتي بيان ذلك.
أما الاتجاه الثاني: - من ورث مالًا كله حرام وهو يعلم عين حرمته كأن يكون من ظلم أو سرقة أو ربا، ولا يعرف مالكه- فهذا يجب عليه أن يتخلص منه وأن يتنزه عنه، على الراجح من قول أهل العلم، ففي المسألة قولان:
القول الأول: - وهو المعتمد عند الحنفية، وقول عند المالكية، وقول الشافعية والحنابلة- يجب عليه أن يتخلص منه ويتخلى عنه فهو لا يحل له.
القول الثاني: - وهو رواية عند الأحناف وقول سحنون من المالكية- يحل له طالما أنه لا يعرف مالكه.
•
أقوال أهل العلم:
1 - مذهب الحنفية:
قال ابن عابدين: كذا لا يحل إذا علم عين الغصب مثلًا، وإن لم يعلم مالكه، لما في البزازية، أخذ مورثه رشوة، أو ظلمًا، إن علم ذلك بعينه لا يحل له أخذه، وإلا فله أخذه حكمًا، أما في الديانة، فيتصدق به بنية إرضاء الخصماء
(1)
.
(1)
«حاشية ابن عابدين» (5/ 99).
قال أيضًا: الحاصل إنْ عَلِم أرباب الأموال وجب رده عليهم، وإلا فإنْ عَلِم عين الحرام، لا يحل له، ويتصدق به بنية صاحبه
(1)
.
ومما يجدر التنبيه عليه أن ثَم رواية وردت عن الحنفية أن من مات وكسبه حرام، فالميراث حلال، وهذه الرواية نقلها ابن عابدين عن الحصكفي صاحب «الدر المختار» عن المجتبى، ثم ذكر ابن عابدين أن الحصكفي رمز عليها، وقال: لا نأخذ بهذه الرواية، وهو حرام مطلقًا على الورثة فتنبه، ثم قال ابن عابدين: ومفاده الحرمة وإن لم يعلم أربابه، وينبغي تقييده بما إذا كان عين الحرمة»
(2)
.
2 - مذهب المالكية:
قال القرافي: هل يسوغ للوارث - أي من ورث مالًا حرامًا - الوراثة أو لا؟ على قولين: يسوغ بالموارثة لا بالهبة، قاله سحنون. والثاني: لا يسوغ بالميراث كما لا يسوغ بالهبة، ويلزم الوارث التخلي عن هذا المال والصدقة به، كما كان يلزم الموروث
(3)
.
3 - مذهب الشافعية:
قال النووي: من ورث مالًا ولم يعلم من أين كسبه مورثه أمن
(1)
المصدر السابق.
(2)
المصدر السابق.
(3)
«الذخيرة» (3/ 318).
حلال أم من حرام ولم تكن علامة، فهو حلال بإجماع العلماء، فإن علم أن فيه حرامًا وشَكَّ في قدره، أخرج قدر الحرام بالاجتهاد
(1)
.
قال الغزالي: وإن علم أن بعض ماله - أي مورثه - كان من الظلم فيلزمه إخراج ذلك القدر بالاجتهاد
(2)
.
4 - مذهب الحنابلة:
قال المرداوي: نقل الأثرم وغير واحد عن الإمام أحمد فيمن ورث مالًا فيه حرام إن عُرف شيء بعينه رده، وإن كان الغالب على ماله الفساد تنزه عنه أو نحو هذا، ونقل حرب في الرجل يخلف مالًا إن كان غالبه نهبًا أو ربًا، ينبغي لوارثه أن يتنزه عنه، إلا أن يكون يسيرًا لا يُعرف
(3)
.
أما الاتجاه الثالث: -إذا اختلط الحرام بالحلال ولم يعرف قدر الحرام، ولا لمن هو- فعليه أن يجتهد، ويُخرج قدرًا منه على ما يغلب في ظنه.
وهذه المسألة تابعة للتي قبلها، فالذين قالوا بأنه يسوغ له أن يأخذ مال مورثه الحرام - وهو القول المرجوح - على قاعدتهم سيكون هنا
(1)
«المجموع» (9/ 352).
(2)
«إحياء علوم الدين» (2/ 130) دار المعرفة.
(3)
«الإنصاف» (8/ 239)، وذكر ابن مفلح مثل هذا النقل في «الآداب الشرعية» (2/ 49).
أيضًا القول بالجواز، أما جمهور أهل العلم فعلى القول بأنه يجب التخلص من القدر الحرام على قدر الاستطاعة.
قال الغزالي: .... وإنْ عَلِم أن فيه حرامًا وشَكَّ في قدره، أخرج مقدار الحرام بالتحري، فإن لم يعلم ذلك ولكن علم أن مورثه كان يتولى أعمالًا للسلاطين، واحتمل أنه لم يكن أخذ في عمله شيئًا أو كان قد أخذ ولم يبق في يده منه شيء لطول المدة، فهذه شبهة يحسن التورع عنها ولا يجب
(1)
.
قال النووي: فإن علم أن فيه حرامًا وشَكَّ في قدره، أخرج قدر الحرام بالاجتهاد
(2)
.
قال أبو محمد فوزان تلميذ أحمد: سمعت أحمد يقول: ..... فإن لم يعلم كم الحلال والحرام، يتصدق بقدر ما فيه من الحرام ويأكل الباقي
(3)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد سُئل: عن رجل مرابٍ خلف مالًا وولدًا وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالًا للولد بالميراث أو لا؟ -:
(1)
«إحياء علوم الدين» (2/ 130) دار المعرفة.
(2)
«المجموع» (9/ 352).
(3)
«طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (1/ 194).
أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به، والباقي لا يحرم عليه، لكن القدر المشتبه يستحب له تركه، إذ لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال، وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء
(1)
، جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما، جعل ذلك نصفين
(2)
.
(1)
يقصد رحمه الله الفقهاء المعتبرين الأعلام لا الذين ينتسبون إلى الفقه، والفقه منهم براء من الذين لا يبالون بنص ولا إجماع.
(2)
«مجموع الفتاوى» (29/ 307).
لمن يكون الربح الناشئ عن استثمار المال الحرام؟
صورة هذه المسألة: أن يغتصب إنسان مالًا حرامًا سواء كان هذا المال أرضًا أم حيوانًا أم نقدًا كالذهب والفضة أم عملة، ثم يتاجر بهذا المال المغتصب ويربح فيه، ثم يتوب ويريد أن يرد الحق إلى أصحابه، فهل يتخلص من المال الذي كان قد اغتصبه فقط ويرده، أم يرد المال بكل ما نتج عنه من ربح؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على خمسة أقوال:
القول الأول: يتصدق بالربح، وعلى هذا فالربح ليس للغاصب ولا المغصوب منه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وقول عند الحنابلة غير معتمد، وعللوا ذلك بأن هذا الربح خبيث حصل بسبب خبيث.
القول الثاني: الربح للغاصب؛ لأن الربح يتبع الجهد المبذول، ولأن الغاصب ضامن للتلف، قال بهذا أبو يوسف ومالك والليث والشافعي في الجديد.
القول الثالث: الربح يتبع رأس المال؛ لأنه سبب نمائه، قال بهذا الشافعي في القديم والحنابلة ورُوي عن الحنفية.
القول الرابع: التفصيل، وهذا القول يتفرع عنه قولان: وكلاهما لبعض المالكية:
1 -
التفصيل بين المعسر والموسر، وهذا قول ابن حبيب وسحنون.
2 -
التفصيل بين ما إذا كان صاحب المال سيتاجر به وعطله الغاصب عن التجارة أو لا. وهذا قول سحنون.
القول الخامس: أن الغاصب يقتسم الربح مع صاحب المال وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وهو منسوب إلى رواية عن الإمام أحمد.
