الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح نيل المنى في نظم الموافقات للشاطبي
للعلامة القاضي أبي بكر محمد ابن عاصم الغرناطي (760 هـ - 829 هـ)
تأليف
أبي الطيب مولود السريري
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الشارح
الحمد لله رافع الأقدار بالأقدار، ومنيل المرجو من الحاجات والأوطار، والموفق لموافق الخير من الأبرار، والمضل لمن ضل من ذوي الأوزار والأشرار، منزل الشرائع ذات الحكم والأسرار، فقرت بها وحقت مصالح الخلق على مدى الأزمان، والأعصار، باعث الرسل مصادر الأنوار، وأئمة الهدى القادة الأخيار، الذين ختموا بمن نظمت رسالته الأوطان والأقطار، في سلك الهداية وإزالة الغشاوة عن البصائر والأبصار، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ما قرت عين المتهجد بنفحات الأسحار، وتعطرت مجالس الفضلاء بطيب المذاكرة والأذكار، وعلى آله من أذهب عنهم الرجس فكانوا من الطيبين والأطهار، وعلى آله المجاهدين من المهاجرين والأنصار، ومن لحق بجمعهم فنشط من عقال جحد الحق والإنكار، وانضم إلى أمة هذا النبي المختار.
أما بعد:
فإن العلوم إذا قرنت بخشية مالك الملك رب الأرباب أردية أولى الألباب، وحلية أهل الفضل والمراتب العلى بلا ارتياب، إذ يجزى عنها بدرك حسن المئاب، والإنجاد من العذاب والتباب، ورفع القدر يوم الحساب، ودرك الجزاء والفضل والثواب، وغير ذلك من المنح والعطايا التي نص عليها في السنة والكتاب.
وبذلك انكب أولو الأيدي والأبصار، وذوو النهى والأنظار على طلبها بالدرس والمدارسة آناء الليل وأطراف النهار، وعكفوا على قنص فوائدها
ومسائلها من الدواوين والأسفار، آخذين لها مهذبة مصححة من أفواه الراسخين في العلم مستنيرين بالقواعد العلمية في مجاري النظر والاعتبار، معملين لها بمهارات واقتدار، حتى قامت بهم الملكات العلمية قيام النار بالمرخ والعفار والماء بالأنوار والأزهار، فسالت أودية أذهانهم بالعلوم الغزيرة وأثمار الأنظار، ودقائق المعاني بلا حد ولا انحصار، ثم أودعت في بطون الصحائف والزبر مرشدة إلى الهدى والإبصار، تمنح من أتاها بلا من ولا إقتار، ورغبة مني - وأنا العبد الفقير، الذي لا يعد في ميدان العلوم من العير ولا من النفير - في خدمة ما تيسرت خدمته من نتاج وغلات هؤلاء العلماء، وفي الانتساب إلى السير على سبيلهم بوجه ما، سعيت إلى أن أضع شرحا على منظومة العلامة الشيخ القاضي محمد بن محمد أبي بكر القيسي الغرناطي، التي سماها "نيل المنى في نظم الموافقات" للإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى - وهو هذا الشرح الذي أمامك أيها القارئ الكريم، دعاني إليه ما ذكرت والطمع في نيل أجر ناشر العلم، ثم ما بدا إلي من أن منفعة ما تحصل لطلبة العلم الشرعي بذلك، ومن أن هذا الأمر قد يكون فيه حفظ ونشر لها للاستفادة منها على وجه أتم، وأحسن.
وأما النهج المسلوك في هذا الشرح فإنه يرد ذكره - بإيجاز - في المقدمة الموالية -: مقدمة الشرح.
أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى أن يجعل هذا العمل عملا متقبلا عنده بقبول حسن، وسعيا مدخرا تقر به العين يوم الدين.
المقدمة
من المقطوع به أنّ منتهى الطلب والغاية المعرفية من دراسة العلوم الشرعية وما به يقتدح زند العقل وتتسع به مدارك الأنظار وتظهر به جميع جهات المنظور فيه على تمام، وما به تتصور ماهيته كما هي في واقع الأمر، وتنكشف به الأغراض من الكلام وتظهر به، هو تحصيل النظر الفقهي المستتم في المنظور فيه، حكما كان، أو دليلا، أو محكوما عليه، أو محكوما فيه، أو علة حكم، أو حكمة، أو مقصدا شرعيا، وإدراك الحكم الصحيح على ثلَج صدْرٍ وطمأنينة نفس. وأنت خبير بأن ما يصيب النظر من الآفات ويجره إلى التعسفات كثير، قد انتشر منه تقصير الأنظار على جهات في موطن النظر، والانكفاف عن اعتبار ما سواها وإن كانت جديرة بالاعتبار، وسحب مقتضى السبر عليها بل وإن كانت أقوى وأرجح ما اعتبر واعتد به، وذلك قد يكون عن جهل أو قلة اطلاع، وقصور في الإدراك، وقد يكون عن هوى ورعونات في الأنفس، وغلبة الشهوات وهذا أدهى وأمرّ.
وكل ذلك لا يذهب غِشاوتَه ثم يمتد إلى إزالة الأود في طريقة النظر وبناء الأحكام إلا تهذيب النفوس وترويضها بإرغامها على العمل بمقتضى القواعد العلمية والقيم السامية التي بها جَوْحُ الصوارف عن استداد عمل الأذهان واستقامته، وتزكية البواطن من أدرانها.
وقيام هذا الهذب بالنفوس يبديه حصول ملكة التصرف في هذه العلوم في النفس وصيرورتها قائد النظر وحركة الذهن، وما به الترقي إلى درك التصور الصحيح، والحكم الصائب. وأي امرئ يكون ذهنه خِلْوًا من هذا فإنه لا يثمر إلا حشفا ودقلا من الأفكار والآراء لا مبالاة بها عند أهل التحقيق، والعقول الراجحة القوية الإدراك.
وإذا تقرر هذا لديك، أدركت أنه لا مناص في سبيل درك تلك الغاية من الارتواء من هذه العلوم وتلقيها باستيعاب وتمام تحصيل.
والطريق الأحب إلى ذلك هو ليُّ الركب والانكباب على دراسة ما انطوت
عليه بطون الأسفار من أثمار أنظار أولي النهى، ومن قواعد وضوابط وقيم يهتدى بها إلى استخراج مضامين مآخذ الأحكام، ومكنونات الأدلة، وتتقوم بها الأنظار وتستقيم بها على المنهج المسترشد فيه بمعالم وأعلام ثابتة بالبراهين الشرعية والعقلية والعادية التي تزول الراسيات ولا تزول هي، كما تحرر بها الأذهان من ضيق الإدراك وقصر النظر وغلبة المزاج وقهر العوائد الصارفة عن الاعتبار التام الواسع الشامل لكل ما تقتضي العقول الراجحة وواقع الحال جريان حكم الاحتمال المعتبر عليه.
ومن عيون هذه الأسفار "كتاب الموافقات " للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، وهو كتاب جليل القدر عالي المستوى، قد أثنى عليه جمع من أهل الفضل والعلم، وحلوه بما هو به جدير من أوصاف الشرافة وعظم القدر، وحسن النظم وجمال السبك، وكثرة غلل الأنظار، والجمع بين اعتبار اللفظ الشرعي والمقاصد الشرعية والأسرار، وغير ذلك مما قام به من أوصاف وأحوال، ذكرها من تقدموا، فلا حاجة إلى اجترار ذكرها في هذا المقال.
غير أنه يجب أن نسوق للإفادة ما به يتصور حال هذا الكتاب في الأذهان من ملامح ومميّزات قامت به في بنائه وفيما يصوغ عليه نفوس من ارتووا منه عقولهم من صورة في شأن فهم وضع الشريعة، وفي بناء أحكامها وما يتعلق بذلك. والقول الجملى في ذلك إن هذا الكتاب متضمنه: التنبيه على وجوب الاعتناء بأمور وقعت الغفلة عنها، والتغيير لمفاهيم يجب أن تتغير، والإضاءة لمسالك فقهية معتبرة ينبغي أن تسلك. والأخذ بأمور تربي على ضبط النظر والفهم، وأمور تحمي من سلطان رعونات النفوس وقهر أمزجتها.
هذه أهم ملامح هذا الكتاب بإيجاز وإجمال وَمن تشوّف إلى التفصيل فإن له ملامح تفصيلية متعدّدة:
أحدها: إبرازه لكون دليل العناية جاريا في الأحكام الشرعية وبنية الشريعة فهو قائم بها.
فالعناية الإلهية تخالل وضع الشريعة وتركيبها وما هي عليها من حال.
وَهذا مدرك بأدنى تأمل في كونها موضوعة على صورة روعيت فيها أحوال
الخلق كلها بحيث وضع لكل حال منها السبيل الموافق له إصلاحا، وتعبدا، كما اعتبر فيها وضع السبيل الذي بسلوكه يجمع بين الأخذ بالحظوظ النفسية المباحة، والإتيان بالواجبات الشرعية، بحيث يعطى لكل ذي حق حقه من غير إفراط ولا تفريط.
وهذا يوخذ منه أمران:
أ - أن دليل العناية كما هو قائم بالخلق، فإنه - كذلك - قائم بهذه الشريعة، فكلاهما قام به برهان عقلي يقضي بأن هذا كله تقدير العزيز العليم.
ب - أن هذه الشريعة مبنية على وفق طبيعة الخلق الظاهرة والباطنية، ولعل هذا من الأسرار الموجبات لخلود هذا الدين، وانتشاره، وجريان حلاوة شعائره وشرائعه في النفوس.
ثانيها: ضبط معاني ومفاهيم الألفاظ التي تتعلق بها أحكام شرعية وحد ماهياتها، ويسلك في ذلك مسلك الذكر لكل معنى يستعمل فيه اللفظ الذي قصد إلى ضبط مفهومه الشرعي، باسطا في ذلك الكلام على وفق ما يقتضيه المقام وعلى قدر ما يتضح به المراد، ثم بعد ذلك يذكر ما به الحكم الشرعي من المعاني قاصدا إلغاء اعتبارها في هذا الشأن - تعلق الحكم الشرعي - والى إبقاء المعنى الذي يتعلق به الحكم الشرعي مبينا ذلك بالحجة والبرهان، على طريقة السبر والتقسيم المعروفة.
وهذا ما جرى عليه - رحمه الله تعالى - في لفظ "المشقة" و"الصحة" و"البطلان" و"الرخصة" و"المصلحة" و"المفسدة" وما ماثل ذلك من الألفاظ من جهة تعلق الأحكام الشرعية بها.
وما أتى به - رحمه الله تعالى - في هذا الشأن يزول به الغبش على البصيرة فيه، وتنفصل به المعاني بعضها عن بعض، كما يظهر التباين والاختلاف بين أحكامها على ثلج صدر، وصفاء نظر، وبذلك يعلم موطن الحكم الشرعي في ذلك مما سواه بينا واضحا.
وأنت خبير بأن ما يوقع في الحيرة والخطأ هو الجهل بمفاهيم ومعاني الألفاظ الشرعية التي تدل على معان وصفية تتعلق بها الأحكام الشرعية.
فالمشقة - مثلا - تطلق على صفات متعددة متفاوتة متنوعة، والرخصة لا تتعلق إلا بتوع معين منها وهو الحرج المرفوع - فمن جهله فإما أن يقول بالرخصة في غير محلها الشرعي، وإما أن ينكر جريانها في موضع هي مشروعة فيه، وهذا الحال يسري على جميع ما تتعلق به الأحكام الشرعية من الألفاظ من هذا النوع، ومن أخطوها وأهمها "المصلحة" و"المفسدة"، فضبط معنى هذين اللفظين ينير الطريق في شأن بناء الأحكام على المقاصد، فكان الضبط لها من الأمور المنيرة لسبيل التفقه في هذا الدين العظيم.
ثالثها: توسيع البحث والنظر ومده إلى جميع جهات وأحوال الموضوع المبحوث والمنظور فيه على استقصاء وتمام تفصيل، وكل ذلك قد نظم في سلك منهجي يقتضيه واقع حال ذلك الموضوع. وقد اعتمد سبيل التوسيع هذا في كل موضوع درسه في هذا الكتاب، ويظهر ذلك باهرا لفرط تشعبه في مواضع معينة كالأحكام، والأسباب، والشروط، والألفاظ التي تتعلق بها أحكام شرعية ومعنى الاجتهاد الذي جعله أنواعا، فوسعه بذلك. والأحلى والأجمل من ذلك أنه - أي الشاطبي - رحمه الله تعالى - يذكر الثمرات الفقهية والشرعية التي تؤخذ من كل جهة درست من تلك الجهات، ثم أنه يمد نظره وبحثه إلى ما يكون من أثمار الأنظار في ذلك مستشكلا، ثم يذكر وجه الاستشكال في ذلك وموجبه، ثم الوجوه النظرية والأدلة التي يكون بها تخريج الحكم في ذلك على سبيل ووجه ينفصل به عن ذلك الإشكال.
وهذا كله من الثمرات المعرفية المجتناة من الاطلاع على ما سطره - رحمه الله تعالى - في هذا الموضوع.
رابعها: التنبيه والاستحثاث على وجوب اعتبار واستحضار أحوال القلوب ومقاصدها في مجاري بناء الأحكام الفقهية، وذلك لأن القلب تجري على أفعاله الأحكام الشرعية كما تجري على سائر الجوارح، ثم أنه بما قام به من حال وقت كسب العمل بالجوارح يعرف حكم ذلك العمل ومنزلته.
وقد بسط الشاطبي - رحمه الله تعالى - القول في هذا الشأن، فما فتئ ذاكرًا له في كل موضع يتأتى له فيه ذكره، كما بين على تفصيل.
إنّ موافقة قصد المكلف للقصد الشرعي من شرعية الحكم في العمل هو ما به يصح ذلك العمل شرعا، ويكون به التقرب لله رب العالمين، وإن مخالفة قصد المكلف للقصد الشرعي عينا في ذلك مثمر للفساد والإثم.
وإن ما يكون مخالفا على وجه ليس فيه المخالفة العينية هو محل خلاف ونظر فقهي، فالمدار في الحكم فيه على الترجيح، وبهذا تعرف أحوال القصد المصاحب للعمل وأحكامه، ولا يخرج قصد عن هذه الأقسام.
وهذا إدراكه يثمر في النفس أمورا منها:
أ - وجوب طلب العلم بالقصد الشرعي على المكلف في كل عمل عزم على إتيانه، حتى يعلم ما يأتي وما يذر من المقاصد التي تعرض في النفس وتقوم بها.
ب - وجوب إلزام النفس بالموافقة للشرع في ذلك وترويضها عليه.
ج - كسب التبصر بأحكام القصود، وأحوالها والعلم بما يكون الحكم فيه منها معلوما قطعا، وما يكون فيه منها محل اجتهاد ونظر.
د - استفراغ الجهد في ربط القصد الشرعي بقصد المكلف في العمل، والنظر، وجعل ذلك أمرا لا ينفك عن البال في بناء الأحكام والعمل.
والمتأمل لكلام الشاطبي في هذا الكتاب، يجد هذا الأمر من أهم ما يسعى إلى نقل العقول إلى اعتباره والاعتناء بأمره.
خامسها: ضبط سبيل النظر في النصوص الشرعية وأخذ الأحكام منها وذلك بالالتزام والتقيد بحدود اللسان العربي، والانكفاف عن تخطي ذلك.
وهذا أمر قد احتج عليه بما يراه من الأدلة والحجج مثبتا له، غير أن هذا مشعر بتأثر الشاطبي بالظاهرية في هذا الشأن إذ يلمح في سبيله في هذا الموضوع ضرب من الحَجْر على النظر واتصاف بالجمود.
لكن هذا الحكم الذي يسبق إلى الأذهان في أول النظر إلى هذا الموضوع يزيله ما جرى عليه من البحث عن أسرار الشريعة وعللها ثم ما جرى عليه من منهج في اختياره لهذا الرأي، فإنه ما أتاه إلا عن اطلاع عن الأدلة التي يعتمد
عليها في ذلك ونظر تام في قوتها الحجية، ثم لما بدا له أن نظره ما قضى إلا بذلك ذكره. وقد يكون غرضه من ذلك الذي يظهر أنه جمود وحجر على الأنظار هو صد أصحاب الأهواء والضلالة الداعين إلى تخطي ظواهر الألفاظ والأخذ بما يسمونه ببواطنها وأسرارها الخفية التي تدرك بالإشارات التي لا يفهمها إلا ذوو العلم "اللدني" والإلهام.
وهذا أمر محمود، فإن درء المفسدين عن حياض الإسلام وحرمه أمر واجب شرعا.
فالباطنية شرهم عظيم، ومكرهم خبيث وهم ما فتئوا في كل زمان ومكان يكيدون لهذا الدين.
وهذا الضبط يثمر في النفس لمن عنّ له أنه الصواب إدراك المنهج الموصل إلى أخذ الأحكام من أدلتها على الوجه الصحيح.
سادسها: كشف المعتبرات والمستندات الفقهية لآراء فقهية وتصرفات وأعمال عدت خارجة عن القواعد التي يقتضى حالها جريان حكمها عليها، وعن الأدلة الشرعية الشاملة أحكامها لها. وهذا متجل في مواطن:
أحدها: التوجيهات الفقهية التي يوردها بيانا وحججا على صحة تصرفات وأحوال من يسميهم بأرباب الأحوال - الصوفية -. وقد بني نظره في هذه الجزئية على أمر اختلاف أحوال النفوس، وخصائص البواطن التي يترتب عليها اختلاف القوة والضعف في إتيان الأعمال، وفي السبل المختار سلوكها في التعبد، فالمسوقون بالخوف أو المحبة أو ما يسهل عليهم مشقة العبادة من رجاء وطمع في نيل درجات التقرب لرب العالمين ومقامات الأبرار يسلكون السبيل الذي يوافق أحوالهم، فذهابهم إلى المشقة واختيار العزائم في مواطن الرخصة المباحة لا يضير أمره، بل هو فعل محمود لأنه لا تترتب عليه أي مفسدة شرعية.
وأما من ليس مثلهم في ذلك وإنما يأتي العبادة امتثالا وحظوظه النفسية غالبة عليه فإنه سلك السبيل الذي يجمع به بين تحصيل حظوظه المباحة، والالتزام بعبادة ربه.
والاعتناء بأمور البواطن واختلافها والأخذ بمقتضاها في بناء الأحكام
يستحث الشاطبي - رحمه الله تعالى - على عدم الغفلة عنه فهو موضوع بسط فيه الكلام إذ له به فريد عناية واهتمام للغفلة عن اعتباره والعناية بأمره - كما يرى -.
ثانيها: التوجيه والتخريج الفقهي الذي أورده في شأن ما ذهب إليه المالكية من صحة بيوع وأنكحة فاسدة، والذي بناه على اعتبار ورود وصف آخر على محل الحكم أوجب صحة تلك الأنكحة والبيوع وترتب آثارها.
وهكذا حال المغصوب فإنه قد يملك من جهة تعلق حق الغاصب به بتصرفات له فيه.
ثالثها: إظهاره لوجه صحة نكاح المحلل عند من يرى ذلك، والذي بني على أن السبب الشرعي لا يوثر فيما يترتب عليه القصد غير الشرعي وغير ذلك مما ذكره في هذا الشأن.
وغير ذلك من المسائل التي وجه آراء أهل العلم فيها وكان ذلك غامضا إلا على غائص في بحر النظر من أهل العلم مثله.
والاطلاع على هذه التخريجات والتوجيهات الفقهية يثمر في النفس ويوح في الأذهان أن تلك الآراء الفقهية التي قد ترى ساقطة الاعتبار لأنها لا مستند لها في واقع الأمر ما تخرج عليه من الاعتبارات والقواعد الفقهية.
وهذا يذهب الظن السيئ بالقائلين بهذه الآراء من أهل العلم.
ثم أنه يروض النفس على احترام الرأي الفقهي إذا كان من عالم، وإن كان يخفى علينا مستنده ودليله.
وكذلك يوسع الاطلاع على مدارك الأحكام والاعتبارات الفقهية الدقيقة.
سابعها: بيان أحوال المقاصد الشرعية ومنها: (أي تلك الأحوال) كونها منقسمة إلى أصلية وتبعية. وبذلك فإن القاصد لأحد القسمين يصح عمله إلا أن القصد إلى الموافقة الشرعية في الأصلية يكسب الثواب والأجر دون التبعية، فإن أقصى ما تثمره صحة الفعل ودرء البطلان. وقد كرر رحمه الله هذا الأصل إشعارا منه بعظم فائدته، ومنفعة الاستضاءة به في بناء الأحكام الفقهية.
وذو التزود بهذه الفائدة - القاعدة - يسهل عليه التفرقة بين حكم المقصد التبعي، والأصلي فيما يعرض له من نوازل ومسائل.
ومنها: كونها تراعى في بناء الأحكام الفقهية وتستحضر للاستضاءة بمقتضاها فيه وعرض الحكم الثابت بالنص لمعرفة ذلك الحكم والمقصد الشرعي منه، ثم وضعه تحت كليه الجاري حكمه عليه، سواء كان ذلك الكلي ضروريا، أو غيره، فبذلك يتم بناء الحكم الفقهي.
ومن تمام الفائدة في هذا الشأن أن يعلم أن إدراك كون الجزئيات داخلة تحت الكليات الثلاث لا يكون على الدوام موضع القطع، بل قد يعرض في ذلك ما يقتضي الأخذ بالظن فيه، وقد يكون هذا هو الأصل فيما يجري فيه النظر والاجتهاد من ذلك، لأمور تعارضت فيه.
وهذا قد بينه مفصلا إمام الحرمين الجويني في "مراتب قياس المعنى" من باب ترجيح الأقيسة من كتابه "البرهان"، وفي هذا المعنى قال الإمام الرازي في المحصول "إن كل واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك القسم، وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه، بل يختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون وقد استقصى إمام الحرمين رحمه الله في أمثلة هذه الأقسام ونحن نكتفي بواحد منها قال رحمه الله: قد ذكرنا أن حفظ النفوس بشرع القصاص من باب المناسب الضروري. ومما نعلمُ قطعًا أنَّه من هذا الباب شرعُ القصاص في المثقّل، فإنّا كما نعلم أنّه لولا شرع القصاص في الجملة لوقع الهرج والمرج: فكذلك نعلم أنّه لو ترك في المثقّل لوقع الهرج، ولأدّى الأمر إلى أنّ كل من أراد قتل إنسان فإنه يعدل عن المحدّد إلى المثقّل: دفعا للقصاص عن نفسه، إذ ليس في المثقّل زيادة مؤنة ليست في المحدّد، بل كان المثقّل أسهل من المحدّد
…
وعند هذا قال رحمه الله: لا يجوز في كل شرع تُرَاعى فيه مصالح الخلق عدم وجوب القصاص بالمثقّل".
قال رحمه الله فأما إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة فإنه يحتمل أن يكون من هذا الباب، لأنه لا يظهر كونه منه، أما وجه الاحتمال فلأنا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة: لتأذى الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان استعان
بشريك ليدفع القصاص عنه: فتبطل الحكمة المرعية بشرع القصاص. وأما أنه لا يظهر كونه من هذا الباب فلأنه يحتاج فيه إلى الاستعانة بالغير، وقد لا يساعده الغير عليه فليس وجه الحاجة إلى شرع القصاص ها هنا مثل وجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد
(1)
.
ومنها: كون الأدنى منها يخدم - أي يكمل - الأعلى، فالحاجيات
والتحسينيات تخدم الضروريات، والتحسينيات تخدم الحاجيات، وهذا يثمر في الأذهان أن المقصود في ذلك كله إنما هو حفظ الضروريات، فليتخذ ذلك أساسا في النظر الفقهي.
ومنها: أن الاختلال في الضروريات يوجب الاختلال في الحاجيات والتحسينيات، بخلاف الاختلال في هذه فإنه لا يخل بتلك - الضروريات -.
ومنها: أنها غير تابعة لأهواء النفوس، ولا هي معتبرة بها، وإنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، وهذا أصل مهم يجب أن لا يغفل عنه في مجاري الاعتماد على المصالح والمفاسد في بناء الأحكام الفقهية.
ومنها: بيان أن لهذه المقاصد علامات تدل عليها تؤخذ من أحوال الخطاب الشرعي - كالأمر والنهي - واعتبار العلل والتحديد في المقدار والزمان، والمكان، وغير ذلك مما ذكره في كتاب الأدلة وفي كتاب المقاصد وخاصة آخره، وأعاد ذكره في كتاب الأدلة، وزاد عليه. وهذا إذا حصل في الأذهان علمت به المقاصد وأدركت في مواطنها، وبأماراتها وعلاماتها الدالة عليها.
ومنها: أنها في شأن الحفظ لها مرتبة بالأولوية، وذلك بتقديم الأعلى منها على ما دونه، على ما تقدم ذكره ولا يخفى ما في هذا من فائدة الترجيح عند التعرض.
ومنها: أن المصالح يلغى اعتبارها إذا عارضتها المشقة غير المعتادة.
وهذا العلم به ينشئ في النفس معرفة الحدود التي تنتهي فيها رعاية المصلحة،
(1)
المحصول في علم أصول الفقه/ ج 2/ ص 221 - 222.
وبذلك ينتقل إلى اعتبار المشقة، وبناء الحكم على مقتضاها.
ثامنها: بيان أحوال الأدلة الجملية التي تشترك فيها هي وجميع الأدلة والتفصيلية الخاصة ببسط، وبيان ما يبنى على كل حال منها من أحكام ومعارف.
وذلك يبصر بهذه الأحوال، ويودع في الأذهان ما يتعلق بها من أحكام، ويرشد إلى سبل النظر وإعمال الأذهان في ذلك.
تاسعها: التنبيه على تغير نظر المفتى في مواطن الأحكام بحسب أحوالها والأوصاف الطارئة عليها.
عاشرها: بيان أن المقاصد المتعلق بها الحكم الشرعي أقسام ثلاثة:
أحدها: المقاصد الأصلية.
ثانيها: المقاصد الشرعية التبعية.
ثالثها: المقاصد المناقضة للمقاصد الشرعية.
حادي عشرها: بيان أن مقاصد المكلف - أيضا - على أضرب ثلاثة:
أحدها: المقاصد الموافقة للمقاصد الشرعية الأصلية.
ثانيها: المقاصد الموافقة للمقاصد الشرعية التبعية.
ثالثها: المقاصد المناقضة لهذه المقاصد كلها.
ثاني عشرهما: مد النظر والتأمل إلى بنيته الشرعية التي استبان من حالها أنها متكاملة أحكامها بعضها مع بعض، والشروط فيها مع مشروطاتها، وغير ذلك مما يؤخذ أن الشريعة آية الرحمان في أحوالها، وتوازن شعائرها ومضمناتها، وفي بنائها على نسق منتظم في الإثمار، وموافقة أحوال النفوس، والواقع.
ثالث عشرها: بيان كيفية اقتناص القطعيات من الظنيات.
وغير ذلك مما هو من جنس هذه المسائل - كوجوب رعاية السياق -، وهو كثير.
غرض الشاطبي من هذه الدراسة المقاصدية:
من الثابت المحقق أن الشاطبي من هذا العمل كله هو إقامة التعبد لله - تعالى - في النفوس، وترسيخ ذلك في البواطن - القلوب - على الحال الذي يكون فيه حال هذه البواطن والظواهر للمسلم العامل متخذا في الصورة، ومصاغا على وفق المقاصد الشرعية.
وبذلك فإنه لا فرق بينه وبين غيره من علماء الأصول والعقائد وغيرهم في هذا الشأن، فكلهم ساعون إلى إقامة هذا الأمر في الخلق.
ومن ظن الشاطبي قد سعى في هذا العمل إلى وضع منهج آخر في بناء الأحكام الفقهية غير المنهج المتبع عند جماهير الفقهاء، وهو جعل المصالح معيارا في بناء الأحكام الفقهية على الوجه الذي يتخيله بعض أهل العصر فهو مخطئ، يحرف الكلم عن مواضعه لأن هذا الأمر لا يقصده الشاطبي في ذلك، ثم إنه أمر لا سبيل إليه في واقع حال هذه الشريعة التي مبتناها في الحقيقة على المسلك الذي عليه جماهير علماء هذه الأمة والذي أساسه الاحتكام إلى الدليل السمعي على كل حال.
وكذلك يعد مخطئا من يدعي بأنه ماض على طريق الشاطبي في هذا الشأن - الدراسة المقاصدية - ثم تراه لا يؤصل على طريقته ومنهجه القائم على إيراد الأدلة النقلية ثم العقلية - النظرية - والعادية وكل ما يتحقق به التأصيل والتثبيت لكل أمر يدعيه أو قول يراه، وفي العصر أناس كثيرون يدعون أنهم يدرسون الأمور الدينية والفقهية على السبيل المقاصدي الذي اختاره الشاطبي في هذا الكتاب، إلا أنهم لا يوافقونه إلا في شأن الاعتبار للمقاصد والعناية بمقتضاها، فلا يكاد أحدهم يسير على وفق منهجه في الاستدلال أو بناء الآراء والاستنتاجات الذهنية، أو يعرج على ذلك، وإنما ينفصل عنه، ثم يتخذ مسلكا في الاستدلال لا مبالاة به عند التحقق، ولا قيمة له عند أرباب النظر، لأنه خلو من الأدلة والبراهين المعتبرة في هذا الشأن.
ومن الظلم السطو على أعمال الناس، وتحريفها، وصرفها عن المقصود منها، وبترها بترك العمل بما بنيت عليه من مناهج وسبل وقواعد، مع ادعاء
المضي على مقتضاها.
مصادر ومآخذ مضامين الكتاب:
من الطافح المنتصب في مضامين كلام المصنف أنه قد اتخذ الاستقراء للنصوص الشرعية والتأمل فيها - أحوالها ومعانيها - وفيما يعرض له فيه النظر من أمور متصلة بذلك وسيلة إلى استخراج ما كمن في هذه النصوص من معان، وأخذ ثمراتها وجناها، والى بناء الأحكام النظرية، ونقضها، ووزن آراء أهل العلم، وتقويمها، وبذلك كانت مضامين كلامه ثمرات دراسة شرعية روافدها علوم القرآن ومعاني الحديث وأحوال الأحكام وبنية الشريعة.
فكان هذا الاستقراء والتأمل عمد عمله في التوسل إلى درك تلك المطالب وتحصيلها، فلذا كان ذيذانه سرح النظر مطلقا له العنان ماضيا في ذلك، في مواضع نظره، باحثا عن الحق والصواب في ذلك، وبذلك ينتهي به الأمر إلى إبراز ما يراه الرأي المنتقى، وربما أتى بفوائد علمية وضوابط منهجية لم يسبق إليها - على ما يبدو لي -.
نعم أنه يستقي من كتب من تقدمه من أهل العلم والنظر مختارا كتب من بعد زمانه عنه، معرضا عن كتب المتأخرين، وكان ذلك عن قصد منه، لأن من سماهم بالمتقدمين أعلم وأقعد بالعلم من المتأخرين، كما قال.
فكان آخذا من كتب هؤلاء من القواعد والضوابط العلمية ومعاني النصوص الشرعية وغير ذلك مما أسس عليه هذا الكتاب، وبناه عليه منسقة مضامينه، مرتبة مباحثه.
وتراكيب كلامه في الكتاب وما تضمنته من معارف ومعان تشهد وتدل على أنه استهدى بما سطره إمام الجويني - رحمه الله تعالى - في كتابه "البرهان" في شأن المقاصد الشرعية وأحوالها، وفي التأويل.
وكذلك استقى وأخذ مما أودعه الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى - في كتابه "إحياء علوم الدين" من الحديث عن أحوال القلوب والأعمال، والخصال المنجية، والخصال المهلكة والمزج في الأحكام بين اعتبار الظاهر والباطن في الإنسان، وفي عمله.
وما يتصل بذلك ويتفرع عنه من أمور تربي على النظر السديد إلى الوجود وما فيه، وعلى الرشاد في السلوك.
كما أنه يخالل نظره ويمتزج به في مجاري النظر الفقهي العمل بالقواعد الفقهية والأصولية التي عليها المالكية، فكان يستشهد أحيانا بها وأحيانا أخرى يستدل لها، ويذكر مآخذها، كما فعل في شأن الاستحسان، وسد الذرائع، ومراعاة الخلاف، وغيرها، فهي لا تنفك حاضرة في مجاري نظره، قائمة بذهنه، كما يبدو من تصرفاته النظرية، وتضاعيف كلامه ومضامينه، وتقريراته للمسائل الفقهية. وهذا يكاد يدل على أنه مالكي المشرب، وإن كان من خاض في العلوم على هذا الحال الذي هو عليه لا يرضى إلا بالاجتهاد.
ويظهر من كلامه في بحث الدلالة أنه تأثر بالإمام ابن حزم مستفيدا منه في شأن مقتضى الدلالة التبعية بوجه ما.
كما يظهر أنه انتفع بتحقيقات فقهية وغيرها لبعض فقهاء المالكية كالمازري والقرافي.
ولا يخفى أنه مخالف للمعتزلة فيما هم فيه على خلاف مع غيرهم من أهل المذاهب الكلامية الأخرى، فكان مقررا بنفس أشعري أن الأعمال البشرية من خلق الله - تعالى - وإن السبب غير مؤثر بذاته لا في الإيجاد، ولا في الإعدام، فالمسببات لا تدخل تحت طاقة العباد، ومن ثم لم يتعلق بإيجادها التكليف.
وهذا قد فصل فيه الكلام في مجاري حديثه في السبب.
وأما ما ذهب فيه الأشاعرة إلى التأويل على خلاف الحنابلة، وموضوعه الصفات والأسماء فإنه فيه - فيما يبدو لي - على اضطراب، ففي شأن الجهة يوافق الأشاعرة، وفي شأن الاستدلال الذي قد يبنى عليه موافقته لهم في المعتقد، إذ سكت عن رده، قال في كتاب الأدلة:"والثالث قوله - تعالى -: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] على هذا المجرى في سائر الآيات" 3/ 262.
وقال فيه أيضا: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بالإطلاق ولا تكليف يتعلق بمعناها" 3/ 70. والله تعالى أعلم بالصواب.
تقويم الأدلة النظرية والنصية المعتمد عليها في هذا الكتاب:
من المنطوق به أن ما أودعه رحمه الله تعالى في كتابه هذا من أثمار نظره مختلفة مراتبه متفاوتة درجاته من جهة صحته وقوته الحجية، وذلك أمر مدرك بأدنى تأمل في هذه الأثمار وبدهي أن كل استنتاج ذهني تعرف قوته الحجية ودرجة صحته وضعفه بحال حجية ودلالة ما بني عليه من دليل وبرهان.
وأغلب ما يأتي به - رحمه الله تعالى - من جنى نظره وغلته واضح المأخذ صحيح البرهان، وصور كلامه وطرق احتجاجه في مجاري بنائه للأحكام التي يوردها، وفي سبل استدلاله للمخالف، والموافق يدلك على ذلك، بل يلزمك بالإقرار به، فقد كان يسلك مسلك الجدل في إيراده وإصداره، متكئا في ذلك على القواعد المنطقية في الغالب وسيلة إلى درك تبليغ ما قصد تبليغه مقررا في النفوس، مظهرا أنه لا رأي إلا ما كان عن برهان ودليل، ولذلك مضى على سنن الاستدلال وجلب البراهين على كل رأي أو قول أورده في هذا الكتاب، ويبلغ في ذلك الذروة بإيراده الاعتراضات والمناقشات في مجاري الاستدلال وإقامة البرهان على الرأي الذي قوله فيه، سواء كان رأيه أو رأي من يخالفه في ذلك، وكل ذلك بإنصاف تام وصبر لأغوار ما فيه البحث والنظر مع جلالة علمية وقدرة فكرية عظيمة، تذهب بك ذات اليمين وذات الشمال بل ترنحك في كل جهات ما فيه النظر من موضوع، وتشغلك بكل محتمل ذهني أو غيره يرد فيه، فتتخطى بذلك ما كان معهودا في بحث ذلك الموضوع في كتب أخرى، وتظفر بفوائد واتساع في النظر ما كنت عليه من قبل اطلاعك على ما رقمه في ذلك - رحمه الله تعالى -.
إلا أن في بعض مما يستدل به - على نذوره - ضعف يوجب سقوطه وعدم اعتباره في مجاري بناء الأحكام الفقهية، بله الأصولية.
ومن ذلك أحاديث ضعيفة، فقد أورد في مسلك الاستدلال حديث "أئمتكم شفعاؤكم" وهو حديث ضعيف كما قال أهل الحديث، وحديث "احذروا الشهوة الخفية العالم يحب أن يجلس إليه" وقد أورده بلفظ غير هذا، وهو حديث ضعيف على كل حال. وحديث "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا،
وإن عمل الكبائر" وهو حديث عد من الموضوعات.
ومن ذلك - أيضا - استدلاله بقصص وحكايات صوفية في مجرى بنائه لبعض الأحكام النظرية وغيرها، ولا يخفى أن هذه الحكايات والقصص ما هي إلا تصرفات بشرية تقدم بالأدلة الشرعية ويحكم عليها بمقتضاها، ولا يصح أن تساق مساق الاستدلال بها، وإن كان ذلك على سبيل الاستئناس بها في هذا المساق، فتأمل.
ومن ذلك - كذلك - استدلاله بحديث "نحن أمة أمية" على وجوب قصر معاني القرآن على ما يوافق صفة الأمية، بحيث لا يتخطى فيها ذلك، ولا يخفى ما في هذا من الحجر على العقول في مجرى الاستفادة من القرآن الكريم، الذي على قطع وجزم يعلم أن المخاطبين به أنواع وأصناف معارفهم وأفهامهم متفاوتة مختلفة المراتب والأحوال، وهذا يوجب أن يكون لكل من هذا الكتاب ما به صلاحه، وما يكفيه من المعارف والعلوم، وما يكون موافقا لحاله {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 20] وهذا الحديث لا ينتهض حجة على هذا الذي ادعاه من ذلك لأن أقصى ما يدل عليه هو وصف هذه الأمة بهذا الوصف الذي لازمه عدم الكتابة والحساب في ذلك الزمان، وهي وإن كانت كذلك فإنها تأخذ من هذا الكتاب ما في وسعها من علم ومعرفة، وأما الادعاء بأن الحديث يقتضي هذا الحجر، فإنه أمر فيه تخطى حدود معاني ألفاظه ومدلولاتها.
ومنه - أيضا - استدلاله بالترك من السلف الصالح للعمل ببعض معاني الألفاظ المطلقات في الكتاب والسنة، وهو ما يبنى عليه منع قراءة القرآن بالإدارة، وما أشبه ذلك.
ومن المعلوم أن الحقيقة الشرعية لا تثبت إلا بالأدلة الكافية في ذلك، وإن أعوز ذلك فإنه يصار إلى المعنى اللغوي في ذلك، ويعمل فيه بالإطلاق في الهيئات والأحوال وكل ما ينطوي تحت اللفظ المطلق، وعلى كل فالمسألة محل نظر، وبحث، ومدار القول فيه على ثبوت الحقيقة الشرعية بذلك وحده وحصولها بذلك وحده منحصرة به أم لا، وبذلك فلا بد من إعمال المطلق على
التمام لعدم وجود المقيد له.
ومنه ما استدل به على أن القرآن المكي لا يدخله النسخ، وهو قول قال به بعض أهل العلم قبله، ولكن قد ذكر أن ذلك قد وقع فيه في آيات، منها قوله - تعالى - في سورة غافر: والملائكة {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غَافر: 7] فإنه ناسخ لقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشّورى: 5].
قال السيوطي: قلت: "أحسن من هذا نسخ قيام الليل في أول سورة المزمل بآخرها، أو بإيجاب الصلوات الخمس، وذلك بمكة اتفاقا"
(1)
.
كما ينظر - أيضا - فيما استدل به على أن القضايا الجزئية لم ترد في القرآن المكي، فإنه موضع نظر.
وفيه ضعف حسبما يبدو لي. لكن الصحيح المقطوع به أن ذلك كله وما أشبهه لا يقدح في صحة وقوة استنتاجاته - رحمه الله تعالى - وأثمار أنظاره الموردة في هذا الكتاب في الجملة، فإيرادي الكلام على هذا الذي ذكر إنما هو لإتمام الفائدة العلمية فيما ذكر، والتنبيه فقط. وذلك لأن الخطب في ذلك يسهل، لأن إيراده هذه الأحاديث قد يوجه بأنه لا يوردها للاستدلال بها على أمور تعبدية، وإنما يوردها للاستدلال بها على أمور تمهدت في الشريعة، وتقررت بأدلة كافية فيها أحكامها، فكأنه يوردها للاستئناس بها فقط. وعلى هذا السنن والمجرى كذلك يوجه ما يورده من قصص وحكايات أرباب الأحوال - الصوفية - فإنه - على ما يبدو - إنما يسوقه للتمثيل، والحديث عن أحوال وأمور لها - على ما يراه - مستندات شرعية صحيحة.
وأما هذه الدعاوى التي ذهب إلى القول بها فإن ذلك كان عن اجتهاد منه، وكونها مرجوحة مقدوحا فيها. وهو ما يفضى إلى الحكم عليه بأنه مخطئ في شأنها، فإن ذلك قد يكون مغتفرا باعتبار أنه من باب ما كان عن اجتهاد، ثم إنه مما لا يخلو من الوقوع فيه الإنسان من الخطأ في مجاري نظره واستنتاجاته من
(1)
الإتقان في علوم القرآن 2/ 24.
المعارف العلمية الدقيقة الكثيرة، ثم إن ذلك مغمور فيما أتى به وإذا تقرر هذا، كما تقرر الذي قبله علم على جزم أن ما تضمنه هذا الكتاب من الفوائد العلمية وغلات الأذهان المسلمة من المصنف قوية صلبة البناء والأساس، صحيحة المأخذ والمدرك في الجملة.
إذ هي مبنية على البراهين والحجج القوية المأخوذة من قضايا العقول الضرورية، ومن دلالات الألفاظ الثابتة لغة وشرعا، ومن الاستقراء، التي اعتمد عليها في ذلك كثيرا، وفي أغلب أحواله.
وأما ما أورده الشيخ محمد طاهر بن عاشور من الردود والنقود على بعض كلام الشاطبي ومنهجه في هذا الكتاب فإنه قد تجرد مما يقتضي اعتباره، والاعتداد به، إذ قد أخل فيه - رحمه الله تعالى - بالمبادئ - القواعد والأسس - التي عليها قيام البناء المعرفي الصحيح. وأحد هذه المبادئ: الاستدلال على صحة المدعي بما يقتضيه ويوجبه من الأدلة، وهو ما لم يجر عليه في ذلك، إذ قصار ما أتى به دعاوى مجردة من أي شيء يثبتها.
ومن ذلك قوله: "أن الشاطبي استدل على أن أصول الفقه قطعية بمقدمات خطابية وسفسطائية، أكثرها مدخول ومخلوط غير منخول".
وقوله: ذكر الشاطبي كلاما طويلا في التعبد والتعليل معظمه غير محرر، ولا متجه.
وغير ذلك من صنف هذه الدعاوى التي ساقها، ولم يقم على صحتها دليلا واحدا، وإنما لفظها، كأنه يرى أن ما صدر عنه يعتد به، ويعتبر صحيحا دون أن يكون معتمد ذلك الدليل والحجة، ولا يخفى ما في هذا من الخروج عن منهج العلماء وسبيلهم في شأن بناء المعرفة، بل ما فيه من أسلوب الاستعلاء ووصمة الغرور، والطيش في النظر.
فالواجب عليه سوق الأدلة على صحة ما يدعيه، وعرض ذلك على الأنظار، مبينا وجه ما يستدل به من ذلك على صحة مدعاه.
ألا يرى ما عليه الشاطبي - رحمه الله تعالى - في هذا الشأن، فهو ما فتئ مستدلا على كل رأي أو ثمر نظر يعرضه، ثم لا يكتفي بذلك، بل إنه يورد
الاعتراضات والإيرادات التي قد يسوقها المخالف، وإن كان ذلك على سبيل الافتراض، ثم يوجب عنها، وبذلك يحيلك على التأمل والنظر معتمدا في كل رأي له عرضه على ما تحكم به الأدلة وتوجبه، جاعلا ذلك المعيار الذي عليه المدار، والاعتبار.
ولا يخفى ما يؤخذ من ذلك ويقطف من فوائد علمية، وما يوصل إليه من كسب للملكة العلمية في هذا الشأن.
وعلى هذا السبيل مضى علماء الأمة، وانتهى إليه بناؤهم للمعرفة، وهو ما لا يمكن الاستغناء عنه بأي حال، وكل كلام لم يجر عليه فهو ساقط الاعتبار، لا مبالاة به على الإطلاق.
ثاني هذه المبادئ: الأسلوب العلمي الذي أساسه وسداه ولحمته مراعاة مقتضى الأدلة وحكمها، فلا يصار إلى الجزم في المظنونات، ولا إلى الاستخفاف بقول المخالف دون إسقاط ما بني عليه من الأدلة والحجج. كما يجب الإنصاف في الأحكام، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإن أتى المتكلم برأيه فليعرضه على الناس بصيغة تدل على أنه لا يراه صوابا وحقا مطلقا، وإنما هو رأي كسائر آراء الناس، فكونه باطلا أمر وارد، وعلى أنه معروض على الناس ليزنوه ويقوموه، ويحكموا عليه بما يستوجبه حاله.
وهذا أمر قد أخل به الشيخ ابن عاشور في أسلوبه في ذلك إذ يورد ما يراه بأسلوب يفهمك أن ذلك أمر مقطوع به مجزوم بمقتضاه، وهو في واقع الأمر لا يتخطى أن يكون أمرا مظنونا وذلك إن قلنا أنه معتبر ومعتد به أصلا.
ثم إنه يجري الكلام على سنن الآمر والناهي الواعظ مستعملا لفظة (على الفقيه).
وغير ذلك من الأمور القوادح في الأسلوب الذي مضى في كتابه هذا.
ثالثها: المنفعة، فهو يرى أن رد المقاصد إلى حفظ الفطرة أمر مفيد، إلا أن المتأمل في ذلك يدرك أن معرفة ذلك والجهل به سواء، لأن ما به الاستداد والاستبصار في بناء الأحكام الفقهية هو معرفة اعتبار الشارع لهذه المقاصد المفصل الكلام فيها عند المتقدمين، لأنها المعينة للأمر المعتبر في محل النظر،
والمرشد مقتضاها إلى ما يبنى عليه الحكم ببيان كاف، ولا حاجة إلى اعتبار كون ذلك مؤديا إلى حفظ الفطرة، فاعتبار ذلك وعدمه في ذلك سواء، بل الوجه الذي يمضي عليه في مجرى العمل به في ذلك غير مضبوط، كما هو الحال في شأن العمل بمقتضى المقاصد، فإنه مضبوط مفصل القول فيه، ثابت المعالم والأعلام.
رابعها: البيان لمآخذ ومدارك الآراء والأقوال، فمن المعلوم أنه لا ينسب إلى الإبداع والاختراع ما كان مجترا، أو منقولا.
وهذا لا يمضي عليه الشيخ ابن عاشور، فإن ظاهر كلامه يدل على أن جميع ما يظهره باعتبار أنه من أثمار أنظاره ليس منقولا عن غيره، وأنه هو من ابتكره، وربما صرح - أحيانا - وأنت إذا تأملت في ذلك تجد أن أغلب ما أتى به من ذلك مأخوذ من منهج أو كلام الشاطبي أو غيره، انظر على سبيل المثال إلى قوله بأن الشريعة مبنية على المصالح، وإلى تقسيم المصلحة، وإلى ما وصف به الشريعة من العموم وغيره.
وأما ما انفرد به من الاستنتاجات الذهنية فإنها محل نظر، وبحث، كقوله في شأن ترك غسل الشهيد، والمحرم. وما جرى مجراه، مما يقوله من عند نفسه، أو يكون مما نقله عن غيره واختاره، وهو مرجوح في واقع الأمر. ومن أنصف ونظر في كلامه أدرك هذا بلا شك.
خامسها: الجريان على مقتضيات الواقع. وهذا قد أسقطه رحمه الله إذ ذهب إلى القول بأن معرفة المقاصد مستقل عن علم الأصول، وهذا لا يخفى سقوطه، إذ من المعلوم أن بناء الحكم الفقهي لا يمكن أن يحصل برعاية المقاصد وفق ما تقتضيه العقول فيها فقط، بل المحكم في ذلك هو النص الشرعي، وهذا بين أمره في المصالح الملغاة شرعا، والعقل البشري حاكم باعتبارها.
وإذا كان المحكم في ذلك هو النص الشرعي ثبت أنه لا مفر من إعمال علم الأصول في هذا الشأن لتعلق علم الدلالة وترتيب الأدلة ومعرفة الدليل التام، وقوته الحجية وغير هذا بذلك.
وخفاء المصلحة الحقيقية على عقل الإنسان وقصر العلم بها على الشارع أمر
ثابت لا ينكره إلا جاهل معاند، ومن ثم ضبطت المصلحة الشرعية بالضوابط الخمسة المعروفة.
ولا يخفى أن هذا الادعاء - ادعاء كون معرفة المقاصد مفصولا عن علم الأصول - قول مبتدع مخالف لما أجمعت عليه الأمة من أن معرفة المقاصد قصارى مفادها أنه يتبصر به في مواقع الأحكام وتحقيق المناط ولكن المحكم في ذلك هو الدليل الشرعي الخاص والعام الجاريين في موضوع الحكم، وقد تتخلف المعرفة بالقصد الشرعي فيه وذلك الحكم الشرعي فيه ماض.
وهذا مبين يقتضيه حكم الواقع ويوجبه. خلاصة القول أن اعتراضات ابن عاشور على الشاطبي ليست مبنية على ما يجعلها معتبرة معتدا بها، فلا ينبغي أن يعرج بها على الإطلاق، بل كل ما أتى به في كتابه هذا يجب أن ينظر فيه ليقوم.
وهذا ليس فيه تنقيص لقيمة هذا العالم - ابن عاشور - أو الحط من منزلته، وإنما هو بيان لأمر وجب بيانه في هذا الذي نحن فيه بإنصاف. والله - تعالى - أعلم.
نظم هذا الكتاب الموافقات:
من السبيل الذي مضى عليه علماء الأمة نظم المعارف والعلوم في بحور الشعر لتسهيل حفظها، واستحضارها، غير أن ما ينظم من المؤلفات المنثورة عادة لا يكون إلا من الصنف العالي القدر المنتخل ما فيه من أثمار الأنظار، والمتضمن لما تشتد الحاجة إليه من المسائل والمعارف، وللتحقيقات العلمية الموثوق بها.
وهذا الصنف من المؤلفات إنما يكون من وضع أئمة العلوم وأرباب الفنون، وذوي التحقيق العلمي المتين.
وكتاب الموافقات هذا هو بلا ريب من أرباب الصدور من تلك المؤلفات، إلا أن العناية بنظمه والقيام بذلك في أول الأمر على ما في الكتب التي بيدي - لم تكن إلا من صاحبين تلميذين له. أحدهما يذكر بأنه نظم هذا الكتاب، إلا أنني لم أظفر باسمه، ولا بما يدل على حاله، إذن فهو مجهول لنا، وظن أنه لا يوجد هذا النظم على الإطلاق، فادعاء وجوده في نظري وهم، نشأ من عدم التثبت في هذا الأمر، ومن ظن أن هذه المنظومة - نيل المنى - هي منظومته فتأمل.
ثانيهما: الشيخ العلامة قاضي الجماعة بغرناطة أبو بكر محمد بن محمد بن عاصم الغرناطي الأندلسي فقد نظمه كما قيل أول الأمر في ستة آلاف بيت تام من البحر الكامل، ثم اختصره - أي هذا النظم - في ثلاثة آلاف بيت تام.
وقد سمي هذا النظم - المنظومة - "نيل المنى من الموافقات" كما ذكر ذلك في خطبته. وهذا هو الذي شرحه أمامك - أيها القارئ الكريم.
صحة نسبة هذه المنظومة لابن عاصم:
شك بعض الناس في كون صاحب هذه المنظومة هو ابن عاصم، وذلك لأن كاتب هذه المنظومة. كتبها بوادي آشى وابن عاصم ليس له مقاما هناك - على ما ذكر -، لاحتمال أن يكون صاحبها هو الناظم الآخر المدعى الذي ذكر أنه من أصحاب الشاطبي - أيضا - إلا أن هذا الشك تدحضه أمور:
أحدهما: ورود أبيات متشابهة في الألفاظ والتركيب إلى درجة التوحد في بعضها في هذه المنظومة، وفي منظومة أخرى له - لابن عاصم - في الأصول وهي "مرتقى الوصول إلى علم الأصول". ومن تلك الأبيات قوله في "المرتقى":
كالأكل في الحياة والحياة
…
في العلم والوضوء في الصلاة
وقوله في "نيل المنى":
عادية كالأكل في الحياة
…
شرعية كالحول في الصلاة
وقوله في "المرتقى": (ص 72)
وأطلق الثاني على رفع الحرج
…
وما أبيح رخصة فيه اندرج
وقوله في "نيل المنى": (ص 19)
وآخر المعنى به رفع الحرج
…
وسبب الرخصة في هذا اندرج
وقوله في "المرتقى": (ص 115)
وغير محدود كهذا يطلب
…
وما له في ذمة ترتب
وقوله في "نيل المنى": (ص 11)
وغير ما قد حد فهو يطلب
…
وما له في ذمة ترتب
وقوله في "المرتقى": (ص 89)
واعتبر الرخصة فهي تحري
…
مع انخرام عادة لعذر
وقوله في "نيل المنى": (ص 23)
وعكسها الرخصة حيث تجري
…
عند انخراق عادة لعذر
وقوله في "نيل المنى":
وهي تعبدات أو عادات
…
ومع جنايات معاملات
وقوله في "المرتقى":
وهي تعبدات أو عادات
…
ثم جنايات معاملات
وقوله في "نيل المنى":
كلأجرة المثل ومنع النظر
…
للأجنبي وقليل المسكر
وكاعتبار الكفء في ذات الصغر
…
والجمع بين القربتين في السفر
وقوله في "المرتقى":
كالحد في شرب قليل المسكر
…
وكاعتبار كفء ذات الصغر
وقوله في "نيل المنى":
أو مقتضى للدرء للفساد
…
كالحد والديات والجهاد
وقوله في "المرتقى":
وتارة بالدرء للفساد
…
كالحد والقصاص والجهاد
وقوله في "نيل المنى":
وبعده الحاجي وهو المفتقر
…
إليه من حيث مصالح البشر
وقوله في "المرتقى":
وبعده الحاجي وهو ما افتقر
…
له مكلف بأمر معتبر
وقوله في "نيل المنى":
وتطلق السنة في الاخبار
…
للقول والفعل والإقرار
وقوله في "المرتقى":
للقول والفعل والإقرار
…
قسمت السنة بانحصار
وغير ذلك مما جرى فيه التوافق والاتحاد في أبيات هاتين المنظومتين مما يدل على أن ناظمهما واحد، إذ من الاحتمال البعيد - إن لم يكن من المحال - بمقتضى هذا التوافق والاتحاد غير هذا.
ثانيها: الشبه في الأسلوب اللغوي وطريقة بناء الكلام بين هاتين المنظومتين، وهذا باد في مواضع منها: وضع النكرة موضع المعرفة، وهذا سار هو عليه في كلتيهما. ومن ذلك قوله في هذه المنظومة "نيل المنى":
سواء القصد إلى أن يقعا
…
مسبب وعدم القصد معا
وقوله فيها - أيضا -:
لذاك إن يبد بها بعض خلل
…
ينظر إلى تسبب كيف حصل
وقوله فيها - كذلك -:
وضع الدليل القصد منه أن يرى
…
فعل مكلف عليه قد جرى
وقوله فيها - أيضا -:
بنسبة الخارج بالتزاحم
…
ففيه يجريان بالتلازم
وقوله في "المرتقى":
كذا لشرطٍ مثلُه والمانع
…
مثل الوضوء والمحيض المانع
وقوله فيه - أيضا -:
إذ صار من مجال الاجتهاد
…
لناظر كالحج والجهاد
وغير ذلك من صنف هذا مما أورده في هاتين "المنظومتين" وفي "تحفة الحكام" أيضا، ومن تشوف إلى المزيد من ذلك فليرجع إليها بتأمل.
قد يقال بأن ذلك مما يجري على الألسنة عادة من التصرف في صيغ الألفاظ ووضع بعضها موضع بعض إذا أمن اللبس وبذلك يكون هذا عاديا في التعابير والكلام، فلا حجة فيه على أن هذا أسلوب يعرف به كلام الناظم.
نعم، قد يرد هذا على الأذهان إلا أن تكريره له واتخاذ ذلك طريقة له في الكلام يقضي بخلاف ذلك، وهو أن ذلك حجة على ما تقدم ادعاؤه، وإن كان ذلك لا يفيد إلا الظن، نعم قد يكون لاستعماله ما ذكر من النكرة موضع المعرفة وجوه تقتضي جواز استعماله له في تلك المواطن، إلا أن ذلك مرجوح، والراجح في ذلك هو المعرفة بمقتضى السياق والمعنى.
ومنها استعماله لفظ التعبدات مكان العبادات، ومن ذلك قوله في "نيل المنى":
إذ عدم التناف في العادات
…
كاف على عكس التعبدات
وقوله فيه:
وهي تعبدات أو عادات
…
ومع جنايات معاملات
وقوله فيه - أيضا -:
ومع ذا فالفرق شرعا آت
…
بين التعبدات والعادات
وقوله في "المرتقى":
ومثله المشروط في تعدد
…
شروطه كأكثر التعبد
وقوله فيه - أيضا -:
وهي تعبدات أو عادات
…
ثم جنايات معاملات
وجملة التعبدات يمتنع
…
أن يستناب في الذي منها شرع
واستعمال التعبدات بمعنى العبادات غير معهود، فما أتى به الشاطبي قط، ولا رأيت غيره يستعمله، فكان هذا من مختارات الناظم التي انفرد بها. فليتأمل.
ومنه: استعماله للفظة تقسمت.
قال في "المرتقى":
ثم تقسمت لدى الإسناد
…
إلى تواتر وللآحاد
وقوله في "نيل المنى":
ثم المشتقات لدنيوية
…
تقسمت بعد وأخروية
وغير ذلك من صنف هذا الذي تقدم.
ثالثها: إن كاتب هذه المنظومة قد لا يكون مؤلفها، وهو الظاهر، وأنه لا يوجد دليل على أنه يوجد ناظم آخر بهذا الكتاب في تلك الفترة غير ابن عاصم وإذا تقرر هذا كله انمحى الشك الذي يراود بعض الناس في صحة كون هذه المنظومة (نيل المنى) لابن عاصم.
هذا شأن ما ظهر لي في نظم هذا الكتاب في الأعصر الماضية وفي القرن الهجري الماضي نظمه الشيخ ماء العينين الصحراوي المغربي - رحمه الله تعالى -، ثم شرحه بشرح سماه (الموافق على المرافق)، وهو مطبوع متداول. وكان انتهاؤه منه - كما قال في آخره - في شهر جمادى الآخرة من عام ألف وثلاثمائة وأحد عشر من هجرة خير البرية عليه الصلاة والسلام.
وهذا النظم فيه أبيات غير موزونة، وقد تكون تصحفت من جهة النساخ كما كثر فيه الحشو.
وعلى الجملة هو نظم مفيد نسأل الله - تعالى - أن ينفع به.
بنية المنظومة هذه:
لقد عرف نظم الأندلسيين واشتهر في الجملة بفضيلة السمو عن نقيصة الاعتياص، وبالصياغة الرشيقة الأنيقة، فهو سائغ عذب شرابه، حلو ذواقه.
نعم هو كذلك، إلا أن ما كان منه في نظم العلوم قد يخفض قدره في هذا الشأن، لما يلزم به ذلك النظم من الإتيان بما يعد حشوا من الكلام، يلزم بذلك إتمام الأبيات وتحصيل القافية، وسلطان الوزن.
وفي هذه المنظومة الجميلة لابن عاصم لم يتخط هذا الأمر، فهي من النظم الأندلسي الحلو الجميل إلا أنه قد اضطر فيها إلى الإتيان بكلمات مستغنى عنها، وإنما جاء بها لإتمام أبيات عرض له فيها ذلك.
وقد نبهت على بعض منها في ثنايا هذا الشرح، وبعضها سعيت إلى أن أفسره تفسيرا يكون به لتلك الألفاظ معاني مرتبطة بمعاني الأبيات التي وردت فيها، ويحصل به لها معنى مفيدا، وإن كان من الظاهر عندي أنها زائدة، وإنما أفعل ذلك درءا للحشو على قدر المستطاع.
كما أنه قد اضطر فيها إلى التصرف في أفعال بالإتيان بها على صيغ غير واردة فيها - على ما رأيت - ومن ذلك لفظة (تقسمت) الوارد في قوله:
ثم المشتقات لدنيوية
…
تقسمت بعد وأخروية
والمعروف هو "انقسم" من قولك قسم فلان الشيء فانقسم. ومنه - أيضا - لفظة "يتّذى" الواردة في قوله:
فليس للشارع قصد في بقا
…
ما يتذى من وقعه أو يتقى
والمعروف إنما هو "يتأذى" بالضم، إذا بنيت يتأذى - بفتح الياء - للمفعول.
ومنه لفظة "التصريف" الواردة في قوله:
إذ قصده الإخراج بالتكليف
…
عن داعيات النفس في التصريف
والمعروف في المعنى المقصود به لفظ التصريف هنا هو "التصرف".
وقد استعمل هذه اللفظة مكررا لها.
نعم قد تكون هذه الألفاظ ثابتة عنده لغة من حيث النقل. أو من جهة النحو، فتكون جارية على سنن الصواب، ولكنه أمر لسنا على بصيرة به، فلذلك نظمناها في سلك ما فيه نظر وبحث وعليه اعتراض.
وأما ما وعد به من تقريب (الموافقات) للقارئ وتبسيطه له فإنه - على ما يظهر من تصرفاته في هذا النظم - قد توسل إليه مما يراه وسيلة إلى ذلك، وهو الترتيب للكلام على وجه يتضح به المراد منه، وحذف الاعتراضات والإيرادات، والاكتفاء بالإشارة إلى ورود الأدلة في الموضع الذي كلامه فيه، بيد أن هذا لا يبلغ مرتبة البيان الذي ينحل به ما انعقد من كلام المصنف، ويفتح به ما انغلق منه، ويظهر به ما انطوى فيه من فوائد معرفية، عميقة في أحوال النفوس والقلوب.
وعلى هذا فنظمه - رحمه الله تعالى - نظم سائغ شرابه، حلو مذاقه، جميل نسجه، لا ينكر ذلك إلا معاند يكابر الحقائق، ويجحدها، وأما ما فيه من أمور قد تعد حشوا، وغامض الكلام فإنه لا يرجع عليها بأي ثلب مؤثر في قيمته البيانية والعلمية، لما تقدم من أن المنظومات العلمية لا تخلو من مثل هذا.
المطابقة بين هذه المنظومة والأصل في المضمون (الموافقات)
.
يبدو من تصرفات الناظم - رحمه الله تعالى - في صوغ كلامه وبنائه أنه كان يعقل المعنى الذي يريد نظمه مستوعبا له، مدركا لمقاصده، بعد أخذه له من كلام المصنف، ثم يصوغه على الطريقة التي يرى أنها أليق بذلك من جهة المعنى ومن جهة نظم الكلام، وأقرب إلى التبليغ المطلوب.
ولم يكن - رحمه الله تعالى - يخرج عن مضمون الأصل ومحتواه، بل كان ذا التزام بذلك في ترتيب المسائل إلا أنه خالف المصنف في طريقة بنائها إذا وردت في تضاعيف تفاصيلها التقسيمات (الأقسام) وأحكامها.
فالمصنف قد درج على ذكر القسمين أو أكثر، ثم ذكر حكم كل واحد منهما، أو منها على طريقة اللف والنشر المرتب.
وأما الناظم فإنه قد يذكر القسم وحكمه بالتتابع أحيانا، ثم ينتقل إلى القسم الذي بعده فيذكره وحكمه على التوالي، ثم ينتقل إلى الذي بعده - إن وجد - وعلى هذا السبيل مضيه في ذلك.
والظاهر أن ذلك هو الغالب عليه في تصرفاته في هذا الشأن. وكذلك - أحيانا - يسقط لفظة الفصل ويتصرف في شأن التقديم والتأخير في الكلام، وقع ذلك منه في مواطن، ومن ذلك:
المسألة الأولى من النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
والمسألة الأولى من النوع الأول في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء.
وغير ذلك مما سلك فيه هذا المسلك، وهو سبيل اعتاد الذهاب فيه فكان هو الأصل عنده في هذا الشأن، وفي شأن التمثيل، فربما أتى بمثال غير الذي في الأصل كقوله:
ألا ترى لو أن قصرا ابتني
…
أمكن وصفه لكل الألسن
وقوله:
فإنه يعد في الأوصاف
…
كالترك للصوم في الاعتكاف
وكان ينتحي الإيجاز والاختصار والاقتصار على ذكر لب الموضوع وما هو
مهم فيه، وربما ترك كلاما طويلا للمصنف استغناء عنه بما ذكره من الفائدة والحكم، وهو ما يرى أنه موضع الحاجة، ومتعلق الغرض، فهو وإن كرر قواعدا أو فوائدا، فإن ذلك لم يكن منه إلا لأن في تكريره فائدة الترسيخ لها في الأذهان، ثم إن ذلك قد يكون لكون الكلام يتوقف بيانه على ذكرها، أو يكون ذكره لها تبعا للمصنف، أو لأهميتها وجلالة قدرها.
نعم يتصرف الناظم بزيادة ما به تمام الأبيات إذا احتاج إلى ذلك. كقوله:
وقد يقال إن الأخذ بالرخص
…
أولى من أوجه لذاك تقتنص
وقوله:
وكم لدى الكتاب من أدلة
…
في معنى الابتلاء مستقلة
وقوله:
فإن يكن يحصل حق العبد مع
…
ذاك ولو بعد الوقوع إن وقع
وما أشبه ذلك مما اضطر فيه إلى الزيادة في الكلام، بمقتضى القوافي أو الوزن أو للإيضاح المستغنى عنه وهذا ليس أمرا يشين فإن هذا معهود ومجرى عليه في المنظومات العلمية.
صورة شرحي لهذه المنظومة:
لم أتخط في شرحي لهذه المنظومة حد البيان لمضامينها ومعانيها، وقد انتحيت في ذلك منحى الإيجاز، وإن كانت بعض المواضع فيها جديرة بالإطناب لعظم فوائدها، وعظم الحاجة إليها.
ثم إني اعتمدت على الأصل (الموافقات) في هذا العمل، وفي هذا الشأن أحب أن أنبه إلى أمرين:
أحدهما: أني أتصرف أحيانا في كلام الشاطبي بالزيادة والنقص رغبة في البيان والإيضاح، والإيجاز، وبذلك فما أنقله منه قد لا يكون مطابقا للفظ الأصلي منه.
ثانيهما: إني في بعض المواضع أنقل عنه ولا أنسب له ما نقلته عنه فيها اتكالا على أن القارئ قد يدرك ذلك باعتبار قرينة مقام الكلام.
هذا وإن سعيي في هذا الشرح إنما هو لبيان معاني هذه المنظومة، وتقريبها لطلبة العلم ذوي المنة في الحفظ والتحصيل، ورب قائل يقول: أن هذا الشرح لو فرض أنه على أبدع صورة ممكنة لشارح مثلكم ما كان إلا نسخة مكررة من الأصل (الموافقات) وبذلك فإنه لم يكن إلا اجترار لما في هذا الأصل، فخلا بذلك من أي فائدة زائدة عن ذلك.
الذي أراه أن الأمر ليس كذلك فإن في الأصل نفسه ما يحتاج إلى البيان وقد سعينا إلى بيانه على قدر المستطاع، وربما أزلناه بالنقل لكلام بعض أهل العلم في ذلك.
ثم إن الغرض من النظم للمعارف هو حفظها المتوسل به إلى تحصيلها، والحفظ وحده لا يتم ذلك المراد منه ما لم يفهم متضمن المحفوظ، ويشرح معناه، فإذا فهم بعدما حفظ حصل المراد، وتحقق الغرض.
والأصل ليس شرحا على الوجه المطلوب، فلا سبيل إلى الاكتفاء بالتوسل به إلى ذلك المراد. ثم إن الذي دل عليه واقع الحال أنه قد يحصل الاستغناء بالنظم وشرحه على الأصل المنظوم، كما هو مشاهد ومدرك لكل من يفارس دراسة العلوم وتدريسها، حتى إن المنظومات وشروحها في الغالب هي المتداولة في مدارس العلوم الشرعية الأصلية الحقيقية، وما ذاك إلا لما في ذلك من مزية الجمع بين التحصيل والفهم.
وهذا لا ينكره إلا من ينكر المحسوسات والضروريات. فإذا عرفت هذا أدركت أن هذا العمل ليس اجترارا، ولا تكرارا، كما أنه ليس سهمه طائشا بل لغرض جليل القدر يعلم مما تقدم، وهذا سهمه مسدد يدركه كل من مارس تعلم العلوم وتعليمها بالطريقة الأصلية، على بداهة، وبالضرورة.
هذا على وجه الإجمال صورة شرحي هذا من جهة الغاية والمضمون، وأما من جهة المنهج فإني قد اخترت في شأنه الشرح الممتزج بالمتن - كما ترى - لأنه - في نظري - أفضل لأنه يفك به الكلام - المنظومة - ويظهر به المراد، ويصير جملة القول كأنه كتاب واحد.
وقد يلاحظ أنه في بدء الشرح كنت أذكر بعد المسألة مضمونا، ثم أقول بعد ذلك قال الناظم، ثم بدا لي تبديله بمزج كلام الناظم مع الشرح بحيث يتوسل إلى إسقاط هذه الكلمة التي أراها غير مناسبة لنسق الكلام وسلاسته، وإن كان ذكرها يوجه بأنه قصد به ذكر بدء النظم فقط.
والله ولي التوفيق.
النسخة التي شرحتها:
من الثابت المقرر أن النسخة المتداولة في هذه الأقطار نسخة واحدة، وهي التي جيء بها مصورة من مكتبة (الأسكوريال) ببلاد الإسبان، وهي في بعض منها معتاصة القراءة، وبعض كلماتها متداخلة مطموسة الحروف، وهذا يصرف عن فهمها، وقراءتها على ما هي عليها في واقع الأمر، ولكن نبذل أنا وجماعة من إخواني الطلبة في ذلك الجهد المستطاع، وفي أغلب الأحيان نطمئن إلى أنا موفقون في فهمها، وفي أحيان أخرى يغلب على ظننا ذلك، ولسنا على ثقة منه، ولأهل العلم حق التصحيح لما يرون أنا مخطئون في فهمه من ذلك وغيره، ولهم من الله سبحانه وتعالى الثواب والجزاء الأوفى بفضله وكرمه.
وقد كتبت هذه النسخة على وجه خالفت فيه بعض ما هو معتاد في رسم الكلمات ومن ذلك كتابة كلمة (لكن) بصورة (لاكن) ولفظة (على) الجارة بصورة (علا) وهكذا الأمر في سائر الكلمات ذات الألف المقصورة من هذا الصنف. وكلمة (حيثما) بصورة (حيث ما) وغير ذلك مما يعلم بالوقوف عليها.
وقد تواترت الأخبار أن بعض أهل الفضل في هذا البلد وغيره قد اشتغل بتحقيق النسخة وغيرها وقد كنت انتظرت برهة من الدهر ظهور هذا الأمر، لكنه ذلك تخلف عن التحقق، فاكتفيت بهذه النسخة على ما فيها.
لله الأمر من قبل ومن بعد.
