المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌كتاب المقاصد 749 - وَهْيَ عَلَى قِسْمَيْنِ فِي - شرح «نيل المنى» في نظم «الموافقات للشاطبي» - جـ ٢

[مولود السريري]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌كتاب المقاصد

749 -

وَهْيَ عَلَى قِسْمَيْنِ فِي التَّعَرُّفِ

مِنْ جِهَةِ الشَّارعِ وَالْمُكَلَّفِ

750 -

وَلْنَضَعِ الْآنَ لَهَا مُقَدِّمَةْ

مِنَ الْكَلَامِ تُقْتَفَى مُسَلَّمَةْ

751 -

قَدْ صَحَّ وَضْعُ الشَّرْعِ لِلْمَصَالِحِ

دِينًا وَدُنْيَا بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ

752 -

مِمَّا أَتَى فِي مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ

بِحَسَبِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ

753 -

وَذَاكَ مِنْهُ عَلَى الْعِبَادِ

مَقْرُونَة بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ

754 -

وَهْوَ مِنِ اِسْتِقْرَار فِي الشَّرْعِ

بِحَيْثُ أَنْ يَبْلُغَ حُكْمَ الْقَطْعِ

‌الْقِسْمُ الأَوَّلُ في الْمَقَاصِدِ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ

755 -

وَقَصْدُهُ فِي الْوَضْعِ لِلْمَشْرُوعِ

مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ التَّنْوِيعِ

756 -

لِلْبَدْءِ وَالْإِفْهَامِ وَالتَّكْلِيفِ

وَللدُّخُولِ بَعْدُ فِي التَّكْلِيفِ

‌النَّوْعُ الْأَوَّلُ في بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ في وَضْعِ الشَّرِيعَةِ ابْتِدَاءً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ الْأُوْلَى

"

757 -

وَمَرْجِعُ التَّكَالِفِ الشَّرْعِيَّةْ

لِلْحِفْظُ لِلْمَقَاصِدِ الْكُلِّيَّةْ

758 -

وَانْقَسَمَتْ إلَى الضَّرُورِيَّاتِ

وَمَا لِتَحْسِينٍ وَحَاجِيَّاتِ

759 -

وَهْيَ تَعَبُّدَاتٌ أَوْ عَادَاتُ

وَمَعْ جِنَايَاتٌ مُعَامَلَاتُ

760 -

فَكُلُّ مَا قَامَتْ عَلَى التَّعْيِينِ

مَصَالِحُ الدُّنْيَا بِهِ وَالدِّينِ

761 -

فَهْوَ لِلضَّرُورِيَّاتِ وَالْخَمْسِ الْأَوَلْ

وَأَمْرُهُنَّ اتَّفَقَتْ فِيهِ الْمِلَلْ

762 -

لِأَجْلِ حِفْظِ الدِّينِ ثُمَّ الْعَقْلِ

وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَحِفْظِ النَّسْلِ

ص: 3

763 -

وَحِفْظُهَا مِنْ جِهَتَيْنِ يُلْتَزَمْ

مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ أَوْ مِنَ الْعَدَمْ

764 -

إِمَّا بِمَا يُوذِنُ بِالصَّلَاحِ

كَالْأَكْلِ وَالصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ

765 -

أَوْ مُقْتَضٍ لِلدَّرْءِ لِلْفَسَادِ

كَالْحَدِّ وَالدِّيَّاتِ وَالْجهَادِ

766 -

وَبَعْدَهُ الْحَاجِيُّ وَهْوَ الْمُفْتَقَرْ

إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ مَصَالِحُ الْبَشَرْ

767 -

تَوَسُّعًا فِيمَا إِلَيْهِ أَحْوَجُوأ

مَعْ رَفْعِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ حَرَجُ

768 -

ثُمَّ الْمُحَسِّنَاتُ بِالإِطْلَاقِ

مَا كَانَ مِنْ مَكَارِمِ الأخْلَاقِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة

"

769 -

وَانْضَمَّ لِلثَّلَاثَةِ الْمَقَاصِدِ

مَا هُوَ تَتْمِيمٌ لِكُلِّ وَاحِدِ

770 -

كَأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَمَنْعِ النَّظَرِ

لِلأَجْنَبِيِّ وَقَلِيلِ الْمُسْكِرِ

771 -

وَكَاعْتِبَارِ الْكُفْءِ فِي ذَاتِ الصِّغَرْ

وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْقُرْبَتَيْنِ فِي السَّفَرْ

772 -

وَأَدَبِ الْأَحْدَاثِ وَالتَّحْسِينِي

تَتِمَّةٌ لِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ

773 -

كَمِثْلِ مَا الْحَاجِي فِي أُمُورِ

مُكَمِّلٌ لِحِكْمَةِ الضَّرُورِي

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ

"

774 -

وَالشَّرْطُ فِي تَتِمَّةٍ أَنْ لَا تُرَا

مُبْطِلَةً أَصْلًا لَهَا تَقَرَّرَا

775 -

فَإِنَّ الإِبْطَالَ لِأَصْلِ التَّكْمِلَةْ

يُبْطِلُهَا فَلَا تُرَى مُكَمِّلَهْ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ

"

776 -

ثُمَّ الضَّرُورِيُّ مِنَ الْمَقَاصِدِ

أَصْلٌ لِغَيْرِهِ مِنَ الْقَوَاعِدِ

777 -

لَوْ فُرِضَ اخْتِلَالُهُ لَاخْتَلَّا

سِوَاهُ مُطْلَقًا وَمَا اسْتَقَلَّا

778 -

لَا الْعَكْسُ بَلْ يَخْتَلُّ مِنْ وَجْهٍ ما

إِنِ اخْتِلَالٌ لِسِوَاهُ عَمَّا

779 -

كَمِثْلِ مَا قَدْ يَلْحَقُ الْحَاجِيَّا

مَا حَلَّ بِالْإِطْلَاقِ تَحْسِينِيَّا

780 -

فَيَنْبَغِي لِذَاكَ أَنْ يُحَافَظَا

عَلَيْهِمَا مَعًا وَأَنْ يُلَاحَظَا

ص: 4

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ

"

781 -

مَصَالِحُ الدُّنْيَا يُرَى استِقْرَارُهَا

مِنْ جهَتَيْنِ بِهِمَا اعْتِبَارُهَا

782 -

مِنْ جِهَةِ الْوُقُوعِ فِي الْوُجُودِ

فَالْمَحْضُ مِنْهَا لَيْسَ بِالْمَوْجُودِ

783 -

إِذْ لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَةٍ تَحَقُّقُ

إِلَّا وَللْعَكْسِ بِهَا تَعَلُّقُ

784 -

وَمِثْلُهَا فِي ذَلِكَ الْمَفَاسِدُ

قَدْ شَهِدَتْ بِذَلِكَ الْعَوَائِدُ

785 -

وَأَصْلُهُ مِنْ وَضْعِ هَاذِي الدَّارِ

لِلابْتِلَاءِ وَللاخْتِبَارِ

786 -

وَمُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنَّ مَا غَلَبْ

إِلَيْهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَمْرِ انْتَسَبْ

787 -

أَوْ جِهَةِ التَّعَلُّقِ الشَّرْعِيِّ

وَذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعَادِيِّ

788 -

فَمَا يُرَى فِي الاعْتِيَادِ يَغْلِبُ

فَذَاكَ مَا أُلْفِيَ شَرْعًا يُطْلَبُ

789 -

نَهْيًا وَأَمْرًا دَافِعًا لِلْمَفْسَدَةْ

أَوْ جَالِبًا مَصْلَحَةً مُعْتَمَدَةْ

790 -

وَعِنْدَ ذَاكَ تَخْلُصُ الْمَصَالِحُ

وَعَكْسُهَا وَذَاكَ أَمْرٌ وَاضِحُ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

791 -

وَخَارجٌ عَنْ حُكْمِ الاعْتِيَادِ

كَكُلِّ مَا يَصْلُحُ بِالْإِفْسَادِ

792 -

إِنْ ظَهَرَ التَّرْجِيحُ فَالْحُكْمُ اقْتُفِي

أَوْ لَا فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ

793 -

وَالْجَانِبُ الْمَرْجُوحُ غَيْرُ مُعْتَبَرْ

لِلشَّرْعِ قَصْدًا مَعَ رَاجِحٍ ظَهَرْ

794 -

وَذَا عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ

أَوْ لَا فَتَكْلِيفٌ سِوَى الْمُطَاقِ

795 -

وَلَا يُقَالُ إِنَّ فِيهِ مَقْصِدَا

لِلشَّرْعِ ثَانِيًا عَلَيْهِ اعْتَمَدَا

796 -

إِذْ لَا يَرَى ثُبُوتَ قَصْدٍ ثَانِ

لَهُ بِحَيْثُ الْمُتَنَاقِضَانِ

797 -

وَقَدْ يَرَى الْمَرْجُوحَ مِمَّا يُعْتَبَرْ

مِنْ حَيْثُ الاجْتِهَادُ فِيهِ وَالنَّظَرْ

798 -

إِذْ لَيْسَ فِي الرَّاجِحِ قَطْعٌ يُحْتَذَى

بِأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هَكَذَا

799 -

وَمِنْ هُنَا يَنْشَأُ فِي مَوَاقِعِ

أَصْلُ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ

ص: 5

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ

"

800 -

كَذَلِكَ فِي الْأُخْرَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ

لَاكِنْ هُمَا فِيهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ

801 -

فَخَالِصٌ لَيْسَ لَهُ امْتِزَاجُ

وَلَا لَهُ فِي عَكْسِهِ انْدِرَاجُ

802 -

كَمِثْلِ مَا فِي جَنَّةِ الْخُلُودِ

مِنَ النَّعِيمِ لِذَوِي التَّوْحِيدِ

803 -

وَكَعَذَابٍ خَالِدٍ فِي النَّارِ

مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ

804 -

حَسَبَمَا جَاءَتْ بِهِ أَدِلَّةْ

فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ مُسْتَقِلَّةْ

805 -

وَمَا اقْتَضَى تَفَاوُتًا لَا يَلْزَمُ

أَنْ يُوجَدَ الضِّدُ لَهُ يَسْتَلْزِمُ

806 -

فَبَابُ ذِكْرِ فَاضِلٍ وَأَفْضَلِ

فِي كَوْنِهِ لَا يَقْتَضِي نَقْصًا جَلِى

807 -

وَوَاضِحُ النَّصِّ عَلَى ذَاكَ يَدُلّ

كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الرُّسُلْ

808 -

وَضَرْبُهَا الْآخِرُ مَا يَمْتَزِجُ

وَعَكْسُهُ فِي طَيِّهِ يَنْدَرجُ

809 -

وَذَاكَ يَخْتَصُّ بِمَنْ قَدْ وَحَّدَا

مَا دَامَ فِي النَّارِ وَلَيْسَ أَبَدا

810 -

بَلْ عِنْدَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا يَدْخُلُ

مِنْ فَوْرِهِ فِيمَا اقْتَضَاهُ الْأَوَّلُ

811 -

أَلَا تَرَى تَحَاشِيَ النِّيرَانِ

مَوَاضِعَ السُّجُودِ وَالْإِيمَانِ

812 -

وَأَخْذَهَا لَهُمْ عَلَى وِزَانِ

مَا ارْتَكبُوا قَبْلُ مِنَ الْعِصْيَانِ

813 -

وَفِي الرَّجَاءِ رَاحَةٌ مُسْتَوْضحَةْ

وَذَاكَ كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةْ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَة

"

814 -

وَمُذْ تَبَدَّى أَنَّ قَصْدَ الشَّارعْ

فِي رَعْيِ مَا يَعُودُ بِالْمَنَافِعْ

815 -

فَهْوَ عَلَى وَجْهٍ لَهُ الْتِئَامُ

وَلَيْسَ يَخْتَلُّ بِهِ نِظَامُ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَة

"

816 -

تُعْتَبَرُ الْمَصَالِحُ الْمُجْتَلَبَةْ

شَرْعًا أَوِ الْمَفَاسِدُ الْمُجْتَنَبَةْ

817 -

مِنْ حَيْثُ أَنْ تُقَامَ حَالُ الدُّنْيَا

لِلدَّارِ الأخْرَى عَمَلًا وَسَعْيَا

ص: 6

818 -

لَا جِهَةُ الْأَهْوَاءِ لِلنُّفُوسِ

فِي جَلْبِ نَعْمَاءَ وَدَفْعِ بُؤسِ

819 -

وَمِنْ هُنَا يُفْهَمُ مَعْنَى مَا أَتَى

لِمُقْتَضَى التَّمَتُّعَاتِ مُثْبَتَا

820 -

وَيَنْجَلِي مَا كَانَ فِي ذَا الْبَابِ

إِشْكَالُهُ مُنْسَدِلُ الْحِجَابِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَة

"

821 -

وَالشَّرْعُ كَوْنُهُ عَلَى الْمَقَاصِدِ

مُحَافِظًا بِالْقَصْدِ فِي الْمَوَارِدِ

822 -

لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ قَطْعِي

فَإِنْ يَكُنْ عَقْلًا فَغَيْرُ شرْعِي

823 -

وَإِنْ يَكُنْ مُنْتَمِيًا لِلسَّمْعِ

فَلَيْسَ بِالْمُفِيدِ حُكْمَ الْقَطْعِ

824 -

إِذْ قَدْ مَضَى فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ

وُقُوفُهَا عَلَى مُقَدِّمَاتِ

825 -

ظَنِّيَةٍ فِي نَقْلِهَا وَأَصْلِهَا

فَمَا عَلَيْهَا وَقْفَةٌ كَمِثْلِهَا

826 -

وَإِنَّمَا دَلِيلُ مَا تَقَرَّرَا

مَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْلِ ذَا مُقَرَّرَا

827 -

وَهْوَ اقْتِنَاصُ الْحُكْمِ مِنْ أَدِلَّة

فِي جُمْلَةِ التَّشْرِيعِ مُسْتَقِلَّةْ

828 -

يَصِيرُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ عَاضِدَا

حَتَّى يُرَى الْمَجْمُوعُ شَيْئًا وَاحِدَا

829 -

فَيَرْجِعُ الْحُكْمُ لِعِلْمٍ جَازِمْ

كَمِثْلِ مَا يُثْبِتُ جُودَ حَاتِمْ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَة

"

830 -

شَرْعِيَّةُ الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةْ

لِتُحْفَظَ الْمَصَالِحُ الْكُلِّيَّةْ

831 -

وَمَا لِكُلِّيَاتِهَا بِرَافِعِ

تَخَلُّفُ الْجُزْئِيِّ عِنْدَ وَاقِعِ

832 -

وَذَاكَ كَالْعِقَابِ لِلرَّدْع شُرعْ

وَقَدْ يُرَى مُعَاقَبٌ لَا يَرْتَدِعْ

833 -

وَالْقَصْرُ فِي الْحَاجِيِّ لِلْمَشَقَّةْ

وَمُتْرَفٌ فِي السَّفَرِ اسْتَحَقَّهْ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشَرَة

"

834 -

ثُمَّ الْمَصَالِحُ لِقَصْدِ الشَّارعْ

مُطْلَقَةٌ تَعُمُّ فِي الْمَوَاقِعْ

835 -

دَلِيلُهُ مَا مَرَّ حَالَ التَّسْوِيةْ

لِلْقَوْلِ بِالتَّصْوِيبِ مَعْ ذِي التَّخْطِئَةْ

ص: 7

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَة

"

836 -

وَبَعْدُ فَالدِّينُ بِهِ مَعْلُومُ

أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مَعْصُومُ

837 -

فَهْوَ كَذَاكَ دَاخِلٌ فِي الْعِصْمَةْ

وَمَا عَلَيْهِ اجْتَمَعَتْ ذِي الْأُمَّةْ

838 -

بَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَسْمُوعِ

أَوْ بِاعْتِبَارِ حَالَةِ الْوُقُوعِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشَرَة

"

839 -

ثُمَّ إِذَا تُحْفَظ كلِّيَّاتُهْ

وَاجِبٌ أَنْ تُحْفَظَ جُزْئِيَّاتُهْ

840 -

فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِلشَّارعْ

مَعْ كَوْنِهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْوَاقِعْ

‌النَّوْعُ الثَّانِي فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ في وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلْإِفْهَامِ وَفِيهِ مَسَائِلُ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى

"

841 -

هَذِي الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّهْ

مَنْسُوبَةٌ لِلْأُمَّةِ الْأُمِّيَّهْ

842 -

فَفَهْمُهَا يَحْصُلُ مِنْ لِسَانِهَا

عَلَى الَّذِي يُعْهَدُ مِنْ بَيَانِهَا

843 -

وَأَلْسُنُ الْعُجْمَةِ لَيْسَ تَدْخُلُ

فِيهَا وَلَا فَهْمًا لَهَا تُحَصِّلُ

844 -

وَأَصْلُهَا الْقُرْآنُ وَهْوَ عَرَبِي

جَارٍ عَلَى نَهْجِ لِسَانِ الْعَرَبِ

845 -

فِي الْقَصْدِ لِلْإِفْهَامِ وَالْبَيَانِ

وَفِي الْأَسَالِيبِ وَفِي الْمَعَانِي

846 -

وَمُقْتَضَى الْعُمُومِ فِي تَصَرُّفِهْ

وَصِحَّةُ الظَّاهِرِ أَوْ تَخَلُّفِهْ

847 -

يُعْرَفُ ذَا مِنْ وَسَطِ الْكَلَامِ

أَوْ طَرَفَيْهِ حَالَةَ الْإِفْهَامِ

848 -

وَفِي الْمَسَاقِ مُنْبِئًا عَنْ آخِرِهْ

أَوَّلُهُ وَعَكْسُهُ كظَاهِرِهْ

849 -

وَالشَّيْءُ وَاحِدٌ لَهُ أَسْمَاءُ

وَالاسْمُ تَمْتَازُ بِهِ أَشْيَاءُ

850 -

وَحَاصِلٌ أَنَّ اللِّسَانَ الْعَرَبِي

فِي الْفَهْمِ لِلْمَشْرُوعِ أَصْلٌ اجْتُبِي

851 -

وَحِينَ لَا يَفْهَمُ مُقْتَضَاهُ

سِوَاهُ لَا يَفْهَمُهُ سِوَاهُ

ص: 8

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة

"

852 -

دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعَانِي

فِي لُغَةِ الْعُرْبِ لَهَا لَحْظَانِ

853 -

مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ الْأَصْلِيَّة

مُفْهِمَةُ الْمَقَاصِدِ الْكُلِّيَّة

854 -

وَهْيَ الَّتِي فِيهَا اشْتِرَاكِ الْأَلْسِنَهْ

لِكَوْنِهَا عَنِ النُّهَى مُبَيِّنَهْ

855 -

ألَا تَرَى لَوْ أَنَّ قَصْرًا ابْتُنِي

أَمْكَنَ وَصْفُهُ لِكُلِّ الْأَلْسُنِ

856 -

وَمِنْ هُنَا أَمْكَنَ نَقْلُ الْخَبَرِ

عَنْ أُمَّةٍ لِأُمَّةٍ فِي الْأَعْصُرِ

857 -

أَوْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ الْفَرْعِيَّة

أَيِ الَّتِي تَكُونُ تَابِعِيَّة

858 -

وَهْيَ الَّتِي اخْتَصَّ لِسَانُ الْعَرَبِ

بِهَا وَتَقْتَضِي بِفَهْمٍ عَرَبِي

859 -

مِنْ حَيْثُ حَالُ مُخْبِرٍ وَمُخْبَرِ

وَمُخْبَرٍ عَنْهُ وَنَفْسِ الْخَبَرِ

860 -

وَجِهَةِ الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ

بِقَصْدِ تَمْهِيدٍ أَوِ اقْتِضَابِ

861 -

وَمُقْتَضَى التَّعْرِيضِ وَالتَّلْوِيحِ

أَوِ الْكِنَايَاتِ أَوِ التَّصْرِيحِ

862 -

وَانْظُرْ إِلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْقِصَصْ

فَمِنْ هُنَا الْحِكْمَةُ فِيهَا تُقْتَنَصْ

863 -

وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ لَا يُمْكِنُ

أَنْ تُبْدِيَ الْمَقْصُودَ فِيهِ الْأَلْسُنُ

864 -

فَضْلًا عَنْ أَنْ يُتَرْجَمَ الْقُرْآنُ

إِذْ لَا يَفِي بِقَصْدِهِ لِسَانُ

865 -

أَمَّا عَلَى الْأُولَى فَذَاكَ مُمْكِنُ

لِمَا مَضَى وَالْأَمْرُ فِيهِ بَيِّنُ

866 -

وَمِنْهَا الاتِّفَاقُ فِي تَفْسِيرِ

مَعْنَى كِتَابِ اللهِ لِلْجُمْهُورِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَة

"

867 -

وَهَذِهِ شَرِيعَة أُمِّيَّهْ

كَمِثْلِ أَهْلِهَا مِنَ الْبَرِيَّهْ

868 -

وَهْوَ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْمَصْلَحَة

أُجْرِي وَهَذَا كَمْ دَلِيلٍ أَوْضَحَه

869 -

فَهْيَ عَلَى مَعْهُودِهِمْ فِي شَأْنِهَا

لِذَلِكَ اهْتَدَوْا إِلَى بُرْهَانِهَا

870 -

وَكَانَ لِلْعُرْبِ عُلُومٌ وَهِمَمْ

مُقْتَضِيَاتٌ لِمَحَاسِنِ الشِّيَمْ

ص: 9

871 -

فَصَحَّحَ الشَّرْعُ لِمَا مِنْهَا شَرَعْ

وَرَدَّ غَيْرَهُ بِأَنْ مِنْهُ مَنَعْ

872 -

أَمَّا الَّذِي يُعْزَى مِنَ الْعُلُومِ

إِلَيْهِمُ فَالْعِلْمُ بِالنُّجُومِ

873 -

بِقَصْدِ الاهْتِدَاءِ لِلْجِهَاتِ

وَالْعِلْمُ بِالْفُصُولِ وَالْأَوْقَاتِ

874 -

فَقَرَّرَ الْقُرْآنُ هَذَا الْمَعْنَى

فِيمَا بِهِ عَلَى الْعِبَادِ امْتَنَّا

875 -

وَالْعِلْمُ بِالْأَنْوَاء وَالْأَمْطَارِ

وَبِالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْجَارِ

876 -

فَبَيَّنَ الشَّرْعُ لَنَا مَا حَقَّقَا

وَأَبْطَلَ الْبَاطِلَ مِنْهُ مُطْلَقَا

877 -

وَالْعِلْمُ بِالتَّارِيخِ وَالْأَخْبَارِ

وَذَاكَ فِي الْقُرْآنِ أَمْرٌ جَارِ

878 -

فَكَمْ بِهِ مِنْ قِصَّةٍ وَمِنْ خَبَرْ

بِالْغَيْبِ فِيهِ لِلنُّفُوسِ مُعْتَبَرْ

879 -

وَالْعِلْمُ بِالزَّجْرِ وَبِالْعِيَافَةِ

وَالضَّرْبِ بِالْحَصَى مَعَ الْكَهَانَةِ

880 -

فَأَبْطَلَ الشَّارعُ ذَاكَ كُلَّهُ

وَرَدَّ مِنْهُ فَرْعَهُ وَأْصْلَهُ

881 -

فَهْوَ تَخَرُّصٌ عَلَى الْغَيْبِ بِلَا

أَصْلٍ وَمِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُجْتَلَى

882 -

وَإِنَّمَا أَقَرَّ حُكْمَ الْفَالِ

مِنْ حَيْثُ لَا يَسْمُو لَهُ بِحَالِ

883 -

وَجَاءَ فِي تَعَرُّفِ الْغُيُوبِ

بِمَا أَتَى بِغَايَةِ الْمَطْلُوبِ

884 -

وَذَلِكَ الْإِلْهَامُ وَالْوَحْيُ الَّذِي

خُصَّ بِهِ الرَّسُولُ فِي ذَا الْمَأْخَذِ

885 -

وَتَرَكَ الرُّؤْيَا لِكُلِّ الْأُمَّةِ

وَأنَّهَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ

886 -

كَذَلِكَ الْإِلْهَامُ وَالْفِرَاسَةُ

خُصَّا مَعًا بِمَنْ لَهُ وِلَايَةُ

887 -

وَالْعِلْمُ بِالطِّبِّ مِنَ التَّجْرِيبِ

لِبَعْضِ مَا يُوصِلُ لِلْمَطْلُوبِ

888 -

وَجَاءَ فِي الشَّرْعِ كَذَاكَ شَأْنُهُ

لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ شَفَى بَيَانُهُ

889 -

وَالْعِلْمُ بِالْكَلَامِ وَالْمَعَانِي

وَمُقْتَضَى أَسَالِيبِ الْبَيَانِ

890 -

وَمِنْ هُنَا لَمَّا أَتَى الْقُرْآنُ

كَانَ لَهُمْ لِأمْرِهِ إِذْعَانُ

891 -

لِفَهْمِهِمْ مَوَاقِعَ الْإِعْجَازِ

فِي حَالَيِّ الْإِطْنَابِ وَالْإِيجَازِ

892 -

وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ عِنْدَ النَّظَرْ

لَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ قُدْرَةُ الْبَشَرْ

ص: 10

893 -

وَهْوَ عَلَى فُنُونِهِمْ قَدِ اشْتَمَلْ

مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَوْ ضَرْبِ الْمَثَلْ

894 -

غَيْرَ مَنَاحِي الشِّعْرِ وَاتِّزَانِهِ

فَإِنَّهُ منَزَّهٌ عَنْ شَأْنِهِ

895 -

وَمُقْتَضَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ

تَمَّمَهَا الشَّرْعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ

896 -

وَخُوطِبُوا بِهَا فِي الأوَّلِيَّة

فَجُلُّهَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّة

897 -

لَاكِنْ عَلَى وَجْهٍ مِنَ التَّلَطُّفِ

يُشْعِرُ بِالتَّأْنِيسِ وَالتَّعَطُّفِ

898 -

فَلُوبِنُوا فِيمَا بِهِ التَّعْرِيفُ

وَاسْتُدْرِجُوا لِمَا بِهِ التَّكْلِيفُ

899 -

وَرُغِّبُوا فِيمَا بِهِ التَّرْغِيبُ

وَأُشْعِرُوا بِمَا لَهُ تَرْهِيبُ

900 -

مِمَّا يُرَى لَهُمْ مِنَ الْمَعْهُودِ

مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَوْجُودِ

901 -

وَانْظُرْ لِكَيْفِيَّاتِ مَنْعِ الْخَمْرِ

فَإِنَّهَا الْغَايَةُ فِي ذَا الْأَمْرِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَة

"

902 -

وَكَوْنُهَا أُمِّيَّةُ الْمَقَاصِدِ

يُبْنَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي قَوَاعِدِ

903 -

مِنْهَا اطِّرَاحُ قَوْلِ مَنْ قَدْ مَالَ فِي

دَعْوَاهُ فِي الْقُرْآنِ لِلتَّعَسُّفِ

904 -

إِذْ نَسَبُوا إِلَيْهِ كُلَّ عِلْمِ

مُسْتَنْكَرٍ فِي الشَّرْعِ عَافِي الرَّسْمِ

905 -

وَبِعُمُومَاتٍ عَلَى الدَّعْوَى اسْتُدِلْ

وَذَاكَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَنُقِلْ

906 -

كمَا اسْتَدَلَّ بِفَوَاتِحِ السُّوَرْ

مَنِ اقْتَفَى عِلْمَ الْحُرُوفِ وَاعْتَبَرْ

"‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

907 -

وَإِنَّ مَعْهُودَ اللِّسَان الْعَرَبِي

فِي فَهْمِهِ أَصْلٌ قَوِيُّ السَّبَبِ

908 -

وَشَأْنُهُمْ رِعَايَةُ الْمَعَانِي

وَحِفْظُهُمْ لِلَّفْظِ عَنْهَا ثَانِي

909 -

فَكُلُّ مَا أَدَّى لِمَعْنىً قَدْ قُصِدْ

فَهْوَ وَإِنْ تَعَدَّدَ اللَّفْظُ اعْتُمِدْ

" فَصْلٌ"

910 -

وَرَعْيُ مَعْنَى الْمُفْهِمِ الْخِطَابِي

فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي الْخِطَابِ

ص: 11

911 -

وَجُعِلَ اللَّفْظُ لَهُ وَسِيلَة

تُوضِحُ مِنْ بَيَانِهِ سَبِيلَه

"‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

912 -

وَالْعِلْمُ إِنْ كَانَ بِهَا الْإِفْهَامُ

مِمَّا بِهِ تَشْتَرِكُ الْأَفْهَامُ

913 -

وَمَا بِهِ التَّكْلِيفُ لِلْخَلْقِ صَدَرْ

مَأْخَذُهُ سَهْلٌ عَلَى فَهْمِ الْبَشَرْ

914 -

وَإِنْ بَدَا تَفَاوُتٌ فِيهَا اعْتُبِرْ

وَاحْتِيجَ فِيهِ لِبَيَانٍ وَافْتُقِرْ

915 -

فَذَاكَ فِيمَا لَمْ يُحَدَّ أُطْلِقَا

بِحَسَبِ الْمُكَلَّفِينَ مُطْلَقَا

916 -

فَصَارَ فِيهِ كُلُّ شَخْصٍ كُلِّفَا

بِمُقْتَضَى إِدْرَاكِهِ مُكَلَّفَا

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَة

"

917 -

وَتَقْتَضِي أَحْكَامُهَا الشَّرْعِيَّة

مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ الْأَصْلِيَّة

918 -

وَفِي اقْتِضَائِهَا مِنَ الْأُخْرَى نَظَرْ

فَالْأَخْذُ بِالتَّرْجِيحِ فِيهَا مُعْتَبَرْ

919 -

فَقَدْ يُقَالُ الْمَنْعُ أَوْلَى مُطْلَقَا

إِذْ مُقْتَضَى الْأَصْلِيِّ قَدْ تَحَقَّقَا

920 -

وَغَيْرُهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلِ

وَإِنْ أَتَى فَقَابِلُ التَّأْوِيلِ

921 -

وَكَوْنُهَا مِنَ اللِّسَاِن الْعَرَبِي

يَدُلُّ أَنَّ أَخْذَهَا مِنْهُ اجْتُبِي

922 -

وَأَخْذُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَحْكَامِ

بِمقْتَضَاهَا وَاضِحُ الْأعْلَامِ

923 -

مِثْلُ أَقَلِّ مُدَّةِ الأحْمَالِ

مِنْ مُقْتَضَى التَّعْيِينِ لِلْفِصَالِ

" فَصْلٌ"

924 -

وَمَا أَفَادَ أَدَبًا شَرْعِيَّا

يُلْفَى كَذَاكَ حُكْمُهُ مَرْعِيَّا

925 -

مِنْهُ الْكِنَايَاتُ عَنِ الْأَشْيَاءِ

فِيمَا يُرَى مَظِنَّةُ اسْتِحْيَاءِ

926 -

وَمِنْهُ الالتِفَاتُ فِي الْخِطَابِ

وَفِيهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْآدَابِ

927 -

كَمِثْلِ الْإِقْبَالِ وَكَالتَّنْبِيهِ

عَلَى عُلُوِّ الشَّأْن وَالتَّنْزِيهِ

928 -

وَمِنْهُ فِي النِّدَا بِفَرْقٍ بَادِ

بِنِسْبَةِ الْمَعْبُودِ وَالْعِبَادِ

ص: 12

929 -

فَحَيْثُ نَادَى اللهُ جَلَّ وَعَلَا

عِبَادَهُ حَرْفُ النِّدَاءِ أُعْمِلَا

930 -

وَمُقْتَضَاهُ مُشْعِرٌ بِالْعَبْدِ

وَأَصْلُهُ التَّنْبِيهُ قَبْلَ الْقَصْدِ

931 -

وَفِي نِدَاءِ الْعَبْدِ للهِ فَلَا

يُؤتَى بِيَا وَلَفْظُ رَبٍّ أقْبَلَا

932 -

فَالْحَذْفُ مُشْعِرٌ بِقُرْبِ مَنْ دُعِي

وَالرَّبُّ مُوذِنٌ بِنَيْلِ الطَّمَعِ

933 -

وَمِنْهُ بِالتَّرْكِ لِمَا يُنَزَّهُ

عَنْهُ الَّذِي لَهُ بِهِ التَّوَجُّهُ

934 -

وَانْظُرْ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرْ

وَفِي مَرِضْتُ ذَاكَ أَيْضًا اعْتَبِرْ

935 -

وَمِنْهُ تَرْكُ الرَّدِّ بِالْمُكَافَحَة

وَالْأَخْذُ بِالْإِغْضَاءِ وَالْمُسَامَحَة

936 -

فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ

وَذَاكَ مَأْثُورٌ مِنَ التَّنْزِيلِ

937 -

مِنْهُ بِإِجْرَاءٍ عَلَى الْعَادَاتِ

فِي الاعْتِنَاءِ بِالتَّسَبُّبَاتِ

938 -

وَالْعِلْمُ آتٍ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَا

بِمَا يُرَى مُسَبَّبًا هُنَالِكَا

939 -

وَمُقْتَضَى عَسَى بِذَاكَ ثَبَتَا

وَمِثْلُهُ لَعَلَّكُمْ حَيْثُ أَتَا

940 -

وَذَاكَ كَانَ لِلرَّسُولِ الشَّانُ

مَعَ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ كَانُوا

‌النَّوْعُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ في وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلتَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَاهَا

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

"‌

‌الْمَسْأَلَةُ الْأُولىَ

"

941 -

تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ يُطَاقُ لَمْ يَقَعْ

شَرْعا وَإِنْ كَانَ لَدَى الْعَقْلِ يَسَعْ

942 -

فَإِنْ يَكُ الْقَصْدُ لِتَكْلِيفٍ ظَهَرْ

بِغَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ لِلْبَشَرْ

943 -

فذَاكَ رَاجِعٌ لِمَا يُلَازِمُ

كَمِثْلِ لَا تَمُتْ وَأَنْتَ ظَالِمُ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ

"

944 -

وَالْوَصْفُ لِلْإِنْسَانِ إِنْ يَكُنْ طُبِعْ

عَلَيْهِ لَمْ يُطْلَبْ بِهِ أَنْ يَرْتَفِعْ

945 -

لِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ الاكْتِسَابِ

كَشَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ

ص: 13

946 -

وَإِنَّمَا يُطْلَبُ قَهْرُ النَّفْسِ عَنْ

مَيْلٍ إِلَى الْمَمْنُوعِ فِي غَيْرِ سَنَنْ

947 -

وَأَنْ يَكُونَ حَالَةَ الْإِرْسَالِ

لِمَا يَحِلُّ عَلَى الاعْتِدَالِ

948 -

وَذَاكَ رَاجِعٌ لِلأَفْعَالِ الَّتِي

تَنْشَأُ عَنْهَا بِاكْتِسَابٍ مُثْبَتِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ

"

949 -

وَمَا مِنَ الْأَوْصَافِ لِلْإِنْسَانِ

مُرَكَّبًا فِي طَبْعِهِ ضَرْبَانِ

950 -

مُشَاهَدٌ يُحَسُّ بِالْعِيَانِ

وَمُخْتَفٍ يَثْبُتُ بِالْبُرْهَانِ

951 -

إِذًا فَمَا بِهِ تَعُلُّقُ الطَّلَبْ

أَضْرُبٌ الْأَوَّلُ مَا لَا يُكْتَسَبْ

952 -

قَطْعًا وَذَاكَ مَا مَضَى وَالثَّانِ

مُكْتَسَبٌ بِالْقَطْعِ لِلْإِنْسَانِ

953 -

فَذَا بِهِ التَّكْلِيفُ حَتْمًا مُطْلَقَا

وَالطَّلَبُ الْوَارِدُ ذَاكَ حَقَّقَا

954 -

كَانَ مِنَ الْمَقْصُودِ مُقْتَضَاهُ

فِي نَفْسِهِ أَوْ كَانَ فِي سِوَاهُ

955 -

وَثَالِثٌ مُشْتَبِهٌ فِي الْأَمْرِ

كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَمِثْلُ الْكُفْرِ

956 -

فَيَنْظُرُ النَّاظِرُ فِي الْحَقَائِقِ

وَالْحُكْمُ فِيهَا الْحُكْمُ فِي الْمُوَافِقِ

957 -

أَعْنِي مِنَ الْقِسْمَيْنِ ثُمَّ ظَاهِرُه

إِلْحَاقُهُ بِأَوَّلٍ يُنَاظِرُه

958 -

إِمَّا لِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ

وَدَاخِل تَحْتَ صِفَاتِ الْفِطْرَةِ

959 -

فَالطَّلَبُ الْوَارِدُ إِنَّمَا وَقَعْ

عَلَى التَوَابِعِ الَّتِي فِيهِ تَقَعْ

960 -

لِأنَّ الأوْصَافَ بِلَا ارْتيَابِ

تَتْبَعُهَا أَفْعَالُ الاكْتِسَابِ

961 -

إِمَّا لِأَنَّهُ لَهُ بَوَاعِثُ

مِنْ غَيْرِهِ لَيْسَتْ لَهُ تَنَاكُثُ

962 -

فَإِنْ تَكُنْ تَدْخُلُ تَحْتَ الْكَسْبِ

فَالسَّابِقُ الْمَطْلُوبُ فِي ذَا الضَّرْبِ

963 -

وَإِنْ تَكُنْ لَيْسَتْ مِنَ الْمَقْدُورِ

فَيُطْلَبُ اللَّاحِقُ لِلْأمُورِ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

964 -

وَفِقْهُ الأوْصَافِ بِهَذَا النَّهْجِ

مُسْتَوْضِحٌ مِنْ مُهْلِكٍ وَمُنْجٍ

ص: 14

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَة

"

965 -

وَمَا مِنَ الْأَوْصَافِ لَيْسَ يَقْدِرُ

جَلْبًا لَهَا وَلَا سِوَاهُ الْبَشَرُ

966 -

بِذَاتِهَا ضَرْبَانِ مَا عَنْ عَمَلِ

يَنْشَأُ كَالْعِلْمِ وَضَرْبٍ أَوَّلِي

967 -

فَمَا يُرَى نَتِيجَةً عَنِ الْعَمَلْ

فَذَا عَلَى الْجَزَاءِ نَوْعُهُ اشْتَمَلْ

968 -

مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ عَنِ الْأَسْبَابِ

مُسَبَّبٌ بَادٍ بِالاكْتِسَابِ

969 -

وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ بِهِ تَعَلَّقَا

مِنْ حَيْثُ مَا الْجَزَاءُ فِيهِ حَقَّقَا

970 -

وَغَيْرُهُ الْفِطْرِيُّ فِيهِ النَّظَرُ

مِنْ مَلْحَظَيْنِ عِنْدَمَا يُعْتَبَرُ

971 -

مِنْ كَوْنِهِ مِمَّا يُحِبُّ الشَّارعْ

أَوْ لَا وَهَلْ فِيهِ الْجَزَاءُ وَاقِعْ

972 -

فَالْأَوَّلُ النَّصُّ الْجَلِيُّ يَقْتَضِي

تَعَلُّقُ الْحُبِّ بِهِ وَالْبُغْضِ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

973 -

ثُمَّ إِذَا يَثْبُتُ ذَا تَعَلَّقَا

كَذَاكَ بِالْأفْعَالِ أَيْضًا مُطْلَقَا

974 -

وَالثَّانِ هَلْ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْجَزَا

بِغَيْرِ مَقْدُورٍ إِذَا تَمَيَّزَا

975 -

أَوْ لَا يَصِحُّ ذَا مَجَالٌ لِلنَّظَرْ

وَالْقَوْلُ بِالتَّعْلِيقِ مِمَّا قَدْ ظَهَرْ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَة

"

976 -

وَمَا مِنَ الْمَقْدُورِ شَقَّ أَمْرُهُ

فَاضْرِبْ كُلٌّ سَيَأتِي ذِكْرُهُ

977 -

أَوَّلُهَا الْخَارجُ عَنْ مُعْتَادِ

تَصَرُّفَاتِ سَائِرِ الْعِبَادِ

978 -

فَإِنْ يَكُنْ مَا قَدْ يَشُقُّ فِيهِ خَصّ

أَعْيَانَ الأفْعَالِ فَذَا بَابُ الرُّخَصْ

979 -

وَإِنْ يَكُنْ لَيْسَ لَهُ اخْتِصَاصُ

لَاكِنْ لِلاعْمَالِ بِهِ انْتِقَاصُ

980 -

مِنَ الدَّوَامِ أَوْ مِنَ التَّكْثِيرِ

فَذَا مَحَلُّ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَة

"

981 -

وَكُلُّهُ الشَّرْعُ رَءَاهُ أَنَّهْ

مَشَقَّةٌ غَالِبَةٌ لِلْمُنَّهْ

ص: 15

982 -

فَهْوَ لِهَذَا فِيهِ لَمْ يَقْصِدْ لِأَنْ

يُكَلِّفَ الْخَلْقَ بِمَا فَوْقَ الْمُنَنْ

983 -

دَلِيلُهُ مِنَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةْ

فَهْيَ عَلَى صِحَّةِ ذَاكَ شَاهِدَةْ

984 -

كَذَا مِنْ أَصْلِ الرُّخَصِ الْمَشْرُوعِ

قَطْعًا وَمِنْ مُمْتَنِعِ الْوُقُوعِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَة

"

985 -

وَالثَّانِ مَا يَجْرِي عَلَى الْعَادَاتِ

مِنْ حَيْثُ مَعْهُودِ التَّصَرُّفَاتِ

986 -

لَاكِنَّهُ شَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ

مِنْ حَيْثُ الارْتِبَاطُ لِلتَّكَلُّفِ

987 -

فَمِثْلُ ذَا لَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ

مَشَقَّةً إِلَى ارْتِفَاعٍ تَدْعُو

988 -

بَلْ عَدَّهُ مِنْ جُمْلَةِ التَّصَرُّفِ

كطَلَبِ الْمَعَاشِ بِالتَّحَرُّفِ

989 -

وَمِثْلُ ذَا لَيْسَ يُسَمَّى عَادَةْ

مَشَقَّةً بَلْ كُلْفَةً مُعْتَادَةْ

990 -

فَقَصَدَ التَّكْلِيفَ لِلْعِبادِ

بِمَا يَرَى يَجْرِي عَلَى الْمُعْتَادِ

"‌

‌‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

991 -

وَلَيْسَ لِلْمُكَلَّفِينَ قَصْدُ

مَا قَدْ غَدَا مَشَقَّةً تُعَدُّ

992 -

مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْأَجْرَ فِيهِ يَعْظُمُ

فَالشَّرْعُ لِلْقَصْدِ لَهُ لَا يُفْهَمُ

" فَصْلٌ"

993 -

لَاكِنْ لَهُمْ أَنْ يَقْصِدُوا مِنَ الْعَمَلْ

مَا يَعْظُمُ الثَّوَابُ فِيهِ بِالثِّقَلْ

" فَصْلٌ"

994 -

مَا شَقَّ أَنْ يَنْشَأَ عَن أمْرٍ مُتَّبَعْ

بِالإِذْن مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يَقَعْ

995 -

إِمَّا عَلَى مَا اعْتِيدَ فِي مِثْلِ الْعَمَلْ

وَهْوَ الَّذِي بَيَانُهُ قَبْلُ حَصَلْ

996 -

وَأَنَّهُ لَا قَصْدَ لِلشَّارعِ فِي

جَلْبِ الْمَشَقَّاتِ إِلَى الْمُكَلَّفِ

997 -

أَوْ غَيْرَ مَا اعْتِيدَ فَهَذَا أَدْعَا

إِلَى ارْتِفَاعِ الْقَصْدِ فِيهِ شَرْعَا

ص: 16

998 -

وَعِنْدَ ذَا إِنْ حَصَلَتْ مِنْ سَبَبِ

مُكَلَّفٍ بِالْقَصْدِ فِي التَّسَبُّبِ

"‌

‌‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

999 -

فَإِنْ يَكُنْ بِمُقْتَضى التَّأَمُّلِ

لَا يَقْتَضِيها أَصْلُ ذَاكَ الْعَمَلِ

1000 -

فَذَاكَ مَمْنُوعٌ وَعَنْهُ قَدْ نُهِي

وَهَذَا أَنَّ الْأَصْلَ مَأْمُورٌ بِهِ

1001 -

وَإِنْ تَكُنْ تَابِعَةً لِلْعَمَلِ

فَهَا هُنَا مَا جَاءَ فِي الْيُسْرِ جَلِي

" فَصْلٌ"

1002 -

وَبَعْدُ فَالْحَرَجُ ذُو ارْتِفَاعِ

خَشْيَةَ تَقْصِيرٍ أَوِ انْقِطَاعِ

1003 -

وَكَمْ دَلِيلٍ فِيهِمَا قَدْ جَاءَ

وَالنَّاسُ لَيْسُوا هَاهُنَا سَوَاءَ

‌فَصْلٌ

1004 -

وَمَا عَلَى مُكَلَّفٍ مِنْهَا دَخَلْ

دُونَ تَسَبُّبٍ لَهُ فِيهَا حَصَلْ

1005 -

فَلَيْسَ لِلشَّارعِ قَصْدٌ فِي بَقَا

مَا يُتَّذَى مِنْ وَقْعِهِ أَوْ يُتَّقَا

1006 -

كَمِثْلِ مَا لَا يَقْصِدُ التَّسَبُّبَا

فِي جَلْبِ مَا مِنْ ذَاكَ قَدْ تَجَنَّبَا

1007 -

وَكُلُّ مُؤْلِمٍ بِهَاذِي الدَّارِ

فَهْوَ مِنَ الْبَلْوَى لِلاخْتِبَارِ

1008 -

وَفُهِمَ الْإِذْنُ مِنَ الْمَشْرُوعِ

فِي دَفْعِهِ إِنْ كَانَ ذَا وُقُوعِ

1009 -

وَفِي التَّوَقِّي بَعْدُ مِمَّا يُتَّقَى

مِنْهُ أَذىً أَوِ اِعْتِدَاءٌ مُطْلَقَا

1010 -

وَمُقْتَضَى التَّكْلِيفِ عَنْهُ تَحْصُلُ

مَصَالِحُ الْأُخْرَى إِذَا مَا يَعْمَلُ

1011 -

بِكَوْنِهِ لِلْمُؤلِمَاتِ دَافِعَا

وَجَلْبُهُ لِمَا يَكُونُ نَافِعَا

" فَصْلٌ"

1012 -

وَغَيْرُ مَا الْإِذْنُ بِهِ قَدْ وَقَعَا

أَظْهَرُ فِي الْمَنْعِ لِمَنْ فِيهِ سَعَا

ص: 17

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَة

"

1013 -

وَثَالِثٌ يُلْفَى لِذَاكَ ضَاهَا

مَا يُخْرِجُ النُّفُوسَ عَنْ هَوَاهَا

1014 -

فَذَاكَ لِلشَّارعِ غَيْرُ مُعْتَبَرْ

فِيمَا يَشُقُّ أَمْرُهُ عَلَى الْبَشَرْ

1015 -

إِذْ قَصْدُهُ الْإِخْرَاجُ بِالتَّكْلِيفِ

عَنْ دَاعِيَاتِ النَّفْسِ فِي التَّصْريفِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَة

"

1016 -

ثُمَّ الْمَشَقَّاتُ لِدُنْيَوِيَّةْ

تَقَسَّمَتْ بَعْدُ وَأُخْرَوِيَّةْ

1017 -

فَحَيْثُ أَدَّى عَمَل لِتَرْكِ مَا

أَوْجَبَ أَوْ فِعْلِ الَّذِي قَدْ حَرُمَا

1018 -

فَهْوَ أَشَدُّ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ

لِشَأْنِهِ فَاشْتَدَّ حَالَ الْمَنْعِ

1019 -

إِذِ اِعْتِبَارُ الدِّينِ دُونَ لَبْسِ

مُقَدَّمٌ عَلَى اعْتِبَاِر النَّفْسِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ

"

1020 -

وَمَا يَشُقُّ تَارَةً يَخُصُّ

وَتَارَةً يَعُمُّ لَا يَخْتَصُّ

1021 -

وَتَارَةً يَكُونُ دَاخِلًا عَلَا

غَيْرِ الَّذِي لَابَسَ ذَاكَ الْعَمَلَا

1022 -

فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ لِلشَّرْعِ طَلَبُ

وَلَا الَّذِي أَدَّى إِلَيْهِ مَطْلَبُ

1023 -

وَمَا لَهُ تَعَارُضٌ فِي مَسْأَلَةْ

قَاعِدَةُ التَّرْجِيحِ فِيهِ مُعْمَلَةْ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشَرَة

"

1024 -

وَإِنْ يَكُنْ مَا شَقَّ فِي التَّكْلِيفِ

يُجَاوِزُ الْمُعْتَادَ فِي التَّصْرِيفِ

1025 -

حَتَّى يُرَى عَنْهُ فَسَادٌ مُطْلَقَا

فَالرَّفْعُ قَصْدُ الشَّرْعِ فِيهِ لَا الْبَقَا

1026 -

وَغَيْرُ خَارجٍ عَنِ الْمُعْتَادِ

بَلْ مِثْلُهُ يُرَى فِي الْأَمْرِ الْعَادِي

1027 -

فَلَيْسَ لِلشَّارعِ فِي الْإِيقَاعِ

لِذَاكَ قَصْدٌ وَلَا الارْتِفَاعِ

ص: 18

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَة

"

1028 -

الشَّرْعُ فِي التَّكْلِيفِ بِالْأَعْمَالِ

جَارٍ عَلَى سَبِيلِ الاعْتِدَالِ

1029 -

فِي جُمْلَةِ الشُّؤُونِ وَالْأَحْوَالِ

مِنْ غَيْرِ إِعْنَاتٍ وَلَا انْحِلَالِ

1030 -

فَإِنْ أَصَابَ ذَا انْحِرَافٌ مُفْرِطْ

فِي الطَّرَفَيْنِ رَدَّهُ لِلْوَسَطْ

1031 -

وَانْظُرْ إِلَى التَّدْرِيجِ فِي الْخِطَابِ

بِحَسَبِ الْعِتَابِ وَالْإِعْتَابِ

1032 -

فَإِنْ رَأَيْتَ مَيْلَهُ لِجَانِبِ

فَهْوَ مُقَابِل لِأمْرٍ غَالِبِ

1033 -

فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مِمَّا قَدْ وَقَعْ

أَوْ مَا لَهُ تَرَقُّبٌ أَنْ سَيَقَعْ

1034 -

مِثْلُ الطَّبِيبِ قَابَلَ الْمُنْحَرِفَا

بِضِدِّهِ حَتَّى يُرَى مُنْعَطِفَا

1035 -

مِنْ طَرَفِ مَا إِلَى الاعْتِدَالِ

وَيُرْتَجَى لَهُ صَلَاحُ الْحَالِ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1036 -

فَمَنْ عَلَيْهِ الانْحِلَالُ قَدْ غَلَبْ

قُوبِلَ بِالزَّجْرِ وَمَا فِيهِ الرَّهَبْ

1037 -

وَإِنْ يَكُ الْخَوْفُ لَهُ تَغْلِيبُ

قَابَلَهُ التَّيْسِيرُ وَالتَّرْغِيبُ

1038 -

وَحَيْثُ ذَا وَذَاكَ لَيْسَ لَائِحَا

تَرَى سبِيلَ الاعْتِدَالِ وَاضِحَا

1039 -

كَذَاكَ مَنْ مَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ

لِجَانِبٍ قَاضٍ بِهَذَا الْحُكْمِ

1040 -

ثُمَّ التَّوَسُّطَاتُ فِي الْمَقَاصِدِ

تُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَبِالْعَوَائِدِ

1041 -

وَمِنْ هُنَا يُنْظَرُ فِي الزُّهْدِ وَمَا

أَشْبَهَهُ أَوْ مَا بِعَكْسٍ عُلِمَا

‌النَّوْعُ الرَّابِعُ فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ في دُخُولِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْأُوْلَى

"

1042 -

إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمُقْتَضَاهَا

أَنْ تَخْرُجَ النُّفُوسُ عَنْ هَوَاهَا

1043 -

حَتَّى يُرَى الْمُكَلَّفُ اخْتِيَارَا

عَبْدًا لِمَنْ يَمْلِكُهُ اضْطِرَارَا

ص: 19

1044 -

دَلِيلُهُ النَّصُّ الصَّرِيحُ الْآتِي

فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ وَالآيَاتِ

1045 -

وَمَا أَتَى فِي ذَمِّ كُلِّ مُتَّبِعْ

هَوَاهُ إِذْ ذَاكَ بِضِدِّ مَا شُرِعْ

"‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

1046 -

وَكُلُّ فِعْلٍ بِالْهَوَى قَدْ وَقَعَا

دُونَ اعْتِبَارِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَا

1047 -

أَوِ الْتِفَاتِ الإِذْنِ فَهْوَ بَاطِلُ

إذْ غَيْرُ قَصْدِ الشَّرْعِ فِيهِ حَاصِلُ

1048 -

وَصَحَّ مَا الأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ اتُّبِعْ

فِيهِ أَوِ الْإذْنُ بِقَصْدِ الْمُتَّبِعْ

1049 -

وَمَا بِهِ يَمْتَزِجُ الْأَمْرَانِ

فَهَاهُنَا لِلْفِعْلِ مَقْصِدَانِ

1050 -

فَإِنْ يَكُ السَّابِقُ أَمْرَ الشَّارعْ

وَمَقْصِدُ الْهَوَى لَهُ كَالتَّابِعْ

1051 -

فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِي لِحَاقِهِ

بِالثَّانِ إِذْ جَرَى عَلَى وِفَاقِهِ

1052 -

لَاكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا تُبِعْ

لِنَيْلِ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَصْدِ شُرِعْ

1053 -

وَإِنْ يَكُ الْهَوَى لِشَرْعٍ سَابِقَا

فَذَاكَ بِالأَوَّلِ يُلْفَى لَاحِقَا

" فَصْلٌ"

1054 -

وَظَاهِرٌ أَنَّ الْهَوَى إِن اتُّبِعْ

نَهْجٌ لِمَا قَدْ ذُمَّ شَرْعًا وَمُنِعْ

1055 -

وَإِنْ يَكُنْ يَبْرُزُ فِي الْوُجُودِ

فِي ضِمْنِ مَا يُلْفَى مِنَ الْمَحْمُودِ

1056 -

وَهْوَ فِي الْأَحْكَامِ إِذَا مَا أُعْمِلَا

مَظِنَّة لِفِعْلِهَا تُحُيِّلَا

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1057 -

مَقَاصِدُ الْمَشْرُوعِ مِنْهَا أَصْلِي

وَتَابِعٌ لَهُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ

1058 -

فَأَوَّلٌ قِسْمُ الضَّرُورِيَّاتِ

وَحُكْمُهَا عَلَى الْعُمُومِ ءَاتِ

1059 -

وَمِنْ هُنَا لَا حَظَّ لِلْمُكَلَّفِ

فِيهَا لِأَنْ كَانَتْ لِذَاكَ تَقْتَفِي

1060 -

لَاكِنَّهَا بَعْدُ عَلَى قِسْمَيْنِ

مِنْهَا كفَائِيٌّ وَمِنْهَا عَيْنِي

1061 -

فَكَوْنُهَا لِلْعَيْنِ حَيْثُ أُمِرَا

كُلُّ امْرِئٍ بِعَيْنِه مِنَ الْوَرَا

ص: 20

1062 -

بِحِفْظِ دِينِهِ وَحِفْظِ عَقْلِهْ

وَنَفْسِهِ وَمَا لِهِ وَنَسْلِهِ

1063 -

وَكَوْنُهَا كِفَايَةٌ مِنْ حَيْثُ مَا

هُوَ لِكُلِّ الْخَلْقِ أَمْرٌ لَزِمَا

1064 -

فَبِالْجَمِيعِ قَامَتِ الْمَصَالِحْ

بِحِكْمَةِ اللهِ وَهَذَا وَاضِحْ

1065 -

وَالتَّابِعُ الذِي بِهِ قَدْ رُوعِيَ

حَظُّ مُكَلِّفٍ لَدَى الْمَشْرُوعِ

1066 -

فَهْوَ بِهِ مُحَصِّلٌ لِمَا جُبِلْ

عَلَيْهِ مِمَّا النَّفْعُ فِيهِ قَدْ شَمِلْ

1067 -

لِأَجْلِ مَا رُكِّبَ فِي الطِّبَاعِ

لِلاكْتِسَابَاتِ مِنَ الدَّوَاعِي

1068 -

فَهْوَ بِمَا جُبِلْ لَّهُ يَسْتَدْعِي

مَصَالِحَ الدُّنْيَا بِحُكْمِ الطَّبْعِ

1069 -

وَالشَّرْعُ يَسْتَدْعِي لَّهُ فِي الْخَلْقِ

مَصَالِحَ الْأُخْرَى بِحُكْمِ الرِّفْقِ

1070 -

فَحَدَّ لاكْتِسَابِهِ حُدُودَا

وَحِفْظُهَا بِنَيْلِهِ الْمَقْصُودَا

1071 -

فَإِنَّ هَاذِي الدَّارَ مَوْضِعُ الْعَمَلْ

وَتِلْكَ لِلْفَوزِ أَوْ لِلْخُسْرِ مَحَلُّ

1072 -

وَحِينَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ

بِمَا بِهِ النَّفْعُ عَلَى التَّمَامِ

1073 -

اِحْتَاجَ أَنْ يُعِينَهُ سِوَاهُ

لِنَيْلِ مَا رَءَاهُ مُبْتَغَاهُ

1074 -

فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ لَنْ يَسْعَا

إِلَّا لِمَا جَرَّ إِلَيْهِ نَفْعَا

1075 -

وَصَحَّ الانْتِفَاعُ لِلْجَمِيعِ

فِي قَصْدِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمَجْمُوعِ

1076 -

وَصَارَت المَقَاصِد الفَرْعِيَّة

مِنْ أَجْلِ ذَا خَادِمَة الأَصْلِيَّة

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1077 -

وَحَاصِل أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ

ضَرْبَانِ ضَرْبٌ لِلْعِبَادِ آتِ

1078 -

وَالْحَظُّ فِيهِ عَاجِلٌ مَقْصُودُ

وَالآخَرُ الْعَكْسُ بِهِ مَوْجُودُ

1079 -

فَأَوَّلٌ لِمَا تَقَوَّى الدَّاعِي

لِجَلْبِهِ مِنْ جِهَةِ الطِّبَاعِ

1080 -

كَانَ مِنَ الشَّرْعِ بِإِذْنٍ أَوْ طَلَبْ

نَدْبٍ فَإِنْ يَعْرَ عَنِ الدَّاعِي وَجَبْ

1081 -

إِمَّا عَلَى الْعَيْنِ أَوِ الْكِفَايَهْ

وَصَارَ حَظُّ الْغَيْرِ بَادِي الآيَهْ

1082 -

مُقَدَّمًا عَلَى سِوَاهُ فِي الطَّلَبْ

وَأُكِّدَ الْكَفُّ مِنْ أَجْلِ ذَا السَّبَبْ

1083 -

بِالزَّجْرِ فِي الدُّنْيَا وبِالإيعَادِ

بِلَاحِقِ الْعَذَابِ فِي الْمِعَادِ

ص: 21

1084 -

وَضَرْبُهَا الثَّانِي بِذِي الْمَثَابَةِ

مَا قَدْ أَتَى فِيهِ عَلَى الْكِفَايَةِ

1085 -

وَمَا عَلَى الْأَعْيَانِ مِنْهُ قَدْ أَتَى

فَالْقَصْدُ لِلشَّارعِ فِيهِ ثَبَتَا

1086 -

مُؤَكَّدًا فِي الْفِعْلِ بِالْإِيجَابِ

وَالتَّرْكِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْعِقَابِ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1087 -

وَذُو كِفَايَةٍ بِحُكْمِ الْقَصْدِ

إِنِ اعْتَبَرْتَ فِيهِ حَظَّ الْعَبْدِ

1088 -

وَجَدْتَهُ يَصْلُحُ لِلتَّقْسِيمِ

بِحَسَبِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ

1089 -

فَمِنْهُ مَا الْحَظُّ بِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ

بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ بِحَيْثُ مَا ظَهَرْ

1090 -

مِثْلَ الْوِلَايَاتِ التِي قَدْ عَمَّتِ

مَصَالِحُ الدُّنْيَا بِهَا لِلْأُمَّةِ

1091 -

وَمِنْهُ مَا الْحَظُّ لَدَيْهِ يُقْتَضَا

وَذَاكَ مَا مَصْلَحَةَ الْغَيْرِ اقْتَضَا

1092 -

فِي ضِمْنِ مَا الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ اقْتَرَفْ

مِثْلَ الصِّنَاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْحِرَفْ

1093 -

فَهْوَ خُصُوصٌ وَالْعُمُوم بِالْعَرَضْ

وَمِنْهُ قِسْمُ ذَا وَذَا فِيهِ عَرَضْ

1094 -

بِالْقَصْدِ لِلْحَظِّ وَلَحْظِ الأمْرِ

فَهْوَ خُصُوصٌ فِي عُمُومِ يَجْرِي

1095 -

وَتَحْتَ ذَا تَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ

وِلَايَةُ الأَوْقَافِ وَالأَيْتَامِ

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1096 -

مَا فِيهِ حَظُّ الْعَبْدِ مَحْضًا وَإِذَنْ

فِيهِ بِتَخْلِيصٍ مِن الْحَظِّ قَمِنْ

1097 -

لِمَنْ تَلَقَّى بِالْقَبُولِ الإِذْنَا

فَصَارَ قُرْبَةً بِهَذَا الْمَعْنَا

1098 -

كَمِثْلِ مَنْ لَبَّى بِالامْتِثَالِ

مَا طَلَبَ الشَّرْعُ وَلَا يُبَالِي

1099 -

وَهَلْ بِمَا لَا حَظَّ فِيهِ يُعْتَبَرْ

تَلْحَقُهُ فِي الْحُكْمِ فِي هَذَا نَظَرْ

1100 -

مَرْجِعُهُ إِلَى اعْتِبَارِ الرُّتَبِ

فِي الأَخْذِ لِلْحَظِّ مِنَ التَّسَبُّبِ

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

1101 -

وَالْفِعْلُ إِنْ وَافَقَ فِي الْوُقُوعِ

الْمَقْصِدَ الأَصْلِيَّ فِي الْمَشْرُوعِ

ص: 22

1102 -

بِحَيْثُ رَاعَاهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي

صِحَّةِ هَذَا الْفِعْلِ لِلْمُكَلَّفِ

1103 -

هَبْ أُهْمِلَ الْحَظُّ بِهِ أَوْ رُوعِي

قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فِي التَّشْرِيعِ

1104 -

وَالرَّعْيُ لِلْمَقَاصِدِ الأَصْلِيَّهْ

تُبْنَى عَلَيْهِ نُكَتٌ فِقْهِيَّهْ

1105 -

مِنْ ذَاكَ أَنْ يَصِيرَ فِعْلُ الْعَادَهْ

أَقْرَبَ لِلإِخْلَاصِ وَالْعِبَادَهْ

1106 -

بَلْ رُبَّمَا رَدُّ التَّصَرُّفَاتِ

عِبَادَةٌ فِي سَائِرِ الأَوْقَاتِ

1107 -

وَرُبَّمَا يَنْقُلُهَا فِي الْغَالِب

بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ لِحُكْمِ الْوَاجِبْ

"‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

1108 -

كَذَا تَحَرِّيهَا لَدَى الْمَوَاقِعْ

تَضْمَنُ الْقَصْدَ لِقَصْدِ الشَّارعْ

1109 -

فِي الْفِعْلِ مِنْ دَفْعٍ لِضُرِّ مَفْسَدَهْ

وَالْجَلْبُ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُعْتَمَدَهْ

1110 -

وَتَعْظُمُ الطَّاعَةُ مَهْمَا قُصِدَتْ

وَيَعْظُمُ الإِثْمُ إذَا مَا خُولفَتْ

" فَصْلٌ"

1111 -

إِذَنْ فَأَصْلُ الطَّاعَةِ الْكُلِّيَّهْ

فِي اللَّحْظِ لِلْمَقَاصِدِ الأَصْلِيَّهْ

1112 -

وَالأَصْلُ فِي كَبَائِرِ الآثَامِ

خِلَافُهَا بِالْقَصْدِ وَالإِقْدَامِ

"‌

‌ المسألة السادسة

"

1113 -

وَمَا أَتَى بِوَفْقِ تَابِعِيِّ

فَإِنْ يَكُنْ مَعْ صُحْبَةِ الْأَصْلِيِّ

1114 -

فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ أَنَّهُ امْتَثَلْ

وَإِنْ سَعَى لِلْحَظِّ فِي ذَاكَ الْعَمَلْ

1115 -

وَحَيْثُ لَا يَصْحَبُهُ الأَصْلِيُّ

فَالْحَظُّ بِالْهَوَى هُوَ الْمَعْنِيُّ

1116 -

وَمَعْنَى الْإِخْلَاصِ لَدَى الْعَادِيَّهْ

تَجَنُّبُ الْمَقَاصِدِ الرَّدِيَّهْ

1117 -

كَالْقَصْدِ فِي الأَفْعَالِ وَالشُّؤُونِ

تَشَبُّهًا بِغَيْرِ أَهْلِ الدِّينِ

1118 -

أَوْ ارْتِكَابِ عَمَلٍ شَيْطَانِي

أَوْ سَابِقٍ لِعابِدِي الأَوْثَانِ

ص: 23

"‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

1119 -

وَمَا بِهِ تَعَبُّدُ الْعِبَادِ

مِنْهُ عِبَادَاتٌ وَمِنْهُ عَادِي

1120 -

فَالأَوَّلُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الآخِرَهْ

حَقِيقَةُ الإِخْلَاصِ فِيهِ ظَاهِرَهْ

1121 -

وَإِنْ يَكُنْ يَطْلُبُ مِنْهُ الْعَاجِلَهْ

فَفِيهِ حَالَاتٌ ثَلَاثٌ حَاصِلَهْ

1122 -

فَفِعْلُ مَا عَنْهُ يُرَى تَحْسِينُ

هَيْئَتِهِ أَنْ تَحْسُنَ الظُّنُونُ

1123 -

إِنْ يَكُنِ الْقَصْدُ لَهُ مَتْبُوعَا

كَانَ رِيَاءً فِعْلُهُ مَمْنُوعَا

1124 -

وَحَيْثُ كَانَ الْقَصْدُ تَابِعًا فَذَا

بِهِ لِأهْلِ الْعِلْمِ خُلْفٌ يُحْتَذَا

1125 -

وَفِعْلُ مَا يَخْتَصُّ بِالإِنْسَانِ

فِي نَفْسِهِ فِي كُلِّ شَأْنٍ شَانِ

1126 -

مَعْ غَفْلَةٍ عَنِ الْمُرَاءَاةِ بِمَا

يُفْعَلُ كَالصِّيَامِ قَصْدًا لِلنَّمَا

1127 -

فِيهِ مَجَالٌ لاجْتِهَادٍ وَنَظَرْ

وَالأظْهَرُ التَّصْحِيحُ عِنْدَ مَنْ نَظَرْ

1128 -

وَمَا بِهِ يُقْصَدُ نَيْلُ الْمَالِ

وَالْجَاهِ مَذْمُومٌ بِكُلِّ حَالِ

" فَصْلٌ"

1129 -

وَالثَّانِ مَا يَرْجِعُ لِلْعَادَاتِ

فَالشَّرْعُ فِيهِ بِالْحُظُوظِ آتِ

1130 -

بِالْإِذْن وَالأَمْرِ مَعًا وَالنَّهْيِ

فَالْحَظُّ أَخْذُهُ بِحُكْمِ السَّعِي

1131 -

وَكَوْنُهُ لِنِيَّةٍ لَا يَفْتَقِرْ

يَدُلُّ أَنَّ الْقَصْدَ لِلْحَظِّ اعْتُبِرْ

1132 -

وَمَا أَتَى بِقَصْدِ الامْتِنَانِ

مُصَحِّحٍ ذَلِكَ لِلإِنْسَانِ

1133 -

وَقَصْدُهُ وَهْوَ مِنَ الْحَظِّ بَرِي

مِنْ جِهَةِ الإِذْن بِصِحَّةٍ حَرِي

"‌

‌ المسألة السابعة

"

1134 -

تَجُوزُ فِي الْعَادَاتِ بِاتِّفَاقِ

نِيَابَةُ الْغَيْرِ عَلَى الإِطْلَاقِ

1135 -

لِكَيْ يَقُومَ عَنْهُ فِي الْمَقَاصِدِ

بِجَلْبِ نَافِعٍ وَدَرْءِ فَاسِدِ

1136 -

مَا لَمْ يَكُنْ لِحِكْمَةٍ مَشْرُوعَا

مَقْصُورَةٍ عَادَةً أَوْ تَشْرِيعَا

ص: 24

1137 -

كَالْأَكلِ وَالْعِقَابِ فِي الْأَبْدَانِ

فَالْمَنْعُ مِنْهَا وَاضِحُ الْبَيَانِ

1138 -

فَإِنْ يَكُنْ مَرْجِعُهُ لِلْمَالِ

فَهْيَ صَحِيحَةٌ بِكُلِّ حَالِ

1139 -

وَكلُّ مَالِي وَلَاكِن يُعْتَبَرْ

فِيهِ سِوَى الْمَالِ مَجَالٌ لِلنَّظَرْ

1140 -

وَلَا يَجُوزُ فِي التَّعَبُّدَاتِ

نِيَابَة كَالطُّهْرِ وَالصَّلَاةِ

1141 -

دَلَّ عَلَى صِحَّةِ ذَا الْمَنْقُولُ

ما لِذِي الْمَعْنَى بِهَا مَعْقُولُ

1142 -

وَمَعَ ذَا لَوْ صَحَّ فِي الْحِسِّيهْ

جَوَازُهَا لَعَمَّ فِي الْقَلْبِيَّهْ

1143 -

وَمَا أَتَى يُوهِمُ غَيْرَ مَا ذُكِرْ

فَخَارج عَنْ حُكْمِهِ إِذَا اعْتُبِرْ

1144 -

لِجِهَةِ التَّوْكِيلِ وَالشَّفَاعَةِ

وَالْقَصْدِ وَالْوصَاةِ وَالْغَرَامَةِ

1145 -

وَلِلتَّسَبُّبَاتِ وَالْمَصَائِبِ

وَللتَّصَدُّقَاتِ بِالْمَكَاسِبِ

1146 -

وَهِبَةُ الثَّوَابِ فِي ذَا تَدْخُلُ

إِذْ رَدُّهُ مِنْ كَسْبِنَا التَّفَضُّلُ

1147 -

وَغَيْرُ مَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا وَقَدْ

عَارَضَ قَطْعِيَّا فَمِثْلُهُ يُرَدْ

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

1148 -

وَالْقَصْدُ لِلشَّارعْ فِي الأعْمَالِ

دَوَامُهَا وَذَا بِالاسْتِدْلَالِ

1149 -

وَحُكْمُ مَا الْتُزِمَ فِي التَّصَوُّفِ

بِحَسَبِ الأَوْقَاتِ مِنْ هُنَا اقْتُفِي

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

1150 -

هَاذِي الشَّرِيعَةُ عَلَى الْعُمُومِ

بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ وَاللُّزُومِ

1151 -

وَهَذَا الْأَصْلُ يُثْبِتُ الْقِيَاسَا

عَلَى الذِي يُنْكِر اقْتِبَاسَا

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1152 -

وَمُثْبِتٌ لِمَذْهَبِ الصُّوفِيَّهْ

جَرْيًا عَلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّهْ

ص: 25

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

1153 -

كمَا التَّكَالِيفُ جَمِيعًا قَدْ أَتَتْ

وَالْحُكْمُ بِالْعُمُومِ فِيهَا قَدْ ثَبَتْ

1154 -

بِنِسْبَةِ الأُمَّةِ وَالرَّسُولِ

فِي غَيْرِ مَا قَدْ خُصَّ بِالدَّلِيلِ

1155 -

كَذَا الْمَزَايَا نَيْلُهَا قَدْ عَمَّا

وَهْوَ بِالاسْتِقْرَاءِ أَمْرٌ تَمَّا

1156 -

فَفِي الذِي أُعْطِيَهُ الرَّسُولُ

مِنْ غَيْرِ مَا اخْتُصَّ لَهُمْ شُمُولُ

1157 -

أَوَّلُهَا اسْتِخْلَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ

عَلَى اقْتِبَاسِ مُوجِبَاتِ الْحُكْمِ

1158 -

إِذْ كَانَ مِمَّا أُعْطِيَ الحُكْمُ بِمَا

يُرَى فَقَدْ أُعْطِيَ ذَاكَ الْعُلَمَا

1159 -

وَالحُبُّ وَالْعِلْمُ مَعَ الأُمِّيَّهْ

وَرِفْعَةُ الْقَدْرِ عَلَى الْبَرِيَّهْ

1160 -

وَالاجْتِبَاءُ وَوُجُوبُ الطَّاعَهْ

وَالسَّبْقُ لِلْجَنَّةِ وَالشَّفَاعَهْ

1161 -

وَالشَّرْعُ لِلسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ

عَلَيْهِمُ إذْ فِيهِ ذَاكَ آتِ

1162 -

وَالْوَصْفُ بِالْحَمْدِ وَرَفْعُ الذِّكْرِ

وَالْوَحْيُ بِالرُّؤْيَا وَشَرْحُ الصَّدْرِ

1163 -

وَمُقْتَضَى التَّثْبِيتِ وَالْغُفْرَانِ

لِلذَّنْبِ وَالتَّيْسِيرِ لِلْقُرْآنِ

1164 -

ثُمَّ نُزُولُهُ عَلَى وَفْقِ الْغَرَضْ

وَالْعَفْوُ قَبْلَ الْعَتْبِ فِي أَمْرٍ عَرَضْ

1165 -

وَمَا أَتَى مِنِ انْخِرَاقِ الْعَادَهْ

لِأَوْلِيَاءِ اللهِ وَالشَّهَادَهْ

1166 -

وَمِنْ صَلَاةِ اللهِ وَالتَّسْلِيمِ

وَوِجْهَةِ الْمَلَكِ بِالتَّكْلِيمِ

1167 -

وَوَصْفِهِمْ كَمِثْلِ مَالَهُ وَصَفْ

بِبَعْضِ الأَوْصَافِ التِي بِهَا اتَّصَفْ

1168 -

وَمِنْ مُوَالَاةٍ لِمَنْ وَالاهُمْ

وَمِنْ مُعَادَاةِ لِمَنْ عَادَاهُمْ

1169 -

وَمِن خِطَابٍ وَاضِحِ الإِتْيَانِ

فِي مَعْرِضِ الرَّأْفَةِ وَالْحَنَانِ

1170 -

وَمِنْ إمَامَةٍ لِلأنْبِيَاءِ

وَنِعْمَةِ الإِعْطَاء لِلإِرْضَاءِ

1171 -

وَالأجْرُ دُونَ مِنَّةٍ وَالْعِصْمَهْ

مِنَ الضَّلالِ وَتَمَامُ النِّعْمَهْ

ص: 26

"‌

‌‌

‌‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

1172 -

ثُمَّ الْمُكَاشَفَاتُ وَالْكَرَامَهْ

مَنْشَأُهَا الدِّينُ وَالاسْتِقَامَهْ

1173 -

فَكُلُّ مَا مِنْهَا بَدَا فِي أُمَّتِهْ

مُقْتَبَسٌ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهْ

1174 -

إِذِ النَّبِيُّ الْمَنْبَعُ الْكُلِّيُّ

وَالأَوْليَاءُ مَنْبَعٌ جُزْئِيُّ

1175 -

فَمَا يُرَى فِي الْمُعْجِزَاتِ أَصْلُهُ

فَفِي الْكَرَامَاتِ يَصِحُّ نَقْلُهُ

" فَصْلٌ"

1176 -

وَمَا عَلَى خِلَافِ هَذَا قَدْ وَرَدْ

فَإِنَّهُ فِي ذَاكَ غَيْرُ مُعْتَمَدْ

1177 -

كَذَاكَ مَا يَصْدُرُ مَعْ مُخَالَفَهْ

لَيْسَ كرَامَةٍ وَلَا مُكَاشَفَهْ

1178 -

وَكُلُّ مَنْ خُصَّ بِنَيْلِ مَأْثَرَهْ

مِنْ هَذِهِ الْمَآثِرِ المُعْتَبَرَهْ

1179 -

فَكَانَ فِيهَا بِالرَّسُولِ يَقْتَدِي

فِي هَدْي مُسْتَهْدٍ وَرَدْعِ مُعْتَدِ

1180 -

لَيْسَ بِخَارجٍ عَنِ الْمَشْرُوعِ

دَلِيلُهُ مِنْ جِهَةِ الْوُقُوعِ

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

1181 -

لَاكِنْ لِهَذَا الْحُكْمِ شَرْطٌ مَرْعِي

عَدَمُ الإخْلَالِ بِأَصْلٍ شَرْعِي

" فَصْلٌ"

1182 -

إِذَنْ فَالاسْتِعْمَالُ لِلْخَوَارِقِ

لَيْسَ عَلَى الإِطْلَاقِ فِي الْطَّوَارِقِ

1183 -

بَلْ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْأمُورِ

وَمَوْضِعِ التَّبْشِيرِ وَالتَّحْذِيرِ

" فَصْلٌ"

1184 -

وَحَيْثُمَا السَّبَبُ يَقْتَضِيهِ

فَذَاكَ مِمَّا لَا امْتِرَاءَ فِيهِ

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

1185 -

ثُمَّ الشَّرِيعَةُ لِهَذْي الأُمَّةِ

فِي ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ قَدْ عَمَّتِ

ص: 27

1186 -

لِأَنَّهَا عَلَى سِوَاهَا حَاكِمَةْ

فَحَالَةُ الْعُمُومِ فِيهَا لَازِمَةْ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1187 -

فَالشَّرْعُ مِيزَان يُري الْكَرَامَهْ

عَلَى اعْوِجَاجٍ أَوْ عَلَى اسْتِقَامَهْ

1188 -

فَمَا اسْتَقَامَ فَهُوَ الْمَقْبُولُ

وَغَيْرهُ لَيْسَ لَهُ قَبُولُ

"‌

‌ المسألة الثالثة عشرة

"

1189 -

مُجْرَى عَوَائِدِ الْوُجُودِ قَطْعِي

وَكَمْ مِنْ أَخْبَارٍ بِذَاكَ شَرْعِي

1190 -

وَمَعَ ذَا لَوْلَا اطِّرَادُ الْعَادَهْ

لَمْ تَظْهَرِ الْمُعْجِزَةُ الْمُرَادَهْ

1191 -

لِصِدْقِ مَنْ أُرْسِلَ بِالتَّشْرِيعِ

وَذَاكَ غَيْرُ مُقْتَضَى الْوُقُوعِ

1192 -

وَإِنَّمَا أَعْنِي بِهَا الْكُلِّيَّهْ

مَا لَا تُرَى تَخْرِمُهَا الْجُزْئِيَّهْ

1193 -

كَالشَّأْنِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ

مِنْ ذَاكَ حُكْمُ الْخَبَرِ الْمَقْبُولِ

1194 -

أَوْ الْقِيَاسِ أَصْلُهُ قَطْعِي

وَفِي الْفُرُوعِ حُكْمُهُ ظَنِّي

"‌

‌ المسألة الرابعة عشرة

"

1195 -

ثُمَّ الْعَوَائِدُ التِي اسْتَمَرَّتْ

شَرْعِيَّة أَحْكَامُهَا اسْتَقَرَّتْ

1196 -

بِالإِذْن أَوْ بِالنَّهْيِ أَوْ بِالأَمْرِ

فَذَاكَ ثَابِتٌ بِطُولِ الدَّهْرِ

1197 -

كَالسَّتْرِ لِلْعَوْرَةِ وَالطَّهَارَهْ

مِما أَرَادَ الشَّارعُ اسْتِمْرَارَهْ

1198 -

وَهْوَ لَدَى الشَّرْعِ قَبِيحٌ أَوْ حَسَنْ

فَمَا لَهُ تَبَدُّلٌ مَدَى الزَّمَنْ

1199 -

وَضَرْبُهَا الثَّانِي فِي الاسْتِمْرَارِ

مَا هُوَ فِي الْعَادَاتِ أَمْرٌ جَارِ

1200 -

فَمِنْهُ ثَابِتٌ عَلَى الدَّوَامِ

كَالْمَشْيِ وَالْبَطْشِ وَكَالْقِيَامِ

1201 -

فَذَا إِذْ تُلْفَى الْمُسَبَّبَاتِ

عَنْهُ فَفِي الشَّرْعِ لَهَا ثَبَاتُ

1202 -

وَلَيْسَ فِي اعْتِبَارِهَا إِشْكَالُ

وَحُكْمُهَا لَيْسَ لَهُ اسْتِبْدَالُ

1203 -

وَمِنْهُ ذُو تَبَدُّلٍ فِي الْحَالِ

لِعَكْسِهِ فَالشَّرْعُ ذَاكَ تَالِ

ص: 28

1204 -

أَوْ بِاخْتِلَافِ أَوْجُهِ التَّعْبِيرِ

بِنِسْبَةِ الْخُصُوص وَالْجُمْهُورِ

1203 -

أَوْ نِسْبَةِ اللُّغَاتِ فِي الْمَقَالِ

أَوْ مُقْتَضَى غَالِبِ الاسْتِعْمَالِ

1206 -

فَالْحُكْمُ فِي هَذَا لَهُ تَنَزُّلُ

عَلَى مَنِ اعْتَادَ فَلَا يُبَدَّلُ

1207 -

وَذَا فِي الأَيْمَانِ كَثِيرًا يَجْرِي

وَفِي الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ يَسْرِي

1208 -

أَوْ بِأُمُورٍ صَحَّ أَنْ تَكُونَا

خَارِجَةً عَنِ الْمُكَلَّفِينَا

1209 -

مِثْلَ الْبُلُوغِ فَلَهُ اعْتِبَارُ

بِعَادَةِ النَّاسِ الَّتِي تُخْتَارُ

1210 -

مِنِ احْتِلَامٍ أَوْ مَحِيضٍ حُقِّقَا

أَوْ مِنْ بُلُوغِ سِنِّ ذَاكَ مُطْلَقَا

1211 -

وَمِثْلَ ذَاكَ الْحَيْضِ بَعْدَمَا ظَهَرْ

إِمَّا بِعَادَاتِ النِّسَاءِ يُعْتَبَرْ

1212 -

أَوْ عَادَةِ اللِّداتِ أَوْ عَادَاتِ

ذَوَاتِ قُرْبَى أَوِ الأُمَّهَاتِ

1213 -

فَالشَّرْعُ فِي ذَلِكَ الانْتِقَالِ

لِمُقْتَضى الْعَادَةِ فِيهِمْ تَالِ

1214 -

أَوْ بِأُمُورٍ تَخْرِقُ الْعَادَاتِ

فَالْحُكْمُ فِي الْشَّرْعِ عَلَيْهَا يَاتِي

1215 -

بِشَرْطِ أَنْ تَصِيرَ تِلْكَ الزَّائِلَهْ

مَعْدُومَةً مِن أَجْلِ هَاذِي الْحَاصِلَهْ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1216 -

وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْخِطَابِ مَا ذُكِرْ

مِنِ اخْتِلَافِ حُكْمِ مَا قَدِ اعْتُبِرْ

1217 -

وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَادَهْ

إِنْ فَارَقَتْ حَالَتَهَا الْمُعْتَادَهْ

1218 -

كَانَ رُجُوعُهَا لِأَصْلٍ شَرْعِي

يَقْضِي عَلَيْهَا بِقَضَاءِ الشَّرْعِ

"‌

‌ المسألة الخامسة عشرة

"

1219 -

وَمَا مِنَ الْعَادَاتِ جَارٍ يُعْتَبَرْ

شَرْعًا ضَرُورَةٍ بِحَيْثُ مَا صَدَرْ

1220 -

أَمَّا الذِي قُرِّرَ بِالدَّلِيلِ

شَرْعًا فَظَاهِرٌ عَلَى التَّفْصِيلِ

1221 -

وَغَيْر يَلْزَمُ فِيهِ مَا ذُكِرْ

لِيَسْتَقِيمَ حُكْمُ مَا فِيهِ اعْتَبْر

ص: 29

"‌

‌‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

1222 -

وَخَرْقُ عَادَةٍ عَلَى اسْتِقْرَارِهَا

لَيْسَ مِنَ الْقَادِحِ فِي اعْتِبَارِهَا

1223 -

فَمَا يُرَى مُنْخَرِقًا لِعُذْرِ

فَالْحُكْمُ لِلرُّخْصَةِ فِيهِ يَجْرِي

1224 -

وَمَا يُرَى مُنْخَرِقًا لِعَادَهْ

دَائِمَةً فَالْحُكْمُ كَالْمُعْتَادَهْ

1225 -

أَوْ عَادَةٍ لَا تَخْرِمُ الأُولَى فَذَا

إِلَى التَّرَخُّصَاتِ يُبْدِي مَأْخَذَا

1226 -

أَوْ غَيْرِ مُعْتَادٍ فَهَذَا إِنْ وَقَعْ

يُخَالِفُ الشَّرْعَ فَغَيْرُ مُتَّبَعْ

1227 -

لَكِنَّهُ مَهْمَا أَتَى عَنْ مُعْتَبِرْ

لَمْ يَطَّرِحْ رَأْسًا وَأَمْعِنِ النَّظَرْ

1228 -

فَإِنْ يَكُ الْمَبْنَى لِذَاكَ الآتِي

لَهُ غَرَابَةٌ لَدَى الْعَادَاتِ

1229 -

أُلْحِقَ حُكْمُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ

بِحُكْمِهَا بِمُقْتَضَى التَّأْوِيلِ

1230 -

كَالْمُتَحَرِّي الْصِّدْقَ فِي الإِخْبَارِ

مَعْ ضَرَرٍ وَالأَمْرِ بِالإِفْطَارِ

" فَصْلٌ"

1231 -

وَإِنْ يَكُنْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْعَادَهْ

مِثْلُ الْمُكَاشَفَاتِ بِالشَّهَادَهْ

1232 -

فَظَاهِرٌ رَدُّهُمُ لِلظَّاهِرِ

الْمُقْتَضَى بِالنَّهْيِ وَالأَوَامِرِ

1233 -

وَمَا الْوُصُولُ لِلْمُغَيَّبَاتِ

بِمَانِعِ الْجَرْيِ مَعَ الْعَادَاتِ

1234 -

وَفِي رَسُولِ اللهِ وَهْوَ الْقُدْوَهْ

وَصَحْبِهِ لِلْمُهْتَدِينَ أُسْوَهْ

1235 -

إِذْ لَبِسَ الْمِغْفَرَ لِلتَّوَقِّي

مَعْ كَوْنِهِ الْمَعْصُومَ بَيْنَ الْخَلْقِ

1236 -

وَمُقْتَضَى حُكْمِ قَضِيَّةِ الْخَضِرْ

أَنْ غَيْرُ شَرْعِنَا بِهِ قَدِ اعْتُبِرْ

" فَصْلٌ"

1237 -

فَصحَّ فِي مُغَيَّبٍ إِنِ احْتَمَلْ

وَجْهًا مِنَ الثَّرْعِ فَقَدْ سَاغَ الْعَمَلْ

1238 -

وَمَا يُرَى مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ

بِكُلِّ وَجْهٍ فَحَرٍ بِالْمَنْعِ

ص: 30

"‌

‌ المسألة السادسة عشرة

"

1239 -

عَوَائِدُ الأَنَامِ فِي الْمَعْهُودِ

بِحَسَبِ الْوُقُوعِ فِي الْوُجُودِ

1240 -

ضَرْبَانِ مَا اسْتَمَرَّ فِي الأَنَامِ

وَالدَّهْرِ وَالأَمْصَارِ كَالْقِيَامِ

1241 -

فَذَاكَ مَحْكومٌ بِمَا فِي الْحَالِ

مِنْهُ عَلَى الْمَاضِي وَالاسْتِقْبَالِ

1242 -

ثَانِيهِمَا مَا بِاخْتِلَافٍ يَأتِي

بِحَسَبِ الْجهَاتِ وَالْأَوْقَاتِ

1243 -

كَهَيْئَةِ الْمَلْبُوسِ وَالْمَسْكُونِ

وَمَا كَمِثْلِ شِدَّةٍ أَوْ لِينِ

1244 -

فَذَاكَ لَا يُقْضَى بِهِ لِمَنْ مَضَى

إِلَّا إِذَا الدَّلِيل ذَلِكَ اقْتَضَا

1245 -

كَذَاكَ لَا يُقْضَى بِهِ فِي الْآتِي

وَالْحكْم لِلدَّلِيلِ لَا الْعَادَاتِ

1246 -

وَتَسْتَوِي الْعَوَائِدُ الشَّرْعِيَّهْ

فِي مُقْتَضَى الضَّرْبَيْنِ وَالْعَادِيَّهْ

1247 -

وَرُبَّمَا بَدَا قِسْمُ الْمُشْكِلِ

يَجْذِبُهُ الثَّانِي كَجَذْبِ الأوَّلِ

"‌

‌ المسألة السابعة عشرة

"

1248 -

تَعْظمُ طَاعَةٌ بِعُظْمِ الْمَصْلَحَهْ

وَالْإِثْم بِالْمَفْسَدَةِ الْمُسْتَوْضَحَهْ

1249 -

إِذْ أَعْظَمُ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّهْ

فِي الْحِفْظِ لِلْمَقَاصِدِ الأَصْلِيَّهْ

1250 -

وَأَعْظَمُ الْمَفَاسدِ الْإِخْلَالُ

بِحُكْمِهَا وَالنَّقْصُ وَالإِبْطَالُ

1251 -

لَكِنْ كِلَا الضَّرْبَيْنِ مِنْهُ مَا يُرَى

أَصْلُ صَلَاحٍ أَوْ فَسَادٍ لِلْوَرَى

1252 -

وَمَا بِهِ الْكَمَالُ لِلْفَسَادِ

أَوِ الْكَمَالُ لِلصَّلَاحِ الْبَادِ

1253 -

وَكُلُّهَا مُخْتَلَفُ الْمَرَاتِبِ

فَجَانِبٌ مُطَّرِحٌ لِجَانِبِ

1254 -

فَمَا مِنَ الطَّاعَاتِ فِي الْمَنَافِعْ

مُنْتِجَةٌ كلِّيًّا أَمْرٌ رَاجِعْ

1255 -

إِلَى الضَّرُورِيِّ مِنَ الْمَقَاصِدِ

عُدَّ مِنَ الأرْكَانِ وَالْقَوَاعِدِ

1256 -

وَإِنْ تَكُنْ مُنْتِجَةُ الْجُزْئِيِّ

عُدَّتْ مِنَ التَّقَرُّبِ النَّفْلِيِّ

1257 -

وَجِهَةُ الْعِصْيَانِ فِي الْمَفَاسِدِ

يُنْتِجُ مَا يُخِلُّ بِالْمَقَاصِدِ

ص: 31

1258 -

وَعُدَّ بِالْكُلِّيِّ فِي الْكَبَائِرِ

وَعُدَّ بِالْجُزْئِيِّ فِي الصَّغَائِرِ

"‌

‌ المسألة الثامنة عشرة

"

1259 -

الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَةِ التَّعَبُّدُ

دُونَ الْتِفَاتٍ لِلْمَعَانِي يُقْصَدُ

1260 -

وَالأَصْلُ فِي الْعَادَاتِ أَنْ يُلْتَفَتَا

إِلَى الْمَعَانِي حَيْثُ مَا ذَاكَ أَتَى

1261 -

دَلِيلُهُ مَا جَاءَ فِي الْعِبَادَهْ

مِنْ أَوْجُهِ التَّحْدِيدِ لَا فِي الْعَادَهْ

1262 -

مَعْ أَنَّ الاسْتِقْرَاءَ ذَلِكَ اقْتَضَا

فِي الْجِهَتَيْنِ وَهْوَ أَمْرٌ مُرْتَضَا

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1263 -

فَإِنْ أَتَى فِي الْعَادَةِ التَّعَبُّدُ

فَالنَّصُّ مَتْبُوعٌ بِحَيْثُ يُوجَدُ

1264 -

وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِلْعُقُولِ

فَمَا الْقِيَاسُ فِيهِ بِالْمَقْبُولِ

1265 -

وَعِلَّةُ التَّعَبُّدِ الْمَطْلُوبَهْ

حَاصِلُ الانْقِيَادِ لِلْمَثُوبَهْ

1266 -

وَلِكَثِيرٍ مِنْهُ مَعْنىً بَادِ

لِلْفَهْمِ ضَاهَى مُقْتَضَاهُ الْعَادِي

1267 -

وَذَاكَ ضَبْطُ أَوْجُهِ الْمَصَالِحِ

يُعَدُّ أَصْلًا بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ

1268 -

وَمَا يُرَى بِالانْضِبَاطِ لَا يَفِي

رُدَّ إِلَى أَمَانَةِ الْمُكَلَّفِ

1269 -

وَعَنْهُ قَدْ عُبِّرَ بِالسَّرَائِرْ

إِنْ كَانَ لَمْ يَرْجِعْ لِأصْلٍ ظَاهِرْ

1270 -

مُعَيَّنٍ كَالصَّوْمِ وَالطَّهَارَهْ

فَقَدْ يَظُنُّ الشّرعُ ذَا إِشَارَهْ

1271 -

لَهُ وَذَا الْمَعْنَى لَهُ مُشِيرَهْ

قَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ الشَّهِيرَهْ

1272 -

لَكِنِ إِنْ مَضَى بِهِ أَنْظَارُ

وَكُلُّ مَلْحَظٍ لَهُ اعْتِبَارُ

1273 -

فَنَاظِرٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَشِرَهْ

وُجُوهُهُ فَبِالنُّصُوصِ اعْتَبَرَهْ

1274 -

وَنَاظِرٌ لِكَوْنِهِ مُنْضَبِطَا

لِمُقْتَضَى كُلِّيَّةٍ مُرْتَبِطَا

1275 -

فَيَجْرِي الالْتِفَاتُ لِلْمَعَانِي

فِي شَأْنِه بِحَسَبِ الإِمْكَانِ

1276 -

وَثَالِثٌ لَهُ تَوَسُّطُ النَّظَرْ

فَسَدَّ بِالْحُكَّامِ كُلَّ مَا ظَهَرْ

ص: 32

1277 -

وَرَدَّ مِنْهُ غَيْرِ مَا اسْتُبِينَا

إِلَى أَمَانَاتِ الْمُكَلَّفِينَا

"‌

‌ المسألة التاسعة عشرة

"

1278 -

ثُمَّ الذِي يُعْتَبَرُ التَّعَبُّدُ

فِيهِ فَلَا تَفْرِيعَ فِيهِ يُوجَدُ

1279 -

وَمَا بِهِ الْقَصْدُ إِلَى الْمَعْنَى ظَهَرْ

لَا بُدَّ مِنْ تَعَبُّدٍ أنْ يُعْتَبَرْ

1280 -

وَكُلُّ مَا مَعْنَاهُ لَيْسَ يُعْقَلُ

فَهْوَ التَّعَبُّدُ الذِي يُسْتَعْمَلُ

1281 -

وَحَيْثُ صَحَّ هَذَا الأَصْلُ الْمَرْعِي

إِنِ اعْتَبَرْتَ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِي

1282 -

وَجَدْتَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ اللهِ

مِنِ امْتِثَالِ الأمْرِ وَالنَّوَاهِي

1283 -

وَفِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ إِمَّا عَاجِلَا

فِي هَذِهِ الدَّارِ وَإِمَّا آجِلَا

1284 -

وَالأصْلُ حَقُّ اللهِ فِي الْعِبَادَهْ

وَأَنَّ حَقَّ عَبْدِهِ فِي الْعَادَهْ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1285 -