هذا الذي ذكرتُ إجمالٌ وإليك التفصيل إن شاء الله تعالى:
•
القول الأول (يتصدق بالربح):
دليله: عن عبد الواحد بن زياد قال: قلت لأبي حنيفة: من أين أخذت؟ هذا الرجل يعمل في مال أخيه بغير إذنه إنه يتصدق به؟ قال: أخذته من حديث عاصم بن كليب
(1)
.
(1)
أخرجه الدارقطني (4766)(5/ 516) قال: حدثنا علي بن محمد بن عبيد، حدثنا ابن أبي خيثمة، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد
…
به. وهذا إسناد صحيح، ابن أبي خيثمة هو أبو بكر بن أبي خيثمة، قال عنه الخطيب: كان ثقةً عالمًا متقنًا، وقال عنه الدارقطني: ثقة مأمون.
قلت: وحديث عاصم بن كليب هذا نصه: عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ يُوصِي الْحَافِرَ:«أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ» ، فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ، ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ، فَأَكَلُوا، فَنَظَرَ آبَاؤُنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فَمِهِ، ثُمَّ قَالَ:«أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا» ، فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى الْبَقِيعِ يَشْتَرِي لِي شَاةً، فَلَمْ أَجِدْ فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً، أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِهَا بِثَمَنِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَطْعِمِيهِ الْأُسَارَى»
(1)
.
قلت: هذا الخبر غير صريح الدلالة، فمدلوله يختلف عن المسألة التي نناقشها
(2)
.
(1)
صحيح: وقد قمت بتخريجه وتحقيقه عند مسألة كيف يتخلص من المال الحرام؟
(2)
قال الشوكاني: ولكن لا يخفاك أن هذا الحديث ليس هو كالغصب في كل وجه فإن هذه المرأة لا تقصد الاستيلاء على مال الغير عدوا بل وقع في ظنها أن إذن امرأة الرجل كإذنه، ولما كان إذن المالك أمرًا لابد منه صرفها صلى الله عليه وسلم في مصرفها. انظر:«السيل الجرار» (660).
بعض النقول عن المذهب الحنفي:
قال المرغيناني: ومن غصب ألفًا اشترى بها جارية فباعها بألفين ثم اشترى بالألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف درهم، فإنه يتصدق بجميع الربح وهذا عندهما وأصله أن الغاصب أو المودع إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة وربح، لا يطيب له الربح عندهما خلافًا لأبي يوسف
(1)
.
قال السرخسي: ولو أن أرضًا غصبها رجل فزرعها فالزرع له ويتصدق بالفضل على ما أنفق فيها في قول أبي حنيفة تعالى، ولا يتصرف في قول أبي يوسف بشيء
(2)
.
قال الكاساني: (وأمَّا) التصدق بالغَلَّة - يقصد: غلة المغصوب) وهي الأجرة عندهما فلأنها خبيثة لحصولها بسبب خبيث، فكان سبيلها التصدق، ولأبي يوسف أنه عليه الصلاة والسلام نهي عن ربح ما لم يضمن، وهذا ربح مضمون، والجواب أن التحريم لعدم الضمان يدل على التحريم لعدم الملك من طريق الَأْولى؛ لأن الملك فوق الضمان
(3)
.
(1)
«الهداية شرح البداية» (4/ 14).
(2)
«المبسوط» (3/ 88).
(3)
«بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» (15/ 492).
نقلٌ عن رواية في المذهب الحنبلي:
قال المرداوي: وعنه يتصدق
(1)
.
قلت: وهذه الرواية غير معتمدة في المذهب على ما يأتي تفصيله.
قال ابن قدامة: قال الشريف: وعن أحمد أنه يتصدق به
(2)
.
•
القول الثاني (الربح من حق الغاصب):
دليله: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ غُلَامًا فَأَقَامَ عِنْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَخَاصَمَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِ اسْتَغَلَّ غُلَامِي!! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»
(3)
.
(1)
«الإنصاف» (6/ 154).
(2)
«المغني» (11/ 89).
(3)
ضعيف: أخرجه أبو داود (3510) من طريق مسلم بن خالد الزنجي قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأتبع أبو داود هذا الخبر بقوله:«هذا إسناد ليس بذاك» . قلت: لعل ذلك لأن الإمام أبا داود يضعف مسلم بن خالد الزنجي لكثرة غلطه، هذا وأصل الحديث «الخراج بالضمان» رُوي عن هشام من غير طريق مسلم فقد رُوي عن عمر بن علي المقدمي عن هشام، كما عند الترمذي (1286)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (5/ 322)، وروي أيضًا عن عروة من غير طريق هشام فقد رُوي من طريق مخلد بن خفاف عن عروة عن عائشة، كما عند أبي داود (3510)، والترمذي (1285)، وقال عنه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي هذا الحديث من غير هذا الوجه والعمل على هذا عند أهل العلم، والنسائي (4490)، وابن ماجه (2242)، وأحمد بن حنبل في «مسنده» (6/ 49، 237)، وابن حبان في «صحيحه» (4928)، والطيالسي في «مسنده» (1568)، والنسائي في «الكبرى» (6037)، وأبو يعلى في «مسنده» (4537، 4575)، والبيهقي في «الكبرى» (5/ 321)، والحاكم في «مستدركه» (2/ 18)، هذا وقد رُوي هذا الخبر من طريق جرير، كما في مستخرج أبي عوانة، قال: حدثنا أبو داود السجزي، قال: سمعت قتيبة، قال هو في كتابي بخطي عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة (4458)، قال الترمذي:(1286) وحديث جرير يقال تدليس دلس فيه جرير لم يسمعه عن هشام، وعلى هذا يكون الحديث مرويًا عن عروة عن اثنين: هشام، ومخلد بن خفاف، ومخلد بن خفاف لم يرو غير هذا الحديث، ولم يرو عنه غير ابن أبي ذئب ولم يوثقه معتبر.
وهشام روى عنه ثلاثة: مسلم «صدوق له أوهام وأغاليط» ، وعمر، وجرير، أما عُمر بن علي فهو شديد التدليس وأما جرير فقد قال الترمذي بأنه دلس فيه قال الترمذي: سألت محمدًا عن حديث ابن أبي ذئب عن محمد بن خُفاف، عن عروة عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان. فقال مخلد بن خُفاف لا أعلم له غير هذا الحديث، وهذا حديث منكر. قال: فقلت له: فحديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؟ فقال: إنما رواه مسلم بن خالد الزنجي ومسلم ذاهب الحديث. فقلت له: قد رواه عمر بن علي عن هشام بن عروة. فلم يعرفه من حديث عمر بن علي، قال: قلت له: ترى أن عمر بن علي دلس فيه؟ فقال محمد: لا أعرف أن عمر بن علي يدلس. قلت له: رواه جرير عن هشام بن عروة. فقال: قال محمد بن حميد: إن جريرًا روى هذا في المناظرة ولا يدرون له فيه سماعًا، وضَعَّف محمد حديث هشام بن عروة في هذا الباب، (انظر:«علل الترمذي الكبير» ، ترتيب القاضي (191). هذا وقد ضعفه أيضًا البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 243).
وبالنظر إلى كتب الرجال نجد أن أهل العلم استنكروا هذا الخبر على رواتة، انظر:«الكامل في الضعفاء» (6/ 191)، (8/ 192، 8/ 197).
ودلالة هذا الحديث عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقضِي لصاحب العبد بمقابل لاستنفاع الآخر به؛ لأن الآخر كان سيضمنه إن مات عنده أو حصل له عيب، وعلى هذا قاسوا فقالوا: إن الغاصب ضامن لهذا المال عند تلفه، فطالما أنه يضمنه إذًا فالربح يكون من حقه.