الخطبة
1 -
الحَمْدُ للهِ الذِي مِنْ نِعْمَتِه
…
أَنْ بَثَّ فِي المَشْرُوعِ سِرَّ حِكْمَتِه
2 -
وَهَيَّأَ الْعُقُولَ لِلتَّصْرِيفِ
…
بِمُقْتَضَى الْخِطَابِ بِالتَّكْلِيفِ
3 -
وَأَرْسَلَ الرُّسْلَ مُبَشِّرِينَا
…
بَمَا أَعَدَّهُ وَمُنْذِرِينَا
4 -
وَخَصَّنَا بِمِسْكَةِ الْخِتَامِ
…
وَالرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ لِلْأنَامِ
5 -
وَمَنْ بِنُورِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَة
…
أَنْقَذَنَا مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهَالَة
6 -
مُحَمَّدٍ صَفْوَةِ الأنْبِيَاءِ
…
الْمُجْتَبَى بِالْمِلَّةِ السَّمْحَاءِ
7 -
أَرْسَلَهُ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَا
…
فَبَادَرُوا إِلَيْهِ مُهْطِعِينَا
8 -
وَدَخَلُوا فِي دِينِهِ أَفْوَاجَا
…
وَاتَّخَذُوا شِرْعَتَهُ مِنْهَاجَا
9 -
وَلَمْ يَحِدْ عَنْ ذَاكَ إِلَّا حَاسدُ
…
أَوْ جَاحِدٌ لِحَقِّهِ مُعَانِدُ
10 -
فَانْتَسَخَتْ بِشَرْعِهِ الشَّرَائِعُ
…
وَانْقَطَعَتْ عَنْ غَيْرِهِ الْمَطَامِعُ
11 -
وَاخْتَصَّهُ اللهُ بِمُعْجِزَاتِ
…
مِنْهَا الْكِتَابُ الْوَاضِحُ الْآيَاتِ
12 -
أَنْزَلَهُ مُفَصَّلَ الْأَحْكَامِ
…
مُبَيَّنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
13 -
صَادِعَةً آياتُهُ بِصِدْقِه
…
وَفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقَهِ
14 -
فَأَكمَلَ الدِّينَ بِهِ لِلأُمّةِ
…
مُتَمِّمًا عَلَيْهِمُ لِلنِّعْمَةِ
15 -
وَإِنَّ فِي الْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ
…
بِمِثْلِهِ لأعْظَمُ الْبُرْهَانِ
16 -
وإِذْ أَقَرَّ الشَّرْعَ أَصْلًا أَصْلَا
…
خُيِّرَ فَاخْتَارَ الرَّفِيقَ الأعْلَى
17 -
وَبَقِيَ الْهُدَى لِبَاقِي أُمَّتِه
…
فِي مُقْتَضَى كتَابِهِ وَسنَّتِه
18 -
عَلَيْهِ مِنْ بَاعِثِهِ بِالْحِكْمَةِ
…
أَزْكَى الصَّلَاةِ وَأَعَمُّ الرَّحْمَةِ
19 -
وَبَعْدُ فَالْعِلْمُ حَيَاةٌ ثَانِيَةْ
…
لَهَا دَوَامٌ وَالْجُسُومُ فَانِيَةْ
20 -
وَمُذْ غَدَا ظِلُّ الشَّبَابِ زَائِلَا
…
وَلَمْ أَنَلْ مِنَ الزَّمَانِ طَائِلَا
21 -
جَعَلْتُ فِي كتْبِ الْعُلُومِ أُنْسِي
…
وَعَنْ سِوَى الْعِلْمِ صَرَفْتُ نَفْسِي
22 -
فَالْعِلْمُ أَوْلَى مَا انْقَضَى بِه الزَّمَن
…
وَكُتْبُهُ هِيَ الْجَلِيسُ الْمُؤْتَمَن
23 -
وَالْمَوْرِدُ الْمُسْتَعْذَبُ الْفُرَاتُ
…
وَمِنْ أَجَلِّهَا الْمُوَافَقَاتُ
24 -
لِشَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ الْمُرَاقِبِ
…
ذَاكَ أَبُو إِسْحَاقَ نَجْلُ الشَّاطِبِي
25 -
فَهْوَ كِتَابٌ حَسَنُ الْمَقَاصِدِ
…
مَا بَعْدَهُ مِنْ غَايَةٍ لِقَاصِدِ
26 -
وَكَانَ قَدْ سَمَّاهُ بِالْعُنْوَانِ
…
وَاخْتَارَ مِنْ رُؤْيَا ذَا الاِسْمَ الثَّانِي
27 -
وَقَدْ سَمَعْتُ بَعْضَهُ لَدَيْهِ
…
وَمِنْهُ فِي تَرَدُّدِي إِلَيْه
28 -
لَاكِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِلَافِي
…
إِلَّا يَسِيرَ الْقَدْرِ غَيْرَ شَافِ
29 -
لأَنْ ثَنَى التَّقْصِيرُ مِنْ عِنَانِي
…
وَصَدَّنِي عَنْ قُرْبِهِ زَمَانِي
30 -
حَتَّى غَدَتْ حَيَاتُهُ مُنْقَضِيَه
…
فِي عَامَ تِسْعِينَ إِلَى سَبْعِ مِائَه
31 -
وَالآنَ مُذْ نَبَذَت عَنِّي شُغُلِي
…
وَصَارَ نَيْلُ الْعِلْمِ أَقْصَى أَمَلِي
32 -
جَدَّدْتُ عَهْدِي بِاجْتِنَاءِ زَهْرِهِ
…
وَرُضْتُ فِكْرِي فِي اقْتِفَا أَثَرِهِ
33 -
فَجُلْتُ مِنْهُ فِي مَدَى بَيَانِ
…
بَلْ رَوْضَةٍ مِنْ ثَمْرِهَا الْمَعَانِي
34 -
فُنُونُهَا تَشَعَّبَتْ أَفْنَانُهَا
…
وَاخْتَلَفَتْ بِأُكْلِهَا صِنْوَانُهَا
35 -
فَمَوْرِدُ الصَّادِي بِهَا رَحِيقُ
…
وَمُجْتَلَاهُ زَهْرُ أَنِيقُ
36 -
لَاكِنْ رَأَيْتُ مُرْتَقَاهُ صَعْبَا
…
وَمُنْتَدَاهُ فِي الْمَقَالِ رَحْبَا
37 -
فَمَالَتِ النَّفْسُ إِلَى تَحْرِيرِهِ
…
فِي رَجَزٍ قَصْدًا إِلَى تَيْسِيرِهِ
38 -
بِضَمِّ مَا انْتَشَرَ مِنْ فَوَائِدِه
…
وَنَظْمِ مَا انْتَثَرَ مِنْ فَرَائِدِه
39 -
بَنَيْتُ فِيهِ عَلَى الاقْتِضَاب
…
وَمِلْتُ لِلْإِيجَازِ لَا الإِطْنَابِ
40 -
مُنْتَخِبًا مِنَ الْفُصُولِ مَا نَحَا
…
وَمَا بِهِ الْفِكْرُ الْكَلِيلُ سَمَحَا
41 -
مِنِ اعْتِرَاضَاتٍ وَتَنْبِيهَاتِ
…
وَمِنْ أَدِلَّةٍ وَتَوْجِيهَاتِ
42 -
وَجَاعِلًا لَهُ مِنَ السِّمَاتِ
…
نَيْلَ الْمُنَى مِنَ الْمُوَافَقَاتِ
43 -
فَعَدُّهُ لَمْ يَعْدُ فِي الْمَسْطُورِ
…
سِتَّةَ آلافٍ مِنَ الْمَشْطُورِ
44 -
وَهَا أَنَا بِمَا قَصَدْتُ آتِ
…
مُقَدِّمًا حُكْمَ الْمُقَدِّمَاتِ
45 -
وَأَسْأَلُ التَّوْفِيقَ وَالْإِعَانَةْ
…
فِي شَأْنِهِ مِنْ رَبِّنَا سبْحَانَهْ
المقدمات
"
المقدمة الأولى
"
46 -
إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ قَطْعِيَّاتُ
…
لِأنَّهَا لِلشَّرْعِ كلِّيَّاتُ
47 -
وَذَا بِالاسْتِقْرَاءِ يَسْتَبِينُ
…
وَمَا كَذَا فَشَأْنُهُ الْيَقِينُ
48 -
بَيَانُهُ اسْتِقْرَاؤُنَا فِي الشَّرْعِ
…
لِحُكْمِهِ كَذَاكَ وَهْوَ قَطْعِي
49 -
أَوْ مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ ذِي لِلْقَطْعِ
…
أَوْ جِهَةِ الْمَجْمُوعِ وَهْوَ قَطْعِي
50 -
وَمَعَ ذَا لَوْ لَمْ تَكُنْ قَطْعِيَّة
…
لَاتَّصَفَتْ بِأَنَّهَا ظَنِّيَّة
51 -
وَلَوْ أُجِيزَ الظَّنُّ فِي كلِّيَّة
…
لَجَازَ فِي الْكُلِّيَّةِ الْأَصْلِيَّة
52 -
وَذَاكَ عَادَةً مُحَالٌ أَصْلُهُ
…
فَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ
53 -
هَذَا وَلَوْ جَازَ سِوَى الْيَقِينِ
…
فِيهَا لَجَازَ فِي أُصُولِ الدِّينِ
54 -
وَمَا كذَاكَ تِلْكَ بِاتِّفَاقِ
…
فَلْيُجْرَ حُكْمُ الْقَطْعِ بِالإِطْلَاقِ
55 -
فَهْيَ لَدَى الشَّرْعِ أُصُولٌ مِثْلُهَا
…
فَشَأْنُهَا مُتَّحِدٌ وَأَصْلُهَا
56 -
وَالْقَصْدُ كُلِّيَاتُهُ الْمَشْهُورَة
…
تَحْسِينًا أَوْ حَاجَةً أَوْ ضَرُورَة
57 -
وَهْيَ التِي قَدْ ضُمِنَ الْحِفْظُ لَهَا
…
وَأَخْبَرَ اللهُ بِأَنْ أَكْمَلَهَا
58 -
فَالْحِفْظُ وَالإِكْمَالُ لِلْكُلِّيِّ
…
دَلِيلُهُ تَخَلُّفُ الْجُزْئِيِّ
59 -
وَقَدْ نَفَى الْقَاضِي عَنِ الْأُصُولِ
…
مَا لَيْسَ قَطْعِيًّا عَلَى التَّفْصِيلِ
60 -
مِثْلُ تَفَاصِيلِ الْحَدِيثِ وَالْعِلَل
…
وَغَيْرِهَا مِمَّا عَلَى الظَّنِّ اشْتَمَل
61 -
وَاعْتَذَرَ الإمَامُ عَنْ إِدْخالِهِ
…
فِيهَا لِأَنَّ الْقَطْعَ مِنْ مَالِهِ
62 -
هْوَ وَإِنْ أُلْفِيَ غَيْرَ قَطْعِي
…
يَرْجِعُ فِي الْمَعْنَى لِحُكْمِ الْقَطْعِ
63 -
قَالَ الإمَامُ الْمَازِرِيُّ أَنَّهْ
…
لَا وَجْهَ أَنْ حُوشِيَ ذَا مِنْ هَنَّهْ
64 -
فَهْيَ قَوَانِينُ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا
…
فِي غَيْرِهَا فَصَحَّ فِيهَا رَسْمُهَا
65 -
قَالَ وَمِنْ أَبِي الْمَعَالِي يَحْسُنُ
…
إِخْرَاجُهَا مِنْهَا وَهَذَا بَيِّنُ
66 -
إِذِ الأُصُولُ عِنْدَهُ الْأَدِلَّة
…
وَهْيَ بِحُكْمِ الْقَطْعِ مُسْتَقِلَّة
67 -
كَمَا رَأَى الْقَاضِي لَا يَحْسُنَ بِه
…
إِخْرَاجُهَا تَمَسُّكًا بِمَذْهَبِه
68 -
حَيْثُ أُصُولُ الْفِقْهِ لَيْسَتْ عِنْدَهُ
…
إِلَّا أُصُولَ الْعِلْمِ فِيمَا حَدَّهُ
69 -
وَلَيْسَ بَيْنَ الأَصْلِ وَالْقَانُونِ
…
فَرْقٌ فَلَا بُدَّ مِنَ الْيَقِينِ
70 -
وَمَا مِنَ الأُصُولِ ظَنِّيًّا يَقَعْ
…
مِثْلَ التَّفَاصِيلِ فَآتٍ بِالتَّبَعْ
"
المقدمة الثانية
"
71 -
ذَا الْعِلْمُ ذُو أَدِلَّةٍ كلِّيَّة
…
عَادِيَّةٍ سَمْعِيَّةٍ عَقْلِيَّة
72 -
فَمَا أَتَى دَلِيلًا أَوْ مُقَدِّمَة
…
فِيهِ فَبِالْقَطْعِ تَكُونُ مُعْلِمَة
73 -
وَأَشْرَفُ الأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّة
…
مَا كَانَ ذَا دَلَالَةٍ قَطْعِيَّة
74 -
تَوَاتَرَتْ لَفْظًا عَلَيْهِ يُبْنَى
…
أَوْ مَا لَهُ تَوَاتُرٌ فِي الْمَعْنَى
75 -
أَوْ مَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنِ اسْتِقْرَاءِ
…
مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَاءِ
76 -
وَحُكْمُ كُلِّ ذَاكَ فِي الدَّلَالَة
…
وُجُوبٌ أَوْ جَوَاز أَوْ إِحَالَه
77 -
وَيَلْحَقُ الْوُقُوعُ فِي الْجَمِيعِ
…
بِهَذِهِ وَعَدَمُ الْوُقُوعِ
78 -
وَكوْنُهُ حُجَّةً أَوْ لَا ذَلِكَا
…
يُوْخَذُ مِنْ وُقُوعِهِ كذَلِكَا
79 -
وَمَا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْعَكْسِ اشْتَمَلْ
…
مَرْجِعُهُ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْأوَلْ
80 -
وَكَوْنُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ
…
لَيْسَ مِنَ الْأُصُولِ بِالْإِلْزَامِ
81 -
مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا أُصُولًا وَالذِي
…
يُدْخِلُهَا خَلْطَ الْعُلُومِ يَحْتَذِي
"
المقدمة الثالثة
"
82 -
لَا تَدْخُلُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّة
…
ذَا الْعِلْمَ إِلَّا تَخْدِمُ النَّقْلِيَّة
83 -
فَالْعَقْلُ فِي الْمَشْرُوعِ لَا مَجَالَ له
…
إِلَّا بِقَدْرِ النَّقْلِ فِيمَا احْتَمَلَه
84 -
إِذًا فَقَدْ صَحَّ مِنَ السَّمْعِيَّة
…
بِأَنَّهَا الأَدِلَّةُ الْمَرْعِيَّة
85 -
وَيَنْدُرُ الْقَطْعِيُّ فِي آحَادِ
…
أَدِلَّةِ السَّمْعِ فِي الاِنْفِرَادِ
86 -
لِأَجْلِ أَنَّ قَطْعَهَا مَوْقُوفُ
…
عَلَى أُمُورٍ ظَنُّهَا مَعْرُوفُ
87 -
مِنْهَا طَرِيقُ النَّقْلِ لِلُّغَاتِ
…
وَمُقْتَضَى مَذَاهِبِ النُّحَاةِ
88 -
وَمَا بِهِ التَّرْتِيبُ ذُو امْتِيَازِ
…
وَفَقْدُ الاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ
89 -
وَالنَّسْخِ وَالْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ
…
وَالنَّقْلِ لِلشَّرْعِيِّ وَالْعَادِيِّ
90 -
وَالْحَذْفِ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّخْصِيصِ
…
بَلْ يُسْتَفَادُ الْقَطْعُ مِنْ نُصُوصِ
91 -
تَضَافَرَ اسْتِقْرَاؤُهَا فِي مَعْنَا
…
فَجَاوَزَتْ لِلْقَطْعِ فِيهِ الظَّنَّا
92 -
فَالاجْتِمَاعُ فِيهِ بِالْإِطْلَاقِ
…
مَا لَا يَكُونُ مَعَ الافْتِرَاقِ
93 -
وَهْوَ كَذِي تَوَاتُرٍ فِي الْمَعْنَى
…
كجُودِ حَاتِمٍ بِحَيْثُ عَنَا
94 -
شَانُ ثُبُوتِ الْقَطْعِ بِالصَّلَاةِ
…
وَالْحَجِّ وَالصّيَامِ وَالزَّكَاةِ
95 -
وَعَدَمُ اعْتِبَارِ هَذَا أَدَّى
…
قَوْمًا لِأَنْ هَدُّوا النُّصُوصَ هَدَّا
96 -
وَفِي اعْتِبَارِه فِي الاسْتِدْلَالِ
…
رَفْعٌ لِمَا يَعْرِضُ مِنْ إِشكَالِ
97 -
أَلَا تَرَى الْخَمسَ الضَّرُورِيَاتِ
…
مَعْلُومَةَ الْقَطْعِ عَلَى الْبَتَاتِ
98 -
لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنِ
…
بَلْ جُمْلَةٍ أَفْضَتْ إِلَى التَّيَقُّنِ
99 -
وَسَائِرُ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ
…
بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ الْمَرْعِيَّة
100 -
وَبِاعْتِبَارِ حَالَةِ الْمجْمُوعِ
…
تَبَايُنُ الأُصُولِ لِلْفُرُوعِ
101 -
وَاعْلَمْ بِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ شَرْعِي
…
مُلَائِمٌ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ
102 -
لَمْ يَشْهَدِ النَّصُّ عَلَى التَّعْيِينِ
…
لَهُ صَحِيحٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ
103 -
مُرْسَلُ الاسْتِدْلَالِ هَذَا أَصْلُهُ
…
لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ نَقْلُهُ
104 -
وَأَصْلُ الاسْتِحْسَانِ مِثْلُ ذَلِكْ
…
وَهْوَ عَلَى رَأَي الإِمَامِ مَالِكْ
105 -
تَقْدِيمُهُ مُرْسَلَ الاسْتِدْلَالِ
…
عَلَى الْقِيَاسِ الثَّابِتِ الإِعْمَالِ
"
المقدمة الرابعة
"
106 -
كُلُّ مَنُوطٍ بِأُصُولِ الْفِقْهِ
…
لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فَرْغ فِقْهِي
107 -
فَإِنَّ جَعْلَهُ مَعَ الأُصُولِ
…
مِنْ جُمْلَةِ التَّشْغِيبِ وَالتَّطْوِيلِ
108 -
كمِثْلِ لَا تَكْلِيفَ عِنْدَ الشَّرْعِ
…
إِلَّا بِفِعْلٍ وَابْتِدَاءِ الْوَضْعِ
109 -
وَالأمْرِ لِلْمَعْدُومِ وَالرَّسُولُ هَلْ
…
كَانَ لَهُ تَعَبُّدًا شَرْعُ الأَوَلْ
110 -
وَلَيْسَ بِاللَّازِمِ أَنْ يَكُونَ مَا
…
عَلَيْهِ فِقْة بِالتِي لَهَا انْتَمَى
111 -
كَالنَّحْوِ وَالْبَيَانِ وَالتَّصْرِيفِ
…
وَكَالْمَعَانِي الآتِي فِي الْحُرُوفِ
112 -
وَكُلُّ مَا أَشْبَهَهُ فِي حُكْمِهِ
…
مِمَّا انْقَضَى الْبَحْثُ بِهِ فِي عِلْمِهِ
113 -
لَكِنْ هُنَا مَسْأَلَةٌ خَطِيرَة
…
وَفِي الأُصُولِ عِنْدَهُمْ شَهِيرَة
114 -
وَهْيَ الْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ كلُّهُ
…
كَذَلِكَ السُّنَّةُ أَيْضًا مِثْلُهُ
115 -
مِنْ جِهَةِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي
…
وَمُقْتَضَى أَسَالِيبِ الْبَيَان
116 -
لَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْمُعَرَّبَاتِ
…
وَكُلُّ ذَا بَيَانُهُ سَيَاتِي
117 -
وَما مِنَ الأُصُولِ فِيهِ يَخْتَلِف
…
وَالْخُلْفُ لَا يَأْتِي بِفِقْهٍ مُؤْتَنِف
118 -
فَالأَخْذُ بِالتَّصْحِيحِ وَالتَّزْيِيفِ فِي
…
مَوَاقِعَ الْخُلْفِ مِنَ التَّكَلُّفِ
119 -
كَالْفَرْضِ تَخْيِيرًا أَوِ الْمَمْنُوعِ
…
وَحَالَةِ الْكُفَّارِ فِي الْفُرُوعِ
"
المقدمة الخامسة
"
120 -
مَا لَيْسَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ عَمَلُ
…
أَوِ اعْتِقَادٌ مَنْعُهُ لَا يُشْكلُ
121 -
دَلِيلُهُ أَنَّا رَأَيْنَا الشَّرْعَ لَا
…
يَسْمَحُ فِيمَا لَا يُفِيدُ عَمَلَا
122 -
وَذَا لَهُ مِن أَوْضَحِ الأَدِلَّة
…
جَوَابُ مَنْ سَأَلْ عَنِ الأَهِلَّة
123 -
وَرُبَّمَا قَدْ يُفْهِمُ امْتِنَاعَهْ
…
جَوَابُ جِبْرِيلَ عَنْ أَمْرِ السَّاعَهْ
124 -
وَقَدْ أَتَى النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ
…
عَنْ غَيْرِ مَا يُفِيدُ فِي الأَعْمَالِ
125 -
وَعَدَمُ اسْتِحْسَانِهِ مِنْ أَوْجُهِ
…
مِنْهَا التَّشَهِّي وَهْوَ عَنْهُ قَدْ نُهِي
126 -
وَالْخَوْضُ فِيمَا شَأْنهُ لَا يُغْنِي
…
وَأَنَّهُ شُغْلٌ بِمَا لَا يَعْنِي
127 -
وَأَنَّهُ دَاعِيَةُ النُّفُورِ
…
مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ وَالْغُرُورِ
128 -
وَلَا يُقَالُ الْعِلْمُ بِاسْتِغْرَاقِ
…
مُطَّلَبٌ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ
129 -
وَأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْضَ النَّاسِ .. مَا فِي الْعُلُومِ كُلِّهَا مِنْ بَاسِ
130 -
وَأَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَة
…
فَيَنْبَغِي أَنْ تُقْتَفَى دِرَايَة
131 -
وَحَضَّ جَلَّ وَعَلَا عَلَى النَّظَر
…
فِي مَلَكُوتِهِ وَذَاكَ مُعْتَبَر
132 -
وَالْعِلْمُ بِالتَّفْسِيرِ مَطْلُوبٌ وَقَدْ
…
يَكُونُ فِيمَا لَا لِتَكْلِيفٍ وَرَدْ
133 -
لِأَنَّنَا نَقُولَ لَيْسَ الأَمْرُ
…
كذَاكَ وَالْمَطْلُوبُ ذَاكَ الْقَدْرُ
134 -
وَمَا أَتَى فِي ذَاكَ مِنْ تَنْصِيصِ
…
مُحْتَمِلُ التَّقْيِيدِ وَالتَّخْصِيصِ
135 -
وَالْفَرْضُ مِمَّا ذُمَّ فِي الْعُلُومِ
…
الْعِلْمُ أَنَّهُ مِنَ الْمَذْمُومِ
136 -
وَرَدُّ كُلِّ فَاسِدٍ مَمْنُوعِ
…
بِمُقْتَضَى مَا جَاءَ فِي الْمَشْرُوعِ
137 -
وَقِصَّةُ الرَّدِّ لِسِحْرِ السَّحَره
…
بِغَيْرِ مَا جَاؤُوا بِهِ مُعْتَبَرَه
138 -
وَقَدْ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ
…
عَلَى يَدَيْ وَلِيٍّ أَوْ ذِي عِلْمِ
139 -
وَمَا يُدَاخِلُ فِي الاعْتِبَارِ
…
بِكُلِّ مَا بَدَا مِنَ الآثَارِ
140 -
تَتَبُّعُ الأَمْرِ الْعَسِيرِ فِي الطَّلَبْ
…
وَكُلُّ مَا لَا عَهْدَ فِيهِ لِلْعَربْ
141 -
فَإِنَّ ذَا مِنْ عَادَةِ الْفَلَاسِفَةْ
…
وَهْيَ لِسُنَّةِ الْهُدَى مُخَالِفَةْ
142 -
وَمَا مِنَ التَّفْسِيرِ فِيمَا لَمْ يَقَعْ
…
فِي ظِلِّهِ التَّكْلِيفُ فَهْوَ بِالتَّبَعْ
143 -
لِذَلكَ لَمْ يَسَلْ عَنِ الأَبِّ عُمَرْ
…
وَعَنْ تَخَوُّفٍ سُؤَالُهُ صَدَرْ
144 -
وَكُلُّ مَا تَوَقَّفَ الْمَطْلُوبُ
…
عَلَيْهِ فَهْوَ مِثْلُهُ مَطْلُوبُ
145 -
كَالنَّحْوِ وَاللُّغَاتِ وَالتَّفْسِيرِ
…
وَذَا سَيَأْتِي بَعْدُ فِي التَّقْرِيرِ
"
المقدمة السادسة
"
146 -
وَمَا بِهِ مَعْرِفَةُ الْمَطْلُوبِ
…
لَهُ طَرِيقٌ أَوَّلٌ تَقْرِيبِي
147 -
مُسْتَعْمَل لِلشَّرْعِ فِي الأُمُورِ
…
مُوَصِّل يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ
148 -
إِذْ هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْعَرَبِ
…
وَالشَّرْعُ جَاءَ بِلِسَانٍ عَرَبِي
149 -
كسَائِلٍ عَنِ النُّجُومِ قُلْتَ مَا
…
تُبْصِرُهَا لَيْلًا تُضِيءُ فِي السَّمَا
150 -
ثُمَّ لَهُ أَيْضًا طَرِيقٌ ثَانِ
…
لَا يَشْمَلُ الْجُمْهُورَ بِالْبَيَانِ
151 -
فَبُعْدُهُ عَنِ الطِّبَاعِ أَهْمَلَهْ
…
وَصَدَّهُ عَنِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهْ
152 -
وَمُقْتَضَاهُ طَلَبُ الْمَحْدُودِ
…
مَعْرِفَةً مِنْ جِهَةِ الْحُدُودِ
153 -
كذَلِكَ التَّصْدِيقُ حَيْثُ تَأتِي
…
مُقَدِّمَاتُهُ ضَرُورِيَّاتِ
154 -
أَوْ تَقْتَضِي الْقُرْبَ مِنَ الضَّرُورِي
…
فَهْوَ الذِي يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ
155 -
وَحُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ ذُو ثَبَاتِ
…
وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَاتِ
156 -
كَقَوْلهِ أَفَرَأَيْتُمْ نَسَقَا
…
وَغَيْرِهَا كَمِثْلِ أَمَّنْ خَلَقَا
157 -
وَمَا يُرَى عَنْ حُكْمِ هَذَا قَدْ خَرَج
…
فَمُتْلِفٌ لِلْعَقْلِ مُودٍ لِلْحَرَج
"
المقدمة السابعة
"
158 -
وَمَا مِنَ الْعِلْمِ إِلَى الشَّرْعِ انْتَسَبْ
…
وَجَاءَتِ النُّصُوصُ فِيهِ بِالطَّلَبْ
159 -
فَهْوَ الذِي يَكُونُ لِلتَّعَبُّدِ
…
وَسِيلَةً لَا لِسِوَى ذَا الْمَقْصِدِ
160 -
وَكَمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ دَلِيلِ
…
مِنَ الْحَدِيثِ وَمِنَ التَّنْزِيلِ
161 -
وَإِنْ بَدَا وَجْهٌ لِغَيْرِ الْعَمَلِ
…
فَهْوَ بِقَصْدٍ تَابِعٍ لَا أَوَّلِ
162 -
وَلَيْسَ فَضْلُ الْعِلْمِ إِلَّا بِالْعَمَلْ
…
إِذَا عَلَى الْخُلُوصِ للهِ اشْتَمَلْ
163 -
دَلِيلُهُ الذَّمُ لِغَيْرِ الْعَامِلِ
…
بِعِلْمِهِ فِي عَاجِلٍ وَآجِلِ
164 -
وَأَفْضَلُ الْعِلْمِ عَلَى التَّحْقِيقِ
…
الْعِلْمُ بِاللهِ مَعَ التَّصْدِيقِ
165 -
لِذَا أَشَدُّ الذَّمِّ ذَمُّ جَاحِدِ
…
مُكَذِّبٍ مَعْ عِلْمِهِ بِالْوَاحِدِ
166 -
وَالتَّابِعِيُّ الْقَصْدُ لِلتَّشْرِيفِ
…
وَلاكْتِسَابِ الْمَنْصِبِ الْمُنِيفِ
167 -
وَالْبِرِّ وَالتَّعْظِيمِ عِنْدَ الْخَلْقِ
…
وَحَمْلِهِ عَلَى التُّقَى وَالصِّدْقِ
168 -
إِلَى سِوَى ذَاكَ مِنَ الْمَآثِرِ
…
وَالرُّتَبِ السَّامِيَةِ الْمَظَاهِرِ
169 -
وَمَعَ ذَا فَإِنَّ فِي الْعُلُومِ
…
لَذَّةَ الاسْتِيلَا عَلَى الْمَعْلُومِ
170 -
وَذَاكَ فِيهِ رَاحَةُ الْقُلُوبِ
…
وَظَفَرُ النُّفُوسِ بِالْمَطْلُوبِ
171 -
فَإِنْ يَكُنْ ذَا خَادِمًا لِأَصْلِي
…
صَحَّ ابْتِدَاءً قَصْدُهُ بِالنَّقْلِ
172 -
وَغَيْرُ مَا يَخْدُمُهُ الْقَصْدُ ابْتَدَا
…
إِلَيْهِ مَمْنُوعٌ بِنَهْيٍ وَرَدَا
173 -
كَالْقَصْدِ بِالْعِلْمِ لِدُنْيَا أَو رِئَا
…
أَوْ لِثَنَاءٍ أَوْ مِرَاءِ مَنْ رَأَى
174 -
وَمَا يُرَى مَظِنَّةً لِلْعَمَلِ
…
فِي أَصْلِهِ فَلَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ
"
المقدمة الثامنة
"
175 -
مُعْتَبَرُ الْعِلْمِ إِذَا الْعِلْمُ حَصَلْ
…
مَا كَانَ مِنْهُ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلْ
176 -
وَهْوَ الذِي يُلْجِمُ مَنْ حَوَاهُ
…
فَلَا يُرَى مُرْتَكِبًا هَوَاهُ
177 -
وَجَاءَ مَدْحُهُ عَلَى الإِطْلَاقِ
…
مِنْ جِهَةِ الشَّارعِ بِاتِّفَاقِ
178 -
وَرُتَبُ الْعِلْمِ ثَلَاث تُعْتَبَر
…
فَمِنْهَا الأولَى لِلذِي فِيهِ نَظَر
179 -
وَهْوَ عَلَى التَّقْلِيدِ بَعْدُ لَمْ يَزَلْ
…
فَذَا الذِي لَهُ دُخُولٌ فِي الْعَمَلْ
180 -
بِمُقْتَضَى تَحَمُّلِ التَّكْلِيفِ
…
وَبَاعِثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّخْوِيفِ
181 -
وَالْعِلْمُ بِالْحَمْلِ هُنَا لَا يَكْتَفِي
…
بَلْ لِمُقَوِّ زَائِدٍ قَدْ يَقْتَفِي
182 -
مِنْ زَجْرٍ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ تَأْدِيبِ
…
دَلِيلُهُ عَوَائِدُ التَّجْرِيبِ
183 -
ثَانِيَةٌ رُتْبَةُ مَنْ قَدِ ارْتَفَعْ
…
عَنْ رُتْبَةِ الْمُقَلِّدِينَ إِذْ بَرَعْ
184 -
فِي عِلْمَيِّ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ
…
مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ
185 -
فَهَوُلَاءِ رُبَّمَا خَفَّ الْعَمَلْ
…
عَلَيْهِمُ وَلَمْ يُدَاخِلْهُم خَلَلْ
186 -
لأجْلِ مَا حَازُوا مِنَ التحْقِيقِ
…
فِي عِلْمِهِمْ بِشِدَّةِ التَّصْدِيقِ
187 -
لَكِنَّ حَمْلَ الْعِلْمِ قَدْ لَا يَكْفِي
…
إذْ لَمْ يَصِرْ فِي حَقِّهِمْ كَالْوَصْفِ
188 -
فَرُبَّمَا دَعَتْهُمُ دَوَاعِي
…
مِنْ جِهَةِ النُّفُوسِ وَالطِّبَاعِ
189 -
تُلْجِئُ فِيهِمْ إِلَى الاِفْتِقَارِ
…
لِزَائِدٍ عَلَى الْمُقَوِّي الْجَارِي
190 -
مِن طَلَبِ الْمَحَاسِنِ الْعَادِيَّةْ
…
وَلَائِقِ الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّةْ
191 -
وَذَاكَ أَيْضًا بِدَلِيلِ التَّجْرِبَةْ
…
لَكِنَّهَا أَخْفَى بِهَذِي الْمَرْتَبَةْ
192 -
ثَالِثَةٌ لِمَنْ حُصُولُ عِلْمِهِ
…
قَدْ صَارَ وَصْفًا ثَابِتًا كفَهْمِهِ
193 -
وَرَاسِخُ الْعِلْمِ لِهَؤُلَاءِ
…
لَيْسَ يُخَلِّيهِمْ مَعَ الأهْوَاءِ
194 -
فَيَرْجِعُونَ دَائِمًا إِلَيْهِ
…
رُجُوعَهُمْ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ
195 -
وَهَذ الرُّتْبَةُ مُسْتَقِلَّةْ
…
بِمُقْتَضَى قَوَاطِعِ الأَدِلَّةْ
196 -
وَأَهْلُهَا فِي الْعِلْمِ رَاسِخُونَ
…
وَهُمْ بِهِ إِذْ ذَاكَ مَحْفُوظُونَ
197 -
إِذْ هُمْ مِنَ الشُّهُودِ بِالتَّوْحِيدِ
…
وَالْمُقْتَضَي عَدَالَةُ الشُّهُودِ
198 -
وَلَا يُقَالُ إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ
…
قَدْ يَقَعُونَ فِي ارْتِكَابِ الْإِثْمِ
199 -
وَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ حَافِظًا لَهُمْ
…
فَقَدْ تَسَاوَوْا بِالذِينَ قَبْلَهُمْ
200 -
إِذْ قَدْ يُجَابُ أَن ذَاكَ إِنَّمَا
…
يَكُونُ مِمَّنْ لِلرُّسُوخِ عَدِمَا
201 -
أَوْ قَدْ يَكُونُ فَلْتَةً أَوْ غَفْلَةْ
…
وَمِثْلُ هَذَا لَا يُنَافِي أَصْلَهْ
202 -
وَالْعِلْمُ أَمْرَ بَاطِن مَعْنَاهُ
…
يَرْجِعُ لِلْخَشْيَةِ مُقْتَضَاهُ
203 -
وَقِيلَ نُورٌ فِي الْقُلُوبِ هَادِي
…
مِنْ مُطْلِعِ التَّشْرِيعِ ذُو اسْتِمْدَادِ
"
المقدمة التاسعة
"
204 -
وَانْقَسَمَ الْعِلْمُ لِصُلْبٍ وَمُلَحْ
…
وَمَا سِوَى هَذَيْنِ فَهْوَ مَطَّرَحْ
205 -
فَالصُّلْبُ مَا أَفَاد حُكْمَ الْقَطْعِ
…
أَوْ كَانَ رَاجِعًا لِأصْلٍ قَطْعِي
206 -
وَهْوَ أُصُولُ الْمِلَّةِ الْكُلِّيَّةْ
…
مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّهْ
207 -
وَمُكْمِل لَهَا مِنَ التَّحْسِينِي
…
أَوْ مُكْمِلٌ كُلًّا عَلَى التَّعْيِينِ
08 -
وَجُمْلَةُ الْفُرُوعِ بِاسْتِغْرَاقِ
…
مُسْنَدَةٌ لَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ
209 -
وإِنَّ ذَا الْقِسْمَ لَهُ أَوْصَافُ
…
ثَلَاثَةٌ لَهُ بِهَا اتِّصَافُ
210 -
وَهْيَ الْعُمُومُ مَعَ الاطِّرَادِ
…
وَذَا مِنَ الشَّارعِ أَمْرٌ بَادِ
211 -
إِذْ لَيْسَ فِي كُلِّيَّةِ الْعُمُومِي
…
خُصُوصٌ إِلَّا وَهْوَ فِي عُمِومِ
212 -
ثُمَّ ثُبُوتُهُ بِكُلِّ حَالِ
…
مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلٍ وَلَا زَوَالِ
213 -
وَهَكَذَا الأَحْكَامُ لَا تَزُولُ
…
وَلَا يُرَى لِشَأْنِهَا تَبْدِيلُ
214 -
وَأَنَّهُ الْحَاكِمُ لَا الْمَحْكُومُ
…
عَلَيْهِ وَالْحُكْمَ بِذَا مَحْتُومُ
215 -
وَمُلَحُ الْعِلْمِ بِهَذَا الْبَيْنِ
…
مَا كَانَ رَاجِعًا لأَصْلٍ ظَنِّي
216 -
أَوْ قَاطِعٍ لَكِنَّ مَا يَتَّصِفُ
…
بِهِ لَهُ عَنْ أَصْلِهِ تَخَلُّفُ
217 -
وَشَرْطُهُ اسْتِحْسَانُهُ بِالْعَقْلِ
…
وَلَا يُخِلَّ حُكْمُهُ بِأَصْلِ
218 -
ثُمَّةَ بِاسْتِخْرَاجِ بَعْضِ الْحِكَمِ
…
فِيمَا إِلَى التَّعَبُّدَاتِ يَنْتَمِي
219 -
مِثْلُ الْمُقَدَّرَاتِ وَالْهَيْئَاتِ
…
وَمِثْلُهَا تَعَيُّنُ الأَوْقَاتِ
220 -
وَذَاكَ كَالتَّعْلِيلِ فِي النَّوَادِرِ
…
بَعْدَ السَّمَاعِ بِاعْتِبَارٍ ظَاهِرِ
221 -
وَرُبَّمَا يُلْفَى بِهَذَا الْقِسْمِ
…
مَا قَدْيُرَى كَثَالِثٍ فِي الْحُكْمِ
222 -
بِكَوْنِهِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلِ
…
تَجْنِي عَلَى الْمَشْرُوعِ بِالتَّأْوِيلِ
223 -
وَمِنْهُ بِالْتِزَامِ كَيْفِيَّاتِ
…
فِي بَعْضِ الْأخْبَارِ الْمُسَلْسَلَاتِ
224 -
إِذْ تَرْكُ ذَاكَ الالْتِزَامِ الْمُتَّبَعْ
…
بِمُقْتَضَاهُ لَا يُخِلُّ أَنْ وَقَعْ
225 -
وَمِنْهُ بِالْقَصْدِ إِلَى التَّانُّقِ
…
فِي أَخْذِ مَا يَحْمِلُهُ مِنْ طُرُقِ
226 -
يَقْصِدُ بِاسْتِخْرَاجِهَا التَّكَاثُرَ
…
فِي طُرُقِ الْمَرْوِيِّ لَا التَّوَاتُرَ
227 -
وَمِنْهُ أَخْذُ الْعِلْمِ فِي أَحْكَامِ
…
مِنَ الْمَرَائِي حَالَةَ الْمَنَامِ
228 -
إِذْ أَصْلُهَا لَيْسَ بِذِي اعْتِبَارِ
…
فِيمَا سِوَى التَّبْشِيرِ وَالإِنْذَارِ
229 -
وَمِنْهُ الاخْتِلَافُ فِي حُكْمٍ وَلَا
…
يُفِيدُ الاخْتِلَافُ فِيهِ عَمَلَا
230 -
وَمِنْهُ الاسْتِشْهَادُ بِالأَشْعَار فِي
…
مَعْنىً كمَا فِي الْوَعْظِ وَالتَّصَوُّفِ
231 -
إِذْ شَأْنُهَا إِمَالَةُ الْقُلُوبِ
…
وَرَدُّهَا لِلْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ
232 -
وَمِنْهُ أَنْ يُثَبِّتَ الْمَعْنَى بِمَا
…
يَفْعَلُهُ مَنْ بِالصَّلَاحِ وُسِمَا
233 -
مِنْ جِهَةِ التَّحْسِينِ لِلظَّنِّ فَقَطْ
…
مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ شَرْطٍ مُشْتَرَطْ
234 -
وَمِنْهُ الاسْتِدْلَالُ فِي الْأَعْمَالِ
…
بِمَا يَقُولُهُ أُولُو الأَحْوَالِ
235 -
فَهْوَ وَإِنْ صَحَّ لَهُمْ عِنْدَ النَّظَرْ
…
غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِجُمْهُورِ الْبَشَرْ
236 -
فَالشَّرْعُ حَاكِمٌ عَلَى الْجُمْهُورِ
…
بِالْمُتَوَسِّطَاتِ فِي الأمُورِ
237 -
وَمِنْهُ بِالأَخْذِ بِأَصْلِ عِلْمِ
…
فِي غَيْرِهِ تَوَصُّلًا لِلْحُكْمِ
238 -
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي أَصْلِ
…
وَلَا يَمُتَّا بِمَتَاتٍ عَقْلِي
239 -
وَإِنَّ مِنْ مُسْتَطْرَفِ الأَنْبَاءِ
…
فِي ذَاكَ مَا يُرْوَى عَنِ الْفَرَّاءِ
240 -
كَانَ يَقُولُ أَنَّ كُلَّ مَنْ بَرَعْ
…
فِي عِلْمِهِ فِي غَيْرِهِ بِهِ انْتَفَعْ
241 -
قِيلَ فَقَدْ أَحْكَمْتَ عِلْمَ النَّحْوِ
…
فَمَا تَرَى فِيمَنْ سَهَا فِي السَّهْوِ
242 -
قَالَ أَرَى ذَاكَ لَهُ يُغْتَفَرُ
…
فَإِنَّ ذَا التَّصْغِيرِ لَا يُصَغَّرُ
243 -
وَمِثْلُ هَذَا مَا حَكَوْا فِي الْمَعْنَى
…
فِي إِنَّ هَذَا في عَنِ ابْنِ الْبَنَّا
244 -
وَمَا كَهَاتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ
…
مَا لِأبِي يُوسُفَ وَالْكِسَائِي
245 -
فِي أَنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَهْوَ يَرْجِعُ
…
لِأَصْلِ نَحْوٍ حُكْمُهُ مُتَّبَعُ
246 -
وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِصُلْبٍ أَوْ مُلَحْ
…
فَعَدَمُ اعْتِبَارِهِ أَمْرٌ وَضَحْ
247 -
وَهْوَ الذِي يَكُرُّ بِالإِبْطَالِ
…
عَلَى أُصُولِ الْعِلْمِ وَالأَعْمَالِ
248 -
دونَ اسْتِنَادِهِ إِلَى قَطْعِيِّ
…
فِي أَصْلِهِ وَلَا إِلَى ظَنِّيِّ
249 -
وَلَا يُرَى فسْتَحْسَنًا بِالْعَقْلِ
…
مَعْنىً وَلَا مسْتَمْلَحًا فِي الأصْلِ
"
فصل
"
250 -
هَذَا وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْأوَّلِ مَا
…
يَصِيرُ فِي الثَّانِي بِهِ مُرْتَسِمَا
251 -
وَذَا لَهُ تَصَوُّرٌ فِي الْوَاقِعِ
…
بِخَلْطِ عِلْمٍ بِسِوَاهُ نَافِعِ
252 -
كَذَاكَ قَدْ يَعْرِضُ فِيهِ أَنْ يُرَى
…
كَثَالِثٍ قَدْ نَافَرَ الْمُعْتَبَرَا
253 -
بِمِثْلِ أَنْ يُلْقَى لِغَيْرِ أَهْلِهِ
…
تَبَجُّحًا بِنَقْلِهِ وَحَمْلِهِ
254 -
أَوْ مَالَهُ خَطْرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ
…
لِغَيْرِ ذِي عَقْلٍ لِذَاكَ قَابِلِ
255 -
بِضِدِّ مَا يُوثَرُ فِي الْعُلُومِ
…
وَبَثِّهَا مِنْ أَدَبِ التَّعْلِيمِ
256 -
فَمثْل ذَا يُوقِعُ فِي الْمَحْظُورِ
…
وَالنَّهْيُ عَنْهُ جَاءَ فِي الْمَأْثُورِ
"
المقدمة العاشرة
"
257 -
إِنْ عُضِدَ الْمَنْقُولِ بِالْمَعْقُولِ
…
فَشَرْطُهُ تَقَدُّمُ الْمَنْقُولِ
258 -
إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ نَظَرْ
…
إِلَّا بِقَدْرِ مَا مِنَ النَّقْلِ ظَهَرْ
259 -
دَلِيلُة لَوْ جَازَ حُكْمُ الْعَقْلِ
…
لَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ حُكْمُ الأَصْلِ
260 -
لَكِنَّ ذَا غَيْرُ صَحِيحٍ أَصْلُهُ
…
كذَاكَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ
261 -
وَمَعَ ذَا التَّحْسِين وَالتَّقْبِيحُ
…
مِنْ حُكْمِهِ وَرَدُّهُ الصَّحِيح
262 -
وَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ بِالتَّخْصِيصِ
…
بِالْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ لِلْمنْصُوصِ
263 -
إِذْ لَيْسَ فِيهِ الْعَقْلُ بِالْحُكْمِ انْفَرَدْ
…
بَلْ بِدَلِيلِ السَّمْعِ فِي ذَاكَ اعْتَضَدْ
"
المقدمة الحادية عشرة
"
264 -
قَدْ صَحَّ أَنَّ الْعِلْمَ أعْنِي الْمُعْتَبَرْ
…
فِيمَا يُفِيدُ عَمَلًا قَدِ انْحَصَرْ
265 -
وَأَصْلُهُ الأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةْ
…
وَمَرَّ قَبْلُ أَنَّهَا المسَّمْعِيَّةْ
266 -
فَالْعِلْمُ مِنْ تِلْقَائِهَا مَكْسُوبُ
…
فَحَصْرُهَا إِذًا هُوَ الْمَطْلُوبُ
"
المقدمة الثانية عشرة
"
267 -
مِنْ أنْفَعِ الطُّرقِ لِنَيْلِ الْعِلْمِ
…
تَحْصِيلُهُ مِنْ ذِي تُقىً وَفَهْمِ
268 -
مُتَّصِفٍ فِي الْعِلْمِ بِالرُّسُوخِ
…
إِذْ قِيلَ لَا بُدَّ مِنَ الشُّيُوخِ
269 -
فَهُمْ مَفَاتِيحُ لِأَهْلِ الطَلَبِ
…
لَمَّا اسْتَقَرَّ الْعِلْمُ طَيَّ الْكُتُبِ
"
فصل
"
270 -
وَبِعَلَامَاتٍ عَلَيْهِ يُسْتَدَلْ
…
مِنْهَا وِفَاقُ الْعِلْمِ مِنْهُ لِلْعَمَلْ
271 -
حَتَّى يكُونَ قَوْلُهُ لِفِعْلِهِ
…
مُطَابِقًا وَهَدْيُهُ كَنَقْلِهِ
272 -
وَأَخْذُهُ لِمَا مِنَ الْعِلْمِ عَلِمْ
…
عَمَّنْ مِنَ النَّاسِ بِذَا الْوَسْمِ وُسِمْ
273 -
حَسَبَمَا قَدْ كَانَ حَالُ السَّلَفِ
…
فِي أَخْذِهِمْ خَلَفِهِمْ عَنْ سَلَفِ
274 -
وَالْاِقْتِدَاءُ بِالذي عَنْهُ أَخَذْ
…
فِي بَثِّ مَا بَثَّ وَنَبْذِ مَا نَبَذْ
275 -
مُسْتَفْرِغًا لِلْجُهْدِ فِي التَّأَدُّبِ
…
بِأَدَبِ الشَّيْخِ وَحُسْنِ الطَّلَبِ
"
فصل فيما يوصل إلى أخذ العلم عن أهله
"
276 -
وَالْعِلْمُ مَطْلَبٌ إِلَيْهِ يُوصِلُ
…
كِلَا طَرِيقَيْنِ فَأَمَّا الْأَوَّلُ
277 -
فَإِنَّهُ الأَخْذُ لَهُ مُشَافَهَةْ
…
مِنْ قِبَلِ الشُّيُوخِ بِالْمُوَاجَهَةْ
278 -
وَذَاكَ فِيهِ حِكْمَةٌ بِالذَّاتِ
…
تَرْجِعُ مَعْنىً لِلْخُصُوصِيَّاتِ
279 -
يَشْهَدُهَا مَنْ زَاوَلَ الْعُلُومَا
…
وَمَنْ تَوَلَّى أَهْلَهَا لُزُومَا
280 -
فَكَمْ يُزِيلُ الشَّيْخُ مِنْ إِشْكَالِ
…
بِمُقْتَضَى قَرَائِنِ الأحْوَالِ
281 -
وَكَمْ يُجَلِّي مِنْ أُمُورٍ غَامِضَةْ
…
وَشُبَهٍ قَدْ وَرَدَتْ مُعَارِضَةْ
282 -
فَتَنْجَلِي إِمَّا بِأَمْرٍ عَادِي
…
أَوْ هِبَةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْمُعْتَادِ
283 -
تَحْصُلُ لِلتِّلْمِيذِ فِي تَفَهُّمِهْ
…
إِذَا اسْتَوَى بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمِهْ
284 -
وَذَا الطَّرِيقُ نَافِعٌ مُطَّلَبُ
…
وَكَانَ بَعْضُ مَنْ مَضَى لَا يَكْتُبُ
285 -
ثُمَّ الطَّرِيقُ الثَّانِي بِالْمُرَاجَعَةْ
…
لِكُتْبِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمُطَالَعَةْ
286 -
وَهْوَ عَلَى الْجُمْلَةِ أَيْضًا نَافِعُ
…
وَللطَّرِيقِ الأَوَّليِّ تَابِعُ
287 -
بِشَرْطِهِ أَنْ يَحْصُلَ بَلْ عِنْدَهُ
…
فِي الْعِلْمِ مَا يَفْهَمُ مِنْهُ قَصْدَهُ
288 -
وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِهِ مَا يُعْتَبَرْ
…
وَمَا يَتِمُّ مَعَهُ حُكْمُ النَّظَرْ
289 -
مَعَ تَحَرّي كُتْبِ مَنْ تَقَدَّمَا
…
فِي كُلّ مَا مِنَ الْعُلُومِ يَمَّمَا
290 -
فَالْقُدَمَاءُ بِالْعُلُومِ أَقْعَدُ
…
بِذَاكَ تَجْرِيبٌ وَنَقْلٌ يَشْهُد
"
المقدمة الثالثة عشرة
"
291 -
وَأَيُّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ قَدْ
…
يُعَدُّ فِي الْفِعْلِ إِمَامًا يُعْتَمَدْ
292 -
يُنْظَرُ لِلْمَعْنَى الذِي قَدْ احْتَمَلْ
…
فَإِنْ يَكُنْ يَجْرِي بِهِ ذَاكَ الْعَمَلْ
293 -
عَلَى مَجَارِي مِثْلِهِ فِي الْعَادَةْ
…
صَحَّ فِي الاقْتِضَاءِ لِلإِفَادَةْ
294 -
وَإِنْ يَكُنْ فِيهِ انْخِرَامُ رُكْنٍ
…
أَوْ نَقْصُ شَرْطٍ فَهْوَ غَيْرُ مُغْنِ
295 -
وَذَاكَ فِي مَجْرَى الأَسَالِيبِ يَقَعْ
…
فَيَنْبَغِي اعْتِبَارُهُ حَيْثُ وَقَعْ
296 -
كَذَا يُرَى فِي الْفَهْمِ لِلأقْوَالِ
…
وَفِي الدُّخُولِ بَعْدُ فِي الأَعْمَالِ
297 -
وَذَا الأَخِيرُ عُمْدَة فِي الْمَسْأَلَةْ
…
وَالأَصْلُ فِي الْمَصَالِحِ الْمُسْتَعْمَلَةْ
298 -
وَأَصْلُ الاِسْتِحْسَانِ وَالْبَيَانِ
…
لِمُشْكِلِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ
299 -
وَضِمْنَهُ الرُّخْصَةُ مِنْهُ تُقْتَنَصْ
…
فَإِنَّهُ الْحَاكِمُ فِي بَابِ الرُّخَصْ
300 -
وَقَدْ بَدَا مَعْنَى ذَا الأَصْلِ وَظَهَرْ
…
تَأْصِيلُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرْ
301 -
وَعَدَمُ اعْتِبَارِهِ حَيْثُ بَدَا
…
أَوْقَعَ أَهْلَ الزَّيْغِ فِي مَهْوَى الرَّدَى
كتاب الأحكام
302 -
وَهْيَ بِمُقْتَضَى الْخِطَابِ الشَّرْعِي
…
قِسْمَان لِلتَّكْلِيفِ أَوْ لِلْوَضْعِ
"
خطاب التكليف
"
303 -
فَمَا بِهِ التَّكْلِيفُ لِلأنَامِ
…
مُنْحَصِرٌ فِي خَمْسَةِ الأَحْكَامِ
"
المسألة الأولى
"
304 -
إِنَّ الْمُبَاحَ تَرْكُهُ كَفِعْلِهِ
…
لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ بِحُكْمِ أَصْلِهِ
305 -
بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ
…
كَالشَّان فِي مُكَفِّرَاتِ الْحَلِفِ
306 -
أَوْ لَازِمٌ مَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَهْ
…
مِنْ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً وَطَاعَهْ
307 -
وَمَعَ ذَا لَوْ كانَ شَرْعًا يُطْلَبُ
…
لَعُدَّ طَاعَةً بِهَا التَّقَرُّبُ
308 -
فَكَانَ لَازِمًا عَلَى الإِطْلَاقِ
…
نَذْرًا وَمَا يَلْزَمُ بِاتِّفَاقِ
"
فصل
"
309 -
وَمَا رَأَى الْكَعْبِيُّ فِي شأْنِ الطَّلَبْ
…
لِلْفِعْلِ مَرْدُود بِتَرْكِ مَا وَجَبْ
310 -
وَلَا يُقَالُ التَّرْكُ بَابُ الزُّهْدِ
…
وَالزُّهْدُ مَطْلُوب بِحُكْمِ الْقَصْدِ
311 -
فَإِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا سَلَفْ
…
مِنْ فِعْلِهِ عَنِ الرَّسُولِ وَالسَّلَفْ
312 -
وَالزُّهْد إِنْ يُنْظَرْ لِحُكْمِ أَصْلِهِ
…
تَرْكُ الْمُبَاحِ جَائِز لِمِثْلِهِ
313 -
وَمَعَ ذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا وَقَعْ
…
فِي مُطْلَقِ الْمُبَاحِ حَيْثُ مَا وَقَعْ
314 -
لَا فِي الذِي تَدْخُلُهُ سَوَابِقْ
…
وَلَا قَرَائِنٌ وَلَا لَوَاحِقْ
315 -
وَإِنْ أَتَى مَا يَقْتَضِي مَعْنَى الطَّلَبْ
…
لِفِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ فَتَفْصِيلٌ وَجَبْ
316 -
وَهْوَ الْمُبَاحُ مِنْهُ مَا قَدْ يَخْدُمُ
…
سِوَاهُ أَوْ لَيْسَ كذَاكَ يُعْلَمُ
317 -
فَإِنْ يَكُنْ يَخْدُمُ أَصْلًا أَوَّلَا
…
ضَرُورَةً أَوْ حَاجَةً أَوْ مُكْمِلَا
318 -
فَفِعْلُ ذَا لِأجْلِهِ مَطلُوبُ
…
مِنْ جِهَةِ الشَّارعِ أَوْ مَحْبُوبُ
319 -
وَمِثْلُهُ يَجِيءُ فِي القُرْآنِ
…
فِي مَعْرِضِ النُّعْمَى وَالامْتِنَانِ
320 -
وَمَا يَكُونُ خَادِمًا مَا يَنْقُضُ
…
أَصْلًا فَإِنَّ فِعْلَ هَذَا مُبْغَضُ
321 -
وَلَيْسَ بِالأَحَقِّ كَالطَّلَاقِ
…
إِلَّا لِمَا عَارَضَ كَالشِّقَاقِ
322 -
وَإِنْ يَكُنْ لَيْسَ لَهُ مَخْدُومُ
…
فَفِعْلُهُ كَمِثْلِ ذَا مَذْمُومُ
323 -
لِأَنَّهُ لَهْوٌ وَشُغْلٌ شَاغِلُ
…
بِغَيْرِ مَا يُنَالُ مِنْهُ طَائِلُ
324 -
كِلَاهُمَا مُسْتَنِدٌ لِلْخَبَرِ
…
وَيَقْتَضِيهَا صَحِيحُ النَّظَرِ
325 -
وَحَيْثُمَا قَدْ جَاءَ ذَمُّ الدُّنْيَا
…
فَهْوَ بِهَذَا اللَّحْظِ دُونَ ثُنْيَا
326 -
ثَمَّ لِذَا التَّقْرِيرِ أَصْلٌ انْبَنَى
…
عَلَيْهِ حُكْمُهُ سَأُبْدِيهِ هُنَا
"
وهو المسألة الثانية
"
327 -
أَمَّا اخْتِلَافُ جَانِبِ المُبَاحِ
…
بِالجُزْءِ وَالكُلِّ فَذُو إِيضَاحِ
328 -
فَكُلُّ مَا كَانَ بِحُكْمِ الأَصْلِ
…
بِحَسَبِ الجُزْءِ مُبَاحَ الفِعْلِ
329 -
يَكُونُ بِالكُلِّ مِنَ المَطْلُوبِ
…
إِمَّا عَلَى النَّدْبِ أَوِ الوُجُوبِ
330 -
مِثْلُ التَّمَتُّعَاتِ بِالمَآكِلِ
…
وَالبَيْعِ وَالجِمَاعِ لِلْحَلَائِلِ
331 -
أَوْ قَدْ يُرَى بِالكُلِّ عَنْهُ قَدْ نُهِي
…
كَرَاهَةً أَوْ لِلْحَرَامِ يَنْتَهِي
332 -
مِثْلُ التَّنَزُّهَاتِ فِي البِطَاحِ
…
أَوْ فِعْلِ قَادِحٍ مِنَ المُبَاحِ
333 -
وَفِعْلُ مَا بِجُزْءٍ فِي المَنْدُوبِ
…
يَكُونُ بِالكُلِّ عَلَى الوُجُوبِ
334 -
وَالفِعْلُ لِلْمَكْرُوهِ بِالجُزْءِ يُرَى
…
بِالكُلّ مَمْنُوعًا إِذَا مَا اعْتُبِرَا
335 -
وَمَا يَكُونُ وَاجِبًا مِنْ أَصْلِ
…
يَجِبُ بِالجُزْءِ مَعًا وَالكُلِّ
336 -
وَحُكْمُهُ بِحَسَبِ الكُلِّيَّةْ
…
مُخْتَلِفٌ وَحَسَبِ الجُزْئِيَّةْ
337 -
وَمَنْ يَرَى الوَاجِبَ لَيْسَ الفَرْضا
…
يَكُونُ بِالكُلِّ لَدَيْهِ فَرْضَا
338 -
وَعِنْدَ ذَا يُقَالُ إِنَّهُ اخْتَلَفْ
…
بِالكُلِّ وَالجُزْءِ عَلَى مَا قَدْ سَلَفْ
339 -
وَهَكَذَا يُقَالُ فِي المَمْنُوعِ
…
مِنْ جِهَةِ الجَوَازِ وَالوُقُوعِ
340 -
وَكُلُّ مَا قُرِّرَ فِي ذَا النَّوْعِ
…
دَلِيلُهُ اسْتِقْرَاؤُهُ فِي الشَّرْعِ
341 -
قَدْ يُدَّعَى اتِّفَاقُ الأَحْكَامِ
…
وَإِنْ كَانَ بِالأَفْعَالِ اخْتِلَافٌ يَقْتَرِنْ
"
المسألة الثالثة
"
342 -
وَأُطْلِقَ المُبَاحُ لِلْمُخَيَّرِ
…
فِيهِ وَمَا لَا بَاسَ فِيهِ يَعْتَرِي
343 -
وَهْوَ عَلَى الجُمْلَةِ ذُو أَقْسَامِ
…
فَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِذِي اسْتِخْدَامِ
344 -
وَمِنْهُ مَا يَخْدُمُ إِمَّا مَا أَتَى
…
مُخَيَّرًا فِيهِ بِحَيْثُ ثَبَتَا
345 -
إِمَّا لِمَا يُطْلَبُ تَرْكًا أَوْ لِمَا
…
يُطْلَبُ فِعْلُهُ وَذَا تَقَدَّمَا
346 -
وَحَاصِلٌ أَنَّ المُبَاحَ الأَصْلِ
…
وُجُودُهُ بِالجُزْءِ لَا بِالكُلِّ
"
المسألة الرابعة
"
347 -
وَكُلُّ مَا يُقَالُ فِيهِ لَا حَرَجْ
…
فَهْوَ عَنِ التَّخْيِيرِ فِيهِ قَدْ خَرَجْ
348 -
وَذَا مِنَ الشَّارعِ قَصْدٌ بَيِّنُ
…
وَالفَارِقُ التَّصْرِيحُ وَالتَّضْمِينُ
349 -
بِالإِذْنِ فِي التَّخْيِيرِ أَوْ رَفْعِ الحَرَجْ
…
بِعَكْسِ وَاجِدٍ فِي الآخَرِ انْدَرَجْ
"
المسألة الخامسة
"
350 -
وَإِنْ مُبَاحٌ بِاسْمِهِ يَتَّصِفُ
…
فَبِاعْتِبَارِ حَظِّ مَنْ يُكَلَّفُ
351 -
لَا سِيَمَا الَّذِي لِرَفْعِ الإِثْمِ
…
فَإِنَّهُ أَوْلَى بِهَذَا الحُكْمِ
352 -
لِأَنَّ أَخْذَهُ بِغَيْرِ الطَّلَبِ
…
فَصَارَ فِي الحَظِّ قَوِيَّ السَّبَبِ
"
المسألة السادسة
"
353 -
تَعَلُّقُ الأَحْكَامِ بِالمَقَاصِدِ
…
فِعْلًا وَتَرْكًا صَحَّ فِي المَوَارِدِ
354 -
لِأَجْلِ أَنَّ الحُكْمَ غَيْرُ لَازِمِ
…
لِغَيْرِ قَاصِدٍ لَهُ كَالنَّائِمِ
355 -
وَمَعَ ذَا يَكُونُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا
…
لَيْسَ يُطَاقُ وَهْوَ مَا قَدْ عُلِمَا
356 -
وَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ بِالأَطْفَالِ
…
وَلَا بِمَنْ أَشْبَهَهُمْ فِي الحَالِ
357 -
فِي كُلِّ مَا قَدْ أُلْزِمُوا فِي الشَّرْعِ
…
فَإِنَّ ذَاكَ مِنْ خِطَابِ الوَضْعِ
"
المسألة السابعة
"
358 -
إِذَا اعْتَبَرْتَ مَا لَهُ الشَّرْعُ نَدَبْ
…
أَعَمَّ فَهْوَ خَادِمٌ لِمَا وَجَبْ
359 -
مُمَهِّدًا أَوْ مُكْمِلًا أَوْ مُذْكِرَا
…
مِنْ جِنْسِهِ كَالنَّفْلِ حَيثُمَا يُرَى
360 -
أَوْ غَيْرِهِ كَالقَصِّ لِلْأَظْفَارِ
…
وَالطِّيبِ وَالتَّعْجِيلِ لِلْإِفْطَاِر
361 -
وَهَكَذَا المَكْرُوهُ لِلْحَرَامِ
…
كَمِثْلِهِ فِي هَذِهِ الأَحْكَامِ
362 -
ثُمَّ مِنَ الوَاجِبِ حِينَ يُقْصَدُ
…
وَعَكْسِهِ وَسِيلَةٌ وَمَقْصَدُ
"
المسألة الثامنة
"
363 -
وَكُلَّ مَا الشَّرْعُ لَهُ قَدْ حَدَّا
…
وَقْتًا مُعَيَّنًا بِهِ يُؤَدَّى
364 -
فَمُوقِعٌ لَهُ بِذَاكَ الوَقْتِ
…
يَأْمَنُ مِنْ مَذَمَّةٍ وَمَقْتِ
365 -
كَانَ عَلَى الوَجِوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ
…
وَإِنَّمَا يَلْحَقُ حُكْمُ العَتْبِ
366 -
لِكُلِّ مَنْ أَخَّرَ ذَاكَ مُطْلَقا
…
عَنْ وَقْتِهِ مُتَّسِعًا أَوْ ضيِّقَا
"
المسألة التاسعة
"
367 -
وَالحَقُّ فِي الشَّرعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ
…
حَقٌ لِمَخْلُوقٍ كَمِثْلِ الدَّيْنِ
368 -
وَآخَرٌ للهِ كَالصِّيَامِ
…
وَكُلِّ مَا حُدَّ مِنَ الأَحْكَامِ
369 -
فَإِنَّهُ دَيْنٌ عَلَى المُكَلِّفِ
…
وَلَازِمٌ ذِمَّتَهُ حَتَّى يَفِي
370 -
إِذْ مَا يُحَدُّ وَقْتًا أَوْ يُقَدَّرُ
…
بِالقَصْدِ لِلْأَدَاءِ فِيهِ مُشْعِرُ
371 -
وَغَيْرُ مَا قَدْ حُدَّ فَهْوَ يُطْلَبُ
…
وَمَا لَهُ فِي ذِمَّةٍ تَرَتُّبُ
"
المسألة العاشرة
"
372 -
يَصِحُّ بَيْنَ الفَرْضِ وَالحَرَامِ
…
لِلْعَفْوِ رُتْبَةٌ سِوَى الأَحْكَامِ
373 -
دَلِيلُهُ الثُّبُوتُ فِي المَنْقُولِ
…
مِنْ خَبَرِ اللهِ أَوِ الرَّسُولِ
374 -
مِثْلُ وَيعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وَعَفَا
…
وَمَا مِنَ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ اقْتَفَى
375 -
وَجَاءَ حُكْمُ العَفْوِ فِي مَوَاضِعْ
…
أَوَّلُهَا حَيْثُ سُكُوتُ الشَّارعْ
376 -
وَخَطَأُ الفِعْلِ وَالاِجْتِهَادِ مَعْ
…
إِكْرَاهٍ اوْ رُخْصَةٍ اوْ سَهْوٍ يَقَعْ
377 -
وَمَا مُخَالِفٌ دَلِيلًا لَمْ يَصِلْ
…
وَمَا بِوَفْقِ مَا لَهُ النَّسْخُ شَمِلْ
378 -
كذَاكَ مِنْهُ مُقْتَضَى المَرْجُوحِ
…
مِنَ الدَّلِيلَيْنِ مَعَ التَّرْجِيحِ
379 -
وَفِي الخِطَابَيْنِ تَزَاحَمَا وَلَا
…
يُمْكِنُ جَمْعٌ فِي الأَخِيرِ أَقْبَلَا
380 -
وَيَسْتَدِلُّ ذَاهِبٌ لِلْمَنْعِ
…
بِكَوْنِهِ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِي
381 -
أَوْ كَوْنِهِ لَيْسَ بِدُنْيَوِيِّ
…
وَالبَحْثُ فِيهِ لَا فِي الأُخْرَوِيِّ
382 -
أَوْ إِنْ يَكُنْ مُسَلَّمًا فِي الوَاقِعِ
…
فَذُو اخْتِصَاصٍ بِزَمَانِ الشَّارعِ
383 -
أَوْ رَاجِعٌ مَا فِيهِ مِنْ أَقْسَامِ
…
فِي حُكْمِهِ لِخَمْسَةِ الأَحْكَامِ
384 -
مَعْ أَنَّ ذِي الرُّتْبَةَ مَبْنَاهَا عَلَى
…
مَسْأَلَةٍ بِهَا الخِلَافُ أُصِّلَا
385 -
وَذَاكَ هَلْ يَكُونُ فِي النَّوَازِلِ
…
مَا الشَّرْعُ لَيْسَ حُكْمُهُ بِشَامِلِ
386 -
إِنْ قِيلَ بِالعَفْوِ فَحَاصِرٌ لَهْ
…
الوَقْفُ مَعْ مُعَارِضِ الأَدِلَّةْ
387 -
أَوِ الخُرُوجُ بَعْدُ بِالتَّأْوِيلِ
…
قَصْدًا وَدُونَهُ عَنِ الدَّلِيلِ
388 -
وَفِعْلُ مَا عَنْ حُكْمِهِ الشَّرْعُ سَكَتْ
…
وَهْوَ عَلَى مَنْعِ الخُلُوِّ إِنْ ثَبَتْ
389 -
إِمَّا سُكُوتٌ عَنِ الاِسْتِفْصَالِ
…
مَعَ مَظِنَّةٍ لَهُ فِي الحَالِ
390 -
أَوْ عَنْ مَجَارِي العَادَةِ المُسْتَصْحَبَةْ
…
أَوْ عَمَلٍ شَرْعُ الخَلِيلِ أَوْجَبَةْ
"
المسألة الحادية عشرة
"
391 -
وَطَلَبُ الكِفَايَةِ المَشْرُوعُ
…
مَا كَانَ مَطْلُوبًا بِهِ الجَمِيعُ
392 -
يُسْقِطُهُ بَعْضٌ عَنِ البَاقِي إِذَا
…
يَفْعَلُهُ وَهْوَ صَحِيحٌ هَكَذَا
393 -
مَعَ اعْتِبَارِ الطَّلَبِ الكُلِّيِّ
…
لَا بِاعْتِبَارِ الطَّلَبِ الجُزْئِيِّ
394 -
لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ ذُو تَشَعُّبِ
…
مَرْجِعُهُ إِلَى وُرُودِ الطَّلَبِ
395 -
عَلَى الَّذِينَ فِيهِمُ أَهْلِيَّةْ
…
لِذَلِكَ المَطْلُوبِ فِي القَضِيَّةْ
396 -
وَالنَّصُّ فِي ذَلِكَ مِمَّا كَثُرَا
…
كَوَلْتَكُنْ مِنْكُمْ فَلَوْلَا نَفَرَا
"
المسألة الثانية عشرة
"
397 -
وَكُلُّ مَا كَانَ مُبَاحَ الفِعْلِ
…
ضَرُورَةً أَوْ حَاجَةً فِي الأَصْلِ
398 -
وَجَاذَبَتْهُ مَعَ ذَا عَوَارِضُ
…
وُقُوعًا أَوْ تَوَقُّعًا تُعَارِضُ
399 -
هَلْ يَبْطُلُ العَارِضُ حِينَ يُعْتَبَرْ
…
أَصلُ الَّذِي أُبِيحَ فِي هَذَا نَظَرْ
400 -
فَإِنْ يَكُنْ لِفِعْلِ مَا أُبِيحَا
…
يَضْطَرُّ كَانَ فِعْلُهُ صَحِيحَا
401 -
وَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِالمُعَارِضِ
…
كَمِثْلِ مَا لَوْ كانَ غَيْرَ عَارِضِ
402 -
ومِثْلُهُ مَا لَا لَهُ اضْطِرَارُ
…
لَكِنْ لَهُ فِي تَرْكِهِ ضِرَارُ
403 -
إِذْ بَعْضُ مَا يُمْنَعُ رَفْعًا لِلْحَرَجْ
…
أُبِيحَ كَالقَرْضِ وَمَا مَعْهُ انْدَرَجْ
404 -
وَخُلْفُ بَعْضِهِمْ بِهَذَا المَنْهَجِ
…
شَهَادَةٌ مِنْهُ بِرَفْعِ الحَرَجِ
"
المسألة الثالثة عشرة
"
405 -
وَالحَقُّ أَنْ يُنْظَرَ فِي ذَا الفَصْلِ
…
لِحَرَجِ العَارِضِ أَوْ ذِي الأَصْلِ
406 -
فَفَقْدُ عَارِضٍ مَعَ الأَصْلِ يُرَى
…
إِمَّا مُكَمِّلًا لَهُ حَيْثُ جَرَى
407 -
فَلَا اسْتِوَاءَ فِيهِمِا وَلَا أَثَرْ
…
لِفَقْدِ عَارِضٍ فِي الأَصْلِ مُعْتَبَرْ
408 -
أَوْ غَيْرَ مُكْمِلٍ لَهُ تَوَقُّعُ
…
لَيْسَ بِمَرْعِيٍّ حَيْثُ يَتْبَعُ
409 -
وَوَاقِعٌ فَمَوْضِعُ التَّصْحِيحِ
…
بَابُ التَّعَارُضِ أَوِ التَّرْجِيحِ
410 -
وَغَيْرُ مَا اضْطُرَّ لَه، وَلَا ضَرَرْ
…
فِي تَرْكِهِ فِيهِ مَجَالٌ لِلنَّظَرْ
411 -
وَمُقْتَضَى الذَّرَائِعِ المَأْثُورَةْ
…
يَدْخُلُ فِي ذَا القِسْمِ بِالضَّرُورَةْ
412 -
وَمِنْهُ أَيْضًا مَنْشَأُ الخِلَافِ فِي
…
تَعَارُضِ الغَالِبِ وَالأَصْلِ اقْتُفِي
413 -
وَهْوَ مَحَلٌّ لاجْتِهَادٍ وَنَظَرْ
…
فِي طَرَفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ صَدَرْ
خطَاب الوضع
414 -
أَمَّا خِطَابُ الوَضْعِ إِذْ يُقَرَّرُ
…
فَفِي فُصُولٍ خَمْسَةٍ يَنْحَصِرُ
الفصل الأول فِي الأسباب وفِيه مسائل
"
المسألة الأولى
"
415 -
وَجُمْلَةُ الأَفْعَالِ حَيْثُ تَقَعُ
…
فَيُشْرَعُ الحُكْمُ لَهَا أَوْ يُرْفَعُ
416 -
مِنْهُنَّ مَا يَخْرُجُ عَنْ مَقْدُورِ
…
مُكَلَّفٍ فَهْوَ إِذًا ضَرُورِي
417 -
وَذَاكَ قَدْ يَكُونُ إِمَّا سَبَبَا
…
أَوْ شَرْطًا أَوْ مَانِعًا الحُكْمَ أَبَا
418 -
مِثْلُ الزَّوَالِ سَبَبًا وَالرُّشْدِ
…
شَرْطًا وَكَالمَحِيضِ مَنْعًا يُبْدِي
419 -
وَاعْتُبِرَ المَقْدُورُ فِي التَّصْرِيفِ
…
مِنْ جِهَةِ الخِطَابِ بِالتَّكْلِيفِ
420 -
مِثْلُ النِّكَاحِ أَوِ الاِبْتِيَاعِ
…
لِمَقْصِدِ النَّسْلِ وَالاِنْتِفَاعِ
421 -
وَجِهَةُ الوَضْعِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى
…
مِثْلُ النِّكَاحِ سَبَبًا لِمَا اقْتَضَى
422 -
وَالطُّهْرِ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ
…
وَالدَّيْنِ مَانِعًا مِنَ الزَّكَاةِ
423 -
وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ يُلْفَى كُلَّ مَا
…
مَرَّ مَعَ اخْتِلَافِ مَا لَهُ انْتَمَى
424 -
وَذَاكَ كَالنِّكَاحِ وَالإِيمَانِ
…
وَالرِّقِّ وَالطَّلَاقِ وَالإِحْصَانِ
425 -
وَلَا يَكُونُ مَا بِحُكْمٍ عُلِّقَا
…
فِي حُكْمِ نَفْسِهِ سِوَاهُ مُطْلَقَا
"
المسألة الثانية
"
426 -
شَرْعِيَّةُ الأَسْبَابِ لَنْ يَستَلْزِمَا
…
شَرْعِيَّةَ المُسَبَّبَاتِ فَاعْلَمَا
427 -
وَإِنْ يَكُنْ يَصِحُّ فِيهَا عَادَةْ
…
تَلَازُمٌ فَالشَّرْعُ غَيْرُ العَادَةْ
428 -
كَالأَمْرِ بِالنِّكَاحِ لَا يَسْتَلْزَمُ
…
أَمْرًا بِمَا عَنِ النِّكَاحِ يَلْزَمُ
429 -
فَمَا المُسَبَّبَاتُ مِنْ مَقْدُورِ
…
مُكَلَّفٍ فِي جُمْلَةِ الأُمُورِ
430 -
وَكَمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ دَلِيلِ
…
مِنْ مُحْكَمِ السُّنَّةِ وَالتَّنْزِيلِ
431 -
وَإِنْ أَتَى مَا يُوهِمُ اسْتِلْزَامَا
…
عُدَّ اتِّفَاقًا ذَاكَ لَا لِزَامَا
432 -
وَفِي اخْتِلَافِ الحُكْمِ فِي المُسَبَّبِ
…
مَعْ سَبَبٍ بُرْهَانُ هَذَا المَطْلَبِ
433 -
فَقَدْ يُرَى الحُكْمُ الَّذِي قَدْ وَجَبَا
…
عَنْ سَبَبٍ أُبِيحَ قَدْ تَسَبَّبَا
434 -
وَمَا مَضَى فِي السَّبَبِ المَشْرُوعِ
…
فَأَمْرُهُ أَسْهَلُ فِي المَمْنُوعِ
"
المسألة الثالثة
"
435 -
وَلَيْسَ يَلْزَمْ مَعْ تَعَاطِي السَّبَبِ
…
قَصْدُ المُكَلَّفِ إِلَى المُسَبَّبِ
436 -
بَلْ أَنْ يَكُونَ جَارِيَ الأفْعَالِ
…
مِنْ تَحْتِ الأَحْكَامِ بِكُلِّ حَالِ
437 -
دَلِيلُهُ مَا فِي مُسَبَّبٍ ظَهَرْ
…
مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْدُورِ البَشَرْ
"
المسألة الرابعة
"
438 -
وَالقَصْدُ فِي الشَّرْعِ لِوَضْعِ السَّبَبِ
…
يَسْتَلْزِمُ القَصْدِ إلَى المُسَبَّبِ
439 -
لِأَنَّ الأسْبَابَ بِحَيْثُ شُرِّعَتْ
…
لِأجْلِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا وُضِعَتْ
440 -
فَقَصْدُهَا قَصْدٌ لِمَا عَنْهَا يُرَى
…
نَاشِئًا أَوْ بِأَصْلِهَا مُسْتَثْمِرَا
441 -
وَلَيْسَ بَيْنَ مَا مَضَى تَنَاقُضُ
…
وَبَيْنَ هَذَا لَا وَلَا تَعَارُضُ
442 -
فَقَصْدُ ذَا يَرْجِعُ لِلْوُقُوعِ
…
وَذَاكَ لِلتَّكْلِيفِ بِالمَشْرُوعِ
"
المسألة الخامسة
"
443 -
وَحِينَ لَا يَلْزَمُ فِي المُسَبَّبِ
…
قَصْدٌ إِلَيْهِ مَعْ تَعَاطِي السَّبَبِ
444 -
فَلِلْمُكَلَّفِينَ تَرْكُ القَصْدِ
…
لَهُ وَمَا قَدْ مَرَّ ذَاكَ يُبْدِي
443 -
وَلَهُمُ القَصْدُ لَهُ بِمَا اسْتَقَرْ
…
فِي الخَلْقِ عَادَةً وُجُودُهَا اسْتَمَرْ
446 -
إِذْ جَعَلَ اللهُ فِي الاِكْتِسَابِ
…
رَبْطَ المُسَبَّبَاتِ بِالأَسْبَابِ
447 -
وَمَا أَتَى بِقَصْدِ الاِمْتِنَانِ
…
يُشْعِرُ بِالصِّحَّةِ فِي ذَا الشَّانِ
448 -
وَمُسْتَتِبٌّ فِي العِبَادِيَّاتِ
…
ذَاكَ كَمَا اسْتَتَبَّ في العَادَاتِ
"
المسألة السَّادِسَة
"
449 -
وَالقَصْدُ لِلْمُسَببَّاتِ بِالسَّبَبْ
…
الدَّاخِلُونَ تَحْتَهُ عَلَى رُتَبْ
450 -
فَدَاخِلٌ وَهْوَ يَظنُّ السَّبَبَا
…
فَاعِلٌ مَا عَنْهُ يُرَى مُسَبَّبَا
451 -
فَذَا يُضَاهِي الشِّرْكَ وَالقَصْدُ لَهُ
…
قَصْدٌ لِمَا التَّشْرِيعُ قَدْ أَهْمَلَهُ
452 -
وَدَاخِلٌ لِأَنْ يَكُونَ السَّبَبُ
…
يُوجَدُ عَادَةً بِهِ المُسَبَّبُ
453 -
وَهْوَ الَّذِي قَدْ مَرَّ فِي التَّقْرِيرِ
…
وَحَالُهُ يَلِيقُ بِالجُمْهُورِ
454 -
وَدَاخِلٌ فِي ذَاكَ غَيْرَ سَاهِ
…
أَنَّ المُسَبَّبَاتِ فِعْلُ اللهِ
455 -
وَمُقَتَضَى هَذَا اعْتِبَارُ السَّبَبِ
…
بِحَيْثُ مَا يُنْسَبُ لِلْمُسَبَّبِ
456 -
وَتَرْكُ الاِلْتِفَاتِ لِلْمُسَبَّبِ
…
القَاصِدُونَ نَحْوَهُ فِي رُتَبِ
457 -
فَمِنْهُمُ الدَّاخِلُ فِي حُكْمِ السَّبَبْ
…
مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ إِلَى الشَّرْعِ انْتَسَبْ
458 -
وَوَضْعُهُ لِلْعَالَمِ الإِنْسَانِي
…
لِلاِبْتِلَاءِ وَلِلامْتِحَانِ
459 -
وَقَاصِدٌ ذَا مُهْتَدٍ فِي قَصْدِهْ
…
وَعَامِلٌ لِلَّهِ فِي تَعَبُّدِهْ
460 -
وَالاِبْتِلَاءُ مِنْهُ لِلْعُقُولِ
…
مِنْ حَيْثُ مَا تَنْظُرُ فِي المَعْقُولِ
461 -
وَمِنْهُ لِلنُّفُوسِ مِنْ حَيثُ النَّظَرْ
…
لِحَاكِمِ الشَّرْعِ وَمَحْتُومِ القَدَرْ
462 -
وَكَمْ لَدَى الكِتَابِ مِنْ أَدِلَّهْ
…
فِي مَعْنَى الاِبْتِلَاءِ مُسْتَقِلَّهْ
463 -
وَدَاخِلٌ دُونَ التِفَاتِ السَّبَبِ
…
مِنْ أَصْلِهِ فَضْلًا عَنِ المُسَبَّبِ
464 -
فَقَصْدُ ذَا جَارٍ عَلَى التَّجَرُّدِ
…
لِيُفْرِدَ المَعْبُودَ بِالتَّعَبُّدِ
465 -
إِذِ التِفَاتُ المُحْدَثِ الوُجُودِ
…
ضَرْبٌ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي التَّوْحِيدِ
466 -
وَحُكْمُ ذَا ظَاهِرُ الاِقْتِنَاصِ
…
مِنْ كُلِّ مَا قَدْ جَاءَ فِي الإِخْلَاصِ
467 -
وَدَاخِل فِي سَبَبٍ أَتَاهُ
…
بِحُكْمِ إِذْنِ الشَّرْعِ لَا سِوَاهُ
468 -
فَهْوَ مُلَبٍّ فِيهِ قَصْدَ الآمِرِ
…
مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ شَأْنٍ ظَاهِرِ
469 -
لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ المُسَبِّبُ
…
لِكُلِّ مَا عَنْ سَبَبٍ يُسَبَّبُ
470 -
وَأَنَهُ أَجْرَى بِذَاكَ العَادَهْ
…
مُبْتَلِيًا بِمُقْتَضَى الإِرَادَهْ
471 -
وَأَنَّهُ يَخْرِقُهَا إِنْ شَاءَا
…
كَرَامَةً مِنْهُ أَوِ ابْتِلَاءَا
472 -
فَذَا تَوَخَّى فِيهِ قَصْدَ الشَّارعِ
…
دُونَ التِفَاتِ غَيْرِهِ فِي الوَاقِعِ
473 -
فَهْوَ إِذًا مُطَّلِبٌ عَنْ سَبَبِ
…
مُسَبَّبًا لكِنْ مِنَ المُسَبِّبِ
"
المسألة السَّابِعَة
"
474 -
وَمَا أتَى النَّهْيُ عَنِ الدُّخُولِ
…
فِيهِ مِنَ الأَسْبَابِ فِي المَنْقُولِ
473 -
فَوَاضِحٌ فِيهِ انْحِتَامُ الطَّلَبِ
…
شَرْعًا بِرَفْعِ ذَلِكَ المُسَبَّبِ
476 -
سَواءٌ القَصْدُ إِلَى أَنْ يَقَعَا
…
مُسَبَّبٌ وَعَدَمُ القَصْدِ مَعَا
477 -
وَحَيْثُ لَا نَهْيَ فَذَا لَا يُطْلَبُ
…
فِي حَالَةٍ أَنْ يُرْفَعَ التَّسَبُّبُ
478 -
وَهْوَ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ الرُّتَبِ
…
مُتَّضِحٌ مِنِ انْتِفَاءِ السَّبَبِ
479 -
لَاكِنَّ فِي الأُولَى اعْتِقَادُ المُعْتَقِدْ
…
مَعْصِيَّةٌ قَدْ قَارَنَتْ لِمَا قُصِدْ
480 -
فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِمَا طُلِبْ
…
شَرْعًا وَلَا لِمَا لإِذْنٍ قَدْ نُسِبْ
481 -
وفَي الأُصُولِ خُلْفُ ذَا الأَصْلِ اجْتُلِبْ
…
مِثْلُ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ قَدْ غُصِبْ
"
المسألة الثَّامِنَة
"
482 -
وَمُنْزِلٌ فِي الشَّرْعِ وَقَعَ السَّبَبِ
…
مَنْزِلَةَ الإِيقَاعِ لِلْمُسَبَّبِ
483 -
مَعْ قَصْدِهِ أَوْ دُونَهُ وَقَاعِدَهْ
…
مَجْرَى عَوِائِدِ الوُجُودِ شَاهِدَهْ
484 -
كَنِسْبَةِ الشَّبَعِ وَالإِرْوَاءِ
…
إِلَى الطَّعَامِ عَادَةً وَالمَاءِ
485 -
كذَاكَ الأَفْعَالُ الَّتِي تَسَبَّبُ
…
عَنْ كَسْبِنَا طُرًّا إِلَيْنَا تُنْسَبُ
486 -
فَمُنْذُ صَحَّ فِي المُسَبَّبَاتِ
…
الجَرْيُ عَلَى الأَسْبَابِ فِي العَادَاتِ
487 -
جَرَى كَذَاكَ الشَّرْعُ فِي أَسْبَابِهِ
…
مَجْرَى الَّذِي لَنَا اعْتِيَادُ بَابِهِ
488 -
وَكَمْ دَلِيلٍ جَاءَ فِي المَسْمُوعِ
…
بِنِسْبَةِ المَشْرُوعِ وَالمَمْنُوعِ
489 -
لَاكِنْ عَلَى الفِعْلِ بِالاِكْتِسَابِ
…
تَرَتُّبُ الثَّوَابِ وَالعِقَابِ
490 -
وَالشَّرْعُ قَدْ مَيَّزَ فِي الأَفْعَالِ
…
بِمُقْتَضَى التَّفْصِيلِ وَالإِجْمَالِ
491 -
بَيْنَ الَّذِي تَعْظُمُ فِيهِ المَصْلَحَةْ
…
بِجَعْلِهِ فِي الدِّينِ رُكْنًا أَوْضَحَهْ
492 -
أَوِ الَّذِي تَعْظُمُ فِيهِ المَفْسَدَةْ
…
فَفِي كَبَائِرِ الذُّنُوبِ عَدَّدَهْ
493 -
وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِذِي الوَتِيرَةْ
…
فَعَدَّهُ إحْسَانًا أَوْ صَغِيرَةْ
"
المسألة التَّاسِعَة
"
494 -
وَحَيْثُ قِيلَ فِي المسَبَّبَاتِ
…
لَيْسَتْ إِلَى العِبَادِ مَقْدُورَاتِ
495 -
وَإِنَّمَا التَّكْلِيفُ بِالأَسْبَابِ
…
يُبْنَى عَلَى الحُكْمِ فِي أَبْوَابِ
496 -
مِنْ ذَاكَ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالسَّبَبِ
…
لَاكِنْ عَلَى كَمَالِهِ المُسْتَوْجِبِ
497 -
ثُمَّ نَوَى فِي ذَلِكَ المُسَبَّبِ
…
أَنْ لَا يُرَى عَنْ ذَلِكَ التَّسَبُّبِ
498 -
فَلَا يَكُونُ مِثْلَ ذَا بِحَالِ
…
وَقَصْدُهُ تَكَلُّفُ المُحَالِ
499 -
بِمَنْعِهِ مَا لَا يُطِيقُ مَنْعَهُ
…
وَرَفْعِهِ مَا لَمْ يُكَلَّفْ رَفْعَهُ
500 -
وَمَقْصِدُ الشَّارعِ فِي المُسَبَّبِ
…
وُقُوعُهُ عِنْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ
501 -
وَقَصْدُ ذَا خَالَفَ قَصْدَ الشَّارعِ
…
فَلَيْسَ فِي البُطْلَانِ مِنْ مُنَازِعِ
502 -
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الرَّفْضِ
…
فَيُنْسَبُ الأَصْلُ بِهِ لِلنَّقْضِ
503 -
وَإِنْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ ذَاكَ السَّبَبْ
…
لَمْ يَأْتِ بِاسْتِكْمَالِ مَا فِيهِ وَجَبْ
504 -
فَإِنَّ ذَا لَا يُدْرِكُ المُسَبَّبَا
…
بِكُلِّ حَالٍ شَاءَ ذَاكَ أَوْ أَبَا
505 -
إِذِ الوُقُوعُ أَوْ سِوَاهُ مَا لَهُ
…
فِيهِ اخْتِيَارٌ فَيُرَى قَدْ نَالَهُ
506 -
وَمَعَ ذَا السَّبَبُ عِنْدَ الشَّارعِ
…
مَا اسْتَكْمَلَ الشُّرُوطَ دُونَ مَانِعِ
507 -
وَمِنْهُ حِفْظُهُ لِذَلِكَ السَّبَبْ
…
فَلَا يُرَى فِي غَيْرِهِ لَهُ أَرَبْ
508 -
وَالأَمْنُ مَعْهُ مِنْ لُحُوقِ التَّعَبِ
…
وَرَاحَةُ النَّفْسِ مِنَ المُسَبَّبِ
509 -
وَكَثْرَةُ الثَّوَابِ فِي العَادَاتِ
…
وَالاِرْتِقَاءُ فِي العِبَاديَّاتِ
510 -
وَلِلْمَقَامَاتِ بِذَاكَ يُعْلِي
…
كَالصَّبْرِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّوَكُّلِ
"
المسألة العَاشِرَة
"
511 -
كَوْنُ المُسَبَّبَاتِ قَدْ تَرَتَّبَتْ
…
شَرْعًا عَلَى الأَسْبَابِ حُكْمٌ قَدْ ثَبَتْ
512 -
وَتَنْبَنِي لِجِهَةِ المُكَلَّفِ
…
عَلَيْهِ أَشْيَاءُ بِلَا تَخَلُّفِ
513 -
مِنْهَا إِذَا يَكُونُ ذَا المُسَبِّبُ
…
بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ إِلَيْهِ يُنْسَبُ
514 -
فَهْوَ لِذَاكَ مَعْ تَعَاطِي السَّبَبِ
…
مُلْتَفِتٌ لِجِهَةِ المُسَبَّبِ
515 -
وَرُبَّمَا أَبْدَى لَهُ التَّسَبُّبُ
…
مِنْ أَمْرِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ
516 -
مِنْ جِهَةِ الخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ مَعَا
…
وَكَمْ دَلِيلٍ عَاضِدٍ مَا فُرِّعَا
517 -
وَإِنَّ مِنْهَا عِنْدَ الاِلْتِفَاتِ
…
مَعْ سَبَبٍ إِلَى المُسَبَّبَاتِ
518 -
زَوَال مَا يَعْرِضُ مِنْ إِشْكَالِ
…
فِي بَعْضِ مَا يَكُونُ ذَا احْتِمَالِ
519 -
إِنْ عَارَضَتْ أَحْكَامُ أَسْبَابٍ بَدَتْ
…
فِي الحُكْمِ أَسْبَابًا لَهُ تَقَدَّمَتْ
520 -
كَمَنْ لَهُ تَوَسُّطٌ فِي أَرْضِ
…
لِغَيْرِهِ وَتَابَ كَيْفَا يَمْضِي
(فصل)
521 -
وَاللهُ مُجْرٍ لِلْمُسَبِّبَاتِ
…
بِحَسَبِ الأَسْبَابِ فِي العَادَاتِ
522 -
فَهْيَ إِذًا تَجْرِي عَلَى مِنْهَاجِهَا
…
عِنَدَ اسْتِقَامِهَا وَفِي اعْوِجَاجِهَا
523 -
لِذَاكَ إِنْ يَبْدُ بِهَا نَقْصٌ خَلَلْ
…
يُنْظَرْ إِلَى تَسَبُّبٍ كَيْفَ حَصَلْ
524 -
فَإِنْ يَكُنْ عَلَى تَمَامٍ ارْتَفَعْ
…
لَوْمٌ وَإِلَّا فَالمَلَامُ قَدْ وَقَعْ
525 -
وَمِنْ هُنَا يَبْدُو بِالاِنْتِزَعِ
…
الأَصْلُ فِي التَّضْمِينِ لِلصُّنَّاعِ
526 -
إِذَا بَدَا مِنْ حَالِهِمْ تَغْرِيرُ
…
أَوْ ظَهَرَ التَّفْرِيطُ وَالتَّقْصِيرُ
527 -
وَالاِجْتِهَادُ فِي امْتِثَالِ مَا أُمِرْ
…
وَفِي اجْتِنَابِ مَا لَدَى النَّهْيِ اعْتُبِرْ
528 -
وَفِي المُسَبَّبَاتِ مَا قَدْ عَمَّا
…
وَبَعْضُهَا يَخُصُّ مِن قَدْ أَمَّا
529 -
كَمِثْلِ قَطْعِ الرِّزْقِ فِي الزَّمَانِ
…
بِالنَّقْصِ لِلْمِكْيَالِ وَالمِيزَانِ
530 -
وَمِثْلُ الاِنْتِفَاعِ بِالمَبِيعِ
…
حِلًّا وَكَالسُّكْرِ مِن المَمْنُوعِ
"
المسألة الحادية عشرة
"
531 -
وَالسَّبَبُ المَمْنُوعُ فِي المَوَارِدْ
…
هُوَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالمَفَاسِدْ
532 -
وَعَكْسُهُ المُخْتَصُّ بِالمَصَالِحِ
…
مَا كَانَ مَشْرُوعًا لِأَمْرٍ صَالِحِ
533 -
وَالعَكْسُ إِنْ يَبْدُ بِكُلِّ وَاحِدِ
…
لَيْسَ بِحُكْمِ الأَصْلِ فِي المَقَاصِدِ
534 -
وَإِنَّمَا ذَاكَ بِحُكْمِ العَرَضِ
…
التَّبَعِيَّاتِ لِأَصْلِ الغَرَضِ
535 -
وَالوَاجِبُ التِمَاسُ أَسْبَابٍ أُخَرْ
…
تُنَاسِبُ الحُكْمَ الَّذِي بَعْدُ ظَهَرْ
536 -
كَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالجِهَادِ
…
وَمَا مِنَ النِّكَاحِ ذُو فَسَادِ
537 -
فَذَاكَ مَشْرُوعٌ وَهَبْهُ أَوْقَعَا
…
مَفْسَدَةً فِي النَّفْسِ وَالمَالِ مَعَا
538 -
وَذَا مِنَ المَمْنُوعِ هَبْهُ أَبَدا
…
مَصْلَحَةً بَعْدُ إِلَيْهَا أَدَّى
539 -
وَحَيْثُمَا لَمْ يَنْتَهِضْ مَا أَثْمَرَا
…
لِأَنْ يُرَى الشَّرْعُ لَهُ مُعْتَبِرَا
540 -
فَهَاهُنَا إِنْ لَمْ يَلُحْ فِيهِ سَبَبْ
…
ثَانٍ فَالإِلْغَاءُ لِهَذَا قَدْ وَجَبْ
341 -
وَإِنْ يَكُنْ ذَا سَبَبٌ فِيهِ ظَهَرْ
…
بِالعِلْمِ أَوْ بِالظَّنِّ فَهْوَ مُعْتَبَرْ
342 -
وَإِنْ يَكُنْ مُستَبْهَمًا لِمَنْ نَظَرْ
…
فِي شَأْنِهِ فَهْوَ مَحَلِّ لِلنَّظَرْ
"
المسألة الثانية عشرة
"
543 -
وَجُمْلَةُ الأَسْبَابِ حَيْثُ وَقَعَتْ
…
لِتَحْصُلَ المُسَبَّبَاتُ شُرِعَتْ
544 -
وَهْيَ المَصَالِحُ الَّتِي تُجْتَلَبُ
…
أَوِ المَفَاسِدُ الَّتِي تُجْتَنَبُ
545 -
وَهُنَّ أَقْسَامٌ فَقِسْمٌ عُلِمَتْ
…
شَرْعِيَّةُ الأَسْبَابِ فِيهِ وَبَدَتْ
546 -
إِمَّا بِقَصْدٍ أَوَّلِ فِي الأَوَّلِ
…
أَوْ تَابِعٍ فِي تَابِعِيٍّ مُكْمِلِ
547 -
فَذَا صَحِيحٌ عِنْدَهُ التَّسَبُّبُ
…
وَهْوَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ فِيهِ يُطْلَبُ
548 -
مِثْلُ النِّكَاحِ شَرْعُهُ لِلنَّسْلِ
…
وَبَعْدَهُ تَمَتُّعٌ بِالأَهْلِ
549 -
وَآخَرُ العِلْمُ أَوِ الظَّنُّ قَضَى
…
بِأَنَّهُ لِلشَّرْعِ غَيْرُ مُقْتَضَى
550 -
فَلَا يَصِحُّ هَاهُنَا التَّسَبُّبُ
…
بِسَبَبٍ لَيْسَ لِشَرْعٍ يُنْسَبُ
551 -
وَمَا أَتَى يُوهِمُ عَكْسَ مَا ذُكِرْ
…
مِمَّا بِهِ الجَوَازُ شَرْعًا اعْتُبِرْ
552 -
كَصِحَّةِ التَّعْلِيقِ لِلطَّلَاقِ
…
قَبْلَ انْعِقَادِ العَقْدِ وَالعِتَاقِ
553 -
فَهْوَ لَدَى المُجِيزِ عَنْ ذَا يَخْرُجُ
…
وَمَا هُنَا أَصْلٌ يُرَى يَنْدَرِجُ
"
المسألة الثَّالِثَةَ عشرة
"
554 -
وَذَاكَ أَنَّ السَّبَبَ المَشْرُوعَا
…
لِحِكْمَةٍ مَطْلُوبَةٍ وُقُوعَا
445 -
إِنْ عُلِمَ الوُقُوعُ أَوْ ظُنَّ فَذَا
…
شَرْعِيَّةُ الحُكمِ لَدَيْهِ تُحْتَذَى
556 -
وَعَكْسُ ذَا إِمَّا يُرَى لَا يَقْبَلُ
…
حِكْمَتَهُ المَحَلُّ حِينَ يُعْمَلُ
557 -
فَلَيْسَ ذَاكَ سَبَبًا شَرْعًا هُنَا
…
كَزَجْرِ غَيْرِ عَاقِلٍ إِذَا جَنَى
558 -
إِمَّا لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ وَالمَحَلْ
…
يَقْبَلُهَا فَالأَمْرُ هَاهُنَا احْتَمَلْ
559 -
وَالخُلْفُ سَائِغٌ وَكُلٌّ صَوَّبَا
…
دَلِيلُهُ فِيمَا إِلَيْهِ ذَهَبَا
560 -
وَثَالِثٌ فِي حَيِّزِ الإِمْكَانِ هَلْ
…
يَقْصِدُهُ الشَّارعُ أَمْ لَا قَدْ حَصَلْ
561 -
فَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ مُسْتَشْكِلُ
…
لِأَنَّهُ لِذَا وَذَا يَحْتَمِلُ
562 -
وَعَدَمُ الإِقْدَامِ فِي التَّسَبُّبَ
…
أَوْلَى مِنَ الإِقْدَامِ فَانْظُرْ تُصِبْ
"
المسألة الرَّابِعَةَ عشرة
"
563 -
كَمَا يُرَى تَرَتُّبُ الأَحْكَامِ فِي
…
مَشْرُوعِ الأَسْبَابِ مِنَ الضِّمْنِ اقْتُفِي
564 -
وَهَكَذَا المَمْنُوعُ مِنْهَا مُطْلَقَا
…
كَالقَطْعِ وَالضَّمَانِ فِيمَا سُرِقَا
565 -
وَقَدْ تُرَى مَصْلَحَةً تُرَتَّبُ
…
عَلَيْهِ بِالضِّمْنِ اقْتَضَاهَا السَّبَبُ
566 -
كَالقَتْلِ عَنْهُ عِتْقُ مَنْ قَدْ دُبِّرَا
…
وَالغَصْبِ عَنْهُ مِلْكُ مَا تَغَيَّرَا
567 -
فَالأَوَّلُ العَاقِلُ غَيْرُ قَاصِدِ
…
لَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ المَفَاسِدِ
568 -
وَالقَصْدُ لِلثَّانِي يَكُونُ إِمَّا
…
لِمَا اسْتَقَرَّ المَنْعُ فِيهِ حُكْمَا
569 -
فَذَاكَ غَيْرُ قَادِحٍ مَهْمَا أَتَى
…
فِي مَصْلَحِيِّ الحُكْمِ حَيْثُ ثَبَتَا
570 -
إلَّا بِحَيْثُ سُدَّتِ الذَّرَائِعُ
…
فَالقَتْلُ لِلتَّشَفِّي الإِرْثَ مَانِعُ
571 -
إِمَّا لِمَا يَتْبَعُ حُكْمَ السَّبَبِ
…
مَصْلَحَةً بِالضِّمْنِ فِي التَّسَبُّبِ
572 -
فَذَا تَسَبُّبٌ بِغَيْرِ سَبَبِ
…
إِذْ لَيْسَ لِلْمَشْرُوعِ بِالمُنْتَسبِ
573 -
لَكِنَّهُ بَعْدُ مَجَالٌ لِلنَّظَرْ
…
مُلْغىً لِقَوْمٍ وَلِقَوْمٍ مُعْتَبَرْ
574 -
فَمَنْ رَأَى القَصْدَ بِهَذَا الوَاقِعِ
…
مُنَاقِضًا مَعْنَاهُ قَصْدَ الشَّارعِ
575 -
عَامَلَ بِالنَّقِيضِ لِلْمَقْصُودِ
…
وَذَاكَ أَصْلٌ ثَابِتُ الوُجُودِ
576 -
دَلِيلُهُ النَّصُّ عَلَى حِرْمَانِ
…
إِرْثِ الَّذِي يَقْتُلُ بِالعُدْوَانِ
577 -
وَمَنْ رَأَى الشَّرْعَ أَرَادَ سَبَبَا
…
لِمَا عَلَيْهِ جُمْلَةً تَرَتَّبَا
578 -
أَجْرَاهُ كَالأوَّلِ فِي المَوَارِدِ
…
وَلَمْ يُرَاعِ فِيهِ قَصْدَ القَاصِدِ
الفَصْلُ الثَّانِي فِي الشُّرُوطِ وَفِيهِ مَسَائِلُ
"
المسألة الأولى
"
579 -
الشَّرْطُ فِي هَذَا الكِتَابِ هُوَ مَا
…
يَكُونُ وَصْفًا قَدْ أَتَى مُتَمِّمَا
580 -
وَمُكْمِلًا مَشْرُوطَهُ فِيمَا اقْتَضَى
…
أَوْ مَا اقْتَضَاهُ الحُكْمُ فِيهِ مِنْ قَضَا
581 -
وَهَبْهُ وَصْفٌ عِلَّةٌ أَوْ سَبَبُ
…
أَوْ وَصْفُ مَعْلُولٍ أَوِ المُسَبَّبِ
582 -
أَو المَحَلُّ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَا
…
مِمَّا يَكُونُ نَهْجَ ذَاكَ سَالِكا
"
المسألة الثَّانِيَة
"
583 -
السَّبَبُ المَقْصُودُ فِيهِ هُوَ مَا
…
وُضعَ فِي الشَّرْعِ لِحُكْمٍ عُلِمَا
584 -
لِحِكْمَةٍ لِلْحُكْمِ مُقْتَضَاةِ
…
مِثْلُ النِّصَابِ سَبَبُ الزَّكَاةِ
585 -
وَالعِلَّةُ الحِكَمُ وَالمَصَالِحْ
…
وَذَاكَ فِي الأَمْرِ وَالإِذْنِ وَاضِحْ
586 -
أَوِ المَفَاسِدُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ
…
بِهَا النَّوَاهِي مُطْلَقًا حَيْثُ أَتَتْ
587 -
كَمِثْلِ تَشْوِيشِ النُّفُوسِ بِالغَضَبْ
…
وَالمَانِعُ المَقْصُودُ هَاهُنَا السَّبَبْ
588 -
المُقْتَضِي لِعِلَّةٍ تُنَافِي
…
عِلَّةَ مَا نَفَاهُ هَذَا النَّافِي
"
المسألة الثَّالِثَة
"
589 -
وَأَضْرُبُ الشُّرُوطِ فِي التَّعْرِيفِ
…
عَقْلِيَّةٌ كَالفَهْمِ فِي التَّكْلِيفِ
590 -
عَادِيَّةٌ كَالأَكْلِ فِي الحَيَاةِ
…
شَرْعِيَّةٌ كَالحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ
591 -
وَالثَّالِثُ المَقْصُودُ ثُمَّ إِنْ وَقَعْ
…
ذِكْرٌ لِغَيْرِهِ فَمِنْ حَيْثُ التَّبَعْ
592 -
إِنْ كَانَ مُبْدِيًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ
…
فَهْوَ إِذًا لِذَاكَ شَرْطٌ شَرْعِي
"
المسألة الرَّابِعَة
"
593 -
وَالشَّرْطُ مَعْ مَشْرُوطِهِ حَيْثُ أَتَى
…
كَالوَصْفِ مَعْ مَوْصُوفِهِ قَدْ ثَبَتَا
594 -
مُسْتَنِدٌ ذَاكَ لِلاسْتِقرَاءِ
…
فِي الشَّرْعِ لِلشُّرُوطِ بِالسَّوَاءِ
595 -
وَيُشْكِلُ الإِيمَانُ شَرْطَ القُرْبَةِ
…
وَالعَقْلُ تَكْلِيفًا كَهَذِي النِّسْبَةِ
596 -
فَذَا كَهَذَا عُمْدَةٌ وَأَوَّلُ
…
كَيْفَ يُقَالُ عَنْهُ أَنَّهُ مُكْمِلُ
597 -
وَيُرْفَعُ الإِشْكَالُ فِي القَضِيَّةْ
…
بِعَدِّ هَاذَيْنِ مِنَ العَقْلِيَّةْ
598 -
أَوْ أَنْ يُعَادَ الشَّرْطُ لِلْمُكَلَّفِ
…
وَهْوَ مَحَلٌّ وَهْوَ بِالقَصْدِ يَفِي
"
المسألة الخَامِسَة
"
599 -
قَدْ صَحَّ فِي الأُصُولِ أَنَّ السَّبَبَا
…
إِنْ يَكُنِ التَّأْثِيرُ قَدْ تَرَتَّبَا
600 -
فِيهِ عَلَى شَرْطٍ لَهُ فَمَا يَقَعْ
…
مُسَبِّبٌ إِلَّا إِذَا الشَّرْطُ وَقَعْ
601 -
شَرْطُ كَمَالٍ كَانَ أَوْ إِجْزَاءِ
…
الحُكْمُ فِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ
602 -
إِذْ لَوْ بَدَا المَشْرُوطُ دُونَ الشَّرْطِ لَمْ
…
يَكُنْ بِهِ شَرْطًا فَكَانَ كَالعَدَمْ
603 -
وَمَا أَتَى يُوهِمُ غَيْرَ مَا ذُكِرْ
…
فِي الفِقْهِ لَا يَنْقُضُهُ إِذَا اعْتُبِرْ
604 -
كَمِثْلِ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عِنْدَ مَنْ
…
يُجِيزُ وَالعَفْوِ وَمَا الشَّرْطُ اقْتَرَنْ
"
المسألة السَّادِسَة
"
605 -
ثُمَّ الشُّرُوط فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ
…
تَرْجِعُ إِمَّا لِخِطَابِ الوَضْعِ
606 -
كَالحَوْلِ لِلزَّكَاةِ لَا مَقْصِدَ فِي
…
تَحْصِيلِهِ شَرْعًا وَلَا أَنْ يَنْتَفِي
607 -
إِمَّا إِلَى الخِطَابِ بِالتَّكْلِيفِ
…
بِالأمْرِ وَالنَّهْيِ لَدَى التَّصْرِيفِ
608 -
كَالأخْذِ لِلزّينَةِ وَالطَّهَارَةْ
…
وَالعَقْدِ لِلتَّحْلِيلِ بِالإِجَارَةْ
609 -
فَذَا بِهِ لِلشَّرْعِ قَصْدٌ قَدْ ظَهرْ
…
فِي تَرْكِ مَا نَهَى وَفِعْلِ مَا أَمَرْ
610 -
وَالشَّرْطُ فِيمَا الشَّرْعُ فِيهِ خَيَّرَا
…
إِنْ كَانَ فَهْوَ مِثْلُ مَا تَقَرَّرَا
"
المسألة السَّابِعَة
"
611 -
وَفِعْلُ مَقْدُورِ الشُّرُوطِ إِنْ وَقَعْ
…
أَوْ تَرْكِهِ قِسْمَان قِسْمٌ امْتَنَعْ
612 -
وَذَاكَ أَنْ يَقْصِدَ مَنْ لَهُ ذَهَبْ
…
إِسْقَاطَ حُكْمِ الاِقْتِضَاءِ فِي السَّبَبْ
613 -
كَيْ لَا يُرَى لَهُ بِذَاكَ مِنْ أَثَرْ
…
فَذَاكَ مَعْنىً بَاطِلٌ لَا يُعْتَبَرْ
614 -
وَإِنْ يَكُ القَصْدُ لَهُ مِنْ حَيْثُ مَا
…
هُوَ مِنَ التَّكْلِيفِ أَمْرٌ حُتِمَا
615 -
بِالإِذْنِ وَالنَّهْيِ مَعًا وَالأمْرِ
…
فَهْوَ صَحِيحُ الحُكْمِ حَيْثُ يَجْرِي
616 -
وَالحُكْمُ مَعْ وُجُودِهِ مَوْجُودُ
…
وَهْوَ بِحَالِ فَقْدُهُ مَفْقُودُ
"
المسألة الثَّامِنَة
"
617 -
وَالشَّرْطُ مَعْ مَشْرُوطِهِ أَقْسَامُ
…
كَالاِعْتِكَافِ شَرْطُهُ الصِّيَامُ
618 -
فَذَاكَ مَا لَا يُمْتَرَى فِي صِحَّتِهْ
…
لِأنَّهُ مُكَمِّلٌ لِحِكْمَتِهْ
619 -
أَوْ لَا مُلَائِمٌ وَلَا مُكَمِّلُ
…
لِحِكْمَةٍ بَلْ هُوَ ضِدٌّ مُبْطِلُ
620 -
فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِي إِبْطَالِهِ
…
لِمَا بَدَا مِنِ اخْتِلَافِ حَالِهِ
621 -
وَثَالِثٌ يُرَى عَلَى المَسْالَمةِ
…
بِلَا مُنَافَاةٍ وَلَا مُلَائَمَةِ
622 -
فَهْوَ مَجَالُ نَظَرِ الأَذْهَانِ
…
فِي جَعْلِهِ كَأَوَّلٍ أَوْ ثَانِ
623 -
وَيَنْبَغِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ العَادَةْ
…
فِيهِ وَبَيْنَ جِهَةِ العِبَادَةْ
624 -
إِذْ عَدَمُ التَّنَافِي فِي العَادَاتِ
…
كَافٍ عَلَى عَكْسِ التَّعَبُّدَاتِ
الفصل الثالث في الموانع وفيه مسائل
"
المسألة الأُوْلَى
"
625 -
مَوَانِعُ الأَحْكَامِ إِمَّا رَافِعُ
…
لِأَصْلِ مَا يَطْلُبُ مِنْهَا الشَّارعُ
626 -
لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الطَّلَبْ
…
كَمِثْلِ كُلِّ مَا بِهِ العَقْلُ ذَهَبْ
627 -
فَالشَّرْطُ فِي تَعَلُّقِ الخِطَابِ
…
إِمْكَانُ فَهْمِهِ مِنَ الأَلْبَابِ
628 -
وَرَافِعٌ لَهُ وَلَاكِنْ يُمْكِنُ
…
حُصُولُهُ كَالحَيْضِ وَهْوَ بَيِّنُ
629 -
وَرَافِعٌ لِحُكْمِ الاِنْحِتَامِ
…
لَا الأَصْلِ مِثْلُ الرِّقِّ فِي أَحْكَامِ
630 -
وَآخَرُ المَعْنَى بِهِ رَفْعُ الحَرَجْ
…
وَسَبَبُ الرُّخْصَةِ فِي هَذَا انْدَرَجْ
"
المسألة الثَّانِيَة
"
631 -
وَكُلُّهَا لَا قَصْدَ فِي ارْتفَاعِهَا
…
لِلشَّرْعِ إِنْ كَانَتْ وَلَا إِيقَاعِهَا
632 -
وَهْيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ اقْتُفِي
…
مِنْ جِهَةِ التَّكْلِيفِ لِلْمُكَلَّفِ
633 -
مِنْ حَيْثُ أَنْ أُلْفِيَ مَأْمُورًا بِهِ
…
أَوْ حَاصِلًا بِالإِذْنِ أَوْ عَنْهُ نُهي
634 -
كَالكُفْرِ مَانِعٌ مِنَ الأَعْمَالِ
…
فَذَاكَ وَاضِحٌ بِلَا إِشْكَالِ
635 -
لَاكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ هَذَا فِي النَّظَرْ
…
لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِهَذَا المُعْتَبَرْ
636 -
ثَانِيهِمَا المَقْصُودُ مَا قَدْ دَخَلَا
…
تَحْتَ خِطَابِ الوَضْعِ حَيْثُ يُجْتَلَى
637 -
لَاكِنَّ مَعْ تَوَجُّهِ المُكَلَّفِ
…
إِلَيْهِ قَصْدًا ذَا بِتَفْصِيلٍ حَفِي
"
المسألة الثَّالِثَة
"
638 -
فَإِنْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ التَّصْرِيفِ
…
بِمُقْتَضَى الخِطَابِ بِالتَّكْلِيفِ
639 -
لِكَوْنِهِ مِمَّا بِهِ قَدْ أُمِرَا
…
أَوْ صُدَّ عَنْهُ أَوْ غَدَا مُخَيَّرَا
640 -
فَذَاكَ ظَاهِرٌ كَمُسْتَدِينِ
…
لِحَاجَةٍ بَدَتْ لَهُ فِي الحِينِ
641 -
وَينْبَنِي الأَحْكَامُ فِي المَوَاقِعِ
…
بِحَسَبِ الحُصُولِ لِلْمَوَانِعِ
642 -
وَإِنْ يَكُنْ تَحْصِيلُ ذَاكَ المَانِعِ
…
بِقَصْدِ الإِسْقَاطِ لِحُكْمِ الشَّارعِ
643 -
فَبِالكِتَابِ مَنْعُهُ وَالسُّنَّةِ
…
وَانْظُرْ إِلَى قِصَّةِ صَحْبِ الجَنَّةِ
644 -
وَمَا مَضَى فِي الشَّرْطِ قَبْلُ جَارِ
…
هُنَا فَلَا فَائِدَ فِي التَّكْرَارِ
الفَصْل الرابع: في الصحة والبطلان وفيه مسائل
"
المسألة الأُوْلَى
"
645 -
وَتُطْلَقُ الصِّحَّةُ إِطْلَاقَيْنِ
…
بِحَسَبِ الأَحْكَامِ فِي الدَّارَيْنِ
646 -
فَتُطْلَقُ الصِّحَّةُ فِي العِبَادَةْ
…
دُنْيَا عَلَى الإِجْزَا فَلَا إِعَادَةْ
647 -
أَوْ أَنَّهَا وَسِيلَةُ الثَّوَابِ
…
مَرْجُوَّةُ القَبُولِ فِي الحِسَابِ
648 -
وَهْيَ لَدَى العَادَةِ مَا يُحَصِّلُ
…
شَرْعًا مَا الاِنْتِفَاعُ عَنْهُ يَحْصُلُ
649 -
أَوِ امْتِثَالُ الشَّرْعِ بِالتَّحَرِّي
…
فِي الإِذْن أَوْ فِي النَّهْي أَوْ فِي الأَمْرِ
"
المسألة الثَّانِيَة
"
650 -
وَإِذْ عَرَفْتَ ذَاكَ فَالبُطْلَانُ
…
عَكْسُ الَّذِي قُرِّرَ فِيهِ الشَّانُ
651 -
حَاصِلُهُ مَا قَدْ يُرَى فِي الوَاقِعِ
…
مُخَالِفًا فِي الحُكْمِ قَصْدَ الشَّارعِ
652 -
فِي نَفْسِ ذَاكَ الفِعْلِ أَوْ فِي الوَصْفِ
…
عَلَى الَّذِي لَهُمْ بِهِ مِنْ خُلْفِ
"
المسألة الثَّالِثَة
"
653 -
وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِأَمْرٍ بَادِ .... بِنِسْبَةِ العَادِيِّ لِلْمَعَادِ
654 -
فَمَا يُرَى عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ قَدْ وَقَعْ
…
فَالنَّيْلُ لِلثَّوَابِ هَاهُنَا ارْتَفَعْ
655 -
وَالفِعْلُ بِالقَصْدِ لِنَيْلِ الغَرَضِ
…
مُجَرَّدًا لِمِثْلِ ذَاكَ يَقْتَضِي
656 -
وَإِنْ بِهِ التَّكْلِيفُ قَدْ تَعَلَّقَا
…
أَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ مُطْلَقَا
657 -
وَتَحْتَ ذَا يَدْخُلُ مَا عَنْهُ نُهِي
…
وَصَدَّ حُكْمُ الطَّبْعِ عَنْ أَخْذٍ بِهِ
658 -
وَمِثْلُهُ الفِعْلُ مَعَ اسْتِشْعَارِ
…
تَوَافُقٍ بِحُكْمِ الاِضْطِرَارِ
659 -
وَتَرْكُ مَا كَانَ مِنَ المَحَارِمِ
…
خَوْفَ افْتِضَاحٍ أَوْ عِقَابِ حَاكِمِ
660 -
وَكُلُّهَا بَاطِلَةُ المَتَاتِ
…
فَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
661 -
وَالفِعْلُ لِلشَّيءِ مَعَ اسْتِشْعَارِ
…
تَوَافُقٍ بِحُكْمِ الاِخْتِيَارِ
662 -
كَفَاعِلِ المُبَاحِ بَعْدَ عِلْمِهِ
…
بِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي حُكْمِهِ
663 -
فَذَا الَّذِي فِيهِ تَعَيَّنَ النَّظَرْ
…
فِيمَا أُبِيحَ لَا سِوَاهُ إِنْ ظَهَرْ
664 -
إِذِ امْتِثَالُ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَا
…
بِالاِعْتِبَارَيْنِ صَحِيحٌ تَبَعَا
665 -
وَتَرْكُ الامْتِثَالِ فِي الوَجْهَيْنِ
…
إِنْ كانَ بَاطِلٌ بِالإِطْلَاقَيْنِ
666 -
فَالفِعْلُ لِلْمُبَاحِ أَوْ تَرْكٌ لَهُ
…
مِنْ جِهَةِ الحَظِّ لِمَنْ أَعْمَلَهُ
667 -
يَبْطُلُ بِاعْتِبَارِ حَالِ الأُخْرَى
…
إِذْ لَا يُفِيدُ قَصْدُ ذَاكَ أَجْرَا
668 -
فَإِنْ يَكُنْ فِي الحَظِّ قَدْ تَحَرَّى
…
نَيْلَ الَّذِي الإِذْنُ بِهِ اسْتَقَرَّا
669 -
دُونَ سِوَاهُ فَهُنَا قَدْ ثَبَتَا
…
تَرَتُّبُ الثَّوَابِ شَرْعًا وَأَتَى
670 -
وَمِثْلُ ذَا الإِبَاحَةُ المَطْلُوبَةْ
…
بِالكُلِّ فِعْلُهَا بِهِ مَثُوبَةْ
671 -
وَإِنَّ لِلصِّحَّةِ فِي العَادَاتِ
…
كذَاكَ تَقْسِيمٌ وَسَوْفَ يَاتِي
الفصل الخامس: في العزيمة والرخصة، وَفِيه مسائل
"
المسألة الأُوْلى
"
672 -
عَزِيمَةُ الأَحْكَامِ مَا قَدْ شُرِّعَا
…
كُلِّيَّةً بَدْءًا بِحَيْثُ وَقَعَا
673 -
وَالرُّخْصَةُ المَشْرُوعُ عِنْدَ عُذْرِ
…
يَشُقُّ أَمْرُهُ بِذَاكَ الأَمْرِ
674 -
بِحُكْمِ الاِسْتِثْنَاءِ مِنْ أَصْلٍ كُلِّي
…
لِلْمَنْعِ مُقْتَضٍ بِحُكْمِ الأَصْلِ
673 -
مَعَ اقْتِصَارِ بَعْدُ فِي التَّصَرُّفِ
…
عَلَى مَحَلِّ حَاجَةِ المُكَلَّفِ
676 -
وَتُطْلَقُ الرُّخْصَةُ فِي المُسْتَثْنَى
…
مِنْ أَصْلِهِ الكُلِّيِّ حَيْثُ عَنَا
677 -
دُونَ اعْتِبَارِ العُذْرِ كَالقِرَاضِ
…
وَكَالمُسَاقَاةِ وَكَالإِقْرَاضِ
678 -
وَرُبَّمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الرُّخْصَةِ
…
لِمُقْتَضَى التَّخْفِيفِ عَنْ ذِي الأُمَّةِ
679 -
وَتُطْلَقُ الرُّخْصَةُ بِاعْتِبَارِ مَا
…
يُلْفَى مِنَ المَشْرُوعِ حُكْمًا رُسِمَا
680 -
تَوْسِعَةً عَلَى العِبَادِ مُطْلَقَا
…
مِنْ حَيْثُ مَا الحَظُّ بِهِ تَعَلَّقَا
681 -
فَهَذِهِ جُمْلَةُ الإِطْلَاقَاتِ
…
وَالأَوَّلُ التَّفْرِيعُ فِيهِ آتِ
682 -
وَالثَّانِ لَا كَلَامَ فِيهِ حِينَ لَا
…
تَفْرِيعَ وَالثَّالِثُ حُكْمُهُ جَلَا
683 -
وَرَابِعٌ لَهُ اخْتِصَاصٌ يَحْصُلُ
…
تَفْرِيعُهُ مِمَّا اقْتَضَاهُ الأَوَّلُ
"
المسألة الثَّانِيَة
"
684 -
وَإِنَّ حُكْمَ الرُّخَصِ الإِبَاحَةْ
…
وَكَمْ دَلِيلٍ يَعْضُدُ اتِّضَاحَهْ
685 -
وَمُوهِمُ النَّدْبِ أَوِ الوُجُوبِ
…
آتٍ عَلَى أَصْلٍ لَهُ مَطْلُوبِ
"
المسألة الثَّالِثَة
"
686 -
وَلَيْسَتِ الرُّخَصُ أَصْلِيَّاتِ
…
وَإِنَّمَا تُلْقَى إِضَافِيَّاتِ
687 -
أَيْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي شَأْنِهَا
…
فَقِيهُ نَفْسِهِ لَدَى إِتْيَانِهَا
688 -
مَا لَمْ يَحُدِّ الشَّرْعُ فِيهَا حَدَّا
…
فَعِنْدَهُ الوُقُوفُ لَا يُعَدَّى
689 -
بَيَانُهُ بِالشَّرْعِ حُكْمًا يُقْتَنَصْ
…
وَبِاخْتِلَافِ الحُكْمِ فِي أَمْرِ الرُّخَصْ
690 -
مِنْ جِهَةِ الأَسْبَابِ وَالأَعْمَالِ
…
وَجِهَةِ الأَزْمَانِ وَالأَحْوَالِ
"
المسألة الرَّابِعَة
"
691 -
إِبَاحَةِ الرُّخْصَةِ مِنْ رَفْعِ الحَرَجْ
…
وَالحُكْمُ بِالتَّخْيِيرِ عَنْهَا قَدْ خَرَجْ
692 -
وَذَاكَ مُقْتَضًى مِنَ النُّصُوصِ
…
فِي ذَا وَفِي ذَاكَ عَلَى الخُصُوصِ
693 -
وَالفَرْقُ تَنْبَني عَلَيْهِ بَعْدُ
…
فَوَائِدٌ تَكَادُ لَا تُعَدُّ
"
المسألة الخَامِسَة
"
694 -
لِلْقِسْمَةِ الرُّخْصَةُ مُسْتَحِقَّةْ
…
فَمَا يُرَى مُقَابِلًا مَشَقَّةْ
695 -
لَا صَبْرَ لِلْمُكَلَّفِينَ طَبْعَا
…
عَلَى احْتِمَالِ وَقْعِهَا أَوْ شَرْعَا
696 -
كَمِثْلِ الأَمْرَاضِ أَوِ الصِّيَامِ
…
يَعْجَزُ فِي الصَّلَاةِ عَنْ إِتْمَامِ
697 -
فَذَاكَ مَطْلُوبٌ لِحَقِّ اللهِ
…
وَالشَّرْعُ عَنْ تَرْكٍ لِذَاكَ نَاهِ
698 -
وَهَاهُنَا الرُّخْصَةُ مِمَّا تَجْرِي
…
مَجْرَى العَزَائِمِ بِبَعْضِ الأَمْرِ
699 -
وَمَا يُرَى مُقَابِلًا لِمَا قَدَرْ
…
مُكَلَّفٌ صَبْرًا عَلَيْهِ إِنْ ظَهَرْ
700 -
فَذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى العِبَادِ
…
بِحَيْثُ نَيْلُ الرِّفْقِ مِنْهُ بَادِ
701 -
وَهْوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مَا كَاللَّازِمِ
…
فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِالعَزَائِمِ
702 -
وَذَاكَ مِثْلُ الجَمْعِ بِالمُزْدَلِفَةْ
…
وَمَا عَدَاهُ حَالُهُ مُخْتَلِفَةْ
703 -
فَالشَّرْعُ فِيهِ غَيْرُ مُبْدٍ لِلطَّلَبْ
…
وَمَسْقِطُ الإِثْمِ لِمَنْ لَهُ ذَهَبْ
"
المسألة السَّادِسَة
"
704 -
وَحَيْثُ قِيلَ حُكْمُهَا التَّخْيِيرُ
…
فَفِيهِ لِلْبَحْثِ مَدىً كَبِيرُ
705 -
فَقَدْ يُقَالُ الأَخْذُ بِالعَزِيمَةِ
…
أَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِ حُكْمِ الرُّخْصَةِ
706 -
وَذَاكَ لِلتَّأصِيلِ وَالعُمُومِ
…
وَسَدِّهَا بَابَ الهَوَى المَذْمُومِ
707 -
مَعْ مَا أَتَى نَقْلًا مِنَ الحَضِّ
…
عَلَى لُزُومِ الاِنْحِتَامِ مَرَّ أَوْ حَلَا
708 -
لَكِنَّمَا الحَالُ بِهَا مُخْتَلِفُ
…
مِنَ المَشَقَّاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ
"
المسألة السَّابِعَة
"
709 -
وَهْيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ فِي ذَا الحُكْمِ
…
مِنْهَا حَقِيقِيٌّ وَمِنْهَا وَهْمِي
710 -
وَمُعْظَمُ التَّرَخُّصَّاتِ فِي النَّظَرْ
…
مِنْ أَوَّلٍ مِثْلُ وُجُودٍ فِي السَّفَرْ
711 -
فَإِنْ تَكُنْ عَزِيمَةٌ عَنْهَا يَقَعْ
…
مَا لَيْسَ يُسْتَطَاعُ طَبْعًا أَنْ وَقَعْ
712 -
أَوْ لَيْسَ يُسْتَطَاعُ شَرْعًا حَمْلُهُ
…
مُحَقَّقًا لَيْسَ يُظَنُّ أَصْلُهُ
713 -
كَانَ اقْتِفَا الرُّخْصَةِ مِمَّا يُطْلَبُ
…
وَهْوَ لِحَقِّ اللهِ فِيهِ يُنْسَبُ
714 -
وَمِثْلُهُ المَظْنُونُ مَهْمَا اسْتَنَدَا
…
لِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ قَدْ وُجِدَا
715 -
وَإِنْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إِلَى سَبَبْ
…
غَيْرِ مُعَيَّنَ فَهَاهُنَا وَجَبْ
716 -
الأَخْذُ بِالعَزِيمَةِ الأَصْلِيَّةْ
…
أَوْلَى مِنَ الرُّجُوعِ لِلْجُزْئِيَّةْ
717 -
وَضَرْبُهَا الثَّانِي التَّوَهُّمِيُّ
…
كَمِثْلِ هَذَا حُكْمُهُ جَلِيُّ
718 -
فَصَحَّ أَنَّ الصَّبْرَ فِي العَزِيمَةْ
…
سَبِيلُ مَنْ وَافَاهُ مُسْتِقِيمَةْ
719 -
إِلَّا مَعَ المَشَقَّةِ المُخِلَّةِ
…
فَتُقْصَدُ الرُّخْصَةُ لِلْأَدِلَّةِ
720 -
وَمَا يُخَالِفُ الهَوَى لَا يُحْسَبُ
…
مَشَقَّةً لِرُخْصَةٍ تُطْلَبُ
721 -
وَحَاصِلُ الرُّخْصَةِ أَنْ لَا تُرْتَكَبْ
…
إِلَّا إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةَ السَّبَبْ
722 -
وَذَاكَ مَا يَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ
…
أَوْ مَا يُرَى فِي الشَّرْعِ مِنْ مُطَّلَبِهِ
723 -
أَوِ ابْتِدَائِيًّا لِأَجْلِ الحَاجَةْ
…
كَالقَرْضِ أَوْ مَا يَقْتَفِي مِنْهَاجَهْ
"
فصل
"
724 -
وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ الأَخْذَ بِالرُّخَصْ
…
أَوْلَى مِنْ أَوْجُهٍ لِذَاكَ تُقْتَنَصْ
725 -
مِنْ ذَاكَ أَنَّ الأَصْلَ فِيهَا قَطْعِي
…
وَحُكْمُهَا لِذَاكَ حُكْمٌ شَرْعِي
726 -
وَقَدْ أَتَى فِيهَا مِنَ الشَّرْعِ الطَّلَبْ
…
وَالبَعْضُ مِنْهَا عِنْدَ قَوْمٍ قَدْ وَجَبْ
727 -
وَالأصْلُ أَنْ يَعُمَّ فِي التَّرَخُّصِ
…
فَالبَعْضُ تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصِّصِ
728 -
وَإِنْ تَكُنْ جُزْئِيَّةَ المَفْهُومِ
…
فَهْيَ مِنَ التَّخْصِيصِ لِلْعُمُومِ
729 -
وَفَاعِلُ الرُّخْصَةِ فِي المَوَاقِعِ
…
مُوَافِقُ القَصْدِ لِقَصْدِ الشَّارعِ
730 -
وَغَيْرُهُ مَظِنَّةُ التَّعَمُّقِ
…
فِي الشَّرْعِ وَهْوَ عِنْدَهُ مِمَّا اتُّقِي
731 -
إِلَى نُصُوصٍ تَقَتَضِي رَفْعَ الحَرَجْ
…
وَالأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِنَّ انْدَرَجْ
732 -
وَيَنْبَنِي عَلَى الَّذِي قَدْ مَرَّا
…
أَنْ لَيْسَ تَرْكُ رُخْصَةٍ بِأَحْرَى
733 -
بِحَيْثُ مَا يُلْفَى تَعَيُّنُ السَّبَبْ
…
فِيهَا بِقَطْعٍ أَوْ بِظَنٍّ قَدْ غَلَبْ
734 -
وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُهَا أَوْلَى وَقَدْ
…
يَسْتَوِيَانِ فِي مَحَلٍّ يُعْتَمَدْ
735 -
وَإِنْ يَكُنْ لَا يَغْلِبُ الظَّنُّ فَلَا
…
إِشْكَالَ أَنَّ المَنْعَ أَمْرُهُ انْجَلَى
736 -
وَحَاصِلُ البَحْثَيْنِ أَنَّ المَسْأَلَةْ
…
مِمَّا تُرَى الأَنْظَارُ فِيهِ مُعْمَلَةْ
"
المسألة الثَّامِنَة
"
737 -
وَكُلُّ مَا يَشُقُّ وَالشَّارعُ قَدْ
…
بَيَّنَ وَجْهَ الرِّفْقِ فِيهِ وَقَصَدْ
738 -
فَالمُتَوَخِّي قَصْدَهُ مُمْتَثِلُ
…
وَآخِذٌ بِالحَزْمِ فِيمَا يَفْعَلُ
739 -
وَغَيْرُهُ خَالَفَ قَصْدَ الشَّارِعِ
…
وَسَدَّ بَابَ يُسْرِهِ لِلْقَارِعِ
"
المسألة التَّاسِعَة
"
740 -
وَسَبَبُ الرُّخْصَةِ عُدَّ مَاِنعَا
…
أَنْ كَانَ حُكْمَ الاِنْحِتَامِ رَافِعًا
741 -
فَقَاصِدٌ إِيقَاعَهُ كَيْ يَرْتَفِعْ
…
عَنْهُ بِذَاكَ القَصْدِ حُكْمُ مَا شُرِعْ
742 -
غَيْرُ صَحِيحٍ فِعْلُهُ فِي ذَلِكْ
…
وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُهُ هُنَالِكْ
"
المسألة العَاشِرَة
"
743 -
لِلْوَاجِبِ المُخَيَّرِ المَصِيرُ
…
إِنْ قِيلَ حُكْمُ الرُّخْصَةِ التَّخْيِيرُ
744 -
وَإِنْ يَكُ المَعْنَى عَلَى رَفْعِ الحَرَجْ
…
فَحُكْمُهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَاكَ خَرَجْ
"
المسألة الحَادِيَةَ عَشَرَة
"
745 -
ثُمَّ إِذَا تُعْتَبَرُ العَزَائِمُ
…
تُلْفَى وَالاِطِّرَادُ فِيهَا لَازِمُ
746 -
مَعْ جَرْيِهَا فِي مُقْتَضَى العَادَاتِ
…
فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ وَالأَوْقَاتِ
747 -
وَعَكْسُهَا الرُّخْصَةُ حَيْثُ تَجْرِي
…
عِنْدَ انْخِرَاقِ عَادَةٍ لِعُذْرِ
748 -
وَدَاخِلٌ فِيهَا انْخِرَاقُ العَادَةْ
…
لِأوْليَاءِ اللهِ بِالعِبَادَةْ
الخطبة
1 -
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مِنْ نِعْمَتِهِ
…
أَنْ بَثَّ فِي المَشْرُوعِ سِرَّ حِكْمَتِهِ
2 -
وَهَيَّأَ العُقُولَ لِلتَّصْرِيفِ
…
بِمُقْتَضَى الخِطَابِ بِالتَّكْلِيفِ
3 -
وَأَرْسَلَ الرُّسْلَ مُبَشِّرَينَا
…
بِمَا أَعَدَّهُ وَمُنْذِرَيْنَا
4 -
وَخَصَّنَا بِمِسْكَةِ الخِتَامَ
…
وَالرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ لِلْأَنَامِ
5 -
وَمَنْ بِنُورِ الوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ
…
أَنْقَذَنَا مِنْ ظُلْمَةِ الجَهَالَةِ
6 -
مُحَمَّدٍ صَفْوَةِ الأَنْبِيَاءِ
…
المُجْتَبَى بِالمِلَّةِ السَّمْحَاءِ
الخطبة
"الحَمْدُ للهِ" إخبار صيغة، إنشاء معنى والله اسم للذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد "الذِي" كان"مِنْ نِعْمَتِه" على "أَنْ بَثَّ؛ أي نشر وأودع "فِي المَشْرُوعِ" أي الشريعة "سِرَّ حِكْمَتِه" البالغة سبحانه. "وَهَيَّأ" أي أعد بعظيم قدرته "العُقُولَ" وفطرها "لِلتَّصْرِيفِ" أي النظر على أوجه مختلفة "بِمُقْتَضَى" يعني في مقتضى ومدلول "الخِطَابِ" الشرعي المتعلق "بِالتَّكْلِيفِ" للعباد "و "الذي من نعمته - كذلك - أن "أَرْسَلَ" وبعث "الرُّسْلَ" إلى الناس "مُبَشِّرِينَا" - الألف للإطلاق - من آمن "بِمَا أَعَدَّهُ" وهيأه لهم من الثواب والنعيم المقيم "وَمُنْذِرِينَا" أي مخوفين من كفر بالعذاب الأليم "وَ" كذلك من نعمته سبحانه أن "خَصَّنَا" بين خلقه "بِمِسْكَةِ" - بكسر الميم - واحدة المسك - الطيب المعروف "الخِتَامِ" للرسل "وَالرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ" - بضم الميم - المعطاة على وجه الهدية "لِلْأنَامِ" أي الخلق "وَمَنْ بِنُورِ" وضوء وإنارة "الوحي"الرباني "وَالرَّسَالَة أَنْقَذَنَا" وأخرجنا "مِنْ ظُلْمَةِ الجَهَالَة" - بفتح الجيم - الجهل - ضد العلم -.