تَنْقَسِمُ الأفْعَالُ فِي الْحُقُوقِ

بِنِسْبَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ

1286 -

مَا هُوَ حَقُّ اللهِ خَالِصًا يُرَى

مِثْلَ الْعِبَادَاتِ فَذَا فِيهِ انْظُرَا

1287 -

إِنْ طَابَقَ الْفِعْلُ بِهِ الأَمْرَ يَصِحُّ

أَوْ لَا فَبُطْلَانٌ بِذَاكَ يَتَّضِحُ

1288 -

فَإِنْ رَأَيْتَ مَنْ لَهُ قَدْ صَحَّحَا

بَعْدَ الْوُقُوعِ فَلِأَمْرٍ رَجَحَا

1289 -

وَمِثْلُ الْأَمْرِ النَّهْيُ فِي ذَا الشَّانِ

هُمَا مَعًا فِي حُكْمِهِ سِيَّانِ

1290 -

إِمَّا لِأنَّ ذَاكَ غَيْرُ حَتْمِ

أَوْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ فِي الْحُكْمِ

1291 -

أَوْ لِرُجُوعِ جِهَةِ الْمُخَالَفَهْ

لِوَصْفِهِ الْمُنْفَكِّ حِينَ خَالَفَهْ

1292 -

إِمَّا لِعَدِّ الْحُكْمِ فِي الْمُعَلَّلِ

وَهْوَ قَلِيلٌ لَيْسَ مِثْلَ الأوَّلِ

1293 -

وَمَا يُرَى مُشْتَرَكًا وَغَلَبَا

لَدَيْهِ حَقُّ اللهِ لَمَّا وَجَبَا

1294 -

فَإِنَّ هَذَا حُكْمُهُ كَالأَوَّلِ

إِذْ صَارَ حَقُّ الْعَبْدِ غَيْرَ مُعْمَلِ

1295 -

وَغَيْرُ مَا طَابَقَ صُحِّحَ الْعَمَلْ

بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الأوَلْ

1296 -

وَرَابِعٍ شَهَادَةُ الْمُصَحِّحِ

أَنَّ لِحَقِّ الْعَبْدِ تَغْلِيبًا نُحِي

ص: 33

1297 -

وَعَكْسُ ذَا إِنْ طَابَقَ الأَمْرَ فَلَا

إِشْكَالَ فِي الصِّحَّةِ فِيمَا فَعَلَا

1298 -

وَمِثْلُهُ النَّهْيُ وَإِنْ عَكْسٌ صَدَرْ

فَذَاكَ مِمَّا فِيهِ بَحْثٌ وَنَظَرْ

1299 -

فَإِنْ يَكُنْ يَحْصُلُ حَقُّ الْعَبْدِ مَعْ

ذَاكَ وَلَوْ بَعْدَ الْوُقُوعِ إِنْ وَقَعْ

1300 -

عَنْ سَبَبٍ آخَرَ ذِي مُوَافَقَهْ

كَمِثْلِ مَا يَحْصُلُ فِي الْمُطَابَقَهْ

1301 -

صَحَّ وَزَالَ مُقْتَضَى نَهْي وَقَعْ

فِيهِ وَحَيْثُ لَيْسَ يَحْصُلُ امْتَنَعْ

1302 -

كَبَيْعِ مَنْ دُبِّرَ ثمَّ أُعْتِقَا

فَمَالِكٌ فِيهِ الْجَوَازُ أُطْلِقَا

1303 -

وَمَنْ رَأَى بَعْدَ وُقُوعِهِ الْعَمَلْ

صَحَّ فَمِنْ بَعْضِ الثَّلَاثَةِ الأُوَلْ

"‌

‌ المسألة العشرون

"

1304 -

الشَّرْعُ قَدْ بَيَّنَ وَجْهَ الشُّكْرِ

فِي كُلِّ نِعْمَةٍ عَلَيْنَا تَجْرِي

1305 -

وَبَيَّنَ الْوَجْهَ فِي الاسْتِمْتاعِ

بِكلِّ مَا أَسْدَى لِلانْتِفَاعِ

1306 -

وَمُقْتَضَى الْقَصْدَيْنِ لِلشَّرْعِ اتَّضَحْ

وَكَمْ عَلَيْهِ مِنْ دَلِيلٍ قَدْ وَضَحْ

1307 -

وَالشُّكْرُ أَنْ يَكُونَ صَرْفُ النِّعَمِ

فِيمَا بِهِ رِضَا الْكَرِيمِ الْمُنْعِمِ

1308 -

وَذَاكَ الانْصِرَافُ بِالْكُلِّيَّهْ

إِلَيْه بِالإِخْلَاصِ لِلطَّوِيَّهْ

1309 -

وَيَسْتَوِي فِي ذَاكَ مَا لِلْعَادَهْ

مَعَ الذِي رَجَعَ لِلْعِبَادَهْ

1310 -

أَمَّا الْعِبَادَاتُ فَأَمْرُهَا ظَهَرْ

لِأَنَّ حَقَّ اللهِ فِيهَا الْمُعْتَبَرْ

1311 -

كَذَاكَ فِي الْعَادَاتِ حَيْثُ مَا هِي

بِالنَّظَرِ الْكُلِّيِّ حَقُّ اللهِ

1312 -

لِذَاكَ لَا يَجُوزُ لِلْعِبَادِ

تَحْرِيمُ طَيِّبَاتِ رِزْقِ عَادِي

‌الْقِسْم الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ فِي مَا يَرْجِعُ عَلَى مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِ فِي التَّكْلِيفِ وَفِيهِ مَسَائِلُ

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1313 -

وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ

مِنَ الْعِبَادِيَّاتِ وَالعَادَاتِ

ص: 34

1314 -

وَكَمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ دَلِيلِ

آتٍ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ

1315 -

يَكْفِيكَ مِنْهَا الْفَرْقُ فِي الْمَقَاصِدْ

بَيْنَ التَّعَبُّدَاتِ وَالْعَوَائِدْ

1316 -

وَبَيْنَ وَاجِبٍ مِنَ الأَحْكَامِ

أَوْ نَدْبٍ أَوْ مُبَاحٍ أَوْ حَرَامِ

1317 -

وَالْعَمَلُ الْوَاحِدُ بِالْقَصْدِ يُرَى

طَاعَةً أَوْ مُصِيبَةً قَدْ حَظَرَا

1318 -

لِذَلِكَ الأَحْكَامُ لَنْ تُعَلَّقَا

بِغَيْرِ قَاصِدٍ إِلَيْهَا مُطْلَقَا

1319 -

كَمِثْلِ مَجْنُونٍ وَمِثْلِ سَاهِ

وَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ بِالإِكْرَاهِ

1320 -

وَمِثْلُهُ مِمَّا بِهِ الفِعْلُ وَقَعْ

عَلَى خِلَافِ قَصْدِ مَنْ مِنْهُ وَقَعْ

1321 -

إِذْ قَصْدُهُ مُعْتَمَدٌ فِي الظَّاهِرْ

وَرَبُّنَا الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرْ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1322 -

الْقَصْدُ مِنْ مُكَلَّفٍ فِي وَاقِعِ

وفاقُ قَصْدِهِ لِقَصْدِ الشَّارعِ

1323 -

وَذَاكَ لِلدَّلِيلِ لَا يَسْتَدْعِي

لِأَنَّهُ بَادٍ مِنْ أَصْلِ الشَّرْعِ

1324 -

وَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ تَفْصِيلُ

فِي بَابِ الأَسْبَابِ لَهُ تَحْصِيلُ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1325 -

مَنْ كَانَ فِي التَّكْلِيفِ بِالشَّرْعِ سَعَى

لِغَيْرِ مَا مِنْهُ لَدَيْهِ شَرَعَا

1326 -

فَإِنَّهُ مُنَاقِضٌ لِلشَّرْعِ

وَكَمْ دَلِيلٍ مُقْتَضٍ لِلْمَنْعِ

1327 -

وَمُوهِمُ الْجَوَازِ فِي مَوَاقِعِ

شَهَادَةٍ فِيهِ بِقَصْدِ الشَّارْعِ

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1328 -

وَفِعْلٌ أَوْ تَرْكٌ مَعَ الْوِفَاقِ

لِلشَّرْعِ قَصْدًا صَحَّ بِاتِّفَاقِ

1329 -

وَعَكْسُ ذَا مُخَالِفُ الْقَصْدَ أَنْ

يُخَالِفُ الشَّرْعَ بِهِ الْعَكْسُ بِه اقْتَرَنْ

1330 -

فَأَوَّلٌ حَقِيقَةُ الطَّاعَاتِ

وَالثَّانِ أَنْوَاعُ الْمُخَالَفَاتِ

1331 -

وَثَالِثٌ مُوَافِقٌ فِي الْعَمَلِ

وَقَصْدُهُ الْخِلَافُ مِنْهُ مُنْجَلِ

ص: 35

1332 -

فَإِنْ يَكُنْ لَا يَعْلَمُ الْوِفَاقَا

فَإِنَّهُ آثِمٌ اتِّفَاقَا

1333 -

مِنْ حَيْثُ مَا الْخِلَافُ بِالْقَصْدِ حَصَلْ

وَلَيْسَ بِالآثمِ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلْ

1334 -

لِذَاكَ لَا يَلْحَقُهُ مَا لَحِقَا

مَنْ مِنْهُ يَصْدُرُ الْخِلَافُ مُطْلَقَا

1335 -

كَشَارِبِ الْجُلَّابِ أَوْ لِلسُّكَّرِ

مُعْتَقِدًا فِيهِ لِشُرْبِ الْمُسْكِرِ

1336 -

وَإِنْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِالْوِفَاقِ

فَذَا الذِي يُلْحَقُ بِالنِّفَاقِ

1337 -

لِجَعْلِهِ مَقَاصِدَ الشَّرِيعَهْ

لِغَيْرِ مَقْصُودٍ لَهَا ذَرِيعَهْ

1338 -

وَرَابِعٌ مُخَالِفٌ وَالْقَصْدُ

بِحَالَةِ الْوِفَاقِ لَيْسَ يَعْدُو

1339 -

فَإِنْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِالْمُخَالَفَهْ

كَمُنْشِئٍ لِطَاعَةٍ مُسْتَأْنَفَهْ

1340 -

فَذَاكَ مَذْمُومٌ لِلاجْتِنَابِ

بِمُقْتَضَى السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ

1341 -

وَتَحْتَ ذَا يَدْخُلُ الابْتِدَاعُ

وَلَا يُقَالُ إنَّهُ أَنْوَاعُ

1342 -

رَاجِعَةٌ لِمُقْتَضَى الأَحْكَامِ

وَالذَّمِّ لِلْمَكْرُوهِ وَالْحَرَامِ

1343 -

لِأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّ الْبِدْعَهْ

لَيْسَتْ سِوَى مَا الشَّرْعُ يُبْدِي مَنعَهْ

1344 -

وَمَا عَلَى النَّدْبِ أَو الْوُجُوبِ

فَلَيْسَ فِي الْبِدْعَةِ بِالْمَحْسُوبِ

1345 -

وَإِنْ يَكُنْ يَجْهَلُ مَا عَنْهُ صَدَرْ

فَهَاهُنَا وَجْهَانِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرْ

1346 -

فَنَاظِرٌ لِلْقَصْدِ بِالْوِفَاقِ

يُصَحِّحُ الْحُكْمَ عَلَى الإِطْلَاقِ

1347 -

فِي رَاجِعٍ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ

مَعَ التَّلَافِي فِي التَّعَبُّدَاتِ

1348 -

لِأَنَّهُ قَصْدٌ إِلَى الطَّاعَاتِ

وَإنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ

1349 -

وَنَاظِرٌ لِمَا بَدَا فِي الْوَاقِعْ

يَمْنَعُ أَنْ خَالَفَ مَا لِلشَّارعْ

1350 -

وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّحْظَيْنِ

يُعَارِضُ الآخَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ

1351 -

من جِهَةِ الأَصْلِ أَوِ التَّرْجِيحِ

فَاحْتِيجَ لِلْبَحْثِ وَللتَّصْحِيحِ

1352 -

فَكَانَ فَيهِ الْمَيْلُ لِلْجُمْهُورِ

لِمُقْتَضَى التَّوَسُّطِ الْمَأْثُورِ

1353 -

فَأَعْمَلُوا الْوَجْهَيْنِ فِي ذَاكَ مَعَا

لِيَتَلَافُوا حُكْمَ مَا قَدْ وَقَعَا

ص: 36

1354 -

فَعَمِلُوا بِالْقَصْدِ فِي وَجْهِ وَفِي

وَجْه بِمَا لِلْفِعْلِ فِي التَّخَلُّفِ

1355 -

وَالسَّهْوُ بَابُهُ عَلَيْهِ يَجْرِي

كَذَا النِّكَاحُ إِنْ فَسَادٌ يَسْرِي

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

1356 -

جَلْبُ الْمَصَالِحِ وَدَفْعُ الْمَفْسَدَهْ

بِالإذْنِ فِيهِ أَضْرُبٌ مُعَدَّدَهْ

1357 -

فَقَصدُ ذَاكَ دُونَ قَصْدٍ لِلضَّرَرْ

بِغَيْرِهِ يَصِحُّ مَا فِيهِ نَظَرْ

1358 -

وَفَاعِل مَعْ قَصْدِهِ الإضْرَارَ

يَمْنَعُ قَصْدَةُ بِلَا ضِرَارَا

1359 -

وَالْفِعْل هَلْ يَكُونُ مِنْهُ يَمْنعُ

هَذَا مَحَلٌّ لاجْتِهَادٍ يَقَعُ

1360 -

فَحَيْثُ كَانَ دُونَ ضُرٍّ يُمْكِنُ

حُصُولُهُ فَالْمَنْعُ مِنْهُ بَيّنُ

1361 -

وَحَيْثُ لَا مَحِيدَ لَيْسَ يَمْنَعُ

وَقَصْدُ الإِضْرَارِ هُوَ الْمُمْتَنِعُ

1362 -

وَهْوَ عَلَى مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ

فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ حُكْمًا يَأتِي

1363 -

وَإِنْ يَكُنْ لَا يَقْصِدُ الإِضْرَارَا

لَكِنَّهُ يُسْتَصْحَبُ اضْطِرَارَا

1364 -

فَمَا يُرَى بِالْمَنْعِ مِنْهُ الضَّرَرُ

يَلْحَقُهُ بِحَيثُ لَا يَنْجَبِرُ

1365 -

قُدِّمَ حَقُّهُ عَلَى الإِطلَاقِ

وَكَادَ أَنْ يَكُونَ بِاتِّفَاقِ

1366 -

وَإِنْ يَكُنْ مُنْجَبِرًا فَتُعْتَبَرْ

الْجِهَةْ الَّتِي بِهَا عَمَّ الضَّرَرْ

1367 -

وَفِي الذِي فِي فِعْلِهِ إِضْرَارُ

خُصَّ وَفِي الْمَنْعِ لَهُ اسْتِضْرَارُ

1368 -

تَقْدِيمُهُ إِنْ يُعْتَبَرْ لِلْحَظِّ

أَوْ لَا فَفِيهِ غَيْرُ هَذَا اللَّحْظِ

1369 -

وَالتَّرْكُ لِلْحَظِّ لَهُ حَالَانِ

أُولَاهُمَا حَقِيقَةُ الإِيمَانِ

1370 -

وَذَاكَ بِالتَّرْكِ لِلاسْتِبْدَادِ

وَبِالْمُوَاسَاةِ فِي الاعْتِيادِ

1371 -

وَمِنْ هُنَا شَرْعِيَّةُ الزَّكاةِ

وَمَا يُوَالِيهَا مِنَ الصِّلَاتِ

1372 -

ثَانِيَةُ الْحَالَيْنِ فِي الْإيثَارِ

بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ بِالاخْتِيَارِ

1373 -

وَذَاكَ مَعْنَى الْجُودِ وَالتَّوَكُّلِ

وَانْظُرْ لِمَا قَدْ جَاءَ فِيهِ عَنْ عَلِي

1374 -

بَلْ لِلَّذِي جَاءَ عَنِ الرَّسُولِ

فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ

ص: 37

1375 -

وَكُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ اسْتِضْرَارُ

فِي الْمَنْعِ وَالْغَيْرُ لَهَ إِضْرَارُ

1376 -

فَإِنْ يَكُنْ يَحْصُلُ قَطْعًا عَادَهْ

فَإنَّهُ يُمْنَعُ مَا أَرَادَهْ

1377 -

كَحَفْرِ بِئْرٍ خَلْفَ بَابِ الدَّارِ

وَرُبَّمَا ضُمِّنَ فِي الإِضْرَارِ

1378 -

وَالأَصْلُ فِي مَسْأَلَةِ الذَّكَاةِ

بِمُدْيَةِ الْغَصْبِ عَلَيْهِ يَاتِي

1379 -

فَإِنْ يَكُ الإِضْرَارُ فِيهِ يَنْدُرُ

فَإِنَّ حَقَّهُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ

1380 -

لِأنَّ فِي التَّحْصِيلِ لِلْمَنَافِعِ

إِنْ غَلَبَتْ هُوَ اعْتِبَارُ الشَّارعِ

1381 -

وَإِنْ يَكُ الإِضْرَارُ ظَنًّا يَحْصُلُ

وَغَالبًا فَالْحَظُّ فِيهِ مُعْمَلُ

1382 -

لَكِنَّ الارْجَحَ اعْتِبَارُ الظَّنِّ

إِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الأُمُورِ يُغْنِي

1383 -

مَعْ أَنَّ بَابَ السَّدِّ لِلذَّرَائِعِ

يَدْخُلُ فِي ذَا الْقِسْمِ فِي مَوَاضِعِ

1384 -

وَإِنْ يَكُنْ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا

بِنَادِرٍ فَالْخُلْفُ هَاهُنَا انْجَلَا

1385 -

لِلأَخْذِ بِإلإِذْن يَمِيلُ الشَّافِعِي

وَمَالِكٌ لِلسَّدِّ لِلذَّرَائِعِ

1386 -

وَالنَّهْيُ عَنْهُ جَاءَ فِي مَسَالِكِ

مِمَّا بِهِ يَعْضُدُ قَوْلَ مَالِكِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ

"

1387 -

كُلُّ مُكَلَّفٍ وَمَا مِنْ مَانِعْ

بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْمَنَافِعْ

1388 -

لَيْسَ عَلَى الْغَيْرِ بِهَا قِيَامُ

لَكِنْ إِنْ اضْطُرَّ فَذَا إِلْزَامُ

1389 -

وَمِنْ هُنَا شَرْعِيَّةُ الإِقْرَاضِ

وَمَا بِمَعْنَاهُ مِنَ الأَغْرَاضِ

"‌

‌ الْمَسْألةُ السَّابِعَةُ

"

1390 -

وَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ فِي الْعِبَادِ

صَلَاحُ غَيْرِهِ فِي الاعْتِيَادِ

1391 -

إِنْ كانَ قَادِرًا بِلَا مَشَقَّهْ

عَلَى قِيَامِهِ بِمَا اسْتَحَقَّهْ

1392 -

فَمَا عَلَى سِوَاهُ مِنْ قِيَامِ

بِمَا يَخُصُّهُ عَلَى الدَّوَامِ

1393 -

وَغَيْرُ قَادِرٍ وَمَنْ قَدْ يَقْدِرُ

لَاكِنْ عَلَى مَشَقَّةٍ تُعْتَبَرُ

ص: 38

1394 -

إِنْ كَانَ مَا لِلْغَيْرِ لَا يَعُمُّ

فَمَا يَخُصُّهُ هُوَ الأهَمُّ

1395 -

وَإِنْ يَكُنْ مَا لِسِوَاهُ عَمَّا

فَلَا سُقُوطَ عِنْد ذَاكَ ثَمَّا

1396 -

لَاكِنْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا بِالذِي

يُصْلِحُهُ عَلَى أَتَمِّ مَأْخَذِ

1397 -

بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُهُمْ إِضْرَارُ

بِهِ وَلَا يَطْرُقُهُ اسْتِضْرَارُ

1398 -

مِنْ مِنَّةٍ يُدْرِكُهُ أَذَاهَا

أَوْ تُهْمَةٍ مَنْصِبُهُ يَأْبَاهَا

1399 -

وَمِنْ هُنَا يُمْنَعُ لِلْحُكَّامِ

أَخْذَ هَدِيَّاتِ أُولِي الْخِصَامِ

1400 -

وَبَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يَرْفَعُ

كَالْوَقْفِ مَا يُبْدِي أَذىً وَيَدْفَعُ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1401 -

وَكُلُّ ذَا حَيْثُ يَكُونُ الضَّرَرُ

دُنْيَا وَمَا عَنْهُ سِوَاهُ يَقْصُرُ

1402 -

وَإِنْ يَكنْ سِوَاهُ لَا يَقُومُ

بِهِ فَفِيهِ خُلْفُهُمْ مَعْلُومُ

1403 -

وَأَصْلُهُ مَسْأَلَةُ التَّتَرُّسِ

بِوَاحِدٍ لِجُمْلَةٍ مِنْ أَنْفُسِ

1404 -

وَأَصْلُ مَا لَيْسَ يُطَاقُ يَشْهَدُ

أَنْ لَيْسَ تَكْلِيفٌ عَلَيْهِ يَرِدُ

1405 -

وَالأَصْلُ فِي تَقْدِيمِ مَا قَدْ عَمَّا

مَصْلَحَةً يُلْزِمُ ذَاكَ الْحُكْمَا

1406 -

وَحَيْثُ إِسْقَاطُ الْحُظُوظِ رَجَحُ

مَصْلَحَةُ الْعُمُومُ وَهْيَ تُوضَحُ

1407 -

بِأَصْلِ الْإِيثَارِ الذِي تَقَدَّمَا

وَمَا أَتَى فِي ذَاكَ نَصًّا مُحْكَمَا

1408 -

وَحَيْثُ مَا تَكُونُ تِلْكَ الْمَفْسَدَهْ

مِنْ جِهَةِ الأُخْرَى لَهُ مُعْتَمَدَهْ

1409 -

فَكُلُّ مَا لُزُومُهُ عَيْنِيُّ

يَحْدُثُ فِيهِ خَلَل قَطْعِيُّ

1410 -

بِمُقْتَضَى قِيَامِهِ بِالْمَصْلَحَهْ

فَهَاهُنَا التَّرْكُ لَهُ مَا أَوْضَحَهْ

1411 -

إِذْ مَرَّ فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّهْ

أَنَّ لَهَا التَّقْدِيمُ بِالْكُلِّيَّهْ

1412 -

فَإِنْ يَكُنْ يُخِلُّ بِالْكَمَالِ

فَذَاكَ مَغْفُورٌ بِكُلِّ حَالِ

1413 -

مِنْ حَيْث إِنَّ جَانِبَ الْمَنْدُوبِ

غَيْرُ مُعَارِضٍ لِذِي الْوجُوبِ

1414 -

وَحَيْثُ مَا الدُّخُولُ لَمْ يُبْدِ الْخَلَلْ

عَنْهُ وَلَا النَّقْصُ بِهِ أَيْضًا حَصَلْ

ص: 39

1415 -

لَكِنَّهُ شَيْءٌ لَهُ تَوَقُّعُ

فَإِنَّهُ لِلاجْتِهَادِ مَوْضُعُ

1416 -

وَقَدْ يَكُونُ جَانِبُ الْعُمُومِ

أوْلَى مِنَ الْخُصُوصِ بِالتَّقْدِيمِ

1417 -

وَمِثْلُ ذَا ضَابِطُهُ وِزَانُ

مَصْلَحَةٍ لِعَكْسِهَا اقْتِرَانُ

1418 -

فَمَا لَهُ التَّرْجِيحُ يَبْدُو غَلَبَا

وَفِي التَّسَاوِي الْخُلْف مِمَّا رُتِّبَا

1419 -

عَلَى انْخِرَامٍ بَثَّ فِي الْمُنَاسَبَهْ

مَفْسَدَةً مِثْلِيَّةً أَوْ غَالِبَهْ

"‌

‌ فَصْل

"

1420 -

وَقَدْ تُرَى الْمَفْسَدَةُ الْمُسْتَوْضَحَهْ

تُلْغَى لِعُظْمِ مَا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَهْ

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

1421 -

ثُمَّ التَّكَالِيفُ بِحَيْثُ مَا عُلِمْ

قَصْدُ الْمَصَالِحِ لَدَيْهَا وَفُهِمْ

1422 -

فَلِلْمُكَلَّفِينَ فِي الدُّخُولِ

فِي ذَاكَ أَحْوَالٌ عَلَى التَّفْصِيلِ

1423 -

فَدَاخِلٌ يَقْصِدُ فِي الْقَضِيَّهْ

مَفْهُومَ قَصْدِ الشَّرْعِ بِالشَّرْعِيَّهْ

1424 -

فَذَاكَ وَاضِحٌ وَلَكِنْ يَنْبَغِي

قَصْدُ التَّعَبُّدَاتِ فِيمَا يَبْتَغِي

1425 -

وَدَاخِلٌ لِمَقْصِدٍ مُتَابِعْ

لِمَا عَسَى أَنْ هُوَ قَصْدُ الشَّارعْ

1426 -

مُطَّلِعًا عَلَيْهِ أَوْلَمْ يَطَّلِعْ

وَذَا عَنِ الأَوَّلِ شَيْئًا اِرْتَفعْ

1427 -

وَدَاخِلٌ بِقَصْدِ الامْتِثَالِ

مُجَرَّدًا مِنْ كُلّ قَصْدٍ تَالِ

1428 -

مَعْ فَهْمِهِ فِي ذَاكَ قَصْدَ الْمَصْلَحَهْ

أَوْ دُونَهُ فَحَالُهُ مُسْتَوْضَحَهْ

1429 -

فِي كَوْنِهِ أَكْمَلَ مِمَّا قَدْ مَضَا

وَأَنَّهَا أَسْلَمُ فِيمَا يُقْتَضَى

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

1430 -

وَلَيْسَ لِلْمُكَلَّفِينَ الْخِيَرَهْ

فِيمَا يُرَى لِلَّهِ حَقًّا أَظْهَرَهْ

1431 -

وَهْيَ لَهُمْ مَوْجُودَةٌ فِيمَا بَدَا

حَقًّا لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ مُجَرَّدَا

1432 -

وَذَاكَ كُلُّهُ بِالاسْتِقْرَاءِ فِي

مَوَارِدِ الشَّرْعِ بِلَا تَخَلُّفِ

ص: 40

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

1433 -

وَقَصْدُ قَلْبِ الْحُكْمِ أَوْ رَفْعِ الْعَمَلْ

بِسَبَبٍ يُنْحَى يُسَمَّى بِالْحِيَلْ

1434 -

وَمُقْتَضَاهَا فِعْلُ شَيْءٍ اعْتُمِدْ

فِي ظَاهِرٍ وَاللَّغْوُ بَاطِنًا قُصِدْ

1435 -

كَمُنْشِئٍ فِي رَمَضَانَ السَّفَرَا

بِقَصْدِ أَنْ يَقْصُرَ أَوْ أَنْ يُفْطِرَا

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

1436 -

لَيْسَ التَّحَيُّلُ مِنَ الْمَشْرُوعِ

فِي الدِّينِ بَلْ ذَاكَ مِنَ الْمَمْنُوعِ

1437 -

دَلِيلُهُ الذَّمُّ عَلَى الإِطْلَاقِ

لِفَاعِلِي الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ

1438 -

وَمَا أَتَى فِي شَأْن أَهْلِ السَّبْتِ

وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمُ مِنْ مَقْتِ

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

1439 -

قَدْ صَحَّ أَنَّ الشَّرْعَ لِلأحْكَامِ

فِي ضِمْنِهِ مَصَالِحُ الْأَنَامِ

1440 -

لِذَاكَ كَانَ الْفِعْلُ مَعهَا يُعْتَبَرْ

لِمَا بِهَا مِنْ مَقْصَدِ الشَّرْعِ ظَهَرْ

1441 -

فَحَيْثُ جَاءَ الْفِعْلُ بِالْوِفَاقِ

لِمُقْتَضَى الشَّرْعِ عَلَى الإِطْلَاقِ

1442 -

فَذَاكَ لَا إِشكَالَ فِيهِ وَالذِي

ظَاهِرُهُ مُوَافِقٌ فِي الْمَأْخَذِ

1443 -

وَخَالَفَتْ مَصْلَحَةَ الْحُكْمِ فَذَا

لَيْسَ بِمشْرُوعٍ وَمِمَّا نُبِذَا

1444 -

لأَنَّ الأَعْمَالَ التِي قَدْ شُرِعَتْ

مَصَالِحُ الْخَلْقِ عَلَيْهَا وُضِعَتْ

1445 -

فَكُلُّ مَا خَالَفَ هَذَا الْوَضْعَا

فَلَيْسَ مِمَّا يَسْتَقِرُّ شَرْعَا

1446 -

وَأَصْلُ ذَاكَ الاتِّبَاعُ لِلْهَوَا

فَهْوَ مِنَ الأَمْرِ عَلَى غَيْرِ السَّوَا

1447 -

لِذَلِكَ الْمَقْصِدُ غَيْرُ الشَّرْعِي

يَهْدِمُ مُقْتَضَاهُ قَصْدَ الشَّرْعِ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1448 -

فَالْحِيَلُ التِي مَضَى إِبْطَالُهَا

وَذَمُّهَا وَلَمْ يَجُزْ إِعْمَالُهَا

1449 -

مَا نَاقَضَ الْمَصَالِحُ الشَّرْعِيَّهْ

أَوْ هَدَمَ الْقَوَاعِدَ الدِّينِيَّهْ

ص: 41

1450 -

وَكُلُّ مَا لَيْسَ كَذَاكَ لَا يُرَى

يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ الذِي تَقَرَّرَا

1451 -

وَعِنْدَ ذَا تُوجَدُ أَضْرُبُ الْحِيَلْ

ثَلَاثَةٌ كُلٌّ عَلَيْهِ يُسْتَدَلْ

1452 -

ضَرْبٌ بِهِ الْبُطْلَانُ بِاتِّفَاقِ

كحِيلَةِ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ

1453 -

وَالثَّانِ مَا الْجَوَازُ فِيهِ ءَاتِ

كَحِيلَةِ الْمُكْرَهِ لِلْحَيَاةِ

1454 -

وَفِي كلَا الْقِسْمَيْنِ حُكْمُ الْقَطْعِ قَدْ

وَافَتْ بِهِ النُّصُوصُ فَهْيَ تُعْتَمَدْ

1455 -

وَالثَّالِثُ الْغُمُوضُ فِيِه ثَبَتَا

لِذَلِكَ الْخِلَافُ فِيهِ قَدْ أَتَا

1456 -

إِذْ لَيْسَ فِيهِ قَاطِعٌ بُرْهَانِي

يُلْحِقُهُ بِأَوَّلٍ أَوْ ثَانِي

1457 -

فَصَارَ كُلٌّ يَتْبَعُ اجْتِهَادَهْ

فمَرْجِعُ الْخُلْفِ إِلَى الشَّهَادَهْ

1458 -

وَلَا يُقَالُ إِنَّ مَنْ أَجَازَا

خِلَافَ قَصْدِ الشَّارعِ اسْتَجَازَا

1459 -

فَمِثْلُ ذَا مَمْنُوعٌ أَنْ يُعْتَقَدَا

فِي عُلَمَاءِ الدِّينِ أَعْلَامِ الْهُدَا

1460 -

وَعُدَّ مِنْ مَسَائِلِ التَّحَيُّلِ

إِجَازَةُ النِّكَاحِ لِلْمُحَلِّلِ

1461 -

وَكَمْ بِهَذا الْقِسْمِ مِنْ مَسَائِلْ

وَالْخُلْفُ فِيهَا وَاضِحُ الدَّلَائِلْ

"‌

‌ فَصْل

"

1462 -

إِنْ قِيلَ إِنَّ الْحُكْمَ فِي مَوَاضِعْ

يُبْنَى عَلَى الْعِلْمِ بقَصْدِ الشَّارعْ

1463 -

فَمَا الذِي لِعِلْمِ ذَاكَ يُوصِلُ

قُلْتُ لَهُ قَاعِدَة تُفَصَّلُ

1464 -

وَذَاكَ أن الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا

هُنَا عَلى مَذَاهِبٍ سَتُوصَفُ

1465 -

طَائِفَة مَالُوا مَعَ الظَّوَاهِرِ

وَوَقَفُوا مَعْ كُلِّ لَفْظٍ صَادِرْ

1466 -

وَرَدُّ الالْتِفَاتِ لِلْمَعَانِي

فِي مُقْتَضَى السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ

1467 -

وَهُمْ أُولُو الظَّاهِرِ فَالْقِيَاسُ

مُرَتَّبٌ لَهُمْ عَلَيْهِ الْبَاسُ

1468 -

فَمَقْصِدُ الشَّارعِ عِنْدَ هَؤُلَا

فِيمَا مِنَ اللَّفْظِ الصَّرِيحِ يُجْتَلَا

1469 -

وَفِرْقَة مَالُوا إِلَى الْمَعَانِي

تَتَبُّعًا لِكُلِّ شَانٍ شَانِ

1470 -

فَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ بِالظَّاهِرْ

وَالنَّصُّ مَعْ مَعْنىً لَهُ مُنَافِرْ

ص: 42

1471 -

وَهُمْ أُولُو الرَّأْى فَفِي الْقِيَاسِ

تَعَمَّقُوا مِنْ دُونِ جُلِّ النَّاسِ

1472 -

فَمَقْصِدُ الشَّارعَ عِنْدَهُمْ يُرَى

فِيمَا مِنَ الْمَعْنَى لَهُمْ تَصَوَّرَا

1473 -

وَجُلُّهُمْ مَالُوا إِلَى التَّوَسُّطِ

عَنْ حَالَتَيْ مُفْرطٍ أَوْ مُفَرِّطِ

1474 -

فَاعْتَبِرُوا فِي ذَلِكَ الأمْرَيْنِ

وَأَعْمِلُوا فِيهِ كِلَا الْوَجْهَيْنِ

1475 -

جَارِينَ فِي الأَمْرِ عَلَى نِظَامِ

بِهِ يُرَى الْمَشْرُوعُ ذَا الْتِئَامِ

1476 -

بِحَيْثُ لَا يُخِلُّ بِالْمَعَانِي

نَصٌّ وَلَا الْعَكْسُ بِذِي اقْتِرَانِ

1477 -

وَذَا الذِي قَدْ أَمَّهُ الأئِمَّهْ

وَأَوْضَحُوا سَبِيلَهُ لِلْأمَّهْ

1478 -

وَأَنَّهُ الذِي عَلَيْهِ الْمُعْتَمَدْ

فِيمَا يُرَى الْعِلْمُ بِمَ الشَّرْعُ قَصَدْ

1479 -

وَقَصْدُهُ يُعرَفُ مِنْ مَسَالِك

أَعْلَامُهَا وَاضِحَة لِلسَّالِكْ

1480 -

أوَّلُهَا مُجَرَّدُ الْأَوَامِر

أَوْ النَّوَاهِي بِابْتِدَاءٍ ظَاهِرْ

1481 -

وَمَعَ تَصْرِيحٍ بِذَاكَ مُغْنِ

وَتَحَرُّزٍ مِنْ تَابِعٍ وَضِمْنِي

1482 -

وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي اعْتِبَارُ الْعِلَلِ

فِي الأمْرِ وَالنَّهْيِ بِحَيْثُ يَنْجَلِي

1483 -

فَإِنْ تَكُ الْعِلَّةُ مِمَّا عُلِمَا

بِمَا لَدَى عِلْمِ الأُصُولِ يُمِّمَا

1484 -

اتُّبِعَتْ فَحَيْثُ مَا قَدْ وُجِدَتْ

فَمُقْتَضَى الأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ ثَبَتْ

1485 -

وَحَيْثُمَا تَعَيَّنَتْ فَيُعْلَمُ

بِأَنَّ قَصْدَ الشَّرْعِ فِيمَا تُفْهَمُ

1486 -

مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَسَبُّبٍ مُطَّلَبِ

أَوْ عَدَمِ الْفِعْلِ أَوِ التَّسَبُّبِ

1487 -

وَإِنْ تَكُ الْعِلَّةُ لَمْ تُعْلَمْ فَفِي

ذَا الْحَالِ لَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ

1488 -

عَنْ أَنْ نَقُولَ إِنَّ قَصْدَ الشَّارعْ

فِيهِ كَذَا بِلَا دَلِيلٍ قَاطِعْ

1489 -

إمَّا بِتَرْكِ الْجَزْمِ فِي التَّعَدِّي

بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ قَصْدِ

1490 -

إِمَّا مَعَ الْجَزْمِ بِهِ وَالْقَطْعِ

بِأنَّهُ لَيْسَ مُرَادَ الشَّرْعِ

1491 -

وَحَيْثُمَا تَعَارَضَا لِلْمُجْتَهِدْ

مِثْلُ الدَّلِيلَيْنِ التَّوَقُّفُ اعْتُمِدْ

1492 -

وَمَعَ ذَا فَالْفَرْقُ شرْعًا ءَاتِ

بَيْنَ التَّعَبُّدَاتِ وَالْعَادَاتِ

ص: 43

1493 -

لِأَنَّهُ غَلَّبَ فِي الْعِبَادَهْ

تَعَبُّدًا وَعَكْسُهُ فِي الْعَادَهْ

1494 -

لِذَاكَ مَالِكٌ لَهُ تَوَسُّعٌ

فِيمَا إِلَى الْعَادَاتِ حُكْمًا يَرْجِعُ

1495 -

فَأَصْل الاسْتِحْسَانِ فِيهَا أَعْمَلَهْ

مِثْلَ الْمَصَالِحِ وَأَعْنِي الْمُرْسَلَهْ

1496 -

وَذَا بِعَكْسِ مَا لَهُ مَعْهُودُ

فِيمَا بِهِ تَعَبُّدٌ مَوْجُودُ

1497 -

وَمَلْحَظُ النَّفْيِ لَدَى الْعِبَادَهْ

أَمْكَنُ وَالآخِرُ حَيْثُ الْعَادَهْ

1498 -

وَالْمَيْلُ لِلْمَعْنَى بِمَا التَّعَبُّدُ

مِنْ شَأْنِهِ لِلْحَنَفِيِّ يُسْنَدُ

1499 -

وَالظَّاهِرِيُّ مَيْلُهُ بِالْعَادِي

فِي كُلِّ حَالَةٍ إِلَى الْعِبَادِي

1500 -

وَالنَّفْيُ الأصْلِيُّ وَالاسْتِصْحَابُ

مِنْ هَاهُنَا لِأَصْلِهِ اسْتِجْلَابُ

1501 -

وَالْمَسْلَكُ الثَّالِثُ مِنْ تَنْوِيعِ

مَقَاصِدِ الشَّارعِ فِي التَّشْرِيعِ

1502 -

فَالشَّرْعُ ذُو مَقَاصِدٍ أَصْلِيَّهْ

فِي مُقْتَضَى الْحُكْمِ وَتَابِعِيَّهْ

1503 -

وَفِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الْعَادَاتِ

تَثْبُتُ بِالأَخْبَارِ وَالآيَاتِ

1504 -

فَتَابِعِيٌّ نَصَّ أَوْ أُشِيرَا

إِلَيْهِ أَوْ عَنْ ذَلِكَ اسْتُثِيرَا

1505 -

فَإِنَّهُ مُثَبِّتُ الأَصْلِيَّهْ

مُؤَكِّه حِكْمَتُهَا الْحُكْمِيَّهْ

1506 -

وَمَا كَذَاكَ شَأْنُهُ وَلَمْ يَرِدْ

نَصٌّ بِهِ فَإِنَّهُ شَرْعًا قُصِدْ

1507 -

وَمَا يُرَى يُخَالِفُ الْجَمِيعَا

عَيْنًا فَلَيْسَ مَقْصَدًا مَشْرُوعَا

1508 -

وَغَيْرُ عَيْنٍ فِيهِ خُلْفٌ قَدْ ظَهَرْ

كَالْعَقْدِ لِلتَّحْلِيلِ أَوْ قَصْدِ الضَّرَرْ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1509 -

وَتَقْتَضِي الْمَقَاصِدَ الْفَرْعِيَّهْ

مِنَ التَّكَالِيفِ التَّعَبُّدِيَّهْ

1510 -

بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إِذْنُ الشَّرْعِ

يُوذِنُ بِاقْتِضَائِهَا لِلنَّفْعِ

1511 -

وَلَيْسَ مِنْهُ الْقَصْدُ لِلتَّعَبُّدِ

بِقَصْدِ أَخْذِ النَّفْسِ بِالتَّجَرُّدِ

1512 -

لِكَيْ يُرَى خَوَارِقُ الْعَادَاتِ

وَأَنْ يُشَاهِدَ الْمُغَيَّبَاتِ

1513 -

فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ

إِذْنٌ بِهِ فَهْوَ حَرٍ بِالْمَنْعِ

ص: 44

1514 -

وَلَيْسَ مِمَّا فِيهِ مَطْلُوبُ النَّظَرْ

فِيمَا مِنَ الْمَصْنُوعِ فِيهِ مُعْتَبَرْ

1515 -

فَمَا بَدَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَهْ

كَافٍ فَلَا يَحْتَاجُ لِلزِّيَادَهْ

1516 -

فَإنْ يَكُنْ يُطْلَبُ ذَاكَ بِالدُّعَا

فَجَائِزٌ لمَنْ إِلَيْهِ قَدْ سَعَا

1517 -

وَالرَّابعُ السُّكُوتُ عَنْ شَرْعِ الْعَمَلْ

أَوْ شَرْعِ تَسْبِيبٍ بِهِ الْحُكْمُ حَصَلْ

1518 -

إِمَّا لِأَنْ لَا شَيْءَ يَقْتَضِيهِ

وَلَا لَهُ دَاعٍ فَيَسْتَدْعِيهِ

1519 -

وَتَحْتَ هَذَا تَدْخُلُ النَّوَازِلُ

بَعْدَ الرَّسُولِ وَهْوَ قِسْمٌ شَامِلُ

1520 -

لِكُلِّ مَا أَجْمَعَ بَعْدَهُ السَّلَفْ

عَلَيْهِ أَوْ أَجْمَعَ بَعْدَهُ الْخَلَفْ

1521 -

كَالْكَتْبِ لِلْعِلْمِ وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ

وَمَا يَرَى سَبِيلَ ذَاكَ يَقْتَفِي

1522 -

فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِي قَبُولهِ

إِذْ فَرْعُهُ جَارٍ عَلَى أُصُولهِ

1523 -

وَالْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ فِيهِ عُرِفَا

بِمَا مِنَ الْجِهَاتِ قَبْلُ وُصِفَا

1524 -

وَإِنْ يَكُنْ سُكُوتُهُ عَنْ ذَلِكَا

وَمُقْتَضِيهِ قَائِمٌ هُنَالِكَا

1525 -

وَلَمْ يُقَرَّرْ فِيهِ حُكْمٌ زَائِدُ

عَلَى الذِي كَانَ بِهِ يُعَاوِدُ

1526 -

فَذَا سُكُوتُ الشَّرْعِ كَالنَّصِّ عَلَا

أَنْ قَصْدَهُ فِي الأمْرِ أَنْ لَنْ يُبْدَلَا

1527 -

لَا بِزِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانِ

وَذَاكَ أَمْرٌ وَاضِحُ الْبُرْهَانِ

1528 -

مِثْلُ سُجُودِ الشُّكْرِ عِنْدَ مَالِكْ

لَوْ كَانَ لَمْ تُلْفِ لَهُ مِنْ تَارِكْ

1529 -

وَمِثْلُهُ تَوَفُّرُ الدَّوَاعِي

عَلَيْهِ مِنْ نَاقِلٍ أَوْ مِنْ وَاعِ

1530 -

وَأَنَّهُ أَصْل مُفِيدٌ فِي النَّظَرْ

عَلَيْهِ إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ فِي الْحَضَرْ

1531 -

وَبَعْضُهُمْ رَدَّ عَلَى التَّفْصِيلِ

لِمُقْتَضَاهُ الْعَقْدَ لِلتَّحْلِيلِ

ص: 45

‌كتاب المقاصد

749 -

وَهْيَ عَلَى قِسْمَيْنِ فِي التَّعَرُّفِ

مِنْ جِهَةِ الشَّارعِ وَالْمُكَلَّفِ

" كتاب المقاصد"

المقاصد التي ينظر فيها - هنا - قسمان: أحدهما: يرجع إلى قصد الشارع.

ثانيهما: يرجع إلى قصد المكلف.

قال الناظم "وهي" أي المقاصد المعينة هنا "على قسمين في التعرف" أي في حالة كونها قام بها ما به تعرف وتميز أحد هذين القسمين ما كان "من جهة الشارع و" ثانيهما ما كان من جهة "المكلف" فمقاصد الشارع من وضع الأحكام تدرس وتبحث للحكم بها، ومعرفتها، لحاجة الفقيه، وطالب العلم الشرعي إلى ذلك، لما يثمره من فوائد علمية مهمة وضرورية في استثمار النظر في المسائل الفقهية، وهي فوائد جمة:

أحدهما: العلم بأن محل الضرورة يلغى فيه العمل بالعزائم.

ثانيهما: الترجيح بالمصلحة - لرفع المنع - وبالمفسدة - لرفع الطلب - في المواطن التي اتضح من حالها جريان ذلك فيها.

الثالثة: مد النظر إلى مواطن فقه المعاملات التي لم تعرض على المقاصد الشرعية، ولا على العلل التي اعتبرت في مواطن أخرى علل تحريم.

الرابعة: الاستهداء والاستبصار بالمقصد الشرعي في موطن النظر فإن الموطن إذا عرف مقصد الشارع مما شرعه فيه من الأحكام تيسرت فيه معرفة وجهة الحركة العلمية، لأن الغاية من ذلك معلومة، والمطلوب بعد ثبوت العلم بها السعي إلى إيجادها.

الخامسة: توسيع الفهم والعلم بالموضوع المدروس نصا كان أو غيره بذكر أسرار الحكم الشرعية فيه، وعدم الاقتصار على أخذ الدليل الشرعي على الحكم منه - نصا - أو عليه، إن كان محكوما فيه، أو عليه.

ص: 47

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وذلك كحكمة منع الجمع بين السلف والبيع - مثلا - من غير اقتصار على ذكر الدليل النصي المانع من ذلك.

السادسة: استحضار القواعد الموضوعة في هذا العلم - علم المقاصد - لبناء ما يطلب بناؤه عليها من أحكام.

كقاعدة: أن المكمل - بالكسر - إذا عاد على ما يكمله بالنقص ألغي اعتباره.

وقاعدة: الفرق في النظر بين الجزئي والكلي في الأحكام.

وقاعدة: جريان العزائم مع مجاري العوائد بخلاف الرخص.

وقاعدة: ما به تميز المقاصد الشرعية المختلفة من صفات، وأحكام.

السابعة: التثبت في الأسباب وطلب ما به تحقيق المسببات منها على الوجه الأرجح.

وذلك أن استحضار المقصد يبصر بذلك. وغير ذلك من الفوائد المأخوذة من العلم بهذه المقاصد، والوعي بها.

وأما مقاصد المكلف، فإنها ينظر في شأنها لما ينبني عليها من الأحكام الشرعية والنظر فيها من جهات: أحدها: جهة موافقة قصد المكلف لقصد الشارع في موطن العمل. وما ينبني عليه من حكم.

ثانيها: جهة مخالفته له وما يترتب عن ذلك.

ثالثها: انتفاء القصد منه - أي من المكلف - مطلقا بحيث لا يقصد للمخالفة لقصد الشارع، ولا للموافقة له وحكم ذلك.

رابعها: بيان ما يجب القصد إليه في كسب الأجر والثواب في مواطن الأحكام.

خامسها: بيان ما يجب اتقاؤه من المقاصد في العبادات والمعاملات.

سادسها: تعارض القصد والموجب الشرعي - كالسبب - وبيان ما يقتضي به في ذلك، وما يرجح أمره من الطرفين المتعارضين، وغير ذلك مما يعلم بدراسة هذا العلم، ومعرفة مسائله. هذا بإيجاز بعض فوائد دراسة المقاصد الشرعية ومقاصد المكلف.

ص: 48

750 -

وَلْنَضَعِ الْآنَ لَهَا مُقَدِّمَةْ

مِنَ الْكَلَامِ تُقْتَفَى مُسَلَّمَةْ

751 -

قَدْ صحَّ وَضْعُ الشَّرْعِ لِلْمَصَالِحِ

دِينًا وَدُنْيَا بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ

752 -

مِمَّا أَتَى فِي مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ

بِحَسَبِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ

753 -

وَذَاكَ مِنْهُ عَلَى الْعِبَادِ

مَقْرُونَةٌ بِنِعْمَةِ لْإِيجَادِ

" ولنضع الآن لها" أي لهذه المصالح يعني لذكرها والحديث عنها "مقدمة" تتخذ تمهيدا وتوطئة لما سيأتي، وهي مقدمة "من" علم "الكلام" علم العقائد، وإنما كانت من هذا العلم لأن موضوعها أمر متعلق بالذات الإلهية، وهو وصفه - سبحانه - بأنه قاصد، وهذا أمر عقدي، كما لا يخفى؛ وهذه المقدمة "تقتفى" تتبع، وبذلك فهي مقدمة "مسلمة" في هذا الموضع، وهي أنه "قد صح" وثبت "وضع الشرع" بكل ما فيه من جزئيات تعبدية أو غيرها "للمصالح" أي مصالح العباد التي تحصل لهم "دينا" أي بالدين، وهي الأجر والثواب والنجاة من النار في الآخرة والتي تحصل في هذه الـ "دنيا" من حفظ النفوس والأعراض والأموال والعقول، والسعادة والمحبة بين الخلق ودفع العداوة والبغضاء والشنئان، "بالدليل الواضح" البين المعتمد، وهو مأخوذ "مما أتى" من النصوص الشرعية الواردة "في معرض" - بكسر الميم وفتحها - أي محل عرض، "التعليل" بيان العلة والموجب، لإرسال الرسل، وإنزال الشريعة، وذلك يكون "بحسب الجملة"كما في قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107] وقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] وقوله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وغير ذلك من النصوص الشرعية الواردة في هذا الشأن "و" بحسب "التفصيل" كما في تعاليل الأحكام الجزئية، كما في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183 - 184] وقوله تعالى عز وجل: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وغير ذلك من النصوص الشرعية المتضمنة لهذا الأمر.

"وذاك" كله "منة" منه تعالى "على العباد" ورحمة بهم إذ شرع لهم ما به صلاحهم في الدارين، وهي منة "مقرونة بنعمة" أخرى عظيمة وهي نعمة "الإيجاد" والإخراج من العدم إلى الوجود.

ص: 49

754 -

وَهْوَ مِنِ اِسْتِقْرَار فِي الشَّرْعِ

بِحَيْثُ أَنْ يَبْلُغَ حُكْمَ الْقَطْعِ

" و" هذا الذي ذكر من أن الأحكام الشرعية وضعت لمصالح الخلق "هو" أمر أخذ "من استقرار" وتتبع "في"أحكام "الشرع" من الكتاب والسنة "بحيث" صح فيه "أن يبلغ حكم القطع" الذي لا مراء فيه ولا شك معه.

ص: 50

‌الْقِسْمُ الأَوَّلُ فِي الْمَقَاصِدِ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ

755 -

وَقَصْدُهُ فِي الْوَضْعِ لِلْمَشْرُوعِ

مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ التَّنْوِيعِ

756 -

لِلْبَدْءِ وَالْإِفْهَامِ وَالتَّكْلِيفِ

وَلِلدُّخُولِ بَعْدُ فِي التَّكْلِيفِ

‌النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ في وَضْعِ الشَّرِيعَةِ ابْتِدَاءً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

" الْمَسْأَلَةُ الْأُوْلَى"

757 -

وَمَرْجِعُ التَّكَالِفِ الشَّرْعِيَّةْ

لِلْحِفْظُ لِلْمَقَاصِدِ الْكُلِّيَّةْ

القسم الأول في المقاصد التي من جهة الشارع

قال الناظم: "وقصده" أي الشارع "في الوضع للمشروع" أي الشريعة، وهو القسم الأول "معتبر" أي منظور فيه ليس من جهة واحدة، وإنما هو من جهات متصفة بـ "التنويع"، فإنه يعتبر وينظر فيه من جهة قصده من وضعها - أي الشريعة - "للبدء" أي ابتداء، وهو إصلاح أحوال العباد في الدارين. وهذا هو القصد الأول "و" الجهة الثانية قصده "الأفهام" أي إفهامها - أي الشريعة - للعباد "و" الجهة الثالثة قصده "التكليف" بمقتضاها وما جاء فيها من أوامر، ونواه وهذا يدل على أنها لا تدخل ما لا قدرة للعبد عليه، ولا ما هو جبلي كما سيأتي بيانه "و" الجهة الرابعة قصده "للدخول" أي دخول المكلف "بعد" أي بعد هذه القصود السابقة "في" العمل "التكليف" بها والامتثال لما جاء فيها من الأوامر والنواهي، وبيان هذا كله سيأتي مفصلا مبينا على التوالي.

"النوع الأول في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء" وهو القصد الأصلي الذي هو العمدة "وفيه" تورد "مسائل" يتحقق بذكرها، وتفصيل الكلام فيها البيان المذكور.

‌المسألة الأولى

قال الناظم: "ومرجع التكالف الشرعية" كلها وإن تعددت صورها إنما هو "للحفظ" والصون "للمقاصد الكلية" وسميت كلية باعتبار كونها متصفة بالشمول والعموم لما انطوى تحتها من جزئيات. ومعنى رجوع التكاليف الشرعية إلى هذا الحفظ أنه الغاية

ص: 51

758 -

وَانْقَسَمَتْ إلَى الضَّرُورِيَّاتِ

وَمَا لِتَحْسِينٍ وَحَاجِيَّاتِ

759 -

وَهْيَ تَعَبُّدَاتٌ أَوْ عَادَاتُ

وَمَعْ جِنَايَاتٌ مُعَامَلَاتُ

760 -

فَكُلُّ مَا قَامَتْ عَلَى التَّعْيِينِ

مَصَالِحُ الدُّنْيَا بِهِ وَالدِّينِ

والمقصد الشرعي منها "و" هذه المقاصد "انقسمت" بحكم تفاوت درجاتها فيما يترتب على وجودها من المصالح، وعلى زوالها من المفاسد "إلى الضروريات" الخمس "و" إلى "ما" أي وإلى المقاصد التي "لتحسين وحاجيات" تنسب، فيقال فيها التحسينات والحاجيات.

وبذلك فالمقاصد الواجب حفظها شرعا ثلاثة أقسام: الضروريات والحاجيات، والتحسينات، وبيانها يأتي. ويفرق بين التكاليف الشرعية التي بها حفظ كل قسم منها بالنظر فيما يؤول إليه أمر العباد لو لم يشرع ذلك التكليف، فإن كان سيترتب عن ذلك زوال أحد هذه الضروريات الخمس، فإنه مما شرع لحفظ الضروريات وإن كان لا يترتب عنه ذلك ولكن تترتب عنه المشقة والحرج الشديدان فإنه مما شرع لحفظ الحاجيات، وأما إن كان يؤول الأمر فيه فقط إلى ترك ما هو مستسحن بالفطر السليمة والعقول الراجحة فإنه مما شرع لحفظ التحسينات. "و" هذه التكاليف التي بها حفظ هذه المقاصد تكون في مواطن التكاليف كلها، وبذلك "هي تعبدات" أي عبادات كالإيمان والصلاة والرخص وإزالة النجاسة "أو عادات" كتناول المأكولات والمشروبات والتمتع بالطيبات "ومع جنايات" كالقصاص ومنع قتل النساء والصبيان في الجهاد، والديات وتضمين الصناع "معاملات" وهي ما به انتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض بالعقد على الرقاب، أو المنافع، أو الأبضاع، ومنع بيع النجاسات.

وهذه الأحكام - التكاليف الشرعية - وإن كانت المقاصد الشرعية المذكورة بها، فإنه يميز بينها بمعرفة القسم الذي به حفظها، وبذلك "فـ" إن "كل ما قامت" به وتوقفت عليه "على" وجه "التعيين" بأن يكون هو عينه من قامت "مصالح الدنيا به" بحيث إذا فقد لم تجر أمور الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، فلا يصدر من الخلق فيها إلا الفساد والإفساد، "و" قد يكون مما قامت به مصالح "الدين" بحيث لو انخرم فإنه يترتب على ذلك فوت النجاة والنعيم، ويحق الرجوع بالخسران المبين، فكل

ص: 52

761 -

فَهْوَ لِلضَّرُورِيَّاتِ وَالْخَمْسِ الْأُوَلْ

وَأَمْرُهُنَّ اتَّفَقَتْ فِيهِ الْمِلَلْ

762 -

لِأَجْلِ حِفْظِ الدِّينِ ثُمَّ الْعَقْلِ

وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَحِفْظِ النَّسْلِ

763 -

وَحِفْظُهَا مِنْ جِهَتَيْنِ يُلْتَزَمْ

مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ أَوْ مِنَ الْعَدَمْ

764 -

إِمَّا بِمَا يُوذِنُ بِالصَّلَاحِ

كَالْأَكْلِ وَالصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ

765 -

أَوْ مُقْتَضٍ لِلدَّرْءِ لِلْفَسَادِ

كَالْحَدِّ وَالدِّيَّاتِ وَالْجِهَادِ

ما كان على هذا الوصف من التكاليف الشرعية "فهو" متمم "للضروريات" التي هي حفظها هو المقصد الشرعي الأصلي "و""الخمس الأول" - عطف بيان - المقدمة على ما سواها من المقاصد الأخرى في الدرجة والاعتبار، وهي: حفظ الدين والنفس، والنسل، والمال، والعقل "وأمرهن" هذا الذي هو حفظهن "اتفقت فيه" جميع "الملل" والشرائع السماوية كلها - على ما قيل - وكل ما جاء في هذا الدين من التكاليف وكان من الصنف المذكور - وهو ما قامت به بعينه مصالح الدين والدنيا - فهو إن كان من العبادات مشروع "لأجل حفظ الدين" وذلك كالإيمان والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة والصيام، والحج. "ثم" إن كان من العادات فإنه يرجع إلى حفظ "العقل والنفس" وذلك كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات، والمسكونات، وما أشبه ذلك "و" أما إن كان من المعاملات فإنه يرجع إلى حفظ "المال وحفظ النسل" وذلك كالبيع والنكاح والإجارة "وحفظها" أي هذه المقاصد من "جهتين" اثنتين "يلتزم" ويقع وهما إما "من جانب الوجود" والوقوع، "أو من" جانب "العدم" فالمكلف به شرعا إما أن يكون مطلوب الفعل، لأن بفعله تقام أركان هذه المقاصد وتثبت قواعدها، وأما أن يكون مطلوب الدرء، لأنه إن لم يدرأ عاد على تلك المقاصد بالبطلان.

وبذلك فتلك المقاصد تحفظ "إما بما" أي بأمر مشروع "يوذن" أي يعلم بحاله - أي يتصف - "بـ" جلب "الصلاح" أي المصلحة "كالأكل" والشرب وكل ما به قيام الأبدان وبقاء النفوس "والصلاة" والزكاة والحج والصوم وكل ما يقيم أركان الدين ويوطد أسسه "والنكاح" والبيع وكل ما هو من المعاملات الصحيحة شرعا. التي بها صلاح معاش الناس واستمرار كسب حوائجهم على سداد. "أو" بأمر مشروع "مقتض" وموجب "للدرء" والدفع "للفساد" عن الخلق في معاشهم ومعادهم "كالحد" الذي شرع للزجر عما يفسد العقل والنسل "والديات" والقصاص لدرء الإتلاف عن النفوس "والجهاد" لدرء الفساد

ص: 53

766 -

وَبَعْدَهُ الْحَاجِيُّ وَهْوَ الْمُفْتَقَرْ

إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ مَصَالِحُ الْبَشَرْ

767 -

تَوَسُّعًا فِيمَا إِلَيْهِ أَحْوَجُوا

مَعْ رَفْعِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ حَرَجُ

768 -

ثُمَّ الْمُحَسِّنَاتُ بِالإِطْلَاقِ

مَا كَانَ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ

عن الدين. والقطع للسارق والتضمين للمتلفات لدرء الفساد عن المال. فهذه كلها شرعت لدرء ما يرجع على الحفظ المذكور بالإزالة، والإسقاط هذا شأن الضروري "وبعده" القسم "الحاجي وهو" معرف بأنه "المفتقر" - بفتح القاف - أي المحتاج "إليه من حيث" أي من جهة "مصالح البشر" مما شرع "توسعا" عليهم "فيما" من الأمور "إليه أحوجوا" بما يرد عليهم من الأحوال الموجبة لذلك - كالمرض - والاضطرار - "مع رفع ما" من التكاليف "ينشأ عنه حرج" ومشقة تفضي إلى فوات المطلوب. وهذه الحاجيات لو لم تراع لكان ذلك موجبا لدخول الحرج والمشقة على المكلفين في الجملة. وإن كان لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة. وهي جارية في العبادات والعادات، والمعاملات، والجنايات: ففي العبادات كالرخص المخففة، بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر، وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا وما أشبه ذلك، وفي المعاملات كالقراض، والمساقاة، والسلم، وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات، كثمرة الشجر، ومال العبد، وفي الجنايات كالحكم باللوث، والتدمية، والقسامة، وضرب الدية على العاقلة، وتضمين الصناع وما أشبه ذلك.

"ثم" يلي القسم الحاجي هذا قسم "المحسنات" - بكسر السين - التي تحسن من قامت به ويجوز فتحها بمعنى - التي حسنها الشرع والعقول السليمة - وهي "بالإطلاق" سواء كانت جارية في العبادات أو المعاملات أو العادات أو الجنايات "ما كان من مكارم الأخلاق" كمحاسن العادات واجتناب ما يخل بالمروءة، ويناقض الفطر السليمة وهي جارية فيما جرت في الأوليان ففي العبادات كإزالة النجاسة - وبالجملة الطهارات كلها - وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات، وأشباه ذلك، وفي العادات كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجسات، والمشارب المستخبثات، والإسراف، والإقتار في المتناولات، وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات، وفضل الماء والكلأ، وسلب العبد منصب

ص: 54

"‌

‌ الْمَسْألةُ الثَّانِيَة

"

769 -

وَانْضَمَّ لِلثَّلَاثَةِ الْمَقَاصِدِ

مَا هُوَ تَتْمِيمٌ لِكُلِّ وَاحِدِ

770 -

كَأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَمَنْعِ النَّظَرِ

لِلأَجْنَبِيِّ وَقَلِيلِ الْمُسْكِرِ

الشهادة والإمامة وسلب المرأة منصب الإمامة، وإنكاح نفسها. وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبرِ وما أشبهها، وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد، وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما في معناها، فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية؛ إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين.

"المسألة الثانية"

"المسألة الثانية" في أن كل مرتبة من هذه المراتب - الضروريات والحاجيات والتحسينات - ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمته الأصلية.

قال الناظم: "وانضم للثلاثة المقاصد" أي للمقاصد الثلاثة المذكورة - الضروريات والحاجيات والتحسينات - "ما هو" من التكاليف الشرعية "تتميم" وتكملة "لكل واحد" منها، وذلك "كأجرة المثل" فيما جهلت فيه الأجرة مضبوطة معلومة من المسائل كجزء ثوب جعل أجرة لنساج ينسج ذلك الثوب ومثل ذلك الجلود على دبغها بجزء منها، فالأصل في هذه المنع لجهل صفة خروج ذلك الثوب أو الجلد، إذ قد يخرج صحيحا، أو مقطوعا، لكنه إن وقع ذلك، فالثوب والجلد لربهما، وللعاملين أجرة المثل، وإنما شرعت في هذا الموضع وما أشبهه حفظا للمال للطرفين - الأجير والمستأجر - وحفظ المال من الضروريات "ومنع النظر""لـ" لشخص "الأجنبي" ممن يحرم عليه النظر إليه، وهذا مكمل لحفظ النسل، وهو ضروري، إذ منع النظر هذا مكمل لمنع الزنا المحرم حفظا للضروري المذكور.

وكذا "قليل المسكر" كثيره فإنه محرم، تكميلا لحفظ العقل الذي حفظه ضروري، فإن ذلك القليل وإن كان غير مسكر فإنه مدعاة للاستزادة منه.

ص: 55

771 -

وَكَاعْتِبَارِ الْكُفْءِ فِي ذَاتِ الصِّغَرْ

وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْقُرْبَتَيْنِ فِي السَّفَرْ

772 -

وَأَدَبِ الأحْدَاثِ وَالتَّحْسِينِي

تَتِمَّةٌ لِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ

773 -

كمِثْلِ مَا الْحَاجِي فِي أُمُورِ

مُكَمِّلٌ لِحِكْمَةِ الضَّرُورِي

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ

"

774 -

وَالشَّرْطُ فِي تَتِمَّةٍ أَنْ لَاتُرَا

مُبْطِلَةً أَصْلًا لَهَا تَقَرَّرَا

" و" هذا كله مما يكمل به الضروري وأما ما يكمل به الحاجي فـ "كاعتبار" الزوج "الكفء" في الدين والحرية والنسب والحال والمال "في" تزويج اليتيمة "ذات الصغر" أي الصغيرة وكذلك "جمع بيان القربتين" الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء "في" حال "السفر" الذي تقصر فيه الصلاة، وكذلك جمع المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله، فهذا أو أمثاله كالمكمل لهذه المرتبة - مرتبة الحاجي - إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف.

وأما مكمل التحسيني فمثل مندوبات الطهارات والإنفاق من طيبات المكاسب والاختيار في الضحايا والعقيقة والعتق "وأدب الأحداث" البول والغائط والاستنجاء - آداب قضاء الحاجة - كأن يكون قاضي الحاجة برخو طاهر جالسا، وبنجس واقفا، وأن يكون معتمدا على رجل مائلا عليها، وغير ذلك مما هو منصوص عليه في كتب الفقه.

"و" أنت إذا تأملت في شأن التكملة هذه تجد أن "التحسيني" نفسه كأنه "تتمة لغيره" وهو الحاجي أو الضروري "في" أمور هذا "الدين" سواء كانت عبادات أو معاملات أو عادات "كمثل ما الحاجي" كذلك "في أمور" عبادية وغيرها "مكمل لحكمة" المقصد "الضروري" كما سيأتي بيانه مفصلا.

"المسألة الثالثة"

"المسألة الثالثة" في أن التكملة لها - من حيث هي تكملة - شرط، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال.

قال الناظم: "والشرط في" اعتبار "تتمة" وتكملة ما هو "أن لا ترى" إذا اعتبرت "مبطلة" ما كان "أصلا لها" وهو ما تكمله وتتمه من ضروري أو حاجي "تقررا" - الألف

ص: 56

775 -

فَإِنَّ الإبْطَالَ لِأَصْلِ التَّكْمِلَةْ

يُبْطِلُهَا فَلَا تُرَى مُكَمِّلَهْ

للإطلاق - أنها متممة ومكملة له "فإن الإبطال" والإسقاط "لأصل التكملة" التي شرعت لها هذه التتمة "يبطلها" أي يبطل هذه التتمة أيضا، لأنها كالصفة للموصوف، ولإبقاء الصفة مع زوال موصوفها وبذلك "فـ" إنها "لا ترى" ولا تقع "مكملة" لفقد ما تكمله.

وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلي، وحفظ المروءات مستحسن، فحرمت النجاسات حفظا للمروءات، وإجراء لأهلها على محاسن العادات فإن دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس، كان تناوله أولى.

وكذلك أصل البيع، ومنع الغرر والجهالة مكمل، فلو اشترط نفي الغرر جملة لا نحسم باب البيع. وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية، واشتراط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميل، ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر، منع من بيع المعدوم إلا في السلم، وذلك في الإجارات ممتنع، فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها، والإجارة محتاج إليها فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد، ومثله جار في الاطلاع على العورات للمباضعة والمداواة وغيرها.

وكذلك الجهاد مع ولاة الجور، قال العلماء بجوازه، قال مالك: لو ترك لكان ضررا على المسلمين. فالجهاد ضروري، والوالي فيه ضروري، والعدالة فيه مكملة للضروري، والمكمل إذا عاد على الأصل بالإبطال لم يعتبر.

ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف ولاة السوء فإن في ترك ذلك ترك سنة الجماعة، والجماعة من شعائر الدين المطلوبة، والعدالة مكملة لذلك المطلوب.

ولا يبطل الأصل بالتكملة. ومنه إتمام الأركان في الصلاة مكمل لضروراتها فإذا أدى طلبه إلى أن لا تصلى - كالمريض غير القادر - سقط المكمل، أو كان في إتمامها حرج، ارتفع الحرج عمن لم يكمل، وصلى على حسب ما أوسعته الرخصة. وستر العورة من باب محاسن الصلاة، فلو طلب على الإطلاق لتعذر أداؤها على من لم يجد ساترا إلى أشياء من هذا القبيل في الشريعة تفوق الحصر، كلها جار على هذا الأسلوب.

ص: 57

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ الرَّابِعَةُ

"

776 -

ثُمَّ الضَّرُورِيُّ مِنَ الْمَقَاصِدِ

أَصْلٌ لِغَيْرِهِ مِنَ الْقَوَاعِدِ

777 -

لَوْ فُرِضَ اخْتِلَالُهُ لَاخْتَلَّا

سِوَاهُ مُطْلَقًا وَمَا اسْتَقَلَّا

778 -

لَا الْعَكْسُ بَلْ يَخْتَلُّ مِنْ وَجْهٍ ما

إِن اخْتِلَالٌ لِسِوَاهُ عَمَّا

779 -

كَمِثْلِ مَا قَدْ يَلْحَق الْحَاجِيَّا

مَا حَلَّ بِالْإِطْلَاقِ تَحْسِينِيَّا

" المسألة الرابعة"

"المسألة الرابعة" في أن المقاصد الضرورية أصل للحاجيات والتحسينات.

قال الناظم: "ثم" بعدما تقرر وقوع هذه التكملة بين هذه المراتب ثبت أن "الضروري" من هذه المقاصد أصل لغيره من تلك "القواعد" أي للمقاصد الأخرى - الحاجيات والتحسينات - إذ "لو فرض اختلاله " أي الضروري "لاختلا" - الألف للإطلاق - ما "سواه" من الحاجي والتحسيني "مطلقا" أي من جميع جهاته "و" ذلك لأنه ما "استقلا" - الألف للإطلاق - عن الضروري، ولا انفردا عنه بإفادة حكمته "لا العكس" وهو اختلال الحاجي أو التحسيني فإنه لا يختل به الضروري بإطلاق "بل يختل من وجه ما" فقط، وذلك "إن" كان "اختلال" أصابه بإطلاق "لسواه" من المقاصد الأخرى "عما" - الألف للإطلاق - وشمل "كمثل ما قد يلحق" المقصد "الحاجيا" - الألف للإطلاق - من اختلال ما بسبب "ما حل" أي نزل من الاختلال "بالإطلاق" المقصد "تحسينيا" فاختلال أمر هو من مكارم الأخلاق يخل بوجه ما في المقصد الحاجي إذ قد يترتب على ذلك شيء من المشقة والحرج، كما لا يخفى وفي هذا إخلال بمقتضى من مقتضيات الحاجي.

وعلى هذا السنن مضى سائر مسائل هذا المقام، فإن اختلال الضروري يلزم منه الإخلال بسائر المقاصد الأخرى وأما اختلال كل من الحاجي والتحسيني فإنه لا يخل بالضروري بإطلاق، إلا أن اختلال الحاجي قد يلزم منه إخلال بوجه ما بالضروري، واختلال التحسيني قد يلزم منه الاختلال بوجه ما في الحاجي أو الضروري.

ص: 58

780 -

فَيَنْبَغِي لِذَاكَ أَنْ يُحَافَظَا

عَلَيْهِمَا مَعًا وَأَنْ يُلَاحَظَا

ولذاك "فـ" إنه "ينبغي" ويطلب "لذاك" أي لأجل ذاك الذي ذكر من التلازم المذكور في الاختلالات إذا أوردت على هذه المقاصد على الوجه المتقدم ذكره "أن يحافظا عليهما" أي على الحاجي والتحسيني. فإذا حوفظ على الضروري فينبغي المحافظة على التحسيني إذا ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي، وأن الحاجي يخدم الضروري، فذاك الحفظ مطلوب لهما "معا" وكذلك مطلوب أن "يلاحظا" معا حين السعي إلى هذا الحفظ فإن حفظ الضروري إنما يتم بملاحظة ما يتممه من الحاجي والتحسيني، وكذلك حفظ الحاجي لا يتحقق كماله إلا بحفظ خادمه التحسيني. وبيان ذلك أن كل واحد من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار فالضروريات آكدها ثم تليها الحاجيات والتحسينات وكان بعضها مرتبطا ببعض كان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه ومدخل للإخلال به، فصار الأخف كأنه حمي للآكد، والراتع حول الحمي يوشك أن يقع فيه، فالمخل بما هو مكمل كالمخل بالمكمل من هذا الوجه. ومثل ذلك الصلاة، فإن لها مكملات وهي هنا سوى الأركان والفرائض. ومعلوم أن المخل بها متطرق للإخلال بالفرائض والأركان، لأن الأخف طريق إلى الأثقل. ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله عليه السلام كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه وفي الحديث: لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده وقول من قال إني لأجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمها. وهو أصل مقطوع به متفق عليه، ومحل ذكره القسم الثاني من الكتاب فالمتجرئ على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه. فكذلك المتجرئ على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات. فإذًا قد يكون في إبطال الكماليات بإطلاق، إبطال الضروريات بوجه ما. ومعنى ذلك أن يكون تاركا للمكملات ومخلا بها بإطلاق، بحيث لا يأتي بشيء منها كان نزرا، أو يأتي بجملة منها إن تعددت، إلا أن الأكثر هو المتروك والمخل به، ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرض في الصلاة لم يكن في صلاته ما يستحسن، وكانت إلى اللعب أقرب، ومن هنا يقول بالبطلان في ذلك من يقول، وكذلك نقول في البيع إذا فات فيه ما هو من المكملات كانتقاء الغرر والجهالة أو شك أن لا يحصل للمتعاقدين أو لأحدهما مقصود، فكان وجود العقد كعدمه بل قد يكون عدمه أحسن من وجوده، وكذلك سائر النظائر.

ص: 59

"‌

‌ الْمَسْألةُ الْخَامِسَةُ

"

781 -

مَصَالِحُ الدُّنْيَا يُرَى اسْتِقْرَارُهَا

مِنْ جهَتَيْنِ بِهِمَا اعْتِبَارُهَا

782 -

مِنْ جِهَةِ الْوُقُوعِ فِي الْوُجُودِ

فَالْمَحْضُ مِنْهَا لَيْسَ بِالْمَوْجُودِ

783 -

إِذْ لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَةٍ تَحَقُّقُ

إِلَّا وَللْعَكْسِ بِهَا تَعَلُّقُ

784 -

وَمِثْلُهَا فِي ذَلِكَ الْمَفَاسِدُ

قَدْ شَهِدَتْ بِذَلِكَ الْعَوَائِدُ

785 -

وَأَصْلُهُ مِنْ وَضْعِ هَاذِي الدَّارِ

لِلابْتِلَاءِ وَللاخْتِبَارِ

" المسألة الخامسة"

"المسألة الخامسة" في أن المصالح في هذه الدار ينظر فيها من جهتين: من جهة مواقع الوجود. ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها.

قال الناظم: "مصالح الدنيا" المبثوثة فيها "يرى" أي يعلم "استقرارها" وحصولها "من جهتين" اثنتين ومنهما يقع النظر فيها إذ "بهما اعتبارها" وثبوتها، وذلك "من جهة الوقوع" والحصول لها - أي لهذه المصالح - "في الوجود" والواقع، وهي المصالح التي هي في حقيقة أمرها تخلو من مفاسد تمتزج بها "فالمحض" أي الخالص "منها" الخالي من مفسدة تكدره "ليس بالموجود" على الإطلاق "إذ ليس من مصلحة تحقق" - أصله تتحقق لتاءين حذفت إحدهما تخفيفا - أي تثبت "إلا وللعكس" وهو المفسدة "بها تعلق" وارتباط، فالمصالح المبثوثة في هذه الدنيا كلها مشوبة بتكاليف ومشاق قلت، أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها، أو تلحقها، كالأكل والشرب واللبس والسكنى، والركوب، والنكاح، وغير ذلك، فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد، وتعب "ومثلها" أي المصالح المذكورة "في ذلك" وهو كونها غير متمحضة وخالصة في حقيقة أمرها "المفاسد" الدنيوية، فإنها ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود والحصول "قد شهدت بذلك" ودلت عليه "العوائد" فما من مفسدة تفرض إلا ويقترن بها، أو يسبقها، أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير "وأصله" أي أصل هذا الذي عليه مصالح الدنيا ومفاسدها هو "من" حال "وضع هاذي الدار" الذي هو "للابتلاء" أي ابتلاء الخلق "والاختبار" لهم، والتمحيص. قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]- وقال تعالى -: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا الأمر.

ص: 60

786 -

وَمُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنَّ مَا غَلَبْ

إِلَيْهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَمْرِ انْتَسَبْ

787 -

أَوْ جِهَةِ التَّعَلُّقِ الشَّرْعِيِّ

وَذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعَادِيِّ

788 -

فَمَا يُرَى فِي الاعْتِيَادِ يَغْلِبُ

فَذَاكَ مَا أُلْفِيَ شَرْعًا يُطْلَبُ

789 -

نَهْيًا وَأَمْرًا دَافِعًا لِلْمَفْسَدَةْ

أَوْ جَالِبًا مَصْلَحَةً مُعْتَمَدَةْ

" و" إذا تقرر أن مصالح الدنيا ممتزجة بمفاسد تكدرها وأن مفاسدها لا تنفك عن جنس من المصلحة فإن هذه المصالح والمفاسد إنما تفهم على "مقتضى العادة" والعرف "أنّ ما غلب" عادة وعرفا من المصلحة أو المفسدة هو الذي "إليه حكم ذلك الأمر" الذي حصلت فيه تلك الغلبة "انتسب" فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا وإن غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفا ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة؛ فإن رجحت المصلحة فمطلوب، ويقال فيه إنه مصلحة. وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه، ويقال: به مفسدة على ما جرت به العادات في مثله، فإن خرج عن مقتضى العادات فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة. هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية، من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية.

وأما من جهة تعلق الخطاب الشرعي بالمصلحة، ففيها يقول الناظم:"أو من جهة التعلق الشرعي" بها "وذاك" التعلق "راجع إلى" ما يقتضيه ويدل عليه الحكم "العادي" والعرفي "فما يرى" أي يعلم "في الاعتياد" البشري "يغلب" ويقدم عند عقلاء الناس في الاعتبار "فذاك" هو "ما ألفي" أي وجد "شرعا يطلب" اعتباره، لأنه المصلحة الشرعية.

قال الشاطبي: فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا؛ ولتحصيلها وقع الطلب على العباد، ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود، على مقتضى العادات الجارية في الدنيا، فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليس في الحقيقة الشرعية كذلك.

والطلب الشرعي يرد في هذا الشأن "نهيًا وأمرًا دافعًا للمفسدة" راجع لقوله نهيا يعني نهيا دافعا للمفسدة "أو جالبًا مصلحةً معتمدة" راجع لقوله أمرا يعني أمرا جالبا مصلحة معتمدة ومعتبرة شرعا "و" إذا تقرر أن الشارع لا يلتفت إلا إلى جهة المصلحة الراجحة، وأنه يلغي في الاعتبار ما قد يشوب تلك المصلحة من المفاسد، لأنه لو

ص: 61

790 -

وَعِنْدَ ذَاكَ تَخْلُصُ الْمَصَالِحُ

وَعَكْسُهَا وَذَاكَ أَمْرٌ وَاضِحُ

اعتبرها لبنى حكمه على مقتضاها؛ ولو قصدها لكان على المكلف أن يقصدها وإلا كان خالف قصد الشارع، وقد يكون ذلك اختلالا بالامتثال المطلوب منه، لأنه سيكون داخلا في مقتضى الطلب الشرعي بذلك حينئذ وجوب وجود هذه المفاسد - المشقات - وهذا ما لم يرد على قطع، فعلمنا جازمين أن المصالح المعتبرة شرعا هي المصالح التي لا تشوبها مفسدة "وعند ذاك تخلص المصالح" الشرعية من أي شيء يكدر صفوها في الاعتبار الشرعي وفي بناء الأحكام الفقهية على مقتضاها، فلا يلتفت إلى أي مفسدة تصاحب المصلحة الشرعية ولا يعتد بها، ما لم تكن مفسدة تفضي إلى أمر محرم شرعا، كالصوم المفضي إلى الهلاك ونحو ذلك. "و" كذلك حال "عكسها" أي عكس المصلحة وهو المفسدة المعتبرة شرعا، فإنه يلغي اعتبار ما قد يصحبها من مصلحة على سنن المصلحه الشرعية بلا فرق في هذا الشأن "وذاك" كله "أمر واضح" أي بين جلي.

ويدل على ذلك أمران: أحدهما أن الجهالة المعلومة لو كانت مقصودة للشارع - أعني معتبرة عند الشارع - لم يكن الفعل مأمورا به بإطلاق، ولا منهيا عنه بإطلاق، بل قد يكون مأمورا به من حيث المصلحة، ومنهيا عنه من حيث المفسدة، والمعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك. وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي؛ كوجوب الإيمان وحرمة الكفر، ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها، وما أشبه ذلك، فكيف يكون الإيمان - الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف - منهيا عنه، من جهة ما فيه من كسر النفس من إطلاقها، وقطعها عن نيل أغراضها، وقهرها تحت سلطان التكليف الذي لا لذة فيه لها، وكان الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكليف، وتمتعها بالشهوات من غير خوف، مأمورا به أو مأذونا فيه؛ لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة، وكل هذا باطل محض، بل الإيمان مطلوب بإطلاق، والكفر منهي عنه بإطلاق، فدل على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفر، أنها غير معتبرة شرعا، وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا.

والثاني: أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعا، لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق، وهو باطل شرعا، وأما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا فمعلوم في الأصول، وأما بيان الملازمة فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة في الطلب للجهة الراجحة، وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة، لكن على وجه يكون فيه منهيا عن

ص: 62

"‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

791 -

وَخَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الاعْتِيَادِ

كَكُلِّ مَا يَصْلُحُ بِالْإِفْسَادِ

792 -

إِنْ ظَهَرَ التَّرْجِيحُ فَالْحُكْمُ اقْتُفِي

أَوْ لَا فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ

إيقاع المفسدة المرجوحة فهو مطلوب بإيقاع الفعل ومنهي عن إيقاع الفعل معا، والجهتان غير منفكتين، لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة، فلا بد في إيقاع الفعل أو عدمه من توارد الأمر والنهي معا، فقد قيل له: افعل ولا تفعل، لفعل واحد، أي من وجه واحدة في الوقوع، وهو عين تكليف ما لا يطاق

(1)

.

" فصل"

في أنه إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الاعتياد بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الاعتبار للشارع ففي ذلك نظر؛ ولابد من تمثيل ذلك ثم تخليص الحكم فيه بحول الله. مثاله أكل الميتة للمضطر وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا، وقتل القاتل، وقطع القاطع - وبالجملة العقوبات والحدود - للزجر، وقطع اليد المتآكلة، وقلع الضرس الوجعة، والإيلام بقطع العروق والفصد وغير ذلك، للتداوي وما أشبه ذلك من الأمور التي لو انفردت عما غلب لكان النهي عنها متوجها، وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة.

قال الناظم: "و" أما ما هو "خارج عن حكم الاعتياد" وارتقى إلى درجة ما يعتبر مثله في نظر الشارع وذلك "ككل ما" أمر لا "يصلح" أي لا يتصف بأنه مصلحة إلا "بـ" الامتزاج بـ "الإفساد" فإن هذا فيه نظر، وهو الذهاب في شأنه إلى الترجيح بين ما فيه من المصلحة وما فيه من المفسدة فـ "إن ظهر الترجيح" لأحدهما على الآخر وبان أمره بما يدل عليه ص الأدلة "فالحكم" المقتضى به في ذلك "اقتفي" واتبع، فإن رجح وغلب أمر المصلحة فيه صير إليه، وحكم في شأنه بأنه مطلوب، لأنه مصلحة، وإن غلب أمر المفسدة فيه حكم بمقتضى ذلك، فنهي عن ذلك لأنه مفسدة. فإن لم تعلم حقيقة أمره في هذا الشأن "أو لا" يظهر لنا من حاله شيء يستبين به كونه مصلحة أو مفسدة "فـ" إنه "لا بد" حينئذ "من التوقف" عن الحكم، والإمساك عنه في ذلك.

(1)

الموافقات 2 - 21 - 22.

ص: 63

793 -

وَالْجَانِبُ الْمَرْجُوحُ غَيْرُ مُعْتَبَرْ

لِلشَّرْعِ قَصْدًا مَعَ رَاجِحٍ ظَهَر

794 -

وَذَا عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ

أَوْ لَا فَتَكْلِيفٌ سوَى الْمُطَاقِ

795 -

وَلَا يُقَالُ إِنَّ فِيهِ مَقْصِدَا

لِلشَّرْعِ ثَانِيًا عَلَيْهِ اعْتَمَدَا

796 -

إِذْ لَا يَرَى ثُبُوتَ قَصْدٍ ثَانِ

لَهُ بِحَيْثُ الْمُتَنَاقِضَانِ

797 -

وَقَدْ يَرَى الْمَرْجُوحَ مِمَّا يُعْتَبَرْ

مِنْ حَيْثُ الاجْتِهَادُ فِيهِ وَالنَّظَرْ

" والجانب المرجوح" المغلوب سواء كان مفسدة أو مصلحة "غير معتبر للشرع" بل هو ملغى عنده "قصدا" منه "مع" وجود جانب "راجح ظهر" أي ظاهر "وذا" أي هذا الحكم وهو عدم اعتبار الشارع للجانب المرجوح - جار - "على العموم" في سائر المسائل فليس حكما خاصا بمسائل دون أخرى، كما أنه ليس مقيدا بل هو - أيضا - على "الإطلاق" فالرجحان معتبر على الإطلاق فإن قيل قد يتعلق قصد الشارع بالجهتين معا - المصلحة والمفسدة - وبذلك ينبهم قصده في ذلك لوجود التعارض بين الأمرين، "أولا" يتأتى الترجيح في هذا المقام لإمكان تعلق قصد الشارع بالطرفين معا: طرف الإقدام، وطرف الإحجام "فـ" لهذا الأمر - وهو وجود المصلحة والمفسدة فيه - هذا غير صحيح لأنه "تكليف سوى" أي غير "المطاق" وهو تكليف محال، وذاك مما أجمع على أنه لا يصح عقلا، ولا يقع شرعا "ولا" يصح أن "يقال إنّ فيه" أي فيما ظهر رجحان المصلحة أو المفسدة فيه "مقصدا" ثابتا "للشرع" أي لصاحب الشرع، "ثانيًا" بعد المقصد الأول الذي ظهر رجحانه، وبذلك يكون من اعتبر الجهة المغلوبة والجانب المرجوح "عليه" أي على هذا القصد الثاني "اعتمدا" وإليه استند، لأنه لا يصح "إذ لا يرى" أي لا يعلم ولا يدرك "ثبوت قصد ثان" تابع للمقصد الأول "له" أي للشارع "بحيث" أي في الموضع الذي يكون لو اعتبر فيه القصد الثاني مما يجتمع فيه "المتناقضان" فالقصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول فإن ناقضه لم يكن مقصودا بالقصد الأول، ولا بالقصد الثاني. "و" هذا لا يقتضي على قطع بأن المرجوح مطرح، فلا يلتفت إليه على الإطلاق، بل "قد يرى" الجانب "المرجوح" المغلوب "مما يعتبر" وذلك "من حيث الاجتهاد" الصحيح "فيه والنظر" فمن أداه اجتهاده في ذلك إلى ترجيحه - أي الجانب المرجوح - فإنه لا يقطع بأنه مخطئ، وأنه قد أتى بما ينقض عليه

ص: 64

798 -

إِذْ لَيْسَ فِي الرَّاجِحِ قَطْعٌ يُحْتَذَى

بِأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هَكَذَا

799 -

وَمِنْ هُنَا يَنْشَأُ فِي مَوَاقِعِ

أَصْلُ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ

"

800 -

كَذَلِكَ فِي الْأُخْرَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ

لَاكِنْ هُمَا فِيهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ

801 -

فَخَالِصٌ لَيْسَ لَهُ امْتِزَاجُ

وَلَا لَهُ فِي عَكْسِهِ انْدِرَاجُ

802 -

كَمِثْلِ مَا فِي جَنَّةِ الْخُلُودِ

مِنَ النَّعِيمِ لِذَوِي التَّوْحِيدِ

803 -

وَكَعَذَابٍ خَالِدٍ فِي النَّارِ

مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ

جزما، بل ذاك يسري أنه قول فقهي، وإن كان ضعيفا، وإنما كان الأمر كذلك "إذا ليس في" الجانب "الراجح" وإن قامت الأدلة على رجحانه وغلبته "قطع""يحتذى" ويتبع فيحكم "بأنه" أي الراجح "في نفس الأمر" وحقيقه "هكذا" أي أنه مقطوع به، وإنما قصارى أمره راجح في نظر أهل النظر والاجحهاد فقط "ومن هنا" - أي من هذا الموضع وهو عدم القطع برجحان الجهة التي رجحت، وأن الجهة الأخرى لا دليل قاطع على أنها غير معتبرة - "ينشأ" عند بعض أهل العلم "في مواقع" ومواطن معينة "أصل مراعاة الخلات الواقع" بين أهل العلم.

وسيأتي الكلام على هذا الأصل، وحاله.

"المسألة السادسة"

"كذلك" الحال "في" الدار "الأخرى" فإنه قد ثبت فيها "كلا الأمرين" المصالح والمفاسد "لاكن هما" أي الأمرين "فيها على ضربين" نوعين متميزين عما عليه المصالح والمفاسد الدنيوية فأحد هذين النوعين الأخرويين "خالص" من أي شائبة من ضده، فهو "ليس له" أي به "امتزاج " أي اختلاط "ولا له في عكسه" أي ضده، لو فرضنا أن ضده كان غالبا "اندراج" أي انطواء، بل هو إما مصلحة خالصة، أو مفسدة خالصة، وذلك "كمثل ما في جنة الخلود من النعيم" المقيم الثابت جزاء "لذوي" أي أصحاب "التوحيد" والإيمان بالله - تعالى - الخالص، فإن ذلك النعيم مصلحة خالصة، "وكعذاب" كل شخص "خالد في النار من المنافقين والكفار" فإنه مفسدة خالصة - والعياذ بالله تعالى -

ص: 65

804 -

حَسَبَمَا جَاءَتْ بِهِ أَدِلَّةْ

فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ مُسْتَقِلَّةْ

805 -

وَمَا اقْتَضَى تَفَاوُتًا لَا يَلْزَمُ

أَنْ يُوجَدَ الضِّدُ لَهُ يَسْتَلْزِمُ

806 -

فَبَابُ ذِكْرِ فَاضِلٍ وَأَفْضَلِ

فِي كَوْنِهِ لَا يَقْتَضِي نَقْصًا جَلِى

807 -

وَوَاضِحُ النَّصِّ عَلَى ذَاكَ يَدُلّ

كقَوْلهِ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الرُّسُلْ

808 -

وَضَرْبُهَا الْآخِرُ مَا يَمْتَزِجُ

وَعَكْسُهُ فِي طَيِّهِ يَنْدَرجُ

وذلك كله مقطوع به "حسبما جاءت به أدلة" واردة في "محكم الكتاب" العزيز "مستقلة" بإفادة هذا الأمر، فكانت نصا فيه قال تعالى:{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} [الزخرف: 75] وقال - سبحانه -: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 13] وقال عز وجل: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، "و" أما "ما اقتضى" من الأدلة أن في درجات الجنة ودركات النار "تفاوتا" مما يقتضي أن في النار من يخف عنه العذاب، وذلك رحمة، وأن في الجنة من صد بعمله عن درجات من هو أعلى منه رتبة، وهذا أمر مكدر لتنعمه في الجنة، وهذا معنى ممازجة المفسدة، فإن الجواب عن ذلك هو أنه "لا يلزم" بل لا يصح "أن يوجد" مع نعيم الجنة "الضد له" وهو العذاب "يستلزم" ما ذكر من وجود هذا التفاوت، لأنه وإن حصل، فإنه لا يلزم منه نقيض ولا ضد، وبذلك "فـ" هو ليس إلا من "باب ذكر فاضل وأفضل" كما إذا قلت "فلان عالم" فقد وصفته بالعلم، وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستلزم في حصول ذلك الوصف له على كماله، فإذا قلت:"وفلان فوقه في العلم" فهذا الكلام يقتضي أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول، ولا يقتضي أن الأول متصف بالجهل ولو على وجه ما، وهكذا كل ما أشبه هذا "في كونه لا يقتضي" حصول التفاوت فيه "نقصا جلى" أي بينا واضحا "وواضح النص" - فيه إضافة الصفة للموصوف - أي من النص الواضح من كتاب الله - تعالى - "على ذاك" وهو عدم دلالة التفاوت على النقص "يدل" كقوله عز وجل:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] وكقوله تعالى سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]"و" أها "ضربها" أي مصالح الآخرة ومفاسدها "الآخر" فإنه "ما" أي الذي "يمتزج" أي يختلط فيه ما ذكر من المصلحة والمفسدة "و" بذلك يكون "عكسه" وهو المفسدة إن كان مصلحة، أو المصلحة إن كان مفسدة "في طيه" أي مثناته "يندرج" أي ينطوي.

ص: 66

809 -

وَذَاكَ يَخْتَصُّ بِمَنْ قَدْ وَحَّدَا

مَا دَامَ فِي النَّارِ وَلَيْسَ أَبَدا

810 -

بَلْ عِنْدَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا يَدْخُلُ

مِنْ فَوْرِهِ فِيمَا اقْتَضَاهُ الْأوَّلُ

811 -

أَلَا تَرَى تَحَاشِيَ النِّيرَانِ

مَوَاضِعَ السُّجُودِ وَالْإِيمَانِ

812 -

وَأَخْذَهَا لَهُمْ عَلَى وِزَانِ

مَا ارْتَكَبُوا قَبْلُ مِنَ الْعِصْيَانِ

813 -

وَفِي الرَّجَاءِ رَاحَة مُسْتَوْضحَةْ

وَذَاكَ كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةْ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَة

"

" وذاك" الذي في هذا الضرب من أنه يمتزج فيه ما ذكر "يختص بمن قد وحّد" - الألف للإطلاق - أي الله تعالى مؤمنا به على الوجه الذي يكون به من أهل التوحيد فهذا الذي عليه حكم الامتزاج هذا "ما دام في النار" ولكن "ليس أبدا بل" أنه "عندما يخرج منها" أي النار "يدخل من فوره" أي من وقت خروجه منها بلا تراخ "فيما اقتضاه" الضرب "الأول" وهو الخلو من هذا الامتزاج، إذ قد يصير إلى نعيم لا كدر يشوبه. وإنما قيل بأن هذا الامتزاج يحصل لمن كان من أهل التوحيد وحده ما دام في النار لما يلحقه وهو فيها من مصلحة "ألا ترى تحاشي" تجنب وتوقي "النيران" في الجحيم "مواضع السجود" منه وهي الجبهة، والكفين والركبتين وأصابع الرجلين. وكذلك موضع "الإيمان" منه وهو القلب، وهذه مصلحة ظاهرة "و" كذلك "أخذها" أي النار "لهم" أي الموحدين "على وزان" أي قدر "ما ارتكبوا" وجنوا "قبل" في الدنيا "من العصيان" والخروج عن طاعة ربهم - سبحانه - وبذلك فإن النار لا تأخذهم أخذ من لا خير في عمله على الإطلاق. "و" كذلك "في الرجاء" الذي هم - أي الموحدون - عليه وهم في العذاب "راحة" لهم "مستوضحة" إذ يتشوفون في كل آن إلى خروجهم من النار ودخولهم الجنة وهذا ينفس عنه من كرب النار و"ذاك كاف في" ثبوت "حصول المصلحة" الناشئة عن الإيمان والأعمال الصالحة لهم.

"المسألة السابعة"

في أن مصالح الخلق الدنيوية والأخروية مقصودة من وضع الشريعة على وجه

ص: 67

814 -

وَمُذْ تَبَدَّى أَنَّ قَصْدَ الشَّارعْ

فِي رَعْيِ مَا يَعُودُ بِالْمَنَافِعْ

815 -

فَهْوَ عَلَى وَجْهٍ لَهُ الْتِئَامُ

وَلَيْسَ يَخْتَلُّ بِهِ نِظَامُ

لا يقع عليه اختلالها.