•
بعض النقول عن أصحاب القول الثاني:
1 - المالكية:
قال القرافي: إذا قلنا يرد الغلة إذا غصب دراهم أو دنانير فربح فيها، فثلاثة أقوال:
قال مالك وابن القاسم: لا شيء لك إلا رأس المال لتقَرُّر الضمان عليه بالتصرف، استنفقها أو اتجر فيها، وعن ابن حبيب: إن اتجر فيها موسرًا فله الربح لقبول ذمته للضمان أو معسرًا فلك لعدم قبولها في الولي يتجر في مال يتيمه، وعن سحنون: لك ما كنت تتجر
فيها، أي لو كانت في يديك
(1)
.
قال الخرشي: اعلم أن اللخمي حكى فيمن غصب دراهم أو دنانير هل يغرم ما يربح منها أو ما كان يربح فيها صاحبها؟ ثلاثة أقوال:
فقيل: لا شيء للمغصوب منه إلا رأس ماله، استنقصها الغاصب أو اتجر فيها فربح، وهو قول مالك وابن القاسم، وقيل: إن اتجر فيها وهو موسر كان الربح له، وإن كان معسرًا فالربح لصاحبها وهو قول مسلمة وابن حبيب
…
ثم قال: والراجح أن الربح للغاصب مطلقًا كما أفاده بعض الشيوخ، خصوصًا وقد علمت أنه كلام مالك والقاسم، وحكى الاتفاق عليه ابن رشد
(2)
.
2 - الشافعية:
قال الشيرازي: فصلٌ: وإن غصب دراهم فاشترى سلعة في الذمة، ونقد الدراهم في ثمنها وربح، ففي الربح قولان: قال في القديم هو للمغصوب منه؛ لأنه نماء ملكه فصار كالثمرة والولد، فعلى هذا يضمنه الغاصب إذا تلف في يده كالثمرة والولد. وقال في الجديد: هو للغاصب؛ لأنه بدل ماله فكان له
(3)
.
(1)
«الذخيرة» (6/ 317).
(2)
«شرح مختصر خليل» (18/ 446).
(3)
«المجموع» (14/ 248)، هذا وأنبه على أن الماوردي في «الحاوي الكبير» نقل عن الشافعي خطأ فجعل قوله القديم بدلًا من الجديد والجديد بدلًا من القديم، كذلك نقل عن مالك وأبي حنيفة خطأ، أقول ذلك بعد تتبع الكتب المعتمدة وتتبع أقوال أهل العلم فيها.
قال الشربيني: إذا اتجر الغاصب في المال المغصوب فقولان: الجديد أنه إن باعه أو اشترى بعينه فالتصرف باطل وإن باع سلمًا أو اشترى في الذمة وسلم المغصوب فيه فالعقد صحيح والتسليم فاسد فلا تبرأ ذمته مما التزم ويملك الغاصب ما أخذ وأرباحه له.
القديم أن بيعه والشراء بعينه ينعقد موقوفًا على إجازة المالك، فإن أجاز فالربح له
(1)
.
3 - قول أبي يوسف من الحنفية:
قال المرغيناني: الغاصب أو المودع إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة وربح، لا يطيب له الربح عندهما خلافًا لأبي يوسف
(2)
.
•
القول الثالث (الربح يتبع رأس المال):
أدلة هذا القول:
1 -
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ
(1)
«الإقناع» (2/ 166).
(2)
«الهداية شرح البداية» (4/ 14)، وانظر:«المبسوط» (3/ 88)، و «بدائع الصنائع» (15/ 492).
لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»
(1)
.
2 -
حديث عروة البارقي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ
(1)
مرسل: أخرجه أبو داود (3075) من طريق عبد الوهاب قال: حدثنا أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك الترمذي (1378)، والبزار في «مسنده» (1256)، والنسائي في «السنن الكبرى» (5729)، وأبو يعلى في «مسنده» (957)، والبيهقي في «الكبرى» (6/ 99)، هذا وقد تفرد عبد الوهاب عن أيوب عن هشام بذكره مسندًا، فقد رواه الجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلًا، انظر:«مسند البزار» (4/ 86)، «علل الدارقطني» (4/ 14 س 665)، ورُوي أيضًا من طريق زمعة عن الزهري عن عروة عن عائشة، وزمعة هذا ضعيف، ولم يرو هذا الحديث عن الزهري عن عروة إلا من طريق زمعة، أخرجه البزار (1132)، والطيالسي في «مسنده» (1543)، والدارقطني في «سننه» (4506)، والبيهقي في «الكبرى» (6/ 142)، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه أبو داود عن زمعة عن الزهري عن عروة عن عائشة - وذكره - فقال: قال أبي: هذا حديث منكر، إنما يرويه من غير حديث الزهري عن عروة مرسلًا، انظر:«علل ابن أبي حاتم» (1/ 474)، ورُوي أيضًا من طريق عمرو بن عوف المزني كما في «مسند البزار» (3391)، ولكن بسند ضعيف، فيه من نُسب إلى الكذب.
لَرَبِحَ فِيهِ
(1)
.
3 -
حديث صاحب فَرْق الأرز، وهو أحد الثلاثة الذين آواهم المبيت في غار، إذ قال: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرْقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ عَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُهُ لَهُ حَتَّى جَمَعْتُ لَهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا، فَلَقِيَنِي فَقَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي. فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا فَخُذْهَا. فَذَهَبَ فَاسْتَاقَهَا
(2)
.
•
بعض النقول عن أهل العلم في هذا القول:
•
الشافعية (في القديم):
قال الشافعي: وإذا ابتضع الرجل ببضاعة وتعدى فاشترى بها شيئًا، فإن هلكت فهو ضامن، وإن وضع فيها فهو ضامن، وإن ربح فالربح لصاحب المال كله إلا أن يشاء تركه
(3)
.
قال الشربيني: والقديم - أي: القول القديم في مسألة إذا اتجر الغاصب في المال المغصوب - أن بيعه والشراء بعينه ينعقد موقوفًا على إجازة المالك، فإن أجاز فالربح له، وكذا التزم في الذمة وسلم
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (3642).
(2)
صحيح: أصله في البخاري (2272)، ومسلم (7127).
(3)
«الأم» (3/ 16).
المغصوب تكون الأرباح للمالك
(1)
.
•
قول الحنابلة:
قال المرداوي: قوله: «وإن اتجر بالدراهم فالربح لمالكها» ، يعني إذا أتجر بعين المال أو بثمن الأعيان المغصوبة، فالمال وربحه لمالكها، وهذا هو الصحيح من المذهب ونص عليه ونقله الجماعة وعليه الأصحاب
(2)
.
قال ابن قدامة: فصل: وإذا غصب أثمانًا فاتجر بها أو عروضًا فباعها واتجر بثمنها، فقال أصحابنا: الربح، والسلع المشتراة له
(3)
.
قال البهوتي: وإن اتجر الغاصب بعين المال المغصوب بأن كان دنانير أو دراهم فاتجر بها أو اتجر بثمن عين المغصوب بأن غصب عبدًا فباعه واتجر بثمنه وحصل ربح، فالربح والسلع المشتراة للمالك، نقله الجماعة، واحتج بخبر عروة بن الجعد
(4)
، قال أيضًا: لكن نصوص أحمد متفقة على أن الربح للمالك
(5)
.
(1)
«الإقناع» (2/ 166).
(2)
«الإنصاف» (6/ 154).
(3)
«المغني» (11/ 89).
(4)
«كشاف القناع عن متن الإقناع» (13/ 168).
(5)
المصدر السابق.
•
القول الرابع (التفصيل):
قال القرافي: وعن ابن حبيب: إن اتجر فيها موسرًا فله الربح لقبول ذمته للضمان، أو معسرًا فله لعدم قبولها في الولي يتجر في مال يتيمه، وعن سحنون: لك ما كنت تتجر فيها، أي لو كانت في يديك.