"مُحَمَّدٍ" بالجر بدل من الصفات المتقدمة - مسكة الختام والرحمة المهداة - ومن بنور الوحي أنقذنا - أو عطف بيان لها، ويصح رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو، "صَفْوَةِ" - بفتح الصاد وكسرها وسكون الفاء - أي خالص وخيار "الأَنْبِيَاءِ" عليهم الصلاة والسلام "المُجْتَبَى" بضم الميم وسكون الجيم وفتح التاء - المثناة فوق - أي المصطفى المختار المفضل "بِالمِلَّةِ السَّمْحَاءِ" التي لا إصر فيها ولا حرج ولا ضيق فيها
7 -
أَرْسَلَهُ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَا
…
فَبَادَرُوا إِلَيْهِ مِهْطِعِينَا
8 -
وَدَخَلُوا فِي دِينِهِ أَفْوَاجًا
…
وَاتَّخَذُوا شِرْعَتَهُ مِنْهَاجًا
9 -
وَلَمْ يَحِدْ عَنْ ذَاكَ إِلَّا حَاسِدُ
…
أَوْ جَاحِدٌ لِحَقِّهِ مُعَانِدُ
10 -
فَانْتَسَخَتْ بِشَرْعِهِ الشَّرَائِعُ
…
وَانْقَطَعَتْ عَنْ غَيْرِهِ المَطَامِعُ
11 -
وَاخْتَصَّهُ اللَّهُ بِمُعْجِزَاتِ
…
مِنْهَا الكِتَابُ الوَاضِحُ الآيَاتِ
ولا شدة. وقوله السمحاء هكذا بالمد، والمعروف في صيغة هذا الوصف السمحة - بالهاء - يقال الحنيفية السمحة. وهو الوارد في كتب اللغة المتداولة.
"أرسله" سبحانه "للخلق" الإنس والجن "أجمعينا" فكلهم أمة دعوته "فبادروا" يعني فبادر منهم من وفقهم الله - تعالى - للخير، وهداهم إلى الصراط المستقيم أي أسرعوا "إليه" يعني إلى الإيمان به واتباعه "مهطعينا" أي منطلقين في صمت أو مسرعين فيكون حالا مؤكدا لقوله "بادروا""ودخلوا" في دينه الذي أرسل هبة من رب العالمين "أفواجا" أي جماعات "واتخذوا" أي صيروا وجعلوا "شرعته" بكسر الشين وسكون الراء - أي شريعته - ما شرعه الله - تعالى - لعباده من الدين "منهاجا" - بكسر الميم - طريقًا واضحًا يمشون عليه "ولم يحد" أي يمل ويعدل "عن ذاك" البدار واتخاذ الشريعة منهاجا "إلا حاسد" أعماه حسده وأضله عن سواء السبيل، كما هو حال اليهود "أو جاحد" منكر "لحقه" صلى الله عليه وسلم في الإيمان به وفي وجوب إتباعه وطاعته "معاند" يعرف الحق، وينكره. "فانتسخت؛ أي أزيلت "بشرعه" الذي أرسل به جميع "الشرائع" السابقة وأضاف الشرع إليه باعتبار أنه الذي هو عليه في عقيدته وعبادته - "و" بذلك الانتساخ لتلك الشرائع "انقطعت" فانفصمت عن "غيره" أي عن غير شرعه - ويحتمل أن يكون عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم "المطامع"، يعني مطامع الخلق في التعبد والتقرب إلى الباري سبحانه وتعالى لأنَّهُ لا غناء فيما سواه من الشرائع بعد أن نسخت، أو لا غناء في إتباع غير الرسول صلى الله عليه وسلم من الرسل من غير إتباعه، بعد أن كان إتباعه شرطا في صحة الإيمان وقبول الأعمال.
"واختصه؛ أي أفرده "الله" تعالى "بمعجزات" باهرة كثيرة "منها" القرآن الكريم وهو "الكتاب الواضح" البين "الآيات" جمع آية سميت بذلك لأنها جماعة من حروف
12 -
أَنْزَلَهُ مُفَصَّلَ الأَحْكَامِ
…
مُبَيَّنَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ
13 -
صَادِعَةً آيَاتُهُ بِصِدْقِهِ
…
وَفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ
14 -
فَأَكْمَلَ الدِّينَ بِهِ لِلْأُمَّةِ
…
مُتَمِّمًا عَلَيْهِمُ بِالنِّعْمَةِ
15 -
وَإِنَّ فِي العَجْزِ عَنِ الإِتْيَانِ
…
بِمِثْلِهِ لأَعْظَمُ البُرْهَانِ
16 -
وَإِذْ أَقَرَّ الشَّرْعَ أَصْلًا أَصْلَا
…
خُيِّرَ فَاخْتَارَ الرَّفِيقَ الأَعْلَى
القرآن، أو سميت بذلك لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام "أنزله" سبحانه وتعالى "مفصل" - بفتح الصاد و كسرها - فهو بالفتح بمعنى موضح مبين "الأحكام" فيكون فيه إضافة الصفة للموصوف - يعني أن أحكامه مبينة لا خفاء فيها ولا إجمال ولا انبهام - وبالكسر بمعنى أنه موضح ومبين للأحكام الشرعية على صفاء تام لا يعتريه غبش ولا يخالطه كدر "مبين" - بالفتح والكسر - "الحلال" فهو بالفتح بمعنى مبين ما حكم عليه فيه بأنه الحلال المباح "و" كذلك ما حكم عليه فيه بأنه "الحرام" المحظور، وبالكسر بمعنى أنه مبين ما هو الحلال وما هو الحرام موضح له على صفاء ونقاء. "صادعة" ناطقة بجهر "آياته" أي الكتاب - القرآن الكريم - "بصدقه" عليه الصلاة والسلام "و" شاهدة "فضله" العظيم" على جميع خلقه" تعالى ومن ذلك قوله سبحانه:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} [الأحزاب: 45، 46]. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107] وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى وهي كثيرة جدًّا.
"فأكمل" سبحانه "الدين به" يعني بإرساله وبعثه "لـ" هذه "الأمة" المسلمة "متمما" ومكملا "عليهم للنعمة" قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. هذا "وإن في العجز" القائم بالثقلين "عن الإتيان" والمجيء "بمثله؛ أي بمثل هذا القرآن"لأعظم"ما يصح أن يطلق عليه لفظ القرآن "البرهان" وأجله. "وإذ" أي وحين "أقر" صلى الله عليه وسلم أي ثبت قواعد وأركان "الشرع" ورسخ أصوله "أصلا أصلا" وبين أحكامه حكما حكما "خير" - بضم الخاء مبنيا للمفعول - أي خيره الله سبحانه وتعالى بين الحياة والموت "فاختار" عليه الصلاة والسلام "الرفيق الأعلى" وهو الجنة لأنها المحل الذي تحصل له فيه المرافقة مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، أو مع جبريل وميكائيل وإسرافيل.
17 -
وَبَقِيَ الهُدَى لِبَاقِي أُمَّتِهِ
…
فِي مُقْتَضَى كِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ
18 -
عَلَيْهِ مِنْ بَاعِثِهِ بِالحِكْمَةِ
…
أَزْكَى الصَّلَاةِ وَأَعَمُّ الرَّحْمَةِ
19 -
وَبَعْدُ فَالعِلْمُ حَيَاةٌ ثَانِيَةْ
…
لَهَا دَوَامٌ وَالجُسُومُ فَانِيةْ
قال الحافظ ابن حجر: "وزعم بعض المغاربة أنه يحتمل أن يراد بالرفيق الأعلى الله عز وجل لأنَّهُ من أسمائه كما أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن مغفل رفعه "أن الله رفيق يحب الرفق" كذا اقتصر عليه، والحديث عند مسلم عن عائشة فعزوه إليه أولى. قال والرفيق يحتمل أن يكون صفة ذات كالحكيم، أو صفة فعل، قال: ويحتمل أن يراد به حضرة القدس، ويحتمل أن يراد به الجماعة المذكورون في آية النساء. ومعنى كونهم رفيقا تعاونهم على طاعة الله وارتفاق بعضهم ببعض، وهذا الثالث هو المعتمد. وعليه اقتصر أكثر الشراح. وقد غلط الأزهري القول الأول، ولا وجه لتغليطه من الجهة التي غلطه بها وهو قوله: مع الرفيق الأعلى، لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ"
(1)
.
وأصل ما ذكره الناظم من الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح - أنه لم يقبض نبي حتَّى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه، ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى، فقلت إذا لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي يحدثنا وهو صحيح. قالت: فكان آخر كلمة تكلم بها: اللهم الرفيق الأعلى.
"و" بعد وفاته عليه الصلاة والسلام "بقي الهدى" والرشد "لباقي" وسائر "أمته" متضمنا مودعا "في مقتضى" آيات "كتابه" تعالى ومقتضى "سنته عليه" الصلاة والسلام "من باعثه" ومرسله سبحانه وتعالى "بالحكمة" والحق المبين "أزكى" أي أطيب "الصلاة وأعم" أي أكمل وأشمل "الرحمة" والسلام. "وبعد" ظرف مقطوع عن الإضافة لفظًا لا معنًى - أي وبعد هذا الذي ذكر من الثناء على الله تعالى والصلاة والسلام على نبيه الكريم "فـ" إن "العلم" الذي به عبادة رب العالمين ومعرفته "حياة ثانية" مستمرة "لها دوام" وبقاء وأما "الجسوم" والذوات فإنها على كل حال"فانية" زائلة إذ تصير
(1)
فتح الباري 8 - 174.
20 -
وَمُذْ غَدَا ظِلُّ الشَّبَابِ زَائِلَا
…
وَلَمْ أَنَلْ مِنَ الزَّمَانِ طَائِلَا
21 -
جَعَلْتُ فِي كُتْبِ العُلُومِ أُنْسِي
…
وَعَنْ سِوَى العِلْمِ صَرَفْتُ نَفْسِي
22 -
فَالعِلْمُ أَوْلَى مَا انْقَضَى بِهِ الزَّمَنُ
…
وَكُتْبُهُ هِيَ الجَلِيسُ المُؤْتَمَنُ
23 -
وَالمَوْرِدُ المُسْتَعْذَبُ الفُرَاتُ
…
وَمِنْ أَجَلِّهَا المُوَافَقَاتُ
24 -
لِشَيْخِنَا العَلَّامَةُ المُرَاقِبِ
…
ذَاكَ أَبُو إِسْحَاقَ نَجْلُ الشَّاطِبِي
رمما بالية وعظاما نخرة "ومذ غدا" أي صار "ظل" نعيم وقوة "الشباب" شيئًا فانيا "زائلا" عني أي ذاهبا وخلف محله ظل الكهولة "ولم أنل" أي أدرك "من" إفنائي هذا "الزمان" الذي مضى من عمري شيئًا "طائلا" رفيع القدر نفيسا "جعلت" وهو جواب قوله لما "في كتب العلوم" - بسكون التاء - جمع كتاب - "أنسي" - بضم الهمزة وسكون النون - أي طمأنينتي "وعن سوى" أي غير "العلم" يعني الاشتغال به "صرفت نفسي" أي كففتها ورددتها "فالعلم أولى" وأفضل"ما انقضى" وفني "به" أي فيه "الزمن "والوقت "وكتبه" بسكون التاء "هي الجليس" أي المجالس وهو الذي يجالسك في المجلس - وهو هنا بقيد دراسته وقراءته - "الموتمن" - بفتح الميم - أي الأمين الحافظ.
قال المتنبئ:
أعز مكان في الدنى سرج سابح
…
وخير جليس في الزمان كتاب
"و" هو كذلك "المورد" - بفتح الميم وكسر الراء بينهما واو ساكنة - وهو المنهل: العين التي يشرب منها ويستقى "المستعذب" الذي يعد عذبا حلوا "الفرات" - بضم الفاء - الأشد عذوبة وفي قوله "المورد المستعذب الفرات" التشبيه البليغ - "ومن أجلها" أي أعظمها قدرا كتاب "الموافقات" وهو "لشيخنا العلامة" - التاء فيه للمبالغة - "المراقب" بضم الميم - القائم بحقوق الله - تعالى - سرا وجهرا المراقبة - عند المتصوفة -: القيام بحقوق الله تعالى سرا وجهرا، خالصا من الأوهام صادقا في الاحترام
(1)
"ذاك" هو "أبو إسحاق" إبراهيم "نجل" أي ولد موسى "الشاطبي" المتوفى
(1)
ابن عجيبة - معراج التشوف ص 30.
25 -
فَهْوَ كِتَابٌ حَسَنُ المَقَاصِدِ
…
مَا بَعْدَهُ مِنْ غَايَةٍ لِقَاصِدِ
26 -
وَكَانَ قَدْ سَمَّاهُ بِالعُنْوَانِ
…
وَاخْتَارَ مِنْ رُؤْيَا ذَا الاِسْمِ الثَّانِي
27 -
وَقَدْ سَمَعْتُ بَعْضَهُ لَدَيْهِ
…
وَمِنْهُ فِي تَرَدُّدِي إِلَيْهِ
سنة سبعمائة وتسعين من الهجرة "فهو كتاب حسن" البيان والإيضاح والإظهار لعلم "المقاصد" أي الغايات والحكم والأسرار التشريعية المتعلقة بالأحكام وقد بلغ في ذلك المنتهى فـ "ما بعده" فيما تضمنه"من" ذلك "غاية" تكون مطمعا "لقاصد" العلم الشرعي الطالب له وقد يكون معنى "لقاصد" أي طالب علم المقاصد وهذا وإن كان احتمالا بعيدا فإنه غير ساقط بالكلية. "وكان" الشاطبي "قد سماه" أي سمى كتاب الموافقات هذا "بالعنوان" يعني "عنوان التعريف بأسرار التكليف". "و" أي وبعد ذلك ترك تسميته بهذا "اختار من "أجل "رؤيا" رآها "ذا الاسم الثاني" أي الموافقات وفي ذلك قال - رحمه الله تعالى -: (ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية سميته بعنوان التعريف بأسرار التكليف ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب يقضي العجب منه الفطن الأريب، وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم محل الإفادة وجعلت مجالسهم العلمية محلا للرحال ومناخا للوفادة، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه، فقال لي: رأيتك البارحة في النوم، وفي يدك كتاب ألفته، فسألتك عنه فأخبرتني أنه (كتاب الموافقات) قال: فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة، قلت له: الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب، وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب، فإني شرعت في تأليف هذه المعاني، عازما على تأسيس تلك المباني، فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء، والقواعد المبني عليها عند القدماء فعجب الشيخ من غرابة هذا الإتقان، كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق
(1)
.
"و" كنت "قد سمعت بعضه" وأنا "لديه" أي عنده "و" قد سمعته "منه في" الأوقات التي كان "ترددي إليه" فيها.
(1)
الموافقات ج 1 / ص 18.
28 -
لَاكِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِلَافِي
…
إِلَّا يَسِيرَ القَدْرِ غَيْرَ شَافِ
29 -
لأَنْ ثَنَى التَّقْصِيرُ مِنْ عِنَانِي
…
وَصَدَّنِي عَنْ قُرْبِهِ زَمَانِي
30 -
حَتَّى غَدَتْ حَيَاتُهُ مُنْقَضِيَه
…
فِي عَامِ تِسْعِينَ إِلَى سَبْعِ مَائَه
31 -
وَالآنَ مُذْ نَبَذَتْ عَنِّي شُغُلِي
…
وَصَارَ نَيْلُ العِلْمِ أَقْصَى أَمَلِي
32 -
جَدَّدْتُ عَهْدِي بَاجْتِنَاءِ زَهْرِهِ
…
وَرُضْتُ فِكْرِي فِي اقْتِفَا أَثَرِهِ
33 -
فَجُلْتُ مِنْهُ فِي مَدَى بَيَانِ
…
بَلْ رَوْضَةٍ مِنْ ثَمْرِهَا المَعَانِي
34 -
فُنُونُهَا تَشَعَّبَتْ أَفْنَانُهَا
…
وَاخْتَلَفَتْ بِأُكْلِهَا صِنْوَانُهَا
" لاكن" ذلك لم يطل إذ "لم يكن له" أي إليه "اختلافي "وترددي "إلا" زمنا "يسير" أي قليل "القدر غير شاف" لقلة الطلب والرغبة في العلم بمكونات هذا الكتاب ومتضمناته الجليلة القدر، وقصر ذلك الزمان قد حصل "ل" أجل "أن ثنى" أي كف وصرف "التقصير" أي التواني "من عناني" يعني جموحي ورغبتي "وصدني" أي منعني "عن قربه" ومجاورته أحوال "زماني" وتقلباته "حتَّى غدت حياته منقضية" رحمه الله تعالى "في عام تسعين" يزاد "إلى سبع مائة" من الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثامن من شعبان من السنة المذكورة. "والآن" بل "مذ نبذت" أي اطرحت "عني شغلي" - بضم الغين المعجمة - "وصار نيل" أي إدراك وتحصيل "العلم أقصى أملي" أي رجائي.
"جددت عهدي" واشتغالي "باجتناء" واقتطاف "زهره" جمع زهرة - يعني فوائده - شبه ما يستفيده منه من الفوائد بالزهر المأخوذ من النبات بجامع الحسن والبهاء ثم استعار لفظ المشبه به وهو الزهر للمشبه وهو الفوائد على سبيل الاستعارة التصريحية "ورضت" أي ذللت ووطأت "فكري" وحالة نظري في "اقتفاء" أي إتباع "اثره" وما سنه من سنن نظرية وطرق فكرية قد يهتدي بها إلى قطف أثمار فقهية وعلمية اخرى دقيقة مختلفة "فجلت" أي طفت "منه" يعني فيه - في هذا الكتاب - وأنا في فهمه والعلم بمضامينه "في مدى" أي غاية ومنتهى "بيان" ووضوح "بل" جلت فيه وأنا منه في "روضة" أي بستان حسن "من ثمرها" وغلاتها "المعاني فنونها" أي أنواعها "تشعبت" تفرقت "أفنانها" أغصانها "واختلفت بأكلها" أي في أكلها - بضم الهمزة - أي طعمها - بفتح الطاء - وذواقها "صنوانها" والصنوان
35 -
فَمَوْرِدُ الصَّادِي بِهَا رَحِيقُ
…
وَمُجْتَلَاهُ زَهْرُ أَنِيقُ
36 -
لَاكِنْ رَأَيْتُ مُرْتَقَاهُ صَعْبَا
…
وَمُنْتَدَاهُ فِي المَقَالِ رَحْبَا
37 -
فَمَالَتِ النَّفْسُ إِلَى تَحْرِيرِهِ
…
فِي رَجَزٍ قَصْدًا إِلَى تَيْسِيرِهِ
38 -
بِضَمِّ مَا انْتَشَرَ مِنْ فَوَائِدِهِ
…
وَنَظْمِ مَا انْتَثَرَ مِنْ فَرَائِدِهِ
- بكسر الصاد وحكي فيه الضم - ما له عرق واحد من نخلتين أو ثلاث أو أكثر "فمورد" أي مشرب "الصادي" أي العطشان "بها" أي بتلك الروضة "رحيق" أي شراب صاف "ومجتلاه" أي منظره "زهر" - بفتح الهاء - أي النبات، أو جمع زهرة وهي النور، فيكون محركا للضرورة "أنيق" - بفتح الهمزة، وزن عظيم - أي معجب حسنه وتشبيهه الكتاب بالروضة يقرر على سبيل الاستعارة التصريحية - "لاكن" في "رأيت" عن دراية واطلاع "مرتقاه" - بضم الميم، مصدر ميمي - يعني إرتقاءه والصعود عليه "صعبا" أي أمرا صعبا شاقا "و" كذلك رأيت "منتداه" بضم الميم وسكون النون - أي ناديه "في" الحديث و"المقال" منتدى "رحبا" - بضم الراء وسكون الحاء - واسعا.
شبه الكتاب بجبل عال جدا لكنه أضمره ورمزه له بشيء من لوازمه وهو "المرتقى الصعب" على سبيل الاستعارة المكنية والقرينة إثبات صعوبة الصعود للكتاب كما شبهه بقبيلة أهلها ذوو نظر واسع عميق وبيان محيط شامل فيما هم متناقشون، لكنه أضمره ورمز له بشيء من لوازمه وهو "المنتدى الرحب المقال" على طريقة الاستعارة المكنية والقرينة إثبات المنتدى له. وقد يكون شبهه بأمر عظيم الكلام فيه واسع، والمقال فيه رحب، على طريقة الاستعارة المذكورة "فمالت النفس" لأجل ذلك وتاقت "إلى تحريره"من هذا الذي يتصف به من الصعوبة والإطناب الزائد فيه على المطلوب - أحيانا - "في" نظم من بحر الـ "رجز" وهو بحر من بحور الشعر معروف، يكون كل مصراع منه مفردا، وتسمى القصائد المنظومة فيه أراجيز، واحدتها أرجوزة، وإنما مالت نفسي إلى هذا "قصدا" مني "إلى تيسيره" وتسهيله للحفظ والفهم على طلبة العلم، وذلك "بضم" أي جمع "ما انتشر" وتفرق "من فوائده" في مجاري تقريرات المصنف واستدلالاته واحتجاجاته، ولم بعضها إلى بعض "و" كذلك بـ "نظم" أي جمع ولم "ما انتثر" أي تفرق "من فرائده" - جمع فريدة وهي - لغة - الجوهرة النفيسة التي تفصل بين
39 -
بَنَيْتُ فِيهِ عَلَى الاِقْتِضَابِ
…
وَمِلْتُ لِلْإِيجَازِ لَا الإِطْنَابِ
40 -
مُنْتَخِبًا مِنَ الفُصُولِ مَا نَحَا
…
وَمَا بِهِ الفِكْرُ الكَلِيلُ سَمَحَا
41 -
مِنِ اعْتِرَاضَاتٍ وَتَنْبِيهَاتِ
…
وَمِنْ أَدِلَّةٍ وَتَوْجِيهَاتِ
42 -
وَجَاعِلًا لَهُ مِنْ السِّمَاتِ
…
نَيْلَ المُنَى مِنَ المُوَافَقَاتِ
43 -
فَعَدُّهُ لَمْ يَعْدُ فِي المَسْطُورِ
…
سِتَّةَ آلَافٍ مِنَ المَشْطُورِ
اللؤلؤ والذهب سميت بذلك كأنها مفردة في نوعها - والمراد بها الفوائد الجليلة القدر المنيرة سبل النظر والفهم، وأثمار النظر المجتناة بعمق تأمل ودقة في أعمال الأذهان "بنيت" منهجي "فيه" أي في هذا النظم "على" الأخذ بمقتضى "الاقتضاب" أي الاختصار وهو الاكتفاء بلب الموضوع وأهم ما ينبغي ذكره فيه وإسقاط ما سوى ذلك "وملت" فيه - كذلك - "للإيجاز" وهو جمع المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل مع الإبانة والإفصاح "لا الإطناب" وهو زيادة اللفظ على المعنى - التطويل - "منتخبا" بكسر الخاء، حال من ضمير المتكلم المتقدم - أي مختارا ومنتقيا من الكلام الوارد فيه "من الفصول ما نحا" أي قصد المصنف ذكره "وما به الفكر" - أل فيه نائبة عن الضمير - أي فكري "الكليل" أي الضعيف في النظر والإدراك، - وصف فكره بذلك تواضعا "سمحا" وجاد "من اعتراضات" تورد على تقريرات لقضايا وأحكام وأثمار أنظار "وتنبيهات" على أمور قد تكون الغفلة على استحضارها أو عن تصورها على الوجه الصحيح حصلت "ومن أدلة" وحجج سيقت لبيان وتقرير صحة ما استدل عليه بها "وتوجيهات" لآراء فقهية وأصولية وأعمال ومناهج اختيرت في شأن التعبد "وجاعلا" أي واضعا "له" أي لهذا النظم"من السمات" أي الأسماء اسم "نيل المنى" - بضم الميم - جمع منية، وهي ما يتمنى ويرغب فيه "من الموافقات" ومقتضى هذا الاسم أن هذا النظم يمكنك تحصيله حفظا وفهما - من إدراك ما يتمنى ويرغب في إدراكه من كتاب "الموافقات" هذا، "فعده" يعني عدد أبيات هذا النظم "لم يعد" ولم يتخط"في المسطور" المكتوب منه خالصا "ستة آلاف" بيت "من" النوع "المشطور" وما هو فيه كل شطر بيتا.
44 -
وَهَا أَنَا بِمَا قَصَدْتُ آتِ
…
مُقَدِّمًا حُكْمَ المُقَدِّمَاتِ
45 -
وَأَسْأَلُ التَّوْفِيقَ وَالإِعَانَةْ
…
فِي شَأْنِهِ مِنْ رَبِّنَا سُبْحَانَهْ
المقدمات
"
المقدمة الأولى
"
46 -
إِنَّ أُصُولَ الفِقْهِ قَطْعِيَّاتُ
…
لِأَنَّهَا لِلشَّرْعِ كُلِّيَّاتُ
47 -
وَذَا بِالاِسْتِقْرَاءِ يَسْتَبِينُ
…
وَمَا كَذَا فَشَأْنُهُ اليَقِينُ
" وها أنا بما قصدت"من نظم هذا الكتاب على الوجه الذي تقدم وصفه "آت" أي جاء "مقدما" في الذكر كما يقتضي ذلك الوضع والطبع "حكم المقدممات" يعني ما تدل عليه من قضايا وأحكام - هذا ما يظهر لي من كلامه. ولو قال مقدما ذكر المقدمات لكان أبين وأوضح. "وأسال" أي أطلب "التوفيق والإعانة" على السداد وبلوغ المرام والغرض "في شأنه" أي شأن هذا النظم "من ربنا" الكريم الرحيم "سبحانه" وتعالى.
المقدمات
"المقدمة الأولى"
في أن أصول الفقه كلها قطعية الثبوت وفي هذا يقول الناظم رحمه الله: "إن أصول الفقه" في الدين من حيث ثبوت كونها أصولا فقهية "قطعيات" لا ظنيات إذ الذي لم يقطع بكونه أصلا قطعيا لا تبنى عليه الاحكام الشرعية، وإنما كانت أصول الفقه هذه قطعية "لأنها للشرع" أي ملة وشريعة الإسلام "كليات" وما كان كذلك فهو قطعي "وذا" أي هذا الذي ذكر من أن أصول الفقه قطعية لأنها راجعة إلى كليات الشريعة "بالاستقراء" التام وهو تتبع جميع جزئيات الشيء المستقرئ وهي - هنا - مسائل علم الأصول أصلية كانت أو فرعية "يستبين" يظهر فإن من تتبع هذه المسائل أدرك على قطع أن هذه الأصول راجعة إلى كليات الشريعة الثلاثة وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات، "وما" كان "كذا" أي ثابتًا بهذا السبيل - وهو وهذا الاستقراء - "فشأنه" في الإدراك العقلي "اليقين" أي الجزم بالحكم والقطع به فتحصل
48 -
بَيَانُهُ اسْتِقْرَاؤُنَا فِي الشَّرْعِ
…
لِحُكْمِهِ كَذَاكَ وَهْوَ قَطْعِي
49 -
أَوْ مِنْ دَلِيلِ العَقْلِ ذِي لِلْقَطْعِ
…
أَوْ جِهَةِ المَجْمُوعِ وَهْوَ قَطْعِي
50 -
وَمَعَ ذَا لَوْ لَمْ تَكُنْ قَطْعِيَّة
…
لَاتَّصَفَتْ بِأَنَّهَا ظَنِّيَّة
51 -
وَلَوْ أُجِيزَ الظَّنُّ فِي كُلِّيَّة
…
لِجَازَ فِي الكُلِّيَّةِ الأَصْلِيَّة
52 -
وَذَاكَ عَادَةً مُحَالٌ أَصْلُهُ
…
فَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ
إن أُصول الفقه قطعية الثبوت بناء على هذا الاستقراء المذكور. وأما كون ما ثبت بهذا الدليل قطعيا فـ "بيانه" من أوجه أحدها "استقراؤنا" يعني الاستقراء الكلي "في الشرع""لـ" أدلة "حكمه" أي أحكامه وهذا الاستقراء حكمه "كذاك وهو قطعي" لأنَّهُ استقراء تام.
"أو" بيانه "من" جهة "دليلٌ" حكم "العقل" وهو أما الوجوب أو الجواز أو الاستحالة كما سيذكره في المقدمة الثانية. و "ذي" الجهة خذها على أنها مفيدة "للقطع" فهي قاضية به. "أو" من "جهة المجموع" من هاتين الجهتين معا وهما جهة الحكم العقلي وجهة الاستقراء "وهو" أي ما تقتضيه هذه الجهة "قطعي" من باب أولى، لأنَّهُ مركب من مقتضى الجهتين الأوليين هذا هو احد هذه الأوجه. "و" يزاد "مع ذا" الوجه المذكور وجه آخر وهو أنه "لو لم تكن" هذه الأصول "قطعية" الثبوت "لاتصفت بأنها" أدلة "ظنية" ضرورة انحصار حالها في أنها لا تكون إلا قطعية أو ظنية "ولو أجيز الظن في كلية" يعني ولو أجيز أن تكون كلية من هذه الكليات ظنية "لجاز" الظن "في الكلية الأصلية" وهي أصل الشريعة وعلى قطع نعلم أن أصل الشريعة الذي تفرعت عنه هذه الكليات أصل ثابت وهو الأصل الكلي الأول لأنَّهُ عنه تفرعت هذه الكليات الثلاثة الضروريات والحاجيات والتحسينات، ومعنى أنه تفرعت عنه أنه أخذت منه وبنيت على ما تضمنه من أدلة وأحكام، ألا ترى أنه هو المستقرئ لمعرفة هذه الكليات وإدراكها، وإذا تقرر ذلك علم أن هذا الأصل الكلي ثابت لأنَّهُ شرع الله الذي لا تبديل له ولا تغيير.
"و" أن "ذاك" وهو تطرق الظن إلى هذا الأصل "عادة محال أصله" وهو احتمال هذا التطرق "فكل ما" أمر "أدى إليه" أي إلى هذا الاحتمال فإنه "مثله" في كونه أمرا
53 -
هَذَا وَلَوْ جَازَ سِوَى اليَقِينِ
…
فِيهَا لَجَازَ فِي أُصُولِ الدِّينِ
54 -
وَمَا كَذَاكَ تِلْكَ بِاتِّفَاقِ
…
فَلْيُجْرَ حُكْمُ القَطْعِ بِالإِطْلَاقِ
55 -
فَهِيَ لَدَى الشَّرْعِ أُصُولٌ مِثْلُهَا
…
فَشَأْنُهَا مُتَّحِدٌ وَأَصْلُهَا
56 -
وَالقَصْدُ كُلِّيَّاتُهُ المَشْهُورَة
…
تَحْسِينًا أَوْ حَاجَةً أَوْ ضَرُورَة
57 -
وَهْيَ الَّتِي قَدْ ضُمِنَ الحِفْظُ لَهَا
…
وَأَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنْ أَكْمَلَهَا
محالا، ومن ذلك القول بأن أصول الفقه ظنية الثبوت، فإنه يؤدي إلى أن الأصل الكلي المذكور - أيضًا - ظني لأن الفرع له حكم الأصل والأصل له حكم الفرع، فعلم أن هذه الأصول قطعية لكون الشريعة أمرا ثابتا على قطع، ولا يتطرق إليها تغيير أو تبديل لأنها كلمة الله ولا تبديل لكلمات الله "هذا" أي اقول هذا وأعضده بوجه آخر، "و" هو أَنَّهُ "لو جاز" حكم آخر "سوى اليقين" والقطع "فيها" يعني في كونها أصولا قطعية "لجاز" مثل ذلك وهو عدم اليقين "في أصول الدين" المعتقدات الدينية - الإسلامية - التي لا تقوم صفة الإسلام بالشخص إلا باعتقادها وهي قطعية الثبوت فلا يتطرق تبديل ولا تغيير إليها على الإطلاق ولهذا قال "وما" يعني وليس "كذاك" الذي ذكر من احتمال جريان غير اليقين في "تلك" الأصول المذكورة وفي أصول الدين بأمر جائز "باتفاق" بين جميع المسلمين وإذا تقرر هذا "فليجر" أي فليوقع "حكم القطع" بالثبوت وعدم التغيير والتبديل "بالإطلاق" في أصول الدين وفي أصول الفقه على السواء لأنك إن تأملت أصول الفقه "فـ" إنك تدرك أنها "هي لدى الشرع أصول مثلها" مثل أصول الدين "فشأنها" أي أصول الفقه وأصول الدين "متحد" لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين لأنها كلها كليات معتبرة في كل ملة، والكل داخل في حفظ الدين من الضروريات، فيجمع بينها بذلك، هذا مع التفاوت في المراتب "وأصلها" الذي أخذت منه وهو الكلي الذي هو الشريعة - أيضًا - واحد، "والقصد" بقولنا الكليات "كلياته" أي كليات الدين "المشهورة" بين أهل الفقه والنظر في الأدلة الشرعية، "تحسينا أو حاجة أو" قد يكون "ضرورة" كما سيأتي ذلك مفصلا. "و" هذه الكليات" هي التي قد ضمن الحفظ" الإلهي" لها" في قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] إنما المراد به حفظ أصول الدين الكلية المنصوصة "وأخبر الله" تعالى "بأن" أي بأنه "أكملها" في قوله - تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
58 -
فَالحِفْظُ وَالإِكْمَالُ لِلْكُلِّيِّ
…
دَلِيلُهُ تَخَلُّفُ الجُزْئِيِّ
59 -
وَقَدْ نَفَى القَاضِي عَنِ الأُصُولِ
…
مَا لَيْسَ قَطْعِيًّا عَلَى التَّفْصِيلِ
60 -
مِثْلُ تَفَاصِيلَ الحَدِيثِ وَالعِلَل
…
وَغَيْرِهَا مِمَّا عَلَى الظَّنِّ اشْتَمَل
" فالحفظ والإكمال" المذكوران إنما هما "للكلي" المذكور - الكليات الثلاثة المذكورة - الضروريات والحاجيات والتحسينات - و"دليله" أي ودليل هذا الذي ذكرناه من اختصاص الحفظ بما ذكر وهو "تخلف" حفظ "الجزئي" إذ لو كان الجزئي داخلا فيما ضمن حفظه لم يتخلف عن الحفظ جزئي من جزئيات الشريعة على الإطلاق، وليس كذلك لأنا نقطع بجواز ذلك التخلف، ويؤيده الوقوع لتعارض الظنون وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية ووقوع الخطإ فيها قطعا، فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد وفي معاني الآيات فدل على ان المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كليا زائدة "وقد نفى القاضي" أَبُو بكر الباقلاني رحمه الله "عن الأصول" كل "ما ليس" أصلا "قطعيا" ومراده ما كان "على التفصيل" وهو ما كان جزئيات أصولية والذي يلزم حقا أن يكون كل أصل قطعيا في ثبوته بمقتضى هذا الحفظ الإلهي الذي تزول الراسيات ولا يزول.
وذلك "مثل تفاصيل" أحكام "الحديث" النبوي فيما يتصل بظنية ثبوته، وتفاصيل أقسامه التي تذكر في أصول الفقه والتي يعتمد عليها في اثباته على الظن، "و"مثل تفاصيل الحديث هذه تفاصيل" العلل" المسطورة في باب القياس. ومن ذلك ما يقدح به في العلة من قوادح، فكل ذلك مبتناه على الظن ونص كلام القاضي هذا الذي ذكره المصنف موجزا "فإن قيل: فيدخل في هذا الفن ما لا يلتمس فيه القطع والعلم؟ " قيل: ما ارتضاه المحققون أن ما يبتغي فيه العلم لا يعد من الأصول. فإن قيل: فأخبار الآحاد والمقاييس السمعية لا تفضي إلى العلم وهي من أدلة احكام الشرائع" قيل: إنما يتعلق بالأصول تثبيتها أدلة على وجوب الأعمال وذلك مما يدرك بالأدلة القاطعة، فأما العمل المتلقى منها فمتصل بالفقه دون أصول الفقه
(1)
"وغيرها مما" من الجزئيات "على الظن اشتمل" في بنائه.
(1)
إمام الحرمين/ التلخيص/ ص 7.
61 -
وَاعْتَذَرَ الإِمَامُ عَنْ إِدْخَالِهِ
…
فِيهَا لِأَنَّ القَطْعَ مِنْ مَآلِهِ
62 -
فَهُوَ إِنَّ أَلْفِيَّ غَيْرٍ قَطْعِيٍّ
…
يَرْجِعُ فِي المَعْنَى لِحُكْمِ القَطْعِ
63 -
قَالَ الإِمَامُ المَازْرِي إِنَّهُ
…
لَا وَجْهَ أَنَّ حُوشِيَّ ذَا هَنْه
64 -
فَهِيَ قَوَانِينُ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا
…
فِي غَيْرِهَا فَصَحَّ فِيهَا رَسْمُهَا
" واعتذر الإمام" الجويني - إمام الحرمين - في صدر كتابه "البرهان""عن إدخاله" أي إدخال هذا الذي ذكر من أدلة ظنية "فيها" أي في أصول الفقه وعدها منها "لأن القطع" بكونها أدلة فقهية "من مآله" يعني من مآل ذكرها وبحثها هناك. "فهو "أي ما ذكر من الظنيات "وإن الفي" وجد "غير قطعي" الثبوت فإنه "يرجع في المعنى" باعتبار أن وجوب العمل به قطعي "لحكم القطع" فيكون بذلك الاعتبار قطعيا. ظاهر كلام الناظم رحمه الله أن ذكر المظنونات المذكورة في كتب أصول الفقه إنما حصل من جهة أن لها حكم القطعيات باعتبار قطعية وجوب العمل بأصلها - القياس - خبر الواحد - في الجملة من غير ملاحظة التفاصيل، لأن الأصل إذا قطع العمل به فكل التفاصيل المبنية عليه داخلة فيه بالمعنى. ظاهر كلام إمام الحرمين في "البرهان" أن الأصولي حظه أن يذكر أن خبر الواحد والقياس - مثلا - مقطوع به في بناء الأحكام الفقهية لكن لما كان بيان حقيقة هذا الذي قطع بأنه تبنى عليه الأحكام الفقهية ذكرت هذه التفاصيل ليتبين المدلول - المعنى المقصود - ويرتبط الدليل - الذي دل على ذلك المعنى - به ونص كلامه "فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول وليست قواطع" قلنا حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل به، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط به الدليل
(1)
.
"قال الإمام" أَبُو عبد الله "المازري" بفتح الزاي وكسرها: أحد أئمة المالكية في كتابه "إيضاح المحصول من برهان الأصول" - على ما نقل عنه - "أَنَّهُ" في واقع الأمر"لا وجه" صحيح على طريقة القاضي "أن حوشي" أي استثني واخرج "ذا" أي هذا الذي تقدم من الأدلة الظنية "من هذه" الهاء هاء السكت يعني من هنا وذلك لأنها قواعد تعرض عليها الجزئيات للحكم عليها، ومن ثم "فهي قوانين" كليات جرى و "استقر حكمها"مقتضاها "في غيرها"من الجزئيات التي تعرض عليها "فصح فيها رسمها" أي
(1)
الموافقات ج 1/ ص 8.
65 -
قَالَ وَمِنْ أَبِي الَمْعَالِي يُحَسِّنُ
…
إِخْرَاجَهَا مِنْهَا وَهَذَا بَيْن
66 -
إِذْ الأُصُولِ عِنْدَهُ الأَدِلَّةَ
…
وَهِيَ بِحُكْمِ القَطْعِ مُسْتَقِلَّةً
67 -
كَمَا رَأَى القَاضِي لَا يُحَسِّنُ بِهِ
…
إِخْرَاجَهَا تَمَسُّكًا بِمَذْهَبِهِ
68 -
حَيْثُ أُصُولُ الفِقْهِ لَيْسَتْ عِنْدَهُ
…
إِلَّا أُصُولَ العِلْمِ فِيمَا حَدُّهُ
حكمها ومقتضاها، ألا ترى أن الأقيسة مثلا قوانين كلية فهي وإن كانت مظنونة، فإنها وضعت لا لأنفسها لكن ليعرض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر مما يصح ان يعرض عليها فهي في ذلك كالعموم والخصوص من حيث أنهما أمران ثبوتهما في الألفاظ ظني، حتَّى قيل لا صيغة للعموم تخصه، ومثله الخصوص، وإنما يعلم ذلك بالقرائن، وبذلك فهما ظنيان إلا أَنَّهُ وإن كان مظنونا وجودهما في مدلولات الألفاظ حقيقة فإنهما معياران تعرض ما يصح أن يعرض عليهما من الألفاظ فيرتسم حكمهما فيما يصح أن يرتسم فيه. هذا هو ظاهر كلامه، والله أعلم.
ثم "قال" المازري" ومن أبي المعالي" إمام الحرمين الجويني "يحسن" بمقتضى تعريفه الآتي للأصول "إخراجها" أي إخراج تلك المسائل الأصولية الظنية المذكورة "منها" أي من أصول الفقه وعدم عدها منها، "وهذا" الذي ذكرته من حسن إخراج إمام الحرمين لها من الأصول هذه "بين" واضح جلي يؤخذ مما عرف به أصول الفقه وحدها به "إذ الأصول" أي أصول الفقه "عنده" وفي رأيه "الادلة" يعني أدلة الفقه وهي - عنده - الأدلة السمعية وأقسامها: نص الكتاب ونص السنة المتواترة، والإجماع. ومستند جميعها هو كلام الله - تعالى -. "وهي بحكم" أي بوصف" القطع مستقلة" منفردة عما ليس مقطوعا به، ألا ترى أنه عبّر بلفظة النص ليدلك على ذلك، ثم شرط فيما يكون من السنة دليلا أن يكون نصا ومتواترا. وعلى هذا فإن عده هذه الظنيات من الأصول مخالف لهذا الذي حدها به.
"كما رأى" المازري أن "القاضي" الباقلاني "لا يحسن" ولا ينبغي له "إخراجها" أي هذه الادلة الظنية من الأصول عملا و "تمسكا بمذهبه" في هذا الشأن - تعريف أصول الفقه - "حيث" تعليلية، بمعنى لأن - هنا - "أصول الفقه ليست عنده" أدلة قطعية، وما هي "إلا أصول" أدلة "العلم" الشرعي - الأحكام الشرعية - بناء على ما عرف به أصول الفقه و"فيما حده" به حين قال "أصول الفقه أدلته، فالأدلة الدالة على أحكام
69 -
وَلَيْسَ بَيْنَ الأَصْلِ وَالقَانُونِ
…
فَرْقٌ فَلَا بُدَّ مِنْ اليَقِينِ
70 -
وَمَا مِنْ الأُصُولِ ظَنِّيًّا يَقَعُ
…
مِثْلُ التَّفَاصِيلِ فَآتٍ بَالتَّبَعْ
الشرائع أصولها، والعلم بها هو العلم بالأصول ومقتضى هذا دخول ما تقدم من الظنيات في الأصول لأنها داخلة فيما يدل على الأحكام الشرعية. ولما ذكر المصنف هذا الذي نقله عن المازري قال رادا عليه:"وليس" في واقع الامر "بين الأصل" الذي عبر به بعضهم وبين "القانون" الذي عبر به المازري "فرق" في المعنى وبناء عليه "فـ" أَنَّهُ "لا بد من "حصول "اليقين" أي القطع بثبوتهما، إذ بناء الأحكام الشرعية عليهما يقتضي ذلك فلا يصح بناؤها على ظني "و" أما "ما" أي الذي "من الأصول ظنيا يقع "مذكورا في كتب الأصول، ويقع أساسا لبناء الأحكام الفقهية عليه "مثل التفاصيل" التي تقدم ذكرها - كأخبار الآحاد والإجماع السكوتي والقياس - "فـ" أَنَّهُ "آت" ذكره "بالتبع" كما تقدم نقله عن إمام الحرمين.
هذا ما ذكره المصنف في مسألة قطعية الأصول هذه. وقد اعترض على هذا الذي ذهب إليه هنا بعض الناس منهم محمد بن طاهر بن عاشور إذ رأى أن أصول الفقه ليست على الإطلاق قطعية إلا النادر منها، وذكر أن ما اعتذر به إمام الحرمين من إدخال ما ليس بقطعي في أصول الفقه اعتذار واه، ثم قال: ورأيت في شرح القرافي على المحصول في المسألة الثانية من مسائل اللفظ في الأمر والنهي أن ابن الأبياري قال في شرح البرهان: "مسائل الأصول قطعية ولا يكفي فيها الظن ومدركها قطعي ولكنه ليس المسطور في الكتب بل معنى ذلك أن من كثر استقراؤه واطلاعه على أقضية الصحابة ومناظراتهم وموارد النصوص الشرعية حصل له القطع بقواعد الأصول، ومتى قصر عن ذلك لا يحصل له إلا الظن"
(1)
. ثم رد على القرافي قائلا: "وهذا جواب باطل لأننا بصدد الحكم على مسائل أصول الفقه لا على ما يحصل لبعض علماء الشريعة. ثم قال "وقد حاول أَبُو إسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من كتابه "الموافقات" الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية فلم يأت بطائل.
(1)
مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور ص 5.
المقدمة الثانية
71 -
ذَا العِلْمِ ذُو أَدِلَّةٍ كُلِّيَّة
…
عَادِيَّةٍ سَمْعِيَّةٍ عَقْلِيَّة
72 -
فَمَا أَتَى دَلِيلًا أَوْ مُقَدَّمَة
…
فِيهِ فَبِالقَطْعِ تَكُونُ مُعْلِمَة
قلت: وهذا كلام فيه إجحاف وقلة إنصاف، فإن من ذهب إلى أن القطع شرط في ثبوت الأصول بين أن ذلك إما أن يكون من جهة العلم - كما في المقطوع بثبوته ودلالته - وإما ان يكون مقطوعا به من جهة العمل به، ثم التفاصيل والجزئيات الظنية إذا ذكرت بعد ذلك فإنها تذكر تبعا لهذا الذي قطع به من العمل. وكون ذلك يقطع بأنه يعمل به يتوقف على هذا الذي نقله القرافي عن الأبياري، وهو ما دأب إمام الحرمين على إيراده وذكره في كتابه "البرهان" في المواطن التي يقتضي حالها إيراده فيها.
" المقدمة الثانية"
في أن الأدلة المستعملة في إثبات الأصول وبناء قواعدها الجزئية لا تكون إلا قطعية. وفي ذلك يقول: "ذا" أي هذا "العلم" يعني علم الأصول علم لا يعتمد على الأدلة الظنية ولا الأدلة الجزئية، ولذلك فإنه في محتواه وأسسه "ذو "صاحب "أدل" جمع دليلٌ - وهو ما يمكن بصحيح النظر فيه التوصل إلى مطلوب خبري - ووصفه بالصاحب هو كقولك: بئر ذو ماء عذب، ورجل ذو علوم عقلية تريد ان ذلك من ماهيته وحقيقته - "كلية" تنطوي تحتها كل الجزئيات الصالحة للانطواء تحتها من غير حصر، وهي إما "عقلية" كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والجواز والاستحالة.
ومن المقرر أن كل مسألة أصولية لا تبحث إلا إذا علم أصلها من جهة الحكم، لأن ما لا تقبله العقول السليمة لا يقبل شرعا.
وإما "عادية" وهي كذلك تعتريها الأحوال الثلاثة فتنقسم إلى واجبة، وممكنة ومستحيلة بحكم ومقتضى اطراد العادات. وإما "سمعية" كنصوص الكتاب والسنة.
وبناء على ذلك "فما اتى" وسيق "دليلا" وحجة "أو مقدمة" من دليل "فيه" أي في هذا العلم والقصد من الإتيان به وإيراده هو الاستدلال على بناء حكم في مسألة أصولية "فـ" أن تلك المقدمة "بالقطع" ثبوتا ودلالة "تكون معلمة"موصوفة وموسومة، ومقتضى ذلك أن الأدلة الظنية لا يعتمد عليها في مجاري الحجاج والاستدلال على بناء الأحكام
73 -
وَأَشْرَفُ الأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ
…
مَا كَانَ ذَا دَلَالَةٍ قَطْعِيَّةٍ
74 -
تَوَاتَرَتْ لَفْظًا عَلَيْهِ يُبْنَى
…
أَوْ مَا لَهُ تَوَاتُرٌ فِي المَعْنَى
75 -
أَوْ مَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنِ اسْتِقْرَاءٍ
…
مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَاءِ
76 -
وَحُكْمُ كُلِّ ذَاكَ فِي الدَّلَالَة
…
وُجُوبٌ أَوْ جَوَازٌ أَوْ إِحَالَة
77 -
وَيَلْحَقُ الوُقُوعُ فِي الجَمِيعِ
…
بِهَذِهِ وَعَدَمُ الوُقُوعِ
في المسائل الأصولية. "واشرف" أي أجل "الأدلة السمعية" النقلية المستعملة في هذا العلم هو "ما كان" منها "ذا دلالة قطعية" وهو ما كان نصا في معناه فلا يقبل إلا معنى واحدا، بشرط أن تكون قد "تواترت لفظا" بأن تكون قد رواها بلفظها جمع عن جمع - يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة - من اولها إلى منتهاها وهذا الضرب من الحديث "عليه يبنى" في علم الأصول، ويحتج به فيه لأنَّهُ قطعي الثبوت فهو كالعيان، مثال ما تواتر لفظه حديث "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، "أو ما" الذي استقر وثبت" له تواتر في المعنى" ويسمى المتواتر المعنوي وهو ما اتفق نقلته - الذين يشترط فيهم ان يكونوا جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، كما تقدم ذكره - على معناه من غير مطابقة في اللفظ كأحاديث الشفاعة وأحاديث نبع الماء بين اصابعه صلى الله عليه وسلم.
"أو ما" أي العلم الذي "استفدناه" وتوصلنا إليه "من" جهة "استقراء" تتبع "موارد" أدلة أحكام "الشريعة السمحاء" وهي هذه الشريعة الإسلامية العظيمة، ووصفت بالسمحة لأنها ليس فيها ضيق ولا شدة - والمعروف هو وصف هذه الشريعة بالسمحة - بالهاء - واما السمحاء بالمد وصفا لها، فلم ار من ذكره الله ما كان من المصنف هنا -. "وحكم كل ذاك" الذي تقدم ذكره سواء كان دليلا عقليا أو عاديا "في الدلالة" على ما دل عليه من حكم هو "وجوب" عقلي أو شرعي أو عادي "أو جواز" عقلي أو شرعي أو عادي "أو احالة" عقلية أو شرعية أو عادية. وبذلك يعلم ان ذلك كله قطعي "ويلحق" في إفادته القطع "الوقوع" لما جوز عقلا أو شرعا، أو عادة "في الجميع" أي في جميع الأقسام المذكورة - العقلي والشرعي والعادي "بهذه" الأدلة القطعية "وعدم الوقوع" له، فإن الجائز لا يلزم وقوعه ولا عدم وقوعه ضرورة كونه جائزًا. واما مناقشة دليلٌ ما في علم
78 -
وَكَوْنُهُ حُجَّةً أَوْ لَا ذَلِكَا
…
يُؤْخَذُ مِنْ وُقُوعِهِ كَذَلِكَا
79 -
وَمَا عَلَى الصِّحَّةِ وَالعَكْسِ اشْتَمَلْ
…
مَرْجِعُهُ إِلَى الثَّلَاثَةِ الأُوَلْ
80 -
وَكَوْنُهُ مِنْ جُمْلَةِ الأَحْكَامِ
…
لَيْسَ مِنَ الأُصُولِ بِالإِلْزَامِ
81 -
مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا أُصُولًا وَالَّذِي
…
يُدْخِلُهَا خَلْطَ العُلُومِ يَحْتَذِي
الأصول "و" بحث "كونه حجة" في هذا العلم "أو لا" فإنه ليس من صميم مسائل هذا العلم وإنما "ذلكا" - الألف للاطلاق - الذكر "يؤخذ" جوازه ومسوغه "من" البحث عن "وقوعه كذلكا" أي وقوعه دليلا أم لا. ونص كلام الشاطبي: "فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة فراجع إلى وقوعه كذلك أو عدم وقوعه كذلك"
(1)
وبذلك فإن ايراد ما هذا شأنه في مباحث أصول الفقه ليس الغرض منه إلا اختبار وسبر أحواله ليعلم كونه صالحا للاحتجاج به في هذا العلم أم لا فقط.
وأما ما يعرف به كون الشيء المبحوث فيه صحيحًا أو غير صحيح فقد أورده المصنف بقوله: "وما على الصحة والعكس" وهو عدم الصحة "اشتمل" يعني اتصف، فإن "مرجعه" الذي يعرف به حاله "إلى الثلاثة" المذكورة "الأول" وهي الوجوب والجواز والاستحالة، فإن صح فإنه إما أن يكون واجبًا أو جائزًا، وإن لم يصح فإنه يرجع إلى الاستحالة، ويعرف كل ذلك بالشرع والعقل والعادة. وأما كون الشيء متصفا بالاحكام الشرعية فحقه ان لا يذكر في كتب الأصول لأن ذلك من مسائل الفقه وفي ذلك يقول:"و" ذكر "كونه" كون شيء ما "من جملة" ما تقرر فيه أحد "الأحكام" الشرعية ككونه واجبًا، أو مندوبا أو حراما أو مكروها أو مباحا، محله كتب علم الفقه. إذ "ليس" ذكره من هذه الجهة - جهة الأحكام - من مسائل علم "الأصول" بحيث يكون مما يتعلق به نظر الأصولي وبحثه "بالالزام" وذلك "من حيث كونها أصولا" فقهية "والذي يدخلها" أي هذه الأحكام - ويدخل ذكرها على هذا الوجه وبهذه الصورة "خلط العلوم" بعضها ببعض، "يحتذى" يتبع، إذ خلط - هنا - مسائل الفقه بمسائل الأصول. ومعلوم أن خلط - تداخل - العلوم إنما يصح ويحمد إذا كان لغرض البيان وتتميم الفائدة، فإن كان على خلاف ذلك فإنه مما يجب أن يتوقى.
(1)
الموافقات ج 1 / ص 23.
"
المقدمة الثالثة
"
82 -
لَا تَدْخُلُ الأَدِلَّةُ العَقْلِيَّة
…
ذَا العِلْمَ إِلَّا تَخْدِمُ النَّقْلِيَّة
83 -
فَالعَقْلُ فِي المَشْرُوعِ لَا مَجَالَ لَه
…
إِلَّا بِقَدْرِ النَّقْلِ فِيمَا احْتَمَلَه
" المقدمة الثالثة"
في أن الأدلة العقلية لا تستقل بإفادة الحكم الشرعي، وعليه فإنها لا تستعمل في هذا العلم - علم الأصول - إلا مرتبة على الأدلة النقلية. وفي ذلك يقول المصنف:"لا تدخل الأدلة العقلية" والدليل العقلي هو ما استقل العقل بإدراكه فلم ينتزعه من شرع ولا من عادة، وذلك مثل إدراكه ان الواحد نصف الاثنين، وإن الكل اكبر من الجزء وإن التناقض محال، وما يبنى على هذا من الأحكام النظرية، كل ذلك وما اشبهه لا يدخل "ذا العلم" يعني علم أصول الفقه "إلا" لكي "تخدم" الأدلة "النقلية" نصوص الكتاب والسنة، وسبيل خدمتها لها، منها: أن الأدلة العقلية يتوسل بها إلى معرفة مضامين هذه النصوص والمقاصد الكلية المقصود تحصيلها بها، إلا ترى إلى استقراء الأدلة الشرعية لمعرفة القواعد الكلية التي تنظمها، فإن ذلك انما يحصل بالانتزاع العقلي لهذه القواعد من أحوال تلك الأدلة، وفي اثناء ذلك لا بد من استعمال ما يتوصل به من الأدلة العقلية إلى هذا الانتزاع. ثانيها: سوق الأدلة النظرية في تحقيق الدلالة اللفظية، فيؤخذ باليقين - كدلالة الأمر على الندب - أو بالاحتياط - كدلالة الأمر المجرد على الوجوب -. ثالثها: تحقيق ماهية موضوع البحث والنظر وتحديدها وكونها من جهة العقل ثابتة ولا يكون إلا بخلوها من التناقض انظر حقيقة الاستثناء مثلا). رابعها: جعل الجامع بين المقيس والمقيس عليه علة عقلية. خامسها: تحقيق مناط الحكم واستخراجه. وإذا تأملت أحوال هذه المواطن كلها وجدت ان العقل ليس فيها إلا آلة يتوسل بها إلى دراسة النصوص الشرعية، ومعرفة مقتضياتها، وما يعتريها من أحوال.
وعليه "فالعقل في" إثبات "المشروع" من الأحكام في هذا الدين "لا مجال" أي لا محل "له إلا بقدر" ما ترشده وتوجهه إلى كشفه دلالة "النقل" يعني الدليل النقلي - النصوص الشرعية - وذلك المجال محصور "فيما احتمله" النقل - الدليل النقلي - من معنى شرعي أو لغوي، فيكون قصارى عمل العقل في هذا الشأن، الكشف واستخراج
84 -
إِذًا فَقَدَ صَحَّ مِنَ السَّمْعِيَّة
…
بِأَنَّهَا الأَدِلَّةُ المَرْعِيَّة
85 -
وَيَنْدُرُ القَطْعِيُّ فِي آحَادِ
…
أَدِلَّةِ السَّمْعِ فِي الاِنْفِرَادِ
86 -
لِأَجْلِ أَنَّ قَطْعَهَا مَوْقُوفُ
…
عَلَى أُمُورٍ ظَنُّهَا مَعْرُوفُ
87 -
مِنْهَا طَرِيقُ النَّقْلِ لِلُّغَاتِ
…
وَمُقْتَضَى مَذَاهِبِ النُّحَاةِ
88 -
وَمَا بِهِ التَّرْتِيبُ ذُو امْتِيَازِ
…
وَفَقْدُ الاِشْتِرَاكِ وَالمَجَازِ
المضامين والمعاني من الدليل النقلي، "إذا فقد صح" بناء على ما تقدم.
"من" أن الأدلة العقلية خادمة - هنا - للأدلة "السمعية" النقلية "بأنها" أي هذه الأدلة السمعية هي في واقع الأمر "الأدلة المرعية" في بناء الأحكام وصوغ القواعد، لأن على مقتضاها المدار في ذلك كله، فهي المدرك لذلك كله "و" إنما يحتاج إلى استعمال هذه الأدلة في هذا العلم ومنها الاستقراء لأنَّهُ "يندر" ما هو "القطعي في آحاد" أي أفراد "أدلة السمع في" حال النظر فيها على "الانفراد"، فإن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر، ولا يستدل في هذا العلم بما ليس قطعيا، وإن كانت متواترة، فإنها وإن كانت قطعية الثبوت فإنها ليست قطعية الدلالة.
وذلك "لأجل أن قطعها" يعني افادتها القطع فيما تدل عليه "موقوف على أمور" يجب أن تحصل "ظنها" يعني كونها كلها أو جلها ظنية "معروف" مقرر عند علماء هذا الفن وغيرهم"منها" أي تلك الأمور "طريق النقل للغات"، وقد علم وتقرر أن الطريق لمعرفة اللغة إنما هو النقل المحض، وهو اما تواتر أو آحاد. فالمتواتر منه قطعي باتفاق، وما أورد عليه من اشكالات قد أجيب عنها، فانتهى فيه النظر إلى أَنَّهُ قطعي. واما الآحاد فإنه ظني في دلالته لأن ثبوت نقله ظني كذلك، فلا يحتج ولا يتمسك به في القطعيات، كما ذهب إلى ذلك فخر الدين الرازي. وذهب بعضهم - كالأصفهاني - إلى أنه يحتج به فيها "ومقتضى" آراء و"مذاهب النحاة" فإنه يجري فيه مثل ما يجري في اللغة - مما تقدم ذكره يستدل به ويتمسك به في القطعيات لأنَّهُ مثل خبر الواحد في الشرع.
"وما به" من وجوه الاعراب يكون "الترتيب" بين أجزاء الكلام مرجحا على ما سواه، وهو "ذو امتياز" عليه وأولوية، "وفقد" أي عدم "الاشتراك" لأن الاشتراك من موجبات الإجمال في الكلام، فما لم يكن اللفظ قد دل على معنى معين خاص فإنه لا يجزم بالمراد به فكان لا بد من ثبوت عدم الاشتراك. "و" عدم "المجاز" فاحتمال اللفظ
89 -
وَالنَّسْخِ وَالمُعَارِضِ العَقْلِيِّ
…
وَالنَّقْلِ لِلشَّرْعِيِّ وَالعَادِيِّ
90 -
وَالحَذْفُ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّخْصِيصِ
…
بَلْ يُسْتَفَادُ القَطْعُ مِنْ نُصُوصِ
لمعناه المجازي يدفع تفسيره بما دل عليه بمعناه الحقيقي، فلا بد من الجزم بأن المعنى المجازي غير مقصود به للحكم بذلك. "و" عدم "النسخ" للحكم الذي دل عليه نص ما، مما لم يجزم بأن النسخ لم يرد عليه فإنه لا ثقة فيما دل عليه من حكم "والمعارض العقلي" فإن ما عارضته مقتضيات العقول الصحيحة لا يصح ولا يمكن أن يكون صحيحا شرعا، فلا بد من الجزم بأن ما دل عليه لفظ ما، لا يتناقض ومقتضيات العقول الصحيحة. "و" عدم "النقل" لدلالة اللفظ من مدلوله اللغوي "ل" مدلوله "الشرعي" فلا يقدم على حمل اللفظ على معناها اللغوي إلا بعد العلم بأنه لم ينقل من ذلك المعنى إلى معنى آخر شرعي. وعدم النقل "العادي" فاللفظ قد ينقل من معناه اللغوي إلى معنى عرفي عام أو خاص، فيصير مستعملا فيه، فلا يحمل على معناه اللغوي إلا بعد العلم بأن ذلك لم يحصل.
"و" عدم وقوع "الحذف" لجزء من الكلام، فلا يحمل الكلام على ظاهره اللغوي إلا بعد العلم بأنه لم يحذف منه شيء. وحذفه يعلم من جهة الشرع أو العقل أو العادة، وهذا الحذف يعبرعنه بالإضمار.
"و" عدم "التقييد" للفظ إذا كان مطلقا، فاللفظ المطلق لا يحمل على ظاهره إلا بعد العلم بأنه غير مقيد. "و" عدم "التخصيص" للفظ إذا كان عاما، فاللفظ العام يتوقف حمله على ظاهره على العلم بأنه غير مخصص، فلا يحمل على ظاهره إلا بعد العلم بأنه غير مخصص. هذه العوارض كلها يجب ان يجزم بأن اللفظ قد خلا من عروضها فيه وهذا الخلو إن حصل إنما يكون حصوله - غالبا - ظنيا فلا سبيل إلى العلم بذلك كله على وجه قطعي، فالامر المجرد - مثلا - لا يحمل على الوجوب إلا بعد العلم بأنه قد خلا من عارض يمنع من ذلك، ثم ان حمله على ذلك وتقرير ان ذلك هو الحقيقة فيه والأصل المعتمد عليه في شأنه لم يستفد من جهة خلوه من ذلك العارض، لأن أقصى ما يفيده هو الظن، وإنما هو مستفاد من استقراء ما اقتضى أن ذلك هو الأصل فيه - كفتاوى وأقضية الصحابة وأحوال الكلام العربي في ذلك والقواعد النظرية. ومثل ذلك كل مقطوع به في هذا العلم فإنه لا تستفاد قطعيته من جهة واحدة مظنونة. "بل يستفاد القطع" بذلك فيه "من نصوص" شرعية تضافر استقراؤها في معنا فجاوزت للقطع فيه
91 -
تَظَافَرَ اسْتِقْرَاؤُهَا فِي مَعْنَا
…
فَجَاوَزَتْ لِلْقَطْعِ فِيهِ الظَّنَّا
92 -
فَالاِجْتِمَاعُ فِيهِ بِالإِطْلَاقِ
…
مَا لَا يَكُونُ مَعَ الاِفْتِرَاقِ
93 -
وَهْوَ كَذِي تَوَاتُرٍ فِي المَعْنَى
…
كَجُودِ حَاتِمٍ بِحَيْثُ عَنَا
94 -
شَأْنُ ثُبُوتِ القَطْعِ بِالصَّلَاةِ
…
وَالحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ
95 -
وَعَدَمُ اعْتِبَارِ هَذَا أَدَّى
…
قَوْمًا لِأَنْ هَدُّوا النُّصُوصَ هَدَّا
الظنا كلها "تضافر" تعاضد واتفق "استقراؤها في "إفادة واقتضاء "معنى" واحد معين، كافادة النصوص الشرعية على قطع وجوب حفظ النفس، وافادة ما تواتر عن الصحابة من العمل بخبر الواحد وجوب العمل به - ومثل هذا كل ما تضافرت النصوص الشرعية على إثباته. "فجاوزت" بمقتضاها وحكمها "للقطع فيه" أي في هذا الذي تضافرت على إثباته "الظنا" الذي يفيده فيه ظني واحد "فالاجتماع فيه"من القوة "بالاطلاق" سواء كان اجتماعا معنويا - كاجتماع الأدلة على حكم ما - أو حسيا - كاجتماع الناس على حمل صخرة - مثلا - "ما لا يكون مع" حصول "الافتراق" وهذا بين، والحس والتجربة يشهدان عليه، "و" ذلك أن تضافر الأدلة الظنية ورفعها إياه إلى القطع "هو كذى" أي كخبر ذي "تواتر في المعنى" أي في الحكم والصورة "كجود حاتم" الطائي، فإنه قد ثبت بأخبار الآحاد في الأصل وهي لا تفيد إلا الظن، ثم لما تواترت الأخبار ارتقى الحكم فيه من الظن إلى القطع"بحيث عنا" أي في أي محل عرض ذكره. فالناس يقطعون بثبوته كما يقطعون بوجود مكة وبغداد وشجاعة علي رضي الله عنه فيكون شأن ثبوت هذا مثل "شأن ثبوت القطع" والجزم "بـ" وجوب "الصلاة" وبهيأتها التي تؤدى بها اليوم في بلاد أهل السنة "و" ثبوت القطع بوجوب "الحج" وكونه على هذه الهيئة التي يؤديه عليها أهل السنة في الجملة "و" ثبوت القطع بوجوب "الصيام" وثبوت القطع بوجوب إخراج "الزكاة" على من تجب عليه. وكل ذلك إنما يحصل بتضافر الأدلة الظنية عليه فصار اعتبار هذا الذي تقدم ذكره من أن الأدلة الظنية إذا تضافرت على أمر مفيد القطع فيه.
"وعدم اعتبار هذا أدّى" أي أوصل "قوما "من المتأخرين "لأن هدّوا" أي هدموا وردّوا "النصوص هَدَّا" المستدل بها في هذا العلم على حدتها، وانفرادها من غير ضم النصوص الأخرى التي تعضدها في الدلالة على ما دلت عليه في بناء المسائل الأصولية وإنما ردوها وهدموها لأنهم رأوا أنها أدلة ظنية وهي لا تفيد القطع، فلا يستدل بها في
96 -
وَفِي اعْتِبَارِهِ فِي الاِسْتِدْلَالِ
…
رَفْعٌ لِمَا يَعْرِضُ مِنْ إِشْكَالِ
97 -
أَلَا تَرَى الخَمْسَ الضَّرُورِيَّاتِ
…
مَعْلُومَةَ القَطْعِ عَلَى البَتَاتِ
98 -
لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنِ
…
بَلْ جُمْلَةٍ أَفْضَتْ إِلَى التَّيَقُّنِ
الأصول، ولو اعتبروا هذا الذي تقدم ذكره ما وقعوا في هذا الهدم والرد، قال الشاطبي في هذا:"وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع، فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب وهي مآخذ الأصول، إلا ان المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين، فاستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها، إذ لم يأخذها مآخذ الاجتماع فكر عليها بالاعتراض نصا نصا، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع"
(1)
. "وفي اعتباره" أي في اعتبار أن الأدلة إذا عضد بعضها بعضا صارت بمجموعها مفيدة للقطع "في الاستدلال" بما ذكر من النصوص "رفع" وإزالة "لما يعرض" في هذا الشأن"من اشكال" وهو كيف يستدل بالظني في إثبات القطعي. وهو ما أجيب عنه بما تقدم وهو أن الظنيات إذا تضافرت على أمر أفادت فيه القطع، ألا ترى الخمس الضروريات معلومة القطع على البتات.
"ألا ترى" أن "الخمس الضروريات" وهي الدين والنفس والمال والعقل والعرض، ووصفها بالضروريات لأن حفظها شرعا ضروري وهي "معلومة" أن حكمها "القطع" من جهة أنها ضرورية بلا ريب، بل "على البتات" أي القطع والجزم، لأن ذلك لا يحصل "بدليل" واحد"معين" في إفادة هذا الحكم "بل" ذلك يحصل بـ "جملة" أدلة متضافرة عليه لا تنحصر في باب واحد وهي التي "افضت" أوصلت "إلى التيقن" والقطع به. قال الشاطبي: "ودليل ذلك استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة، على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، على حد ما ثبت عند العامة من جود حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه
(1)
الموافقات ج 1 / ص 25.
99 -
وَسَائِرُ القَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ
…
بِهَذِهِ المُثَابَةِ المَرْعِيَّةِ
100 -
وَبِاعْتِبَارِ حَالَةِ المَجْمُوعِ
…
تَبَايُنُ الأُصُولِ لِلْفُرُوعِ
101 -
وَاعْلَمْ بِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ شَرْعِي
…
ملَائِمٌ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ
102 -
لَمْ يَشْهَدِ النَّصُّ عَلَى التَّعْيِينِ
…
لَهُ صَحِيحٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ
103 -
مُرْسَلُ الاِسْتِدْلَالِ هَذَا أَصْلُهُ
…
لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ نَقْلُهُ
القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة، في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتَّى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة"
(1)
.
"وسائر القواعد" التي تبنى عليها الأحكام الشرعية درجة ثبوتها "بهذه المثابة" أي المقام والمنزلة "المرعية" في إثبات القطع في هذه الضروريات، فالأمر المفضي إلى القطع في ذلك كله واحد، وهو تضافر الأدلة عليه. "و" إذا تقرر هذا فإنه "باعتبار" ومقتضى "حالة المجموع" الذي يعتمد في الأصول على الوجه الذي تقدم، يحصل ويتحقق "تباين" وافتراق "الأصول" من جهة ما تبنى عليه ومن جهة قطعية "الفروع" لأنها يكتفى في إثبات أحكامها بالدليل الظني، كما هو معلوم، وإن كان ظن المجتهد منزلا منزلة العلم في حقه، فإنه ظن باعتبار حقيقته وماهيته المجردة من ذلك الاعتبار. "واعلم بأن كل أصل شرعي" والمقصود به هنا الذي هو "ملائم" يوافق ما هو مقصود ومراد من "تصرفات" أي أحكام "الشرع" بأن يكون مفضيا وموصلا إلى تحقيق مصلحة شرعية، فهذا وإن "لم يشهد" أي يرد فيه "النص" فيذكر فيه "على التعيين" بحيث يذكر فيه بعينه فإنه أصل "له صحيح في أمور الدين" يبنى عليه ويرجع إليه، وذلك لإنه قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به "مرسل الاستدلال" هذا من باب إضافة الصفة للموصوف والأصل الاستدلال المرسل "هذا" الذي ذكر من الأصل الشرعي المذكور يعتبر في بناء الأحكام، "أصله" الذي بني عليه. وقد ثبت "لمالك" بن أنس إمام دار الهجرة "والشافعي" محمد بن إدريس الإمام المعروف "نقله" واستخراجه من الأدلة الشرعية
(1)
الموافقات ج 2/ ص 39.
104 -
وَأَصْلُ الاِسْتِحْسَانِ مَثَّلَ ذَلِكْ
…
وَهُوَ عَلَى رَأْيِ الإِمَامِ مَالِكْ
105 -
تَقْدِيمُهُ مُرْسَلَ الاِسْتِدْلَالِ
…
عَلَى القِيَاسِ الثَّابِتِ الإِعْمَالِ
"
المقدمة الرابعة
"
106 -
كُلُّ مَنُوطٍ بِأُصُولِ الفِقْهِ
…
لَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ فَرْعٌ فِقْهِي
107 -
فَإِنَّ جَعْلَهُ مَعَ الأُصُولِ
…
مِنْ جُمْلَةِ التَّشْغِيبِ وَالتَّطْوِيلِ
108 -
كَمِثْلِ لَا تَكْلِيفَ عِنْدَ الشَّرْعِ
…
إِلَّا بِفِعْلٍ وَابْتِدَاءِ الوَضْعِ
واعتماده أصلا "وأصل الاستحسان" - الذي هو في مذهب مالك - على ما ذكره الشاطبي - الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليلٌ كلي "مثل ذلك" الذي تقدم ذكره من أن الأصل الشرعي الملائم لتصرفات الشرع يتخذ أصلا "وهو على رأي الإمام مالك تقديمه مرسل الاستدلال" ترجيحه له "على القياس" الصحيح "الثابت الأعمال" يعني إعماله - فأل نابت عن الضمير - في بناء الأحكام الشرعية قال الشاطبي: في أن كل ما لا تبنى عليه الفروع الفقهية لا ينبغي ذكره في علم الأصول.