قال رحمه الله: "ومذ تبدى" أي ظهر واضحا مما تقدم إيراده فيما سبق من الكلام "أن قصد الشارع" من وضع هذه الشريعة ماض "في رعي" وقصد "ما" من الشرائع والأحكام "يعود" يرجع "بالمنافع" على الخلق إن عملوا بها ولذلك "فهو" أي الوضع المذكور وقع "على وجه له" بها أي تلك المقاصد "التئام" اجتماع، وتوافق، وتكامل "وليس يختل" يضطرب "به نظام" لها، ولا بحسب الكل لا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات.

فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تختل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها؛ إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال وكذلك وجدنا الأمر فيها والحمد لله. ومقتضى هذا الأصل - وهو وضع الشريعة على هذا الوجه - أنه يجب مراعاة هذا الأصل في بناء الأحكام الفقهية بحيث لا يختل فيها هذا القصد الشرعي، وذلك إنما يتحقق بالانضباط بالضوابط الشرعيه التي يعلم بها سبل الجمع بين هذه المصالح - مصالح الدارين - ومراعاتها على الوجه الصحيح، فلا يلتفت إلى مصالح الدنيا إلا إذا كانت مما يجب حفظه، وبذلك لا موطن لاتباع الهوى وتغليبه بدعوى الجمع بين هذه المصالح، كما أنه لا يلتفت إلى إلغاء مصالح الدنيا الشرعية في المواطن التي يجب أن تعتبر فيها، وذلك - كما تقدم ذكره - أن هذه الشريعة صالحة لكل حال ولكل زمان، ومكان فلكل فيها حمكه الذي لا يخالف مقتضاه انتظام هذه المصالح على الوجه التام

(1)

.

(1)

الموافقات 2 - 29.

ص: 68

"‌

‌ الْمَسْألَةُ الثَّامِنَة

"

816 -

تُعْتَبَرُ الْمَصَالِحُ الْمُجْتَلَبَةْ

شَرْعًا أَوِ الْمَفَاسِدُ الْمُجْتَنَبَةْ

817 -

مِنْ حَيْثُ أَنْ تُقَامَ حَالُ الدُّنْيَا

لِلدَّارِ الأُخْرَى عَمَلًا وَسَعْيَا

818 -

لَا جِهَةُ الْأَهْوَاءِ لِلنُّفُوسِ

فِي جَلْبِ نَعْمَاءَ وَدَفْعِ بُؤسِ

" المسألة الثامنة"

في أن المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية.

"تعتبر المصالح الدنيوية""المجتلبة شرعا أو" - بمعنى الواو - أي و"المفاسد المجتنبة" شرعا.

كذلك "من حيث أن تقام" بها "حال الدنيا" ونظامها على وجه تكون به خادمة "لـ" كسب وتحصيل مصالح "الدار الأخرى" التي هي النجاة من النار ودخول الجنة "عملا وسعيا" - تمييز محول عن المجرور - يعني أن إقامة مصالح الدنيا بحيث تكون لكسب مصالح الآخرة يكون بالعمل والكسب. فكل ما أمر الشارع بحفظه من مصالح هذه الدنيا يجب صرفه لتحصيل مصالح الدار الآخرة، فالعقل والبدن والمال والنسل يجب أن يستحضر في الاعتبار أن الشارع ما أمر بحفظها ليصرف العمل بها في تحصيل الأهواء ودرء الشهوات والتمتع بالملذات وغير ذلك من منافعها العاجلة مع قطع النظر عن الغاية - الشرعية من الأمر بحفظها؛ وإذا علم هذا فإنه لا يعتد شرعا بحفظ هذه المصالح إلا إذا تحققت بها هذه الغاية الشرعية، إذ هي الجهة المعتبرة شرعا في هذا الشأن.

"لا جهة الأهواء" التابعة "للنفوس" سواء "في جلب نعماء" عاجلة "أو دفع بؤس" ضر عاجل فقط كيفما كان ذلك كله.

فصل في أن هذه المسألة إذا فهمت بها أمور، منها: فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه: كقوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] وما كان

ص: 69

819 -

وَمِنْ هُنَا يُفْهَمُ مَعْنَى مَا أَتَى

لِمُقْتَضَى التَّمَتُّعَاتِ مُثْبَتَا

820 -

وَيَنْجَلِي مَا كَانَ فِي ذَا الْبَابِ

إِشْكَالُهُ مُنْسَدِلُ الْحِجَابِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَة

"

821 -

وَالشَّرْعُ كَوْنُهُ عَلَى الْمَقَاصِدِ

مُحَافِظًا بِالْقَصْدِ فِي الْمَوَارِدِ

822 -

لَابُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ قَطْعِي

فَإِنْ يَكُنْ عَقْلًا فَغَيْرُ شَرْعِي

نحو ذلك "ومن هنا" أي من هذا الموضع وما تقرر فيه مما ذكر "يفهم معنى ما" من النصوص الشرعية "أتى" وفيه الأمر بالأكل من الطيبات ونحوه مما تقدم ذكره فكان "لمقتضى" وحكم إباحة "التمتعات" بالنعم مما في هذه الأرض "مثبتا" وذلك لأن القصد الشرعي من ذلك لم يكن لأجل أهواء النفوس وإرضاء الشهوات. وإنما كان من أجل التزود بذلك للعمل الأخروي، "و" بهذا "ينجلي" يزول "ما كان" يرد "في ذا" أي هذا "الباب" الذي الكلام فيه، والذي متضمنه أن المصالح الدنيوية لا تعتبر شرعا إلا إذا صرفت للمصالح الأخروية "إشكاله" وهو أنه كيف يصح هذا مع أمره سبحانه عباده بالتمتع بالطيبات، وكل ما في الأرض مخلوق لهم، فكان هذا إشكالا "منسدل" مطلق ومرخي "الحجاب" بين هذه المسألة وفهمها على الوجه الصحيح، فلما ارتفع هذا الإشكال بهذا الذي ذكر، ظهرت هذه المسألة واضحة لا يعتريها انبهام، أو غموض، أو كدر.

"المسألة التاسعة"

في أن كون قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية، والحاجية، والتحسينية لابد من دليل يستند إليه، ويجب أن يكون دليلا قطعيا.

قال الناظم رحمه الله: "والشرع كونه على المقاصد" الثلاثة - الضرورات والحاجيات والتحسينات "محافظا بالقصد" فهمت منه لذلك "في الموارد" أي الأحكام التي شرعها، والشرائع التي وضعها سواء كانت للتعبد، أو للتعامل بين الخلق، أمر "لا بد فيه" أي في إثباته والجزم بثبوته "من دليل قطعي" يستند إليه، ويبنى عليه؛ وهو لا يخلو أن يكون عقليا، أو نقليا "فإن يكن" ثبت "عقلا" أي من جهة العقل فقط "فـ" هو دليل "غير شرعي" وإنما هو دليل عقلي، والعقلي لا موقع له هنا، لأن ذلك راجع إلى

ص: 70

823 -

وَإِنْ يَكُنْ مُنْتَمِيًا لِلسَّمْعِ

فَلَيْسَ بِالْمُفِيدِ حُكْمَ الْقَطْعِ

824 -

إِذْ قَدْ مَضَى فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ

وُقُوفُهَا عَلَى مُقَدِّمَاتِ

825 -

ظَنِّيَةٍ فِي نَقْلِهَا وَأَصْلِهَا

فَمَا عَلَيْهَا وَقْفَةٌ كَمِثْلِهَا

826 -

وَإِنَّمَا دَلِيلُ مَا تَقَرَّرَا

مَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْلِ ذَا مُقَرَّرَا

827 -

وَهْوَ اقْتِنَاصُ الْحُكْمِ مِنْ أَدِلَّة

فِي جُمْلَةِ التَّشْرِيعِ مُسْتَقِلَّةْ

تحكيم العقول في الأحكام الشرعية وهو أمر باطل، وبذلك فإنه لابد أن يكون الدليل المطلوب هنا دليلا نقليا أو يقتضيه النقل، "و" الدليل "إن يكن منتميا" أي منسوبا "للسمع" دليلا سمعيا - نقليا - بأن كان نصوصا شرعية "فـ" إنه "ليس بالمفيد" المقتضي "حكم القطع" الذي هو المطلوب - هنا - وإن كان متواترا، "إذ قد مضى في" المقدمة الثالثة أن "المتواترات" سندا لا تفيد القطع كما هو ظاهر، إذ قد ثبت "وقوفها" أي أنها موقوفة في إفادتها القطع "على مقدمات" عشر، كل واحدة منها "ظنية في "شأن "نقلها" وروايتها، "و" كذلك في ثبوت "أصلها" أي كونها أصلا تبنى عليه فروعه، فإن ذلك إنما ثبت بأدلة ظنية وبذلك "فما عليها وقفة" ووجوده لا يكون إلا ظنيا "كمثلها" لأن الموقوف على الظني لا بدّ أن يكون ظنيا. وهذه المقدمات هي: نقل اللغات. وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم النقل الشرعي، أو العادي، وعدم الإضمار، وعدم التخصيص للعموم، وعدم التقييد للمطلق، وعدم الناسخ، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي. وجميع ذلك أمور ظنية. "و" إذا ثبت هذا علم أن الدليل النقلي لا يطلب منه القطع في هذا الشأن، وإن كان متواترا وبذلك فإنه لا يمكن دليل ثبوت تلك الأصول على قطع "وإنما دليل ما تقررا" من أن الشارع قاصد المحافظة على القواعد الثلاثة - المقاصد الثلاثة - هو "ما قد مضى" ذكره في المقدمة الثالثة من قبل "ذا" أي هذا الموضوع الذي نحن فيه "مقررا" مثبتا هناك بالأدلة الدالة عليه.

"و" الدليل المذكور "هو اقتناص" يعني أخذ واستخراج "الحكم" المطلوب هنا - وهو أن الشارع قاصد المحافظة على الأصول المذكورة على قطع - واستنباطه "من أدلة" شرعية مبثوثة "في جملة" أبواب الفقه و"التشريع مستقلة" في مواضعها، فهي لا ترجع إلى باب واحد وإنما أبوابها مختلفة، ولأنها تقتضي هذا الحكم الذي هو

ص: 71

828 -

يَصِيرُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ عَاضِدَا

حَتَّى يُرَى الْمَجْمُوعُ شَيْئًا وَاحِدَا

829 -

فَيَرْجِعُ الْحُكْمُ لِعِلْمٍ جَازِمْ

كَمِثْلِ مَا يُثْبِتُ جُودَ حَاتِمْ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَة

"

830 -

شَرْعِيَّةُ الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةْ

لِتُحْفَظَ الْمَصَالِحُ الْكُلِّيَّةْ

831 -

وَمَا لِكُلِّيَاتِهَا بِرَافِعِ

تَخَلُّفُ الْجُزْئِيِّ عِنْدَ وَاقِعِ

832 -

وَذَاكَ كَالْعِقَابِ لِلرَّدْعِ شُرِعْ

وَقَدْ يُرَى مُعَاقَبٌ لَا يَرْتَدِعْ

المقصود هنا، لأنه له "يصير بعضها" أي الأدلة المذكورة "لبعض عاضدا" مقويا في الدلالة على هذا الحكم، "حتى يرى" أي يبصر ويعلم "المجموع" أي مجموع ما دلت عليه "شيئا واحدا" مقطوعا به "فيرجع الحكم" المستفاد من ذلك "لعلم جازم" فيثبت في الأذهان لا يكاد يرد عليه شك "كمثل ما يثبت" العلم بـ "جود حاتم" الطائي وشجاعة علي رضي الله عنه المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنها.

"المسألة العاشرة"

في أن هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح - مصالح الخلق - الخاصة بها فإنه لا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضاها، وما شرعت له.

قال الناظم: "شرعية" حفظ "القواعد" الثلاث الكلية الأصلية وهي الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، إنما هو "لـ" أجل "حفظ المصالح" أي مصالح الخلق "الكلية" في واقع الأمر، فشرعية حفظ الضروريات - مثلا - إنما من أجل حفظ مصالح الخلق الدنيوية حقيقية، وفي واقع الأمر، فهي ليست للتعبد فقط وهذا أمر ماض حكمه على كل حال، وهذا أصل تقدم تقريره وذكره، وإنما أعاد ذكره ليرتب عليه قوله "وما" أي ليس "لـ" - بناء الحكم على مقتضى "كلياتها" أي - كليات هذه المصالح - وإنما أضافها إليها باعتبار أنها - هذه الكليات - تنشأ عنها تلك المصالح، "برافع" ولا قادح في جريان حكمها "تخلف الجزئي" من جزيئات عما هو مشروع له "عند" أمر ما "واقع" وحاصل - وقوله "عند واقع" تمم به البيت، لصحة الاستغناء - "وذاك كالعقاب" في الضروريات فإنه "لـ" لزجر و"الردع" عن إتيان الفواحش الموجبات له "شرع و" مع ذلك فإنه "قد يرى" أي يبصر "معاقب لا يرتدع" عما عوقب عليه، بل يستمر على إتيانه.

ص: 72

833 -

وَالْقَصْرُ فِي الْحَاجِيِّ لِلْمَشَقَّةْ

وَمُتْرَفٌ فِي السَّفَرِ اسْتَحَقَّهْ

" و" كذلك "القصر" للصلاة "في" القسم "الحاجي" فإنه - أي القصر - مشروع للتخفيف و"لـ" لحوق "المشقة" بمن تلبس به - أي بالسفر - "و" مع ذلك فإن حكم القصر هذا جار على من هو "مترف" متنعم "في السفر" لا مشقة تلحق فيه، لأنه "استحقه" أي هذا الحكم بمقتضى كونه مسافرا، وتخلف ما شرع لأجله هذا الحكم من الحكمة المذكورة لا يرفع جريانه، كما أنه لا يقدح في كون ما ذكر هو الحكمة في ذلك. وأما في التحسينات فإن الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم. فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية؛ لأن الأمر الكلي إذا ثبت كليا فتخلف بعض الجزيئات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا. وأيضا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي؛ لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت.

هذا شأن الكليات الاستقرائية، واعتبر ذلك بالكليات العربية، فإنها أقرب شيء إلى ما نحن فيه، لكون كل واحد من القبيلين أمرا وضعيا لا عقليا. وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزيئات قادحا، في الكليات العقلية؛ كما نقول: ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلا، فهذا لا يكون فيه التخلف البتة؛ إذ لو تخلف لم يصح الحكم بالقضية القائلة: ما ثبت للشيء ثبت لمثله. فإذا كان كذلك فالكلية في الاستقرائيات صحيحة، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات. وأيضا فالجزيئات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارج عن مقتضى الكلي فلا تكون داخلة تحته أصلا، أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى، فالملك المترفه قد يقال إن المشقة تلحقه لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها؛ أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها إن المصلحة ليست الازدجار فقط، بل ثم أمر آخر وهو كونها كفارة؛ لأن الحدود كفارات لأهلها وإن كانت زجرا أيضا على إيقاع المفاسد. وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي. فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح.

خلاصة القول أن هذا التخلف لا يرفع الحكم، ولا يخرج حكمته الأصلية

(1)

.

(1)

انظر الأصل.

ص: 73

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشَرَة

"

834 -

ثمَّ الْمَصَالِحُ لِقَصْدِ الشَّارعْ

فطْلَقَةٌ تَعمُّ فِي الْمَوَاقِعْ

835 -

دَلِيلُهُ مَا مَرَّ حَالَ التَّسْوِيةْ

لِلْقَوْلِ بِالتَّصْوِيبِ مَعْ ذِي التَّخْطِئَةْ

" المسألة الحادية عشرة"

في أن مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع قد تكون مطلقة عامة. لا تختص بباب دون باب، ولا بمحل دون محل ولا بمحل وفاق دون محل خلاف، وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها.

قال الناظم: "ثم المصالح" التابعة "لقصد الشارع" لا تختص بباب في الأحكام الفقهية دون باب ولا تقيد بباب منها دون ما سواه، بل هي "مطلقة" ومطردة في كليات الشريعة وجزيئات وهي "تعم" ويسري أمرها وحكمها "في" جميع "المواقع" أي المواضع والأبواب التي وردت فيها الأحكام الشرعية، سواء كانت أبواب عبادات أو معاملات. "دليله" أي دليل هذا الذي ذكر ما تقدم في الاستدلال على مطلق المصالح، وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد، ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق، لكن البرهان قام على ذلك - الإطلاق - فدل على أن المصالح فيها غير مختصة، ثم يزاد على هذا "ما مر" من ثبوت ذلك على مذهبي المخطئة والمصوبة معا بمعنى هذه القاعدة ثانية جارية في "حال" القول بالمذهبين معا بـ "التسوية" أي سواء ذهبنا "للتصويب" وقلنا: أن كل مجتهد مصيب، أو كنا "مع ذي" أي صاحب "التخطئة" الذي يرى أن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، وغيره مخطئ.

فالقاعدة على كل حال لا تنخرم. على القول بأي من المذهبين.

قال الشاطبي رحمه الله: ويظهر أن القاعدة جارية على كلا المذهبين؛ لأن الأحكام على مذهب التصويت إضافية، إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد، والمصالح تابعة للحكم أو متبوعة له، فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه. ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة. فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز، فجهة المصلحة عنده هي الراجحة وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه؛ لأنها عنده خارجة

ص: 74

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَة

"

836 -

وَبَعْدُ فَالدِّينُ بِهِ مَعْلُومُ

أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مَعْصُومُ

عن حكم الربا المحرم، فالمقدم على التفاضل فيها مقدم على ما هو جائز، وما هو جائز لا ضرر فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل فيه مصلحة لأجلها أجيز. وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز، فهي عنده داخلة حكم الربا المحرم، وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة، وهي كذلك في نفس الأمر على ما ظنه. فلا ضرر لاحق به في الدنيا وفي الآخرة. فحكم المصوب هاهنا حكم المخطئ، وإنما يكون التناقض واقعا إذا عد الراجح مرجوحا من ناظر واحد؛ بل هو من ناظرين ظن كل واحد منهما العلة التي بني عليها الحكم موجودة في المحل، بحسب ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه، لا ما هو عليه في نفسه؛ إذ لا يصح ذلك إلا في مسائل الإجماع فههنا اتفق الفريقان. وإنما اختلفا بعد: فالمخطئة حكمت بناء على أن ذلك الحكم هو ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه. والمصوبة حكمت بناء على أنه لا حكم في نفس الأمر، بل هو ما ظهر الآن. وكلاهما بان حكمه على علة مظنون بها أنها كذلك في نفس الأمر. وهذا الذي ذكره الشاطبي إنما يصح إذا تقرر أن المصالح الشرعية إضافية باعتبار أن الأحكام التي تتبعها هي - كذلك - إضافية، كما ذكر.

وأما إذا كانت المصالح ذاتية فإنه لا يستقيم لأنها ستكون حقيقية موضوعية، ثابتة في مواطنها، فلا تكون تابعة لرأي الفقيه الاجتهادي التابع لغلبة ظنه، وبذلك ما قاله القرافي هو الصواب والله تعالى أعلم

(1)

.

" المسألة الثانية عشرة"

في أن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة.

قال الناظم: "وبعد" أي هذا الذي تقدم ذكره من قطعية الأصول الشرعية، وأن مصالح العباد محفوظة بها، "فـ" إنه ينبغي أن يعلم أن هذا "الدين" مقرر "به" أي فيه و"معلوم" منه بالضرورة "أن الذي جاء به" أي بهذا الدين وهو الرسول صلى الله عليه وسلم "معصوم"

(1)

الموافقات 2 - 43 - 44.

ص: 75

837 -

فَهْوَ كَذَاكَ دَاخِلٌ فِي الْعِصْمَةْ

وَمَا عَلَيْهِ اجْتَمَعَتْ ذِي الْأُمَّةْ

838 -

بَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَسْمُوعِ

أَوْ بِاعْتِبَارِ حَالَةِ الْوُقُوعِ

أي محفوظ من كل ما يزري بمنصبه - النبوة والرسالة - من الرذائل والدناءات ومن كل ما يشين وإن كان من الصغائر، وإذا كان من جاء بهذا الدين معصوما "فهو" أي هذا الدين "كذاك داخل في العصمة" والحفظ الإلهي له، ولا يكون ذلك إلا بحفظ أصوله المذكورة، وقواعده الكلية - كما تقدم ذكره في المقدمة الأولى - "و" كذلك يدخل في العصمة الإلهية من الخطأ "ما عليه اجتمعت ذي" أي هذه "الأمة" واتفقت عليه.

"بيانه" أي بيان هذا الذي ذكر من حصول هذه العصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا الدين يكون من جهتين "من جهة" الدليل "المسموع" وهو ما جاء من الأدلة الدالة على ذلك تصريحا، وتلويحا كقوله تعالى -:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] وقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1].

وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52] فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها، ولا يداخلها التغيير ولا التبديل.

والسنة وإن لم تذكر فإنها مبنية له، ودائرة حوله، فهي منه وإليه ترجع في معانيها. فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا، ويشد بعضه بعضا. وقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

حكى أبو عمر الداني في "طبقات القراء" له عن أبي الحسن بن المنتاب قال: كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق فقيل له: لم جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال القاضي: قال الله عز وجل في أهل القرآن {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44] فوكل الحفظ إليهم، فجاز التبديل عليهم وقال في القرآن:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] فلم يجز التبديل عليهم، قال علي: فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي فذكرت له الحكاية، فقال: ما سمعت كلاما أحسن من هذا. وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء، حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مائة

ص: 76

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كذبة أو أكثر، فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء فكذلك في الأرض، وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة من مثله، وهو كله من جملة الحفظ، والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها من التغيير والتبديل

(1)

.

هذه هي الجهة الأولى، وأما الثانية فقد أوردها الناظم قائلا:"أو باعتبار" واستحضار "حالة" الوجود "والوقوع" التي يشهد عليها الحس، فإن الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن يشهد على هذا الحفظ على قطع وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة، والتفصيل.

أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه الالاف من الأطفال الأصاغر فضلا عن القراء الأكابر. وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم. ثم قيض الله - تعالى - ناسا يناضلون عن دينه ويدفعون الشبه ببراهينه، فنظروا في ملكوت السماوات والأرض، واستعملوا الأفكار، وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا، واتخذوا الخلوة أنيسا، وفازوا بربهم جليسا، حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سماواته وأرضه، وهم العارفون من خلقه، والواقفون مع أداء حقه، فإن عارض دين الإسلام معارض، أو جادل فيه خصم مناقض، غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة. فهم جند الإسلام وحماة الدين. وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة، تارة من نفس القول، وتارة معناه، وتارة من علة الحكم، حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر، وسهلوا لمن بعدهم طريق عليه، أو احتيج في إيضاحه إليه وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة وبالله التوفيق

(2)

.

(1)

الموافقات 2 - 45.

(2)

الموافقات 2 - 46 - 47.

ص: 77

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشَرَة

"

839 -

ثُمَّ إِذَا تُحْفَظُ كُلِّيَّاتُهْ

وَاجِبٌ أَنْ تُحْفَظَ جُزْئِيَّاتُهْ

840 -

فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِلشَّارعْ

مَعْ كَوْنِهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْوَاقِعْ

" المسألة الثالثة عشرة"

في أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات فلا يرفعها آحاد الجزيئات، كذلك نقول: إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها، فلابد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي، وتلك الجزئيات. فالجزيئات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي، فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع.

قال الناظم "ثم إذا" تقرر أنه "تحفظ كلياته" أي كليات هذا الدين فإنه "واجب" كذلك "أن تحفظ جزئياته" لأن بها قيام ذلك الكلي، وبذلك "فإنها مقصودة" بالذات "للشارع" ولذلك وقع ورود العتب شرعا للتارك في الجملة من غير عذر، وذلك كترك الصلاة، أو الجماعة، أو الجمعة، أو الزكاة، أو الحج، أو مفارقة الجماعة لغير أمر مطلوب، أو مهروب منه - كان العتب وعيدا، أو غيره - كالوعيد بالعذاب، وإقامة الحدود في الواجبات، والتجريح في غير الواجبات، وما أشبه ذلك "مع كونها" أي هذه الجزيئات "موجودة في الواقع" الخارجي حقيقة بخلاف الكلي، لأنه من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه، لأنه راجع لأمر معقول، لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزيئات، فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله؛ فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات.

وأيضا فإن المقصود بالكلي هنا أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف وإهمال القصد في الجزيئات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي؛ فإنه مع الإهمال لا يجري كليا بالقصد، وقد فرضناه مقصودا.

هذا خلف، فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات، وليس البعض في ذلك

ص: 78

‌النَّوْعُ الثَّانِي فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلْإِفْهَامِ وَفِيهِ مَسَائِلُ

"‌

‌ الْمَسأَلَةُ الْأُولَى

"

841 -

هَذِي الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّهْ

مَنْسُوبَةٌ لِلْأمَّةِ الْأُمِّيَّهْ

842 -

فَفَهْمُهَا يَحْصُلُ مِنْ لِسَانِهَا

عَلَى الَّذِي يُعْهَدُ مِنْ بَيَانِهَا

843 -

وَأَلْسُنُ الْعُجْمَةِ لَيْسَ تَدْخُلُ

فِيهَا وَلَا فَهْمًا لَهَا تُحَصِّلُ

أولى من البعض فانحتم القصد إلى جميع. وهو المطلوب

(1)

.

النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام وفيه مسائل

"المسألة الأولى"

منها هي أن "هذه الشريعة" المباركة "المحمدية" شريعة "منسوبة" كما في الحديث الشريف "للأمة الأمية" وهي - هنا - الأمة التي لا تكتب ولا تحسب، وبذلك "فـ" طلب "فهمها" أي هذه الشريعة والعلم بمضامينها إنما "يحصل من" جهة "لسانها" أي لغتها التي هي العربية، وذلك "على" وفق سبيل "الذي يعهد" ويعرف "من بيانها" وما انطوى عليه من طرق في التعبير وأساليب مختلفة الصرفة. "و" أما "ألسن" ولغات "العجمة" وهو كل ما ليس بالعربية فإنها "ليس تدخل فيها" أي في هذه الشريعة باعتبار أن البحث في كون القرآن ليس فيه كلمة أعجمية، كما ذهب إلى ذلك جماعة من الأصوليين. أو فيه ألفاظ معربة ليس مقصودا هنا، وإنما البحث المقصود هنا هو أن القرآن بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة. "و" بذلك فالألسن الأعجمية "لا" معنى لهذه الشريعة تكسب ولا "فهما لها تحصل" على الإطلاق.

(1)

الموافقات 2 - 47.

ص: 79

844 -

وَأَصْلُهَا الْقُرْآنُ وَهْوَ عَرَبِي

جَارٍ عَلَى نَهْجِ لِسَانِ الْعَرَبِ

845 -

فِي الْقَصْدِ لِلْإِفْهَامِ وَالْبَيَانِ

وَفِي الْأسَالِيبِ وَفِي الْمَعَانِي

846 -

وَمُقْتَضَى الْعُمُومِ فِي تَصَرُّفِهْ

وَصِحَّةُ الظَّاهِرِ أَوْ تَخَلُّفِهْ

847 -

يُعْرَفُ ذَا مِنْ وَسَطِ الْكَلَامِ

أَوْ طَرَفَيْهِ حَالَةَ الْإِفْهَامِ

848 -

وَفِي الْمَسَاقِ مُنْبِئًا عَنْ آخِرِهْ

أَوَّلُهُ وَعَكْسُهُ كَظَاهِرِهْ

" و" ذلك لأن "أصلها" أي هذه الشريعة هو "القرآن" فمنه تؤخذ قواعدها وفروعها "وهو عربي" قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]، وقال:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 195] وقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ومعنى كونه عربيا أنه "جار على نهج" طريق "لسان العرب" ومعهود تخاطباتهم الموضوعة "في القصد للإفهام" وإيصال المعنى المراد للأذهان "والبيان" أي الكشف والإظهار للمعنى المراد على وجه بين واضح "و" كذالك "الأساليب" جمع أسلوب، وهو لغة الطريق، والمراد به هنا طريق التعبير وصورته، ولكل لسان ما فطر عليه أهله من أساليبه المخصوصة به في بناء الكلام "وفي المعاني" التي تراد بتلك الأساليب، فالعرب تخاطب - باللفظ العام - "ومقتضى العموم في تصرفه" أي صرفه إلى المعنى المراد به "وصحة" حمله على "الظاهر" - أي ظاهره - الذي هو الشمول والاستغراق "أو تخلفه" أو بمعنى الواو أي وتخلفه عن ظاهره المذكور، وبذلك يحمل على خلافه وهو التخصيص، "ويعرف ذا" أي هذا كله ويعلم إما "من وسط الكلام" إن وقع فيه ما يدل على ذلك من لفظ دال على الاستغراق والشمول، أو التخصيص "أو طرفيه" وهما أوله وآخره، إن وقع فيهما ما يقتضي ذلك من الأدوات المفيدة للتعميم أو التخصيص، "حالة الإفهام" للمعنى المراد.

"و" كذلك الأمر "في" الاعتماد على "المساق " أي سياق الكلام قرينة لبيان القصد من الكلام، فالعرب تنطق بالكلام "منبئا عن آخره أوله" أي مبينا أوله المعنى المراد بآخره، وإن كان ظاهره العموم - مثلا - لأن ما سيق الكلام هو المعتبر، وليس ما دل عليه ظاهر اللفظ فيه، "و" كذلك "عكسه" وهو أنها تنطق بالكلام ينبئ آخره عن أوله، ويبينه و"كـ" ما يجري ما تقدم ذكره في اللفظ العام فإنه يجري في "ظاهره" أي الكلام فإن الظاهر - ما وضع له اللفظ لغة - قد يراد به عند العرب غير الظاهر، كما في المجاز

ص: 80

849 -

وَالشَّيْءُ وَاحِدٌ لَهُ أَسْمَاءُ

وَالاسْمُ تَمْتَازُ بِهِ أَشْيَاءُ

850 -

وَحَاصِلٌ أَنَّ اللِّسَانَ الْعَرَبِي

فِي الْفَهْمِ لِلْمَشْرُوعِ أَصْلٌ اجْتُبِي

851 -

وَحِينَ لَا يَفْهَمُ مُقْتَضَاهُ

سِوَاهُ لَا يَفْهَمُهُ سِوَاهُ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة

"

والتورية "والشيء" وإن كان "واحدا" فإنه قد توضع "له أسماء" متعددة، كما في الأسد "والاسم" قد "تمتاز" وتسمى به "أشياء" متعددة كما في لفظ "العين".

"وحاصل" الكلام في هذا الشأن "أن اللسان العربي في" أمر "الفهم" والإدراك المعرفي "للشروع" من الأحكام وما أنزل في النص الشرعي على الجملة والتفصيل "أصل أجتبى" - بالجيم - اختير واصطفى لينزل به هذا القرآن، ولتفهم به مضامينه وحده "وحين" تقرر أنه" لا يفهم مقتضاه" أي مقتضى اللسان العربي "سواه" السن الأعاجم، وأن اللسان العجمي لا يفهم من جهة اللسان العربي وذلك لاختلاف الأوضاع والأساليب ثبت أنه "لا يفهمه" أي اللسان العربي "سواه" أي اللسان العربي.

قال الشاطبي: "فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب"

(1)

وأصل هذا الكلام للشافعي في الرسالة قال - رحمه الله تعالى - في ذلك: فإنما خاطب الله بكتاب العرب بلسانها الرسالة .... في علمها ما يجهل بعضه.

قال الشاطبي: والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في الرسالة الموضوعة في أصول الفقه. وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبه لذلك

(2)

.

"المسألة الثانية"

في أن اللغة العربية - من حيث ألفاظ دالة على معان - أمران:

أحدهما: من جهة ألفاظها وعباراتها مطلقة دالة على معان مطلقة؛ وهي الدلالة الأصلية.

(1)

و

(2)

الموافقات 2/ 51.

ص: 81

852 -

دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعَانِي

فِي لُغَةِ الْعُرْبِ لَهَا لَحْظَانِ

853 -

مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ الْأَصْلِيَّة

مُفْهِمَةُ الْمَقَاصِدِ الْكُلِّيَّة

854 -

وَهْيَ الَّتِي فِيهَا اشْتِرَاكِ الْأَلْسِنَهْ

لِكَوْنِهَا عَنِ النُّهَى مُبَيِّنَهْ

855 -

ألَا تَرَى لَوْ أَنَّ قَصْرًا ابْتُنِي

أَمْكَنَ وَصْفُهُ لِكُلِّ الْأَلْسُنِ

856 -

وَمِنْ هُنَا أَمْكَنَ نَقْلُ الْخَبَرِ

عَنْ أُمَّةٍ لِأُمَّةٍ فِي الْأَعْصُرِ

857 -

أَوْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ الْفَرْعِيَّة

أَيِ الَّتِي تَكُونُ تَابِعِيَّة

والثانية: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة. وفي ذلك وفي بيان يقول الناظم:"دلالة اللفظ على المعاني في لغة العرب" بضم العين وسكون الراء - لغة في العرب بفتحتين - "لها لحظان" - تثنية لحظ، وهو الاعتبار والنظر - أي نظران واعتباران، فالناظر في هذه اللغة المتشوف إلى الاطلاع على أمرها وماهيتها يجب عليه أن يميزا بينهما بعد معرفته بهما على بيان، أحدهما: النظر - اللحظ - "من جهة" كونها ألفاظا وعبارات مطلقة، دالة على معان مطلقة، وهذه الدلالة هي "الأصلية" المجردة من أي اعتبارات خاصة بالمخبر - بالكسر أو المخبر - بالفتح، أو بهما على السواء وهذه الدلالة "مفهمة" ومبينة "المقاصد الكلية" من الكلام "و" هذه الجهة "هي التي فيها اشتراك" جميع "الألسنة" وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى، وذلك "لكونها عن" الذي تحصل في "النهى" بضم النون - جمع نهية، وهي العقل - أي العقول "مبينة" - بكسر الياء - أي مخبرة ومبلغة.

"ألا ترى" أنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد - مثلا - كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام تأتى له ما أراد من غير كلفة. وكذلك "لو أن قصرا ابتني" فإنه "أمكن وصفه لكل" أصحاب "الألسن" واللغات بلا مشقة "ومن هنا" أي من هذه الجهة "أمكن نقل الخبر" سواء كان قولا أو الفعلا "عن" لسان "أمة" وسواء كان عربيا أو غيره "لـ" لسان "أمة" أخرى عربية كانت، أو غيرها، ممن مضى "في الأعصر" الماضية، أو ممن ما زال حيا. هذا أحد النظرين وجهته. وأما الثاني فقد أورده الناظم قائلا "أو" - بمعنى الواو - أي واللحظ الثاني من "جهة" كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة لذلك الإخبار، وهذه هي "الدلالة الفرعية أي التي تكون تابعية"

ص: 82

858 -

وَهْيَ الَّتِي اخْتَصَّ لِسَانُ الْعَرَبِ

بِهَا وَتَقْتَضِي بِفَهْمٍ عَرَبِي

859 -

مِنْ حَيْثُ حَالُ مُخْبِرٍ وَمُخْبَرِ

وَمُخْبَرٍ عَنْهُ وَنَفْسِ الْخَبَرِ

860 -

وَجِهَةِ الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ

بِقَصْدِ تَمْهِيدٍ أَوِ اقْتِضَابِ

861 -

وَمُقْتَضَى التَّعْرِيضِ وَالتَّلْوِيحِ

أَوِ الْكِنَايَاتِ أَوِ التَّصْرِيحِ

أي تابعة للأصلية التي هي الدالة على أصل الخبر وحقيقته. "و" هذه الدلالة التابعة "هي التي اختص" وتميز "لسان العرب بها" فلا يشركه فيها ما سواه من اللغات والألسن "وتقتضي" تؤخذ وتعلم مقتضاها ومعانيها "بفهم عربي" فقط وهذا الاختصاص يجئ من جهات فإنه قد يأتي "من حيث" أي من جهة "حال مُخبِر" - بكسر الباء - بالخبر إذ قد يعرض له من الأحوال الخاصة به ما يوجب له صوغ الخبر على الوجه الذي يوافق ذلك.

وكذلك من جهة حال شخص "مُخبَر" - بفتح الباء - به فإنه يراعي في الأسلوب المخاطب هو به. باعتبار كونه خالي البال من الخبر، أو جاحدا له، أو غافلا. "و" كذلك حال "مخبر عنه" من حيث نظر المخبر به إليه فإنه يصاغ الكلام على مقتضاه؛ وذلك أنك تقول في ابتداء الأخبار "قام زيد" إن لم يكن ثم عناية بالمخبر عنه، بالخبر؛ فإن العناية بالمخبر عنه قلت "زيد قام" وفي جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة "إن زيدا قام" وفي جواب المنكر لقيامه "والله أن زيدا قام" وفي أخبار من يتوقع قيامه، أو الأخبار بقيامه قد "قام زيد" أو "زيد قد قام" وفي التنكيت على من ينكر:"إنما قام زيد". "و" كذلك كل حال "نفس الخبر" فإنه كما يتنوع ويختلف باعتبار ما ذكر يختلف باعتبار أسلوبه، وذلك من جهة "الإيجاز" وهو أن يكون اللفظ أقل من المعنى، إلا أن المعنى المراد يستبين به على وضوح تام "و الأطناب" وهو أن يكون اللفظ أكثر من المعنى - عكس الإيجاز - وبذلك قد يكون "بقصد تمهيد" لذكر الغرض الأصلي المسوق له الكلام وما من ذلك الغرض "أو اقتضاب و" يتنوع الكلام بـ "مقتضى" وحكم التعريض وهو استعمال الكلام في معنى ليفهم منه معنى آخر ليس ظاهره "والتلويح" وهو الكناية البعيدة التي كثرت فيها الوسائط "أو الكنايات" جمع كناية وهي لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه "أو التصريح" وهو ذكر اللفظ مقصودا منه معناه الظاهر. إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها. فتمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي، ولكنها من متمماته ومكملاته، وبطول الباع في هذا النوع يحسن

ص: 83

862 -

وَانْظُرْ إِلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْقِصَصْ

فَمِنْ هُنَا الْحِكْمَةُ فِيهَا تُقْتَنَصْ

863 -

وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ لَا يُمْكِنُ

أَنْ تُبْدِيَ الْمَقْصُودَ فِيهِ الأَلْسُنُ

864 -

فَضْلًا عَنْ أَنْ يُتَرْجَمَ الْقُرْآنً

إِذْ لَا يَفِي بِقَصْدِهِ لِسَانُ

865 -

أَمَّا عَلَى الْأُولَى فَذَاكَ مُمْكِنُ

لِمَا مَضَى وَالْأَمْرُ فِيهِ بَيِّنُ

مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر.

وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات "وانظر" على سبيل المثال "إلى اختلاف أنواع القصص" الواردة في القرآن الكريم، فإنها فيها ما هو متحد في المعنى الأصلي، وإن اختلفت ألفاظه التي ورد بها، وذلك لأنه يأتي مساق القصة في بعض الصور على وجه، وفي بعضها على وجه آخر، وفي ثالثة على وجه ثالث، وإذا تقرر هذا "فمن هنا" أي في هذا الموضع "لحكمة فيها" أي القصص يعني الحكمة في اختلاف ألفاظ هذه القصص "تقتنص" أي تؤخذ، وتعلم.

"فصل"

في استحالة الترجمة من هذه الجهة. "وباعتبار هذه" الجهة الثانية التي وصفت بأن الكلام فيها يصاغ على وفق الأحوال المخصوصة المذكورة، فإنه لا يتأتى و"لا يمكن أن تبدي" أي تظهر وتبين "المقصود" بتمامه "فيه" أي الكلام العربي، "الألسن" العجمية لأن هذه الخصائص أما أنه لا يوجد في اللغة المنقول إليها ما يقابلها ويؤدي معناها، من ألفاظ وكلمات، وأما أحوال النقلة - المترجمين - لا بد أن تكون مختلفة عن الناطقين بها؛ لاختلاف أغراضهم والمضمرات في النفوس من العقائد وغيرها، والمساقات المتباينة التي يساق فيها الكلام.

فإذا تقرر هذا فإنه لا يتأتى ترجمة اللسان البشري العادي إلى ما سواه من الألسن "فضلا عن أن يترجم القرآن" وينقل إلى لسان غير عربي فإن ذلك أمر لا سبيل إليه "إذ لا يفي بـ" بيان "قصده" أي ما قصد منه من مقاصد شرعية وحكم وأحكام وعلوم مختلفة على وجه التمام "لسان" كيفما كان.

هذا على الجهة الثانية "أما" ترجمته "على" الطريقة "الأولى" الأصلية "فذاك ممكن" ومتأت "لـ" أجل "ما مضى" ذكره وهو أن هذه الجهة يشترك فيها جميع الألسنة وتتساوى "والأمر فيه" أي في ترجمته من هذه الجهة "بين" أي واضح

ص: 84

866 -

وَمِنْهَا الاتِّفَاق فِي تَفْسِيرِ

مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ لِلْجمْهُورِ

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ الثَّالِثَة

"

867 -

وَهَذِهِ شَرِيعَةٌ أُمِّيَّهْ

كمِثْلِ أَهْلِهَا مِنَ الْبَرِيَّهْ

868 -

وَهْوَ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْمَصْلَحَة

أُجْرِي وَهَذَا كمْ دَلِيلٍ أَوْضَحَه

" ومنها" أي هذه الجهة وقع "الاتفاق في "جواز "تفسير" وشرح "معاني" نصوص "كتاب الله" تعالى "للجمهور" ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه.

"المسألة الثالثة"

في أن هذه الشريعة المباركة أمية، لأن أهلها كذلك، وبذلك تكون أوفق بالفطرة ومدارك الجماهير في معرفة الضروري منها.

"وهذه" الشريعة "شريعة أمية" ففهم الضروري منها للتعبد والاعتقاد لا يتوقف على الغوص في علوم عقلية ونظرية تتخطى مدارك الإنسان العادي فكانت هذه الشريعة "كمثل أهلها" المخاطبين بها في الأصل "من البرية" أي الخلق، وهم العرب، وقد كانوا أميين "وهو" أي هذا الذي عليه هذه الشريعة "على اعتبار حال المصلحة" أي مصلحة، إذا لم يقع فهم ما به يتعبدون معتاصا "أجرى" وأمضى. "وهذا" الأمر - وهو كون الشريعة على هذه الصفة - "كم" من "دليل" شرعي وعقلي "أوضحه" وبينه. ومن قوله - تعالى -:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] وقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] وفي الحديث: "بعثت إلى أمة أمية" لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين والأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها، وفي الحديث:"نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب. الشهر هكذا هكذا" وقد فسر معنى الأمية في الحديث، أي ليس لنا علم بالحساب والكتاب. ونحوه قوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة، الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك

(1)

.

(1)

الموافقات 2 - 53.

ص: 85

869 -

فَهْيَ عَلَى مَعْهُودِهِمْ فِي شَأْنِهَا

لِذَلِكَ اهْتَدَوْا إِلَى بُرْهَانِهَا

870 -

وَكَانَ لِلْعُرْبِ عُلُومٌ وَهِمَمْ

مُقْتَضِيَاتٌ لِمَحَاسِنِ الشِّيَمْ

871 -

فَصَحَّحَ الشَّرْعُ لِمَا مِنْهَا شَرَعْ

وَرَدَّ غَيْرَهُ بِأَنْ مِنْهُ مَنَعْ

872 -

أَمَّا الَّذِي يُعْزَى مِنَ الْعُلُومِ

إِلَيْهِمُ فَالْعِلْمُ بِالنُّجُومِ

وبذلك "فهي" أي الشريعة "على معهودهم" أي ما يعهدون في طرق فهمهم ودرجة إدراكهم للأشياء "في شأنها" أي شأن تبليغ مضامينها لهم، وبذلك تكون معجزة لهم، لأنه لم تكن على ما يعهدون، لم تكن معجزة لهم، ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم؛ هذا على غير ما عهدنا، إذ ليس لنا عهد مثل هذا الكلام، من حيث أن كلامنا معروف، مفهوم عندنا، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف، فلم تقم الحجة عليهم به لكن لما كان على ما هو معهود عندهم، ومعروف فهموا هذه الشريعة، "ثم لذلك اهتدوا" إلى درك ومعرفة "برهانها" وحجتها الموجبة لإذعانهم، بعد عجزهم عن الإتيان بمثل سورة مما قامت عليه الشريعة العظيمة.

"فصل"

في أن للعرب اعتناء بعلوم، وأنه كان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح، وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبينت منافع من ذلك، ومضار ما يضر منه.

قال رحمه الله في ذلك: "وكان للعرب علوم" أي اعتناء بعلوم "و" كذلك لهم "همم" - جمع همة بكسر الهاء وفتها - ما يهم بفعله ويعتنى بأمره "مقتضيات" بكسر الضاد - أي موجبات "لمحاسن الشيم" بكسر الشين، جمع شيمة، وهي الخلق - أي لمحاسن الأخلاق - الأخلاق الحسنة - ولما جاء الإسلام غربل هذا الذي هم عليه من الأخلاق والأحوال.

"فصحح الشرع لما" أي الذي هو "منها شرع" أي جعله مشروعا لكونه صحيحا في المعيار الشرعي، "ورد غيره" مما هو فاسد "بأن منه منع" وصرف الخلق عنه لحكمه بالبطلان. هذا شأن وحال ما عليه العرب من الأخلاق ما هم مطبوعون عليه من الشيم. "أما الذي يعزى" أي ينسب الاشتغال به "من العلوم إليهم فـ" إنه "العلم بالنجوم" وذلك

ص: 86

873 -

بِقَصْدِ الاهْتِدَاءِ لِلْجِهَاتِ

وَالْعِلْمُ بِالْفُصُولِ وَالْأَوْقَاتِ

874 -

فَقَرَّرَ الْقُرْآنُ هَذَا الْمَعْنَى

فِيمَا بِهِ عَلَى الْعِبَادِ امْتَنَّا

875 -

وَالْعِلْمُ بِالْأَنْوَاء وَالْأمْطَارِ .. وَبِالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْجَارِ

876 -

فَبَيَّنَ الشَّرْعُ لَنَا مَا حَقَّقَا

وَأَبْطَلَ الْبَاطِلَ مِنْهُ مُطْلَقَا

" بقصد" الاسترشاد و"الاهتداء" بها "للجهات" التى تهدي وترشد إليها في البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وبذلك يدركون الجهة التي يقصدونها، ويعلمونها، ثم تعلمون - أيضا - في هذا الشأن منازل سير الشمس والقمر. وكذلك "علم" أحوال وخصائص "الفصول" الدائرة على مدار السنة، "والأوقات" أي الأزمنة، "فقرر القرآن" الكريم "هذا المعنى" وأورده "في" معرض "ما به" من النعم "على العباد امتنا" - الألف للإطلاق - ومتن عليه ذكره بنعمته وفضله عليه - وذلك في مواضع كثيرة - كقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعَام: 97] وكقوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] وقوله سبحانه: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يَس: 39 - 40]، وقوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يُونس: 5] وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البَقَرَة: 189] وما أشبه ذلك

(1)

.

"و" مما لهم عناية به كذلك "العلم بالأنواء" جمع نوء - بفتح النون - وهو النجم إذا مال للمغيب. والمراد بعلمه ما كانوا عليه من معرفة نجوم المنازل، وهي ثمانية وعشرون نجما معرفة المطالع في أزمنة السنة كلها من الصيف والشتاء، والربيع والخريف، يسقط منها كل ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع في المشرق آخر يقابله من ساعته وكلاهما معلوم مسمى. "و" كما لهم معرفة بما ذكر لهم معرفة بأوقات نزول "الأمطار وبـ" هبوب "الرياح" المثيرة للسحاب "و" إنشاء "السحاب الجاري" بسوق الرياح - وقوله الجاري - تتميم للبيت لصحة الاستغناء عنه وهذا كله كانوا على معرفة به. "فبين الشرع لنا" ووضح "ما حققا" أي ثبت وأقر من ذلك "وأبطل" أي أزال ومحى "الباطل منه مطلقا" سواء كان أمرا عقديا، أو عمليا. فبين أن

(1)

الموافقات 2 - 55.

ص: 87

877 -

وَالْعِلْمُ بِالتَّارِيِخِ وَالْأَخْبَارِ

وَذَاكَ فِي الْقُرْآن أَمْرٌ جَارِ

878 -

فَكَمْ بِهِ مِنْ قِصَّةٍ وَمِنْ خَبَرْ

بِالْغَيْبِ فِيهِ لِلنُّفُوسِ مُعْتَبَرْ

الأمر كل لله، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرّعد: 12 - 13] وقال سبحانه -: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)} [الواقِعَة: 68 - 69] وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)} [النبأ: 14] وقال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 82] قال: "شُكْرُكُم، تقولُون مُطرنَا بنَوء كذا كذا، وبنجم كذا كذا".

وفي الحديث: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي"

(1)

الحديث في الأنواء، وفي الموطأ مما انفرد به:"إذا أنشأت بحريّة ثم تشاءمت فتلك عين غديقة".

وقال عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته: كم بقي من نوء الثريا؟ فقال له العباس: بقي من نوئها كذا وكذا. فمثل هذا مبين للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار. وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22] الآية. وقال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] إلى كثير من هذا.

"و" كما لهم العلم بما ذكر لهم "العلم بالتاريخ والأخبار" أي أخبار الأمم الماضية، "و" إيراد "ذاك" أي أخبار مما مضى من الأمم والرسل "في القرآن" وكذلك في السنة "أمر جار" واقع، ولكن القرآن احتفل في ذلك بأنباء الغيب "فكم به" أي فيه "من قصة" لمن مضى من الرسل وأقوامهم "ومن خبر" أي أخبار "بالغيب" من لدن عليم خبير، ذلك الخبر الذي "فيه للنفوس" والعقول "معتبر" أي عبرة، وموعظة، وذكرى.

قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44] وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49] وغير ذلك من جنس ما ذكر.

(1)

الموافقات 2 - 55 - 56.

ص: 88

879 -

وَالْعِلْمُ بِالزَّجْرِ وَبِالْعِيَافَةِ

وَالضَّرْبِ بِالْحَصَى مَعَ الْكَهَانَةِ

880 -

فَأَبْطَلَ الشَّارعُ ذَاكَ كُلَّهُ

وَرَدَّ مِنْهُ فَرْعَهُ وَأصْلَه

881 -

فَهْوَ تَخَرُّصٌ عَلَى الْغَيْبِ بِلَا

أَصْلٍ وَمِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُجْتَلَى

882 -

وَإِنَّمَا أَقَرَّ حُكْمَ الْفَالِ

مِنْ حَيْثُ لَا يَسْمُو لَهُ بِحَالِ

" و" لهم أيضا "العلم بالزجر" وهو أن يزجر طائر أو ظبي فيسنح وهو أن يأتي من جهة اليمن ذاهبا لجهة اليسار - أو يبرح - هو أن يأتي من جهة اليسار إلى جهة اليمين. والسانح للتيمن، والبارح للتشاؤم عند العرب وبنو لهب هم أصحاب هذا الأمر. "و" لهم كذلك العلم "بالعيافة" وهو الزجر المذكور، والتفاؤل بأسماء الطيور، وأصواتها، وممراتها. وبنو أسد هم من يذكر بأنهم من أهل هذا الشأن. وكذلك "الضرب بالحصى مع الكهانة" وهو تعاطي الأخبار عن الكائنات في المستقبل، وادعاء معرفة الأسرار. وأصل ما به ينطقون من الشياطين، وقد كان هذا الأمر في الجاهلية.

"فـ" لما جاء الإسلام "أبطل الشارع" سبحانه "ذاك كله" وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن إتيان الكهان والعرافين وعلى الطيرة وما شابهها مما ذكر وغيره بالفساد والبطلان "ورد منه فرعه" أي ما يعتبر فيه فرعا كالضرب بالحصى فإنه فرع من الكهانة "وأصله" أي ما يعتبر منه أصلا، كالكهانة، لأن ذلك كله حقيقة الأمر خيال وأوهام شيطانية "فهو تخرص" أي كذب، وافتعال للباطل وافتراء في ادعاء الاطلاع "على الغيب" وهو ما لا يدرك إلا بقدرة خارقة تثخطى القدرة البشرية، والكهان من على سبيلهم يدعون الاطلاع على الغيب "بلا أصل" يعحمدون عليه في ذلك، بل "ومن غير دليل" أو برهان يدل على مدعاهم ذاك "يجتلى" يظهر ويبين.

"وإنما أقر" الشارع "حكم الفأل" - بالهمز - ضد الطيرة. وهو الكلمة الصالحة السارة، وذلك: كأن يكون الشخص مريضا، فيسمع آخر يقول: يا سالم. أو يكون طالب ضالة، فيسمع يا واجد. فيقول تفاءلت بكذا، ويتوجه في ظنه كما سمع: أنه يبرأ من مرضه، أو يجد ضالته. وفي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم: "يحب الفأل الحسن" وذلك "من حيث" جهة أنه "لا يسمو" أي لا يعلو "له" أي لطلب العلم الغيب "بحال" ما من الأحوال، فإن طلب به الاطلاع على الغيب عن رصد، وقصد، فإن ذلك رفع

ص: 89

883 -

وَجَاءَ فِي تَعَرُّفِ الْغُيُوبِ

بِمَا أَتَى بِغَايَةِ الْمَطْلُوبِ

884 -

وَذلِكَ الْإِلْهَامُ وَالْوَحْيُ الَّذِي

خُصَّ بِهِ الرَّسُولُ فِي ذَا الْمَأْخَذِ

885 -

وَتَرَكَ الرُّؤْيَا لِكُلِّ الْأُمَّةِ

وَأنَّهَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ

886 -

كَذَلِكَ الْإِلْهَامُ وَالْفِرَاسَةُ

خُصَّا مَعًا بِمَنْ لَهُ وِلَايَةُ

887 -

وَالْعِلْمُ بِالطِّبِّ مِنَ التَّجْرِيبِ

لِبَعْضِ مَا يُوصِلُ لِلْمَطْلُوبِ

له إلى درجة الكهانة، والزجر، وبذلك يلحق بما هو محظور في هذا الشأن شرعا.

"وجاء" الشارع "في" سبيل "تعرف الغيوب" والاطلاع عليها "بما أتى" أي جاء "بغاية" ونهاية "المطلوب" في هذا الشأن - وهو الاطلاع على المغيبات - وكان ذلك حقا محضا صرفا "وذلك" الذي أتى به الشارع في هذا الشأن هو "الإلهام" وهو أن يلقى الله في النفس أمرا يبعث صاحبها على الفعل، أو الترك، وهو أمر يخص الله به من يشاء من عباده. وكذلك "الوحي" فإنه يعلم به الغيب من لدن حكيم خبير، وهو "الذي خص" وانفرد "به الرسول" صلى الله عليه وسلم دون ما سواه ممن بعده من الخلق، ويشاركه الأنبياء والرسل ممن قبله "في ذا المأخذ" وهو تلقي علم الغيب من جهة الوحي، وهو - الوحي - مأخذ مخصوص بالأنبياء فلا يأخذ العلم بالغيب منه غيرهم ولا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا. إلا أنه عليه الصلاة والسلام "وترك الرؤيا" الصالحة "لكل الأمة" أي أمته فإنها من المبشرات "وأنها جزء من النبوة" كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "الرؤيا الحسنة" من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وبذلك فهي عام أمرها لكل المؤمنين "كذلك الإلهام" فهو لجميع المؤمنين على سبيل الاحتمال، "و" مثله في ذلك "الفراسة" - بكسر الفاء - وهو ما يوقعه الله في قلوب المؤمنمِن، فيعلمون به أحوال بعض الناس والأمور بنوع من الكرامات، وإصابة الظن، والحدس، وهما أي الإلهام والفراسة "خصا معا بمن" من المسلمين "له ولاية" لله - تعالى - وهو الذي آمن وكان يتقي.

"و" مثل ما للعرب من العلم بما ذكر، فإن لهم كذلك "العلم بالطب" وقد أدركوا منه ما أدركوا "من" جهة "التجريب" والاختبار "لبعض ما" من الأدوية "يوصل للمطلوب" وهو التداوي والاستشفاء.

ص: 90

888 -

وَجَاءَ فِي الشَّرْعِ كَذَاكَ شَأْنُهُ

لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ شَفَى بَيَانُهُ

889 -

وَالْعِلْمُ بِالْكَلَامِ وَالْمَعَانِي

وَمُقْتَضَى أَسَالِيبِ الْبَيَان

890 -

وَمِنْ هُنَا لَمَّا أَتَى الْقُرْآنُ

كَانَ لَهُمْ لِأمْرِهِ إِذْعَانُ

891 -

لِفَهْمِهِمْ مَوَاقِعَ الْإِعْجَازِ

فِي حَالَيِّ الْإِطْنَابِ وَالْإِيجَازِ

892 -

وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ عِنْدَ النَّظَرْ

لَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ قُدْرَةُ الْبَشَرْ

" وجاء في الشرع" المبارك هذا "كذاك" كمثل ما جاء فيه ما تقدم ذكره من أخبار الأمم الماضية "شأنه" أمره وما يعد من مسائله "لكن على وجه" وحال "شفى" أي شاف "بيانه" ومقتضاه وحكمه، وهو قليل - يطلع منه كثير -. قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعرَاف: 31].

وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء. ومن تلك الأدوية العسل، والحبة السوداء. وأبطل من ذلك ما هو باطل كالتداوي بالخمر، والرقى التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا.

"و" كذلك لهم - أي العرب - أيضا - "العلم بـ" فنون وأساليب "الكلام" المختلفة "والمعاني" جمع معنى أي ما دل عليه الكلام أخذا من صورته التركيبية، وشكله اللفظي "ومقتضى" ومدلول "أساليب" أي طرق "البيان" الجاري بناؤها على التشبيه، والتمثيل، والمجاز، والكناية، وهذا أعظم منتحلاتهم، وما يعتقد أنهم أربابه، وأصحاب الصدر فيه بلا منازع، وأعلم الخلق به.

"ومن" أجل هذا الذي تقرر "هنا" في حقهم في هذا العلم "لما أتى القرآن" واطلعوا على ما انطوى عليه من بيان وبلاغة ودقة في الكلام معجزة "كان لهم لأمره" أي مقتضاه في هذا الشأن "إذعان" وخضوع وذلك "لفهمهم مواقع" ومواطن "الإعجاز" في ألفاظه وآياته، "في حالي الإطناب". وهو التعبير عن المعنى المقصود وتأديته بلفظ زائد عما قد يؤدى به، ويعبر به عنه، "والإيجاز" وهو تأدية المعنى بلفظ غير زائد، أو بكلام أقل من المتعارف عليه العادي، "وعلمهم بأنه" أي القرآن "عند النظر" والتدبر لآياته "لا تنتهي" ولا تصل "إليه" أي إلى الإتيان به، أو بمثله "قدرة البشر" على الإطلاق.

ص: 91

893 -

وَهْوَ عَلَى فُنُونِهِمْ قَدِ اشْتَمَلْ

مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ أَوْ ضَرْبِ الْمَثَلْ

894 -

غَيْرَ مَنَاحِي الشِّعْرِ وَاتِّزَانِهِ

فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ شَأْنِهِ

895 -

وَمُقْتَضَى مَكَارِمِ الْأخْلَاقِ

تَمَّمَهَا الشَّرْعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ

896 -

وَخُوطِبُوا بِهَا فِي الأوَّليَّة

فَجُلُّهَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّة

" وهو "لم يأت بما لا يعرفون ولا عهد لهم به من أساليب وفنون في الكلام، وإنما هو "على فنونهم" وأساليبهم الجاري عليها كلامهم "قد اشتمل" واحتوى، "من" نحو "مقتضى" - بفتح الضاد - أي ما تقتضيه "الحكمة" - وهي الإصابة من القول، والفعل - من سداد ورشد وصلاح حال "أو ضرب المثل" للاعتبار، والتفكر، قال تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)} [الزمر: 27] فجاء القرآن على مجاري أساليبهم وسبل تعابيرهم كلها "غير مناحي" - جمع منحى - وهو المقصد هنا أي مقاصد ومرامي "الشعر واتزانه" أي وما هو عليه من وزن وإيقاع "فإنه" أي القرآن "منزه" أي مبعد، "عن شأنه" لأنه ليس مبنيا على أصل صحيح، ولكنه هيمان وذهاب على غير رشد في الكلام، لأنه قول لا يصدقه فعل. قال - تعالى -:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)} [الشُعَرَاء: 226 - 224] وهذا مناف لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله - تعالى - في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشُّعَرَاء: 227]. ولما كان الشعر بهذه المنزلة برأ الله - سبحانه - هذه الشريعة منه فقال عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} [يسَ: 69 - 70]. وقال - سبحانه -: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} [الصَّافات: 36 - 37].

"و" أما ما يرجع إلى "مقتضى مكارم الأخلاق" كالجود، وإكرام الضيف، والذود عن الجار، والوفاء بالعهد وما جرى مجرى ذلك فإنه قد "تممها" وبلغ بها الدرجة التي سمت بها عما كانت عليه "الشرع على الإطلاق" فلم يلغ منها شيئا مما يعد من مكارم الأخلاق حقيقة "و" قد "خوطبوا بها" يعني خوطبوا بالتمسك بها وإتيانها والتحلي بها "في" المرحلة، "الأولية" من نزول الوحي وبعثة الرسول، ولذلك "فجلها" أي جل هذه المكارم، ورد الخطاب بها "في السور المكية" التي نزلت قبل الهجرة.

ص: 92

897 -

لَاكِنْ عَلَى وَجْهٍ مِنَ التَّلَطُّفِ

يُشْعِرُ بِالتَّأْنِيسِ وَالتَّعَطُّفِ

898 -

فَلُوبِنُوا فِيمَا بِهِ التَّعْرِيفُ

وَاسْتُدْرِجُوا لِمَا بِهِ التَّكْلِيفُ

899 -

وَرُغِّبُوا فِيمَا بِهِ التَّرْغِيبُ

وَأُشْعِرُوا بِمَا لَهُ تَرْهِيبُ

900 -

مِمَّا يُرَى لَهُمْ مِنَ الْمَعْهُودِ

مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَوْجُودِ

" لاكن" الخطاب بها كان "على وجه" أي سبيل "من التلطف" أي الترفق الذي "يشعر بالتأنيس" وهو إدخال الأنس على النفوس، "والتعطف" وهو خطابهم من جهة عواطفهم، فكان الخطاب لهم بذلك حيث كان آنس لهم وأجرى على ما يتمدح به عندهم. كقوله - تعالى -:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90] وقوله - سبحانه -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعَام: 151] إلى انقضاء تلك الخصال وقوله - تعالى - {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعرَاف: 32]. وقوله تعالى -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعرَاف: 33]. إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى.

"فلوبنوا" - من الملاينة - أي خوطبوا بلين الكلام "فيما به" قد وقع "التعريف" والبيان لحكم هذا الخصال "و" كأنهم بذلك "استدرجوا" أي أدناهم على التدريج "لـ" ذكر وبيان "ما به" يحصل "التكليف" لهم من العقائد والعبادات "و" بذلك "رغبوا فيما به" يكون ويحصل "الترغيب" من الوعود بالثواب، والأجر، "وأشعروا" وأعلموا بما ثبت "له ترهيب" وتخويف لهم، إذ نهوا عن الترك وغيره من الموبقات وأوعدوا على عدم الامتثال لما أمروا به أو لما نهوا عنه، وهددوا عليه بالعذاب الأليم، وقد خوطبوا في ذلك كله بما يفهمون، "مما" من الدلائل والبراهين "يرى" أي يعلم أن معرفته بالنسبة "لهم من "الأمر "المعهود" المعروف الثابت لهم "من جهة المعقول" أي ما يعقل - أي يدرك بالعقل - "و" من "الموجود" في الخارج المدرك بالحواس. فقد خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون: من سماء وأرض وجبال، وسحاب، ونبات، وبدلائل الآخرة كذلك.

وأرشدوا إلى النظر في أحوال هذه الموجودات وغيرها للاهتداء بها إلى إدراك قدرة الخالق - سبحانه - في خلقه، ثم للعبور بذلك إلى أمور الآخرة، وأحوالها. ثم إن الشارع

ص: 93

951 -

وَانْظُرْ لِكَيْفِيَّاتِ مَنْعِ الْخَمْرِ

فَإِنَّهَا الْغَايَةُ فِي ذَا الْأمْرِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَة

"

902 -

وَكَوْنُهَا أُمِّيَّةُ الْمَقَاصِدِ

يُبْنَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي قَوَاعِدِ

903 -

مِنْهَا اطِّرَاحُ قَوْلِ مَنْ قَدْ مَالَ فِي .. دَعْوَاهُ فِي الْقُرْآنِ لِلتَّعَسُّفِ

904 -

إِذْ نَسَبُوا إِلَيْهِ كُلَّ عِلْمِ

مُسْتَنْكَرٍ فِي الشَّرْعِ عَافِي الرَّسْمِ

الحكيم - سبحانه - أبطل ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة، وليس كذلك؛ أو فيه من المفاسد ما يربى على المصالح التي توهموها، وكل ذلك ماض على سبيل التدريج "وانظر" على سبيل المثال "لكيفيات" تحريم و"منع الخمر" شربه وبيعه وغير ذلك مما هو معروف حكمه في شأنه "فإنها" - بالتخفيف للضرورة على ما يظهر - يعني فإن هذه الكيفيات، إنما حصلت شرعا على الوجه الذي حصلت عليه "للغاية" المذكورة في "ذا الأمر" وهو المنع المذكور.

"المسألة الرابعة"

في أن هذا الأصل وهو كون هذه الشريعة جارية على مذهب أهلها - وهم العرب - تنبني عليه قواعد قال الناظم: "وكونها" أي هذه الشريعة "أمية" في "المقاصد" أي مقاصدها في الإفهام، وبناء المعرفة، والأسلوب الخطابي وغير ذلك مما تقدم ذكره أصل "يبني عليه" ويؤسس "الحكم" الذي يعتمد عليه "في قواعد" وضوابط علمية يجرى على مقتضاها في فهم هذه الشريعة.

"منها" أي هذه القواعد وجوب "اطراح" أي نبذ وإسقاط "قول من قد مال" وجنح في دعواه التي هو عليها "في" تأويل "القرآن" الكريم "للتعسف" والخبط والدعوى على القرآن الحد "إذ نسبوا" وأضافوا "إليه كل علم" يذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من كل علم "مستنكر" مذموم "في الشرع عافي" ذاهب وزائل "الرسم" أي الأثر، ثم إنه ليس مما كان للسلف الصالح به عناية، أو معرفة، أو اشتغال، وإنما أتى به بعض من الناس وأفحموه في علم هذه الشريعة، وبعمومات على الدعوى استدل وذاك لو كان صحيحا لنقل.

ص: 94

905 -

وَبِعُمُومَاتٍ عَلَى الدَّعْوَى ايسْتُدِلْ

وَذَاكَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَنُقِلْ

906 -

كَمَا اسْتَدَلَّ بِفَوَاتِحِ السُّوَرْ

مَنِ اقْتَفَى عِلْمَ الْحُرُوفِ وَاعْتَبَرْ

" و" ربما "بعمومات" أي بنصوص عامة "على" هذه "الدعوى" الباطلة "استدل" وذلك كقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعَام: 38]"وذاك" استدلال باطل، لأنه استدلال بلفظ على معنى لا يشمله، ولا يدل عليه بدليل أنه "لو كان" معنى "صحيحا" مقصودا مما استدل به عليه "لنقل" عن السلف الصالح الخوض فيه، فالصحابة والتابعون ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه؛ وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من المدعى، ولو كان في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدل على أصل المسألة إلا أن ذلك لم يكن، فدل أنه غير موجود عندهم. وأما الآيات المستدل بها على هذه الدعوى فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبدات، أو المراد في قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعَام: 38] اللوح المحفوظ

(1)

.

و"كما استدل" بما ذكر من الآيات على تضمن القرآن لجميع العلوم مما لا يعرفه العرب استدل كذلك "بفواتح السور" فإنها مما لا عهد للعرب به فهم لا طاقة لهم بفهم المراد بها، وهذا دليل إثبات أن القرآن قد تضمن من المعارف والعلوم ما لا عهد للعرب به ولا طاقة لهم بفهمه، فبطل مدعى من ذهب إلى أن القرآن لا يتضمن العلوم إلا ما للعرب به، ولهم طاقة على فهمه، وقد استدل بهذا - فواتح السور - على هذا الأمر "من اقتفى" أي اتبع "علم الحروف" وطلب معانيها "واعتبر" ما تدل عليه، وبنى الحكم عليه. وفي هذا يقول الشاطبي - لا دليل فيه على ما ذكر، وذلك أن العرب لهم بمدلولات الحروف معرفة كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله - تعالى - وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا عهد به، فلا يكون، ولم يدّعه أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادعوه وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت. فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه. ويجب الاقتصار - في الاستعانة على فهمه - على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم

(1)

الموافقات 2/ 61 بتصرف.

ص: 95

"‌

‌ فَصْلٌ

"

907 -

وَإِنَّ مَعْهُودَ اللِّسَانِ الْعَرَبِي

فِي فَهْمِهِ أَصْلٌ قَوِيُّ السَّبَبِ

908 -

وَشَأْنُهُمْ رِعَايَةُ الْمَعَانِي

وَحِفْظُهُمْ لِلَّفْظِ عَنْهَا ثَانِي

909 -

فَكُلُّ مَا أَدَّى لِمَعْنىً قَدْ قُصِدْ

فَهْوَ وَإِنْ تَعَدَّدَ اللَّفْظُ اعْتُمِدْ

ما أودع من الأحكام الشرعية. فمن طلبه بغير ما هو له أداة له ضل عن فهمه وتقوّل على الله ورسوله فيه والله أعلم وبه التوفيق

(1)

.

"فصل"

في أن من القواعد المبنية على كون هذه الشريعة أمية أن يطلب فهمها أي الشريعة - من اتباع الأميين - وهم العرب الذين نزل القرآن بلغاتهم.

"و" من القواعد المبنية على ما ذكر "أن معهود اللسان العربي" وما عرف أنه جار عليه سواء في المعاني أو الألفاظ، أو الأساليب "في" طلب "فهمه" هو "أصل" ثابت "قوي السبب" يعني الأساس، وما قام عليه من دليل، فلا بد من رعاية ما هم عليه من شأن في هذا "وشأنهم" ومعهودهم مثلا - "رعاية المعاني" المقصود والمرادة من الكلام - فالعبرة بالمعاني لا بالمباني - فكل ما أدى المعنى المراد وبين المقصود من الألفاظ مقبول وإن كان غيره من الألفاظ هو الأولي بالاستعمال بمقتضى الوضع أو غيره في ذلك المعنى "و" بذلك كان "حفظهم" والتزامهم "للفظ" أمرا غير متخطى، وإنما هو أمر مؤخر اعتباره "عنها" أي عن المعاني، يعني عن اعتبارها، فهو - أي اعتبار الألفاظ - أمر "ثان" في اعتبارهم، وبذلك فهم ماضون على اعتبار المعنى بالأصالة "فكل ما أدى" من الألفاظ "لمعنى" ما مقصود من الكلام فإنه "قد قصد" به ما أدى من معنى "فهو" أي ذلك المعنى "وإن تعدد اللفظ" الدال عليه "اعتمد" وقبل، إذ من شأن العرب الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها، ولا يعد ذلك اختلافا، ولا اضطرابا، إذا كان المعنى المقصود على استقامة. والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف. وفي هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن كثير.

(1)

الموافقات 2 ص 61 - 62.

ص: 96

"‌

‌ فَصْلٌ

"

910 -

وَرَعْيُ مَعْنَى الْمُفْهِمِ الْخِطَابِي

فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي الْخِطَابِ

911 -

وَجُعِلَ اللَّفْظُ لَهُ وَسِيلَة

تُوضِحُ مِنْ بَيَانِهِ سَبِيلَه

ألا ترى ما حكى ابن جني عن عيسى بن عمر، وحكى عن غيره أيضا قال سمعت ذا الرمة ينشد:

وظَاهرْ لَهَا من يَابس الشّخْت

علَيهَا الصَّبا واجْعَل يَديك لها ستْرًا

فقلت: أنشدني من بائس؟ فقال: يابس وبائس واحد. فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين لبؤس واليبس، لما كان معنى البيت قائما على الوجهين، وصوابا على كلتا الطريقتين، وقد قال في رواية أبي العباس الأحوال: البؤس واليبس واحد أنشدني ابن الأعرابي:

ومَوضع زير لا أُريدُ مَبيتَه

كأني به شدَّة الرَّوع آنسُ

فقال له شيخ من أصحابه: ليس هكذا أنشدتنا: وموضع ضيق، فقال: سبحانه الله، تصحبنا منذ كذا وكذا، ولا تعلم أن الزير والضيق واحد؟

وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة، وبألفاظ، متباينة، يعمل من مجموعها أنهم كانوا لا يلتزمون لفظا واحدا على الخصوص، بحيث يعد مرادفه أو مقاربه عيبا أو ضعفا، إلا في مواضع مخصوصة لا يكون ما سواه من المواضع محمولا عليها، وإنما معهودها الغالب ما تقدم

(1)

.

"فصل"

"و" من هذه القواعد كذلك أنه ينبغي بل يجب "رعي" واعتبار "معنى" اللفظ "المفهم" للمعنى المراد في المساق "الخطابي" والعناية به "فإنه المقصود في الخطاب" فإذا اتضح فإنه لا فائدة في الاشتغال بظواهر الألفاظ وحددوها، لأن المراد هو معرفة المعنى "و" إنما "جعل اللفظ له وسيلة" قناة توصله للمخاطب و"توضح من بيانه" وإظهاره "سبيله" والطريق الموصل إليه.

(1)

الموافقات 2 - 63 - 64.

ص: 97

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال الشاطبي: "فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد؛ والمعنى المقصود، ولا أيضا كل المعاني، فإن المعنى الإفرادي قد لا يعبأ به، إذا كان المعنى التركيبي مفهومًا دونه؛ كما لم يعبأ ذو الرمة ببائس، ولا يابس، اتّكالًا منه على حاصل المعنى مفهوم. وأبين من هذا ما في جامع الإسماعيلي المُخرَّج على صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ:

{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 31] قال: ما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا هذا. أو قال: ما أُمرنا بهذا. وفيه أيضا عن أنس: أن رجلًا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 31] ما الأب؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف. ومن المشهور تأديبه لصبيْغ حين كان يكثر السؤال عن (المرسلات) و (العاصفات) ونحوهما.

وظاهر هذا كله إنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي، فرأى أن الاشتغال به عن غيره - مما هو أهم منه - تكلف. ولهذا أصل في الشريعة صحيح، نبه عليه قوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البَقَرَة: 177] إلى آخر الآية.

فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي لم يكن تكلفا، بل هو مضطر إليه، كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النّحل: 47] فإنه سئل عنه على المنبر، فقال رجل من هذيل: التخوف عندنا: التنقص، ثم أنشده:

تخوّف الرّحلُ منْهَا تَامكا قردًا

كَما تَخوّف عُود النَّبْعَة السَّفَنُ

فقال عمر: أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم. فليس بين الخبرين تعارض؛ لأن هذا قد توقف فهم معنى الآية عليه بخلاف الأول. فإذا كان الأمر هكذا فإن اللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب؛ لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني الخطاب ابتداء. وكثير ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسُّنة، وتستعجم غرائبه على غير الوجه الذي ينبغي، فَتَسْتبهم على الملتمس، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب، فيكون عمله في غير معمل، ومَشْيُه على غير طريق

(1)

.

(1)

الموافقات 2 - 66 - 67.

ص: 98

"‌

‌ فَصْلٌ

"

912 -

وَالْعِلْمُ إِنْ كَانَ بِهَا الْإِفْهَامُ

مِمَّا بِهِ تَشْتَرِكُ الْأَفْهَامُ

913 -

وَمَا بِهِ التَّكْلِيفُ لِلْخَلْقِ صَدَرْ

مَأْخَذُهُ سَهْلٌ عَلَى فَهْمِ الْبَشَرْ

" فصل"

"و" من تلك القواعد أيضا أن "العلم إن" كان قصد "بها" أي بالألفاظ "الإفهام" له والبيان، فإن ذلك يكون ويصح بما يتأتى فهمه لعموم المكلفين "مما" من الألفاظ والمعاني "به" أي فيه - يعنى في فهمه وإدراكه "تشترك الأفهام" والعقول على القدر الذي يعد ضروريا من ذلك. فإن الناس في الفهم ليسوا على واحد ولا متقارب، إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها. وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا. ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم، إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم؛ اللهم إلا أن يقصدوا أمرًا خاصًا لأناس خاصة، فذاك كالكائنات الغامضة، والرموز البعيدة، التي تخفى عن الجمهور، ولا يخفى عمن قصد بها، وإلا كان خارجا عن حكم معهودها. فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة، بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب. ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف، واشتركت فيه اللغات حتى كانت قبائل العرب تفهمه.

"و" من تلك القواعد كذلك أن "ما" ورد "به التكليف" من الأمور العقدية والعلمية "للخلق" و"صدر" عن الشارع طلب فعله أو تركه "مأخذه" أي أخذه من جهة العقل أي تعقله "سهل على فهم البشر" وقوتهم الإدراكية العقلية. سواء في الأمور العقدية أو العملية. أما العقدية فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أمية. وقد ثبت كونها، فلا بد أن يكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ. ثم إنها - أي الشريعة - لو لم تكن كذلك فإنه يؤول الأمر فيها إلى تكليف ما لا يطاق. وهو غير واقع فيها. ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه، وراجت غير ذلك فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة وهو قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشّورى: 11] وسكتت عن أشياء لا تهتدى إليها

ص: 99

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العقول، نعم لا ينكر تفاضل الإداركات على الجملة وإنما النظر في القدر المكلف به ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين والمتكلفين كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة بل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه النهي عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها حتى قال لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله وثبت النهى عن كثرة السؤال وعن تكلف ما لا يعنى عاما في الاعتقادات والعمليات وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل وإنما يريد ما كان من الأشياء التي لا تهتدى العقول لفهمها مما سكت عنه أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه وعلى هذا فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها ولله در القائل:

وللعقول قوى تستن دون مدى

إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات

ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها. وأما العمليات فمن مراعاة الأمية فيها إن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات في الأمور، بحيث يدركها الجمهور؛ كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم، كتعريفها بالظلال، وطلوع الفجر والشمس، وغروبها وغروب الشفق. وكذلك في الصيام في قوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البَقَرَة: 187] ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها نزل: {مِنَ الْفَجْرِ} [البَقَرَة: 187]. وفي الحديث: "إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم" وقال: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا" وقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل؛ لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها، ولدقة الأمر فيه، وصعوبة الطريق إليه. وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين، وعذر الجاهل فرفع عنه الإثم، وعفا عن الخطأ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور، فلا يصح الخروج عما حُدَّ في الشريعة، ولا تَطلُّب ما

ص: 100

914 -

وَإِنْ بَدَا تَفَاوُتٌ فِيهَا اعْتُبِرْ

وَاحْتِيجَ فِيهِ لِبَيَانٍ وَافْتُقِرْ

915 -

فَذَاكَ فِيمَا لَمْ يُحَدَّ أُطْلِقَا

بِحَسَبِ الْمُكَلَّفِينَ مُطْلَقَا

916 -

فَصَارَ فِيهِ كلُّ شَخْصٍ كُلِّفَا

بِمُقْتَضى إِدْرَاكِهِ مُكَلَّفَا

وراء هذه الغاية؛ فإنها مظنة الضلال، ومزلة الأقدام

(1)

.

"و" أما "إن بدا" أي ظهر "تفاوت" بين الناس في فهمها وإدراك المراد الشرعي منها "فيها" أي في هذه الشريعة يعنى في أمور منها وخصال وكان هذا التفاوت قد "اعتبر" شرعا، "و" ثبت بذلك أنه قد "احتيج فيه" أي في هذا التفاوت الحاصل في هذا الشأن "لبيان" أي إيضاح زائد على ما يفهمه الجمهور بإدراكه الأصلي "وافتقر" إليه فيه بحيث يتعذر فهمه إلا به، لأنه لا مطمع في أن يدركه الجمهور، أو يفهمه على الوجه المطلوب، فاختص بفهمه أهل العلم والنظر الدقيق، وبذلك فإن الشريعة لا يصح أن يقال بأنها جارية على وفق الجمهور في كل ما ورد فيها، بل فيها ما هو للعامة، وفيه ما هو للخاصة، وهم العلماء وهذا أمر مقطوع به. "فـ" الجواب عن هذا بأوجه منها: أن "ذاك" التفاوت إنما هو "فيما" من أمور هذه الشريعة "لم يحد" التكليف به بحد يوقف عنده بل "أطلقا" - بالبناء للمفعول - والألف فيه للإطلاق - أي لم يقيده، فصار مقتضاه يحدد "بحسب" حال نظر "المكلفين" وقوتهم العلمية والعملية "مطلقا" من غير حد. "فصار فيه كل شخص" سواء كان من العامة أو من الخواص "كلفا " يكون "بـ" حسب وقدر "مقتضى" وقوة "إدراكه" النظري والعلمي "مكلفا" لا يطلب منه ما يتخطى ذلك.

قال الشاطبي: فصار كل أحد فيها مطلوبا بإدراكه، فمن مدرك فيها أمرًا قريبًا فهو المطلوب منه، ومن مدرك فيها أمرا هو فوق الأول فهو المطلوب منه. وربما تفاوت الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها، بل بما هو دونها ومن كان قادرًا على ذلك مطلوبا

(2)

، وفي الأصل مزيد بيان واستدلال.

(1)

الموافقات 2 - 67 - إلى 69.

(2)

الموافقات 2 - 71.

ص: 101

"‌

‌ الْمَسْالةُ الْخَامِسَة

"

917 -

وَتَقْتَضِي أَحْكَامُهَا الشَّرْعِيَّة

مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ الْأَصْلِيَّة

918 -

وَفِي اقْتِضَائِهَا مِنَ الْأخْرَى نَظَرْ

فَالْأَخْذُ بِالتَّرْجِيحِ فِيهَا مُعْتَبَرْ

919 -

فَقَدْ يُقَالُ الْمَنْعُ أَوْلَى مُطْلَقَا

إِذْ مُقْتَضَى الْأَصْلِيِّ قَدْ تَحَقَّقَا

920 -

وَغَيْرُهُ دعْوَى بِلَا دَلِيلِ

وَإِنْ أَتَى فَقَابِلُ التَّأْوِيلِ

" المسألة الخامسة"

في أن الأحكام الشرعية تؤخذ في هذه الشريعة من النصوص الشرعية لكن من جهة دلالتها الأصلية. وأما دلالتها التبعية فإن أخذ الأحكام من جهتها أمر فيه نظر. "وتقتضي" أي تستفاد وتؤخذ "أحكامها" أي أحكام هذه الشريعة "من جهة الدلالة الأصلية" التي تقدم أنها الجهة الأولى التي ينظر إليها في اللغة، وأنها التي لا تتفاوت فيها الألسن واقتضاء وأخذ الأحكام الشرعية من هذه الجهة أمر مجمع عليه. "وفي اقتضائها" أي استفادتها وأخذها "من" الجهة "الأخرى" التابعة للجهة الأصلية المذكورة وهي الجهة التي تقدم أنها الجهة الثانية التي ينظر في اللغة إليها، وأنها التي لا تتساوى فيه الألسن واللغات، وإنما تختلف وذلك للاعتبارات المتقدم ذكرها، "نظر" مبتدأ مؤخر قوله في استفادتها خبره مقدم عنه، وإعمال للأذهان، وبحث "فقد يقال" في الاحتجاج والاستدلال على صحة مذهب من لا يرى أخذ الأحكام الشرعية واستفادتها من هذه الجهة التابعة - كالظاهرية - "المنع" من هذا الأخذ وهذه الاستفادة "أولى" أي أرجح "مطلقا" سواء كانت دلالة تنبيه وإيماء أو دلالة إشارة، "إذ مقتضى" وموجب جهة المعنى "الأصلي" قد "تحقق" وتم، وهو المراد من الكلام. "و" أما غيره وهو المعنى التبعي المذكور فالقول به "دعوى بلا دليل" يصحبها "و إن أتى" ما يعد دليلا على صحتها "فـ" إنه "قابل للتأويل" والجواب عنه بما يقتضي أنه ليس ما يدل عليه هذه الدعوى.

والمعنى الأصلي هو ما قصد من الكلام وما سواه فهو تبعي له وأن ما قصد قد عبر عنه بالمجاز، فهو الأصلي المعتبر. هذا بإيجاز رأي من يرى منع أخذ الحكام من هذه الجهة. وانظر في الأصل أدلة أهل هذا الرأي الذي رجحه الشاطبي.

ص: 102

921 -

وَكَوْنُهَا مِنَ اللِّسَاِن الْعَرَبِي

يَدُلُّ أَنَّ أَخْذَهَا مِنْهُ اجْتُبِي

922 -

وَأَخْذُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَحْكَامِ

بِمقتَضَاهَا وَاضِحُ الْأَعْلَامِ

923 -

مِثْلُ أَقَلِّ مُدَّةِ الْأَحْمَالِ

مِنْ مُقْتَضَى التَّعْيِينِ لِلْفِصَالِ

" و" أما من يرى صحة الأخذ للأحكام الشرعية من هذه الجهة فإنه يقول: مستدلا على صحة رأيه هذا "كونها" أي هذه الجهة التبعية "من اللسان العربي" الذي يشمل ما دل بالجهة الأولى وما دل بالجهة الثانية "يدل أن أخذها" أي هذه الحكام "منها" أي من هذه الجهة مسلك "اجتبى" أي اختير، ورجح "و" يزاد على هذا أن "أخذ أهل العلم في" بناء "أحكام" شرعية - فقهية - "بمقتضاها" وما تدل علمِه، مسلك "واضح" بين "الإعلام" أي العلامات التي ترشد فيه، والمعالم الذي يهتدى بها في المضي فيه.

والأحكام المبنية على ما ذكر كثيرة، وذلك "مثل أقل مدة الأحمال" للنساء وهو ستة أشهر، فإنه حكم مأخوذ "من مقتضى" ودلالة النص القرآني الوارد في "التعيين" والتبيين "لـ" وقت وزمان "الفصال" - بكسر الفاء - وهو الفطام، يقال فصلت المرأة ولدها فصالا، أي أفطمته، وذلك النص هو قوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله سبحانه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمَان: 14] فالمقصد في الآية الأولى بيان الأمرين جميعا من غير تفصيل. ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدا، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدا، فلم يذكر لها مدة. فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر. قال ابن كثير عند تفسير لهذه الآية: وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمَان: 14] وقوله تبارك وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البَقَرَة: 233] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح. ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

ومن الأحكام المأخوذة من هذه الجهة - كذلك - أن أكثر مدة الحيض خمسة عشرة يوما. وهو مأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام: "النساء ناقصات عقل ودين فقيل له وما ناقصات دينهن؟ " قال تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي - وفي ثبوت هذا الحديث بهذا اللفظ نظر - والمقصود الإخبار بنقصان دينهن، لا الإخبار بأقصى مدة الحيض، ولكن لزم منه أن يكون أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما،

ص: 103

"‌

‌ فَصْلٌ

"

924 -

وَمَا أَفَادَ أَدَبًا شَرْعِيَّا

يُلْفَى كَذَاكَ حُكْمُهُ مَرْعِيَّا

923 -

مِنْهُ الْكِنَايَاتُ عَنِ الْأَشْيَاءِ

فِيمَا يُرَى مَظِنَّةُ اسْتِحْيَاءِ

وأقل الطهر كذلك، لأنه ذكر شطر الدهر مبالغة في بيان نقصان دينهن. وغير ذلك من الأحكام المأخوذة من هذه الجهة، وقد نقل الأصوليون في كتبهم منها جملة في مبحث دلالة الإشارة.

"فصل"

وذهب الشاطبي إلى اختيار مذهب المانعين إلا أنه قال: لكن فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي، وهي آداب شرعية وتخلفات حسنة، يقربها كل ذي عقل سليم، فيكون لها اعتبار في الشريعة، فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة.

وفي ذلك يقول الناظم: "و" يؤخذ من هذه الجهة كذلك "ما أفاد أدبا شرعيا" وتخلف حسنا، وهو ما "يلفي" أي يوجد "كذاك" الذي ذكر من الأحكام "حكمه مرعيا" لأنه مأخوذ من جهة الشرع وهذا بيانه يكون بذكر ما يمثل به.

"ومنه" - وهو المثال الأول - الإتيان بذكر "الكنايات" - جمع كناية وهي اللفظ الذي أريد به لازم معناه مع جواز إرادته - في التعبير "عن الأشياء" التي هي "فيما يرى" أي يعلم ويعتقد بمقتضى الأخذ بمكارم الأخلاق أن التصريح به "مظنة استحياء" بل هو محل وموطن استحياء جريا على مقتضى العوائد، ومكارم الأخلاق.

مثال ذلك أن القرآن الكريم ورد فيه التكنية عن الجماع باللباس والمباشرة.

وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط. وكما قال - تعالى - في نحوه: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المَائدة: 75].

قال الشاطبي: فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع، لا بحكم الأصل

(1)

.

(1)

الموافقات ج 2/ ص 80.

ص: 104

926 -

وَمِنْهُ الالتفَاتُ فِي الْخِطَابِ

وَفِيهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْآدابِ

927 -

كَمِثْلِ الْإِقْبَالِ وَكَالتَّنْبِيهِ

عَلَى عُلُوِّ الشَّأْنِ وَالتَّنْزِيهِ

928 -

وَمِنْهُ فِي النِّدَا بِفَرْقٍ بَادِ

بِنِسْبَةِ الْمَعْبُودِ وَالْعِبَادِ

929 -

فَحَيْثُ نَادَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا

عِبَادَهُ حَرْفُ النِّدَاءِ أُعْمِلَا

" ومنه" ما يمثل به في هذا الشأن كذلك - وهو المثال الثاني - "الالتفات" الوارد "في الخطاب القرآني" وهو يكون من الغيبة إلى الحضور، ومن الحضور إلى الغيبة "وفيه" أي هذا الالتفات "جملة من الآداب" التي يجب التحلي بها، لأن هذا الالتفات لا يكون إلا لمقتضى أحوال تفيد هذه الآداب التي هي "كمثل الإقبال" من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه، كقوله - تعالى - {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفَاتِحَة: 2 - 4] ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفَاتِحَة: 5].

وبالعكس إذا اقتضاه الحال أيضا؛ كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يُونس: 22] وتأمل في هذا المساق معنى قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} [عَبَسَ: 1 - 2] حتى عوتب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المقدار من هذا العتاب، لكن على حال تقتضي الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتب، ثم رجع الكلام إلى الخطاب، إلا أنه بعتاب أخف من الأول، لذلك ختمت الآية بقوله تعالى {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)} [عَبَسَ: 11]

(1)

.

"و" منه كذلك ما ورد في نصوص شرعية مما يلزم من الآداب مع الله عز وجل "كالتنبيه على علو الشأن" والمقام و"التنزيه" لله - سبحانه - والتعظيم لذاته وقد ورد ذلك في مواطن من القرآن الكريم من هذه جهة "ومنه" - وهو المثال الثالث - ما جاء من الآيات "في النداء" فإنه قد جاء "بفرق باد" أي للعباد وذلك "بنسبة" نداء "المعبود" سبحانه للعباد "و" دعاء "العباد" الله تعالى فإنهما مختلفان "فحيث نادى الله جل وعلا عباده حرف النداء" وهو الياء "أعملا" وجيء به وذلك كقوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ

(1)

الموافقات 2 - 80.

ص: 105

930 -

وَمُقْتَضَاهُ مُشْعِرٌ بِالْعَبْدِ

وَأَصْلُهُ التَّنْبِيهُ قَبْلَ الْقَصْدِ

931 -

وَفِي نِدَاءِ الْعَبْدِ لِلَّهِ فَلَا

يُوْتَى بِيَا وَلَفْظُ رَبٍّ أقْبَلَا

932 -

فَالْحَذْفُ مُشْعِرٌ بِقُرْبِ مَنْ دُعِي

وَالرَّبُّ مُوذِنٌ بِنَيْلِ الطَّمَعِ

933 -

وَمِنْهُ بِالتَّرْكِ لِمَا يُنَزَّهُ

عَنْهُ الَّذِي لَهُ بِهِ التَّوَجُّهُ

آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العَنكبوت: 56] وقوله - سبحانه -: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ} [الزمَر: 53] وقوله عز وجل: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعرَاف: 158].

"و" هذا "مقتضاه" وموجبه "مشعر بالعبد" لأن العبد الأصل فيه الغفلة فهو يحتاج على كل حال إلى التنبيه "وأصله" أي حرف النداء "التنبيه قبل" ذكر "القصد" أي الكلام المقصود تبليغه للمخاطب.

"و" أما "في نداء العبد لله" يعني في دعاء العبد لله تعالى"فـ" إنه "لا يوتي بيا" بل تحذف "ولفظ رب" بالتنوين المشعر بالتنوع في الصيغة، نحو "ربنا" "ورب "اقبلا" - الألف للتوكيد - واعتمده سبيلا في هذا الشأن فإنه الوارد شرعا كما في قوله - تعالى -:{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف: 15] وقوله سبحانه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القَصَص: 16]"فالحذف" لياء النداء في هذا المقام "مشعر بقرب من ادعى" وهو الله سبحانه وتعالى وقد اختير لفظ "الرب" في هذا الموضع، لأنه "موذن" أي معلم من أذانه إذا أعلمه "بنيل" أي إدراك ما تعلق به "الطمع" والرجاء.

قال الشاطبي: "إن نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصلح شأنه فأتى في النداء القرآني بلفظ الرب في عامة الأمر، تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضى للحال المدعو بها. وذلك أن الرب في اللغة هو القائم بما يصلح المربوب"

(1)

.

"ومنه " أي ما يتمثل به في الشأن هذا - وهو المثال الرابع - ما يكون تحصيل الآداب الشرعية فيه "بالترك لما ينزه" أي يبعد ويتعالى "عنه الذي له" سبحانه "به" بذلك "التوجه" والقصد.

(1)

الموافقات 2 - 79.

ص: 106

930 -

وَانْظُرْ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرْ

وَفِي مَرِضْتُ ذَاكَ أَيْضًا اعْتَبِرْ

931 -

وَمِنْهُ تَرْكُ الرَّدِّ بِالْمُكَافَحَة

وَالْأَخْذُ بِالإِغْضَاءِ وَالْمُسَامَحَة

932 -

فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ

وَذَاكَ مَأْثُورٌ مِنَ التَّنْزِيلِ

" وانظر" على سبيل المثال "إلى قصة موسى والخضر" التي ورد فيها ما يقتضي هذا الأمر، ويدل عليه، ومن ذلك قوله - تعالى -:{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)} [الكهف: 81 - 80] فأسند الإرهاق إلى الغلام، وأسند تبديل الغلام بمن هو خير منه إلى الخالق - سبحانه - "و" كذلك الحال "في" قول إبراهيم عليه السلام كما في القرآن الكريم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشُّعَرَاء: 82 - 78] "ذاك" الأمر وهو ترك نسبة الشر إلى الخالق - تعالى - "أيضا اعتبر" إذ نسب فيه الخلق، والهداية والإطعام، والسقي والشفاء والأمانة والإحياء وغفران الخطيئة، دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض، فإنه سكت عن نسبته إليه.

"ومنه" أي ما يجري مثالا في هذا الشأن أيضا - وهو المثال الخامس "ترك الرد" على الخصم فيها "بالمكافحة" أي المواجهة والمدافعة، إذ المطلوب هو التحلي بالمكارمة "والأخذ بالإغضاء" أي التجاوز عن الخطأ "والمسامحة" أي المساهلة وهذا هو الأسلوب المختار "فإنه" أي ما ذكر من التحلي بهذه الخصال في أسلوب الخطاب والتبليغ "ادعى" يعني أبلغ في الدعوة "إلى القبول" والاستجابة، وترك العناد وإطفاء نار العصبية "وذاك" الذي ذكر في هذا الشأن - التحلي بما ذكر - "مأثور" أي منقول "من التنزيل" أي القرآن الكريم، ومن ذلك قوله - تعالى -:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سَبَأ: 24] وقوله - سبحانه -: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)} [الزخرف: 81]: وقوله عز وجل: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} [هُود: 35]- وقوله تعالى - {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزُّمَر: 43] وقوله - سبحانه -: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البَقَرَة: 170] وغير ذلك من الآيات الواردة على هذا النسق.