قال: وأستحسن أن تقسم المسألة لأربعة أقسام:
إن كنت لا تتجر فيها لو كانت في يديك، ولم يتجر فيها الغاصب بل قضاها في دين أو أنفقها، فرأس المال لعدم تعيين تضيع ربح عليك، وإن كنت تتجر فيها ولم يتجر الغاصب فلك ما كنت تربح في تلك المدة؛ لأنه حرمك إياه،؟ إذا أغلق الدار، إلا أن يُعلم أن التجارة في تلك المدة كانت غير مربحة.
وإن كنت لا تتجر فيها وتجر فيها الغاصب وهو موسر بغيرها ولم يعامل لأجلها، له الربح لتقررها في ذمته بالتصرف، وإن كان فقيرًا عومل لأجلها فالربح لك لقوة شبهة تحصيل ملك للربح كالولد في الحيوان.
وإن كنت تتجر فيها وهو فقير، فعليه الأكثر مما ربح أو ما كنت تربح
(1)
.
(1)
«الذخيرة» للقرافي (6/ 317)، وانظر:«شرح مختصر خليل» (18/ 446).
•
القول الخامس (أن الغاصب يقتسم الربح مع صاحب المال):
دليله: ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَيْشٍ إِلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا قَفَلَا مَرَّا عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، فَرَحَّبَ بِهِمَا وَسَهَّلَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَقْدِرُ لَكُمَا عَلَى أَمْرٍ أَنْفَعُكُمَا بِهِ لَفَعَلْتُ. ثُمَّ قَالَ: بَلَى هَاهُنَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ، أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُسْلِفُكُمَاهُ فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعًا مِنْ مَتَاعِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ تَبِيعَانِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ الْمَالِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَكُمَا. فَقَالَا: وَدِدْنَا ذَلِكَ. فَفَعَلَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا الْمَالَ.
فَلَمَّا قَدِمَا بَاعَا فَأُرْبِحَا، فَلَمَّا دَفَعَا ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ قَالَ:«أَكُلُّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ، مِثْلَ مَا أَسْلَفَكُمَا- قَالَا: لَا. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَسْلَفَكُمَا، أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ» ، فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَسَكَتَ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا لَوْ نَقَصَ هَذَا الْمَالُ أَوْ هَلَكَ لَضَمِنَّاهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَدِّيَاهُ. فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ، وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضًا؟ فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَعَلْتُهُ قِرَاضًا. فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَنِصْفَ رِبْحِهِ، وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نِصْفَ رِبْحِ الْمَالِ
(1)
.
(1)
صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1372)، والشافعي من طريقه في «الأم» (4/ 33).
استدل ابن تيمية وتبعه في ذلك ابن القيم رحمهما الله على كون الغاصب يقتسم مع صاحب المالك بهذا الخبر.
قال ابن تيمية رحمه الله: أَمَّا الْمَالُ الْمَغْصُوبُ إذَا عَمِلَ فِيهِ الْغَاصِبُ حَتَّى حَصَلَ مِنْهُ نَمَاءٌ - فَفِيهِ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ: هَلْ النَّمَاءُ لِلْمَالِكِ وَحْدَهُ؟ أَوْ يَتَصَدَّقَانِ بِهِ؟ أَوْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا إذَا عَمِلَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَكَمَا يَدْفَعُ الْحَيَوَانَ إلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهِ بِجُزْءِ مِنْ دَرِّهِ وَنَسْلِهِ؟ أَوْ يَكُونُ لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ إنْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ جَارِيَةً بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا أَقْرَضَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ابْنَيْهِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَصَّهُمَا بِهَا دُونَ سَائِر الْمُسْلِمِينَ وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَابَاةً لَهُمَا لَا تَجُوزُ، وَكَانَ الْمَالُ قَدْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا بَلَغَ بِهِ الْمَالُ ثَمَانَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَدْفَعَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُمَا مِنْ الرِّبْحِ لِكَوْنِهِمَا قَبَضَا الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ. فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَك؛ فَإِنَّ الْمَالَ لَوْ خَسِرَ وَتَلِفَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَمَانِنَا فَلِمَاذَا تَجْعَلُ عَلَيْنَا الضَّمَانَ وَلَا تَجْعَلُ لَنَا الرِّبْحَ؟ فَتَوَقَّفَ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: نَجْعَلُهُ مُضَارَبَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: لَهُمَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَلِلْمُسْلِمِينَ نِصْفُ الرِّبْحِ. فَعَمِلَ عُمَرَ بِذَلِكَ.
وَهَذَا مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّ النَّمَاءَ حَصَلَ بِمَالِ هَذَا وَعَمَلِ هَذَا فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالرِّبْحِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ بِالنَّمَاءِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا؛ بَلْ يُجْعَلُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ شَرِكَةَ مُضَارِبَةٍ
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: فَإِنْ كَانَ قَدْ رَبِحَ فِيهِ بِنَفْسِهِ:
فَقِيلَ: الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمَالِكِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا الله.
وَقِيلَ: كُلُّهُ لِلْغَاصِبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا الله.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْدَعَهُ مَالًا فَاتَّجَرَ بِهِ وَرَبِحَ، فَرِبْحُهُ لَهُ دُونَ مَالِكِهِ عِنْدَهُمَا وَضَمَانُهُ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا رحمه الله، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، فَتُضَمُّ حِصَّةُ الْمَالِكِ مِنَ الرِّبْحِ إِلَى أَصْلِ الْمَالِ وَيُتَصَدَّقُ بِذَلِكَ.
وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَ نَاقَةً أَوْ شَاةً فَنَتَجَتْ أَوْلَادًا، فَقِيلَ: أَوْلَادُهَا كُلُّهَا لِلْمَالِكِ، فَإِنْ مَاتَتْ أَوْ شَيْءٌ مِنَ النِّتَاجِ رَدَّ أَوْلَادَهَا وَقِيمَةَ الْأُمِّ وَمَا مَاتَ مِنَ النِّتَاجِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا مَاتَتْ فَرَبُّهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهَا يَوْمَ مَاتَتْ وَتَرْكِ
(1)
«مجموع الفتاوى» (3/ 323).
نِتَاجِهَا لِلْغَاصِبِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِتَاجِهَا وَتَرْكِ قِيمَتِهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ الرَّاجِحِ يَكُونُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَهُ نِصْفُ النِّتَاجِ، وَاللَّه أَعْلَمُ
(1)
.
• الراجح في المسألة:
هو أن الربح يتبع رأس المال؛ لأنه سبب نمائه، على ما اختاره الشافعي في مذهبه القديم والحنابلة، وهو أيضًا قول ابن حزم
(2)
والشوكاني
(3)
. وذلك لقوة استدلالاتهم ومطابقتها للمسألة.
أما من قال بالصدقة، ففي قوله مضرة لصاحب رأس المال بغير وجه حق، وليس هناك دليل صحيح صريح يُلزمه بذلك، أما استدلالهم بحديث عاصم بن كليب - راجِعْه عند ذكر أصحاب هذا القول بدليلهم- فليس في محله كما أسلفت. وكذلك الذين قالوا:(إن الربح للغاصب) فقولهم بعيد؛ إذ لا ينكر أحد أنه ظالم في غصبه وظالم في تصرفه فيه؛ إذ إنه حرم صاحبه منه مدة من الزمن ربما كان اتجر به تجارة عظيمة يفهم هو فيها تُدر عليه دخلًا كبيرًا، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه من حسن الحديث-:«وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»
(4)
.
(1)
«مدارج السالكين» (392).
(2)
انظر: «المحلى» (8/ 135).
(3)
انظر: «السيل الجرار» (660).
(4)
سبق تخريجه مع الحكم عليه.