"المقدمة الرابعة"
"كل" شيء "منوط" معلق "بأصول الفقه" وهو في حقيقة الأمر "لا بنبني عليه" أي "فرع فقهي" وإنما يذكر في هذا العلم عرضا، ووصفه بالمعلق للإشعار بأنه ليس إلا ملصقا بهذا العلم، "فإن جعله" وذكره "مع" مسائل "الأصول" ما هو إلا "من جملة التشغيب" أي الانحراف عن الحق والقصد "والتطويل" المذموم، وذلك "كمثل" مسألة "لا تكليف" موجود "عند الشرع" يعني فيما أتى فيه من أمر، أو نهي "إلا بفعل" فالمكلف به في الأمر هو الإتيان بالفعل المكلف به، أما في النهي فالمكلف فيه هو الكف أي الانتهاء، وقيل فعل الضد للمنهي عنه، وقيل الانتفاء للمنهي عنه وذلك مقدور للمكلف بأن لا يشاء فعله الذي يوجد منه بمشيئته، وقيل يشترط قصد الترك في الإتيان بالمكلف به في النهي. وهذا الذي ذكره المصنف تبعًا للشاطبي من أن هذه المسألة لا تتعلق بالفروع فيه نظر، فإن هذه التفاصيل تدل على أن الأمر - هنا - متعلق بما يجب على المكلف أن يكون عليه من قصد وحال في تحقيق الانزجار بمقتضى النهي الشرعي، وهذا من الفقه، لأنَّهُ مبين لهذا الفعل - الترك - "و" كذلك مسألة "ابتداء الوضع" للغة
109 -
وَالأمْرِ لِلْمَعْدُومِ وَالرَّسولُ هَلْ
…
كَانَ لَهُ تَعَبُّدًا شَرْعُ الأوَلْ
110 -
وَلَيْسَ بِاللَّازِمِ أَنْ يَكُونَ مَا
…
عَلَيْهِ فِقْهٌ بِالتِي لَهَا انْتَمَى
111 -
كالنَّحْوِ وَالْبَيَان وَالتَّصْرِيفِ
…
وَكَالْمَعَانِي الآتِي فِي الْحُرُوفِ
112 -
وَكُلُّ مَا أَشبَهَهُ فِي حُكْمِهِ
…
مِمَّا انْقَضَى الْبَحْثُ بِهِ فِي عِلْمِهِ
113 -
لَكِنْ هُنَا مَسْأَلَة خَطِيرَة
…
وَفي الأصُولِ عِنْدَهُمْ شَهِيرَة
وطرق معرفتها، وحقيقة الوضع وكل ذلك إنما يذكر تمهيدا لذكر اللفظ وأقسامه والحروف التي تذكر في هذا العلم بناء على أن اللغة من مستمدات علم الأصول، وذلك يقتضي ذكر هذه المسائل، "و" كذلك "الأمر للمعدوم" الذي لم يوجد ولم يولد بعد بناء على أن الخطاب الإلهي بالتكليف قديم، فهو موجه إلى كل من سبق في علم الله انه سيوجد، إلا انه غير مكلف تكليفا تنجيزيا، وإنما هو مكلف تكليفا معنويا. وهذه المسألة انجرّ الكلام إليها في علم الأصول من مسألة بيان حقيقة الحكم الشرعي "و" كذلك مسألة "الرسول" صلى الله عليه وسلم "هل كان له" قبل البعثة "تعبدا شرع" للأمم "الأول" السابقة في العبادات، وهذه مسألة لا يبنى عليها أي فرع فقهي، ولكنها تذكر في أصول الفقه عرضا في مجاري الحديث عن عصمة الأنبياء، وما شابهها. "وليس بـ" الأمر "اللازم" الواجب "أن يكون" كل "ما" يبنى "عليه فقه" مسألة "بالتي لها انتمى" أي انتساب إلى هذا العلم وذلك "كالنحو والبيان والتصريف وكالمعاني الآتي" ذكرها "في الحروف" يعني الحروف التي تذكر في كتب اصول الفقه. فإن ذلك كله مما يستعان به على بناء الأحكام الفقهية بوجه ما، فهي من الوسائل التي يتوسل بها إلى إدراك معاني الأدلة التي يعتمد عليها في بناء القواعد الأصولية كما يعتمد عليها في استخراج الأحكام الفقهية من أدلتها.
"وكل ما أشبهه" أي أشبه ما ذكر "في حكمه" بحيث يكون "مما انقضى" أي انتهى "البحث به" أي فيه والنظر، فلم يبق فيه ما يقتضي حاله أن يدرس ويبحث، فجميع جهاته ومواطن النظر والبحث قد درست وبحثت "في علمه" بما فيه غنية وكفاية، وذلك مثل تقاسيم الاسم والفعل والحرف والكلام على الحقيقة والمجاز، والمشترك والمترادف. "لكن" توجد "هنا" يعني في المسائل اللغوية المدروسة في هذا العلم - علم الأصول - "مسألة خطيرة" عظيمة القدر والشأن "وفي "علم "الأصول عندهم شهيرة" عريقة
114 -
وَهْيَ الْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ كلُّهُ
…
كَذَلِكَ السُّنَّةُ أَيْضًا مِثْلُهُ
115 -
مِنْ جِهَةِ الْألْفَاظِ وَالْمَعَانِي
…
وَمُقْتَضَى أَسَالِيبِ الْبَيَان
116 -
لَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْمُعَرَّبَاتِ
…
وَكلُّ ذَا بَيَانُهُ سَيَأتِي
117 -
وَمَا مِنَ الأصُولِ فِيهِ يَخْتَلِف
…
وَالْخُلْفُ لَا يَأْتِي بِفِقْهٍ مُؤْتَنِف
118 -
فَالأخْذُ بِالتَّصْحِيحِ وَالتَّزْيِيفِ فِي
…
مَوَاقِعَ الْخُلْفِ مِنَ التَّكَلُّفِ
" وهي" مسألة "القرآن عربي كله كذلك السنة أيضا مثله" وهذه المسألة يسوقها الأصوليون للبحث عن كون المعربات موجودة في الكتاب والسنة أم أنها غير موجودة فيهما. والشاطبي يرى أن معنى كون القرآن عربيا الذي هو المبحث الأصولي الحقيقي هو "أن القرآن في ألفاظه ومعانيه وأساليبه عربي بحيث إذا حقق هذا التحقيق سلك به في الاستنباط منه والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع مخاطباتها خاصة"
(1)
.
وفي ذلك يقول المصنف: "من جهة الألفاظ و" من جهة: "المعاني و" من جهة "مقتضى" حكم "أساليب" وطرق "البيان" ووجوهه، فإنه في ذلك عربي، و "ليس الكلام" في هذه المسألة محله "في المعربات" وهي الكلمات فقط، لأن هذا من علم النحو واللغة، "وكل ذا" الذي ذكره من أن القرآن والسنة عربيان على الوجه المتقدم ذكره "بيانه" وإيضاحه "سيأتي" في كتاب المقاصد - إن شاء الله تعالى -.
"و" كل "ما" أي أمر أو موضوع "من الأصول فيه يختلف" ويتنازع "والخلف" فيه "لا يأتي بفقه مؤتنف" مختلف فيه، وإنما الجميع مجمعون على أن الحكم المقهي المبني على ذلك الأصل المختلف فيه واحد.
"فالأخذ" والاشتغال "بالتصحيح": جلب الأدلة الدالة على الصحة "والتزييف": جلب الأدلة الدالة على التزييف والسقوط "في مواقع" منصوب بنزع الخافض يعني لمواقع ومواطن "الخلف" ما هو إلا "من التكلف"، فإيراد ذلك في هذا العلم غير سديد،
(1)
الموافقات / ج 1 / ص 30.
119 -
كالْفَرْضِ تَخْيِيرًا أَوِ الْمَمْنُوعِ
…
وَحَالَةِ الْكُفَّارِ فِي الْفُرُوعِ
"
المقدمة الخامسة
"
120 -
مَا لَيْسَ يُبْتَنَى عَلَيْهِ عَمَلُ
…
أَوِ اعْتِقَادٌ مَنْعُهُ لَا يُشْكلُ
وذلك "ك" مسألة "الفرض" رد "تخييرا" يعبر عنه بالواجب المخير، ومثاله كفارة اليمين، فإن الكفارة على الحانث واجبة ثم هو مخير فيما يكفر به كما في القرآن الكريم "أو" مسألة "الممنوع" تخييرا، ويعبر عنه بالمحرم تخييرا، ومثاله نكاح الأختين، فمن نكحت منهما فإن أختها محرمة عليك، ثم أنت مخير فيمن تحرم منهما بزواج أختها. "و" كذلك مسألة "حالة الكفار" حكمها "في" شأن تكليفهم بـ "الفروع"، وعبارة الأصوليين: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
وعبارة الشاطبي في هذا الفصل: "وكل مسألة في أصول الفقه يبنى عليها فقه، إلا انه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه، فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو ابطاله عارية ايضا كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير، فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل"
(1)
.
وهذا الذي ذكره الشاطبي ووافقه عليه الناظم من أن هذه المسائل متفق على الفروع الفقهية المبنية عليها غير مطلق فإنه قد اختلف في فروع مبنية على الخلاف الأصولي فيها.
"المقدمة الخامسة"
في أن الخوض في بحث ودراسة ما لا يبنى عليه عمل بدني أو قلبي خوض وبحث فيما لا يستحسن الخوض والبحث فيه شرعا، فيكون المطلوب شرعا هو الانكفاف عنه. وفي ذلك يقول الناظم: كل "ما ليس يبتنى عليه" يعني على العلم به والخوض في بحثه ودراسته "عمل" بدني من حيث هو مطلوب شرعا. "أو" يبتنى عليه "اعتقاد" عمل قلبي مطلوب شرعا "منعه" وطرحه "لا يشكل" بل هو أمر بين ومطلوب.
(1)
الموافقات/ ج 1/ ص 30.
121 -
دَلِيلُهُ أَنَّا رَأَيْنَا الشَّرْعَ لَا
…
يَسْمَحُ فِيمَا لَا يُفِيدُ عَمَلَا
122 -
وَذَا لَهُ مِن أَوْضَحِ الأدِلَّة
…
جَوَابُ مَنْ سَأَلْ عَنِ الأهِلَّة
123 -
وَرُبَّمَا قَدْ يُفْهِمُ امْتِنَاعَهْ
…
جَوَابُ جِبْرِيلَ عَنْ أَمْرِ السَّاعَهْ
124 -
وَقَدْ أَتَى النَّهْيُ عَنِ السُّوَالِ
…
عَنْ غَيْرِ مَا يُفِيدُ فِي الأعْمَالِ
125 -
وَعَدَمُ اسْتِحْسَانِهِ مِنْ أَوْجُهِ
…
مِنْهَا التَّشَهِّي وَهْوَ عَنْهُ قَدْ نُهِي
و"دليله" يعني والدليل على صحة ما ذكر "أنا" استقرأنا الشريعة، فأدركنا من ذلك و"رأينا" أي علمنا أن "الشرع" لا يجوز و "لا يسمح" للمؤمنين أن يخوضوا ويبحثوا "فيما" في كل أمر "لا يفيد" الخوض والبحث فيه "عملا" مكلفا به "وذا" الذي ذكر، "له" ما يستدل به على صحته من الأدلة ما هو كثير، و"من أوضح الأدلة" على ذلك "جواب" الباري سبحانه "من سأل" من الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم "عن الأهلة" جمع هلال قائلين له صلى الله عليه وسلم لم تبد دقيقة، ثم تزيد حتى تمتلئ نورا ثم تعود كما بدت ولا تكون على حالة واحدة كالشمس؟ فأنزل الله - تعالى - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البَقَرَة: 189] يقول جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة ومحل دينهم، فلم يجبهم عما سألوا عنه إنما أجابهم بما به ينتفعون، ويكسبهم العلم الذي يوصلهم إلى العمل. "وربما" رب هنا للتكثير إذ ما بعده هو الذي يغلب على ظنه حصوله "قد يفهم امتناعه" صلى الله عليه وسلم عن "جواب جبريل" حين سأله "عن أمر الساعة"، كما ورد في حديث عمر المشهور، فقال صلى الله عليه وسلم له: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، فأخبره أن ليس عنده من ذلك علم، وذلك يبين أن السؤال لا يتعلق به تكليف، ولما كان ينبني على ظهور أماراتها الحذر منها ومن الأفعال التي من امارتها، والرجوع إلى الله عندها أخبره بذلك.
"وقد أتى النهي" الشرعي "عن السوال" والاستفهام "عن غير ما" ينفع و "يفيد في "تحصيل "الأعمال" من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "فذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبيائهم" ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال" لأنه مظنة السؤال عما لا يفيد وغير ذلك من النصوص الشرعية الواردة في هذا الشأن، وكلها دالة على أن السؤال الذي لا يطلب به عمل غير مستحسن "وعدم استحسانه" يأتي "من أوجه" متعددة "منها التشهي" أي إتباع الشهوة "وهو "أمر "عنه قد نهى"
126 -
وَالْخَوْضُ فِيمَا شَأْنُهُ لَا يُغْنِي
…
وَأَنَّهُ شُغْلٌ بِمَا لَا يَعْنِي
127 -
وَأَنَّهُ دَاعِيَةُ النُّفُورِ
…
مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ وَالْغُرُورِ
128 -
وَلَا يُقَالُ الْعِلْمُ بِاستِغْرَاقِ
…
مطَّلَب شَرْعًا عَلَى الاطْلَاقِ
129 -
وَأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْضَ النَّاسِ
…
مَا فِي الْعُلُومِ كلِّهَا مِنْ بَاسِ
شرعا، وقد وردت في ذلك نصوص شرعية قطعية. قال تعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النّجْم: 23] وقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59] ومنها "الخوض" والبحث "فيما شأنه" أمره. "لا يغني" لا يفيد ولا ينفع - والغناء بفتح الغين النفع - "و" منها "أنه شغل بما لا يعني" أي لا يهم من جهة الشرع.
"و" منها "أنه داعية" مجلبة "النفور" والتدابر والكراهية و"مظنة" موطن يظن فيه أنه سبب "الفتنة والغرور" بين الناس، فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب، حتى تفرقوا شيعا، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة، ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني، فذلك فتنة على المتعلم والعالم، واعراض الشارع - مع حصول السؤال - عن الجواب، من اوضح الأدلة على أن اتباع مثله من العلم فتنة أو تعطيل للزمان في غير تحصيل
(1)
.
"ولا" يصح أن "يقال العلم" كله "باستغراق" وشمول لكل أصنافه وأنواعه "مطلب شرعا" - بضم الميم وتشديد الطاء وفتح اللام - يقال طلب الشيء وأطلبه بمعنى. ومنه عبد المطلب - فالمطلب والمطلوب معناهما واحد "على الإطلاق" إذ قد جاء الطلب في تحصيله على صيغ العموم والاطلاق، فتنظم صيغة كلّ علم - كيفما كان نوعه -، ومن جملة العلوم ما يتعلق به عمل، وما لا يتعلق به عمل، فتخصيص أحد النوعين بالاستحسان دون الآخر تحكم، "و" يعضد هذا "أنه" الضمير للشأن "قد قال بعض الناس" من أهل العلم "ما في" تعلم "العلوم كلها" والاشتغال بها "من بأس" أي من حرج - والبأس أصله اللغوي: الشدة
(1)
الموافقات/ ج 1/ 35.
130 -
وَأَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَة
…
فَيَنْبَغِي أَنْ تُقْتَفَى دِرَايَة
131 -
وَحَضَّ جَلَّ وَعَلَا عَلَى النَّظَر
…
فِي مَلَكُوتهِ وَذَاكَ مُعْتَبَر
132 -
وَالْعِلْمُ بِالتَّفْسِيرِ مَطْلُوبٌ وَقَدْ
…
يَكُونُ فِيمَا لَا لِتَكْلِيفٍ وَرَدْ
133 -
لِأنَّنَا نَقُولَ لَيْس الأمْرُ
…
كذَاكَ وَالْمَطْلُوبُ ذَاكَ الْقَدَرُ
134 -
وَمَا أَتَى فِي ذَاكَ مِنْ تَنْصِيصِ
…
مُحْتَمِلُ التَّقْيِيدِ وَالتَّخْصِيصِ
والخوف - "وأنها" يعني تعلمها "فرض على الكفاية" أن تركها الناس كلهم ولم يتعلمها أي منهم أثموا جميعا. ومن تلك العلوم السحر والطلسمات، وغيرهما، البعيدة الغرض عن العمل، فما بالك بما قرب منه كالحساب والهندسة وشبه ذلك، "فينبغي" بناء على ما ذكر من أن العلوم كلها فرض كفاية "أن تقتفي" أي أن تتبع وتطلب رواية و"دراية" أي فهما، فيروى منها ما يجب أن يروى، ويفهم منها ما حقه أن يفهم - أن يدرى -.
"و" يزيد توكيدا لما ذكر من أن جميع العلوم يجب أن تطلب وتدرى أنه سبحانه قد "حض" وحث "جل وعلا" في كتابه العزيز "على النظر" والتأمل "في ملكوته" قال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ
…
} [الأعرَاف: 185]"وذاك" دليل "معتبر" في هذا الشأن، وحجة على هذا الذي ذكر، إذ مقتضاه الأمر بالاشتغال بكل علم ظهر في الوجود من معقول، أو منقول، مكتسب أو موهوب. وفي القرآن آيات أخرى قاضية بهذا الحكم. "و" يزيد هذا أيضا أن "العلم بالتفسير" والتأويل للقرآن الكريم "مطلوب" الاطلاع عليه وتحصيله "وقد يكون" بعض ما يحصل منه ويعلم "فيما" أي في أمر خبري، كقصص الأنبياء، وأحوال الخلق، وذلك كله معد فيما "لا" أي ليس "لـ" اجل "تكليف" بعلمه والعمل بمقتضاه "ورد" في القرآن، إنما قد يكون واردا فيه لمقاصد أخرى. وبعدما ساق الناظم هذه الحجج على أن العلوم كلها يجب أن تتعلم من غير فرق بينها، شرع في الرد عليها، قائلا "لاننا نقول" يعني نجيب بأمور: أحدها أنه "ليس الأمر" في هذا الشأن "كذاك" أي مثل ما ذكرتم من أن تعلم العلوم كلها أمر مطلوب "و" إنما "المطلوب" في حقيقة الأمر هو "ذاك القدر" الذي تقدم أنه ما يكون تحته عمل.
"و" ثانيها أن "ما أتى" أي جاء وورد "في ذاك" وهو الطلب "من تنصيص" على أن الشارع يدعو إليه فإنه إن كان اللفظ الدال عليه مطلقا فإنه "محتمل التقييد" وبذلك فإنه ليس على إطلاقه. "و" إن كان اللفظ الدال عليه عاما فإنه محتمل "التخصيص" وبذلك فإنه ليس على
135 -
وَالْفَرْضُ مِمَّا ذُمَّ فِي الْعُلُومِ
…
الْعِلْمُ أَنَّهُ مِنَ الْمَذْمُومِ
136 -
وَرَدُّ كُلِّ فَاسِدٍ مَمْنُوعِ
…
بِمُقْتَضَى مَا جَاءَ فِي الْمَشْرُوعِ
137 -
وَقصَّةُ الرَّدِّ لِسِحْرِ السَّحَره
…
بِغَيْرِ مَا جَاؤُوا بِهِ مُعْتَبَرَه
138 -
وَقَدْ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ
…
عَلَى يَدَيْ وَليٍّ أَوْ ذِي عِلْمِ
عمومه. بل الأدلة المتقدم ذكرها دالة على جريان التقييد والتخصيص في ذلك حقيقة، والذي يوضح ذلك أمران: أحدهما: أن السلف الصالح من الصحابة لم يخوضوا في هذه الأشياء التي ليس تحتها عمل، مع أنهم كانوا أعلم بمعنى العلم المطلوب. والثاني: ما ثبت في كتاب المقاصد أن هذه الشريعة أمية لأمة أمية. وبسط هذا يأتي هناك. ثم ذكر ثالثها وهو أنه من المفروض أن يكون العلم المذموم عند الناس هو العلم المذموم شرعا، فقال "والفرض" الأمر المفروض المسلم "مما" يعني، فيما، فمن - هنا - بمعنى في، كقول الشاعر:
عسى سائل ذو حاجة إن منعته
…
من اليوم سؤلا أن ييسر في عند
هذا هو ظاهر عبارته، فيكون المعنى - بناء على ذلك - والفرض فيما - والله أعلم - "ذُم في العلوم" وعد فاسدا فيكون الاشتغال به منهيا عنه وباطلا - هو "العلم" الذي ثبت شرعا "أنه من المذموم" يعني أنه المذموم فمن مقحمة زائدة، وذلك جائز على مذهب الفراء وقد ثبت أنه لا بد من علم فاسد، والشرع متكفل ببيان ما هو العلم الفاسد.
"و" رابعها: أن فرض الكفاية هو "رد" وإبطال "كل" علم "فاسد" شرعا "ممنوع" تعلمه وكل ذلك إنما يعلم ويثبت "بمقتضى" وحكم "ما جاء في المشروع" أي الشرع. "وقصة الرد" والإبطال "لسحر السحرة بغير ما جاؤوا به معتبرة" في هذا الشأن، فإن موسى لم يعلم علم السحرة الذي جاء به السحرة مع انه بطل على يديه بأمر هو اقوى من السحر، وهو المعجزة، ولذلك لما سحروا اعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم خاف موسى من ذلك، ولو كان عالما به لم يخف، كما لم يخف العالمون به، وهم السحرة"
(1)
.
"وقد يكون" أي يحصل "مثل هذا الحكم" الذي حصل على يد موسى عليه السلام "على يدي ولي" لله - تعالى - "أو "على يد "ذي علم" من علماء الشريعة، فلم
(1)
الموافقات/ ج 1/ ص 36.
139 -
وَمَا يُدَاخِلُ فِي الاعْتِبَارِ
…
بِكُلِّ مَا بَدَا مِنَ الآثَارِ
140 -
تَتَبُّعُ الأمْرِ الْعَسِيرِ فِي الطَّلَبْ
…
وَكل مَا لَا عَهْدَ فِيهِ لِلْعربْ
141 -
فَإنَّ ذَا مِنْ عَادَةِ الْفَلَاسِفَةْ
…
وَهْيَ لِسُنَّةِ الْهُدَى مُخَالِفَةْ
142 -
وَمَا مِنَ التَّفْسِيرِ فِيمَا لَمْ يَقَعْ
…
فِي ظِلِّهِ التَّكْلِيفُ فَهْوَ بِالتَّبَعْ
يتعين - بناء على ذلك - معرفة تلك العلوم من جهة الشرع، لأنها باطلة وفاسدة، بل من فرض الكفاية ردها وإبطالها.
"وما" أي ليس "يداخل في الاعتبار" عملا "بكل ما بدا" أي ظهر "من" الأخبار المذكورة و"الآثار" المنقولة عن السلف في هذا الشأن - و "من" في قوله: من الآثار بيانية لما - "تتبعُ" اسم ما مؤخر، ويدخل السابق خبرها، مقدم، أي "الأمر العسير" الصعب إدراكه ومأخذه "في الطلب" يعني بالطلب وبالبحث عنه، "و" كذلك طلب وتعلم "كل ما" أي كل علم أو أمر "لا عهد فيه" أي به "للعرب" كالعلوم الطبيعية، والأقيسة والحدود المنطقية "فإن ذا" المنهج - وهو طلب حقيقة كل شيء وعلله، والبحث في أمره يعد "من عادة الفلاسفة" وهم من يعبر عنهم بعض الناس بالحكماء.
وإتباع الفلاسفة في شأن مثل هذا أمر يجب أن يتقى، وذلك لأن هذه العادة "هي لسنة الهدى" الحق والرشد "مخالفة" لما تقدم من أن كل علم ليس تحته عمل لا يسوغ الاشتغال، به ولا طلبه، ثم إنها على خلاف نهج السلف الصالح في هذا الشأن.
"و" أما "ما" يطلب ويدرس "من" مسائل علم "التفسير" وهو قد تقرر عده "فيما" أي في القسم الذي "لم يقع" أي لم يكن "في ظلّه" وما دل عليه من أمور "التكليف" فلم يكن تحته عمل مطلوب الإتيان به شرعا، "فهو "إنما يذكر فيه - في هذا العلم - ويبحث "بالتبع" وبالعرض، فهو غير مقصود لذاته، وإنما يدرس فيه لأنه يتوقف عليه فهم الخطاب، فإذا كان المراد معلوما فالزيادة على ذلك تكلف.
143 -
لِذَلكَ لَمْ يَسَلْ عَنِ الأبِّ عُمَرْ
…
وَعَنْ تَخَوُّفٍ سُؤَالُهُ صَدَرْ
144 -
وَكُلُّ مَا تَوَقَّفَ الْمَطْلُوبُ
…
عَلَيْهِ فَهْوَ مِثْلُهُ مَطْلُوبُ
143 -
كالنَّحْوِ وَاللُّغَاتِ وَالتَّفْسِيرِ
…
وَذَا سَيَأْتِي بَعْدُ فِي التَّقْرِيرِ
"
المقدمة السادسة
"
" لذلك لم يسل عن" معنى "الأبّ" الوارد في قوله - تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 31]- "عمر" بن الخطاب رضي الله عنه قال الشاطبي: "وهو معنى إفرادي لا يقدح عدم العلم به في علم المعنى التركيبي في الآية، إذ هو مفهوم من حيث اخبر الله تعالى في شأن طعام الإنسان انه انزل من السماء ماء فأخرج به اصنافا كثيرة مما هو من طعام الإنسان مباشرة، كالحب والعنب والزيتون، والنخل، ومما هو طعامه بواسطة مما هو مرعي للاغنام على الجملة، فبقي التفصيل في كل فرد من تلك الافراد فضلا على الإنسان أن لا يعرفه. فمن هذا الوجه - والله أعلم - عد المبحث عن معنى الأب من التكلف، وإلا فلو توقف عليه فهم المعنى التركيبي من جهته لما كان من التكلف، بل من المطلوب علمه، لقوله:{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]
(1)
.
"و" لذلك "عن" كلمة "تخوف" الوارد في قوله تعالى {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النّحل: 47]"سؤاله صدر" ووقع، فأجابه الهذلي بأن التخوف في لغتهم التنقص، وأنشد شاهدا عليه:
تخوّف الرحل منها تامكًا قَرِدا
…
كما تخوّف عود النّبْعَةِ السَّفَنُ
"و" هذا حكم "كل ما يتوقف" على معرفته معرفة "المطلوب عليه فهو مثله مطلوب" لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، مثل ما سأل عنه عمر - هنا - وذلك "كالنحو""و" ألفاظ "اللغات""و" علم "التفسير""و" كل "ذا سيأتي بعد في التقرير" لمسائل هذا العلم وقواعده.
"المقدمة السادسة"
في أن الطريق التقريبي في بيان ما تطلب معرفته هو الطريق الذي ينبغي المضي عليه في التفسير لمعاني لنصوص الشرعية وغيرها.
(1)
الموافقات 1 ص 37.
146 -
وَمَا بِهِ مَعْرِفَةُ الْمَطْلُوبِ
…
لَهُ طَرِيق أَوَّلٌ تَقْرِيبِي
147 -
مُسْتَعْمَلٌ لِلشرْعِ فِي الأمُورِ
…
مُوَصِّلٌ يَلِيقُ بِالجُمْهُورِ
148 -
إِذْ هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْعَرَبِ
…
وَالشَّرْعُ جَاءَ بِلِسَانٍ عَرَبِي
149 -
كسَائِلٍ عَنِ النُّجُومِ قُلْتَ مَا
…
تُبْصِرُهَا لَيْلًا تُضِيءُ فِي السَّمَا
وفي ذلك يقول "وما به" تحصل "معرفة" الأمر "المطلوب" إدراكه والعلم به سواء كان تصورا أو تصديقا "له" يعني في ذاته وحقيقته - كما تقول زيد له جسم، فالجسم هو زيد نفسه - طريقان وهما "طريق أول" مقدم على الثاني لأنه "تقريبي" يذكر فيه ما هو قريب وسهل فهمه والإفهام به، ثم انه "مستعمل للشرع" يعني لصاحب الشرع وقوله "مستعمل للشرع" هو مثل قولك: فلان محبوب زيد، أي يحبه زيد ومثل هذا كثير في كلام العرب، فيكون معنى قوله مستعمل للشرع يعني يستعمله الشرع، ثم بين محل هذا الاستعمال فقال "في"بيان "الأمور" التي يريد بيانها للناس، ثم إنه أي - هذا الطريق - "موصّل" مبلغ إيصاله وتبليغه به من العلم، والمعرفة والبيان، ثم انه الطريق الذي "يليق بالجمهور" وعامة الناس، إذ هو الأسهل في البيان، لقرب مضامينه إلى عامة العقول والافهام.
و"إذ هو مقتضى" حال "كلام العرب" من جهة البيان والإفهام، فمن عادة العرب التخاطب بما تفهمه الجماهير ويدرك المراد به عامة الناس، "و" خطاب "الشرع جاء بلسان عربي" فكان البيان في الشريعة على وفق ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام:"الكبر بطر الحق وغمط الناس" ففسره بلازمه الظاهر لكل احد. وكما تفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغة من حيث كانت أظهر في الفهم منها. ومقتضى هذا كله أن الأخذ بهذا الطريق في البيان وتبليغ المعارف أفضل، وذلك بأن يصور ما يراد تصويره بما يسهّل إدراكه ومعرفته، وذلك يفرض مسألة في "كسائل" سألك "عن" معنى "النجوم" فأجبته و"قلت" له هي "ما تبصرها ليلا" وهي التي "تضيء في السما" فهذا الجواب لا يحتاج ذلك السائل في فهم معناه إلى رفع عينيه إلى السماء ليلا، فإدراكه له سهل وقريب، هذا هو الطريق الأول وهذه هي صورته.
150 -
ثمَّ لَه أَيْضًا طَرِيقٌ ثَان
…
لَا يَشْمَل الْجُمْهورَ بِالْبَيَان
151 -
فَبعْدُهُ عَنِ الطِّبَاعِ أَهْمَلَهْ
…
وَصَدَّة عَنِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهْ
152 -
وَمقْتَضَاهُ طَلَبُ الْمَحْدُودِ
…
مَعْرِفَةً مِنْ جِهَةِ الْحُدُودِ
153 -
كَذَلِكَ التَّصْدِيقُ حَيْث تَأتِي
…
مقَدِّمَاتة ضَرُورِيَّاتِ
" ثم له" أي لما ذكر من معرفة المطلوب "أيضا طريق" آخر "ثان" خاص بأرباب المبحث عن حقائق الأشياء وماهياتها وأوصافها الذاتية وهذا الطريق "لا يشمل الجمهور""بـ" ما يتضمنه من "البيان" و التفسير و التصوير "فبعده عن" مناسبة وموافقة "الطباع" والمدارك العادية التي يسهل على الجمهور اخذ المعارف منها "أهمله" كان موجبا لإهماله في مجال التخاطب والإفهام والحوار العادي بين الناس، "وصده" أي منعه وصرفه "عن اعتبار" صاحب "الشرع له" في بيانه لأحكامه وشرائعه وما انزله من علوم ومعارف في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن مسالكه صعبة المرام على الناس {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
"و" هذا الطريق "مقتضاه" الذي يقتضيه ويوجبه العمل به هو "طلب المحدود معرفة" يعني طلب معرفة ما يراد تحديده - تعريفه وبيانه - "من جهة الحدود" يعني من الجهة التي يمضى عليها في وضع الحدود على الطريقة المنطقية، كما إذا سئل عن الملك فيجاب "ماهية مجردة عن المادة أصلا"، أو يقال:"جوهر بسيط ذو غاية ونطق عقلي" أو يقال: ما الكوكب؟ فيجاب بأنه "جسم بسيط كروي مكانه الطبيعي نفس الفلك من شأنه أنْ ينير متحرك عن الوسط غير مشتمل عليه " - وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تعرفها العرب، ولا يوصل إليها إلا بعد قطع ازمنة في طلب تلك المعاني، ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا، ولا كلف به. هذا شأن التصور وحاله، وأما التصديق فإنه يطلب فيه أن تكون مقدماته ضرورية أو ما يقرب منها، فإن ذلك هو ما عليه أسلوب الخطاب الشرعي، وعليه قيامه في هذا الشأن. قال الناظم "كذلك" يعني كما يطلب أن يكون الخطاب التصويري للجمهور تقريبيا لما تقدم ذكره كذلك "التصديق" فإنه يكون لائقا بالجمهور إدراكه "حيث" أي في أي موضع - دليل - "تأتي مقدماته" أي ذلك الدليل حالة كونها "ضروريات" وهي التي يجزم العقل بثبوتها من غير حاجة إلى نظر وتأمل.
154 -
أَوْ تَقْتَضِي الْقرْبَ مِنَ الضَّرورِي
…
فَهْوَ الذِي يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ
155 -
وَحُكْمُهُ فِي الشرْعِ ذُو ثَبَاتِ
…
وَجَاءَ فِي الْقُرْآن فِي آياتِ
156 -
كَقَوْلهِ أَفَرَأَيْتُمْ نَسَقَا
…
وَغَيْرِهَا كَمِثْلِ أَمَّنْ خَلَقَا
157 -
وَمَا يُرَى عَنْ حُكْمِ هَذَا قَدْ خَرَج
…
فَمُتْلِفٌ لِلْعَقْلِ مُودٍ لِلْحَرَج
"
المقدمة السابعة
"
" أو" التي "تقتضي" بما تدل عليه من معنى "القرب من" العلم "الضروري" من جهة أنها تدرك بأدنى نظر. وهذا الضرب من المسالك في طلب الحكم لا يحتاج في اخذ ثمراته إلى اتعاب الذهن، والبحث الطويل، ولذلك "فهو الذي يليق بـ" مخاطبة "الجمهور" وتبليغ ما يراد تبليغه لهم من أمور، "و" هذا التصديق "حكمه في "خطاب صاحب "الشرع" حكمه يعني طلبه "ذو ثبات و" من الأدلة على ذلك انه قد "جاء في القرآن في آيات" كقوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
وكقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)} [الواقِعَة: 68 - 69]"نسقا" عطفا على ما قبله من الآيات الاخرى التي يطلب بها من التصديق ما يطلب به "وغيرها" أي غير هذه الآية "كمثل" قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60]. "و "كل "ما يرى" أي يعلم انه "عن حكم هذا" الذي ذكر في طلب التصديق هذا "قد خرج فـ" أنه طريق "متلف للعقل" لما فيه من الاعتياص والتكلف الشديد وقعه على النفس، ولما يوجبه من ابعاد الجمهور عن جني ثمرته كما أنه "مؤد" موصل "للحرج" والضيق في الإدراك. وهذا بين في مسائل التكليف، والكسب والقدرة وما اشبهها عند الخائضين فيها على الطريقة الكلامية المعروفة في هذا الشأن.
"المقدمة السابعة"
في أن العلم الشرعي لا يطلب الشارع تعلمه إلا للعمل، فإن ظهر فيه اعتبار جهة اخرى فبالتبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول - وهو هنا العمل - قال الناظم في ذلك
158 -
وَمَا مِنَ الْعِلْمِ إِلَى الشَّرْعِ انْتَسَبْ
…
وَجَاءَتِ النُّصُوصُ فِيهِ بِالطَّلَبْ
159 -
فَهْوَ الذِي يَكُونُ لِلتَّعَبُّدِ
…
وَسِيلَةً لَا لِسِوَى ذَا الْمَقْصِدِ
160 -
وَكَمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ دَلِيلِ
…
مِنَ الْحَدِيثِ وَمِنَ التَّنْزِيلِ
161 -
وإِنْ بَدَا وَجْهٌ لِغَيْرِ الْعَمَلِ
…
فَهْوَ بِقَصْدٍ تَابِعٍ لَا أَوَّلِ
162 -
وَلَيْسَ فَضْلُ الْعِلْمِ إِلَّا بِالْعَمَلْ
…
إِذَا عَلَى الْخُلُوصِ للهِ اشْتَمَلْ
163 -
دَلِيلُهُ الذَّمُ لِغَيْرِ الْعَامِلِ
…
بِعِلْمِهِ فِي عَاجِلٍ وَآجِلِ
164 -
وَأَفْضَلُ الْعِلْمِ عَلَى التَّحْقِيقِ
…
الْعِلْمُ بِاللهِ مَعَ التَّصْدِيقِ
" وما من العلم إلى الشرع انتسب" فيوصف لذلك بأنه علم شرعي "وجاءت النصوص" الشرعية "فيه" أي في شأنه "بالطلب" أي بطلب تعلمه، وتحصيله "فهو" العلم "الذي يكون" ويراد "للتعبد" به الله - تعالى - "وسيلة" فهو لهذا المقصد يطلب تعلمه "لا لسوى ذا المقصد" وقد يؤخذ منه ويجنى، "وكم على ذلك" الذي ذكر "من دليل" يدل عليه "من الحديث" النبوي "ومن التنزيل" القرآن الكريم "وإن بدا" في علم شرعي ما "وجه" قد يكون معتبرا ومقصودا "لغير العمل" الأخروي وعبادة الله - تعالى - فهو غير مقصود لذاته، وإنما يذكر عرضا ولذلك "فهو "متمم "بقصد تابع" وثان "لا" لقصد "أول" قصد من ذلك العلم، ولا يكون إلا العمل. "و" من تلك الأدلة الدالة على أن طلب العلم الشرعي لا يكون إلا للعبادة انه "ليس فضل العلم" وشرفه "إلا بالعمل" إذ روح العلم هو العمل "إذا" كان ذلك العمل "على الخلوص" يعني الاخلاص ويقال - أيضا - خلف الشيء يخلص خلوصا إذا صار خالصا "لله" - تعالى - "اشتمل" وإنما يكون كذلك إذا خلا من موانع القبول كالرياء والعجب. "دليله" أي دليل هذا الذي ذكر هو "الذم" الوارد في نصوص من الكتاب والسنة كثيرة "لغير العامل بعلمه" والذي يحق به "في عاجل" يعني في عاجله - زمان الدنيا - و"آجل" يعني في آجله - زمان الآخرة -.
"وأفضل العلم" وأشرفه "على التحقيق" وهو بناء الحكم على الحقيقة المطلقة في هذا الشأن هو "العلم بالله" سبحانه وتعالى فلا تصح فضيلة بعلم لصاحبه حتى يصدق بمقتضاه وهو الإيمان بالله - تعالى - "مع التصديق" بما جاء في كتابه من أمور الغيب.
165 -
لِذَا أَشَدُّ الذَّمِّ ذَمُّ جَاحِدِ
…
مُكَذِّبٍ مَعْ عِلْمِهِ بِالْوَاحِدِ
166 -
وَالتَّابِعِيُّ الْقَصْدُ لِلتَّشْرِيفِ
…
وَلإكْتِسَابِ الْمَنْصِبِ الْمُنِيفِ
و"لذا" الذي ذكر وهو أن العلم بالله أفضل العلوم كان "اشد الذم" والعذاب هو "ذم" كل "جاحد" لآيات الله ووجوب العبادة لله - تعالى - "مكذب" لما جاء به الرسل والانبياء عليهم الصلاة والسلام - "مع علمه" وإقراره "بالواحد" - جل وعلا - إلها، وخالقا، فيكون جامعا بين العلم والتكذيب فإن قيل: هذا متناقض فإنه لا يصح العلم مع التكذيب؟
قيل: بل قد يحصل العلم مع التكذيب، فإن الله قال في قوم موسى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14].
وقال {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146] وقال {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20] فأثبت لهم المعرفة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم بين انهم لا يؤمنون، وذلك مما يوضح أن الايمان غير العلم، كما أن الجهل غير الكفر
(1)
.
في أن القصد الثاني في طلب الشارع تعلم العلم إنما هو حاصل بالتبع للقصد الأصلي الأول الذي تقدم ذكره. وفي بيان المراد بهذا التابع قال الناظم: "و" القصد "التابعي" للقصد الأول وقوله "التابعى" بياء النسب، لعل وجهه: أنه - التابعي - هو من قامت به صفة التبع، كما يقال صحابي فيمن اتصف بصحبته صلى الله عليه وسلم ومثله التابعي فيمن أتى بعد جيل الصحابة - هو "القصد" من طلب هذا العلم لتحصيله وإدراكه "للتشريف" والتعظيم من الخلق، فصاحب العلم صريف وإن لم يكن في أصله كذلك.
"و" كذلك يطلب على الوجه المذكور "لاكتساب" وإدراك "المنصب" يعني المقام، والمنصب لغة الأصل والمرجع والمنبت "المنيف" أي المعالي المرتفع، فبالعلم تدرك المقامات السامية بين الخلق، والواقع يشهد على هذا الأمر، فلا حاجة إلى التدليل
(1)
الموافقات - الجزء الأول - ص 3.
167 -
وَالْبِرِّ وَالتَّعْظِيمِ عِنْدَ الْخَلْقِ
…
وَحَمْلِهِ عَلَى التُّقَى وَالصِّدْقِ
168 -
إِلَى سِوَى ذَاكَ مِنَ الْمَآثِرِ
…
وَالرُّتَبِ السَّامِيَةِ الْمَظَاهِرِ
169 -
وَمَعَ ذَا فَإنَّ فِي الْعُلُومِ
…
لَذَّةَ الاسْتِيلَا عَلَى الْمَعْلُومِ
170 -
وَذَاكَ فِيهِ رَاحَةُ الْقُلُوبِ
…
وَظَفَرُ النُّفُوسِ بِالْمَطْلُوبِ
عليه "و" كذلك يطلب لتحصيل "البر" والإحسان من الناس، "و" كذلك "التعظيم عند الخلق" فإن تعظيم العالم واجب على جميع المكلفين، إذ قام مقام النبي "و" يطلب العلم - أيضا - على هذا الوجه لـ "حمله" صاحبه "على التقى" المدرك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. وعدّ الناظم طلب التقوى بتعلم العلم مما يقصد من ذلك التعلم تبعا وبالقصد الثاني غير بين، لأن التقوى من اجل الاعمال المطلوبة شرعا والعبادات فكيف يعد طلبها بتعلم العلم مما يطلب تبعا وبالعرض والقصد الثاني؟ فكل علم تطلب به عبادة وعمل مطلوب شرعا فإنه علم شرعي سواء كان مما أخذ من النصوص الشرعية أو مما ثبت في الخلق من الآيات. والصحيح عد التقوى مما يطلب شرعا بالقصد الأول الأصلي في تعلم العلم الشرعي. "و" على "الصدق" في الأقوال والافعال، وهذا أيضا مثل التقوى فطلبه بالقصد الأول، لأنه عبادة. فالصدق مما تعبدنا سبحانه به.
"إلى سوى ذاك" الذي ذكر "من المآثر" جمع مأثرة - بفتح التاء وضمها -: المكرمة، وسميت مآثر لأنها تؤثر - أي تذكر ويأثرها قرن عن قرن يتحدثون بها "والرتب" جمع رتبة وهي الدرجة "السامية" العالية في واقع الأمر. وفي النفوس "المظاهر" يعني مظاهرها، أي ما يظهر منها للخلق "ومع" كل هـ"ذا"الذي ذكر من المآثر والمناقب الحميدة "فـ" يزاد عليه فائدة اخرى وهي "أن في العلوم" المحصلة في النفس والمكتسبة بالطلب وفي تعلم الاشياء والعلم بها "لذة" خاصة وهي لذة "الاستيلا على المعلوم" والحوز له. قال الزمخشري:
سهري لتحصيل العلوم ألذ لي
…
من لثم جارية وطول عناق
وصرير اقلامي على أوراقها
…
احلى من المايات والعشاق
وألذ من نقر الفتاة بعودها
…
نقري لنفض الرمل عن اوراقي
"وذاك" الاستيلاء على المطلوب وحوزه فيه "راحة القلوب" الراغبة فيه الطالبة له على حرقة "وظفر" أي فوز "النفوس" العطشى للعلم "بالمطلوب" المتعطش إليه.
171 -
فَإنْ يَكُنْ ذَا خَادِمًا لِأصْلِي
…
صَحَّ ابْتِدَاءً قَصْدُهُ بِالنَّقْلِ
172 -
وَغَيْرُ مَا يَخْدُمُهُ الْقَصْدُ ابْتَدَا
…
إِلَيْهِ مَمْنُوعٌ بِنَهْيٍ وَرَدَا
173 -
كَالْقَصْدِ بِالْعِلْمِ لِدُنْيَا أَو رِئَا
…
أَوْ لِثَنَاءٍ أَوْ مِرَاءِ مَنْ رَأَى
174 -
وَمَا يُرَى مَظِنَّةً لِلْعَمَلِ
…
فِي أَصْلِهِ فَلَاحِقٌ بِالْأوَّلِ
" فإن يكن ذا" المكتسب المعلوم على هذا الوجه "خادما لأصلي" أي مقصد أصلي في محله وذكره باعتبار أنه نوع من جنس المقصد الأصلي وهو العمل والتعبد، "صح" بل قد يلزم "ابتداء" طلبه و"قصده" وهذا ثابت استقلالا من دون أنْ يأتي تابعا "بالنقل" يعني بالأدلة النقلية التي منها قوله تعالى:{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] وقوله سبحانه: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} [الشعراء: 84] ومنها قول عمر لابنه حيث وقع في نفسه أن الشجرة التي هي مثل المؤمن هي النخلة: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا، وغير ذلك من الأدلة الواردة في هذا الشأن. "و" أما "غير مما يخدمه" أي يخدم هذا القصد الأصلي من طلب العلم - وهو العمل والتعبد -. "القصد ابتدا" واستقلالا "إليه" يعني إلى طلبه وتعلمه "ممنوع" باطل وذلك ثابت "بنهي" شرعي "وردا" في نصوص شرعية. ثم بين هذا الضرب الممنوع من المقاصد فقال:"كالقصد بـ" تعلم "العلم لـ" كسب "دنيا" وملذاتها "أو رياء" وهو أن يقصد بالعمل غير وجه الله "أو لثناء" من الناس أو مدح "أو مراء" أو جدال "من رأى" من صادف من الخلق، وأبصره. فهذا كله منهي عنه شرعا بشدة ففي الحديث "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا لتحتازوا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار"، وفيه أيضا "من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" وفي القرآن الكريم {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة: 174] وغير ذلك من الأدلة الواردة في هذا الشأن. ثم ذكر الناظم ما لا يتمحض ليكون مما اندرج في جزئيات القصد الأصلي إلا أنه مظنة للعمل فقال "وما" من العلم "يرى" يظن انه "مظنة للعمل" والانتفاع عند وجود محله "في أصله" إذ هو لا يفيد غير ذلك ولم يوضع إلا له كالعلم بفروع الشريعة والعوارض الطارئة في التكليف إذا فرض انها لم تفرض في واقع الأمر، فإن العلم بها حسن، وصاحب العلم بها مثاب عليه كما أن في تحصيل الطهارة للصلاة فضيلة، وإن لم يأت وقت الصلاة بعد. فما كان على هذه الصورة من العلم "فـ" إنه "لاحق بالأول" أي
"
المقدمة الثامنة
"
175 -
مُعْتَبَرُ الْعِلْمِ إِذَا الْعِلْمُ حَصَلْ
…
مَا كانَ مِنْهُ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلْ
176 -
وَهْوَ الذِي يُلْجِمُ مَنْ حَوَاهُ
…
فَلَا يُرَى مرْتَكِبًا هَوَاهُ
177 -
وَجَاءَ مَدْحُه عَلَى الإِطْلَاقِ
…
مِنْ جِهَةِ الشَّارعِ بِاتِّفَاقِ
178 -
وَرُتَبُ الْعِلْمِ ثَلَاثٌ تُعْتَبَر
…
فَمِنْهَا الأُولَى لِلذِي فِيهِ نَظَر
بما يطلب بالقصد الأول ولا يخرجه عن ذلك كونه وسيلة.
"المقدمة الثامنة"
في أن العلم المعتبر شرعا إنما هو ما كان باعثا لصاحبه على العمل وكافا له عن اتباع الهوى.
قال الناظم: "معتبر العلم" هذا من باب إضافة الصفة للموصوف - والاصل العلم المعتبر شرعا، الذي مدح الله ورسوله أهله على الاطلاق "إذا العلم" استقر في النفوس و "حصل" إدراكه هو "ما كان منه باعثا على العمل" المطلوب شرعا - العبادة - "وهو" أي هذا العلم "الذي" يكف و "يلجم من حواه" أي جمعه وإحرازه "فـ" من أجل ذلك "لا يرى" أي لا يبصر"مرتكبا" ممتطيا - راكبا - "هواه" كيفما كان، والهوى والشهوات والملذات هو ما تحكم به الامزجة النفسية المجردة عن الهدى والرشاد. والعلم المطلوب شرعا هو ما كف عن الهوى وحكم بضبط النظر والعمل على السبيل القويم المأخوذ من الكتاب والسنة. "و "هذا العلم هو الذي قد "جاء مدحه على الاطلاق" أي الثناء عليه "من جهة الشارع باتفاق" بين أهل العلم، فما مدح العلم شرعا إلا قصد به هذا المصنف، وهذا بإيجاز هو العلم الممدوح المطلوب شرعا، واما الطالبون للعلم المحصلون له على الجملة فهم على ثلاث مراتب.
في ذلك أوردها الناظم بقوله "ورتب" أهل "العلم" في طلبه وتحصيله هي "ثلاث" وهي كلها "تعتبر" في هذا الشأن. "فمنها" الرتبة "الأولى" وإنما وصفها بأنها الأولى - على ما يظهر - باعتبار أن أصل البداية في الادراك والتحصيل العلمي يكون بها، ومنها، هذه الرتبة هي ""لـ" لطالب "الذي" له "فيه" أي في هذا العلم "نظر" وبحث، غير أنه لم يحصل على كماله بعد، وإنما يخوض فيه باحثا
179 -
وَهْوَ عَلَى التَّقْلِيدِ بَعْدُ لَمْ يَزَلْ
…
فَذَا الذِي لَهُ دُخُولٌ فِي الْعَمَلْ
180 -
بِمُقْتَضَى تَحَمُّلِ التَّكْلِيفِ
…
وَبَاعِثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّخْوِيفِ
181 -
وَالْعِلْمُ بِالْحَمْلِ هُنَا لَا يَكْتَفِي
…
بَلْ لمُقَوٍّ زَائِدٍ قَدْ يَقْتَفِي
182 -
مِنْ زَجْرٍ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ تَأْدِيبِ
…
دَلِيلُهُ عَوَائِدُ التَّجْرِيبِ
وناظرا "وهو على" درجة "التقليد" فيما يأتي منه من أحكام وما يدر "بعد لم يزل" إذ هو قاصر عما هو أعلى من ذلك، "فذا" أي فهذا المصنف من طلبة العلم هو "الذي له دخول في العمل" بما علمه، إلا أنه لا يدخل فيه وهو متصف بما يتصف به أهل الاجتهاد وكان العلم وصفا من أوصافهم الذين سيأتي وصف حالهم في هذا الشأن - الدخول في العمل - وإنما يدخل فيه "بمقتضى" وحكم وجوب "تحمل التكليف" الشرعي الذي مفاده إلزام النفس ما فيه مشقة وكلفة، "و" بمقتضى "باعث" وداعي "الترغيب" في ذلك العمل، وذلك يحصل بذكر ما في ذلك العمل، من الثواب والأجر العظيم عنده سبحانه وتعالى وما يكون منه من خير ونفع في الدنيا. "و" كذلك بمقتضى "التخويف" الترهيب، وذلك يحصل بذكر ما ورد من الوعيد الإلهي في الترك لما يجب فعله، وفي الفعل لما يجب تركه. "و" لذلك يصح أنْ يقال "العلم" وحده "بالحمل" على العمل والعبادة "هنا" في هذه الرتبة والحالة "لا يكتفي "أي لا يضطلع "بل" هو "لمقو" خارج "زائد" عليه "قد يقتفي" أي يتبع، ثم بين ذلك الأمر الخارجي المقوي الزائد على ذلك العلم فقال:
"من زجر" أي ردع "أو تعزير" وهو الضرب دون الحد، يحكم به لمنع الجاني عن المعصية وردعه عن المعاودة "أو تأديب" بنحو سجن، وقد يكون مراده به هو التعزير بالمعنى السابق، ويكون مراده بالتعزير هو الحد. و"دليله" أي دليل هذا الذي ذكرته - من أن من كان في هذه الرتبة في تحصيل العلم الشرعي لا يأتي العمل بمجرد علمه وإنما لا بد أن يكون معه في حمله على ذلك هذه الأمور الأخرى التي ذكرت - وبرهان "عوائد" يعني مقتضيات عوائد - جمع عادة - "التجريب" واختبار أحوال الخلق وطبائعهم النفسية، فذلك كله قد أعطي في هذه المرتبة برهانا يقتضي هذا الذي ذكر على قطع.
183 -
ثَانِيَةٌ رُتْبَةُ مَنْ قَدِ ارْتَفَعْ
…
عَنْ رُتْبَةِ الْمُقَلِّدِينَ إِذْ بَرَعْ
184 -
فِي عِلْمَيِّ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ
…
مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ
185 -
فَهَوُلَاءِ رُبَّمَا خَفَّ الْعَمَلْ
…
عَلَيْهِمُ وَلَمْ يُدَاخِلْهُم خَلَلْ
186 -
لِأجْلِ مَا حَازُوا مِنَ التَّحْقِيقِ
…
فِي عِلْمِهِمْ بِشِدَّةِ التَّصْدِيقِ
ثم ذكر الناظم الرتبة الثانية فقال: "ثانية" يعني وبعد هذا اذكر الرتبة التي بعد هذه وهي ثانية، هذا ما ظهر لي أن يوجه به ابتداؤه بالنكرة هنا ولا يخفى ما في هذا من التكلف، إذ مقتضى القواعد النحوية ومساق الكلام هو أنْ يقول: والثانية كما قال والأولى في وصف الرتبة المتقدم ذكرها. ويمكن أن يوجه كالأمه بجعل ثانية خبرا مقدما وما بعدها مبتدأ مؤخرا. على ما فيه من ضعف وركاكة، هذا شأن هذه اللفظة "ثانية". واما حال هذه الرتبة فقد بينه بقوله:"رتبة" ودرجة "من قد" وقف على براهين العلم وكان مستبصرا فيه حسبما أعطاه شاهد النقل الذي يصدقه العقل تصديقا يطمئن إليه، ويعتمد عليه وبذلك "ارتفع عن رتبة" ودرجة "المقلدين" لغيرهم "إذ" تعليلية، أي لأجل أنه قد "برع" أي فاق "في" إدراك وتحصيل "علمي الفروع" يعني الجزئيات كالفروع الفقهية "والأصول" الكليات - كأصول الفقه - سواء "من جهة" إدراك ومعرفة "المنقول" يعني الأدلة النقلية التي تتوقف البراعة في ذلك على العلم بها والإحاطة بأفرادها، وما تقرر بالنظر فيها من أحكام ومذاهب "والمعقول" يعني الأدلة العقلية إلي يعتمد عليها في بناء الأحكام وصوغ القواعد، وأنت خبير بأن الأدلة العقلية تستعمل بحسب حال الموضوع، وفي علم الأصول تستعمل مركبة على الأدلة الشرعية النقلية - كما تقدم ذكره - فلا مناص من العلم بما تقرر في قيمتها المعرفية، وبالطرق التي تسلك في العمل بمقتضاها، ومن يحكمها في أمور الدين، ومن لا يرى ذلك، ولا يخرج المرء من ربقة التقليد حتى يكون في ذلك كله كما قال الناظم ومن كانوا كذلك "فهولاء" لأجل هذا الذي قام بهم من البراعة العلمية "ربما" - رب - هنا للتكثير كما يدل عليه كلام الشاطبي - "خف العمل" الذي تعبدنا سبحانه به "عليهم" خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق الذي عليه أهل المرتبة الأولى "ولم يداخلهم " يعني لم يخالط نفوسهم في هذا الشأن. "خلل" أي وهن، وإنما هم كذلك "لأجل ما حازوا" وأدركوا "من التحقيق" أي اليقين "في علمهم" ذلك التحقيق الذي حصل لهم "بشدة التصديق" وقوته التي
187 -
لَكِنَّ حَمْلَ الْعِلْمِ قَدْ لَا يَكْفِي
…
إذْ لَمْ يَصِرْ فِي حَقِّهِمْ كَالْوَصْفِ
188 -
فَرُبَّمَا دَعَتْهُمُ دَوَاعِي
…
مِنْ جِهَةِ النُّفُوسِ وَالطِّبَاعِ
189 -
تُلْجِئُ فِيهِمْ إِلَى الافْتِقَارِ
…
لِزَائِدٍ عَلَى الْمُقَوِّي الْجَارِي
190 -
مِن طَلَبِ الْمَحَاسنِ الْعَادِيَّةْ
…
وَلَائِقِ الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّةْ
191 -
وَذَاكَ أَيْضًا بِدَلِيلِ التَّجْرِبَةْ
…
لَكِنَّهَا أَخْفَى بِهَذِي الْمَرْتَبَةْ
تثمرها البراهين القطعية المقتضية لها "لكن" لما يصر العلم لهم كالوصف الثابت لهم كما عليه أهل المرتبة الثالثة الآتي ذكرهم "حمل العلم" لهم على العمل وحده "قد لا يكفي "بل قد يحتاج إلى مقو زائد في ذلك "إذ لم يصر "العلم "في حقهم" في حالهم الثابت لهم "كالوصف" الثابت، ولذلك "فربما دعتهم" واغرتهم "دواعي" جمع داعية من الدعاء بمعنى الطلب والمقصود بالدواعي البواعث التي تكون "من جهة النفوس" بما انطوت عليه من رغبات وشهوات، "و" من جهة "الطباع" جمع طبع - وقد يراد بالطباع: الطبع مفردا كالنجار - وهو ما طبع عليه الإنسان في مأكله ومشربه وسهولة اخلاقه وحزونتها وعسرها ويسرها، وشدته ورخاوته وبخله وسخائه "تلجئ" تضطر "فيهم" بعضا منهم "إلى الافتقار" والاحتياج "لـ" باعث خارجي "زائد" متسع "على المقوي" المذكور "الجاري" الموجود في المرتبة الأولى. فالباعث الزائد في هذه المرتبة الثانية يتسع فلا يقتصر على مجرد الحدود والتعزيرات، بل ثم أمور أخر يتسع "من طلب المحاسن" جمع حُسن على غير قياس طلب ادراكها وتحصيلها "العادية" أي التي تستحسن عادة كاجتناب ما يستقذر في مجاري العادات، والتحلي بما يستطاب التحلي به من اوصاف "ولائق" بأهل "المراتب السنية" الرفيعة، كالستر، والعفة، والحلم "وذاك" الذي ذكر في هذا الشأن من أن أهل هذه الرتبة في العلم قد يحتاجون في الإقدام على العمل إلى ما ذكر، فعلمهم قد لا يكون مضطلعا وحده بحملهم على العمل، هو "أيضا" مثل الأول في أنه ثابت "بدليل التجربة" ومقتضى الواقع "لكنها" هذه التجربة.
"أخفى بهذي المرتبة"، ولذلك فإدراكها يحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية، وذوي الأخذ في الاتصافات السلوكية.
192 -
ثَالِثَةٌ لِمَنْ حُصُولُ عِلْمِهِ
…
قَدْ صَارَ وَصْفًا ثَابِتًا كَفَهْمِهِ
193 -
وَرَاسِخُ الْعِلْمِ لِهَوُلَاءِ
…
لَيْسَ يُخَلِّيهِمْ مَعَ الْأهْوَاءِ
194 -
فَيَرْجِعُونَ دَائِمًا إِلَيْهِ
…
رُجُوعَهُمْ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ
195 -
وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ مُسْتَقِلَّةْ
…
بِمُقْتَضَى قَوَاطِعِ الأدِلَّةْ
196 -
وَأَهْلُهَا فِي الْعِلْمِ رَاسخُونَ
…
وَهُمْ بِهِ إِذْ ذَاكَ مَحْفُوظُونَ
197 -
إِذْ هُمْ مِنَ الشُّهُودِ بِالتَّوْحِيدِ
…
وَالْمُقْتَضَي عَدَالَةُ الشُّهُودِ
198 -
وَلَا يُقَالُ إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ
…
قَدْ يَقَعُونَ فِي ارْتكَابِ الْإِثْمِ
ثم ذكر الرتبة الثالثة فقال: "ثالثه" بالنكرة كما في قوله ثانية ووجه هذه كوجه تلك في الإعراب والإيضاح وقد تقدم ذكره - على ما يظهر - وهذه الرتبة هي رتبة خالصة "لمن حصول علمه" وقيامه به "قد صار وصفا ثابتا" له، وكان علمه بمثابة الأمور البديهية "كفهمه" الذي يحصل له في المعقولات الضرورية الأول - ككون الواحد نصف الاثنين، والكل أكبر من جزئه "وراسخ العلم" يعني العلم الراسخ فقوله: راسخ العلم هو من باب إضافة الصفة للموصوف الذي ثبت "لهولاء ليس يخليهم" أي يتركهم "مع الأهواء" ورغبات النفوس ورعوناتها، إذا تبين لهم الحق "فيرجعون دائما إليه" إلى حكمه ومقتضاه وإرشاده رجوعا مثل "رجوعهم" إلى "ما جبلوا عليه" من الأمور الفطرية ودواعيهم البشرية وأوصافهم الخلقية. "وهذه الرتبة مستقلة" بحمل أهلها على العمل وحدها، فهي لا يحتاج معها إلى مقو زائد في ذلك؛ وهذا الأمر ثابت "بمقتضى" وحكم "قواطع الأدلة" يعني الأدلة القاطعة فقواطع الأدلة من باب إضافة الصفة للموصوف "وأهلها" أي هذه المرتبة "في العلم راسخون" ثابتون "و" لذلك "هم به" أي بالعلم "إذ ذاك" يعني إذ كانوا فيه راسخين "محفوظون" من المخالفة لأوامر الشارع ونواهيه، "إذ هم" إذ تعليلية أي لأجل كونهم "من الشهود بالتوحيد" أي بتوحيده سبحانه وتعالى قال عز وجل:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو ""والمقتضى" والحكم الثابت هو"عدالة الشهود" فلا يصف الشارع بالشهادة إلا من كان عدلا "ولا يقال" يعني لا يصح أن يقال "إن أهل العلم" غير محفوظين من المخالفة، وذلك لأنهم "قد يقعون في ارتكاب الاثم" إذ المعصومون
199 -
وَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ حَافِظًا لَهُمْ
…
فَقَدْ تَسَاوَوْا بِالذِينَ قَبْلَهُمْ
200 -
إِذْ قَدْ يُجَابُ أَنَّ ذَاكَ إِنَّمَا
…
يَكُونُ مِمَّنْ لِلرُّسُوخِ عَدِمَا
201 -
أَوْ قَدْ يَكُونُ فَلْتَةً أَوْ غَفْلَةْ
…
وَمِثْلُ هَذَا لَا يُنَافِي أَصْلَهْ
202 -
وَالْعِلْمُ أَمْرٌ بَاطِن مَعْنَاهُ
…
يَرْجِعُ لِلْخَشْيَةِ مُقْتَضَاهُ
203 -
وَقِيلَ نُورٌ فِي الْقُلُوبِ هَادِي
…
مِنْ مُطْلِعِ التَّشْرِيعِ ذُو اسْتِمْدَادِ
هم الأنبياء فقط، "و" بذلك "لا يكون العلم حافظا لهم" من ذلك، فلو كان العلم موجبا لحفظهم من الوقوع في المعاصي لكان كذلك لأهل الرتبتين الأولى والثانية حافظا "فقد تساووا بالذين قبلهم" من أهل الرتبتين المذكورتين في الاتصاف بالعلم. "إذ قد يجاب" عن هذا الاعتراض بأمور أحدها "أن ذاك" الذي ذكر من أن العالم يقع في المعصية "إنما يكون" على وجه الحصر صادرا "ممن له للرسوخ" في العلم "عدما" فلم يكن من أهل هذه الرتبة، فلم يصر العلم وصفا أو كالوصف مع عده من أهلها، وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه، أو اعتقاد غيره فيه. ثم ذكر الأمر الثاني، فقال:"أو يكون" وقع منه ذلك الارتكاب للإثم "فلتة" ناشئة عن الغفلة التي لا ينجو منها البشر، فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم "أو غفلة" هكذا في النسخ التي بين أيدينا، وما يوافق الأصل هو أن يقال: عن غفلة، فيكون معناه: فلتة ناشئة عن غفلة كما تقدم ذكره وهذا هو الذي في الأصل "الموافقات"، "ومثل هذا" إن ورد "لا ينافي "أي لا يخالف "أصله" الذي خرج عن حكمه ومقتضاه، وعليه فلا يرجع عليه بالبطلان.
"والعلم" ليس أمرا ظاهرا، وإنما هو "أمر باطن معناه" وحقيقته "يرجع للخشية مقتضاه" أي مدلوله والمراد به كما في حديث ابن مسعود، وهو معنى قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِر: 28]"وقيل" هو "نور" يقذفه الله "في القلوب" قال مالك: ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه نور يقذفه الله في القلوب. وهو أيضا "هاد" مرشد إلى الحق والهدى. قال مالك - أيضا -: الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل ولكن عليه علامة ظاهرة وهي التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود. وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة، وهذا النور "من مطلع" - بضم الميم وسكون الطاء وكسر اللام - أي رافع ومظهر "التشريع" أي الشريعة طالعة تنير الآفاق، هو "ذو استمداد" أي صاحب أخذ للمدد، والإعانة على ثباته على هذه
"
المقدمة التاسعة
"
204 -
وَانْقَسَمَ الْعِلْمُ لِصُلْبٍ وَمُلَحْ
…
وَمَا سِوَى هَذَيْنِ فَهْوَ مُطَّرَحْ
205 -
فَالصُّلْبُ مَا أَفَاد حُكْمَ الْقَطْعِ
…
أَوْ كانَ رَاجِعًا لِأصْلٍ قَطْعِي
206 -
وَهْوَ أُصُولُ الْمِلَّةِ الْكُلِّيَّةْ
…
مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّهْ
207 -
وَمُكْمِلٌ لَهَا مِنَ التَّحْسِينِي
…
أَوْ مُكْمِل كُلًّا عَلَى التَّعْيِينِ
الصفة التي هي الحفظ من المخالفة.
"المقدمة التاسعة"
في أن العلم منه ما هو من حلب العلم، ومنه ما هو ملح من العلم، ومنه ما ليس من صلبه ولا من ملحه. وفي ذلك يقول الناظم:"وانقسم العلم" باعتبار فوائده وثمراته وحكم الشارع فيه ومقاصده منه "لصلب" وصلب الشيء ما به قوام ذاته، كصلب الإنساد، فإنه به انتصابه، ووصف هذا القسم من العلم بالصلب لأنه جوهر العلم المطلوب شرعا "وملح" - وهو القسم الثاني - جمع ملحة - بضم الميم وسكون اللام - وهي لغة: ما يعد مليحا وجميلا، وأما المراد بها هنا فسيأتي بيانه "وما سوى هذين" القسمين "فهو مطرح" منبوذ لا ينبغي الاشتغال به ولا العناية بأمره. "فالصلب" الذي هو الأصل المعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، بيانه هو أنه "ما أفاد" استفاد "حكم القطع" من الأدلة التي دلت عليه، فصار قطعيا مجزوما بثبوته ومقتضاه، مثال ذلك ما بني على مقتضيات القضايا الضرورية العقلية، وثبت بالاستقراء التام "أو كان راجعا" في بنائه "لأصل قطعي" مجزوم بثبوته وحكمه، "وهو" أي هذا الضرب من الأصول "أصول" وإخبار الناظم بأصول وهو جمع عن مفرد جائز باعتبار أن هو - هنا - يقصد به النوع، والنوع تتعدد أفراده، فمن اعتبر ذلك فهو غير مخطئ، وفى القرآن الكريم {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحَجّ: 19] "الملة" الإسلامية "الكلية" - صفة للأصول - وهذه الأصول الكلية هي ما جاء في هذه الملة حفظها "من الضروريات" الخمس "والحاجية" المتممة لحفظ الضروريات المذكورة؛ "ومكمل لها" يعني وما هو مكمل "من التحسيني" يعني من التحسينات "أو "ما هو "مكمل كلا" أي كل واحد من هذه الأنواع المذكورة "على التعيين" يعني بعينه، وهذا بيانه وبسط الكلام فيه يأتي في
208 -
وَجُمْلَةُ الْفُرُوعِ بِاسْتِغْرَاقِ
…
مُسْنَدَةٌ لَهَا عَلَى الْإطْلَاقِ
209 -
وإنَّ ذَا الْقِسْمَ لَهُ أَوْصَافُ
…
ثَلَاثَة لَهُ بِهَا اتِّصَافُ
210 -
وَهْيَ الْعُمُومُ مَعَ الاطِّرَادِ
…
وَذَا مِنَ الشارعِ أَمْرٌ بَادِ
211 -
إِذْ لَيْسَ فِي كُلِّيَّةِ الْعُمُومِي
…
خُصُوصٌ إِلَّا وَهْوَ فِي عُمِومِ
كتاب المقاصد، وما يذكر - هنا - إنما هو بيان أن الشريعة مبنية على هذه الأصول الكلية التي قام البرهان على أنها قطعية.
"وجملة" أي جميع وكل أحكام "الفروع" والجزئيات الواردة في هذه الشريعة "باستغراق" وشمول تام "مسندة لها" أي لهذه الأصول ومبنية عليها "على الإطلاق" أي بلا استثناء، فعلم من هذا أن علم الشريعة علم أصيل راسخ الأساس ثابت الأركان؛ وهو وإن كان وضعيا فإنه بمثابة العقلي الموضوع به لأنه مبني على الاستقراء التام الناظم لأشتات أفراده، حتى صار في العقل كليا مطردا عاما ثابتا. ثم ذكر خصائص هذا القسم فقال:
"وإن ذا القسم" الذي هو الصلب "له أوصاف" يعني خواص "ثلاثة" ثبت "له بها اتصاف" وتميز عن غيره بها، "وهي" أي هذه الخواص:
أحدها: "العموم مع الاطراد" فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة أفرادا وتركيبا وهو معنى كونها عامة "وذا" الأمر الذي ذكر "من" أحكام وتصرفات "الشارع أمر باد" ظاهر مطرد "إذ ليس" يوجد "في كلية" النص "العمومي" أو المعقول العمومي - المتصف بأنه عام مستغرق لما صلح له دفعة من غير حصر - "خصوص" ما "إلا وهو" يعني إلا وذاك الذي خص داخل "في عموم" آخر، وكلية أخرى. فهو راجع على كل حال إلى عموم، كالعرايا، وضرب الدية على العاقلة والقراض والمساقاة والصاع في المصراة وأشباه ذلك، فإنها خارجة عن أصول وكليات معلومة، إلا أنها وإن كانت خارجة عنها فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها، وهي أمور عامة، فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة، والاعتبار - النظر - في أبواب الفقه يبين ذلك. هذه هي الخاصية الأولى - التي ذكر أنها العموم الاطراد -.
212 -
ثُمَّ ثُبُوتُهُ بِكُلِّ حَالِ
…
مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلٍ وَلَا زَوَالِ
213 -
وَهَكَذَا الأحْكَامُ لَا تَزُولُ
…
وَلَا يُرَى لِشَأْنِهَا تَبْدِيلُ
214 -
وَأَنَّهُ الْحَاكمُ لَا الْمَحْكُومُ
…
عَلَيْهِ وَالْحُكْمَ بِذَا مَحْتُومُ
215 -
وَمُلَحُ الْعِلْمِ بِهَذَا الْبَيْنِ
…
مَا كَانَ رَاجِعًا لأصْلٍ ظَنِّي
216 -
أَوْ قَاطِعٍ لَكِنَّ مَا يَتَّصِفُ
…
بِهِ لَهُ عَنْ أَصْلِهِ تَخَلُّفُ
وأما الخاصية الثانية، ففيها يقول الناظم:"ثم ثبوته" يعني أن الخاصية الثانية لهذا القسم هو الثبوت من - غير زوال، فلذلك لا تجد فيها - أي في هذه الكليات - بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها "بكل حال" من الأحوال، سواء كانت أحوالا زمانية أو مكانية، أو أحوال المكلفين، وبذلك فهي على حالها ثابتة "من غير تبديل ولا زوال" لها، بل ما ثبت سببا فهو أبدا لا يرتفع هذا الحكم عنه، وكذلك ما كان شرطا فهو أبدا شرط، وما كان واجبا فهو واجب أبدا "وهكذا الأحكام " - كلها، فهي "لا تزول" ولا تحول "ولا يرى" يبصر، "لشأنها" أي حالها المثبت لها بالخطاب الشرعي "تبديل" أبدا ولو فرض بقاء التكليف إلى غير غاية لكانت أحكامه على حالها المثبت لها شرعا. وأما الخاصية الثالثة من خواص هذا القسم فقد أوردها الناظم فقال:"وأنه" أي هذا الضرب من العلم هو "الحاكم" والقاضي بالعمل الذي يترتب عليه مما يليق به، "لا المحكوم عليه" الذي يتصرف فيه على وفق ما يحكم به غيره عليه؛ وإنما يستند إليه فيما يدل عليه من حكم، فما اقتضاه أخذ به، فالأعمال المطلوبة شرعا إنما تؤخذ من الأدلة الشرعية، فلا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة، وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها، وهو ما لا يخفى سقوطه. "والحكم بذا" الذي تقدم ذكره "محتوم" أي واجب من جهة الشرع، ومن جهة العقل. ثم ذكر المصنف القسم الثاني: ملح العلم - فقال: "وملح العلم" عملا "بهذا المبين" هو "ما كان" غير قطعي، وغير راجع إلى قطعي على الوجه الذي عليه القسم الأول، إنما هو ما كان "راجعا" في بنائه وأساسه "لأصل ظني" وهو ما يفيد الظن فيما يؤخذ منه من حكم، غاية ما ثبت به الرجحان بمرجح من الاحتمال الآخر المضاد له، وذلك كدلالة ظواهر الألفاظ على معانيها. "أو" كان راجعا لأصل "قاطع لكن ما يتصف به" الأصل القاطع - القطعي - من الخواص الثلاثة المذكورة في القسم الأول "له" أي لما ذكر من الخواص "عن أصله" الذي يستند إليه قسم الملح هذا "تخلف" عنها، فهو لا يتصف
217 -
وَشَرْطُهُ اسْتِحْسَانُهُ بِالْعَقْلِ
…
وَلَا يُخِلَّ حُكْمُهُ بِأَصْلِ
218 -
ثُمَّةَ بِاسْتِخْرَاجِ بَعْضِ الْحِكَمِ
…
فِيمَا إِلَى التَّعَبُّدَاتِ يَنْتَمِي
219 -
مِثْلُ الْمُقَدَّرَاتِ وَالْهَيْئَاتِ
…
وَمِثْلُهَا تَعَيُّنُ الأوْقَاتِ
220 -
وَذَاكَ كَالتَّعْلِيلِ فِي النَّوَادِرِ
…
بَعْدَ السَّمَاعِ بِاعْتِبَارٍ ظَاهِرِ
بالعموم والاطراد، ولا بالثبوت، ولا بكونه حاكما، "وشرطه" الأول الذي يتوقف عليه وجوده وتحصل به صحته هو "استحسانه بالعقل" إلا أنه لايرجع إلا إلى الظن والتخمين، وذلك كالحكم التي يدعى بأنها مقصودة للشارع في الأمثلة الآتي ذكرها "و" شرطه الثاني أن "لا يخل" أي يذهب "حكمه" ومقتضاه "بأصل" ثابت، فإن صادم حكمه وما أخذ منه أصلا عقليا، أو شرعيا سقط العمل به.
"ثمة باستخراج" استنباط "بعض الحكم" جمع حكمة، والمراد بالحكم - هنا - الأسرار ومقاصد الشارع من وضع ما حكم به وقضاه على هيئات وحدود معينة "فيما" يعني في القسم الذي في الشريعة "إلى التعبدات" أي ما تعبدنا الله سبحانه به مما ليس معقول المعنى "ينتمي" ينتسب، وذلك "مثل المقدرات" شرعا، وهي ما وضع الشارع مقاديرها وحددها، كالطواف، وحجارة رمي الجمار وما أشبه ذلك "والهيئات" المخصوصة كهيئة الوضوء والصلاة، والحج وغير ذلك من كل ما جعله الشارع على هيئة مخصوصة معينة "ومثلها" في كونها مخصصة "تعين الأوقات" التي للعبادة، فإنها معينة مخصصة بذلك دون ما سواها من الأوقات الأخرى. فهذا كله استخراج الحكم التي بنى عليها كونها على هذه الصور والهيئات لا يكون مؤسسا إلا على التخمين، والظن فهو غير مطرد، "و" لا مبنى عليه عمل، بل "ذاك" الذي بنى من اعتبارات إنما هو "كالتعليل" الذي يساق "في" الجواب عن كون "النوادر" جمع نادرة، والمراد بالنوادر - هنا - الأمور الشواذ عن أقيستها، وذلك "بعد السماع" يعني ورود الأدلة السمعية أنها كذلك. وذلك التعليل الذي يساق في هذا الشأن يكون "باعتبار ظاهر" كما في أجرة الظئر وإسقاط الحد عن ابن سلول في قذفه لعائشة رضي الله عنها كما في قصة الإفك، وغير ذلك مما شذ، فبحث الناس عن الحكمة في كونه كذلك، فهذا درجته المعرفية تخمينية ظنية ضعيفة كالذي تقدم في تعيين حكم تخصيص
221 -
وَرُبَّمَا يُلْفَى بِهَذَا الْقِسْمِ
…
مَا قَدْ يُرَى كَثَالِثٍ فِي الْحُكْمِ
222 -
بِكَوْنهِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلِ
…
تَجْنِي عَلَى الْمَشْرُوعِ بِالتَّأْوِبلِ
223 -
وَمِنْهُ بِالْتِزَامِ كيْفِيَّاتِ
…
فِي بَعْضِ الْأخْبَارِ الْمُسَلْسَلَاتِ
224 -
إِذْ تَرْكُ ذَاكَ الالْتِزَامِ الْمُتَّبَعْ
…
بِمُقْتَضَاهُ لَا يُخِلُّ أَنْ وَقَعْ
العبادات بهيئات مخصوصة أو أوقات معينة "وربما" يوجد و"يلفى""بهذا القسم ما قد يرى" ما قد يعتقد انه "كثالث" يعني كالقسم الثالث - وهو ما ليس صُلبا ولا ملحا - الآتي "في" إفادته "الحكم" الذي يؤخذ منه. أو في الحكم عليه، وإنما يرى كذلك لكونه منحطا عن درجة ما يعتبر من مقتضيات العقول، لأنه مبنى على أوهام وأمور لا رابط بينها وبينه - أي بين ذلك المبنى عليه - ولا نسبة تدل على اتصال ما بينهما محتمل، ثم "بكونه دعوى بلا دليل" يدل على صحتها وهي التي من شأنها أنها "تجني على المشروع" أي على الشريعة "بالتأويل" الفاسد الساقط في الاعتبار، لأنه ثمرة وهم وظنون باطلة. "ومنه" ومن أمثلة هذا القسم - وهو المثال الثاني - التمسك "بالتزام كيفيات" معينة في تحمل الأخبار والآثار، وذلك، كما عليه الحال عند المتأخرين "في بعض الأخبار" الأحاديث "المسلسلات" التي أتى بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد فالتزمها المتأخرون بالقصد. والمراد بالحديث المسلسل هو: الحديث الذي تتابع رجال إسناده على صفة واحدة، أو حال واحدة للرواة، أو للرواية، وله أنواع كثيرة حصلت من تعدد الرواة وصفاتهم وأحوال الرواية ووقوع الحديث على هذه الصورة ليس أمرا مقصودا لرواته لكنه وقع عليها، والمتأخرون يلتزمون ذلك ويقصدونه، فصار تحملها على ذلك القصد تحريا وقصدا له، بحيث يتعنى - يتعب - في استخراجها والبحث عنها بخصوصها، مع أن ذلك القصد لا يبنى عليه عمل "إذ ترك ذاك الالتزام" الذي عليه المتأخرون "المتبع" عندهم "بمقتضاه" أي ذلك الحديث وحكمه "لا يخل" أي لايذهب "إن وقع" وحصل، وذلك لأن تخلف هذا الأمر الملتزم به في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث. فغاية ما يفيده التسلسل هو: اتصال حلقات الإسناد مع ما اقترن به من صفة خاصة، وذلك يقوي معنى الاتصال في الحديث لذلك قال الحاكم:"فإنه نوع من السماع الظاهر الذي لا غبار عليه". هذا ما يتصل بهذا المثال الثاني. ثم ذكر المصنف المثال الثالث فقال:
225 -
وَمِنْهُ بِالْقَصْدِ إِلَى التَّأَنُّقِ
…
فِي أَخْذِ مَا يَحْمِلُهُ مِنْ طُرُقِ
226 -
يَقْصِدُ بِاسْتِخْرَاجِهَا التَّكَاثُرَ
…
فِي طُرُقِ الْمَرْوِيِّ لَا التَّوَاتُرَ
227 -
وَمِنْهُ أَخْذُ الْعِلْمِ فِي أَحْكَامِ
…
مِنَ الْمَرَائِي حَالَةَ الْمَنَامِ
228 -
إِذْ أَصلُهَا لَيْسَ بِذِي اعْتِبَارِ
…
فِيمَا سِوَى التَّبْشِيرِ وَالإِنْذَارِ
" ومنه" ما يجري مثالا في هذا القسم - قسم الملح: ما يبحث عنه ويطلب "بالقصد إلى" كسب "التأنق" وتحصيله والتأنق: تتبع المحاسن - "في أخذ" واستخراج "ما يحمله" ويرويه من الأحاديث "من طرق" كثيرة "يقصد باستخراجها" على تلك الصورة "التكاثر" أي المغالبة بالكثرة والاستكثار "في طرق" الحديث "المروي لا" أنه يقصد بذلك تحصيله وروايته على درجة "التواتر" بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرين ومن جهات شتى، والاشتغال بهذا من الملح لا من حلب العلم. خرج أبو عمر بن عبد البر عن حمزة بن محمد الكناني قال:
خرجت حديثا واحدا عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق - شك الراوي - قال فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل وأعجبت بذلك، فرأيت يحيى بن معين في المنام فقلت له: يا أبا زكرياء، قد خرجت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق، قال فسكت عني ساعة، ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} ، هذا ما قال. وهو صحيح في الاعتبار لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود منه فصار الزائد على ذلك فضلا.
"ومنه" أي ما يجري مثالا في هذا القسم - وهذا هو المثال الرابع - "أخذ العلم في أحكام" يعني بأحكام - فالباء هنا بمعنى في - معينة "من المرائي" هكذا في النسخ التي بأيدينا، ولعله يريد به مراء جمع مرئي ويعني به ما يراه النائم في نومه. ثم يقول "حالة المنام" وكثير من الناس يستدلون على المسائل العلمية بالمنامات، وما يتلقى منها تصريحا والمسائل العلمية المبنية على ذلك لا مبالاة بها عند أهل العلم "إذ أصلها" الذي هو الرؤيا "ليس" في الشريعة "بذي اعتبار" في شأن المسائل العلمية على الإطلاق، بل ليس معتبرا "فيما" يؤخذ من الشرع من فوائد "سوى التبشير" بأمر يسر "والإنذار"
229 -
وَمِنْهُ الاخْتِلَافُ فِي حُكْمٍ وَلَا
…
يُفِيدُ الاخْتِلَافُ فِيهِ عَمَلَا
230 -
وَمِنْهُ الاسْتِشْهَادُ بِالأشْعَار فِي
…
مَعْنىً كَمَا فِي الْوَعْظِ وَالتَّصَوُّفِ
231 -
إِذْ شَأْنُهَا إِمَالَةُ الْقُلُوبِ
…
وَرَدُّهَا لِلْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ
232 -
وَمِنْهُ أَنْ يُثَبِّتَ الْمَعْنَى بِمَا
…
يَفْعَلُهُ مَنْ بِالصَّلَاحِ وُسِمَا
233 -
مِنْ جِهَةِ التَّحْسِينِ لِلظَّنِّ فَقَطْ
…
مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ شَرْطٍ مُشْتَرَطْ
والتخويف من أمر مهلك أو مضر. وقول الناظم "من المرائي حمالة المنام" يكون أبين منه وأفضل لو قال "من الرؤى في حالة المنام" فإن الرؤيا تجمع على الرؤى، وإن أنكره الليث، كما نص على ذلك أهل هذا الفن - اللغة - "ومنه" أي ما هو مثال في هذا القسم - وهو المثال الخامس - "الاختلاف" الذي يقع بين أهل العلم "في حكم" مسألة ما "ولا يفيد الاختلاف" الواقع "فيه عملا" وإنما هو خلاف لفظي، كما في مسألة اشتقاق الفعل من المصدر، ومسألة ترادف الفساد والبطلان، ومسألة ترادف الواجب والفرض، ومسألة أصل لفظة أشياء. فهذا ونحوه وإن انبنى المبحث فيه على أصول مطردة، فإنه لا فائدة تجتنى من ثمرة الاختلاف فيه، وبذلك فهو خارج عن حلب العلم. "ومنه" أي ومما هو مثال آخر في هذا القسم - ملح العلم - وهو المثال السادس "الاستشهاد بالأشعار في "تحقيق "معنى" من المعاني العلمية أو العملية "كما" يجري "في"كلام أهل "الوعظ و" أهل "التصوف" إذ يوردون ذلك كثيرا في كتبهم وفي بيان مقامهم، فينتزعون معاني الأشعار ويضعونها للتخلق بمقتضاها، "إذ شأنها" أي الأشعار الرقيقة "إمالة القلوب" وجذبها "وردها للغرض المطلوب" أن ترد وتصرف إليه. وفي واقع الأمر المعنى إذا كان مقبول شرعا فإنه مقبول، وإن كان خلاف ذلك فهو مطروح على كل حال. "ومنه" أي ما ذكر مما يجري مثالا في هذا القسم - وهو المثال السابع -:"أن يثبت المعنى" الذي يراد إثباته وهو الحكم بصحته "بما يفعله من "وصف "بالصلاح وسما" أي وصف وعرف، وأشير إليه به. وذلك "من جهة التحسين للظن" به "فقط" حال كونه "مجردا عن كل شرط" آخر "يشترط" في هذا الشأن ويبنى عليه هذا الاستدلال كان يتخطى هذا الشرط - وهو تحسين الظن - فيعتقد أن كل ما يصدر عن أهل الصلاح حق، وأن الاقتداء بهم يعصم من الخطأ، فهذا مطرح، وغير صحيح.
234 -
وَمِنْهُ الاسْتِدْلَالُ فِي الْأعْمَالِ
…
بِمَا يَقُولُهُ أُولُو الأحْوَالِ
235 -
فَهْوَ وَإِنْ صَحَّ لَهُمْ عِنْدَ النَّظَرْ
…
غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِجُمْهُورِ الْبَشَرْ
236 -
فَالشَّرْعُ حَاكِمٌ عَلَى الْجُمْهُورِ
…
بِالْمُتَوَسِّطَاتِ فِي الأُمُورِ
237 -
وَمِنْهُ بِالأخْذِ بِأَصْلِ عِلْمِ
…
فِي غَيْرِهِ تَوَصُّلًا لِلْحُكْمِ
238 -
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي أَصْلِ
…
وَلَا يَمُتَّا بِمَتَاتٍ عَقْلِي
" ومنه" أي ما يجري مثالا - أيضا - هنا، وهو المثال الثامن "الاستدلال في "أحكام "الأعمال" أي أفعال المكلفين "بما يقوله" ويعمل به "أولو "أرباب "الأحوال" وهم الصوفية الذين أوغلوا في خدمة مولاهم حتى أعرضوا عن غيره جملة، فمال بهم هذا الطرف إلى أن تكلموا بلسان الاطراح لكل ما سوى الله - تعالى - وأعربوا عن مقتضاه، فكان ذلك أمرا يخص بهم "فهو وإن صح لهم عند النظر" إلى ما تقدم ذكره من أن ذلك كان عن الإيغال في خدمة المولى سبحانه. ثم الاطراح لما سواه في الاعتبار، "غير مناسب لجمهور البشر" لما فيه من الحرج أو التكليف بما لا يطاق، إذ ربما يذم أرباب الأحوال هؤلاء بإطلاق ما ليس مذموما إلا على وجه دون وجه، وفي حال دون حال. والإسلام جاء بما يليق بالجمهور لا بما يليق ببعض الناس الذين هم على حال مخصوصة ولذلك "فالشرع حاكم على الجمهور بالمتوسطات في الأمور" التي حكم بها فالتكاليف الشرعية كلها جارية على الحد الأوسط، فإن مالت بالمكلف إلى حد الطرف فإنما يكون ذلك لكي تنقل المكلف من الطرف الآخر إلى الوسط. وهذا يأتي الكلام عليه مبسوطا في كتاب المقاصد في المسألة الثانية عشرة قبل النوع الرابع.
"ومنه" - وهو المثال التاسع - الاستدلال "بالأخذ بأصل" وضابط هو من "علم" آخر، والاحتجاج به "في" علم "غيره" وذلك "توصلا" وتحصيلا "للحكم" المطلوب، وذلك "من غير أن يجتمعا" أي العلمان "في أصل" يوجب استمداد أحدهما من الآخر، أو يسوغه، "ولا يمتا" أي ولا أن يتصلا ويتواصلا فالمت - لغة - التوسل والتوصل بحرمة أو قرابة - "بمتات" أي بوسيلة وأمر يوصل أي - يجمع - أحدهما بالآخر - والمتات - بفتح الميم - ما مت به أي توسل به وتوصل "عقلي" معلوم من جهة العقل، ويحصل الجامع بين علمين أو أكثر بأن يكون بعضهما أو بعضها يستمد من بعض، ويبصر العلم بأحدهما أو أحدها بالآخر، وأما إن كان الواقع اقتضى الانفصال
239 -
وَإِنَّ مِنْ مُسْتَطْرَفِ الأنْبَاءِ
…
فِي ذَاكَ مَا يُرْوَى عَنِ الْفَرَّاءِ
240 -
كَانَ يَقُولُ أَنَّ كُلَّ مَنْ بَرَعْ
…
فِي عِلْمِهِ فِي غَيْرِهِ بِهِ انْتَفَعْ
241 -
قِيلَ فَقَدْ أَحْكَمْتَ عِلْمَ النَّحْوِ
…
فَمَا تَرَى فِيمَنْ سَهَا فِي السَّهْوِ
242 -
قَالَ أَرَى ذَاكَ لَه يُغْتَفَرُ
…
فَإنَّ ذَا التَّصْغِيرِ لَا يُصَغَّرُ
243 -
وَمِثْلُ هَذَا مَا حَكَوْا فِي الْمَعْنَى
…
فِي إِنَّ هَذَانِ عَنِ ابْنِ الْبَنَّا
بينهما في ذلك، فإن بناء الحكم في أحدهما أو أحدها على قاعدة في غيره ما هو إلا من هذا القسم - ملح العلم - "وإن من مستطرف" أي مما يعد طريفا ومستملحا من "الأنباء" يعني الأخبار والروايات الأدبية "في ذاك" الذي تقدم ذكره وهو الاستدلال بقواعد علم ما في علم آخر غيره "ما يروى عن الفراء" يحيى بن زياد، الذي "كمان يقول: أن كل من برع" فاق "في علمه" سواء كان من المنقولات أو من المعقولات فإنه "في غيره" من العلوم "به" بعلمه ذاك الذي برع فيه "انتفع" في فهم مسائل ذاك الغير من العلوم "قيل" له أي الفراء، والذي قال له هو ابن خالته: محمد بن الحسن الشيباني القاضي - صاحب أبي حنيفة - "فـ" أنت "قد أحكمت" أي أتقنت "علم النحو "فهو علمك الذي برعت فيه وأتقنته "فما ترى" أي تقول "في" حكم "من سها في "سجود "السهو "هل عليه أن يسجد لهذا السهو مرة أخرى.
"قال: أرى" أن "ذاك" السهو الذي وقع له في سجود السهو "له يغتفر" فلا يسجد له، ولا شيء عليه "فإن ذا التصغير" أي الاسم المصغر "لا يصغر" مرة أخرى، فالسجود جبر للصلاة، والجبر لا يجبر كما إن المصغر لا يصغر مرة أخرى. "ومثل هذا" الذي ذكر "ما حكوا" يعني رواه بعض الشيوخ - "في المعنى" وفي المضمون الذي هو الاستدلال بأمر على أمر لا يظهر أن بينهما رابطا أو وصلة "في" قوله تعالى "إن هذان" لساحران "عن" أبي العباس "ابن البناء" أحمد بن محمد الأزدي المراكشي أحد كبار علماء المغرب حين سئل فقيل له: لم تعمل إن من قوله {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] الآية؟ فقال في الجواب: لما لم يؤثر القول في المقول، لم يؤثر العامل في المعمول. فقال السائل: وما وجه الارتباط بين عمل إن وقول الكفار في النبيئين؟ فقال له المجيب: يا هذا إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها، فأنت تريد أن تحكها بين يديك، ثم تطلب منها هذا الرونق
244 -
وَمَا كهَاتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ
…
مَا لِأبِي يُوسُفَ وَالْكِسَائِي
245 -
فِي أَنْ دَخَلَتِ الدَّارَ فَهْوَ يَرْجِعُ
…
لِأصْلِ نَحْوٍ حُكْمُهُ مُنَّبَعُ
246 -
وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِصُلْبٍ أَوْ مُلَحْ
…
فَعَدَمُ اعْتِبَارِهِ أَمْرٌ وَضَحْ
- أو كلاما هذا معناه -. "وما" أي وليس "كهاتين" القصتين المذكورتين "على السواء" بل بينها وبين "ما" أي القصة المنسوبة "لأبي يوسف" يعقوب بن إبراهيم الإمام المعروف صاحب أبي حنيفة "والكسائي" علي بن حمزة بن عبد الله الإمام النحوي المعروف فرق يأتي بيانه، وذلك أن الكسائي سأل أبا يوسف.
"في" حكم من قال لزوجته: أنت طالق "أن" بفتح الهمزة وسكون النون "دخلت الدار" فقال له أبو يوسف إذا دخلت طلقت. فقال له الكسائي: أخطأت يا أبا يوسف، إنما الصواب هو: أنه إذا قال: أن فقد وجب الطلاق ووقع الفعل. وإن قال "إن" - بكسر الهمزة - فلم يجب ولم يقع الطلاق. وما استدل به الكسائي - هنا - متصل بما بنى عليه جواب "فهو يرجع" ويستند "لأصل" أي ضابط "نحو" يعني لأصل نحوي "حكمه" ومقتضاه في مثل هذه المسائل التي يعتمد في معرفة الأحكام فيها مدلولات الألفاظ "متبع" ومعتمد عليه. وهذا هو الفرق بين هذه القصة واللتين قبلها. وقصة الكسائي وأبي يوسف هذه ذكرها غير واحد ونصها التام هو: "روى أن أبا يوسف دخل على الرشيد والكسائي يداعبه ويمازحه فقال له أبو يوسف هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك فقال يا أبا يوسف إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي فأقبل الكسائي على أبي يوسف فقال يا أبا يوسف هل لك في مسألة فقال نحو أم فقه قال بل فقه فضحك الرشيد حتى فحص برجله ثم قال تلقي على أبي يوسف فقها قال نعم قال يا أبا يوسف ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق أن دخلت الدار وفتح أن قال إذا دخلت طلقت قال أخطأت يا أبا يوسف فضحك الرشيد ثم قال كيف الصواب قال إذا قال أن فقد وجب الفعل ووقع الطلاق وإن قال إن فلم يجب ولم يقع الطلاق قال فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي
(1)
. ولما أنهى المصنف الكلام على القسمين - المعتبرين في العلوم - وهما: حلب العلم وملحه، انتقل إلى ذكر ما ليس منها وحكمه، فقال:"وكل ما ليس" في العلم "بصلب" - وقد تقدم بيان المراد به - "أو ملح" تقدم بيانه - أيضا - "فعدم اعتباره" والمبالاة بطلبه والبحث عنه "أمر" قد "وضح" وظهر، لأنه ليس
(1)
الموافقات 1 - 58 - 59.