ص: 107

933 -

مِنْهُ بِإِجْرَاءٍ عَلَى الْعَادَاتِ

فِي الاعْتِنَاءِ بِالتَّسَبُّبَاتِ

934 -

وَالْعِلْمُ آتٍ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَا

بِمَا يُرَى مُسَبَّبًا هُنَالِكَا

935 -

وَمُقْتَضَى عَسَى بِذَاكَ ثَبَتَا

وَمِثْلُهُ لَعَلَّكُمْ حَيْثُ أَتَا

936 -

وَذَاكَ كَانَ لِلرَّسُولِ الشَّانُ

مَعَ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ كَانُوا

و"منه" وهذا هو المثال السادس، الأدب "بإجراء" أي في إجراء الأمور "على العادات" وذلك "في" حال "الاعتناء" والأخذ "بالتسببات" وتلقى الأسباب منها، يصار على هذا "و" إن كان "العلم" قد حصل، وهو ثابت و"آت من وراء ذلكا" الإتيان بالأسباب "بما يرى" أي يعلم أنه سيكون "مسببا هنالكا" في ذلك التسبب، فالأخذ بالأسباب العادية والأمر بها في مجاري الكسب وإن حصل العلم بما يكون عليه مئال الأمر في الإتيان بها هو من الآداب الشرعية، فالله - تعالى - علمه محيط بكل شيء إلا أنه - سبحانه - قد ساق ما يكون عن الأسباب مساق الترجيات العادية "ومقتضى" قوله - تعالى -:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسرَاء: 79] وقوله - سبحانه -: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المَائدة: 52]"بـ" سبب "ذاك" وهو التنبيه على هذه الآداب "ثبتا" في هذه النصوص "و مثله" في الدلالة على الآداب، "لعلكم حيث" في أي موضع "أتى" في القرآن الكريم - تعالى - {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النّحل: 95] وقوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البَقَرَة: 21] وما أشبه ذلك.

قال الشاطبي: - رحمه الله تعالى -: "فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور، والله تعالى عليم بما كان وما يكون، وما لم يكن أن لو كان كيف يكون. ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا. فكذلك ينبغي لمن كان غالبا بعاقبة أمر - بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور - أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم، دخولا في غمار العامة، وإن بان عنهم بخاصية يمتاز بها، وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات""وذاك" المسلك هو الذي "كان للرسول" صلى الله عليه وسلم "لشأن" أي الطريق والسبيل المتبع "مع المنافقين حيث" في أي موضع "كانوا" فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم بإخبار كثير منهم، ويطلعه ربه على أسرار كثيرة منهم، ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون لاجتماعهم في عدم انخرام

ص: 108

‌النَّوْعُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلتَّخلِيفِ بِمُقْتَضَاهَا وَفِيهِ مَسَائِلُ:

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى

"

941 -

تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ يُطَاقُ لَمْ يَقَعْ

شَرْعا وَإِنْ كَانَ لَدَى الْعَقْلِ يَسَعْ

942 -

فَإِنْ يَكُ الْقَصْدُ لِتَكْلِيفٍ ظَهَرْ

بِغَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ لِلْبَشَرْ

الظاهر، فما نحن فيه نوع من هذا الجنس، والأمثلة كثيرة

(1)

.

النوع الثالث في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتحليف بمقتضاها وفيه مسائل

من القصود الأربعة الراجحة إلى قصد الشارع وهو "بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها" والعمل بموجبها. "وفيه" يعني في بيان هذا القصد تورد "مسائل" وهو اثنتا عشرة مسألة.

"المسألة الأولى"

في بيان أن شرط التكليف هو القدرة على فعل المكلف به فـ "تكليف ما ليس يطاق" أي ما لا يقدر عليه - وهو ما يعبر عنه بالتكليف المحال - "لم يقع شرعا" فلم يرد في الشريعة تكليف العباد بما لا يطاق لهم به إلا ما كان من التكليف بالإيمان وما ثبت أن بعض المكلفين لن يأتوا به من التكاليف الشرعية وهو ما يعبر عنه بالتكليف بالمحال، وليست هذا من تكليف محال. "وإن كان" هذا الضرب من التكليف وهو التكليف بما لا يطاق "لدى" يعني في مقتضى "العقل" وحكمه ليس يمتنع بل "يسع" أي يجوز وقوعه ووروده، عقلا بل ذهب بعض الأصوليين إلى صحته شرعا بناء على أن فائدته هو الابتلاء والاختيار للمكلفين به هل يأخذون في المقدمات، فيرتب عليها الثواب، أو لا يأخذون فيها فيترتب عليها العقاب. ومن ذهب إلى المنع يرى أن الشريعة لم يرد فيها هذا الضرب من التكليف "فإن يكن القصد" من الشارع "التكليف بـ "فعل قد "ظهر غير مقدور عليه" وغير مستطاع "للبشر" الإتيان به.

(1)

الموافقات ج 2/ ص 81 - 82.

ص: 109

943 -

فذَاكَ رَاجِعٌ لِمَا يُلَازِمُ

كَمِثْلِ لَا تَمُتْ وَأَنْتَ ظَالِمُ

"‌

‌ الْمَسْألةُ الثَّانِيَةُ

"

944 -

وَالْوَصْفُ لِلإنْسَانِ إِنْ يَكُنْ طُبِعْ

عَلَيْهِ لَمْ يُطْلَبْ بِهِ أَنْ يَرْتَفِعْ

943 -

لِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ الاكْتِسَابِ

كَشَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ

" فذاك" لا يدل على أن الشارع قد قصد التكليف بما لا يطاق وإنما هو في حقيقة الأمر "راجع لـ" لتكليف بـ "ما يلازم" ذلك الأمر المكلف به وهو ما يلازمه وقد يكون من السوابق عليه، أو من اللواحق له، أو من القرائن المصاحبة له.

وذلك "كمثل لا تمت وأنت ظالم" وكقوله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البَقَرَة: 132] وما كان نحو ذلك. قال الشاطبي في هذا الشأن ليس المطلوب منه - أي المكلف - إلا ما يدخل تحت القدرة وهو الإسلام، وترك الظلم، والكف عن القتل والتسليم لأمر الله. وكذا سائر ما كان من هذا القبيل. ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترّس - على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله لا يصيبوك فقوله: لا يصيبوك من هذا القبيل

(1)

.

خلاصة القول أن ورود التكليف بما لا يطاق يصار في شأنه إلى التكليف بما يمكن منه من الأسباب، أي يصرف ما صاحبه أو تقدم عليه أو تأخر عنه من الأمور المقدورة للمكلف.

"المسألة الثانية"

في أنه إذا ثبت هذا - وهو أنه لا تكليف شرعي بما لا يطاق - "و" تقرر حكمه فـ "الوصف" الثابت "للإنسان إن يكن طبع عليه" وذلك بأن يكون مما قامت عليه بنيته الطبيعية بحيث لا يمكن له الانفكاك عنه فإنه "لم" بمعنى لا، أي لا "يطلب به" من جهة الشرع "أن يرتفع" ويزول بحيث يتجرد منه، وإنما كان حكمه كذلك "لكونه" مضطرا إليه، فهو يرد من "غير" جهة "الاكتساب" له والتسبب فيه وإنما يأتي من جهة الجبلة والطبيعة التي فطر عليها، فهو لا يستطيع التخلص منه بحال فالجملة، وذلك "كشهوة الطعام والشراب"

(1)

الموافقات ج 2/ ص 83.

ص: 110

946 -

وَإِنَّمَا يُطْلَبُ قَهْرُ النَّفْسِ عَنْ

مَيْلٍ إِلَى الْمَمْنُوعِ فِي غَيْرِ سَنَنْ

947 -

وَأَنْ يَكُونَ حَالَةَ الْإِرْسَالِ

لِمَا يَحِلُّ عَلَى الاعْتِدَالِ

948 -

وَذَاكَ رَاجِعٌ لِلأفْعَالِ الَّتِي

تَنْشَأُ عَنْهَا بِاكْتِسَابٍ مُثْبَتِ

"‌

‌ الْمَسْألةُ الثَّالِثَةُ

"

949 -

وَمَا مِنَ الْأَوْصَافِ لِلإِنْسَانِ

مُرَكَّبًا فِي طَبْعِهِ ضَرْبَانِ

950 -

مُشَاهَدٌ يُحَسُّ بِالْعِيَانِ

وَمُخْتَفٍ يَثْبُتُ بِالْبُرْهَانِ

ونحوهما من كل ما ليس في استطاعة البشر رفعه والتخلص منه. فكل ذلك لا يطلب شرعا الإتيان به ولا رفعه "وإنما يطلب" شرعا ما هو مقدور عليه وهو "قهر النفس" وضدها "عن الميل" إلى إتيان الفعل "الممنوع" المحرم الجاري "في غير سنن" أي سبيل شرعي ما. "و" كذلك يطلب شرعا "أن يكون" المكلف "حالة الإرسال" يعني إرساله النفس "لما" يعني فيما "يحل" ويباح "على الاعتدال" وهو ترك طرفي السرف: الإفراط، والتفريط. "و" إذا علم هذا وتقرر فإن "ذاك" التكليف بالأمور التي لا تطاق "راجع" أمره "لـ" لتكليف بـ "الأفعال التي تنشأ" وتترتب "عنها" والتي تحصل "باكتساب" وتسبب "مثبت" بقدرة البشر. فالغضب - مثلا - ونحوه مما نهى عنه وهو من الغرائز، يصرف النهي فيه إلى ما ينشأ عنه من أفعال منكرة أو إلى ما ينشأ هو عنه من أسباب، وهكذا الحكم في ما يشبهه. وسيأتي مزيدا على هذه المسألة.

"المسألة الثالثة"

في بيان أن الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين: "وما" هو "من الأوصاف" اللازمة "للإنسان" مغروزا و"مركبا في طبعه" وخلقته "ضربان" أي نوعان.

أحدهما: "مشاهد" أي مدرك بالمشاهدة أي "يحس" أي يدرك "بالعيان" والرؤيا. كما يدرك بالحواس الأخرى، "و" الثاني "مختف" أي خفي باطني، لا يحكم بوجوده حتى "يثبت" ذلك الوجود "بالبرهان" والدليل القاضي بذلك. مثال الأول: ما تقدم ذكره من شهوة الطعام والشراب، وما عليه الخلقة من طول وقصر ونحوهما.

ومثال الثاني: العجلة فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه، لقوله تعالى:

ص: 111

951 -

إِذًا فَمَا بِهِ تَعُلُّقُ الطَّلَبْ

أَضْرُبٌ الْأَوَّلُ مَا لَا يُكْتَسَبْ

952 -

قَطْعًا وَذَاكَ مَا مَضَى وَالثَّانِ

مُكْتَسَبٌ بِالْقَطْعِ لِلْإِنْسَانِ

953 -

فَذَا بِهِ التَّكْلِيفُ حَتْمًا مُطْلَقَا

وَالطَّلَبُ الْوَارِدُ ذَاكَ حَقَّقَا

954 -

كَانَ مِنَ الْمَقْصُودِ مُقْتَضَاهُ

فِي نَفْسِهِ أَوْ كَانَ فِي سِوَاهُ

955 -

وَثَالِثٌ مُشْتَبِةٌ فِي الْأَمْرِ

كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَمِثْلُ الْكُفْرِ

{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبيَاء: 37] وفي الصحيح: "أن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خلق خلقا لا يتمالك". وقد جاء أن الشجاعة والجبن غرائز وجبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها. إلى أشياء من هذا القبيل. وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات. وجاء "يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة، والكذب"

(1)

.

فإذا تقرر هذا "إذا" - بالتنوين - "فما" أي فالذي "به تعلق الطلب" الشرعي ظاهرا من الإنسان "أضرب" ثلاثة، الضرب - النوع - "الأول" منها هو "ما لا يكتسب" أي لا يدخل تحت كسب العبد "قطعا" وجزما "وذاك" هو "ما" أي الذي "مضى" ذكره. وهو قليل في الخطاب الشرعي، كقوله:{فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البَقَرَة: 132] وحكمه - كما تقدم بيانه - أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به "و" الضرب "الثان" منها "مكتسب" أي داخل تحت المقدور "بالقطع" أي بالجزم "للإنسان" باعتبار أنه يدرك - عادة - بالتسبب "فذا" أي هذا الضرب يقع "به التكليف حتما" أي وجوبا "مطلقا" أي سواء أكان مطلوبا لنفسه، أو لغيره "والطلب" المتعلق به و "الوارد" في شأنه "ذاك" وهو ثبوت التكليف به "حققا" وثبت، - كما سبق ذكره - سواء "كان" هذا الضرب "من" الصنف "المقصود مقتضاه" أي حكمه "في نفسه" كالصلاة، وغيرها من العبادات فإنها مطلوبة بنفسها "أو كان" مطلوبا "في" صحة ووجود "سواه" أي غيره شرعا، وذلك كالطهارة ونحوها من الوسائل والشروط في العبادات والمعاملات. وهذا الضرب الثاني هو الغالب الأكثري في الشريعة من حيث تعلق الطلب الشرعي به. "و" أما الذي هو ضرب "ثالث" من هذه الأضرب فهو "مشتبه في "هذا "الأمر" وهو التكليف به وعدمه، وذلك "كالحب والبغض ومثل الكفر"

(1)

الموافقات 2/ 83.

ص: 112

956 -

فَيَنْظُرُ النَّاظِرُ فِي الْحَقَائِقِ

وَالْحُكْمُ فِيهَا الْحُكْمُ فِي الْمُوَافِقِ

957 -

أَعْنِي مِنَ الْقِسْمَيْنِ ثُمَّ ظَاهِرُه

إِلْحَاقُهُ بِأَوَّلٍ يُنَاظِرُه

958 -

إِمَّا لِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ

وَدَاخِل تَحْتَ صِفَاتِ الْفِطْرَةِ

959 -

فَالطَّلَبُ الْوَارِدُ إِنَّمَا وَقَعْ

عَلَى التَّوَابِعِ الَّتِي فِيهِ تَقَعْ

960 -

لِأَنَّ الأوْصَافَ بِلَا ارْتيَابِ

تَتْبَعُهَا أَفْعَالُ الاكْتِسَابِ

961 -

إمَّا لِأنَّهُ لَهُ بَوَاعِثُ

مِنْ غَيْرِهِ لَيْسَتْ لَهُ تَنَاكُثُ

والجبن والشجاعة والغضب، والخوف ونحوها، فهذا كله متردد حاله بين أن يكون من القسم الأول وأن يكون من القسم الثاني، فكان محل اشتباه.

"فـ" يكون المصير إليه في ذلك هو أن "ينظر الناظر" وهو - هنا - الفقيه المجتهد "في الحقائق" أي حقائق جزيئات هذا الضرب، فينظر في كل جزئية منها على حدة حتى يظهر له حكمها "والحكم" الذي يذهب إليه في "فيها" أي في شأنها هو "الحكم" الذي ثبت "في الموافق" لها "أعنى" الموافق لها "من القسمين" يعني الضربين المتقدمين - الأول والثاني - فحيث ثبت لها حكم بمقتضى ذلك فإنه يصار إليه في شأنها. والمدار في ذلك على ما يقتضيه النظر الفقهي والاجتهاد. "ثم" - بمعنى الواو، فتفيد الترتيب اللفظي - يعني و"ظاهره" أي هذا الضرب عند الشاطبي هو أنه مما يدخل على الإنسان اضطرارا، وبذلك فحكمه هو "إلحاقه بأول" من هذه الضروب الذي "يناظره" في المكلف به في شأنه، وهو كذلك "إما لأنه من أصل الخلقة" والجبلة "وداخل تحت" اسم "صفات الفطرة" التي لا يتعلق بها لذاتها تكليف، وإذا تقرر ذلك في شأنه "فالطلب الوارد" بالتكليف به "إنما وقع" حكمه ومقتضاه "على التوابع" له "التي فيه" يعني في حالة التلبس به، "تقع" وذلك كتوابع الغضب، والطيرة، والحسد وغيرها من الأوصاف التي لا قدرة للمكلف على رفعها، فيصرف حكم النهي الوارد فيها إلى توابعها "لأن الأوصاف بلا ارتياب" أي شك "تتبعها أفعال" وتدعو لها تلك الأوصاف، وهي أفعال تحصل عن طريق "الاكتساب" والتسبب، وبهذه الأفعال يتعلق التكليف في هذا المقام - كما تقدم ذكره -.

و"أما" يعني أن الضرب ملحق بالضرب الأول إما لأنه من أصل الخلقة - كما تقدم - وإما "لأنه له" لهذا الضرب بواعث وأسباب "من غيره" أي المكلف "ليست له تناكث"

ص: 113

962 -

فَإِنْ تَكُنْ تَدْخُلُ تَحْتَ الْكَسْبِ

فَالسَّابِقُ الْمَطْلُوبُ فِي ذَا الضَّرْبِ

963 -

وَإِنْ تَكُنْ لَيْسَتْ مِنَ الْمَقْدُورِ

فَيُطْلَبُ اللَّاحِقُ لِلْأمُورِ

"‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

964 -

وَفِقْهُ الأوْصَافِ بِهَذَا النَّهْجِ

مُسْتَوْضِحٌ مِنْ مُهْلِكٍ وَمُنْجٍ

وفي هذه الحالة ينظر في تلك البواعث "فإن تكن تدخل تحت الكسب" وقدرة العبد فعلا، أو تركا "فـ" الباعث لها المقدور عليه "السابق" هو "المطلوب" شرعا "في ذا" أي هذا "الضرب" وذلك كالحب والبغض، فالمثير لهما هو ما تعلق به الخطاب. كقوله صلى الله عليه وسلم:"تهادوا تحابوا، وتصافحوا يذهب الغل عنكم". فيكون كقوله: "أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمة" مراد به التوجه إلى النظر في نعم الله - تعالى - على العبد وكثرة إحسانه إليه، وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن النظر المثير للشهوة الداعية لما لا يحل. وعين الشهوة لم ينه عنه.

هذا إذا كانت تلك البواعث داخلة تحت الكسب، ومقدورة للبشر "و" أما "إن تكن ليست من المقدور" عليه ولا مما يدخل تحت الكسب فإن الطلب لا يتعلق بها هي وبذلك "فـ" الذي "يطلب" ويتعلق به الخطاب هو "اللاحق لـ" تلك "الأمور" والمنهي عنها، وذلك كالغضب المثير لشهوة الانتقام، فإن الخطاب متعلق بهذه الشهوة التابعة للغضب، فهي التي يجب أن تكف. وكذلك حكم النظر المثير لشهوة الوقاع المحرم، فالتابع هنا وهو الشهوة هو الذي يجب أن يكف.

" فصل"

في أن فقه الأوصاف الباطنة يؤخذ من هذا الذي ظهر تقريره في هذه المسألة.

"وفقه الأوصاف" الباطنة يقرر ويصار إلى إدراكه "بهذا النهج" المتقدم إيراده - فهو أي الفقه المذكور - إدراكه بهذا المنهج "مستوضح" يعني واضحا مستبانا - والمعروف أن التاء والسين في استوضح للطلب - سواء كانت الأوصاف "من" ما هو "مهلك" أي موقع في الهلاك، - وذلك كالكبر، والحسد، وحب الدنيا، والجاه أو كانت مما هو حافظ "ومنج" - بضم الميم وسكون النون: اسم فاعل من انجاه فهو منج - وذلك

ص: 114

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ الرَّابِعَة

"

965 -

وَمَا مِنَ الْأَوْصَافِ لَيْسَ يَقْدِرُ

جَلْبًا لَهَا وَلَا سِوَاهُ الْبَشَرُ

966 -

بِذَاتِهَا ضَرْبَانِ مَا عَنْ عَمَلِ

يَنْشَأُ كَالْعِلْمِ وَضَرْبٍ أَوَّلِي

967 -

فَمَا يُرَى نَتِيجَةً عَنِ الْعَمَلْ

فَذَا عَلَى الْجَزَاءِ نَوْعُهُ اشْتَمَلْ

968 -

مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ عَنِ الْأسْبَابِ

مُسَبَّبٌ بَادٍ بِالاكْتِسَابِ

كالصفات الحميدة كالعلم، والتفكر، والاعتبار، واليقين، وغير ذلك مما هو نتيجة عمل. فذلك كله يخرج حكم التكليف به - لأنه من الأوصاف القلبية، وهو مما لا قدرة للإنسان على إثباته ولا نفيه - على أنه سواء كان أمرا أو نهيا - متعلق بما سبقه من الأعمال المفضية إليه. وإذا كان الأمر فيه على هذا الحال لا يصح التكليف به نفسه. وإن جاء في الظاهر ما يدل على ذلك فإنه مصروف إلى غير ذلك مما يتقدمه، أو يتأخر عنه، أو يقارنه. والله أعلم

(1)

.

"المسألة الرابعة"

في أن الأوصاف التي لا تدخل تحت كسب العبد على ضربين:

"وما" هو "من الأوصاف" خارج عن الكسب، وهو الذي "ليس يقدر جلبا لها" يعني ليست يقدر جلبا ذكر ليس باعتبار لفظ "ما" باعتبار جهة الإفراد، وأنث الضمير في "لها" باعتبار جهة الجمع فيه - أي في ما - "ولا سواه" وهو دفعها "البشر" هي "بذاتها ضربان" أي نوعان:"ما" يحصل "عن عمل" و"ينشأ" عنه "كالعلم" فإنه ينشأ عن النظر وهذا هو الضرب الأول "وضرب أولى" أي فطري وهو الثاني. "فـ" - تفريعية - "ما يرى" أي يعلم ويدرك أنه "نتيجة" وثمرة مترتبة "عن العمل" المقدور عليه، "فـ" إنه ليس من جنس ما لا يتعلق به جزاء بل "ذا" أي هذا "على الجزاء" أي الثواب، والعقاب "نوعه اشتمل" فالجزاء مترتب عليه، وذلك "من حيث أنه" وصف مترتب "عن الأسباب" و"مسبب" عنها، وبذلك فهو "باد بالاكتساب" أي ظاهر لذلك ليس من الصفات الفطرية، والخلقية.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 84 - بتصرف.

ص: 115

969 -

وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ بِهِ تَعَلَّقَا

مِنْ حَيْثُ مَا الْجَزَاءُ فِيهِ حَقَّقَا

970 -

وَغَيْرُهُ الْفِطْرِيُّ فِيهِ النَّظَرُ

مِنْ مَلْحَظَيْنِ عِنْدَمَا يُعْتَبَرُ

971 -

مِنْ كَوْنُهِ مِمَّا يُحِبُّ الشَّارعْ

أَوْ لَا وَهَلْ فِيهِ الْجَزَاءُ وَاقِعْ

972 -

فَالْأوَّلُ النَّصُّ الْجَلِيُّ يَقْتَضِي

تَعَلُّقُ الْحُبِّ بِهِ وَالْبُغْضِ

وكذلك "الحب والبغض" الشرعيين فإنهما "به" أي بهذا الضرب قد "تعلقا" - أيضا - في الجملة وذلك "من حيث" أي من جهة "ما" أي الذي "الجزاء فيه حققا" أي ثبتا، يعني أن الحب والبغض متعلقان بهذا الضرب من جهة كون الجزاء ثابتا فيه. أو أن الحب والبغض متعلقان بهذا الضرب ويعلم المتعلق منها بالجزئي منه بمقتضى نوع الجزاء المتعلق به، نعيما كان أو عذابا.

فما جزاؤه النعيم فهو محبوب شرعا، وما جزاؤه العذاب فهو مبغض شرعا هذا هو شأن الضرب الأول.

"و" أما "غيره " - وهو الضرب الثاني - فهو الوصف "الفطري" وهو الذي يكون المرء مفطورا عليه - مخلوقا عليه - مركبا في أصل خلقته، وهذا الضرب يكون "فيه النظر" الفقهي "من ملحظين" أي جهتين موصوفتين بأنهما محل اللحظ - أي الاعتبار - "عندما يعتبر" حاله وأحدهما - أي الملحظين - "من" جهة "كونه مما يحب الشارع أولا و" ثانيهما من جهة كونه "هل فيه الجزاء" الثواب والعقاب "واقع" أو لا؟

"فـ" أما ما يتعلق بالملحظ "الأول النص" الشرعي "الجلي" أي الظاهر "يقتضي" ثبوت "تعلق الحب به والبغض" ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس:

"أن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة" - كقوله عليه الصلاة والسلام "وجبت محبتي في المتحابين في، وللمتجالسين في وللمتزاورين في" - وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها" وغير ذلك من النصوص الشرعية الدالة على هذا التعلق.

ص: 116

"‌

‌ فَصْلٌ

"

973 -

ثُمَّ إِذَا يَثْبُتُ ذَا تَعَلَّقَا

كَذَاكَ بِالْأفْعَالِ أَيْضًا مُطْلَقَا

974 -

وَالثَّانِ هَلْ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْجَزَا

بِغَيْرِ مَقْدُورٍ إِذَا تَمَيَّزَا

975 -

أَوْ لَا يَصِحُّ ذَا مَجَالٌ لِلنَّظَرْ

وَالْقَوْلُ بِالتَّعْلِيقِ مِمَّا قَدْ ظَهَرْ

" فصل"

"ثم إذا يثبت ذا" أي هذا وهو ثبوت كون تلك الأوصاف قد تعلق بها الحب والبغض "تعلقا" ثابتا فإنهما "كذاك" يتعلقان "بالأفعال أيضا" كقوله تعالى -: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] وقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التّوبَة: 46] وقوله عليه الصلاة والسلام: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق".

وكما يتعلقان - الحب والبغض الشرعيان - بالأفعال، كذلك يتعلقان بالذوات الموصوفة بما من الصفات يتعلقان به، ومن ذلك قوله تعالى:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عِمرَان: 134] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفَال: 66]. وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البَقَرَة: 222] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عِمرَان: 57] وغير ذلك من الأدلة الواردة في هذا الشأن فإذا تقرر هذا علم أن ثبوت هذا التعلق كان "مطلقا" ثابتا في الذوات والصفات، والأفعال فتعلقهما أي البغض والحب الشرعيين بها تعلق بالماهية من حيث أنها ذات، أو صفة، أو فعل. هذا شأن بيان الملحظ الأول، وبيان حكمه. "و" أما الملحظ "الثان" وهو "هل يصح" شرعا "تعليق" يعني تعلق وتعبيره بالتعليق من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم - "الجزا" أي الثواب والعقاب. "بـ" أمر "غير مقدور" على دفعه ولا على جلبه "إذا تميزا" بذلك واتصف به "أو لا يصح" ذلك؟ "ذا" أي هذا المحل "مجال" أي محل جولان هاعمال "للنظر" الفقهي لوجود موجبه فيه وتقابل الاحتمالين فيه، وتعارضهما بمقتضى حاله في شأن حكمه.

والنظر فيه يتصور من أوجه ثلاثة أحدها: أن لا يتعلق به ثواب ولا عقاب. ثانيها: أن يتعلقا معًا به. ثالثها: أن يتعلق به أحدهما فقط. في الأصل - الموافقات إيراد كل واحد من هذه الأوجه وما سيق من الأدلة على نصرة كل واحد منها. فلينظر ذلك كله هناك

(1)

. "والقول بالتعليق" أي بتعلقهما به هو "مما قد ظهر" رجحانه، لتعلق الحب والبغض

(1)

الموافقات 2 - 88.

ص: 117

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَة

"

976 -

وَمَا مِنَ الْمَقْدُورِ شَقَّ أَمْرُهُ

فَاضْرِبْ كُلٌّ سَيَأتِي ذِكْرُهُ

977 -

أَوَّلُهَا الْخَارجُ عَنْ مُعْتَادِ

تَصَرُّفَاتِ سَائِرِ الْعِبَادِ

978 -

فَإِنْ يَكُنْ مَا قَدْ يَشُقُّ فِيهِ خَصّ

أَعْيَانَ الأفْعَالِ فَذَا بَابُ الرُّخَصْ

979 -

وَإِنْ يَكُنْ لَيْسَ لَهُ اخْتِصَاصُ

لَاكِنْ لِلأعْمَالِ بِهِ انْتِقَاصُ

الشرعيين به، وهما يقتضيان ترتب الجزاء على ما تعلقا به.

"المسألة الخامسة"

في حكم ما يدخل تحت قدرة المكلف لكنه شاق عليه "و" أما "ما" أي الذي هو "من" النوع "المقدور" عليه للمكلف، ولكنه "شق أمره" أي أمر الإتيان به "فـ" هو - أي هذا الذي يشق - أمره ليس ضربا واحدا حتى يتحد حكمه، وإنما هو "أضرب" أي أنواع أربعة في الجملة "كل" منها "سيأتي ذكره" وحكمه بالتفصيل في هذه المسألة وفي المسائل الواردة بعدها "أولها" أي أول هذه الأنواع هو الشاق الخاص بالمقدور عليه "الخارج عن معتاد تصرفات" أعمال "سائر" جميع "العباد" وذلك لأنه يشوش على النفوس في تصرفها ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة. وهذا النوع على صنفين أحدهما: أن يكون أمر المشقة فيه مختصا بأعيان الأفعال المكلف بها بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيه.

ثانيهما: ألا يكون مختصا، ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها صارت شاقة. "فإن يكن" الأمر المكلف الشاق من الصنف الأول وهو "ما قد يشق" لكن ثبوت المشقة فيه ما عم بل هو "فيه" قد "خص أعيان" ذوات "الأفعال" المكلف بها كالصوم في السفر والمرض وإتمام الصلاة في السفر "فذا" الضرب حكمه مقرر في "باب الرخص" فكان القصر والفطر الحكم فيما ذكر. "و" إما "إن يكن" من الصنف الثاني وهو ما "ليس له اختصاص" بأعيان الأفعال المكلف بها، ثم هو لو فعل مرة واحدة ما وجدت فيه المشقة "لاكن" يحصل "لـ" كليات "الأعمال به" بسببه "انتقاص" لأنها تصير شاقة ليس من جهة فعلها مرة واحدة بل

ص: 118

980 -

مِنَ الدَّوَامِ أَوْ مِنَ التَّكْثِيرِ

فَذَا مَحَلُّ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ

"‌

‌ الْمَسْألةُ السَّادِسَة

"

981 -

وَكُلُّهُ الشَّرْعُ رَءَاهُ أَنَّهْ

مَشَقَّة غَالِبَةٌ لِلْمُنَّهْ

982 -

فَهْوَ لِهَذَا فِيهِ لَمْ يَقْصِدْ لِأَنْ

يُكَلِّفَ الْخَلْقَ بِمَا فَوْقَ الْمُنَنْ

983 -

دَلِيلُهُ مِنَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةْ

فَهْيَ عَلَى صِحَّةِ ذَاكَ شَاهِدَةْ

" من" جهة "الدوام" عليها "أومن" جهة "التكثير" منها. ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما، إلا أنه في الدوام يتعبه، حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول "فذا" الموضع - الضرب - "محل الرفق" ترك التكلف والعنف "والتيسير" أي الأخذ بما تيسر عمله ولا يشق، وهو الأخذ بما لا يحصل مللا حسبما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال، وعن التنطع، والتكلف، وقال:"خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا". وقال: "القصد القصد تبلغوا". والأخبار هنا كثيرة. فهذا الضرب المشقة فيه ناشئة من أمر كلي وفي الضرب الأول ناشئة عن أمر جزئي

(1)

.

"المسألة السادسة"

في تأصيل ما تقدم ذكره من حكم هذا الضرب. "و" هذا الضرب "كله" - مفعول مقدم برءاه - صاحب "الشرع" قد "رءاه" يعني رأى التكليف به "أنه" تكليف بما فيه "مشقة" قاهرة "غالبة للمنة" - بضم الميم - أي القدرة قدرة المكلف - المعتادة - "فهو" أي صاحب الشرع "لـ "أجل "هذا" أي هذا الأمر الثابت "فيه" أي في هذا الضرب "لم يقصد لأن يكلف الخلق" به، لأنه لم يقصد إلى التكليف "بما" هو "فوق المنن" أي قدرات المكلفين.

"دليله" أي دليل هذا الذي ذكر "من النصوص" الشرعية "الواردة" في هذا الشأن "فهي على صحة ذاك" - الذي تقدم من أن الشارع لا يقصد التكليف بالشاق والإعنات به - دالة و"شاهدة". ومن ذلك قوله - تعالى -: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ

(1)

انظر الموافقات ج 2/ ص 92.

ص: 119

984 -

كَذَا مِنْ أَصْلِ الرُّخَصِ الْمَشْرُوعِ

قَطْعًا وَمِنْ مُمْتَنِعِ الْوُقُوعِ

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ السَّابِعَة

"

985 -

وَالثَّان مَا يَجْرِي عَلَى الْعَادَاتِ

مِنْ حَيْثُ مَعْهُودِ التَّصَرُّفَاتِ

986 -

لَاكنَّهُ شَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ

مِنْ حَيْثُ الارْتبَاطُ لِلتَّكَلُّفِ

987 -

فَمِثْلُ ذَا لَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ

مَشَقَّةً إِلَى ارْتفَاعٍ تَدْعُو

988 -

بَلْ عَدَّهُ مِنْ جُمْلَةِ التَّصَرُّفِ

كطَلَبِ الْمَعَاشِ بِالتَّحَرُّفِ

عَلَيْهِمْ} [الأعرَاف: 157] وقوله - سبحانه -: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البَقَرَة: 286] الآية وفي الحديث وقال الله تعالى: "قد فعلت" وجاء {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البَقَرَة: 286] وقوله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البَقَرَة: 185]- وقوله تعالى -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحَجّ: 78] وغير ذلك من النصوص الشرعية الدالة على هذا الحكم. "كذا" يدل على هذا ما شرع "من أصل الرخص المشروع" الثابت "قطعا و" كذلك ما ثبت "من" التكليف بما لا يطاق "ممتنع الوقوع" شرعا.

"المسألة السابعة"

في بيان الضرب الثاني وهو أن يكون خاصا بالمقدور عليه، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد - وفي حكمه. "و" الضرب "الثان" وهو "ما يجري على" وفق "العادات من حيث" جهة "معهود" أي ما هو معهود ومعروف في "التصرفات" أي الأعمال، فليس فيه من التأثير في تعب النفس ما هو خروج عن المعتاد "لاكنه شق" وصعب "على المكلف" الإتيان به، وذلك "من حيث الارتباط للتكلف" به. "فمثل ذا" أي هذا الضرب، ما فيه من المشقة "لم يعتبره الشرع مشقة" لديه "إلى ارتفاع" للتكليف بما هي فيه "تدعو" لأنها مقصودة شرعا في التكليف، إذ لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم منه كلفة ومشقة ما، لكن هذا ما حكم صاحب الشرع - كما تقدم ذكره - بأنه يرتفع التكليف بما هو فيه "بل عده" واعتبره "من جملة التصرف" أي العمل العادي المنطوي على هذا الصنف من المشقة "كطلب المعاش بالتحرف" وهو اتخاذ

ص: 120

989 -

وَمِثْلُ ذَا لَيْسَ يُسَمَّى عَادَةْ

مَشَقَّةً بَلْ كُلْفَةً مُعْتَادَةْ

990 -

فَقَصَدَ التَّكْلِيفَ لِلْعِبادِ

بِمَا يَرَى يَجْرِي عَلَى الْمُعْتَادِ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

991 -

وَلَيْسَ لِلْمُكَلَّفِينَ قَصْدُ

مَا قَدْ غَدَا مَشَقَّةً تُعَدُّ

992 -

مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْأَجْرَ فِيهِ يَعْظُمُ

فَالشَّرْعُ لِلْقَصْدِ لَهُ لَا يُفْهَمُ

حرفة - كالخياطة، والنجارة، والتجارة، ونحو ذلك. "ومثل ذا" أي هذا كله "ليس يسمى عادة" أي في مجاري العادات "مشقة بل" يسمى "كلفة معتادة" لأنه لا يقطع ما هو فيه عن العمل في الغالب المعتاد بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان، ويذمونه بذلك. فكذلك المعتاد في التكاليف. وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة، والتي تعد مشقة، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه، أو عن بعضه أو إلى وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو ماله، أو حال من أحواله، فالمشقة هنا مشقة خارجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة، وإن سميت كلفة، فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار، في أكله وشربه وسائر تصرفاته، ولكن جعل له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات. فكذلك التكاليف، فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة "فـ" أن الشارع قد "قصد التكليف للعباد بما يرى يجري على" وفق "المعتاد" في تحمل الكلفة.

"فصل"

في ذكر أصل ينبني على ما ذكر وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها نظرا إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته. "وليس" يسوغ شرعا "للمكلفين قصد ما قد غدا" أي صار "مشقة تعد" وذلك "من حيث أن الأجر فيه" في هذا الذي هو مشقة "يعظم" ويكثر، وإنما لم يحق له القصد إلى ذلك، لأنه قصد غير صحيح "فالشرع" لا يرشد "للقصد له" و"لا يفهم" أنه يشرع القصد إليه.

ص: 121

"‌

‌‌

‌ فَصْلٌ

"

993 -

لَاكنْ لَهُمْ أَنْ يَقْصِدُوا مِنَ الْعَمَلْ

مَا يَعْظُم الثَّوَابُ فِيهِ بِالثِّقَلْ

" فَصْلٌ"

994 -

مَا شَقَّ أَنْ يَنْشَأَ عَن أمْرٍ مُتَّبَعْ

بِالإِذْن مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يَقَعْ

995 -

إِمَّا عَلَى مَا اعْتِيدَ فِي مِثْلِ الْعَمَلْ

وَهْوَ الَّذِي بَيَانُهُ قَبْلُ حَصَلْ

996 -

وَأَنَّهُ لَا قَصْدَ لِلشَّارعِ فِي

جَلْبِ الْمَشَقَّاتِ إِلَى الْمُكَلَّفِ

997 -

أَوْ غَيْرَ مَا اعْتِيدَ فَهَذَا أَدْعَا

إِلَى ارْتفَاعِ الْقَصْدِ فِيهِ شَرْعَا

998 -

وَعِنْدَ ذَا إِنْ حَصَلَتْ مِنْ سَبَبِ

مُكَلَّفٍ بِالْقَصْدِ فِي التَّسَبُّبِ

" فصل"

"لاكن" يحق وينبغي "لهم" أي للمكلفين "أن يقصدوا من العمل ما يعظم الثواب فيه بـ" سبب "الثقل" أي المشقة التي فيه من حيث هو عمل.

"فصل"

في ذكر أصل آخر ينبني على ما تقدم وهو: أن "ما شق إن ينشأ" أي يتسبب ويترتب "عن أمر" يعني عن فعل "متبع" ثبت حكمه شرعا "بالإذن" الشرعي فيه "مطلقا" سواء كان ذلك المأذون فيه واجبا أو مندوبا، أو مباحا، "فإنه يقع إما على ما اعتيد" وقوعه وحصوله "في مثل" ذلك "العمل" من المشقة "و" حكم هذا "هو الذي بيانه" وإيضاحه "قبل حصل" في المسألة السابقة - المسألة السادسة - الواقعة قبل هذه. "و" ذلك الحكم هو "أنه لا قصد للشارع" بالتكليف "في جلب المشقات" والإعنات "إلى المكلف" من جهة ما في ذلك من مشقة. "أو" يعني وإما أن يكون واقعا شاقا "غير ما اعتيد" في ذلك الفعل "فهذا" النوع من المشقة "أدعى إلى ارتفاع القصد فيه شرعا" هو أولى بأن يكون كذلك. "و" لا يخلو "عند ذا" وهو حصول المشقة أن يكون سبب ذلك اختيار المكلف وتصرفه أولا فـ "إن حصلت" المشقة "من" جهة "سبب" واختيار "مكلف" ما "بالقصد" إليها "في التسبب" الذي توسل به إلى كسب عمل ما فإن ذلك لا يخلو من أمرين:

ص: 122

"فَصْلٌ"

999 -

فَإِنْ يَكُنْ بِمُقْتَضَى التَّأَمُّلِ

لَا يَقْتَضِيهَا أَصْلُ ذَاكَ الْعَمَلِ

1000 -

فَذَاكَ مَمْنُوعٌ وَعَنْهُ قَدْ نُهِي

وَهَذَا أَنَّ الْأَصْلَ مَأْمُورٌ بِهِ

1001 -

وَإِنْ تَكُنْ تَابِعَةً لِلْعَمَلِ

فَهَاهُنَا مَا جَاءَ فِي الْيُسْرِ جَلِي

أحدهما: أن يكون ذلك العمل لا يقتضيها بأصله، لأنه يحصل بدونها.

"فصل"

ثانيهما: أن تكون تابعة للعمل. "فإن يكن بمقتضى" النظر و"التأمل" قد ظهر أنه "لا يقتضيها" أي تلك المشقة "أصل ذاك العمل" ولا يوجبها الإتيان بماهيته الشرعية "فذاك" أمر "ممنوع" إتيانه "و" ذلك لأنه "عنه قد نهى" شرعا، فغير صحيح التعبد به "وهذا" يصار إلى الحكم به "إن" كان "الأصل" أي أصل ذلك العمل قد ثبت أنه "مأمور به" شرعا - وإنما لم يصح هذا في التعبد، لأن الشارع لم يقصد الحرج فيما أذن فيه. ومثال هذا" حديث الناذر للصيام قائما في الشمس غير مستظل، ولا متكلم ولا مفطر. فرآه النبي صلى الله عليه وسلم قائما في الشمس، فسأل عنه، فأخبر بحاله، فقال عليه الصلاة والسلام "مروه فليستظل، وليتكلم، وليتم صومه". ولذلك قال ما لك - في أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بإتمام الصوم، وأمره له بالقعود والاستظلال - أمره أن يتم ما كان لله طاعة، ونهاه عما كان لله معصية. لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه، ولا لنيل ما عنده. وهو ظاهر. إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة التي أدخلها المكلف على نفسه مباشرة - كما في المثال - وليس بسبب الدخول في العمل.

"و" أما "إن تكن" المشقة "تابعة للعمل" المأذون فيه واجبا كان أو غيره، وكانت مشقة خارجة عن المعتاد في مثل ذلك العمل - كما تقدم تقريره - "فها هنا" أي في هذا الحال يجري ويسري حكم "ما جاء في" شأن كون هذا الدين مبنيا على "اليسر" من الأدلة، "جلي" أي واضح بين. وذلك كالمريض الغير القادر على الصوم، وعلى الصلاة قائما، وكالذي لا يقدر على الحج ماشيا، أو راكبا إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل ذلك العمل. فهذا هو الذي جاء في بيان حكمه قوله - تعالى - {يُرِيدُ

ص: 123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البَقَرَة: 185]- وجاء فيه مشروعية الرخص.

ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة فذاك؛ ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه، وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه. وإن لم يعمل بالرخصة فعلى وجهين: أحدهما: أن يعلم أو يظن أنه يدخل في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت، ويكره بسببه العمل، فهذا أمر ليس له، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك، فحكمه الإمساك عما ادخل عليه المشوش، وفي مثل هذا جاء: ليس من البر الصيام في السفر وفي نحوه نهي عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان.

وقال: لا يقضي القاضي وهو غضبان وفي القرآن {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النِّسَاء: 43] إلى أشباه ذلك مما نهي عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله؛ فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب، والإبقاء عليه حتى يكون في ترفه وسعة حال دخوله في ربقة التكليف.

والثاني: أن يعلم أو يظن انه لا يدخل عليه ذلك الفساد، ولكن في العمل مشقة غير معتادة، فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة، ويتفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج، وإن قدر على الصبر فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة. إلا أن هنا وجها ثالثا وهو أن تكون المشقة غير معتادة لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ورب شيء هكذا؛ فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين غالى الله تعالى المعانين على بذل المجهود في التكاليف، قد خصوا بهذه الخاصية، وصاروا معانين على ما انقطعوا عليه. ألا ترى إلى قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45] فجعلها كبيرة على المكلف، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا، وقام حتى تفطرت قدماه، فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية.

ص: 124

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1002 -

وَبَعْدُ فَالْحَرَجُ ذُو ارْتفَاعِ

خَشْيَةَ تَقْصِيرٍ أَوِ انْقِطَاعِ

1003 -

وَكَمْ دَلِيلٍ فِيهِمَا قَدْ جَاءَ

وَالنَّاسُ لَيْسُوا هَاهُنَا سَوَاءَ

" فصل"

في بيان أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين. "وبعد" يعني وبعد هذا الذي تقدم من بيان حكم المشقة في الشريعة، "فـ" إنه من أجل مزيد بيان له - أي لهذا الذي تقدم - يجب أن يقرر على بسط أن "الحرج" عن الكلف "ذو ارتفاع" أي مرتفع - مرفوع - شرعا، وذلك لوجهين:

أحدهما: "خشية تقصير" من جهة المكلف عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع مثل قيامه على أهله، وولده إلى تكاليف أخرى تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها، وقاطعا بالمكلف دونها. وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنها.

وثانيهما: أورده الناظم قائلا "أو انقطاع" يعني أو خوف انقطاع عن العبادة، ونشوء البغض لها، وكراهية التكليف. وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه، أو عقله، أو ماله، أو حاله. "وكم" من "دليل" شرعي في بيان الذي تقرر "فيهما" أي في هذين الوجهين من حكم "قد جاء" من الكتاب والسنة، ففي شأن خوف الانقطاع المذكور قال الشاطبي: أن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفة سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو عملوا خلاف السماح والسهولة، لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، ألا ترى قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحُجرَات: 7] إلى آخرها. فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه، وفي الحديث "عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا" وفي حديث قيام رمضان: "أما بعد: فإنه لم يخف علي شأنكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها" وفي حديث الحولاء بنت تويت حين قالت له عائشة رضي الله عنها: هذه الحولاء بنت تويت، زعموا أنها لا تنام الليل، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تنام الليل؟ خذوا من العمل

ص: 125

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا" وحديث أنس دخل رسول الله عليه الصلاة والسلام المسجد وحبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا؟ قالوا حبل لزينب، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال:"حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد" وحديث معاذ حين قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام "أفتان أنت يا معاذ" حين أطال الصلاة بالناس، وقال:"إن منكم منفّرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة" ونهى عن الوصال رحمة لهم، ونهى عن النذر وقال:"إن الله يستخرج به من البخيل، وإنه لا يغني من قدر الله شيئا" أو كما قال لكن هذا معلل معقول المعنى بما دل عليه ما تقدم: من السآمة والملل والعجز، وبغض الطاعة وكراهيتها. وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله؟ فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" وقالت عائشة رضي الله عنها: نهاهم صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، قالوا: إنك تواصل. فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربى ويسقيني. وحاصل هذا كله: أن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع وإذا كان كذلك فالنهي دائر مع العلة وجودا وعدما، فإذا وجد ما علل به الرسول صلى الله عليه وسلم، كان النهي متوجها ومتجها، وإذا لم توجد فالنهي مفقود

(1)

.

"والناس ليسوا هاهنا " أي في هذا الشأن "سواء" بل هم في ذلك على ضربين: ضرب يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد، فيؤثر فيه أو في غيره فسادا، أو تحدث له ضجرا ومللا، وقعود عن النشاط إلى ذلك العمل، كما هو الغالب في المكلفين، فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك، بل يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخص، إن كان مما لا يجوز تركه، أو يتركه إن كان مما له تركه وهو مقتضى التعليل. "إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا" وهو الذي أشار به عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم وقد قال بعد الكبر: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 104 - 105.

ص: 126

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1004 -

وَمَا عَلَى مُكَلَّفٍ مِنْهَا دَخَلْ

دونَ تَسَبُّبٍ لَه فِيهَا حَصَلْ

1005 -

فَلَيْسَ لِلشَّارعِ قَصْدٌ فِي بَقَا

مَا يُتَّذَى مِنْ وَقْعِهِ أَوْ يُتَّقَا

والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل، لوازع هو أشد من المشقة، أو حاد يسهل به الصعب، أو لما له في العمل من المحبة، ولما حصل له فيه من اللذة، حتى خف عليه ما ثقل على غيره وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة، بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره؛ كما جاء في الحديث:"أرحنا بها يا بلال" وفي الحديث: "حبب إلي من دنياكم ثلاث؟ قال وجعلت قرة عيني الصلاة" وقال لما قام حتى تورمت أو تفطرت قدماه: "أفلا أكون عبدا شكورا" وقيل له عليه الصلاة والسلام: أنأخذ عنك في الغضب والرضى؟ قال: نعم وهو القائل في حقنا: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" وهذا وإن كان خاصا به فالدليل صحيح. وجاء في هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائما كثير. ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضي الله عنهم، ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد

(1)

.

وهذا الذي تقرر في هذا الوجه - وجه خوف الانقطاع هو نفسه المتقرر في الوجه الثاني وهو خوف التقصير.

"فصل"

في أن المشقة التي لم تكن ناشئة عن العمل ولا عن تسبب العبد في حصولها أمر غير مقصود للشارع بقاؤه. "وما على مكلف منها" أي من المشقة "دخل" من خارج فحصلت "دون تسبب له" للمكلف "فيها" يعني في وقوعها "حصل" وإنما كانت من خارج العمل ومن خارج الكسب "فـ" إن، حكمها هو أنه "ليس للشارع قصد في بقاء ما يتذى" أي ما يحصل الأذى "من وقعه" أي نزوله على المكلف "أو يتقى" أي يخشى ضرره وأذاه وذلك كألم الجوع، والعطش، والحر، والبرد فهذا لا قصد للشارع في

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 105 - 106.

ص: 127

1006 -

كمِثْلِ مَا لَا يَقْصِدُ التَّسَبُّبَا

فِي جَلْبِ مَا مِنْ ذَاكَ قَدْ تَجَنَّبَا

1007 -

وَكُلُّ مُؤْلمٍ بِهَاذِي الدَّارِ

فَهْوَ مِنَ الْبَلْوَى لِلاخْتِبَارِ

1008 -

وَفُهِمَ الْإِذْنُ مِنَ الْمَشْرُوعِ

فِي دَفْعِهِ إِنْ كَانَ ذَا وُقُوعِ

1009 -

وَفِي التَّوَقِّي بَعْدُ مِمَّا يُتَّقَى

مِنْهُ أَذىً أَوِ اِعْتِدَاءٌ مُطْلَقَا

1010 -

وَمُقْتَضَى التَّكْلِيفِ عَنْهُ تَحْصُلُ

مَصَالِحُ الْأُخْرَى إِذَا مَا يَعْمَلُ

1011 -

بِكَوْنِهِ لِلْمُؤلِمَاتِ دَافِعَا

وَجَلْبُهُ لِمَا يَكُونُ نَافِعَا

بقائه، والصبر عليه "كمثل ما لا يقصد" ولا يريد إرادة تشريع "التسببا" والسعي في "جلب ما من ذاك" الذي ذكره من المشقة "قد تجنبا" يعني - بالبناء للمجهول - من تجنب الشيء إذ اتقاه وتفاداه لكونه مما يؤذي، أو مما يتقى أذاه. غير أن الله - تعالى - قد خلق المؤلمات والمؤذيات لابتلاء عباده واختبارهم "و" بذلك "كل مؤلم" أي موجع "بهاذي الدار" الفانية - دار الدنيا - "فهو من البلوى" أي الاختبار للعباد والتمحيص لهم، يسلط ما شاء على من شاء لما شاء، "للاختبار" الذي له سبحانه في التصرف في ملكه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23].

"و" أما حكم هذا الذي ذكر من المؤلمات فإنه قد "فهم" ثبوت "الأذن من" مجموع "المشروع" أي الشريعة "في دفعه" وإزالته رفعا للمشقة، وحفظا للحظوظ المشروعة "إن كان" ذلك المؤلم "ذا وقوع" أي واقعا "و" كذلك وقع ثبوت الإذن من الشارع - أيضا - "في التوقي" توقي الشيء إذا تحرز منه - أي التحرز مما لم يقع "بعد" وهو "مما يتقى" أي يخاف ويخشى "منه أذى" أي ضرر وألم "أو اعتداء مطلقا" سواء كان ذلك الدفع منحتما أم لا إلا أنه إن كان منحتما فإنه لا إشكال في علمنا أن الشارع قصد رفع تلك المشقة، كما أوجب علينا دفع المحاربين والساعين على الإسلام والمسلمين بالفساد، وجهاد الكفار القاصدين لهدم الإسلام، وأهله. "و مقتضى التكليف" بذلك أنه "عنه تحصل" وتترتب "مصالح" الدار "الأخرى" الباقية "إذا ما يعمل" به، ويمتثل الأمر الوارد به، وذلك "بـ" سبب "كونه لـ" أمور "المؤلمات" للأبدان والنفوس "دافعا" ومزيلا، "و" بسبب "جلبه لما يكون نافعا" للأبدان والنفوس وأما إن لم يكن منحتمًا دفعه فإنه يمكن اعتبار جهة التسلط والابتلاء وأن ذلك الشاق مرسل من المسلّط

ص: 128

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1012 -

وَغَيْرُ مَا الْإِذْنُ بِهِ قَدْ وَقَعَا

أَظْهَرُ فِي الْمَنْعِ لِمَنْ فِيهِ سَعَا

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ الثَّامِنَة

"

1013 -

وَثَالِثٌ يُلْفَى لِذَاكَ ضَاهَا

مَا يُخْرِجُ النُّفُوسَ عَنْ هَوَاهَا

المُبْلى، فيستسلم العبد للقضاء، ولذلك لما لم يكن التداوي محتمًا تركه كثير من السلف الصالح، وأذن عليه الصلاة والسلام في البقاء على حكم المرض؛ كما في حديث السوداء المجنونة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها فخيرها في الأجر مع البقاء على حالتها، أو زوال ذلك. وكما في الحديث:"ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون". ويمكن اعتبار جهة الحظ بمقتضى الإذن ويتأيد بالندب؛ كما في التداوي حيث قال عليه الصلاة والسلام: "تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء" وأما إن ثبتت الإباحة فالأمر أظهر

(1)

.

"فصل"

في أن ما ذكر إنما فيما كان من الأعمال تتسبب عنه مشقة وهو من المأذون فيه "و" أما "غير ما الأذن به" أي فيه "قد وقعا" وورد فإنه "أظهر في "جريان "المنع" الشرعي "لمن فيه" أي في كسبه "سعا" لأنه زاد على ارتكاب النهي إدخال العنت والحرج على نفسه.

"المسألة الثامنة"

في بيان الضرب الثالث مما يعد شاقا من جهة مخالفة الهوى وفي بيان حكمه. "وثالث" من تلك الضروب هو الذي "يلفى" أي يوجد "لذاك" الضرب المتقدم - الضرب الثاني - "ضاها" أي وافق من جهة أنه ليس فيه من المشقة ما هو خارج عن المعتاد، إلا أن فيه من المشقة "ما يخرج النفوس عن" سلطان "هواها" وقهره. وذلك أن مخالفة ما تهوى النفس شاق عليها وصعب خروجها عنه، وأحوال أهل الكفر، والعشاق والغارقين في بحار اللهو تشهد بقطع على هذا الأمر.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 115.

ص: 129

1014 -

فَذَاكَ لِلشَّارعِ غَيْرُ مُعْتَبَرْ

فِيمَا يَشُقُّ أَمْر عَلَى الْبَشَرْ

1015 -

إِذْ قَصْدُهُ الْإِخْرَاجُ بِالتَّكْلِيفِ

عَنْ دَاعِيَاتِ النَّفْسِ فِي التَّصْريفِ

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ التَّاسِعَة

"

1016 -

ثُمَّ الْمَشَقَّاتُ لِدُنْيَوِيَّةْ

تَقَسَّمَتْ بَعْدُ وَأُخْرَوِيَّةْ

1017 -

فَحَيْثُ أَدَّى عَمَلٌ لِتَرْكِ مَا

أَوْجَبَ أَوْ فِعْلِ الَّذِي قَدْ حَرُمَا

1018 -

فَهْوَ أَشَدُّ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ

لِشَأْنِهِ فَاشْتَدَّ حَالَ الْمَنْعِ

وكل ما كانت مشقته من هذا الوجه "فذاك" ملغى "للشارع غير معتبر" أمره وذلك "في" كل "ما يشق أمره" أي فعله "على البشر" لأن مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة للشارع في التكليف - كما تقدم ذكره - "إذ قصده" أي الشارع هو "الإخراج بالتكليف" للمكلفين "عن داعيات" ورغبات "النفس" مما هو هوى، وشطط في "التصريف" للأشياء فيما تقع عليه من صرف الشيء إذا أعمله في غير وجه، كأنه يصرفه من وجه إلى وجه، وهذا الأمر - وهو إخراج المكلف من دواعي الهوى - مقصد شرعي أساسي في وضع الشريعة، فلو كانت المشقة الناشئة عن السعي إلى درك هذا المقصد معتبرة في بناء الأحكام لكان ذلك نقضا لما وضعت الشريعة له وذلك باطل، فما أدى إليه فهو مثله.

"المسألة التاسعة"

في بيان أن المشقة تكون دنيوية، وأخروية، وأن اعتبار الأخروية أشد وأعظم في الشريعة. "ثم المشقات" المعتبرة شرعا "لـ" مشقات "دنيوية" وقد تقدم بيان المراد بها. "تقسمت" يعني انقسمت "بعد" أي بعد ثبوت اعتبار الشارع لما هو معتبر منها عنده "و" مشقات "أخروية" وهي تكون ناشئة عن الإخلال بالدين "فحيث أدى" وأفضى "عمل" يعني الدخول في عمل ما "لترك" وتعطيل "ما" أي أمر قد "أوجب" أي فرض شرعا "أو" أدى إلى "فعل الذي قد حرما" بفتح الحاء وضم الراء ويصح قراءته مبنيا للمفعول "فهو" أي ما ذكر من الترك والفعل "أشد" وأقوى "في اعتبار الشرع لشأنه" وأمره من المشقة الدنيوية "فاشتد" بناء على ذلك "حال المنع" الشرعي لهذه المشقة

ص: 130

1019 -

إِذِ اِعْتِبَارُ الدِّينِ دُونَ لَبْسِ

مُقَدَّمٌ عَلَى اعْتِبَاِر النَّفْسِ

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ الْعَاشِرَةُ

"

1020 -

وَمَا يَشُقُّ تَارَةً يَخُصُّ

وَتَارَةً يَعُمُّ لَا يَخْتَصُّ

1021 -

وَتَارَةً يَكُونُ دَاخِلًا عَلَا

غَيْرِ الَّذِي لَابَسَ ذَاكَ الْعَمَلَا

1022 -

فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ لِلشَّرْعِ طَلَبُ

وَلَا الَّذِي أَدَّى إِلَيْهِ مَطْلَبُ

" إذ اعتبار الدين دون لبس" أي إشكال "مقدم على اعتبار النفس" شرعا فحفظ الدين تبذل فيه النفوس وغيرها مما يجب شرعا حفظه.

"المسألة العاشرة"

في بيان أن المشقة الناشئة من التكليف قد تكون خاصة بالفرد المكلف وحده وتكون عامة له ولغيره وقد تكون داخلة على غيره بسببه. "وما يشق" فإنه "تارة يخص" الشخص المكلف وحده كالمسائل المتقدمة "وتارة يعم" ترك ما يرتفع به المكلف وغيره، وبذلك فهو "لا يختص" بمن كلف برفعه.

مثال ذلك الوالي المفتقر إليه لكونه ذا كفاية في ما أسند إليه. إلا أن الولاية تشغله عن الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته.

فإذا لم يقم بذلك عم الفساد والضرر، ولحقه من ذلك ما يلحق غيره.

"وتارة يكون" ذلك الأمر الشاق "داخلا" واقعا "على غير" الشخص "الذي لابس" وأتى "ذاك العمل" الذي نشأت عنه تلك المشقة. مثال ذلك القاضي والعالم المفتقر إليهما، إلا أن الدخول في الفتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز أو يشغلهما عن مهام ديني أو دنيوي وهما إذا لم يقوما بذلك عم الضرر غيرهما من الناس فقد نشأ هنا عن طلبهما لمصالحهما المأذون فيها والمطلوبة منهما فساد عام.

وعلى كل تقدير "فليس في" تحصيل "ذلك" الأمر الشاق "للشرع طلب" وقصد "ولا" له إلى العمل "الذي أدى إليه مطلب" بصيغة اسم المفعول وهو هنا مصدر ميمي اطَّلبَ الشيء إذا طَلَبَه هذا هو الأصل.

ص: 131

1023 -

وَمَا لَهُ تَعَارُضٌ فِي مَسْأَلَةْ

قَاعِدَةُ التَّرْجِيحِ فِيهِ مُعْمَلَةْ

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ الْحَادِيَةَ عَشَرَة

"

1024 -

وَإِنْ يَكُنْ مَا شَقَّ فِي التَّكْلِيفِ

يُجَاوِزُ الْمُعْتَادَ فِي التَّصْرِيفِ

1025 -

حَتَّى يُرَى عَنْهُ فَسَاد مُطْلَقَا

فَالرَّفْعُ قَصْدُ الشَّرْعِ فِيهِ لَا الْبَقَا

" و" أما "ما" هو من المشاق "له تعارض في مسألة" ما بحيث يكون المكلف إن اشتغل بنفسه لزم من ذلك فساد ومشقة لغيره، وإن اشتغل بغيره لزم من ذلك - أيضا - فساد ومشقة له هو نفسه، فإنه يصار في أمره إلى النظر فيتصدى لطلب الجمع بين المصلحتين ودرء المفسدتين، إن أمكن ذلك، وإلا يمكن فـ "قاعدة الترجيح فيه" أي في هذا الموضع "مُعْمَلة" - بصيغة اسم المفعول - فيحتكم إليهما فإذا كانت المشقة العامة أعظم اعتبر جانبها، وأهمل جانب الخاصة. وإن كانت المشقة الخاصة أعظم فإنها المعتبرة فتهمل العامة وإن لم يظهر ترجيح لأي منهما فالمصير إليه هو التوقف.

"المسألة الحادية عشرة"

في بيان أن المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف إذا كانت خارجة عن المعتاد، حتى يحصل منها فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة. وأما إن لم تكن خارجة عن المعتاد وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية فإن الشارع وإن لم يقصد وقوعها فليس بقاصد لرفعها أيضا. "وإن يكن ما شق" يعني العمل الشادتى الواقع "في التكليف يجاوز" باعتبار حال مكلف ما "المعتاد" أي ما هو جار على العادة "في التصريف" يعني في الإتيان بذلك العمل "حتى يرى" أي يبصر ويعلم أنه ينشأ "عنه فساد مطلقا" سواء كان دينيا أو دنيويا "فـ" حكمه هو "الرفع" فذاك هو "قصد الشرع فيه" على الجملة، وعلى ذلك دلت الأدلة المتقدمة - في مجرى الحديث عن المشقة الخارجة عن المعتاد - ولذلك شرعت فيه الرخص، ومقتضاها أن الشارع قاصد إلى هذا الرفع "لا البقاء" لهذا

ص: 132

1026 -

وَغَيْرُ خَارجٍ عَنِ الْمُعْتَادِ

بَلْ مِثْلُهُ يُرَى فِي الْأَمْرِ الْعَادِي

1027 -

فَلَيْسَ لِلشَّارعِ فِي الْإِيقَاعِ

لِذَاكَ قَصْدٌ وَلَا الارْتفَاعِ

"‌

‌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَة

"

1028 -

الشَّرْعُ فِي التَّكْلِيفِ بِالْأَعْمَالِ

جَارٍ عَلَى سَبِيلِ الاعْتِدَالِ

العمل الشاق الخارج عن معتاد المشقات في الأعمال العادية.

"و" أما ما هو "غير خارج عن المعتاد" في الأعمال "بل" هو "مثله يرى في "جريان "الأمر العادي" في الأعمال التكليفية، والدنيوية التي يتوسل بها إلى المعاش "فـ" إنه "ليس للشارع في الإيقاع لذاك" العمل الشاق والإتيان به "قصد" من حيث كونه شاقًا "ولا" له - كذلك قصد "في الارتفاع" - يعني في ارتفاعه وزواله.

قال الشاطبي: وأما إذ لم تكن خارجة عن المعتاد، وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها فليس بقاصد لرفعها أيضا، والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدا لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها؛ لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبا وتكليفا على قدره قل أو جل؛ إما في نفس العمل المكلف به وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف وإما فيهما معا، فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب كان ذلك اقتضاء لرفع العمل المكلف به من أصله، وذلك غير صحيح، فكان ما يستلزمه غير صحيح

(1)

.

"المسألة الثانية عشرة"

في بيان أن الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل. "الشرع في "شأن "التكليف بالأعمال جار" على الطريق الأوسط الواقع بين طرفي السرف: الإفراط، والتفريط وهكذا مضى "على سبيل الاعتدال" المقتضى لدرء الانحلال من ربقة التكاليف الشرعية، ودفع طلب إسقاط الحظوظ المشروعة.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 118 - 119.

ص: 133

1029 -

فِي جُمْلَةِ الشُّؤُونِ وَالْأَحْوَالِ

مِنْ غَيْرِ إِعْنَاتٍ وَلَا انْحِلَالِ

1030 -

فَإِنْ أَصَابَ ذَا انْحِرَافٌ مُفْرِطْ

فِي الطَّرَفَيْنِ رَدَّهُ لِلْوَسَطْ

1031 -

وَانْظُرْ إِلَى التَّدْرِيجِ فِي الْخِطَابِ

بِحَسَبِ الْعِتَابِ وَالْإِعْتَابِ

وهذا أصل بني عليه هذا الشرع "في جملة" أي في كل "الشؤون" أي الأمور سواء كانت عبادات أو معاملات أو غيرها كأمور الدعوة والتبليغ، وفي كل "الأحوال" التي تعرض للمكلفين - من مرض وصحة وقوة فهم، وضعفه وغير ذلك - فكُلٌّ مكلف بما جاء في الشرع على قدر وسعه "من غير إعنات" أي إدخال للمشقة عليه "ولا انحلال" من ربقة التكليف وتوابعه، فجاء - أي الشرع - جاريا على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال، كتكاليف الصلاة، والصيام والحج، والزكاة وغير ذلك مما شرع ابتداء من غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل، كقوله - تعالى -:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البَقَرَة: 215] وقوله - سبحانه -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البَقَرَة: 219]، وأشباه ذلك.

"فإن أصاب" - أي هذا الشرع - ووجد في مجرى تهذيبه للنفوس وتبليغه لما به قيام الخلق على الهدى والاستقامة شخصا "ذا انحراف" أي ميل "مفرط" مسرف متجاوز للحد في ترك الاعتدال "في الطرفين" وهما الأخذ بالحظوظ الدنيوية، والأخذ بمقتضيات التكليف، بأن مال عن الاعتدال المأمور به شرعا في أي من الطرفين "رده" الشرع "للوسط" الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه.

"وانظر" على سبيل المثال "إلى" شأن "التدريج" الذي "في الخطاب" الشرعي فإنه ماض على مقتضى هذا الأمر - وهو الرد إلى الطريق الأوسط الأعدل - إذ جاء فيه تذكير الخلق بنعم الله - تعالى - وإقامة الحجج والبراهين القاطعة بصدق ما جاء فيه وصحته، وبيان شأن الدنيا وأمر الآخرة كل ذلك كان بالتدرج ثم لما آمن الناس خوطبوا "بحسب" ما يقتضيه إصلاح أحوالهم من "العتاب" وهو اللوم لمن ظهر عليه منهم الخروج عن الاعتدال إلى طرفي السرف، "والإعتاب" وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب. ويكون ذلك في خطاب الشرع لمن رجع عن الغي إلى الهدى.

ص: 134

1032 -

فَإِنْ رَأَيْتَ مَيْلَهُ لِجَانِبِ

فَهْوَ مُقَابِل لِأَمْرٍ غَالِبِ

1033 -

فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مِمَّا قَدْ وَقَعْ

أَوْ مَا لَهُ تَرَقُّبٌ أَنْ سَيَقَعْ

1034 -

مِثْلُ الطَّبِيبِ قَابَلَ الْمُنْحَرِفَا

بِضِدِّهِ حَتَّى يُرَى مُنْعَطِفَا

1035 -

مِنْ طَرَفِ مَا إِلَى الاعْتِدَالِ

وَيُرْتَجَى لَهُ صلَاحُ الْحَالِ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

" فإن رأيت ميله" أي ميل الخطاب الشرعي "لجانب" من الجانبين اللذين يكون بتوازنهما الاعتدال - وهما الأخذ بمقتضيات التكليف والأخذ بالحظوظ المشروعة في هذه الدنيا - وذلك بأن ورد فيه طلب الاهتمام بأحدهما، والعناية به، أو ورد فيه التحذير من حال من أحوالهما "فـ" اعلم أن حصول ذلك إنما "هو مقابل لـ" ما في واقع الأمر من "أمر غالب في الطرف الآخر" سواء كان امرأ دينيا، أو دنيويا وهذا الأمر قد يكون "مما قد وقع" ووجد "أو" يكون غير واقع لكنه من "ما له ترقب" أي انتظار:"أن سيقع" في الزمان الآتي.

وبذلك فالشرع "مثل الطبيب" الرفيق فإنه يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه، حتى إذ استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لإبقائه في جميع أحواله. وهكذا الشرع فإنه إن عالج انحرافا ما "قابل" الشخص المكلف "المنحرفا" المتلبس بما يخرج به عن سبيل الاعتدال "بـ" طلب اعتبار "ضده" يعني ضد ما هو عليه من الوصف الذي صار به منحرفا، وما زال يقابله بذلك "حتى يرى" أي يبصر ذلك المنحرف "منعطفا" مائلا "من طرف ما" من طرفي السرف "إلى الاعتدال" الذي يعرف بما وضعه الشارع من حدود وضوابط في أمور الدين، والدنيا، والتي تدل عليها الأوامر والنواهي الشرعية "و" بذلك الرد "يرتجى له صلاح الحال" أي حاله في الدنيا والآخرة.

"فصل"

وهذا الانحراف قد يحصل بتغليب الحظوظ المشروعة المباحة على مقتضى التكليف وواجباته، وقد يكون بترك المباحات الشرعية على وجه يخل بالاعتدال،

ص: 135

1036 -

فَمَنْ عَلَيْهِ الانْحِلَالُ قَدْ غَلَبْ

قُوبِلَ بِالزَّجْرِ وَمَا فِيهِ الرَّهَبْ

1037 -

وَإِنْ يَكُ الْخَوْفُ لَهُ تَغْلِيبُ

قَابَلَهُ التَّيْسِيرُ وَالتَّرْغِيبُ

والشارع في الرد إلى الاعتدال أو الإبقاء عليه يكون خطابه بحسب حال المخاطب "فمن عليه الانحلال" والانسلال من ربقة التكليف "قد غلب" واستحوذ "قوبل" من الشارع "بالزجر" والردع "وما" يحصل "فيه" أي به "الرهب" أي الخوف من النصوص المحذرة من الميل إلى الحظوظ والشهوات ميلا يخرج عن الاعتدال المطلوب شرعا، كقوله صلى الله عليه وسلم "إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا". وقوله - تعالى - {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محَمَّد: 36]. وقوله - سبحانه - {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]. وقوله - تعالى - {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [القمَان: 33] وغير ذلك من الأدلة الواردة في هذا الشأن. "و" أما "إن يك الخوف" هو الذي "له تغليب" واستحواذ "قابله" من الشارع "التيسير والترغيب" في رحمة الله - تعالى - وفضله.

ومن أمثلة ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال:

"آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" شق ذلك على الصحابة، إذ لا يسلم أحد من شيء منه ففسره عليه الصلاة والسلام لهم حين أخبروه، بكذب وإخلاف وخيانة مختصة بأهل الكفر.

وكذلك لما نزل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البَقَرَة: 284] الآية، شق عليهم، فنزل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا} [البَقَرَة: 286] وقارف بعضهم بارتداد أو غيره وخاف أن لا يغفر له، فسئل في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله} [الزُّمَر: 53] الآية، ولما ذم الدنيا ومتاعها همّ جماعة من الصحابة أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"من رغب عن سنتى فليس مني" ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعدما أنزل الله {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التّغَابُن: 15] والمال والولد هي الدنيا: وأقرّ الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يزهّدهم ولا أمرهم بتركها، إلا عند ظهور

ص: 136

1038 -

وَحَيْثُ ذَا وَذَاكَ لَيْسَ لَائِحَا

تَرَى سَبِيلَ الاعْتِدَالِ وَاضِحَا

1039 -

كَذَاكَ مَنْ مَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ

لِجَانِبٍ قَاضٍ بِهَذَا الْحُكْمِ

1040 -

ثُمَّ التَّوَسُّطَاتُ فِي الْمَقَاصِدِ

تُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَبِالْعَوَائِدِ

1041 -

وَمِنْ هُنَا يُنْظَرُ فِي الزُّهْدِ وَمَا

أَشبَهَهُ أَوْ مَا بِعَكْسٍ عُلِمَا

حرص أو وجود منع من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه فلا

(1)

.

"و" أما "حيث" يكون "ذا" وهو تغليب الخوف "وذاك" وهو الانحلال "ليس لائحا" أي ظاهرًا أي منهما، فإنك "ترى سبيل الاعتدال" سبيلًا "واضحًا" والتوسط لائحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه. "كذاك" منهج أهل النظر المعتبرين في الدين، فإنه مسنون على هذا الذي تقدم تقريره في شأن الخطاب الشرعي من حيث رعاية أحوال المكلفين الغالبة عليهم، فـ "من مال من أهل العلم" عن التوسط "لجانب" التشديد أو التخفيف فإنه لم يكن ذلك منه إلا لأمر "قاض بهذا الحكم" وموجب له، وقد تقدم ذكر ما يقتضي الميل لأحد الجانبين - "ثم" هنا للترتيب الذكرى - "التوسطات" المعتبرة "في المقاصد" الشرعية في الأمور الدينية والدنيوية إنما "تعرف بالشرع" الذي وردت فيه المعالم والأمارات الدالة عليها، "و" كذلك "بالعوائد" المقبولة شرعا، وما يشهد به معظم العقلاء، كما في الإسراف والإقتار في النفقات. "ومن هنا" في هذا المقام "ينظر في "شأن "الزهد" فإنه يغلب جانبه في الاعتبار إذا وقع الميل إلى الحظوظ الدنيوية "و" كذا "ما أشبهه" كالورع فإنه يغلب اعتباره إذا اقتضى الحال اعتباره كالزهد. "أو" بمعنى الواو يعني وكذلك ينظر في هذا المقام شأن "ما" من الأحوال العارضة "بعكس" لما ذكر من الزهد والورع "علما" وما هو عكس الزهد والورع هو الاشتغال بما تقدم ذكره من الحظوظ الدنيوية. وهو يعتبر ويراعي التنبيه على شأنه إذا وقع الميل الشديد إلى الزهد والورع والانقطاع عن ملذات الحياة الدنيا على وجه يخل بأمر الاعتدال الذي بنيت عليه الشريعة.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 126.

ص: 137

‌النَّوْعُ الرَّابِعُ فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي دُخُولِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

"‌

‌ المَسْأَلَةُ الْأُؤلَى

"

1042 -

إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمُقْتَضَاهَا

أَنْ تَخْرُجَ النُّفُوسُ عَنْ هَوَاهَا

1043 -

حَتَّى يُرَى الْمُكَلَّفُ اخْتِيَارَا

عَبْدًا لِمَنْ يَمْلِكُهُ اضْطِرَارَا

1044 -

دَلِيلُهُ النَّصُّ الصَّرِيحُ الْآتِي

فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ وَالآيَاتِ

النوع الرابع من المقاصد الشرعية الأربعة المعقودة في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

وفيه مسائل: "المسألة الأولى"

في بيان أن المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية الهوى حتى يكون عبد الله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا. "أن الشريعة لمقتضاها" - اللام لام الابتداء - أي حكمها والمقصد الشرعي من إنزالها هو "أن تَخرُجَ" بفتح التاء والفاعل النفوس، أو بضمها وكسر الراء، والفاعل الشريعة أو بالبناء للمفعول "النفوس عن" سلطان "هواها" وغلبة الشهوات عليها "حتى يرى" يعني يصير "المكلف اختيارا" أي عن اختيار منه "عبدا لمن يملكه" وهو الخالق سبحانه وتعالى "اضطرارا" وقهرا بمقتضى العدل. "دليله" أي دليل وبرهان كون الشريعة وضعت لهذا المقصد متعدد منه "النص الصريح". "الآتي" أي الوارد "في الخبر الصحيح" الدال على أن الخلق خلقوا للتعبد لله والدخول تحت أمره ونهيه كما في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا).

"و" كذلك ما ورد في "الآيات" من كتابه سبحانه وتعالى كقوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذّاريَات: 56 - 57] وقوله - تعالى -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21] ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة كقوله - تعالى -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إلى قوله

ص: 138

1045 -

وَمَا أَتَى فِي ذَمِّ كلِّ مُتَّبِعْ

هَوَاهُ إِذْ ذَاكَ بِضِدِّ مَا شُرعْ

تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام. وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النِّسَاء: 36] إلى غير من ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق وبتفاصيلها على العموم، فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال والانقياد إلى أحكامه على كل حال. وهو معنى التعبد لله.

"و" كذلك من دليل ما ذكر "ما أتى" من النصوص الشرعية "في ذم كل متبع هواه" منقاد له، وهو "إذ" أي حين حصل له "ذاك" الإتباع متلبس "بضد ما" قد "شرع" من الأفعال. ومن ذلك قوله - تعالى -:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] وقوله - سبحانه -: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)} [النَّازعَات: 37 - 39] وقال في قسيمه:

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النَّازعَات: 40 - 41] وقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النّجْم: 3 - 4] فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي، وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما، وإذا كان كذلك فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده، فاتّباع الهوى مضاد للحق، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].

وقال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] 108] وقال. {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16] وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)} [محمد: 14] وتأمل فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتّبعيه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عبّاس أنّه قال: ما ذكر الله الهوى في كتابه إلّا ذمه، فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى، والدخول تحت التعبد للمولى.

والثالث: ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته، وسار حيث سارت به؛ حتى

ص: 139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كان له شريعة درست، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي، وما اتفقوا عليه إلّا لصحته عنده، واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا، من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها السياسة المدنية، فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة، وهو أظهر من أن يستدل عليه.

وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم؛ إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة، أما الوجوب والتحريم فظاهر مصادمتهما لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار، إذ يقال له "افعل كذا" كان لك فيه غرض أم لا، و"لا تفعل كذا" كان لك فيه غرض أم لا، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق، وهوىً باعث على مقتضى الأمر والنهى، فبالعرض لا بالأصل، وأما سائر الأقسام - وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف - فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض وقد لا يكون، فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار، بل في رفعه مثلا، كيف يقال: إنه داخل تحت اختياره؟ فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا؛ حتى إنّه لو وكل إليه تشريعه - مثلا - لحرمه، كما يطرأ للمتنازعين في حق، وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس، فيحب الآن ما يكره غدًا، وبالعكس؛ فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد، فينخرم النظام بسبب فرض اتباع الأغراض والهوى، فسبحان الذي أنزل في كتابه:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] فإذا إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف، إلا من حيث كان قضاءً من الشارع، وإذ ذاك يكون اختياره تابعًا لوضع الشارع، وغرضه مأخوذًا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله

(1)

.

(1)

الموافقات 2 - ص 130 - 131.

ص: 140

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1046 -

وَكلُّ فِعْلٍ بِالْهَوَى قَدْ وَقَعَا

دُونَ اعْتِبَارِ الْأمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَا

1047 -

أَوِ الْتِفَاتِ الإذْنِ فَهْوَ بَاطِلُ

إذْ غَيْرُ قَصْدِ الشَّرْعِ فِيهِ حَاصِلُ

1048 -

وَصَحَّ مَا الأمْرُ أَوِ النَّهْيُ اتُّبِعْ

فِيهِ أَوِ الْإذْنُ بِقَصْدِ الْمُتَّبِعْ

" فصل"

فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد: "و" منها أن "كل فعل" أصله الهوى بحيث يكون "بـ" سبب "الهوى قد وقعا" - الألف للإطلاق - وفُعل "دون اعتبار" أي التفات إلى ما يطلب شرعا الالتفات إليه في ذلك من "الأمر" الشرعي إن كان ما ورد في شأنه أمرا "والنهي" الشرعي إن كان هو ما ورد فيه نهيا فالالتفات يجب أن يكون للأمر والنهي "معا" في هذا الشأن على الوجه المشروع وذلك في كل موضوع بحسبه "أو "كان من غير "التفات" إلى "الاذن" أي التخيير إن كان حكمه الشرعي، "فهو "عمل "باطل" بإطلاق "إذ" هو عمل "غير قصد الشرع فيه حاصل" وثابت وكل ما هو كذلك فإنه ليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو ساقط الاعتبار لأنه خلاف الحق بإطلاق. وتأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الموطأ:"إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة ويقصرون فيه الخطبة، يبدؤون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة، يبدأون فيه أهواءهم قبل أعمالهم". فأما العبادات فكونها باطلة ظاهر، وأما العادات فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي، فوجودها في ذلك وعدمها سواء، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به، كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب

(1)

.

"وصح" شرعا "ما" من الأعمال "الأمر" الشرعي "أو النهي" الشرعى هو الذي "اتبع" مقتضاه "فيه" يعني في الإتيان به "أو" كان المتبع فيه هو "الاذن" الشرعي، وكان ذلك كله حاصلا "بقصد المتبع" - بكسر الباء - الآتي بذلك العمل.

(1)

الموافقات الجزء 2 الصفحة 132.

ص: 141

1049 -

وَمَا بِهِ يَمْتَزِجُ الْأَمْرَانِ

فَهَاهُنَا لِلْفِعْلِ مَقْصِدَانِ

1050 -

فَإنْ يَكُ السَّابِقُ أَمْرَ الشَّارعْ

وَمَقْصِدُ الْهَوَى لَهُ كَالتَّابِعْ

1051 -

فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِي لِحَاقِهِ

بِالثَّانِ إِذْ جَرَى عَلَى وِفَاقِهِ

1052 -

لَاكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا تُبِعْ

لِنَيْلِ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَصْدِ شُرِعْ

لموافقة الشارع في ذلك وإنما كان هذا العمل صحيحا وحقا لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له ووافق فيه صاحبه قصد الشارع. فكان كله صوابا وهو ظاهر. "و" أما "ما" من الأعمال "به" يعني فيه "يمتزج" يختلط "الأمران" وَهما اعتبار الجهة الشرعية والجهة الأخرى - جهة الهوى - معا، بحيث يصير معمولا بهما فيه "فها هنا" في هذا الموضع قد حصل "لـ" هذا "الفعل مقصدان" متعارضان، وهما المقصد لموافقة الشرع، والمقصد إلى إتباع الهوى.

وبذلك فإنه قد يصار في هذا المقام إلى الترجيح بين هذين المقصدين.

والمعتصم به في ذلك هو أن الحكم للغالب منهما الأقوى في الدفع إلى ذلك الفعل، والسابق منهما للآخر.

"فإن يك السابق" منهما في نية العامل هو "أمر الشارع" بحيث يكون قصده نيل غرضه من الطريق المشروع، "و" بذلك يكون "مقصد الهوى له كالتابع" الملغى اعتباره "فذاك" العمل الذي على هذه الصورة عمل صحيح، "لا إشكال في لحاقه بـ" القسم "الثاني" وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة، وإنما كان ملحقا به "إذ جرى على وفاقه" وذلك لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة، لأن الشريعة موضوعة - أيضا - لمصالح العباد، فإذا جعل الحظ تابعا، فلا بأس على العامل.

"لاكن" إنما يصح ذلك "بشرط أن يكون ما تبع" أي ذلك القصد التابع "لنيل" وتحصيل "مثل ذلك القصد" يعني ذلك الأمر المقصود، وهو ذلك الحظ قد "شرع" وذلك بأن يكون ذلك الوجه الذي حصل أو يحصل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل ذلك الغرض، وإلا فليس السابق فيه أمر الشارع، وبيان هذا الشرط مذكور في المسألة الثانية من القسم الثاني من قسمي الأحكام.

ص: 142

1053 -

وَإِنْ يَكُ الْهَوَى لِشَرْعٍ سَابِقَا

فَذَاكَ بِالأوَّلِ يُلْفَى لَاحِقَا

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1054 -

وَظَاهِرٌ أَنَّ الْهَوَى إِنِ اتُّبِعْ

نَهْجٌ لِمَا قَدْ ذُمَّ شَرْعًا وَمُنِعْ

1055 -

وَإِنْ يَكُنْ يَبْرُزُ فِي الْوُجُودِ

فِي ضِمْنِ مَا يُلْفَى مِنَ الْمَحْمُودِ

" و" أما "إن يك" إتباع "الهوى" غالبا "لشرع" يعني لما شرع في محل ذلك العمل من حكم و"سابقا" عليه في قصد ونية العامل، وصار أمر الشارع كالتبع "فـ" أن "ذاك بـ" القسم "الأول" وهو ما كان الهوى هو المتبع فيه صرفا من غير أي التفات إلى الجهة الشرعية "يلفى" أي يوجد "لاحقا" لأنه مثله من حيث أن الهوى هو المحكم فيهما في واقع الأمر.

وعلامة الفرق بين ما سبق فيه الهوى أمر الشارع وغلب، هو تحري قصد الشارع وعدم ذلك. فكل عمل شارك العامل فيه هواه، فانظر فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع وهواه تبع. وإن لم يكف عند ورود النهي عليه، فالغالب والسابق له الهوى والشهوة، وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده، فواطئ زوجته وهي طاهر، محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه، أو لإذن الشارع، فإن حاضت فانكف دل على أن هواه تبع، وإلا دل على أنه السابق

(1)

.

"فصل"

ومما ينبني على ذلك - أيضا - أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود.

"وظاهر" من واقع الحال - حال المكلف وشهواته - "أن الهوى إن اتبع" وحكّم سلطانه، لكان مفضيًا إلى التهلكة، لأن اتباعه "نهج" سبيل موصل "لما قد ذم" - بالبناء للمفعول - "شرعا ومنع" أي حرّم "وإن يكن" ذلك الإتباع "يبرز" ويظهر "في الوجود" وواقع الأمر، وهو "في ضمن ما يلفى" أي يوجد "من" العمل "المحمود" لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا.

(1)

الموافقات ج 2/ ص 133.

ص: 143

1036 -

وَهْوَ فِي الْأحْكَامِ إِذَا مَا أُعْمِلَا

مَظِنَّةٌ لِفِعْلِهَا تُحُيِّلَا

أما أولا: فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي لأنه مضاد لها.

وأما ثانيا فإنه إذا اتبع واعتيد، ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به، حتى يسري معها في أعمالها، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج، فقد يكون مسبوقا بالامتثال الشرعي فيصير سابقا له، وإذا صار سابقا له، صار العمل الامتثالي تبعا له وفي حكمه، فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة، ودليل التجربة حاكم هنا.

وأما ثالثا فإن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه، والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم، وانفتاح مغاليق العلوم، وربما أكرم ببعض الكرامات، أو وضع له القبول في الأرض، فانحاش الناس إليه، وحلقوا عليه، وانتفعوا به، وأمّوه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم، إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة من الصلاة والصوم وطلب العلم، والخلوة للعبادة، وسائر الملازمين لطرق الخير، فإذا دخل عليه ذلك كان للنفس به بهجة وأنس، وغنى ولذة، ونعيم بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك، كما قال بعضهم: لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف. أو كما قال، وإذا كان كذلك فلعل النفس تنزع إلى مقدمات تلك النتائج، فتكون سابقة للأعمال، وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله، هذا وإن كان الهوى في المحمود ليس بمذموم على الجملة، فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق، ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين، وأخبار الفضلاء والصالحين، فلا حاجة إلى تقريره هنا

(1)

.

وينبني على ذلك - أيضا - من الضوابط - القوا عد - ضابط آخر "وهو" أن إتباع الهوى "في الأحكام" الشرعية كالحل والحرمة "إذا ما أعملا" - الألف للإطلاق - وأخذ بمقتضاه فيها فإنه "مظنة" موطن ظن "لفعلها" أي إتيانها "تحيلا" منه للوصول إلى أغراضه بها بحيث يأتيها قصدا لهذا الأمر، فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه لا لتحكيم مقتضاها والعمل به. فيأتي الحلال على قصد غرضه. وربما جرت اختياراته الفقهية على ذلك السنن. كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس. وبيان هذا ظاهر. ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرا، وقد تقدم

(1)

الموافقات ج 2/ ص 133 - 134.

ص: 144

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1057 -

مَقَاصِدُ الْمَشْرُوعِ مِنْهَا أَصْلِي

وَتَابِعٌ لَهُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ

1058 -

فَأَوَّلٌ قِسْمُ الضَّرُورِيَّاتِ

وَحُكْمُهَا عَلَى الْعُمُومِ ءَاتِ

1059 -

وَمِنْ هُنَا لَا حَظَّ لِلْمُكَلَّفِ

فِيهَا لِأنْ كَانَتْ لِذَاكَ تَقْتَفِي

1060 -

لَاكِنَّهَا بَعْدُ عَلَى قِسْمَيْنِ

مِنْهَا كِفَائِيٌّ وَمِنْهَا عَيْنِي

في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها، ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها، دون توخي مقاصد الشرع

(1)

.

"المسألة الثانية"

اعلم أن "مقاصد المشروع" يعني أن مقاصد الشريعة - المقاصد الشرعية - ضربان، الضرب الأول "منها أصلي" وسيأتي بيان المراد به، والضرب الثاني "تابع له" أي لذلك الأصلي "بحكم" كونه هو "الأصل".

"فـ" أما هذا الذي هو "أول" من هذين القسمين فإنه "قسم الضروريات" المعتبرة في كل ملة، "وحكمها" جار "على العموم" و"آت" على وفق ذلك، لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة، لا تختص بحال دون حال، ولا بصورة دون صورة، ولا بوقت دون وقت "ومن هنا" أي هذا الموضع يقال أنه "لا حظ للمكلف فيها" وذلك "لـ" أجل "أن كانت لذاك" وهو كونها ضرورية وعامة "تقتفي "أي تتبع ما هو ضروري وعام على الوجه المذكور الذي يجب حفظه على كل حال، ولا اختيار للمكلف في أمره. فهذه الضروريات يجب حفظها على الوجه العام المتقدم ذكره، ولا ينظر إلى حظ المكلف في ذلك ولا عدمه.

"لاكنها بعد" يعني بعد أن ثبت هذا الأمر فيها ليست قسما واحدا، وإنما هي "على قسمين" إذ "منها" ما هو "كفائي" - وهو أحد القسمين - "ومنها" ما هو "عيني" وهو القسم الآخر.

(1)

الموافقات 2/ ص 134.

ص: 145

1061 -

فَكَوْنُهَا لِلْعَيْنِ حَيْثُ أُمِرَا

كلُّ امْرِئٍ بِعَيْنِه مِنَ الْوَرَا

1062 -

بِحِفْظِ دِينِهِ وَحِفْظِ عَقْلِهْ

وَنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَنَسْلِهِ

1063 -

وَكَوْنُهَا كِفَايَةٌ مِنْ حَيْثُ مَا

هُوَ لِكُلِّ الْخَلْقِ أَمْرٌ لَزِمَا

1064 -

فَبِالْجَمِيعِ قَامَتِ الْمَصَالِحْ

بِحِكْمَةِ اللهِ وَهَذَا وَاضِحْ

" فـ" أما "كونها للعين" فإن ذلك من "حيث أُمِرَا" - الألف للإطلاق - وخوطب "كل امرئ" أي شخص مكلف "من الورى" ذكرا كان أو أنثى "بحفظ " - متعلق بأُمِرا - "دينه" اعتقادا وعملا، بما يحفظ به من امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، "و" كذلك" أمر بـ "حفظ عقله" مما يُضُّر به أو يفسده، أو يخل بما خلق له من وظائف، "و" كذلك أمر بحفظ "نفسه" ودرء ما يفسدها أو يذهب بها، أو يضرها، "و" بحفظ "ماله" كذلك بما يحفظ به من الضياع والتلف، "و" بحفظ "نسله" مما يفسده من اختلاط الأنساب وعدم صحة نسبته إليه.

قال الشاطبي: فأما كونها عينية على كل مكلف في نفسه، فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا، وبحفظ نفسه قياما بضرورة حياته، وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب من ربه إليه، وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار، ورعيا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه، وبحفظ ما له استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة، ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه، ولحيل بينه وبين اختياره، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ، محكوما عليه في نفسه، وإن صار له فيها حظ فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي

(1)

.

"و" أما "كونها" - أي المقا صد الأصلية المذكورة - شرعت "كفاية" يعني على سبيل الكفاية "من حيث ما هو "أي من جهة كونها "لكل الخلق" أجمعين "أمر لزما" - الألف للاطلاق - يجب عليهم القيام به، وذلك لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها، "في" تضافر وتعاون "الجميع" جميع الخلق. "قامت المصالح" أي مصالحهم العامة والخاصة، لأن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله، فضلا عن أن يقوم بقبيلة، فضلا ان يقوم بمصالح أهل الأرض. وبذلك انيط هذا الأمر بالخلق مجتمعين على تحصيله، وذلك كله حاصل "بحكمة الله" تعالى الجارية في أحكامه، وخلقه "وهذا" أمر "واضح" بين. قال الشاطبي: "ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي مُعرّى من الحظ

(1)

الموافقات ج 2/ ص 135.

ص: 146

1065 -

وَالتَّابِعُ الذِي بِهِ قَدْ رُوعِيَ

حَظُّ مُكَلِّفٍ لَدَى الْمَشْرُوعِ

1066 -

فَهْوَ بِهِ مُحَصِّلٌ لِمَا جُبِلْ

عَلَيْهِ مِمَّا النَّفْعُ فِيهِ قَدْ شَمِلْ

1067 -

لِأجْلِ مَا رُكِّبَ فِي الطِّبَاعِ

لِلاكتِسَابَاتِ مِنَ الدَّوَاعِي

1068 -

فَهْوَ بِمَا جُبِلْ لَّهُ يَسْتَدْعِي

مَصَالِحَ الدُّنْيَا بِحُكْمِ الطَّبْعِ

شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك، فلا يجوز لوال أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم، ولا لقاض أن يأخذ من المقضى عليه أوله أجرة على قضائه، ولا لحاكم على حكمه، ولا لمفت على فتواه، ولا لمحسن على إحسانه، ولا لمقرض على قرضه، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة، ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية؛ لأن استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات، وعلى هذا المسلك يجرى العدل في جميع الأنام، ويصلح النظام، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام، وهدم قواعد الإسلام، وبالنظر فيه يتبين أن العبادات العينية لا تصح الإجارة عليها، ولا قصد المعاوضة فيها، ولا نيل مطلوب دنيوي بها، وأن تركها سبب للعقاب والأدب، وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة، لأن في تركها أي مفسدة في العالم"

(1)

. هذا شأن المقاصد الأصلية. "و" أما المقصد "التابع" - المعبر عنه بالمقاصد التبعية فيما تقدم - فإنه "الذي به" أي فيه "قد روعي" تحصيل "حظ مكلف" - التنوين للتنويع - "لدى" شَرْع "المشروع" من الأحكام والتكليف به.

"فهو" أي المكلف "به" أي بالقصد التابع "محصل" وكاسب "لما جبل" أي فطر وخلق "عليه من "كل "ما" أي الذي "النفع فيه قد شمل" أي غشي - جاء -، وإنما شرع هذا الضرب من المقاصد "لأجل ما ركب" وركز "في الطباع" أي طباع الخلق من الرغبة في نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسد الخلات فكان ذلك موجبا "للاكتسابات" التي تلزم وتجب "من" جهة هذه "الدواعي" المركوزة في طباع الخلق.

وبذلك "فهو بـ" سبب "ما جبل لَّهُ" - بإدغام اللام في اللام - يعني عليه "يستدعي" يطلب "مصالح الدنيا" التي بها قيام وجود الإنسان وبقاؤه "بحكم" ومقتضى "الطبع" الذي خلق عليه. "وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام مصالح الدين والدنيا

(1)

الموافقات ج 2/ ص 135 - 136.