أما ما ذهب إليه الشيخان ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فهو أيضًا بعيد؛ إذ قاسوا هذا الأمر على أثر عمر، والقياس هنا باطل، إذ أن ابني عمر لم يكونا قد اغتصبا المال إنما أخذاه سلفًا، هكذا حدد لهما أبو موسى، وإنما كان إنكار عمر أنه خصهما بالسلف دون سائر الجيش، ولا يخفى أن من استلف مالًا لأجل معين، وحق له أن يفعل به ما يشاء، فإن قيل: إن كان هذا سلفًا مباحًا فلماذا وافق أمير المؤمنين على جعله قراضًا ومن قبل كان يريد الربح كله للمسلمين؟ فالجواب على ذلك أن هذا للشبهة التي أتت عليه من كونه ليس ملكًا لأبي موسى إنما هو ملك للمسلمين.
حكم أموال الكافر إذا أسلم هل تحل له أو لا؟
إذا أسلم الكافر وله مال فمن المؤكد أن يسأل هذا السؤال: ما حكم هذه الأموال التي امتلكتها وقت كفري؟ (ولا شك أن كثيرًا من معاملات الكافرين محرمة في شريعة رب العالمين) والجواب على هذا السؤال يسير بفضل الله سبحانه وتعالى.
نقول وبالله التوفيق: المال الذي اكتسبه قبل إسلامه لا يخلومن حالتين:
إما أن يكون قبضه فأسلم وهو معه، كأموال نقدية أو عقارات أو أطيان أو غير ذلك.
أو أن يكون تعاقد عليه ولم يقبضه بعد.
ولكل من هاتين الحالتين حكمها عند الفقهاء:
•
الحالة الأولى: المال الحرام المكتسب إذا تم قبضه قبل الدخول في الإسلام:
في هذه الحالة يكون المال حلالًا لا شيء فيه، وصاحبه حر التصرف فيه، سواء أكان اكتسبه من معاملات حرمتها الشريعة الإسلامية أم لا.
استدل أهل العلم على ذلك بالأدلة الآتية:
أ- قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]
ب- وقال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ 279} [البقرة].
ج- حديث: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ»
(1)
.
د- قصة المغيرة بن شعبة لما صحب قومًا في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا الإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا المَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ»
(2)
. قالوا: فيه دلالة على أنه تملك المال والنبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يأخذه تورعًا؛ لأنه أُخذ غدرًا، وإنما أقره معه في حوزته.
(1)
ضعيف: أخرجه البيهقي (9/ 113)، وأبو يعلى في «مسنده» (5847) من طريق ياسين بن معاذ الزيات عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وياسين بن معاذ الزيات لم يقنع الناسُ بحديثه كما ذكر إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في «أحوال الرجال» (150)، وقال عنه البخاري: منكر الحديث (تاريخ: 34595)، وقال عنه يحيى بن معين: ضعيف ليس حديثه بشيء (جرح: 1350)، ورُوي أيضًا مرسلًا كما في «سنن سعيد بن منصور» (190) عن عروة بن الزبير (191)، عن ابن أبي مليكة، وقال الشافعي رحمه الله: وكأن معنى ذلك من أسلم على شيء يجوز له ملكه فهو له «سنن البيهقي» (1309).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2581).
هـ- دخول الكثيرين في دين الإسلام، ولم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أحدًا منهم عن ماله من أين اكتسبه، ولا طلب منه أن يتخلص منه.
و- قبول النبي صلى الله عليه وسلم وصية مخيريق اليهودي
(1)
، وكانت سبعة حوائط في بني النضير.
ز- أنهم - أي الكفار - اكتسبوا هذا المال معتقدين حله
(2)
.
ح- حديث سويد بن غفلة أن بلالًا قال لعمر: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال: لا تأخذوها منهم، ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم الثمن
(3)
(4)
.
(1)
كان مخيريق من أحبار اليهود، فقال يوم السبت: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن محمدًا لنبي، وإن نصره عليكم لحق. ثم أخذ سلاحه وحضر أُحدًا مع النبي صلى الله عليه وسلم فَقُتل، وقال حين خرج: إن أُصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراد. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت عامة صدقاته بالمدينة فيها، (انظر:«سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» للصالحي الشامي (4/ 212)، و «السيرة النبوية» لابن هشام (3/ 51)، «تركه النبي» لحماد بن إسحاق (51).
(2)
هذا قد يجاب عليه بأنه ليس كل الكفار يعتقد حل الحرام، فمنهم العالم الجاحد.
(3)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (9886)(1004)، وأبو عبيد القاسم بن سلام في «الأموال» (128، 129)، وابن زنجويه في «الأموال» (166)، والخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (723) من طريق إبراهيم بن عبد الأعلى الكوفي عن سويد بن غفلة عن عمر.
(4)
في هذا الأثر أن عمر أحل أموالهم التي تأتيهم من بيع الخمر، وعلى هذا فعمر رضي الله عنه يعتقد أن الخمر بالنسبة لهم مال.
• بعض أقوال أهل العلم في المسألة:
قال يحيى: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ إِمَامٍ قَبِلَ الْجِزْيَةَ مِنْ قَوْمٍ فَكَانُوا يُعْطُونَهَا، أَرَأَيْتَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ أَتَكُونُ لَهُ أَرْضُهُ أَوْ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ لَهُمْ مَالُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ: أَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ وَمَالِهِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعَنْوَةِ الَّذِينَ أُخِذُوا عَنْوَةً فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَإِنَّ أَرْضَهُ وَمَالَهُ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ قَدْ غُلِبُوا عَلَى بِلَادِهِمْ وَصَارَتْ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ فَإِنَّهُمْ قَدْ مَنَعُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَالَحُوا عَلَيْهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ
(1)
.
قال ابن عبد البر: ما ذكره مالك رحمه الله في هذا الباب عليه جماعة العلماء
(2)
.
قال الباجي: قوله من أسلم من أهل الصلح فَمَا لُهُ لَهُ قول جماعة الفقهاء
(3)
.
قال الفخر الرازي: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
(1)
أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي أَحْكَامِ الْكُفَّارِ إِذَا أَسْلَمُوا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا مَضَى فِي وَقْتِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ يَبْقَى ولا يَنْقُصُ، وَلَا يُفْسَخُ، وَمَا لَا يُوجَدُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي حَالِ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِذَا تَنَاكَحُوا عَلَى مَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ وَلَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَفْوٌ لَا يُتَعَقَّبُ
(2)
.
قال الجصاص
(3)
: وَفِيهَا الدَّلَالَةُ
(4)
عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الْوَاقِعَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا الْإِمَامُ؛ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهَا بِالْفَسْخِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى فَسَادٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَ نُزُولِ الْآيَةِ وَبَيْنَ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ وَوَضْعِهِ الرِّبَا الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا - عُقُودٌ مِنْ عُقُودِ الرِّبَا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهَا بِالْفَسْخِ وَلَمْ يُمَيِّزْ مَا كَانَ مِنْهَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ مِمَّا كَانَ مِنْهَا بَعْدَ نُزُولِهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الْوَاقِعَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا الْإِمَامُ لَا يُفْسَخُ مِنْهَا مَا كَانَ مَقْبُوضًا، وقَوْله تَعَالَى:{فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ مَا كَانَ مَقْبُوضًا مِنْهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ
(5)
.
(1)
يقصد قول الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275].
(2)
«تفسير الرازي» (7/ 86).
(3)
الجصاص هو الإمام أحمد بن علي أبو بكر الجصاص، نسبة إلى العمل بالجص، حنفي المذهب، توفي سنة (370 هـ).
(4)
آية {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275].
(5)
«أحكام القرآن» (2/ 191).
•
الحالة الثانية: المال الحرام المتعاقد عليه قبل الإسلام إذا لم يتم قبضه إلا بعد الإسلام: في هذه المسألة اختلف أهل العلم على قولين:
الأول: قول بعدم جواز حوزته والانتفاع به بل يجب التخلص منه.