247 -
وَهْوَ الذِي يَكُرُّ بِالإِبْطَالِ
…
عَلَى أُصُولِ الْعِلْمِ وَالأعمَالِ
248 -
دُونَ اسْتِنَادِهِ إِلَى قَطْعِيِّ
…
فِي أَصْلِهِ وَلَا إِلَى ظَنِّيِّ
249 -
وَلَا يُرَى مُسْتَحْسَنًا بِالْعَقْلِ
…
مَعْنىً وَلَا مُسْتَمْلَحًا فِي الأصْلِ
بعلم، "وهو" أي ما ذكر مما ليس من حلب العلم ولا ملحه "الذي يكر" يرجع "بالإبطال على أصول العلم" الثابتة المعتبرة والقواعد المرجوع إليها في الاعتقادات "و" في "الأعمال" المطلوبة شرعا ثم إنه يوجد ويحدث "دون استناده إلى" دليل "قطعي" مجزوم به "في أصله" بحيث لا يتطرق إليه الشك أو الريب "ولا" استناده "إلى" دليل "ظني" معتبر، وإنما مبتناه شبه عارضة، وأوهام وتخيلات. ومثل هذا إنما يذهب إلى اعتباره الموسوسون والأغبياء، إذ لا يستند إلى دليل معتبر "ولا يرى" أي يعلم، ويصير"مستحسنا" محكوما عليه "بـ" الحسن في "العقل معنى" يعني من جهة معناه وفائدته "و" لا يرى كذلك "مستملحا" معدودا من الملح "في الأصل" أي في أصله الذي بنى عليه، وبذلك يخرج على ملح العلم، إذ الملح لا يصحبها منفر ولا هي مما يعادى العلوم، لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة. بخلاف هذا القسم فإنه ليس فيه شيء من ذلك. خلاصة القول: إن ما كان هذا الذي تقدم وصفا له ساقط اعتباره، إذ ليس من حلب العلم، ولا من ملحه، واستحسانه هنا يكون لشبه عارضة واشتباه بينه وبين ما قبله، "فربما عده الأغبياء مبنيا على أصل فمالوا إليه من ذلك الوجه، وحقيقة أصله وهم وتخيل لا حقيقة له، مع ما ينضاف إلى ذلك من الاغراض والاهواء، كا لاغراب في استجلاب غير المعهود، والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون، والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص، وانهم من الخواص
…
واشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب، ولا يحور منه صاحبه إلا بالافتضاح عند الامتحان، حسبما بينه الغزالي وابن عربي ومن تعرض لبيان ذلك من غيرهما. ومثال هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر وإنما ينال من الإمام المعصوم تقليدا لذلك الإمام. واستنادهم - في جملة من دعاويهم - إلى علم الحروف وعلم النجوم، ولقد اتسع الخرق في الازمنة المتأخرة على الراقع، فكثرت الدعاوي على الشريعة، بأمثال ما ادعاه الباطنية، حتى آل ذلك إلى ما لا يعقل على حال، فضلا عن غير ذلك، ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة
"
فصل
"
230 -
هَذَا وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْأوَّلِ مَا
…
يَصِيرُ فِي الثَّانِي بِهِ مُرْتَسِمَا
231 -
وَذَا لَهُ تَصَوُّرٌ فِي الْوَاقِعِ
…
بِخَلْطِ عِلْمٍ بِسِوَاهُ نَافِعِ
والمتحكمون، وكل ذلك ليس له أصل يبنى عليه، ولا ثمرة تجنى منه، فلا تعلق به بوجه"
(1)
.
"فصل"
"هذا" يعني أقول هذا وأثبته لكن يجب أن أنبه على أمر مهم "و" هو أنه "قد يعرض لـ" القسم "الأول" وهو حلب العلم "ما يصير" به أي بسببه وبمقتضاه وحكمه "في" القسم "الثاني" وهو ملح العلم "به مرتسما" بفتح السين، محسوبا ومعدودا - وارتسم الظاهر أنه مطاوع رسم الشيء إذا رسمه في موطن فارتسم فيه فإنه فيه، كما يبقى الأثر في موطنه. سواء فسر الرسم هنا بالأثر، أو بالكتابة فالمعنى يؤول إلى شيء واحد، وهو ما تقدم تقرير الكلام عليه. "وذا" الذي ذكر من أن القسم الأول يعرض له ما يعد به من الثاني "له تصور" ومثال "في الواقع" يتجلى ويظهر "بخلط" أي في خلط "علم بسواه" أي بعلم سواه "نافع" في بناء الحكم في العلم الأول، كالفقيه يبني فقهه على مسألة نحوية، ثم يشتغل بتلك المسألة النحوية نفسها، فيقررها تقريرا نحويا، كما يقررها النحوي، فلم يأخذها باعتبارها قاعدة ومقدمة مسلمة، ثم يرد مسألته الفقهية إليها، والواجب عليه أن يأتي بها على أنها مفروغ منها في علم النحو فيبني عليها، فلما لم يفعل ذلك وأخذ يتكلم فيها، وفي تصحيحها، وضبطها، والاستدلال عليها كما يفعله النحوي صار الإتيان بذلك فضلا غير محتاج إليه. وكذلك إذا افتقر إلى مسألة عددية فمن حقه أن يأتي بها مسلمة ليفرع عليها في علمه. فإن أخذ يبسط القول فيها كما يفعله العددي في علم العدد، كان فضلا معدودا من الملح إن عد منها. وهكذا سائر العلوم يخدم بعضها بعضا"
(2)
.
(1)
الموافقات ج 1/ ص 60.
(2)
الموافقات ج 1/ ص 60.
232 -
كَذَاكَ قَدْ يَعْرِضُ فِيهِ أَنْ يُرَى
…
كَثَالِثٍ قَدْ نَافَرَ الْمُعْتَبَرَا
253 -
بِمِثْلِ أَنْ يُلْقَى لِغَيْرِ أَهْلِهِ
…
تَبَجُّحًا بِنَقْلِهِ وَحَمْلِهِ
254 -
أَوْ مَا لَهُ خَطْرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ
…
لِغَيْرِ ذِي عَقْلٍ لِذَاكَ قَابِلِ
255 -
بِضِدِّ مَا يُوْثَرُ فِي الْعُلُومِ
…
وَبَثِّهَا مِنْ أَدَبِ التَّعْلِيمِ
256 -
فَمِثْلُ ذَا يُوقِعُ فِي الْمَحْظُورِ
…
وَالنَّهْيُ عَنْهُ جَاءَ فِي الْمَأْثُورِ
"
المقدمة العاشرة
"
" كذاك" أي كما يعرض للقسم الأول ما به يصير من الثاني "قد يعرض فيه" أي القسم الأول ما به يصح "أنْ يرى كثالث" من تلك الأقسام، وهو قسم ما ليس صلبا، ولا ملحا وذلك لأنه "قد نافر" يعني فارق - ولو عبر به لكان أفضل - "المعتبرا" من الخواص التى كان بها من القسم الأول، ويمثل لذلك "بمثل أن يلقى" ويذكر ما هو من المسائل العلمية "لغير أهله" بأن يكونوا غير طالبين له ولا لهم به عناية، وإنما يذكر ذلك "تبجحا" أي افتخارا ومباهاة "بنقله" من أهله من العلماء "وحمله" في الصدر وحفظه "أو "سوق وذكر "ما له خطر" عظيم وقدر وعلو شأن بمقتضى النظر العقلي والحكم الشرعي "من المسائل لغير ذي" صاحب "عقل لذاك" المذكور له "قابل" وإنما يحتمل عقله - ذكاؤه وفطنته - صغار المسائل، فكان من الواجب أن يخاطب بما يفهم وما يكون على قدر عقله، ومن خالف هذا الواجب، فقد أتى "بضد ما" أي الذي "يوثر" أي يختار "في" تعليم "العلوم وبثها" أي نشرها في الخلق، "من" بيانية لقوله "ما""أدب التعليم" ومنهاج التربية، الذي من قواعده مخاطبة الناس بما يفهمون. والتعليم بصغار المسائل قبل كبارها. "فـ" أما "مثل ذا" وهو سوق المسائل الكبار لمن قصر عقله عن فهمها فإنه "يوقع في" الفتنة والأمر "المحظور" المحرم، وهو أن يكذب الله ورسوله "والنهي عنه" أي عن هذا السبيل قد "جاء في "الخبر "المأثور"عن علي رضي الله عنه في قوله: حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله.
"المقدمة العاشرة"
في أنه إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا،
257 -
إِنْ عُضِدَ الْمَنْقُولِ بِالْمَعْقُولِ
…
فَشَرْطُهُ تَقَدُّمُ المَنْقُولِ
258 -
إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ نَظَرْ
…
إِلَّا بِقَدْرِ مَا مِنَ النَّقْلِ ظَهَرْ
259 -
دَلِيلُهُ لَوْ جَازَ حُكْمُ الْعَقْلِ
…
لَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ حُكْمُ الأصلِ
260 -
لَكِنَّ ذَا غَيْرُ صَحِيحٍ أَصْلُهُ
…
كَذَاكَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ
261 -
وَمَعَ ذَا التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ
…
مِنْ حُكْمِهِ وَرَدُّهُ الصَّحِيحُ
262 -
وَلَا اعتِرَاض فِيهِ بِالتَّخْصِيصِ
…
بِالْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ لِلْمنْصُوصِ
ويتأخر العقل فيكون تابعا. قال الناظم: "إن عضد" الدليل "المنقول" السمعي الوارد في النصوص الشرعية "بـ" الدليل "المعقول" أي العقلي، بحيث يحكم كل واحد بالحكم نفسه الذي يحكم به الآخر، وذلك كمنع الكذب الضار، "فشرطه "يعني فشرط العمل بهما "تقدم المنقول" وجعله متبوعا، وتأخر المعقول وجعله تابعا للمنقول المذكور "إذ" - تعليلية - يعني وذلك لأجل أنه "ليس للعقل مع الشرع نظردا وحكم "إلا بقدر ما" أخذ "من النقل" وما منه "ظهر" أنه قد سمح به فإن العقل لا يسرح إلا بقدر ما يسرحه النقل، إلا أنه لا يحجر عليه إلا فيما ليس فيه قدرة على النظر، وكسب الصواب، كالشرعيات "دليله" أي دليل ما ذكر من أن العقل لا يسرح إلا بمقدار ما يسرحه به النقل، هو أنه "لو جاز" أن يكون "حكم العقل" يمضي في الأمور الشرعية مستقلا عن النقل "لجاز أن يبطل حكم الأصل" الذي ضبط به النقل العمل العقلي في هذا الشأن، وذاك الأصل هو ما تقدم ذكره.
"لكن ذا" وهو تعدي العقل مأخذ النقل "غير صحيح أصله" من جواز بطلان الأصل المذكور "كذاك ما أدى إليه" فهو "مثله" في البطلان، والسقوط "ومع ذا" الدليل الذي ذكر يزاد دليل ثان آخر، وهو ما تبين في علم الكلام من أن "التحسين والتقبيح" قد قيل إنهما "من حكمه" بمعنى أنه يحسن ويقبح "ورده" أي هذا القول هو القول "الصحيح" الذي عليه أهل الحق في هذه المسألة. "ولا اعتراض" صحيح يرد "فيه" أي في هذا الذي ذكر من العقل لا حكم له في الأمور الدينية والشرعية "بالتخصيص" للدليل العام الشرعي، ذلك التخصيص الذي يكون معلوما ومدركا "بالعقل" وحده وأمثلة هذا الموضوع تنظر في الأصل. "و" كذلك لا اعتراض أيضا صحيح بالتخصيص "القياس للمنصوص" أي للنص الشرعي وبيان هذا الضرب من التخصيص أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم
263 -
إِذْ لَيْسَ فِيهِ الْعَقْل بِالْحُكْمِ انْفَرَدْ
…
بَلْ بِدَلِيلِ السَّمْعِ فِي ذَاكَ اعْتَضَدْ
"
المقدمة الحادية عشرة
"
264 -
قَدْ صَحَّ أَنَّ الْعِلْمَ أعْنِي الْمُعْتَبَرْ
…
فِيمَا يُفِيدُ عَمَلًا قَدِ انْحَصَرْ
265 -
وَأَصْلُهُ الأدِلَّة الشَّرْعِيَّةْ
…
وَمرَّ قَبْلُ أَنَّهَا السَّمْعِيَّةْ
266 -
فَالْعِلْم مِنْ تِلْقَائِهَا مَكْسُوبُ
…
فَحَصْرُهَا إِذًا هُوَ الْمَطْلُوبُ
عند ذكر النص، صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له والزيادة عليه ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام: لا يقضي القاضي وهو غضبان، فمنعوا - لأجل معنى التشويش - القضاء مع جميع المشوشات، وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب، فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل من غير توقف
(1)
. هذا كله اعترض به على ما تقرر في أنه لا حكم للعقل في الأمور الشرعية "إذ ليس فيه" أي فيما ذكر أن "العقل بالحكم" قد استقل و"انفرد" وأنه قد تصرف متعديا لهذا الذي حد له "بل" الثابت انه "بدليل السمع" الذي به هدايته "في ذاك" الذي أدركه "اعتضد" وإليه استند، إذ تصرفات العقل هذه إنما ساغ له أن يأتيها لأن الشارع علم أنه سنن له ذلك وأذن له فيه. فبذلك العقل - هنا - إنما يمضي فيما وضعه له الشارع من سبل وطرق، فهو مسدد بذلك، وعليه عمله.
"المقدمة الحادية عشرة"
في أن العلم المعتبر هو العلم الذي دلت عليه الأدلة الشرعية لأنه العلم الذي به العمل.
قال الناظم: "قد صح" وثبت "أن العلم أعني المعتبر" المطلوب تعلمه شرعا هو "فيما" أي في العلم الذي "يفيد عملا" مطلوبا شرعا "قد انحصر". فكل علم ليس من ورائه عمل لا يعد علما معتبرا شرعا كما تقدم بيانه، "واصله" أي مأخذه ومدركه "الأدلة الشرعية" وحدها "ومر قبل" في المقدمة التي قبل هذه "أنها" الأدلة "السمعية" فقط، "فالعلم" المذكور انه معتبر شرعا "من تلقائها" أي من جهتها "مكسوب" ومدرك "فحصرها إذا هو "الأمر "المطلوب" لأنها إذا حصرت حصرت مدارك العلم الشرعي وضبطت، وما حصر وحدد أمكن الانتفاع به على الوجه المطلوب، وكان التصرف فيه
(1)
الموافقات - ج 1، ص 62.
"
المقدمة الثانية عشرة
"
267 -
مِنْ أنْفَعِ الطُّرقِ لِنَيْلِ الْعِلْمِ
…
تَحْصِيلُهُ مِنْ ذِي تُقىً وَفَهْمِ
268 -
مُتَّصِفٍ فِي الْعِلْمِ بِالرُّسُوخِ
…
إِذْ قِيلَ لَابُدَّ مِنَ الشيُوخِ
269 -
فَهُمْ مَفَاتِيحُ لِأهْلِ الطَّلَبِ
…
لَمَّا اسْتَقَرَّ الْعِلْمُ طَيَّ الْكُتُبِ
"
فصل فيما يستدل به على العالم المحقق
"
270 -
وَبِعَلَامَاتٍ عَلَيْهِ يُسْتَدَلْ
…
مِنْهَا وِفَاقُ الْعِلْمِ مِنْهُ لِلْعَمَلْ
متأتيا. فكان هذا الحصر مطلوبا لذلك.
"المقدمة الثانية عشرة"
في أن من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقيق به أخذه عن أهله المحققين به على الكمال والتمام.
قال الناظم: "من أنفع" وأفيد "الطرق" أي المناهج "لنيل العلم" وإدراكه "تحصيله" أي أخذه "من" عالم "ذي" صاحب "تقى" وخوف من رب العالمين "وفهم" لمضامين ذلك العلم. "متصف في العلم بالرسوخ" يعني الثبات والتحقيق، فواجب على طالب العلم أن يأخذ كل فمن عن أهله ذوي التحقيق والمهارة فيه، فلا استغناء له عن ذلك "إذ قيل لا بد" في أخذ العلم "من الشيوخ" والمعلمين له "فهم مفاتيح" العلوم وخاصة ما انغلق منها "لأهل الطلب" للعلم وذلك "لما استقر العلم طي" يعني في طي - ونصب طي هنا قد يكون بنزع الخافض، وقد يكون على الظرفية - أي ما طوي منها يريد داخل - وعبر عنه بالطي لأنه لازم لما في الداخل - ويقال - أيضا - بطون الكتب، والمعنى واحد - "الكتب" وأودع فيها، وقد كان قبل يؤخذ من أفواه الرجال فقط.
"فصل فيما يستدل به على العالم المحقق"
"وبعلامات" وأمارات "عليه" أي العالم المتحقق بالعلم "يستدل" وبها يميز عن غيره ويعرف "منها" أي من تلك العلامات "وفاق" أي موافقة ومطابقة "العلم" الصادر "منه للعمل"
271 -
حَتَّى يكُونَ قَوْلُهُ لِفِعْلِهِ
…
مُطَابِقًا وَهَدْيُهُ كنَقْلِه
272 -
وَأَخْذُهُ لِمَا مِنَ الْعِلْمِ عَلِمْ
…
عَمَّنْ مِنَ النَّاسِ بِذَا الْوَسْمِ وُسِمْ
273 -
حَسَبَمَا قَدْ كَانَ حَالُ السَّلَفِ
…
فِي أَخْذِهِمْ خَلَفِهِمْ عَنْ سَلَفِ
274 -
وَالاقْتِدَاءُ بِالذي عَنْهُ أَخَذْ
…
فِي بَثِّ مَا بَثَّ وَنَبْذِ مَا نَبَذْ
275 -
مُسْتَفْرِغًا لِلْجُهْدِ فِي التَّأَدُّبِ
…
بِأَدَبِ الشَّيْخِ وَحُسْنِ الطَّلَبِ
ويجوز أن يكون لفظ منه في قوله "منه للعمل" صفة العمل، فيكون معنى كلامه بناء على ذلك: وفاق العلم للعمل منه أي للعمل الصادر منه، "حتى يكون قوله لفعله مطابقا" موافقا، وذلك بأن يلزم نفسه بامتثال كل ما يقول أنه مطلوب فعله، ويكفها عن كل ما يقول أنه واجب الانكفاف عنه "وهديه" أي حاله وسمته "كنقله" يعني كالعلم الذي ينقله ويعلمه، فإن حاله قد صيغ من علمه "و" العلامة الثانية، "أخذه" وروايته "لما" أي للذي "من العلم علم" وأدرك "عمن من الناس" يعني العلماء والشيوخ "بذا الوسم" أي العلامة المذكورة وهي الجمع بين العلم والعمل به قد "وسم" أي - علم ووصف - والوسم والسمة: العلامة "حسبما" يعني على وفق ما "قد كان" عليه "حال السلف" الصالح من الصحابة والتابعين وما مضى عليه أمرهم "في أخذهم خلفهم عن سلف" أي من تقدم منهم - وقوله: خلفهم - بدل من الضمير في أخذهم، وهو بدل بعض من كل، وإبدال الظاهر من الضمير جائز كما هو مبين في كتب النحو "و" العلامة الثالثة "الاقتداء" والتأسي "بـ" العالم "الذي عنه أخذ" العلم ومنهج التربية "في بث" أي في نشر "ما بث" شيخه من المعارف والعلوم والأدب "ونبذ" أي طرح "ما نبذ" شيخه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم واقتداء التابعين بالصحابة، مع التزام ما أمر به سبحانه من اتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأن الاجتهاد واجب على من يقدر عليه، وهذا في اقتداء مسلم بمسلم، وأما الاقتداء به عليه الصلاة والسلام، فإنه كله طاعة "مستفرغا" أي باذلا أقصى ما يستطيع "للجهد" أي طاقته وقدرته واللام - هنا - أي في قوله للجهد نائب عن الضمير "في"كسب "التأدب بأدب" أي خلق "الشيخ" يعني - شيخه - فأل نائبة عن الضمير بدلالة السياق، "و" في "حسن الطلب" وهو التحلي بآداب طالب العلم وأخلاقه وهي مبينة في
"
فصل فيما يوصل إلى أخذ العلم عن أهله
"
276 -
وَالْعِلْمُ مَطْلَبٌ إِلَيْهِ يُوصِلُ
…
كلَا طَرِيقَيْنِ فَأَمَّا الْأوَّلُ
277 -
فَإنَّهُ الأخْذُ لَهُ مُشَافَهَةْ
…
مِنْ قِبَلِ الشُّيُوخِ بِالْمُوَاجَهَةْ
278 -
وَذَاكَ فِيهِ حِكْمَة بِالذَّاتِ
…
تَرْجِعُ مَعْنىً لِلْخُصُوصِيَّاتِ
279 -
يَشْهَدُهَا مَنْ زَاوَلَ الْعُلُومَا
…
وَمَنْ تَوَلَّى أَهْلَهَا لُزُومَا
280 -
فَكَمْ يُزِيلُ الشَّيْخُ مِنْ إِشْكَالِ
…
بِمُقْتَضَى قَرَائِنِ الأحْوَالِ
الكتب الموضوعة في "آداب العالم والمتعلم".
"فصل فيما يوصل إلى أخذ العلم عن أهله"
"والعلم مَطْلب" يعني مطلوبا شرعا، كما تقدم بيان ذلك والمطلب يستعمل بمعنى اسم المفعول، كما يقال هذا مطْلَبي، أي ما أطلبه ولو قال الناظم "والعلم مطلوب" لكان أولى "إليه" يعني إلى أخذه وإدراكه يبلغ و "يوصل كلا طريقين" يعني يوصل إليه طريقان وقوله: كلا طريقين فيه إضافة كلا إلى اسم منكر، والمعروف إضافتها إلى المعرف، "فأما" الطريق "الأول فإنه الأخذ له" أي للعلم "مشافهة" مباشرة بلا واسطة "من قبل" أي جهة "الشيوخ" المأخوذ عنهم "بالمواجهة" أي المقابلة وجها لوجه، "وذاك يعني هذا الطريق "فيه حكمة" خاصة ثابتة فيه "بالذات" تؤخذ منه هي نفسها، وهي "ترجع معنى" وحكما ودلالة "للخصوصيات" التي جعلها الله - تعالى - بين المعلم والمتعلم "يشهدها" كل "من زاول" ومارس "العلوما" وحاول تحصيلها "ومن تولى" يعني صاحب "أهلها" أي أهل العلوم ولزمهم "لزوما" يحقق درك ذلك والعلم به.
"فكم يزيل" يذهب "الشيخ من إشكال" يعرض للمتعلم في كتب يحفظها ويرددها على قلبه، إلا أنه يعوزه فهمها فإذا ألقاها الشيخ فهمها، وذلك يحصل إما "بمقتضى" وحكم "قرائن الأحوال" التي صحبت كلام الشيخ كإيضاح موضع إشكال لم يخطر
281 -
وَكَمْ يُجَلِّي مِنْ أُمُورٍ غَامِضَةْ
…
وَشُبَهٍ قَدْ وَرَدَتْ مُعَارِضَةْ
282 -
فَتَنْجَلِي إِمَّا بِأَمْرٍ عَادِي
…
أَوْ هِبَةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْمُعْتَادِ
283 -
تَحْصُلُ لِلتِّلْمِيذِ فِي تَفَهُّمِهْ
…
إِذَا اسْتَوَى بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمِهْ
284 -
وَذَا الطَّرِيقُ نَافِعٌ مُطَّلَبُ
…
وَكَانَ بَعْضُ مَنْ مَضَى لَا يَكْتُبُ
285 -
ثُمَّ الطَّرِيقُ الثَّانِي بِالْمُرَاجَعَةْ
…
لِكُتْبِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمُطَالَعَةْ
286 -
وَهْوَ عَلَى الْجُمْلَةِ أَيْضًا نَافِعُ
…
وَللطَّرِيقِ الأوَّلي تَابِعُ
للمتعلم ببال "و" كذلك "كم يجلي" يكشف ويظهر "من أمور" علمية ونظرية خافية عن الإدراك "غامضة" فيذهب غموضها، وتتضح، وتفهم "و" كم يجلي ويكشف من "شبه" - بضم الشين وفتح الباء - جمع شبهة وهي - لغة الالتباس - والمراد بها ما يعرض في الأذهان من أمر يخيل للناظر خلاف الحقيقة فيتبعه لضعف علمه "قد وردت "على الأذهان "معارضة" للحق والصواب "فتنجلي" فتنكشف وتظهر حقيقتها، وذلك "إما" أن يكون "بأمر عادي" كما تقدم بيانه "أو" يكون "هبة" ربانية "ليست من "الطريق "المعتاد" المذكور، وهي "تحصل للتلميذ" في روعه "في تفهمه" أي في أثناء تدرجه في الفهم، فيعلمها ويعيها، "إذا استوى" أي جلس "بين يدي معلمه" وشيخه "وذا الطريق" أي طريق المشافهة "نافع" مبارك "مطلب" أي مطلوب مرغوب فيه، وعليه العمدة في طلب العلم، "و" قد "كان بعض من مضى" من أهل العلم "لا يكتب" إنما كان يحفظ، ويكره الكتابة.
ومن أهل هذا الشأن مالك، فقد كره كتب العلم، فقيل له: فما نصنع؟ فقال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتابة. وحكى عن عمر كراهية الكتابة وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان وخيف على الشريعة الاندراس. ولما أنهى الناظم الكلام على هذا الطريق - طريق المشافهة - ذكر الطريق الثاني فقال: "ثم" يأتي بعد هذا الطريق "الطريق الثاني" وهو الذي يكون "بالمراجعة لكتب أهل العلم" و "بالمطالعة" لها.
"وهو على الجملة" والعموم "أيضا نافع" في بابه - أخذ العلم - "و" هو "للطريق الأولي" المتقدم ذكره، "تابع" لأنه لا سبيل إلى الانتفاع بهذه الطريقة، طريقة المطالعة
287 -
بِشَرْطِهِ أَنْ يَحْصُلَ بَلْ عِنْدَهُ
…
فِي الْعِلْمِ مَا يَفْهَمُ مِنْهُ قَصْدَهُ
288 -
وَفي اصْطِلَاحِ أَهْلِهِ مَا يُعْتَبَرْ
…
وَمَا يَتِمُّ مَعَهُ حُكْمُ النَّظَرْ
289 -
مَعَ تَحَرِّي كتْبِ مَنْ تَقَدَّمَا
…
فِي كلِّ مَا مِنَ الْعُلُومِ يَمَّمَا
290 -
فَالْقُدَمَاءُ بِالْعُلُومِ أَقْعَدُ
…
بِذَاكَ تَجْرِيبٌ وَنَقْلٌ يَشْهَدُ
والمراجعة إلا "بشرطه بل" يجب أن يحصل عنده "في العلم" المطلوب من قوة الإدراك والنظر "ما يفهم منه" أي ذلك العلم "قصده" يعني مقاصده. "و" ذلك يوجب أن يكون عنده "في اصطلاح أهله" أي أهل ذلك العلم "ما يعتبر" العلم به ممكنا من ذلك الفهم "وما يتم معه حكم النظر" في كتب ذلك العلم. ولا شك أن العلم بالمصطلحات العلمية لا تحصل إلا بأخذها عن أهل العلم بها مشافهة، فتكون هذه الطريق بهذا الاعتبار تابعة للطريق الأول، وهو ما أشار إليه الناظم بقوله "و للطريق الأولي تابع"، فيكون هذا متوقفا على ذاك، هذا هو الشرط الأول، والثاني ذكره بقوله "مع" وجوب "تحري" أي قصد "كتب من تقدما" من أهل العلم "في كل ما" أي في كل علم "من العلوم "التي "يمما" يعني قصد بالطلب وأراد فهمه والعلم به "فالقدماء" أي وذلك لأجل أن القدامى من أهل العلم - الأئمة المؤسسين وأصحابهم ومن على دربهم - "بالعلوم أقعد" أولى من المتأخرين - يقال فلان أقعد من فلان: إذا كان أقرب منه - "بذاك" الذي ذكره من كون القدامى أقعد بالعلوم "تجريب" وواقع الحال "ونقل" أي ما ورد من النصوص في هذا الشأن "يشهد" يعني يشهدان إلا أنه استغنى بصيغة الإفراد - يشهد - عن التثنية لظهور المراد.
"أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان؛ فالمتأخر، لا يبلغ من الرسوخ في العلم ما بلغه المتقدم. وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري، فأعمال المتقدمين - في إصلاح دنياهم ودينهم - على خلاف أعمال المتأخرين وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين؛ والتابعون ليسوا كتابعيهم؛ وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحكاياتهم، أبصر العجب في هذا المعنى، وأما الخبر ففي الحديث: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض" ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئا بعد شيء. ويندرج ما نحن
"
المقدمة الثالثة عشرة
"
291 -
وَأَيُّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ قَدْ
…
يُعَدُّ فِي الْفِعْلِ إِمَامًا يُعْتَمَدْ
فيه تحت الإطلاق. وعن ابن مسعود أنه قال: "ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيهدم الإسلام ويثلم". ومعناه موجود في الصحيح في قوله: ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون. وقال عليه السلام:(إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء.) قيل: من الغرباء؟ قال: "النزاع من القبائل" وفي رواية قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون عند فساد الناس". وعن أبي إدريس الخولاني: إن للإسلام عرى يتعلق الناس بها، وإنها تمتلخ عروة عروة. وعن بعضهم: تذهب السنة سنة سنة، كما يذهب الحبل قوة قوة وتلا أبو هريرة قوله تعالى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] ثم قال: والذي نفسي بيده ليخرجن من دين الله أفواجا، كما دخلوا فيه أفواجا. وعن عبد الله قال: أتدرون كيف ينقص الإسلام؟ قالوا نعم، كما ينقص صبغ الثوب، وكما ينقص سمن الدابة. فقال عبد الله: ذلك منه. ولما نزل قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] بكى عمر، فقال عليه السلام:"ما يبكيك؟ " قال: يا رسول الله، إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل، فلم يكمل شيء قط إلا نقص. فقال عليه السلام:"صدقت". والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا وأعظم ذلك العلم، فهو إذا في نقص بلا شك
(1)
.
"المقدمة الثالثة عشرة"
في أن كل أصل علمي إنما يصح اتخاذه إماما على كل حال إذا كان الحكم والعمل به مطردا في الواقع ومجاري العادات، فإن تخلف عنه هذا الشرط فإنه لا يتخذ أصلا ولا قاعدة شرعية.
قال الناظم: "وأي أصل من أصول العلم قد يعد" في ظاهر أمره "في الفعل" أي العمل "إماما" ودليلا "يعتمد" عليه في ذلك الفعل - العمل - "فإنه" لأجل اتخاذه إما ما
(1)
الموافقات ج 1 ص 68 - 69.
292 -
يُنْظَرُ لِلْمَعْنَى الذِي قَدْ احْتَمَلْ
…
فَإنْ يَكُنْ يَجْرِي بِهِ ذَاكَ العَمَلْ
293 -
عَلَى مَجَارِي مِثْلِهِ فِي الْعَادَةْ
…
صحَّ فِي الاقْتِضَاءِ لِلإفَادَةْ
294 -
وَإِنْ يَكُنْ فِيهِ انْخِرَامُ رُكْنٍ
…
أَوْ نَقْصُ شَرْطٍ فَهْوَ غَيْرُ مُغْنِ
وأصلا شرعيا في ذلك ومعرفة جريان ذا الحكم عليه "ينظر للمعنى" أي للحكم المقتضى "الذي قد احتمل" أي احتمله ذاك الأصل ودل عليه بظاهره "فإن يكن يجري به" أي بما يقتضيه "ذاك العمل" الذي اقتضاه "على مجاري "جمع مجرى ظرف مكان، محل الجري - والمراد بالمجاري - هنا - الطرق، أي على طرق "مثله" من الأصول سواء كانت عقدية أو فقهية "في العادة" التي تقررت على أن الأصول المعتمدة يمتنع أن يتخلف مقتضاها، فإن كان كذلك "صح" العمل والأخذ به "في الاقتضاء" والحكم الذي يدل عليه، وذلك "للإفادة" التي تجنى منه وتؤخذ.
"وإن يكن" قد حصل "فيه" أي في ذلك الأصل "انخرام" سقوط "ركن" من الأركان التي يكون بها حكمه مطردا في الجزئيات المنظومة تحته "أو نقص شرط" فيه يتوقف على وجوده كونه أصلا معتمدا "فهو "أي ذاك الأصل "غير مغن" أي غير مفيد، فلا يصح اتخاده أصلا معتمدا في هذه الشريعة الغراء. وبيان ذلك: "أن العلم المطلوب إنما يراد - بالفرض - لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف، سواء كانت تلك الأعمال قلبية، أو لسانية، أو من أعمال الجوارح، فإذا خرجت في المعتاد على وفقه من غير تخلف، فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه؛ وإلا لم يكن بالنسبة إليه علما، لتخلفه، وذلك فاسد لأنه من باب انقلاب العلم جهلا.
ومثاله: في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر الله تعالى، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاف؛ وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد. فإذا كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة، فليس بأصل يعتمد عليه ولا قاعدة يستند إليها"
(1)
.
(1)
الموافقات - ج 1، ص 70.
295 -
وَذَاكَ فِي مَجْرَى الأسَالِيبِ يَقَعْ
…
فَيَنْبَغِي اعْتِبَارُهُ حَيْثُ وَقَعْ
296 -
كَذَا يُرَى فِي الْفَهْمِ لِلأقْوَالِ
…
وَفي الدُّخُولِ بَعْدُ فِي الأعْمَالِ
297 -
وَذَا الأخِيرُ عُمْدَةٌ فِي الْمَسْأَلَةْ
…
وَالأصْلُ فِي الْمَصَالِحِ الْمُسْتَعْمَلَةْ
" وذاك" التخلف عن مجاري العادات وعدم الاستقامة على سنن الأصول المعتبرة يحصل "في مجرى" يعني في مجاري مفرده مجرى - بضم الميم - أي ما تجري أي تحمل - فالمجاري - على هذا المعنى - محامل "الأساليب" طرق الكلام والمراد بها هنا السياق العام - اللواحق والسوابق - "يقع" فإنه قد يعرض في حمال اللفظ على ظاهره ما يفسد جريان الفهم في الأسلوب والسياق الذي به يعلم المراد من ذلك الكلام، وإذا تقرر ذلك "فـ" إنه "ينبغي" يعني يجب "اعتباره" الأسلوب والسياق وبناء الحكم عليه "حيث وقع" مثل قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] فهذه صيغة عموم تقتضي في ظاهرها دخول كل مطعوم، وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط، ومن جملته الخمر، لكن هذا الظاهر يفسد جريان الفهم في الأسلوب، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر، لأن الله تعالى قال:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] فكان هذا نقضا للتحريم، فاجتمع الإذن والتحريم معا، فلا يمكن للمكلف امتثال (1). "كذا يرى" يقع هذا التخلف عن الاطراد "في الفهم للأقوال" وهذا يجري في مثل قوله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النِّسَاء: 141] إن حمل على أنه إخبار لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله. فلا يمكن أنْ يكون المعنى على ما يصدق الواقع ويطرد عليه وهو تقرير الحكم الشرعي فعليه يجب أنْ يحمل".
(1)
"و" كذلك يقع هذا التخلف "في الدخول بعد" تحصيل العلم المطلوب "في الأعمال" وذلك أنْ طرد العمل قد يعرض فيه ما يوقع في المشقة والحرج. "وذا الأخير" وهو عروض هذا التخلف في الأعمال "عمدة في "هذه "المسألة" التي عقدتها هذه المقدمة، وهي المقصود بالذات "و" هي أيضا "الأصل في "اعتماد" المصالح المستعملة" يعني المرسلة ولو قال المسترسلة لكان أفضل.
(1)
الموافقات - ج 1، ص 70.
298 -
وَأَصْلُ الاسْتِحْسَان وَالْبَيَانِ
…
لِمُشْكِلِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآن
299 -
وَضِمْنَهُ الرُّخْصَةُ مِنْهُ تُقْتَنَصْ
…
فَإنَّهُ الْحَاكِمُ فِي بَابِ الرُّخَصْ
300 -
وَقَدْ بَدَا مَعْنَى ذَا الأصْلِ وَظَهَرْ
…
تَأْصِيلُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرْ
301 -
وَعَدَمُ اعْتِبَارِهِ حَيْثُ بَدَا
…
أَوْقَعَ أَهْلَ الزَّيْغِ فِي مَهْوَى الرَّدَى
" و" هو أيضا "أصل الاستحسان" الذي يقول به بعض أهل العلم "و" هو - كذلك أصل "البيان" الذي يكون "لمشكل السنة والقرآن" ممن تكلم في ذلك "وضمنه" أي ما ينطوي عليه من حكم ويؤخذ منه "الرخصة" أي أحكامها فإنها "منه تقتنص أي تؤخذ وتدرك "فإنه" أي ما ذكر من طرح ما يخرج إلى الحرج والمشقة من عموم الدليل وإطلاقه هو الدليل "الحاكم في باب الرخص". وفي جملة هذا الذي تقدم، قال الشاطبي: "وأما الدخول في الأعمال فهو العمدة في المسألة وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا، فإنه غير جار على استقامة ولا اطراد، فلا يستمر الإطلاق. وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن والسنة لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة، حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد والاستمرار فتصح. وفي ضمنه تدخل احكام الرخص إذ هو الحاكم فيها، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا تدخله"
(1)
.
ومعنى أن الرخص تؤخذ من هذا انها تنشأ عنه، فإذا تعذر حمل الدليل العام على العموم في العمل، كانت الرخصة مستحبة على ما لا يتعذر فيه ذلك، فكانت مأخوذة من هذا الأصل وهو عدم استمرار العمل بما يفضي إلى الحرج والمشقة من الأدلة العامة والمطلقة "وقد بدا" أي ظهر "معنى ذا الأصل" وما هو المراد به "وظهر" كذلك "تأصيله" أي كيف وقع تأصيله، وما بني عليه "فينبغي" يعني انه يجب "أن يعتبر" حكمه ومقتضاه "وعدم اعتباره حيث" أي في المحل الذي "بدا" أي ظهر أنه يجب فيه اعتباره والعمل بمقتضاه، "أوقع اهل الزيغ" والضلال من الفرق المجانبة لسبيل أهل الصراط المستقيم "في مهوى" أي في مسقط محل السقوط في "الردا" الهلاك.
(1)
الموافقات - ج 1، ص 71.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وذلك لأن تلك الفرق لم تعمل بهذا الأصل وهو الدليل العام - الأصل - العام والمطلق لا يحملان على ظاهريهما، اللذان هما الاستغراق والشمول، إذا كان ذلك الحمل يوقع في الحرج والمستحيل شرعا وعقلا أو أحدهما - وإنما ذهبت إلى حمل الأدلة العامة والمطلقة على ظواهرها من غير التفات إلى هذا الأصل. قال الشاطبي - في شأن هذا الأصل -: ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية لم يأمن الغلط، بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم. كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين"
(1)
.
(1)
الموافقات - ج 1، ص 71.
كتاب الأحكام
302 -
وَهْيَ بِمُقْتَضَى الْخِطَابِ الشَّرْعِي .. قِسْمَان لِلتَّكْلِيفِ أَوْ لِلْوَضْعِ
خطاب التكليف
303 -
فَمَا بِهِ التَّكْلِيفُ لِلأنَامِ
…
مُنْحَصِرٌ فِي خَمْسَةِ الأحْكَامِ
وفيها مسائل:
"
المسألة الأولى
"
304 -
إِنَّ الْمُبَاحَ تَرْكُهُ كَفِعْلِهِ
…
لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ بِحُكْمِ أَصْلِهِ
كتاب الأحكام
"كتاب الأحكام" الشرعية، واحدها حكم؛ وهو "خطاب الله - تعالى - المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف". "وهي" أي هذه الأحكام "بمقتضى" التكليف حال "الخطاب الشرعي" المذكور"قسمان "الأول: الأحكام التي "للتكليف" ويطلق عليها الأحكام التكليفية والخطاب الدال عليها يسمى خطاب التكليف "أو" بمعنى الواو لا يعني الثاني: الأحكام التي "للوضع" وتسمى الأحكام الوضعية والخطاب الدال عليها يسمى خطاب الوضع. وبيان ذلك يأتي مفصلا. "خطاب التكليف""فما" أي فالخطاب الذي "به" يقع "التكليف" ويحصل والتكليف: الإلزام بما فيه كلفة "للأنام" أي المكلفين "منحصر في خمسة الأحكام" وهي الواجب، والمندوب والحرام والمكروه والمباح. وبعضهم زاد عليها خلاف الأولى. وبعضهم العفو، والمشهور الذي عليه جماهير علماء المسلمين أنها خمسة الأولى "وفيها" يعني في بيانها وكشفها تذكر "مسائل" يفضي العلم بها إلى ذلك.
"المسألة الأولى" من تلك المسائل هي: "إن المباح" من حيث مباح - من غير اعتبار ما قد يعرض فيه من أحكام أخرى - "تركه كفعله" فليس بينهما تفاوت في نظر الشارع، إذ "ليس بمطلوب" فعله ولا تركه وذلك "بحكم" أي بمقتضى "أصله" الذي هو
305 -
بَلْ هُوَ مَوْكولٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ
…
كَالشَّانِ فِي مُكَفِّرَاتِ الْحَلِفِ
306 -
أَوْ لَازِمٌ مَا لَيْس فِي اسْتِطَاعَهْ
…
مِنْ كَوْنهِ مَعْصِيَةً وَطَاعَهْ
307 -
وَمَعَ ذَا لَوْ كَانَ شَرْعًا يُطْلَبُ
…
لَعُدَّ طَاعَةً بِهَا التَّقَرُّبُ
308 -
فَكَانَ لَازِمًا عَلَى الإِطْلَاقِ
…
نَذْرًا وَمَا يَلْزَمُ بِاتِّفَاقِ
"
فصل الزهد والزهد مطلوب بحكم القصد
"
أن المباح هو المخير فيه بين الفعل والترك من غير مدح ولا ذم، لا على الفعل ولا على الترك.
"بل هو موكول" أي مسند أمره "إلى المكلف" فإن شاء أن يفعله فعله، وإن شاء أن يتركه تركه "كالشأن" أي يعني الحكم الذي ورد "في مكفرات الحلف" اليمين، وهو الاختيار بين الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة، "أو لازم" يعني أنه إن لم يكن المباح موكولا إلى اختيار المكلف مع تحقق كونه مستوى الطرفين: الفعل والترك شرعا، فإنه يرد هنا لازم، وهو فعل "ما ليس في استطاعة" المكلف فعله ولا هو معقول في ذاته، وهذا اللازم الدال على استحالة آت "من كونه" إن قلنا أنه مطلوب الترك "معصية" وإن قلنا أنه مطلوب الفعل "طاعة" فيكون من فعله مطيعا بفعله، ومن تركه مطيعا بتركه من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه، وهذا غير صحيح باتفاق، ولا معقول في نفسه. "و" يزاد "مع ذا" هذا الدليل دليل آخر وهو أنه "لو كان" المباح "شرعا يطلب لعد طاعة" يكون "بها التقرب" لله رب العالمين فكان أي فصار"لازما" واجبا شرعا "على الإطلاق" إذا كان "نذرا" سواء نذر فعله أو تركه "وما يلزم" أي ليس يجب شرعا "باتفاق" أي بإجماع المسلمين. فناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره، وهو ترك ذلك المباح، وأنه كناذر فعله، وفي الحديث "من نذر أن يطيع الله فليطعه" فلو كان المباح طاعة للزم بالنذر، لكنه غير لازم، فدل على أنه ليس بطاعة.
"فصل الزهد والزهد مطلوب بحكم القصد"
ذهب الكعبي عبد الله بن أحمد البلخي الخراساني أحد أئمة الاعتزال إلى أن كل مباح عند النظر إليه بانفراد يظهر بأنه واجب باعتبار أنه ترك به الحرام. وباعتبار أنه حسن، وباعتبار أنه من أضداد الحرام. والأصوليون على رد هذا الرأي. متفقون.
309 -
وَمَا رَأَى الْكَعْبِيُّ فِي شَأْن الطَّلَبْ
…
لِلْفِعْلِ مَرْدُودٌ بِتَرْكِ مَا وَجَبْ
310 -
وَلَا يُقَالُ التَّرْكُ بَابُ الزُّهْدِ
…
وَالزُّهْدُ مَطْلُوبٌ بِحُكْمِ الْقَصْدِ
311 -
فَإنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا سَلَفْ
…
مِنْ فِعْلِهِ عَنِ الرَّسُولِ وَالسَّلَفْ
312 -
وَالزُّهْد إِنْ يُنْظَرْ لِحُكْمِ أَصْلِهِ
…
تَرْكُ الْمُبَاحِ جَائِزٌ لِمِثْلِهِ
313 -
وَمَعَ ذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا وَقَعْ
…
فِي مُطْلَقِ الْمُبَاحِ حَيْثُ مَا وَقَعْ
314 -
لَا فِي الذِي تَدْخُلُهُ سَوَابِقْ
…
وَلَا قَرَائِن وَلَا لَوَاحِق
قال الناظم: "ومما رأى الكعبي" وذهب إليه "في شأن" شمول "الطلب للفعل" المباح بناء على أن كل مباح به يحصل ترك الحرام، وترك الحرام واجب فيكون كل مباح واجبا إذن رأي "مردود" وغير مقبول وذلك لما يفضي إليه ذلك من القول "بـ" جواز "ترك الواجب" بناء على أن المباح يجوز تركه، فلو كان واجبا لكان ترك الواجب جائزا، وهذا باطل بالاتفاق "ولا" يصح أن "يقال: الترك" للملذات والشهوات هو "باب الزهد" الذي هو من الرغبة والحرص على الدنيا "والزهد مطلوب" شرعا "بحكم" ومقتضى "القصد" إليه، وإتيانه بنية التقرب به إلى الله - سبحانه - وإنما لا يصح هذا ولا يجري حكمه "فإنه" - الفاء تعليلية - أي لأنه "معارض بما سلف" ذكره يشير إلى ما ذكره صاحب الموافقات وتركه الناظم اختصارا "من فعله" أي المباح وإتيانه المنقول "عن الرسول" صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ويأكل اللحم، ويختص بالذراع، وكانت تعجبه، وكان يستعذب له الماء، وينقع له التمر والزبيب، ويتطيب بالمسك، ويحب النساء "و" كذاك عن "السلف" الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء المتقين "و" يزاد على هذا أن "الزهد أن ينظر لحكم" ومقتضى"أصله" وحقيقته التي هي الرغبة عن ملذات الدنيا، يلفى أنه ما هو إلا "ترك" فعل "المباح جائز" فعله وتركه "لـ" مباح آخر "مثله" فالإمساك الانكفاف عن الملذات المباحة أمر مباح جائز فعله وتركه. "ومع ذا" كله "الكلام" في أصل هذه المسألة "إنما وقع" وسيق "في مطلق المباح" أي فيما يطلق عليه لفظ المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين، "حيثما" أي في أي موضع "يقع" ويرد "لا" أن كلامنا "في" المباح "الذي تدخله سوابق" كالمال إذا سبق جمعه قصد محرم - هذا ما ظهر لي مثالا والله أعلم "ولا" في الذي تصبحه "قرائن" يعني أمورا مقارنة له كالخيل إذا ربطها صاحبها تعففا، ولكنه نسي حق الله في رقابها "ولا" في الذي تلحقه "لواحق"
315 -
وَإِنْ أَتَى مَا يَقْتَضِي مَعْنَى الطَّلَبْ
…
لِفِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ فَتَفْصِيلٌ وَجَبْ
316 -
وَهْوَ الْمُبَاحُ مِنْهُ مَا قَدْ يَخْدُمُ
…
سِوَاهُ أَوْ لَيْسَ كَذَاكَ يُعْلَمُ
317 -
فَإِنْ يَكُنْ يَخْدُمُ أَصْلًا أَوَّلَا
…
ضَرُورَةً أَوْ حَاجَةً أَوْ مُكْمِلَا
318 -
فَفِعْلُ ذَا لِأجْلِهِ مَطلُوبُ
…
مِنْ جِهَةِ الشَّارعِ أَوْ مَحْبُوبُ
319 -
وَمِثْلُهُ يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ
…
فِي مَعْرِضِ النُّعْمَى وَالامْتِنَانِ
كالمال إذا لم تؤد زكاته. فهذا كله ليس الكلام فيه - هنا - لأنَّهُ ليس من المباح المتساوي الطرفين، إذ قد ورد عليه ما يخرجه عن ذلك من الأمور المذكورة، فصار غير مباح من تلك الجهة.
"و" أما "إن أتى" أي جاء من كلام الشارع "ما يقتضي معنى الطلب" وهو الرجحان "لفعل" ما على تركه "أو "رجحان "ترك" لفعل ما "فـ" إن ذلك في بيانه "تفصيل واجب" ذكره لذلك "و" هذا التفصيل هو أن "المباح منه ما يخدم" باعتباره وسيلة "سواه" من الأحكام الأخرى، وهذا هو الضرب الأول "أو ليس كذلك" فلا يخدم شيئًا من ذلك، وهو بذلك "يعلم" ويعرف وهذا هو الضرب الثاني.
"فإن يكن" أي المباح "يخدم أصلا" مقصودا للشارع "أولا" قصدا أوليا، وهو - أي ذلك الأصل إما أن يكون "ضرورة" كإقامة الحياة، فإن كل ما يخدمها يكون مطلوبا من هذه الجهة، كالأكل والشرب ونحوهما، فإن أمر به فإنه ما أمر به أنه لخدمته هذا الأصل. وقد يكون "حاجة" ككل معاملة لا يتوقف عليها حفظ الضروريات الخمس كالقراض والمساقاة والسلم. وقد يكون "مكملا" لما ذكر كمكارم الأخلاق - ويعبر عن هذا بالتحسيني، "فـ" إن يكن - المباح - من هذا الصنف، وهو أن يخدم ما تقدم "فعل ذا" أي هذا المباح "لأجله" أي لأجل هذا الذي يخدمه "مطلوب" إن كان يخدم ما هو ضروري أو حاجي "من جهة الشارع أو محبوب" إن كان يخدم ما هو تكميلي "ومثله" أي مثل هذا الضرب من المباح "يجيء" مأمورا به "في القرآن" وذلك "في معرض" يعني في مساق ذكر "النعمى" - بضم النون - النعمة الإلهية على الخلق "والامتنان" بها، ومن ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 172] وقوله - سبحانه - {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]. هذا هو الضرب الأول من المباح الذي يخدم سواه وأما الثاني فإنه الذي يخدم ما ينقص
320 -
وَمَا يَكُونُ خَادِمًا مَا يَنْقُضُ
…
أَصْلًا فَإِنَّ فِعْلَ هَذَا مُبْغَضُ
321 -
وَلَيْسَ بِالأَحَقِّ كَالطَّلَاقِ
…
إِلَّا لِمَا عَارَضَ كَالشِّقَاقِ
322 -
وَإِنْ يَكُنْ لَيْسَ لَهُ مَخْدُومُ
…
فَفِعْلُهُ كَمِثْلِ ذَا مَذْمُومُ
323 -
لِأَنَّهُ لَهْوٌ وَشُغْلٌ شَاغِلُ
…
بِغَيْرِ مَا يُنَالُ مِنْهُ طَائِلُ
324 -
كِلَاهُمَا مُسْتَنِدٌ لِلْخَبَرِ
…
وَيَقْتَضِيهَا صَحِيحُ النَّظَرِ
أصلا شرعيا قال الناظم "و" أما "ما" أي المباح الذي "يكون خادما" أي وسيلة "ما" أي أمرا "ينقض" ويهدم "أصلا"من الأصول الثلاثة المعتبرة، وهي الضروريات - والحاجيات - والتحسينيات "فإن فعل هذا" وإن كان مباحا" مبغض" مكروه شرعا "وليس بالأحق" والأولى بالفعل، وذلك "كالطلاق" فإنه أبغض الحلال إلى الله، "إلا" أنه مباح "لـ" أجل "ما عارض" وطرأ من موجباته، وذلك "كالشقاق" بين الزوجين والخوف من عدم إقامة حدود الله.
"و" أما "إن يكن" مباح ما "ليس له مخدوم" سواء كان مطلوبا أو غير مطلوب "ففعله" أي هذا الصنف من المباح "كمثل ذا" الذي تقدم أنه مبغض، فهو "مذموم" شرعا "لأنَّهُ لهو" لعب "وشغل شاغل بغير ما ينال" أي يدرك ويحصل "منه طائل" أي أمر مفيد كالسعة والغنى والقدرة والفضل والعلو "كلاهما" أي الحكمين المذكورين في المباح الذي يخدم النقص والهدم، والمباح الذي يخدم شيئًا "مستند للخبر" أما الأول فهو مستند لقوله صلى الله عليه وسلم:"أبغض الحلال عند الله الطلاق" وأما الثاني فمستند لقوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37] وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل لهو باطل إلا ثلاثة وهي اللعب مع الزوجة وتأديب الفرس واللعب بالسهام" أو كما قال عليه الصلاة والسلام وما نقل عن السلف أنهم كانوا يكرهون أن يرى الرجل في إصلاح معاش ولا في إصلاح معاد. لأنَّهُ قطع للزمان فيم لا تترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية. وغير ذلك مما هو وارد في هذا الشأن من النصوص الشرعية والآثار.
"و" كذلك "يقتضيهما" يعني يحكم بصحتهما ويوجبهما "النظر" العقلي السليم، لأن في ذلك كله دفعا يعني للمصلحة وجلبا للمفسدة، وهو ما تحكم العقول السليمة بذمه،
325 -
وَحَيْثُمَا قَدْ جَاءَ ذَمُّ الدُّنْيَا
…
فَهْوَ بِهَذَا اللَّحْظِ دُونَ ثُنْيَا
326 -
ثَمَّ لِذَا التَّقْرِيرِ أَصْلٌ انْبَنَى
…
عَلَيْهِ حُكْمُهُ سَأُبْدِيهِ هُنَا
"
وهو المسألة الثَّانِيَةُ
"
327 -
أَمَّا اخْتِلَافُ جَانِبِ المُبَاحِ
…
بِالجُزْءِ وَالكُلِّ فَذُو إِيضَاحِ
328 -
فَكُلُّ مَا كَانَ بِحُكْمِ الأَصْلِ
…
بِحَسَبِ الجُزْءِ مُبَاحَ الفِعْلِ
329 -
يَكُونُ بِالكُلِّ مِنَ المَطْلُوبِ
…
إِمَّا عَلَى النَّدْبِ أَوِ الوُجُوبِ
وقبحه "وحيثما قد جاء ذم الدنيا" وذم التمتع بلذاتها "فـ" إن المقصود بذلك "هو "ما كان "بهذا" أي مع هذا "اللحظ" أي اعتبار المذكور - وهو ما خلا من أي خدمة تخدم أصلا مطلوب شرعا، أو الخلو من أي شيء "دون ثنيا" أي استثناء، فإنه لم يذم من الدنيا والتمتع بلذاتها إلا ما كان من هذا الذي ذكر. وكل ما كان كذلك فإنه مذموم شرعا بدون استثناء. وكل ما ليس كذلك فهو غير مذموم بلا استثناء أيضًا "ثم لذا" أي لهذا "التقرير" الذي أوردناه في شأن هذا التقسيم للمباح زيادة على ما تقدم ذكره من الأدلة النصية والاقتضاء النظري "أصل" معتمد في هذا الشأن فـ "انبنى عليه حكمه" أي حكم هذا التقرير وهذا الأصل "سأبديه" أي سأظهره "هنا" في هذا الموضع و "هو "الذي سأذكره في المسألة الموالية.
"المسألة الثانية"
من مسائل الأحكام التكليفية الخمسة وهي مسألة كون الإباحة بحسب الكلية والجزئية تتجاذبها الأحكام البواقي وفي ذلك يقول الناظم:
"أما اختلاف جانب" يعني حكم "المباح" باعتبار "الجزء والكل فـ" هو أمر "ذو إيضاح" أي ظهور، فهو بين جلي، "فكل ما" أي فكل فعل "يكون بحكم الأصل" الشرعي فيه، "بحسب الجزء" أي باعتبار كونه جزءا "مباح الفعل" والترك فإنه قد "يكون بـ" حسب "الكل من المطلوب" فعله شرعا، "إما على" جهة "الندب أو "جهة "الوجوب" وكذلك قد يكون مباح بالجزء منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع، فهذه أربعة أقسام: أما القسم الأول - وهو المباح بالجزء المندوب بالكل فهو
330 -
مِثْلُ التَّمَتُّعَاتِ بِالمَآكِلِ
…
وَالبَيْعِ وَالجِمَاعِ لِلْحَلَائِلِ
331 -
أَوْ قَدْ يُرَى بِالكُلِّ عَنْهُ قَدْ نُهِي
…
كَرَاهَةً أَوْ لِلْحَرَامِ يَنْتَهِي
332 -
مِثْلُ التَّنَزُّهَاتِ فِي البِطَاحِ
…
أَوْ فِعْلِ قَادِحٍ مِنَ المُبَاحِ
333 -
وَفِعْلُ مَا بِجُزْءٍ فِي المَنْدُوبِ
…
يَكُونُ بِالكُلِّ عَلَى الوُجُوبِ
" مثل التمتعات" الانتفاعات والتلذذات وقد أتى بصيغة الجمع - هنا - تبعا لما أضيفت له وهو المآكل فكأنه رأى أن التمتع يتنوع بتنوع المأكول ومثل المآكل والمشارب والمراكب والملبوسات فإن ذلك كله مباح بالجزء مندوب بالكل وأما القسم الثاني وهو ما يكون مباحا بالجزء واجبًا بالكل فهو مثل "البيع" والأكل والشرب "والجماع للحلائل" جمع حليلة وهي الزوجة، فهذا كله وما أشبهه جائز بالجزء، فاختيار أحد هذه الأشياء على ما سواها جائز؛ وكذا تركها في بعض الأحوال والأزمان أو ترك بعض الناس لها، فكل ذلك جائز، وأما لو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك، فإن ذلك ترك لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول، فيه واجبًا بالكل. وأما القسم الثالث والرابع وهو ما يكون مباحا بالجزء مكروها بالكل أو حراما، فقد أورده قائلا:"أو قد يرى" المباح بالجزء "بالكل عنه قد نهى" وذلك النهي قد يكون لد "كراهة أو التحري ينتهي" مقتضاه والذي نهى عنه نهي كراهة هو مثل "التنزهات في" البساتين "والبطاح" - بكسر الباء - مفرده البطاح وهو المسيل الواسع فيه دقاق الحصى - فالتنزه في ذلك كله ومثله سماع أصوات الطير مباح بالجزء مكروه بالكل، وأما المباح بالجزء المحرم بالكل، فقد أورد مثاله بقوله "أو فعل فادح" في العدالة "من المباح" وذلك كالأكل في السوق ودخول الحمام لغير ضرورة فإنه قادح في العدالة موجب لصفة الفسق.
قال الغزالي: إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، كما أن المداومة على الصغيرة قد تصيرها كبيرة.
في أن المندوب بالجزء قد يكون واجبًا بالكل. قال الناظم: "وفعل مما" هو "بالجزء" معدود "في المندوب" قد "يكون بـ" حسب الكل على حكم "الوجوب" وذلك كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها وصلاة الجماعة وصلاة العيدين والفجر والعمرة وكذا سائر النوافل والرواتب، فإنها مندوب إليها بالجزء ولو فرض تركها جملة يحرم التارك لها. وإن تمالأ قوم على ترك الأذان فإنهم يقاتلون على ذلك. في أن
334 -
وَالفِعْلُ لِلْمَكْرُوهِ بِالجُزْءِ يُرَى
…
بِالكُلِّ مَمْنُوعًا إِذَا مَا اعْتُبِرَا
335 -
وَمَا يَكُونُ وَاجِبًا مِنْ أَصْلِ
…
يَجِبُ بِالجُزْءِ مَعًا وَالكُلِّ
336 -
وَحُكْمُهُ بِحَسَبِ الكُلِّيَّةْ
…
مُخْتَلِفٌ وَحَسَبِ الجُزْئِيَّةْ
المكروه بالجزء يكون حراما بالكل قال الناظم: "والفعل" أمر "للمكروه" شرعا قد "يرا" أي يصير ويكون "بـ" حسب واعتبار "الكل" أمر ممنوعا أي محرما شرعا "إذا ما اعتبرا" ذلك الكل ونظر في حقيقة حاله، وذلك كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة، وسماع الغناء المكروه فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة لم تقدح في العدالة، فإن داوم عليها قدحت في عدالته. وذلك دليلٌ على المنع بناء على أصل الغزالي. قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج: إن كان يكثر منه فيشغله عن الجماعة لم تقبل شهادته، وكذلك اللعب الذي يخرج به عن هيئة أهل المروءة، والحلول بمواطن التهم لغير حاجة، وما أشبه ذلك.
في أن الواجب بالجزء - إذا كان مرادفا للفرض - يكون واجبا بالكل، إلا أن حكم الكل في ذلك أقوى من الجزء قال الناظم:"وما" يعني وكل فعل "يكون واجبًا" فرضا "من أصل" فلم يكن الوجوب طارئا عليه، وإنما كان حكمه الشرعي الأصلي هو الوجوب، فإنه "يجب بالجزء" كما تقدم ذكره "معا والكل""و" لكن"حكمه" أي حكم ذلك الواجب "بحسب" واعتبار "الكلية مختلف و" أي مع "حسب" اعتبار "الجزئية" وهذا بين أما من حيث الجواز، فإنه إذا كانت الظهر المعينة فرضا على المكلف يأتي بتركها. ويعد مرتكب كبيرة. فينفد عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله، فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك. وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة مع من كثر ذلك منه ودوام عليه، وما أشبه ذلك. فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها.
وأما بحسب الوقوع فقد جاء ما يقتضي ذلك كقوله عليه السلام في تارك الجمعة: "من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه" فقيد بالثلاث كما ترى وقال في الحديث: "من تركها استخفافا بحقها أو تهاونا" مع أنه لو تركها مختارا غير متهاون ولا مستخف، لكان تاركا للفرض، فإنما قال ذلك لأن مرات أولى في التحريم، وكذلك لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون. وانبنى على ذلك في الفقه أن من تركها ثلاث مرات
337 -
وَمَنْ يَرَى الوَاجِبَ لَيْسَ الفَرْضا
…
يَكُونُ بِالكُلِّ لَدَيْهِ فَرْضَا
338 -
وَعِنْدَ ذَا يُقَالُ إِنَّهُ اخْتَلَفْ
…
بِالكُلِّ وَالجُزْءِ عَلَى مَا قَدْ سَلَفْ
339 -
وَهَكَذَا يُقَالُ فِي المَمْنُوعِ
…
مِنْ جِهَةِ الجَوَازِ وَالوُقُوعِ
من غير، لم تجز شهادته. قاله سحنون.
وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إذا تركها مرارا لغير عذر لم تجز شهادته. قاله سحنون. وكذلك يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك: إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة. فإن تمادى عليه وأكثر منه كان قادحا في شهادته، وصار في عداد من فعل كبيرة؛ بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة.
هذا كله عند من يرى أن الواجب مرادف للفرض.
"و" هذا كله عند "من يرى" أن "الواجب ليس" يرادف "الفرض" كالحنفي الذي يرى أن الفرض ما ثبت بالدليل القطعي والواجب ما ثبت بالدليل الظني، فالواجب عنده دون الفرض، فإنها يكون الواجب "بالكل" لا بالجزء "عنده فرضا" كمثل ما تقدم تقريره في المندوب "و" عند حصول "ذا" أي هذا الذي ذكر يقال أنه أي الواجب اختلف حكمه "بـ" حسب واعتبار "الكل" وحكمه بحسب واعتبار "الجزء" بناء وسيرا "على ما قد سلف" ذكره من أن المندوب بالجزء يكون واجبًا بالكل.
"وهكذا" أي ومثل هذا الذي قيل في الواجب - الفرض - بالجزء "يقال" أيضًا "في الممنوع" أي المحرم شرعا فالمحرم بالجزء يكون محرما بالكل إلا أن حكمه بحسب الجزء والكل، وهذا بين سواء "من جهة الجواز" العقلي الذي صورته هنا أن المداومة تأثيرها أكبر من تأثير عدم المداومة، لأن الذنب قد ينضاف إلى الذنب فيعظم بسبب الإضافة.
وكذلك من جهة "الوقوع" فإنه وردت نصوص شرعية فيها الفرق بين حكم الإصرار وحكم عدمه من ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)} [آل عمران: 135].
في أن هذا الذي تقرر هنا أساسه ودليله الذي بنى عليه هو الاستمرار. قال الناظم:
340 -
وَكُلُّ مَا قُرِّرَ فِي ذَا النَّوْعِ
…
دَلِيلُهُ اسْتِقْرَاؤُهُ فِي الشَّرْعِ
341 -
قَدْ يُدَّعَى اتِّفَاقُ الأَحْكَامِ
…
وَإِنْ كَانَ بِالأَفْعَالِ اخْتِلَافٌ يَقْتَرِنْ
"
المسألة الثَّالِثَةُ
"
342 -
وَأُطْلِقَ المُبَاحُ لِلْمُخَيَّرِ
…
فِيهِ وَمَا لَا بَاسَ فِيهِ يَعْتَرِي
" وكل ما قرر" من أحكام في "هذا النوع" من الجهات التي ينظر فيها إلى الأحكام، وهو جهة الكلية والجزئية "دليله" هو "استقراؤه" وتتبعه "في" أدلة "الشرع" ونصوصه؛ فكل من تأملها واستقرأها سيدرك على قطع أن الجزء ليس كالكل في الحكم الشرعي بل بينهما فرق كما تقدم ذكره، كائنا من كان ذلك الحكم.
في الرد على من يدعى استواء الجزء والكل في الحكم قال الناظم: "قد يدعى اتفاق الأحكام" الشرعية في ذاتها، "وإن" كان بالأفعال الموجبة لها "اختلاف" من جهة الكلية والجزئية "يقترن" ويجتمع، أما في المباح فمثل كل قتل مؤذ بالنسبة إلى آحاد الناس خف الخطب؛ فلو فرضنا تمالؤ الناس كلهم على الترك، داخلهم الحرج من وجوه عدة. والشرع طالب لدفع الحرج قطعا. فصار الترك منهيا عنه نهي كراهة إن لم يكن أشد. فيكون الفعل إذا مندوبا بالكل إن لم نقل واجبًا. وهكذا العمل بالقراض وما ذكر معه. فلا استواء إذا بين الكلي والجزئي فيه وبحسبك في المسألة أن الناس لو تمالؤوا على الترك لكان ذريعة إلى هدم معلم شرعي. وناهيك به. نعم قد يسبق ذلك النظر إذا تقارب ما بين الكلي والجزئي أما إذا تباعد ما بينهما فالواقع ما تقدم. ومثل هذا النظر جار في المندوب. وأما ما ذكره في الواجب والمحرم فغير وارد" فإن اختلاف الأحكام في الحدود ظاهر وإن اتفقت في بعض منها. وما ذكره الغزالي فلا يسلم، بناء على هذه القاعدة، وإن سلم ففي العدالة وحدها لمعارض راجح وهو أنه لو قدح دوام ذلك فيها لندرت العدالة، فتعذرت الشهادة.
"المسألة الثالثة"
في أن المباح يطلق على معنيين: أحدهما: المخير في فعله وتركه. ثانيها: ما لا بأس فيه. قال الناظم: "وأطلق المباح للمخير" يعني على المخير "فيه" بين الفعل والترك وهذا هو المعنى الأول والثاني: إطلاقه على "ما لا بأس فيه"من الفعال، فهذا المعنى - أيضًا - "يعتري"
343 -
وَهْوَ عَلَى الْجُمْلَةِ ذُو أَقْسَامِ
…
فَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِذِي اسْتِخْدَامِ
344 -
وَمِنْهُ مَا يَخْدُمُ إِمَّا مَا أَتَى
…
مُخَيَّرًا فِيهِ بِحَيْثُ ثَبَتَا
345 -
إِمَّا لِمَا يُطْلَبُ تَرْكًا أَوْ لِمَا
…
يُطْلَبُ فِعْلُهُ وَذَا تَقَدَّمَا
346 -
وَحَاصِلٌ أَنَّ الْمُبَاحَ الْأَصْلِ
…
وُجُودُهُ بِالْجُزْءِ لَا بِالْكُلِّ
"
المسألة الرابعة
"
347 -
وَكُلُّ مَا يُقَالُ فِيهِ لَا حَرَجْ
…
فَهْوَ عَنِ التَّخْيِيرِ فِيهِ قَدْ خَرَجْ
348 -
وَذَا مِنَ الشَّارعِ قَصْدٌ بَيِّنُ
…
وَالْفَارِقُ التَّصْرِيحُ وَالتَّضْمِينُ
لفظ المباح "وهو" أي المباح "على الجملة ذو أقسام" أربعة باعتبار اتصافه بالخدمة وعدمها، "فمنه" أي المباح "ما ليس بذي استخدام" في تحصيل أمر مطلوب ولا في تحصيل منهي عنه -وهذا أحد هذه الأقسام- "ومنه" كذلك "ما يخدم" يعني ما هو خادم، فإن كان خادما فهو "إما" أن يخدم "ما" يعني أمرا "أتى" في الشرع "مخيرا فيه" بين الفعل والترك "بحيث" أي في أي محل "ثبت" فيه ووجد -وهذا هو القسم الثاني- "وإما" أن يكون خادما "لما يطلب تركا" يعني لما يطلب تركه -وهذا القسم الثالث- "أو" يكون خادما "لما يطلب فعله وذا" قد "تقدما" -ألفه للإطلاق- ذكره وأمثلته -وهذا القسم الرابع "وحاصل" ما يؤخذ من هذا كله هو "أن المباح الأصل" يعني الذي بقي على أصل حكمه الشرعي "وجوده" إنما يكون "بـ" حسب "الجزء لا بـ" حسب "الكل" لما تقدم من أن أي مباح باعتبار وحسب كله تعتريه الأحكام الأخرى.
"المسألة الرابعة"
في أن المباح إذا قيل فيه لا حرج، فإنه ليس تحت التخيير بين الفعل والترك.
قال الناظم: "وكل ما" هو مباح "يقال فيه" من جهة الشرع "لا حرج" أو جناح "فهو عن التخيير فيه" بين الفعل والترك "قد خرج" لأن رفع الجناح والحرج والإثم لا يدل على التسوية، بل يشعر بأفضلية الطرف الآخر "وذا" وهذا الحكم "من الشارع قصد" أي مقصود "بين" أي ظاهر، فمن تأمل النصوص الشرعية التي ورد فيها ذلك أدرك هذا على بيان "والفارق" بين ما جاء فيه عن الشارع وهو لا حرج في فعله وبين ما جاء فيه عنه التخيير هو "التصريح والتضمين" والذي يحصل كل واحد منهما إما
349 -
بِالإِذْنِ فِي التَّخْيِيرِ أَوْ رَفْعِ الْحَرَجْ
…
بِعَكْسِ وَاجِدٍ فِي الآخَرِ انْدَرَجْ
"المسألة الخامسة"
350 -
وَإِنْ مُبَاحٌ بِاسْمِهِ يَتَّصِفُ
…
فَبِاعْتِبَارِ حَظِّ مَنْ يُكَلَّفُ
351 -
لَا سِيَمَا الذِي لِرَفْعِ الْإِثْمِ
…
فَإِنَّهُ أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ
352 -
لِأَنَّ أَخْذَهُ بِغَيْرِ الطَّلَبِ
…
فَصَارَ فِي الْحَظِّ قَوِيَّ السَّبَبِ
" بالإذن في التخيير أو" بـ "رفع الحرج" فيه أي الإثم، فما ورد فيه التخيير بين الفعل والترك، فهو صريح في الإذن في الفعل والترك، ومتضمن لنفي الجناح والحرج عن الفعل فهو لازم له فقط "بعكس واجد" أي بعكس ما هو موجود من التخيير "في الآخر" وهو ما ورد فيه نفي الجناح والحرج فهو -التخيير- إنما قد "اندرج" فيه لأنه ليس صريحا إلا في رفع الإثم والجناح، فهو مقصود منه بالذات، وإن كان يلزمه الإذن في الفعل والترك، وإنما كان يلزمه لأنه من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
"المسألة الخامسة"
(المسألة الخامسه)
من مسائل كتاب الأحكام هذا وهي مسألة:
أن المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط، فإن خرج عن ذلك القصد كان له حكم آخر.
قال الناظم: "وإن مباح باسمه" هذا "يتصف" حقيقة "فـ" إن ذلك إنما هو "باعتبار حظ من يكلف" أي المكلف به "لا سيما" المباح "الذي" جاء الدليل الشرعي صراحة "لرفع الإثم" فيه "فإنه" أي هذا الصنف "أولى" وأحق "بهذا الحكم" المذكور "لأن أخذه" أي هذا المباح إنما يكون "بغير الطلب" أي الأمر والنهي، لأنه لا يقصد فيه من جهة الشرع لا بإقدام ولا إحجام، فهو إذا من هذا وجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك ولا حاجي ولا تكميلي من حيث هو جزئي "فصار في" نيل "الحظ" وقضاء وطر المكلف "قوي السبب" والاتصال، وذلك كالتنزه في البساتين وإنشاد الشعر.
"
المسألة السادسة
"
353 -
تَعَلُّقُ الأَحْكَامِ بِالمَقَاصِدِ
…
فِعْلًا وَتَرْكًا صَحَّ فِي المَوَارِدِ
354 -
لِأَجْلِ أَنَّ الحُكْمَ غَيْرُ لَازِمِ
…
لِغَيْرِ قَاصِدٍ لَهُ كَالنَّائِمِ
355 -
وَمَعَ ذَا يَكُونُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا
…
لَيْسَ يُطَاقُ وَهْوَ مَا قَدْ عُلِمَا
356 -
وَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ بِالأَطْفَالِ
…
وَلَا بِمَنْ أَشْبَهَهُمْ فِي الحَالِ
357 -
فِي كُلِّ مَا قَدْ أُلْزِمُوا فِي الشَّرْعِ
…
فَإِنَّ ذَاكَ مِنْ خِطَابِ الوَضْعِ
"
المسألة السابعة
"
" المسألة السادسة"
"المسألة السادسة" من هذه المسائل مسألة كون الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد.
قال الناظم: "تعلق الأحكام" الشرعية "بالمقاصد" والنيات "فعلا وتركا" أي في الفعل والترك، "صح" اعتباره والعمل بمقتضاه وذلك لما "في الموارد" الشرعية أي الأدلة الشرعية من الحكم بهذا، ومن ذلك ما ثبت أن الاعمال بالنيات، وهو أصل متفق عليه في الجملة، ثم "لأجل أن الحكم" الشرعي"غير لازم لغير قاصد له" أي لذلك الحكم، وإن فعل ما يترتب عنه من فعل، ذلك "كالنائم" والمجنون والمي، فهؤلاء جميعا رفع عنهم القلم لتخلف القصد منهم "ومع ذا" يزاد دليلٌ آخر وهو أنه قد "يكون" تكليف من لا قصد له "من تكليف ما ليس يطاق" لا يقدر عليه "وهو ما" أي أمر "قد علما" أنه غير واقع في الشريعة "ولا اعتراض" يرد "فيه" أي في هذا الذي ذكر "بالأطفال ولا بمن أشبههم في" هذا "الحال" وهو تخلف القصد، كالمجانين "في كل" هذا بدل اشتمال من قوله "بالأطفال" وبذلك يكون معنى الكلام ولا اعتراض بكل "ما قد ألزموا" أي الأطفال به "في الشرع" من الأحكام كالغرامات والزكاة "فإن ذلك" الذي ألزموا به ليس من خطاب التكليف الذي كلامنا فيه وإنما هو "من خطاب الوضع" وقد تقرر أن خطاب الوضع لا يتوقف جريان أحكامه على القصد، الإرادة، بخلاف خطاب التكليف.
"المسألة السابعة"
"المسألة السابعة" في أن المندوب بالاعتبار العام خادم للواجب قال الناظم:
358 -
إِذَا اعْتَبَرْتَ مَا لَهُ الشَّرْعُ نَدَبْ
…
أَعَمَّ فَهْوَ خَادِمٌ لِمَا وَجَبْ
359 -
مُمَهِّدًا أَوْ مُكْمِلًا أَوْ مُذْكِرَا
…
مِنْ جِنْسِهِ كَالنَّفْلِ حَيثُمَا يُرَى
360 -
أَوْ غَيْرِهِ كَالقَصِّ لِلْأَظْفَارِ
…
وَالطِّيبِ وَالتَّعْجِيلِ لِلْإِفْطَاِر
361 -
وَهَكَذَا المَكْرُوهُ لِلْحَرَامِ
…
كَمِثْلِهِ فِي هَذِهِ الأَحْكَامِ
362 -
ثُمَّ مِنَ الوَاجِبِ حِينَ يُقْصَدُ
…
وَعَكْسِهِ وَسِيلَةٌ وَمَقْصَدُ
" إذا اعتبرت" حال "ما له" صاحب "الشرع ندب" أي طلبه طلبا غير جازم اعتبارا "أعم" بحيث ينظر إليه نظرا كليا "فـ" إنه يلفى و"هو خادم للواجب" لأنَّهُ أي المندوب إما أن يكون "ممهدا" أي مقدمة له - أي للواجب - وإما أن يكون "مكملا" - بضم الميم وسكون الكاف - له وإما أن يكون "مذكرا" - بضم الميم وسكون الذال المعجمة - أي مذكرا به، ثم أن ذلك المندوب قد يكون "من جنسه" أي الواجب وذلك "كالنفل" الذي يكون مع فرضه "حيثما يرى" كنوافل الصلوات مع فرائضها، ونوافل الصيام والصدقة والحج وغير ذلك مع فرائضها "أو" يكون من "غيره" أي غير جنسه، وذلك "كالقص للأظفار" وطهارة الخبث في الجسد والثوب والمصلى والسواك "و" أخذ "الطيب" والزينة مع الصلاة "وتعجيل للإفطار" وتأخير السحور وكف الإنسان عما لا يعني مع الصيام، وما أشبه ذلك. فإن كان المندوب كذلك فهو لاحق بقسم الواجب بالكل، وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبا بالكل والجزء.
فصل في أن المكروه بالنسبة للحرام كالمندوب بالنسبة للواجب من هذه الجهة - جهة الخدمة والإلحاق - قال الناظم: "وهكذا " أيضًا "المكروه" بالنسبة "للحرام" إذا اعتبرته كذلك - أي اعتبارا عاما - فهو "كمثله" أي المندوب "في هذه الأحكام" المتقدمة، فإن المكروه إذا اعتبرته اعتبارا أعم وجدته خادما للحرام لأنَّهُ إما مقدمة له أو تذكار به على منوال ما تقرر إيراده في حال المندوب مع الواجب، والمكروه إذا كان كذلك - أي خادما للحرام على هذا الوجه فهو ملحق بالحرام. "ثم" إن "من الواجب" الشرعي "حين يقصد" أي حين يكون مقصودا للشارع "و" من "عكسه" وهو الحرام ما هو "وسيلة" وذلك كطهارة الحدث، وستر العورة، واستقبال القبلة مع الصلاة بالنسبة للواجب وكالنظر إلى الأجنبية والخلوة بها بالنسبة للحرام، "و" منه ما هو "مقصد" بذاته كالصلاة
"
المسألة الثامنة
"
363 -
وَكُلَّ مَا الشَّرْعُ لَهُ قَدْ حَدَّا
…
وَقْتًا مُعَيَّنًا بِهِ يُؤَدَّى
364 -
فَمُوقِعٌ لَهُ بِذَاكَ الوَقْتِ
…
يَأْمَنُ مِنْ مَذَمَّةٍ وَمَقْتِ
365 -
كَانَ عَلَى الوَجِوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ
…
وَإِنَّمَا يَلْحَقُ حُكْمُ العَتْبِ
366 -
لِكُلِّ مَنْ أَخَّرَ ذَاكَ مُطْلَقا
…
عَنْ وَقْتِهِ مُتَّسِعًا أَوْ ضيِّقَا
"
المسألة التاسعة
"
بالنسبة للفرض، والزنا بالنسبة للحرام.
"المسألة الثامنة" في أن ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعا، ولا عتب ولا ذم، إنما العتب والذم في إخراجه عن وقته سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا.
قال الناظم: "وكل ما" أي وكل أمر عبادي "الشرع له" يعني لفعله "قد حدا" الألف للإطلاق و"قتا معينا به" أي فيه "يودى" أي يفعل أداء "فموقع" - بضم الميم وكسر القاف - اسم فاعل من أوقع بمعنى فعل "له بذاك" أي في ذاك "الوقت" المحدود المحدد له "يأمن" أي يكون في أمن "من مذمة" شرعية تلحق "ومقت" بغض إلا هي والمقت أشد البغض سواء "كان" الفعل مطلوبا "على" سبيل "الوجوب" كالصلاة المكتوبة "أو" كان مطلوبا "للندب" يعني على سبيل الندب كالضحى وصلاة العيد "وإنما يلحق" أي يدرك "حكم العتب" أي الذم "لكل" يعني كلا واللام مقحمة زائدة للتقوية "من أخر ذاك" الفعل "مطلقا عن وقته" سواء كان ذلك الوقت "متسعا أو ضيقا" وهذا بيان معنى قوله: "مطلقا".
"المسألة التاسعة"
"المسألة التاسعة" في أن الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين: حقوق محدودة شرعا. وحقوق غير محدودة شرعا.
367 -
وَالحَقُّ فِي الشَّرعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ
…
حَقٌ لِمَخْلُوقٍ كَمِثْلِ الدَّيْنِ
368 -
وَآخَرٌ للهِ كَالصِّيَامِ
…
وَكُلِّ مَا حُدَّ مِنَ الأَحْكَامِ
369 -
فَإِنَّهُ دَيْنٌ عَلَى المُكَلِّفِ
…
وَلَازِمٌ ذِمَّتَهُ حَتَّى يَفِي
370 -
إِذْ مَا يُحَدُّ وَقْتًا أَوْ يُقَدَّرُ
…
بِالقَصْدِ لِلْأَدَاءِ فِيهِ مُشْعِرُ
371 -
وَغَيْرُ مَا قَدْ حُدَّ فَهْوَ يُطْلَبُ
…
وَمَا لَهُ فِي ذِمَّةٍ تَرَتُّبُ
قال الناظم: "والحق" الواجب على المكلف "في الشرع على ضربين" أي نوعين - باعتبار المستحق - أحدهما "حق" ثابت "لمخلوق" وذلك "كمثل الدين" بفتح الدال، والنفقة الواجبة والنصيحة "وآخر" هو الحق الذي "لله" تعالى على خلقه وذلك "كالصيام" والحج "وكل ما حد" وضبط على قدر معين أو هيئة مخصوصة. وهذا الضرب الأول باعتبار التحديد والتعيين "فإنه دين على المكلف ولازم ذمته" لا ينفك عنه طلبه "حتَّى يفي" ويؤدي ما عليه من ذلك "إذ ما يحد وقتا" يعني ذلك لأجل أن ما حدد الشارع وقتا لفعله "أو يقدر" يعني: أو ما هو مقدر شرعا بقدر معين "بالقصد للأداء" لذلك المعين "مشعر" إذ ذاك القصد من فوائد ذلك التحديد والتعيين الظاهرة. "و" أما الضرب الثاني بالاعتبار المذكور وهو "غير ما قد حدّ" شرعا وذلك كالصدقات وسد الخلات وسائر فروض الكفايات فهو يطلب الإتيان به فقط "وما له في ذمة" المكلف "ترتب" ودوام لزوم طلب بلا انفكاك، إنما لم يترتب ذلك في الذمة لأمور:
أحدها: أنها لو ترتبت في ذمة المكلف لكانت محدودة معلومة، إذ المجهول لا يترتب في الذمة، ولا يعقل نسبته إليها فلا يصح أن يترتب دينا. وبها استدللنا على عدم الترتب، لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار، والتكليف بأداء ما لا يعرف له مقدار تكليف بمتعذر الوقوع وهو ممتنع سمعا. ومثاله الصدقات المطلقة، وسد الخلات، ودفع حاجات المحتجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات. فإذا قال الشارع {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] أو قال اكسوا العاري أو: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 195] فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها، من غير تعيين مقدار. فإذا تعينت حاجة؛ تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص. فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه وسد خلته؛ بمقتضى ذلك الإطلاق؛ فإن أطعمه بما لا يرفع عنه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الجوع، فالطلب باق عليه، ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف يختلف باختلاف السّعات والخلَّات في ذلك المعين: فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع، فيحتاج إلى مقدار من الطعام، فإذا تركه حتَّى أفرط عليه، احتاج إلى أكثر منه. وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا، وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه، فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به، فإذا زال الوقت الحاضر، صار في الثاني مكلفا بشي آخر لا بالأول، أو سقط عنه التكليف، إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة.
والثاني: أنه لو ترتب في ذمته أمر لخرج إلى ما لا يعقل، لأنَّهُ في الوقت من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها، فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا، ثم لم يفعل، فترتب في ذمته ثم جاء زمان وهو على حاله أو أشد، فإما أن يقال إنه مكلف أيضًا بسدها أولا، والثاني باطل، إذ ليس هذا الثاني بأولى بالسقوط من الأول، لأنَّهُ إنما كلف لأجل سد الخلة، فيرتفع التكليف والخلة باقية. هذا محال. فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت، وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد، قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية، وهذا غير معقول في الشرع.
والثالث: أن هذا الواجب يكون عينا أو كفاية. وعلى كل تقدير يلزم إذا لم يقم به أحد - أن يترتب إما في ذمة واحد غير معين، وهو باطل لا يعقل فيما في ذمم جميع الخلق مقسطا، فكذلك، للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد، أو غير مقسط، فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف درهم. وهو باطل كما تقدم.
والرابع: لو ترتب في ذمته لكان عبثا، ولا عبث في التشريع، فإنه إذا كان المقصود دفع الحاجة فعمران الذمة ينافي هذا القصد" إذ المقصود إزالة هذا العارض، لا غرم قيمة العارض، فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب، كان عبثا غير صحيح. لا يقال إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها، إذ المقصود بها سد الخلات وهي تترتب في الذمة. لأنا نقول: نسلم أن المقصود ما ذكرت، ولكن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها، ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره، بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب، فالمال غير مطلوب لنفسه فيها، فلو ارتفع العارض بغير شيء لسقط الوجوب، والزكاة ونحوها لابد من بذلها وإن كان محلها غير مضطر إليها في نفس الوقت، لذلك عينت. وعلى هذا الترتيب في بدل المال للحاجة، يجري حكم سائر أنواع هذا القسم.
"
المسألة العاشرة
"
372 -
يَصِحُّ بَيْنَ الفَرْضِ وَالحَرَامِ
…
لِلْعَفْوِ رُتْبَةٌ سِوَى الأَحْكَامِ
373 -
دَلِيلُهُ الثُّبُوتُ فِي المَنْقُولِ
…
مِنْ خَبَرِ اللهِ أَوِ الرَّسُولِ
374 -
مِثْلُ وَيعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وَعَفَا
…
وَمَا مِنَ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ اقْتَفَى
" المسألة العاشرة"
وفي بيان ذلك يقول الناظم: "يصح" شرعا ويقع "بين الفرض" - هكذا في النسخة التي بأيدينا - ولعله يريد الحلال بدلالة مقارنته بالحرام، إلا أن الفرض والواجب وإن كان كل حلالا، فإن من الحلال ما ليس واجبًا، ولذلك فإنه لو قال:"يصح بين الحل" لكان أبين "والحرام للعفو" وهو ما لا يحكم عليه بأنه حلال أو حرام "رتبة سوى" رتب "الأحكام" الخمسة التي هي الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح "دليله" أي دليلٌ ما ذكر من ثبوت هذه الرتبة "الثبوت لا لها الوارد "في المنقول من خبر" يعني قول "الله" تعالى في كتابه، ومن ذلك قوله - سبحانه - {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: 68]. وقوله - عز وجل -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101] "أو" - بمعنى الواو - أي "وخبر الرسول" صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها". و"مثل ويعفوا عن كثير" في قوله - تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30] وهذه الآية كما ترى - مسوقة لبيان سبحانه عفو غفور بعد تحقق ما يستوجب العقاب على الآثمين. وهذا ليس الكلام فيه، وإنما هو فيما لا يجب العقاب أصلا، وهو المقصود هنا بالعفو الذي مفاده التجاوز والصفح بعد تحقق موجب العذاب، الذي ورد في هذه الآية وبذلك فالاستدلال بهذه الآية - غير ظاهر - والله أعلم -.
و"عفا" الواقع في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة: 43] فهذا يدل على هذا المعنى في الجملة، فإنه موضع اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم في الإذن عند عدم النص. وقد ثبت في التشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد حسبما بسطه الأصوليون، وقد تقدم ذكر أمثلة على ذلك فيما تقدم ذكره من النصوص. "وما" أي والذي اتبع "من السنة معناه" أي معنى العفو المذكور وحكمه و"اقتفى"
375 -
وَجَاءَ حُكْمُ العَفْوِ فِي مَوَاضِعْ
…
أَوَّلُهَا حَيْثُ سُكُوتُ الشَّارعْ
376 -
وَخَطَأُ الفِعْلِ وَالاِجْتِهَادِ مَعْ
…
إِكْرَاهٍ اوْ رُخْصَةٍ اوْ سَهْوٍ يَقَعْ
377 -
وَمَا مُخَالِفٌ دَلِيلًا لَمْ يَصِلْ
…
وَمَا بِوَفْقِ مَا لَهُ النَّسْخُ شَمِلْ
أي ماضيا عليه في بناء الأحكام التي يجري بناؤها عليه شرعا، فالسنة تابعة للقرآن ومبينة له.
في بيان حكم مواضع العفو "وجاء" عن الشارع "حكم العفو في مواضع" معينة معلومة "أولها" أي هذه المواضع "حيث" يعني الموضع الذي حصل فيه "سكوت الشارع" عن حكمه، إذ ما سكت عنه فهو عفو، وقد تقدم ذكر نص الحديث النبوي الوارد في ذلك. "وخطأ الفعل" يعني فعل الخطأ، فما صدر عن مخطئ فهو عفو، ومثله في ذلك كما سيأتي الكلام عليه الغافل، وهذا حكم مجمع عليه في الجملة. وهذا ثاني المواضع "و" كذلك الخطأ إذا حصل في "الاجتهاد" وهو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم. فإن حصل في ذلك الخطأ في إصابة الحكم الشرعي فإنه غير مؤاخذ به شرعا وهو ثالث المواضع وكذلك الرابع ما حصل من فعل "مع إكراه" معتبر شرعا، وهو الجالب لعدم المؤاخذة، فإن حاصل ذلك أن تركه لما ترك وفعله لما فعل لا حرج عليه فيه وهذا عفو. "أو" ما كان يفعل عن "رخصة" وهو الموضع الخامس، فالرخص كلها مواضع العفو، فإن النصوص دلت على ذلك حيث نص على رفع الجناح، ورفع الحرج وحصول المغفرة؛ ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة؛ لأنها إن كانت مباحة فلا إشكال، وإن كانت مطلوبة فيلزمها العفو عن نقيض المطلوب" فأكل الميتة إذا قلنا بإيجابه فلا بد أن يكون نقيضه، وهو الترك معفوا عنه، وإلا لزم اجتماع النقيضين في التكليف بهما، وهو محال ومرفوع عن الأمة. والسادس ما كان عن "سهو يقع" فالناسي غير مؤاخذ، فكل فعل صدر عنه فهو عفو. ولو جعل هذا الموضع مع موضع الخطأ واحدا لكان أخصر، وأولى، لما بينهما من الاتحاد في الحكم والحال، وهو ما جرى عليه الشاطبي في الأصل. والسابع هو "ما" يعني فعلا أو رأيا هو "مخالف دليلا" شرعيا هو الذي يجب العمل بمقتضاه ويلزم القول به إلا أنه "لم يصل" ولم يبلغ ذلك الفاعل أو القائل المخالف له. فما كان كذلك فإنه يجري عليه حكم العفو لأنَّهُ لا تكليف إلا مع العلم "و" كذلك "ما" أي العمل فيه "بوفق" يعني على وفق "ما له النسخ" أو عدم الصحة "شمل" فمن عمل بدليل منسوخ أو غير صحيح وهو لا يعلم بذلك فإنه يجري عليه حكم العفو "أيضًا
378 -
كذَاكَ مِنْهُ مُقْتَضَى المَرْجُوحِ
…
مِنَ الدَّلِيلَيْنِ مَعَ التَّرْجِيحِ
379 -
وَفِي الخِطَابَيْنِ تَزَاحَمَا وَلَا
…
يُمْكِنُ جَمْعٌ فِي الأَخِيرِ أَقْبَلَا
380 -
وَيَسْتَدِلُّ ذَاهِبٌ لِلْمَنْعِ
…
بِكَوْنِهِ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِي
لأنَّهُ لا يلزمه أن يعمل إلا بما بلغه وعلمه. و"كذلك منه" أي ما يجري عليه حكم العفو تأخير "مقتضى" وحكم "المرجوح من الدليلين" المتعارضين "مع" حصول "الترجيح" بينهما بما يحصل به الترجيح من المرجحات التي تورد في "باب التعارض والترجيح" فإنه لا بد من حصول العفو بالنسبة للمرجوح منهما، لأنَّهُ إن لم يكن كذلك لم يمكن الترجيح فيؤدي إلى رفع أصله - أي الترجيح - وهو ثابت بالإجماع ولأنه يؤدي إلى الخطاب بالنقيضين وهو باطل. وسواء قلنا ببقاء الاقتضاء في الدليل المرجوح وأنه في حكم الثابت أم قلنا إنه في حكم العدم. وهذا الموضوع الثامن.