ص: 147

1069 -

وَالشَّرْعُ يَسْتَدْعِي لَهُ فِي الْخَلْقِ

مَصَالِحَ الْأُخْرَى بِحُكْمِ الرِّفْقِ

1070 -

فَحَدَّ لاكْتِسَابِهِ حُدُودَا

وَحِفْظُهَا بِنَيْلِهِ الْمَقْصُودَا

إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش، ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء، لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة، فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن .. "

(1)

.

هذا شأن مصالح المكلف في الدنيا المرعية شرعا، وشأن كيفية تحصيلها "و" أما مصالحه غير الدنيوية فإن "الشرع يستدعي" يطلب "له" أي للمكلف "في الخلق" قد يكون "في"- هنا بمعنى الباء فيكون المعنى بالخلق - أي بمعنى أن المكلف يطلب له الشارع بما خلقه من الجنة والنار، وبمن أرسله من الرسل مبشرين ومنذرين.

وقد تكون - أي "في" - بمعناها المجازي، فيكون المعنى: في جملة الخلق مشتركين مجتمعين "مصالح" الدار "الأخرى" وذلك كله إنما حصل "بحكم" ومقتضى "الرفق" واللطف الإلهي بالخلق، ولو شاء - سبحانه - لكلف بما ذكر مع الإعراض عن الحظوظ، أو لكلف مع سلب الدواعي المجبول عليها، لكن امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحا، لا ممنوعا، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة، واجري على الدوام مما يعده العبد مصلحة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . وبذلك "فـ" إنه قد "حدّ لاكتسابه" أي اكتساب المكلف أسباب ما ذكر من المصالح والحظوظ "حدودا" تتبين بأوامره ونواهيه، وهذه الحدود هي التي إليها المرجع إلى اكتساب تلك الأسباب التزاما وعدمه.

فأسباب المصالح الأخروية إنما تعرف بما ورد عنه - أي الشارع - وبما حدها به من حدود. وكذلك أسباب الشقاء فإنها أنما تعرف من هذه الجهة - جهة ما حدّه الشارع فيها - فمن التزم أسباب السعادة على ما حدّه الشارع سعد ومن خالف ذلك أتى بأسباب الشقاء.

"وحفظها" أي تلك الحدود "بنيله" أي المكلف، ويمنحه "المقصودا" الذي به

(1)

الموافقات ج 2/ ص 136.

ص: 148

1071 -

فَإِنَّ هَاذِي الدَّارَ مَوْضِعُ الْعَمَلْ

وَيلْكَ لِلْفَوزِ أَوْ لِلْخُسْرِ مَحَلُّ

1072 -

وَحِينَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ

بِمَا بِهِ النَّفْعُ عَلَى التَّمَامِ

1073 -

اِحْتَاجَ أَنْ يُعِينَهُ سِوَاهُ

لِنَيْلِ مَا رَءَاهُ مُبْتَغَاهُ

1074 -

فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ لَنْ يَسْعَا

إِلَّا لِمَا جَرَّ إِلَيْهِ نَفْعَا

1075 -

وَصَحَّ الانْتِفَاعُ لِلْجَمِيعِ

فِي قَصْدِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمَجْمُوعِ

صلاحه في الدارين وفي الجملة فإن هذه الدار ليست بدار القرار، وإن الاستقرار هناك في دار البقاء.

"فإن هاذي" أي هذه "الدار" التي نحن فيها - دار الدنيا - "موضع العمل" والكسب "وتلك" أي الدار الآخرة "للفوز" والفلاح "أو الخسر" - بضم الخاء وسكون السين - أي العقاب "محل" موضع ودار. والمكلف ليست له القدرة على كسب منافعه هذه كلها وحده "وحين" ثبت أنه "لم يقدر على القيام بما" ذكر وهو تحصيل كل ما "به" يكون "النفع" له في الدارين "على التمام" والكمال لضعفه عن ذلك وعدم قدرته عليه "احتاج أن يعينه سواه" من الخلق، وذلك "لنيل ما رءاه" وعلم أنه "مبتغاه" وهو كسب تلك المنافع والمصالح كلها، "فـ" لذلك "صار كل أحد" أي واحد "لن" يعني لا "يسعى إلا لما جر" يعني لما يجر ويجلب من الأمور "إليه نفعا" ومصلحة ونفعه غيره وإن كان ساعيا فيه، فإن ذلك ما كان منه إلا لما يجنيه من منفعة ترجع إليه، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره. وبهذا حصل التعاون بين الخلق "وصح الانتفاع للجميع" أي لجميعهم "في قصدهم" هذا - وهو كسب النفع لأنفسهم من نفع غيرهم - وذلك ليس من جهة نفع الجميع للجميع وانتفاع الجميع بالجميع، لأن ذلك مستحيل ولا يحتاج إليه بالضرورة، وإنما "من جهة" انتفاع "المجموع" بالمجموع، وهذا لا يشترط فيه الشمول للخلق كلهم، ولا التعيين، إذ يصدق على تعاون بعض من الناس مع آخرين فقط وإن كان كل واحد منهم في حقيقة الأمر إنما يسعى إلى نفع نفسه. فإذا تقرر هذا وعلم علم أن هذه المقاصد التبعية الفرعية - روعي فيها حظ المكلف ليستقيم حاله في أمور دينه ودنياه، وأن حكمة الحكيم الخبير حكمت بأن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بهذا، وأدرك على بينة أن المقاصد التي يقتضيها محض العبودية وهي لا حظ للمكلف فيها هي المقاصد الشرعية الأصلية وأدرك أيضا على

ص: 149

1076 -

وَصَارَت المَقَاصِد الفَرْعِيَّة

مِنْ أَجْلِ ذَا خَادِمَة الأصْلِيَّة

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1077 -

وَحَاصِل أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ

ضَرْبَانِ ضَرْبٌ لِلْعِبَادِ آتِ

1078 -

وَالْحَظُّ فِيهِ عَاجِلٌ مَقصُودُ

وَالآخَرُ الْعَكْسُ بِهِ مَوْجُودُ

1079 -

فَأَوَّلٌ لِمَا تَقَوَّى الدَّاعِي

لِجَلْبِهِ مِنْ جِهَةِ الطِّبَاعِ

وضوح أنه "صارت المقاصد الفرعية" هذه "من أجل ذا" الحال التي هي عليه "خادمة" للمقاصد "الأصلية" المذكورة. وهذا ظاهر لأن المقاصد الفرعية التبعية هذه وسيلة لإدراك المقاصد الأصلية المذكورة المقصودة للشارع بالذات، وآلة معدة لاقتناصها.

"المسألة الثالثة"

"المسألة الثالثة" في بيان أن الضروريات ضربان: "و" وبيان ذلك أن ما هو "حاصل" من جملة ما تقدم هو "أن الضروريات ضربان": أحدهما "ضرب للعباد" أي الخلق "آت" أي جاء بيانه أو جاء في الشريعة لأجل حظوظ الخلق في الدنيا "و" هذا الضرب "الحظ" ورغبة النفوس "فيه عاجل" يتمتع به في هذه الدنيا "مقصود" شرعا ذلك فيه - كما تقدم ذكره - وذلك كقيام الإنسان بمصالح نفسه، وعياله في الاقتيات واتخاذ السكن، والمسكن واللباس، وما يلحق بها من المتممات، كالبيوع والإجارات، والأنكحة وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية

(1)

.

"و" أما الضرب "الآخر" وهو الثاني فإنه على خلاف الأول إذ "العكس" لما تقدم "به" أي فيه "موجود" وذلك أنه ليس فيه حظ عاجل مقصود، سواء كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية: من الطهارة، والصلاة والصيام، والزكاة، والحج وما أشبه ذلك أو كان من فروض الكفايات كالولايات العامة: من الخلافة، والوزارة، والنقابة، والعرافة، والقضاء، وإمامة الصلوات، والجهاد، والتعليم، وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذ لو فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام. "فـ" أما الذي هو ضرب "أول" من هذين الضربين فإنه "لما تقوى الداعي" النفسي "لجلبه" وكسبه، وكان داعيا قاهرا للمكلف، من جهة سلطان ما جبل عليه الناس "من جهة الطباع"

(1)

الموافقات ج 2/ ص 137.

ص: 150

1080 -

كَانَ مِنَ الشَّرْعِ بِإِذْنٍ أَوْ طَلَبْ

نَدْبٍ فَإنْ يَعْرَ عَنِ الدَّاعِي وَجَبْ

1081 -

إِمَّا عَلَى الْعَيْنِ أَوِ الْكِفَايَهْ

وَصَارَ حَظُّ الْغَيْرِ بَادِي الآيَهْ

1082 -

مُقَدَّمًا عَلَى سِوَاهُ فِي الطَّلَبْ

وَأُكِّدَ الْكَفُّ مِنْ أَجْلِ ذَا السَّبَبْ

التي لا تنفك مرغمة لهم على تلبية ما يبعث عليه وتطلبه.

"كان" طلبه "من" جهة "الشرع بإذن" أي إباحة - تخيير بين الفعل والترك - "أو طلب ندب" واستحباب وذلك كالاحتراف والتكسب والنكاح فكل ذلك مطلوب في الجملة طلب الندب، لا طلب الوجوب بل كثيرا ما يأتي طلب ذلك في معرض الإباحة كقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البَقَرَة: 275] وقوله سبحانه {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجُمُعَة: 10] وغير ذلك من النصوص الشرعية الواردة في هذا الشأن. وهذا الحكم إنما يجري فيما يسوق إليه الداعي النفسي "فإن يعر" كسب وطلب هذا الضروري من الضروريات "عن الداعي" المذكور فإنه لا يجري فيه الحكم المتقدم - الإباحة أو الندب - وإنما يصير مما قد "وجب" وفرض ويكون ذلك الوجوب "اما على عين" غير صاحب الحظ، وذلك كوجوب القيام بوظائف الزوجات والأولاد على الزوج، والأب "أو" على "الكفاية" كوجوب غسل الميت وكفنه ودفنه والصلاة عليه. وغير ذلك مما هو واجب على الكفاية لخلوه من داع نفسي ونازع طبعي. فإن لم يكن خاليا منه فإنه يطلب على الكفاية طلب إباحة أو ندب، كما في شأن تولي الولايات والرئاسة، وما شابهها وذلك لما جبلت عليه النفوس من حب ذلك والرغبة فيه كما سيأتي بيانه وهذا بين جلي. وأما ما فيه حظ الغير، فإنه مقدم طلبه على طلب حظ النفس المباشر المنزوع إليه من جهة النفس. "وصار حظ الغير" حال كونه "بادي الآية" أي ظاهر العلامة

(1)

.

"مقدما على سواه" وهو - كما تقدم ذكره الحظ المباشر الذي تدفع إليه النفس وبيان ذلك أن ما تدفع إليه رغبات النفوس ودواعيها لم يطلب من جهة الشرع إلا طلب إباحة، أو ندب - كما سبق ذكره - لأن الإتيان به محال على هذه الدواعي والرغبات، فهي تلزم بالإتيان به، لما لها من سلطان على النفوس وقهر لها. فإذا تعارض هذا الحظ مع حظ الغير، فإنه يقدم حظ الغير شرعا بالكف عن طلب ذلك الحظ المنزوع إليه، لكونه غلابا قهارا. ويكون ذلك التقديم بالطلب الشرعي "وأكد" أي قوى "الكف" وذلك "من أجل ذا السبب" وهو - كما تقدم ذكره - أن الطبع النازع إلى طلب مصلحة

(1)

هذا ما ظهر لي في هذه الكلمة. فتأمل.

ص: 151

1083 -

بِالزَّجْرِ فِي الدُّنْيَا وبِالإيعَادِ

بِلَاحِقِ الْعَذَابِ فِي الْمِعَادِ

1084 -

وَضَرْبُهَا الثَّانِي بِذِي الْمَثَابَةِ

مَا قَدْ أَتَى فِيهِ عَلَى الْكِفَايَةِ

1085 -

وَمَا عَلَى الْأعْيَانِ مِنْهُ قَدْ أَتَى

فَالْقَصْدُ لِلشَّارعِ فِيهِ ثَبَتَا

الإنسان ودرء مفسدته يغرى ويشلى المكلف بقوة على الإقدام على ذلك - على كل حال - فكان كفه عن ذلك فيما فيه يقدم حظ غيره بما ذكر من الكف و"بالزجر في الدنيا" بما ينزجر به كالتعزيرات والحدود والتأديبات "وبالإيعاد" والتهديد "بلاحق العذاب" - فيه إضافة الصفة للموصوف - أي بالعذاب اللاحق "في المعاد" - بفتح الميم - أي يوم القيامة لكل من لم يكف نفسه عما نهي عنه من ذلك. وذلك كقتل النفس التي حرم الله، والزنا، والخمر، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى وغيرهم من الناس بالباطل، والسرقة، وغير ذلك. "و" هكذا حال "ضربها" أي الضروريات "الثان بذي المثابة" فإنه جار على هذا السبيل أعني "ما" كان "قد أتى فيه على الكفاية" أو أكثر أنواعه. فما كان منه في النفس نوازع إليه فإنه يطلب طلب إباحة أو ندب وذلك كالولايات ونحوها مما ترغب فيه النفوس وتجمح إليه.

قال الشاطبي: فإن عز السلطان وشرف الولايات ونخوة الرياسة، وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه، فكان الأمر بها جاريا مجرى الندب لا الإيجاب، بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها، وأكد النظر في مخالفة الداعي، فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها كقوله تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] إلى آخرها، وفي الحديث:"لا تطلب الإمارة فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها" أو كما قال، وجاء النهي عن غلول الأمراء وعن عدم النصح في الإمارة لما كان هذا كله على خلاف الداعي من النفس ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات

(1)

.

هذا شأن ما كان على الكفاية. "و" أما "ما على الأعيان" الاشخاص "منه" أي هذا القسم "قد أتى" مفروضا "فالقصد للشارع فيه" يعني في الإتيان به أمر "ثبتا" فكان الطلب

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 139.

ص: 152

1086 -

مُؤَكَّدًا فِي الْفِعْلِ بِالْإِيجَابِ

وَالتَّرْكِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْعِقَابِ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1087 -

وَذُو كِفَايَةٍ بِحُكْمِ الْقَصْدِ

إِن اعْتَبَرْتَ فِيهِ حَظَّ الْعَبْدِ

1088 -

وَجَدْتَهُ يَصْلُحُ لِلتَّقْسِيمِ

بِحَسَبِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ

الشرعى له "موكدا" الامتثال "في" شأن "الفعل" الوارد فيه - أي في هذا القسم "بالإيجاب" والإلزام - إذ يكون بالإتيان به أمرا جازما. "و" كذلك شأن "الترك" الوارد فيه فإنه يكون مؤكدا الأمر فيه "بالتحريم" والمنع للمأمور بتركه "العقاب" على المخالفة في ذلك بالعقوبات. وإنما كان هذا القسم على هذا الوجه من جريان الجزم فيه في الأفعال والتروك لخلوه من حظ المكلف العاجل خلاف ما عليه القسم الأول من جهة كونه وضع الشارع الأسباب فيه لنيل الحظوظ العاجلة على الوجه الذي تقدم ذكره. وأما هذا القسم - القسم الثاني - فإنا نعلم كما قال الشاطبي: ((أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات بل هي خالصة لله رب العالمين {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمَر: 3]

(1)

. وهكذا كل ما شرع عبادة وخوطب به الأعيان على وجه الوجوب، فإنه مقصور أمره على أنه أمر يجب صرفه لله رب العالمين.

"فصل"

في أن ما كان مطلوبا من جهة الشارع طلب كفاية إذا اعتبر فيه حظوظ المكلف من حيث كونها مقصودة على وجه الخصوص أو على وجه العموم، فإنه يلفى فيه واردا على اضرب ثلاثة سيأتي بيانها. "وذو كفاية" من الضروريات "بحكم" ومقتضى "القصد" الشرعي منه أن "اعتبرت فيه" شأن وأمر "حظ العبد" المكلف بفعله "وجدته يصلح للتقسيم" إلى ثلاثة أقسام، وذلك "بحسب" كون ذلك الحظ ثابتا للمكلف على وجه "الخصوص" فيكون مقصودا من ذلك الفعل على وجه الخصوص بالقصد الأول، وذلك يكون حظ غيره إن حصل منه تبعا له، "و" بحسب "العموم" بحيث يكون غير مقصود بالقصد الأول ولكنه يرد لما قصد بالقصد الأول وهو المصلحة العامة فيكون اعتباره من

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 139.

ص: 153

1089 -

فَمِنْهُ مَا الْحَظُّ بِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ

بِالْقَصْدِ الأوَّلِ بِحَيْثُ مَا ظَهَرْ

1090 -

مِثْلَ الْوِلَايَاتِ التِي قَدْ عَمَّتِ

مَصَالِحُ الدُّنْيَا بِهَا لِلأمَّةِ

جهة العموم كما سيأتي ذكره. وبذلك "فمنه" أي ما ذكر من القصد الشرعي إلى حظ المكلف في الضروري الكفائي "ما الحظ" أي حظ المكلف "به" أي فيه "لم يعتبر" فلم يشرع فيه "بالقصد الأول" الذي هو القصد الشرعي من تشريع ذلك الضروري الكفائي "بحيث ما" أي في أي موضع من المواضع وأبواب الفقه "ظهر" وذلك "مثل الولايات التي" لأمور المسلمين "قد عمت" أي وشملت "مصالح الدنيا بها" بسببها "للأمة" وذلك كالخلافة والوزارة والنقابة، والقضاء، وإمامة الصلاة والجهاد والتعليم وغير ذلك من الأمور التي شرعت مصالحها لعامة الخلق، وهذه المصالح المذكورة هي المقصودة منها بالقصد الأول.

وأما حظ المكلف من ذلك فإنه إنما يحصل تبعا، فيكون مقصودا للشارع من ذلك بالقصد الثاني، وبذلك لا يصح القصد إليه فيما ذكر من جهة المكلف به. فهذه الولايات وما جرى مجراها ما شرعت لينال بها عز السلطان ونخوة الولاية وشرف الأمر والنهي عن المنكر وغير ذلك من الحظوظ النفسية، وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع فإن عِزّ المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره لا ينكر وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به، وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع بل هو مطلوب متأكد فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك وقد قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] الآية وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطّلَاق: 2 - 3] وفي الحديث: "من طلب العلم تكفل الله برزقه" إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سبب لإنجاز ما عند الله من الرزق

(1)

. هذا هو القسم الأول، وحظ المكلف - كما ترى غير مقصود للشارع بالأصالة - القصد الأول وإنما هو آت في عموم مصالح الخلق فيه، ولم يكن إلا من طريق التبع للمصالح المذكورة. كما تقدم ذكره.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 140.

ص: 154

1091 -

وَمِنْهُ مَا الْحَظُّ لَدَيْهِ يُقْتَضَا

وَذَاكَ مَا مَصْلَحَةَ الْغَيْرِ اقْتَضَا

1092 -

فِي ضِمْنِ مَا الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ اقْتَرَفْ

مِثْلَ الصِّنَاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْحِرَفْ

1093 -

فَهْوَ خُصُوصٌ وَالْعُمُوم بِالْعَرَضْ

وَمِنْهُ قِسْمُ ذَا وَذَا فِيهِ عَرَضْ

1094 -

بِالْقَصْدِ لِلْحَظِّ وَلَحْظِ الأمْرِ

فَهْوَ خُصُوصْ فِي عُمُومِ يَجْرِي

وأما القسم الثاني فقد أورده الناظم بقوله: "ومنه" أي ما ذكر من القصد الشرعي إلى حظ المكلف في الضروري الكفائي "ما" أي الذي اعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول، وبذلك فـ "الحظ" المذكور "لديه" أي فيه "يقتضى" أي يؤخذ ويستجلب "وذاك" الذي هو على هذا الحال هو "ما" استجلب "مصلحة الغير" أي غير المكلف و"اقتضا"ها بحكم العرض والتبعية، وذلك يحصل "في ضمن" أي في طي ومحتوى "ما" من الحظوظ اقترف "المرء" خاصة "لنفسه اقترف" أي اكتسب، وذلك "مثل الصناعات" كالخياطة والدباغة والحياكة والحدادة "وأنواع الحرف" كالتجارة، والميرة، وغير ذلك مما يعد حرفة عادية. وكل ما كان من هذا الصنف من الضروري الكفائي "فهو" من جهة قصد الشارع إليه "خصوص" أي ذو خصوص بالمكلف "والعموم" أي عموم المصلحة المترتبة عنه لغير المكلف، إنما يكون "بالعرض" وبالتبعية. فالمكتسب لرزقه من حرفة أو صناعة يترتب عن عمله في ذلك مصلحة عامة، إلا أنها لم تكن من ذلك بالأصالة، وإنما بالعرض - كما تقدم بيانه -. هذا - بإيجاز - حال هذا القسم - القسم الثاني - "و" أما الثالث "منه" أي مما ذكر من القصد الشرعي إلى حظ المكلف في الضروري المذكور - فهو "قسم" لم يتمحض حاله، إذ هو متردد بين القسم الأول والقسم الثاني، فمقتضى وحكم "ذا" القسم الأول "وذا" القسم الثاني، كل واحد منهما فيه "عرض" وظهر إمكان جريانه فيه. وذلك حاصل ....

"بـ" اعتبار "القصد للحظ" أي حظ المكلف الذي يظهر أنه يحتمل اعتباره والقصد إليه فيه. وثانيهما: "لحظ" أي اعتبار"الأمر" الشرعي الوارد فيه، والذي لا حظ للمكلف فيه، وكونه ولاية.

وبذلك "فهو" أي هذا القسم "خصوص" في القصد إلى حظ المكلف فيه باعتبار أنه ليس له ولاية عامة خالصة. "في" بمعنى مع "عموم" ذي عموم باعتبار أنها ولاية بغض النظر عن كونها خاصة. فهذان الأمران الخصوص والعموم كلاهما أمره "يجري" في هذا القسم. وهذا يتجلى في الأمور التى لم تتمحض في كونها عامة، كما أنها ليست

ص: 155

1095 -

وَتَحْتَ ذَا تَدْخُلُ فِي الْأحْكَامِ

وِلَايَةُ الأوْقَافِ وَالأيْتَامِ

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1096 -

مَا فِيهِ حَظُّ الْعَبْدِ مَحْضًا وَإِذَنْ

فِيهِ بِتَخْلِيصٍ مِن الْحَظِّ قَمِنْ

1097 -

لِمَنْ تَلَقَّى بِالْقَبُولِ الإِذْنَا

فَصَارَ قُرْبَةً بِهَذَا المَعْنَا

خاصة خالصة. "وتحت ذا" أي هذا الذي ذكر "تدخل في" شأن ما يقرر من "الأحكام" الفقهية فيها "ولاية الأوقاف" أي الاحباس، "و" ولاية "الأيتام" والصدقات، والأذان وما أشبه ذلك. "فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ ولا تناقض في هذا فإن جهة الأمر بلاحظ غير وجه الحظ فيؤمر انتدابا أن يقوم به لحظ ثم يبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة حين لا يكون ثم قائم بالانتداب وأصل ذلك في والي مال اليتيم قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 6] وانظر ما قاله العلماء في أجرة القسام والناظر في الأحباس والصدقات الجارية وتعليم العلوم على تنوعها ففي ذلك ما يوضح هذا القسم"

(1)

.

"المسألة الرابعة"

في بيان أن ما فيه حظ المكلف محضا - من المأذون فيه - يتأتى تخليصه من الحظ، فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به. وإذا كان كذلك فهل يلحق بالقسم الأول الماضي ذكره في المسألة السابقة وهو القسم الذي لا حظ للمكلف فيه أم لا؟ "ما" من عمل قد ثبت "فيه حظ العبد محضا" خالصا، بحيث يكون قد قصده الشارع منه "وأذن فيه" يعني في كسبه واقتناصه منه فإنه أي هذا العمل إلا وهو جدير "بتخليص" له "من الحظ" المذكور و"قمن "به، إذ يتأتى فيه ذلك، فيكون العمل فيه لله خالصا وذلك يحصل "لمن تلقى بالقبول" والرضى وانشراح الصدر "الإذنا" - الألف للإطلاق - الشرعي معتبرا المأذون فيه هدية من الله تعالى "فـ" من أتى العمل المأذون فيه المذكور متصفا بهذا الوصف فإن عمله ذاك قد "صار قربة" - بضم القاف - أي عملا يتقرب به إلى الله - تعالى - وإنما كان كذلك "بـ" سبب "هذا المعنى" المذكور.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 142.

ص: 156

1098 -

كَمِثْلِ مَنْ لَبَّى بِالامْتِثَالِ

مَا طَلَبَ الشَّرْعُ وَلَا يُبَالِي

1099 -

وَهَلْ بِمَا لَا حَظَّ فِيهِ يُعْتَبَرْ

تَلْحَقُه فِي الْحُكْمِ فِي هَذَا نَظَرْ

1100 -

مَرْجِعُهُ إِلَى اعْتِبَارِ الرُّتَبِ

فِي الأخْذِ لِلْحَظِّ مِنَ التَّسَبُّبِ

و"كمثل" المتلقي المذكور في هذا الشأن "من لبى" أي استجاب "بالامتثال" يعني بامتثاله "ما طلبـ"ـه "الشرع" منه "ولا يبالي" بما سوى ذلك، فلم يستحضر في الاعتبار شيئا سوى الاستجابة للطلب الشرعي في ذلك، فكان ذلك سائقه وحده. فالحظ الذي له في ذلك لم يحضره في البال، ولم يعتبره، فهذا مثل المتلقي للإذن بالقبول المذكور في كون عمله هذا قربة وعملا يتقرب به لله رب العالمين.

"و" إذا تقرر هذا وثبت أمره في هذا العمل فـ "هل" هو "بما" أي بالعمل الذي "لا حظ" عاجل للمكلف "فيه يعتبر" ويوزن، وبذلك "تلحقه" به "في الحكم" إذ صار ملحقا به في القصد؟ أو لا يلحق به نظرا لكونه في الأصل مما ثبت فيه القصد إلى الحظ؟ "في هذا " الأمر"نظر" وبحث "مرجعه إلى اعتبار" عدم تساوي "الرتب" يعني مراتب الناس "في" شأن "الأخذ للحظ من التسبب" والتكسب.

قال الشاطبي: الناس في أخذ حظوظهم على مراتب:

منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه (يعني إلا مع اعتقاد أنه غير متسبب فيها، وإن الفضل في ذلك كله لله - تعالى وحده -) فيعمل العمل أو يكتسب الشيء فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر ولا يدخر لنفسه من ذلك شيئا بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من الحظوظ إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير عنده من قبيل ما ينسى وإما قوة يقين بالله لأنه عالم به وبيده ملكوت السموات والأرض وهو حسبه فلا يخيبه أو عدم التفات إلى حظه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه أو أنفة من الالتفات إلى حظه مع حق الله تعالى أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال وفي مثل هؤلاء جاء {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحَشر: 9].

وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين قال الرواي أراه ثمانين ومائة ألف فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة فجعلت تقسمه بين الناس فأمست وما عندها من ذلك درهم فلما أمست قالت يا جارية هلمي أفطري فجاءتها

ص: 157

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بخبز وزيت فقيل لها أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما ....

تفطرين عليه فقالت لا تعنيني لو كنت ذكرتني لفعلت وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف فقالت لمولاة لها أعطيه إياه فقالت ليس لك ما تفطرين عليه فقالت أعطيه إياه قالت ففعلت فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما يهدى لنا شاة وكفنها فدعتني عائشة فقالت كلي من هذا هذا خير من قرصك وروى عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهي ترقع ثوبها وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته ثم أفطرت على خبز الشعير وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة فلا يأخذ إلا من الملك لأنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه فإذ دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها وهؤلاء هم أرباب الأحوال ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم إن استغنى استعف وإن احتاج أكل بالمعروف وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه فقد يكون في الحال غنيا عنه فينفقه حيث يجب الإنفاق ويمسكه حيث يجب الإمساك وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار وهذا أيضا براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره وهو لم يفعل بل جعل نفسه كآحاد الخلق فكأنه قسام في الخلق يعد نفسه واحدا منهم.

وفي الصحيح عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم وفي حديث المواخاة بين المهاجرين والأنصار هذا وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام ابدأ بنفسك ثم بمن تعول بل يحمل على الاستقامة في حالتين فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ إذ للقصد إليه أثر ظاهر وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره ولم يفعل هنا ذلك بل آثر غيره على نفسه أو سوى نفسه مع غيره. وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء برآء من الحظوظ كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ وتجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسبا لغيره لا له ولذلك بالغوا في النصيحة

ص: 158

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

1101 -

وَالْفِعْلُ إِنْ وَافَقَ فِي الْوُقُوعِ

الْمَقْصِدَ الأصْلِيَّ فِي الْمَشْرُوعِ

فوق ما يلزمهم لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم فأين الحظ هنا بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء بل أخذوا ما أذن لهم فيه من حيث الإذن وامتنعوا مما منعوا منه واقتصروا على الانفاق في كل ما لهم إليه حاجة فمثل هؤلاء بالاعتبار المتقدم أهل حظوظ لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها فإن قيل في مثل هذا إنه تجرد عن الحظ فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي وهذا هو الحظ المذموم إذا لم يقف دون ما حد له بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشى في شهواتها ولا كلام في هذا وإنما الكلام في الأول وهو لم يتصرف إلا لنفسه فلا يجعل في حكم الوالي على المصالح العامة على المسلمين بل هو وال على مصلحة نفسه وهو من هذا الوجه ليس بوال عام والولاية العامة هي المبرأة من الحظوظ فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به لكن على نسبة القسمة ونحوها

(1)

.

"المسألة الخامسة"

في أن العمل إذا وقع على وفق المقاصد الشرعية فإنه إما أن يكون واقعا على وفق المقاصد الأصلية، أو المقاصد التابعة وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع.

"والفعل إن" أتى به المكلف وقد وافق مقصده فيه المقصد الشرعي منه، فإنه إما أن يكون قد وافق فيه المقصد الشرعي الأصلي - كالنسل الذي هو المقصود الأصلي من النكاح - وإما أن يكون قد وافق فيه المقصد الشرعي التبعي منه - كالاستمتاع الذي هو المقصد التبعي من النكاح -. فإن يكن مقصد المكلف ذاك قد "وافق في الوقوع المقصد الأصلي في" ذلك الفعل "المشروع".

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 146 - 147 - 148.

ص: 159

1102 -

بِحَيْثُ رَاعَاهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي

صِحَّةِ هَذَا الْفِعْلِ لِلْمُكَلَّفِ

1103 -

هَبْ أُهْمِلَ الْحَظُّ بِهِ أَوْ رُوعِي

قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فِي التَّشْرِيعِ

1104 -

وَالرَّعْيُ لِلْمَقَاصِدِ الأصْلِيَّهْ

تُبْنَى عَلَيْهِ نُكَتٌ فِقْهِيَّهْ

1105 -

مِنْ ذَاكَ أَنْ يَصِيرَ فِعْلُ الْعَادَهْ

أَقْرَبَ لِلإِخْلَاصِ وَالْعِبَادَهْ

وذلك "بحيث" استحضره في الاعتبار و"راعاه" في ذلك الفعل قصدا "فـ" إنه "لا إشكال في صحة هذا الفعل" بالنسبة "للمكلف" الآتي به، مطلقا "هب" أنه قد "أهمل الحظ "أي حظ المكلف "به" أي فيه - أي في ذلك الفعل - "أو روعي" واعتبر فيه، فإن ذلك غير قادح في صحته لأن ذلك المكلف في فعله هذا "قد حصّل المقصود" الشرعي "في التشريع" وهو إخراج المكلف عن داعية الهوى حتى يكون عبد الله وهذا كاف.

وطريقة بناء القاعدة الاصطلاحية في ذلك أن يقال: مثلا رعي المقاصد الشرعية الأصلية تقرب للإخلاص، ورعي المقاصد الشرعية الأصلية في العادات تقربها من العبادة، وهكذا سائر ما يبنى على ذلك الرعي.

"و" اعلم أن "الرعي" في الأعمال "للمقاصد" الشرعية "الأصلية" أمر "تبنى عليه نكت" - بضم النون وفتح الكاف - جمع نكتة، والنكتة ما يستخرج بالنظر الدقيق من المعاني وأثمار الأدلة، والمراد بالنكت هنا القواعد، يعني إن رعي المقاصد الشرعية الأصلية تبنى عليه قواعد "فقهية" وسميت قواعد باعتبار كونها قوانين وضوابط يجري حكمها على جزئيات كثيرة.

"من ذاك" الذي يبنى من القواعد على هذا الرعي "أن يصير فعل العادة" وهو ما به يحصل كسب الحظوظ النفسية المشروعة ومصالح الدنيا عادة كالصنائع والحرف والمعاملات "أقرب للإخلاص" فيه "و" أقرب لأن يصير من "العبادة" لأنه - أي ذلك الرعي - يبعد ويجرد من سلطة الحظوظ التي تصرف عن محض العبودية، أو تمنع من صفائها. فإذا روعي ما ذكر في العمل انسحب عليه رداء كونه أقرب إلى الإخلاص وصيرورته عبادة - كما سبق ذكره -.

وبيان هذا ووجهه وما بني عليه، انظره في الأصل (الموافقات).

ص: 160

1106 -

بَلْ رُبَّمَا رَدُّ التَّصَرُّفَاتِ

عِبَادَةٌ فِي سَائِرِ الأوْقَاتِ

فصل في قاعدة أخرى تبنى على ذلك وهو رعاية المقاصد الأصلية.

"و" يظهر من هنا - أيضا - أن رعي المكلف المقاصد الشرعية المذكورة - المقاصد الأصلية - وتوخيه موافقتها "ربما رد التصرفات" يعني تصرفاته - أعماله - التي آتى بها راعيا ومتوخيا فيها ما ذكر "عبادة" سواء كانت من قبيل العبادات أو العادات، "في سائر الأوقات" التي يكون فيها على هذا الحال. ذلك لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل ويترك إذا طلب منه الترك فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب. أما باليد فظاهر في وجوه الإعانات، وأما باللسان فبالوعظ والتذكير بالله أن يكونوا فيما هم عليه مطيعين لا عاصين وتعليم ما يحتاجون إليه في ذلك من إصلاح المقاصد والأعمال وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالدعاء بالإحسان لمحسنهم والتجاوز عن مسيئهم وبالقلب لا يضمر لهم شرا بل يعتقد لهم الخير ويعرفهم بأحسن الأوصاف التي اتصفوا بها ولو بمجرد الإسلام ويعظمهم ويحتقر نفسه بالنسبة إليهم إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلقة بالعباد بل لا يقتصر في هذا على جنس الإنسان ولكن تدخل عليه الشفقة على الحيوانات كلها حتى لا يعاملها إلا بالتي هي أحسن كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام:(في كل ذي كبد رطبة أجر) وحديث تعذيب المرأة في هرة ربطتها وحديث "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة" الحديث إلى أشباه ذلك فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل في هذه الأمور في نفسه امتثالا لأمر ربه واقتداء بنبيه عليه الصلاة والسلام فكيف لا تكون تصاريف من هذه سبيله عبادة كلها بخلاف من كان عاملا على حظه فإنه إنما يلتفت إلى حظه أو ما كان طريقا إلى حظه وهذا ليس بعبادة على الإطلاق بل هو عامل في مباح إن لم يخل بحق الله أو بحق غيره فيه والمباح لا يتعبد إلى الله به وإن فرضناه قام على حظه من حيث أمره الشارع فهو عبادة بالنسبة إليه خاصة وإن فرضته كذلك فهو خارج عن داعية حظه بتلك النسبة

(1)

.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 154 - 155.

ص: 161

1107 -

وَرُبَّمَا يَنْقُلُهَا فِي الْغَالِب

بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ لِحُكْمِ الْوَاجِبْ

" فَصْلٌ"

1108 -

كَذَا تَحَرِّيهَا لَدَى الْمَوَاقِعْ

تَضْمَنُ الْقَصْدَ لِقَصْدِ الشَّارعْ

1109 -

فِي الْفِعْلِ مِنْ دَفْعٍ لِضُرٍّ مَفْسَدَهْ

وَالْجَلْبُ لِلْمَصلَحَةِ الْمُعْتَمَدَهْ

‌فصل

في قاعدة أخرى تبنى على ذلك "و" هي أنه "ربما" يرفع هذا الرعي للمقاصد المذكورة الأعمال العادية و"ينقلها" من أحكامها الأصلية - الإباحة أو الندب باعتبار الكل - "في الغالب" أي في غالب الأحوال، وذلك النقل يحصل "بمقتضى" أدلة "الشرع لحكم الواجب" إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية في الدين المراعاة باتفاق وإذا كانت كذلك صارت الأعمال الخارجة عن الحظ دائرة على الأمور العامة وقد تقدم أن غير الواجب بالجزء يصير واجبا بالكل وهذا عامل بالكل فيما هو مندوب بالجزء أو مباح يختل النظام باختلاله فقد صار عاملا بالوجوب.

فأما البناء على المقاصد التابعة فهو بناء على الحظ الجزئي والجزئي لا يستلزم الوجوب فالبناء على المقاصد التابعة لا يستلزم الوجوب فقد يكون العمل مباحا إما بالجزء وإما بالكل والجزء معا وإما مباحا بالجزء مكروها أو ممنوعا بالكل وبيان هذه الجملة في كتاب الأحكام

(1)

.

"فصل"

في قاعدة أخرى مبنية على ذلك - أيضا - وهي:

أن السعي إلى موافقة المقاصد الشرعية و"كذا تحريها لدى" أي في "المواقع" أي المواضع التي وقعت تلك المقاصد فيها، وهو عمل "تضمّن القصد لقصد الشارع في" ذلك "الفعل" الذي أتاه على تلك الحال.

فالتحري المذكور من المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع "من دفع لضر مفسدة و" كذلك "الجلب للمصلحة المعتمدة" وهي المصلحة الشرعية، وذلك لأن

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص - 155 - 156.

ص: 162

1115 -

وَتَعْظُمُ الطَّاعَةُ مَهْمَا قُصِدَتْ

وَيَعْظُمُ الإِثْمُ إِذَا مَا خُولِفَتْ

العامل مع هذا التحري إنما قصده تلبية أمر الشارع إما بعد فهم ما قصد وإما لمجرد امتثال الأمر وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده الشارع وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ كان المتلقي له على هذا الوجه آخذا له زكيا وافيا كاملا غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع فهو حري أن يترتب الثواب فيه للمكلف على تلك النسبة

(1)

.

فصل في قاعدة أخرى تبنى على ذلك - رعاية المكلف للمقاصد الشرعية الأصلية في العمل - "و" تلك القاعدة هي: أن هذه المقاصد "تعظم الطاعة مهما" أي إن "قصدت" وتحريت من جهة المكلف الآتي بها - أي بتلك الطاعة - "و" كذلك "يعظم الإثم" والمعصية "إذا ما خولفت" بأن أُتِي بالعمل على خلافها.

أما الأول: فلأن العامل على وفقه عامل على الإصلاح لجميع الخلق والدفع عنهم على الإطلاق لأنه إما قاصد لجميع ذلك بالفعل وإما قاصر نفسه على امتثال الأمر الذي يدخل تحت قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر وإذا فعل جوزي على كل نفس أحياها وعلى كل مصلحة عامة قصدها ولا شك في عظم هذا العمل ولذلك كان من أحيا النفس فكأنما أحيا الناس جميعا وكان العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء بخلاف ما إذا لم يعمل على وفقه فإنما يبلغ ثوابه مبلغ قصده لأن الأعمال بالنيات فمتى كان قصده أعم كان أجره أعظم، ومتى لم يعم قصده لم يكن أجره إلا على وزان ذلك وهو ظاهر.

وأما الثاني فإن العامل على مخالفتها عامل على الإفساد العام وهو مضاد للعامل على الإصلاح العام وقد مر أن قصد الإصلاح العام يعظم به الأجر فالعامل على ضده يعظم به وزره ولذلك كان على ابن آدم الأول كفل من وزر كل من قتل النفس المحترمة لأنه أول من سن القتل وكان من قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها

(2)

.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 156.

(2)

الموافقات/ ج 2/ ص 156.

ص: 163

" فَصْل"

1111 -

إِذَنْ فَأَصْلُ الطَّاعَةِ الْكُلِّيَّهْ

فِي اللَّحْظِ لِلْمَقَاصِدِ الأَصْلِيَّهْ

1112 -

وَالأصْلُ فِي كَبَائِرِ الآثَامِ

خِلَافُهَا بِالْقَصْدِ وَالإِقْدَامِ

"‌

‌ المسألة السادسة

"

1113 -

وَمَا أَتَى بِوَفْقِ تَابِعِيِّ

فَإنْ يَكُنْ مَعْ صُحْبَةِ الْأصْلِيِّ

1114 -

فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ أَنَّهُ امْتَثَلْ

وَإِنْ سَعَى لِلْحَظِّ فِي ذَاكَ الْعَمَلْ

‌فصل:

في قاعدة تبنى على ما تقدم وهي:

أنه إذا علم هذا الذي تقرر فيما سبق ذكره "إذن فأصل الطاعة" المطلوبة شرعا "الكلية" الناظمة لكل ما يطلق عليه هذا اللفظ في التكاليف ومواقع الأحكام الشرعية إنما هو أمر محصور "في اللحظ" والاستحضار في أثناء كسب الأعمال، "لـ"هذه "المقاصد" الشرعية "الأصلية" والقصد إليها في مجاري الإتيان بها - بتلك الأعمال. "و" كذلك "الأصل في كبائر الآثام" أي الذنوب فإنه "خلافها" أي مخالفتها - مخالفة هذه المقاصد - "بالقصد" والتحري من المكلف "و" بـ"الإقدام" منه على تلك المخالفة. ويتبين لك بالنظر في الكبائر المنصوص عليها وما ألحق بها قياسا فإنك تجده مطردا إن شاء الله - تعالى -

(1)

.

"المسألة السادسة"

"و" هي إن "ما أتى" ووقع من عمل "بوفق" يعني: على وفق مقصد شرعي "تابعي" فإنه لا يخلو إما أن يصاحبه القصد إلى المقاصد الأصلية وإما أن لا يصاحبه.

"فإن يكن" ذلك العمل قد وقع "مع صحبة" المقصد الشرعي "الأصلي" من ذلك العمل - كأن يقصد من التزوج النسل والاستمتاع معا - "فذاك" عمل من أتاه فإنه "لا إشكال" حقيقي في "أنه" قد "امتثل" أمر الشارع فيه "وإن" كان قد "سعى للحظ" النفسي "في ذاك العمل" لعدم التنافي بين القصد لحظ النفس والامتثال في هذا المقام.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 157.

ص: 164

1115 -

وَحَيْثُ لَا يَصْحَبُهُ الأصْلِيُّ

فَالْحَظُّ بِالْهَوَى هُوَ الْمَعْنِيُّ

1116 -

وَمَعْنَى الْإِخْلَاصِ لَدَى الْعَادِيَّهْ

تَجَنُّبُ الْمَقَاصِدِ الرَّدِيَّهْ

1117 -

كَالْقَصْدِ فِي الأفْعَالِ وَالشُّؤُونِ

تَشَبُّهًا بِغَيْرِ أَهْلِ الدِّينِ

1118 -

أَوْ ارْتكَابِ عَمَلٍ شَيْطَانِي

أَوْ سابِقٍ لِعابِدِي الأوْثَانِ

" و" أما "حيث" وقع ذلك العمل الموافق للمقصد التبعي وهو "لا يصحبه" في القصد المقصد "الأصلي" في ذلك العمل "فـ" انه عمل برعاية "الحظ" وحده وبذلك يكون العمل "بالهوى هو "الأمر "المعني" أي المقصود في ذلك العمل.

"و" رب قائل يقول: كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها؟ الجواب هو أن "معنى الإخلاص لدى" أي في الأعمال "العادية" هو "تجنب" واتقاء "المقاصد الردية" المحرمة شرعا.

وذلك "كالقصد في هذه الأفعال" العادية "والشوون" - عطف على ما قبله عطف مرادف المعنى - "تشبها بغير أهل" هذا "الدين" من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر - وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود والنصارى وإن صنعه المسلم "أو" كان كالقصد إلى "ارتكاب عمل شيطاني" من كل ما فيه شرك بالله ونحو ذلك. "أو" أمر "سابق" كان عملا "لعابدي الأوثان" والأصنام كذبحهم لغير الله، والتصرفات في الأنعام التي يقصدون بها التقرب إلى أصنامهم، وغيره مما فيه مضاهاة أهل الشرك.

كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي أجرى عينا فقال له المهندسون عند ظهور الماء لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور فتقتل من يعمل فيها فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم وأمر فصنع له ولأصحابه منها طعام فأكل وأكلوا وقسم سائرها بين العمال فيها فقال ابن شهاب بئس والله ما صنع ما حل له نحرها ولا الأكل منها أما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يذبح للجن لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاه لما ذبح على النصب وسائر ما أهل لغير الله به وكذلك جاء النهي عن معاقرة الأعراب وهي أن يتبارى الرجلان فيعقر كل واحد منهما يجاود به صاحبه فأكثرهما عقرا أجودهما نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به قال الخطابي وفي معناه ما جرت

ص: 165

" فَصْلٌ"

1119 -

وَمَا بِهِ تَعَبُّدُ الْعِبَادِ

مِنْهُ عِبَادَاتٌ وَمِنْهُ عَادِي

1120 -

فَالأوَّلُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الآخِرَهْ

حَقِيقَةُ الإِخْلَاصِ فِيهِ ظَاهِرَهْ

1121 -

وإنْ يَكُنْ يَطْلُبُ مِنْهُ الْعَاجِلَهْ

فَفِيهِ حَالَاتٌ ثَلَاثٌ حَاصِلَهْ

به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان وأوان حوادث يتجدد لهم وفي نحو ذلك من الأمور.

وخرج أبو داود نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتباريين أن يؤكل وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه فهذا وما كان نحوه إنما شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل فإذا زيد فيه هذا القصد كان تشريكا في المشروع ولحظا لغير أمر الله تعالى وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز وقوله فيها إنها مما أهل لغير الله به وهو باب واسع

(1)

.

‌فصل:

في بيان أن العباد متعبدون لله تعالى بشيئين:

أحدهما: العبادات. وثانيهما: العادات.

وفي بيان حكم الأمر الأول وأحواله "وما به" يحصل شرعا "تعبد العباد" لله تعالى وخضوعهم وطاعتهم له "منه" ما هو "عبادات" كالصلاة والزكاة والصوم والحج "ومنه" ما هو "عادي" كالمعاملات كالبيع والنكاح والإجارة.

"فـ" أما "الأول" الذي هو العبادات فإنه يصرف لكسب الزاد في المعاد "المطلوب منه "أي من فعله وإتيانه هو أجر "الآخرة" وبذلك فإنه يجب أن تكون "حقيقة الإخلاص" لرب العالمين - سبحانه - "فيه" أي في فعله وكسبه "ظاهرة" جلية قائمة به، هذا إن طلب به هذا الذي شرع له في الأصل، وهو أجر الآخرة.

"و" أما "إن يكن يطلب منه" أي من فعله والإتيان به تحصيل وكسب "العاجلة" أي الدنيا وما فيها من الحظوظ النفسية العاجلة، "فـ" ذاك شأن تعرض "فيه حالات ثلاث حاصلة" أي ثابتة في واقع الأمر وهي مختلفة باختلاف ما عليه المكلف الآتي بذلك الفعل من قصد

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 159 - 160.

ص: 166

1122 -

فَفِعْلُ مَا عَنْهُ يُرَى تَحْسِينُ

هَيْئَتِهِ أَنْ تَحْسُنَ الظُّنُونُ

1123 -

إِنْ يَكُنِ الْقَصْدُ لَهُ مَتْبُوعَا

كانَ رِيَاءً فِعْلُهُ مَمْنُوعَا

1124 -

وَحَيْثُ كانَ الْقَصْدُ تَابِعًا فَذَا

بِهِ لِأهْلِ الْعِلْمِ خُلْفٌ يُحْتَذَا

ونية. "فـ" أما الحالة الأولى فهي "فعل" المكلف وإتيانه "ما" أي فعلا تعبديا وهو يقصد منه الذي يترتب "عنه" من الحظ - حسبما "يرى" ويعتقد - وهو "تحسين هيئته" وصورته وشارته. و"أن تحسن" به "الظنون" أي ظنون الناس حتى يرى أنه ذو فضيلة ومنزلة. هذه الحالة حكمها مختلف باختلاف موضع هذا القصد من حيث كونه تابعا أو متبوعا.

فـ "ان يكن" هذا "القصد له" أي لهذا الحظ "متبوعا" بحيث يكون ذلك القصد هو الداعي لهذا الفعل - العمل - والمتبع في الكسب، فلا إشكال في أن ذلك "كان رياء"، وهو إظهار العمل لأجل كسب السمعة وثناء الناس عليه وطلب المنزلة في قلوبهم، ولا ريب أن ذلك معصية "فـ" كان "فعله" لذاك "ممنوعا" محرما. هذا إذا كان ذلك القصد متبوعا "و" أما "حيث كان القصد" له عني لنيل ذلك الحظ "تابعا" للمقصد الشرعي الأصلي الذي شرعت له تلك العبادة "فذا" الموضع قد ثبت "به" - الباء بمعنى في - يعني فيه - أي في حكمه - "لأهل العلم خلف يحتذى" يتبع لأنه خلف معتبر، لبناء المختلفين فيه ما ذهبوا إليه في شأنه من حكم على اعتبارات صحيحة في ذاتها.

قال الشاطبي: واختلف العلماء في هذا الأصل فوقع في "العتبية" في الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم ويحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق غيره فكره ربيعة هذا وعده مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير فيقول له إنك لمراء وليس كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك وقد قال تعالى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] وقال عن إبراهيم عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} [الشُّعَرَاء: 84] وفي حديث ابن عمر وقع في نفسي أنها النخلة فأردت أن أقولها فقال عمر لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا وطلب العلم عبادة قال ابن العربي سألت شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البَقَرَة: 160] ما بينوا قال أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات قلت ويلزم ذلك قال نعم لتثبت أمانته وتصح إمامته وتقبل شهادته قال ابن العربي ويقتدى به غيره فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا

ص: 167

1125 -

وَيفعْلُ مَا يَخْتَصُّ بِالإِنْسَانِ

فِي نَفْسِهِ فِي كُلِّ شأْنٍ شَانِ

1126 -

مَعْ غَفْلَةٍ عَنِ الْمُرَاءَاةِ بِمَا

يُفْعَلُ كَالصِّيَامِ قَصْدًا لِلنَّمَا

1127 -

فِيهِ مَجَالٌ لاجْتِهَادٍ وَنَظَرْ

وَالأظْهَرُ التَّصْحِيحُ عِنْدَ مَنْ نَظَرْ

المجرى والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه العبادة هذا شأن الحالة الأولى

(1)

.

هذا شأن الحالة الأولى "و" أما الثانية فهي "فعل ما يختص بالإنسان في نفسه" من حظوظ ورغبات "في كل شأن شأن" كيفما كان "مع غفلة" منه وانقطاع "عن المراءاة" للناس "بما" أي فيما "يفعل" وذلك "كالصيام قصدا" لتوفير المال "لـ" تحصيل "النما" فيه - أي الزيادة -، وكالصلاة في المسجد للأنس بالجيران أو الصلاة بالليل لمراقبة أو مراصدة مطالع النجوم. وكالصدقة للذة السخاء والتفضل على الناس، والحج لرؤية البلاد، والاستراحة من الأنكاد، أو التجارة، أو لتبرمه بأهله وولده أو إلحاح الفقر.

وكالهجرة مخافة الضرر في النفس أو الأهل أو المال. وكتعليم العلم ليحتمي به من الظلم أو كالوضوء تبردا أو الاعتكاف فرارا من الكراء أو عيادة المرضى والصلاة على الجنائز ليفعل به ذلك، وتعليم العلم ليتخلص من كرب الصمت وليتفرج بلذة الحديث. وكالحج ماشيا ليتوفر له الكراء وما جرى مجرى ذلك مما مداره على الحظوظ النفسية الراجعة إلى ما يخص الإنسان في نفسه من غير التفات إلى ما سواها.

وما كان من الأفعال على هذه الحالة فـ "فيه" يعني في حكمه اختلاف بين أهل العلم، قد تعارض فيه الخلو من الرياء المقتضي للفساد، والخلو من الإخلاص الصرف الموجب للصحة، فثبت لذلك أنه "مجال" ومسرح لـ"اجتهاد ونظر" فقهي. وقد التزم الغزالي في هذا وما شابهه أنه خارج عن الإخلاص، لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسب هذه الأغراض.

"و" لكن الأمر "الأظهر" والأوضح في هذا الشأن هو "التصحيح" لهذا العمل أي الحكم بصحته "عند من نظر" في هذه المسألة النظرة الفقهية التي مبتناها على الأدلة النقلية، وأمر انفكاك القصدين. والى هذا ذهب ابن العربي إذ يرى في حكم هذه المسألة خلاف هذا الذي ذهب إليه الغزالي. قال الشاطبي - بعدما أورد هذا الذي ذهب إليه

(1)

الموافقات/ ج 2/ 166.

ص: 168

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الغزالي وابن العربي في هذه المسألة -: وكأن مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما فابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك فيصحح العبادات وظاهر الغزالي الالتفات إلى مجرد الاجتماع وجودا كان القصدان مما يصح انفكاكهما أولا وذلك بناء على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة والخلاف فيها واقع ورأي أصبغ فيها البطلان فإذا كان كذلك اتجه النظران وظهر مغزى المذهبين.

على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه لما جاء من الأدلة على ذلك، ففي القرآن الكريم {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يعني في مواسم الحج وقال ابن العربي في الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة إنه دأب المرسلين فقد قال الخليل عليه السلام {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} وقال الكليم {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عينه في الصلاة فكان يستريح إليها من تعب الدنيا وكان فيها نعيمه ولذته أفيقال إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها كلا بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها وفي الصحيح "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ذكر ابن بشكوال عن أبي علي الحداد قال حضرت القاضي أبا بكر بن زرب شكا إلى الترجيلي المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه على ما لم يكن يعهد من نفسه وسأله عن الدواء فقال اسرد الصوم تصلح معدتك فقال له يا أبا عبد الله على غير هذا دلني ما كنت لأعذب نفسي بالصوم إلا لوجهه خالصا ولي عادة في الصوم الإثنين والخميس لا أنقل نفسي عنها قال أبو علي وذكرت في ذلك المجلس حديث الرسول عليه الصلاة والسلام يعني هذا الحديث وجبنت عن إيراد ذلك عليه في ذلك المجلس وأحسبني ذاكرته في ذلك في غير هذا المجلس فسلم للحديث.

وقد بعث عليه الصلاة والسلام رجلا ليكون رصدا في شعب فقام يصلي ولم يكن قصده بالإقامة في الشعب إلا الحراسة والرصد والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ويكفي من ذلك ما يراعيه الإمام في صلاته من أمر الجماعة كانتظار الداخل ليدرك الركوع معه على ما جاء في الحديث وما لم يعمل به مالك فقد عمل به غيره وكالتخفيف لأجل الشيخ والضعيف وذي الحاجة وقوله عليه الصلاة والسلام إني لأسمع بكاء الصبي الحديث وكرد السلام في الصلاة وحكاية المؤذن وما أشبه ذلك مما هو عمل خارج عن

ص: 169

1128 -

وَمَا بِهِ يُقْصَدُ نَيْلُ الْمَالِ

وَالْجَاهِ مَذْمُومٌ بِكُلِّ حَالِ

" فَصْلٌ"

1129 -

وَالثَّانِ مَا يَرْجِعُ لِلْعَادَاتِ

فَالشَّرْعُ فِيهِ بِالْحُظُوظِ آتِ

حقيقة الصلاة مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة ومع ذلك فلا يقدح في حقيقة إخلاصها بل لو كان شأن العبادة أن يقدح في قصدها قصد شيء آخر سواه لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى كما إذا جاء المسجد قاصدا للتنفل فيه وانتظار الصلاة والكف عن إذاية الناس واستغفار الملائكة له فإن كل قصد منها شاب غيره وأخرجه عن إخلاصه عن غيره وهذا غير صحيح باتفاق بل كل قصد منها صحيح في نفسه وإن كان العمل واحدا لأن الجميع محمود شرعا فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه لاشتراكهما في الإذن الشرعي فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان لا يمنع اجتماعها مع العبادات إلا ما كان بوضعه منافيا لها كالحديث والأكل والشرب والنوم والرياء وما أشبه ذلك أما ما لا منافاة فيه فكيف يقدح القصد إليه في العبادة هذا لا ينبغي أن يقال غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان الحكم للغالب فلم يعتد بالعبادة فإن غلب قصد العبادة فالحكم له ويقع الترجيح في المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد

(1)

.

هذا بيان الحالة الثانية وحكمها "و" أما الثالثة فهي فعل "ما" من الأعمال العبادية "به يقصد" ويطلب "نيل" وكسب "المال والجاه" وعلو القدر عند الخلق، وهذا أمر "مذموم" شرعا "بكل حال" سواء قصد المكلف الفاعل لذلك دفع الضرر والأذى عنه - كما يفعل المنافقون، حكم حالهم أشد إثما -، أو لم يقصده. هذا بإيجاز - حكم القسم الأول - وهو طلب الحظ بالعبادة - وما فيه من تفاصيل -.

‌فصل

في بيان تحصيل الحظ من الجهة الثانية وهي جهة العادة المتعبد بها وحكم ذلك. "و" أما القسم "الثان" فإنه "ما يرجح" العمل فيه "لـ" إصلاح "العادات" الجارية بين العباد، كالنكاح، والبيع، والإجارة، وما أشبه ذلك من الأمور التي علم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد في العاجلة "فـ" هذا القسم "الشرع فيه بالحظوظ" النفسية الدنيوية "آت"

(1)

الموافقات 2/ 167 - 168 - 169.

ص: 170

1130 -

بِالْإِذْنِ وَالأمْرِ مَعًا وَالنَّهْيِ

فَالْحَظُّ أَخْذُهُ بِحُكْمِ السَّعِي

1131 -

وَكَوْنُهُ لِنِيَّةٍ لَا يَفْتَقِرْ

يَدُلُّ أَنَّ الْقَصْدَ لِلْحَظِّ اعْتُبِرْ

1132 -

وَمَا أَتَى بِقَصْدِ الامْتِنَانِ

مُصَحِّحٍ ذَلِكَ لِلإِنْسَان

وقاض، وذلك "بالإذن" في كسبها كما في الآيات والأحاديث الواردة بذلك - وقد تقدم ذكر طرف منها في مجاري الكلام على المباح - "والأمر معا" بذلك أيضا كما في النصوص الشرعية الواردة في الأمر بالنكاح والسعي في الأرض لطلب الرزق "و" كذلك "النهي" فإنه ورد في هذا الشأن لحفظ هذه الحظوظ وتصفيتها مما يكدرها، ولتحصيل ما قصد منها من مصلحة، ودرء ما قد يذهب بها أو ينقصها من مفسدة وذلك كالنهي عن الأمور المفسدة للعقود والمعاملات. وإذا علم أن هذه الحظوظ إنما شرعت من جهة هذا الخطاب الشرعي واعتبر ذلك "فالحظ" يكون "أخذه بحكم" العمل و"السعي" وهو التابع للقصد الذي هو القصد إلى امتثال هذا الذي أمر به الشارع في هذا الشأن، أو نهى عنه، وإن كان أخذ الحظ أمرا معتبرا شرعا في هذا الموضع، كما تقدم إيراد الأدلة الدالة على ذلك.

"و" يزاد على هذا أن "كونه" أي ما ذكر من العادات "لنية" التقرب بها وامتثال الأمر الوارد فيها "لا يفتقر" لا تحتاج لتكون صحيحة "يدل" على "أن القصد" من الشارع "للحظ" يعني لكسبه أمر "اعتبر" عنده "و" كذلك "ما أتى" من ذلك وهو إباحة تحصيل الحظ في النصوص الشرعية "بقصد الامتنان" على الخلق بذلك وتذكيرهم بفضله - تعالى - عليهم في ذلك، هو دليل "مصحح" حاكم بصحة "ذلك" وهو كون طلب الحظ من هذه الجهة أمرا سائغا "للإنسان" على الوجه التي وردت به الأدلة الشرعية في ذلك.

ومن النصوص الشرعية الواردة في أمر الامتنان هذا قوله - تعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الرُّوم: 21] وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يُونس: 67] وقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البَقَرَة: 22] وقال: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القَصَص: 73] وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} [النّبَأ: 10 - 11] إلى آخر الآيات إلى غير

ص: 171

1133 -

وَقَصْدُهُ وَهْوَ مِنَ الْحَظِّ بَرِي

مِنْ جِهَةِ الإِذْنِ بِصِحَّةٍ حَرِي

"‌

‌المسألة السابعة

"

1134 -

تَجُوزُ فِي الْعَادَاتِ بِاتِّفَاقِ

نِيَابَةُ الْغَيْرِ عَلَى الإِطْلَاقِ

1135 -

لِكَيْ يَقُومَ عَنْهُ فِي الْمَقَاصِدِ

بِجَلْبِ نَافِعٍ وَدَرْء فَاسِدِ

1136 -

مَا لَمْ يَكُنْ لِحِكْمَةٍ مَشْرُوعَا

مَقْصُورَةٍ عَادَةً أَوْ تَشْرِيعَا

ذلك مما لا يحصى

(1)

. "و" إما "قصده" أي المكلف إتيان الفعل "وهو من الحظ بَرِى" أي متجرد بحيث يكون قصده إتيانه "من جهة الإذن" الشرعي فقط فذاك قصد - أو فعل - "بصحة" شرعية تسري فيه "حرى" أي جدير، لأنه مؤسس على الاستجابة والامتثال للأمر الشرعي في ذلك، فكانت له بذلك المزية والمنزلة على من قصد الحظ في ذلك وإن كان عمله صحيحا في واقع الأمر

(2)

.

"المسألة السابعة"

في أنه: تصح و"تجوز في العادات" الجارية بين الخلق في الاكتساب وسائر الأمور الدنيوية التى هي طرق الخير العاجلة كالعقود على اختلافها والتصاريف المالية على تنوعها "نيابة الغير على الإطلاق" سواء كان ذلك في الأخذ والإعطاء، وذلك سوغ "لكي يقوم" ذلك النائب مقام المنوب "عنه" وينزل منزلته "في"تحصيل "المقاصد" الشرعية من تلك العادات وذلك "بجلب نافع" له يكتسب منها "ودرء" أي دفع "فاسد" عنه يكون عنها.

فيجوز أن ينوب منابه في استجلاب المصالح له ودرء المفاسد عنه بالإعانة والوكالة، ونحو ذلك مما هو في معناه، لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه: كالبيع والشراء والأخذ والإعطاء والإجارة والاستئجار والخدمة والقبض والدفع وما أشبه ذلك. وهذا يصح في كل أمر عادي "ما لم يكن" أمر "الحكمة" خاصة بالمكلف "مشروعا" فهي "مقصورة" عليه "عادة". فالعادة تجعل النيابة فيه أمرا مستحيلا "أو" مقصورة عليه "تشريعا" فالشرع مانع من جريان النيابة فيه.

(1)

الموافقات 2/ 170.

(2)

انظر تفاصيل هذه المسألة في الأصل الموافقات 2/ 169 وما بعدها.

ص: 172

1137 -

كَالأَكْلِ وَالْعِقَابِ فِي الْأبْدَانِ

فَالْمَنْعُ مِنْهَا وَاضِحُ الْبَيَانِ

1138 -

فَإِنْ يَكُنْ مَرْجِعُهُ لِلْمَالِ

فَهْيَ صَحِيحَةٌ بِكُلِّ حَالِ

1139 -

وَكلُّ مَالِي وَلَاكِن يُّعْتَبَرْ

فِيهِ سِوَى الْمَالِ مَجَالٌ لِلنَّظَرْ

1140 -

وَلَا يَجُوزُ فِي التَّعَبُّدَاتِ

نِيَابَةٌ كَالطُّهْرِ وَالصَّلَاةِ

مثال ما لا يقبل النيابة عادة ما لم يمكن تعدي مصلحته إلى غير فاعله وذلك "كالأكل" والشرب واللبس والسكنى، والنكاح، وأحكامه التابعة له من وجوه الاستمتاع التي لا تصح النيابة فيها "و" مثال ما لا يقبل النيابة شرعا لكون المصلحة الشرعية المقصودة منه لا تتعدى المكلف به وجوه "العقاب" الواقع "في الأبدان" وذلك كإيقاع الحدود، لا تجري النيابة فيها، لأن الازدجار المقصود من ذلك لا يتعدى صاحب الجناية وبذلك "فالمنع منها" أي النيابة فيها أي في هذه المذكورات وما شابهها أمر "واضح" ظاهر "البيان" فلا يحتاج إلى كثرة الاستدلالات عليه، ما لم يكن الحكم الشرعي الوارد في ذلك يرجع إلى المال كالدية ورد المغصوب وغرم المتلفات "فإن يكن مرجعه للمال" لا للأبدان "فهي" أي النيابة "صحيحة" وسائغة "بكل" أي في كل "حال" من أحوال المكلف سواء كان في حالة الإذن في ذلك أو لا، سواء كان على علم بذلك أو لا. "وكل" مطلوب شرعي "مالى" ليس ببدني "ولكن" لم يتمحض لذلك - أي وهو المالية - إذ "يعتبر فيه" ويلاحظ شيء آخر "سوى المال" فإنه "مجال" أي موضع "للنظر" والاجتهاد في معرفة حكمه. وذلك كالحج، والكفارات، وكل ما قد تعتبر فيه جهة التعبد مع كونه يتوقف الإتيان بها على بذل المال. قال الشاطبي:"فالحج بناء على أن المغلب فيه التعبد فلا تصح النيابة فيه أو المال فتصح والكفارة بناء على أنها زجر فتختص أو جبر فلا تختص وكالتضحية في الذبح بناء على ما بني عليه في الحج"

(1)

وما أشبه ذلك فالحاصل أن حكمة العاديات إن اختصت بالمكلف فلا نيابة وإلا صحت النيابة

(2)

.

هذا شأن النيابة في الأمور العادية "ولا يجوز في "الضرب الثاني من المطلوب الشرعي وهو "التعبدات نيابة" أحد عن أحد ولا قيام شخص فيها مقام آخر على الإطلاق. وذلك "كالطهر والصلاة" والصوم وكل ما هو عبادة.

(1)

الموافقات 2/ 170.

(2)

الموافقات 2/ 170.

ص: 173

1141 -

دَلَّ عَلَى صِحَّةِ ذَا الْمَنْقُولُ

مَا لِذِي الْمَعْنَى بِهَا مَعْقُولُ

" دل على صحة ذا" أي هذا الحكم الدليل "المنقول" أي النصوص الشرعية الواردة في إثباته كقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فَاطِر: 18]- وقوله - سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النّجْم: 39] وفي القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعَام: 164] في مواضع وفي بعضها {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فَاطِر: 18] ثم قال: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} [فَاطِر: 18] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)} [العَنكبوت: 12] وقال: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55] وقال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] الآية وأيضا ما يدل على أن أمور الآخرة لا يملك فيها أحد عن أحد شيئا كقوله: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفِطار: 19] فهذا عام في نقل الأجور أو حمل الأوزار ونحوها وقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33] وقال {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] الآية إلى كثير من هذا المعنى وفي الحديث حين أنذر عليه الصلاة والسلام عشيرته الأقربين يا بني فلان إني لا أملك لكم من الله شيئا

(1)

.

"و" كذلك دل عليه "ما" يقضي به "لـ" الدليل "ذي" أي صاحب "المعنى" الذي هو "بها" أي العبادة يعني فيها "معقول" أي مدرك بالعقل بمقتضى ماهيتها وذلك الدليل هو أن مقصود العبادة الخضوع لله والتوجه إليه والتذلل بين يديه والانقياد تحت حكمه وعمارة القلب بذكره حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله ومراقبا له غير غافل عنه وأن يكون ساعيا في مرضاته وما يقرب إليه على حسب طاقته والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده لأن معنى ذلك أن لا يكون العبد عبدا ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعا ولا متوجها إذا ناب عنه غيره في ذلك، وإذا قام غيره في ذلك مقامه فذلك الغير هو الخاضع المتوجه والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية والاتصاف لا يعدو المتصف به ولا ينتقل عنه إلى غيره والنيابة إنما معناها أن يكون المنوب عنه بمنزلة النائب حتى يعد المنوب عنه متصفا بما اتصف به النائب وذلك لا يصح في العبادات كما يصح في التصرفات فإن النائب في أداء الدين مثلا لما قام مقام المديان صار المديان متصفا بأنه مؤد لدينه فلا مطالبة للغريم بعد ذلك به وهذا في التعبد لا يتصور ما لم يتصف المنوب عنه بمثل

(1)

الموافقات 2/ 174 - 175.

ص: 174

1142 -

وَمَعَ ذَا لَوْ صَحَّ فِي الْحِسِّيهْ

جَوَازُهَا لَعَمَّ فِي الْقَلْبِيَّهْ

1143 -

وَمَا أَتَى يُوهِمُ غَيْرَ مَا ذُكِرْ

فَخَارجٌ عَنْ حُكْمِهِ إِذَا اعْتُبِرْ

ما اتصف به النائب ولا نيابة إذ ذاك على حال

(1)

. "و" يزاد "مع ذا" أي هذا الذي ذكر دليل آخر وهو أنه "لو صح" شرعا "في" الأفعال "الجسمية" أي البدنية "جوازها" أي النيابة "لعم" هذا الجواز الأفعال "القلبية" - أيضا - كالإيمان وغيره من الصبر والشكر، والرضى والتوكل والخوف، والرجاء وما أشبه ذلك، ولم تكن التكاليف محتومة على المكلف عينا لجواز النيابة فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العاديات كالأكل والشرب والوقاع واللباس وما أشبه ذلك وفي الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر وكل ذلك باطل بلا خلاف من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة فكذلك سائر التعبدات"

(2)

.

"و" أما "ما أتى" من النصوص الشرعية وهو "يوهم" أي يوقع في الوهم "غير ما ذكر" في هذا الشأن - وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه" وكقوله عليه الصلاة والسلام: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" - وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث" - وأنه ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها وفي القرآن {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطُّور: 21] وفسر بأن الأبناء يرفعون إلى منازل الآباء وإن لم يبلغوا ذلك بأعمالهم وفي الحديث: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وفي رواية أفرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئه قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى. ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه. وقيل يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه قال: "فقضه عنها" وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث كبراء وعلماء وجماعة ممن لم يذهبوا إلى ذلك قالوا بجواز هبة العمل وأن ذلك ينفع الموهوب له عند الله تعالى فهذه جملة تدل على ما لم يذكر من نوعها وتبين أن ما تقدم في الكلية المذكورة ليست على العموم فلا تكون صحيحة

(3)

. وغير ذلك من الأدلة الدالة على هذا الحكم كالصدقة عن الغير، وحمل العاقلة الدية والجهاد. ثم إن المرء قد يجازى بنيته وإن لم يعمل ما نوى لمانع كما يجازي عن المصائب، وغير ذلك مما لم يعمل. "فـ" الجواب عنه هو ان هذا كله "خارج عن حكمه" أي عن حكم النيابة في العبادات الذي كلامنا فيه "إذا اعتبر" وتأمل أمره

(1)

الموافقات 2/ 175.

(2)

الموافقات 2/ 175.

(3)

الموافقات 2/ 176.

ص: 175

1144 -

لِجهَةِ التَّوْكيلِ وَالشَّفَاعَةِ

وَالْقَصْدِ وَالْوصَاةِ وَالْغَرَامَةِ

1145 -

وَلِلتَّسَبُّبَاتِ وَالْمَصَائِبِ

وَللتَّصَدُّقَاتِ بِالْمَكَاسِبِ

وبذلك فهذه المسائل ليست من هذا الباب لأنها اعتبرت فيها جهات أخرى كانت من الموجبات لهذه الأحكام التي تترتب في تلك المواضع. أما إخراج الزكاة فإن جريان النيابة فيها مرجعه "لجهة التوكيل" الذي يصح فيه. "و" أما قاعدة الدعاء فظاهر أنه ليس في الدعاء نيابة، لأن مرده إلى "الشفاعة" للغير فليس من هذا الباب "و" أما الجهاد فهو وإن كان من الأعمال المعدودة في العبادات، فهو معقول المعنى، كسائر فروض الكفايات التي هي مصالح الدنيا، لكن لا يحصل لصاحبها الأجر الأخروي إلا من جهة "القصد" لوجه الله - تعالى - وإعلاء كلمته بذلك. "و" أما الحج فإنه يحمل جريان النيابة فيه وجوازها فيه على ما إذا أمر به، أو وقع "الوصاة" أي الوصية به وأما كون حسنات الظالم تعطى للمظلوم، أو سيئات المظلوم تطرح على الظالم فإن ذلك من باب "الغرامة" والمعاوضة لأن الأعواض الأخروية إنما تكون في الأجور والأوزار إذ لا دينار هناك ولا درهم وقد فات القضاء في الدنيا. "و" أما سن السنن حسنة كانت أو سيئة وبقاء جريان ثمرات الولد الصالح والصدقة الجارية والعلم النافع وترتب إثم القتل على ابن آدم الأول وما أشبه ذلك فإنه راجع "للتسببات"، فالجزاء في ذلك كله مرجعه إلى عمل المأجور والمأزور لأنه هو الذي تسبب فيه أولا. فعلى جريان سببه تجري المسببات، والكفل الراجع إلى المتسبب - وهو ابن آدم - ناشئ عن عمله، لا عن عمل المتسبب الثاني وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطّور: 21] لأن ولده كسب من كسبه. فما جرى عليه من خير، فكأنه منسوب إلى الأب. وبذلك فسر قوله - تعالى -:{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المَسَد: 2] أن ولده من كسبه، فلا غرو أن يرجع إلى منزلته وتقر عينه به، كما تقر عينه بسائر أعماله الصالحة، وذلك قوله تعالى:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطُّور: 21]. وهبة الثواب في ذا تدخل إذ رده من كسبنا التفضل وغير ما يقبل تأويلا وقد عارض قطعيا فمثله يرد "و" أما مسألة الكسب مما يؤكل من الغرس والزرع فإنه من باب "المصائب" في المال، والمصائب ليست من باب النيابة في العبادة. "و" أما مسألة الصيام عن الولي والحج عنه فإن ذلك محمول على أنه راجع "للتصدقات بالمكاسب" أي فيما يصح أن تكسبه لغيرك، والصدقة تصح فيها النيابة لأنها تكون في المال، وهو يصح أن تكسبه لغيرك وذلك أن القضاء تارة يكون بمثل المقضي، وتارة يكون بما يقوم مقامه عند تعذره، وذلك في الصيام الإطعام، وفي الحج النفقة عمن يحج عنه، أو ما أشبه ذلك.

ص: 176

" فصل"

1146 -

وَهِبَةُ الثَّوَابِ فِي ذَا تَدْخُلُ

إِذْ رَدُّهُ مِنْ كَسْبِنَا التَّفَضُّلُ

1147 -

وَغَيْرُ مَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا وَقَدْ

عَارَضَ قَطْعِيًّا فَمِثْلُهُ يُرَدْ

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

1148 -

وَالْقَصْدُ لِلشَّارعْ فِي الأعْمَالِ

دَوَامُهَا وَذَا بِالاسْتِدْلَالِ

‌فصل:

في بيان حكم مسألة هبة المكلف ثواب الأعمال وجزاءها لغيره

" وهبة الثواب" وثمرات الأعمال الصالحة للغير "في ذا" الوجه الذي تقدم ذكره "تدخل" فتحمل على أنها من باب التصدق بما صح اكتسابه، وهو المتمولات، وأما ثواب الأعمال فإنه لا يكتسب للمكلف، "إذ رده" من الدخول تحت "كسبنا" وحق التصرف فيه "التفضل" من رب العالمين به على خلقه. فالجزاء ليس للعامل فيه نظر، ولا اختيار، ولا في يده منه شيء لأنه مجرد تفضل من الله - تعالى - على العامل. فإذا لا يصح فيه تصرف، لأن التصرف من توابع الملك الاختياري، وليس في الجزاء ذلك فلا يصح للعامل تصرف فيما لا يملك، كما لا يصح لغيره. وبذلك يحمل جميع ما تقدم ذكره من المسائل - ومنها مسألة هبة الثواب هذه - على ما تصح فيه النيابة، وبهذا يؤول، إن كان يقبل ذلك. "وغير ما يقبل تأويلا" من ذلك فإنه "وقد عارض" أصلا "قطعيا" مقطوعا به يرد "فمثله" أي هذا الذي عارض أصلا قطعيا "يرد" فلا يقبل. وقد تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي. وهو أصل مالك وأبي حنيفة.

"المسألة الثامنة"

في أن المراد "والقصد للشارع" الذي شرعه من "في الأعمال" هو "دوامها" يعني دوام المكلف عليها "وذا" القصد للشارع فيها ثابت "بالاستدلال" أي بورود الأدلة الشرعية به. قال الشاطبي: والدليل على ذلك واضح كقوله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} [المعَارج: 22 - 23] وقوله: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [المَائدة: 55] وإقام الصلاة بمعنى الدوام عليها بهذا فسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة وجاء هذا كله في معرض المدح وهو دليل على قصد الشارع إليه وجاء الأمر به صريحا

ص: 177

1149 -

وَحُكْمُ مَا الْتُزِمَ فِي التَّصَوُّفِ

بِحَسَبِ الأوْقَاتِ مِنْ هُنَا اقْتُفِي

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

1150 -

هَاذِي الشَّرِيعَةُ عَلَى الْعُمُومِ

بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ وَاللُّزُومِ

في مواضع كثيرة كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النُّور: 56] وفي الحديث أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل وقال خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا وكان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته وكان عمله ديمة وأيضا فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات من مفروضات ومسنونات ومستحبات في أوقات معلومة لأسباب ظاهرة ولغير أسباب ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحَديد: 27] إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار

(1)

.

"و" هذا وهو أن الدوام على الأعمال مقصد شرعي يؤخذ منه "حكم ما التزم به" في مذهب أهل "التصوف" من الأوراد التي يأتونها "بحسب الأوقات" التي حددوها لذلك، فذاك "من هنا اقتفي" هذا السبيل عندهم، وأمروا بالمحافظة على تلك الأوراد في أوقاتها بإطلاق.

"المسألة التاسعة"

في أن "هاذي" أي هذه "الشريعة" بحسب المكلفين جارية "على العموم" فهي كلية عامة بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكما من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة. وهذا أصل ثابت "بـ" أمور أحدها "النص" الشرعي كقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سَبَإ: 28] وقوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعرَاف: 158] وقوله عليه الصلاة والسلام بعثت إلى الأحمر والأسود وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره لم يكن مرسلا للناس جميعا إذ يصدق على من لم يكلف بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به فلا

(1)

الموافقات 2/ 174 - 175.

ص: 178

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يكون مرسلا بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا وذلك باطل فما أدى إليه مثله بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف فإنه لم يرسل إليه بإطلاق ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن فلا اعتراض به وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع فظاهر الأمر فيه

(1)

.

"و" ثانيها: "الإجماع" أي إجماع علماء الأمة المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ولذلك صيروا أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة للجميع في أمثالها وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم إما بالقياس أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي أو غير ذلك من المحاولات بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به وقد قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 37] الآية فقرر الحكم في مخصوص ليكون عاما في الناس وتقرر صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة

(2)

.

"و" ثالثها: دليل "اللزوم" وذلك أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر وهذا باطل فما لزم عنه مثله ولا أعني بذلك ما كان نحو الولايات وأشباهها من القضاء والإمامة والشهادة والفتيا في النوازل والعرافة والنقابة والكتابة والتعليم للعلوم وغيرها فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها وجامع الشروط في التكليف القدرة على المكلف به فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها فالتكليف عام لا خاص من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى بناء على منع التكليف بما لا يطاق وكذلك الأمر في كل ما كان موهما للخطاب الخاص كمراتب الإيغال في الأعمال ومراتب الاحتياط على الدين وغير ذلك

(3)

.

(1)

الموافقات 2/ 186.

(2)

الموافقات 2/ 187.

(3)

الموافقات 2/ 187.

ص: 179

1151 -

وَهَذَا الْأَصْلُ يُثْبِتُ الْقِيَاسَا

عَلَى الذِي يُنْكِرُهُ اقْتِبَاسَا

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1152 -

وَمُثْبِتٌ لِمَذْهَبِ الصُّوفِيَّهْ

جَرْيًا عَلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّهْ

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

1153 -

كمَا التَّكَالِيفُ جَمِيعًا قَدْ أَتَتْ

وَالْحُكْمُ بِالْعُمُومِ فِيهَا قَدْ ثَبَتْ

" وهذا الأصل" وهو كون هذه الشريعة كلية عامة، يتضمن فوائد منها: أنه "يثبت القياسا" يعني شرعيته وكونه أصلا فقهيا "على الذي ينكره" أي ينكر كونه حجة شرعية كالظاهرية "اقتباسا" يعني أن هذا الأصل يثبت حجية القياس اقتباسا وأخذا من مضمونه الذي هو عموم هذه الشريعة، وشمولها. ووجه ذلك الخطاب الخاص ببعض الناس، والحكم الخاص كان واقعا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرا ولم يؤت فيه بدليل عام يعم أمثالها من الوقائع فلا يصح مع العلم بأن الشريعة موضوعة على العموم والإطلاق إلا أن يكون الخصوص الواقع غير مراد وليس في القضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور فأرشدنا ذلك إلى أنه لا بد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها وهو معنى القياس وتأيد بعمل الصحابة رضي الله عنهم فانشرح الصدر لقبوله

(1)

.

"فصل"

"و" منها أي تلك الفوائد: أن هذا الأصل "مثبت لـ" كون "مذهب الصوفية" يمضي فيه "جريا على المقاصد الشرعية" وأن مخالفة ذلك ذهاب في سبيل الزندقة، وتنكب عن سبيل الرشد، وما يهذي به بعض الناس من أن الصوفية المخلصين قد ترقوا على ظواهر الشريعة هو من كلام المارقين وأرباب الخواطر الشيطانية.

"المسألة العاشرة"

في أنه "كما التكاليف" الشرعية "جميعا قد أتت""و" كذلك "الحكم" - اللام للجنس - أي الأحكام الشرعية، أيضا "بـ" صفة "العموم" والشمول "فيها" أي في تلك التكاليف "قد ثبت"

(1)

الموافقات 2/ 188.

ص: 180

1154 -

بِنِسْبَةِ الأمَّةِ وَالرَّسُولِ

فِي غَيْرِ مَا قَدْ خُصَّ بِالدَّلِيلِ

1155 -

كَذَا الْمَزَايَا نَيْلُهَا قَدْ عَمَّا

وَهْوَ بِالاسْتِقْرَاءِ أَمْرٌ تَمَّا

1156 -

فَفِي الذِي أُعْطِيَهُ الرَّسُولُ

مِنْ غَيْرِ مَا اخْتُصَّ لَهُمْ شُمُولُ

1157 -

أَوَّلُهَا اسْتِخْلَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ

عَلَى اقْتِبَاسِ مُوجِبَاتِ الْحُكْمِ

1158 -

إِذْ كَانَ مِمَّا أُعْطِيَ الحُكْمُ بِمَا

يُرَى فَقَدْ أُعْطِيَ ذَاكَ الْعُلَمَا

وذلك "بنسبة" يعني بالنسبة و "الأمة". "و" كذلك "الرسول" صلى الله عليه وسلم على السواء في غير ما قد خص الرسول عليه الصلاة والسلام به، وانفرد به عمن سواه بالدليل المقتضي لذلك.

"و" كذا شأن وحكم "المزايا" والمناقب فـ "نيلها" وإدراكها "قد عما" جميع المكلفين ومنهم الرسول عليه الصلاة والسلام فما من مزية أعطيها عليه الصلاة والسلام إلا وقد أعطيت أمته منها أنموذجا سوى ما خص صلى الله عليه وسلم به وبذلك فهي عامة كعموم التكاليف. بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله جرت أنه إذا أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه وأشركهم معه فيه، ثم ذكر من ذلك أمثلة. "و" هذا الذي ذكره "هو بالاستقراء" والنظر في الأدلة الشرعية "أمر تم" يعني أنه كامل ثبوته، وحاصل "ففي الذي أعطيه" عليه الصلاة والسلام من المزايا والمكارم والمناقب "من غير ما اختص" به - كحرمة رفع الصوت عليه، وندائه من وراء الحجرات، ومنع ندائه باسمه وغير ذلك مما خص به "لهم" أي لأمته "شمول" وعموم، فهم لهم اشتراك فيها معه وإن بوجه ما.

"اولها" أي هذه المزايا "استخلاف" الشارع "أهل العلم على اقتباس" واستخراج الأدلة التي هي "موجبات" ومقتضيات "الحكم" الشرعي "إذ كان مما أعطي" عليه الصلاة والسلام "الحكم بما يراه".

قال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النِّسَاء: 105]، وهذا تشاركه فيه بعض أمته "فقد أعطي ذاك" أيضا "العلماء".

قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النِّسَاء: 83] وهذا واضح بين فلا يطول به

(1)

.

(1)

الموافقات 2/ 188.

ص: 181

1159 -

وَالحُبُّ وَالْعِلْمُ مَعَ الأُمِّيَّهْ

وَرِفْعَةُ الْقَدْرِ عَلَى الْبَرِيَّهْ

1160 -

وَالاجْتِبَاءُ وَوُجُوبُ الطَّاعَهْ

وَالسَّبْقُ لِلْجَنَّةِ وَالشَّفَاعَهْ

1161 -

وَالشَّرْعُ لِلسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ

عَلَيْهِمُ إذْ فِيهِ ذَاكَ آتِ

" و" ثانيها: "الحب" فإنه عليه الصلاة والسلام حبيب الله ثبت ذلك في الحديث (إذ خرج عليه الصلاة والسلام ونفر من أصحابه

) وفي الأمة {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المَائدة: 54]. "و" ثالثها: "العلم مع الأمية" قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعرَاف: 158]. وفي الحديث نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. "و" رابعها: "رفعة القدر" والمقام "على البرية" أي الخلق. فإنه أكرم الأولين والآخرين وفي أمته قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عِمرَان: 110]. "و" خامسها: "الاجتباء" أي الاصطفاء والاختيار، قال - تعالى - في الأنبياء عليهم السلام:{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعَام: 87] وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم "مصطفى من الخلق". وقال تعالى في هذه الأمة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32].

"و" سادسها: "وجوب الطاعة" قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النِّسَاء: 80] وقال سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 59] وهم الأمراء والعلماء وفي الحديث "من أطاع أميري فقد أطاعني". "و" سابعها: "السبق للجنة". فقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة، وأن أمته كذلك. "و" ثامنها:"الشفاعة" قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسرَاء: 79] قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم. وقد ثبتت شفاعة هذه الأمة، كقوله عليه الصلاة والسلام في أويس القرني:"يشفع في مثل ربيعة ومضر". وقال صلى الله عليه وسلم: "أئمتكم شفعاؤكم" وغير ذلك.

"و" تاسعها: "الشرع للسلام" في الصلاة عليهم، أي على هذه الأمة "إذ فيه" أي في ذلك السلام "ذاك" وهو الشرع له حكم "آت" إذ يقال في التشهد: السلام عليك أيها

ص: 182

1162 -

وَالْوَصْفُ بِالْحَمْدِ وَرَفْعُ الذِّكْرِ

وَالْوَحْيُ بِالرُّؤْيَا وَشَرْحُ الصَّدْرِ

1163 -

وَمُقْتَضَى التَّثْبِيتِ وَالْغُفْرَانِ

لِلذَّنْبِ وَالتَّيْسِيرِ لِلْقُرْآنِ

النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

"و" عاشرها: "الوصف بالحمد" في الكتب السالفة، وبغيره من الفضائل ففي القرآن {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصَّف: 6] وسميت أمته الحمادين.

"و" الحادي عشر: "رفع الذكر". قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشَّرح: 4] وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الإيمان، وفي كلمة الإيمان فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به. وقد جاء في ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير. وجاء في بعض الأحاديث عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال "اللهم اجعلني من أمة أحمد لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم".

"و" الثاني عشر: "الوحي بالرؤيا" قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النِّسَاء: 163] وسائر ما في هذا المعنى، ولا يحتاج إلى شاهد. وفي الأمة "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".

"و" الثالث عشر: "شرح الصدر" قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشَّرح: 1] الآية. وقال في الأمة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزُّمر: 22].

"و" الرابع عشر: "مقتضى" وحكم "التثبيت" عند توقع التفلت البشري قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسرَاء: 74] وفي الأمة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].

"و" الخامس عشر: "الغفران للذنب" ما تقدم منه وما تأخر. قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وفي الأمة ما روي أن الآية لما نزلت قال الصحابة: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فنزل {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح: 5] فعم ما تقدم وما تأخر. وفي الآية الأولى إتمام النعمة في قوله: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] وقال في الأمة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] الآية.

"و" السادس عشر: "التيسير" والتسهيل لتلاوة "القرآن" الكريم "عليهم" قال تعالى:

ص: 183

1164 -

ثُمَّ نُزُولُهُ عَلَى وَفْقِ الْغَرَضْ

وَالْعَفْوُ قَبْلَ الْعَتْبِ فِي أَمْرٍ عَرَضْ

1165 -

وَمَا أَتَى مِنِ انْخِرَاقِ الْعَادَهْ

لِأوْليَاءِ اللهِ وَالشَّهَادَهْ

{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [القِيَامَة: 17 - 19] قال ابن عباس: علينا أن نجمعه في صدرك [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [القِيَامَة: 19] علينا أن نبينه على لسانك.

وفي الأمة: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القَمَر: 17].

"ثم" السابع عشر: وهو "نزوله على وفق الغرض" أي المراد. قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرد إلى الكعبة. وقال تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزَاب: 51] لما كان قد حبب إليه النساء، فلم يوقف فيهن على عدد معلوم.

وفي الأمة قال عمر وافقت ربي في ثلاث. قلت: يا رسول الله: لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى، وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن فقلت إن انتهيتن، أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن، فانزل الله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التّحْريم: 5].

وحديث التي ظاهر منها زوجها فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: إن زوجي ظاهر مني، وقد طالت صحبتي معه، وقد ولدت له أولادا. قال عليه الصلاة والسلام: قد حرمت، فرفعت رأسها إلى السماء، فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه، ثم عادت، فأجابها، ثم ذهبت لتعيد الثالثة، فأنزل الله - تعالى - {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] الآية. ومن هذا كثير لمن تتبع.

والثامن عشر: "العفو قبل العتب" أي اللوم "في أمر" ذي مخالفة شرعية "عرض" في التصرفات. قال الله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التّوبَة: 43] وفي الأمة {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عِمرَان: 152].

"و" التاسع عشر: "ما أتى" وورد "من انخراق العادة لأولياء الله" تعالى وثبوت الكرامات لهم. كما ثبتت له عليه الصلاة والسلام المعجزات.

"و" العشرون: "الشهادة" على الأمة اختص بذلك دون الأنبياء عليهم السلام -

ص: 184

1166 -

وَمِنْ صَلَاةِ اللهِ وَالتَّسْلِيمِ

وَوِجْهَةِ الْمَلَكِ بِالتَّكْلِيمِ

1167 -

وَوَصْفِهِمْ كَمِثْلِ مَالَهُ وَصَفْ

بِبَعْضِ الأوْصَافِ التِي بِهَا اتَّصَفْ

1168 -

وَمِنْ مُوَالَاةٍ لِمَنْ وَالاهُمْ

وَمِنْ مُعَادَاةِ لِمَنْ عَادَاهُمْ

وفي القرآن الكريم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

"و" الحادي والعشرون: هو ما ثبت "من" تشريع "صلاة" من "الله" تعالى. قال سبحانه في النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزَاب: 56]. وقال عز وجل في الأمة {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزَاب: 43] وقال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157].

"و" الثاني والعشرون: "التسليم" منه سبحانه ففي أحاديث إقراء السلام من الله سبحانه على نبيه عليه الصلاة والسلام وقال سبحانه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النَّمل: 59] وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] وقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة اقرأ عليها السلام من ربها ومني.

"و" الثالث والعشرون: جعل النبي صلى الله عليه وسلم والأمة "وجهة الملك" وموضع "التكليم" والخطاب مباشرة. إما في النبي عليه الصلاة والسلام فهذا أمر ظاهر. وأما في الأمة فقد روي في بعض الصحابة أنه كان يكلمه الملك - كعمران بن حصين - ونقل عن الأولياء من هذا.

"و" الرابع والعشرون: "وصفهم" أي أفراد هذه الأمة من الله تعالى "كمثل ماله" عليه الصلاة والسلام "وصف" سبحانه "ببعض الأوصاف التي بها اتصف" سبحانه فإنه تعالى سمى نبيه عليه الصلاة والسلام بجملة من أسمائه كالرؤوف، الرحيم. وكذلك الأمة نحو: المؤمن والخبير والعليم والحكيم. ولله تعالى المثل الأعلى، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. ومثل هذا يجب أن يقرر على وفق ما تقتضيه قواعد العقيدة الإسلامية الصحيحة، المبينة في كتب هذا الشأن.

"و" الخامس والعشرون: هو ما ثبت "من موالاة" ونصرة من الله تعالى "لمن والاهم" ونصرهم "ومن معاداة" منه - سبحانه - ومحاربة "لمن عاداهم" فمعاداة

ص: 185

1169 -

وَمِنْ خِطَابٍ وَاضِحِ الإِتْيَانِ

فِي مَعْرِضِ الرَّأْفَةِ وَالْحَنَانِ

1170 -

وَمِنْ إمَامَةٍ لِلأنْبِيَاءِ

وَنِعْمَةِ الإِعْطَاء لِلإِرْضَاءِ

المؤمنين - هذه الأمة - والرسول عليه الصلاة والسلام معاداة لله تعالى، وموالاتهم موالاة له - سبحانه - قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57].

وفي الحديث "من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة".

"و" السادس والعشرون: ما ورد "من خطاب واضح" بين "الإتيان" والمجيء "في معرض" أي مورد "الرأفة" أي الرحمة "والحنان" أي الشفقة كقوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} [طه: 1 - 2].

وقوله سبحانه: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2]. وقوله عز وجل: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].

في الأمة قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المَائدة: 6].

وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البَقَرَة: 185].

وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النِّسَاء: 28].

وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاء: 29].

"و" السابع والعشرون: هو ما ورد "من إمامة للأنبياء" - عليهم الصلاة والسلام - ففي حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أمّ الأنبياء، قال:"وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فحانت الصلاة فأممتهم".

وفي حديث نزول عيسى عليه الصلاة إلى الأرض: "إمام هذه الأمة منها".

"و" الثامن والعشرون: "نعمة الإعطاء للإرضاء" قال تعالى في النبي: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضّحى: 5].

وقال في الأمة: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحَجّ: 59] وقال رضي الله عنهم ورضوا عنه.

ص: 186

1171 -

وَالأَجْرُ دُونَ مِنَّةٍ وَالْعِصْمَهْ

مِنَ الضَّلالِ وَتَمَامُ النِّعْمَهْ

" فَصْلٌ"

1172 -

ثُمَّ الْمُكَاشَفَاتُ وَالْكَرَامَهْ

مَنْشَأُهَا الدِّينُ وَالاسْتِقَامَهْ

1173 -

فَكُلُّ مَا مِنْهَا بَدَا فِي أُمَّتِهْ

مُقْتَبَسٌ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهْ

1174 -

إِذِ النَّبِيُّ الْمَنْبَعُ الْكُلِّيُّ

وَالأوْليَاءُ مَنْبَعٌ جُزْئِيُّ

" و" التاسع والعشرون: "الأجر دون منّة" كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)} [القلم: 3]، وقال في الأمة {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التين: 6].

"و" الثلاثون: "العصمة" أي الحفظ "من الضلال" بعد الهدى وغير ذلك من وجوه الحفظ العامة فالنبي صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله تعالى من ذلك كله وجاء في الأمة "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وجاء في الحديث: "احفظ الله يحفظك" وفي القرآن: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 39 - 40] تفسيره في قوله: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وفي قوله "وأنا والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها". وأما الحادي والثلاثون: فهو "تمام النعمة" وإكمالها. قال تعالى: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] وقال سبحانه في الأمة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6].