الثاني: أنه حلالٌ يجوز الانتفاع به.
والراجح: إن كان هذا العقد مما أحله الإسلام، يكون المال حلالا له، وإن كان مما حرمه الإسلام؛ يكون حرامًا عليه أخذه، ويجب عليه التخلص منه في مصالح المسلمين.
ويُستدل لهذه المسألة بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر الصديق، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه
(1)
.
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (3842).
هل يصح الحج من المال الحرام؟
• سؤال يتردد على ألسنة التائبين، بل يتردد أيضًا على ألسنة غيرهم، وهو ما الحكم في رجل كان يتكسب من الحرام ثم أدى فريضة الحج بهذا المال الحرام، فهل يصح حجه، بحيث تكون حجة الفريضة قد سقطت عنه أو لا؟
• والجواب على هذا السؤال يكون بما يلي:
ليس في كتاب الله سبحانه وتعالى ولا في صحيح السنة نص صريح يتعلق بهذه المسألة، إنما يستدل الفقهاء في هذه المسألة بنصوص عامة، إلا أنه ورد في المسألة حديثان منسوبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ننبه على عدم ثبوتهما:
الأول: «من حج بمالٍ حرام، فقال: لبيك اللهم لبيك، قال الله عز وجل: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك»
(1)
.
(1)
ضعيف: أخرجه ابن مردويه في «أماليه» (44)، من طريق مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا الدجين بن ثابت اليربوعي، قال: حدثنا أسلم مولى عمر بن الخطاب عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
به.
ومن طريقه هذا أخرجه الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (1076) لكن عن الدجين عن أسلم مرسلًا، والدجين بن ثابت اليربوعي هذا قال عنه يحيى بن معين: ليس بثقة. حديثه ليس بشيء. وقال عنه النسائي: ليس بثقة. وتركه عبد الرحمن بن مهدي.
(1)
ضعيف: أخرجه البزار في «مسنده» (15/ 221)، من طريق سعيد بن سليمان، قال: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وسليمان بن داود هذا قال فيه البخاري: سليمان بن داود اليمامي عن يحيى بن أبي كثير منكر الحديث، «الضعفاء» للعقيلي (607)، وقال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال عنه ابن حبان: ضعيف. انظر: «الكامل» لابن عدي (4/ 271)، و «الضعفاء والمتروكين» لابن الجوزي (1518)، و «المجروحين» لابن حبان (1/ 334).
•
أقوال أهل العلم في المسألة:
بادئ ذي بدئ أقول: كلمة أهل العلم متفقة على عدم جواز الحج من المال الحرام؛ إذ أن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ثم إنهم اختلفوا في صحة حج من فعل ذلك، بمعنى هل تسقط عنهم حجة الإسلام أو لا؟ ونتج عن خلافهم هذا قولان:
الأول: وهو قول الجمهور (الحنفية، والشافعية، وأحد القولين في مذهب المالكية، كذلك احد القولين في مذهب الحنابلة) - أن الحج صحيح مع كونه آثمًا متحملًا جرم هذا المال الحرام.
واستدلوا لذلك بما يلي:
1 -
الحج عبادة مستقلة بنفسها لا تضرها معصية أخرى. وقاسوا ذلك على الصيام، فقالوا: لو صام رجل ثم هو في نهار رمضان ارتكب معصية الغيبة أو أخذ رشوة هل يفسد صومه؟
2 -
قاسوا على الصلاة في الأرض المغصوبة، على قول من قال بصحتها، إذ أن المحرم اغتصاب الأرض فقط.
3 -
قالوا: توفر المال شرط وجوب ليس شرط صحة.
الثاني: - وهو قول عند المالكية وآخر عند الحنابلة - قالوا: لا يجزئ.
واستدلوا بما يلي:
1 -
قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
2 -
قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
3 -
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا»
(1)
.
4 -
الحديثان الضعيفان اللذان تقدما في بداية المسألة.
ويلاحظ على أدلة هذا الفريق أنها أدلة عامة غير متعلقة بالباب عدا الحديثين وقد تبين ضعفهما.
•
النقول عن الأئمة الفقهاء:
قال ابن عابدين الحنفي:
إنَّ الْحَجَّ نَفْسَهُ الَّذِي هُوَ زِيَارَةُ مَكَان مَخْصُوصٍ
…
إلَخْ لَيْسَ حَرَامًا، بَلِ الْحَرَامُ هُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ الْحَرَامِ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ تَقَعُ فَرْضًا، وَإِنَّمَا الْحَرَامُ شَغْلُ الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْفِعْلِ صَلَاةً لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِالْحُرْمَةِ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْحَجَّ فِي نَفْسِهِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ حَيْثُ الْإِنْفَاقُ
(2)
.
قال الدردير المالكي:
وصح الحج فرضًا أو نفلًا بالحرام من المال، فيسقط عنه الفرض والنفل وعصى؛ إذ لا منافاة بين الصحة والعصيان
(1)
.
قال الدسوقي المالكي في حاشيته:
قوله: (وعصى) قال ح
(2)
: الحج الحرام لا ثواب فيه وإنه غير مقبول.
واعترضه الشيخ أبو علي المسناوي بأن مذهب أهل السنة أن السيئة لا تحبط ثواب الحسنة، بل يثاب على حجه، ويأثم من جهة المعصية. ا هـ كلامه.
قال ابن العربي: مَنْ قَاتَل على فرس غصبَه فله الشهادة وعليه المعصية، أي له أجر شهادته، وعليه إثم معصيته.
وإذا علمت هذا، فقول المصنف:(وعصى) معناه أنه لا يثاب عليه كثواب فعله بحلال، فلا ينافي أنه يثاب عليه، وليس المراد نفي الثواب عنه بالمرة كما هو ظاهره
(3)
.
(1)
«الشرح الكبير» للدردير (2/ 10).
(2)
يقصد الشيخ محمد الحطاب المالكي.
(3)
«حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (5/ 197).
قال النووي الشافعي:
إذَا حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ أَوْ رَاكِبًا دَابَّةً مَغْصُوبَةً، أَثِمَ وَصَحَّ حَجُّهُ وَأَجْزَأَهُ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ومَالِكٌ والعَبْدَريُّ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يُجْزِئُهُ: وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْحَجَّ أفعَالٌ مْخصُوصَةٌ والتَّحْرِيمُ لمِعْنًى خَارجٍ عَنْهَا
(1)
.
• الراجح في المسألة:
ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الحج صحيح، فيجزئه الحج، ويتحمل إثم معصيته؛ وذلك لقوة أدلة الجمهور التي تقدمت، وضعف أدلة أصحاب القول الثاني.
(1)
«المجموع» (7/ 63).
مَنْ استدان مالًا لإنفاقه في الحرام هل يجوز قضاؤه عنه من الزكاة؟
هذه صورة تتكرر كثيرًا، فنجد مثلًا رجلًا يشتري قناة من القنوات الفضائية التي تقوم على بث الفسق والفجور، ثم تخسر القناة وتتراكم عليها الديون، ويقول: إني تبت إلى الله. أو مثلًا امرأة تقترض قروضًا كثيرة، وتنفقها في معصية الله عز وجل ثم تقول: إني تبت إلى الله. هل في مثل هذه الحالات يجوز إعطاء أمثال هؤلاء من زكاة المال بغرض قضاء الدين أو لا؟
وللجواب على هذه المسألة نقول: لم يرد في كتاب ربنا ولا في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم نص خاص يتعلق بهذه المسألة، إلا ما ورد من عمومات في الحث على إعطاء الغارمين من الصدقات، كقول الله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
لذلك نجد أن
أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
الأول: مذهب المالكية وهو المعتمد عند الشافعية والحنابلة: يجوز سداد الدين عن المدين في معصية إن تاب وظهرت توبته، وذلك
لأنه يدخل في عموم قوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} ، ولأن في ذلك عونًا له على الطاعة والتوبة.