وأما التاسع، فقد أورده قائلا:"و" كذلك يجري حكم العفو "في الخطابين" الشرعيين إذا "تزاحما" في الزمان مثلا - كأن يقال له كلم زيدا وعمرا في وقت واحد بعبارتين مختلفتين، فإنه يقدم تكليم أحدهما على الآخر على سبيل الترجيح، فإن حصل ذلك فإنه لا بد من حصول العفو بالنسبة للمؤخر، حتَّى يحصل المقدم، لأنَّهُ أي هذا السبيل هو الممكن في التكليف بهما، والإلزام تكليف ما لا يطاق، وهو مرفوع شرعا. "و" هذا إذا كان "لا يمكن جمع" بين المتعارضين والمتزاحمين أو المتعارضات والمتزاحمات في الموضعين "الأخير"ين وهما ما تعارضا فيه الدليلان أو أكثر.
ويدلك "أقبلا" وقوع العفو في هذه الصورة، فإنه لا بد من حصوله - أي العفو - بالنسبة إلى المؤخر فيحصل المقدم، لأنَّهُ الممكن في التكليف بهما، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق وهو مرفوع شرعا"
(1)
.
في أدلة من يرى أن مرتبة العفو لا وجود لها في هذه الشريعة الغراء "ويستدل ذاهب للمنع" وعلى عدم وجود هذه المرتبة في الشريعة على ذلك "بـ" أوجه، منها "كونه" أي العفو "ليس بحكم شرعي" والدليل على ذلك أنه مسمى بالعفو إنما يتوجه حيث يتوقع
(1)
انظر الأصل 1 - 118 - 119.
381 -
أَوْ كَوْنِهِ لَيْسَ بِدُنْيَوِيِّ
…
وَالبَحْثُ فِيهِ لَا فِي الأُخْرَوِيِّ
382 -
أَوْ إِنْ يَكُنْ مُسَلَّمًا فِي الوَاقِعِ
…
فَذُو اخْتِصَاصٍ بِزَمَانِ الشَّارعِ
383 -
أَوْ رَاجِعٌ مَا فِيهِ مِنْ أَقْسَامِ
…
فِي حُكْمِهِ لِخَمْسَةِ الأَحْكَامِ
384 -
مَعْ أَنَّ ذِي الرُّتْبَةَ مَبْنَاهَا عَلَى
…
مَسْأَلَةٍ بِهَا الخِلَافُ أُصِّلَا
للمكلف حكم المخالفة لأمر أو نهي. وذلك يستلزم كون المكلف به قد سبق حكمه، فلا يصح أن يتوارد عليه حكم آخر لتضاد الأحكام "أو" بمعنى - الواو - أي "وكونه" أي العفو المذكور "ليس بـ" حكم "دنيوي" أي متعلق بالمكلف في الدنيا "والبحث" - الواو للحال - إنما هو "فيه" أي في الحكم الدنيوي "لا في" الحكم "الأخروي" والعفو المذكور إنما هو أخروي. فإنه لو كان دنيويا لكان إما في خطاب التكليف أو من خطاب الوضع. وهو ليس منها فعلم أَنَّهُ لغو "أو" بمعنى الواو أي و "إن يكن مسلما" وجوده وثبوته "في الواقع" الشرعي "فـ" أنه "ذو اختصاص" وجوده وثبوته "بزمان الشارع" عليه الصلاة والسلام وهذا الوجه الثاني.
وأما الوجه الثالث فقد أورده بقوله: "أو راجع ما" ذكر وثبت "فيه" أي في العفو "من أقسام" وما ذكر له من مواضع "في حكمه" ومقتضاه "لخمسة الأحكام" يعني الأحكام الخمسة المعروفة وبذلك ترتفع مرتبة العفو هذه وما تقدم من الأدلة على إثباتها لا دليل فيه على ذلك.
فالأدلة النقلية غير مقتضية للخروج عن الأحكام الخمسة لإمكان الجمع بينها. وما ذكر من أنواعه داخل تحت حكم الخمسة، فإن العفو في تلك الأنواع راجع إلى رفع الخطأ والنسيان والإكراه والحرج، وذلك يقتضي إما الجواز - بمعنى الإباحة - وإما رفع ما يترتب على المخالفة من الذم، وتسبيب العذاب وذلك يقتضي إثبات الأمر والنهي مع رفع آثارهما لمعارض. فارتفع الحكم بمرتبة العفو.
و"مع" هذا الذي سيق من الأدلة على منع هذه الرتبة نسوق أمرا آخر وهو "أن ذي" أي هذه "الرتبة" رتبة العفو "مبتناها" وتأسيسها إنما هو "على مسألة" وقع "بها" أي فيها "الخلاف" وكان "أصلا" يعني وكان الخلاف أصوليا، لأنها مسألة أصولية
385 -
وَذَاكَ هَلْ يَكُونُ فِي النَّوَازِلِ
…
مَا الشَّرْعُ لَيْسَ حُكْمُهُ بِشَامِلِ
386 -
إِنْ قِيلَ بِالعَفْوِ فَحَاصِرٌ لَهْ
…
الوَقْفُ مَعْ مُعَارِضِ الأَدِلَّةْ
" وذاك" الذي قصد بهذه المسألة هو لو قال: و"تلك" لكان أبين وأوفق فيكون تقرير الكلام حينئذ:
"وتلك" المسألة "هل يكون في النوازل" والواقائع "ما" أي نوازل ووقائع "الشرع ليس حكمه" الصادق بالأحكام الخمسة "بشامل" لها، فتكون نوازل ووقائع لا حكم شرعي فيها. وهذه المسألة مختلف فيها، فليس إثباتها أولى من نفيها إلا بدليل. والأدلة فيها متعارضة فلا يصح إثباتها إلا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه. وأيضًا إن كانت اجتهادية فالظاهر نفيها بالأدلة المذكورة في كتب الأصول. إن لم تكن راجعة إلى تلك المسألة فليست بمفهومة
(1)
.
في حصر مواطن العفو وضبطها - إن قيل به - وذلك لأن الاقتصار به على محال النصوص أي المحال التي لم ترد فيها نصوص شرعية دالة بظاهرها على أحكامها أحكام تلك المحال نزعة ظاهرية. والانحلال في اعتبار ذلك على الإطلاق خرق لا يرتفع، واقتصار فيه على بعض دون بعض تحكم يأباه المعقول والمنقول فلا بد من وجه يقصد نحوه في كل مسألة حتَّى يتبين بحول الله، والقول في ذلك ينحصر في ثلاثة أنواع.
وفي ذلك يقول الناظم: "إن قيل بـ" ثبوت رتبة "العفو "المذكور "فحاصر له" يحصره في ثلاثة أنوع:
أحدها: "الوقف" الوقوف "مع" مقتضى دليل "معارض الأدلة" الموجبة حكم الرخصة ظاهرا وهو يقتضي العزيمة، لأن العزيمة لما توخيت على ظاهر العموم أو الإطلاق كان الواقف معها واقفا على دليلٌ معتمد على الجملة. وكذلك العمل بالرخصة، إن توجه حكم العزيمة فإن الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف، وكلاهما أصل كلي، فالرجوع إلى حكم الرخصة وقوف مع مثله معتمد لكن لما كان أصل رفع الحرج واردا على أصل التكليف ورود المكمل ترجح جانب أصل العزيمة بوجه ما غير أنه لا يحرم أصل الرجوع، لأن بذلك المكمل قيام التكليف وقد اعتبر في مذهب مالك هذا، ففيه إن سافر في رمضان أقل من أربعة برد، فظن
(1)
الموافقات الجزء الأول صفحة 119.
387 -
أَوِ الخُرُوجُ بَعْدُ بِالتَّأْوِيلِ
…
قَصْدًا وَدُونَهُ عَنِ الدَّلِيلِ
أن الفطر مباح به فأفطر فلا كفارة عليه. وكذلك من أفطر بتأويل إن كان أصله غير علمي، بل هذا جار في كل متأول كشارب المسكر ظانا أنه غير مسكر، وقاتل المسلم ظانا أنه كافر. وأكل مال الحرام عليه ظانا أنه حلال له. والمتطهر بماء نجس ظانا أنه طاهر وأشباه ذلك ومثله المجتهد المخطئ في اجتهاده، ويدخل ههنا كل قضاء قضى به القاضى من مسائل الاجتهاد ثم يتبين له خطؤه ما لم يكن قد أخطأ نصا أو إجماعا أو بعض القواطع وكذلك الترجيح بين الدليلين فإنه وقوف مع أحدهما وإهمال للآخر، فإذا فرض مهملا للراجح فذلك لأجل وقوفه مع المرجوح وهو في الظاهر دليلٌ يعتمد مثله وكذلك العمل بدليل منسوخ أو غير صحيح فإنه وقوف مع ظاهر دليلٌ يعتمد مثله في الجملة فهذه وأمثالها مما يدخل تحت معنى العفو المذكور وإنما قلنا الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض فشرط فيه المعارضة لأنَّهُ إن كان غير معارض لم يدخل تحت العفو لأنَّهُ أمر أو نهى أو تخيير عمل على وفقه فلا عتب يتوهم فيه ولا مؤاخذة تلزمه بحكم الظاهر فلا موقع للعفو فيه وإنما قيل وإن قوى معارضه لأنَّهُ إن لم يقو معارضه لم يكن من هذا النوع بل من النوع الذي يليه على أثر هذا فإنه ترك لدليل وهن وإن كان إعمالا لدليل أيضًا فإعماله من حيث هو أقوى عند الناظر أو في نفس الأمر كإعمال الدليل غير المعارض فلا عفو فيه.
هذا هو النوع الأول أما الثاني فقد أورده الناظم بقوله: "أو الخروج" عن مقتضى الدليل، وهذا النوع من العفو يأتي "بعد" النوع الأول. هذا ما ظهر لي في تقرير كلمة بعد هذه - هنا وقد تكون زائدة - وذلك الخروج قد يكون "بالتأويل" للدليل الذي وقع الخروج عن مقتضاه "قصدا" من الخارج عن المقتضى مثاله ما ورد في تفسير قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] من أن قدامة بن مظعون قال لعمر بن الخطاب: إن كنت شربت الخمر فليس لك أن تجلدني.
قال عمر: ولم؟ قال لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} . قال عمر أخطأت التأويل، إن اتقيت اجتنبت ما حرم الله. هذا أو نحوه مما فيه مخالفة مقتضى الدليل بالتأويل جعل من المواضع التي يجري فيها حكم العفو
(1)
.
"و" كذلك الخروج "دونه" أي القصد "عن" مقتضى "الدليل" وإنما كان ذلك عن
(1)
انظر الأصل.
388 -
وَفِعْلُ مَا عَنْ حُكْمِهِ الشَّرْعُ سَكَتْ
…
وَهْوَ عَلَى مَنْعِ الخُلُوِّ إِنْ ثَبَتْ
389 -
إِمَّا سُكُوتٌ عَنِ الاِسْتِفْصَالِ
…
مَعَ مَظِنَّةٍ لَهُ فِي الحَالِ
جهل، وذلك كمن يعمل عملا على اعتقاد إباحته لأنَّهُ لم يبلغه دليلٌ تحريمه أو كراهته، أو يتركه معتقدا إباحة تركه إذ لم يبلغه دليلٌ وجوبه أو ندبه
(1)
.
"و" النوع الثالث هو "فعل ما" أي شيء "عن" بيان"حكمه الشرع سكت" فلم يرد عنه في ذلك شيء فمن أتاه وهو يرى إباحته عملا بالبراءة الأصلية فإنه يجرى على فعله هذا حكم العفو "وهو" يعني أن هذا الذي تقرر هنا من جريان حكم العفو في هذا الموضع إن بني على مذهب من يرى صحة خلو بعض الوقائع من حكم الله - تعالى - فالنظر في هذا متوجه، ويكون هو مقتضى الحديث وما سكت عنه فهو عفو ووجهه أن سكت عنه هو الذي خلا من الحكم الشرعي، فيسري فيه حكم العفو المذكور وأما إن بني "على" قول من يرى "منع الخلو" أي خلو الوقائع من الحكم الشرعي إذ لا توجد واقعة إلا وفيها الحكم الشرعي، وعليه فليس ثمت مسكوت عن حكمه بحال، بل هو إما منصوص أو مقيس على منصوص "إن ثبت" هذا القول، فإن هذا مشكل، لأنَّهُ إن عدم المسكوت عنه شرعا عدم ما يجرى فيه العفو على الوجه الذي تقدم تقريره، إلا أنه يمكن أن يوجه جريان حكم العفو على هذا القول - أيضًا - بصرف السكوت - الوارد في الحديث - "أما" إلى "سكوت" من الشارع "عن الاستفصال" والتفرقة بين الجزئيات المختلفة المندرجة تحت لفظه "مع" وجود "مظنة" محل يظن فيه ورود "له" أي ذلك الاستفصال "في الحال" أي حال ورود ذلك الخطاب الخالي من ذلك الاستفصال بناء على عدم جواز تأخير البيان وقت الحاجة وقوله "الحال" هذا قد يكون جاء به لإتمام البيت لصحة الاستغناء عنه. وقد يكون معناه "في الحال" موضع الحكم فيكون معنى كلامه: مع مظنة ثابتة في الخطاب. مثال هذا الذي سكت الشارع عن الاستفصال فيه مع وجود مظنته قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] فإن هذا العموم يتناول بظاهره ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم، وإذا نظر إلى المعنى أشكل لأن في ذبائح الأعياد زيادة تنافي أحكام الإسلام، فكان للنظر هنا مجال، ولكن مكحولا سئل عن المسألة فقال: كله قد علم
(1)
انظر الأصل.
390 -
أَوْ عَنْ مَجَارِي العَادَةِ المُسْتَصْحَبَةْ
…
أَوْ عَمَلٍ شَرْعُ الخَلِيلِ أَوْجَبَةْ
"
المسألة الحادية عشرة
"
الله ما يقولون وأحل ذبائحهم، يريد والله أعلم أن الآية لم يخص عمومها، وإن وجد هذا الخاص المنافي لجواز أكل جميع ذبائحهم وعلم الله مقتضاه ودخوله تحت عموم اللفظ، ومع ذلك فأحل ما ليس فيه عارض وما هو فيه، لكن بحكم العفو عن وجه المنافاة
(1)
. هذا التوجيه الأول.
وأما التوجيه الثاني فقد أورده الناظم بقوله: "أو" يصرف السكوت المذكور إلى السكوت "عن" بيان حكم "مجارى العادة" أي ما جرت به العادة "المستصحبة" للأعمال وسلوك الناس بعد دخولهم في الإسلام، وذلك كما في الأشياء التي كانت أول الإسلام على حكم الإقرار - والبراءة الأصلية - ثم حرمت بعد ذلك بتدرج كالخمر. "أو" صرفه - أي السكوت المذكور - إلى السكوت عن "عمل شرع" إبراهيم "الخليل" عليه السلام "أوجبه" وشرعه وذلك كما في النكاح والطلاق والحج والعمرة وسائر أفعالها إلا ما غيّروا من ذلك فقد كان العرب يفعلون ذلك قبل الإسلام فيفرقون بين النكاح والسفاح ويطلقون ويطوفون بالبيت أسبوعا ويمسحون الحجر الأسود ويسعون بين الصفا والمروة ويلبون ويقفون بعرفات ويأتون مزدلفة ويرمون الجمار ويعظمون الأشهر الحرم ويحرمونها ويغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويصلون عليهم ويقطعون السارق ويصلبون قاطع الطريق إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم فكانوا على ذلك إلى أن جاء الإسلام فبقوا على حكمه حتَّى أحكم الإسلام منه ما أحكم وانتسخ ما خالفه فدخل ما كان قبل ذلك في حكم العفو مما لم يتجدد فيه خطاب زيادة على التلقي من الأعمال المتقدمة وقد نسخ منها ما نسخ وأبقى منها ما أبقى على المعهود الأول
(2)
.
"المسألة الحادية عشرة"
في بيان من يتوجه عليه حكم فرض الكفاية.
(1)
انظر الأصل.
(2)
الموافقات الجزء الأول صفحة 125/ 126.
391 -
وَطَلَبُ الكِفَايَةِ المَشْرُوعُ
…
مَا كَانَ مَطْلُوبًا بِهِ الجَمِيعُ
392 -
يُسْقِطُهُ بَعْضٌ عَنِ البَاقِي إِذَا
…
يَفْعَلُهُ وَهْوَ صَحِيحٌ هَكَذَا
393 -
مَعَ اعْتِبَارِ الطَّلَبِ الكُلِّيِّ
…
لَا بِاعْتِبَارِ الطَّلَبِ الجُزْئِيِّ
394 -
لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ ذُو تَشَعُّبِ
…
مَرْجِعُهُ إِلَى وُرُودِ الطَّلَبِ
395 -
عَلَى الَّذِينَ فِيهِمُ أَهْلِيَّةْ
…
لِذَلِكَ المَطْلُوبِ فِي القَضِيَّةْ
396 -
وَالنَّصُّ فِي ذَلِكَ مِمَّا كَثُرَا
…
كَوَلْتَكُنْ مِنْكُمْ فَلَوْلَا نَفَرَا
" وطلب الكفاية" هو ما لا يتوجه شرعا إلى كل عين شخص مكلف وإنما يتوجه إلى المخاطبين به على سبيل البدل والجمع "المشروع" من رب العالمين وإنما ذكر هذه اللفظة "المشروع" هنا لبيان الواقع، أو لإتمام البيت فقط، إذ لا يسمى طلب الكفاية إلا ما كان مشروعا، فلا حاجة إلى إيراده هو "ما كان مطلوبا به" يعني بفعله والإتيان به "الجميع" أي جميع المخاطبين به، فهو متوجه إليهم كلهم لكن "يسقطه" أي هذا الطلب بعض من المخاطبين به "عن الباقي" منهم "إذا" كان ذلك البعض "يفعله" ويقوم به. وعبارة الأصوليين والفقهاء هي:"إذا قام به البعض سقط عن الباقين""وهو "أي ما ذكر من أنه - طلب الكفاية - متوجه إلى الجميع هو قول "صحيح هكذا" أي من غير تفصيل لكن "مع اعتبار" وملاحظة "الطلب الكلي" الذي هو هنا - طلب الكفاية - من حيث هو "لا باعتبار الطلب الجزئي" الذي هو اعتبار ملاحظة موضع كل طلب بعينه وعلى حدة، فإنه إن اعتبر ذلك ولوحظ أدرك أنه - طلب الكفاية - غير متوجه إلى الجميع "لأنَّهُ إذ ذاك" أي عند اعتبار ما ذكر "ذو تشعب" وأقسام اقتضاها اختلاف أنواع ما يطلب بهذا الطلب، فحال كل مطلوب به هو الذي يبين من هو مخاطب به، لكن "مرجعه" في الجملة "إلى" وقوع و "ورود الطلب على" البعض، ولكن ليس على البعض كيف كان بل على البعض "الذين فيهم أهلية لذلك" الفعل "المطلوب" الإتيان به "في القضية" يعني في الخطاب الشرعي الوارد في ذلك والأدلة على ذلك كثيرة منها "النص" الشرعي الوارد "في" إثبات "ذلك" وتقريره، وهو "مما كثرا" في الكتاب والسنة "ك" قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ومن الأدلة على ذلك: ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى كالإمامة الكبرى والصغرى فإنها إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على الناس، وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها والفناء فيها. وكذلك الجهاد حيث يكون فرض كفاية - إنما يتعين القيام به على من فيه نجدة وشجاعة. وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية، إذ لا يصح أن يطلب بها من يبدئ فيها ويعيد، فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة. وكلاهما باطل شرعا. ومنها - أيضًا - ما وقع من فتاوى العلماء، وما وقع أيضًا في الشريعة من هذا المعنى. فمن ذلك ما روي عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لأبي ذر:"يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تلين مال يتيم" وكلا الأمرين من فروض الكفاية، ومع ذلك فقد نهاه عنها، فلو فرض إهمال الناس لهما لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج الإهمال، ومن كان مثله. وفي حديث:"لا تسأل الإمارة" وهذا النهي يقتضي أنها غير عامة الوجوب، ونهى أبو بكر رضي الله عنه بعض الناس عن الإمارة، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وليها أبو بكر، فجاءه رجل فقال: نهيتني عن الإمارة ثم وليت" فقال له" وأنا الآن أنهاك عنها واعتذر له عن ولايته هو بأنه لم يجد من ذلك بدا وروى أن تميمًا الداري استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أن يقص، فمنعه من ذلك وهو من مطلوبات الكفاية - أعني هذا النوع من القصص الذي طلبه تميم رضى الله عنه - وروى نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعلى هذا المهيع جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو فقال أما على كل الناس فلا يعنى به الزائد على الفرض العيني.
وقال أيضًا أما من كان فيه موضع للامامة فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه فقسم كما ترى فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه ومن لا جعله مندوبا إليه وفي ذلك بيان أنه ليس على كل الناس.
"
المسألة الثانية عشرة
"
397 -
وَكُلُّ مَا كَانَ مُبَاحَ الفِعْلِ
…
ضَرُورَةً أَوْ حَاجَةً فِي الأَصْلِ
398 -
وَجَاذَبَتْهُ مَعَ ذَا عَوَارِضُ
…
وُقُوعًا أَوْ تَوَقُّعًا تُعَارِضُ
399 -
هَلْ يَبْطُلُ العَارِضُ حِينَ يُعْتَبَرْ
…
أَصلُ الَّذِي أُبِيحَ فِي هَذَا نَظَرْ
وقال سحنون: من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم ففرض عليه أن يطلبها لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ومن لا يعرف المعروف كيف يأمر به أو لا يعرف المنكر كيف ينهى عنه
(1)
.
"المسألة الثانية عشرة"
في أن ما أصله الإباحة للحاجة أو الضرورة إلا أنه تتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا هل يترك على أصل الإباحة بالنقض أو لا؟ هذا محل نظر وإشكال، والقول فيه لا يخلو إما أن يضطر إلى المباح أو لا. وإذا لم يضطر إليه فإما أن يلحقه بتركه حرج أم لا، فهذه ثلاثة أقسام في ذلك وبيان حكمه.
يقول الناظم: "وكل ما" أي شيء كان "مباح الفعل" وكان فعله "ضرورة" أي لأجل الضرورة وذلك كالاضطرار إلى الأكل والشرب والمعاملات "أو حاجة" أي لأجل الحاجة "في الأصل" متعلق بقوله "مباح" يعني: وكل ما كان مباح الفعل في الأصل، لكنه اضطر إلى فعله للضرورة أو الحاجة "وجاذبته مع" وجود "ذا" الوصف فيه وهو الإباحة الأصلية الاضطرار والحاجة إليه العوارض جمع عارض والمراد - هنا ما يمنع من جريان حكم تلك الإباحة وما يسقطه شرعا، وتلك العوارض سواء وقعت في محل ذلك الحكم "وقوعا" ووجدت فيه الآن، "أو" توقعت "توقعا" فهي منتظرة الوقوع في المآل، وهي كل حال "تعارض" وتمنع جريان الحكم المذكور "هل يبطل" ويسقط الحكم "العارض" المذكور وذلك "حين يعتبر أصل" الفعل "الذي أبيح" ويرجح، أو يبطل أصل الإباحة ويرجح حكم العارض "في هذا نظر" وتفصيل ذلك أن ذلك الفعل المباح لا يخلو إما أن يضطر إليه أم لا. فإن لم يضطر إليه فإنه إما أن يكون في تركه
(1)
الموافقات 1/ 128.
400 -
فَإِنْ يَكُنْ لِفِعْلِ مَا أُبِيحَا
…
يَضْطَرُّ كَانَ فِعْلُهُ صَحِيحَا
401 -
وَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِالمُعَارِضِ
…
كَمِثْلِ مَا لَوْ كانَ غَيْرَ عَارِضِ
402 -
ومِثْلُهُ مَا لَا لَهُ اضْطِرَارُ
…
لَكِنْ لَهُ فِي تَرْكِهِ ضِرَارُ
حرج أو لا فهذه أقسام ثلاثة.
ذكر أولاها بقوله "فإن يكن" المكلف "لفعل ما" أي الذي "أبيحا" الألف للإطلاق "يضطر" يعني مضطرا "كان فعله" لذلك المباح "صحيحا" شرعا "ولا اعتبار فيه" أي في ذلك المباح، ولا اعتداد "بـ" وجود ذلك الوصف "المعارض" لحكم الإباحة فيه، بل يلغى أمره "كمثل ما لو كان غير عارض" أو موجود فيه. وذلك لأن فعله قد صار واجب الفعل ولم يبق على أصله من الإباحة وإذا صار واجبًا لم يعارضه إلا ما هو مثله في الطرف الآخَر أو أقوى منه وليس فرض المسألة هكذا فلم يبق إلا أن يكون طرف الواجب أقوى فلا بد من الرجوع إليه وذلك يستلزم عدم معارضة الطوارئ.
والثاني أن محال الاضطرار مغتفرة في الشرع أعني أن إقامة الضرورة معتبرة وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتلبة كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه فما نحن فيه من ذلك النوع فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية والثالث إنا لو اعتبرنا العوارض ولم نغتفرها لأدى ذلك إلى رفع الإباحة رأسا وذلك غير صحيح كما سيأتي في كتاب المقاصد من أن المكمل إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتباره واعتبار العوارض هنا إنما هي من ذلك الباب فإن البيع والشراء حلال في الأصل فإذا اضطر إليه وقد عارضه موانع في طريقه ففقد الموانع من المكملات كاستجماع الشرائط وإذا اعتبرت أدى إلى ارتفاع ما اضطر إليه وكل مكمل إذا عاد على أصله بالنقض فباطل فما نحن فيه مثله.
"ومثله" أي هذا القسم الثاني وهو "ما" أي المباح الذي "لا" أي ليس "له" أي للمكلف "اضطرار" إليه "لكن له" يعني عليه "في تركه" هو عدم فعله "ضرار" يعني حرجا ومشقة - وضرار - على وزن فعال بكسر الفاء يفيد الاشتراك، إلا أنه يرد بمعنى الضر الذي لا يدل على الاشتراك، وهو المقصود به هنا ففي هذا القسم - أيضا - يلغي اعتبار
403 -
إِذْ بَعْضُ مَا يُمْنَعُ رَفْعًا لِلْحَرَجْ
…
أُبِيحَ كَالقَرْضِ وَمَا مَعْهُ انْدَرَجْ
404 -
وَخُلْفُ بَعْضِهِمْ بِهَذَا المَنْهَجِ
…
شَهَادَةٌ مِنْهُ بِرَفْعِ الحَرَجِ
"
المسألة الثالثة عشرة
"
405 -
وَالحَقُّ أَنْ يُنْظَرَ فِي ذَا الفَصْلِ
…
لِحَرَجِ العَارِضِ أَوْ ذِي الأَصْلِ
العوارض والطوارئ "إذ بعض ما يمنع" قد أجيز فعله وذلك "رفعا للحرج" ودرءا للمشقة، "أبيح" وذلك "كالقرض" فإن فيه بيع الفضة ليس بيد، بل فيه نسيئة، ومقتضى ذلك أن يمنع، إلا أَنَّهُ أجيز رفع الحرج والمشقة التي قد تكون عن منعه، فإن الناس يحتاجون في إصلاح أحوالهم ومعاشهم إليه. "و" كذلك حكم "ما معه اندرج" ودخل في هذا الحكم كإباحة العرايا، والقراض، ودخول الحمام، والأسواق والمرور بالطرق ومخالطة الناس مع ما يعرض له في ذلك من منكرات، فحكم ذلك كله الإباحة إذا كان الامتناع منه يفضي إلى الوقوع في الحرج والمشقة. "و" أما "خلف بعضهم" أي بعض أهل العلم "بهذا المنهج" أي في هذا الطريق الذي قرر عليه هذا الحكم و - هو - إلغاء العوارض واعتبار ما يقتضيه أصل الإباحة - هنا هو - أي هذا الخلف "شهادة منه برفع الحرج" هنا أنه معدوم، أو ضعيف، لأن مثله معتاد في التكاليف، والحرج المعتاد مثله في التكليف، غير مرفوع وإلا لزم رفع جميع التكاليف أو أغلبها
(1)
. وهذا الذي تقدم من رجحان الأصل الإباحة وإلغاء معارضه، إنما يصح ويرجح إذا كانت تلك العوارض بمجموعها لا تقتضي رجحان اعتبارها، وأما إذا كانت تقتضي ذلك فإن هذا محل اجتهاد ونظر وهو ما يورد المصنف بيانه وحكمه في المسألة الموالية وهي:
"المسألة الثالثة عشرة"
في أن المختار في هذه المسألة - مسألة تعارض حكم المباح الأصل المفعول للضرورة وحكم العوارض الموجبة لخلاف ما اقتضاه ذلك الأصل - هو الترجيح بينهما بقوة الحرج والمفسدة، فأيهما أقوى حرجا أو أكثر مفسدة يقدم على الآخَر. قال الناظم:"والحق" والقول الراجح هو "أن ينظر في ذا" أي في هذا "الفصل" المعقود لهذه المسألة "لـ" تمام وقوة "حرج العارض" في محل حكم، لو ترك العمل به "أو" - بمعنى الواو - أي تمام وقوة حرج "ذي" صاحب "الأصل" وهو المباح هنا - لو ترك العمل به، والسبيل
(1)
الموافقات 1/ 132.
406 -
فَفَقْدُ عَارِضٍ مَعَ الأَصْلِ يُرَى
…
إِمَّا مُكَمِّلًا لَهُ حَيْثُ جَرَى
407 -
فَلَا اسْتِوَاءَ فِيهِمِا وَلَا أَثَرْ
…
لِفَقْدِ عَارِضٍ فِي الأَصْلِ مُعْتَبَرْ
المسلوك في ذلك أن ينظر إلى فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل هل هو من باب المكمل له في بابه أو هو من باب آخر هو أصل نفسه، فإن كان هذا الثاني: فإما أن يكون واقعا أو متوقعا. وفي ذلك وحكمه.
يقول الناظم: "ففقد عارض" إذ قرن"مع الأصل" ونظر إليه نسبة بالنسبة لذلك الأصل فإنه "يرى إما مكملا له" يعنى مكملا لمصلحته المقصودة شرعا منه، وذلك كالشرط مع المشروط في المعاملات "حيث" أي في أي موضع "جرى" أي وقع، فإن كان كذلك أي - مكملا له - "فـ" إنه "لا استواء فيهما" ولا تعارض بينهما "ولا أثر" أي لا تأثير "لفقد عارض في" هذا "الأصل معتبر" بل يلغى اعتبار فقد ذلك العارض، ويعمل بمقتضى الأصل - الإباحة - وذلك كالبيع والشراء فإنهما حلال في الأصل، فإذا اضطر إلى أحدهما وقد عارضه موانع في طريقه ففقد الموانع من المكملات كاستجماع الشرائط، وإذا اعتبرت أدى اعتبارها إلى ارتفاع ما اضطر إليه. وكل مكمل عاد على أصله بالنقص فهو باطل.
والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف، وفقد الصفة لا يوجب فقد الموصوف، وفقد الموصوف يوجب فقد الصفة، ولذلك كان جانب الموصوف أقوى في الوجود والعدم، وفي المصلحة والمفسدة.
ثانيها: أن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي. وقد علم أن الكلي إذا عارضه الجزئي، يقدم عليه الكلي فلا أثر للجزئي معه، فكذلك هنا، فإنه لا أثر لمفسدة فقد المكمل في مقابلة مصلحة وجود مكمل.
ثالثها: أن المكمل من حيث هو مكمل إنما هو مقصود لأصل المصلحة ومؤكد لها. ففوته إنما فوت بعض المكملات مع أن أصل المصلحة باق وإذا كان باقيا فإنه لم يعارضه ما ليس في مقابلته، كما أن فوت أصل المصلحة إذا وقع لا يعارضه بقاء مصلحة المكمل وهو ظاهر. هذا إن كان العارض من باب التكميل وأما إن كان من باب آخر هو أصل بنفسه، فقد أورد حاله وحكمه قائلا:
408 -
أَوْ غَيْرَ مُكْمِلٍ لَهُ تَوَقُّعُ
…
لَيْسَ بِمَرْعِيٍّ حَيْثُ يَتْبَعُ
409 -
وَوَاقِعٌ فَمَوْضِعُ التَّصْحِيحِ
…
بَابُ التَّعَارُضِ أَوِ التَّرْجِيحِ
410 -
وَغَيْرُ مَا اضْطُرَّ لَه، وَلَا ضَرَرْ
…
فِي تَرْكِهِ فِيهِ مَجَالٌ لِلنَّظَرْ
" أو" كان العارض "غير مكمل" بل هو من باب آخر هو أصل بنفسه، وقد ثبت "له توقع" وانتظار وجود المال فهذا "ليس بمرعى" ولا معتبر "بحيث" يبنى عليه و "يتبع" مقتضاه، وإنما حقه أن يلغى، بحيث يقضي بأنه لا أثر له، لأن ترك المباح الأصل المذكور حرجه واقع، وهو مفسدة، والمفسدة هذا العارض متوقعة متوهمة، فلا تعارض بينهما البتة، لأن الواقع إنما يعارضه الواقع، وهو غير حاصل هنا هذا إن كان ذلك العارض متوقعا، وأما إن كان غير متوقع، بل هو "واقع" وثابت الوجود، "فـ" إن الموضع الذي هو فيه ذلك "موضع" الاجتهاد و "التصحيح" لما ظهر من ذلك أنه صحيح وراجح، وذلك لأن مفسدة العوارض قد تكون أتم من مفسدة ترك المباح، وقد يكون الأمر بالعكس، والنظر في هذا بابه "باب التعارض والترجيح" وهو باب معقود لبيان حقيقة هذين الأمرين - التعارض والترجيح - وأحكامها.
هذا تمام بيان هذه المسألة: المسألة الثالثة عشرة وما يتعلق بها بإيجاز. ولما أنهى الناظم الكلام عليها رجع إلى تتميم ما بقي من المسألة السابقة - الثانية عشرة - وهذا تصرف تبع فيه الناظم ما عليه الشاطبي في الأصل - الموافقات - ولا يخفى ما في ذلك التصرف من أنه غير سديد، لأن عقده الكلام على ذكر المسألة الثالثة عشرة يقضي بأن المسألة التي قبلها قد انتهت، وهو خلاف ما عليه واقع الحال في ذلك، إذ تبين أنه إنما أورد الكلام فيها استطرادا، فكان مقتضى ذلك أن لا يعنون عليها بالمسألة، وإنما يذكر ما أورد فيها طرفا من المسألة الثانية عشرة لأنَّهُ إنما تتضمن تتميما للكلام السابق الذي ذكر فيها. وعلى أي حال فإن الناظم قد رجع إلى تتميم ما ذكر تبعا للأصل.
"و" القسم الثالث من المسألة السابقة هو "غير ما" أي المباح الأصل الذي "اضطر له، ولا ضرر" يلحق "في تركه" إطلاقًا فهذا - القسم - "فيه مجال" ومسرح "للنظر" والاجتهاد، وذلك لأن ما ترجح به جانب المباح فيما تقدم وهو الضرورة والحاجة قد ارتفع هنا، وكذلك ما ترجح به جانب العارض من قوة المفسدة - أيضًا - كما تقدم غير مفروض هنا، فانحصر التعارض في هذا المقام بين العارض والإباحة، ولذلك كان هذا
411 -
وَمُقْتَضَى الذَّرَائِعِ المَأْثُورَةْ
…
يَدْخُلُ فِي ذَا القِسْمِ بِالضَّرُورَةْ
412 -
وَمِنْهُ أَيْضًا مَنْشَأُ الخِلَافِ فِي
…
تَعَارُضِ الغَالِبِ وَالأَصْلِ اقْتُفِي
محل الاجتهاد والنظر والترجيح بما تقتضيه الأدلة والقواعد المعمول بها في هذا الموضع "ومقتضى" قاعدة "الذرائع المأثورة" عن أهل العلم يعني المأثور العمل بها واعتبارها عنهم "يدخل" العمل به "في ذا القسم" لكونه أي هذا القسم صالحا ليدخل فيه ويحكم به فيه؛ ويبني عليه رجحان العارض على حكم الجناح لأن في ذلك سدا لذريعة الوقوع في مفسدة واقعة أو متوقعة، مجلوبة بذلك العارض. كما أنه يبنى عليه رجحان الحكم المباح على الحكم العارض - أيضًا - بناء على أن في ذلك سدا لذريعة الوقوع في إثبات الحرج الذي رفعه الشارع في المباح، لأنَّهُ مظنته. إذ عوارض المباح كثيرة فإذا اعتبرت فربما ضاق المسلك وتعذر المخرج" فيصار إلى القسم الذي دخول هذه القاعدة فيه ثابت "بالضرورة" لجريان حكمها فيه، كما تقدم ذكره، إلا أنها لا تفيد فيها رجحان أي من المتعارضين لصلاحية بناء رجحان أي منهما عليها إلا أن المباح يرجح من جهة أخرى وهو أنه ثابت بأصل الإذن
(1)
هذا ما ظهر لي أنه المقصود هنا وأنه ينبغي تقرير الكلام عليه.
"ومنه" يعني وفيه أي هذا القسم "أيضًا" يجري بناء حكم على "منشأ الخلاف" الواقع بين أهل العلم "في" قاعدة "تعارض الغالب" في واقع شيء ما "والأصل" فيه، إذا اختلفوا في أي منهما - الأصل الغالب - الراجح المقدم على الآخَر في بناء الحكم الفقهي ومن أمثلة ذلك سؤر ما عادته استعمال النجاسة إذا لم تر في أفواهها، ولم يعسر الاحتراز منها كالطير، والسباع، والدجاج والإوز المخلاة هل ينجس ماء كان أو طعاما، فيراقان حملا على الغالب أم لا تغليبا للأصل؟ ذهب بعضهم - كابن رشد - إلى تقديم الأصل، فيحمل على الطهارة. وذهب آخرون منهم إلى تقديم الغالب. والمشهور في مذهب مالك: تغليب الغالب في الماء، والأصل في الطعام لاستجازة طرح الماء. وهذا الأصل - القاعدة - هو الذي "اقتفى" أي اتبع، العمل به في بناء الأحكام في هذا القسم فمن غلب الأصل ورجحه، ذهب إلى ترجيح الإباحة وإلغاء العارض. ومن غلب العارض ورجحه ذهب إلى إلغاء الأصل - الإباحة - والعمل بمقتضاه. وعبارة
(1)
انظر الأصل.
413 -
وَهْوَ مَحَلٌّ لاجْتِهَادٍ وَنَظَرْ
…
فِي طَرَفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ صَدَرْ
الشاطبي: "ويدخل فيه - أيضًا - قاعدة تعارض الأصل والغالب، والخلاف شهير"
(1)
ولا يخفى ما بين كلامه وكلام الناظم من الاختلاف، إلا أننا نقرر كلام الناظم على ظاهره لأجل بيانه وإن كان بينه وبين كلام الشاطبي اختلاف يمكن أن يؤول بضرب من التوجيه إلى وفاق ما. فتأمل حاصل القول أن هذا المقام - هذا القسم - قد وقع الخلاف فيما هو راجح فيه العمل به، هل هو الأصل أو العارض، وقد تجلب كل واحد من الطرفين المختلفين في هذا الشأن أدلته وحججه التي تدل على صحة رأيه ومذهبه في ذلك، وهي كثيرة
(2)
"و" هي إنما كان حال هذا القسم على هذه الصورة لأنَّهُ "هو محل لاجتهاد ونظر" ثابتين "في طرفي "أي جهتي "نفي" لأحد الاعتبارين - الغالب والأصل - "وإثبات" لأحدهما على الوجه المتقدم، "صدر" هكذا في النسخة التي بيدي فلعل معناه جاء فتأمل.
(1)
انظر الأصل.
(2)
الموافقات 3/ 133.
خطاب الوضع
414 -
أَمَّا خِطَابُ الوَضْعِ إِذْ يُقَرَّرُ
…
فَفِي فُصُولٍ خَمْسَةٍ يَنْحَصِرُ
الفصل الأول في الأسباب وفيه مسائل
"
المسألة الأولى
"
415 -
وَجُمْلَةُ الأَفْعَالِ حَيْثُ تَقَعُ
…
فَيُشْرَعُ الحُكْمُ لَهَا أَوْ يُرْفَعُ
خطاب الوضع
"خطاب الوضع" وهو أن يرد الخطاب الشرعي بكون هذا الشيء سببا، أو شرطا، أو مانعا أو صحيحا، أو فاسدا. وهذا القسم هو الثاني من قسمي الأحكام الشرعية. قال الناظم:"أما خطاب الوضع إذ يقرر" بيان حاله والكلام على أنواعه وأحكامه "فـ" إنه "في فصول خمسة ينحصر" إذ يخص كل نوع منها بفصل.
"الفصل الأول في" الكلام على "الأسباب" وأحوالها، وأحكامها "وفيه" أي هذا الفصل تورد لبيان ما ذكر "مسائل": جمع مسألة وهي في الاصطلاح: القضية أو نسبتها التامة. "المسألة الأولى" في أن الأشياء الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان: أحدهما خارج من مقدور المكلف. ثانيها: ما يصح دخوله تحت مقدوره.
وفي بيان ذلك وحكمه قال الناظم: "وجملة" أي كل الأفعال ولو قال كل الأشياء لكان أولى، لأنَّهُ يشمل الأفعال وما سواها مما سيذكره، من الأسباب والشروط والموانع، فليس كل ما سيذكر من ذلك أفعالا بل فيه ما ليس فعلا، كما سنعرفه بالوقوف عليه "حيث" يعني في أي محل "تقع فيشرع الحكم لها" يعني لأجلها وفي الحقيقة لأجل وقوعها ووجودها - "أو يرفع" لأجل وجودها أو وقوعها، وهي على ضربين: الضرب
416 -
مِنْهُنَّ مَا يَخْرُجُ عَنْ مَقْدُورِ
…
مُكَلَّفٍ فَهْوَ إِذًا ضَرُورِي
417 -
وَذَاكَ قَدْ يَكُونُ إِمَّا سَبَبَا
…
أَوْ شَرْطًا أَوْ مَانِعًا الحُكْمَ أَبَا
418 -
مِثْلُ الزَّوَالِ سَبَبًا وَالرُّشْدِ
…
شَرْطًا وَكَالمَحِيضِ مَنْعًا يُبْدِي
419 -
وَاعْتُبِرَ المَقْدُورُ فِي التَّصْرِيفِ
…
مِنْ جِهَةِ الخِطَابِ بِالتَّكْلِيفِ
420 -
مِثْلُ النِّكَاحِ أَوِ الاِبْتِيَاعِ
…
لِمَقْصِدِ النَّسْلِ وَالاِنْتِفَاعِ
الأول "منهن" هو "ما يخرج" إيجاده وكسبه "عن مقدور" أي قدرة واستطاعة الشخص إلى "مكلف فهو" لأجل هذا وهو كونه خارجا عن القدرة "إذا ضروري" وجوده لحصول التكليف بما ينشأ عن وجوده من "وذاك" الضرب المذكور أصنافه ثلاثة، لأنَّهُ "قد يكون إما سببا" وهو: الوصف الظاهر المنبط المعرف للحكم "أو شرطا" وهو: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته "أو مانعا" وهو الوصف الوجودي الظاهر المنبط المعرف نقيض الحكم، فكان صادا "الحكم إذ قد أبى" ومنع جريانه وقد لكون كلمة أبى هذه أتى بها لتميم البيت لأنها في المعنى مستغنى عنها - والمانع عند الأصوليين إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى مانع الحكم. ثم ذكر أمثلة هذه الأصناف فقال "مثل الزوال" في كونه "سببا" في وجوب الصلاة وكمثل العنت في كونه سببا في إباحة نكاح الإماء. "والرشد شرطا" في دفع مال اليتيم إليه، وإرسال الرسل شرط في الثواب والعقاب "وكالمحيض منعا" مانعا من الوطء والطلاق والطواف ووجوب الصلوات، وأداء الصيام، وكالجنون مانعا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات وما أشبه ذلك. "يبدي" أي يظهر. هذا هو بيان الضرب الأول وأمثلته "وهو ما لا يصح دخوله تحت مقدور المكلف""وكالمحيض" الذي يفيد "منعا" للعبادة - الصلاة والصوم والطواف - و"يبديـ " ــه شرعا يعني يدل عليه.
وأما الضرب الثاني فهو ما يدخل تحت مقدور المكلف وفيه يقول الناظم: "واعتبر" أي راع الشيء "المقدور" على تحصيله بالإمكان "في" حال "التصريف" أي إعماله في بناء الأحكام التي تبنى عليه شرعا وقوله "التصريف" يعني تصريفه، فأل فيه نائبه عن الضمير من جهتين الأولى "جهة الخطاب" الوارد "بالتكليف" فيكون إما مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه من جهة اقتضائه للمصالح والمفاسد جلبا أو دفعا، "مثل النكاح" فإنه مأمور به "أو الابتياع" أي الشراء "لمقصد النسل" راجع للنكاح "والانتفاع" راجع للابتياع.
421 -
وَجِهَةُ الوَضْعِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى
…
مِثْلُ النِّكَاحِ سَبَبًا لِمَا اقْتَضَى
422 -
وَالطُّهْرِ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ
…
وَالدَّيْنِ مَانِعًا مِنَ الزَّكَاةِ
423 -
وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ يُلْفَى كُلَّ مَا
…
مَرَّ مَعَ اخْتِلَافِ مَا لَهُ انْتَمَى
424 -
وَذَاكَ كَالنِّكَاحِ وَالإِيمَانِ
…
وَالرِّقِّ وَالطَّلَاقِ وَالإِحْصَانِ
425 -
وَلَا يَكُونُ مَا بِحُكْمٍ عُلِّقَا
…
فِي حُكْمِ نَفْسِهِ سِوَاهُ مُطْلَقَا
" و" الجهة الثانية "جهة الوضع" وهي "على" سنن "ما قد مضى" ذكره في الجهة الأولى وذلك أن هذا الضرب - ما يصح دخوله تحت المقدور قد يكون سببا أو شرطا أو مانعا كالضرب الأول بلا فرق، وذلك "مثل النكاح" في كونه "سببا" أي معرفا "لما اقتضاه" من أمور، وأحكام، كالتوارث بين الزوجين، وتحريم، المصاهرة، وحلية الاستمتاع. "و" كـ "الطهر" يعني الطهارة من الحدث والخبث فإنها "شرط" في "صحة الصلاة" وكالإحصان شرط في رجم الزاني.
"و" كـ "الدين" في كونه "مانعا من" وجوب الزكاة في العين عند المالكية ومن وافقهم. "وقد يكون الشيء" الواحد "يلفي" أي يوجد، حال كونه "كل ما مر" فيكون سببا وشرطا ومانعا، لكن مع اختلاف ما انتسب "له" من حكم "وانتمى""وذاك" الذي يجري فيه ذلك "كالنكاح" فإنه سبب في الإرث، ومانع من نكاح الأخت، وشرط في وقوع الطلاق له في ذلك "والإيمان" فإنه سبب في الثواب، وشرط في وجوب الطاعات، ومانع للقصاص منه للكافر فمواضع هذه المقتضيات مختلفة، فالحكم الأول الثواب، والثاني الصحة ووجوب الطاعة. والثالث: القصاص للمسلم من الكافر. "و" كـ "الرق" أي العبودية، فإنه شرط في صحة العتق، ومانع من الإرث، وسبب في صحة الملك "و" كـ "الطلاق" فإنه سبب في العدة، ومانع من حلية الاستمتاع" وشرط في صحة زواجها من ثان بعد العدة "و" كالإحصان فإنه شرط في رجم الزاني، ومانع من جواز جلده فقط، وسبب في حلية من هو محص بها. ولا يكون شيء "ما" شرطا مثلا "بحكم" أي في حكم ما "وعلق" به ويكون "في" ذلك الحكم "نفسه سواه" بأن يكون سببا فيه أو مانعا "مطلقا" من غير استثناء. ومثل هذا الشرط في ذلك السبب والمانع بلا فرق.
وعبارة الشاطبي - رحمه الله تعالى -: "فإذا وقع سببا لحكم شرعي فلا يكون شرطا
"
المسألة الثانية
"
426 -
شَرْعِيَّةُ الأَسْبَابِ لَنْ يَستَلْزِمَا
…
شَرْعِيَّةَ المُسَبَّبَاتِ فَاعْلَمَا
427 -
وَإِنْ يَكُنْ يَصِحُّ فِيهَا عَادَةْ
…
تَلَازُمٌ فَالشَّرْعُ غَيْرُ العَادَةْ
428 -
كَالأَمْرِ بِالنِّكَاحِ لَا يَسْتَلْزَمُ
…
أَمْرًا بِمَا عَنِ النِّكَاحِ يَلْزَمُ
فيه نفسه ولا مانعا، لما في ذلك من التدافع. وإنما سببا لحكم، وشرطا لآخر، ومانعا لآخر ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة؛ كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف.
"المسألة الثانية"
في أن مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات، وإن صح التلازم بينهما عادة.
"شرعية الأسباب" يعني جريان الأحكام الشرعية المختلفة عليها "لن يستلزما" ويوجب "شرعية المسببات" المترتبة عليها، بحيث تجري عليها أحكام أسبابها نفسها "فاعلما" ذلك واعرفه - والألف في قوله:"فاعلما" لعلها منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة - "وإن يكن يصح فيها" في تلك الأسباب - يعني بينها "عادة" بناء على استرسال مجاري العوائد وبقائها "تلازم" كما يدل على ذلك الحس والتجربة "فإن الشرع غير العادة" فقد يكون بين شيئين تلازم عادة، وأمرهما في الحكم الشرعي ليس كذلك، فإن الشارع قد يأمر بالسبب ثم إن ذلك لا يستلزم الأمر بالمسبب، وقد لا ينهى عنه فلا يستلزم ذلك النهي عن المسبب، وذلك "كالأمر بالنكاح" الوارد عن الشارع فإنه "لا يستلزم أمرا بـ" إيجاد "ما عن" ذلك "النكاح" - العقد - "يلزم" وذلك كحلية البضع، لان ذلك ليس داخلا تحت مقدور المكلف فليس مخاطبا بكسبه، لأنَّهُ حكم شرعي.
ومثله الأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح، والنهي عن القتل العدوان لا يستلزم النهي عن الإزهاق، والنهي عن التردي - السقوط - في البئر لا يستلزم النهي عن هلك المتردي فيها. والنهي عن جعل الثوب في النار لا يستلزم النهي عن نفس الإحراق. ومثل ذلك وهو كثير. وإنما ليس هذا كله مأمورا به لأن المسببات من خلق الله - تعالى - ومن حكمه.
429 -
فَمَا المُسَبَّبَاتُ مِنْ مَقْدُورِ
…
مُكَلَّفٍ فِي جُمْلَةِ الأُمُورِ
430 -
وَكَمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ دَلِيلِ
…
مِنْ مُحْكَمِ السُّنَّةِ وَالتَّنْزِيلِ
" فما المسببات" والأحكام الشرعية وغيرها "من" الأمور التي يصح دخولها تحت "مقدور" شخص "مكلف" وهذا غير مختص ببعض الأمور بل ذلك "في جملة" أي كل "الأمور" سواء منها ما هو عادي، وما هو شرعي. "وكم على ذلك" الذي ذكر من ان أحكام الأسباب لا تجري شرعا على المسببات على سبيل التلازم "من دليل" هو "من محكم" بين وواضح "السنة" النبوية "و" كم دليل عليه - كذلك - من محكم "التنزيل" القرآن الكريم ومن ذلك قوله تعالى {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] وقوله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وقوله {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22] إلى آخر الآية وقوله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] الآية إلى غير ذلك مما يدل على ضمان الرزق وليس المراد نفس التسبب إلى الرزق بل الرزق المتسبب إليه ولو كان المراد نفس التسبب لما كان المكلف مطلوبا بتكسب فيه على حال ولو بجعل اللقمة في الفم ومضغها أو ازدراع الحب أو التقاط النبات أو الثمرة المأكولة لكن ذلك باطل باتفاق فثبت أن المراد إنما هو عين المسبب إليه.
وفي الحديث لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير رواه الترمذي وقال غريب ففي هذا ونحوه بيان لما تقدم ومما يبينه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)} [الواقعة: 58 - 59]، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)} [الواقعة: 63] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)} [الواقعة: 68]، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)} [الواقعة: 72] وأتى على ذلك كله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]. {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] وإنما جعل إليهم العمل ليجازوا عليه ثم الحكم فيه لله وحده واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به وإذا كان كذلك دخلت الأسباب المكلف بها في مقتضى هذا العموم الذي دل عليه العقل والسمع فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات فإذا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب فخرجت المسببات عن خطاب التكليف لأنها ليست من مقدورهم ولو تعلق بها لكان تكليفا بما لا يطاق وهو غير واقع كما تبين في الأصول
431 -
وَإِنْ أَتَى مَا يُوهِمُ اسْتِلْزَامَا
…
عُدَّ اتِّفَاقًا ذَاكَ لَا لِزَامَا
432 -
وَفِي اخْتِلَافِ الحُكْمِ فِي المُسَبَّبِ
…
مَعْ سَبَبٍ بُرْهَانُ هَذَا المَطْلَبِ
433 -
فَقَدْ يُرَى الحُكْمُ الَّذِي قَدْ وَجَبَا
…
عَنْ سَبَبٍ أُبِيحَ قَدْ تَسَبَّبَا
434 -
وَمَا مَضَى فِي السَّبَبِ المَشْرُوعِ
…
فَأَمْرُهُ أَسْهَلُ فِي المَمْنُوعِ
" وإن أتي" من ذلك - الأسباب والمسببات - "ما يوهم حاله" وواقعه "استلزاما" شرعيا، ما تقدم بيانه. ومثل ذلك يقال في تلازم حرمتين كمثل حرمة بيع الربا والغرر والجهالة وحرمة الانتفاع المسبب عن تلك العقود، فالأمر فيهما كالأمر فيما تقدم في الإباحتين المتقدمتين "وفي اختلاف الحكم" الحاصل في "المسبب مع" الحكم الحاصل في "سبب" له أي سببه "برهان" وحجة هذا المطلب الذي يراد العلم به هنا وهو ما تقدم من عدم التلازم الشرعي بين الحكمين - والمطلوب هو ما يبرهن عليه في العلم، ويكون الغرض في ذلك العلم معرفته - "فقد يرى" ويوجد "الحكم" الشرعي "الذي قد وجبا" وهو "عن سبب أبيح" فقط "قد تسببا" يعني قد ترتب ووجد، وذلك كما نقول في الانتفاع بالمبيع أنه مباح، نقول في النفقة عليه إنها واجبة، إذا كان حيوانا" والنففة من المسببات العقد المباح. وكذلك حفظ الأموال الممتلكة مسبب مباح، وهو مطلوب. ومثل ذلك الزكاة فإنها لا توصف بالتحريم إذا وقعت في غير المأكل كالخنزير والسباع العادية والكلب ونحوها، مع ان الانتفاع محرم في جميعها أو في بعضها، ومكروه في البعض.
"وما" يعني هذا الذي قد "مضى" تقريره في "السبب المشروع" من أَنَّهُ لا تلازم بين حكمه وحكم مسببه شرعا، من الأدلة على ذلك هذا الذي تقدم وما ذكر قبل "فـ" زائدة "أمره" يعني جريان تقريره وبيان أمره - حكمه - "أسهل في "السبب "الممنوع" لأن ما تسبب عنه محرم أصلا وبحكم شرعي موجب لذلك خاص به ولا تأثير لسببه في ذلك.
قال الشاطبي: وأما الأسباب الممنوعة فأمرها أسهل لأن معنى تحريمها أنها في الشرع ليست بأسباب وإذا لم تكن أسبابا لم تكن لها مسببات فبقي المسبب عنها على أصلها من المنع لا أن المنع تسبب عن وقوع أسباب ممنوعة وهذا كله ظاهر فالأصل مطرد والقاعدة مستتبة وبالله التوفيق.
"
المسألة الثالثة
"
435 -
وَلَيْسَ يَلْزَمْ مَعْ تَعَاطِي السَّبَبِ
…
قَصْدُ المُكَلَّفِ إِلَى المُسَبَّبِ
436 -
بَلْ أَنْ يَكُونَ جَارِيَ الأفْعَالِ
…
مِنْ تَحْتِ الأَحْكَامِ بِكُلِّ حَالِ
437 -
دَلِيلُهُ مَا فِي مُسَبَّبٍ ظَهَرْ
…
مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْدُورِ البَشَرْ
وما تقدم من الأمثلة في أن النهي عن القتل لا يستلزم النهي عن إزهاق الروح وتطايرها، يبين هذا الحكم في الأسباب الممنوعة.
إذا تقرر - هذا - وهو ان مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات فإن ذلك ينبني على ما سيذكره في المسألة الموالية.
"المسألة الثالثة"
في أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها بل المقصود منه الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير، أسبابا كانت أو غير أسباب، معللة كانت أو غير معللة.
قال الناظم: "وليس يلزم" - بسكون الميم للضرورة - أي لا يجب مع "تعاطي" تناول "السبب" والإتيان به "قصد" الشخص الـ "مكلف" المتناول لذلك السبب الالتفات "إلى" شأن "المسبب" الذي يمكن أن ينشأ عن سببه هذا "بل" مقصوده الشرعي من ذلك التناول هو "أن يكون جاري" أي ماضي "الافعال" يعني أن تكون أفعاله جارية وماضية "من تحت الأحكام" الموضوعة شرعا، لا غير "بكل حال" سواء كانت تلك الأحكام أسبابا، أو غيرها سواء كانت معللة أو غير معللة، فالعبد قد تعبده الله بخضوعه لأحكامه - تعالى - كيفما كانت، فيجب عليه الخضوع لجريان مقتضياتها، التي أمر خلقها وإيجادها إنما هو الله رب العالمين "دليله" أي دليل ما ذكر هو "ما" قد بان "في" حال الـ "مسبب" سواء كان عن سبب يصح دخوله تحت مقدور المكلف أم لا، و"ظهر" من أنه ليس بداخل تحت "مقدور البشر" وإنما هو راجع إلى الحاكم المسبب سبحانه وتعالى كما سبق بيانه ومن تشوف إلى المزيد من الأدلة على ذلك فليرجع إلى الأصل - الموافقات - في الموضع، قبله.
" المسألة الرابعة"
438 -
وَالقَصْدُ فِي الشَّرْعِ لِوَضْعِ السَّبَبِ
…
يَسْتَلْزِمُ القَصْدِ إلَى المُسَبَّبِ
439 -
لِأَنَّ الأسْبَابَ بِحَيْثُ شُرِّعَتْ
…
لِأجْلِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا وُضِعَتْ
440 -
فَقَصْدُهَا قَصْدٌ لِمَا عَنْهَا يُرَى
…
نَاشِئًا أَوْ بِأَصْلِهَا مُسْتَثْمِرَا
441 -
وَلَيْسَ بَيْنَ مَا مَضَى تَنَاقُضُ
…
وَبَيْنَ هَذَا لَا وَلَا تَعَارُضُ
442 -
فَقَصْدُ ذَا يَرْجِعُ لِلْوُقُوعِ
…
وَذَاكَ لِلتَّكْلِيفِ بِالمَشْرُوعِ
" المسألة الرابعة"
المسألة الرابعة
في أن وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع - الشارع - إلى المسببات. قال الناظم: "والقصد" الحاصل "في الشرع لوضع السبب يستلزم" بالضرورة العقلية والشرعية "القصد إلى" تحصيل وإدراك "للمسبب" الناشيء عنها، وذلك "لـ" أدلة تقضي بذلك، منها "أن الأسباب بحيث" يعني في أي موضع "شرعت" أسبابا إنما شرعت "لأجل ما ينشأ عنها" من مسبباتها، ولذلك "وضعت" فهي لم تكن موضوعة لنفسها من حيث هي أسباب، بل لما ذكر "فقصدها" يعني فقصد وضعها "قصد" بالضرورة "لما عنها" من المسببات "يرى" أي يعلم أو يبصر "ناشئا" ومترتبا "أو" قصد لما "بأصلها" يعني في التي جعلت هي فيه أسبابا ومقصوده به على ما يظهر الحكم - "مستثمرا" يعني مأخوذا من الثمرات التي هي درء المفاسد وجلب المصالح، وذلك لأن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد، وهي مسبباتها قطعا "وليس بين ما مضى" ذكره في المسألة الثانية وهو أن الأسباب غير مقصودة للشارع من جهة الأمر "تناقض وبين هذا" الذي ذكر هنا "لا، ولا" بينهما "تعارض" لأن القصدين: القصد في المسألة الثانية والقصد في هذه المسألة متباينان. "فقصد ذا" أي هذا الذي ذكر في هذا المقام من الشارع "راجع لـ" قصد الشارع لـ "لوقوع" والحدوث لما ينشأ عن تلك الأسباب من مسببات، "وذاك" القصد الذي ذكر هنالك راجع "للتكليف بـ" السبب "المشروع" والتكليف به لا يستلزم التكليف بمسببه كما مر بيانه، فبان بذلك أنه لا تعارض ولا تناقض بين حكمي القصدين لاختلاف موردهما.
"
المسألة الخامسة
"
443 -
وَحِينَ لَا يَلْزَمُ فِي المُسَبَّبِ
…
قَصْدٌ إِلَيْهِ مَعْ تَعَاطِي السَّبَبِ
444 -
فَلِلْمُكَلَّفِينَ تَرْكُ القَصْدِ
…
لَهُ وَمَا قَدْ مَرَّ ذَاكَ يُبْدِي
" المسألة الخامسة"
في أنه إذا ثبت أنه لا يلزم المكلف القصد إلى المسبب كما تقدم بيانه وتقريره الثالثة السابقة فإن له ترك القصد إليه بإطلاق، وله القصد إليه، إن شاء. قال الناظم:"وحين" ثبت وتقرر أنه "لا يلزم" المكلف ولا يجب عليه "في" شأن "المسبب قصد إليه" أي قصد إلى تحصيله، وإيجاده، أو حصوله، ووجوده مع "تعاطي" تناول "السبب" والإتيان به فإن للمكلفين إن شاءوا "ترك القصد إليه" أي للمسبب لأنَّهُ غير واجب عليهم القصد إليه "وما قد مر" ذكره في المسألة الثالثة في هذا الشأن "ذاك" وهو أنه يصح ترك القصد إليه "يبدي" أي يظهر. وعلى هذا فإنه لو قيل لك لم تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرها؟ قلت: لأن الشارع ندبني إلى تلك الأعمال؛ فأنا أعمل على مقتضى ما أمرت به. كما أنه أمرني أن أصلي وأصوم وأزكي وأحج إلى غير ذلك من الأعمال التي كلفني بها، فإن قيل لك إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح، قلت: نعم، وذلك إلى الله لا إلي، فإن الذي إلى التسبب، وحصول المسببات ليس إلي. فأصرف قصدي إلى ما جعل إلي وأكل ما ليس لي إلى من هو له. ومما يدل على هذا أيضًا: أن السبب غير فاعل بنفسه، بل إنما وقع المسبب عنده لا به، فإذا تسبب المكلف فالله خالق السبب، والعبد مكتسب له {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7، 8]- وفي حديث العدوى قوله عليه الصلاة والسلام: "فمن أعدى الأول"؟.
وقول عمر في حديث الطاعون: نفر من قدر الله إلى قدر الله. حين قال له عمرو بن العاص: أفرارا من قدر الله". وفي الحديث: "جف القلم بما هو كائن، فلو اجتمع الخلق أن يعطوك شيئًا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، وعلى أن يمنعوك شيئًا كتبه الله لك لم يقدروا عليه." والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع، وإذا كان كذلك فالالتفات إلى
445 -
وَلَهُمُ القَصْدُ لَهُ بِمَا اسْتَقَرْ
…
فِي الخَلْقِ عَادَةً وُجُودُهَا اسْتَمَرْ
446 -
إِذْ جَعَلَ اللهُ فِي الاِكْتِسَابِ
…
رَبْطَ المُسَبَّبَاتِ بِالأَسْبَابِ
المسبب في فعل السبب لا يزيد على ترك الالتفات إليه؛ فإن المسبب قد يكون، وقد لا يكون، هذا وإن كانت مجاري العادات تقتضي أنه يكون، فكونه داخلا تحت قدرة الله يقتضي أنه قد يكون وقد لا يكون، ونقض مجاري العادات دليل على ذلك، وأيضا: فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد إلى المسبب.
فإن قيل: قصد الشارع إلى المسببات والتفاته إليها، دليل على أنها مطلوبة القصد من المكلف، وإلا فليس المراد بالتكليف إلا مطابقة قصد المكلف لقصد الشارع، إذ لو خالف لم يصح التكليف كما تبين في موضعه من الكتاب. فإذا طابقه صح، فإذا فرضنا هذا المكلف غير قاصد للمسببات، وقد فرضناها مقصودة للشارع، كان بذلك مخالفا له، وكل تكليف قد خالف القصد فيه الشارع فباطل كما تبين. فهذا كذلك.
فالجواب: أن هذا إنما يلزم إذا فرضنا أن الشارع قصد وقوع المسببات بالتكليف بها كما قصد ذلك بالأسباب، وليس كذلك، لما مر أن المسببات غير مكلف بها، وإنما قصده وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق، وهو أن يكون خلق المسببات على أثر ارتفاع المكلف للأسباب ليسعد من سعد ويشقى من شقي، فإن قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط له بالقصد التكليفي، فلا يلزم قصد اليكلف إليه إلا أن يدل على ذلك دليل، ولا دليل عليه. بل لا يصح ذلك، لأن القصد إلى ذلك قصد إلى ما هو فعل الغير، ولا يلزم أحدا أن يقصد وقوع ما هو فعل الغير لأنَّهُ غير مكلف بفعل الغير، وإنما يكلف بما هو من فعله، وهو السبب خاصة، فهو الذي يلزم القصد إليه، ويعتبر فيه موافقة قصد الشارع.
"فصل" في أن للمكلف القصد إلى المسببات: قال الناظم: "ولهم" أي للمكلفين - يعني يجوز لهم - "القصد" إلى تحصيل أو حصول "له" أي المسبب، وذلك "بـ" سبب وحكم "ما استقر" وثبت "في" نفوس "الخلق" وكان "عادة" لهم من الالتفات إلى العوائد التي "وجودها" وجريانها "استمر" في هذه الدنيا، ولا مخالفة شرعية في هذا القصد "إذ جعل الله في الاكتساب" الذي يحصل من العبد "ربط المسببات بالأسباب"
447 -
وَمَا أَتَى بِقَصْدِ الاِمْتِنَانِ
…
يُشْعِرُ بِالصِّحَّةِ فِي ذَا الشَّانِ
448 -
وَمُسْتَتِبٌّ فِي العِبَادِيَّاتِ
…
ذَاكَ كَمَا اسْتَتَبَّ في العَادَاتِ
"
المسألة السادسة
"
449 -
وَالقَصْدُ لِلْمُسَببَّاتِ بِالسَّبَبْ
…
الدَّاخِلُونَ تَحْتَهُ عَلَى رُتَبْ
الناشئة عنها، أمر أجراه عوائد في خلقه "و" يزاد على هذا أن "ما أتى" من النصوص الشرعية التي فيها ذكر "الامتنان" من الله على خلقه بما أنعم به عليهم من نعم هو دليل "يشعر بالصحة" في ذا أي هذا "الشأن" وهو القصد إلى المسببات.
ومن ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية: 12] وقوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23] وقوله عز وجل: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
قال الشاطبي: فمن حيث عبر بالقصد إلى الفضل عن القصد إلى السبب الذي هم الاكتساب، وسيق مساق الامتنان من غير إنكار، أشعر بصحة ذلك القصد
(1)
"ومستتب" أي ثابت ومستقر "في" شأن الأمور "العباديات" من صلاة وزكاة وغيرها صحة "ذاك" القصد، فالقصد إلى ما وعد على فعلها من أجر وجزاء في الدار الآخرة صحيح ومستتب "كما استتب" ذلك "في العادات" كالقصد إلى اكتساب فضل الله من الانتشار في الأرض، وغير ذلك مما تقدم ذكره، وغيره.
"المسألة السادسة"
في أن القاصدين إلى المسبب على مراتب ثلاثة:
قال الناظم: "والقصد لـ" حصول ووقوع "المسببات بـ" فعل السبب والإتيان به "الداخلون تحته" يعني تحت حكمه المتلبسون به ليسوا كلهم على رتبة واحدة، وإنما هم "على رتب" ثلاث، مختلفة متفاوتة بحسب معتقد ذلك القاصد للمسبب في سببه
(1)
انظر الأصل الموافقات 1/ 145 - 146.
450 -
فَدَاخِلٌ وَهْوَ يَظنُّ السَّبَبَا
…
فَاعِلٌ مَا عَنْهُ يُرَى مُسَبَّبَا
451 -
فَذَا يُضَاهِي الشِّرْكَ وَالقَصْدُ لَهُ
…
قَصْدٌ لِمَا التَّشْرِيعُ قَدْ أَهْمَلَهُ
452 -
وَدَاخِلٌ لِأَنْ يَكُونَ السَّبَبُ
…
يُوجَدُ عَادَةً بِهِ المُسَبَّبُ
453 -
وَهْوَ الَّذِي قَدْ مَرَّ فِي التَّقْرِيرِ
…
وَحَالُهُ يَلِيقُ بِالجُمْهُورِ
" فـ" منهم "داخل" في ذلك القصد "و" - الواو واو الحال - أي حالة كونه "يظن" أن "السببا" الألف للإطلاق - الذي توسل به لذلك "فاعل" بذاته ومنشئ "ما عنه" من مسبب يترتب و"يرى" أي يعلم، أو يبصر، ومن كان على هذا المعتقد فإنه قد خرج عن سبيل المومنين الموحدين "فذا" أي هذا المعتقد "يضاهي" يشبه "الشرك" الذي عليه عباد الأوثان، وقد يكون منهم "والقصد له" أي للمسبب مع هذا المعتقد "قصد لما" أي لأمر حكم "التشريع" في هذا الدين ومقتضاه "قد أهمله" بل قد حرمه، إذ هو شرك، والعياذ بالله. والسبب غير فاعل بنفسه و {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] والأدلة في هذا الباب كثيرة، وقطعيته في هذا الشأن. هذا الحال أهل الرتبة الأولى.
ثم ذكر حال أهل الرتبة الثانية، فقال:"و" منهم "داخل" في ذلك "لـ" أجل "أن يكون السبب يوجد" ويحصل "عادة به" أي بواسطته "المسبب" ومحصوله طلب المسبب عن السبب لا باعتقاد الاستقلال، بل من جهة كونه موضوعا على أنه سبب لمسبب، فالسبب لابد أن يكون سببا لمسبب؛ لأنَّهُ معقوله، وإلا لم يكن سببا، فالالتفات إلى المسبب من هذا الوجه ليس بخارج عن مقتضى عادة الله في خلقه، ولا هو مناف لكون السبب واقعا بقدرة الله تعالى؛ فإن قدرة الله تعالى تظهر عند وجود السبب وعند عدمه، فلا ينفي وجود السبب كونه خالقًا للمسبب، لكن هنا قد يغلب الالتفات إليه حتَّى يكون فقد المسبب مؤثرا ومنكرا، وذلك لأن العادة غلبت على النظر في السبب بحكم كونه سببا ولم ينظر إلى كونه موضوعا بالجعل لا مقتضيا بنفسه.
"وهو" يعني وهذا الضرب من تلك الأحوال "هو الذي قد مر في التقرير" الذي أورد في المسألة السابقة - المسألة الخامسة - حيث الحديث عن حكم القصد إلى المسببات بفعل الأسباب "وحاله" أي حال هذا الضرب هو الذي "يليق بالجمهور" لأنَّهُ
454 -
وَدَاخِلٌ فِي ذَاكَ غَيْرَ سَاهِ
…
أَنَّ المُسَبَّبَاتِ فِعْلُ اللهِ
455 -
وَمُقَتَضَى هَذَا اعْتِبَارُ السَّبَبِ
…
بِحَيْثُ مَا يُنْسَبُ لِلْمُسَبَّبِ
456 -
وَتَرْكُ الاِلْتِفَاتِ لِلْمُسَبَّبِ
…
القَاصِدُونَ نَحْوَهُ فِي رُتَبِ
457 -
فَمِنْهُمُ الدَّاخِلُ فِي حُكْمِ السَّبَبْ
…
مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ إِلَى الشَّرْعِ انْتَسَبْ
458 -
وَوَضْعُهُ لِلْعَالَمِ الإِنْسَانِي
…
لِلاِبْتِلَاءِ وَلِلامْتِحَانِ
غالب أحوال الخلق - المسلمين - في الدخول في الأسباب.
أما حالة الرتبة الثالثة فقد أوردها فقال: "و" منهم "داخل في ذاك" القصد، حال كونه "غير ساه" عن أن المسببات إنما هي "فعل الله" وخلقه، فيكون الغالب عن صاحب هذه المرتبة اعتقاد أنه مسبب عن قدرة الله وإرادته، من غير تحكيم لكونه سببا" فإنه لو صح كونه سببا محققا لم يتخلف، كالأسباب العقلية، فلما لم يكن كذلك تمحض جانب التسبب الرباني بدليل السبب الأول، وهنا يقال لمن حكمه: فالسبب الأول عماذا تسبب" وفي مثله قال عليه الصلاة والسلام: "فمن أعدى الأول؟ " فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله فالله هو المسبب لا هي" إذ ليس له شريك في ملكه"ومقتضى هذا" المعتقد هو اعتبار السبب "فيه" أي في المسبب "من حيث" يعني من جهة "ما ينسب" من الخلق والإيجاد "للمسبب" - بكسر الباء - يعني الخالق سبحانه فقط. فصاحب هذه المرتبة يرى أن السبب إذا طلب به المسبب وجعل وسيلة لذلك، خلق الله - تعالى - ذلك المسبب بذلك إن شاء الله فالخلق إنما هو له سبحانه وحده.
في أن تارك الالتفات إلى المسببات على مراتب ثلاثة:
قال الناظم: "وترك الالتفات" والقصد "لـ" حصول أو تحصيل "المسبب" بعد الإتيان بسببه "القاصدون" بأسبابهم "نحوه" أي نحو عدم الالتفات لتحصيل المسبب، أو حصوله، الذين بنوا عقيدتهم في الشأن على المضي في هذه الجهة - عدم الالتفات - هم "في رتب" يعني على درجات ثلاث. "فمنهم الداخل في" تحصيل "حكم السبب" وكسبه "من حيث" أي من جهة "أنه" أي السبب "إلى الشرع" الإلهي "انتسب""و" قد "وضعه" الشارع "لـ" قصد "الابتلاء" للعباد "والامتحان" لهم من غير التفات إلى ما
459 -
وَقَاصِدٌ ذَا مُهْتَدٍ فِي قَصْدِهْ
…
وَعَامِلٌ لِلَّهِ فِي تَعَبُّدِهْ
460 -
وَالاِبْتِلَاءُ مِنْهُ لِلْعُقُولِ
…
مِنْ حَيْثُ مَا تَنْظُرُ فِي المَعْقُولِ
461 -
وَمِنْهُ لِلنُّفُوسِ مِنْ حَيثُ النَّظَرْ
…
لِحَاكِمِ الشَّرْعِ وَمَحْتُومِ القَدَرْ
462 -
وَكَمْ لَدَى الكِتَابِ مِنْ أَدِلَّهْ
…
فِي مَعْنَى الاِبْتِلَاءِ مُسْتَقِلَّهْ
سوى ذلك "وقاصد" معتقد "ذا" هذا الأمر "وقاصد" له من اكتساب السبب والإتيان به "مهتد" إلى الحق "في مفصده" هذا "و" هو "عامل لـ" وجه "الله" تعالى "في تعبده" بذلك، وتقربه إليه - سبحانه - بذلك.
"و" هذا الابتلاء الحاصل "منه" أي وضع الأسباب والمسببات هو على وجهين، فمنه ما وضع "لـ" ابتلاء "العقول" وذلك العالم كله، وكذلك "من حيث" أي من جهة "ما تنظر في" أحواله وأحكامه من "المعقول" أي المدرك بالعقول من آيات وبراهين دالة على علوم ومعارف، ومن صنعة الإلهية يستدل بها على ما وراءها من صفات القدرة والعلم والإرادة الإلهية وغير ذلك. هذا هو الوجه الأول.
"ومنه" أي من الأسباب والمسببات ما وضع "لـ" ابتلاء "النفوس" وهو العالم كله - أيضًا - لكن لا من حيث النظر العقلي الذي مضى ذكره، بل "من حيث" أي من جهة "النظر" في هذا العالم من حيث هو موصل المنافع والمضار إلى العباد، ومن حيث هو مسخر لهم ومنقاد لما يريدون فيه، لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر، ولتجري أعمالهم خاضعة "لحاكم الشرع" يعني لحكم الشرع. وقد يكون معناه "للشرع الحاكم"، فيكون من باب إضافة الصفة للموصوف، وقد يكون من باب إضافة الاسم لما به اتحد، فيكون معناه:"للشرع الذي هو الحاكم" ولا يخفى ما فيه. عبارة الشاطبي: "ولتجري أعمالهم تحت حكم الشرع ليسعد بها من سعد ويشقى من شقي وليظهر مقتضى العلم السابق"
(1)
"ومحتوم القدر" يعني القدر المحتوم الذي لا مرد له، فإن الله غني عن العالمين، ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط لكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها "وكم لدى" أي في "الكتاب "المكنون - القرآن - "من أدلة" وردت "في" يعني على "معنى الابتلاء" هذا وأن الأسباب إنما وضعت للابتلاء، وتلك الأدلة "مستقلة" لبيان هذا المعنى، ومخصوصة له. ومن ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
(1)
الموافقات 1/ 148.
463 -
وَدَاخِلٌ دُونَ التِفَاتِ السَّبَبِ
…
مِنْ أَصْلِهِ فَضْلًا عَنِ المُسَبَّبِ
464 -
فَقَصْدُ ذَا جَارٍ عَلَى التَّجَرُّدِ
…
لِيُفْرِدَ المَعْبُودَ بِالتَّعَبُّدِ
465 -
إِذِ التِفَاتُ المُحْدَثِ الوُجُودِ
…
ضَرْبٌ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي التَّوْحِيدِ
466 -
وَحُكْمُ ذَا ظَاهِرُ الاِقْتِنَاصِ
…
مِنْ كُلِّ مَا قَدْ جَاءَ فِي الإِخْلَاصِ
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] وقوله سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7]{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس: 14 {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على هذا المعنى. فإذا تقرر هذا فإن الآخذ للأسباب من هذه الجهة آخذ لها من حيث وضعت مع التحقيق بذلك فيها. وهذا صحيح وصاحب هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها
(1)
. هذا حال أهل هذه الرتبة وحكمهم.
وأما من بعدهم في الذكر - وهم أهل الرتبة الثانية، ففي بيان حالهم وحكمهم يقول الناظم:"و" منهم "داخل" في تحصيل الأسباب "دون" أي من غير "التفات" منه لـ "لسبب" أو اعتبار له "من أصله" أي من حيث إنه أمر محدث وموجد من عدم، "فضلا عن" الالتفات إلى "المسبب" الذي الالتفات إليه أبعد من الالتفات إلى السبب عادة "فقصد ذا" وهو عدم الالتفات المذكور "جار" وماض في تحصيله للأسباب "على" قصد "التجرد" من أي مقصود أو معتبر فيما يأتي ويذر من أعماله إلا الخالق - سبحانه - وذلك "ليفرد" أي من أجل أن يفرد "المعبود" عز وجل "بالتعبد" بناء على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده سواه، واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة "إذ التفات" العبد في أعماله إلى "المحدث الوجود" وقصد إليه فيها هو "ضرب" أي نوع "من التشريك في" الذي يجب له - تعالى - من خالص"التوحيد" بالعبادة "وحكم ذا" أي هذا القصد وأهله ظاهر بين الاقتناص الأخذ - يعني ظاهرا اقتناصه فيه - إضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه وهو جائز، إذا كان لازما - كما هنا - أو متعديا لواحد. ويجوز إلحاقه بالصفة المشبهة فيجوز فيما بعده الجر والنصب والرفع - فكلمة الاقتناص هذه يجوز فيها كل ذلك - واستخراجه "من كل ما قد جاء" من الأدلة "في" مدح "الإخلاص" والأمر به، ومن ذلك قوله تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2، 3] {فَمَنْ كَانَ
(1)
انظر الأصل، الموافقات 1/ 149.
467 -
وَدَاخِل فِي سَبَبٍ أَتَاهُ
…
بِحُكْمِ إِذْنِ الشَّرْعِ لَا سِوَاهُ
468 -
فَهْوَ مُلَبٍّ فِيهِ قَصْدَ الآمِرِ
…
مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ شَأْنٍ ظَاهِرِ
469 -
لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ المُسَبِّبُ
…
لِكُلِّ مَا عَنْ سَبَبٍ يُسَبَّبُ
470 -
وَأَنَهُ أَجْرَى بِذَاكَ العَادَهْ
…
مُبْتَلِيًا بِمُقْتَضَى الإِرَادَهْ
471 -
وَأَنَّهُ يَخْرِقُهَا إِنْ شَاءَا
…
كَرَامَةً مِنْهُ أَوِ ابْتِلَاءَا
يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110] وسائر ما كان من هذ الباب، وكذلك دلائل طلب الصدق في التوجه لله رب العالمين، كل ذلك يشعر بهذا المعنى المستنبط في خلوص التوجه وصدق العبودية، فصاحب هذه الرتبة متعبد لله تعالى بالأسباب الموضوعة على اطراح النظر فيها من جهته، فضلا عن أن ينظر في مسبباتها، فإنما يرجع إليها من حيث هي وسائل إلى مسببها وواضعها، وسبب إلى الترقي لمقام القرب منه فهو إنما يلحظ فيها المسبب خاصة.
ثم انتقل إلى ذكر حال أهل المرتبة الثالثة وحكمهم فقال "و" منهم أي هؤلاء الذين لا يلتفتون إلى الأسباب "داخل في" كسب وتحصيل كل "سبب أتاه بحكم" ومقتضى "إذن الشرع" له في ذلك "لا" بحكم ولا باعتبار ما "سواه" من الأمور الأخرى - كالقصد إلى تحصيل الأسباب والمسببات في ذاتها - وبذلك "فهو ملب" أي مستجيب "فيه" أي في إتيانه بالأسباب على هذا الحال "قصد الآمر" في ذلك السبب، وهو الشارع "مجردا عن" التعلق بغير ذلك الإذن، وعن النظر إلى "كل" يعني عن أي "شأن" أمر "ظاهر" أي مدرك بالحواس محدث، وإنما التفت إلى الإذن وقصد الآمر منه "لعلمه بأنه" أي الآمر هو "المسبب" أي الموجد حقيقة "لكل ما عن سبب يسبب" أي ينشأ، ويوجد "وأنه" تعالى إنما "أجرى بذلك" وهو حصول المسببات عن أسبابها "العادة" حتَّى اطردت في الخلق "مبتليا" بذلك خلقه وممحصا لهم، وذلك "بمقتضى" وحكم "الإرادة" أي إرادته - سبحانه - "و" لو شاء لم يجرها كما "أنه" قد "يخرقها" فيمضي حالها على غير ما هو معهود فيها "إن شاءا" - الألف للإطلاق - "كرامة منه" - سبحانه - لأوليائه "أو ابتلاء" واختبارا لخلقه ليعلم المتعظ بذلك منهم والمعتبر من سواه، ومن كان من أهل هذه الرتبة في شأن الأسباب.
472 -
فَذَا تَوَخَّى فِيهِ قَصْدَ الشَّارعِ
…
دُونَ التِفَاتِ غَيْرِهِ فِي الوَاقِعِ
473 -
فَهْوَ إِذًا مُطَّلِبٌ عَنْ سَبَبِ
…
مُسَبَّبًا لكِنْ مِنَ المُسَبِّبِ
"
المسألة السابعة
"
474 -
وَمَا أتَى النَّهْيُ عَنِ الدُّخُولِ
…
فِيهِ مِنَ الأَسْبَابِ فِي المَنْقُولِ
475 -
فَوَاضِحٌ فِيهِ انْحِتَامُ الطَّلَبِ
…
شَرْعًا بِرَفْعِ ذَلِكَ المُسَبَّبِ
" فذا قد توخى" أي قصد وتحرى "فيه" أي في هذا الذي هو عليه "قصد الشارع" سبحانه في شأن الأسباب والمسببات "دون التفات" يعني من غير اعتبار "غيره" مما سوى ذلك "في الواقع" من المحدثات وأحوالها كنشوء المسببات عن الأسباب وترتبها عنها، وإنما قصد ما قصده الشارع من وضع الأسباب والمسببات - كما تقدم ذكره - "فهو إذا" أي إذا قصد ما ذكر "مطلب" - بكسر اللام - من اطلب بمعنى طلب - "عن" كسب "سبب" وبواسطته "مسببا" يحصل عنه عادة "لكن" لم يطلبه من السبب بل لم يلتفت إليه في ذلك، وإنما طلبه "من المسبب" - بكسر الباء - أي الخالق - سبحانه -.
"المسألة السابعة"
في أن النهي عن الدخول في سبب ما يقتضي طلب رفع التسبب به، سواء علينا أكان المتسبب قاصدا لوقوع المسبب أم لا فإنه يتأتى منه الأمران: فقد يقصد بالقتل العدوان إزهاق الروح فيقع، وقد يقصد بالغصب انتفاعه بالمغصوب فيقع على مقتضى العادة لا على مقتضى الشرع، وقد لا يقع البتة، وقد يعزب عن نظره القصد إلى المسبب والالتفات إليه، لعارض يطرأ غير العارض المتقدم الذكر" ولا اعتبار به، وإن كان غير منهي عنه فلا يطلب رفع التسبب في المراتب المذكورة كلها.
قال الناظم: "وما أتى" عن الشارع "النهي عن الدخول فيه" وكسبه "من الأسباب" كالغصب والسرقة لتحصيل الانتفاع، والزنى لتحصيل الاستمتاع، وغير ذلك مما ورد النهي عنه "في المنقول" نصوص الكتاب والسنة "فواضح" أي جلي بين "فيه" أي في حال ذلك المنهي عنه بمقتضى ذلك النهي ودلالته أنه قد ثبت به "انحتام" أي لزوم "الطلب شرعا" وقوعه "برفع ذلك السبب" - مصدر ميمي - يعني التسبب وبيان كلامه: أن الشارع إذا نهى عن سبب فإن ذلك يقتضي وقوع الطلب منه بوجوب رفع
476 -
سَواءٌ القَصْدُ إِلَى أَنْ يَقَعَا
…
مُسَبَّبٌ وَعَدَمُ القَصْدِ مَعَا
477 -
وَحَيْثُ لَا نَهْيَ فَذَا لَا يُطْلَبُ
…
فِي حَالَةٍ أَنْ يُرْفَعَ التَّسَبُّبُ
478 -
وَهْوَ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ الرُّتَبِ
…
مُتَّضِحٌ مِنِ انْتِفَاءِ السَّبَبِ
479 -
لَاكِنَّ فِي الأُولَى اعْتِقَادُ المُعْتَقِدْ
…
مَعْصِيَّةٌ قَدْ قَارَنَتْ لِمَا قُصِدْ
480 -
فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِمَا طُلِبْ
…
شَرْعًا وَلَا لِمَا لإِذْنٍ قَدْ نُسِبْ
481 -
وفَي الأُصُولِ خُلْفُ ذَا الأَصْلِ اجْتُلِبْ
…
مِثْلُ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ قَدْ غُصِبْ
التسبب بذلك السبب مطلقا "سواء القصد" من المتسبب به "إلى أن يقعا" - الألف للإطلاق - ويحصل "مسبب"ما عنه "و" حالة وقوع "عدم القصد" منه إلى ذلك، فكلا الأمرين "معا" سواء في ذلك فمنع التسبب بالسبب المنهي عنه جار على كل حال "و" أما "حيث لا نهي" من الشارع عن الدخول فيه "فذا" الذي لم ينه عن الدخول فيه "لا يطلب" في أي حالة "أن يرفع التسبب" به "وهو" أي ذلك التسبب "صحيح" شرعا "في جميع الرتب" المذكورة، وهي: القصد إلى وقوع المسبب، والقصد إلى عدم وقوعه. وقع أو لم يقع. أو وقعت الغفلة عن القصد إلى المسبب وعدمه لعارض يطرأ. فالسبب به صحيح في جميع هذه المراتب "متضح" بين ذلك "من انتفاء" وعدم "السبب" الموجب لطلب رفع التسبب به "لكن" يوجد "في" المرتبة "الأولى" أمر ينبغي بيانه وهو أن اعتقاد المتسبب في السبب أنه فاعل بذاته إن وجد، هو "معصية قد قارنت" أي صاحبت "لما قصد" من حصول المسبب بذلك السبب المباح أو المطلوب إلا أن ذلك لا يؤثر في صحة ذلك السبب.
"فلا يكون" ذلك الاعتقاد "مبطلا" ومفسدا "لما طلب" بذلك التسبب "ولا" مبطلا "لما" طلب بالتسبب الذي "لإذن" شرعي "قد نسب" وهو المباح، يعني ولا بالتسبب المباح. هذا كله عند من يرى - وهم جماهير العلماء - أن هذه المقارنة غير مفسدة، "وفي" كتب علم "الأصول" نقل عن بعض العلماء "خلف" أي خلاف "ذا" أي هذا "الأصل" وهو أن تلك المقارنة لا تقتضي الفساد شرعا "واجتلب" عنهم إذا رأوا أنها - أي تلك المقارنة - تقتضي الفساد شرعا، وقد بنى على الخلاف في هذا الأصل الخلاف في مسائل فقهية، وذلك مثل الذبح بالسكين المغصوب، "ومثل الصلاة في مكان قد غصب"، فمن رأى أن تلك المقارنة لا تقتضي الفساد ذهب في ذلك كله إلى الصحة. ومن رأى خلاف ذلك فيه ذهب إلى الفساد. وأما حال المرتبة الثانية والثالثة فمحل بسط الكلام فيه الأصل.
"
المسألة الثامنة
"
482 -
وَمُنْزِلٌ فِي الشَّرْعِ وَقَعَ السَّبَبِ
…
مَنْزِلَةَ الإِيقَاعِ لِلْمُسَبَّبِ
483 -
مَعْ قَصْدِهِ أَوْ دُونَهُ وَقَاعِدَهْ
…
مَجْرَى عَوِائِدِ الوُجُودِ شَاهِدَهْ
484 -
كَنِسْبَةِ الشَّبَعِ وَالإِرْوَاءِ
…
إِلَى الطَّعَامِ عَادَةً وَالمَاءِ
485 -
كذَاكَ الأَفْعَالُ الَّتِي تَسَبَّبُ
…
عَنْ كَسْبِنَا طُرًّا إِلَيْنَا تُنْسَبُ
486 -
فَمُنْذُ صَحَّ فِي المُسَبَّبَاتِ
…
الجَرْيُ عَلَى الأَسْبَابِ فِي العَادَاتِ
487 -
جَرَى كَذَاكَ الشَّرْعُ فِي أَسْبَابِهِ
…
مَجْرَى الَّذِي لَنَا اعْتِيَادُ بَابِهِ
" المسألة الثامنة"
في أن إيقاع السبب الشرعي هو بمنزلة إيقاع مسببه، قصد ذلك المتسبب أم لا.
قال الناظم: "ومنزل في" حكم ومقتضى "الشرع""وقع" حدوث ووجود "السبب" الحاصل من المكلف "منزلة الإيقاع" الأحداث "للمسبب" يعني لمسببه - فأل نائبة عن الضمير - سواء كان إيقاعه لذلك السبب حاصلا "مع قصده" لحصول ذلك المسبب "أو" كان حاصلا "دونه" أي دون ذلك القصد. "قاعدة مجرى العوائد بذا" أي هذا الوجود الدنيوي "شاهدة" بحالها على هذا ومقتضية له، إذ أجرى فيها نسبة المسببات إلى أسبابها، وذلك "كنسبة الشبع" - بكسر الشين وفتح الباء - "و" كنسبة "الإرواء" الذي هو إزالة العطش - والري بفتح الراء: زوال العطش - "إلى الطعام" راجع لقوله" كنسبة الشبع" ومتعلق به "عادة" أي في مجرى العادة "والماء" راجع لقوله الإرواء ومتعلق به، على طريق اللف والنشر المرتب. ومثله - أيضًا - نسبة الإحراق إلى النار، و "كذلك الأفعال التي تسبب"، أصله تتسبب، وإنما أسقطت للضرورة - هنا - ويجوز إسقاطها للتخفيف ومعنى تتسبب - هنا - تترتب وتنشأ "عن كسبنا" فإنها "طرا" جميعا "إلينا تنسب" فيقال فلان فعل، وفلان فعل، وفعلنا، وفعلوا، وإن كان ذلك كله من خلق من له الخلق والأمر، وهذا الذي عليه الأسباب العادية في نسبة مسبباتها إليها، هو ما عليه حال الأسباب الشرعية في نسبة مسبباتها إليها فمنذ صح في المسببات العادية، وثبت فيها "الجري" والمضي "على الأسباب" الموضوعة "في" مجاري "العادات" وقد تقدم التمثيل له "جرى كذاك" عرف "الشرع في أسبابه" مع مسبباتها "مجرى" هذا "الذي" حصل "لنا اعتياد بابه" في نسبة المسببات العادية إلى أسبابها العادية وإنما نسبت تلك
488 -
وَكَمْ دَلِيلٍ جَاءَ فِي المَسْمُوعِ
…
بِنِسْبَةِ المَشْرُوعِ وَالمَمْنُوعِ
489 -
لاكِنْ عَلَى الفِعْلِ بِالاِكْتِسَابِ
…
تَرَتُّبُ الثَّوَابِ وَالعِقَابِ
490 -
وَالشَّرْعُ قَدْ مَيَّزَ فِي الأَفْعَالِ
…
بِمُقْتَضَى التَّفْصِيلِ وَالإِجْمَالِ
491 -
بَيْنَ الَّذِي تَعْظُمُ فِيهِ المَصْلَحَةْ
…
بِجَعْلِهِ فِي الدِّينِ رُكْنًا أَوْضَحَهْ
إلى أسبابها لأنها مسببة عنها في مجاري العوائد، فصارت تلك الاسباب كأنها فاعلة لها مباشرة. وكذلك الأسباب الشرعية مع مسبباتها، فإنها جارية على هذا السنن - أيضًا - "وكم" من "دليلٌ" جاء "في" الدليل الشرعي "المسموع" المنقول "بـ" إثبات وإسناد "نسبة" المسبب "المشروع" أي المطلوب شرعا "و" إثبات وإسناد المسبب "الممنوع" المحظور شرعا، "لاكن على الفعل" الحاصل من المكلف "بـ""الاكتساب" يقع "ترتب الثواب" كما في سن السنة الحسنة "والعقاب" كما في سن السنة السيّئة. والأدلة الواردة في هذا الشأن كثيرة "و" هنا أمر ينبغي بيانه وهو أن "الشرع قد ميز" وفرق "في" حكمه على "الأفعال" فلم يسو بينهما في الأحكام وذلك ثابت "بمقتضى" وحكم ما ورد عنه من "التفصيل" بذكر الجزئيات التي بينها هذا التمييز - كما في المكروهات والمحرمات والواجبات والمندوبات الواردة في النصوص الشرعية بالتفصيل و"الإجمال" بذكر الكليات التي يجري فيها هذا التمييز - كما في أصول الدين وفروعه - ومرد ذلك كله إلى قوة المصلحة وضعفها، وقوة المفسدة وضعفها، ولذاك فالشارع إنما ميز في الأفعال.