‌فصل:

في بيان أن هذا الأصل وهو اشتراك الأمة والرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المزايا وما شابهها تنبني عليه فوائد.

أحدها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الواسطة في ذلك كله ثم إن "المكاشفات والكرامة" وغيرها من الفضائل التي يمنحها صالحو هذه الأمة "منشؤها" ومنبعها إنما هو العمل بمقتضى ما جاء في هذا "الدين" من أوامر ونواه "والاستقامة" على سبيله وصراطه. "فكل ما" ظهر"منها وبدا في أمته" من ذلك فإنه "مقتبس" ومأخوذ "من اتباع سنته" صلى الله عليه وسلم ويتفاوت ذلك بتفاوت درجة الاتباع وقدره، فبقدر الاتباع يكون الانتفاع وهذا واضح، "إذ النبي" عليه الصلاة والسلام هو "المنبع" - بالباء الموحدة بينهما نون ساكنة - محل النبع، وموضعه "الكلي" الشامل الذي يستقي منه الجميع، وهو السراج المنير الذي يستضيء به كل الخلق والعلم الأعلى الذي يهتدى به في سلوك الطريق. "و" أما "الأولياء" فإن حالهم يصدق عليه أنه "منبع جزئي" عن ذاك

ص: 187

1173 -

فَمَا يُرَى فِي الْمُعْجِزَاتِ أَصْلُهُ

فَفِي الْكَرَامَاتِ يَصِحُّ نَقْلُهُ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1176 -

وَمَا عَلَى خِلَافِ هَذَا قَدْ وَرَدْ

فَإِنَّهُ فِي ذَاكَ غَيْرُ مُعْتَمَدْ

1177 -

كَذَاكَ مَا يَصْدُرُ مَعْ مُخَالَفَهْ

لَيْسَ كَرَامَةٍ وَلَا مُكَاشَفَهْ

المنبع الكلي تفرع ومنه سال، وجرى، "فـ" كل "ما يرى" أي يبصر أو يعتقد من خوارق العادات "في المعجزات" النبوية "أصله" الذي ورد فيه "فـ" إنه "في الكرامات" التي تمنح للأولياء "يصح نقله" ووروده في الحكاية عن هؤلاء الفضلاء.

وأما اختصاص بعض صالحي هذه الأمة بكرامات لم ينقل أنها ظهرت بذاتها على يد النبي صلى الله عليه وسلم كهروب الشيطان من عمر والنور الذي ظهر بين يدي أسيد بن حضير، وعباد بن بشر في ليلة خرجا فيها من عنده عليه الصلاة والسلام وما أشبه هذا، فإن ذلك كله في حقيقة الأمر راجع إلى إتباعه عليه الصلاة والسلام والاقتداء بهديه ولولا ذلك ما كان لهم شيء مما ذكر فهو على كل حال مصدر هذا الفضل والخير كله.

وهذا جلي بين لا يحتاج إلى إطالة الكلام في تقريره.

"فصل"

في الفائدة الثانية التي تبنى على ما تقدم من أصل "و" هي أن كل "ما" قد جاء "على خلاف هذا" الأصل "قد ورد فإنه" يرد إذ هو "في ذاك" وهو كونه كرامة أمر "غير معتمد" وغير صحيح، وبذلك ينظر إلى كل خارقة صدرت على يد أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول عليه الصلاة والسلام ومعجزاته فهي صحيحة، وإن لم يكن لها أصل فغير صحيحة، وإن ظهر ببادئ الرأي أنها كرامة.

"كذاك" حكم "ما يصدر" عن شخص ما "مع" وجود "مخالفة" شرعية في ذلك، أو في الطريق الموصل إليه فإنه - في حقيقة الأمر - "ليس كرامة ولا مكاشفة" وإنما هو من تلبيس إبليس

(1)

.

(1)

انظر الأصل الموافقات 2/ 200.

ص: 188

1178 -

وَكُلُّ مَنْ خُصَّ بِنَيْلِ مَأْثَرَهْ

مِنْ هَذِهِ الْمَآثِرِ المُعْتَبَرَهْ

1179 -

فَكَانَ فِيهَا بِالرَّسُولِ يَقْتَدِي

فِي هَدْيِ مُسْتَهْدٍ وَرَدْعِ مُعْتَدِ

1180 -

لَيْسَ بِخَارجٍ عَنِ الْمَشْرُوعِ

دَلِيلُهُ مِنْ جِهَةِ الْوُقُوعِ

فصل في بيان الفائدة الثالثة المبنية على ما ذكر "و" هي أنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر وبشر، وأنذر وتصرف في ذلك بمقتضى الخوارق من الفراسة الصادقة والإلهام الصحيح، والكشف الواضح، والرؤيا الصالحة فإن "كل من خص بنيل" وإدراك مأثرة - بضم الثاء المثلثة - وهي لغة المكرمة المذكورة المتوارثة. والمراد بها هنا الكرامة الخارقة "من هذه المآثر" المذكورة - الخوارق - "معتبرة" شرعا وقوله المعتبرة هو وصف لبيان الوقع وليس للاحتراز "فكان" ذلك المخصوص بهذه المأثرة "فيها" يعني في العمل بها يهتدي "بالرسول" صلى الله عليه وسلم و"يقتدي" به "في" التحذير والتبشير للناس، وندبهم إلى الخير بها، وذلك "في"سبيل "هدى" أي إرشاد "مستهد" أي طالب هداية "وردع" أي زجر وقمع "معتد" ظالم فهو شخص "ليس بخارج عن" الحكم "المشروع" بل هو على سبيل الهدى ماض فإظهاره ذلك لتلك الغاية ليس من باب العجب والتباهي، وإظهار الصلاح، وإنما هو مسلك شرعي تجلب به المصلحة المذكورة "دليله" أي دليل صحة هذا الذي ذكر يؤخذ "من جهة الوقوع" أي وقوع ذلك من الصحابة. فإنهم عملوا بمثل ذلك من الفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي كقول أبي بكر: وإنما هما أخواك أو أختاك.

وقول عمر: يا سارية الجبل، فاعمل بالنصيحة التي أنبأ بها الكشف ونهيه لمن أراد أن يقص على الناس، وقال أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا.

وقوله لمن قص عليه رؤياه: أن الشمس والقمر رآهما يقتتلان فقال مع أيهما كنت؟ قال مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة لا تلي عملا أبدا.

ويكثر نقل هذا عن السلف الصالح ومن بعدهم من العلماء والأولياء نفع الله بهم.

ص: 189

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

1181 -

لَاكِنْ لِهَذَا الْحُكْمِ شَرْطٌ مَرْعِي

عَدَمُ الإخْلَالِ بِأَصْلٍ شَرْعِي

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1182 -

إِذَنْ فَالاسْتِعْمَالُ لِلْخَوَارِقِ

لَيْسَ عَلَى الإِطْلَاقِ فِي الْطَّوَارِقِ

ولكن يبقى هذا النظر شرط العمل على مقتضى هذه الأمور، والكلام فيه يحتمل بسطا، فلنفرده بالكلام عليه.

وهو ما سيورده في المسألة الموالية:

"المسألة الحادية عشرة"

وذلك أن الحكم الجاري في هذا الشأن هو انه مطلوب شرعا كما تقدم ذكره.

"لكن لهذا الحكم شرط" معتبر و"مرعي" كما تقدم ذكره وذلك الشرط هو "عدم الاخلال بأصل شرعي" أي قاعدة دينية - عقدية أو غيرها - أو حكم شرعي، فإن ما يخدم شيئا مما ذكر ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال أو وهم وإما من إلقاء الشيطان، وقد يخالطه ما هو حق، وقد لا يخالطه، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت، مشروع وذلك أن التشريع الذي أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم خاص - كما تقدم - في المسألة قبل هذه.

وأصله لا ينخرم، ولا ينكسر له اطراد، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف وإذا كان كذلك فكل من جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضاد لما تمهد في الشريعة فهو فاسد باطل

(1)

.

"فصل"

إذا تقرر اعتبار هذا الشرط وجريان مقتضاه، "إذن فالاستعمال للخوارق" وإظهارها "ليس" أمرا مطلوبا شرعا "على الإطلاق" بدون قيد "في" جميع الأمور "الطوارق" النازلة بالمكلف - سواء كانت أقضية أو فتاوى أو غير ذلك.

(1)

انظر الأصل الموافقات 2/ 208.

ص: 190

1183 -

بَلْ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْأُمُورِ

وَمَوْضِعِ التَّبْشِيرِ وَالتَّحْذِيرِ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1184 -

وَحَيْثُمَا السَّبَبُ يَقْتَضِيهِ

فَذَاكَ مِمَّا لَا امْتِرَاءَ فِيهِ

" بل" إنما يسوغ ذلك الظهار والاستعمال "في المباحات من الأمور" وذلك كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل وما أشبه ذلك فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر فهذا من الجائز له كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم.

"و" في "موضع التبشير" إيصال البشارة وتبليغها "والتحذير" أي التخويف والتهديد وذلك بأن يكون في هذا الإظهار والاستعمال تحذيرا وتبشيرا ليستعد لكل عدته فهذا أيضا جائز كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا أو لا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة فله أن يجري بها مجرى الرؤيا كما روى عن أبي جعفر بن تركان قال كنت أجالس الفقراء ففتح علي بدينار فأردت أن أدفعه إليهم ثم قلت في نفسي لعلي أحتاج إليه فهاج بي وجع الضرس فقلعت سنا فوجعت الأخرى حتى قلعتها فهتف بي هاتف إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فيك سن واحدة وعن الروذباري قال في استقصاء في أمر الطهارة فضاق صدري ليلة لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبي فقلت يا رب عفوك فسمعت هاتفا يقول العفو في العلم فزال عني ذلك

(1)

. وكذلك يسوغ "حيثما" يوجد "السبب" الذي "يقتضيه" أي يقتضي ما ذكر من الاستعمال والإظهار "فذاك" موضع "مما لا امتراء" أي لا شك "فيه" يعني في جواز هذا الحكم فيه. وذلك بأن يكون العمل عليها - أي هذه الخوارق - لفائدة يرجو نجاحها فإن العاقل لا يدخل على نفسه ما لعله يخاف عاقبته فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره والكرامة كما أنها خصوصية كذلك هي فتنة واختبار لينظر كيف تعملون وقد تقدم ذكره فإذا عرضت حاجة أو كان لذلك سبب يقتضيه فلا بأس وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بالمغيبات للحاجة إلى ذلك، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه أنه يراهم من وراء ظهره، لما لهم في ذلك من

(1)

انظر الأصل الموافقات 2/ 209.

ص: 191

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

1185 -

ثُمَّ الشَّرِيعَةُ لِهَذْيِ الأُمَّةِ

فِي ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ قَدْ عَمَّتِ

1186 -

لِأَنَّهَا عَلَى سِوَاهَا حَاكِمَةْ

فَحَالَةُ الْعُمُومِ فِيهَا لَازِمَةْ

الفائدة المذكورة في الحديث وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك وهكذا سائر كراماته ومعجزاته فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأول ولكنه مع ذلك في حكم الجواز لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه والإخبار في حق النبي عليه الصلاة والسلام مسلّم ولا يخلو إخباره من فوائد ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به هي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا

(1)

. وعلى الجملة فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره في العمل بمقتضى الخوارق وهو المطلوب. ولما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثلا يحتذي حذوه وينظر في هذا المجال إلى جهته

(2)

. ومن هنا يخلص إلى ذكر أصل آخر، وهو ما سيورد في المسألة الموالية وهي:

"المسألة الثانية عشرة"

في أنه قد تقرر أن الأحكام الشرعية عامة لا خاصة، كما تقدم بيانه، وعلى مقتضى ذلك بني ما تقدم ذكره من حكم استعمال الخوارق وإظهارها. "ثم" يعتضد هذا بإيراد الأصل الذي عقدت له هذه المسألة وهو أن أحكام "الشريعة" كما هي عامة "لـ" جميع أفراد "هذي" أي هذه "الأمة" فهي كذلك "في ظاهر" أحوالهم "وباطن" ها. فأحكام ذلك كله "قد عمتـ" ـه فإليها - أي الشريعة - يرد كل ما جاء من جهة الباطن، كما يرد إليها كل ما جاء من الظاهر "لأنها" أي هذه الشريعة "على" كل ما "سواها" من مصادر العلم والمعرفة ومدارك الأحكام "حاكمة" وقاضية "فحالة العموم" في أحكامها جارية و"لازمة" لا تنفك عنها. وبذلك فإن الخوارق لا يعتد بوقوعها إلا إذا كانت موافقة للشريعة. إن الشريعة - كما تقدم - حاكمة لا محكوم عليها، فلو كان يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكم عليها بتخصيص عموم، أو تقييد إطلاق، أو تأويل ظاهر أو ما أشبه ذلك، لكان غيرها حاكما عليها، وصارت هي محكوما عليها بغيرها. وذلك باطل باتفاق فكذلك ما يلزم عنه. ثم أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك، بل أعمالا من أعمال الشيطان.

(1)

انظر الأصل الموافقات 2/ 208.

(2)

انظر الأصل الموافقات 2/ 209.

ص: 192

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1187 -

فَالشَّرْغ مِيزَانٌ يُري الْكَرَامَهْ

عَلَى اعْوِجَاجٍ أَوْ عَلَى اسْتِقَامَهْ

1188 -

فَمَا اسْتَقَامَ فَهُوَ الْمَقْبُولُ

وَغَيْرُهُ لَيْسَ لَهُ قَبُولُ

"‌

‌ المسألة الثالثة عشرة

"

1189 -

مُجْرَى عَوَائِدِ الْوُجُودِ قَطْعِي

وَكَمْ مِنْ أَخْبَارٍ بِذَاكَ شَرْعِي

" فصل"

إذا علم هذا وتقرر أمره "فالشرع ميزان" يعرف به الحق من الباطل، والباطل من الحق، وبذلك فإنه الذي يجب أن تعرض عليه كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح ردها، ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، إذ هو أي القرآن الذي "يري" ويبين حال ما يظهر أنه "الكرامة" سواء كان "على اعوجاج" وضلال "أو "كان "على استقامة" وسبيل هدى ورشاد "فما استقام" من ذلك على سبيل الشريعة وكان وفق الأحكام الشرعية فهو "المقبول" المعد كرامة في حقيقة الأمر، وأما "غيره" وهو ما كان على خلاف الأحكام الشرعية، فإنه "ليس له قبول" ولا اعتبار، ولا مبالاة به عند أهل العلم والإيمان، قال بعض الفضلاء:

ذا رأيت رجلا يسير

فوق مياه البحر أو يطير

ولم يقف عند حدود الشرع

فإنه مستدرج وبدعي

"المسألة الثالثة عشرة" في بيان أحكام العوائد

"مجرى" واطراد "عوائد الوجود" سواء كانت تلك العوائد نفسية أو خارجية، أمر "قطعي" أي معلوم لا مظنون يعني في الكليات لا في خصوص الجزئيات إذ قد تتخلف بعض العوائد في حق أفراد، أو أحوال، بحكم خرق العادة، كما عليه أمور الأنبياء والأولياء، إلا أن ذلك ليس بمقصود هنا وإنما المقصود العوائد الكليات التي عليها قيام الحياة والوجود وجريان عيش الخلق، وذاك أمر مطرد معلوم فيه ارتباط السبب بالمسبب على ما اقتضته إرادة الله في سننه الكونية، وهذا بين ثابت و"كم من إخبار" وإنباء قد ورد "بذاك شرعي" وذلك كالإخبار بأحوال هذا الوجود

ص: 193

1190 -

وَمَعَ ذَا لَوْلَا اطِّرَادُ الْعَادَهْ

لَمْ تَظْهَرِ المُعْجِزَةُ الْمُرَادَهْ

1191 -

لِصِدْقِ مَنْ أُرْسِلَ بِالتَّشْرِيعِ

وَذَاكَ غَيْرُ مُقْتَضَى الْوُقُوعِ

على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة كالإخبار عن السماوات والأرض وما بينهما، وما فيهما من المنافع، والتصاريف، والأحوال، وإن سنة الله لا تبديل لها، وأن لا تبديل لخلق الله، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا.

"و" يزاد "مع ذا" أي هذا الدليل دليل آخر وهو أنه "لولا" أن "اطراد العادة" وجريانها على سنتها التي خلقت عليها، أمر معلوم لما عرف الدين من أصله، فضلا عن أن تعرف فروعه وبذلك "لم تظهر" ولم تحصل "المعجزة المرادة" أي المقصودة "لـ" أجل إثبات "صدق" من أرسل "بالتشريع" ومن اتصف بالنبوة وبأنه يوحى إليه "وذاك" وهو عدم اطراد العوائد وما يبنى عليه، أمر "غير مقتضى" وموجب "الوقوع" بل ما يقتضيه الواقع ويدل عليه هو اطراد العادات وجريانها، وثبوت المعجزة بإنخراقها وهذا معلوم بالحس والتجربة والنصوص الشرعية.

فإن قيل هذا معارض بما يدل على أن اطراد العوائد غير معلوم بل إن كان فمظنون والدليل على ذلك أمران:

أحدهما أن استمرار أمر في العالم مساو لابتداء وجوده لأن الاستمرار إنما هو بالإمداد المستمر والإمداد ممكن أن لا يوجد كما أن استمرار العدم على الموجود في الزمن الأول كان ممكنا فلما حصل أحد طرفي الإمكان مع جواز بقائه على أصل العدم فكذلك وجوده في الزمان الثاني ممكن وعدمه كذلك فإذا كان كذلك فكيف يصح مع إمكان عدم استمرار وجوده العلم باستمرار وجوده هل هذا إلا عين المحال.

والثاني أن خوارق العادات في الوجود غير قليل بل ذلك كثير ولا سيما ما جرى على أيدي الأنبياء عليهم السلام من ذلك وكذلك ما انخرق للأولياء من هذه الأمة وفي الأمم قبلها من العادات والوقوع زائد على مجرد الإمكان فهو أقوى في الدلالة فإذا لا يصح أن يكون مجارى العادات معلومة البتة

(1)

.

(1)

انظر الأصل الموافقات 2/ 214.

ص: 194

1192 -

وَإِنَّمَا أَعْنِي بِهَا الْكُلِّيَّهْ

مَا لَا تُرَى تَخْرِمُهَا الْجُزْئِيَّهْ

1193 -

كَالشَّأْنِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ

مِنْ ذَاكَ حُكْمُ الْخَبَرِ الْمَقْبُولِ

1194 -

أَوْ الْقِيَاسِ أَصْلُهُ قَطْعِي

وَفِي الْفُرُوعِ حُكْمُهُ ظَنِّي

"‌

‌ المسألة الرابعة عشرة

"

1195 -

ثُمَّ الْعَوَائِدُ التِي اسْتَمَرَّتْ

شَرْعِيَّة أَحْكَامُهَا استَقَرَّتْ

فالجواب هو أني لا أقصد بالعوائد الجزئيات "وإنما أعني بها" أي بالعوائد العوائد "الكلية" الجارية في الوجود على اطراد كما رأينا عادة جرت في جزئية من هذا العالم في الماضي والحال غلب على ظنوننا - أيضا - استمراره في الاستقبال، وجاز عندنا خرقها بدليل انخراق ما انخرق منها، ولا يقدح ذلك في علمنا باستمرار العادات الكلية وهي "ما" أي التي "لا ترى" تبصر"تخرمها" يعني تخرم العلم باطرادها الحوادث "الجزئية" كالمعجزات والكرامات.

فالشأن والأمر في هذه العوائد من حيث أنها لا ينخرم حكمها ومقتضاها بما كان على خلافها من جزئيات "كالشأن في "سائر "مسائل الأصول ومن ذاك حكم الخبر المقبول" فإن العمل به في الجملة قطعي "أو" بمعنى الواو يعني و"القياس" فإن "أصله" - أيضا - والعمل به "قطعي" - إن كان العمل به وبما قبله - "و" هو خبر الآحاد "في الفروع حكمه" ليس قطعيا، وإنما هو "ظني" فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل ظنيا وكذلك إذا أخذت في العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيا، لا قطعيا، وكذلك سائر المسائل ولم يكن ذلك قادحا في أصل المسألة الكلية. وهذا كله ظاهر.

"المسألة الرابعة عشرة"

في أن العوائد المستمرة على ضربين:

أحدهما: العوائد الشرعية.

ثانيهما: العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي. "ثم" إن "العوائد التي استمرت" أي المستمرة على ضربين: أحدهما عوائد "شرعية" وهي التي "أحكامها استقرت".

ص: 195

1196 -

بِالإِذْنِ أَوْ بِالنَّهْيِ أَوْ بِالأَمْرِ

فَذَاكَ ثَابِتٌ بِطُولِ الدَّهْرِ

1197 -

كَالسَّتْرِ لِلْعَوْرَةِ وَالطَّهَارَهْ

مِمَّا أَرَادَ الشَّارعُ اسْتِمْرَارَهْ

1198 -

وَهْوَ لَدَى الشَّرْعِ قَبِيحٌ أَوْ حَسَنْ

فَمَا لَهُ تَبَدُّلٌ مَدَى الزَّمَنْ

1199 -

وَضَرْبُهَا الثَّانِي فِي الاسْتِمْرَارِ

مَا هُوَ فِي الْعَادَاتِ أَمْرٌ جَارِ

1200 -

فَمِنْهُ ثَابِتٌ عَلَى الدَّوَامِ

كَالْمَشْيِ وَالْبَطْشِ وَكَالْقِيَامِ

وحصلت "بالأذن" الشرعي في إتيانها - فيجري فيها التخيير بين الفعل والترك كالمعاملات المباحة "أو بالنهي" عن إتيانها - ككشف العورة "أو بالأمر" بها وأمثلتها تأتي، وكل ما كان من هذا الضرب "فذاك" حكمه لا يتغير، بل هو "ثابت" مستقر "بطول" أي مع طول "الدهر" والزمان، وذلك "كالستر للعورة والطهارة" وما أشبه ذلك "مما أراد الشارع استمراره" يعني استمرار العمل بحكمه فيه والامتثال لأمره في شأنه. "وهو" أي هذا الضرب "لدى" عند "الشرع" أما "قبيح" وبذلك لا يتأتى فيه أن ينقلب حسنا "أو حسن" وبذلك - أيضا - لا يمكن أن ينقلب قبيحا على الإطلاق، وهذا الأمر ثابت "فما له تبدل" أو تغير على "مدى" مر "الزمان" ومداه على الاطلاق. فالعوائد الشرعية حسنها وقبحها شرعي فلا مطمع في تغيير حالها، ولا سبيل إليه. قال الشاطبي: "فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا حتى يقال مثلا إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه أو غير ذلك إذ لو صح مثل هذا لكان نسخا للأحكام المستقرة المستمرة والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل فرفع العوائد الشرعية باطل

(1)

.

"و" أما "ضربها الثاني" المنتظم "في" سلك "الاستمرار" فذاك "ما" أي الذي "هو في العادات أمر جار" أي ماض العمل به فيما بين الخلق ويتميز بأنه ليس في نفيه ولا في إثباته دليل شرعي. وهو على صنفين "فـ" المصنف الأول "منه" هو الذي يتصف بأنه "ثابت" مستقر "على الدوام" وتوالي الأزمنة والأحقاب وذلك "كالمشي والبطش" بالأيدي والأكل والشرب و"كالقيام" والقعود وأشباه ذلك.

(1)

الموافقات 2/ 216.

ص: 196

1201 -

فَذَا إِذْ تُلْفَى الْمُسَبَّبَاتِ

عَنْهُ فَفِي الشَّرْعِ لَهَا ثَبَاتُ

1202 -

وَلَيْسَ فِي اعْتِبَارِهَا إِشْكَالُ

وَحُكْمُهَا لَيْسَ لَهُ اسْتِبْدَالُ

1203 -

وَمِنْهُ ذُو تَبَدُّلٍ فِي الْحَالِ

لِعَكْسِهِ فَالشَّرْعُ ذَاكَ تَالِ

1204 -

أَوْ بِاخْتِلَافِ أَوْجُهِ التَّعْبِيرِ

بِنِسْبَةِ الْخُصُوص وَالْجُمْهُورِ

1205 -

أَوْ نِسْبَةِ اللُّغَاتِ فِي الْمَقَالِ

أَوْ مُقْتَضَى غَالِبِ الاسْتِعْمَالِ

" فذا" أي هذا الضرب "إذا" كانت "تلفى" أي توجد وتترتب "المسببات عنه" وكانت مسببات تتعلق بها الأحكام الشرعية "فـ" إنها عوائد "في الشرع لها ثبات" من حيث اعتبارها والبناء عليها، والحكم على وفقها، "وليس في اعتبارها" والاعتماد على مقتضاها "إشكال" لأنها ثابتة، "و" اما "حكمها" الشرعي من إباحة أو غيرها فهو حكم مستقر ثابت "ليس له استبدال" أو تغيير. "و" أما المصنف الثاني من هذا الضرب فهو الذي "منه ذو تبدل" وتغير "في الحال" الذي هو عليه في مجرى العادة "لعكسه" إذ يتبدل من حسن إلى قبيح أو من قبح إلى حسن، وذلك مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع والأمكنة في الواقع فهو لذي المروءات قبيح في البلاد المشرقية وغير قبيح في البلاد المغربية. والحكم الشرعي في هذا يختلف بحسب رأي الناس ونظرهم العرفي في ذلك. فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة وعند أهل المغرب غير قادح، والحكم الشرعي جار على وفاق ذلك "فالشرع" أي حكمه "ذاك" الذي عليه عرف الناس في ذلك "قال" تابع، إذ عليه يبنى. ومنه أي هذا المصنف ما لا يتبدل على هذا الوجه ولكنه يختلف في طرق الكلام.

"أو باختلاف أوجه" وأساليب "التعبير" عن المقاصد وذلك "بنسبة" اصطلاح ذوي "الخصوص" يعني ذوي الاختصاص فيما اختصوا به - كأرباب الصنائع في صنائعهم - "و" اصطلاح "الجمهور" في ذلك.

كما يكون ذلك الاختلاف أيضا بحسب "أو نسبة" اختلاف "اللغات في المقال" وإن كانت المعاني واحدة، وهذا يجري في اللغات المختلفة كالعربية مع غيرها.

"أو "بمعنى الواو ويكون الاختلاف أيضا في ذلك بالنسبة لـ "مقتضى" و"غالب الاستعمال" في بعض المعاني، حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى،

ص: 197

1206 -

فَالْحُكْمُ فِي هَذَا لَهُ تَنَزُّلُ

عَلَى مَنِ اعْتَادَ فَلَا يُبَدَّلُ

1207 -

وَذَا فِي الأَيْمَانِ كَثِيرًا يَجْرِي

وَفِي الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ يَسْرِي

1208 -

أَوْ بِأُمُورٍ صَحَّ أَنْ تَكُونَا

خَارِجَةً عَنِ الْمُكَلَّفِينَا

1209 -

مِثْلَ الْبُلُوغِ فَلَهُ اعْتِبَارُ

بِعَادَةِ النَّاسِ الَّتِي تُخْتَارُ

1210 -

مِنِ احْتِلَامٍ أَوْ مَحِيضٍ حُقِّقَا

أَوْ مِنْ بُلُوغِ سِنِّ ذَاكَ مُطْلَقَا

1211 -

وَمِثْلَ ذَاكَ الْحَيْضِ بَعْدَمَا ظَهَرْ

إِمَّا بِعَادَاتِ النِّسَاءِ يُعْتَبَرْ

وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر أو كان مشتركا فاختص وما أشبه ذلك. هذا ولما كان العرف الجاري هنا هو المعلمة المهتدى بها في هذا الشأن فإن "الحكم" الشرعي "في" الذي "هذا" حاله من الكلام "له تنزل" وتخريج "على" وفق ما اعتيد فيه بالنسبة إلى "من اعتاد" استعماله في معنى معين هو عرفه الغالب عنده وهذا الحكم الشرعي ماض مستقر في هذا المقام "فلا يبدل" أو يغير.

"وذا" أي هذا الأمر والمعنى تجده "في الأيمان" جمع يمين وهي الحلف "كثيرا يجري" ويقع "و" كذلك يمضي "في العقود" كالبيوع والأنكحة "والطلاق" كناية وتصريحا "يسري" فيها.

وتفاصيل ذلك في كتب الفقه.

"أو "يكون "بأمور صح أن تكون" أمورا "خارجة عن" تصرفات "المكلفينا" إذ مرجعها إلى اختلاف طبائع الأشياء والخلق وذلك "مثل البلوغ" الذي هو شرط من شروط التكليف فإنه "له اعتبار بـ" حسب "عادة الناس التي تختار" عندهم في ذلك "من" حصول "احتلام" أو بلوغ سنه "أو "حصول "محيض" أي حيض "حققا" أي ثابت في واقع الأمر "أو من بلوغ سن ذاك" الاحتلام والحيض "مطلقا" سواء تعلق الأمر بالحيض أو بالاحتلام. فرب قوم لا يثبت عندهم البلوغ إلا بحصول ما ذكر من الاحتلام والحيض وآخرين يثبت ذلك في عرفهم بالسن الذي يحصل فيه ذلك عندهم عادة سواء حصل أولم يحصل.

"ومثل ذاك" الذي ذكر من البلوغ "الحيض بعد ما" يكون قد "ظهر" فإنه "إما بعادات النساء يعتبر" أمره ثبوتا وعدما مطلقا من غير اعتبار السن أو القربى.

ص: 198

1212 -

أَوْ عَادَةِ اللِّداتِ أَوْ عَادَاتِ

ذَوَاتِ قُرْبَى أَوِ الأُمَّهَاتِ

1213 -

فَالشَّرْعُ فِي ذَلِكَ الانْتِقَالِ

لِمُقْتَضى الْعَادَةِ فِيهِمْ تَالِ

1214 -

أَوْ بِأُمُورٍ تَخْرِقُ الْعَادَاتِ

فَالْحُكْمُ فِي الْشَّرْعِ عَلَيْهَا يَاتِي

1213 -

بِشَرْطِ أَنْ تَصِيرَ تِلْكَ الزَّائِلَهْ

مَعْدُومَةً مِن أَجْلِ هَاذِي الْحَاصِلَهْ

" أو عادة اللِّداتِ" - جمع لِدة - بكسر اللام وبالدال المهملة، وهي الترب المساوية في السن يقال هذا أو هذه لدة إذا كانت ولدت معها أو معه والتساوي في السن قد يكون موجبا للتساوي في عادة الحيض وقدره، فاعتبر ذلك في هذا الشأن عند من يعتبره.

وليس الاعتبار بذلك كله أمرا لازما فإنه يعتبر به "أو" يعتبر بما عليه "عادات ذوات قربى" أي قرابة من هذه الفتاة والمرأة التي يراد معرفة ما يكون عليه جريان حالها في هذا لشأن "أو" بعادات "الأمهات" أي أمهاتها أمها وجداتها فإنه قد ينظر في عادتهن لمعرفة حالها المذكور. فإذا تقرر هذا وحصل "فالشرع" يعني فالحكم الشرعي "في" حال "ذلك الانتقال" المذكور وهو الانتقال إلى حالة البلوغ، هو حكم غير ثابت لأنه "لمقتضى العادة" الجاري أمرها "فيهم" أي في هؤلاء المتقدم ذكرهم من أصحاب العادة المذكورة "قال" أي تابع فيحكم لهم شرعا بمقتضى العادة في ذلك الانتقال. وهذا كله مما يعد اختلاف العادة به أمرا يشترك فيه الناس، وبذلك يكون أمرا عاديا.

وقد يكون تغيير العادات بالكرامات، "أو بأمور تخرق العادات" كما يحدث لبعض الناس الذين تصير لهم خوارق العادات عادة فمن كان على هذا الحال فإن الحكم يتنزل عليه في الشرع عليها أي على مقتضى هذه العادة الجارية له المطردة الدائمة و"يأتي" وعلى وفقه ويمضي، لكن "بشرط أن تصير تلك" العادة الأولى "الزائلة معدومة من أجل" يعني بسبب هذي العادة الخارقة "الحاصلة" له بحيث لا ترجع - تلك العادة الأولى - إلا بخارقة بالنسبة إليه، وبذلك يكون كالبائل أو المتغوط من جرح حدث له حتى صار المخرج المعتاد في الناس بالنسبة إليه في حكم العدم، فإنه إن لم يصر كذلك فالحكم للعادة العامة.

وقد يكون الاختلاف من أوجه غير هذه، ومع هذا فالمعتبر فيها من جهة الشرع نفس تلك العادات، وعليها تتنزل أحكامه.

ص: 199

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1216 -

وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْخِطَابِ مَا ذُكِرْ

مِنِ اخْتِلَافِ حُكْمِ مَا قَدِ اعْتُبِرْ

1217 -

وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَادَهْ

إِنْ فَارَقَتْ حَالَتَهَا الْمُعْتَادَهْ

1218 -

كَانَ رُجُوعُهَا لِأصْلٍ شَرْعِي

يَقْضِي عَلَيْهَا بِقَضَاءِ الشَّرْعِ

" فصل"

"و" اعلم بأن الخطاب الشرعي لا يختلف ولا يتبدل بل هو أزلي دائم، وبذلك فإنه "ليس في أصل الخطاب" الشرعي "ما ذكر من اختلاف حكم ما قد اعتبر" من هذه العوائد فليس معنى جريان الحكم الشرعي على وفق هذه العوائد أنها هي التي أوجبت هذا الحكم وجلبته بذاتها "وإنما معناه" هو "أن العادة إن فارقت حالتها" الأولى "المعتادة" الواقعة تحت حكم شرعي معين "كان رجوعها لأصل" شرعي آخر ناسب حالها جريان حكمه عليها فصار "يقضي عليها بـ" ما دل عليه من "قضاء الشرع" وحكمه. كما في البلوغ مثلا فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو القرائن - الشواهد - وكذلك الحكم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضا بناء على نسخ تلك العادة ليس باختلاف في الحكم، بل الحكم أن الذي ترجح جانبه بمعهود أو أصل فالقول قوله بإطلاق، لأنه مدعى عليه، وهكذا سائر الأمثلة فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق والله أعلم

(1)

.

خلاصة القول: أن الأحكام الشرعية ثابتة قديمة أزلية.

وأفعال المكلفين تقع تحتها، فتجري تحتها مقتضياتها، وتقع تحتها بحسب أحوالها وصفاتها فأي صفة جرت عليها تلك الأفعال فإنها تجري الأحكام الشرعية المناسبة لها عليها.

(1)

الموافقات/ ج 2/ ص 218.

ص: 200

"‌

‌ المسألة الخامسة عشرة

"

1219 -

وَمَا مِنَ الْعَادَاتِ جَارٍ يُعْتَبَرْ

شَرْعًا ضَرُورَةٍ بِحَيْث مَا صَدَرْ

1220 -

أَمَّا الذِي قُرِّرَ بِالدَّلِيلِ

شَرْعًا فَظَاهِرٌ عَلَى التَّفْصِيلِ

1221 -

وَغَيْر يَلْزَمُ فِيهِ مَا ذكِرْ

لِيَسْتَقِيمَ حُكْمُ مَا فِيهِ اعْتَبْر

" المسألة الخامسة عشرة"

في بيان أن العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعا، كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية. "و" هكذا فكل "ما" هو "من العادات جار" ماض أمره ومقتضاه في أحوال الناس وتصرفاتهم فإنه "يعتبر شرعا" على الوجه الذي تقدم بيانه في المسألة السابقة "ضرورة" لتوقف انتظام أمور الدين والدنيا على ذلك الاعتبار "بحيث ما" أي في كل محل "صدر" يعني وقع ذلك الأمر العادي الجاري سواء ولمحع في الأمور العبادية أو غيرها.

سواء كان شرعيا أو غير شرعي أي سواء كان مقررا بالدليل الشرعي أمرا كان أو نهيا، أو إذنا أم لا. فكل ذلك يعتبر شرعا "أما" الشرعي وهو "الذي قرر" وثبت "بالدليل شرعا فـ" أمره "ظاهر" وقد تقدم بيان ذلك "على التفصيل" في المسألة السابقة.

"و" أما الأمر العادي "غيره" أي غير الشرعي فإنه "يلزم" ويجب "فيه ما ذكر" من الاعتبار الشرعي له، وذلك "لـ" أجل أن "يستقيم" أي يحصل ويجري على اطراد "حكم" ومقتضى "ما" قصد "فيه" و"اعتبر" شرعا. فالعادة جرت بأن الزجر سبب الانكفاف عن المخالفة كقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فلو لم تعتبر العادة شرعا لم يتحتم القصاص ولم يشرع إذ قد يكون شرع لغير فائدة، وذلك مردود بقوله - تعالى -:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وكذلك البذر سبب لنبات الزرع والنكاح سبب للنسل، والتجارة سبب لنماء المال عادة كقوله تعالى:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وما أشبه ذلك مما يدل على وقوع المسببات عن أسبابها دائما فلو لم تكن المسببات مقصودة للشارع في مشروعية الأسباب لكان خلافا للدليل القاطع فكان ما أدى إليه باطلا ووجه ثان وهو ما تقدم في مسألة العلم بالعاديات فإنه جار هاهنا ووجه ثالث وهو أنه لما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح لزم القطع

ص: 201

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1222 -

وَخَرْقُ عَادَةٍ عَلَى اسْتِقْرَارِهَا

لَيْسَ مِنَ الْقَادِحِ فِي اعْتِبَارِهَا

1223 -

فَمَا يُرَى مُنْخَرِقًا لِعُذْرِ

فَالْحُكْمُ لِلرُّخْصَةِ فِيهِ يَجْرِي

1224 -

وَمَا يُرَى مُنْخَرِقًا لِعَادَهْ

دَائِمَةً فَالْحُكْمُ كالْمُعْتَادَهْ

بأنه لا بد من اعتباره العوائد لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد دل على جريان المصالح على ذلك لأن أصل التشريع سبب المصالح والتشريع دائم كما تقدم فالمصالح كذلك وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع ووجه رابع وهو أن العوائد لو لم تعتبر لأدى إلى تكليف ما لا يطاق وهو غير جائز أو غير واقع وذلك أن الخطاب إما أن يعتبر فيه العلم والقدرة على المكلف به وما أشبه ذلك من العاديات المعتبرة في توجه التكليف أو لا فإن اعتبر فهو ما أردنا وإن لم يعتبر فمعنى ذلك أن التكليف متوجه على العالم والقادر وعلى غحِر العالم والقادر وعلى من له مانع ومن لا مانع له وذلك عين تكليف ما لا يطاق والأدلة على هذا المعنى واضحة كثيرة

(1)

.

"فصل"

في أن العوائد إذا كانت معتبرة شرعا فإنه لا يقدح في اعتبارها انخراقها "و" بذلك فإنه إذا حصل "خرق عادة" ما ووقع بذلك خروجها "على استقرارها" وجريانها فإن ذلك "ليس من القادح في اعتبارها" والعمل بمقتضاها، وإنما ينظر في شأن انخراقها وصورته ليعلم بذلك حكمها ذلك أن معنى انخراقها أنها تزول بالنسبة لأمر جزئي فيخلفها في الموضع إما حالة من حالات الأعذار المعتادة في الناس وأما سواها وبذلك الحكم الشرعي الجاري فيها مختلف باختلاف ذلك فما "للرخصة" إذ هي حكمه الذي "فيه يجري" شرعا وقد تقدم بيان ذلك في المسألة السابعة من النوع الثالث.

"و" أما "ما يرى" ويبصر "منخرقا" لغير عذر من الأعذار المذكورة بل "لعادة" أخرى "دائمة" - وقد تقدم التمثيل لذلك بانسداد مسلكي البول والغائط وحلول مسلكين آخرين محلهما وما كان كذلك - "فالحكم" فيه هو أن تلك العادة الطارئة "كالمعتادة" فتنزل

(1)

الموافقات 2/ 216.

ص: 202

1223 -

أَوْ عَادَةٍ لَا تَخْرِمُ الأُولَى فَذَا

إِلَى التَّرَخُّصَاتِ يُبْدِي مَأْخَذَا

1226 -

أَوْ غَيْرِ مُعْتَادٍ فَهَذَا إِنْ وَقَعْ

يُخَالِفُ الشَّرْعَ فَغَيْرُ مُتَّبَعْ

1227 -

لَكِنَّهُ مَهْمَا أَتَى عَنْ مُعْتَبِرْ

لَمْ يَطَّرِحْ رَأْسًا وَأَمْعِنِ النَّظَرْ

منزلتها في الاعتبار الشرعي لها.

هذا إن انخرقت لعادة دائمة مزيلة للأولى، وأما إن انخرقت لحالة "أو عادة لا تخرم" العادة "الأولى" ولا تزيلها "فذا" أي هذا المصنف الظاهر فيه عدم اعتباره اعتبار الحالة المتقدمة وبذلك فرده "إلى" ما يجري فيه حكم "الترخصات" هو الذي "يبدي" ـه حاله "مأخذا" فقهيا ويتصور ذلك فيمن يجمع بين العادة الأصلية والعادة الطارئة في البول ونحوه. وأما إن انخرقت العادة الأصلية وتركت لأمر مخالف لمقتضيات طبيعة الناس "أو" لأمر "غير معتاد" كما في قصة ربعي بن حراش حين طلب الحجاج ابنه ليقتله، فسأله الحجاج عن ابنه فأخبره والأب عارف بما يراد من ابنه.

وقصة أبي حمزة الخراساني حين وقع في البئر ثم سد رأسها ولم يستغث. وحديث أبي زيد مع خديمه لما حضرهما شقيق البلخي وأبو تراب النخشبي فقالا للخديم كل معنا فقال أنا صائم فقال أبو تراب كل ولك أجر صوم شهر فأبى فقال شقيق كل ولك أجر صوم سنة فأبى فقال أبو زيد دعوا من سقط من عين الله فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة وقطعت يده ومنه دخول البرية بلا رائد ودخول الأرض المسبعة وكلاهما من الإلقاء باليد إلى التهلكة

(1)

.

وما أشبه ذلك "فهذا" حكمه أنه "إن وقع" فإنه "يخالف" أحكام "الشرع" وبذلك "فـ" هو سبيل "غير متبع" لأنه على خلاف ما ثبت بناء الشريعة عليه من العمل بالعادات الشرعية والعادية على الوجه الذي تقدم بيانه "لكنه" لا يصار في هذا الحكم إلى الإطلاق والشمول بل "مهما" أي إن "أتى" مثل ذاك "عن" شخص "معتبر" لعلمه ودينه وورعه وفضله وصلاحه فإنه "لم يطرح" ويسقط من الاعتبار "رأسا" - جملة وتفصيلا - فلا يعتد به على كل حال، وإنما ينظر فيه على أنه جار على ما يسوغ شرعا، وهذا يحتاج في توجهه إلى إمعان النظر، فتأمل "وأمعن النظر" وعندما ينظر في هذا الأمر بهذا الاعتبار.

(1)

الموافقات 2/ 220.

ص: 203

1228 -

فَإِنْ يَكُ الْمَبْنَى لِذَاكَ الآتِي

لَهُ غَرَابَة لَدَى الْعَادَاتِ

1229 -

أُلْحِقَ حُكْمُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ

بِحُكْمِهَا بِمُقْتَضَى التَّأْوِيلِ

1230 -

كَالْمُتَحَرِّي الْصِّدْقَ فِي الإِخْبَارِ

مَعْ ضَرَرٍ وَالأمْرِ بِالإِفْطَارِ

فإنه لا يخلو أن يكون ما بني عليه غريبا من جنس الأمر العادي أو لا يكون من جنسه "فإن يك المبنى" أي الأساس "لذاك الآتي" الأمر غير العادي الذي انخرق به الأمر العادي هو أمر "له غرابة لدى" أي في مجاري "العادات" لكنه من جنسها المعتبر شرعا، "ألحق حكمه" - جواب أن - "على التفصيل" والبيان السابق ذكره "بحكمها" يعني بجنس حكمها - أي بجنس أحكام العادات الأصلية، ويحصل ذلك "بمقتضى" وحكم "التأويل" المفضي إلى ظهور كون تلك الأمور غير العادية مثل الأمور العادية في واقع الحال وحقيقة الأمر، ويتجلى ذلك في قصة ربعي بن حراش "كالمتحري" المتوخي القاصد "الصدق في" الذي ينطق به من "الإخبار" وإن كان ذلك يحصل "مع ضرر" وأذى له. قال الشاطبي:"فإنه حكي عنه أنه لم يكذب قط فلذلك سأله الحجاج عن ابنه والصدق من عزائم العلم وإنما جواز الكذب رخصة يجوز أن لا يعمل بمقتضاها بل هو أعظم أجرا كما في النطق بكلمة الكفر وهي رأس الكذب وقد قال الله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119] بعدما أخبر به من قصة الثلاثة الذين خلفوا فمدحهم الله بالتزام الصدق في موطن هو مظنة للرخصة ولكن أحمدوا أمرهم في طريق الصدق بناء على أن الأمن في طريق المخافة مرجو وقد قيل عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك وهو أصل صحيح"

(1)

.

"و" كذلك شأن "الأمر" الصادر من يزيد البسطامي لخادمه "بالإفطار" المتقدم ذكره فإنه يمكن أن يكون مبنيا على رأي من يرى المتطوع أمير نفسه وهم الأكثر فتصير إباية التلميذ عن الإجابة عنادا واتباعا للهوى ومثل هذا مخوف العاقبة لا سيما بالنسبة إلى موافقة من شهر فضله وولايته وكذلك أمر عمر بترك مانع الزكاة لعله كان نوعا من الاجتهاد إذ عامله معاملة المغفلين المطرحين في قواعد الدين ليزدجر بنفسه وينتهي عما

(1)

الموافقات ج 2 ص 221.

ص: 204

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1231 -

وَإِنْ يَكُنْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْعَادَهْ

مِثْلُ الْمُكَاشَفَاتِ بِالشَّهَادَهْ

1232 -

فَظَاهِرٌ رَدُّهُمُ لِلظَّاهِرِ

الْمُقْتَضَى بِالنَّهْيِ وَالأَوَامِرِ

هم به وكذلك وقع فإنه راجع نفسه وأدى الزكاة الواجبة عليه لا أنه أراد تركه جملة بل ليزجره بذلك أو يختبر حاله حتى إذا أصر على الامتناع أقام عليه ما يقام على الممتنعين

(1)

.

"فصل"

هذا كله إذا كان ذلك الأمر من جنس العادات على الوجه المتقدم ذكره.

"و" أما "إن يكن" ما انخرقت به هذه العادة الأصلية "من غير جنس العادة" المعتبرة وذلك "مثل المكاشفات" فإنها أمر غير معدود من جنس العادات، وهو إن حصل "بالشهادة" على أمر أو شخص ما، فهل يعمل به بناء على أنه صار لصاحبه بمثابة العادة الجارية الأصلية المعتبرة، وإن خالف ما هو أصلي من العادات، لأنه في واقع الأمر صحيح، موافق للواقع؟

أو لا يعمل به بناء على أن ذلك مخالف لما بنيت عليه الشريعة من العمل بالعوائد الاصلية ورعاية المصالح المتقدم بيانها؟

الذي يطرد - بحسب ما ثبت في المسألة الثانية عشرة وما قبلها - أن لا يكون حكم من هم على هذا الحال مختصًا، بحيث يقضى لهم بأنه يسوغ لهم بناء الأقضية والفتاوى على هذا الذي هم عليه من الكشف، ولا تركهم العمل بمقتضى عوائد الناس وبذلك "فـ" الحكم الذي هو "ظاهر" هو "ردهم لـ" لعمل با"لظاهر" العادي "المقتضى" والموجب "بالنهي" الشرعي "والأوامر" الشرعية، فما اقتضاه ذلك من العوائد الشرعية عمل به، وما لم يقتضه ترك وأهمل.

وبذلك يجب المصير إلى العمل بالبينات العادية في الأقضية والفتاوى، والاطلاع بالكشف على المغيبات في هذا الشأن أمر ملغي اعتباره، وإن حصل، ووقع فإنه لا

(1)

الموافقات ج 2 ص 221.

ص: 205

1233 -

وَمَا الْوُصُولُ لِلْمُغَيَّبَاتِ

بِمَانِعِ الْجَرْى مَعَ الْعَادَاتِ

1234 -

وَفِي رَسُولِ اللهِ وَهْوَ الْقُدْوَهْ

وَصَحْبِهِ لِلْمُهْتَدِينَ أُسْوَهْ

1235 -

إِذْ لَبِسَ الْمِغْفَرَ لِلتَّوَقِّي

مَعْ كَوْنِهِ الْمَعْصُومَ بَيْنَ الْخَلْقِ

1236 -

وَمُقْتَضَى حُكْمِ قَضِيَّةِ الْخَضِرْ .... أَنْ غَيْرُ شَرْعِنَا بِهِ قَدِ اعْتُبِرْ

يحكم بمقتضاه، بل يحكم بالبينات المذكورة، وإن عارضت ما حصل على سبيل المكاشفة، "وما" أي ليس "الوصول" والإدراك "للمغيبات بمانع الجري" والمضي "مع" مقتضيات "العادات" وموجباتها، لأن هذا السبيل - وهو العمل بمقتضى العادات - هو الذي بنيت عليه الشريعة ولم يستثن من ذلك صاحب كشف، ولا غيره.

"وفي رسول الله" صلى الله عليه وسلم "وهو القدوة" والعلم المهتدى به على كل حال، "و" كذلك في "صحبه للمهتدين" بهديه المقتفين لأثره "أسوة" - بضم الهمزة وكسرها - أي قدوة في هذا الشأن، فإنه عليه الصلاة والسلام كان مجريا أمره على مقتضى العوائد، "إذ" كان يأتي الأسباب العادية ومن ذلك أنه "لبس المِغفر" - بكسر الميم وسكون الغين وفتح الفاء بعدها راء - وهو زرد من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة في الحرب، - لبسه صلى الله عليه وسلم، في الحرب "للتوقّي" وللحفظ ولدرء ضرر ما قد يصيبه "مع كونه" عليه الصلاة والسلام "المعصوم" المحفوظ من الأذى والضرر "بين الخلق" لقوله - تعالى -:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ولا غاية وراء هذا ومع ذلك فإنه كان - عليه الصلاة - يتحصن ويتوقى بما به التحصن والتوقي عادة كالمغفر والدرع ولم يكن ذلك نزولا عن رتبته العليا إلى ما دونها، بل ما أتاه هو الأعلى.

"و" أما "مقتضى حكم" ومفاد "قضية" وقصة "الخضر" وهو الحكم بالعلم بالمغيبات فإنه يقرر على "أنْ" - بفتح الهمزة وسكون النون - "غير شرعنا به" يعنى فيه "قد اعتبر" ذلك وعمل به، وأما في شرعنا، فإنه غير معتبر، ولا معتد به، والدليل على ذلك أنه لا يجوز في هذه الملة لولي، ولا لغيره ممن ليس بنبي أن يقتل صبيا ما لم يبلغ الحلم، وإن علم أنه طبع كافرا، وإنه لا يؤمن أبدا، وإنه إن عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا، وإن أذن له من عالم الغيب في ذلك، لأن الشريعة قد قررت الأمر والنهي، وإنما الظاهر في تلك القصة أنها وقعت على مقتضى شريعة أخرى،

ص: 206

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1237 -

فَصحَّ فِي مُغَيَّبٍ إِن احْتَمَلْ

وَجْهًا مِنَ الشَّرْعِ فَقَدْ سَاغَ الْعَمَلْ

1238 -

وَمَا يُرَى مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ

بِكُلِّ وَجْهٍ فَحَرٍ بِالْمَنْعِ

"‌

‌ المسألة السادسة عشرة

"

1239 -

عَوَائِدُ الأَنَامِ فِي الْمَعْهُودِ

بِحَسَبِ الْوُقُوعِ فِي الْوُجُودِ

وعلى مقتضى عتاب موسى عليه السلام وإعلامه أن ثم علما آخر وقضايا أخرى لا يعلمها هو.

وبذلك يعلم أن قصة موسى لا تجرى حجة في العمل بغير ظواهر الشريعة، وأن الذي يجب المصير إليه العمل بهذه الظواهر في هذا الشأن.

"فصل"

"فصح" وتقرر "في" شأن كل أمر "مغيب" - بفتح الياء على وزن اسم المفعول - أنه على ضربين:

أحدهما أن يكون موافقا لوجه مشروع ثابت في الشرع.

ثانيهما: أن يكون مخالفا للشرع فلم يوافق أحكامه بحال. فالحكم في أمر مغيب أدرك بالمكاشفة أو نحوها أنه "إن احتمل" بالنظر الصحيح إليه "وجها من الشرع" أن يعمل به "فـ" إنه "قد ساغ" وجاز "العمل" به وقد تقدم بيانه في مجاري الحديث عن قصه ربعي بن حراش وما ذكر معها من قصص.

"و" أما "ما يرى" أي يبصر "مخالفا لـ" أحكام "الشرع بكل وجه" بحيث لا يتأتى تخريجه على أي وجه شرعي ثابت "فـ" هذا "حرٍ" أي جدير "بالمنع" من العمل به وترك الالتفات إليه.

"المسألة السادسة عشرة"

في بيان أن "عوائد الأنام" أي الخلق "في المعهود" المعروف بينهم "بحسب" واعتبار جهة "الوقوع" والحدوث "في الوجود" الخارجي والنفسي.

ص: 207

1240 -

ضَرْبَانِ مَا اسْتَمَرَّ فِي الأَنَامِ

وَالدَّهْرِ وَالأَمْصَارِ كَالْقِيَامِ

1241 -

فَذَاكَ مَحْكُومٌ بِمَا فِي الْحَالِ

مِنْهُ عَلَى الْمَاضِي وَالاسْتِقْبَالِ

1242 -

ثَانِيهِمَا مَا بِاخْتِلَافٍ يَأتِي

بِحَسَبِ الْجِهَاتِ وَالأوْقَاتِ

1243 -

كَهَيْئَةِ الْمَلْبُوسِ وَالْمَسْكُونِ

وَمَا كمِثْلِ شِدَّةٍ أَوْ لِينِ

1244 -

فَذَاكَ لَا يُقْضَى بِهِ لِمَنْ مَضَى

إِلَّا إِذَا الدَّلِيلُ ذَلِكَ اقْتَضَا

" ضربان" احدهما: "ما استمر" جريانه وعمّ "في الأنام" جميعهم فهو لا يختلف باختلاف الأزمنة والأعصار، فهو لا ينفك الناس عنه على مدى الزمان "والدهر" كما أنه لا يختلف باختلاف البلدان "والأمصار" - جمع مِصر - الكورة - وذلك "كالقيام"، والأكل والشرب، والفرح والحزن، والنوم واليقظة، والميل إلى الملائم، والنفور عن المنافر، وتناول الطيبات والمستلذات واجتناب المؤلمات والخبائث وما أشبه ذلك.

وما كان على هذه الصورة "فذاك محكوم بما" استقر "في" الزمان "الحال منه" من وصف "على" الزمان "الماضي""و" على الزمان المتصف بـ "الاستقبال" أي الزمان الآتي وذلك للقطع بأن مجاري سنة الله - تعالى - في خلقه على هذا السبيل وعلى سننه عموما كما تقدم، فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكوما به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقا، فكانت العادة وجودية أو شرعية.

"ثانيهما" أي الضربين هو "ما" أي الذي "باختلاف" وتغاير "يأتي" وذلك الاختلاف يحصل "بحسب الجهات" والبلدان "والأوقات" والأزمنة وبحسب الأحوال، وذلك "كهيئة الملبوس" فإن اللباس يختلف باختلاف البلدان والجهات والأوقات "و" كذلك "المسكون" من الديار والخيام وغيرها.

وكذلك ما يختلف باختلاف الطبائع التي عليها الناس كالبطء والسرعة في الأمور"وما" أشبه ذلك "كمثل شدّة" وحِدّة في الطباع "أو لِين" ويُسر فيها.

وهذا الضرب حكمه ليس كحكم الضرب الأول "فذاك" أي هذا الضرب "لا يقضى" أي لا يحكم "به" يعني بجريان ما هو عليه من حال "لمن مضى" من الخلق على وجه اللزوم والثبوت فلا يحكم بثبوت ذلك لأي شخص معين "إلا إذا" أفاد "الدليل" الخارجي "ذلك" و"اقتضا" ثبوته له. وكما لا يقضى به لمن مضى إذا قام الدليل على

ص: 208

1243 -

كَذَاكَ لَا يُقْضَى بِهِ فِي الْآتِي

وَالْحُكْمُ لِلدَّلِيلِ لَا الْعَادَاتِ

1246 -

وَتَسْتَوِي الْعَوَائِدُ الشَّرْعِيَّهْ

فِي مُقْتَضَى الضَّرْبَيْنِ وَالْعَادِيَّهْ

1247 -

وَرُبَّمَا بَدَا قِسْمُ الْمُشْكِلِ

يَجْذِبُهُ الثَّانِي كَجَذْبِ الأَوَّلِ

"‌

‌ المسألة السابعة عشرة

"

1248 -

تَعْظمُ طَاعَةٌ بِعُظْمِ الْمَصْلَحَهْ

وَالْإِثْمُ بِالْمَفْسَدَةِ الْمُسْتَوْضَحَهْ

ذلك "كذاك لا يقضى به" على الناس على سبيل التعيين واللزوم "في" ذا الزمان "الآتي" المستقبل إلا إذا قام الدليل على ذلك "و" بناء على هذا فإن "الحكم" في هذا الشأن إنما هو "للدليل" المقتضى لذاك "لا للعادات" لما يعتريها من عدم الاستقرار والانضباط "وتستوي العوائد الشرعية" وقد تقدم بيان المراد بها "في مقتضى" وحكم هذين "الضربين و "العادات الوجودية "والعادية" الجاري أمرها بين الخلق وقد تقدم بيان المقصود بها. "وربما بدا" أي ظهر بمقتضى واقع الحال والنظر العقلي قسم ثالث وهو "قسم" العادي "المشكل" حاله إذ "يجذبه" باعتبار حاله القسم "الثاني" جذبا "كجذب" القسم "الأول" له ويتصور ذلك في استصحاب عوائد الماضين وإجراء مقتضاه على الآخرين. وذلك كجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول أو غيره وضرب الدابة المستأجرة إذا حرنت في السير وغسل القميص الذي أستأجره للبسه مدة يحتاج فيه إلى ذلك. وذبح شاة الغير حفظا لماليتها على صاحبها. وغير ذلك من صنف هذه الأمثلة والله أعلم

(1)

.

"المسألة السابعة عشرة"

في بيان أن المفهوم من حال وضع الشريعة هو أن الطاعة ليست على درجة واحدة، بل انها تتفاوت درجتها، إذ قد "تعظم طاعة" ما - "بـ" اعتبار "عظم المصلحة" الناشئة عنها.

"و" كذا شأن "الإثم" فإنه يعظم "بـ" حسب عظم "المفسدة" الناشئة عنه "المستوضحة" - بفتح الضاد - لعله يعني بها الواضحة البينة. وهي لتتميم البيت لظهور

(1)

انظر: ابن القيم أعلام الموقعين/ فصل: الشرط العرفي كالشرط الشرعي/ وما قبله.

ص: 209

1249 -

إِذْ أَعْظَمُ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّهْ

فِي الْحِفْظِ لِلْمَقَاصِدِ الأَصْلِيَّهْ

1230 -

وَأَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ الْإِخْلَالُ

بِحُكْمِهَا وَالنَّقْصُ وَالإِبْطَالُ

1231 -

لَكِنْ كِلَا الضَّرْبَيْنِ مِنْهُ مَا يُرَى

أَصْلُ صَلَاحٍ أَوْ فَسَادٍ لِلْوَرَى

1232 -

وَمَا بِهِ الْكَمَالُ لِلْفَسَادِ

أَوِ الْكَمَالُ لِلصَّلَاحِ الْبَادِ

المعنى مع سقوطها.

وبذلك فإن أعظم الطاعات هو ما حفظ به ما جعل الشارع حفظه ضروريا "إذ أعظم المصالح الشرعية" إنما هو "في الحفظ للمقاصد" الشرعية "الأصلية" التي بنيت الشريعة على حفظها في الخلق، وهي المقاصد المتعلقة بحفظ الضروريات الخمس. "و" أما "أعظم المفاسد" فهو "الإخلال بحكمها" أي هذه الضروريات، وبمقتضاها، وحكمها الشرعي هو حفظها. والدليل على أن أعظم المفاسد هو ما ذكر وما جاء من الوعيد على الإخلال به كما في الكفر وقتل النفس، وما يرجع إليه، والزنى وشرب الخمر، وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد. "و" كذلك "النقص" لهذا الحفظ وتمامه على الوجه الشرعي المطلوب.

"و" كذالك "الإبطال" لها، وهو تأكيد لقول "الإخلال" لأن هذا يستلزم ذاك، فيكون من باب عطف العام على الخاص. "لاكن" يجب أن يعلم أن "كلا الضربين" المذكورين، وهما المصالح، والمفاسد، ليس على درجة واحدة، إذ "منه ما يرى" أي يبصر ويعلم أنه "أصل صلاح" للخلق "أو "يرى أنه أصل "فساد للورى" أي الناس بل للخلق. وذاك كإحياء النفس في المصالح، وقتلها في المفاسد.

"و" منه ما ليس كذلك لكنه هو "مما" أي الذي يحصل "به" أي بسبب فعله "الكمال للفساد" كالوسائل المفضية إلى الوقوع في الأفعال المخلة بحفظ تلك الضروريات - كالنظر إلى الاجنبية - "أو" يحصل به "الكمال للصلاح الباد" أي الظاهر قصد الشارع إليه وهو صلاح الخلق، ومن ذلك التماتل في القصاص، فإنه لا تدعو إليه ضرورة، ولا تظهر فيه شدة حاجة ولكنه تكميلي، وشكله في هذا الشأن الصلاة في الجماعة في الفرائض، والسنن، وصلاة الجمعة، وما أشبه، وقد تقدم أمثلة ذلك وبحث شأنه.

ص: 210

1253 -

وَكلُّهَا مُخْتَلَفُ الْمَرَاتِبِ

فَجَانِبٌ مُطَّرِحٌ لِجَانِبِ

1254 -

فَمَا مِنَ الطَّاعَاتِ فِي الْمَنَافِعْ

مُنْتِجَةٌ كُلِّيٌّ أَمْرٌ رَاجِعْ

1255 -

إِلَى الضَّرُورِيِّ مِنَ الْمَقَاصِدِ

عُدَّ مِنَ الأَرْكَانِ وَالْقَوَاعِدِ

1256 -

وَانْ تَكُنْ مُنْتِجَةُ الْجُزْئِيِّ

عُدَّتْ مِنَ التَّقَرُّبِ النَّفْلِيِّ

1257 -

وَجِهَةُ الْعِصْيَانِ فِي الْمَفَاسِدِ

يُنْتِجُ مَا يُخِلُّ بِالْمَقَاصدِ

1258 -

وَعُدَّ بِالْكُلِّيِّ فِي الْكَبَائِرِ

وَعُدَّ بِالْجُزْئِيِّ فِي الصَّغَائِرِ

" وكلها" يعنى وكل هذه الضروب "مختلفـ" ـة "المراتب" والدرجات فالضرب الأول الذي تقرر أنه الأصل في الصلاح أو الفساد على مراتب فإنا إذ نظرنا إليه وجدنا الدين أعظم الأشياء، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما. ثم النفس ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل، والمال. فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقي نفسه به، وللمرأة إذ خافت الموت ولم تجد من يطعمها إلا بذل بضعها جاز لها ذلك. وهكذا سائرها وبذلك "فـ" رعاية واعتبار "جانب" من هذه الضروريات "مطرح لـ" رعاية واعتبار "جانب" آخر على هذا الوجه الذي تقدم بيانه وهكذا الشأن في موجبات الفساد، فإنا إذ نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدنا المفسدة في العمل به على مراتب فليست مفسدة بيع المصالح في التوقي عن هذه الأمور وبناء على هذا "فـ" إنه يقرر ان "ما" أي الذي "من الطاعات" في شأن "المنافع منتجة" ومثمرة "كليا" وهو "امر راجع إلى" حفظ "الضروري من المقاصد" الشرعية "عد من الأركان والقواعد" التي بنيت عليها الشريعة، وذلك كالفرائض والواجبات، والمحرمات التي بها حفظ الضروريات الخمس. "و" أما "إن تكن" الطاعة "منتجة" ومثمر حفظ المقصد "الجزئي" كالمكملات التي تقدم بيانها في صدر هذا الكتاب كتاب المقاصد "عدت من التقرب النفلي" الذي هو في حقيقة الأمر مكمل للضروري الفرائض والواجبات.

"و" هذا التفصيل أيضا جار على "جهة العصيان في "شأن "المفاسد" والمضار فالذي "ينتج ما يخل" أي يخل ويذهب "بالمقاصد" الشرعية يجري فيه هذا الحكم "و" بذلك "عد" أي أخل "بـ" المقصد الشرعي "الكلي" كحفظ الدين، أو النفس من الذنوب و"في الكبائر" كالقتل والكفر "وعد" أي أخل "بـ" المقصد الشرعي "الجزئي" المكمل للكلي كتقبيل أجنبية أو النظر إليها "في" الذنوب "الصغائر" وفي تحديد الكبيرة

ص: 211

"‌

‌ المسألة الثامنة عشرة

"

1259 -

الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَةِ التَّعَبُّدُ

دُونَ الْتِفَاتٍ لِلْمَعَانِي يُقْصَدُ

1260 -

وَالأَصْلُ فِي الْعَادَاتِ أَنْ يُلْتَفَتَا

إِلَى الْمَعَانِي حَيْثُ مَا ذَاكَ أَتَى

1261 -

دَلِيلُهُ مَا جَاءَ فِي الْعِبَادَهْ

مِنْ أَوْجُهِ التَّحْدِيدِ لَا فِي الْعَادَهْ

1262 -

مَعْ أَنَّ الاسْتِقْرَاءَ ذَلِكَ اقْتَضَا

فِي الْجِهَتَيْنِ وَهْوَ أَمْر مُرْتَضَا

والصغيرة من الذنوب خلاف بين أهل العلم، وفي هذا يرجع إلى كتب الأصول - كجمع الجوامع - للإمام ابن السبكي رحمه الله ثم إن الكبيرة ليست في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد، ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا.

كما أن الجزيئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد، بل لكل منها مرتبة تليق بها

(1)

.

"المسألة الثامنة عشرة"

في بيان أن "الأصل في العبادة" هو "التعبد" وهو الالتزام بالمأمور به والوقوف عنده "دون التفات للمعاني" والعلل التي اقتضت كونها على ما هي عليها من هيئات، وأحوال "يقصد" بالنظر، والبحث. "والأصل في العادات" الشرعية كإزالة النجاسة وستر العورة والطواف بالبيت على العرى وما أشبه ذلك، وكذلك العادات الوجودية فإن الأصل "أن يلتفتا" وينظر "إلى المعاني" والعلل الشرعية فيها "حيث ما" أي في أي موضع "ذاك أتى" وورد. "دليله" أي دليل هذا الذي ذكر هو "ما جاء في العبادة من أوجه" وضروب "التحديد" والتقييد بأعداد معينة، - كعدد الركعات - وبأزمنة مخصوصة - كأوقات الصلوات، والحج، والصوم، - وبهيئات مخصوصة معينة وهذا كله "لا" يوجد مشروعا "في العادة" ومن تأمل الأمثلة المتقدم ذكرها أدرك ذلك. "مع أن الاستقراء" ويعتضد هذا الدليل بدليل أخر وهو أن الإستقراء قد دل على" ذلك" و"اقتضى" ثبوته "في الجهتين" جهة العبادة وجهة العادة "وهو" ما اقتضاه الإستقراء ودل عليه "أمر مرتضا" لإنه دليل قوي. ووجه دلالة الاستقراء على ذلك أنا وجدنا الطهارة - طهارة الحدث -

(1)

انظر الموافقات/ 2/ 288.

ص: 212

" فَصْلٌ"

1263 -

فَإِنْ أَتَى فِي الْعَادَةِ التَّعَبُّدُ

فَالنَّصُّ مَتْبُوعٌ بِحَيْثُ يُوجَدُ

1264 -

وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِلْعُقُولِ

فَمَا الْقِيَاسُ فِيهِ بِالْمَقْبُولِ

تتعدى محل موجبها، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات ووجدنا الموجبات فيها تتحد مع اختلاف الموجبات وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب وفي هيئة أخرى غير مطلوب وأن طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره وأن التيمم وليست فيه نظافة حسية يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر وهكذا سائر العبادات كالصوم والحج وغيرهما وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه وهذا المقدار لا يعطى علة خاصة يفهم منها حكم خاص إذ لو كان كذلك لم يحد لنا أمر مخصوص بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد ولكان المخالف لما حد غير ملوم إذ كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا وليس كذلك باتفاق فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود وأن غيره غير مقصود شرعا

(1)

.

وفي الأصل بسط في أدلة هذه المسألة وتوسع فليرجع إليه للاطلاع على ذلك.

‌فصل:

في بيان أن هذا الحكم في العوائد، إنما هو في العوائد التي لم يجر فيها التعبد، "فإن أتى" أي جاء شرعا "في" شأن "العادة" جريان "التعبد" ووقع حكمه فيها "فـ" إن المحكم في ذلك هو "النص" الشرعي، إذ هو الـ "متبوع" مقتضاه في ذلك "بحيث" أي في كل محل "يوجد" وذلك كطلب الصداق في النكاح، والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث، وعدد الأشهر في العدة الطلاقية والوفوية "و" ما أشبه ذلك مما "لا مجال فيه للعقول" في فهم مصالحها الجزئية - عللها الفقهية - حتى يقاس عليها غيرها، وبذلك لا يجري فيها القياس، "فما القياس فيه" أي في هذه العوائد المتعبد بها "بالمقبول" والصحيح.

(1)

الموافقات 2/ 228 - 229.

ص: 213

1265 -

وَعِلَّة التَّعَبُّدِ الْمَطْلُوبَهْ

حَاصِلُ الانْقِيَادِ لِلْمَثُوبَهْ

1266 -

وَلكَثِيرٍ مِنْهُ مَعْنىً بَادِ

لِلْفَهْمِ ضَاهَى مُقْتَضَاهُ الْعَادِي

قال الشاطبي: "فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك لتمييز النكاح عن السفاح وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت وأن العدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفا من اختلاط المياه ولكنها أمور جملية كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات وهذا المقدار لا يقضى بصحة القياس على الأصل فيها بحيث يقال إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلا لم تشترط تلك الشروط ومتى علم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر ولا ما أشبه ذلك فإن قيل وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يفهم منها مقصد الشارع على الخصوص أم لا"

(1)

.

فالجواب عن ذلك أن يقال: أن موجب "وعلة التعبد المطلوبة" من ذلك محددة في أمر، وهو ما يترتب على ذلك من "حاصل الانقياد" - فيه إضافة الصفة للموصوف - أي الانقياد الحاصل من ذلك "لـ" أجل تحصيل وإدراك "للمثوبة" أي الجزاء والثواب.

هذا - الانقياد - هو الأصل في الأمور المتعبد بها، من غير زيادة ولا نقصان. ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة قالت للسائلة:"أحرورية أنت" إنكارا عليها أن يسئل عن مثل هذا، إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة.

ثم قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"، وهذا يرجح التعبد على التعليل بالمشقة. ويجري في هذا السنن قول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع:"هي السنة يا ابن أخي" وهو كثير، ومعنى هذا أن لا علة "و" لكن "لكثير منه" أي مما ذكر من الأمور العاديات والعبادات "معنى" ومفهوم عام، وإن لم تجر في ذلك العلل والمعاني الخاصة، كما هو شأن العادات في الأصل، وهو معني ومفهوم "باد" ظاهر "للفهم" وقد "ضاهى مقتضاه" أي شابه الأمر "العادي" يجري أمره على التعليل.

(1)

الموافقات 2/ 234.

ص: 214

1267 -

وَذَاكَ ضَبْطُ أَوْجُهِ الْمَصَالِحِ

يُعَدُّ أَصْلًا بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ

1268 -

وَمَا يُرَى بِالانْضِبَاطِ لَا يَفِي

رُدَّ إِلَى أَمَانَةِ الْمُكَلَّفِ

1269 -

وَعَنْهُ قَدْ عُبِّرَ بِالسَّرَائِرْ

إِنْ كَانَ لَمْ يَرْجِعْ لِأَصْلٍ ظَاهِرْ

" وذاك" المعنى هو "ضبط أوجه" وسبل "المصالح" أي مصالح الخلق، إذ لو ترك الناس والنظر في هذا الشأن لانتشر ذلك النظر، ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة، وأسباب معلومة لا تتعدى، كالثمانين في القذف، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان، وخص قطع اليد بالكوع في السرقة وفي النصاب المعين، وجعل مغيب الحشفة حدا في أحكام كثيرة، وكذلك الأشهر والقروء في العدد، والنصاب والحول في الزكوات.

وهذا - الأمر - وهو القصد الشرعي إلى ضبط مصالح الخلق "يعد أصلا" ثابثا حكمه "بالدليل الواضح" البين وهو الاستقراء لأحوال هذه العوائد، وما يقتضيه كونها على هذه الحال من مصلحة، والواقع يشهد على هذا على وضوح.

هذا شأن ما يتأتى جريان هذا الأصل - وهو الضبط المذكور فيه.

"و" أما "ما يرى" أي يبصر ويعلم أنه "بـ" جريان "الانضباط" فيه "لا يفي" يعني لا يليق، وذلك لتعلقه بأسباب وموجبات وأحوال مختلفة أحكامها وشروط لا يطلع على ثبوتها في حقيقة الأمر إلا المكلف بها، فإنه قد "ردّ" أمره "إلى أمانة المكلف" فعليها الاعتماد في ذلك.

"و" هذا الذي يسمى بالأمانة هو الذي "عنه قد عبر بالسرائر" جمع سريرة، وهو في اللغة عمل السر من خير أو شر، - والمراد بها هنا - ما كُنّ وستر في ضمائر الخلق من مقاصد، ومعلومات.

وإنما كان هذا المصنف من التكاليف على هذه الصورة "إن كان" يعني لأجل كونه "لم يرجع" بناؤه "لأصل" شرعي، كسبب عام أو مقدار معلوم "ظاهر" كظهور الأسباب والمقادير السابق ذكرها فيما هو منضبط.

ص: 215

1270 -

مُعَيَّنٍ كَالصَّوْمِ وَالطَّهَارَهْ

فَقَدْ يَظُنُّ الشّرعُ ذَا إِشارَهْ

1271 -

لَهُ وَذَا الْمَعْنَى لَهُ مُشِيرَهْ

قَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ الشَّهِيرَهْ

1272 -

لَكِنِ إِنْ مَضَى بِهِ أَنْظَارُ

وَكُلُّ مَلْحَظٍ لَهُ اعْتِبَارُ

1273 -

فَنَاظِرٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَشِرَهْ

وُجُوهُهُ فَبِالنُّصُوصِ اعْتَبَرَهْ

" معين" معلوم بعينه في الخارج. وذلك الذي لا يجري فيه الانضباط المذكور "كالصوم" فإن الإتيان به موكول إلى أمانة المكلف، "و" كذلك "الطهارة" فإنه لا علامة ظاهرة تدل على ثبوتها حقيقة في واقع الأمر، وإنما علم ذلك عند المكلف بها، فهو وحده المطلع على ثبوتها، فهي ليست كالأمور التي عليها علامة تدل على ثبوت حكمها كالإحصان في الرجم وحلول الحول وملك النصاب في الزكاة. ومثل الصوم والطهارة في هذا الحيض والطهر وما أشبه ذلك.

"فـ" هذا المعنى - وهو ضبط وجوه المصالح بما ذكر خشية الانتشار على الوجه المذكور - مما "قد يظن" كون "الشرع ذا" صاحب "إشارة" يعني إلتفاتا للقصد "له" أخذا من واقع حال هذه الأمور العادية والعبادة التي ضبطت فيها مصالح الخلق على الوجه المذكور. "وذا" أي هذا "المعنى" المذكور وهو ضبط مصالح الخلق على سبيل يدرء به انتشار الانظار، هو الذي تكون "له مشيرة قاعدة" سد "الذرائع الشهيرة" في علم الفقه، والقواعد الفقهية. ومدار هذه القاعدة على منع الوسائل التي قد تؤدي وتفضي إلى الوقوع فيما نهي عنه شرعا. ووجه إشارة أصل هذه القاعدة إلى ما ذكر هو أنه جار باعتبار حاله على هذا الضبط للمصالح، ومنع انتشار النظر في البحث عن طرق تحصيلها من غير اهتداء بمعلمة شرعية ترشد إليها.

وقاعدة سد الذرائع قاعدة - أصل - متفق على العمل بها في الجملة. "لكن إن مضى" وجرى "به" يعني فيه أي - في هذا الأصل "أنظار" أهل العلم "وكل ملحظ" أي نظر من أنظار هؤلاء العلماء "له اعتبار" في الميزان الفقهي، وبه اعتداد فيه. وقوله:"وكل ملحظ له اعتبار" جملة معترضة بين جملة الشرط وجوابه، تقديره فإن أهل العلم يختلفون في شأنه "فـ" إن من أهل العلم من هو "ناظر" ومعتبر"لكونه" أصلا "منتشرة وجوهه" وما يجري فيه من جزئيات، إذا عمل به، مع أن كثيرا من التكليفات ثبت كونها موكولة إلى أمانة المكلف، وبذلك "فـ" إنه لا يعتبر منه إلا ما ورد به النص الشرعي، فما ثبت منه "بالنصوص" الشرعية "اعتبره" كمنع

ص: 216

1274 -

وَنَاظِرٌ لِكَوْنِهِ مُنْضَبِطَا

لِمُقْتَضَى كلِّيَّةٍ مُرْتَبِطَا

1275 -

فَيَجْرِي الالْتِفَاتُ لِلْمَعَانِي

فِي شَأْنِه بِحَسَبِ الإِمْكَانِ

1276 -

وَثَالِث لَهُ تَوَسُّطُ النَّظَرْ

فَسَدَّ بِالْحُكَّامِ كُلَّ مَا ظَهَرْ

1277 -

وَرَدَّ مِنْهُ غَيْرِ مَا اسْتُبِينَا

إِلَى أَمَانَاتِ المُكَلَّفِينَا

سب الصنم، وسب والدي الخصم، وما سواه، لا يلتفت إليه.

"و" منهم من هو "ناظر" ومعتبر "لكونه" أصلا ثابتا شرعا "منضبطا" أي له ضوابط قريبة المأخذ والإدراك، ولكونه "لمقتضى" يعني بمقتضى وحكم "كلية" الملتفت إليه شرعا "مرتبطا" فعليه مستنده. وبذلك "فـ" إنه "يجري الالتفات" والاعتبار "للمعاني" الجارية "في شأنه" بحيث يعمل به في مجاريها المظنونة "بحسب" وقدر "الإمكان". وقد ثبت أن الشارع منع من أشياء من جهة جرها إلى منهى عنه، والتوسل بها إليه، وهو أصل مقطوع به على الجملة، وقد اعتبره السلف الصالح، فلا بد من اعتباره.

وعلى هذا المالكية، فإن هذا الأصل من أصولهم المعتبرة، كما هو معلوم.

"و" من أهل العلم طرف "ثالث" في هذا الشأن، فلم يكن مقتصرا في شأنه على ما وردت به النصوص، كما لم يكن آخذا به على هذا الذي عليه المالكية في الأخذ به، بل "له" في شأنه "توسط" بين المذهبين المذكورين في "النظر" يعني في نظره إليه واعتباره إياه، فأعمل هذا الأصل في الأمور الظاهرة التي تدل عليها العوائد، "فسد" وأغلق "بـ" تسليط "الحكام" على العمل بذلك "كل ما ظهر" من الوسائل أنه يفضي إلى الوقوع في المنهي عنه، ويعلم ذلك بالأعراف والعوائد الخاصة، والعامة الظاهرة كما تقدم في سب الصنم ونحوه.

"ورد" وألغي "منه" من ذلك الذي قد يتوسل به إلى منهى عنه "غير" أي الذي "ما استبينا" أي ما عرف حاله لأنه أمر باطني، وقصد خفي "إلى أمانات المكلفينا" وما في قلبه من الخير، وسريرته. وبذلك فهذه المقاصد وإن كانت مما نهي عنه فإنه لا يسعى إلى سدها، وإنما يوكل فيها المكلف إلى دينه. وهذا المصنف يجري فيه المالكية حكم هذا الأصل.

ومن أمثلة ذلك منع بيوع الأجلال، لأنه قد يقصد بها الجمع بين السلف والبيع.

ص: 217

"‌

‌ المسألة التاسعة عشرة

"

1278 -

ثمَّ الذِي يُعْتَبَرُ التَّعَبُّد

فِيهِ فَلَا تَفْرِيعَ فِيهِ يُوجَدُ

1279 -

وَمَا بِهِ الْقَصْدُ إِلَى الْمَعْنَى ظَهَرْ

لَا بُدَّ مِنْ تَعَبُّدٍ أنْ يُعْتَبَرْ

" المسألة التاسعة عشرة"

في بيان أن كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فإنه لا تفريع فيه، وكل ما ثبت فيه من اعتبار المعاني دون التعبد، فإنه لا بد فيه من اعتبار التعبد بوجه لا يسقط فيه اعتبار المعاني. وفي ذلك وبيانه يقول المصنف:

"ثم" إن "الذي" من الأمور المشروعة "يعتبر التعبد" وهو تمحضه للعبادة من غير علم بموجب ما هو عليه من هيئة أو حال "فيه" يجب إجراء النظر فيه بمقتضى هذا الأمر المعتبر فيه، وبذلك "فـ" إنه "لا تفريع" يعني لا قياس "فيه" يعني عليه "يوجد" شرعا فالأمور التعبدية توقيفية، فهي لا مجال فيها للأقيسة وإنشاء أمور أخرى تلحق بها، كإنشاء عبادة على هيئة معينة بقياسها على عبادة أخرى مشروعة.

"و" أما "ما" يكون "به القصد إلى المعنى" والعلة المعينة أمر قد "ظهر" وبان فإنه "لا بد" أن يلحظ فيه "من تعبد" و"أن يعتبر"، فإن كل حكم شرعي فيه حق لله - تعالى - وإن كان جاريا في العوائد.

ويدل على ذلك أوجه منها: أحدها: أن معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف عرف المعنى الذي لأجله شرع الحكم أولم يعرفه بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم فإنه عبد مكلف فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء بخلاف المصلحة فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين وإذا كان كذلك فالتعبد لازم لا خيرة فيه واعتبار المصلحة فيه الخيرة وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلا وإذا وقع الأمر والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا فإنه محال فالتعبد بالاقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح وأيضا فإنه لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقليين فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علة الأمر بالعقل يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر لأن مخالفته قبيحة ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا فإن تحصيلها واجب عقلا

ص: 218

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالفرض فالأمران على مذهبهم لازمان ولا يقول أحد منهم إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح بل هو قبيح على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد. والثاني: أنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي ولم نعلم حصر المصلحة والحكم بمقتضاها في ذلك الذي ظهر وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا إذ هو قطع على غيب بلا دليل وذلك غير جائز فقد بقي لنا إمكان حكمة أخرى شرع لها الحكم فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد

(1)

. والوجه الثالث: أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين أحدهما ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإجماع والنص والإشارة والسبر والمناسبة وغيرها وهذا القسم هو الظاهر الذي نعلل به ونقول إن شرعية الأحكام لأجله والثاني ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة ولا يطلع عليه إلا بالوحي كالأحكام التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو وقذف الرعب والقحط وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي

(2)

.

الرابع: أن السائل إذا قال للحاكم لما لم تحكم بين الناس وأنت غضبان؟ فأجاب بأني نهيت عن ذلك كان مصيبا كما أنه إذا قال لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم كان مصيبا أيضا والأول جواب التعبد المحض والثاني جواب الالتفات إلى المعنى وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما جاز القصد إلى التعبد وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا وإلا لم يصح توجه القصد إلى ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد فلما صح القصد مطلقا صح المقصود له مطلقا وذلك جهة التعبد وهو المطلوب

(3)

.

(1)

الموافقات/ 2/ ص 237/ 238/ 239.

(2)

الموافقات/ 2/ ص 238.

(3)

الموافقات/ 2/ ص 238.

ص: 219

1280 -

وَكُلُّ مَا مَعْنَاهُ لَيْسَ يُعْقَلُ

فَهْوَ التَّعَبُّدُ الذِي يُسْتَعْمَلُ

1281 -

وَحَيْثُ صَحَّ هَذَا الأَصْلُ الْمَرْعِي

إِنِ اعْتَبَرْتَ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِي

1282 -

وَجَدْتَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ اللهِ

مِنِ امْتِثَالِ الأمْرِ وَالنَّوَاهِي

1283 -

وَفِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ إِمَّا عَاجِلَا

فِي هَذِهِ الدَّارِ وَإِمَّا آجِلَا

والخامس: أن تكون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحة وإلا فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح فإذا كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا (*).

"و كل ما" فعل مشروع و"معناه" المقصود منه شرعا "ليس يعقل" أي ليس يدرك من جهة العقل وإنما يؤتى ويفعل امتثالا للخطاب الشرعي الوارد فيه "فـ" ذاك "هو التعبد" المقصود هنا، و"الذي يستعمل" ويعبر به في كتب الفقه، والأصول. "وحيث صح" في "هذ الأصل المرعى" المعتبر هنا، وتقرر ثبوته وذلك الأصل هو أن التعبد جار في جميع مواطن الأحكام الشرعية فإنه تتبين به أمور، منها: أنك "ان اعتبرت كل" يعني "حكم شرعي" سواء كان في العبادات أو غيرها" وجدت أن فيه حق الله" تعالى وهو جهة التعبد، فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، وعبادته تحصل بما تتحقق به هذه العبادة "من امتثال الأمر" أي أمره - سبحانه - "و" باجتناب ما وقع تحت "النواهي" الآتية منه عز وجل. فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا، فإن ذلك ليس بإطلاق، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية. "و" كما أن في كل حكم شرعي حق لله - تعالى - كذلك "فيه حق العبد" وهو "إما" أن يكون حقا "عاجلا في هذه الدار" الدنيا "وإما" أن يكون حقا "آجلا" في الدار الآخرة بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: "حق

(*) الموافقات/ 2/ ص 239.

ص: 220

1284 -

وَالأصْلُ حَقُّ اللهِ فِي الْعِبَادَهْ

وَأَنَّ حَقَّ عَبْدِهِ فِي الْعَادَهْ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1285 -

تَنْقَسِمُ الأفْعَالُ فِي الْحُقُوقِ

بِنِسْبَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ

1286 -

مَا هُوَ حَقُّ اللهِ خَالِصًا يُرَى

مِثْلَ الْعِبَادَاتِ فَذَا فِيهِ انْظرَا

1287 -

إِنْ طَابَقَ الْفِعْلُ بِهِ الأمْرَ يَصِحُّ

أَوْ لَا فَبُطْلَان بِذَاكَ يَتَّضِح

العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا" وعادتهم في تفسير حق الله: أنه ما فهم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف، كان له معنى معقول، أو غير معقول وحق العبد ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا، فإن كان من المصالح الأخروية فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق الله.

"والأصل حق الله في العبادة" فحق العبد فيها تبعي "وأن حق عبده" إنما هو "في العادة" فهي محل مصالحه الدنيوية.

"فصل"

في بيان أمر آخر في هذا الشأن يستتم به النظر في هذا المقام، وهو أن الأفعال فيما يتعلق بحق الله - تعالى - وحق المكلفين ليست قسما واحدا وإنما "تنقسم الأفعال في" أمر "الحقوق" باعتبار و"بنسبة الخالق" يعني بالنسبة للخالق - سبحانه - "والمخلوق" إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: "ما هو حق لله" عز وجل "خالصا يرى" أي يعلم، وذلك "مثل العبادات" وأصله التعبد، وبناء على ذلك "فذا" القسم "فيه انظرا" - الألف بدل عن نون التوكيد الخفيفة - وتأمل لمعرفة كونه باطلا، أو صحيحا، فإنه "إن طابق" ووافق "الفعل" أي فعل المكلف "الأمر به" يعني فيه - أي في هذا القسم فإنه "يصح" شرعا، واما إن كان لا يطابقه "أو لا" يوافقه "فبطلان" وفساد هو حكمه وهو حكم "بذاك" أي في ذاك "يتضح" ويظهر. والدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى لا بفعل غير مطابق لقصد الشارع إما بأصله كزيادة صلاة سادسة أو ترك الصلاة وإما بوصفه كقراءة القرآن في الركوع والسجود والصلاة في الأوقات المكروهة إذ لو كان مقصودا لم ينه عنه

ص: 221

1288 -

فَإِنْ رَأَيْتَ مَنْ لَهُ قَدْ صَحَّحَا

بَعْدَ الْوُقُوعِ فَلِأمْرٍ رَجَحَا

1289 -

وَمِثْلُ الْأمْرِ النَّهْيُ فِي ذَا الشَّانِ

هُمَا مَعًا فِي حُكْمِهِ سِيَّانِ

1290 -

إِمَّا لِأَنَّ ذَاكَ غَيْرُ حَتْمِ

أَوْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ فِي الْحُكْمِ

1291 -

أَوْ لِرُجُوعِ جِهَةِ الْمُخَالَفَهْ

لِوَصْفِهِ الْمُنْفَكِّ حِينَ خَالَفَهْ

ولأمر به أو أذن فيه فإن الإذن هو المعروف أولا بقصد الشارع فلا تتعداه

(1)

.

"فـ" على هذا "إن رأيت من "أهل العلم "له" أي لما ذكر من المنهي عنه والفعل الغير المطابق "قد صححا" - الألف للاطلاق - "بعد الوقوع" أي بعد وقوع ذلك المنهي عنه، "فـ" إن ذلك إنما حصل "لأمر" أي دليل "رجحا" - الألف للاطلاق - عنده اعتباره، والاعتداد به في ذلك. "ومثل الأمر" المتقدم بيان حكمه "النهي في ذا الشأن" وهو أن النهي يقتضي عدم صحة الفعل المنهي عنه اما بناء على أن النهي يقتضي الفساد، فـ "هما معا" أي المنهي عنه والفعل غير المطابق للأمر "في"جريان "حكمه" أي الفساد فيها "سيان" فلا فرق بينهما في هذا الشأن. ويحصل ذلك للعالم المجتهد "إما لأن ذاك" الأمر والنهي عنده "غير" ذي "حتم" أي وجوب "أو "لأن ذلك "لم يصح" ولم يثبت "عنده في الحكم" عليه "أو لرجوع جهة المخالفة" في ذلك الأمر والنهي "لوصفه" أي الفعل "المنفك" أي المنفصل "حين خالفه" أي حين خالف ذلك الفعل ذلك الأمر أو النهي، فيكون حاله كحال الصلاة في الأرض المغصوبة، بناء على القول بصحة الانفكاك بين جهة الصلاة وجهة الغصب، فإن الأمر بالصلاة منفك عنه النهي عن الغصب، فلم يرد النهي عن الجمع بينهما نصا، كالصوم يوم العيد، فإن جمع المكلف بينهما - أي بين الغصب والصلاة - فإن الذي عليه الجمهور هو أن كل واحد منهما لا تأثير له في الأخر، لأن الغصب لم ينه عنه من أجل أن لا يؤتى بالصلاة في المغصوب من الأرض، كما أن الصلاة مأمور بها مطلقا، ولم يعتبر في الأمر بها عدم إيقاعها في الأرض المغصوبة، فالجهتان لا ارتباط في الاعتبار الشرعي لهما، وجمع المكلف بينهما لا يجعلهما متحدي الجهة، كصورة الصوم يوم العيد، فإن النهي عن الصوم فيها معتبر فيه يوم العيد، فكانت الجهة واحدة فيها.

(1)

الموافقات/ 2/ ص 242.

ص: 222

1292 -

إِمَّا لِعَدِّ الْحُكْمِ فِي الْمُعَلَّلِ

وَهْوَ قَلِيل لَيْسَ مِثْلَ الأوَّلِ

1293 -

وَمَا يُرَى مُشْتَرَكًا وَغَلَبَا

لَدَيْهِ حَقُّ اللهِ لَمَّا وَجَبَا

1294 -

فَإِنَّ هَذَا حُكْمُهُ كَالأَوَّلِ

إِذْ صَارَ حَقُّ الْعَبْدِ غَيْرَ مُعْمَلِ

1295 -

وَغَيْرُ مَا طَابَقَ صُحِّحَ الْعَمَلْ

بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الأوَلْ

1296 -

وَرَابِعٍ شَهَادَةُ الْمُصَحِّحِ

أَنَّ لِحَقِّ الْعَبْدِ تَغْلِيبًا نُحِي

1297 -

وَعَكْسُ ذَا إِنْ طَابَقَ الأمْرَ فَلَا

إِشْكَالَ فِي الصِّحَّةِ فِيمَا فَعَلَا

و"إما" أن يكون تصحيح الفقيه لما ذكر "لعد" هـ "الحكم" أي حكم النازلة "في المعلل" بالمصالح وبذلك يجري فيه ذلك الحكم "وهو" أي هذا الوجه "قليل" اعتباره فهو "ليس مثل" المذكور "الأول" من الأوجه لأن التعبد هو العمدة.

"و" ثانيها أي تلك الأقسام هو "ما يرى" أي يبصر أو يعلم "مشتركا" بين حق الله وحق العبد بحيث يصير مشتملا عليهما معا "و" لكن قد "غلبا" - الألف للاطلاق - "لديه" أي فيه "حق الله" - تعالى - "لما وجبا" - الألف للإطلاق - وثبت فيه من أمر. وما يرى هكذا "فإن هذا حكمه" الشرعي "كـ" حكم القسم "الأول" وهو أنه يصح إن طابق الأمر، ويبطل ان كان على خلاف ذلك، وإنما هو كذلك "إذ صار حق العبد" فيه ملغى "غير معمل" به لغلبة حق الله - تعالى - فيه، فصار مطرحا شرعا، فهو كغير المعتبر، إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر، والفرض خلافه، كقتل النفس، إذ ليس للإنسان خيرة في اسلام نفسه للقتل لغير ضرورة شرعية كالفتن، ونحوها. فالمطابقة شرط الصحة في ذلك.

"و" أما "غير ما طابق" الأمر فإنه إن "صحح العمل بعد الوقوع فيه" فإن ذلك إنما هو من جهة اعتبار "من تلك" الاعتبارات "الأول" التى تقدم أنها مرتكزات من يصحح المنهي عنه، والفعل الذي لا يطابق الأمر. وقد يكون ذلك لأمر "رابع" وهو "شهادة" وإدراك العالم "المصحح" لذلك "أن لحق العبد" في ذلك "تغليبا" على حق الخالق - سبحانه - "نحى" أي قصد من جهة الشارع.

"و" أما القسم الثالث فهو "عكس ذا" أي هذا القسم - القسم الثاني المذكور - وبذلك فهو الذي اشترك فيه الحقان، وحق العبد هو المغلب فيه، وهذا حكمه أنه "إن طابق الأمر" الشرعي فيه "فـ" إنه "لا إشكال في "جريان حكم "الصحة فيما فعلا"

ص: 223

1298 -

وَمِثْلُهُ النَّهْيُ وَإِنْ عَكْسٌ صَدَرْ

فَذَاكَ مِمَّا فِيهِ بَحْثٌ وَنَظَرْ

1299 -

فَإِنْ يَكُنْ يَحْصُلُ حَقُّ الْعَبْدِ مَعْ

ذَاكَ وَلَوْ بَعْدَ الْوُقُوعِ إِنْ وَقَعْ

1300 -

عَنْ سَبَبٍ آخَرَ ذِي مُوَافَقَهْ

كمِثْلِ مَا يَحْصُلُ فِي الْمُطَابَقَهْ

1301 -

صَحَّ وَزَالَ مُقْتَضَى نَهْي وقَعْ

فِيهِ وَحَيْثُ لَيْسَ يَحْصُلُ امْتَنَعْ

1302 -

كَبَيْعِ مَنْ دُبِّرَ ثُمَّ أُعْتِقَا

فَمَالِكٌ فِيهِ الْجَوَازُ أُطْلِقَا

- الألف للإطلاق - فيه من فعل لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا أو آجلا حسبما يتهيأ له. "ومثله" أي الأمر في ذلك "النهي" فإنه إن ترك به المنهي عنه، فذلك هو المطلوب. "و" أما "إن" أتى من المكلف "عكس" ـه وهو عدم المطابقة للأمر وعدم ترك المنهي عنه و"صدر" عنه "فذاك" موضع "مما" يعني من النوع الذي يجري "فيه بحث" لمعرفة حكمه "ونظر" مثيره هو أصل المحافظة على تحصيل مصلحة العبد "فإن يكن يحصل حق العبد مع ذاك" وهو ثبوت المخالفة المذكورة "ولو "كان ذلك يحصل "بعد الوقوع" لذلك الفعل وإنما كان كذلك "ان وقع" وحصل "عن سبب آخر ذي" صاحب "موافقة" للأمر الشرعي الوارد في ذلك، وبذلك يحصل عنه من مصلحة العبد "كمثل ما يحصل في" حال "المطابقة" المذكورة أو أبلغ منه فإن ذلك الفعل يحكم عليه بأنه "صح" شرعا، "وزال" بذلك "مقتضى" وحكم " نهي" للشارع الذي "وقع" وورد "ليه" بالنسبة لحق العبد "و" أما "حيث ليس يحصل" فيه ما ذكر من مصلحة العبد فإنه قد "امتنع" يعني قد بطل، وفسد.