الثاني: وجه عند الشافعية وبعض الحنابلة: لا يجوز أن يُسد عن الغارم في معصية وإن تاب؛ لأن في ذلك عونًا على المعصية، فكل من أراد أن يستدين في معصية سَيُقدم وهو يعلم أن دينه سَيُقضى.
• نص كلامهم رحمهم الله:
قول المالكية:
قال العدوي في حاشيته: ويشترط أن يكون الدين مما يحبس فيه، كحقوق الآدميين، فإن كان كالزكاة والكفارات فلا يعطى شيئًا، وأن لا يكون استدانه في فساد إلا أن يتوب
(1)
.
قال العلامة خليل بن إسحاق في مختصره (في فصل في مصرف الزكاة):
«
…
ومدين، ولو مات، يحبس فيه لا في فساد، ولا لأخذها إلا أن يتوب على الأحسن»
(2)
.
(1)
«حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني» للشيخ علي بن أحمد الصعيدي العدوي [ت 1189 هـ]، (1/ 510).
(2)
«مختصر خليل في العبادات على مذهب الإمام مالك» للعلامة خليل بن إسحاق الجندي [ت: 776 هـ]، (59) ط دار الحديث.
قال الشيخ محمد بن عبد الله الخرشي: (لا في فساد) ش: معطوف على مقدر، أي: قد استدانه ووضعه في مصلحة، لا في فساد كزنا وخمر وقمار وغصب، فلا يعطى من الزكاة .... (إلا أن يتوب على الأحسن) رجعه الشارح وغيره لقوله: لا في فساد
(1)
.
قول الشافعية:
قال الماوردي: ثُمَّ يُنْظَرُ فِيَما اسْتَدَانُوا: فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي مُسْتَحَبٍّ أَوْ مُبَاحٍ أُعْطَوْا، وَإِنْ صَرَفُوهُ فِي مَعْصِيَةٍ: فَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا لَمْ يُعْطَوْا، لِمَا فِي إِعْطَائِهِمْ مِنْ إِعَانَتِهِمْ عَلَيْهَا وَإِغْرَائِهِمْ بِهَا. وَإِنْ تَابُوا فَفِي إِعْطَائِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُعْطَوْنَ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْطَوْنَ لِارْتِفَاعِهَا بِالتَّوْبَةِ
(2)
.
قال النووي رحمه الله: (الشَّرْطُ الثَّانِي) أَنَّهُ يَكُونُ دَيْنُهُ لِطَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَكَالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ لَمْ يُعْطَ قَبْلَ التَّوْبَةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَفِيهِ
(1)
«شرح مختصر خليل» للشيخ محمد بن عبد الله الخرشي [ت: 1101 هـ](2/ 218).
(2)
«الحاوي الكبير» للعلامة أبي الحسن علي بن محمد الماوردي [ت: 450 هـ](8/ 272) ط دار الفكر، بيروت.
وَجْهٌ شَاذٌّ حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَالرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُعْطَى لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ لأَنَّ فِي إعْطَائِهِ إعَانَةً لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ تَابَ فَهَلْ يُعْطَى؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ (أَصَحُّهُمَا عِنْدَ صَاحِبَيِ الشَّامِلِ وَالتَّهْذِيبِ) لَا يُعْطَى، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ فِي إعْطَائِهِ إعَانَةً لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ) يُعْطَى وَهُوَ قَوْلُ أبي إسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ، وَصَحَّحَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمُقَنَّعِ وَأَبُو خَلَفٍ السُّلَمِيُّ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ لِقَوْلِ اللَّهِ سبحانه وتعالى:{وَالْغَارِمِينَ} وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا
(1)
.
قال البجيرمي: وإن صرفه في معصية أو في غير مباح كخمرٍ، وتاب وظُن صدقه، أو صَرْفه في مباح فيعطى مع الحاجة
(2)
.
(1)
«المجموع شرح المهذب» لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)(6/ 208)، ومثل هذا الكلام، ذكره النووي أيضًا في كتابه «روضة الطالبين وعمدة المفتين» (2/ 318) ط المكتب الإسلامي.
(2)
«حاشية البجيرمي على الخطيب» للشيخ سليمان بن عمر بن محمد البجيرمي [ت: 1221 هـ]، (6/ 371) ط دار الكتب العلمية.
قول الحنابلة:
قال ابن قدامة المقدسي:
لَكِنْ إنْ غَرِمَ فِي مَعْصِيَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ خَمْرًا أَوْ يَصْرِفَهُ فِي زِنَاءٍ أَوْ قِمَارٍ أَوْ غِنَاءٍ وَنَحْوِهِ، لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ تَابَ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُدْفَعُ إلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ الدَّيْنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ، بَلْ يَجِبُ تَفْرِيغُهَا، وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْوَاجِبِ قُرْبَةٌ لَا مَعْصِيَةٌ، فَأَشْبَهَ مَنْ أَتْلَفَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى افْتَقَرَ، فَإِنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدَانَهُ لِلْمَعْصِيَةِ، فَلَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتُبْ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَعُودَ إلَى الِاسْتِدَانَةِ لِلْمَعَاصِي، ثِقَةً مِنْهُ بِأَنَّ دَيْنَهُ يُقْضَى، بِخِلَافِ مَنْ أَتْلَفَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ يُعْطَى لِفَقْرِهِ، لَا لِمَعْصِيَتِهِ
(1)
.
قال ابن مفلح: ومن غرم في معصيته لم يدفع إليه شيء، فإن تاب دفع إليه في الأصح، ولو أتلف ماله في المعاصي حتى افتقر دفع إليه من سهم الفقراء
(2)
.
(1)
«المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل» (7/ 324) ط دار الفكر بيروت، وانظر أيضًا كتاب «الشرح الكبير» لأبي الفرج بن قدامة (2/ 707).
(2)
«الفروع» لابن مفلح (4/ 339) ط مؤسسة الرسالة.
قال المرداوي:
(فَإِنْ تَابَ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ)، وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْمُغْنِي، وَشَرْحِ الْمَجْدِ، وَالشَّرْحِ، وَالنَّظْمِ، وَالْفَائِقِ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْغَارِمِ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: أَحَدُهُمَا: يُدْفَعُ إلَيْهِمَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى، وَالْحَاوِيَيْنِ: دُفِعَ إلَيْهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُذْهَبِ وَالْمُسْتَوْعِبِ، وَالْخُلَاصَةِ، وَالْمُحَرَّرِ، وَالْوَجِيزِ، وَالْمُنْتَخَبِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ
…
(1)
.
الراجح: هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من المالكية والوجه المعتمد عند الشافعية والحنابلة من جواز سداد الدين عن المدين بسبب المعصية إن تاب إلى الله وغلب على الظن أنه صادق في توبته، وذلك للآتي:
1 -
عموم قوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60].
2 -
أن المعصية ترتفع بالتوبة.
3 -
إبقاء الدين في الذمة يوجب السداد، وليس ذلك من المعصية.
هذا والله أعلى وأعلم.
(1)
«الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» (3/ 157)، دار إحياء التراب العربي، بيروت.
هل يجوز قبول هدية صاحب المال الحرام؟
هذا السؤال كثيرًا ما يتكرر، وهو فرع عن سؤال آخر وهو هل يحل التعامل مع صاحب المال الحرام، سواء كان هذا التعامل بيعًا أم شراء، أم معاوضة، أم قبول الهدية بكل صورها، سواء كانت هذه الهدية نقودًا، أم طعامًا أم شرابًا أم ما يتمول عمومًا أم لا؟
ويلزم للجواب عن هذا السؤال أن نوضح أن ثَم فارقًا بين حالات متعددة:
الأولى: أن تكون هذه الهدية من عين محرمة، كأن يعلم أنها مسروقة، أو مغتصبة، أو من رشوة، أو غير ذلك.