"بين" الفعل "الذي تعظم فيه" يعني في كسبه "المصلحة" الشرعية، ويتجلى ذلك "بـ" أي في "جعله" أي الشارع له "ركنا" أي أصلا "في الدين" لا فرعا "أوضحه" أي بينه وهو صفة "لركنا" أي ركنا موضحا ومبينا منه. ويصح أن يكون خبرا إذا جعلت الفاء محل الباء في قوله "بجعله" فيصير "فجعله" - بالرفع مبتدأ - أي فجعله ركنا في الدين أوضح هذا التميز وأظهره. ويمكن أن يكون معطوفا على قوله "ميز" بإسقاط حرف العطف، فيكون المعنى: والشرع قد ميز في الأفعال "
…
" بين الذي تعظم فيه مصلحة وأوضح ذلك.
وعلى كل حال: خلاصة القول أن الشارع قد ميز بين ما تعظم من الأفعال مصلحته
492 -
أَوِ الَّذِي تَعْظُمُ فِيهِ المَفْسَدَةْ
…
فَفِي كَبَائِرِ الذُّنُوبِ عَدَّدَهْ
493 -
وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِذِي الوَتِيرَةْ
…
فَعَدَّهُ إحْسَانًا أَوْ صَغِيرَةْ
"
المسألة التاسعة
"
494 -
وَحَيْثُ قِيلَ فِي المسَبَّبَاتِ
…
لَيْسَتْ إِلَى العِبَادِ مَقْدُورَاتِ
495 -
وَإِنَّمَا التَّكْلِيفُ بِالأَسْبَابِ
…
يُبْنَى عَلَى الحُكْمِ فِي أَبْوَابِ
496 -
مِنْ ذَاكَ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالسَّبَبِ
…
لَاكِنْ عَلَى كَمَالِهِ المُسْتَوْجِبِ
497 -
ثُمَّ نَوَى فِي ذَلِكَ المُسَبَّبِ
…
أَنْ لَا يُرَى عَنْ ذَلِكَ التَّسَبُّبِ
فجعله ركنا. "أو" بمعنى الواو - أي وكذلك ميز بين الفعل "الذي تعظم فيه" يعني في كسبه ووقوعه "المفسدة فـ" جعله "في" أي من "كبائر الذنوب" و"عدده" منها "وبين ما ليس" من الأفعال متصفا "بذي" أي هذه "الوتيرة" أي الصفة، يعني بأنه لم تعظم مصلحته ولا مفسدته "فعده" إذا لم تعظم مصلحته إما "إحسانا" فرعا "أو صغيرة" إذ لم تعظم مفسدته. فقوله إحسانا يقابله الركن، والصغيرة تقابلها الكبيرة على طريقة اللف والنشر المرتب.
"المسألة التاسعة"
فيما ينبني من الأمور على ما تقدم ذكره من أن المسببات غير مقدورة للمكلف، وأن السبب هو المكلف به. قال الناظم:"وحيث قيل في" شأن "المسببات" أنها "ليست إلى" - بمعنى اللام - أي للمكلفين "العباد مقدورات" أي موجودات بقدرهم، أو مما يدخل تحت قدرتهم كما يقال هذا مقدور لزيد. وهذا مخلوق لله وبذلك لم يكونوا مكلفين بكسبها وإنما "التكليف الشرعي" الثابت لهم حاصل "بـ" يعني: في كسب الأسباب فقط، فإنه ينبني عليه الحكم الشرعي الذي تقرر في أبواب وأمور فقهية مختلفة "من ذاك" الذي ينبني حكمه على هذا "أن من أتى بالسبب" غير ناقص "لاكن" يعني بل أتى به "على كماله" بتوفر شروطه وارتفاع موانعه، فكان الكمال "المستوجب" المستحق شرعا أي الذي يستحقه ذلك السبب شرعا، "ثم" إنه بعدما أتى بذلك السبب "نوى في ذلك المسبب" الذي تسبب فيه على تلك الصورة صورة الكمال المذكورة "أن لا يرى" أي أن لا يقع مترتبا "عن ذلك التسبب" المذكور فإنه قد ناقض مقتضيات العقول والشرع.
498 -
فَلَا يَكُونُ مِثْلَ ذَا بِحَالِ
…
وَقَصْدُهُ تَكُلُّفُ الْمُحَالِ
499 -
بِمَنْعِهِ مَا لَا يُطِيقُ مَنْعَهُ
…
وَرَفْعِهِ مَا لَمْ يُكَلَّفْ رَفْعَهُ
500 -
وَمَقْصِدُ الشَّارعِ فِي الْمُسَبَّبِ
…
وُقُوعُهُ عِنْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ
وبذلك "فلا يكون مثل ذا" القصد إلا عبثا فهو لن "يقع بـ" أي حال من الأحوال "وقصده" هذا إنما هو من باب "تكلف" تحصيل "المحال" وكسبه، وذلك "بـ" سبب "منعه" بسبب تكلفه منع "ما لا يطيق منعه" ولا يقدر عليه "و" بسبب "رفعه" أي بسبب تكلفه رفع "ما لم يكلف" ولم يحمّل "رفعه" وكل ذلك يدل على أنه عابث، فحكم الشرع ماض في ذلك على كل حال، فمن عقد نكاحا على ما وضع له في الشرع، أو بيعا أو شيئا من العقود ثم قصد أن لا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه فقد ضاع قصده عبثا، ووقع المسبب الذي أوقع سببه. وكذلك إذا أوقع طلاقا أو عتقا قاصدا به مقتضاه في الشرع، ثم قصد أن لا يكون مقتضى ذلك، فهو قصد باطل. ومثله في العبادات إذا صلى أو صام أو حج كما امر، ثم قصد في نفسه أن ما اوقع من العبادة لا يصح له أو لا ينعقد قربة وما أشبه ذلك، فهو لغو، وهكذا الأمر في الأسباب الممنوعة. وفيه جاء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87] الآية. ومن هنا كان تحريم ما أحل الله عبثا، من المأكول والمشروب، والملبوس، والنكاح وهو غير ناكح في الحال ولا قاصد للتعليق في خاص - بخلاف العام - وما أشبه ذلك، فجميع ذلك لغو؛ لأن ما تولى الله حليته بغير سبب من المكلف ظاهر مثل ما تعاطى المكلف السبب فيه. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام:"إنما الولاء لمن أعتق" وقوله: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" الحديث
(1)
.
وكما كان هذا عابثا من جهة تكلفه تحصيل ما لا يطاق له فإنه - أيضا - مخالف لقصد الشارع في المسبب، وهو حصوله عند وجود سببه.
"ومقصد الشارع في" شأن المسبب هو "وقوعه" وحدوثه "عند وقوع" وحدوث "السبب".
(1)
الموافقات 1/ 115.
501 -
وَقَصْدُ ذَا خَالَفَ قَصْدَ الشَّارعِ
…
فَلَيْس فِي الْبُطْلَان مِنْ مُنَازعِ
502 -
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الرَّفْضِ
…
فَيُنْسَبُ الأصْلُ بِهِ لِلنَّقْضِ
503 -
وَإِنْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ ذَاكَ السَّبَبْ
…
لَمْ يَأْتِ بِاسْتِكْمَالِ مَا فِيهِ وَجَبْ
504 -
فَإِنَّ ذَا لَا يُدْرِكُ المُسَبَّبَا
…
بِكُلِّ حَالٍ شَاءَ ذَاكَ أَوْ أَبَا
505 -
إِذِ الْوُقُوعُ أَوْ سِوَاهُ مَا لَهُ
…
فِيهِ اخْتِيَارٌ فَيُرَى قَدْ نَالَهُ
وأما "قصد ذا" أي هذا الشخص الذي قصد أن لا يقع المسبب بعد كسبه سببه على وجه الكمال، فإنه قد "خالف قصد الشارع" وبذلك يكون قصده ذاك فاسدا "فليس في" حصول "البطلان" له "من منازع" أو مخالف من أهل العلم. "وليس هذا" القصد "من قبيل" وباب "الرفض" للعبادات "فينسب" هذا "الأصل" المبحوث فيه - وهو القصد المذكور "به" يعني بسبب كونه من قبيله وبابه "للنقض" والهدم للمسبب المذكور وإنما لم يكن هذا من قبيل الرفض المذكور، لأن الرفض إنما يصح في اثناء العبادة إذا كان قاصدا بها في البداية امتثال الأمر، ثم أتمها على غير ذلك، بل بنية أخرى ليست بنية عبادته التي شرع فيها، وذلك كالمتطهر ينوي رفع الحدث، ثم ينسخ تلك النية بنية التبرد، أو التنظف من الاوساخ البدنية وأما بعدما تمت العبادة وكملت على شروطها فقصد أن لا تكون عبادة، وأن لا تترتب عليها أحكامها الشرعية كالإجزاء غير مؤثر، بل هي على حكمها، كما لو لم يكن ذلك القصد، فالفرق بين ما يجري فيه الرفض، وهذا الذي نحن فيه بين واضح. هذا إذا كان المتسبب قد أتى بالسبب على تمام وكمال، بحيث توفرت فيه الشرائط، وانتفت عنه الموانع.
"و" إما "إن يكن في فعله" أي كسبه "ذاك السبب" على خلاف ذلك، إذا "لم يأت باستكمال ما" به كماله وتمامه وهو ما "فيه وجب" لتحقيق ماهيته الشرعية من توفر شرائطه، وانتفاء موانعه "فإن ذا" أي هذا الذي أتى بالسبب على هذه الصورة "لا يدرك المسببا" ولا يحصل له كسبه "بكل حال" سواء "شاء" حصول "ذاك المسبب" أو "أبا" هـ "إذ الوقوع" للمسببات "أو "بمعنى - الواو - أي و "سواه" وهو عدم الوقوع "ما" ليس "له" أي لذلك المتسبب "فيه اختيار" أو تصرف "فيرى" أي يبصر "قد ناله" وحصله لذلك.
506 -
وَمَعَ ذَا السَّبَبُ عِنْدَ الشَّارعِ
…
مَا استَكْمَلَ الشرُوطَ دُونَ مَانِعِ
507 -
وَمِنْهُ حِفْظُهُ لِذَلِكَ السَّبَبْ
…
فَلَا يُرَى فِي غَيْرِهِ لَهُ أَرَبْ
508 -
وَالأمْنُ مَعْهُ مِنْ لُحُوقِ التَّعَبِ
…
وَرَاحَةُ النَّفْسِ مِنَ الْمُسَبَّبِ
509 -
وَكَثْرَةُ الثَّوَابِ فِي الْعَادَاتِ
…
وَالِارْتقَاءُ فِي الْعِبَادِيَّاتِ
" و" يزاد "مع" هذا أمر آخر يعضد هذا الذي ذكر - وهو أن قصد المتسبب لا تأثير له هنا وهو أن "السبب عند الشارع" إنما هو "ما استكمل" أي استجمع "الشروط" الشرعة فيه على تمام و "دون" وجود "مانع" يمنع من تأثير تلك الشروط، أو من جريان الحكم في محلها.
في ذكر بعض ما ينبني على هذا الذي تقدم وهو أن المسببات مخلوقة لله تعالى من أمور:
قال الناظم "ومنه" أي ما يبنى على أن المسببات من خلق الله تعالى أن المكلف المتسبب إذا علم ذلك وعلم أنه ليس له إلا كسب الأسباب، واستقر في نفسه فإنه يكون همه فقط هو "حفظه لذلك السبب" ومحافظته عليه والنصيحة فيه، إذ حاجته محصورة في تحصيله "فلا يرى" ولا يوجد "في غيره" أي غير ذلك السبب "له أرب" أي حاجة، وقصد
(1)
.
ومما ينبني على ما ذكر -أيضا- أنه يحصل "الأمن معه من لحوق التعب" تعب الدنيا "و" كذلك فيه "راحة النفس" من الاشتغال بـ "المسبب" والاهتمام بأمره، وحصر الهموم في هم واحد وهو كسب السبب فقط
(2)
.
"و" مما ينبني على ذلك -أيضا- "كثرة الثواب" ووفرته "في" العمل في "العادات و" كذلك "الارتقاء" والصعود "في" عمل وكسب الأمور "العباديات"، وإنما كان الأمر في هذا الشأن كذلك، لأن من ترك الالتفات إلى المسببات مسقط للحظوظ النفسية، بخلاف من كان ملتفتا إلى المسببات فإنه عامل على الالتفات لا إلى الحظوظ، لأن نتائج الأعمال راجعة إلى العباد مع أنها خلق لله، فإنها مصالح أو مفاسد تعود عليهم.
(1)
انظر الأصل 1/ 162 - 163.
(2)
انظر الأصل 1/ 162 - 163.
510 -
وَللْمَقَامَاتِ بِذَاكَ يُعْلِي
…
كَالصَّبْرِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّوَكُّلِ
"
المسألة العاشرة
"
511 -
كَوْنُ الْمُسَبَّبَاتِ قَدْ تَرَتَّبَتْ
…
شَرْعًا عَلَى الأسْبَابِ حُكْم قَدْ ثَبَتْ
512 -
وَتَنْبَنِي لِجهَةِ الْمُكَلَّفِ
…
عَلَيْهِ أَشْيَاءُ بِلَا تَخَلُّفِ
513 -
مِنْهَا إِذَا يَكُونُ ذَا الْمُسَبَّبُ
…
بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ إِلَيْهِ يُنْسَبُ
514 -
فَهْوَ لِذَاكَ مَعْ تَعَاطِي السَّبَبِ
…
مُلْتَفِتٌ لِجِهَةِ الْمُسَبَّبِ
لما في حديث أبي ذر الذي رواه مسلم وأحمد والنسائي وهو: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها" - وأصله من القرآن {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46]- فالملتفت إليها عامل بحظه، ومن رجع إلى مجرد الأمر والنهي فهو عامل على اسقاط الحظوظ "و" هو "للمقامات" منازل ودرجات الصالحين والأبرار "بـ" سبب "ذاك" الذي عليه من عدم الالتفات إلى المسببات والانكفاف عن العمل للحظوظ "يعتلي" أي يرتقي ويرتفع، والمراد بتلك المقامات ما يكون "كالصبر" على قدر الله وقضائه "و التفويض" أي تفويض الأمور له - سبحانه - "والتوكل" عليه عز وجل في الأمور كلها.
"المسألة العاشرة"
قال الناظم: "كون المسببات قد ترتبت" يعني تترتب "شرعا" يعني في حكم الشرع وبمقتضى قصده "على الأسباب" كما تقدم ذكره - هو "حكم قد ثبت" واستقر، "و" لكونه كذلك فإنه قد "تنبني لجهة" مصلحة "المكلف عليه أشياء" ثابتة "بلا تخلف" يحصل فيها؛ "منها" أي من هذه الأشياء إنه "إذا يكون" يعني إذا كان "ذا" أي الأمر المسبب بمقتضى وحكم "الشرع إليه" أي إلى الشخص المسبب في كسبه وحصوله "ينسب" ويسند "فـ" أنه يطلب منه هو أنْ يكون "لذاك" أي لأجل ذاك النسب والإسناد. "مع تعاطي" أي تعاطيه وتناوله "السبب" أن يتعاطاه وهو "ملفت لجهة" الأمر "المسبّب" أن يقع منه على ما ليس في حسابه، فإنه كما يكون التسبب مأمورا به كذلك يكون منهيا عنه.
515 -
وَرُبّمَا أَبْدَى لَهُ التَّسَبُّبُ
…
مِنْ أَمْرِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ
516 -
مِنْ جِهَةِ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ مَعَا
…
وَكمْ دَلِيلٍ عَاضِدٍ مَا فُرِّعَا
517 -
وإِنَّ مِنْهَا عِنْدَ الالْتِفَاتِ
…
مَعْ سَبَبٍ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ
518 -
زَوَالُ مَا يَعْرِضُ مِنْ إِشْكَالِ
…
فِي بَعْضِ مَا يَكُونُ ذَا احْتِمَالِ
" وربما" بالتفاته إلى المسبب "أبدى" أظهر "له التسبب من أمره" وحاله وشأنه وحكم الشارع عليه "ما لم يكن يحتسب" أي حصوله منه، "من جهة الخير" وذلك لأن التسبب في الخير قد يكون منتجا ما ليس في ظنه من الخير. لقوله تعالى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وقوله عليه الصلاة والسلام: "من سنن سنة حسنة" كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة - وقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أنها بلغت ما بلغت""أو "من"الشر معا" أي أو من جهة الشر، لأن التسبب في المعصية - كذلك - قد يكون منتجا ما لم يحتسب من الشر لقوله تعالى:{فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وقوله عليه الصلاة والسلام "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدام الأول كفل منها" - وقوله: "من سنن سنة سيئة فعليه وزرها" إلى أشباه ذلك "وكم" من "دليل" شرعي "عاضد" مؤيد "ما" تقدم ذكره من فائدة الالتفات وقد "فرعا" عن هذا الأصل الذي هو ثبوت الشيء المسبب ينسب إلى من تسبب في كسبه.
ولا يخفى ما في كلامه هذا من التعقيد، وخلاصته أن أدلة كثيرة قد قامت على صحة اعتبار المسبب من أجل معرفته على الوجه المذكور. وهذا متفرع عن أن التسبب ينسب إلى المسبب فيه.
في ذكر الفائدة الثانية من الالتفات إلى المسببات، وهي ارتفاع اشكالات ترد في الشريعة بسبب تعارض أحكام أسباب تقدمت مع أحكام أسباب أخرى حاضرة.
وفي ذلك يقول الناظم: "وإن منها" أي من الفوائد التي تحصل "عند الالتفات مع" تعاطي وتناول "سبب" والسعي "إلى" كسبه "المسببات" متعلق بقوله "الالتفات" ارتفاع و"زوال ما يعرض من اشكال" ويعن، وذلك "في بعض ما" من المواطن والموانع التي "يكون" جريان أحكام متعارضة فيه امرا "ذا احتمال".
519 -
إِنْ عَارَضَتْ أَحْكَامُ أَسبَابٍ بَدَتْ
…
فِي الْحُكْمِ أَسْبَابًا لَهُ تَقَدَّمَتْ
520 -
كمَنْ لَهُ تَوَسُّطٌ فِي أَرْضِ
…
لِغَيْرِهِ وَتَابَ كيْفَ يَمْضِي
"
فصل
"
521 -
وَاللهُ مُجْرٍ لِلْمُسَبَّبَاتِ
…
بِحَسَبِ الأسْبَابِ فِي الْعَادَاتِ
ومن ذلك "إن عارضت أحكام أسباب" أتي بها المكلف في موضع وقد "بدت" وظهرت، فهي حاضرة، فعلت آخرا، "في الحكم" متعلق بقوله:"عارضت" المطلوب إثباته "أسبابا" يعني مقتضى وحكم أسباب حصلت "له" أي لذلك المكلف، وهي قد "تقدمت" في الزمان على الأسباب الأخرى التي يعارض حكمها حكم هذه الأسباب المتقدمة.
ويتصور ذلك في "كمن له توسط" يعني وجد وحصل "في أرض" هي "لغيره" لكن هذا الذي توسطها اغتصبها منه "و" لكنه "تاب" من ذلك الاغتصاب وهو ما زال فيها، وأراد الخروج منها، إلا أنه إن مشى فيها خارجا منها فإنه يعد متصرفا في ملك غيره، بدون إذنه، وبذلك فهو ما زال مغتصبا لها، ولا يمكنه الخروج من الغصب إلا بذلك، فماذا سيفعل، و"كيف يمضي" في هذا الأمر.
قال الشاطبي: فالظاهر الآن أنه إنما أمر بالخروج فأخذ في الامتثال، غير عاص ولا مؤاخذ؛ لأنه لم يمكنه أن يكون ممثلا عاصيا في حالة واحدة، ولا مأمورا ولا منهيا من جهة واحدة لأن ذلك تكليف ما لا يطاق فلا بد أن يكون في توسطه مكلفا بالخروج على وجه يمكن مع بقاء حكم النهي في نفس الخروج، فلا بد أن يرتفع حكم النهي في الخروج.
"فصل"
في الفائدة الثالثة وهي الإدراك بأن الله عز وجل جعل المسببات في العادة تجري على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج فإذا كان السبب تاما والتسبب على ما ينبغي، كان المسبب كذلك، وبالضد.
قال الناظم و"الله" تعالى "مجر" ممض - من أجرى الشيء إذا أمضاه على سنن مطرد - "للمسببات بحسب" حال "الأسباب" أي أسبابها في الاستقامة والاعوجاج، وذلك "في" مطرد "العادات".
522 -
فَهْيَ إِذا تَجْرِي عَلَى مِنْهَاجِهَا
…
عِنَدَ اسْتِقَامِهَا وَفي اعْوِجَاجِهَا
523 -
لِذَاكَ إِنْ يَبْدُ بِهَا نَقْصٌ خَلَلْ
…
يُنْظَرْ إِلَى تَسَبُّبٍ كيْفَ حَصَلْ
524 -
فَإنْ يَكُنْ عَلَى تَمَامٍ ارْتَفَعْ
…
لَوْمٌ وَإِلَّا فَالْمَلَامُ قَدْ وَقَعْ
525 -
وَمِنْ هُنَا يَبْدُو بِالانْتِزَاعِ
…
الْأصْلُ فِي التَّضْمِينِ لِلصُّنَّاعِ
526 -
إِذَا بَدَا مِنْ حَالِهِمْ تَغْرِيرُ
…
أَوْ ظَهَرَ التَّفْرِيطُ وَالتَّقْصِيرُ
كما دل على ذلك الحس والتجربة "فهي" أي المسببات "إذا" من أجل ذلك "تجري" أي تمضي وتكون "على" وفق "منهاجها" أي منهاج أسبابها، والمراد بالمنهاج الطريق التي مضى عليها في كسب تلك الأسباب، وهي قد تكون معوجة، وقد تكون مستقيمة، والمسببات الناشئة عنها تكون على حالها نفسه، سواء "عند" حصول "استقامها" يعني استقامتها - وإسقاط التاء من هذا الضرب، من المصادر شذوذ، وإن سمع "و" كذلك "في" حال "اعوجاجها"، وذلك يعلم بمخلف الثمرات عن المسبب، وثبوت الخلل فيه. وذلك إنما يأتي من جهة السبب "لذاك" أي الذي تقدم ذكره وهو أن حال المسبب تابع لحال السبب "إن يبد" أي يظهر "بها" أي بالمسببات "نقص خلل" فإنه "ينظر" عند أهل الفقه "إلى" حال "تسبب" يعني إلى حال التسبب الذي كان نشأت عنه تلك المسببات و"كيف حصل" ووقع.
"فإن يكن" قد وقع وحصل "على تمام" له فإنه قد "ارتفع" الذم عن المتسبب، فلا يقع عليه "لوم" بذلك "وإلا" يكن التسبب على تمامه "فالملام قد وقع" أي واقع على المتسبب "ومن هنا" على ما "يبدو" أخذ "بالانتزاع" أي بطريقة الانتزاع - وهي أخذ الحكم بالنظر العقلي من ظاهر وحال الشيء - إن هذا الذي ذكر من النظر إلى حال الأسباب على الوجه المذكور هو "الأصل" الذي عليه الحكم "في التضمين" أي إيجاب الضمان "على الصناع" في حال ما "إذا بدا" ظهر "من حالهم" وتصرفهم في عملهم "تغرير" من أنفسهم، بحيث ادعوا أنهم صناع فغروا غيرهم بذلك "أو ظهر" من جانبهم "التفريط" وعدم المبالاة بالعمل "أو التقصير" فيه بأن تركوا إتقانه بخلاف ما إذا لم يكونوا على شيء من ذلك فإنه لا ضمان عليهم، لأن الغلط في المسببات أو إيقاعها على غير وزان أسبابها قليل. والقليل لا مؤاخذة به.
527 -
وَالاجْتِهَادُ فِي امْتِثَالِ مَا أُمِرْ
…
وَفي اجْتِنَابِ مَا لَدَى النَّهْيِ اعْتُبِرْ
528 -
وَفي الْمُسَبَّبَاتِ مَا قَدْ عَمَّا
…
وَبَعْضُهَا يَخُصُّ مَنْ قَدْ أَمَّا
529 -
كَمِثْلِ قَطْعِ الرِّزْقِ فِي الزَّمَان
…
بِالنَّقْصِ لِلْمِكْيَالِ وَالْمِيزَان
530 -
وَمِثْلُ الانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ
…
حِلًّا وَكَالسُّكْرِ مِن الْمَمْنُوعِ
في الفائدة الرابعة، وهي: انتهاض الهمة واكتساب الاجتهاد - بذل الجهد والطاقة - في امتثال الأوامر واجتناب المنهيات.
قال الناظم: "و" من فوائد ذلك - أيضا - "الاجتهاد" بذل "الجهد" والطاقة "في امتثال ما" به المرء "أمر" شرعا "و" كذلك "في اجتناب" وتوقي "ما لدى" في "النهي" يعني المنهي عنه "اعتبر" وعد "و" إنما تكتسب هذه الفائدة من هذه الجهة - جهة التفات المتسبب إلى المسببات - لأن من "المسببات ما قد عما" أي ما يكون عاما من حيث إنه غير مقصور على من اكتسبه، بل يقع عليه وعلى غيره. أو من حيث عمومه لجزيئات مختلفة من الخير والشر. "وبعضها" أي المسببات ليس كذلك بل إنما "يخص من قد أما" - الألف للإطلاق - أي أمه - قصده - وأتى به كما أنه لا يكون إلا مفردا.
أما أمثلة المسببات العامة فـ "كمثل قطع الرزق" عن الخلق "في الزمان" الذي اتصف أهله "بالنقص للمكيال والميزان" فـ {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} [المطففين: 2 - 3] وكمثل الحكم بغير الحق الفاشي عنه الدم، وخفر العهد الذي يكون عنه تسليط العدو، والغلول الذي يكون عنه الرعب. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله الرعب في قلوبهم، ولا فشا الزنا في قوم إلا وكثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو".
"و" أما أمثلة المسببات الخاصة فهي "مثل الانتفاع بالمبيع" الناشئ عن البيع حال كونه "حلا" أي حلالا فإنه مقصور على من كسبه فلا يتعداه إلى من سواه، فلا يشمل أمورا أخرى بذلك البيع، هذا في الحلال "و" أما في الحرام فـ "كالسكر" الناشئ "من" أي عن شرب "الممنوع" المحرم، كالخمر، فإنه مقصور على صاحبه، كما أنه يشمل ما
"
المسألة الحادية عشرة
"
531 -
وَالسَّبَب الْمَمْنوع فِي الْمَوَارِدْ
…
هوَ الذِي يَخْتَصُّ بِالْمَفَاسِدْ
532 -
وَعَكْسُهُ: الْمُخْتَصُّ بِالْمَصَالِحِ
…
مَا كَانَ مَشْرُوعًا لِأمْرٍ صَالِحِ
533 -
وَالْعَكْسُ إِنْ يَبْدُ بِكلِّ وَاحِدِ
…
لَيْسَ بِحُكْمِ الأصْلِ فِي الْمَقَاصِدِ
534 -
وإنَّمَا ذَاكَ بِحُكْمِ الْعَرَضِ
…
التَّبَعِيَّاتِ لِأصْلِ الْغَرَضِ
سوى ذلك. والعامل إذا نظر فيما يتسبب عن عمله من الخيرات أو الشرور اجتهد في اجتناب المنهيات، وامتثال المأمورات رجاء في الله وخوفا منه. ولهذا جاء الإخبار في الشريعة بجزاء الأعمال وبمسببات الأسباب.
"المسألة الحادية عشرة"
"المسألة الحادية عشرة" في أن الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد. قال الناظم:"والسبب الممنوع" أي الذي ورد منعه والنهي عنه "في الموارد" الشرعية - النصوص الشرعية - "هو الذي يختص ويتميز "بـ" أنه لا يترتب عنه إلا "المفاسد" لا غير، "وعكسه" وهو السبب المشروع هو "المختص" المتفرد "بـ" كسب "المصالح"، بذلك فهو "ما" أي الذي "كان مشروعا" أي موضوعا شرعا "لـ" كسب وتحصيل "أمر صالح" لأحوال الخلق في معاشهم ومعادهم. هذا هو الأصل في هذا الشأن "و" أما "العكس" لهذا الذي تقرر "أن يبد" في واقع الأمر "بكل" أي في كل "واحد" من الضربين السبب المشروع والسبب الممنوع، بحيث ترتبت على الممنوع المصلحة وعلى المشروع المفسدة، فإن ذلك "ليس بحكم" ناشئ عن ذلك "الأصل" المقرر بمقتضى "في المقاصد" الشرعية، فالمفاسد لا تنشأ عن الأسباب المشروعة، والمصالح لا تنشأ عن الأسباب الممنوعة "وإنما" حصل "ذاك" الذي يبدو في ظاهر الأمر "بـ" مقتضى و"حكم العرض" العادي الذي يعرض في سبيل تحصيل ما وضع له ذلك السبب وبحكم الأسباب "التبعيات لـ" لسبب الذي هو الـ "أصل" في تحصيل "الغرض" الشرعي في ذلك الموضع.
535 -
وَالْوَاجِبُ الْتِمَاسُ أَسْبَابٍ أُخَرْ
…
تُنَاسِبُ الْحُكْمَ الذِي بَعْدُ ظَهَرْ
536 -
كَالْأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْحِهَادِ
…
وَمَا مِنَ النِّكَاحِ ذُو فَسَادِ
" و" إذا تقرر هذا وهو أن المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة ليست بناشئة عنها، وإنما هي ناشئة عن أسباب عادية عرضت في سبيل تحصيل مسببات تلك الأسباب المشروعة، أو عن أسباب تبعية حدثت وأن المصالح الناشئة عن الأسباب الممنوعة يقال فيها مثل ذلك، فإنه من "الواجب التماس" والبحث عن "أسباب أخر تناسب الحكم الذي بعد" ما تقرر السبب الشرعي في ذلك المقام و "ظهر" وهو مخالف لمقتضاه.
وذلك "كالأمر بالمعروف" فإنه مشروع لأنه سبب لإقامة الدين وإظهار شعائر الإسلام وإخماد الباطل، والشارع لم يقصد به إتلاف نفس ولا مالك، وإنما هو أمر يتبع المشروع لرفع الحق وإخماد الباطل "و" كـ "الجهاد" فإنه مشروع لإعلاء كلمة الله، والشارع لم يقصد به إتلاف النفوس، لكن يتبعه في الطريق من جهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي تنازع الفريقين وشهر السلاح وتناول القتال - هذا في الأسباب المشروعة - "و" أما الأسباب الممنوعة فمثالها "ما من النكاح ذو فساد" وبطلان، فإنه قد تقرر أنه قد يترتب عنه إلحاق الولد، وثبوت الميراث، وذلك ليس من جهته وإنما من جهة أسباب أخرى، كمراعاة الخلاف الواقع في حكم ذلك النكاح. ومثل النكاح في ذلك البيع الفاسد، فإنه قد يترتب عنه مصالح ومنافع، وذلك ليس من جهة كونها فاسدة، وإنما من جهة أن لليد القابضة هنا حكم الضمان شرعا فصار القابض كالمالك للسلعة، بسبب الضمان لا بسبب العقد. فإذا فاتت عينها تعين المثل أو القيمة وإن بقيت على غير تغير ولا وجه من وجوه الفوت، فالواجب ما يقتضيه النهي من الفساد. فإذا حصل فيها تغير أو نحوه مما ليس بمفيت للعين، تواردت أنظار المجتهدين: هل يكون ذلك في حكم الفوت جملة بسبب التغير أم لا؟ فبقي حكم المطالبة بالفسخ. إلا أن المطالبة بالفسخ حملا على صاحب السلعة إذا ردت عليه متغيرة مثلا؛ كما أن فيها حملا على المشتري، حيث أعطى ثمنا ولم يحصل له ما تعنى فيه من وجوه التصرفات التي حصلت في المبيع. فكان العدل النظر فيما بين هذين؛ فاعتبر في الفوت حوالة الأسواق، والتغير الذي لم يفت العين، وانتقال الملك، وما أشبه ذلك من الوجوه المذكورة في كتب الفقهاء. وحاصلها أن عدم الفسخ، وتسليط المشتري على الانتفاع، ليس سببه العقد المنهي عنه؛ بل الطوارئ المترتبة بعده
(1)
.
(1)
الموافقات 1/ 176.
537 -
فَذَاكَ مَشْرُوعٌ وَهَبْهُ أَوْقَعَا
…
مَفْسَدَةً فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ مَعَا
538 -
وَذَا مِنَ الْمَمْنُوعِ هَبْهُ أَبدَا
…
مَصْلَحَةً بَعْدُ إِلَيْهَا أَدَّى
539 -
وَحَيْثُمَا لَمْ يَنْتَهِضْ مَا أَثْمَرَا
…
لِأنْ يُرَى الشَّرْعُ لَهُ مُعْتَبِرَا
340 -
فَهَاهُنَا إِنْ لَمْ يَلُحْ فِيهِ سَبَبْ
…
ثَانٍ فَالإِلْغَاءُ لِهَذَا قَدْ وَجَبْ
341 -
وَإِنْ يَكُنْ ذَا سَبَبٌ فِيهِ ظَهَرْ
…
بِالْعِلْمِ أَوْ بِالظَّنِّ فَهْوَ مُعْتَبَرْ
وعلى كل حال "فذاك" السبب الشرعي "مشروع" أبدا لا ينفصل عنه ذلك، "وهبه" أنه "أوقعا" - الألف للإطلاق - وجلب "مفسدة" على الوجه الذي تقدم ذكره، سواء حصلت "في النفس والمال معا" جميعا، أو في أحدهما، "و" أما "ذا" أي هذا السبب الذي هو غير مشروع فهو "من الممنوع" المحظور شرعا "هبه" وظنه "أبدا" يصح أن يكون ظرفا للممنوع ولأبدا، أي من الممنوع أبدا، أو هبه أبدا "مصلحة" قد أثمر وجلب، "بعد" ما حكم عليه الشارع بأنه سبب ممنوع، فإنه كذلك - أي ممنوع - وإن "إليها" أي المصلحة "أدى" وأوصل، كما في الأمثلة السابقة، لأنه لم يوصل إلى ذلك بذاته، وإنما يحصل ذلك بالتوابع له من الأسباب، أو بالعوارض العادية، كما تقدم بيانه.
"فصل" في أن السبب الممنوع إذا لم يصاحبه ما تحصل به المصلحة من أسباب تقتضي ذلك، لا يمكن أن يترتب عليه أي مصلحة، وإن توسل به إليها.
قال الناظم: "وحيثما" أي في زمان، أو موضوع "لم ينتهض" ولم يقم يعني لم يكن "ما أثمرا" - الألف للإطلاق - أي أثمره السبب الممنوع صالحا "لأن يرى" أي يبصر صحيحا فيكون "الشرع له معتبرا" لذلك "فـ" إن "ها هنا" أي في هذا الموضع يصار إلى أمر، وهو أنه "إن لم يلح" ولم يظهر "فيه" أي في هذا الموضع المذكور "سبب ثان" ويسند إليه الحكم فيه "فـ" إن "الإلغاء لهذا" الذي أثمره ذلك السبب الممنوع، أمر "قد وجب" شرعا، وذلك كنكاح المحلل، فإنه يلغي ما أريد منه من إثمار حلّيّة الزوجة للزوج الأول، لأنه ليس معه سبب آخر شرعي يثمر ذلك، فينسب إليه "و" أما "إن يكن" أي كان ذلك الموضع على خلاف ذلك بأن كان "ذا سبب" شرعي "فيه ظهر" ووجد سواء كان ذلك الظهور ثابتا "بالعلم" بأن كان مقطوعا به "أو" كان حاصلا "بالظن"، فقط "فهو معتبر" شرعا، فليسند الحكم إليه، ومثال ذلك البيوع
342 -
وَإِنْ يَكُنْ مُسْتَبْهَمًا لِمَنْ نَظَرْ
…
فِي شَأْنِهِ فَهْوَ مَحَلٌّ لِلنَّظَرْ
"
المسألة الثانية عشرة
"
543 -
وَجُمْلَةُ الأسْبَابِ حَيْثُ وَقَعَتْ
…
لِتَحْصُلَ الْمُسَبَّبَاتُ شُرِعَتْ
544 -
وَهْيَ الْمَصَالِحُ التِي تُجْتَلَبُ
…
أَوِ الْمَفَاسِدُ التِي تُجْتَنَبُ
الفاسدة والأنكحة الفاسدة المتقدم ذكرها.
"و" أما "إن يكن" حاله "مستبهما" غير واضح "لمن نظر في شأنه فهو محل للنظر" والاجتهاد. وهذا الذي ذكر في السبب الممنوع يجري مثله في السبب المشروع.
قال الشاطبي: فأما لو فرضنا أن السبب الممنوع لم يثمر ما ينهض سببا لمصلحة، أو السبب المشروع لم يثمر ما ينهض سببا لمفسدة، فلا يكون عن المشروع مفسدة تقصد شرعا، ولا عن الممنوع مصلحة تقصد شرعا.
وذلك كحيل أهل العينة في جعل السلعة واسطة في بيع الدينار بالدينارين إلى أجل. فهنا طرفان وواسطة: طرف لم يتضمن سببا ثابتا على حال، كالحيلة المذكورة. وطرف تضمن سببا قطعا أو ظنا؛ كتغير المغصوب في يد الغاصب فيملكه على التفصيل المعلوم. وواسطة لم ينتف فيها السبب البتة، ولا ثبت قطعا. فهو محل أنظار المجتهدين
(1)
.
"المسْألة الثانية عشرة"
في أن الأسباب - من حيث هي أسباب شرعية لمسببات - إنما شرعت لتحصيل مسبباتها وهي المصالح المجتلبة، أو المفاسد المستدفعة.
قال الناظم: "وجملة" أي وكل "الأسباب" الشرعية "حيث وقعت"، سواء وقعت في العبادات أو في العادات الشرعية، إنما وضعت "لتحصل المسببات" المترتبة عنها، ولذلك "شرعت و" تلك المسببات "هي المصالح التي تجتلب" أي المطلوب جلبها شرعا "أو المفاسد التي تجتنب" أي يطلب اجتنابها شرعا.
(1)
انظر الموافقات 1/ 178.
545 -
وَهُنَّ أَقْسَامٌ فَقِسْم عُلِمَتْ
…
شَرْعِيَّةُ الأسْبَابِ فِيهِ وَبَدَتْ
546 -
إِمَّا بِقَصْدٍ أَوَّلِ فِي الأوَّلِ
…
أَوْ تَابِعٍ فِي تَابِعِيِّ مُكْمِلِ
547 -
فَذَا صَحِيحٌ عِنْدَهُ التَّسَبُّبُ
…
وَهْوَ بِإِذْن الشَّرْعِ فِيهِ يُطْلَبُ
548 -
مِثْلُ النِّكَاحِ شَرْعُهُ لِلنَّسْلِ
…
وَبَعْدَهُ تَمَتُّعٌ بِالأهْل
" وهن" أي تلك المسببات باعتبار تشريع الأسباب لها، وعدمه على "أقسام" ثلاثة، "فـ" الأول هو إلى "قسم" الذي "علمت" على قطع، أو على ظن "شرعية الأسباب فيه" يعني في سبيل تحصيله، وكسبه. ويصح أن تكون في هنا بمعنى إلى فيكون معنى كلامه لذلك: علمت شرعية الأسباب الموصلة إليه. "و" التي "بدت" وظهرت، فهي غير خافية، ثم إن تشريع الشارع لهذه الأسباب في هذا القسم "إما" أن يكون "بقصد" من الشارع "أول" وذلك إنما يحصل "في"المقاصد الأصلية "الأول" وهي التي لاحظ فيها للمكلف، وهي الضروريات المعتبرة في كل أمة، وهي حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النسل - العرض - وحفظ المال، وحفظ النفس. فكل الأسباب التي شرعها لذلك الشارع ثابتة بالقصد الأول منه لا غير، وهذا هو - المصنف الأول -.
"أو" بقصد ثان "تابع" - وهذا هو المصنف الثاني - وذلك إنما يكون "في" مقصد "تابعي" لمقصد أصلي "مكمل" له، والمقصد التابعي هو كل ما روعي فيه حظ المكلف، فمن جهته يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات، وسد الخلاف. انظر أصل: كتاب المقاصد، النوع الرابع من المقاصد الشرعية - المسألة الثانية.
وكل الأسباب المشروعة لنيل هذا كله إنما حصلت من الشارع بالقصد الثاني. "فذا" أي هذا القسم الذي شرعت له الأسباب "صحيح" شرعا "عنده" يعني عند طلبه "التسبب" فيه "وهو "كذلك لأنه لم يكن عن هوى، وإنما كان "بـ" سبب "إذن الشرع فيه" ولذلك "يطلب" ويسعى في كسبه. وذلك "مثل النكاح" الذي ثبت "شرعه" أي كونه مشروعا بالقصد الأول "للنسل" لقوله صلى الله عليه وسلم:"تزوجوا الولود الودود فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة""و" يأتي "بعده" أي بعد هذا المقصود بالقصد الأول، ما هو مقصود بالقصد الثاني التبعي، وذلك كمثل إلى "تمتع بالأهل" أي الزوجة، ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم، أو دينهم، أو نحو ذلك، أو الخدمة أو القيام على
549 -
وَآخَرُ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ قَضَى
…
بِأَنَّهُ لِلشَّرْعِ غَيْرُ مُقْتَضَى
550 -
فَلَا يَصِحُّ هَاهُنَا التَّسَبُّبُ
…
بِسَبَبٍ لَيْسَ لِشَرْعٍ يُنْسَبُ
551 -
وَمَا أَتَى يُوهِمُ عَكْسَ مَا ذُكِرْ
…
مِمَّا بِهِ الْجَوَازُ شَرْعًا اعْتُبِرْ
552 -
كَصِحَّةِ التَّعْلِيقِ لِلطَّلَاقِ
…
قَبْلَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَالْعِتَاقِ
مصالحه أو الرغبة في جمال المرأة، أو التمتع بمالها، أو نحو ذلك، مما دلت عليه الشريعة. فصار إذا ما قصد هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة - هنا - وهذا كاف، هذا هو القسم الأول، وما يتعلق به. وأما الثاني، ففيه يقول الناظم:"و" قسم "آخر" من هذه الأقسام الثلاثة في المسببات هو المسبب الذي "العلم أو الظن" قد "قضى" وحكم في شأنه "بأنه" مسبب "لـ" حكم "الشرع غير مقتضى" أي غير مطلوب، وبذلك فهو غير مقبول وغير صحيح إذ هو خارج عن ذلك الحكم، فلم يخضع له، فسقط اعتباره. ولهذا "فلا يصح" شرعا "هاهنا" أي في هذا القسم "التسبب" في تحصيله "بسبب" - التنوين للتنويع - أي بأي نوع من الأسباب "ليس لشرع" أي لأمر شرعه الشارع "ينسب" ويسند، لأن التسبب بذلك عبث، والمفروض في هذا القسم أنه مسبب غير مشروع، وبذلك فإنه لا سبب شرعي يوصل إليه، وكل تسبب في سبيل تحصيله لعب. فإذا قصد بالنكاح - مثلا - التوصل إلى أمر فيه إبطاله كنكاح المحلل، أو بالبيع التوصل إلى الربا مع إبطال البيع، وما أشبه ذلك من الأمور التي يعلم أو يظن أن الشارع لا يقصدها، كان العمل باطلا لمخالفته لقصد الشارع في شرع النكاح، والبيع. وهكذا سائر الأعمال والتسببات العادية والعبادية.
"و" أما "ما أتى" وهو "يوهم" أي يوقع في الوهم "عكس ما ذكر" في هذا الشأن "مما" ورد "به" أي فيه لمسببات توسل إليها بأسباب لم تشرع لها، ولم تقصد بها شرعا، لا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني، "الجواز" و الصحة "شرعا اعتبر" واعتد به، وذلك "كصحة التعليق للطلاق" بالزواج "قبل انعقاد العقد" أي عقد النكاح، كأن يقول قائل للأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق، أو كل امرأة أتزوجها من البلد الفلاني فهي طالق، فإذا قال ذلك فإنه يبنى عليه الطلاق فإذا تزوج من علق طلاقها منه بزواجه منها فإنه يقع عليه الطلاق بمجرد حصول ذلك التزوج "و" مثل هذا - صحة التعليق للطلاق بالنكاح - التزوج - صحة تعليق "العتاق" بالملك، فإنه، نافذ، كأن يقول للعبد: إن اشتريتك فأنت
533 -
فَهْوَ لَدَى الْمُجِيزِ عَنْ ذَا يَخْرُجُ
…
وَمَا هُنَا أَصلٌ يُرَى يَنْدَرجُ
"
المسألة الثالثة عشرة
"
حر، فإنه يعتق عليه بمجرد شرائه، ولو كان الشراء فاسدا، ولو مجمعا على فساده، وقد روعي في ذلك تشوف الشارع للحرية. خلاصة القول: أن الطلاق والعتق يحصلان بما ذكر. مع أن هذا النكاح وهذا الشراء ليس فيهما شيء مما قصده الشارع لا بالقصد الأول، ولا بالقصد الثاني، وما فيهما سوى الطلاق والعتق، والنكاح لم يشرع للطلاق، كما أن الشراء لم يشرع للإخراج عن الملك، وإنما شرعا لأمور أخرى، والطلاق والعتاق من التوابع غير المقصودة في مشروعيتهما. فما جاز هذا إلا لأن وقوع الطلاق أو العتق ثان عن حصول النكاح، أو الملك، وعن القصد إليه، فالناكح قاصد بنكاحه الطلاق، والمشتري قاصد بشرائه العتق، وظاهر هذا القصد المنافاة لقصد الشارع، ولكنه مع ذلك جائز عند الإمامين: مالك وأبي حنيفة. وإذا كان كذلك فأحد الأمرين هو الجائز: أما التسبب بالمشروع إلى ما لم يشرع له السبب، وأما بطلان هذه المسائل، وما أشبهها والجواب عن هذا على وجه الإجمال هو أن هذا الذي ذكر من المسائل لا يعارض هذا الأصل - الذي هو أن السبب لا يتوسل به شرعا إلى ما لم يشرع له من المسببات على الإطلاق - لأنه ليس بداخل تحته، وبذلك "فهو "الذي "لدى" أي عند "المجيز" له المصحح بمقتضاه "عن ذا" الأصل "يخرج" إذ ليس من جزئياته - ما يخرج عليه من الفروع - عنده "وما هنا أصل" آخر يرجع إليه النظر في هذا الموضع، وهو قد "يرى يندرج" أي مندرجا للحاجة إليه "وهو" في الكلام الآتي في المسألة الموالية، وهي:
"المسألة الثالثة عشرة"
والتي متضمنها أن السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم، أو يظن وقوع الحكمة به أو لا، فإن علم أو ظن ذلك، فلا إشكال في المشروعية، وإن لم يعلم ولا ظن ذلك فهو على ضربين:
أحدهما: أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة.
وثانيهما: أن يكون ذلك لأمر خارجي.
فإن كان الأول ارتفعت المشروعية أصلا، فلا أثر للسبب شرعا البتة بالنسبة إلى
554 -
وَذَاكَ أَنَّ السَّبَبَ الْمَشْرُوعَا
…
لِحِكْمَةٍ مَطْلُوبَةٍ وُقُوعَا
555 -
إِنْ عُلِمَ الْوُقُوعُ أَوْ ظُنَّ فَذَا
…
شرْعِيَّةُ الْحُكْمِ لَدَيْهِ تُحْتَذَى
556 -
وَعَكْس ذَا إِمَّا يُرَى لَا يَقْبَلُ
…
حِكْمَتَهُ الْمَحَلُّ حِينَ يُعْمَلُ
557 -
فَلَيْسَ ذَاكَ سَبَبًا شرْعًا هُنَا
…
كَزَجْرِ غَيْرِ عَاقِلٍ إِذَا جَنَى
ذلك المحل. وأما إن كان الثاني - وهو عدم قبول المحل لتلك الحكمة لأمر خارجي - مع قبول المحل لتلك الحكمة من حيث نفسه، فهل يؤثر ذلك الأمر الخارجي في شرعية السبب، أم يجري السبب على أصل مشروعيته؟ هذا محتمل، والخلاف في ذلك سائغ.
قال الناظم: "وذاك" الأصل الذي يرجع إليه هذا الموضع هو "أن السبب المشروع لـ" لأجل "حكمة مطلوبة وقوعا" يعني لحكمة مطلوب وقوعها من جهة الشرع، لا يخلو حاله - أي ذلك السبب - في هذا الشأن من أمرين: أحدهما: أن يعلم أو يظن وقوع تلك الحكمة به ثانيهما: أن لا يحصل العلم ولا الظن فيه بذلك، وذلك قد يكون إما لعدم قبول المحل لتلك الحكمة، وإما لأمر عارض خارجي. فـ "إن علم الوقوع" لتلك الحكمة به "أو ظن فذا" أي هذا النوع من السبب "شرعية الحكم" بكونها سببا شرعيا وجريان ذلك "لديه" مثلا أي فيه شرعية "تحتذى" إذ لا إشكال فيها.
وسبيل الاحتذاء بها قد يجري - مثلا - في إثبات شرعية الشروط والموانع الجارية عن سنن هذا السبب الصالح لتحصيل ما قصد به شرعا من مصلحة وبذلك ثبتت له تلك الشرعية.
"و" أما ما لا يعلم ولا يظن أنه يحصل به ما شرع له من حكمة وهو "عكس ذا" هذا الضرب المتقدم ذكره، فإنه يصير كذلك لأمرين:"إما" لأنه "يرى" أي يعلم أنه "لا يقبل حكمته" - مفعول به - أي ما قصد به شرعا من حكمة "المحل" - فاعل يقبل - المفروض جريان ذلك السبب ووقوعه فيه، وقد يكون عدم القبول لهذا المانع عادي، أو شرعي، أو عقلي، ثابت موجود "حين يعمل" ذلك السبب في ذلك المحل. والسبب إن كان لا تحصل به الحكمة الشرعية الموضوع لها في محل ما "فليس ذاك سببا شرعا هنا" أي في هذا المحل الذي حكمته ممنوعة فيه وذلك "كزجر غير عاقل إذا جنى" فإن ذلك عبث، لأن الحكمة من الزجر حصول الانكفاف، وهو من غير العاقل لن يقع. وكالعقد على الخمر والخنزير، فإنه لن يقع شرعا، إذ المحل - الخمر والخنزير - لا يقبل حكمة
558 -
إِمَّا لِأمْرٍ خَارِجِيٍّ والْمَحَلْ
…
يَقْبَلُهَا فَالْأمْرُ هَاهُنَا احْتَمَلْ
559 -
وَالْخُلْفُ سَائِغٌ وَكُلٌّ صَوَّبَا
…
دَلِيلُهُ فِيمَا إِلَيْهِ ذَهَبَا
ذلك - العقد - وهو حلية الانتفاع والتصرف بالملك. هذا هو الأمر الأول، و "إما" أن يكون ذلك وهو انتفاء حصول العلم والظن بوقوع الحكمة الشرعية سببها "لأمر خارجي" وهذا هو الأمر الثاني عارض "والمحل يقبلها" أي تلك الحكمة، وفي هذه الحالة يرد السؤال: هل يؤثر ذلك الأمر الخارجي في شرعية السبب، فتسقط تلك الشرعية، أم يجرى السبب على أصل مشروعيته؟ لكل واحد من هذين الاعتبارين ما يستدل به على صحته، وبذلك "فالأمر" الذي يصار إليه "هاهنا" في هذا الموضع "احتمل" أن يكون - عدم سقوط شرعية السبب بذلك - أو ذاك - سقوطها به - بوجود هذا الاحتمال "والخلف" هنا "سائغ" جائز، ولذلك العلماء في المرجح من هذين الأمرين اختلفوا، فذهب بعضهم إلى أن السبب الشرعي لا يقدح في مشروعيته ولا يؤثر فيها وجود ذاك الأمر الخارجي، وذهب آخرون إلى أن وجود هذا الأمر الخارجي مؤثر في شرعية ذلك السبب، بل مزيل لها. "وكل" أي وكل واحد من أهل هذين المذهبين "صوبا" الألف للإطلاق - ورجح "دليله" يعني حكم دليله الذي استدل به وساقه حجة "في"اختيار "ما إليه ذهبا" - الالف للإطلاق - من الرأيين المذكورين، فالذين ذهبوا إلى أن السبب الشرعي يبقى على أصل مشروعيته، فلا يؤثر فيه ذلك الأمر الخارجي استدلوا بأمور، ورأوا أن مقتضاها هو الصواب لرجحانها على ما يعارضها. أحد هذه الأمور: أن القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان، ولا نوادر التخلف. وهذا سيأتي بيانه في كتاب المقاصد في المسألة العاشرة - إن شاء الله تعالى، ثانيها: وهو الخاص بهذا المكان أن الحكمة إنما تعتبر بمحلها، وكونه قابلا لها فقط، وإما أن تعتبر بوجودها فيه. فإن اعتبرت بقبول المحل لها فقط، فهو المدعى، والمحلوف بطلاقها في مسألة التعليق قابلة للعقد عليها من الحالف وغيره، فلا يمنع ذلك إلا بدليل خاص في المنع، وهو غير موجود، وإن اعتبرت بوجودها في المحل لزم أن يعتبر في المنع، فقدانها مطلقا لمانع أو لغير مانع؛ كسفر الملك المترفه فإنه لا مشقة له في السفر أو هو مظنة لعدم وجود المشقة، فكان القصر والفطر في حقه ممتنعين، وكذلك إبدال الدرهم بمثله، وإبدال الدينار بمثله، مع أنه لا فائدة في هذا العقد، وما أشبه ذلك من المسائل التي نجد الحكم فيها جاريا على أصل مشروعيته، والحكمة غير موجودة. ولا يقال: إن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السفر مظنة المشقة بإطلاق وإبدال الدرهم بالدرهم مظنة لاختلاف الأغراض بإطلاق وكذلك سائر المسائل التي في معناها فليجز التسبب بإطلاق بخلاف المحلوف بطلاقها بإطلاق، فإنها ليست بمظنة للحكمة، ولا توجد فيها على حال. لأنا نقول: إنما نظير السفر بإطلاق، نكاح الأجنبية بإطلاق، فإن قلتم بإطلاق الجواز مع عدم اعتبار وجود المصلحة في المسألة المقيدة، فلتقولوا بصحة نكاح المحلوف بطلاقها؛ لأنها سورة مقيدة من مطلق صور نكاح الأجنبيات، بخلاف نكاح القرابة المحرمة، كالأم والبنت مثلا، فإنها محرمة بإطلاق فالمحل غير قابل بإطلاق، فهذا من الضرب الأول، وإذا لم يكن ذلك فلا بد من القول به في تلك المسائل، وإذ ذاك يكون بعض الأسباب مشروعا، وإن لم توجد الحكمة ولا مظنتها، إذا كان المحل في نفسه قابلا؛ لأن قبول المحل في نفسه مظنة للحكمة وإن لم توجد وقوعا. وهذا معقول.
ثالثها: أن اعتبار وجود الحكمة في المحل عينا لا ينضبط، لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها، فكم ممن طلق على أثر إيقاع النكاح، وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو مانع منع، وإذا لم نعلم وقوع الحكمة فلا يصح توقف مشروعية السبب على وجود الحكمة؛ لأن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة، وهو دور محال، فإذا لا بد من الانتقال إلى اعتبار مظنة الحكمة ومظنة قبول المحل لها على الجملة كافيا. هذا ما استدل به أهل هذا المذهب.
واستدل مخالفوهم - وهم من ذهبوا إلى أن السبب تقصد شرعيته بوجود هذا الأمر الخارجي المسقط لحكمته الموجود في محله - بأمور: أحدها: أن قبول المحل إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن خاصة، وإن فرض أنه غير قابل في الخارج فما لا يقبل لا يشرع التسبب فيه. وإما بكونه توجد حكمته في الخارج؛ فما لا توجد حكمته في الخارج لا يشرع أصلا كان في نفسه قابلا لها ذهنا أو لا، فإن كان الأول فهو غير صحيح؛ لأن الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد، وهي حكم المشروعية؛ فما ليس فيه مصلحة ولا هو مظنة مصلحة موجودة في الخارج، فقد ساوى ما لا يقبل المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج، من حيث المقصد الشرعي. وإذا استويا امتنعا أو جازا؛ لكن جوازهما يؤدي إلى جواز ما اتفق على منعه. فلا بد من القول
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بمنعهما مطلقا. وهو المطلوب.
والثاني: أنا لو أعملنا السبب هنا، مع العلم بأن المصلحة لا تنشأ عن ذلك السبب ولا توجد به، لكان ذلك نقضا لقصد الشارع في شرع الحكم؛ لأن التسبب هنا يصير عبثا، والعبث لا يشرع، بناء على القول بالمصالح، فلا فرق بين هذا وبين القسم الأول، وهذا هو معنى كلام القرافي.
والثالث: أن جواز ما أجيز من تلك المسائل، إنما هو باعتبار وجود الحكمة؛ فإن انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق، بل الظن بوجودها غالب؛ غير أن المشقة تختلف باختلاف الناس ولا تنضبط، فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة، ضبطا للقوانين الشرعية؛ كما جعل التقاء الختانين ضابطا لمسبباته المعلومة، وإن لم يكن الماء عنه؛ لأنه مظنته، وجعل الاحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكليف؛ لأنه غير منضبط في نفسه، إلى أشياء من ذلك كثيرة، وأما إبدال الدرهم بمثله، فالمماثلة من كل وجه قد لا تتصور عقلا؛ فإنه ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما، كما أنه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ولو في نفي ما سواهما عنهما، ولو فرض التماثل من كل وجه فهو نادر، ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا، والغالب المطرد اختلاف الدرهمين أو الدينارين ولو بجهة الكسب، فأطلق الجواز لذلك، وإذا كان ذلك كذلك، فلا دليل في هذه المسألة على مسائلنا
(1)
.
حاصل القول: أن التوسل بالسبب الشرعي إلى كسب مسببه إذا كان لا يمنع، يسقط شرعا إلا في المحل الذي لا يقبل الحكمة المقصودة شرعا من وضع ذلك السبب، فإن النكاح والشراء المتوسل بهما في مسألتي التعليق المذكورتين لم تسقط شرعيتها، فصحة ما بني عليهما تابثة، والجواز الشرعي ماض في التوسل بهما إلى مسببيهما المذكورين: ثبوت العصمة، والملك، وإن كان ما يترتب عليهما - من الطلاق والعتق - مخالفا لما قصد شرعا من وضعهما. أي السببين.
وأما إن كان التسبب بالسبب الشرعي إلى مسببه يسقطه، ويرفعه عدم وجود الحكمة المقصودة من وضع ذلك السبب لهذا المسبب، سواء كان ذلك من جهة عدم قبول
(1)
الموافقات 1/ 185 إلى 188.
560 -
وَثَالِثٌ فِي حَيِّزِ الإِمْكَان هَلْ
…
يَقْصِدُهُ الشَّارعُ أَمْ لَا قَدْ حَصَلْ
361 -
فَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ مُسْتَشْكِلُ
…
لِأنَّهُ لِذَا وَذَا يَحْتَمِلُ
562 -
وَعَدَمُ الإِقْدَامِ فِي التَّسَبُّبِ أَوْلَى
…
مِنَ الإِقْدَامِ فَانْظُرْ تُصِبْ
المحل لذلك، أو من جهة أخرى كطرو ما يمنع المسبب من حصول حكمته، وإن كان المحل باعتبار حالته الأصلية لا يمنع فيه ذلك، فإن ما ذكر من السببين في مسألتي التعليق المذكورتين لا يصح التوسل بهما إلى مسببيهما، ولا يجوز ذلك على الإطلاق، وتمام البيان في المتقدم ذكره لكل واحد من أهل المذهبين المذكورين والله أعلم.
في ذكر حكم القسم الثالث من القسم الأول - وهو تقسيم الأسباب بالنسبة إلى مسبباتها - الواقع في صدر المسألة الثانية عشرة وهذا القسم هو ما جهل حاله من المسببات من جهة شرعية الأسباب لها بحيث لا يعلم هل شرعت الأسباب لها أم لا؟ وهل هي مقصودة للشارع بتلك الأسباب أم لا؟ هذا ما ظهر أنه المقصود هنا، وعبارة الشاطبي:"والقسم الثالث من القسم الأول هو أن يقصد بالسبب مسببا لا يعلم ولا يظن أنه مقصود الشارع، أو غير مقصود له. وهذا موضع نظر وهو محل إشكال واشتباه" فتأمل. وفي ذلك يقول الناظم: "و" القسم الذي هو "ثالث" في القسم الأول هو المسبب الذي جهل حاله من جهة شرعية الأسباب له، وبذلك فهو "في حيز" أي حكم "الإمكان" الذي مفاده "هل" هو مسبب "يقصده الشارع" بذلك السبب "أم لا" يقصده به، "قد حصل" - خبر عن قوله: وثالث - أي وقع ووجد، وبذلك "فذا" القسم "محل نظر" وإعمال للذهن "مستشكل" أي غامض حاله غير واضح وذلك "لأنه" موضع "لذا" وهو كون ذلك السبب موضوعا لذلك المسبب "وذا" أي ولهذا وهو كونه غير موضوع له "يحتمل" على السواء. "و" ما يظهر أنه الحكم في ذلك الراجح هو أن "عدم الإقدام في التسبب" بما هذا حاله من الأسباب "أولى من الأقدام" على ذلك "فانظر" وأعمل ذهنك في حال هذا الموضع، وما يقتضيه من حكم "تصب" ما هو الراجح فيه
(1)
.
(1)
انظر الأصل 1/ 190 - 191.
"
المسألة الرابعة عشرة
"
563 -
كمَا يُرَى تَرَتُّبُ الأحْكَامِ فِي
…
مَشْرُوعِ الأسْبَابِ مِنَ الضِّمْنِ اقْتُفِي
564 -
وَهَكَذَا الْمَمْنُوعُ مِنْهَا مُطْلَقَا
…
كَالْقَطْعِ وَالضَّمَان فِيمَا سُرِقَا
565 -
وَقَدْ تُرَى مَصْلَحَةً تُرَتَّبُ
…
عَلَيْهِ بِالضِّمْنِ اقْتَضَاهَا السَّبَبُ
566 -
كَالْقَتْلِ عَنْهُ عِتْقُ مَنْ قَدْ دُبِّرَا
…
وَالْغَصْبِ عَنْهُ مِلْكُ مَا تَغَيَّرَا
" المسألة الرابعة عشرة"
في أن الأسباب المشروعة كما يترتب عليها أحكام ضمنا - أي أحكام غير مقصودة للشارع بها، كالطلاق الذي قد يترتب على النكاح - كذلك غير المشروعة يترتب عليها أيضا أحكام ضمنا.
قال الناظم: "كما يرى" ويقع "ترتب الأحكام" أحيانا "في" أي بسبب كسب وتحصيل "مشروع الأسباب" - فيه إضافة الصفة للموصوف - أي الأسباب "من" جهة "الضمن" لا من جهة القصد، كما في ترتب التحليل للزوج الأول والطلاق عن النكاح، فهما غير مقصودين منه شرعا، وإنما ترتبا عنه من جهة تضمنه لهما من أجل أنه شرط في صحتهما، فكان ذلك هو الذي "اقتفى" في ترتبهما عنه، "وهكذا" شأن وحال السبب "الممنوع منها" أي من الأسباب "مطلقا"، فإنه تترتب عليه - أيضا - أحكام ضمنا، أحكام لم توضع ولم تكن مقصودة منه شرعا وذلك "كالقطع" لليد "والضمان" الثابتان "فيما سرقا" فالسارق تقطع يده ويضمن ما سرق، والسرقة سبب غير مشروع، وغير موضوع شرعا لتحصيل هذين الحكمين بالطلب من الشارع. وهكذا الغصب، والقتل العمد العدوان، وما شابه ذلك، وهذه الأسباب الممنوعة لا تترتب عنها إلا المفاسد غالبا "وقد ترى" على وجه النذور "مصلحة" ما "ترتب" - أصله تترتب - "عليه" وتنشأ عنه وهي "بالضمن" لا بالقصد الشرعي" اقتضاها" ذلك "السبب" وذلك "كالقتل" الذي ترتب "عنه" يعني عليه "عتق من" العبيد "قد دبرا" - الألف للإطلاق - وهو المدبر - بفتح الباء - الذي يعتق بمجرد موت سيده ويكون ذلك إذا قال له سيده: أنت حر عن دبر مني وكذلك حرية أمهات الأولاد، والميراث، وما شابه ذلك من المصالح التي ترتب على الموت. "و" كمثل "الغصب عنه" فإنه - أيضا - سبب ممنوع إلا أنه قد يرتب عليه "ملك ما" أي الشيء المغصوب الذي "تغيرا"
567 -
فَالأوَّلُ الْعَاقِلُ غَيْرُ قَاصِدِ
…
لَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ
568 -
وَالْقَصْدُ لِلثَّانِي يَكُونُ إِمَّا
…
لِمَا اسْتَقَرَّ الْمَنْعُ فِيهِ حُكْمَا
569 -
فَذَاكَ غَيْرُ قَادِحٍ مَهْمَا أَتَى
…
فِي مَصْلَحيِّ الْحُكْمِ حَيْثُ ثَبَتَا
570 -
إلَّا بِحَيْثُ سُدَّتِ الذَّرَائِعُ
…
فَالْقَتْلُ لِلتَّشَفِّي الإِرْثَ مَانِعُ
571 -
إِمَّا لِمَا يَتْبَعُ حُكْمَ السَّبَبِ
…
مَصْلَحَةً بِالضِّمْنِ فِي التَّسَبُّبِ
في يد الغاصب بنحو صياغة، أو نسج، أو ضمان، أو ما شابه ذلك، ولربه أخذ قيمته غير مغير وبهذا يعلم أن السبب الممنوع على ضربين:
أحدهما: ما يترتب عنه إلا المفسدة.
والثاني: ما قد تكون عنه مصلحة. "فالأول" وهو ما لا يترتب عليه إلا المفاسد "العاقل غير قاصد له" يعني لا يقصده، وذلك "لـ" أجل "ما فيه من المفاسد" والمضار الخالصة.
"و" أما "القصد لـ" الضرب "الثاني" وهو ما تكون عنه مصلحة، فإنه "يكون" ويحصل وذلك "إما" أن يقع "لـ" أجل تحصيل "ما استقر" أي مسبب ثبت "المنع فيه" يعني في التوسل إليه بذلك السبب واستقر "حكما" شرعيا. كالتشفي بالقتل، وطلب الانتفاع بالمغصوب، أو المسروق، وذلك أي ما قصد من تلك المسببات قد يحصل ولا يمنع من ذلك هذا القصد "فذاك غير قادح" ولا مؤثر "مهما" أي وإن "أتى" أي حصل ووقع من المكلف "في مصلحي الحكم" يعني في الحكم المصلحي التبعي لذلك المسبب "حيث" أي في كل مكان "ثبتا" ووجد، وذلك لأنه إذا حصل السبب المذكور حصل مسببه "إلا بحيث" أي في المواضع التي "سدت" فيها "الذرائع" وهي الطرق المؤدية إلى المفاسد فنسيت أحكامها - أي أحكام تلك المواضع - على ذلك "فالقتل للتشفي "مثلا مسقط "الإرث""ومانع" منه، فمن قتل موروثه لا يرثه. وإن قتله خطأ لا يرث من ديته فقط عند المالكية.
هذا هو الوجه الأول الذي يكون عليه القصد المذكور - وهو القصد بالسبب الممنوع إلى مسببه - "وإما" أن يكون القصد به "لما" أي إلى تحصيل ما "يتبع حكم" ذلك "السبب" وهو "مصلحة" تحصل عنه "بالضمن في التسبب" به ويصح نصبها أي مصلحة
572 -
فَذَا تَسَبُّبٌ بِغَيْرِ سَبَبِ
…
إِذْ لَيْسَ لِلْمَشْرُوعِ بِالْمُنْتَسبِ
573 -
لَكِنَّهُ بَعْدُ مَجَالٌ لِلنَّظَرْ
…
مُلْغىً لِقَوْمٍ وَيقَوْمٍ مُعْتَبَرْ
574 -
فَمَنْ رَأَى الْقَصْدَ بِهَذَا الْوَاقِعِ
…
مُنَاقِضًا مَعْنَاهُ قَصْدَ الشَّارعِ
بالغضب على الحال فيكون المعنى: ما يتبع حكم ذلك السبب حال كونه مصلحة تقع بالضمن لا بالقصد الشرعي ولا بوضعه، وذلك كالوارث يقتل موروثه ليحصل له الميراث، والموصى له يقتل الموصي ليحصل له الموصى به، والغاصب يقصد ملك المغصوب فيغره ليضمن قيمته، ويتملكه، وأشباه ذلك "فذا" أي فهذا التسبب باطل لأنه "تسبب بغير سبب"، وبذلك فهو تسبب ملغى "إذ ليس" بأي حال من الأحوال "لـ" لتسبب "المشروع" المعتبر شرعا "بالمنتسب" وإنما هو في الحقيقة تسبب غير مشروع. لأن الشارع لم يمنع تلك الأشياء في خطاب التكليف ليحصل بها في خطاب الوضع مصلحة. "لاكنه" وإن كان كذلك واقتضى حاله هذا الحكم، فإنه لم تنغلق جميع منافذ النظر فيه بل هو "بعد" أي بعد ذلك كله "مجال للنظر" وإنما كان كذلك لأنه قد تعارضت فيه السببية والقصد، فهل يعتبر في ذلك التسبب المخصوص كونه مناقضا في القصد لقصد الشارع عينا، حتى لا يترتب عليه ما قصده المتسبب. فتنشأ من هنا قاعدة "المعاملة بنقيض المقصود"، ويطلق الحكم باعتبارها إذا تعين ذلك القصد المفروض؟ وهو مقتضى الفقه في حديث المنع من جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة؛ وكذلك ميراث المبتوتة في المرض، أو تأبيد التحريم على من نكح في العدة. إلى كثير من هذا. أو يعتبر جعل الشارع ذلك سببا للمصلحة المترتبة، ولا يؤثر في ذلك قصد القاصد، وبذلك يستوي الحكم هنا مع الحكم الذي تقرر في الضرب الأول وهو الجواز، والصحة.
وبين أهل العلم في المرجح والذي يجب العمل به من الاعتبارين خلاف، وعلى هذا الخلاف بني الخلاف في الحكم الذي ينبغى المصير إليه في تلك الجزئيات وما شابهها فلذلك كان السبب "ملغى لقوم" أي عند قوم من أهل العلم "ولقوم" أي عند قوم آخرين منهم "معتبر" ومؤثر يبني عليه حكمه.
"فمن رأى" من هؤلاء العلماء "القصد بهذا الواقع" المذكور والحال الذي عليه قصدا "مناقضا معناه" أي حكمه ومقتضاه "قصد الشارع" بعينه في هذا الموضع
575 -
عَامَلَ بِالنَّقِيضِ لِلْمَقْصُودِ
…
وَذَاكَ أَصْل ثَابِتُ الْوُجُودِ
576 -
دَلِيلُهُ النَّصُّ عَلَى حِرْمَان
…
إِرْثِ الذِي يَقْتُلُ بِالْعُدْوَانِ
577 -
وَمَنْ رَأَى الشَّرْعَ أَرَادَ سَبَبَا
…
لِمَا عَلَيْهِ جُمْلَةً تَرَتَّبَا
578 -
أَجْرَاهُ كَالْأوَّلِ فِي الْمَوَارِدِ
…
وَلَمْ يُرَاعِ فِيهِ قَصْدَ الْقَاصِدِ
الفصل الثاني في الشروط وفيه مسائل
"
المسألة الأولى
"
" عامل" هذا المتسبب "بالنقيض للمقصود" أي لمقصوده، فرتب على تسببه الحكم الذي يناقض ما قصد إليه "وذاك" وهو العمل بنقيض القصد "أصل ثابت الوجود" في الشرع يستعمل في المواطن التي يشرع استعماله فيها "دليله" أي دليل كونه أصلا شرعيا ثابتا هو "النص" الشرعي "على حرمان" ومن "إرث الذي يقتل" موروثه بغير حق، وإنما "بالعدوان".
وقد تقدم ذكر هذا النص - الحديث النبوي - هذا رأي من يرى تأثير القصد إلغاء اعتبار السببية في هذا الموضع "و" أما "من رأى" أن "الشرع أراد" هذا السبب "سببا" موصلا "لما" من المصلحة "عليه جملة" في كل الأحوال "ترتبا" وحصل عنه فإنه "أجراه" مجرى ما تترتب عليه أحكامه من الأسباب "كا"لسبب "الأول" - وهو ما قصد به المسبب الذي منع لأجله، لا غير ذلك "في الموارد" أي الأحكام "ولم يراع فيه" يعني في هذا الشأن "قصد القاصد" المذكور.
الفصل الثاني في الشروط وفيه مسائل
" المسألة الأولى"
"الفصل الثاني" من القسم الثاني من قسمي الأحكام الشرعية، وهو معقود "في" النوع الثاني من أنواع خطاب الوضع، وهو "الشروط"، النظر "فيه" وبيانه المقصود سيكون في النظر في "مسائل" منه.
"المسألة الأولى" في أن المراد بالشرط في هذا الكتاب هو ما كان وصفا مكملا لمشروطه فيما اقتضاه ذلك المشروط، أو فيما اقتضاه الحكم فيه.
579 -
الشَّرْطُ فِي هَذَا الْكِتَابِ هُوَ مَا
…
يَكُونُ وَصفًا قَدْ أَتَى مُتَمِّمَا
580 -
وَمُكْمِلًا مَشْرُوطَهُ فِيمَا اقْتَضَى
…
أَوْ مَا اقْتَضَاهُ الْحُكْمُ فِيهِ منْ قَضَا
581 -
وَهَبْهُ وَصْفٌ عِلَّةٌ أَوْ سَبَبُ
…
أَوْ وَصْفُ مَعْلُولٍ أَوِ الْمُسَبَّبُ
582 -
أَو الْمَحَلُّ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَا
…
مِمَّا يَكُونُ نَهْجَ ذَاكَ سَالِكَا
قال الناظم: "الشرط في هذا الكتاب" - الموافقات - المراد به "هو ما يكون وصفا قد أتى" بمقتضى حاله "متمما ومكملا مشروطه" كيفما كان ذلك المشروط، "فيما اقتضى" من حكمة "أو "مكملا لمشروطه في "ما اقتضاه الحكم فيه" أي في المشروط "من قضا" أي حكمة، ومقتضى كلامه هذا: أن الشرط يطلق على كل وصف كمل حكمة مشروطه ولا يختص ذلك بالحكم، بل هو عام شامل لكل جزيئات القضية، فكل جزء منها يكمل حكمته وصف فيها يعتبر شرطا، "وهبه" أي ذلك المكمل "وصف علة" كالتكافؤ في القتل العمد العدوان فإنه شرط، لأنه مكمل لحكمة هذه العلة القتل - العمد العدوان - ثم إنه إن كان شرطا في العلة فإنه يكون في الحكم. فالتكافؤ - مثلا - شرط في القصاص، وهو الحكم - هنا - وبذلك يكون مكملا لما اقتضاه الحكم أيضا - من حكمة، وهي الزجر وانتشار الأمن، واستتبابه. قال الشاطبى:"والتساوي في الحرمة مكمل لمقتضى القصاص أو حكمة الزجر". الموافقات 1/ 196 "أو "وصف "سبب" كإمكان النماء أو حولان الحول الذي وصف مكمل لحكمة السبب وهو ملك النصاب - وحكمته الغنى - فالنصاب حصر بوجوب الزكاة فيه لأن صاحبه غني، فكانت حكمة ذلك الغنى "أو وصف معلول" ويجري ذلك في نحو واشتراط عدم القدرة على رد الزوجة، أو منعها من الخروج في سقوط النفقة المعلول بخروج الزوجة من البيت بدون إذن الزوج "أو" وصف "المسبب" كإمضاء الولي، فإنه يشترط في المسبب عن بيع الصبي، وهو حلية الانتفاع، فحلية الانتفاع بما اشترى من الصبي متوقف على ذلك. "أو"وصف "المحل" أي محل ما ذكر من السبب والعلة والمسبب، والمعلول.
فملك النصاب - مثلا - سبب في وجوب الزكاة، ومحله يشترط فيه أن يكون مما تخرج فيه الزكاة. والقتل العمد العدوان علة في وجوب القصاص، ومحلها يشترط فيه العقل. وحلية الاستمتاع مسبب عن النكاح، ويشترط في محله الطهارة - الخلو من المانع - وبطلان الصلاة معلول بفقد الطهارة ويشترط في محله القدرة والذكر. "أو" وصفا "لغير ذلك مما يكون نهج" طريق "ذاك" الذي ذكر "سالكا" في كونه وصفا مكملا
"
المسألة الثانية
"
583 -
سَّبَبُ الْمَقْصُودُ فِيهِ هُوَ مَا
…
وُضِعَ فِي الشَّرْعِ لِحُكْمٍ عُلِم
584 -
لِحِكْمَةٍ لِلحُكْم مُقْتَضَاةِ
…
مِثْلُ النِّصَابِ سَبَبُ الزَّكاة
585 -
والعِلَّةُ الْحِكَمُ وَالْمَصَالِحْ
…
وَذَاكَ فِي الأمْرِ وَالإذْن وَاضِحْ
586 -
أَوِ الْمَفَاسِدُ التِي تَعَلَّقَتْ
…
بِهَا النَّوَاهِي مُطْلَقًا حَيْثُ أَتَتْ
587 -
كَمِثْلِ تَشْوِيشِ النُّفُوسِ بِالْغَضَبْ
…
وَالْمَانِعُ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا السَّبَبْ
588 -
الْمُقْتَضِي لِعِلَّةٍ تُنَافِي
…
عِلَّةَ مَا نَفَاهُ هَذَا النَّافِي
للحكمة نفي مشروطه وكونه مما يتعلق به الخطاب التكليفي من هذه الجهة.
"المسألة الثانية"
"المسألة الثانية" في بيان المراد بالسبب والعلة والمانع في هذا الكتاب، قال الناظم:"السبب المقصود" والمراد به "فيه" أي في هذا الكتاب "هو ما وضع" وجعل من وصف ظاهر منضبط "في الشرع لـ" معرفة حصول "حكم علما" - الألف للاطلاق - من جهة الشارع، وذلك الوضع لا يكون إلا "لحكمة" لذلك الحكم "مقتضاة" يعني لحكمة اقتضاها ذلك الحكم، "مثل النصاب" الذي هو "سبب" وجوب "الزكاة" والزوال الذي هو سبب في وجوب الصلاة. "و" أما "العلة" فالمراد بها في هذا الكتاب "الحكم" جمع حكمة، وهي ما اعتبر في بناء الأمور الشرعية على ما هي عليها، وما قصد في تشريعها من جلب مصلحة أو تقريبها، أو دفع مفسدة أو تقليلها "والمصالح" الشرعية التي يأتي بيانها بتوسع، "وذاك" وهو جريان المصلحة علة "في الأمر والإذن" والإباحة، أمر "واضح" أي بين لأن طلب الشرع لا يشرع إلا في موطن المصلحة.
"أو المفاسد التي تعلقت بها النواهي" من جهة أنها تشرع عند وجودها "مطلقا حيث" أي في كل موضع "أتت" فإنها كذلك علة "كمثل تشويش" أي تخليط "النفوس" والخواطر عن استيفاء الحجج، وتبين أحوالها "بالغضب". "و" أما "المانع" فـ "المقصود" به "هاهنا، في هذا الكتاب هو "السبب المقتضي" والموجب "لعلة تنافي" تخالف "علة ما" أي السبب الذي "نفاه" أي منعه "هذا النافي "المانع، قال الشاطبي: فإذا قلنا: الدين مانع من الزكاة فمعناه أنه سبب يقتضي افتقار المديان إلى ما يؤدي به
"
المسألة الثالثة
"
589 -
وَأَضْرُبُ الشُّرُوطِ فِي التَّعْرِيفِ
…
عَقْلِيَّةٌ كَالْفَهْمِ فِي التَّكلِيفِ
590 -
عَادِيَّةٌ كالْأكْلِ فِي الْحَيَاةِ
…
شَرْعِيَّةٌ كالْحَوْلِ فِي الزَّكاةِ
591 -
وَالثالِثُ الْمَقْصودُ ثُمَّ إِنْ وَقعْ
…
ذِكْرٌ لِغَيْرِهِ فَمِنْ حَيْثُ التَّبَعْ
592 -
إِنْ كَانَ مُبْدِيًّا لِحُكْمِ الشَّرْعِ
…
فَهْوَ إِذًا لِذاكَ شَرْطٌ شَرْعِي
دينه. وقد تعين فيما بيده من النصاب. فحين تعلقت به حقوق الغرماء، انتفت حكمة وجود النصاب، وهي الغنى الذي هو جملة وجوب الزكاة فسقطت. وهكذا نقول في البنوة المانعة من القصاص؛ فإنها تضمنت علة تخل بحكمة القتل العمد العدوان. والمعروف عند الأصوليين تقسيم المانع إلى ضربين: مانع حكم، ومانع سبب، ثم إنهم لا يطلقون المانع على تخلف السبب، أو الشرط. ولا على مانع ورد على محل تخلف فيه ما ذكر.
"المسألة الثالثة"
"المسألة الثالثة" في بيان أن الشروط على ثلاثة أقسام.
قال الناظم: "وأضرب" أي "الشروط" ثلاثة "في التعريف" أي تعريفها وبيانها، وفصل بعضها عن بعض، وهي:"عقلية" ونسبت إلى العقل لأنها تعرف من جهته أنها شروط في أمور معينة، وذلك "كالفهم" والعقل "في التكليف" الشرعي، وكالحياة في العلم فكل ذلك شروط عقلية. ثم "عادية" أي شروط عادية - وهذا القسم الثاني - ونسبت للعادة لأنها تعرف من جهتها أنها شروط في أمور "كالأكل" فإنه شرط عادي "في الحياة" وملاصقة النار الجسم المحرق في الإحراق، وما شابه ذلك مما علم من مقتضى جريان العوائد. ثم "شرعية" وهذا هو القسم الثالث - وهي التي تعلم من جهة الشرع أنها شروط في أمور، وذلك "كالحول" فإنه شرط شرعي "في الزكاة". وهذا القسم "الثالث" هو "المقصود" في هذا الكتاب وهو المراد إذا ورد لفظ الشرط فيه. "ثم إن وقع ذكر لغيره" أي هذا القسم من القسمين الأولين "فـ" ذاك إنما "من حيث" أي جهة "التبع" لما هو شرعي ثم "إن كان" أحد من هذين الشرطين: العقلي والعادي "مبديا" أي مظهرا "لحكم الشرع" من حيث تعلق ذلك الحكم به "فهو إذا لذلك" أي لأجل ذلك التعلق "شرط شرعي" لأنه يتوقف عليه حكم شرعي.
"
المسألة الرابعة
"
593 -
وَالشَّرْطُ مَعْ مَشْرُوطِهِ حَيْثُ أَتَى
…
كَالْوَصْفِ مَعْ مَوْصُوفِهِ قَدْ ثَبَتَا
594 -
مُسْتَنِدٌ ذَاكَ لِلاسْتِقْرَاءِ
…
فِي الشَّرْعِ لِلشُّرُوطِ بِالسَّوَاءِ
595 -
وَيُشْكِلُ الإِيمَانُ شَرْطَ الْقُرْبَةِ
…
وَالْعَقْلُ تَكْلِيفًا كَهَذِي النِّسْبَةِ
596 -
فَذَا كهَذَا عُمْدَةٌ وَأَوَّلُ
…
كَيْفَ يُقَالُ عَنْهُ أَنَّهُ مُكْمِلُ
" المسألة الرابعة"
في أن الشرط مع مشروطه كالصفة مع الموصوف، وليس بجزء.
قال الناظم: "والشرط مع مشروطه" في واقع الحال "حيث" في أي موضع "أتى" أي جاء، "كالوصف مع موصوفه قد ثبتا" ومقتضى هذا أن الأحكام تجري على الشرط ومشروطه على الوجه الذي تجري عليه في الوصف مع موصوفه. فالذوات التي تعلقت الأحكام فيها وجود صفات معينة، كالأمور المشروطة التي توقفت الأحكام فيها على وجود ما هو مشروط فيها. فأهلية الأحكام في الموضعين متوقفة على الصفات، والشروط المطلوبة فيها كما أن مقتضاه - أيضا - أن الشرط جزء من المشروط كما أن الصفة ليست جزء من الموصوف "مستند ذاك" الذي ذكر "للاستقراء في "أدلة "الشرع لـ" أحوال "الشروط" الذي حصل "بالسواء" فكلما قد ثبت فيه هذا الحكم بالاستقراء على سواء. "و" ربما "يشكل" حال "الإيمان" في هذا المقام لأنه "شرط" في حصول "القربة" وصحتها "و" كذلك يشكل - أيضا - حال "العقل"، إذ تقرر "تكليفا" أنه شرط شرعي، والنسبة بين هذا الشرط - العقل - ومشروطه التكليف "كهذي النسبة" التي بين الإيمان ومشروطه، من حيث توقف الصحة الشرعية والجواز الشرعي، وكذلك الوجوب الشرعي عند بعض أهل العلم على كل واحد منهما ولا يخفى أن الإيمان والعقل لا يجري عليهما ما تقدم من أن الشرط المشروط كالصفة مع الموصوف أن العلاقة بينهما تكميلية "فذا" أي الإيمان "كهذا" أي العقل، كلاهما "عمدة" إذ عليه المدار "وأول" في ثبوت وتصور محل الحكم. فإن العقل إن لم يكن فالتكليف محال عقلا وسمعا بل هو العمدة في صحة التكليف. وكذلك أمر الإيمان، فإنه عمدة العبادة، وبه تحصل الصحة لها، فـ "كيف يقال" بعد الشرط "إنه مكمل" فقط؟
الجواب: أن الشرط مع مشروطه كالصفة مع الموصوف على الصورة التي تقدم
597 -
ويُرْفَعُ الإِشْكَالُ فِي الْقَضِيَّةْ
…
بِعَدِّ هَاذَيْنِ مِنَ الْعَقْلِيَّة
598 -
أَوْ أَنْ يُعَادَ الشَّرْطُ لِلْمُكَلَّفِ
…
وَهْوَ مَحَلٌّ وَهْوَ بِالْقَصْدِ يَفِي
"
المسألة الخامسة
"
599 -
قَدْ صَحَّ فِي الأصُولِ أَنَّ المسَّبَبَا
…
إِنْ يَكُنِ التَّأثِيرُ قَدْ تَرَتَّبَا
600 -
فِيهِ عَلَى شَرْطٍ لَهُ فَمَا يَقَعْ
…
مُسَبَّبٌ إِلَّا إِذَا الشَّرْطُ وَقَعْ
601 -
شَرْطُ كَمَالٍ كَانَ أَوْ إِجْزَاءِ
…
الْحُكْمُ فِيهِمَا عَلَى السَّوَاءِ
ذكرها "ويرفع الإشكال في" هذه "القضية" المتعلقة بالإيمان والعقل "بعد" وجعل "هاذين" الشرطين العقل والإيمان "من" الشروط "العقلية" لا الشرعية "أو" بـ "أن يعاد الشرط" الثاني وهو العقل "للمكلف وهو المحل" أي محل التكليف "وهو" أي هذا الرد "بالقصد يفي" إذ ينسحب على العقل حينئذ ما ينسحب على سائر الشروط. إذ من المعلوم أن العقل بالنسبة للإنسان مكمل.
وقول الناظم: "بعد هاذين" يريد العقل والإيمان معا لا يساعد كلام الشاطبي على صحته، لأن الإيمان عنده ليس شرطا. قال: وأما الإيمان فلا نسلم أنه شرط، لأن العبادات مبنية عليه
(1)
. وما نظمه الناظم هو قوله - الشاطبي - "أن هذا من الشروط العقلية
(2)
وكلمة "هذا" قد تكون إشارة إلى ما ذكر من الإيمان والعقل، وقد تكون إشارة العقل فقط وهو ما يعضده قوله المتقدم والله - تعالى - أعلم.
"المسألة الخامسة"
"المسألة الخامسة" في أن السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط فإنه لا يصح أن يقع المسبب دونه، ويستوي في ذلك شرط الكمال، وشرط الإجزاء. قال الناظم:"قد يصح" وعلم "في" علم "الأصول أن السببا" - الألف للإطلاق - "إن يكن التأثير" في حصول مسببه وكسبه "قد ترتبا" يعني توقف "فيه على" وجود "شرط له فـ" إنه "ما يقع" ولا يحصل "مسبب" عن ذلك السبب "إلا إذا" كان ذلك "الشرط" قد "وقع" وحصل "شرط كمال فكان" الشرط "أو "شرط "إجزاء" فـ "الحكم" المذكور واحد "فيهما على السواء" بلا
(1)
و
(2)
الموافقات 1/ 200 - 201.
602 -
إِذْ لَوْ بَدَا الْمَشْرُوطُ دُونَ الشَّرْطِ لَمْ
…
يَكُنْ بِهِ شَرْطًا فَكَانَ كالْعَدَمْ
603 -
وَمَا أَتَى يُوهِمُ غَيْرَ مَا ذُكِرْ
…
فِي الْفِقْهِ لَا يَنْقُضُهُ إِذَا اعْتُبِرْ
604 -
كمِثْلِ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عِنْدَ مَنْ
…
يُجِيزُ وَالْعَفْوِ وَمَا الشَّرْطُ اقْتَرَنْ
فرق "إذ" تعليلية "لو بدا" أي ظهر ووقع "المشروط دون" وجود "الشرط" أي شرطه "لم يكن به" أي فيه - أي المشروط - "شرطا" وإنما هو شيء زائد "فكان" وجوده "كالعدم" أي كعدمه؛ والمفروض أنه شرط فيه. وأيضا فلو صح ذلك لكان متوقف الوقوع على شرطه غير متوقف عليه معا. وذلك محال، وأيضا فإن الشرط من حيث هو يقتضي أنه لا يقع المشروط إلا عند حضوره، فلو جاز وقوعه دونه لكان المشروط واقعا، وغير واقع، وذلك محال.
"و" أما "ما أتى" عن بعض أهل العلم وهو "يوهم" صحة "غير ما ذكر في "مسائل "الفقه" أنه "لا ينقضه" أي لا ينقض ما ذكر، من أن السبب لا تأثير له إلا بشرطه - ولا يعارضه "إذا اعتبر" وتؤمل حاله، وذلك "كمثل" مسألة "تقديم الزكاة" قبل الحول "عند من يجيز" ذلك من العلماء كالحسن البصري وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيدة، وبعض المالكية "و" مسألة تقديم "العفو" عن القتل قبل زهوق روح المقتول فقد أجيز هذا العفو وإن كان حق العفو عن القتل لا يثبت ولا يحصل لولي الدم زهوق الروح "و" مسألة "ما" من الأمور "الشرط" قد "اقترن" كالنكاح إذا جعل الرجل أمر امرأة يتزوجها بيدها عقدة هذا النكاح - العقد - إن شاءت طلقت، وإن شاءت أبقت، فاستأذنها الزوج في التزويج،، فأذنت له، فلما تزوجها أرادت صاحبة الشرط أن تطلق عليه. قال مالك: ليس لها ذلك بناء على أنها قد أسقطت ما شرط لها بعد جريان من السبب وهو التملك وإن كان ذلك الإسقاط قد وقع قبل حصول الشرع، وهو التزويج. وما أشبه ذلك من المسائل من كل ما عمل بالسبب مع فقد شرط العمل بمقتضاه. فهذا كله غير مناقض - كما تقدم ذكره - لهذه القاعدة المقررة في هذا الشأن وهي أن السبب لا تأثير له إلا بوجود الشرط الذي يتوقف تأثيره عليه وإنما لم يكن ذلك مناقضا لهذه القاعدة لأنه بني الحكم فيه على أخرى.
أما من قدم الزكاة قبل حلول الحول مطلقا - من غير مذهبنا - فبناء على أنه ليس
"
المسألة السادسة
"
605 -
ثُمَّ الشُّرُوط فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ
…
تَرْجِعُ إِمَّا لِخِطَابِ الْوَضْعِ
بشرط في الوجوب، وإنما هو شرط في الانحتام. فالحول كله كأنه وقت - عند هذا القائل - لوجوب الزكاة موسع، ويتحتم في آخر الوقت؛ كسائر أوقات التوسعة. وأما الإخراج قبل الحول بيسير - على مذهبنا - فبناء على أن ما قرب من الشيء فحكمه حكمه؛ فشرط الوجوب حاصل، وكذلك القول في شرط الحنث: لمن أجاز تقديم الكفارة عليه فهو عنده شرط في الانحتام من غير تخيير، لا شرط في وجوبها. وأما مسألة الزهوق، فهو شرط في وجوب القصاص أو الدية، لا أنه شرط في صحة العفو، وهذا متفق عليه؛ إذ العفو بعده لا يمكن، فلا بد من وقوعه قبله إن وقع؛ ولا يصح أن يكون شرطا إذ ذاك في صحته. ووجه صحته أنه حق من حقوق المجروح التي لا تتعلق بالمال، فجاز عفوه مطلقا؛ كما يجوز عفوه عن سائر الجراح، وعن عرضه إذا قذف؛ وما أشبه ذلك، والدليل على أن مدرك حكم العفو ليس ما قالوه أنه لا يصح للمجروح ولا لأوليائه استيفاء القصاص أو أخذ دية النفس كاملة قبل الزهوق باتفاق؛ ولو كان كما قالوه لكان في هذه المسألة قولان. وأما مسألة تمليك المرأة، فإنها لما اسقطت حق نفسها فيما شرطت على الزوج قبل تزوجه، ولم يبق لها ما تتعلق به بعده؛ لأن ما كانت تملكه بالتمليك قد أسقطت حقها فيه بعد ما جرى سببه فلم يكن لتزوجه تأثير فيما تقدم الإسقاط وهو فقه ظاهر
(1)
.