مثال ما صح عند مالك - رحمه الله تعالى - لأنه حصلت فيه مصلحة العبد بسبب آخر العقد فيما تعلق به حق الغير إذا أسقط حقه، لأن النهي عن بيع ذلك قد فرضناه لحق العبد، فإذا رضي بإسقاطه، فله ذلك، و"كبيع من دُبِر" - بضم الدال وكسر الباء - يعني كبيع المدبر وهو الذي قال له سيده: أنت حر عن دبر مني، - أي بعد وفاتي - "ثم اعتقا" - الألف للإطلاق - أي أعتقه مشتريه "فمالك" رحمه الله تعالى "فيه" أي في ذلك البيع "الجواز اطلقا" أي حكم فيه بالجواز، وقال به فيه، وذلك لأن النهي عن بيع المدبر إنما هو لأجل فوت العتق بذلك فإذا حصل - أي العتق - فلا معنى للفسخ عنده - أي عند مالك - بالنسبة إلى حق المملوك.

ص: 224

1303 -

وَمَنْ رَأَى بَعْدَ وُقُوعِهِ الْعَمَلْ

صَحَّ فَمِنْ بَعْضِ الثَّلَاثَةِ الأُوَلْ

"‌

‌ المسألة العشرون

"

1304 -

الشَّرْعُ قَدْ بَيَّنَ وَجْهَ الشُّكْرِ

فِي كُلِّ نِعْمَةٍ عَلَيْنَا تَجْرِي

1305 -

وَبَيَّنَ الْوَجْهَ فِي الاسْتِمْتاعِ

بِكُلِّ مَا أَسْدَى لِلانْتِفَاعِ

1306 -

وَمُقْتَضَى الْقَصْدَيْنِ لِلشَّرْعِ اتَّضَحْ

وَكمْ عَلَيْهِ مِنْ دَلِيلٍ قَدْ وَضَحْ

وأما إثم المخالفة في ذلك فإنه باق، فلا يرتفع بما ذكر. هذا هو الأصل في ذلك.

"و" أما "من رأى" من أهل العلم "بعد وقوعه" حصوله "العمل" - مفعول رأى مقدم عليه ضميره - المخالف بأنه عمل "صح" لم يبطل "فـ" إن ذلك إنما يحصل "من" جهة "بعض" الأوجه "الثلاثة الأول" التي تقدم أنه يقع التصحيح للمنهي عنه وللفعل غير المطابق باعتبارها، أو باعتبار بعضها.

"المسألة العشرون"

في بيان أن "الشرع قد" وضح و"بين وجه" وطريق "الشكر" لله سبحانه وتعالى "في كل نعمة" التي "علينا تجري" تفضلا ومنا منه عز وجل علينا.

"وبين" كذلك "الوجه" الذي يمضي عليه "في الاستمتاع بكل ما أسدى" أي أعطى وأولى من النعم لخلقه "للانتفاع" به. "ومقتضى القصدين" وهما القصد إلى بيان وجه الشكر على النعم، والقصد إلى بيان وجه الاستمتاع بتلك النعم الثابتين "للشرع" يعني في الشرع - الشريعة - والقصد إلى بيان أمر "اتضح" وظهر ثبوته فيه. "و" هذا أظهر فيه - أي في الشرع - من أن يستدل عليه، إذ "كم عليه" يعني على ثبوته "من دليل" شرعي "قد وضح" وظهر أنه يقضي بذلك ويحكم به. ألا ترى إلى قوله - تعالى -:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78] وقوله عز وجل: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)} [الملك: 23] وقوله سبحانه، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152] وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)} [النحل:

ص: 225

1307 -

وَالشُّكْرُ أَنْ يَكُونَ صَرْفُ النِّعَمِ

فِيمَا بِهِ رِضَا الْكَرِيمِ الْمُنْعِمِ

1308 -

وَذَاكَ الانْصِرَافُ بِالْكُلِّيَّهْ

إِلَيْه بِالإِخْلَاصِ لِلطَّوِيَّهْ

1309 -

وَيَسْتَوِي فِي ذَاكَ مَا لِلْعَادَهْ

مَعَ الذِي رَجَعَ لِلْعِبَادَهْ

1310 -

أَمَّا الْعِبَادَاتُ فَأَمْرُهَا ظَهَرْ

لِأنَّ حَقَّ اللهِ فِيهَا الْمُعْتَبَرْ

1311 -

كَذَاكَ فِي الْعَادَاتِ حَيْثُ مَا هِي

بِالنَّظَرِ الْكُلِّيِّ حَقُّ اللهِ

1312 -

لِذَاكَ لَا يَجُوزُ لِلْعِبَادِ

تَحْرِيمُ طَيِّبَاتِ رِزْقِ العِبَادِ

114] وقوله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].

"والشكر" هو "أن يكون" من المكلف "صرف النعم فيما" من الأعمال "به" أي فيه "رضا" ربنا "الكريم المنعم" سبحانه "وذاك" راجع إلى "الانصراف"، والتوجه "بالكلية إليه" تعالى، ويكون ذلك "بإخلاص للطوية" أي الضمير والقصد.

قال الشاطبي: ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الاستطاعة في كل حال، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام "حق الله على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا"

(1)

.

"ويستوي في ذاك" الحق من حيث جريان حكمه "ما" من الأفعال والأمور ينسب "للعادة" ويعد منها "مع الذي" من الأعمال قد "رجع للعبادة" فجريان ذلك الحكم واقع فيهما معا "أما العبادات فأمرها" في ذلك أمر قد "ظهر" وبان حاله فيه، وذلك "لأن حق الله" تعالى "فيها" هو أساسها "المعتبر" في تشريعها، فهي حقه - تعالى - الذي لا يحتمل الشركة، فهي مصروفة إليه.

"كذاك" الأمر أيضا "في العادات" من "حيث ما" زائدة يعني من حيث "هي بـ" اعتبار "النظر الكلي" إليهما "حق الله".

و"لذاك" الذي تقرر هنا "لا يجوز للعباد" من عند أنفسهم "تحريم" ما أحل الله - تعالى - لهم من "طيبات رزق العباد" به صلاح أحوالهم المعيشية، وقيام وجودهم.

(1)

الموافقات/ 2/ ص 244.

ص: 226

‌الْقِسْم الثَّانيِ مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ فِي مَا يَرْجِعُ إِلى مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِ في التَّكْلِيفِ وَفِيهِ مَسَائِلُ

"‌

‌ المسألة الأولى

"

1313 -

وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ

مِنَ الْعِبَادِيَّاتِ وَالعَادَاتِ

1314 -

وَكمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ دَلِيلِ

آتٍ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ

1315 -

يَكْفِيكَ مِنْهَا الْفَرْقُ فِي الْمَقَاصِدْ

بَيْنَ التَّعَبُّدَاتِ وَالْعَوَائِدْ

1316 -

وَبَيْنَ وَاجِبٍ مِنَ الأَحْكَامِ

أَوْ نَدْبٍ أَوْ مُبَاحٍ أَوْ حَرَامِ

القسم الثاني من كتاب المقاصد في ما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف

وفيه مسائل: "المسألة الأولى"

وهو معقود "في" بيان "ما" من الأحكام والمسائل "يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف" الشرعي "وفيه" أي هذا القسم تذكر وتورد "مسائل" وهي اثنتا عشرة مسألة.

"المسألة الأولى" منها في تقرير "و" بيان الأصل المعروف الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالنيات" سواء منها ما هو "من العباديات" كالصلاة، والصوم "و" ما هو من "العادات" كالمعاملات، ووسائل كسب المعاش فالمقاصد معتبرة في التصرفات "وكم" ورد على ثبوت "ذلك" وكونه أصلا شرعيا "من دليل" شرعي، من ذلك ما هو "آت" أي وارد "على" سبيل "الجملة" والشمول، كقوله صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات)"و" منه ما هو آت على "التفصيل" بأن يكون مقتضاه وحكمه متعلقا بجزئية كالصلاة، والصوم والحج.

و"يكفيك منها" أي من الأدلة الواردة في ذلك "الفرق" الثابت والحاصل "في المقاصد" والذي "بين" ما هو من "التعبدات" أي العبادات "و" ما هو من "العوائد". "و" كذلك الفرق الحاصل "بين" ما هو "واجب" وفرص "من الأحكام" الشرعية "أو" - بمعنى الواو - يعني وما حكمه "ندب" أي استحباب "أو "- بمعنى الواو - يعني وما هو "مباح أو حرام" أو غير ذلك كالصحيح والفاسد.

ص: 227

1317 -

وَالْعَمَلُ الْوَاحِدُ بِالْقَصْدِ يُرَى

طَاعَةً أَوْ مُصِيبَةً قَدْ حَظَرَا

1318 -

لِذَلِكَ الأَحْكَامُ لَنْ تُعَلَّقَا

بِغَيْرِ قَاصِدٍ إِلَيْهَا مُطْلَقَا

1319 -

كَمِثْلِ مَجْنُونٍ وَمِثْلِ سَاهِ

وَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ بِالإِكْرَاهِ

" والعمل الواحد بـ" حسب "القصد" والنية "يرى" ويبصر "طاعة" لله وعبادة له - سبحانه - "أو معصية" له عز وجل "قد حظرا" فعلها وإتيانها أي منع، بل يقصد بالفعل الواحد شيء فيكون إيمانا، ويقصد به شيء آخر فيكون كفرا كالسجود لله - تعالى - أو للصنم و"لـ" أجل "ذلك" الذي تقدم ذكره من أن الأعمال بالنيات وإن المقاصد معتبرة في التصرفات "الأحكام" الشرعية "لن تعلقا" - الألف للإطلاق - يعني: لا تتعلق "بـ" شخص "غير قاصد إليها" أي الأحكام المذكورة "مطلقا" من غير تفصيل وذلك.

"كمثل" تصرفات شخص "مجنون" وهو لا يعقل "ومثل ساه" أي غافل قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقال عز وجل {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وقال: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 54]{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] بعد قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} إلى قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] وفي الحديث: "إنما الأعمال بالنيات". "وإنما لكل امرئ ما نوى" إلى آخره وقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وفيه: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك معي فيه شريكا تركت نصيبي لشريكي" وتصديقه قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وأباح عليه الصلاة والسلام للمحرم أكل لحم الصيد ما لم يصده أو يصد له. وهذا المكان أوضح في نفسه من أن يستدل عليه

(1)

.

"ولا اعتراض" صحيح "فيه" أي في هذا الموضع "بـ" أمر الإعمال التي يجب فيها العمل بوسيلة "الإكراه" عليها، كإخراج الزكاة وفعل الصلاة، وغير ذلك مما يجري فيه الإكراه.

(1)

الموافقات 2/ 247.

ص: 228

1320 -

وَمِثْلُهُ مِمَّا بِهِ الفِعْلُ وَقَعْ

عَلَى خِلَافِ قَصْدِ مَنْ مِنْهُ وَقَعْ

1321 -

إِذْ قَصْدُهُ مُعْتَمَدٌ فِي الظَّاهِرْ

وَرَبُّنَا الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرْ

"‌

‌ المسألة الثانية

"

1322 -

الْقَصْدُ مِنْ مُكَلَّفٍ فِي وَاقِعِ

وفاقُ قَصْدِهِ لِقَصْدِ الشَّارعِ

1323 -

وَذَاكَ لِلدَّلِيلِ لَا يَسْتَدْعِي

لِأَنَّهُ بَادٍ مِنْ أَصْلِ الشَّرْعِ

" و" كذلك لا اعتراض "مثله" - أي ما ذكر من الأعمال المكره عليها - "من" كل "ما" يكون "به" يعني فيه "الفعل" قد "وقع" ويقع ما يطلب ان يقصد منه شرعا هو "على خلاف قصد" ونية "من منه وقع" من المكلفين.

وإنما لا يصح الاعتراض بما ذكر، ولا يجري "إذ قصده" أي المكلف فيما ذكر وإن لم يكن في القلب فإنه "معتمد في الظاهر" أي ظاهر الأمر.

"وربنا" سبحانه وتعالى هو وحده "العالم بالسرائر" وما في ضمائر خلقه.

وانظر في الأصل مزيد بسيط وبيان لهذه المسألة.

"المسألة الثانية"

في بيان أن "القصد" الشرعي المطلوب "من" كل "مكلف في واقع" الأمر هو "وفاق" أي موافقة "قصده" فيما يأتي من عمل "لقصد الشارع" الحكيم - سبحانه - فيه. "وذاك" أمر إثباته "للدليل لا يستدعي" ولا يحتاج، "لأنه" أمر "باد" أي ظاهر "من أصل" يعني وضع "الشرع" إذ قد مر أن الشريعة موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع. ولأن المكلف خلق لعبادة الله، وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة - هذا محصول العبادة - فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة. وأيضا فقد مر أن قصد الشارع المحافظة، على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينات، وهو عين ما كلف به العبد، فلا يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك، وإلا لم يكن عاملا على المحافظة، لأن الأعمال بالنيات. وحقيقة ذلك أن يكون خليفة الله في إقامة هذه المصالح بحسب طاقته ومقدار وسعه. وأقل ذلك خلافته على

ص: 229

1324 -

وَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ تَفْصِيلُ

فِي بَابِ الأسْبَابِ لَهُ تَحْصِيلُ

"‌

‌ المسألة الثالثة

"

1325 -

مَنْ كَانَ في التَّكْلِيفِ بِالشَّرْعِ سَعَى

لِغَيْرِ مَا مِنْهُ لَدَيْهِ شَرَعَا

نفسه، ثم على أهله، ثم على كل من تعلقت به مصلحة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" وفي القرآن الكريم: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] وإليه يرجع قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وقوله {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] والخلافة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث حيث قال: "الأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده. فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" وإنما أتى بأمثلة تبين أن الحكم كلي عام غير مختص، فلا يتخلف عنه فرد من أفراد الولاية، عامة كانت أو خاصة. فإذا كان كذلك فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه، يجري أحكامه ومقاصده مجاريها. وهذا بين

(1)

.

فصل في التذكير "و" التنبيه على أن هـ "ـذا وإن كان" الموضوع - موضوع المقاصد الشرعية بالنسبة للمكلف - "له" يعني فيه "تفصيل" فإنه لا يحتاج إلى ذكره هنا لأنه قد تقدم ذكره وبيانه في كتاب الأحكام، "و" ذلك "في باب الأسباب" وبالتحديد في مسألة: دخول المكلف في الأسباب فهنالك "له تحصيل" إذ قد مر فيه ذكر خمسة أوجه في هذا الشأن، منها يؤخد القصد الموافق والمخالف.

فعلى الناظر - هنا - مراجعة ذلك الموضع حتى يتبين له ما أراد إن شاء الله - تعالى -.

"المسألة الثالثة"

وهي في بيان بطلان العمل الخالي من الموافقة المذكورة، وبذلك فـ "من كان" في أمر من أمور "التكليف" الحاصل "بالشرع سعى لـ" تحصيل "غير ما" أي الذي من المقاصد "منه" قصد شرعا والذي "لديه" فيه يعني في حال وجوده "شرعا" - الألف

(1)

الموافقات 2/ 251/ 252.

ص: 230

1326 -

فَإِنَّهُ مُنَاقِضٌ لِلشَّرْعِ

وَكَمْ دَلِيلٍ مُقْتَضٍ لِلْمَنْعِ

للإطلاق - تحصيله وإدراكه "فإنه مناقض للشرع" وكل من ناقضه فعمله في المناقضة باطل فمن ابتغى في التكاليف الشرعية ما لم تشرع له فعمله باطل "وكم" من "دليل" شرعي وهو "مقتض" وموجب "للمنع" من ذلك الابتغاء المناقض للشريعة.

والدليل على هذا الوجه:

أحدها: أن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها، إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح، فإذا جاء الشارع بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة فقد بين الوجه الذي منه تحصل المصلحة فأمر به أو أذن فيه، وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة فنهي عنه رحمة بالعباد. فإذا قصد المكلف عين ما قصده الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه، فهو جدير بأن تحصل له. وإن قصد غير ما قصده الشارع، وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد، لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا وذلك مضادة للشريعة ظاهرة.

والثانى: أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشارع حسنا فهو عند هذا القاصد ليس بحسن وما لم يره الشارع حسنا فهو عنده حسن وهذه مضادة أيضا.

والثالث: أن الله تعالى يقول {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] الآية وقال عمر بن عبد العزيز سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله من عمل بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصير والأخذ في خلاف مآخذ الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة.

والرابع: أن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخذ في غير مشروع حقيقة لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم فلم يأت بذلك المشروع أصلا وإذا لم يأت به ناقض الشارع في ذلك الأخذ من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به والتارك لما أمر به.

ص: 231

1327 -

وَمُوهِمُ الْجَوَازِ فِي مَوَاقِعِ

شَهَادَةٍ فِيهِ بِقَصْدِ الشَّارْعِ

والخامس: أن الملكف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها في الأمر والنهي فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد وسائل لما قصد لا مقاصد إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودة بل قصد قصد آخر جعل الفعل أو الترك وسيلة له فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع وهدم لما بناه.

والسادس: أن هذا القاصد مستهزئ بآيات الله لأن من آياته أحكامه التي شرعها وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجله ولذلك قيل للمنافقين حيث قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكم ظاهرة والأدلة على هذا المعنى كثيرة وللمسألة أمثلة كثيرة كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم والمال لا لإقرار الواحد الحق بالوحدانية والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح والذبح لغير الله والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها والجهاد للعصبية أو لينال شرف الذكر في الدنيا والسلف ليجربه نفعا والوصية بقصد المضارة للورثة ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها وما أشبه ذلك

(1)

.

"و" أما ما ورد وهو "موهم الجواز" والصحة لما تجرد من هذه المطابقة "في مواقع" ومواضع، منها: نكاح الهازل وطلاقه، وعتقه، والمكره بالباطل فإنه عند الحنفية تنعقد تصرفاته شرعا فيما لا يحتمل الفسخ بالإقامة، كما تنعقد حالة الاختيار كالنكاح والطلاف والعتق واليمين، والنذر. وما يحتمل الاقالة ينعقد كذلك، لكن موقوفا على اختيار المكره، ورضاه إلى مسائل من هذا النحو. ومنها: أن الحيل في رفع وجوب الزكاة وتحليل المرأة لمطلقها ثلاثا مقصود به خلاف ما قصده الشارع في ذلك مع أنها عند القائل بها صحيحة، ومن تتبع الأحكام الشرعية ألفى منها ما لا ينحصر، وجميعه يدل على أن العمل المشروع إذا قصد به غير ما قصده الشارع فلا يلزم أن يكون باطلا.

فالجواب عنه هو أن ذلك التصحيح "شهادة" أهل العلم المصححين "فيه بـ" جريان "قصد الشارع" إليه، ولذلك ذهبوا إليه - أي التصحيح - فيه. وبسط الشاطبي الجواب

(1)

الموافقات 2/ 253 - 255.

ص: 232

"‌

‌ المسألة الرابعة

"

1328 -

وَفِعْلٌ أَوْ تَرْكٌ مَعَ الْوِفَاقِ

لِلشَّرْعِ قَصْدًا صَحَّ بِاتِّفَاقِ

عن ذلك فقال: "والجواب أن مسائل الإكراه إنما قيل بانعقادها شرعا بناء على أنها مقصودة للشارع، بأدلة قررها الحنفية. ولا يصح أن يقر أحد بكون العمل غير مقصود للشارع على ذلك الوجه ثم يصححه، لأن تصحيحه إنما هو بالدليل الشرعي، والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شيء، فكيف يقال إن العمل صحيح شرعا مع أنه غير مشروع؛ هل هذا إلا عين المحال؟ وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقا، فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصد في استجلاب المصالح ودرء المفاسد، بل الشريعة لهذا وضعت، فإذا صحح مثلا نكاح المحلل فإنما صححه على فرض أنه غلب عليه ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب مصلحة الزوجين فيه، وكذلك سائر المسائل، بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف القتل أو التعذيب، في سائر المصالح العامة والخاصة، إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة. كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة. فإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع خاصة، وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة

(1)

.

"المسألة الرابعة"

في بيان أن فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعله أو تركه موافقا أو مخالفا، وعلى كلا التقديرين، إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته، فالجميع أربعة أقسام.

"و" أولها أن يكون "فعل" ما "أو ترك" ما موقعا "مع" حصول "الوفاق" أي الموافقة فيه "للشرع" وكان حصول ذلك "قصدا" أي مقصودا من المكلف إليه، وذلك كالعبادات مما يقصد المكلف به امتثال أمر الله - تعالى - وأداء ما وجب عليه، أو ندب إليه، وكذلك ترك الزنى والخمر وسائر المنكرات - يقصد بذلك الامتثال - فهذا عمل "صح" شرعا "باتفاق" بين أهل العلم.

(1)

الموافقات 2/ 255.

ص: 233

1329 -

وَعَكْسُ ذَا مُخَالِفُ الْقَصْدَ أَنْ

يُخَالِفُ الشَّرْعَ بِهِ الْعَكْسُ بِه اقْتَرَنْ

1330 -

فَأَوَّلٌ حَقِيقَةُ الطَّاعَاتِ

وَالثَّانِ أَنْوَاعُ الْمُخَالَفَاتِ

1331 -

وَثَالِثٌ مُوَافِقٌ فِي الْعَمَلِ

وَقَصْدُهُ الْخِلَافُ مِنْهُ مُنْجَلِ

1332 -

فَإِنْ يَكُنْ لَا يَعْلَمُ الْوِفَاقَا

فَإِنَّهُ أَثِمٌ اتِّفَاقَا

1333 -

مِنْ حَيْثُ مَا الْخِلَافُ بِالْقَصْدِ حَصَلْ

وَلَيْسَ بِالآثمِ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلْ

1334 -

لِذَاكَ لَا يَلْحَقُهُ مَا لَحِقَا

مَنْ مِنْهُ يَصْدُرُ الْخِلَافُ مُطْلَقَا

" و" ثانيها "عكس ذا" أي هذا الذي ذكر، إذ يتصف من أتى به بأنه "مخالف" للشرع وذلك كترك الواجبات وفعل المحرمات وكان "القصد" منه في ذلك "أن يخالف الشرع به". يعني فيه، فهذا حكمه "العكس" لما تقرر في القسم الأول، وهذا حكم "به اقترن" لا ينفك عنه، وعكس حكم الأول هو البطلان، وهو حكم ظاهر فيه.

"فـ" الذي هو "أول" من هذه الأقسام متضمنه "حقيقة الطاعات" لشموله على الموافقة للشرع، والقصد إلى ذلك.

"و الثان" متضمنه "أنواع المخالفات" والمعاصي لاحتوائه على مخالفة الشرع والقصد إلى ذلك.

"وثالث" هذه الاقسام هو الذي العامل فيه "موافق في "الذي أتى به من "العمل و" لكنه لم يكن القصد منه موافقة الشرع، بل "قصده الخلاف منه" للشرع في ذلك، وهذا القصد أمر "منجل" فيه أي ظاهر.

وهذا القسم ضربان:

أحدهما: أن لا يعلم العامل المذكور بكون الفعل أو الترك موافقا.

والثاني: أن يعلم بذلك. "فإن يكن" ذلك العامل "لا يعلم" أنه قد حصل "الوفاقا" في عمله ذاك "فإنه آثم اتفاقا" وعاص "من حيث" أي من جهة "ما" - زائدة - "الخلاف" للشرع الذي "بالقصد" منه "حصل" ووقع "و" بذلك فإنه "ليس بالآثم" العاصي "من حيث" أي من جهة "العمل" الصادر منه، لأنه عمل موافق للشرع، و"لذاك" وهو حصول المخالفة في هذا من جهة واحدة "لا يلحقه" من الأحكام "ما لحقا من "أي الذي "منه" يصدر ويقع "الخلاف مطلقا".

ص: 234

1335 -

كَشَارِبِ الْجُلَّابِ أَوْ لِلسُّكَّرِ

مُعْتَقِدًا فِيهِ لِشُرْبِ الْمُسْكِرِ

1336 -

وَإِنْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِالْوِفَاقِ

فَذَا الذِي يُلْحَقُ بِالنِّفَاقِ

1337 -

لِجَعْلِهِ مَقَاصِدَ الشَّرِيعَهْ

لِغَيْرِ مَقْصُودٍ لَهَا ذَرِيعَهْ

يعني الخلاف للشرع العامَّ الذي يشتمل الخلاف في القصد والخلاف في العمل.

مثاله هذا الذي فيه مخالفة في القصد دون العمل واطئ زوجته ظانا أنها أجنبية، و"كشارب الجلاب" - بضم الجيم -: ماء الورد "أو "شارب "للسَّكَر" - بفتح السين والكاف -: شراب يتخذ من التمر والكشوت "معتقدا" أي قاصدا وناويا "فيه" أي من شربه "لشرب المسكر" وإن لم يكن هو في حقيقة الأمر مسكرا. وقوله "للسَّكر" - بفتح السين - من زياداته، وفي التمثيل به نظر، إذا فسر بالخمر، وهو المعنى المشهور فيه المعلوم، لكنه فسر بالعصير قبل أن يتخمر - ومن أمثلة هذا الضرب - كذلك تارك الصلاة يعتقد أنها باقية في ذمته، وكان قد أوقعها وبرئ منها في نفس الأمر. ويحكي الأصوليون في هذا النحو الاتفاق على العصيان في مسألة من أخر الصلاة مع ظن الموت قبل الفعل. وهذا الضرب يمتاز عن هذا الضرب الثاني الآتي بعده بأنه لم تحصل فيه مفسدة النهي، لأنه إنما نهي عن ذلك كله لأجل ما ينشأ عنه من المفاسد، فإذا لم يوجد هذا لم يكن مثل من فعله فصحت المفسدة، فشارب الجلاب لم يذهب عقله، وواطئ زوجته المذكور لم يختلط نسب من خلق من مائه، ولا تلحق المرأة بسبب هذا الوطء معرة.

و تارك الصلاة لم تفته مصلحة الصلاة، وكذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذا الأصل. هذا - بايجاز - شأن هذا الضرب.

"و" أما الضرب الثاني وهو ما جاء على عكس ما تقدم ويحصل ذلك "أن يكن" ذلك العامل "يعلم بالوفاق" الحاصل بينه وبين الشارع في ذلك، إلا أنه يقصد المخالفة له "فذا" الشخص هو "الذي" في هذا الشأن "يلحق بـ" أرباب "النفاق" وذلك "لجعله مقاصد الشريعة" أي موضوعاتها من أمور عبادية وغيرها "لـ" تحصيل وإدراك أمر "غير مقصود لها" يعني غير مقصود بها، إدراكه وتحصيل "ذريعة" ووسيلة. مثاله أن يصلي رياء لينال دنيا، أو تعظيما عند الناس، وما أشبه ذلك من الأمور الشرعية مقاصد لها، فيدخل تحت ذلك النفاق والرياء والحيل على أحكام الله - تعالى - وذلك كله باطل، لأن القصد مخالف لقصد الشارع عينا، فلا يصح جملة. وقد قال الله - تعالى -: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي

ص: 235

1338 -

وَرَابِعٌ مُخَالِفٌ وَالْقَصْدُ

بِحَالَةِ الْوِفَاقِ لَيْسَ يَعْدُو

1339 -

فَإِنْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِالْمُخَالَفَهْ

كمُنْشِئٍ لِطَاعَةٍ مُسْتَأْنَفَهْ

1340 -

فَذَاكَ مَذْمُومٌ لِلاجْتِنَابِ

بِمُقْتَضَى السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ

1341 -

وَتَحْتَ ذَا يَدْخُلُ الابْتِدَاعُ

وَلَا يُقَالُ إنَّهُ أَنْوَاعُ

1342 -

رَاجِعَةٌ لِمُقْتَضَى الأَحْكَامِ

وَالذَّمِّ لِلْمَكْرُوهِ وَالْحَرَامِ

الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145].

"ورابع" تلك الأقسام الفعل الذي هو "مخالف" للشريعة، لكن "القصد" أي قصد المكلف به هو "بحالة الوفاق" لها فهو - أي قصد ذاك - "ليس يعدو" أي يتجاوز ذلك. وهذا القسم ضربان: أحدها: أن يكون ذلك القصد مع العلم بالمخالفة.

ثانيها: أن يكون مع الجهل بذلك - المخالفة - وحكم هذين الضربين مختلف، وبذلك "فـ" إنه "إن يكن" فاعل ذلك "يعلم بـ" ثبوت "المخالفة" المذكورة فإنه مبتدع، إذ هو "كمنشئ" أي محدث "لطاعة" أي عبادة "مستأنفة" يعني محدثة زائدة على ما شرع.

وما كان على هذه الصورة "فذاك" فعل "مذموم" شرعا، وذلك "للاجتناب" المأمور به شرعا في شأنه، وهو حكم ثابت "بمقتضى" ما ورد في "السنة والكتاب" من الأدلة على ذلك، كقوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] وقوله - سبحانه -: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. قوله صلى الله عليه وسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد". وغير ذلك من الأدلة الدالة على هذا الأمر، وهي كثيرة. "وتحت ذا" الضرب "يدخل الابتداع" في الدين وبذلك فهو مذموم لعموم الأدلة الواردة في ذلك كقوله - تعالى -:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وقوله - سبحانه -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وفي حديث: "كل بدعة ضلالة". "ولا" يصح أن "يقال إنه" أي الابتداع المذكور "أنواع" هي في واقع أمرها "راجعة لمقتضى الأحكام" الخمسة "و" بذلك فـ "الذم" الشرعي المطلق إنما هو "للمكروه والحرام" منها فقط وأما الواجب منها والمندوب فإنه حسن بإطلاق، ففاعل ذلك ممدوح وكذلك

ص: 236

1343 -

لِأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّ الْبِدْعَهْ

لَيْسَتْ سِوَى مَا الشَّرْعُ يُبْدِي مَنعَهْ

1344 -

وَمَا عَلَى النَّدْبِ أَو الْوُجُوبِ

فَلَيْسَ فِي الْبِدْعَةِ بِالْمَحْسُوبِ

مستنبطه، والمباح حسن باعتبار. فعلى الجملة من استحسن من البدع ما استحسنه الأولون لا يقول إنها مذمومة ولا مخالفة لقصد الشارع، بل هي موافقة أي موافقة. كجمع الناس على المصحف العثماني، والتجميع في قيام رمضان في المسجد، وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على حسنها، أعني السلف الصالح والمجتهدين من الأمة، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. فجميع هذه الأشياء داخلة تحت ترجمة المسألة إذ هي أفعال مخالفة للشرع لأنه لم يضعها، مقترنة بقصد موافق لأنهم لم يقصدوا إلَّا الصلاح، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة خلاف المدعي

(1)

.

والجواب عن هذا كله أنه لا يصح - كما تقدم ذكره - إيراده هنا "لـ" أنه ليس مما وقعت عليه الترجمة، وبذلك فـ "اننا نقول إن البدعة" المفروض فيها الكلام هنا والمقصود فيه "ليس سوى ما" من الافعال "الشرع يبدي" أي يظهر "منعه" لأنه مخالف لما وضع عليه هذا الشرع. "و" أما "ما" جاء وقد انسحب "على" حاله "الندب أو الوجوب" الشرعيان "فـ" إنه "ليس في البدعة" المحظورة في الدين "بالمحسوب" أي المعدود، فما تقدم ذكره مما أحدثه السلف وأجمع عليه العلماء لم يقع فيه مخالفة لما وضعه الشارع بحال. بيان ذلك أن جمع المصحف مثلا لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستغناء عنه بالحفظ في الصدور، ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يخاف بسببه الاختلاف في الدين، وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة، كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم رضي الله عنهما، وقصة أبيِّ بن كعب مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وفيه قال عليه الصلاة والسلام:"لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر" فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتا عنه في زمانه عليه الصلاة والسلام، ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه: أنا كافر بما تقرأ به، صار جمع المصحف واجبًا ورأيًا رشيدًا في واقعة لم يتقدم بها عهد، فلم يكن فيها مخالفة، وإلَّا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في زمان المتقدم بدعة، وهو باطل باتفاق، لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم

(1)

الموافقات 2/ 258/ 259.

ص: 237

1345 -

وَإِنْ يَكُنْ يَجْهَلُ مَا عَنْهُ صَدَرْ

فَهَاهُنَا وَجْهَانِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرْ

لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين وهو الذي يسمى المصالح المرسلة. وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل، لا يختلف عنه بوجه، ليس من المخالف لمقصد الشارع أصلا. كيف وهو يقول:(ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)(ولا تجتمع أمتي على ضلالة) فثبت أن هذا المجتمع عليه موافق لقصد الشارع، فقد خرج هذا الضرب عن ان يكون فيه الفعل أو الترك مخالفا للشارع. وأما البدعة المذمومة فهي التي خالفت ما وضع الشارع من الأفعال أو التروك

(1)

.

هذا هو حال هذا الضرب وحكمه.

"و" أما الثاني فهو "إن يكن" الفاعل لما ذكر "يجهل" حال "ما عنه صدر" ووقع من ذلك، ومن جهة مخالفته للشرع "فهاهنا" في هذا الضرب "وجهان" يدركان "من حيث" أي من جهة "النظر" والبحث في شأنه.

أحد هذين الوجهين: كون القصد موافقا، وبهذا فذلك الفعل ليس مخالفا من هذا الوجه.

ثانيها: كون الفعل مخالفا لما ورد في الشريعة في شأن ذلك الفعل.

وهذان وجهان يتعارض ما يقتضيانه من حكم وذلك أنك إذا رجحت جهة القصد الموافق بأن العامل ما قصد قط إلَّا الامتثال والموافقة، ولم ينتهك حرمة للشارع بذلك القصد، عارضك أن قصد الموافقة مقيد بالامتثال المشروع لا بمخالفته، وإن كان مقيدا فقصد المكلف لم يصادف محلا فهو كالعبث. وأيضا إذا لم يصادف محلا صار غير موافق، لأن القصد في الأعمال ليس بمشروع على الافراد.

فإن قلت: إن القصد قد ثبت اعتباره قبل الشرائع، كما ذكر عمن آمن من الفترات وأدرك التوحيد، وتمسك بأعمال يعبد الله بها وهى غير معتبرة، إذ لم تثبت في شرع بعد قيل لك: إن فرض أولئك في زمان فترة لم يتمسكوا بشريعة متقدمة، فالمقاصد الموجودة لهم منازع في اعتبارها بإطلاق، فإنها كأعمالهم المقصود بها التعبد: فإن قلت باعتبار القصد كيف كان، لزم ذلك في الاعمال، وإن قلت بعدم اعتبار الأعمال لزم ذلك في القصد. وأيضا فكلامنا فيما بعد الشرائع لا فيما قبلها، والمتقدمة فذلك واضح.

(1)

الموافقات 2/ 258/ 259.

ص: 238

1346 -

فَنَاظِرٌ لِلْقَصْدِ بِالْوِفَاقِ

يُصَحِّحُ الْحُكْمَ عَلَى الإِطْلَاقِ

1347 -

فِي رَاجِعٍ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ

مَعَ التَّلَافِي فِي التَّعَبُّدَاتِ

1348 -

لِأنَّهُ قَصْدٌ إِلَى الطَّاعَاتِ

وَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ

فإن قيل: قوله عليه الصلاة والسلام: "وإنما الأعمال بالنيات" يبين أن هذه الأعمال وإن خالفت قد تعتبر، فإن المقاصد أرواح الأعمال، فقد صار العمل ذا روح على الجملة، وإذا كان كذلك اعتبر. بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل، أو خالفا معًا، فإنه جسد بلا روح، فلا يصدق عليه مقتضى قوله الأعمال بالنيات لعدم النية في العمل.

قيل: إن سلِّم فمعارض بقوله عليه الصلاة والسلام كلُّ عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردٌ وهذا العمل ليس بموافق لأمره عليه الصلاة والسلام، فلم يكن معتبرًا بل كان مردودًا.

وأيضا فإذا لم ينتفع بجسد بلا روح، كذلك لا ينتفع بروح في غير جسد، لأن الأعمال هنا قد فرضت مخالفة، فهي في حكم العدم، فبقيت النية منفردة في حكم عملي فلا اعتبار بها، وتكثر المعارضات في هذا من الجانبين، فكانت المسألة مشكلة جدا

(1)

.

ولهذا التعارض الثابت في ذلك اختلف أهل العلماء في المرجح اعتباره من هذين الوجهين، والذي عليه يبنى الحكم في هذا الضرب "فـ" أهل العلم هؤلاء من هو "ناظر" ومعتبر "لـ" جهة، وجهة "لقصد" المتصف "بالوفاق" للشرع، وبناء على ذلك فإنه "يصحح الحكم" المنسحب على هذا الموضوع "على الإطلاق" من غير تفصيل "في" كل جزئي "راجع إلى المعاملات" كالبيوع والأنكحة، "مع" الحكم بـ "التلافي" والاستدراك لما يجب تلافيه واستدراكه "في التعبدات" أي العبادات وإنما كان هذا الحكم جاريا هنا على رأي من يذهب إلى القول به "لأنه" يعني لأن الآتي بهذا الفعل "قصد إلى" تحصيل "الطاعات""و" إن كان في واقع الأمر مخالفا للشرع فإن ذلك لا يضر، إذ المقرر هو "إنما الأعمال بالنيات".

(1)

الموافقات 2/ 260/ 261.

ص: 239

1349 -

وَنَاظِرٌ لِمَا بَدَا فِي الْوَاقِعْ

يَمْنَعُ أَنْ خَالَفَ مَا لِلشَّارعْ

1350 -

وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّحْظَيْنِ

يُعَارِضُ الآخَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ

1351 -

من جِهَةِ الأَصْلِ أَوِ التَّرْجِيحِ

فَاحْتِيجَ لِلْبَحْثِ وَللتَّصْحِيحِ

1352 -

فَكَانَ فَيهِ الْمَيْلُ لِلْجُمْهُورِ

لِمُقْتَضَى التَّوَسُّطِ الْمَأْثُورِ

1353 -

فَأَعْمَلُوا الْوَجْهَيْنِ فِي ذَاكَ مَعَا

لِيَتَلَافُوا حُكْمَ مَا قَدْ وَقَعَا

1354 -

فَعَمِلُوا بِالْقَصْدِ فِي وَجْهِ وَفِي

وَجْه بِمَا لِلْفِعْلِ فِي التَّخَلُّفِ

وبينة هذا العمل على الموافقة لكن الجهل اوقعه في المخالفة، ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحا لا يجري مجرى المخالف بالقصد والعمل معا. "و" منهم من هو "ناظر" ومعتبر "لما بدا" أي ظهر "في الواقع" وحقيقة الأمر من المخالف للشرع من جهة العمل، ومن كان على هذا النظر والاعتبار فإنه "يمنع" صحة هذا العمل ويحكم بأنه عمل باطل، وذلك "إن خالف ما" ثبت من حكم "للشارع" في شأنه. "و" لا ريب أن "كل واحد من اللحظين" أي الاعتبارين المذكورين "يعارض الآخر" وذلك "من وجهين" أعني "من جهة الأصل" إذ قد تعارضت فيه قاعدة "إنما الاعمال بالنيات" وقاعدة عدم صحة العمل شرعا "لـ" إذا كان موافقا للماهية الشرعية المطلوبة به. "أو "- بمعنى الواو - يعني ومن جهة "الترجيح" بين الأمرين المتعارضين المذكورين "فاحتيج" بسبب ذلك "للبحث" في هذا الموضوع "وللتصحيح" لما يبدو أنه صحيح من ذلك.

"فكان" إن حصل "فيه" أي من الضرب من الأفعال "الميل للجمهور" من أهل العلم "لمقتضى" وحكم "التوسط" بين الإبطال والتصحيح المطلقين، ذلك التوسط "المأثور" يعني المنقول العمل به عن السلف. "فـ" حصل بمقتضى ذلك أن "اعملوا" أي الجمهور "الوجهين" المذكورين - وهما صحة القصد، وفساد العمل في واقع الأمر - "في"بناء حكم "ذاك" الفعل "معا" وذلك "ليتلافوا" ويتداركوا ما يرون أنه "حكم ما قد وقعا" - الألف للإطلاق - من هذا الضرب "فعملوا بـ" مقتضى "القصد" المذكور "في وجه" رأوا بأن العمل فيه بذلك راجح "و" عملوا "في وجه" آخر "بـ" مقتضى "ما" ثبت "للفعل" المذكور "في"- يعني من - "التخلف" عن موافقة الشرع.

فالفعل قد يكون له وجهان، فيعمل بأحد الاعتبارين في أحد الوجهين، وبالاعتبار

ص: 240

1355 -

وَالسَّهْوُ بَابُهُ عَلَيْهِ يَجْرِي

كَذَا النِّكَاحُ إِنْ فَسَادٌ يَسْرِي

الآخر في الوجه الآخر. قال الشاطبي: والذي يدل على إعمال الجانبين أمورًا أحدها: ان متناول المحرم غير عالم بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة القصد إذ لم يتلبس إلَّا بما اعتقد إباحته ومخالفة الفعل لأنه فاعل لما نهي عنه فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل وعدم الاعتماد عليه حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلاف ميلًا فيه إلى جهة القصد أيضًا وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافي فيه فقد اجتمع في هذه المسألة اعتبار الطرفين بما يليق بكل واحد منهما كالمرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلَّا بعد بنائه بها فقد فاتت بمقتضى فتوى عمر ومعاوية والحسن وروى مثله عن علي رضي الله عنهم، ونظيرها في مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم فالأول أولى بها قبل نكاحها والثاني أولى بعد دخوله بها وفيما بعد العقد وقبل البناء قولان وفي الحديث:"إيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل باطل باطل فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها". "والسهو "في الصلاة "بابه" السهو، يعني أن مجرى النظر الفقهي في باب السهو "عليه" أي على ما تقدم تقريره من العمل بالوجه الراجح من الوجهين المتعارضين في محل الحكم "يجري" ويمضي "كذا" باب "النكاح" فإنه مثل باب السهو في ذلك "ان فساد" فيه - أي النكاح - "يسري" بسبب خلل في ماهيته.

والثاني - من تلك الأمور -: أن عمدة مذهب مالك، بل عمدة الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة فعدوا من خالف في الأفعال أو الأقوال جهلا على حكم الناسي ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفا على الإطلاق لعاملوه معاملة العامد كما يقوله ابن حبيب ومن وافقه وليس الأمر كذلك فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرا وهو بين في الطهارات والصلاة والصيام والحج وغير ذلك من العبادات وكذلك في كثير من العادات كالنكاح والطلاق والأطعمة والأشربة وغيرها ولا يقال إن هذا ينكسر في الأمور المالية فإنها تضمن في الجهل والعمد لأنا نقول الحكم في التضمين في الأموال آخر لأن الخطأ فيها مساو للعمد في ترتب الغرم في إتلافها.

والثالث الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة ففي الكتاب: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وقال: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وفي الحديث: "قال قد فعلت" وقال: {لَا يُكَلِّفُ

ص: 241

"‌

‌ المسألة الخامسة

"

1356 -

جَلْبُ الْمَصَالِحِ وَدَفْعُ الْمَفْسَدَهْ

بِالإذْنِ فِيهِ أَضْرُبٌ مُعَدَّدَهْ

1357 -

فَقَصدُ ذَاكَ دُونَ قَصْدٍ لِلضَّرَرْ

بِغَيْرِهِ يَصِحُّ مَا فِيهِ نَظَرْ

1358 -

وَفَاعِلٌ مَعْ قَصْدِهِ الإِضْرَارَ

يَمْنَعُ قَصْدَهُ بِلَا ضِرَارَا

اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وفي الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وهو معنى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه وإن اختلفوا فيما تعلق به رفع المؤاخذة هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصة أم لا فلم يختلفوا أيضًا أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح فإذا كان كذلك ظهر أن كل واحد من الطرفين معتبر على الجملة ما لم يدل دليل من خارج على خلاف ذلك والله أعلم.

"المسألة الخامسة"

في أن "جلب المصالح ودفع المفسدة" أن كان قد ثبت حكمه شرعا "بالإذن" الشرعي "فيه" فإنه على "أضرب" أي أنواع "معدّده" يعني محصورة في عدد معين وهو ثمانية في الجملة، بعضها متفرع عن بعض.

أحدها: أن لا يلزم من ذلك الجلب أو الدفع إضرار بالغير. وهذا حكمه هو أنه باق على أصله من الإذن، ولا إشكال فيه، وبذلك "فقصد" المكلف وفعله "ذاك" الجلب، أو الدفع "دون قصد" منه "للضرر بغيره" ودون لزومه منه "يصح" شرعا، ذلك الفعل ما زال - كما تقدم ذكره - باقيا على أصله من الإذن "ما فيه" بحث ولا "نظر" يقتضيه حاله فجريان هذا الحكم فيه لا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن فيه ابتداء.

وثانيهما: أن يلزم عنه ذلك - الإضرار - وهذا الضرب قسمان: أحدهما: أن يكون من هو آت بذلك الجلب أو الدفع "و" من هو "فاعل" له آتيا بذلك وفاعلا له "مع قصده" به "الإضرار" بغيره كالمرخص في سلعته قصد الطلب معاشه، وصحبه - أي ذلك القصد - قصد آخر وهو القصد إلى الإضرار بغيره بذلك. وهذا حكمه انه "يمنع" عليه "قصده" المذكور، إذ المطلوب شرعا هو رفع ما فيه الضرر والإضرار "بـ" قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي "لا" ضرر ولا "ضرارا" " - بكسر الضاد والالف للإطلاق -

ص: 242

1359 -

وَالْفِعْلُ هَلْ يَكُونُ مِنْهُ يَمْنعُ

هَذَا مَحَلٌّ لاجْتِهَادٍ يَقَعُ

1360 -

فَحَيْثُ كَانَ دُونَ ضُرٍّ يُمْكِنُ

حُصُولُهُ فَالْمَنْعُ مِنْهُ بَيِّنُ

1361 -

وَحَيْثُ لَا مَحِيدَ لَيْسَ يَمْنَعُ

وَقَصْدُ الإضْرَارِ هُوَ الْمُمْتَنِعُ

1362 -

وَهْوَ عَلَى مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ

فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ حُكْمًا يَأتِي

فالضرر في الإسلام محظور خاصا كان أو عاما.

"و" لكن يبقى النظر جاريا في حكم هذا "الفعل هل يكون" المكلف "منه" يعني من إتيانه "يمنع" ويصد، إذ هو فعل غير مأذون فيه شرعا.

أو يكون غير ممنوع من الإتيان به لأنه فعل ما زال باقيا على حكمه الأصلي من الإذن، ويكون عليه إثم ما قصد؟ "هذا محل" وموضع "لاجتهاد يقع" ونظر يتوصل به إلى معرفة الحكم الراجح فيه.

والظاهر من حاله أن يصار في بيان حكمه إلى التفصيل، وهو انه إما أن يكون المكلف حيث إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ودرء تلك المفسدة حصل له ما أراد أو لا.

"فحيث كان" ذلك الاستجلاب أو الدفع يتأتى إدراكه "دون ضر" و "يمكن حصوله" به "فـ" إن الحكم الجاري في ذلك الوجه الذي فيه الإضرار بالغير هو "المنع منه" وهذا حكم "بين" لا إشكال فيه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلَّا لأجل الإضرار فلينقل عنه ولا ضرر عليه كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد به غير الإضرار.

"و" أما إن كان "حيث لا محيد" أي لا معدل له ولا محيص عن ذلك الوجه الذي يحصل به هذا الإضرار فحكمه أنه "ليس يمنع" منه لأن حق الجالب أو الدافع مقدم "وقصد الإضرار" بذلك "هو الممتنع" المحرم، ومقتضى ذلك أنه يلزمه رفع هذا القصد فقط، لأنه هو المحرم أما من فعل ذلك الجلب أو الدفع في هذا المقام فإنه مباح.

"وهو" أي حكم هذا الموضع جار تخريجه "على" الطريقة الجارية في "مسألة الصلاة في الموضع المغصوب" فيكون هذا الحكم "حكما يأتي" على وفق ما تقرر في هذه المسألة - مسألة الصلاة في المكان المغصوب - من جهة جريان انفكاك الجهتين فيه

ص: 243

1363 -

وَإِنْ يَكُنْ لَا يَقْصِدُ الإِضْرَارَا

لَكِنَّهُ يُسْتَصْحَبُ اضْطِرَارَا

1364 -

فَمَا يُرَى بِالْمَنْعِ مِنْهُ الضَّرَرُ

يَلْحَقُهُ بِحَيثُ لَا يَنْجَبِرُ

1365 -

قُدِّمَ حَقُّهُ عَلَى الإِطلَاقِ

وَكَادَ أَنْ يَكُونَ بِاتِّفَاقِ

1366 -

وَإِنْ يَكُنْ مُنْجَبِرًا فَتُعْتَبَرْ

الْجِهَةْ الَّتِي بِهَا عَمَّ الضَّرَرْ

- جهة الفعل وجهة القصد - ومقتضى ذلك جريان الخلاف فيه على الوجه الذي عليه الخلاف في مسألة هذه الصلاة.

"و" الثاني من الضررين - وهو الثالث في الجملة - وهو "إن يكن" الجالب للمصلحة أو الدافع للمفسدة "لا يقصد" بذلك "الاضرار" بغيره "لكنه" يعني لكن ذلك الفعل "يستصحب" بمقتضى حاله "اضطرارًا" وحاجة إليه.

وهذا قسمان أحدهما أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، والامتناع من بيع داره، أو فدانه وقد اضطر الناس لمسجد جامع.

وحكم هذا القسم يورد بالتفصيل "فما يرى" من ذلك أي يعلم أن المكلف يصيبه "بالمنع منه الضرر" و "يلحقه" وهو لازم له "بحيث لا ينجبر" ذلك الضرر ولا يرتفع، "قدم" فيه "حقه" أي المكلف "على الاطلاق" من غير تفصيل في ذلك بين أنواع الضرر وصوره "وكاد" هذا الحكم "أن يكون" حاصلا "باتفاق" أهل العلم عليه.

"و" أما "إن يكن" ضررا "منجبرا" كالضرر المالي "فـ" إنه يلغى فيه حق ذلك المكلف وجهته "تعتبر" فيه - هذا شأن وحكم هذا القسم - وهو ما في فعله إضرار عام.

"الجهة التي بها عم الضرر" وشمل فيمنع الجالب أو الدافع مما هم به لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة، بدليل النهي عن تلقي السلع وعن بيع الحاضر للبادي، واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره، مما رضي أهله ومما لم يرضوا.

وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص.

ص: 244

1367 -

وَفِي الذِي فِي فِعْلِهِ إِضْرَارُ

خُصَّ وَفِي الْمَنْعِ لَهُ اسْتِضْرَارُ

1368 -

تَقْدِيمُهُ إِنْ يُعْتَبَرْ لِلْحَظِّ

أَوْ لَا فَفِيهِ غَيْرُ هَذَا اللَّحْظِ

" و" أما القسم الثاني - وهو الرابع "في" الجملة - فهو "الذي في فعله إضرار خصّ" أي خاص، وهذا القسم نوعان أحدهما: أن يلحق الجالب بمنعه من ذلك ضرر، فهو محتاج إلى فعله، كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم انها تقع بغيره، أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره عالما انه إذا حازه استضر غيره بعدمه "و" لو أخذ من يده أستضر هو فـ "فـ "المنع" أي لذلك الجلب له يعني عليه لحوق "استضرار" به - ففي هذا - الحكم الشرعي:

هو "تقديمه" يعني تقديم حق ذلك الجالب لكن ذاك "أن يعتبر" أي ينظر "لـ" جهة "الحظ" الذي هو حق شرعي له فله تحصيله وإن استضر غيره بذلك لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها.

وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بجوازه له دون غيره وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلَّا مع إسقاط السابق لحقه وذلك لا يلزمه بل قد يتعين عليه حق نفسه في الضروريات فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه لأنه من حقه على بينة ومن حق غيره على ظن أو شك وذلك في دفع الضرر واضح وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به.

وقد سئل الداودي هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل قال نعم ولا يحل له إلَّا ذلك قيل له فإن وضعه السلطان على أهل بلدة وأخذهم بمال معلوم يردونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم قال ذلك له.

قال: ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي: يأخذ من غنم أحد

ص: 245

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء قال ولست آخذ في هذا بما روي عن سحنون لأن الظلم لا أسوة فيه ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره والله تعالى يقول: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42].

هذا ما قال ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره إذا كان المطروح جورا بينا وذكر عبد الغني في المؤتلف والمختلف عن حماد بن أبي أيوب.

قال: قلت لحماد بن أبي سليمان إني أتكلم فترفع عني النوبة فإذا رفعت عني وضعت على غيري فقال إنما عليك أن تكلم في نفسك فإذا رفعت عنك فلا تبالي على من وضعت.

ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلَّا بذلك وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولما نعى الحاج حتى يؤدوا خراجا كل ذلك انتفاع أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر أو قتل الكافر المسلم بل قال عليه الصلاة والسلام "وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل" الحديث ولازم ذلك دخول قاتله النار وقول أحد ابني آدم {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] بل العقوبات كلها جلب مصلحة أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير إلَّا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام ولأن جانب الجالب والدافع أولى وقد تقدم الكلام على هذا قبل

(1)

.

هذا إن اعتبرت جهة الحظ، فإن كانت ملغاة "أو لا" تعتبر "فـ" إنه يصار إلى أن موضعها - حينئذ - موضع "فيه غير هذا اللحظ" وهذا الاعتبار، إذ يصار فيه إلى ترك الحظ.

(1)

الموافقات 2 ص 266.

ص: 246

1369 -

وَالتَّرْكُ لِلْحَظِّ لَهُ حَالَانِ

أُولَاهُمَا حَقِيقَةُ الإِيمَانِ

1370 -

وَذَاكَ بِالتَّرْكِ لِلاسْتِبْدَادِ

وَبِالْمُوَاسَاةِ فِي الاعْتِيادِ

1371 -

وَمِنْ هُنَا شَرْعِيَّةُ الزَّكاةِ

وَمَا يُوَالِيهَا مِنَ الصِّلَاتِ

" والترك للحظ" وإلغاء اعتباره - صاحبه يثبت "له حالان" حالتان جليلتان: "أولاهما": مدركه ومنبعه ومثمره "حقيقة الإيمان" بالله تعالى - وما أوجب الإيمان به "وذاك" الوصف يحصل "بالترك" والإسقاط "للاستبداد" أي الانفراد - الانفراد بالمصلحة دون الخلق - "وبـ" الدخول في "المواساة" للخلق، وهو إشراكهم في الرزق، وإعانتهم على درك المعاش، ودفع كرب المصاب عنهم على سواء "في" ما هو من الأمور جار على وفق "الاعتياد" أي العادة في ذلك، وهذا أمر محمود جدا. وقد فعل ذلك في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد فهو على ذلك واحد منهم فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم فقال عليه الصلاة والسلام فهم مني وأنا منهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته وفي مسلم عن أبي سعيد قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له قال فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.

(1)

"ومن هنا" أي هذا الموضع - وهو الإيثار على النفس والمواساة - أتى "شرعية" أي مشروعية "الزكاة" وإيجابها "و" كذلك مشروعية "ما يواليها" يدانيها - يشبهها - من جهة كونه "من الصّلات" وهي بكسر الصاد جمع صلة وهي العطية، وهي كالمنحة والعارية والإقراض

(1)

الموافقات 2 ص 268.

ص: 247

1372 -

ثَانِيَةُ الْحَالَيْنِ فِي الْإيثَارِ

بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ بِالاخْتِيَارِ

1373 -

وَذَاكَ مَعْنَى الْجُودِ وَالتَّوَكُّلِ

وَانْظُرْ لِمَا قَدْ جَاءَ فِيهِ عَنْ عَلِي

1374 -

بَلْ لِلَّذِي جَاءَ عَنِ الرَّسُولِ

فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ

والهبة، والصدقة وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق وهو لا يقتضى استبدادا، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلَّا بمقدار ما يلحق الجميع أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه ضررا ناجزا وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئًا واحدا على مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام:(المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا) وقوله: (المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وقوله: (المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه) وسائر ما في المعنى من الأحاديث إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلَّا بهذا المعنى وأسبابه وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلَّا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه أو أقل لخرج عن اعتداله وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة وترك الفرقة وهو كثير إذ لا يستقيم ذلك إلَّا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها

(1)

.

هذه هي الحالة الأولى. "ثانية الحالين" تظهر "في الإيثار" أي التقديم والتفضيل للغير "بالمال والنفس" ويكون حصول ذلك "بالاختيار" والرضى "وذاك" الإيثار هو "معنى الجود" والسخاء، بل هو عمل لا يصدر إلَّا عمن كان معتمدا على صحة اليقين، "و" مصيبا لعين "التوكلِ" على الله - تعالى - "وانظر " لتكون على بصيرة بما عليه السلف في هذ الشأن "لما قد جاء فيه" أي في هذ الشأن والأمر "عن" أمير المؤمنين "علي" بن أبي طالب رضي الله عنه وهو مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عزم الكفار على قتله عليه الصلاة والسلام وهو أمر مشهور، وخبر مأثور. "بل" انظر "للذي جاء" مرويا "عن الرسول" عليه الصلاة والسلام "فيه" أي في هذا الشأن - الإيثار على النفس - "على" سبيل "الجملة" ككونه أجود الناس وما أشبه ذلك من الأخبار العامة الواردة في هذا الشأن "و" ما جاء في ذلك على سبيل "التفصيل" ومن ذلك ما روي أنه عليه الصلاة والسلام

(1)

الموافقات 2 ص 268.

ص: 248

1375 -

وَكُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ اسْتِضْرَارُ

فِي الْمَنْعِ وَالْغَيْرُ لَهَ إِضْرَارُ

1376 -

فَإِنْ يَكُنْ يَحْصُلُ قَطْعًا عَادَهْ

فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مَا أَرَادَهْ

1377 -

كحَفْرِ بِئْرٍ خَلْفَ بَابِ الدَّارِ

وَرُبَّمَا ضُمِّنَ فِي الإِضْرَارِ

1378 -

وَالأَصْلُ فِي مَسْأَلَةِ الذَّكَاةِ

بِمُدْيَةِ الْغَصْبِ عَلَيْهِ يَاتِي

حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلا حتى فرغ منه، وجاءه رجل فسأله - فقال "ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه. فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف البشر في وجهه، وقال:"به أمرت" ذكره الترمذي. وعلى هذا السبيل مضى الصحابة - رضوان الله عليهم - وأخبارهم في ذلك معروفة مشهورة.

"و" أما القسم الخامس فهو الذي فيه "كل من "هو جلب المصلحة أو دافع المفسدة ضرر وبذلك فهو "ليس له" أي عليه في ذلك "استضرار في "حالة "المنع" أي منعه ذلك "و" لكن "الغير" أي غيره من الناس يثبت "له" أي عليه "إضرار" بذلك الجلب أو الدفع إن فعله وهذا على ثلاثة أنواع وأقسام:

أحدها: ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا: أعني القطع العادي، "فإن يكن" الأمر كذلك وهو أن الإضرار على الغير يقع و "يحصل" بذلك "قطعا عاده" وجزما "فإنه" أي فإن ذلك الجالب أو الدافع "يمنع" ويحرم "ما أراده" من هذا وذلك "كحفر بئر خلف" أي وراء "باب الدار" في الظلام بحيث يقع فيه الداخل بلا شك، فإن فعل ذلك فإنه يعدّ متعديا بفعله ذاك "وربما ضمّن" ألزم بالضمان - ويكون ذلك بحسب النفوس والأموال على ما يليق بكل نازلة - ان كان ثم ما يضمن "في"ذلك "الإضرار" يعني بسبب ذلك الإضرار، لأن ذلك الفعل وإن كان مأذونا فيه باعتبار الأصل فإنه يلزم عنه الإضرار بالغير. "والأصل" الذي يجري عليه بناء الحكم "في مسألة الذكاة" أي الذبح "بمدية الغصب" يعني بمدية غصبت كذلك في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة وما لحق بها من المسائل "عليه" أي على الوجه الذي تقدم ذكره وهو أن الفعل مأذون فيه باعتبار الأصل الشرعي فيه لكنه يترتب "عليه" إلحاق الضر "يأتي" - خبر قوله "والأصل" - يعني أن الأصل المذكور على هذا الوجه وهو ما يعبر عنه في عرف الأصوليين باجتماع

ص: 249

1379 -

فَإِنْ يَكُ الإِضْرَارُ فِيهِ يَنْدُرُ

فَإِنَّ حَقَّهُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ

1380 -

لِأنَّ فِي التَّحْصِيلِ لِلْمَنَافِعِ

إِنْ غَلَبَتْ هُوَ اعْتِبَارُ الشَّارعِ

جهتين منفكتين، كل واحدة منهما تستقل بحكمها ولأجل ذلك تكون هذه العبادة - الصلاة في الدار المغصوبة - وما شابهها صحيحة مجزئة. والعمل الأصلي صحيحا لأنه مأذون فيه، ويكون فاعل ذلك عاصيا بالطرف الآخر وضامنا إن كان ثم ضمان. ولا تضاد في الأحكام - هنا -، لتعدد جهاتها.

هذا بيان حال هذا النوع، الذي يكون لحوق الضرر فيه بالغير مقطوعا به - وحكمه.

"فإن يك" حصول "الإضرار فيه يندر" - وهو النوع الثاني، والقسم السادس في الجملة - وذلك كحفر بئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي لا تضر غالبا "فإن" حكمه هو أن "حقه" أي الجالب أو الدافع في هذا المقام "هو المعتبر" إذ ذلك الفعل ما زال على أصله من الإذن الشرعي فيه.

و"لأن في التحصيل" والإدراك "للمنافع ان غلبت" ما به يترجح مقتضاه وحكمه، و "هو اعتبار الشارع" في الأحكام للغالب، عدم اعتباره للنادر. قال الشاطبي "لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندور في انخرامها إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة إلَّا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة مع معرفته بندور المضرة عن ذلك تقصيرا في النظر ولا قصدا إلى وقوع الضرر، فالعمل إذا باق على أصل المشروعية، والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط وإباحة القصر في المسافة المحدودة مع إمكان عدم المشقة كالملك المترف ومنعه في الحضر بالنسبة إلى ذوي الصنائع الشاقة وكذلك إعمال خبر الواحد والأقيسة الجزئية في التكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة"

(1)

.

(1)

الموافقات 2 ص 272.

ص: 250

1381 -

وَإِنْ يَكُ الإِضْرَارُ ظَنًّا يَحْصُلُ

وَغَالبا فَالْحَظُّ فِيهِ مُعْمَلُ

1382 -

لَكِنَّ الأرْجَحَ اعْتِبَارُ الظَّنِّ

إِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الأمُورِ يُغْنِي

1383 -

مَعْ أَنَّ بَابَ السَّدِّ لِلذَّرَائِعِ

يَدْخُلُ فِي ذَا الْقِسْمِ فِي مَوَاضِعِ

1384 -

وَإِنْ يَكُنْ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا

بِنَادِرٍ فَالْخُلْفُ هَاهُنَا انْجَلَا

" و" أما القسم السابع فهو الذي يتحقق "إن يك الإضرار" بالغير لا يجزم بوقوعه وإنما يظن وقوعه به "ظنا" فإن إدراكه على ذلك - الظن - "يحصل و" هذا على ضربين: أحدهما: أن يكون وقوع ذلك الأمر المظنون غالبا. ثانيهما: أن يكون كثيرا كمسائل بيوع الآجال. فما كان "غالبا فالحظ" أي حظ الجالب أو الدافع هو الذي "فيه" أي في هذا الموضع "معمل" ومعتبر، على ما يظهر من مقتضى بقاء الفعل المؤتى به فيه على أصله من الإباحة والإذن الشرعي فيه.

"لكن الأرجح" فيه - أي في هذا الموضع هو "اعتبار" ذلك "الظن" والعمل بمقتضاه - وذلك "إن كان" الظن "في بعض الأمور" وهي العمليات - كالعبادات - "يغني" في إثبات أحكامها إذ يجري في ذلك مجرى العلم، وبذلك فالظاهر جريان مقتضاه - أي الظن هنا - يزاد "مع" هذا الأمر أمر آخر وهو "أن باب السد" أي المنع "للذرائع" والوسائل المؤدية إلى المفاسد "يدخل في ذا القسم" وهو ظن وقوع الضرر "في مواضع" منصوص عليها كقوله - تعالى -:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فإنهم قالوا: لتكفنّ عن سب آلهتنا، أو لنسبنّ إلهك. فنزلت

(1)

. واعتبار هذا الأمر جار في جميع المواطن التي بنيت الاحكام فيها على هذه القاعدة - سد الذرائع - فاعتباره لا يختص بما نص عليه من ذلك. وهذا الذي تقرر هنا وفي القسم الذي قبله إنما يجري حكمه ويمضي فيما إذا كان وقوع الفعل يؤدي إلى المفسدة - أي الضرر - نادرا أو غالبا، كما تقدم التنصيص عليه.

"و" أما "ان يكن" ايصاله وتبليغه إلى المفسدة "ليس بغالب ولا بنادر" وإنما هو كثير فهذا موضع نظر واجتهاد ولذلك "فالخلف" بين أهل العلم في حكم هذا المحل ثابت "ها هنا" وهو خلف ليس خافيا بل هو أمر قد "انجلا" وظهر في هذا المقام.

(1)

الموافقات 2 ص 273.

ص: 251

1385 -

لِلأخْذِ بِالإِذْنِ يَمِيلُ الشَّافِعِي

وَمَالِكٌ لِلسَّدِّ لِلذَّرَائِعِ

والأصل فيه - أي في هذا الموطن - الحمل على الأصل وهو صحة الإذن الشرعى وجريان حكمه فيه.

إلَّا أنه يعارضه جانب الظن المثار بوقوع تلك المفسدة بكثرة، فجرى الخلاف في هذا الشأن لذلك، كما تقدم ذكره.

"للأخذ" والعمل "بـ" مقتضى "الإذن" الشرعي المذكور "يميل" الإمام محمد بن إدريس "الشافعي" - رحمه الله تعالى -، ومن وافقه في هذا، وذلك لأن العلم والظن منتفيان بوقوع المفسدة، إذ ليس هنا إلَّا احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه، ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر، واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة. وأيضا فإنه لا يصح أن يعد الجالب أو الدافع هنا مقصرا، ولا قاصدا كما في العلم والظن، لأنه ليس حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما.

"و" خالف الإمام "مالك" رحمه الله هذا الذي ذهب إليه الشافعي ومن وافقه هنا، فرأى إلغاء جهة الإذن الشرعي المذكور في هذا المقام وإسقاطه، وذهب "لـ" ترجيح العمل بقاعدة "السد للذرائع" بناء على كثرة القصد وقوعا ولذلك القصد لا ينضبط في نفسه لأنه من الأمور الباطنة لكن له مجال هنا وهو كثرة الوقوع في الوجود أو هو مظنة ذلك فكما اعتبرت المظنة وإن صح التخلف كذلك تعتبر الكثرة لأنها مجال القصد ولهذا أصل وهو حديث أم ولد زيد بن أرقم وأيضا فقد يشرع الحكم لعلة مع كون فواتها كثيرا كحد الخمر فإنه مشروع للزجر والازدجار به كثير لا غالب فاعتبرنا الكثرة في الحكم بما هو على خلاف الأصل فالأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به وإيلامه كما أن الأصل في مسألتنا الإذن فخرج عن الأصل هنالك لحكمة الزجر وخرج على الأصل هنا من الإباحة لحكمة سد الذريعة إلى الممنوع وأيضا فإن هذا القسم مشارك لما قبله في وقوع المفسدة بكثرة فكما اعتبرت في المنع هناك فلتعتبر هنا كذلك

(1)

.

(1)

الموافقات 2 ص 274.

ص: 252

1386 -

وَالنَّهْيُ عَنْهُ جَاءَ فِي مَسَالِكِ

مِمَّا بِهِ يَعْضُدُ قَوْلَ مَالِكِ

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ السَّادِسَةُ

"

1387 -

كُلُّ مُكَلَّفٍ وَمَا مِنْ مَانِعْ

بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْمَنَافِعْ

" و" أيضًا فقد ورد "النهي" الشرعي "عنه" أي عن هذا الذي يؤدي إلى المفسدة كثيرا، و "جاء" حكما "في مسالك" من هذا الصنف، وهو ما يؤدي إلى المفسدة كثير ومن ذلك ما جاء على ما ذكره الشاطبي عنه صلى الله عليه وسلم من النهي عن الخليطين وعن شرب النبيذ بعد ثلاث وعن الإنتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها وبين عليه الصلاة والسلام أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة فقال لو رخصت في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه يعني أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا ووقوع المفسدة في هذه الأمور ليست بغالبة في العادة وإن كثر وقوعها وحرم عليه الصلاة والسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية وأن تسافر مع غير ذي محرم ونهى عن بناء المساجد على القبور وعن الصلاة إليها وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.

وقال إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم وحرم نكاح ما فوق الأربع لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ونكاحها وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة وسائر دواعي النكاح وكذلك الطيب وعقد النكاح للمحرم ونهى عن البيع والسلف وعن هدية المديان وعن ميراث القاتل وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم أو يومين وحرم صوم يوم عيد الفطر وندب إلى تعجيل الفطر وتأخير السحور إلى غير ذلك مما هو ذريعة وفي القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة وليس بغالب ولا أكثري (1).

وهذا كلّه "مما به يعضد" ويقوى "قول مالك" المذكور في هذه المسألة

(1)

.

"المسألة السَّادسة"

في بيان أن "كلّ" شخص "مكلف وما" أي ليس به "من مانع" كاضطرار أو عجز هو من يطلب بالقيام "بما يخصه من المنافع" والمصالح.

(1)

الموافقات 2 ص 276/ 27.

ص: 253

1388 -

لَيْسَ عَلَى الْغَيْرِ بِهَا قِيَامُ

لَاكِنْ إِنْ اضْطُرَّ فَذَا إِلْزَامُ

1389 -

وَمِنْ هُنَا شَرْعِيَّةُ الإِقْرَاضِ

وَمَا بِمَعْنَاهُ مِنَ الأَغْرَاضِ

وبذلك فإنه "ليس على الغير" أي غيره الإتيان "بها" أو "قيام" بتحصيلها.

والدليل على ذلك أوجه: أحدها أن المصالح إما دينية أخروية وإما دنيوية أما الدينية فلا سبيل إلى قيام الغير مقامه فيها حسبما تقدم وليس الكلام هنا فيها إذ لا ينوب فيها أحد عن أحد وإنما النظر في الدنيوية التي تصح النيابة فيها فإذا فرضنا أنه مكلف بها فقد تعينت عليه وإذا تعينت عليه سقطت عن الغير بحكم التعيين فلم يكن غيره مكلفا بها أصلا والثاني أنه لو كان الغير مكلفا بها أيضًا لما كانت متعينة على هذا الملكف ولا كان مطلوبا بها البتة لأن المقصود حصول المصلحة أو درء المفسدة وقد قام بها الغير بحكم التكليف فلزم أن لا يكون هو مكلفا بها وقد فرضناه مكلفا بها على التعيين هذا خلف لا يصح والثالث أنه لو كان الغير مكلفا بها فإما على التعيين وإما على الكفاية وعلى كل تقدير فغير صحيح أما كونه على التعيين فكما تقدم وأما على الكفاية فالفرض أنه على المكلف عينا لا كفاية فيلزم أن يكون واجبا عليه عينا غير واجب عليه عينا في حالة واحدة وهو محال

(1)

.

"لكن" هذا الحكم إنما يسري على المكلف إن كان قادرا مختارا وأما "إن اضطر" إلى تلك المصالح وهو غير قادر على تحصيلها، "فـ" إنه في "ذا" أي هذا الحال يسقط عنه التكليف بتلك المصالح، فيقع على غيره "إلزام" ووجوب بتحصيلها له، "ومن هنا" أي هذا الموضع وهو انتقال وجوب تحصيل المكلف مصالحه إلى غيره عند الضرورة جاءت "شرعية" أي مشروعية "الإقراض وما" هو "بمعناه من الأغراض" أي في حكمه من جهة كونه مواساة وقياما بهذا الواجب كغسل الموتى ودفنهم والقيام على الأطفال والمجانين والنظر في مصالحهم وما أشبه ذلك من المصالح التي لا يقدر المحتاج إليها على استجلابها والمفاسد التي لا يقدر على استدفاعها فعلى هذا يقال كل من لم يكلف بمصالح نفسه فعلى غيره القيام بمصالحه بحيث لا يلحق ذلك الغير ضرر فالعبد لما استغرقت منافعه مصالح سيده كان سيده مطلوبا بالقيام بمصالحه والزوجة كذلك صيرها الشارع للزوج كالأسير تحت يده فهو قد ملك منافعها الباطنة من جهة الإستمتاع

(1)

الموافقات 2 ص 276/ 277.

ص: 254

"‌

‌ الْمَسْأَلةُ السَّابِعَةُ

"

1390 -

وَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ فِي الْعِبَادِ

صَلَاحُ غَيْرِهِ فِي الاعْتِيَادِ

1391 -

إِنْ كانَ قَادِرًا بِلَا مَشَقَّهْ

عَلَى قِيَامِهِ بِمَا اسْتَحَقَّهْ

1392 -

فَمَا عَلَى سِوَاهُ مِنْ قِيَامِ

بِمَا يَخُصُّهُ عَلَى الدَّوَامِ

1393 -

وَغَيْرُ قَادِرٍ وَمَنْ قَدْ يَقْدِرُ

لَاكِنْ عَلَى مَشَقَّةٍ تُعْتَبَرُ

والظاهرة من جهة القيام على ولده وبيته فكان مكلفا بالقيام عليها فقال الله تعالى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] الآية

(1)

.

"المسألة السابعة"

"و" هي في بيان أن "كل من كلف في "- بمعنى من - يعني من "العباد" بتحصيل ما به يتحقق "صلاح" حال "غيره" واستقامة أموره المنظومة "في"سلك ما يجري عليه حكم "الاعتياد" والعادة لا يخلو من حالين:

أحدهما: أن يكون مع قيامه بمصالح ذلك الغير قادرا - كذلك - على القيام بمصالح نفسه الدنيوية.

ثانيهما: أن يكون غير قادر على ذلك.

فـ "إن كان قادرا بلا مشقة" تلحقه "على قيامه بما استحقه" من مصالحه الدنيوية مع ذلك الذي كلف به من تحصيل مصالح غيره.

"فـ" إنه "ما" أي ليس "على" أحد "سواه من قيام" أو إتيان "بما يخصه" من تلك المصالح وهذا حكم جار عليه وماض مقتضاه في شأنه "على الدوام". والدليل على ذلك أنه إذا كان قادرا على الجميع، وقد وقع عليه التكليف بذلك، فالمصالح المطلوبة من ذلك التكليف حاصلة من جهة هذا المكلف، فطلب تحصيلها من جهة غيره غير صحيح لأنه تحصيل الحاصل، وهو محال.

"و" أما من هو "غير قادر و "كذا "من قد يقدر" على ذلك "لاكن على مشقة تعتبر" ويعتد بها شرعا في إسقاط التكليف، فإنه لا يخلو حاله - حال من ذكر - من أن تكون

(1)

الموافقات 2 ص 277.

ص: 255

1394 -

إِنْ كَانَ مَا لِلْغَيْرِ لَا يَعُمُّ

فَمَا يَخُصُّهُ هُوَ الأَهَمُّ

1395 -

وَإِنْ يَكُنْ مَا لِسِوَاهُ عَمَّا

فَلَا سُقُوطَ عِنْد ذَاكَ ثَمَّا

1396 -

لَاكِنْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا بِالذِي

يُصْلِحُهُ عَلَى أَتَمِّ مَأْخَذِ

المصالح المتعلقة به من جهة الغير خاصة أو عامة.

فـ "إن كان ما" تعلق به من تلك المصالح الثابتة "للغير لا يعم"، يعني أنه ليس من المصالح العامة، وإنما هو خاص، فإنه يسقط عنه تعلقه به، وبذلك يقتصر على السعي لتحصيل مصالحه الخاصة، "فما يخصه" من ذلك "هو الأهم" والمقدم في هذه الحالة. وقد تقدم بيان ذلك في القسم الرابع من المسألة الخامسة، فما تقدم هناك جار هنا على استقامة. إلا إذا أسقط حظه، فإن ذلك وجه آخر وقد تقدم بيان حكمه أيضًا هناك. "و" أما "إن يكن ما" تعلق به من مصلحة ثابتة "لسواه عما" - الألف للإطلاق - يعني أنه مصلحة عامة، "فـ" إنه "لا سقوط" لتلك المصلحة عنه "عند ذاك" حصل و"ثما"، - الألف للإطلاق - يعني وقع، بل عليه تحصيل تلك المصلحة، "لاكن" مصالحه الخاصة به يجب أن تحصل، وبذلك فالذين يحصل لهم تلك المصلحة يجب "عليهم أن يقوموا بالذي يصلحه" من كل ما به قوام معاشه وجريان أحواله العادية على استقامة واستداد، وعليهم أن يكونوا في الأخذ في تحصيل ذلك "على أتم مأخذ" وأكمله. لكن على وجه لا يخل بأصل مصالحهم ولا يوقعهم في مفسدة تساوي تلك المصلحة أو تزيد عليها وذلك أنه إما أن يقال للمكلف لا بد لك من القيام بما يخصك وما يعم غيرك أو بما يخصك فقط أو بما يعم غيرك فقط والأول لا يصح فإنا قد فرضناه مما لا يطاق أو مما فيه مشقة تسقط التكليف فليس بمكلف بهما معا أصلا. والثاني أيضًا لا يصح لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة كما تقدم قبل هذا إلَّا إذا دخل على المكلف بها مفسدة في نفسه فإنه لا يكلف إلَّا بما يخصه على تنازع في المسألة وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة فذلك واجب عليهم وإلَّا لزم تقديم المصلحة الخاصة على العامة بإطلاق من غير ضرورة وهو باطل بما تقدم من الأدلة وإذا وجب عليهم تعين على هذا المكلف التجرد إلى القيام بالمصلحة العامة وهو الثالث من الأقسام المفروضة

(1)

.

(1)

الموافقات 2 ص 278.

ص: 256

1397 -

بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُهُمْ إِضْرَارُ

بِهِ وَلَا يَطْرُقُهُ اسْتِضْرَارُ

1398 -

مِنْ مِنَّةٍ يُدْرِكُهُ أَذَاهَا

أَوْ تُهْمَةٍ مَنْصِبُهُ يَأبَاهَا

1399 -

وَمِنْ هُنَا يُمْنَعُ لِلْحُكَّامِ

أَخْذَ هَدِيَّاتِ أُولي الْخِصَامِ

إذا تقرر أن هذا القسم الثالث متعين على من كلف به، على ان يقوم الغير بمصالحه، فإن ذلك لا يجرى إلا إذا كان "بحيث لا يلحقهم إضرارُ به" أي بذلك القيام "ولا يطرقه" أي المكلف بذلك العمل القائم به "استضرار" أي ضرر. أما مضرة المكلف بذلك العمل العام مصلحته القائم به فإنها قد تكون "من" جهة لحاق "منة" به من القائمين على تحصيل مصالحه إذا تعينوا في القيام بأعيان تلك المصالح - أي بمصالح له معينة - والمنن يأباها أرباب العقول الآخذون بمحاسن العادات. وقد اعتبر الشارع هذا المعنى في مواضع كثيرة ولذلك شرطوا في صحة الهبة وانعقادها القبول وقالت جماعة إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة لم يلزمه قبوله وجاز له التيمم إلى غير ذلك وأصله قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] فجعل المن من جملة ما يبطل أجر الصدقة وما ذاك إلَّا لما في المن من إيذاء المتصدق عليه وهذا المعنى موجود على الجملة في كل ما فرض من هذا الباب

(1)

.

وقد تكون تلك المضرة من جهة مظنة "أو تهمة" يرمي بها "منصبه" ومقامه "يأباها" لما فيها من الجرح له "ومن هنا" يؤخذ أنه "يمنع للحكام" أي عليهم "أخذ" وقبول "هديات" وصلات "أولي" أصحاب "الخصام" والتقاضي كما يمنع قبول هدايا الناس للعمال، إذ قد جعلها عليه الصلاة والسلام الغلول الذي هو من كبائر الذنوب. وأما مضرة من يقوم بتحصيل مصالح ذلك القائم فإنها قد تكون من جهة كلفة القيام بالوظائف عند التعيين، وقد يتيسر له ذلك في وقت دون وقت أو في حال دون حال وبالنسبة إلى شخص دون شخص، ولا ضابط في ذلك يرجع إليه ولأنها تصير بالنسبة إلى المتكلف لها أخية الجزية التي ليس لها أصل مشروع إذا كانت موظفة على الرقاب أو على الأموال هذا إلى ما يلحق في ذلك من مضادة أصل المصلحة التي طلب ذلك المكلف بإقامتها إذ كان هذا الترتيب ذريعة إلى الميل لجهة المبالغ في القيام بالمصلحة فيكون سببا في إبطال الحق وإحقاق الباطل وذلك ضد المصلحة ولأجل الوجه الأول جاء في

(1)

الموافقات 2 ص 279.

ص: 257

1400 -

وَبَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يَرْفَعُ

كَالْوَقْفِ مَا يُبْدِي أَذىً وَيَدْفَعُ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1401 -

وَكُلُّ ذَا حَيْثُ يَكُونُ الضَّرَرُ

دُنْيَا وَمَا عَنْهُ سِوَاهُ يَقْصُرُ

1402 -

وَإِنْ يَكنْ سِوَاهُ لَا يَقُومُ

بِهِ فَفِيهِ خُلْفُهُمْ مَعْلُومُ

1403 -

وَأَصْلُهُ مَسْأَلَةُ التَّتَرُّسِ

بِوَاحِدٍ لِجُمْلَةٍ مِنْ أَنْفُسِ

القرآن نفي ذلك في قوله تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 127]{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47]{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86] إلى سائر ما في هذا المعنى وبالوجه الآخر علل إجماع العلماء على المنع من أخذ الأجرة من الخصمين

(1)

.

"وبيت مال المسلمين" وجوده "يرفع" ويزيل "كالوقف" للأموال ونحوها على مصالح المسلمين هذه كل "ما يبدي" أي يظهر من تلك الجهات حصول أي "أذى" أي ضرر يلحق بمن ذكر جميعًا "ويدفع" ـه، فيحصل القيام بالمصالح من الجانبين، ولا يكون فيه ضرر على أحد الطرفين.

"فصل"

"وكل ذا" أي هذا الذي تقدم ذكره، إنما يصار إلى الحكم به "حيث يكون الضرر" اللاحق بذلك القائم بالمصلحة العامة ضررا ينشأ عن أمور الـ "دنيا و" ضررا "ما" أي ليس "عنه" يعني عن إدراكه وتحصيله "سواه" من الناس "يقصر" أي يعجز، وإنما يقوم به عن قدرة واستطاعة.

"و" أما "ان يكن سواه" عاجزا عن تحصيله له بحيث "لا" يستطيع أن "يقوم به فـ" إن هذا الموضع مما جرى "فيه" يعني في حكمه "خلفهم" أي خلف أهل العلم، وخلفهم فيه "معلوم" مشهور، "وأصله" أي الحكم هنا هو الأصل الذي يبنى عليه الحكم في "مسألة التترس" أي التوقي والتحصين من الأذى "بـ" شخص "واحد لجملة" أي جماعة "من أنفس" وما أشبهها من المسائل - المبني حكم وقوع التكليف فيها على اسقاط الحظوظ

(1)

الموافقات 2 ص 280.

ص: 258

1404 -

وَأَصْلُ مَا لَيْسَ يُطَاقُ يَشْهَدُ

أَنْ لَيْسَ تَكْلِيفٌ عَلَيْهِ يَرِدُ

1405 -

وَالأصْلُ فِي تَقْدِيمِ مَا قَدْ عَمَّا

مَصْلَحَةً يُلْزِمُ ذَاكَ الْحُكْمَا

1406 -

وَحَيْثُ إِسْقَاطُ الْحُظُوظِ رَجَحُ

مَصْلَحَةُ الْعُمُومُ وَهْيَ تُوضَحُ

1407 -

بِأَصْلِ الْإِيثَارِ الذِي تَقَدَّمَا

وَمَا أَتَى فِي ذَاكَ نَصًّا مُحْكَمَا

والاعتصام بمقتضى الإيثار.

"و" لكن "أصل" وقاعدة منع التكليف بـ "ما ليس يطاق يشهد" ويدل على "أن ليس تكليف عليه" أي على من هذا حاله، وهو عدم الاستطاعة لذلك "يرد" شرعا بذلك.

"و" يعارض هذا الأصل في هذا الموضع "الأصل" الجاري "في تقديم ما قد عما" - الألف للإطلاق - إذا كان "مصلحة" فهذا الأصل يقتضي و "يلزم ذاك الحكما" المتقدم وهو أي أن من هذا حاله مكلف بما ذكر. وتوارد هذين الأصلين المتعارضين من حيث المقتضى على هذا الموضع هو موجب الخلاف المذكور فيه. "و" الأخذ بمقتضى إسقاط الحظوظ يرجح مقتضى هذا الأصل الأخير، وبذلك فـ "حيث" يعتبر "إسقاط الحظوظ" ويعمل بموجبه فإنه "رجح" وتغلب جهة رعاية "مصلحة العموم" على جهة المصلحة الخاصة "وهي" أي مصلحة العموم - المصلحة العامة - المذكورة "توضح" أي تظهر راجحة بأمرين أحدهما:"بأصل الإيثار الذي تقدما" - الألف للإطلاق - ذكر في المسألة الخامسة، فمثل هذه المسألة داخلة تحت حكمه.

"و" ثانيهما: "ما أتى في ذاك" الإيثار حال كونه "نصا محكما" متقنا، ومعمولا به في الذي دل عليه من حكم. من ذلك قصة أبي طلحة الذي صير نفسه وقاية وترسا للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك. ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت. وهذا الإيثار معلوم من فعله عليه الصلاة والسلام فلقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا، قد سبقهم إلى الصوت -، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري، والسيف في عنقه، وهو يقول:"لن تراعوا".

ص: 259

1408 -

وَحَيْثُ مَا تَكُونُ تِلْكَ الْمَفْسَدَهْ

مِنْ جِهَةِ الأْخْرَى لَهُ مُعْتَمَدَهْ

1409 -

فَكُلُّ مَا لُزُومُهُ عَيْنِيُّ

يَحْدُثُ فِيهِ خَلَلٌ قَطْعِيُّ

1410 -

بِمُقْتَضَى قِيَامِهِ بِالْمَصْلَحَهْ

فَهَاهُنَا التَّرْكُ لَهُ مَا أَوْضَحَهْ

1411 -

إِذْ مَرَّ فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّهْ

أَنَّ لَهَا التَّقْدِيمُ بِالْكُلِّيَّهْ

وهذا إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير. ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته صلى الله عليه وسلم بنفسه ظاهر لأنه كالجنة - الوقاية - للمسلمين.

وأما وجه عمومها في قصة أبي طلحة فإنه من حيث كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين - وأهله - وهو النبي صلى الله عليه وسلم أما عدمه فتعم مفسدته الدين وأهله.

وإلى هذا النحو مال أبو الحسن النوري حين تقدم إلى السياف - وقال: "أوثر أصحابي بحياة ساعة". في القصة المشهورة. هذا كله إن كانت تلك المفسدة دنيوية، وهي يجري فيها حكم الإيثار وإسقاط الحظوظ.

"و" أما "حيث ما" - زائدة - "تكون تلك المفسدة" التي تلحق من يقوم بالمصلحة العامة آتية "من جهة" أمور الدار "الأخرى" أي الآخرة التي هي "له" أي للقائم المذكور "معتمدة" أي مقصودة يعني مقصود تحصيلها منه على وجه اللزوم، كالعبادات اللازمة عينا، ومن كان على هذا الحال فإنه لا يخلو أن يكون دخوله في القيام بهذه المصلحة مخلا بهذه الواجبات الدينية والنواهي الدينية قطعا، أو لا. فإن كان يخل بها "فـ" إن الحكم في ذلك هو ان "كل ما لزومه" ووجوبه "عيني" بحيث على كل شخص مكلف أن يأتي به، إذا كان "يحدث" ويقع "فيه" يعني في الإتيان به وتحصيله من ذلك لقائم "خلل قطعي" مجزوم به، وهو مذهب لماهية ذلك الواجب ومبطل له "بمقتضى" وسبب "قيامه بـ" تلك "المصلحة" العامة، فإنه لا يسوغ الدخول فيه وبذلك "فـ" أنه "هاهنا" يلزم "الترك له" أي القيام بتلك المصلحة، وهذا حكم ظاهر "ما أوضحه إذ" قد "مر" في شأن "المصالح الدينية أن لها التقديم" على المصالح الدنيوية "بالكلية" أي على الإطلاق، فكل مصلحة من مصالح الآخرة إذا عارضتها مصلحة دنيوية فإنها تقدم بدون استثناء.

ص: 260

1412 -

فَإِنْ يَكُنْ يُخِلُّ بِالْكَمَالِ

فَذَاكَ مَغْفُورٌ بِكُلِّ حَالِ

1413 -

مِنْ حَيْث إِنَّ جَانِبَ الْمَنْدُوبِ

غَيْرُ مُعَارِضٍ لِذِي الْوجُوبِ

1414 -

وَحَيْثُ مَا الدُّخُولُ لَمْ يُبْدِ الْخَلَلْ

عَنْهُ وَلَا النَّقْصُ بِهِ أَيْضًا حَصَلْ

1415 -

لَكِنَّهُ شَيْءٌ لَهُ تَوَقُّعُ

فَإنَّهُ لِلاجْتِهَادِ مَوْضُعُ

قال الشاطبي: "ولا أظن هذا القسم واقعا لأن الحرج وتكليف ما لا يطاق مرفوع، ومثل هذا التزاحم في العادات غير واقع

(1)

.

"فإن يكن" غير مخل بتلك المصلحة - المصلحة الأخروية - ولكنه "يخل بالكمال" كمال هذه المصلحة "فـ" إن "ذاك" لا يقتضي ترك القيام بتلك المصلحة فإنه "مغفور". يعني مغتفرا ملغى اعتباره "بكل حال" وذلك "من حيث ان" هذا ليس إلَّا من باب إسقاط المندوبات و "جانب المندوب" في الحكم الشرعي "غير معارض" شرعا "لـ" - لأمر ولجانب - "ذي الوجوب" فالمندوبات لا تعارض الواجبات، لتقديم الواجبات على المندوبات في كل الأحوال، وعلى الإطلاق، كالخطرات الناشئة عن ذلك الشغل العام تخطر على قلبه وتعارضه وهو في العبادة، حتى يحكم فيها بقلبه، وينظر فيها، وذلك الحضور يحصل بالغلبة. وقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو هذا من تجهيز الجيش وهو في الصلاة ومن نحو هذا قوله عليه الصلاة والسلام:"أني لأسمع بكاء الصبي في الصلاة فأتجوز فيها".

"و" أما من "حيث ما" - زائدة - يكون "الدخول" في القيام بتلك المصلحة العامة والسعى في تحصيلها "لم يبد" ولم يظهر "الخلل" المذكور مترتبا "عنه ولا النقص" المذكور "به أيضًا" يعني بسببه "حصل" ووقع و "لكنه شيء" أي ولكن ذلك الخلل والنقص أمر "له توقع" وترقب، "فإنه" أي هذا الموضع "للاجتهاد" والنظر "موضع" ومحل لما تعارض فيه من جهة المصلحة العامة، وجهة المفسدة المذكورة المتوقعة التي قد تعتبر كالمفسدة المحقق وقوعها. مثال ذلك العالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعجب وحب الرياسة، وكذلك السلطان أو الوالي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفا من قصده طلب الدنيا به أو

(1)

الموافقات 2 ص 281.

ص: 261

1416 -

وَقَدْ يَكُونُ جَانِبُ الْعُمُومِ

أوْلَى مِنَ الْخُصُوصِ بِالتَّقْدِيمِ

1417 -

وَمِثْلُ ذَا ضَابِطُهُ وِزَانُ

مَصْلَحَةٍ لِعَكْسِهَا اقْتِرَانُ

1418 -

فَمَا لَهُ التَّرْجِيحُ يَبْدُو غَلَبَا

وَفِي التَّسَاوِي الْخُلْف مِمَّا رُتِّبَا

المحمدة، وكان ذلك الترك مخلا بهذه المصلحة العامة، فإن الذي يصار إليه هنا - "و" هو الظاهر - هو أنه "قد يكون جانب العموم" الذي هو أحد جانبي هذه المسألة هو الأقوى في مجاري النظر الفقهي، وبذلك فهو أمر "أولى" وأجدر "من" جانب "الخصوص بالتقديم" والترجيح، لأنه سبيل لتعطيل مصالح الخلق البتة، فإن اقامة الدين والدنيا لا تحصل إلَّا بذلك، وقد فرضنا هذا الخائف مطالبا به، فلا يمكن إلَّا القيام بها على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه أو ما يشق عليه، والتعرض للفتن والمعاصي راجع إلى هوى النفس خاصة، لا سيما في المنهيات، لأنها مجرد ترك، والترك لا يزاحم الأفعال في تحصيله، والأفعال إنما يلزمه منها الواجب وهو يسير، فلا ينحل عن عنقه رباط الاحتياط لنفسه، وإن كان لا يقدر على ذلك إلَّا مع المعصية فليس بعذر، لأنه أمر قد تعين عليه، فلا يرفعه عنه مجرد اتباع الهوى، إذ ليس من المشقات، كما أنه إذا وجبت عليه الصلاة أو الجهاد عينا أو الزكاة فلا يرفع وجوبها عليه خوف الرياء والعجب وما أشبه ذلك، وإن فرض أنه يقع به، بل يؤمر بجهاد نفسه في الجميع. وأما إن فرض أن عدم اقامته لا يخل بالمصلحه العامة لوجود غيره مثلا ممن يقوم بها، فهذا موضع اجتهاد ونظر، وبذلك فإنه قد يرجح فيه جانب السلامة من العارض المخوف المتوقع وقد يرجح جانب المصلحة العامة، وقد يفرق بين من يكون وجوده وعدمه سواء، فلا ينحتم عليه طلب وبين من له قوة في إقامة المصلحة وغناء ليس لغيره - وإن كان لغيره غناء فيه - أيضًا - فينحتم أو يترجح الطلب "و" الذي يظهر أن حكم "مثل ذا" الموضع الذي تعارضت فيه هذه الاحتمالات "ضابطه" الذي على مداره، والذي به يحدد ويعين هو "وزان" أي مقارنة "مصلحة" موجودة فيه "لعكسها" يعني بعكسها وهو المفسدة التي لها بها "اقتران" واجتماع في ذلك الموضع "فما" ثبت "له الترجيح" منهما فيه فإنه الذي يصار إلى الحكم به لأنه الذي "يبدو "أنه قد "غلبا" جانبه "و" أما "في" حالة "التساوي" بين تلك المصلحة والمفسدة وعدم ظهور رجحان أي منهما على ضده فإن هذا موضع وقع "الخلف" بين أهل العلم في حكمه، وهو خلف يعدّ "مما رتّبا" وبني

ص: 262

1419 -

عَلَى انْخِرَامٍ بَثَّ فِي الْمُنَاسَبَهْ

مَفْسَدَةً مِثْلِيَّةً أَوْ غَالِبَهْ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1420 -

وَقَدْ تُرَى الْمَفْسَدَةُ الْمُسْتَوْضَحَهْ

تُلْغَى لِعُظْمِ مَا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَهْ

" على" مسألة "انخرام" وانهدام "بَثّ" - بفتح الباء - أي نشر "في المناسبة" الرابطة بين الحكم وعلته "مفسدة مثلية" أي مساوية لتلك المصلحة "أو" مفسدة "غالبة" أي راجحة على تلك المصلحة. ففي "جمع الجوامع" لابن السبكي وشرحه للمحلى "المناسبة تنخرم" أي تبطل "بمفسدة تلزم" الحكم "راجحة" على مصلحته، "أو مساوية" لها "خلافا للإمام الرازي" في قوله ببقائها، مع موافقته على انتفاء الحكم.