الثانية: أن تكون هذه الهدية من رجل كل تعاملاته المالية محرمة.
الثالثة: أن تكون هذه الهدية من رجل اختلط ماله بالحرام، فهو خليط.
أما الحالة الأولى والثانية: فغير جائزٍ التعامل مع صاحبها عمومًا، وعلى هذا فلا يجوز قبول هديته.
•
الأدلة على عدم قبول الهدية ممن سائر ماله من حرام أو إن علمت أنها خاصة من الحرام:
1 -
حديث عاصم بن كُليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ يُوصِي الْحَافِرَ:«أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ» ، فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ، ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ، فَأَكَلُوا، فَنَظَرَ آبَاؤُنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فَمِهِ، ثُمَّ قَالَ:«أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا» ، فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى الْبَقِيعِ يَشْتَرِي لِي شَاةً، فَلَمْ أَجِدْ فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً، أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِهَا بِثَمَنِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَطْعِمِيهِ الْأُسَارَى»
(1)
.
والشاهد من هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم توقف عن أكل الشاة لما علم أنها أُخذت من غير إذن صاحبها.
(1)
انظر تخريجه والحكم عليه ص (181) عند الكلام عن أدلة التصدق بالمال الحرام الذي لا يعرف له مالك.
2 -
حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن
(1)
.
والشاهد من هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتفاع بثمن هذه الأشياء لأجل الحرمة التي فيها.
3 -
حديث عائشة بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم رضي الله عنهم رضي الله عنه رضي الله عنها رضي الله عنها صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه قالت: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ. فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ
(2)
.
•
أقوال أهل العلم في المسألة:
قال الإمام برهان الدين مازة (الحنفي):
وحاصل المذهب فيه (هدية السلطان الجائر) أنه إن كان أكثر ماله من الرشوة والحرام لم يحل قبول الجائزة منه، ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حلال، وإن كان صاحب تجارة وزرع وأكثر ماله من ذلك
(1)
صحيح: أخرجه البخاري (2122)، ومسلم (1567).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (3842).
فلا بأس بقبول الجائزة ما لم يعلم أن ذلك من وجه حرام، وفي قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية من بعض المشركين دليل على ما قلنا، وفي «عيون المسائل»
(1)
: رجل أهدى إلى إنسان أو أضاف، إن كان غالب ماله من حرام، لا ينبغي أن يقبل ويأكل من طعامه ما لم يخبر أن ذلك المال حلال استقرضه، أو ورثه
(2)
.
قال الإمام القرافي (المالكي):
وإن كان الغالب الحرام امتنعت معاملته (مكتسب الحرام) وقبول هديته كراهة عند ابن القاسم وتحريمًا عند أصبغ إلا أن يبتاع سلعة حلالًا فلا بأس أن يبتاع منه ويقبل هديته إن علم أنه قد بقي في يديه ما يفيء بما عليه من التباعات
(3)
.
قال الدسوقي (المالكي):
وأما من كان كل ماله حرامًا، وهو المراد بمستغرق الذمة، فهذا تمنع معاملته ومداينته ويمنع من التصرف المالي وغيره
(4)
.
(1)
يقصد «عيون المسائل» للسمرقندي.
(2)
«المحيط البرهاني» (5/ 230).
(3)
«الذخيرة» (13/ 318).
(4)
«حاشية الدسوقي» (13/ 168).
قال الشيرازي (الشافعي):
ولا يجوزمبايعة من يُعلم أن جميع ماله حرام لما روى أبو مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن حلوان الكاهن ومهر البغي
(1)
، وعن الزهري في امرأة زنت بمال عظيم، قال: لا يصلح لمولاها أكله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي
(2)
.
قال النووي (الشافعي):
فصل: دعاه مَنْ أكثر ماله حرام، كُرهت إجابته كما تُكره معاملته، فإن علم أن عين الطعام حرام حُرمت إجابته
(3)
.
قال ابن قدامة (الحنبلي):
وإذا اشتري ممن في ماله حرام وحلال كالسلطان الظالم المرابي، فإن علم أن المبيع من حلال ماله فهو حلال، وإن علم أنه حرام فهو حرام، ولا يقبل قول المشتري عليه في الحكم؛ لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه، فإن لم يعلم من أيهما هو كرهناه لاحتمال التحريم فيه، ولم يبطل البيع لإمكان الحلال، قل الحرام أو كثر، وهذا هو الشبهة،
وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون الشبهة وقلتها، قال أحمد: لا يعجبني أن يأكل منه
(1)
.
قال ابن مفلح (الحنبلي): وسأل المروزي أبا عبد الله عن الذي يعامل بالربا: يؤكل عنده؟ قال: لا، قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله
(2)
، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف عند الشبهة. ومراده حديث النعمان بن بشير
(3)
.
الحالة الثالثة: أن تكون هذه الهدية من رجل اختلط ماله بالحرام:
في هذه الحالة تُكره معاملته وقبول هديته، فهديته فيها شبهة، وبقدر قلة الحرام وكثرته في ماله تكون الشبهة وقلتها، وانظر النقول عن أهل العلم في الحالتين اللتين تقدمتا.
•
سؤال: هل يجوز الأكل من الموائد التي تصنعها الراقصات والفنانون والعاملون في البنوك الربوية، وما شابههم؟
• جواب: لا يجوز ذلك؛ للأدلة التي تقدمت والتي تفيد عدم قبول الهدية ممن علم أن سائر ماله حرام، ولما في الحديث الصحيح:
(1)
«المغني» (4/ 333).
(2)
صحيح: تقدم ذكره.
(3)
«الفروع» لابن مفلح (4/ 403).
«أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي وحلوان الكاهن»
(1)
، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا:«من اتقى الشبهات، فقد استبرأ لعرضه ودينه»
(2)
أما إن تاب أولئك وأرادوا التخلص مما عندهم من الحرام الذي لا صاحب له إذ أنه من المال الحرام الذي أتى عن تراضٍ فلهم التخلص منه في مصالح المسلمين العامة، وبالإمكان أن يوزع جزءًا منه على الفقراء، كما بيناه في مسألة (كيف يُتخلص من المال الحرام الذي لا يُعرف له مالك) إلا أن هناك شرطًا، وهو عدم إبلاغ الفقير أو المسكين أن هذا المال من الحرام، إذ لا يطيب له أن يأكل من مال علم أنه من الحرام.
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (1567) ومهر البغي: هو الذي تأخذه الزانية على زناها، وهو محرم بالإجماع.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1599).
الخاتمة
هذا ما تيسر لي جمعه، ولا أدعي في ما جمعته الكمال والتمام، ولا أنشره بشرط البراءة من الهفوات والعثرات بل أعترف بالعجز والتقصير، وأسأل الله العلي القدير العفو عما طغى به القلم، ورحم الله أخًا غلب نفسه الأمارة بالسوء فتعامل معي بالإنصاف فعذرني في خطأ كان مني أو زلل صدر عني، فمن وجد خللًا فلينصح وليعلم أننا بعملنا هذا نرجو عفو ربنا سبحانه، ونيل شرف الدعوة إليه (لا أن النفس تحدثها الأماني من الانتظام في سلك المؤلفين بالمحال، ففي أمثالهم السائرة " لكل عمل رجال " ومن أين لي ذلك والبضاعة من هذا العلم قدر منزور، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)
(1)
، وقانا الله والقارئين شر الحرام وأغنانا بالحلال، وباعد بيننا وبين طرائق الشيطان بمنه وكرمه، إنه فعال لما يريد ولما يشاء قدير سبحانه نعم المولى ونعم النصير.
وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين.
(1)
قاله ابن خلكان «وفيات الأعيان» (1/ 21) ط دار الثقافة.