"المسألة السادسة"
"المسألة السادسة" في أن الشروط المعتبرة في المشروطات على ضربين:
أحدهما: ما كان راجعا إلى خطاب التكليف - إما مأمورا بتحصيلها - كالطهارة للصلاة، وما أشبه ذلك - وإما منتهيا عنها كنكاح المحلل الذي هو شرط لمراجعة الزوج الأول وما أشبه ذلك.
ثانيها: ما يرجع إلى خطاب الوضع، كالحول في الزكاة.
قال الناظم: "ثم الشروط في اعتبار الشرع ترجع إما لخطاب الوضع"، وذلك
(1)
الموافقات 1/ 200 - 201.
606 -
كَالْحَوْلِ لِلزَّكَاةِ لَا مَقْصِدَ فِي
…
تَحْصِيلِهِ شَرْعًا وَلَا أَنْ يَنْتَفِي
607 -
إِمَّا إِلَى الْخِطَابِ بِالتَّكْلِيفِ
…
بِالْأمْرِ وَالنَّهْيِ لَدَى التَّصْرِيفِ
608 -
كَالْأخْذِ لِلزِّينَةِ وَالطَّهَارَةْ
…
وَالْعَقْدِ لِلتَّحْلِيلِ بِالإِجَارَةْ
609 -
فَذَا بِهِ لِلشَّرْعِ قَصْدٌ قَدْ ظَهر
…
فِي تَرْكِ مَا نَهَى وَفِعْلِ مَا أَمَرْ
610 -
وَالشَّرْطُ فِيمَا الشَّرْعُ فِيهِ خَيَّرَا
…
إِنْ كَانَ فَهْوَ مِثْلُ مَا تَقَرَّرَا
"
المسألة السابعة
"
" كالحول في" وجوب "الزكاة" والإحصان في الرجم بالزنى، وما شابه ذلك، وهذا الضرب - وهو ما يرجع إلى خطاب الوضع - "لا مقصد في تحصيله شرعا ولا" مقصد - شرعا - كذلك في "أن ينفي" ويعدم، إذ لو قصد الشارع تحصيله أو نفيه لكان من خطاب التكليف، إذ يكون إما مطلوب، وإما منهيا عنه.
"وإما" أن تكون راجعة "إلى الخطاب بالتكليف" وهو طلب أو إلزام ما فيه مشقة "بالأمر أو النهي لدى" أي عند "التصريف" - أي البيان - يعني بيانها وتوضيح حالها شرعا.
"كالأخذ للزينة" عند الصلاة "والطهارة" للصلاة والطواف. وما شابه ذلك من الشروط المطلوبة شرعا "و" أما المنهي عنها فك "العقد" للنكاح "لـ" أجل "التحليل" أي تحليل المرأة البائن البينونة الكبرى لمطلقها بـ "الإجارة" وكالجمع بين المفترق، والتفريق بين المجتمع خشية الصدقة الذي هو شرط لنقصان الصدقة أو سقوطها. "فذا" أي هذا الضرب من الشروط "به" - الباء بمعنى - يعني في تحصيله "للشرع قصد قد ظهر" وبان "في ترك ما نهي" عنه من ذلك "وفعل ما أمر" به منه "و" أما "الشرط" المعدود
"فيما" أي في الضرب الذي "الشرع فيه" أي في فعله وتركه "خيرا إن كان" أي اتفق، وحصل "فهو "حكمه "مثل ما تقررا" فيه شرعا من حيث التخيير فيه، فإن شاء المكلف أن يفعله فله ذلك، وإن شاء أن يتركه فله ذلك مثاله - النكاح بالنسبة للطلاق، فالطلاق شرط وقوعه وصحته النكاح، وهو شرط مخير فيه بالنسبة له.
"المسألة السابعة"
في ذكر أن كسب الشرط الداخل تحت قدرة المكلف لا يخلو من أمرين:
611 -
وَفعْلُ مَقْدُورِ الشُّرُوطِ إِنْ وَقَعْ
…
أَوْ تَرْكِهِ قِسْمَانِ قِسْمٌ امْتَنَعْ
612 -
وَذَاكَ أَنْ يَقْصِدَ مَنْ لَهُ ذَهب
…
إِسْقَاطَ حُكْمِ الاقْتِضَاءِ فِي السَّبَبْ
613 -
كَي لَا يُرَى لَهُ بِذَاكَ مِنْ أَثر
…
فَذَاكَ مَعْنىً بَاطِلٌ لَا يُعْتَبَرْ
614 -
وَإِنْ يَكُ الْقَصْدُ لَهُ مِنْ حَيْثُ مَا
…
هُوَ مِنَ التَّكْلِيف أَمْرٌ حُتِمَا
615 -
بِالْإِذْنِ وَالنَّهْيِ مَعًا وَالْأمْرِ
…
فَهْوَ صَحِيحُ الْحُكْمِ حَيْثُ يَجْرِي
أحدهما: أن يفعله - إن كان مطلوبا - أو يتركه إن كان منهيا عنه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف.
ثانيهما: أن يفعله أو يتركه من حيث إنه لا يدخل تحت هذا الخطاب.
وفي بيان أحكام ذلك كله: قال الناظم: "وفعل" ما هو "مقدور" عليه من "الشروط أو" كذا "تركه قسمان" قسم جائز و "قسم امتنع" لأنه على خلاف التكليف الشرعي فيه "وذاك" الذي امتنع "أن يقصد من له ذهب" يعني لفعل هذا الشرط أو تركه من جهة كونه شرطا؛ "إسقاط" - هو مفعول يقصد - "حكم الاقتضاء" الذي "في السبب" وذلك "كي لا يرى له" أي لذلك السبب "بذاك" الفعل أو الترك للشرط "من أثر" في ذلك الموضع، مثال ذلك أن يخلط الشخص ماشيته بماشية غيره قصد إسقاط ما وجب عليه من الزكاة في الأصل، أو يفصلها عنها لذلك نفسه. أو أن ينفق ماله من غير حاجة لذلك قصد النقص عن النصاب توسلا بذلك لإسقاط الزكاة عنه "فذاك" عمل فاسد و"معنى" أي حكم "باطل لا يعتبر" شرعا "و" أما إن "يك القصد" أصله يكن وأسقط فيه النون للضرورة وأجاز يونس إسقاطها مطلقا "له" أي لتحصيل ذلك الشرط "من حيث" أي من جهة "ما هو من "خطاب "التكليف أمر حتما" أي قطع به. يعني: ما هو أمر قطع بكونه داخلا تحت خطاب التكليف، سواء كان ذلك الدخول "بالإذن" في الفعل والترك "والنهي" عن فعله "معا" جميعا، فالشرط قد يدخل خطاب التكليف بالإذن في فعله، كما يدخل تحته بالنهي عنه. "و" كذاب "الأمر" به "فهو "أي ذاك القصد - جواب قوله "وإن يكن القصد له" - "صحيح الحكم" شرعا "حيث" في أي موضع "يجري" أي يقع، ويرد. فالشرط إن أوتي به على وفق الخطاب الشرعي فيه فإن الأحكام التي تقتضيها الأسباب على حصوله، وترتفع عند فقده.
616 -
وَالْحُكْمُ مَعْ وُجُوبٍ مَوْجُودُ
…
وَهْوَ بِحَالِ فَقْدُهُ مَفْقُودُ
"
المسألة الثامنة
"
617 -
وَالشَّرْطُ مَعْ مَشْرُوطِهِ أَقْسَامُ
…
كالْاعتكَافِ شَرْطُهُ الصِّيَامُ
618 -
فَذَاكَ مَا لَا يُمْتَرَى فِي صحَّتِهْ
…
لأنَّهُ مُكَمِّلٌ لِحِكْمَتِهْ
619 -
أَوْ لَا مُلَاِئمٌ وَلَا مُكَمِّلُ
…
لِحِكْمَةٍ بَلْ هُوَ ضِدٌّ مُبْطِلُ
" و" بذلك فـ "الحكم" الذي يترتب على السبب ذي الشرط "مع وجوده" أي ذلك الشرط "موجود" وواقع" وهو "أي الحكم المذكور "بحال" أي حال "فقده" أي ذلك الشرط "مفقود" ومعدم شرعا. والأدلة والحجج على هذا كثيرة
(1)
.
" المسألة الثامنة" في أن الشروط مع مشروطاتها ثلاثة أقسام
قال الناظم: "و" حال "الشرط مع مشروطه أقسام" ثلاثة أن يكون مكملا لحكمة مشروطه وعاضدا لها، حيث لا يكون فيه منافاة، "كالاعتكاف" و"شرطه" الذي هو "الصيام" فإنه مكمل لحكمته، لأن الاعتكاف لما كان انقطاعا إلى العبادة على وجه لائق بالمسجد، كان الصيام فيه أثر ظاهر. ومثله اشتراط الكفء في النكاح، فإنه مكمل لحكمته، لأن غير الكفء لما كان مظنة للنزاع وأنفة للزوجين والعصبة وأولى بمحاسن الكفاءة أقرب إلى التئام الزوجين والعصبة وأولى بمحاسن العادات كان اشتراطها ملائما لمقصود النكاح.
وهكذا سائر الشروط التي تكمل حكمة مشروطاتها "فذاك" أي هذا الضرب من الشروط هو "ما" أي الذي "لا يمتري" ولا يشك "في صحته" وثبوته شرعا "لأنه" تابع للمقصود من مشروطه و"مكمل لحكمته" فكان مثل جزء منه.
هذا القسم الأول وأما الثاني فقد أورده الناظم فقال "أو" هو "لا ملائم" للمقصود المشروط "ولا مكمل لحكمة" له "بل هو ضد" له "ومبطل" له لما قصد
(1)
انظر الأصل 1/ 204 وما بعدها.
620 -
فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِي إِبْطَالِهِ
…
لِمَا بَدَا مِنِ اخْتِلَافِ حَالِهِ
621 -
وَثَالِثٌ يُرَى عَلَى الْمَسالَمةِ
…
بِلَا مُنَافَاةٍ وَلَا مُلَائَمَة
622 -
فَهْوَ مَجَالُ نَظَرِ الأذْهَانِ
…
فِي جَعْلِهِ كَأَوَّلٍ أَوْ ثَانِ
623 -
وَيَنْبَغِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعَادَةْ
…
فِيهِ وَبَيْنَ جِهَةِ الْعِبَادَةْ
624 -
إِذْ عَدَمُ التَّنَافِي فِي الْعَادَاتِ
…
كَافٍ عَلَى عَكْسِ التَّعَبُّدَاتِ
منه "فذاك" الشرط الذي على هذه الصورة "لا إشكال في إبطاله" وإلغاء مقتضاه، وذلك "لـ" أجل "ما بدا" و ظهر "من اختلاف" حاله وحال مشروطه، وتناقضهما. مثال ذلك اشتراط إسقاط النفقة في النكاح، وكذلك، اشتراط عدم الانتفاع بالمبيع في البيع.
"و" أما القسم الذي هو قسم "ثالث" من تلك الأقسام فإنه الذي "يرى" ويبصر "على" صفة "المسالمة" أي الترك لكلا الوصفين: التكميل لحكمة المشروط، وضد ذلك، فالمسالمة لغة المصالحة وترك الحرب، وظاهر كلام الناظم أنه استعمل لفظ المسالمة - هنا - بمعنى الترك، فلهذا قررته بما تقدم من الترك لكلا الوصفين، والتجرد منهما "بلا منافاة" لتلك الحكمة "ولا ملائمة" أي موافقة لها. وما كان من الشروط هكذا "فهو مجال" وموطن "نظر الأذهان" وإعمالها "في جعله" إما "كأول" يعني كالقسم الذي هو أول هنا، وبذلك يكون صحيحا "أو" القسم الذي هو "ثان" هنا، وبذلك يكون باطلا.
والذي اتخذ قاعدة فيه هنا، "و" بذلك فالذي "ينبغي" المصير إليه هو "التفريق بين" جهة "العادة فيه وبين جهة العبادة" يعني التعبدات، "إذ عدم التنافي" بين الشرطين والمشروط "في العادات كاف" لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد والأصل فيها - أيضا - الإذن حتى يدل الدليل على خلافه "على عكس التعبدات" أي العبادات، فعدم المنافاة فيها بين الشرط والمشروط لا يكفي، بل لا بد فيها من الملاءمة أيضا، لأن الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني، والأصل فيها على أن لا يقدم عليها إلا بإذن، إذ لامجال للعقول في اختراع التعبدات لأنها توقيفية والله أعلم.
الفصل الثالث في الموانع، وفيه مسائل
"
المسألة الأولى
"
625 -
مَوَانِعُ الأحْكَامِ إِمَّا رَافِعُ
…
لِأصْلِ مَا يَطْلُبُ مِنْهَا الشَّارعُ
626 -
لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الطَّلَبْ
…
كَمِثْلِ كُلِّ مَا بِهِ الْعَقْلُ ذَهَبْ
627 -
فَالشَّرْطُ فِي تَعَلُّقِ الْخِطَابِ
…
إِمْكَانُ فَهْمِهِ مِنَ الألبابِ
الفصل الثالث في الموانع وفيه مسائل
"المسألة الأولى"
"الفصل الثالث" من قسمي الأحكام "في الموانع وفيه" أي هذا الفصل "مسائل"
"المسألة الأولى" في أن الموانع على ضربين:
أحدهما: ما لا يتأتى فيه اجتماعه مع الطلب.
ثانيهما: ما يتأتى فيه ذلك وهو نوعان:
أحدهما: يرفع أصل الطلب.
والثاني: لا يرفعه، ولكن يرفع انحتامه ووجوبه، وهذا النوع قسمان:
أحدهما: أن يكون رفعه بمعنى أنه يصير مخيرا فيه لمن قدر عليه.
ثانيهما: أن يكون رفعه بمعنى أنه لا إثم على مخالف الطلب وبذلك فالأقسام هنا أربعة؛ وفي بيان ذلك كله وأحكامه يقول الناظم: "موانع الأحكام" ضربان، وهما:"إما" ما لا يتأتى فيه اجتماعه مع الطلب، وهذا الضرب "رافع لأصل ما يطلب منها" أي من تلك الأحكام "الشارع" جل وعلا، وهذا الضرب الذي "لا يمكن" ولا يتأتى شرعا وعقلا "اجتماعه مع الطلب" في الوجود، هو "كمثل كل ما" أي وصف "به" أي بسببه "العقل ذهب" وزال - كالنوم والجنون - "فالشرط" الشرعي والعقلي "في تعلق الخطاب" الشرعي بأي إنسان هو "إمكان فهمه" لذلك الخطاب المذكور "من" جهة "الألباب" أي العقول وذلك لا يتأتى من النائم، ولا من المجنون، ولهذا فإن التكليف بالأحكام الشرعية مرفوع عنه بذلك، لأن النوم لا يتأتى اجتماعه مع التكليف، وكذلك الجنون،
628 -
وَرَافِعٌ لَهُ وَلاكِنْ يُمْكِنُ
…
حُصُولُهُ كَالْحَيْضِ وَهْوَ بَيِّنُ
629 -
وَرَافِعٌ لِحُكْمِ الانْحِتَامِ
…
لَا الأصْلِ مِثْلُ الرِّقِّ فِي أَحْكَامِ
630 -
وَآخَرُ الْمَعْنَى بِهِ رَفْعُ الْحَرَجْ
…
وَيسَببُ الرُّخْصَةِ فِي هَذَا انْدَرَجْ
"
المسألة الثانية
"
631 -
وَكلُّهَا لَا قَصْدَ فِي ارْتفَاعِهَا
…
لِلشَّرْعِ إِنْ كَانَتْ وَلَا إيقَاعِهَا
لأن من شرط التكليف الفهم - كما تقدم - وهو ما لا يتأتى ممن اتصف بما ذكر، فسقط بذلك الطلب والتكليف عنه. "و" الضرب الثاني هو ما يمكن فيه اجتماعه مع الطلب، وهذا الضرب على نوعين: أحدهما: "رافع له" أي لأصل الطلب - أيضا - "ولاكن يمكن حصوله" في الوجود معه وذلك "كالحيض" والنفاس بالنسبة للصلاة "و" حال هذا الضرب وتصوره "هو "أمر "بين" واضح "و" ثانيهما إنما هو "رافع لحكم الانحتام" والوجوب فقط "لا الأصل" أي أصل الطلب. وهذا النوع قسمان: أحدهما: ما يكون معنى رفع الانحتام فيه هو التخيير فيه بين الفعل والترك، لمن قدر عليه "مثل الرق" والأنوثة "في أحكام" لأمور معلومة كحضور الجمعة والعيدين والذهاب للجهاد. فالعبيد والإناث قد لصق بهم مانع من انحتام هذه العبادات، فصاروا مخيرين في فعلها وتركها إن قدروا.
"و" قسم "آخر" وهو الثاني "المعنى به" أي القصد فيه برفع الانحتام هو "رفع الحرج" فقط وليس التخيير "و" مثاله "سبب الرخصة" فإنه "في هذا" القسم "اندرج" أي داخل، فأسباب الرخص كالسفر والمرض مثلا ترفع انحتام الصوم بمعنى أنه لا حرج من ترك العزيمة ميلا منه إلى الرخصة، ومثل الصوم إتمام الصلاة عند من يرى أن القصر رخصة، وهم الجمهور.
"المسألة الثانية"
في أن الموانع ليست بمقصودة للشارع، بمعنى أنه لا يقصد تحصيل المكلف لها، ولا رفعها.
قال الناظم: "وكلها" أي الموانع "لا قصد في ارتفاعها للشرع إن كانت" أي حصلت، ووقعت "ولا" قصد له كذلك في "إيقاعها" وإيجادها.
632 -
وَهْيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ اقْتُفِي
…
مِنْ جِهَةِ التَّكْلِيفِ لِلْمُكَلَّفِ
633 -
مِنْ حَيْثُ أَنْ أُلْفِيَ مَأْمُورًا بِهِ
…
أَوْ حَاصِلًا بِالإِذْنِ أَوْ عَنْهُ نُهي
634 -
كَالْكُفْرِ مَانِعٌ مِنَ الأعْمَالِ
…
فَذَاكَ وَاضِحٌ بِلَا إِشْكَالِ
635 -
لَاكنَّهُ مِنْ حَيْثُ هَذَا فِي النَّظَرْ
…
لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِهَذَا الْمُعْتَبَرْ
636 -
ثَانِيهِمَا الْمَقْصُودُ مَا قَدْ دَخَلَا
…
تَحْتَ خِطَابِ الْوَضْعِ حَيْثُ يُجْتَلَى
637 -
لَاكِنَّ مَعْ تَوَجُّهِ الْمُكَلَّفِ
…
إِلَيْهِ قَصْدًا ذَا بِتَفْصِيلٍ حَفِي
" و" ذلك لأنها "هي على ضربين: ضرب اقتفى" واتبع مقتضاه وحكمه "من جهة" دخوله تحت خطاب "التكليف" الحاصل "للمكلف" وذلك "من حيث أن ألفي "أي وجد في خطاب الشرع" مأمورا به" كالسلام، فإنه مأمور به، وهو مانع من انتهاك حرمة المال والدم والعرض إلا بحقها "أو" كان "حاصلا بالإذن" الشرعي كالاستدانة التي قد يمنع بها وجوب الزكاة "أو" كان "عنه نهي كالكفر" فإنه منهي عنه، وهو "مانع من" صحة "الأعمال" الشرعية - كالعبادات.
وما كان هكذا أو من هذا الضرب "فذاك" حكمه "واضح" بين "بلا إشكال" فيه.
"لاكنه من حيث هذا" الذي تقدم هو "في النظر ليس بمقصود" في هذه المسألة، وذلك "بـ" سبب "هذا" الأمر "المعتبر" فيه، وهو كونه من خطاب التكليف. فالنظر فيه من جهة خطاب التكليف، وبذلك فهو خارج عن مقصود هذه المسألة التي هي من خطاب الوضع. وأما "ثانيهما" أي الضربين وهو "المقصود" هنا هو "ما" أي المانع الذي "قد دخلا" - الألف للإطلاق - "تحت خطاب الوضع حيث" أي في موضع "يجتلا" ينظر إليه فيه مكشوفا ظاهرا.
فهذا الضرب هو المقصود هنا - كما تقدم - وهو الذي لا يقصده الشارع من المكلف إيقاعه إن عدم، ولا رفعه إن وجد، وذلك كالدين، فإنه لا يطلب من هو عليه يرفعه لتجب عليه الزكاة، كما أنه لا يخاطب من عليه الزكاة بالاستدانة لتسقط عنه الزكاة. هذا هو الأصل "لاكن" الأمر يختلف "مع" حصول "توجه المكلف إليه" أي إلى إيقاع المافع، أو رفعه "قصد"، وغرضه تحصيل ما يترتب عنه فـ "ذا" حكمه "بتفصيل حفي "أي جدير وحقيق. وهذا هو ما سيذكر في المسألة الموالية:
"
المسألة الثالثة
"
638 -
فَإِنْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ التَّصْرِيفِ
…
بِمُقْتَضَى الْخِطَابِ بِالتَّكْلِيفِ
639 -
لِكَوْنهِ مِمَّا بِهِ قَدْ أُمِرَا
…
أَوْ صُدَّ عَنْهُ أَوْ غَدَا مُخَيَّرَا
640 -
فَذَاكَ ظَاهِرٌ كَمُسْتَدِينِ
…
لِحَاجَةٍ بَدَتْ لَهُ فِي الْحِينِ
641 -
وَيَنْبَنِي الأحْكَامُ فِي الْمَوَاقِعِ
…
بِحَسَبِ الْحُصُولِ لِلْمَوَانِعِ
642 -
وَإِنْ يَكُنْ تَحْصِيلُ ذَاكَ الْمَانِعِ
…
بِقَصْدِ الإِسْقَاطِ لِحُكْمِ الشَّارعِ
643 -
فَبِالْكِتَابِ مَنْعُهُ وَالسُّنَّةِ
…
وَانْظُرْ إِلَى قِصَّةِ صَحْبِ الْجَنَّةِ
644 -
وَمَا مَضَى فِي الشَّرْطِ قَبْلُ جَارِ
…
هُنَا فَلَا فَائِدَ فِي التَّكْرَارِ
" المسألة الثالثة"
على وجه التمام قال الناظم: "فإن يكن" المكلف "في ذلك التصريف" وهو القصد إلى إيقاع المانع أو رفعه إنما أتاه عملا "بمقتضى الخطاب بالتكليف" وذلك بأن يفعل ذلك المانع "لكونه مما به قد أمرا" قد "صد" أي منع ونهى "عنه""أو "أن يتركه من الوجه الذي قد "غدا" أي صار "مخيرا" فيه فما كان هكذا "فذاك" تصرف "ظاهر" حكمه وقد تقدم ذكره "كمستدين" آخذ للدين "لـ" أجل "حاجة بدت له في الحين" كالنفقة على من تجب عليه نفقته "وتنبني الأحكام" الشرعية "في"كل "المواقع" أي المواضع وذلك يحصل فيها "بحسب" ومقتضى "الحصول للموانع" المذكورة، فمتى حصلت تلك الموانع ترتبت عليه أحكامها. هذا إذا كان كسب تلك الموانع الإتيان بها على هذا الوجه. "و" أما "إن يكن" الإتيان بها من أجل "تحصيل ذاك المانع بقصد الإسقاط لحكم الشارع" به "فـ" ذاك عمل وتصرف "بالكتاب" العزيز ثبت "منعه" وتحريمه "و" كذلك "بالسنة" والنصوص الواردة فيهما على هذا الحكم كثيرة "وانظر" على سبيل المثال "إلى قصة صحب الجنة" {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القَلَم: 17 - 20] وغير ذلك من الأدلة الدالة على هذا المعنى.
"و" كل "ما مضى" من الأدلة والسؤال والجواب "في الشرط قبل" فإنه "جار" كذلك "هنا" فليستغن بذلك عن إعادة ذكره هنا "فلا فائد في التكرار" لذلك مرة أخرى
الفصل الرابع في الصحة والبطلان، وفيه مسائل
"
المسألة الأولى
"
645 -
وَتُطْلَقُ الصِّحَّةُ إِطْلَاقَيْنِ
…
بِحَسَبِ الأحْكَامِ فِي الدَّارينِ
646 -
فَتُطْلَقُ الصِّحَّةُ فِي الْعِبَادَةْ
…
دُنْيَا عَلَى الإِجْزَا فَلَا إِعَادَةْ
647 -
أَوْ أَنَّهَا وَسِيلَةُ الثَّوَابِ
…
مَرْجُوَّةُ الْقَبُولِ فِي الْحِسَابِ
هنا قال الشاطبي: وما تقدم من الأدلة والسؤال والجواب في الشروط جار معناه في الموانع؛ ومن هنالك يفهم حكمها، وهل يكون العمل باطلا أم لا؟ فينقسم إلى الضربين. فلا يخلو أن يكون المانع المستجلب مثلا في حكم المرتفع أو لا، فإن كان كذلك الحكم متوجه كصاحب النصاب استدان لتسقط عنه الزكاة، بحيث قصد أنه إذا جاز الحول رد الدين من غير أن ينتفع به. وإن لم يكن كذلك، بل كان المانع واقعا شرعا؛ كالمطلق خوفا من انحتام الحنث عليه، فهو محل نظر - على وزان ما تقدم في الشروط - ولا فائدة في التكرار.
الفصل الرابع في الصحة والبطلان وفيه مسائل
"المسألة الأولى"
"الفصل الرابع" من قسمي الخطاب "الصحة والبطلان" وأحكامهما وفيه أي هذا الفصل "مسائل" ثلاثة:
"المسألة الأولى"
في بيان معنى لفظ الصحة قال الناظم: "وتطلق" كلمة "الصحة إطلاقين" اختلفا "بحسب" واعتبار أحوال "الأحكام في الدارين" الدنيا والآخرة، وبذلك "فتطلق الصحة في العبادة" كالصلاة والصوم "دنيا" أي في الدنيا "على الإجزاء" وهو سقوط القضاء "فلا إعادة" به حصول الصحة - الإجزاء - هذا هو الإطلاق الأول. "أو" تطلق على اعتبار "أنها وسيلة" شرعية إلى "الثواب" والجزاء "مرجوة القبول في "حال "الحساب" يوم الدين. هذا شأن الصحة في العبادة، أو امتثال الشرع بالتحري في الإذن أو في
648 -
وَهْيَ لَدَى الْعَادَةِ مَا يُحَصِّلُ
…
شَرْعًا مَا الانْتِفَاعُ عَنْهُ يَحْصُلُ
649 -
أَوِ امْتِثَالُ الشَّرْعِ بِالتَّحَرِّي
…
فِي الأِذْنِ أَوْ فِي النَّهْي أَوْ فِي الأمْرِ
"
المسألة الثانية
"
650 -
وَإِذْ عَرَفْتَ ذَاكَ فَالْبُطْلَانُ
…
عَكْسُ الذِي قُرِّرَ فِيهِ الشَّانُ
النهي أو في الأمر "و" أما الصحة فـ "هي لدى" أي في "العادة" الشرعية كالبيع والشراء والنكاح "ما يحصل شرعا ما الانتفاع" كحلية الانتفاع، والتصرف، والاستمتاع "عنه يحصل" ويترتب "أو" هي "امتثال" ما جاء عن صاحب "الشرع بالتحري" أي القصد إلى موافقته "في" مقتضى "الأذن" وذلك بأن يأتي المكلف المخير فيه من حيث أن الشارع خير فيه، لا من حيث قصد مجرد حظه في الانتفاع غافلا عن أصل التشريع. "أو في" مقتضى "النهي" وذلك بأن يترك المكلف ما نهى عنه قاصدا امتثال ما ورد عن الشارع في ذلك غير غافل عنه "أو في الأمر" فيأتي المكلف الأمر امتثالا للخطاب الشرعي الوارد بذلك. قاصدا إليه. فما كان على هذه الصورة فإنه - أيضا - يسمى عملا صالحا.
قال الشاطبي: "وهو وإن كان طلاقا غريبا لا يتعرض له علماء الفقه، فقد تعرض له علماء التخلق، كالغزالي، وغيره. وهو مما يحافظ عليه السلف المتقدمون"
(1)
.
"المسألة الثانية"
حاصله ما قد يرى في الواقع مخالفا في الحكم قصد الشارع في معنى البطلان "وإذا عرفت ذاك" الذي تقدم ذكره في معنى الصحة وتعريفها "فالبطلان" معناه هو "عكس" المعنى "الذي قرر فيه" أي في ذاك، وهو الصحة، وذلك العكس هو "الشأن" أي الحال في معنى البطلان. ويمكن أن يكون معنى كلامه هذا: فالبطلان عكس الذي تقرر في معنى الصحة هو الشأن أي الحال الذي هو عليه.
وقد تجعل إلى في "الشأن" بدلا من الضمير أي شأنه. ويكون صوغ الكلام حينئذ: فالبطلان عكس الذي تقرر في معنى الصحة هو شأنه وحاله. وكل سائغ، والمعنى واحد.
(1)
انظر الأصل.
631 -
حَاصِلُهُ مَا قَدْ يُرَى فِي الْوَاقِعِ
…
مُخَالِفًا فِي الْحُكْمِ قَصْدَ الشَّارعِ
632 -
فِي نَفْسِ ذَاكَ الْفِعْلِ أَوْ فِي الْوَصْفِ
…
عَلَى الذِي لَهُمْ بِهِ مِنْ خُلْفِ
"
المسألة الثالثة
"
653 -
وَفيهِ تَفْصِيلٌ لِأمْرٍ بَادِ
…
بِنِسبةِ الْعَادِيِّ لِلْمَعَادِ
" حاصله" أي حاصل معنى البطلان هو "ما قد يرى" ويبصر "في الواقع" يتصف به كل ما كان من الأفعال "مخالفا في الحكم" الذي يترتب عليه "قصد الشارع" من ذلك الفعل، كالعبادة التي فعلت لنيل حظ دنيوي، كأن فعلت مراءاة، فإنها فعل باطل شرعا، لأنها على خلاف ما قصد من تشريعها، وهو التعبد بها، وتمحيصا للتقرب لله رب العالمين.
"في نفس ذاك الفعل" وفي حلب ماهيته، وحقيقته، "أو" وقعت "في الوصف" الخارجي المنفك عن حقيقتها، وإن كانت متصفة به. وذلك كالصلاة في الدار المغصوبة - مثلا - التي الحكم فيها يطلب بالاجتهاد، وبذلك ذهب بعضهم إلى صحة تلك الصلاة بناء على اعتبار الانفكاك، لأنها بذلك موافقة للشارع، ولا يضر حصول المخالفة من جهة الوصف. وذهب آخرون إلى اعتبار الاتصاف، فقالوا بالبطلان فيها.
وعلى كل حال فالحكم الفقهي في هذا الموطن فيه خلاف مبني "على" هذا "الذي لهم به" فيه يعني في تقرير حاله وبيان حقيقته "من خلف" وقد تقدمت صورته والجمهور على الصحة.
"المسألة الثالثة"
"المسألة الثالثة" في بيان أن البطلان بالمعنى الثاني وهو عدم ترتب الثواب وحصول الأجر من حيث وقوعه وعدم وقوعه بالنسبة للفعل العادي فيه تفصيل - أي الفعل العادي - من حيث وقوعه على أربعة أقسام: أحدها: أن يفعل بغير قصد. ثانيها: أن يفعل لقصد نيل غرض وحظ دنيوي فقط. ثالثها: أن يفعل مع استشعار الموافقة للشرع اضطرارا. رابعها: أن يفعل لكن مع استشعار الموافقة للشرع اختيارا.
والحكم بالبطلان وعدمه يقرر في كل واحد من هذه الأقسام بناء على حاله، ووصفه. قال الناظم:"وفيه" أي الحكم بالبطلان "تفصيل" ثابت مسند "لأمر باد" ظاهر، وهو اختلاف الأحوال "بنسبة" الفعل "العادي" كالمعاملات "لـ" جزاء "المعاد" - بفتح
654 -
فَمَا يُرَى عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ قَدْ وَقَعْ
…
فَالنَّيْلُ لِلثَّوَابِ هَاهُنَا ارْتَفَعْ
655 -
وَالْفِعْلُ بِالْقَصْدِ لِنَيْلِ الْغَرَضِ
…
مُجَرَّدًا لِمِثْلِ ذَاكَ يَقْتَضِي
656 -
وَإِنْ بِهِ التَّكْلِيفُ قَدْ تَعَلَّقَا
…
أَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ مُطْلَقَا
657 -
وَتَحْتَ ذَا يَدْخُلُ مَا عَنْهُ نُهِي
…
وَصَدَّ حُكْمُ الطَّبْعِ عَنْ أَخْذٍ بِهِ
658 -
وَمِثْلُهُ الْفِعْلُ مَعَ اسْتِشْعَارِ
…
تَوَافُقٍ بِحُكْمِ الاضْطِرَارِ
الميم - ظرف ميمي بمعنى محل المعاد - أي الرجوع أو زمنه - والمراد به - هنا - الآخرة وتلك الأحوال المختلفة أربعة أقسام - كما تقدم ذكره - وقد أوردها وأحكامها المصنف مبتدئا بأولها وحكمه فقال "فما" من الأفعال "يرى" أي يعلم أنه "عن غير قصد قد وقع" كفعل النائم والغافل، "فـ" إنه ساقط الاعتبار بالنسبة لشأن الآخرة إذ "النيل" والإدراك "للثواب" والأجر "ها هنا" في القسم "ارتفع" لأن ما كان من هذا الضرب من الأفعال لا يتعلق به خطاب اقتضاء، ولا تخيير، فليس فيه ثواب، ولا عقاب، لأن الأفعال في الآخرة إنما يترتب على الأعمال الداخلة تحت التكليف. فما لا يتعلق به خطاب تكليف لا تترتب عليه ثمرته.
"و" أما القسم الثاني وهو "الفعل بـ" أي مع "القصد" به "لنيل" وإدراك "الغرض" والحظ النفسي "مجردا" من أي استشعار لجهة الحكم الشرعي في ذلك الفعل وقصده منه فإنه "لمثل ذاك" الحكم المتقدم في القسم السابق "يقتضي" ويوجب، فإنه لا ثواب يترتب عنه "وإن" كان "به التكليف" الشرعي "قد تعلقا" كإطعام الجائع، وإكرام الضيف "أوكان" أمرا "واجبا عليه" شرعا "مطلقا" سواء كان حقا لله تعالى، أو كان حقا لخلقه كأداء الديون، ورد الودائع، والأمانات وما أشبه ذلك، فحكم ذلك كله البطلان - كما تقدم ذكره - "وتحت ذا" الحكم وهو عدم ترتب الأجر "يدخل" ترك "ما عنه نهى" شرعا، إلا أنه لم يترك امتثالا للنهي الشرعي عنه، "و" إنما "صد حكم الطبع" والمزاج النفسي "عن أخذ به" وفعله، لأن الأعمال بالنيات، وهذا أصل متفق عليه في الجملة. "ومثله" في هذا الحكم - أيضا - وهو عدم ترتب الأجر القسم الثالث وهو "الفعل" الذي وقع "مع استشعار" من فاعله لـ "توافق" بين فعله ذاك وما أمر به الشرع، ولكن لم يكن التوافق عن اختيار وقصد منه إليه، وإنما حصل ذلك له "بحكم الاضطرار" والحاجة. مثال ذلك: القاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية ولما
659 -
وَتَرْكُ مَا كَانَ مِنَ الْمَحَارِمِ
…
خَوْفَ افْتِضَاحٍ أَوْ عِقَابِ حَاكِمِ
660 -
وَكُلُّهَا بَاطِلَةُ الْمَتَاتِ
…
فَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
661 -
وَالْفِعْلُ لِلشَّيْءِ مَعَ اسْتِشْعَارِ
…
تَوَافُقٍ بِحُكمِ الاخْتِيَارِ
662 -
كفَاعِلِ الْمُبَاحِ بَعْدَ عِلْمِهِ
…
بِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي حُكْمِهِ
663 -
فَذَا الذِي فِيهِ تَعَيَّنَ النَّظَرْ
…
فِيمَا أُبِيحَ لَا سِوَاهُ إِنْ ظَهَرْ
664 -
إِذِ امْتِثَالُ الأمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَا
…
بِالاعْتِبَارَيْنِ صَحِيحٌ تَبَعَا
لم يمكنه بالزنى لامتناعها، أو لمنع أهلها، عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد فهذا وما شابهه باطل، فإنه لا يترتب عليه أي ثواب أو أجر في الآخرة - كما تقدم ذكره -.
"و" كذلك "ترك ما كان" تركه "من المحارم" أي المحرمات، مع استشعار الموافقة الشرعية في ذلك لكن ليس عن قصد إلى هذه الموافقة، ولا اختيارا لها، وإنما كان ذلك لا اضطرار إليها بموجب ما مثل "خوف افتضاح" وسوء ذكر بين الناس "أو" خوف "عقاب" أي عذاب "حاكم" أو ما أشبه ذلك "فكلها" أي ما ذكر من هذه الأفعال والتروك وما أشبهها "باطلة" أي فاسدة "المتات" أي الوسيلة وما توصل به إلى ذلك "فإنما الأعمال بالنيات" كما قال عليه الصلاة والسلام.
"و" أما القسم الرابع وهو "الفعل للشيء مع استشعار توافق" حاصل مع قصد الشارع من تشريع ذلك الفعل وكان ذلك التوافق "بحكم الاختيار" والقصد من المكلف له. "كفاعل" الفعل "المباح بعد علمه بأنه مخير في حكمه" فما اختاره في شأنه من فعل أو ترك فذاك هو حكمه، وبناء على كونه مخيرا فيه - مباحا - فعله، حتى إنه لو لم يكن مباحا ما فعله. "فذا" أي هذا القسم هو "الذي فيه" لا ينظر في المأمور به إذا فعل بقصد الامتثال، ولا في المنهي عنه إذا ترك كذلك، وإنما "تعين النظر" فيه "فيما أبيح لا سواه" مما ذكر "إن ظهر" ووقع، وإنما لا ينظر في المأمور به ولا في المنهي عنه إن فعلا على الوجه المذكور "إذ امتثال الأمر""و" كذلك امتثال "النهي معا بالاعتبارين" أي المذكورين وهما ترتب آثار العمل على الفعل في الدنيا، وترتب آثار العمل عليه في الآخرة "صحيح تبعا" أي على التوالي في الدنيا والآخرة.
665 -
وَتَرْكُ الامْتِثَالِ فِي الْوَجْهَيْنِ
…
إِنْ كَانَ بَاطِل بِالإِطْلَاقَيْنِ
666 -
فَالْفِعْلُ لِلْمُبَاحِ أَوْ تَرْكٌ لَهُ
…
مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ لِمَنْ أَعْمَلَهُ
667 -
يَبْطُلُ بِاعْتِبَارِ حَالِ الأُخْرَى
…
إِذْ لَا يُفِيدُ قَصْدُ ذَاكَ أَجْرَا
668 -
فَإنْ يَكُنْ فِي الْحَظِّ قَدْ تَحرّى
…
نَيْلَ الذِي الإِذْنُ بِهِ استَقَرَّا
669 -
دونَ سِوَاهُ فَهُنَا قَدْ ثَبَتَا
…
تَرَتُّبُ الثَّوَابِ شَرْعًا وَأَتَى
670 -
وَمِثْل ذَا الإِبَاحَةُ الْمَطْلُوبَةْ
…
بِالْكُلِّ فِعْلُهَا بِهِ مَثُوبَةْ
" و" كذلك "ترك" القصد إلى "الامتثال في الوجهين" وهما فعل المأمور به وترك المنهي عنه "إن كان" أي حصل ووقع من المكلف، فإن فعله ذاك "باطل بالإطلاقين" وهما عدم ترتب آثار العمل عليه في الدنيا، وعدم ترتب آثار العمل عليه في الآخرة. وإذا تقرر هذا في أمر المأمور به والمنهي عنه وعرف به حكمهما في هذا الشأن استقل الكلام في هذا القسم بعد هذا بفعل المباح لما في حكمه من تفصيل "فالفعل للمباح أو ترك له من جهة الحظ" والغرض النفسي فقط "لمن أعمله" وقصده مجردا من أي اعتبار آخر سوى ما ذكر يحتمل في النظر ثلاثة أوجه: أحدها أنه "يبطل باعتبار حال" الدار "الأخرى" الآخرة "إذ لا يفيد ذاك" في فعل المباح وهو نيل الحظ "أجرا" حسنا، وثوابا، إلا أنه أي فعل المباح على هذا الوجه - صحيح باعتبار حال الدنيا، لأنه تترتب عليه آثار فعل المباح الدنيوية. ثانيهما: أنه صحيح بالاعتبارين الدنيوي والأخروي إن كان مع تحري المأذون فيه "فإن يكن" فاعل المباح "في" نيل "الحظ" أي حظه "قد تحرى" وقصد "نيل" المباح "الذي الإذن" الشرعي "به" أي فيه "استقرا" وثبت "دون" ما "سواه" مما لم يرد فيه ذلك الإذن "فهنا" في هذا الوجه، "قد ثبتا" وحصل "ترتب الثواب" والأجر "شرعا وأتى" وعلى هذا نبه الحديث الذي رواه مسلم في الأجر في وقاع الزوجة، وقولهم أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال:"أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". ومثل ذا الإباحة المطلوبة بالكل فعلها به مثوبة وإن للصحة في العادات كذلك تقسيم وسوف يأتي.
"و" الوجه الثالث "مثل ذا" أي هذا الوجه الثاني في كونه صحيحا بالاعتبار - أيضا - وهو ما كانت "الإباحة" فيه "المطلوبة" شرعا "بالكل" كالأكل والشرب، وإن كانت الإباحة فيه بالجزء غير مطلوبة، "فعلها" أي إتيان هذه الإباحة المطلوبة بالكل "به" أي فيه "مثوبة"
671 -
وَإِنَّ لِلصِّحَّةِ فِي الْعَادَاتِ
…
كَذَاكَ تَقْسِيمٌ وَسَوْفَ يَأتِي
الفصل الخامس في العزيمة والرخصة، وفيه مسائل
"
المسألة الأولى
"
672 -
عَزِيمَةُ الأحْكَامِ مَا قَدْ شُرِّعَا
…
كلِّيَّةً بَدْءًا بِحَيْثُ وَقَعَا
673 -
وَالرُّخْصَةُ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ عُذْرِ
…
يَشُقُّ أَمْر بِذَاكَ الأمْرِ
أي ثواب. وأجر بخلاف ما هو مباح بالجزء فقط غير مطلوب بالكل كسماع تغريد الطيور، فإنه صحيح بالاعتبار الدنيوي فقط. هذا ما يتعلق بالبطلان بالمعنى الثاني - وهو عدم ترتب آثار العمل على الفعل في الآخرة في شأن الفعل العادي.
في ذكر ما يتعلق بالصحة بالمعنى - الاعتبار - الثاني وهو ترتب آثار العمل على الفعل في الآخرة "وإن للصحة" بالاعتبار الثاني "في العادات كذاك تقسيم وسوف يأتي" ذكره في كتاب المقاصد إن شاء الله تعالى.
الفصل الخامس في العزيمة والرخصة وفيه مسائل
"المسألة الأولى"
"الفصل الخامس" من قسمي الخطاب "في" ذكر "العزيمة والرخصة" وفيه أي هذا الفصل "مسائل" في أن العزيمة هو ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء. و "عزيمة الأحكام" يعني الأحكام التي هي عزيمة - ففيه إضافة الصفة للموصوف - هي "ما قد شرعا" حال كونه "كلية" تعم كل الأفراد والأزمنة والأمكنة كالصلاة والزكاة والحج والجهاد وسائر شعائر الإسلام الكلية "بدءا" بأن يكون قصد الشارع بها إنشاء الأحكام التكليفية على العباد من أول الأمر، فلا يسبقها حكم شرعي قبل ذلك، أو سبقها ونسخ، فكل ما كان على هذه الصورة فإنه عزيمة "بحيث وقعا" أي في كل موضع وقع وحصل. وبهذا وما سبقه تميز العزيمة وتعرف "و" أما "الرخصة" فهي الحكم "المشروع عند" حصول "عذر يشق أمره" أي حاله على المكلف "بذاك" أي في ذاك "الأمر" الذي
674 -
بِحُكْمِ الاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَصْلٍ كُلِّي
…
لِلْمَنْعِ مُقْتَضٍ بِحُكْمِ الأصل
675 -
مَعَ اقْتِصَارِ بَعْدُ فِي التَّصَرُّفِ
…
عَلَى مَحَلِّ حَاجَةِ الْمُكَلَّفِ
676 -
وَتُطْلَقُ الرُّخْصَةُ فِي الْمُسْتَثْنَى
…
مِنْ أَصْلِهِ الْكُلِّيِّ حَيْثُ عَنَا
شرع فيه هذا الحكم، كالصلاة بالنسبة للعاجز فيها عن القيام، فإنه يشرع فيها الجلوس، وإنما شرع له فيها ذلك لوجود العذر في هذا المحل وهو المشقة التي في القيام لها.
والرخصة تكون "بحكم" ومقتضى "الاستثناء" أي الإخراج الشرعي لها "من أصل كلي" موجب "للمنع" أي الحظر، والحرمة، مقتض" لذلك "بـ" سبب كونه "حكم الأصل" الذي يكون جاريا على مقتضى العوائد، فالأصل في الناس الإقامة، والصحة، - مثلا - بناء على ما جرت به العوائد، والرخصة تستثنى من مقتضى حكم الأصل من جهة ما يوجب فيه المنع، فالأصل في الصلاة - مثلا - القيام لها، وبذلك يمنع صلاتها بالجلوس على كل فرد، وفي كل زمان، وعلى كل حال، إلا ما أخرج من ذلك لعذر شاق.
فقولك "لا تصلي الصلاة بالجلوس" أصل كلي يقتضي المنع، فما استثنى حكمه من ذلك فهو رخصة، ومثله قولك:"يحرم الأكل والشرب في رمضان" فهذا أصل كلي يقتضي المنع كذلك وما استثنى من ذلك من حكم لعذر شاق فهو رخصة.
ثم إن الرخصة لا تتعدى محلها فإنها تكون "مع اقتصار بعد" أي بعد ثبوتها في "التصرف" والعمل بها "على محل حاجة المكلف" فإن المصلي إذا انقطع سفره، وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة، وإلزام الصوم، والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصل قاعدا، وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم.
وهكذا كل الرخص، فإنها يقتصر في مقتضاه على موضع الحاجة.
قال الناظم:
"وتطلق الرخصة" أيضا "في" يعني الحكم "المستثنى" أي المخرج "من أصله الكلي" الذي يشمله، لكونه فردا من أفراده "حيث" في كل موضع "عنا" أي عرض، فإنه يسمى
677 -
دُونَ اعْتِبَارِ الْعُذْرِ كَالْقِرَاضِ
…
وَكَالْمُسَاقَاةِ وَكَالإِقْرَاضِ
678 -
وَرُبَّمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الرُّخْصَةِ
…
لِمُقْتَضَى التَّخْفِيفِ عَنْ ذِي الأمَّةِ
679 -
وَتُطْلَقُ الرُّخْصَةُ بِاعْتِبَارِ مَا
…
يُلْفَى مِنَ الْمَشْرُوعِ حُكْمًا رُسِما
680 -
تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ مُطْلَقَا
…
مِنْ حَيْثُ مَا الْحَظُّ بِهِ تَعَلَّقَا
رخصة "دون اعتبار" أي اشتراط حصول "العذر" الذي تقدم تقييد ما هي الرخصة به "كالقراض" وهو تمكين شخص من مالك يتجر به بجزء من ربحه. وهو مستثنى من أصلين كليين يقتضيان المنع، وهما: الإجارة بمجهول والسلف بمنفعة "وكالمساقاة" وهي: "عقد على خدمة شجر وما ألحق به بجزء من غلته، أو بجميعها "وهي مستثناة من أصول كلية خمسة يقتضي كل واحد منها المنع.
أحدها: بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.
ثانيها: بيع الطعام بالطعام نسيئة، إذا كان العامل يغرم طعام الدواب والأجراء لأنه يأخذ عن ذلك الطعام طعاما بعد مدة.
ثالثها: الغرر للجهل بما يخرج على تقدير سلامة الثمرة، رابعها: الدين بالدين، لأن المنافع والأثمان كلاهما لم يقبض، خامسها: كالمخابرة، وهي كراء الأرض بما يخرج منها. "وكالإقراض" أي السلف، وهو دفع متمول في عوض غير مخالف له عاجل تفضلا فقط لا يوجب إمكان عارية وهو مستثنى من أصل منع الغرر على ما يبدو.
قال الناظم: "وربما يطلق لفظ الرخصة لمقتضى" أي على مقتضى وحكم "التخفيف" الحاصل في التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة - كقتل النفس للتوبة، وقطع محل النجاسة في الثوب - "عن ذي" أي هذه "الأمة" المرحومة. فكان ما جاء في هذه الملة السمحة من المسامحة واللين رخصة بالنسبة إلى ما حملته الأمم السالفة من العزائم الشاقة.
في أن الرخصة تطلق - أيضا - على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقا مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم. "توسعة على العباد مطلقا" كيفما كان حاله، سواء كان مما يقتضي حاله أن يكون رخصة أم لا، فغاية الأمر فيه أن تكون فيه توسعة "من حيث ما" الجانب الذي نيل "الحظ" والوطر "به تعلقا" كسائر المباحات والرخص، فإنها
681 -
فَهَذهِ جُمْلَةُ الإِطْلَاقَاتِ
…
وَالأوَّلُ التَّفْرِيعُ فِيهِ آتِ
682 -
وَالثَّانِ لَا كَلَامَ فِيهِ حِينَ لَا
…
تَفْرِيعَ وَالثَّالِثُ حُكْمُهُ جَلَا
683 -
وَرَابِعٌ لَهُ اخْتِصَاصٌ يَحْصُلُ
…
تَفْرِيعُهُ مِمَّا اقْتَضَاهُ الأوَّلُ
شرعت توسعة على العباد، وذلك كله راجع إلى نيل حظوظهم، وقضاء أوطارهم.
"فـ" إذا تقرر هذا تبين أن "هذه" هي "جملة الاطلاقات" يستعمل بمعناها مدلولاتها تختلف التي نطلق بها لفظ الرخصة وهذه الإطلاقات الأربعة من حيث عمومها وخصوصها "و" بذلك فإنها تختلف في جواز التفريع عليها وإمكانه فأما النوع "الأول" وهو الذي معناه: ما شرع لعذر شاق فإنه لكون هذا المدلول عاما يجري "التفريع فيه" وهو - أي التفريع - الحاق الذي تجري فيها مقتضاه بأحكام الرخص المنصوص عليها الموجبة، وذاك أمر "آت" ووارد فيه بمقتضى حاله، وكون عانة الحكم فيه متعدية - كما ترى - وهذا مبين أمره في كتب الأصول، إذ هو الذي يذكرونه فقط - وأمثلته تقدم ذكرها.
"و" أما النوع "الثان" وهو الذي مدلوله ما استثنى من أصل علة يقتضي المنع مطلقا - وقد تقدمت - فإنه "لا كلام فيه" من حيث التفريع عليه، وذلك "حين" تقرر أنه "لا تفريع" جار فيه شرعا فلا يترتب على العلم به إدراك سبيل القياس عليه، وإنما يتبين به أنه إطلاق شرعي فقط.
"و" أما النوع "الثالث" وهو الذي مدلوله: ما وضع على هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة - فإنه - كذلك لا تفريع يجري في هذا الذي يطلق عليه وهذا "حكمه" وأمره قد ظهر و "جلا" في هذا الشأن وأمثلته - كذلك - تقدم ذكرها. "و" أما الذي هو "رابع" من هذه الاطلاقات، وهو الذي مدلوله ما كان مشروعا توسعة على العباد مطلقا مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم فإنه لما كان "له اختصاص" بقوم وهو الصوفية معينين إذ هم الذين يعتبرون هذا النوع رخصة فإنه لم يتعرض له - أي للنظر في شأن كونه مما يجري التفريع فيه لكن قد يجري التفريع فيه لكن قد "يحصل" ويقع "تفريعه" يعني التفريع على النصوص عليه فيه - أي - القياس عليه أخذا ""مما اقتضاه" وأوجبه النوع "الأول" في هذا الشأن
(1)
.
(1)
انظر الأصل 1/ 227 - وما بعدها.
"
المسألة الثانية
"
684 -
وَإِنَّ حُكْمَ الرُّخَصِ الإتاحَةْ
…
وَكَمْ دَلِيلٍ يَعْضُدُ اتِّضَاحَهْ
685 -
وَمُوهِمُ النَّدْبِ أَوِ الْوُجُوبِ
…
آتٍ عَلَى أَصْلٍ لَهُ مَطْلُوبِ
" المسألة الثانية"
"المسألة الثانية" في أن حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة.
قال الناظم: "وأن حكم الرخص" مطلقا هو "الإباحة" لا غير "وكم دليل" شرعي ونظري، يدل على هذا "يعضد" أي يقوي "اتضاحه، وبيانه، وذو الرغبة في الاطلاع على ذلك يرجع إلى الأصل - الموافقات -.
"و" أما الذي هو "موهم" كون حكم الرخصة هو "الندب" كالقصر في السفر "أو الوجوب" كأكل المضطر الخائف على نفسه الهلاك الميتة، فهو لا يعترض به على هذا - وهو أن حكم الرخصة الإباحة فقط - لأنه حكم لم تقتضه هي، ولم يبن عليها، وإنما هو "آت" في الشرع على هذا الذي هو عليه من ندب أو وجوب بناء "على أصل" آخر مجلوب "له" و"مطلوب" بمقتضى حاله ومحله.
كالمضطر الذي اقتضى حاله بحكم خوفه من الهلاك أن يبني حكمه على أصل آخر - بعد ثبوت جريان الحكم بالرخصة - وهو حفظ النفس، وهذا الأصل اقتضى حكم الوجوب في أمره، وليس الرخصة التي حكمها الإباحة فقط.
قال الشاطبي: "إن المضطر الذي لا يجد من الحلال ما يرد به نفسه أرخص له في أكل الميتة قصدا لرفع الحرج عنه، ردا لنفسه ألم الجوع. فإن خاف التلف وأمكنه تلافي نفسه بأكلها، كان مأمورا بإحياء نفسه".
لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النِّسَاء: 29] كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها، إذا أمكنه تلافيها؛ بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه، فلا شك أن الزوال عنه مطلوب؛ وإن إيقاع نفسه فيه ممنوع. ومثل هذا لا يسمى رخصة؛ لأنه راجع إلى أصل ابتدائي.
فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة، هو مأمور بإحياء نفسه. فلا يسمى رخصة من هذا الوجه، وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه.
"
المسألة الثالثة
"
686 -
وَلَيْسَتِ الرُّخَصُ أَصْلِيَّاتِ
…
وَإِنَّمَا تُلْفَى إِضَافِيَّاتِ
687 -
أَيْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي شَأْنِهَا
…
فَقِيهُ نَفْسِهِ لَدَى إِتْيَانِهَا
688 -
مَا لَمْ يَحُدِّ الشَّرْعُ فِيهَا حَدَّا
…
فَعِنْدَهُ الْوُقُوفُ لَا يُعَدَّى
689 -
بَيَانُهُ بِالشَّرْعِ حُكْمًا يُقْتَنَصْ
…
وَبِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ فِي أَمْرِ الرُّخَصْ
690 -
مِنْ جِهَةِ الأَسبَابِ وَالأَعْمَالِ
…
وَجِهَةِ الأَزْمَانِ وَالأَحْوَالِ
" المسألة الثالثة"
قال الناظم: "وليست الرخص أصليات" في المواطن التي شرعت فيهما، وبذلك تعم "وإنما تلفى إضافيات" فلا يتأتى إثباتها على عموم الناس على وجه واحد، بل أمرها مسند إلى أحوال الناس إلى "أي أن كل واحد" من المكلفين "في شأنها" وأمرها أي فعلها "فقيه نفسه" في إثباتها وعدمه "لدى" أي عند "إتيانها" هذا "ما لم يحد الشرع فيها حدا" معلوما مضبوطا، كمسافة القصر وما يسمى به المرء مسافرا، وما أشبه ذلك مما ضبط بحد معين، وهو إن كان الخلف في تحديد عينه جاريا بين أهل العلم، فإن التحديد له أمر متفق عليه في الجملة. وما ورد كذلك - أي محددا - "فعنده الوقوف" لازم وواجب شرعي "لا يعدى" ولا يتجاوز.
وأما "بيانه" أي بيان هذا الذي ذكر - من أن الرخصة إضافية، لا أصلية، أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه فإنه يحصل بأمرين "بـ" أدلة "الشرع" التي يؤخذ منها حالة كونه "حكما" شرعيا و "يقتنص" بالنظر وإعمال الذهن فيها.
"وباختلاف الحكم" الذي يحصل "في أمر" أي شأن ثبوت "الرخص" وعدمه، فإن الحكم بثبوتها وعدمها يختلف "من جهة" اختلاف "الأسباب" أي أسباب الرخص قوة وضعفا، وأسبابها هي المشاق، "و" كذلك يكون من جهة اختلاف "الأعمال" فبعضها أشق من بعض "و" من "جهة" اختلاف "الأزمان" فالصيف ليس كالشتاء، والشتاء ليس كالصيف، فالصيف تشتد فيه الحرارة، والشتاء تشتد فيه البرودة، وأيام الصيف أطول من أيام الشتاء. كما هو معلوم.
"و" كذلك من جهة اختلاف "الأحوال" أي أحوال الناس في الصبر والجلد
"
المسألة الرابعة
"
691 -
إِبَاحَةِ الرُّخْصَةِ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجْ
…
وَالْحُكْمُ بِالتَّخْيِيرِ عَنْهَا قَدْ خَرَجْ
692 -
وَذَاكَ مُقْتَضًى مِنَ النُّصُوصِ
…
فِي ذَا وَفِي ذَاكَ عَلَى الْخُصُوصِ
693 -
وَالْفَرْقُ تَنْبَني عَلَيْهِ بَعْدُ
…
فَوَائِدٌ تَكَادُ لَا تُعَدُّ
"
المسألة الخامسة
"
وتحمل المشاق. فرب رجل جلد ضري على قطع المهامه، حتى صار ذلك عادة لا يحرج بها، ولا يتألم بسببها يقوى على عباداته، وعلى أدائها على كمالها، وفي أوقاتها. ورب رجل بخلاف ذلك. وكذلك في الصبر على الجوع والعطش. وفي الاتصاف بالشجاعة والجبن وغير ذلك مما لا يقدر على ضبطه من الأمور.
" المسألة الرابعة" في بيان أن الرخصة من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج
قال الناظم: "إباحة الرخصة" يعني الإباحة المنسوبة للرخصة، باعتبار أنها - أي الإباحة - حكمها - الرخصة - هي "من رفع الحرج" الذي هو أحد مدلولي الإباحة، ومقتضى ذلك أن هذه الإباحة محلها لا يكون مطلوب الفعل بالكل، كما أنه لا يتساوى فيه الفعل والترك، بل الترك فيه هو الراجح "و" بذلك "الحكم بالتخيير" الذي أحد مدلولي الإباحة "عنها" أي عن هذه الإباحة التي هي حكم الرخصة "قد خرج" فهي لا تدل عليه. "وذاك" الذي تقدم ذكره هو "مقتضى" أي مأخوذ "من النصوص" الشرعية الواردة في شأن الرخص، سواء منها ما ورد "في ذا" وهو الإباحة بمعنى التخيير "وفي ذاك" وهو الإباحة بمعنى رفع الحرج "على" وجه "الخصوص" بكل واحد منهما "والفرق" بين الإباحة التي للتخيير، والإباحة التي لرفع الحرج "تنبني عليه" كما سيأتي "بعد فوائد" كثيرة لا "تكاد تعد" أي يحاط بإحصائها وعدها.
"المسألة الخامسة"
في أن الرخص المشروعات ضربان: أحدهما: أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها - طبعا - كالمرض الذي يعجز معه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها - مثلا - ثانيهما: أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها. كالمرض الذي
694 -
لِلْقِسْمَةِ الرُّخْصَةُ مُسْتَحِقَّةْ
…
فَمَا يُرَى مُقَابِلًا مَشَقَّةْ
695 -
لَا صَبْرَ لِلْمُكَلَّفِينَ طَبْعَا
…
عَلَى احْتِمَالِ وَقْعِهَا أَوْ شَرْعَا
696 -
كَمِثْلِ الأَمْرَاضِ أَوِ الصِّيَامِ
…
يَعْجَزُ فِي الصَّلَاةِ عَن إِتْمَامِ
697 -
فَذَاكَ مَطْلُوبٌ لِحَقِّ اللهِ
…
وَالشَّرْعُ عَنْ تَرْكٍ لِذَاكَ نَاهِ
698 -
وَهَاهُنَا الرُّخْصَةُ مِمَّا تَجْرِي
…
مَجْرَى الْعَزَائِمِ بِبَعْضِ الأمْرِ
699 -
وَمَا يُرَى مُقَابِلًا لِمَا قَدَرْ
…
مُكَلَّفٌ صَبْرًا عَلَيْهِ إِنْ ظَهَرْ
بالمكلف قدرة معه على استيفاء عبادته.
قال الناظم: "للقسمة" أي إلى "الرخصة" الواردة في مقابلة المشقة "مستحقة" - بكسر الحاء - أي مستوجبة بمقتضى واقع حالها. "فـ" النوع الأول منها "ما يرى" أي يعلم ويبصر "مقابلا" كتقابل المتضايفين "مشقة" شديدة "لا صبر للمكلفين طبعا" يعني من جهة الطبع "على احتمال وقعها" تأثيرها ووجودها "أو شرعا" يعني أو من جهة الشرع، وذلك "كمثل الأمراض" التي يعجز معها عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها. وهذا من جهة الطبع. وأما الذي من جهة الشرع، فقد أورد مثاله فقال "أو الصيام" الذي "يعجز" معه "في الصلاة عن إتمام" لأركانها على الوجه المطلوب شرعا. وما كان من الرخصة - الترخص - هكذا - أي آتيا في مقابلة هذا الضرب من المشقة - "فذاك" ترخص "مطلوب" لأنه راجع "لحق الله" تعالى إذ ما يفوت بعدم الترخص في هذا الموضع إنما هو عبادته سبحانه على الوجه المطلوب، وامتثال أوامره كما أمر بها "و" لذلك "الشرع عن ترك لذاك" وهو الترخص والعمل بالرخصة في هذا المقام "ناه" ومن النصوص الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس من البر الصيام في السفر" وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا حضر العشاء وأقيمت العشاء فابدؤوا بالعشاء" وغير ذلك مما ورد في هذا الشأن. "وها هنا" في هذا الموضع "الرخصة مما تجري مجرى العزائم" لما يلحقها من حكم الوجوب "ببعض" أي في بعض "الأمر" يعني الأمور كأكل الميتة خوف التلف. وما أشبه ذلك هذا هو النوع الأول وحكمه "و" أما النوع الثاني فهو "ما" أي الترخص الذي "يرى" أي يبصر أو يعلم "مقابلا" تقابل المتضايفين "لما" من المشاق قد "قدر" عليه كل "مكلف" ماض حاله على ما هو معتاد في الخلق من جهة القدرة "صبرا عليه" وتحملا له ويتصور هذا في الصوم الذي لا يجهد صاحبه فالترخص "إن" وقع في مقابلة هذا الصوم وما ماثله و"ظهر
700 -
فَذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ
…
بِحَيْثُ نَيْلُ الرِّفْقِ مِنْهُ بَادِ
701 -
وَهْوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مَا كَاللَّازِمِ
…
فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِالْعَزَائِمِ
702 -
وَذَاكَ مِثْلُ الْجَمْعِ بِالْمُزْدَلِفَةْ
…
وَمَا عَدَاهُ حَالُهُ مُخْتَلِفَةْ
703 -
فَالشَّرْعُ فِيهِ غَيْرُ مُبْدٍ لِلطَّلَبْ
…
وَمَسْقِطُ الإِثْمِ لِمَنْ لَهُ ذَهَبْ
"
المسألة السادسة
"
704 -
وَحَيْثُ قِيلَ حُكْمُهَا التَّخْيِيرُ
…
فَفِيهِ لِلْبَحْثِ مَدَىً كَبِيرُ
فذاك راجع إلى" حظوظ "العباد" لأنه وضع "بحيث" يعني في موضع "نيل الرفق" والتيسير "منه" هو المقصود الشرعي وذاك أمر "باد" ظاهر. "و" لكنه ليس نوعا واحد بل "هو على ضربين" أحدهما: "ما" هو "كاللازم" أي الواجب الشرعي، وثبوته بالطلب الشرعي حتى إنه لا يعتبر فيه حال المشقة، ولا عدمها، وما كان هكذا "فإنه يلحق بالعزائم" من حيث أنه مطلوب طلب العزائم "وذاك مثل الجمع" بين الظهر والعصر بعرفة جمع تقديم، والجمع بين المغرب والعشاء "بالمزدلفة" جمع تأخير، وكلا الجمعين سنة "و" أما الضرب الثاني فهو "ما عداه" أي ما سوى هذا الضرب الأول، وهذا الضرب الثاني "حاله مختلفة" عن حال الأول "فالشرع فيه غير مبد" أي مظهر "للطلب و" الندب إلى فعله ولكنه "مسقط" ورافع "الإثم" والمؤاخذة "لمن" أي عمن "له ذهب" وفعله. وذلك كمن أفطر في السفر والصوم لا يجهده، عند من يرى أن الصوم هو الأفضل ما لم يفض إلى المشقة والحرج الشديدين.
"المسألة السادسة"
"المسألة السادسة" في ذكر جمل مما به يحصل الترجيح بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة.
قال الناظم: "وحيث قيل: حكمها" أي الرخصة هو "التخيير" كما رجح بعضهم فإن ذلك مدعاة عادة للنظر من جهة أن إثبات هذا الحكم للرخصة أمر لا يساعد عليه ما يراد من التسوية بين الفعل والترك بمقتضى ذلك من أمور - أدلة - تفيد أن هذه التسوية ساقطة، وأن الصواب هو رجحان أحد هذين الطرفين: الفعل أو الترك - العزيمة أو الرخصة - على الآخر في هذا الشأن، "فـ" كان هذا الموضع لذلك موضعا "فيه للبحث" والنظر "مدى كبير" ومجال
705 -
فَقَدْ يُقَالُ الأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ
…
أَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِ حُكْمِ الرُّخْصَةِ
706 -
وَذَاكَ لِلتَّأْصِيلِ وَالْعُمُومِ
…
وَسَدِّهَا بَابَ الْهَوَى الْمَذْمُومِ
707 -
مَعْ مَا أَتَى نَقْلًا مِنَ الْحَضِّ عَلَى
…
لُزُومِ الانْحِتَامِ مَرَّ أَوْ حَلَا
708 -
لَكِنَّمَا الْحَالُ بِهَا مُخْتَلِفُ
…
مِنَ الْمَشَقَّاتِ التِي تَخْتَلِفُ
واسع لما يرد فيه ويساق من الأمور - الأدلة - المذكورة القاضية يرجحان أحد الطرفين "فقد يقال: الأخذ بالعزيمة" والعمل بمقتضاها "أولى" وأرجح "من اتباع حكم" ومقتضى "الرخصة وذاك لـ" ما تتصف به العزيمة من "التأصيل" باعتبار أنها الحكم الأصلي على الدوام "و" لما تتصف به - أيضا - من "العموم" والشمول إذ هي الحكم العام الشامل لكل الأفراد، والأمكنة، والأزمنة، والأحوال - كما تقدم ذكره - "و" لما تتصف به كذلك من "سدها" وإغلاقها "باب" اتباع "الهوى المذموم" شرعا.
ويزاد "مع" هذا الذي ذكر من الأدلة على أن الأخذ بالعزيمة أولى "ما أتى" عن الشارع نقلا "من" النصوص الواردة في "الحض" والحث "على لزوم" العمل بما يقتضي "الانحتام" من النهي والأمر سواء "مر" - من المرارة ضد الحلاوة - أي شق على النفس "أو حلا" أي لذ ووافق المزاج النفسي، فإنه مطلوب الإتيان به وإن قام موجب الرخصة، والأدلة على هذا كثيرة وبهذا تكون العزيمة قد ارتقت في مقابلة الرخصة إلى درجة المندوب أو الواجب على ما يظهر.
"لكنما" - ما زائدة - هذا الأمر - وهو كونها واجبة أو مندوبة في هذا المقام - لا يصار إليه فيها بدون تفصيل، وذلك لأن "الحال" الذي يقوم "بها" حين الأخذ بها "مختلف" وذلك بسبب ما "من المشقات" التي تصاحبها، و "التي تختلف" قوة وضعفا، فإن قويت ولكنها مقدور عليها فإن حكمها - العزيمة - حينئذ لا يتخطى الإباحة، وإن ضعفت فإن الحكم قد يرتقي.
خلاصة القول أن الوقوف مع أصل العزيمة هل هو من قبيل الواجب أو المندوب، أم هو موضع تفصيل إنما يتبين بتفصيل أحوال المشقات. ولما كان هذا التفصيل محتاجا إليه في هذا المقام أورده في المسألة الموالية، فقال:
"
المسألة السابعة
"
709 -
وَهْيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ فِي ذَا الْحُكْمِ
…
مِنْهَا حَقِيقِيٌّ وَمِنْهَا وَهْمِي
710 -
وَمُعْظَمُ التَّرَخصَّاتِ فِي النَّظَرْ
…
مِنْ أَوَّلٍ مِثْلُ وُجُودٍ فِي السَّفَرْ
711 -
فَإِنْ تَكُنْ عَزِيمَةٌ عَنْهَا يَقَعْ
…
مَا لَيْسَ يُسْتَطَاعُ طَبْعًا أَنْ وَقَعْ
712 -
أَوْ لَيْسَ يُسْتَطَاعُ شَرْعًا حَمْلُهُ
…
مُحَقَّقًا لَيْسَ يُظَنُّ أَصْلُهُ
713 -
كَانَ اقْتِفَا الرُّخْصَةِ مِمَّا يُطْلَبُ
…
وَهْوَ لِحَقِّ اللهِ فِيهِ يُنْسَبُ
714 -
وَمِثْلُهُ الْمَظْنُونُ مَهْمَا اسْتَنَدَا
…
لِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ قَدْ وُجِدَا
" المسألة السابعة"
في أن المشقات التي هي مظان التخفيفات في نظر الناظر على ضربين "وهي" أي المشقات التي هي مظان التخفيفات "على ضربين" أي نوعين "في"ما يتعلق بـ "ذا الحكم" وهو الوقوف مع أصل العزيمة "منها" ما هو "حقيقي" وهو الضرب الأول "ومنها" ما هو "وهمي" لا ثبوت له حقيقة "ومعظم" ما وقع فيه الترخصات "في"ما يبدو بـ "النظر" هو "من أول" يعني من الضرب الأول، وذلك "مثل" المشقة التي هي وصف "وجودي" حقيقي في "السفر" ومثله المشقة المرضية "فإن تكن عزيمة" ما يترتب "عنها" و "يقع" بها على المكلف "ما ليس يستطاع" احتماله "طبعا" يعني من جهة الطبع البشري وقدرته "أن وقع" الأخذ بها "أو" أنه يستطاع طبعا، ولكنه "ليس يستطاع شرعا حمله" لما فيه من الإخلال بالواجبات الشرعية الأخر، وكان ذلك كله أمرا "محققا" ثابتا "ليس" أساسه "يظن" ولا "أصله" الذي بني عليه "كان" جواب قوله وإن تكن وما بعد "اقتفا" بالقصر للضرورة - أي اتباع "الرخصة" والعمل بمقتضاها "مما يطلب" شرعا إتيانه "وهو" الأخذ بهذا الحكم الرخصة "لحق الله" تعالى "فيه" أي في الموضع "ينسب" فليس ما أساسه حظوظ العباد. "ومثله" أي ما تقدم في الحكم بالأخذ بالعزيمة "المظنون" أنه لا يطلق طبعا أو شرعا ولكن "مهما" أي إن "استندا" - الألف للإطلاق - "لسبب معين" يدل على ذلك كالتجربة والاختبار، "قد وجدا" - الألف للإطلاق - كأن يدخل في الصوم - مثلا - ولم يطق الإتمام، أو الصلاة - مثلا - ولم يقدر على القيام، فقعد. ومن كان هكذا فحكمه الرخصة، فحاله
715 -
وَإِنْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إِلَى سَبَبْ
…
غَيْرِ مُعَيَّنَ فَهَاهُنَا وَجَبْ
716 -
الأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ الأَصْلِيَّةْ
…
أَوْلَى مِنَ الرُّجُوعِ لِلْجُزْئِيَّةْ
717 -
وَضَرْبُهَا الثَّانِي التَّوَهُّمِيُّ
…
كَمِثْلِ هَذَا حُكْمُهُ جَلِيُّ
718 -
فَصَحَّ أَنَّ الصَّبْرَ فِي الْعَزِيمَةْ
…
سَبِيلُ مَنْ وَافَاهُ مُسْتَقِيمَةْ
719 -
إِلَّا مَعَ الْمَشَقَّةِ الْمُخِلَّةِ
…
فَتُقْصَدُ الرُّخْصَةُ لِلأدِلَّةِ
مثل حال الصنف الأول "و" أما "إن يكن" ذلك الأخذ بالعزيمة المظنون أنه لا يطاق "مستندا إلى سبب غير معين" وإنما هو مستند إلى تجارب الناس والنظر في أحوالهم القاضية بما ظنه من ذلك "فهاهنا" في هذا الموضع "وجب" أي ثبت "الأخذ بالعزيمة الأصلية" فذلك "أولى من الرجوع" عنها. "للجزئية" التي هي الرخصة. وعبارة الشاطبي "وإما أن يكون مستندا إلى سبب مأخوذ من الكثرة والسبب موجود عينا، بمعنى أن المرض حاضر ومثله لا يقدر معه على الصيام، ولا على الصلاة قائما أو على استعمال الماء عادة، من غير أن يجرب نفسه في شيء من ذلك، فهذا قد يلحق بما قبله ولا يقوى قوته. أما لحوقه به فمن جهة وجود السبب. وأما مفارقته له فمن جهة أن عدم القدرة لم يوجد عنده؛ لأنه إنما يظهر عند التلبس بالعبادة. وهو لم يلتبس بها على الوجه المطلوب في العزيمة حتى يتبين له قدرته عليها وعدم قدرته فيكون الأولى هنا الأخذ بالعزيمة، إلى أن يظهر بعدما ينبني عليه"
(1)
.
هذا هو الضرب الأول، وحكمه. "و" أما "ضربها الثاني" فهو "التوهمي" وهو الذي تكون المشقة فيه توهمية، بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة، وهذا الضرب حكمه "كمثل" حكم "هذا" الذي ذكر "حكمه جلي" بين واضح، فلا حاجة إلى تقريره بالأدلة، لأن الرخص لا تثبت بأسباب متوهمة؛ "فصح" وتقرر بهذه الأدلة المسوقة في هذه المسألة والمسألة السابقة "أن الصبر في "الأخذ بـ "العزيمة سبيل من وافاه" أي أتاه سبيل "مستقيمة" مطلوب السير فيها "إلا" مع وجود "المشقة" الشديدة "المخلة" بما به يحصل المأمور به طبعا، أو شرعا "فتقصد الرخصة" وتؤتى "لـ" أجل "الأدلة" الشرعية القاضية بذلك.
(1)
الموافقات 1 - 250.
720 -
وَمَا يُخَالِفُ الْهَوَى لَا يُحْسَبُ
…
مَشَقَّةً لِرُخْصَةٍ تَطَّلِبُ
721 -
وَحَاصِلُ الرُّخْصَةِ أَنْ لَا تُرْتَكَبْ
…
إِلَّا إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةَ السَّبَبْ
722 -
وَذَاكَ مَا يَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ
…
أَوْ مَا يُرَى فِي الشَّرْعِ مِنْ مُطَّلَبِهِ
723 -
أَوِ ابْتِدَائِيًّا لِأجْلِ الْحَاجَةْ
…
كَالْقَرْضِ أَوْ مَا يَقْتَفِي مِنْهَاجَهْ
"
فصل في أن بيان الأخذ بالعزيمة ليس بأولى
"
724 -
وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ الأَخْذَ بِالرُّخَصْ
…
أَوْلَى مِنْ أَوْجُهٍ لِذَاكَ تُقْتَنَصْ
" و" أما "ما يخالف الهوى" وليس مشقة مخلة بمأمور به، وإنما كان مشقة من جهة مخالفة الهوى فقط فإنه "لا يحسب" ولا يعد "مشقة" جالبة "لرخصة تطلب" بضم التاء مبني للمجهول من اطلب الشيء بمعنى طلبه أي تطلب شرعا. "وحاصل" حكم "الرخصة" وما تقتضيه الأدلة الشرعية في شأنها "أن لا ترتكب" أي أن لا تفعل وتؤتى "إلا إذا كانت قوية السبب" الموجب لها "وذاك" السبب الموجب لها القوى "هو ما" أي السبب الذي "يكون مقطوعا به" أي بأنه موجب لها وقاض بها بحيث لا استطاعة معه، وهو ثابت في حق من يقتضى له بها - أي الرخصة - "أو ما" أي الذي "يرى" يعلم "في الشرع" أنه "من مطلبه" بضم الميم وفتح الطاء المشددة - بصيغة اسم المفعول - أي مما يطلب فعله تخفيفا كفطره عليه الصلاة والسلام في السفر حين أبى الناس من الفطر، وقد شق عليهم الصوم. فهذا وما أشبهه قد علم من الشارع أنه رخصة، وهو حكم ثابت بالدليل. "أو "شرع شرعا "ابتدائيا" فلم تكن العزيمة قبله في محله، وإنما شرع رخصة ابتداء "لأجل الحاجة" حاجة الناس إليه، فمنعه يترتب عليه الحرج والمشقة، وذلك "كالقرض أو ما يقتفي" أي يتبع "منهاجه" أي طريقه في كونه شرع رخصة ابتداء، كالقراض، والمساقاة. هذا ما به بيان وتقرير رجحان العزيمة على الرخصة في مقام التخيير وهو الطرف الأول في هذا الموضوع. والثاني وارد في الكلام الآتي.
"فصل في أن بيان الأخذ بالعزيمة ليس بأولى"
قال الناظم: "وقد يقال" اعتراضا على ما تقدم ذكره كله "إن الأخذ بالرخص أولى" وأرجح وذلك "من أوجه" تجلب الدلالة على لـ "ذلك" واقتضاه، "وتقتنص" بالنظر
725 -
مِنْ ذَاكَ أَنَّ الأَصْلَ فِيهَا قَطْعِي
…
وَحُكْمُهَا لِذَاكَ حُكْمٌ شَرْعِي
726 -
وَقَدْ أَتَى فِيهَا مِنَ الشَّرْعِ الطَّلَبْ
…
وَالْبَعْضُ مِنْهَا عِنْدَ قَوْمٍ قَدْ وَجَبْ
727 -
وَالأَصْلُ أَنْ يَعُمَّ فِي التَّرَخُّصِ
…
فَالْبَعْضُ تَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصِّصِ
728 -
وَإِنْ تَكُنْ جُزْئِيَّةَ الْمَفْهُومِ
…
فَهْيَ مِنَ التَّخْصِيصِ لِلْعُمُومِ
729 -
وَفَاعِلُ الرُّخْصَةِ فِي الْمَوَاقِعِ
…
مُوَافِقُ الْقَصْدِ لِقَصْدِ الشَّارعِ
730 -
وَغَيْرُهُ مَظِنَّةُ التَّعَمُّقِ
…
فِي الشَّرْعِ وَهْوَ عِنْدَهُ مِمَّا اتُّقِى
والبحث في أحوال هذا الموضوع، وأدلته، "من ذاك" الذي يساق أوجها هنا للدلالة على صحة ما ذكر "أن الأصل" المعتمد عليه "فيها" أي في ثبوتها وهو الظن "قطعي" من حيث العمل به فقد قام الدليل القطعي على أن الدلائل الظنية تجري في فروع الشريعة مجرى الدلائل القطعية. والرخصة متى ظن وجود سببها عمل على ذلك، فأثبت عملا بما تقدم من أن الظن ينزل في الفروع منزلة العلم، "و" بذلك فـ "حكمها" أي الرخصة "لذلك" الذي تقدم تقريره في شأن الظن في الفروع "حكم شرعي" ثابت "و" يزاد على ذلك أنه "قد أتى" أي جاء "فيها من الشرع الطلب" أي في الأخذ بها في الطلب الشرعي الذي اقتضته الأدلة الدالة على رفع الحرج عن هذه الأمة التي بلغت مبلغ القطع، وغيرها من الأدلة الأخرى "والبعض منها" أي من الرخص "عند قوم" من أهل العلم "قد وجب"، وذلك كالفطر في السفر فإنه واجب عند بعض أهل العلم. "و" هذا "والأصل أن يعم" هذا الطلب، ويمضي حكمه في "الترخص" متى قام موجبه، "فـ" تخصيص ذلك با "لبعض" من الرخص دون بعض هو "تخصيص بلا مخصص" وتحكم من غير دليل. ثم إن الرخصة "وإن تكن جزئية المفهوم" يعني أن الرخصة وإن كان مفهومها جزئيا بالنسبة للعزيمة التي مفهومها كلي "فـ" إن ذلك لا يقتضي تقديم العزيمة عليها بل "هي" أي الرخصة هي التي تقدم فيكون ذلك "من" باب "التخصيص للعموم" بما يخصصه، أو من باب التقييد للإطلاق بما يقيده "و" يزاد على هذا أن "فاعل الرخصة في المواقع" التي وردت فيها شرعا، "موافق القصد" من ذلك، "لقصد الشارع" من مشروعية الرخصة الرفق بالمكلف عن تحمل المشاق، فالأخذ بها مطلقا موافق لقصده. "و" أما "غيره" وهو فاعل العزيمة، فإن فعله ذلك هو "مظنة التعمق" والتكلف "في" الأخذ بأحكام "الشرع وهو" أمر غير مقبول "عنده" أي في حكمه - أي الشرع - بل هو "مما اتقي" واجتنب ونهي عنه.
731 -
إِلَى نُصُوصٍ تَقَتَضِي رَفْعَ الْحَرَجْ
…
وَالأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِنَّ انْدَرَجْ
732 -
وَيَنْبَنِي عَلَى الذِي قَدْ مَرَّا
…
أَنْ لَيْسَ تَرْكُ رُخْصَةٍ بِأَحْرَى
733 -
بِحَيْثمَا يُلْفَى تَعَيُّنُ السَّبَبْ
…
فِيهَا بِقَطْعٍ أَوْ بِظَنٍّ قَدْ غَلَبْ
734 -
وَقَدْ يَكون فِعْلُهَا أَوْلَى وَقَدْ
…
يَسْتَوِيَانِ فِي مَحَلٍّ يُعْتَمَدْ
735 -
وَإِنْ يَكنْ لَا يَغْلِبُ الظَّنُّ فَلَا
…
إِشْكَالَ أَنَّ الْمَنْعَ أَمْرُهُ انْجَلَى
736 -
وَحَاصِل الْبَحْثَيْنِ أَنَّ الْمَسْأَلَةْ
…
مِمَّا تُرَى الأَنْظَارُ فِيهِ مُعْمَلَةْ
وهذه الأدلة كلها تضاف "إلى نصوص" شرعية "تقتضي رفع الحرج" عن هذه الأمة، وهي أدلة بلغت مبلغ القطع في اقتضاء هذا الحكم - رفع الحرج - وإفادته "والأخذ بالرخصة فيهن" أي في مدلول هذه النصوص "اندرج" لأنه مما رفع فيه الحرج.
فصل في ذكر ما ينبني على هذا الذي ذكر من الأدلة الدالة على رجحان الأخذ بالرخصة.
قال الناظم: "وينبني على" هذا "الذي قد مر" إيراده من الأدلة المذكورة "أن ليس ترك رخصة" والعمل بالعزيمة التي تقابلها "بأحرى" وأولى من ترك العزيمة والأخذ بالرخصة المقابلة لها. "فحيثما" أي في موضع "يلفى" أي يوجد "تعين السبب" يعني ثبوت سبب الرخصة بعينه "فيها" سواء حصل ذلك الثبوت "بقطع" وجزم بحيث لا يتطرق إليه شك "أو "كان حصوله "بظن قد غلب" لأن الظن الغالب حجة في الفروع "وقد يكون فعلها" أي الرخصة "أولى" من الأخذ بالعزيمة، "وقد يستويان في محل يعتمد" أي يقصد شرعا تساويهما فيه، فإذا تساويا أخذ المكلف بأيهما شاء.
"و" أما "إن يكن لا يغلب الظن" في موضع ما على وجود موجب الرخصة فيه، "فـ" إنه "لا إشكال" في "أن المنع" من الأخذ بالرخصة "أمره" قد ثبت و "انجلا" أي ظهر، وانكشف. فصل في أن خلاصة ما تقدم كله هي أن الأدلة القائمة على ترجيح الأخذ بأحد الحكمين: العزيمة والرخصة فيها تعارض قوى وأن الذي يصار إليه في ترجيح أحدهما هو الاجتهاد، والنظر. قال الناظم:"وحاصل البحثين" المذكورين في شأن هذا الترجيح "أن" هذه "المسألة مما" أي من المسائل التي يجري فيها الترجيح بالاجتهاد، والتي "ترى الأنظار" وحركات الأذهان "فيه معملة" مطلقة للبحث فيه مسلطة عليه.
"
المسألة الثامنة
"
737 -
وَكُلُّ مَا يَشُقُّ وَالشَّارعُ قَدْ
…
بَيَّنَ وَجْهَ الرِّفْقِ فِيهِ وَقَصَدْ
738 -
فَالْمُتَوَخِّي قَصْدَهُ مُمْتَثِلُ
…
وَآخِذٌ بِالْحَزْمِ فِيمَا يَفْعَلُ
739 -
وَغَيْرُهُ خَالَفَ قَصْدَ الشَّارعِ
…
وَسَدَّ بَابَ يُسْرِهِ لِلْقَارعِ
" المسألة الثامنة"
"المسألة الثامنة" في أن كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء، كما جاء في الرخص شرعية المخرج من المشاق. فإذا قصد المكلف الخروج من ذلك على الوجه الشرعي، كان ممتثلا لأمر الشارع؛ آخذا بالجزم في أمره. وإن لم يفعل ذلك وقع بين محظورين: أحدهما: مخالفته لقصد الشارع، كانت تلك المخالفة في واجب أو مندوب أو مباح. والثاني: سد أبواب التيسير عليه، وفقد المخرج عن ذلك الأمر الشاق، الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له قال الناظم:"وكل ما" من التكاليف "يشق" على النفس احتمال "والشارع" الحكيم "قد بين وجه" وطريق "الرفق" بالعباد "فيه" وجعل ذلك مخرجا للمكلف في ذلك الأمر فإنه إنما أراد بذلك "وقصد" أن يتحرى المكلف ذلك المخرج إن شاء، ولذلك "فالمتوخى" أي المتحرى بإتيان ذلك المخرج "قصده" أي موافقة قصده - أي الشارع - في ذلك فهو "ممتثل" لأمر الشارع في ذلك "وآخذ بالحزم" أي ضبط الأمور "فيما يفعل" لأنه أتى هذا الأمر على وجهه الصحيح الذي يحصل به المراد منه. فالتخفيف عن المكلف لا يطلب إلا من وجهه الشرعي، فمن طلبه منه أدركه، كما جاء في الرخص شرعية المخرج من المشاق، فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له كان ممتثلا لأمر الشارع آخذ بالحزم في أمره، وحصل له مراده "و" أما "غيره" ممن طلب التخفيف من غير وجهه المشروع، كالذي طلق امرأته ثلاثا يريد بذلك التخفيف عن نفسه، فإنه قد "خالف قصد الشارع" فيما أتى، لأن الأمور الشاقة جعل الله فيها للمكلف مخارج معينة، مرفع تلك المشاق إنما تكون بها، فمن وقع في مشقة فعليه أن يطلب تخفيفا بما جعل من مخرج شرعي، وليقصد بذلك حصول ما وضع له ذلك المخرج شرعا من التخفيف، فمن فعل ذلك فقد وافق قصد الشارع - كما تقدم - ومن خالف فطلب التخفيف بما لم يوضع له شرعا، أو طلبه بما وضع له شرعا - كأكل الميتة للمضطر - إن لم يقصد ما قصده الشارع من وضع هذا المخرج، وهو حفظ النفس - فهو - كما سبق ذكره - قد خالف قصد الشارع في ذلك "وسد باب يسره" أي الشارع "للقارع" الطالب لذلك اليسر
"
المسألة التاسعة
"
740 -
وَسَبَبُ الرُّخْصَةِ عُدَّ مَاِنعَا
…
أَنْ كَانَ حُكْمَ الانْحِتَامِ رَافِعًا
741 -
فَقَاصِدٌ إِيقَاعَهُ كَيْ يَرْتَفِعْ
…
عَنْهُ بِذَاكَ الْقَصْدِ حُكْمُ مَا شُرعْ
742 -
غَيْرُ صَحِيحٍ فِعْلُهُ فِي ذَلِكْ
…
وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُهُ هُنَالِكْ
كما في ذاك الذي طلق امرأته ثلاثا، فوقع في الكرب، فالشارع قد جعل له مخرجا، وهو أن يطلق واحدة، ثم اثنتين إن احتاج إلى ذلك، فإن لم يكن من الانفصال بينه وبين زوجه بد، أبانها بالثالثة، إلا إن طلب التخفيف من غير وجهه وقع في الكرب. فقد روى عن ابن عباس أنه سئل عن رجل طلق امرأته، ثلاثا فتلا:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} حتى بلغ {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 1، 2] وأنت لم تتق الله، لم أجد لك مخرجا.
وخرج مالك في البلاغات في هذا المعنى أن رجلا أتى إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات.
فقال ابن مسعود: فماذا قيل لك؟ قال قيل لي إنها قد بانت مني فقال بن مسعود صدقوا، من طلق كما أمره الله فقد بين الله له، ومن لبس على نفسه لبسا جعلنا لبسه به. لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمل عنكم. هو كما تقولون.
"المسألة التاسعة"
في أن أسباب الرخص ليست مقصودة بالفعل ولا الترك للشارع، لأنها من الموانع. قال الناظم:"وسبب الرخصة عد مانعا أن" - بفتح الهمزة وسكون النون - تعليلية "كان" أي بسبب كونه مسقطا لـ "حكم الانحتام" الذي هو العزيمة "رافعا" له.
وإذا علم أنه مانع، فإن الشارع غير قاصد لإيقاعه ولا لرفعه، وما هو غير مقصود لشارع فإنه لا يحق للمكلف القصد إليه ولو قصده كان عمله بذلك غير صحيح.
"فقاصد إيقاعه" أي السبب المذكور "كي يرتفع عنه بذاك القصد حكم ما شرع" الشرع فهو "غير صحيح فعله في ذلك" الذي أتاه، ويجري فيه التفصيل المذكور في الشرط "وقد مضى تقريره" وبيانه "هنالك" في المسألة السابعة فما تقرر هنالك يتقرر هنا.
"
المسألة العاشرة
"
743 -
لِلْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ الْمَصِيرُ
…
إِنْ قِيلَ حُكْمُ الرُّخْصَةِ التَّخْيِيرُ
744 -
وَإِنْ يَكُ الْمَعْنَى عَلَى رَفْعِ الْحَرَجْ
…
فَحُكْمُهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَاكَ خَرَجْ
"
المسألة الحادية عشرة
"
745 -
ثُمَّ إِذَا تُعْتَبَرُ الْعَزَائِمُ
…
تُلْفَى وَالاطِّرَادُ فِيهَا لَازِمُ
" المسألة العاشرة"
"المسألة العاشرة" في بيان أن جعل الإباحة في الرخص للتخيير يؤدي إلى أن تكون العزيمة والرخصة على وزان خصال كفارة اليمين. وبذلك تحصل التسوية بين العزيمة والرخصة، فتسقط العزيمة عن كونها عزيمة. بخلاف ما إذا جعلت الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج فإن ذلك لا يرد.
قال الناظم: "للواجب المخير" كما في خصال كفارة اليمين "المصير" وذلك "إن قيل حكم الرخصة" هو التخيير بين الفعل والترك "و" أما "إن يكن المعنى" الذي تدل عليه مقصورا "على رفع الحرج" فقط "فحكمها عن مقتضى ذلك" وهو المصير إلى الواجب المخير في شأنها قد "خرج" لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير، ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب وإذا كان كذلك تبين أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع، فإذا فعل العزيمة لا فرق فيه بين من له عذر، ومن لا عذر له، لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الانتقال إلى الرخصة وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدا لوقوع الرخصة، فذلك بالقصد الثاني. والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة.
"المسألة الحادية عشرة"
"المسألة الحادية عشرة": في أن الرخص إذا اعتبرت مع العزائم، فإن العزائم تلفي مطردة مع العادات الجارية، والرخص تلفي جارية عند انحراف العوائد.
قال الناظم:
"ثم إذا تعتبر العزائم" مع الرخص فإن العزائم "تلفى والاطراد" وصف "فيها لازم"
746 -
مْع جَرْيِهَا فِي مُقْتَضَى الْعَادَاتِ
…
فِي سَائِرِ الأحْوَالِ وَالأَوْقَاتِ
747 -
وَعَكْسُهَا الرُّخْصَةُ حَيْثُ تَجْرِي
…
عِنْدَ انْخِرَاقِ عَادَةٍ لِعُذْرِ
748 -
وَدَاخِلٌ فِيهَا انْخِرَاقُ الْعَادَةْ
…
لِأَوْلِيَاءِ اللهِ بِالْعِبَادَةْ
وجوده، "مع جريها في" أي على "مقتضى العادات في سائر الأحوال" فهي تطرد دائما مع العادات الجارية في الأحوال - كالصحة والقدرة والملك - كما تطرد مع العادات الجارية في الأزمان فلذا تعم جميع الأزمان "والأوقات وعكسها" أي العزيمة وهو "الرخصة حيث" إنها "تجري عند انخراق عادة" أي عند عدم جريانها "لعذر" كمرض وسفر "وداخل فيها" أي الرخصة "انخراق العادة لأولياء الله" تعالى "بالعبادة" فإنه يجري عليه حكم الرخصة، بلا فرق، فلا يحق للولي ترك جميع جهات التسبب في الكسب بسبب انخراق العادة له. وطلبه الرزق بالأسباب العادية أفضل له من طلبه بخرق العادة. وغير ذلك مما يؤخذ من أحكام الرخصة الماضي ذكرها
(1)
.
(1)
انظر الأصل 1/ 264/ 265/ 266/ 267/ 268.