فهو -[أي الحكم - منتف] عنده لوجود المانع.

وعلى الأول [الحكم منتف] لوجود المقتضى

(1)

.

قال محشيه البناني "مثال ذلك مسافر سلك الطريق البعيد لا لغرض غير القصر، فإنه لا يقصر، لأن المناسب وهو السفر البعيد عورض بمفسدة، وهي العدول عن القريب الذي لا قصر فيه لا لغرض غير القصر، حتى أنه حصر قصده في ترك ركعتين من الرباعية، قاله شيخ الإسلام"

(2)

.

"فصل"

في بيان أنه قد يصار إلى إلغاء المفسدة إذا كانت مما يلغى مثلها في جانب عظم المصلحة "و" بذلك فإنه "قد ترى" وتبصر "المفسدة المستوضحة تلغى" في الاعتبار فلا يعتد بها وذلك "لعظم ما اقتضته" وتضمنته "المصلحة" المعارضة لها الواقعة في مقابلتها.

قال الشاطبي: "حكى عياض في المدارك أن عضد الدولة فناخسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر بن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة فلما وصل كتابه إليهما قال الشيخ ابن مجاهد وبعض أصحابه هؤلاء قوم كفرة فسقة لأن الديلم كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم وليس غرض الملك من هذا إلَّا أن يقال أن مجلسه

(1)

يعني الشيخ زكريا الأنصاري.

(2)

حاشية البناني على شرح المحلى على جمع الجوامع 2/ 286.

ص: 263

"‌

‌ المسألة الثامنة

"

1421 -

ثُمَّ التَّكَالِيفُ بِحَيْثُ مَا عُلِمْ

قَصْدُ الْمَصالِحِ لَدَيْهَا وَفُهِمْ

1422 -

فَلِلْمُكَلَّفِينَ فِي الدُّخُولِ

فِي ذَاكَ أَحْوَالٌ عَلَى التَّفْصِيلِ

1423 -

فَدَاخِلٌ يَقْصِدُ فِي الْقَضِيَّهْ

مَفْهُومَ قَصْدِ الشَّرْعِ بِالشَّرْعِيَّهْ

1424 -

فَذَاكَ وَاضِحٌ وَلَكِنْ يَنْبَغِي

قَصْدُ التَّعَبُّدَاتِ فِيمَا يَبْتَغِي

مشتمل على أصحاب المحابر كلهم ولو كان خالصا لله لنهضت قال القاضي ابن الطيب فقلت لهم كذا قال المحاسبي وفلان ومن في عصرهم إن المأمون فاسق لا يحضر مجلسه حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر وتبين له ما هم عليه بالحجة وأنت أيضًا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجرى على الفقهاء ما جرى على أحمد ويقولوا بخلق القرآن ونفي الرؤية وها أنا خارج إن لم تخرج فقال الشيخ إذ شرح الله صدرك لهذا فاخرج إلى آخر الحكاية فمثل هذا إذا اتفق يلغي في جانب المصلحة فيه ما يقع من جزئيات المفاسد فلا يكون لها اعتبار وهو نوع من أنواع الجزئيات التي يعود اعتبارها على الكلي بالإخلال والفساد"

(1)

.

"المسألة الثامنة"

"ثم" نذكر المسألة الثامنة وهي في بيان أن "التكاليف" الشرعية "بحيث" يعني إذا "ما" - زائدة - "علم" ثبوت ووقوع "قصد" المكلف "المصالح" والمنافع الدنيوية "لديها" أي فيها - يعني في إتيانها والدخول تحتها "وفهم" ذلك وعرف حصوله - "فـ" إن "للمكلفين في الدخول في ذاك" الذي ذكر من التكاليف "أحوال" ثلاثة "على" سبيل "التفصيل". أما أولها: "فـ" هو حال من هو "داخل" تحت التكاليف وهو "يقصد في" هذه "القضية" وهي الدخول المذكور "مفهوم" أي ما فهم أنه "قصد" صاحب "الشرع بـ" تلك التكاليف "الشرعية" فمن كان حاله هكذا "فذاك" حكمه "واضح" بين لأنه ما قصد إلَّا ما علم أن الشارع قد قصده في ذلك "ولكن ينبغي" أن لا يقتصر على ذلك وإنما عليه أن يزيد له "قصد التعبدات" وامتثال الأمر بذلك الدخول "في"كل "ما يبتغي" في

(1)

الموافقات 2 ص 283.

ص: 264

1425 -

وَدَاخِلٌ لِمَقْصدٍ مُتَابِعْ

لِمَا عَسَى أَنْ هُوَ قَصْدُ الشَّارعْ

1426 -

مُطَّلِعًا عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَطَّلِعْ

وَذَا عَنِ الأَوَّلِ شَيْئًا اِرْتَفعْ

ذلك. لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد إذ ليست بعقلية حسبما تقرر في موضعه وإنما هي تابعة لمقصود التعبد فإذا اعتبر صار أمكن في التحقق بالعبودية وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف فكم ممن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها فغاب عن أمر الأمر بها وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد وأيضا فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر إلَّا دليل ناص على الحصر وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلا لم أشرع هذا الحكم إلَّا لهذه الحكم فإذا لم يثبت الحصر أو ثبت في موضع ما ولم يطرد كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضًا من شرع الحكم فنقص عن كمال غيره

(1)

.

"و" الثاني من تلك لأحوال حال من هو "داخل" وهو يقصد التحصيل "لمقصد متابع" للمقصد الأصلي وهو التعبد - العبادة - "لما عسى أن" يكون "هو قصد الشارع" في ذلك العمل سواء كان هو "مطلعا عليه" أي على ذلك القصد "أو" كان "لم يطلع" عليه. وصورة ذلك أن يقول في قرارة نفسه أقصد في هذا العمل كل ما قصده الشارع منه، "و" يأتي ذاك العمل على هذه النية فإن كان على "ذا" الحال فإنه "عن" صاحب الحال "الأول" ارتقى "شيئًا" و "ارتفع" لأن قصده أوسع من قصد ذاك، لأنه يشمل كل بنيته وقصده كل ما قصده الشارع من ذلك، بخلاف ذاك الأول فإنه لم يقصد إلَّا ما علم أن الشارع قد قصده من ذلك على وجه التمام. وبذاك يفضل عليه هذا الثاني لعموم قصده، إلا أنه ربما فاته النظر إلى جهة التعبد والقصد إليه في العمل، فإن الذي ينظر إلى جهة المصلحة في العمل قد يعمل العمل قاصدا لتلك الجهة غافلا عن امتثال الأمر فيها فيشبه من عملها من غير ورود أمر له بها. والعامل على هذا الوجه عمله عادي، فيفوت قصد التعبد، وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق، أو الوجاهة عنده، أو نيل شيء من الدنيا، أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر، وقد يعمل هنالك لمجرد حظه فلا يكمل أجره كمال من يقصد التعبد

(2)

.

(1)

الموافقات 2 ص 283.

(2)

الموافقات 2 - 284.

ص: 265

1427 -

وَدَاخِلٌ بِقَصْدِ الامْتِثَالِ

مُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ قَصْدٍ تَالِ

1428 -

مَعْ فَهْمِهِ فِي ذَاكَ قَصْدَ الْمَصْلَحَهْ

أَوْ دُونَهُ فَحَالُهُ مُسْتَوْضَحَهْ

1429 -

فِي كَوْنِهِ أَكْمَلَ مِمَّا قَدْ مَضَا

وَأَنَّهَا أَسْلَمُ فِيمَا يُقْتَضَى

" و" ثالث هذه الأحوال من هو "داخل" في العمل متحليا قلبه "بقصد" ونية "الامتثال" للأمر الشرعي فقط، "مجردا من كل قصد" آخر "تال" تابع للقصد الأصلي - وهو العبادة - سواء حصل ذلك منه "مع فهمه" أن الشارع "في"شرع "ذاك" العمل والتكليف به قصد آخرا غير القصد.

للتعبد وهو الـ "قصد" إلى تحصيل "المصلحة" للمكلف "أو" حصل "دونه" أي دون ذلك الفهم فمن كان هكذا "فحاله مستوضحة" مستبانة "في كونه" - الضمير للحال وهو يذكر ويؤنث - "أكمل مما قد مضى" من الحالين الأول والثاني. "و" في "أنها أسلم فيما يقتضى" ويلزم من جهة العبودية. قال الشاطبي: "أما كونه أكمل فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ومملوكا ملبيا إذ لم يعتبر إلَّا مجرد الأمر وأيضا فإنه لما امتثل الأمر فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلا ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل فصار مؤتمرا في تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض وأما كونه أسلم فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية واقف على مركز الخدمة فإن عرض له قصد غير الله رده قصد التعبد بل لا يدخل عليه في الأكثر إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئًا ولا يقدر على شيء بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ومصالحهم وإن كان واسطة لنفسه أيضًا فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة فتقوم لذلك نفسه وأيضا فإن حظه هنا ممحو من جهته بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها ولهذا بسط في كتاب الأحكام وبالله التوفيق"

(1)

.

يعني أنه قد تقدم بسط الكلام في هذه المسألة في فصل الأسباب في كتاب الأحكام.

(1)

الموافقات 2 ص 284.

ص: 266

"‌

‌ المسألة التاسعة

"

1430 -

وَلَيْسَ لِلْمُكَلَّفِينَ الْخِيَرَهْ

فِيمَا يُرَى لِلَّهِ حَقًّا أَظْهَرَهْ

1431 -

وَهْيَ لَهُمْ مَوْجُودَةٌ فِيمَا بَدَا

حَقًّا لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ مُجَرَّدَا

1432 -

وَذَاكَ كُلُّهُ بِالاسْتِقْرَاءِ فِي

مَوَارِدِ الشَّرْعِ بِلَا تَخَلُّفِ

"‌

‌ المسألة العاشرة

"

1433 -

وَقَصْدُ قَلْبِ الْحُكْمِ أَوْ رَفْعِ الْعَمَلْ

بِسَبَبٍ يُنْحَى يُسَمَّى بِالْحِيَلْ

" المسألة التاسعة"

"و" هي معقودة في بيان أنه "ليس للمكلفين الخِيَرَة" - بكسر الخاء وفتح الياء - أي الاختيار بين الفعل والترك "في" كل "ما يرى" أي يعلم كونه "لله حقا" معلوما "أظهره" أي بينه - سبحانه - في الشريعة، وقوله "أظهره" لتتميم البيت لصحة الاستغناء عنه، "وهي" أي الخيرة - المذكورة - ثابتة "لهم موجودة في "كل "ما بدا" أي ظهر "حقا" ثابتا "لهم" في أنفسهم خالصا مميزا "من غيره" من الحقوق "مجردا" عن الامتزاج بها من جهة أنه مخير في طلبه وتركه "وذاك كله" ثابت "بالاستقراء في موارد الشرع" يعني في مواطن الأحكام الشرعية، التي دلت على جريان هذا الأصل فيها "بلا تخلف" له فيها.

قال الشاطبي: "أما حقوق الله - تعالى - فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ومصادرها كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى أو حق الغير من العباد"

(1)

.

"المسألة العاشرة"

"و" هي معقودة في بيان أن "قصد قلب الحكم" الشرعي إلى حكم آخر أو إسقاطه "بسبب" شرعي "ينحى" أي قصد بإتيانه وفعله ذلك القلب أو الإسقاط، هو ما "يسمى بالحيل"

(1)

الموافقات 2 ص 286.

ص: 267

1434 -

وَمُقْتَضَاهَا فِعْلُ شَيْءٍ اعْتُمِدْ

فِي ظَاهِرٍ وَاللَّغْوُ بَاطِنًا قُصِدْ

1435 -

كَمُنْشِئٍ فِي رَمَضَانَ السَّفَرَا

بِقَصْدِ أَنْ يَقْصُرَ أَوْ أَنْ يُفْطِرَا

- بكسر الحاء وفتح الياء - جمع حيلة "ومقتضاها" أي هذه الحيل ومضمونها هو "فعل شيء" اعتبر و"اعتمد" شرعا "في ظاهر" أمره لأنه سبب شرعي معتبر ومعتمد في ترتب أحكام شرعية معينة عليه "و" لكنه قد أخرج عن وضعه الشرعي "اللغو" وما لا يعتد به شرعا إن وجد "باطنا" يعني في باطن ونية المكلف هو الذي به "قصد" وبذلك فإنه يعتبر ذلك الفعل - السبب من جهة القصد - ملغى، فلا اعتداد به ومن أتى ذلك الفعل - السبب - على هذا الوجه فإنه يمنع من ثمراته الشرعية وقد يكون صحيحا باعتبار السبب المذكور وبذلك فهو محل نظر واجتهاد.

وذلك "كمنشئ في رمضان السفرا" - الألف للإطلاق - ومثله من أنشأه - أي السفر - وهو في الحضر "بقصد أن يقصرا" الصلاة إذ لو كان مقيما للزمه أن يصلي أربعا، "أو أن يفطرا" ويتخلص من مشقة الصوم.

فهل المعتبر في هذا المقام هو القصد أم هو السبب؟

قال الشاطبي في هذا الشأن: "هو محل يجب الاعتناء به، وقبل النظر في الصحة أو عدمها لا بد من شرح هذا الاحتيال.

وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء وحرم أشياء إما مطلقا من غير قيد ولا ترتيب على سبب كما أوجب الصلاة والصيام والحج وأشباه ذلك وحرم الزنى والربا والقتل ونحوها وأوجب أيضًا أشياء مرتبة

على أسباب وحرم أخر كذلك كإيجاب الزكاة والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك وكتحريم المطلقة والانتفاع بالمغصوب أو المسروق وما أشبه ذلك فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر أو المحرم حلالا في الظاهر أيضًا فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلا كما لو دخل وقت الصلاة عليه في الحضر فإنها تجب عليه أربعا فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها بشرب خمر أو دواء مسبت حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه أو قصرها فأنشأ سفرا ليقصر الصلاة وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج وكما لو أراد وطء جارية الغير

ص: 268

"‌

‌ المسألة الحادية عشرة

"

1436 -

لَيْسَ التَّحَيُّلُ مِنَ الْمَشْرُوعِ

فِي الدِّينِ بَلْ ذَاكَ مِنَ الْمَمْنُوعِ

1437 -

دَلِيلُهُ الذَّمُّ عَلَى الإِطْلَاقِ

لِفَاعِلِي الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ

فغصبها وزعم أنها ماتت فقضى عليه بقيمتها فوطئها بذلك أو أقام شهود زور على تزويج بكر برضاها فقضى الحاكم بذلك ثم وطئها أو أراد بيع عشرة دراهم نقدا بعشرين إلى أجل فجعل العشرة ثمنا لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل أو أراد قتل فلان فوضع له في طريقه سببا مجهزا كإشراع الرمح وحفر البئر ونحو ذلك وكالفرار من وجوب الزكاة بهبة المال أو إتلافه أو جمع متفرقه أو تفريق مجتمعه وهكذا سائر الأمثلة في تحليل الحرام وإسقاط الواجب ومثله جار في تحريم الحلال كالزوجة ترضع جارية الزوج أو الضرة لتحرم عليه أو إثبات حق لا يثبت كالوصية للوارث في قالب الإقرار بالدين وعلى الجملة فهو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعا إلى أحكام أخر بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن كانت الأحكام من خطاب التكليف أو من خطاب الوضع"

(1)

.

"المسألة الحادية عشرة"

في بيان أنه "ليس التحيل" بالمعنى المذكور "من" السبيل "المشروع" والطريق المقبول "في" هذا "الدين" - دين الإسلام - "بل ذاك" فيه "من الممنوع" المحرم، "دليله" أي دليل هذا التحريم والمنع ما جاء في النصوص الشرعية من "الذم على الإطلاق" والوعيد "لفاعلي" ومقترفي "الرياء والنفاق" كقوله - تعالى -:{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 264] لدمائهم وأموالهم، لا لما قصد له ذلك الإظهار في الشرع من الدخول تحت طاعة الله عن اختيار، وتصديق قلبي. وبهذا المعنى كانوا في الدرك الأسفل من النار، وقيل فيهم:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9]، وقالوا عن أنفسهم:{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] لأنهم تحيلوا بملابسة الدين وأهله إلى

(1)

الموافقات 2 ص 288.

ص: 269

1438 -

وَمَا أَتَى فِي شَأْنِ أَهْلِ السَّبْتِ

وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمُ مِنْ مَقْتِ

أغراضهم الفاسدة. "و" مثل ذلك "ما أتى شأن أهل السبت" الذين قال الله - تعالى - فيهم: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)} [البقرة: 65 - 66] وذلك أنهم احتالوا الاصطياد في السبت بصورة الاصطياد في غيره"

(1)

.

"و" كذلك ما جاء في شأن "من جرى مجراهم" أي مجرى هؤلاء المحتالين على انتهاك محارم بتعاطي الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام "من" كل من صار من أهل "مقت" الله - تعالى - وغضبه. وفي سياق الحديث في هذا الأصل أورد الشاطبي أمثلة أخرى من هذا الصنف فقال: "وقال تعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} [البقرة: 231] إلى قوله {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] وفسرت بأن الله حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارّتها، بأن يطلقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يرتجعها ثم يطلقها حتى تشارف انقضاء العدة وهكذا لا يرتجعها لغرض له فيها سوى الإضرار بها وقد جاء في قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] إلى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إن الطلاق كان في أول الإسلام إلى غير عدد فكان الرجل يرتجع المرأة قبل أن تنقضي عدتها ثم يطلقها ثم يرتجعها كذلك قصد فنزلت {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ونزل مع ذلك {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] الآية فيمن كان يضار المرأة حتى تفتدى منه وهذه كلها حيل على بلوغ غرض لم يشرع ذلك الحكم لأجله وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] يعنى بالورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث أو يوصي لوارث احتيالا على حرمان بعض الورثة وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] وقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] الآية إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى. ومن الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة فهذا نهي عن الاحتيال لإسقاط الواجب أو تقليله وقال لا ترتكبوا ما ارتكبت

(1)

وهذه القصة مبسوطة في كتب التفسير فلتراجع هناك.

ص: 270

"‌

‌ المسألة الثانية عشرة

"

1439 -

قَدْ صَحَّ أَنَّ الشَّرْعَ لِلْأحْكَامِ

فِي ضِمْنِهِ مَصَالِحُ الْأَنَامِ

1440 -

لِذَاكَ كَانَ الْفِعْلُ مَعهَا يُعْتَبَرْ

لِمَا بِهَا مِنْ مَقْصَدِ الشَّرْعِ ظَهَرْ

اليهود والنصارى يستحلون محارم الله بأدنى الحيل وقال من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق فهو قمار وقال قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها وقال ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير ويروى موقوفا على ابن عباس ومرفوعا يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها والسحت بالهدية والقتل بالرهبة والزنى بالنكاح والربا بالبيع وقال إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم وقال لعن الله المحلل والمحلل له وقال لعن الله الراشي والمرتشي ونهى عن هدية المديان فقال إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبلها إلَّا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك وقال القاتل لا يرث وجعل هدايا الأمراء غلولا ونهى عن البيع والسلف وقالت عائشة أبلغني زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب والأحاديث في هذا المعنى كثيرة كلها دائرة على أن التحيل في قلب الأحكام ظاهرا غير جائز وعليه عامة الأمة من الصحابة والتابعين"

(1)

.

"المسألة الثانية عشرة"

وهي في بيان أنه "قد" ثبت و"صح" على جزم "أن الشرع" والوضع "للأحكام" قد روعي وأودع "في ضمنه" واعتبر في صوغه "مصالح" ومنافع "الأنام". و"لـ" أجل "ذاك" الذي شرعت له هذه الأحكام من تلك المصالح "كان الفعل" الذي يأتي به المكلف "معها" أي مع تلك المصالح وجودا وعدما "يعتبر" وذلك "لـ" أجل "ما بها" أي بتلك المصالح "من مقصد الشرع ظهر".

(1)

الموافقات 2 ص 289 إلى 292.

ص: 271

1441 -

فَحَيْثُ جَاءَ الْفِعْلُ بِالْوِفَاقِ

لِمُقْتَضَى الشَّرْعِ عَلَى الإِطْلَاقِ

1442 -

فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَالذِي

ظَاهِرُهُ مُوَافِقٌ فِي الْمَأْخَذِ

1443 -

وَخَالَفَتْ مَصْلَحَةَ الْحُكْمِ فَذَا

لَيْسَ بِمشْرُوعٍ وَمِمَّا نُبِذَا

1444 -

لأنَّ الأَعْمَالَ التِي قَدْ شُرِعَتْ

مَصَالِحُ الْخَلْقِ عَلَيْهَا وُضِعَتْ

1445 -

فَكُلُّ مَا خَالَفَ هَذَا الْوَضْعَا

فَلَيْسَ مِمَّا يَسْتَقِرُّ شَرْعَا

يعني يظهر ويتجلى وبذلك "فحيث" أي في أي موضع أو في أي زمان "جاء الفعل" متصفا "بالوفاق لمقتضى" وحكم "الشرع" ومقصده المذكور "على الإطلاق" يعني في الظاهر والباطن "فذاك" فعل "لا إشكال فيه" ولا خفاء في حكمه، لأنه استجمع شرائط الصحة وتمام المطلوب به شرعا. "و" أما الفعل "الذي ظاهره" وهو ما يبدو منه للخلق "موافق" للشرع "في المأخذ" - بفتح الميم - محل الأخذ، يعني أنه موافق للشرع لأنه مأخوذ منه وذاك مطلوب شرعا فيكون موافقا للشرع من هذه الجهة. "و" لكنه "خالفتـ" ـه - أي الشرع - من جهة القصد "مصلحة الحكم" الشرعي في ذلك الفعل فالمصلحة المقصودة بهذا الحكم هنا مخالفة لما قصد شرعا بذلك الفعل من مصالح "فذا" أي هذا الفعل "ليس بمشروع و "إنما هو "مما نبذا" وطرح شرعا، والمعنى اعتباره من الأفعال وذلك "لأن الأعمال التي قد شرعت" في هذا الدين ليست مشروعة لأنفسها، وإنما "مصالح الخلق" ومنافعهم هي التي "عليها" يعني لها - أي لتحصيلها وإدراكها - قد "وضعت" شرعا تلك الأعمال، وبناء على هذا الأصل "فـ" إن "كل ما خالف هذا الوضعا" وجاء على وضع آخر مباين له "فـ" إنه "ليس" على وضع المشروعات، وبذلك فإنه "مما" لا "يستقر" أمره "شرعا" وإنما لا يستقر في الشرع أمره لأنه جاء على خلاف ما هو مقبول فيه، وما يسري عليه حكم الصحة فيه. مثال ذلك النطق بالشهادتين والصلاة وغيرها من العبادات التي شرعت للتقرب بها إلى الله - تعالى - والرجوع إليه، وإفراده بالتعظيم والإجلال، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد، فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع، أو نفع كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه وماله، لا لغير ذلك أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك أو ينال به رتبة في الدنيا فهذا العمل ليس بمشروع في شيء لأن المصلحة التي شرع لها ذلك العمل لم تحصل، بل المقصود به ضد تلك المصلحة.

ص: 272

1446 -

وَأَصْلُ ذَاكَ الاتِّبَاعُ لِلْهَوَا

فَهْوَ مِنَ الأَمْرِ عَلَى غَيْرِ السَّوَا

1447 -

لِذَلِكَ الْمَقْصِدُ غَيْرُ الشَّرْعِي

يَهْدِمُ مُقْتَضَاهُ قَصْدَ الشَّرْعِ

" وأصل ذاك" كله ومنبعه هو "الاتباع لـ" دواعي "الهوا" ورعونات النفس وبذلك "فهو من "جهة "الأمر" الشرعي ومقتضاه "على غير" سبيل "السوا" أصله السواء وهو العدل والحق وإنما كان على سبيل غير الحق لأنه مخالف للأمر الشرعي في ذلك، ولهدمه المصلحة الشرعية المقصودة به شرعا. وعلى هذا نقول في الزكاة مثلا: أن المقصود بمشروعيتها رفع رذيلة الشح ومصلحة إرفاق المساكين وإحياء النفوس المعرضة للتلف. فمن وهب في آخر الحول ما له هروبا من وجوب الزكاة عليه، ثم إذا كان في حول آخر، أو قبل ذلك استوهبه فهذا العمل تقوية لوصف الشح وإمداد له ورفع لمصلحة إرفاق المساكين فمعلوم أن صورة هذه الهبة ليست هي الهبة التي ندب الشرع إليها لأن الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له وتوسيع عليه غنيا كان أو فقيرا وجلب لمودته ومؤالفته وهذه الهبة على الضد من ذلك ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة ورفعا لرذيلة الشح فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة

(1)

.

و"لذلك" الذي تقدم ذكره وبيانه من أن أصل ذلك اتباع الهوى الموجب لمخالفة القصد الشرعي "المقصد غير الشرعي" ينقض و "يهدم مقتضاه" وما يترتب عليه من آثار "قصد الشرع" في الموضع الذي سير فيه على وفق ذلك، كما تقدم في شأن الاحتيال المذكور في إسقاط الزكاة.

أما القصد المشروع فإنه لا يهدم قصدا شرعيا كما في مسألة الهبة المذكورة. ومثل ما تقدم والفدية المشروعة للزوجة هربا من أن لا يقيما حدود الله في زواجهما، فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها خوفا من الوقوع في المحظور فهذه بذلت مالها طلبا لصلاح الحال بينها وبين زوجها وهو التسريح بإحسان وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة لا فساد فيه حالا ولا مالا فإذا أضر بها لتفتدي منه فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب مع القدرة على الوصول إلى الفراق من غير إضرار فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحا بإحسان ولا خوفا من أن لا يقيما

(1)

الموافقات 2 ص 292.

ص: 273

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1448 -

فَالْحِيَلُ التِي مَضَى إِبْطَالُهَا

وَذَمُّهَا وَلَمْ يَجُزْ إِعْمَالُهَا

1449 -

مَا نَاقَضَ الْمَصَالِحُ الشَّرْعِيَّهْ

أَوْ هَدَمَ الْقَوَاعِدَ الدِّينِيَّهْ

1450 -

وَكُلُّ مَا لَيْسَ كَذَاكَ لَا يُرَى

يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ الذِي تَقَرَّرَا

حدود الله لأنه فداء مضطر وإن كان جائزا لها من جهة الاضطرار والخروج من الإضرار وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع. وكذلك نقول إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص أما الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصته وأما الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام الشرع وقد مر بيان هذا فيما تقدم فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه فقد خلع ربقة التقوى وتمادى في متابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه وأمثال ذلك كثيرة

(1)

.

"فصل"

إذا ثبت هذا وتقرر فإنه يجب أن يعلم أن الحيل مختلفة الأحوال والأحكام، وبذلك يصار في شأنها إلى التفصيل في الأحكام "فالحيل التي مضى" الحكم عليها بأنها ساقطة فاسدة فتقرر بذلك "إبطالها وذمها" فلم يصح "ولم يجز إعمالها" والحكم بمقتضاها، هي "ما" كان قد "ناقض" أي أفسد "المصالح الشرعية" المقصودة للشارع في أحكامه "أو هدم القواعد" الأصول "الدينية" وقد تقدم التمثيل لذلك كله فيما سبق من الأمثلة المذكورة في شأن النطق بالشهادتين، وأمر الزكاة وغير ذلك مما تقدم إيراده وذكره. "و" أما "كل ما ليس كذاك" الذي تقدم ذكره من الحيل، بحيث لا يهدم أصلا شرعيا، ولا يناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها، فإنه "لا يرى" ولا يبصر بالنظر الفقهي الشرعي، وهو "يدخل في" الذي جرى عليه حكم "النهي الذي تقرر" وثبت في الحيل الممنوعة التي تقدم الحكم بإبطالها، وإيراد أمثلة لها.

(1)

الموافقات 2 ص 293.

ص: 274

1451 -

وَعِنْدَ ذَا تُوجَدُ أَضْرُبُ الْحِيَلْ

ثَلَاثَة كُلٌّ عَلَيْهِ يُسْتَدَلْ

1452 -

ضَرْبٌ بِهِ الْبُطْلَانُ بِاتِّفَاقِ

كحِيلَةِ الرِّياءِ وَالنِّفَاقِ

1453 -

وَالثَّانِ مَا الْجَوَازُ فِيهِ ءَاتِ

كَحِيلَةِ الْمُكْرَهِ لِلْحَيَاةِ

1454 -

وَفِي كِلَا الْقِسْمَيْنِ حُكْمُ الْقَطْعِ قَدْ

وَافَتْ بِهِ النُّصُوصُ فَهْيَ تُعْتَمَدْ

" وعند" ما تدرك "ذا" التفصيل والتفرقة في شأن الحيل فإنك تلفي أنه "توجد أضرب" أي أنواع من "الحيل" وهي "ثلاثة" على وجه المخصوص به شرعا التعيين و "كل" واحد منها "عليه" يعنى على ثبوت حكمه "يستدل" ويحتج ليتبصر بحقيقة أمره، والحكم الشرعي الجاري فيه. أحد هذه الضروب "ضرب به" أي فيه حكم "البطلان" والفساد يجري ثابتا "باتفاق" بين أهل العلم على ذلك، وذلك "كحيلة" المتعبد لأجل "الرياء و" كحيلة المتعبد المقيد بغل "النفاق" وما جرى مجرى ذلك من كل ما فيه التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر أو غير سائغ على إسقاط حكم شرعي أو قلبه إلى حكم آخر. وهذا الضرب تقدم بسط الكلام في شأنه والاستدلال على حكمه المذكور على وجه مرضي فيه غنية وكفاية. "والثان" منها هو "ما" حكم "الجواز فيه آت" شرعا، وذلك "كحيلة المكره" على النطق بكلمة الكفر "لـ" أجل حفظ "الحياة" أي حياته ودرء قتله.

"وفي كلا القسمين" أي الضربين المذكورين الحكم المذكور في كل واحد منهما هو "حكم" ثابت على "القطع" والجزم، هذا ما "قد وافت" أي أتت "به النصوص" الشرعية الواردة في شأن الإكراه وما جرى مجراه وكذلك ما ورد في شأن أهل الرياء والنفاق ومن على نهجهم، وبذلك "فـ" تلك النصوص "هي" التي "تعتمد" في هذا المقام، وتتخذ حججا وأدلة فيه.

والدم وإن كان يحصن بنطق المنافق بكلمة الشهادتين كما يحصن بنطق المؤمن المكره بكلمة الكفر، وكانت نسبة التحيل بنطق المنافق بالشهادتين في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمعناها ومقتضاها كنسبة التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك، فإن الفرق بينهما هو أن هذا التحيل الآخر - وهو نطق المؤمن المكره بكلمة الكفر - تحيل مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بخلاف التحيل الأول - وهو نطق المنافق بالشهادتين - فإنه غير مأذون فيه لأنه مفسدة أخروية بإطلاق، والمصالح والمفاسد

ص: 275

1455 -

وَالثَّالِثُ الْغُمُوضُ فِيِه ثَبَتَا

لِذَلِكَ الْخِلَافُ فِيهِ قَدْ أَتَا

1456 -

إِذْ لَيْسَ فِيهِ قَاطِعٌ بُرْهَانِي

يُلُحِقُهُ بِأَوَّلٍ أَوْ ثَانِي

1457 -

فَصَارَ كُلٌّ يَتْبَعُ اجْتِهَادَهْ

فمَرْجِعُ الْخُلْفِ إِلَى الشَّهَادَهْ

1458 -

وَلَا يُقَالُ إِنَّ مَنْ أَجَازَا

خِلَافَ قَصْدِ الشَّارعِ اسْتَجَازَا

1459 -

فَمِثْلُ ذَا مَمْنُوعٌ أَنْ يُعْتَقَدَا

فِي عُلَمَاءِ الدِّينِ أَعْلَامِ الْهُدَا

الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق، إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة. فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع فكان باطلا. ومن هنا جاء في ذم النفاق وأهله ما جاء. وهكذا سائر ما يجري مجراه، وكلا القسمين - الضربين - بالغ حكمه المذكور فيه مبلغ القطع والجزم به. "و" أما الضرب "الثالث" وهو الذي يتردد بين كونه تحيلا مخالفا للمصلحة الشرعية وكونه غير مخالف لها، فإن "الغموض" هو الذي "فيه" قد "ثبتا" - الألف للإطلاق - واستقر و "لـ" أجل "ذلك" الغموض الجاري في شأن هذا الضرب جرى "الخلاف" بين أهل العلم "فيه" يعني في حكمه الشرعي وذاك الخلف هو ما "قد أتا" عنهم فيه.

"إذ ليس فيه" أي في هذا الضرب دليل شرعي "قاطع برهاني" يبين حكمه على جزم، وبذلك "يلحقه بأول" من هذه الضروب فيسري فيه حكم البطلان "أو "يلحقه بـ "ثان" منهما فيكون حكمه الجواز، كما أنه لم يتضح أن فيه مقصدا للشارع متفقا على أنه مقصود له، كما لم يظهر كذلك أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه، كالتحيل للزوجة الآتي ذكره، وبذلك اضطربت فيه أنظار أهل العلم وترددت "فصار كل" واحد منهم "يتبع" ما أداه إليه "اجتهاده" واستبان له أنه الراجح في ذلك "فمرجع الخلف" الجاري بينهم هنا ومرده في أنفسهم "إلى" اختلاف "الشهادة" التي تقررت مدركة لهم بمقتضى نظرهم فمن شهد منهم أن هذا الضرب من التحيل غير مخالف للمصلحة الشرعية في موضعه فإنه يذهب في حكمه إلى الجواز. ومن شهد منهم أنه مخالف لها في محله فإنه يحكم بمنعه وحظره.

"ولا" يصح أن "يقال: إن من أجازا" هذا الضرب من الحيل قد أباح "خلاف قصد الشارع" ومراده في الأحكام و"استجاز" ـه "فمثل ذا" القول "ممنوع" قوله كما يمنع "أن يعتقد" مدلوله "في علماء الدين" الذين هم في الحقيقة "أعلام الهدا" ومصابيح الدجى

ص: 276

1460 -

وَعُدَّ مِنْ مَسَائِلِ التَّحَيُّلِ

إِجَازَةُ النِّكَاحِ لِلْمُحَلِّلِ

- نفعنا الله بهم - وأنما يجب أن يقال أنه أجازه بناء على تحري قصد الشارع، وأن ذلك ملحق عنده بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه.

"و" مما "عد من مسائل" هذا الضرب من "التحيل إجازة النكاح" وتصحيحه "للمحلل" - بكسر اللام - وهو الذي يتزوج المرأة لغرض تحليلها لمطلقها ثلاثا. فهذا التزوج تحيل إلى رجوع الزوجة إلى مطلقها الأول بحيلة توافق في الظاهر قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فقد نكحت المرأة هذا المحلل فكان رجوعها إلى الأول بعد تطليق الثاني موافقا ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية وقوله عليه الصلاة والسلام لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ظاهر أن المقصود في النكاح الثاني ذوق العسيلة وقد حصل في المحلل ولو كان قصد التحليل معتبرا في فساد هذا النكاح لبينه عليه الصلاة والسلام ولأن كونه حيلة لا يمنعها وإلا لزم ذلك في كل حيلة كالنطق بكلمة الكفر للإكراه وسائر ما يدخل تحت القسم الجائز باتفاق فإذا ثبت هذا وكان موافقا للمنقول دل على صحة موافقته لقصد الشارع وكذلك إذا اعتبرت جهة المصلحة فمصلحة هذا النكاح ظاهرة لأنه قد قصد فيه الإصلاح بين الزوجين إذ كان تسببا في التآلف بينهما على وجه صحيح ولأن النكاح لا يلزم فيه القصد إلى البقاء المؤبد لأن هذا هو التضييق الذي تأباه الشريعة ولأجله شرع الطلاق وهو كنكاح النصارى وقد أجاز العلماء النكاح بقصد حل اليمين من غير قصد إلى الرغبة في بقاء عصمة المنكوحة وأجازوا نكاح المسافر في بلدة لا قصد له إلَّا قضاء الوطر زمان الإقامة بها إلى غير ذلك.

وأيضا لا يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من أفرادها عينا حسبما تقدم كما في نكاح حل اليمين والقائل إن تزوجت فلانة فهي طالق على رأي مالك فيهما وفي نكاح المسافر وغير ذلك. هذا تقرير بعض ما يستدل به من قال بجواز الاحتيال هنا وأما تقرير الدليل على المنع فأظهر فلا نطول بذكره وأقرب تقرير فيه ما ذكره عبد الوهاب في شرح الرسالة فإليك النظر فيه

(1)

.

(1)

الموافقات ج 2/ ص 295.

ص: 277

1461 -

وَكَمْ بِهَذَا الْقِسْمِ مِنْ مَسَائِلْ

وَالْخُلْفُ فِيهَا وَاضِحُ الدَّلَائِلْ

" وكم" يوجد "بهذا القسم" أي هذا الضرب الذي نحن فيه "من مسائل" فقهية منظومة فيه "والخلف" بين أهل العلم "فيها" يعني في أحكامها "واضح" بين "الدلائل" والحجج الدالة على جريانه وثبوته فيها. ومن ذلك مسائل بيوع الآجال فإن فيها التحيل إلى بيع درهم نقدا بدرهمين إلى أجل لكن بعقدين كل واحد منهما مقصود في نفسه وإن كان الأول ذريعة فالثاني غير مانع لأن الشارع إذا كان قد أباح لنا الانتفاع بجلب المصالح ودرء المفاسد على وجوه مخصوصة فتحري المكلف تلك الوجوه غير قادح وإلَّا كان قادحا في جميع الوجوه المشروعة وإذا فرض أن العقد الأول ليس بمقصود العاقد وإنما مقصوده الثاني فالأول إذا منزل منزلة الوسائل والوسائل مقصودة شرعا من حيث هي وسائل وهذا منها فإن جازت الوسائل من حيث هي وسائل فليجز ما نحن فيه وإن منع ما نحن فيه فلتمنع الوسائل على الإطلاق لكنها ليست على الإطلاق ممنوعة إلَّا بدليل فكذلك هنا لا يمنع إلَّا بدليل إذ لم يفصل النبي عليه الصلاة والسلام.

وقول القائل إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا فإن الذرائع على ثلاثة أقسام منها ما يسد باتفاق كسب الأصنام مع العلم بأنه مؤد إلى سب الله تعالى وكسب أبوي الرجل إذا كان مؤديا إلى سب أبوي الساب فإنه عد في الحديث سبا من الساب لأبوي نفسه وحفر الآبار في طرق المسلمين مع العلم بوقوعهم فيها وإلقاء السم في الأطعمة والأشربة التي يعلم تناول المسلمين لها ومنها ما لا يسد باتفاق كما إذا أحب الإنسان أن يشتري بطعامه أفضل منه أو أدنى من جنسه فيتحيل ببيع متاعه ليتوصل بالثمن إلى مقصوده بل كسائر التجارات فإن مقصودها الذي أبيحت له إنما يرجع إلى التحيل في بذل دراهم في السلعة ليأخذ أكثر منها ومنها ما هو مختلف فيه ومسألتنا من هذا القسم فلم نخرج عن حكمه بعد والمنازعة باقية فيه، وهذه جملة مما يمكن أن يقال في الاستدلال على جواز التحيل في المسألة وأدلة الجهة الأخرى مقررة واضحة شهيرة فطالعها في مواضعها وإنما قصد هنا هذا التقرير الغريب لقلة الاطلاع عليه من كتب أهله إذ كتب الحنفية كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب وكذلك كتب الشافعية وغيرهم من أهل المذاهب ومع أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا وإنكارا لمذهب غير مذهبه من غير إطلاع على مأخذه فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين واضطلاعهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه وقد وجد هذا كثيرا ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر

ص: 278

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1462 -

إِنْ قِيلَ إِنَّ الْحُكْمَ فِي مَوَاضِعْ

يُبْنَى عَلَى الْعِلْمِ بِقَصْدِ الشَّارعْ

1463 -

فَمَا الذِي لِعِلْمِ ذَاكَ يُوصِلُ

قُلْت لَهُ قَاعِدَةٌ تُفَصَّلُ

1464 -

وَذَاكَ أنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا

هُنَا عَلَى مَذَاهِبٍ سَتُوصَفُ

1465 -

طَائِفَةٌ مَالُوا مَعَ الظَّوَاهِرِ

وَوَقَفُوا مَعْ كُلِّ لَفْظٍ صَادِرْ

المسائل في باب الحيل ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما

(1)

.

"فصل"

في بيان ما به يعرف ما هو مقصود للشارع مما ليس بمقصود له في أحكامه. وذلك أنه "إن قيل ان الحكم" الشرعي "في" ما يجري فيه من "مواضع" ومواطن "يبنى" العلم بصحته وعدم صحته شرعا "على العلم بقصد الشارع" منه - أي من ذلك الحكم - فإن وافق قصد الشارع قصد المكلف فيما أتاه من عمل صح حكمه، وإن كان على خلاف ذلك بطل وفسد. وبذلك فإنه لابد من معرفة قصد الشارع من الحكم لمعرفة ما يكون فيه من المواضع صحيحا أو فاسدا. "فما الذي" من الاعتبارات وطرق النظر المأثورة في هذا المقام "لعلم" المقصود الشرعي "ذاك" مما ليس بمقصود له "يوصل" ويبلغ؟ "قلت" مجيبا عن ذلك "له" أي لما يوصل إلى ذلك العلم "قاعدة" جامعة لما اقتضاه نظر أهل العلم ها هنا، ولما كانوا عليه من خلف في أمره وبذلك فهي قاعدة تبين ذلك و "تفصّل" في شأنه "وذاك أن العلماء" - رحمهم الله تعالى - "اختلفوا هنا" في هذه المسألة وهي مسألة ما يعرف به مقصد الشارع من الحكم - وصاروا "على مذاهب" وأقساما ثلاثة، "ستوصف" فمنهم وهذا هو القسم الأول "طائفة" رأوا أن مقصد الشارع في الحكم لا سبيل إلى العلم به إلَّا بورود نص شرعي يدل عليه بظاهره ووضعه اللغوي، فلا مطمع إلى العلم به إلَّا بهذا السبيل، كما في قوله - تعالى -:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] وقوله - سبحانه -: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وبذلك "مالوا" في سعيهم إلى استخراج الأحكام ومقاصد الشارع منها "إلى" اعتماد "الظواهر" أي ظواهر الألفاظ وما تدل عليه بمقتضى وضعها اللغوي فقط "ووقفوا" دائرين "مع" المدلول اللغوي لـ "كل لفظ صادر" من الشارع ويقولون: اللفظ لا يعطيك

(1)

الموافقات ج 2/ ص 295.

ص: 279

1466 -

وَرَدُّ الالْتِفَاتِ لِلْمَعَانِي

فِي مُقْتَضَى السُّنَّةِ وَالْقُرْانِ

1467 -

وَهُمْ أُولُو الظَّاهِرِ فَالْقِيَاسُ

مُرَتَّبٌ لَهُمْ عَلَيْهِ الْبَاسُ

1468 -

فَمَقْصِدُ الشَّارعِ عِنْدَ هَؤُلَا

فِيمَا مِنَ اللَّفْظِ الصَّرِيحِ يُجْتَلَا

1469 -

وَفِرْقَةٌ مَالُوا إِلَى الْمَعَانِي

تَتَبُّعًا لِكُلِّ شَانٍ شَانِ

إلَّا ما دل عليه لغة، فلا يمنحك معنى في غيره.

"و" كذلك وقفوا مع "ردّ" وإنكار "الالتفات" والاعتبار "للمعاني" الحكم والعلل ومقاصد الشارع في الأحكام وهذا يسري عندهم أمره "في مقتضى" ومدلول نصوص "السنة والقرآن" بلا فرق بينهما في ذلك عندهم "و" هؤلاء "هم أولو "أي أهل "الظاهر" سموا بذلك كما سموا بالظاهرية لأخذهم بظاهر الألفاظ والنصوص فقط "فالقياس" الفقهي في نظرهم ساقط الاعتبار فهو ليس أصلا شرعيا على الإطلاق بل هو "مرتب" فيما ظهر "لهم عليه" يعني على العمل به وجعله أصلا شرعيا الإثم و "الباس" أي العذاب لأن ذلك معصية وخروج عن شرع الله - تعالى - على ما رأوا، وبذلك "فمقصد الشارع" في أحكامه "عند هؤلاء" محصور سبيل العلم به "في" أمر واحد وهو "ما" يظهر بالدلالة اللغوية "من اللفظ الصريح" في الدلالة على ذلك المقصد وما "يجتلا" أي يكشف منه، ولا معول على شيء آخر في هذا المقام عندهم على الإطلاق.

هذا بيان شأن هذه الطائفة ومذهبها، في هذه المسألة بإيجاز واختصار. "و" منهم - أي العلماء - وهذا هو القسم الثاني "فرقة" وهي الطائفة المتقدم ذكرها على طرفي نقيض إذ أفراد هذه الفرقة "مالوا إلى" اعتبار "المعاني" أي المقاصد والحِكم والعِلل، التي بنيت عليها الأحكام، فكان مصب نظرهم وبحثهم في مواطن الاحكام على المعاني المقصودة من تلك الاحكام شرعا، ففي كل جزئية عرضت لهم ينظرون إلى المعنى الذي يجري حكمه فيها وكذلك يفعلون في الألفاظ الشرعية "تَتَبُّعًا" منهم "لكل شان" يعني معنى هو "شان" أي معنى معتبر عندهم. وهؤلاء ضربان. أحدهما: من ادّعوا انّ مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر - ظواهر الألفاظ - ولا فيما يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءه. ويطرد هذا في جميع الشريعة، حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن ان يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع. وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة. وهم الباطنية،

ص: 280

1470 -

فَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ بِالظَّاهِرْ

وَالنَّصُّ مَعْ مَعْنىً لَهُ مُنَافِرْ

1471 -

وَهُمْ أُولُو الرَّأْيِ فَفِي الْقِيَاسِ

تَعَمَّقُوا مِنْ دُونِ جُلِّ النَّاسِ

1472 -

فَمَقْصِدُ الشَّارعَ عِنْدَهُمْ يُرَى

فِيمَا مِنَ الْمَعْنَى لَهُمْ تَصَوَّرَا

فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلَّا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية لكي يفتقر إليه على زعمهم. ومال هذا الرأي الكفر - والعياذ بالله - تعالى - والأولى أن يهمل هذا الرأي وأن لا يلتفت إليه على الإطلاق.

ثانيهما: من ذهبوا إلى أنه يجب الالتفات إلى المعاني - الحكم والمقاصد والعلل - وتحكيمها في بناء الاحكام الفقهية وبذلك "فـ" هؤلاء "لا اعتبار عندهم بالظاهر" يعني ظاهر الألفاظ وما تدل عليه بوضعها اللغوي أو العرفي "و" كذلك "النص" وهو ما لا يحتمل إلَّا معنى واحدا إذا كان ذلك الظاهر أو النص قد وقع تعارضه "مع معنى" نظري هو "له منافِر" - بكسر الفاء - أي معاند ومخالف، وبيان ذلك أنّ هؤلاء يحملون النص الشرعي على غير ظاهره إذا تبين لهم بمقتضى نظرهم أن هذا الظاهر غير مقصود، وإنما المقصود من ذلك النص معنى آخر يجب المصير إليه بالتأويل، وبذلك يغلبون القياس والقواعد العامة على ظواهر النصوص، وهذا يتبين لك على وضوح في التأويلات التي يذهب إليها الحنفية في جمع من الأحاديث. وقد أورد هذه التأويلات كثير من أهل العلم في كتبهم، منهم إمام الحرمين في كتابه "البرهان" والآمدي في كتابه "الإحكام".

"و" هؤلاء الذين هم على هذا السبيل "هم أولو" أصحاب "الرأي" لقبوا بذلك تمييزا لهم عمن لم يكونوا على مذهبهم في هذا الشأن كأهل الحديث وغيرهم من الفقهاء الذين يجمعون بين رعاية الظاهر ورعاية المعنى مما لا يأخذون بالقياس إلَّا إذا عدموا النص في المحل الذي يبحثون عن حكمه، بخلاف أهل الرأي هؤلاء "فـ" إنهم "في القياس تعمقوا" وبالغوا في الأخذ به حتى اطرحوا النص وقدموا عليه المعنى النظري "من دون جل" أغلب "الناس" أهل العلم، وبذلك "فـ" إن هؤلاء - أهل البرأى - "مقصد الشارع" من الحكم "عندهم" وفي رأيهم أنما "يرى" ويعلم "فيما" ظهر "من" جهة "المعنى" الحكمة والمقصد والعلة "لهم" وما "تصورا" - الألف للإطلاق - لهم أي ظهرت لهم صورته - أي صفته - من معنى فقط. وقوله "تصورا" هو بفتح التاء المثناة فوق وفتح الصاد، من قولك: صورت الشيء فتصور. فالتاء فيه للمطاوعة وقد يكون هذا

ص: 281

1473 -

وَجُلُّهُمْ مَالُوا إِلَى التَّوَسُّطِ

عَنْ حَالَتَيْ مُفْرِطٍ أَوْ مُفَرِّطِ

1474 -

فَاعْتَبِرُوا فِي ذَلِكَ الأمْرَيْنِ

وَأَعْمِلُوا فِيهِ كِلَا الْوَجْهَيْنِ

1475 -

جَارِينَ فِي الأَمْرِ عَلَى نِظَامِ

بِهِ يُرَى الْمَشْرُوعُ ذَا الْتِئَامِ

1476 -

بِحَيْثُ لَا يُخِلُّ بِالْمَعَانِي

نَصٌّ وَلَا الْعَكْسُ بِذِي اقْتِرَانِ

1477 -

وَذَا الذِي قَدْ أَمَّهُ الأئِمَّهْ

وَأَوْضَحُوا سَبِيلَهُ لِلأمَّهْ

الذي ذهب إليه أهل الرأي في هذا الشأن إما مبنيا على وجوب مراعاة المصالح على الإطلاق، أو على عدم الوجوب لكن مع تحكيم المعنى جدا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية. هذا بإيجاز بيان حال مذهب هذه الفرقة وما هي عليه من مسلك في هذا الموضوع.

وأما أغلب العلماء - "وجلهم" - فإنهم ذهبوا إلى خلاف ما عليه الطائفتان المذكورتان في هذا الشأن وإلى إنكاره، فذهبوا و "مالوا إلى" اختيار "التوسط" في هذا الشأن ورغبوا "عن حالتي" من هو "مفرط" - بضم الميم وسكون الفاء من أفرط في الأمر إذا بالغ فيه وتجاوز الحد - في الأخذ بالمعنى "أو مُفرّط" في الأخذ بالظاهر أو من هو مُفرّط - بضم الميم وفتح الفاء - فرط في الشيء إذا ضيّعه.

وبهذا الذي هم عليه هؤلاء العلماء من التوسط "فـ" أنهم قد "اعتبروا في ذلك" - وهو معرفة القصد الشرعي من الحكم - "الأمرين" اللذين هما ظاهر اللفظ، والمعنى الذي قد يكون هو ما بني عليه الحكم واعتبر فيه شرعا "و" لذلك "أعملوا فيه" تبعا لذلك "كلا الوجهين" وهما ظاهر اللفظ، والمعنى المذكوران، فجاوءا "جارين في الأمر" والشأن الشرعي "على نظام" واحد "به" بسببه، أو فيه "يرى" أي يبصر "المشروع" أي الشرع - الشريعة - "ذا التئام" واجتماع لا اختلاف فيما به تعرف أحكامه ومقاصده ولا تناقض فيه، بل جاء ذلك متناسقا "بحيث لا يخل" لا يجحف - يذهب - "بالمعاني" التي دلت الأدلة على أنها مقصودة للشارع "نص" شرعي "ولا العكس" وهو أن يخل المعنى بالنص فإنه كذلك ليس في هذه الشريعة بواقع، فدلالة النص على حكم ودلالة المعنى على حكم يناقضه أمر ليس "بذي اقتران" واجتماع في هذه الشريعة. "وذا" هو "الذي قد" اختاره و"أمّه" وذهب إليه أكثر "الأئمة" والراسخين في العلم، "و" هو الذي "أوضحوا" وبينوا "سبيله" الذي يوصل إلى معرفته وإلى أنه الحق "لـ" هذه "الأمة"

ص: 282

1478 -

وَأَنَّهُ الذِي عَلَيْهِ الْمُعْتَمَدْ

فِيمَا يُرَى الْعِلْمُ بِمَ الشَّرْعُ قَصَدْ

1479 -

وَقَصْدُهُ يُعْرَفُ مِنْ مَسَالِك

أَعْلَامُهَا وَاضِحَةٌ لِلسَّالِكْ

1480 -

أوَّلُهَا مُجَرَّدُ الْأَوَامِرْ

أَوْ النَّوَاهِي بِابْتِدَاءٍ ظَاهِرْ

1481 -

وَمَعَ تَصْرِيحٍ بِذَاكَ مُغْنِ

وَتَحَرُّزٍ مِنْ تَابِعٍ وَضِمْنِي

المسلمة "و" بذلك يعلم "أنه" المذهب "الذي عليه المعتمد" أي الاعتماد "فيما" يعني في معرفة الضابط الذي "يرى" - بضم الياء - من أراه الشيء إذا أبصره به ودله عليه -.

"العلم بما" أي بالذي "الشرع" قد "قصد" ـه في أحكامه. ومعنى كون هذا المذهب هو العمدة في معرفة هذا الضابط أن المضي على مقتضاه - أي المذهب - والعمل به يرشد إلى هذا الضابط، ويبصر به، وهذا الضابط هو أن قصد الشارع قد يعرف من طريق اللفظ في مواضع كما أنه قد يُعرف من طريق المعنى في مواضع أخرى. "و" بذلك فإن "قصده" أي الشارع "يعرف" ويدرك "من مسالك" محددة مضبوطة "أعلامها" ومعالمها التى تدل على أنها موصلة لذلك - القصد الشرعي - "واضحة" بيّنة "للسالك" يعني لسالكها. وَسميت مسالك باعتبار أنها موصلة لذلك، وهي في حقيقة الأمر أدلة وأمارات شرعية تدل على ذلك القصد وتبينه بمضمونها ومقتضاها وهي - كما تقدّم - مسالك معينة مضبوطة:"أولها" أي هذه المسالك "مجرد الأوامر" فإن الأمر معلوم أنه إنما كان أمرا لاقتضائه الفعل، فوقوع الفعل عند وجود الأمر مقصود للشارع.

"أو "بمعنى الواو يعني وكذلك مجرد "النواهي" إذ من المعلوم أن النهي مقتض لنفي الفعل أو الكف عنه، فعدم وقوعه مقصود للشارع، وإيقاعه مخالف لمقصوده، كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالف لمقصوده. هذا كله إذا كانت تلك الأوامر أو النواهي قد حصلت "بابتداء" يعني مع وجود ابتداء في صفة تشريعها "ظاهر" أي بين، وذلك بأن يكون مقتضاها مقصودا لذاته ابتداءً.

"و" كذلك "مع" وجود "تصريح بذاك" الأمر أو النهي "مغن" كاف في الدلالة على أنهما مصرح بهما. وقوله "مغن" أتى به لتتميم البيت إذ معناه مستغنى عنه بما تقدم.

"و" إنما اشترط ما تقدم ذكره من الابتداء في ذلك "تحرزا من "أمر أو نهي "تابع" ومؤكد لحكم أمر أو نهي آخر، كما في قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}

ص: 283

1482 -

وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي اعْتِبَارُ الْعِلَلِ

فِي الأمْرِ وَالنَّهْيِ بِحَيْثُ يَنْجَلِي

1483 -

فَإِنْ تَكُ الْعِلَّةُ مِمَّا عُلِمَا

بِمَا لَدَى عِلْمِ الأُصُولِ يُمِّمَا

1484 -

اتُّبِعَتْ فَحَيْثُ مَا قَدْ وُجِدَتْ

فَمُقْتَضَى الأمْرِ أَوِ النَّهْيِ ثَبَتْ

[الجُمُعَة: 9] فإن النهي عن البيع ليس نهيا مبتدأ، بل هو تأكيد للأمر بالسعي، فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني فالبيع ليس منهيا عنه بالقصد الأول كما نهي عن الربا - والزنى مثلا -، بل نهي عنه لتعطيل السعي عند الاشتغال به وما شأنه هذا ففي فهم قصد الشارع من مجرده نظر واختلاف منشؤه من أصل المسألة المترجمة "بالصلاة في الدار المغصوبة""و" ما تقدم ذكره من التصريح في ذلك تحرزا من أمر أو نهي "ضمني" غير مصرح به كالنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه الأمر والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء فإن النهي والأمر ههنا إن قيل بهما فهما بالقصد الثاني لا بالقصد الأول إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للأمر أو النهي المصرح به، فأما إن قيل بالنفي فلأمر أوضح في عدم القصد وكذلك الأمر بما لا يتم المأمور إلَّا به المذكور في مسألة ما لا يتم الواجب إلَّا به فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيه فليس داخلا فيما نحن فيه ولذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي

(1)

.

هذا هو المسلك الأول. "و" أما "المسلك الثاني" فهو "اعتبار العلل" الشرعية الفقهية "في الأمر والنهي" والبحث عن موجب الأمر والنهي، فيقال لماذا أمر بهذا ولماذا نهي عن هذا الآخر؟ وذلك "بحيث" أي في المواضع الذي "ينجلي" فيه ذلك ويظهر، وذلك أن العلة إما أن تكون معلومة أو لا، "فإن تك العلة مما علما" أي يعلم ويدرك ثبوت ووجودها "بـ" واسطة "ما لدى" يذكر ويورد في "علم الأصول" من مسالك، فإنه "يمما" يعني ييمم، أي يقصد ويصار إلى الأخذ به، فإذا ثبت به "اتبعت" وعمل بمقتضاها "فحيث ما" أي ففي أي موضع "قد وجدت" العلة فيه "فـ" إنه قد استقر فيه "مقتضى الأمر أو النهي" من القصد وعدمه و"ثبت"، كالنكاح لمصلحة التناسل، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه، والحدود لمصلحة الازدجار.

فهذه المواطن كلها قد علم فيها القصد الشرعي بمعرفة علل الأحكام فيها.

(1)

الموافقات 2 ص 298.

ص: 284

1485 -

وَحَيْثُمَا تَعَيَّنَتْ فَيُعْلَمُ

بِأَنَّ قَصْدَ الشَّرْعِ فِيمَا تُفْهَمُ

1486 -

مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَسَبُّبٍ مُطَّلَبِ

أَوْ عَدَمِ الْفِعْلِ أَوِ التَّسَبُّبِ

1487 -

وإنْ تَكُ الْعِلَّةُ لَمْ تُعْلَمْ فَفِي

ذَا الْحَالِ لَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ

1488 -

عَنْ أَنْ نَقُولَ إِنَّ قَصْدَ الشَّارعْ

فِيهِ كَذَا بِلَا دَلِيلٍ قَاطِعْ

1489 -

إمَّا بِتَرْكِ الْجَزْمِ فِي التَّعَدِّي

بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ قَصْدِ

1490 -

إِمَّا مَعَ الْجَزْمِ بِهِ وَالْقَطْعِ

بِأنَّهُ لَيْسَ مُرَادَ الشَّرْعِ

" وحيثما" أي في أي موضع "تعينت" العلة أي علمت بعينها "فـ" إنه "يُعلم" ويدرك تبعا لذلك "بأن قصد الشارع" فيه هو "فيما تفهمـ" ـه تلك العلة وتدل عليه "من فعل" كما في الأمثلة السابقة "أو تسبب" كما في الأسباب المباحة "مطلب" أي المطلوبة "أو" ما تفهمه من "عدم الفعل" كما في المنهي عنه، "أو "من عدم "التسبب" كما في الأسباب الموجبة للحد، أو العذاب الأخروي. هذا إذا كانت علة الحكم معلومة معينة. "و" أما "إن تك العلة" أي علة حكم ما مجهولة بأن كانت "لم تعلم" لنا "فـ" إنه "في ذا الحال لا بد من التوقف" والانفكاك "عن أن تقول أن قصد الشارع فيه" أي في هذا الموضع هو "كذا بلا دليل" يدل على ذلك "قاطع" أي يفيد بذلك. إلَّا أن التوقف له وجهان هنا، لأنه يكون "إما بترك الجزم" والقطع "في"حصول ووقوع "التعدي" والتجاوز للمنصوص عليه في ذلك الحكم المعين، أو السبب المعين إلى ما سواه وذلك "بـ" سبب "أنه ليس" يعلم "له" أي للشارع فيه

"من قصد" وإنما لزم التوقف فيما هذا شأنه لأن تعدية الحكم المنصوص عليه إلى ما سواه مع الجهل بالعلة تحكّم من غير دليل، وضلال على غير سبيل، فلا يصح لحكم على زيد بما وضع حكما على عمرو، ونحن لا نعلم أن الشارع قصد الحكم به على زيد أو لا لأنّا إذا لم نعلم ذلك، أمكن أن لا يكون حكما عليه، فنكون قد أقدمنا على مخالفة الشارع عمدا. فالتوقف هنا إذن لعدم الدليل. هذا الوجه الأول.

و "إما" أن يكون - وهذا هو الوجه الثاني - ذلك التوقف "مع الجزم به والقطع" بالنفي أي "بأنه" أي ذلك الفعل أو التسبب أو عدمهما أمر "ليس مراد" وقصد "الشرع"، وذلك الجزم والقطع يتوصل إليه بمقتضى كون الأصل في الأحكام

ص: 285

1491 -

وَحَيْثُمَا تَعَارَضَا لِلْمُجْتَهِدْ

مِثْلُ الدَّلِيلَيْنِ التَّوَقُّفُ اعْتُمِدْ

1492 -

وَمَعَ ذَا فَالْفَرْقُ شَرْعًا ءَاتِ

بَيْنَ التَّعَبُّدَاتِ وَالْعَادَاتِ

1493 -

لِأَنَّهُ غَلَّبَ فِي الْعِبَادَهْ

تَعَبُّدًا وَعَكْسُهُ فِي الْعَادَهْ

الشرعية أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي لأن عدم نصبه دليلا على التعدي دليل على عدم التعدي إذ لو كان عند الشارع متعديا لنصب عليه دليلا ووضع له مسلكا ومسالك العلة معروفة وقد خبر بها محل الحكم فلم توجد له علة يشهد لها مسلك من المسالك فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصود للشارع فهذان مسلكان كلاهما متجه في الموضع إلَّا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد ويقتضي هذا إمكان أنه مراد فيبقى الناظر باحثا حتى يجد مخلصا إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع ويمكن أن لا يكون مقصودا له والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد فينبني عليه نفي التعدي من غير توقف ويحكم به علما أو ظنا بأنه غير مقصود له إذ لو كان مقصودا لنصب عليه دليلا ولما لم نجد ذلك دل على أنه غير مقصود فإن أتى ما يوضح خلاف المعتقد رجع إليه كالمجتهد يجزم القضية في الحكم ثم يطلع بعد على دليل ينسخ جزمه إلى خلافه

(1)

.

"وحيثما تعارضا" أي الوجهان المذكوران "للمجتهد" ولم يتبين له ما هو الراجح منهما من المرجوح فإنهما "مثل الدليلين" إذا تعارضا للمجتهد تعارضا لا يتخلص منه بالجمع ولا بالترجيح، فالحكم الذي يجب المصير إليه - هنا - هو "التوقف" عن القول بأي منهما لأنه الذي ظهر رجحانه فـ "اعتمد" فيه "ومع ذا" الذي ذكر "فـ" إنه يستضاء هنا بضابط وهو أن "الفرق شرعا" حاصل و"ءات بين التعبدات" أي العبادات "والعادات" كالمعاملات والعادات الجارية بين الناس بحكم طباعهم وأحوالهم، وذلك "لأنه غلب في العبادة" تشريعها "تعبدا" لا تعلم حكم وأسرار كونها على ما هي عليها من هيئات ومقادير وأعداد واختصاص بأزمنة معينة محددة.

"و" غلب "عكسه" - وهو الالتفات إلى المعاني - "في العاده" المعاملات ونحوها مما به قيام معاش الناس وصلاح أمورهم في الدنيا.

(1)

الموافقات 2 ص 299.

ص: 286

1494 -

لِذَاكَ مَالِكٌ لَهُ تَوَسُّعٌ

فِيمَا إِلَى الْعَادَاتِ حُكْمًا يَرْجِعُ

1495 -

فَأَصْلُ الاِسْتِحْسَانِ فِيهَا أَعْمَلَهْ

مِثْلَ الْمَصَالِحِ وَأَعْنِي الْمُرْسَلَهْ

1496 -

وَذَا بِعَكْسِ مَالَهُ مَعْهُودُ

فِيمَا بِهِ تَعَبُّدٌ مَوْجُودُ

و"لذلك" الذي ذكر من كون الأصل في العبادات هو التعبد والعادات هو الالتفات للمعاني الإمام "مالك" - رحمه الله تعالى - "له توسع في "كل ما هو من العادات وكذلك "ما إلى العادات حكما يرجع" ويؤول، وبذلك فإنه يلحق العادات غير المنصوص عليها بالعادات المنصوص عليها باعتبار أن الذي عليه المدار في أحكامه هو المعنى، فمتى وجد في موضع ما فإنه يدل على القصد الشرعي فيه فعلا كان أو تركا، فيجري الحكم الشرعي فيه على وفق ذلك أي "فـ" ذلك "أصل" من أصوله وهو "الاستحسان فيها" في العادات "أعمله" وجرى على مقتضاه فيها. كما بين ذلك المصنف، الشاطبي - رحمه الله تعالى - بتوسع في كتابه "الاعتصام" وتقدم ذكره في المسألة الثامنة عشرة السابقة. و"مثل" ما أعمل مالك الاستحسان في هذا الموضع أعمل فيه كذلك أصلا آخر وهو "المصالح وأعني" بها المصالح "المرسله" التي تعتبر في صحتها أمور: أحدها: الملائمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله، ولا دليلا من دلائله.

ثانيها: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره والحج ونحو ذلك.

ثالثها: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" فهي إذن من الوسائل لا من المقاصد. ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد

(1)

.

"وذا" أي هذا الذي عليه مالك في شأن العادات هو "بعكس ما؛ أي الذي هو "له معهود" ومعلوم ومأثور عنه "فيما" من المشروعات يحصل "به تعبد" لله - تعالى - وما هو "موجود" به وواقع. فالعبادات عنده - رحمه الله تعالى - يغلب فيها جهة التعبد

(1)

انظر كتاب الاعتصام 2/ 129 - 136.

ص: 287

1497 -

وَمَلْحَظُ النَّفْيِ لَدَى الْعِبَادَهْ

أَمْكَنُ وَالآخِرُ حَيْثُ الْعَادَهْ

1498 -

وَالْمَيْلُ لِلْمَعْنَى بِمَا التَّعَبُّدُ

مِنْ شَأْنِهِ لِلْحَنَفِيِّ يُسْنَدُ

1499 -

وَالظَّاهِرِيُّ مَيْلُهُ بِالْعَادِي

فِي كُلِّ حَالَةٍ إِلَى الْعِبَادِي

مطلقا، ولذلك لم يلتفت في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتَّى اشترط الماء المطلق في رفع الأحداث النية وإن حصلت النظافة دون ذلك وامتنع من إقامة التكبير والتسليم مقامهما، ومنع من إخراج القيم في الزكاة. واقتصر على مجرد العدد في الكفارات إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الاقتصار على عين المنصوص عليه أو ما ماثله.

"و" إذا تقرر هذا - وهو الفرق بين العادات والعبادات في هذا الشأن - فإن "ملحظ" واعتبار "النفي "للتعدي المذكور "لدى" أي في "العبادة" أقوى و"أمكن" من الوجه "الآخر" وهو التوقف.

"و" هذا "الأخر" أمكن وأقوى "حيث" يكون ما جهل فيه القصد الشرعي هو "العاده" لأنَّهُ الأليق به باعتبار أنه الموافق لما تقرر أن الأصل في العادات هو الالتفات إلى المعاني بخلاف العبادات كما تقدم تقريره وبيانه.

هذا هو الذي عليه المالكية ومن وافقهم في هذه المسألة، فسبيلهم في هذا الشأن - كما ترى - هو التفصيل والتفرقة بين ما هو من العبادات وما هو من العادات.

ويمكن أن تراعى المعاني في العبادات نظرا إلى ظهور شيء من ذلك فيها، وبذلك تجري هذه الرعاية في الباقي منها مما لم تظهر فيه، "و" على هذا بني المذهب الذي متضمنه "الميل" والذهاب "لـ" اعتبار "المعنى" وثبوت التعليل "بما"؛ أي فيما يكون "التعبد من شأنه" وحقيقة أمره - وهو المذهب الذي "للحنفي" يعني الحنفية - "يسند" لمضيهم عليه. كما يمكن أن تراعى التعبدات في العادات لأنَّهُ قد ظهر شيء من ذلك في بعضها، وبذلك يجري اعتبار ذلك في الباقي منهما مما لم يظهر فيه ذلك، "و" هذا ما بنى "الظاهري" - من على مذهب الظاهرية - عليه مذهبه في هذه المسألة فكان "ميله با" لمشروع "العادي في كل حالة" من الحالات التي قد تعرض فيه "إلى" سحب وإجراء حكم الفعل "العبادي" عليه.

فالعادي الشرعي عند الظاهرية ينزل منزلة العبادة، فادعاء كونه معللا معلوما القصد

ص: 288

1500 -

وَالنَّفْيُ الأصْلِيُّ وَالاِسْتِصْحَابُ

مِنْ هَاهُنَا لِأصْلِهِ اسْتِجْلَابُ

1501 -

وَالْمَسْلَكُ الثَّالِثُ مِنْ تَنْوِيعِ

مَقَاصِدِ الشَّارعِ فِي التَّشْرِيعِ

1502 -

فَالشَّرْعُ ذُو مَقَاصِدٍ أَصْلِيَّهْ

فِي مُقْتَضَى الْحُكْمِ وَتَابِعِيَّهْ

الشرعي منه أمر ساقط الاعتبار عندهم. ولكن العمدة والقول المعتبر هنا هو ما تقدم ذكره من التفصيل في هذا الشأن.

"و" قاعدة "النفي "العدم "الأصلي" التي يستدل بها على أن ما يكون فيه الأصل هو العدم أو الانتفاء فإنه يعمل به في شأنه "و" كذلك "الاسْتصحاب" الذي مفاده سحب ما كان عليه الشيء فيما مضى على ما هو عليه في الحاضر لعدم وجود ما يقتضي التغيير، كلاهما إذا استعمل بناء الحكم في العبادات أو العادات عليه فإنه "من هاهنا" يعني من هذه القاعدة التفصيلية في شأن العبادات والمعاملات وقع الأخذ "لأصله" ومنه له "استجلاب" ونزع.

وقوله "لأصله" قد يكون - على ما يظهر - من باب إضافة الملغى إلى المعتبر، ويكون المعنى بناء على ذلك "والاستصحاب من هاهنا له استجلاب". وقد يكون من باب إضافة العام إلى الخاص. فيقرر كاملا حينئذ "للأصل" الذي "هو الاستصحاب".

ووجه ذلك أنه لما غلب على العادات الالتفات إلى المعاني وعلى العبادات التعبد، وكان ذلك أمرا ثابتا فيهما وأصلا معلوما بالاستقراء كان إجراء قاعدتي الاستصحاب والعدم الأصلي فيهما مبنيا على هذا الأصل المقرر فيهما.

هذا هو ما ظهر لي في هذا الموضوع والله أعلم بالصواب.

هذا شأن هذا المسلك وبيان حاله "و" أما "المسلك الثالث" الذي يوصل استحضاره واعتباره إلى العلم بالقصد الشرعي في الأحكام فهو ما جاء "من" حصول ووقوع "تنويع مقاصد الشارع" - أي كونها أنواعا - "في التشريع" أي تشريعه للأحكام "فـ" من المقرر الثابت أن "الشرع" ليست مقاصده في أحكامه على درجة واحدة ومن نوع واحد وإنما هو "ذو "أي صاحب "مقاصد أصلية" له بذاتها "في مقتضى" ومدلول "الحكم" أي حكمه "و" كذلك له في ذلك مقاصد "تابعية" تكمل تلك المقاصد الأصلية.

ص: 289

1503 -

وَفِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الْعَادَاتِ

تَثْبُتُ بِالأَخْبَارِ وَالآيَاتِ

1504 -

فَتَابِعِيٌّ نَصَّ أَوْ أُشِيرَا

إِلَيْهِ أَوْ عَنْ ذَلِكَ اسْتُثِيرَا

1505 -

فَإِنَّهُ مُثَبِّتُ الأَصْلِيَّهْ

مُوَكِّدٌ حِكْمَتُهَا الْحُكْمِيَّهْ

" و" تكون "في العبادات و" كذلك "في العادات" أما العبادات فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود وإفراده بالقصد إليه على كل حال. ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون من أولياء الله - تعالى -. وما أشبه ذلك.

وأما العادات فمثال ذلك منها النكاح فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول ويليه طلب السكن والازدواج والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية من الاستمتاع بالحلال والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء، والتجمل بمال المرأة أو قيامها عليه أو على أولاده منها، أو من غيرها، أو إخوته والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد وما أشبه ذلك فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح.

وهذه المقاصد كلها "تثبت بالأخبار" أي الأحاديث "والآيات" الدالة عليها ومنها تعلم.

"فـ" المقصد الذي هو "تابعي" في موطن ما قد يكون مما "نص" عليه كالدرجات العلى في الجنة ونكاح المرأة لجمالها أو لمالها أو لحسبها أو لدينها. "أو "يكون مما "اشير إليه" فقط على طريقة دلالة الإشارة المتقدم ذكرها وبيانها، "أو" يكون مما "عن ذلك" النص "استُثيرا" - الألف للإطلاق - أي استخرج بطريقة الاستقراء. وكل مقصد تابعي إن كان منصوصا عليه "فإنه مثبت" للمقاصد "الاصلية" التي هو تابع لها، كما أنه "موكد" ومقوّ "حكمتها الحكمية" التي يقتضيها الحكم الشرعي في محل جريانه.

فالقصد الشرعي من النكاح التناسل - كما تقدم ذكره - والمقاصد المذكورة تابعة له، والحكمة في طلب الشارع لها إدامة ذلك النكاح واستجلاب التراحم، والتعاطف والتواصل بين من ارتبطوا به، وهذا كله يحصل تقوية المقصد الأصلي المذكور وإدراكه.

ص: 290

1506 -

وَمَا كَذَاكَ شَأْنُهُ وَلَمْ يَرِدْ

نَصٌّ بِهِ فَإِنَّهُ شَرْعًا قُصِدْ

1507 -

وَمَا يُرَى يُخَالِفُ الْجَمِيعَا

عَيْنًا فَلَيْسَ مَقْصَدًا مَشْرُوعَا

" و" أما "ما" هو من المقاصد "كذاك شأنه" أي إنه تابع "و" لكنه "لم يرد نص" شرعي "به" بذكره كذلك وإنما علم أَنَّهُ تابع من جهة أَنَّهُ يقوي ويثبت المقصد الأصلي "فإنه" كذلك "شرعا قصد" فيكون مثل الأول من هذه الجهة كما روي من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبا لشرف النسب، ومواصلة أرفع البيوتات وما أشبه ذلك. ولا شكَّ أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ وأن قصد التسبب له حسن.

"و" إذا تقرر هذا يتبين أن "ما" من المقاصد "يرى يخالف" ويضاد "الجميعا" أي يعني فردا أو أكثر من جميع - ما تقدم ذكره - من المقاصد المذكورة أصلية كانت أو تبعية ويناقضها "عينا" أي بذاتها هو عمل فاسد وبذلك "فـ" إنه "ليس مقصدا مشروعا" بإطلاق، ففي العادات نورد المثال المتقدم وهو النكاح يتصور في شأنه ذلك في كل ما يؤدي إلى ضد المواصلة والسكن والموافقة.

كما إذا نكحها ليحلها لمطلقها ثلاثا، فإنه عند القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامة إلى انقطاع الحياة من غير شرط إذ كان المقصود منه المقاطعة بالطلاق، وكذلك نكاح المتعة، وكل نكاح على هذا السبيل. وهكذا العبادات - كما تقدم ذكره - فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود وإفراده - سبحانه - بالقصد إليه على كل حال، ويتجع ذلك قصد نيل الدرجات في الآخرة أو ليكون من أولياء الله تعالى وما أشبه ذلك. فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول وباعثة عليه، ومقتضية للدوام فيه سرا وجهرا بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقمضي دوام المتبوع ولا تأكيده، كالتعبد بقصد حفظ الدم والمال، أو لينال من أوساخ الناس، أو من تعظيمهم كفعل المنافقين والمرائين، فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا بباعث على الدوام، بل هو مقو للترك ومكسل عن الفعل، ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلا ريثما يترصد به مطلوبه، فإن بعد عليه تركه قال الله - تعالى - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11].

ص: 291

1508 -

وَغَيْرُ عَيْنٍ فِيهِ خُلْفٌ قَدْ ظَهَرْ

كَالْعَقْدِ لِلتَّحْلِيلِ أَوْ قَصْدِ الضَّرَرْ

"‌

‌ فَصْلٌ

"

1509 -

وَتَقْتَضِي الْمَقَاصِدَ الْفَرْعِيَّهْ

مِنَ التَّكَالِيفِ التَّعَبُّدِيَّهْ

هذا إذا كان ذلك القصد يخالف ما تقدم عينا ويناقضه بذاته "و" أما أن كان قصدا يخالف ويناقض "غير عين" ما ذكر "فـ" أن حكمه "فيه" بين أهل العلم "خلف قد ظهر" وذلك "كالعقد" للنكاح "لـ" أجل "التحليل" أي تحليل المتزوج بها لمطلقها ثلاثا عند من يصححه، ويرى أنه من هذا الضرب الذي لا يناقض عين القصد الشرعي من النكاح "أو" النكاح "قصد" ايقاع "الضرر" بالمتزوج بها، أو أخذ مالها أو غير ذلك مما لا يقتضي استدامة جريان حكم النكاح ومواصلته، ولكنه مع ذلك لا يقتضي عين المقاطعة كالضرب المتقدم ذكره، إذ لا يلزم من قصد مضارة الزوجة وقوعها ولا من وقوع المضارة وقوع الطلاق ضربة لازب، لجواز الصلح، أو الحكم على الزوج أو زوال ذلك الخاطر السيئ، إلا أنه ليس الموافقة لقصد الشارع على كل حال وبذلك جرى الخلاف بين أهل العلم - كما سبق ذكره - في حكم هذا الضرب وهو خلاف مبني على وجهين من النظر أحدهما: عدم الموافقة للقصد الشرعي.

ثانيهما: عدم المخالفة لعين القصد الشرعي.

فإن القصد المذكور وإن كان غير موافق لم تظهر فيه عين المخالفة. فمن ترجح عنده جانب عدم الموافقة منع ذلك العقد وعده باطلا. ومن ترجح عنده جانب عدم تعين المخالفة لم يمنع. ويظهر ذلك في مثال نكاح المضارة فإنه من باب التعاون بالنكاح الجائز في نفسه على الإثم والممنوع، فالنكاح منفرد بالحكم في نفسه وهو في البقاء أو الفرقة ممكن إلا أن المضارة مظنة للتفرق، فمن اعتبر هذا المقدار منع ومن لم يعتبره أجاز

(1)

.

"فصل"

وهذا الذي تقدم مبني على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات، أما في العادات فهو ظاهر وقد مر منه أمثلة. وقد ثبت ذلك في العبادات أيضًا فإنها تؤخذ "وتقتضى" أي تطلب "المقاصد الفرعية" أي التابعة "من التكاليف التعبدية". فالصلاة

(1)

الموافقات 2 - 302.

ص: 292

1510 -

بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إِذْنُ الشَّرْعِ

يُوذِن بِاقْتِضَائِهَا لِلنَّفْعِ

مثلا أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه وتذكير النفس بالذكر له قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وقال: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] وفي الحديث "إن المصلي يناجي ربه" ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا وفي الخبر أرحنا بها يا بلال وفي الصحيح وجعلت قرة عيني في الصلاة وطلب الرزق بها قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] وفي الحديث تفسير هذا المعنى وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار وهي الفائدة العامة الخالصة وكون المصلي وفي خفارة الله وفي الحديث "من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله" ونيل أشرف المنازل قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79] فأعطى بقيام الليل المقام المحمود وفي الصيام سد مسالك الشيطان والدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة في الحديث من استطاع منكم الباءة فليتزوج ثم قال ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء وقال الصيام جنة وقال ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية وهي العامة وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم

(1)

.

لكن ليس كل ما يسوغ قصده هو مقصد تابع للعبادات ويصح السعي إلى تحصيه بها وإنما يصح ذلك ويسوغ "بشرط" أن تكون تلك المقاصد مما يقوي ويؤى المقصد الأصلي منها، وهو كما تقدم ذكره، الخضوع والانقياد لله سبحانه وتعالى أو "أن يكون اذن الشرع" في إتيانها "يوذن" أي يعلم "باقتضائها" وجلبها "للنفع" والمصلحة فقد روى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اضطر أهله إلى فضل الله ورزقه أمرهم بالصلاة.

وعلى هذا المهيع جرى ابن العربي وشيخه فيمن أظهر عمله لتثبت عدالته وتصح إمامته، وليقتدى به إذا كان مأمورا شرعا بذلك لتوفر شروطه فيه وعدم من يقوم ذلك المقام، فلا بأس به عندهما، لأنَّهُ قائم بما أمر به، وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في

(1)

الموافقات 2 ص 303/ 304.

ص: 293

1511 -

وَلَيْسَ مِنْهُ الْقَصْدُ لِلتَّعَبُّدِ

بِقَصْدِ أَخْذِ النَّفْسِ بِالتَّجَرُّدِ

1512 -

لِكَيْ يُرَى خَوَارِقُ الْعَادَاتِ

وَأَنْ يُشَاهِدَ الْمُغَيَّبَاتِ

1513 -

فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ

إِذْنٌ بِهِ فَهْوَ حَرٍ بِالْمَنْعِ

أصل مشروعية العبادة، بخلاف من يقصد ثبوت عدالته عند الناس أو الإمامة أو نحو ذلك، فإنه مخوف، ولا يقتضي ذلك العمل المداومة، لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم. "وليس منه" أي مما يسوغ ويصح شرعا "القصد" يعني قصد المكلف إتيانه وفعله "للتعبد" أي العبادة "بقصد" أي مع "اخذ النفس" وتذليلها "بالتجرد" من الحظوظ والرعونات وبروضها على الطريقة المعروفة التي تكون بأكل النبات واجتناب ما فيه الروح وما خرج منه. "لكي يرى" ويبصر من "خوارق العادات" أو الملائكة أو أن يدرك الكرامات "وأن يشاهد" الأمور "المغيبات" أو أن يطلع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية وما أشبه ذاك "فإن هذا" الضرب من القصود "لم يرد" أي لم يجئ "في الشرع" أي الشريعة "اذن به" ولا ما يدل على جواز طلبه وبذلك "فهو حرٍ" أي جدير "بالمنع" والحظر لأنَّهُ خارج عن نمط وطريق ما تقدم من المقاصد التابعة المتقدمة لأنَّهُ ليس مما يؤكد هذا المقصد الأصلي ولا مما يقويه، وإنما هو تخرص على علم الغيب، ويزيد بأنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك وهو اقرب إلى الانقطاع عن العبادة، لأن صاحب القصد داخل تحت قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] الآية كذلك، هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به وصار هو قصده من التعبد، فقوي في نفسه مقصوده، وضعفت العبادة، وإن لم يصل رمى بالعبادة وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين وقد روى أن بعض الناس سمع بحديث من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له بابها فبلغت القصة بعض الفضلاء فقال هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله وهكذا يجري الحكم في سائر المعاني المذكورة ونحوها ولا أعلم دليلا يدل على طلب هذه الأمور بل ثَم ما يدل على خلاف ذلك فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدركه ولا حض على الوصول إليه وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقال ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ثم ينمو إلى أن يصير بدرا ثم يصير إلى حالته الأولى فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ

ص: 294

1514 -

وَلَيْسَ مِمَّا فِيهِ مَطْلُوبُ النَّظَرْ

فِيمَا مِنَ المَصْنُوعِ فِيهِ مُعْتَبَرْ

1515 -

فَمَا بَدَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَة

كَافٍ فَلَا يَحْتَاجُ لِلزِّيَادَهْ

1516 -

فَإنْ يَكُنْ يُطْلَبُ ذَاكَ بِالدُّعَا

فَجَائِز لِمَنْ إِلَيْهِ قَدْ سَعَا

تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] الآية فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال لأنَّهُ تطلب لما لم يؤمر بتطلبه

(1)

.

"و" كذلك "ليس مما" يكون "فيه مطلوب النظر" - فيه إضافة الصفة للموصوف - أي النظر المطلوب للاطلاع على آيات الله - تعالى - عظيم قدرته وبالغ حكمته، إذ ليس "فيما" أي في الذي "من المصنوع" المخلوق أي يطلب "فيه" يعني في إدراكه وتحصيله "معتبر" - بضم الميم - أي الاعتبار، لعدم الحاجة إليه في إدراك ذلك والاطلاع عليه "فما بدا" أي ظهر "في عالم الشهادة" من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس مغن و"كاف" في هذا الشأن "فلا يحتاج" في ذلك "للزياده" عليه بالاطلاع على عالم الغيب، فلو نظر العاقل في أقل الآيات وأذل المخلوقات وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب لقضى العجب وانتهى إلى العجز في إدراكه وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه كقوله:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)} [الغاشية: 17، 18] إلى آخرها {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6] إلى تمام الآيات ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر فيه ولا مأمورا بتطلب الاطلاع عليها وعلى ذواتها وحقائقها فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعا وإذا لم يكن مطلوبا لم ينبغ أن يطلب

(2)

. هذا إذا كان المكلف يعبد الله تعالى من أجل تحصيل ذلك وإدراكه "فإن يكن يطلب" تحصيل "ذاك بالدعاء" فقط "فـ" إن ذلك "جائز" له مباح كما هو جائز مباح "لـ" كل "من إليه قد سعا" وأقدم على إتيانه، فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعا ما لم يدع بمعصية. هذا بإيجاز بيان هذا المسلك - المسلك الثالث -.

(1)

الموافقات ج 2 ص 305/ 306.

(2)

الموافقات ج 2 ص/ 307.

ص: 295

1517 -

وَالرَّابِعُ السُّكُوتُ عَنْ شَرْعِ الْعَمَلْ

أَوْ شَرْعِ تَسْبِيبٍ بِهِ الْحُكْمُ حَصَلْ

1518 -

إِمَّا لِأَنْ لَا شَيْء يَقْتَضِيهِ

وَلَا لَهُ دَاعٍ فَيَسْتَدْعِيهِ

1519 -

وَتَحْتَ هَذَا تَدْخُلُ النَّوَازِلُ

بَعْدَ الرَّسُولِ وَهْوَ قِسْمٌ شَامِلُ

1520 -

لِكُلِّ مَا أَجْمَعَ بَعْدَهُ السَّلَفْ

عَلَيْهِ أَوْ أَجْمَعَ بَعْدَهُ الْخَلَفْ

1521 -

كَالْكَتْبِ لِلْعِلْمِ وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ

وَمَا يَرَى سَبِيلَ ذَاكَ يَقْتَفِي

1522 -

فَذَاكَ لَا إِشْكَالَ فِي قَبُولهِ

إِذْ فَرْعُهُ جَارٍ عَلَى أُصُولِهِ

1523 -

وَالْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ فِيهِ عُرِفَا

بِمَا مِنَ الْجِهَاتِ قَبْلُ وُصِفَا

" و" المسلك "الرابع" من تلك المسالك التي يعرف بها قصد الشارع هو "السكوت" من الشارع "عن شرع العمل" التعبدي وإحداثه مع قيام المعنى - السبب - المقتضي له "أو" السكوت عن "شرع تسبيب" يكون "به الحكم" الشرعي "حصل" ووجد - يعني - أو السكوت عنه وضع سبب لمسبب ما مع قيام المعنى المقتضي لذلك. وبيان ذلك الحكم قد يكون الشارع ساكتا عنه "إما لأن" ـه "لا شيء يقتضيه" أي يطلبه "ولا له داع" من سبب وحاجة "فيستدعيه" في زمان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وبذلك لم يشرع فيه حكم شرعي يخصه. "وتحت هذا" القسم "تدخل النوازل" التي حدثت" بعد الرسول" صلى الله عليه وسلم "وهو قسم شامل" عام "لكل ما" حدث بعد الرسول عليه الصلاة والسلام و"اجمع بعده السلف عليه" على حكمه "أو أجمع بعده الخلف" عليه أي على حكمه. وذلك "كالكتب للعلم" وتدوينه "وجمع" القرآن الكريم في "المصحف" وتنقيطه وضبطه "و" كل "ما يرى" أي يبصر أنه "سبيل ذاك يقتفى" يتبع بمقتضى أنه مما سكت عن حكمه الشارع لعدم وجود موجب ومقتض لذلك في زمانه عليه الصلاة والسلام وهذا القسم مدرك حكمِه القواعد الكليات التي يندرج تحتها ويسري عليه مقتضاها، وما كان هكذا "فذاك لا إشكال في" جوازه و"قبوله" أمرا مباحا شرعا "إذ فرعه" - أفرده باعتبار الجنس - يعني فروعه كل واحد منها "جار على" مقتضى وحكم "أصوله" الكلية "والمقصد الشرعي فيه" في هذا القسم قد "عرفا" وأدرك "بما من الجهات" - التي عبر عنها فيما تقدم بالمساك "قبل وصفا" - الألف للإطلاق - وبين كجهة - مسلك - اعتبار العلل -، وجهة كون المقاصد

ص: 296

1524 -

وَإِنْ يَكُنْ يسُكُوتُهُ عَنْ ذَلِكَا

وَمُقْتَضِيهِ قَائِمٌ هُنَالِكَا

1525 -

وَلَمْ يُقَرَّرْ فِيهِ حُكْمٌ زَائِدُ

عَلَى الذِي كَانَ بِهِ يُعَاوِدُ

1526 -

فَذَا سُكُوتُ الشَّرْعِ كَالنَّصِّ عَلَا

أَنْ قَصْدَهُ فِي الأمْرِ أَنْ لَنْ يُبْدَلَا

1527 -

لَا بِزِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانِ

وَذَاكَ أَمْرٌ وَاضِحُ الْبُرْهَانِ

1528 -

مِثْلُ سُجُودِ الشُّكْرِ عِنْدَ مَالِكْ

لَوْ كَانَ لَمْ تُلْفِ لَهُ مِنْ تَارِكْ

الشرعية منقسمة إلى مقاصد أصلية ومقاصد تابعة، فإن ذلك مما يعرف به المقصد الشرعي في هذا الضرب الذي نحن فيه.

هذا إذا كان سكوت الشارع عن الحكم لهذا الموجب - وهو الضرب الأول - مما يكون فيه الشارع ساكتا عن الحكم "و" أما "إن يكن سكوته عن ذلكا" وهو الحكم العملي "ومقتضيه" وسببه "قائم هنالكا" في موضع سكوته.

"و" زمانه فـ"لم يقرر" أي لم يثبت ولم ينقل عنه "فيه" أي في ذلك الموضع الذي سكت عنه "حكم زائد على" الحكم "الذي كان به" أي فيه "يعاود" ويمضي عليه فيه عادة فعلا كان أو تركا "فذا" الضرب "سكوت الشرع" فيه يعتبر "كالنص على أن قصده" في ذلك "الأمر" الذي لم يقرر فيه أي حكم زائد هو "أن لن يبدلا" - الألف بدل من نون التوكيد - أو يغير على ما هو معتاد له فيه "لا بزيادة" عليه "ولا نقصان" فيه "وذاك" هو أن القصد الشرعي في هذا الموطن هو ما ذكر "أمر واضح البرهان" يعني برهانه أي واضح برهانه.

ودليله، لأنَّهُ لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ثم لم يشرع الحكم دلالة على اعتبار ذلك الموجب، كان ذلك صريحا في أن الزائد كان هنالك بدعة زائدة ومخالفة لما قصده الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عندما حد هنالك، لا الزيادة عليه ولا النقصان منه. والجزئيات التي يجري فيها هذا الحكم متعددة وذلك "مثل سجود الشكر عند" الإمام "مالك" بن أنس إمام دار الهجرة - رحمه الله تعالى - فإنه يراه فعلا غير مشروع وغير جائز إذ "لو كان" جائزا مشروعا فإنك "لم تلف" أي تجد "له من تارك" أو منكف عنه من السلف الصالح العالمين به، ثم إنه لو كان أمرا مشروعا لنقل وذكر.

ص: 297

1529 -

وَمِثْلُهُ تَوَفُّرُ الدَّوَاعِي

عَلَيْهِ مِنْ نَاقِلٍ أَوْ مِنْ وَاعِ

1530 -

وَأَنَّهُ أَصْلٌ مُفِيدٌ فِي النَّظَرْ

عَلَيْهِ إِسْقَاطُ الزَّكاةِ فِي الخَضَرْ

1531 -

وَبَعْضُهُمْ رَدَّ عَلَى التَّفْصِيلِ

لِمُقْتَضَاهُ العَقْدَ لِلتَّحْلِيلِ

" ومثله" ليس مما يخفى فإنه مما "توفر" أصله تتوفر، - وحذف إحدى التاءين تخفيفا - أي توجد وتكثر "الدواعي" أي الحاجات التكليفية - ومنها الأمر بالتبليغ - والمصالح الدينية "عليه" يعني على نقله وفعله "من ناقل" له عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

"أومن واع" عالم به فقيه في شأنه سمعه ممن نقله. وهذا المعنى قد قرره مالك في العتبية من سماع أشهب وابن نافع قال فيها وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرا فقال لا يفعل ليس هذا مما مضى من أمر الناس قيل له إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا لله أفسمعت ذلك قال ما سمعت ذلك وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم أسمع له خلافا فقيل له إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به فقال نأتيك بشيء آخر أيضًا لم تسمعه مني قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا إذا جاءك مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم في شيء فعليك بذلك لأنَّهُ لو كان لذكر لأنَّهُ من أمر الناس الذي قد كان فيهم فهل سمعت أن أحدا منهم سجد فهذا إجماع إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه

(1)

. "و" هذا الضرب من السكوت - السكوت عن الحكم مع وجود مقتضيه - يجب ان يعلم بـ"أنه أصل مفيد في النظر" الفقهي في الجزئيات المنطوية تحته و"عليه" بني "إسقاط الزكاة في الخضر" والبقول عند المالكية ومن وافقهم في ذلك مع وجود الزكاة فيها بعموم قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر". قال ابن رشد: لأنا نزلنا ترك أخذ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها فكذلك ننزل ترك السجود عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيه

(2)

. "وبعضهم" - أي العلماء - "رد" وأبطل بناء "على" هذا "التفصيل" المتقدم "لـ" أجل وجود "مقتضاه" وحكمه "العقد" - مفعول قوله "رد" - أي أبطل أي عقد النكاح الذي عقد "لـ" أجل "التحليل" أي تحليل المرأة لمطلقها ثلاثا.

(1)

الموافقات ج 2 ص 311.

(2)

الموافقات ج 2 ص 313.

ص: 298